الدرالمنظوم من کلام المعصوم

اشارة

سرشناسه : شیخ علی کبیر، علی بن محمد، 1013 - 1103 ق.

عنوان قراردادی : الکافی .اصول. شرح

عنوان و نام پديدآور : الدرالمنظوم من کلام المعصوم/ لعلی بن محمد بن الحسن بن زین الدین العاملی. و تلیه الحاشیه علی الاصول الکافی " کتاب التوحید"/ لعلی بن زین الدین الثانی بن محمد بن الحسن بن زین الدین العاملی؛ تحقیق محمد حسین الدرایتی.

مشخصات نشر : قم: دار الحدیث، 1428ق.= 1386.

مشخصات ظاهری : 715ص.

فروست : الشروح والحواشی علی الکافی؛ 3 - 4.

مرکز بحوث دار الحدیث؛ 96.

شابک : دوره 978-964-493-125-3 : ؛ 978-964-493-031-7 ؛ 40000 ریال 964-493-031-2 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ اول: 1426ق. = 1384.

یادداشت : کتابنامه:ص. [697] -740؛ همچنین به صورت زیرنویس.

یادداشت : نمایه.

موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق . الکافی. اصول -- نقد و تفسیر

موضوع : احادیث شیعه -- قرن 4ق.

شناسه افزوده : درایتی، محمدحسین، 1343 -

شناسه افزوده : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق . الکافی. اصول. شرح

شناسه افزوده : شیخ علی صغیر، علی بن زین الدین ثانی، قرن 11ق. الحاشیه علی اصول الکافی "کتاب توحید"

رده بندی کنگره : BP129/ک 8ک 22025 1386

رده بندی دیویی : 297/212

شماره کتابشناسی ملی : 1853010

ص: 1

اشاره

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

تصدير

تصديرلا يزال الكافي يحتلّ الصدارة الاُولى من بين الكتب الحديثية عند الشيعة الإمامية ، وهو المصدر الأساس الذي لا تنضب مناهله ولا يملّ منه طالبه ، وهو المرجع الذي لا يستغني منه الفقيه ، ولا العالم ، ولا المعلّم ، ولا المتعلّم ، ولا الخطيب ، ولا الأديب . فقد جمع بين دفّتيه جميع الفنون والعلوم الالهية واحتوى على الاُصول والفروع . فمنذ أحد عشر قرنا وإلى الآن اتّكا الفقه الشيعي الإمامي على هذا المصدر لما فيه من تراث أهل البيت عليهم السلام ، وهو أوّل كتاب جمعت فيه الأحاديث بهذه السعة والترتيب . وبعد ظهور الكافي اضمحلّت حاجة الشيعة إلى الاُصول الأربعمائة ، لوجود مادّتها مرتّبة ، مبوّبة في ذلك الكتاب . ولقد أثنى على ذلك الكتاب القيّم المنيف والسفر الشريف كبار علماء الشيعة ثناءً كثيرا ؛ قال الشيخ المفيد في حقّه : «هو أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة» وتابعه على ذلك من تأخّر عنه . ومن عناية الشيعة الإمامية بهذا الكتاب واهتمامهم به أنّهم شرحوه أكثر من عشرين مرّة ، وتركوا ثلاثين حاشية عليه ، ودرسوا بعض اُموره ، وترجموه إلى غير العربية ، ووضعوا لأحاديثه من الفهارس ما يزيد على عشرات كتب ، وبلغت مخطوطاته في المكتبات ما يبلغ على ألف وخمسمائة نسخة خطيّة ، وطبعوه ما يزيد على عشرين طبعة . ومن المؤسوف أنّ الكافي وشروحه وحواشيه لم تحقّق تحقيقا جامعا لائقا به ، مبتنيا على اُسلوب التحقيق الجديد ، على أنّ كثيرا من شروحه وحواشيه لم تطبع إلى الآن وبقيت مخطوطات على رفوف المكتبات العامّة والخاصّة ، بعيدة عن أيدي الباحثين والطالبين. هذا ، وقد تصدّى قسم إحياء التراث في مركز بحوث دار الحديث تحقيق الكافي ، وأيضا تصدّى في جنبه تحقيق جميع شروحه وحواشيه _ وفي مقدّمها ما لم يطبع _ على نحو التسلسل. ومنها هذه الحاشية لكتاب العقل والجهل وكتاب العلم من الكافي المسمّاة ب «الدرّ المنظوم من كلام المعصوم» لعلي بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي ، المعروف ب «الشيخ علي الكبير » . وكذا الحاشية الاُخرى لكتاب التوحيد من الكافي ، لعلي بن زين الدين الثاني بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي المعروف ب «الشيخ علي الصغير » . وهو ابن أخ الشيخ علي الكبير . وهما يعدّان من اُسرة آل زين الدين الشيهد المشهورة في العلم والسابقة في الكمال ، معروفة بالتقوى والصلاح ، اشتهرت بسلسلة الذهب لتسلسل العلم في أبنائها جيلاً بعد جيل ، فمن هذه العائلة كبار أمثال الشهيد الثاني وأجداده ، وأمثال الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ، صاحب المعالم ؛ وأبنُه الشيخ محمّد ، صاحب استقصاء الاعتبار أعلي اللّه مقامهم ، وهكذا أبناؤهم من بعدهم رجالاً ونساءً ، فما منهم إلاّ عالم فاضل ، أو أديب بارع ، أو محدّث صادق ، أو مجاهد بارز ، بل إنّ أكثرهم جمعوا أغلب هذه الاُصاف وأكثر منها . واليوم يسرّ مركز بحوث دارالحديث أن يصدر بعض آثار هذه الاُسرة العظيمة ، ويقدّمها هدية لمكتبة أهل البيت عليهم السلام . نسأل اللّه تعالى أن يجعل هذا الجهد ذخرا لنا يوم لاينفع مال ولابنون ، إنّه سميع الدعا. قسم إحياء التراث مركز بحوث دار الحديث محمّد حسين الدرايتي

.

ص: 6

. .

ص: 7

الدرّ المنظوم من كلام المعصوملعليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العامليالمعروف ب «الشيخ عليّ الكبير»(م 1103 أو 1104ق)تحقيق:محمد حسين الدرايتي .

ص: 8

. .

ص: 9

مقدّمه التحقيق

الفضل الأوّل : في ترجمة المؤلّف

اسمه و نسبه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة التحقيقالفصل الأوّل : في ترجمة المؤلّفاسمه و نسبه :هو الشيخ عليّ بن محمّد بن الحسن _ صاحب المعالم _ بن زين الدين _ الشهيد الثاني _ الجبعي العاملي ثمّ الأصفهاني. (1) وذكر بعض أنّ المقصود بالشيخ عليّ الصغير حيث يذكر هو هذا الشيخ بالنسبة إلى المحقّق الكركي الشيخ عليّ بن عبد العالي قدس سره . (2) ولكن في روضات الجنّات بعد ذكر ما تقدّم قال : « .. . إلاّ أنّ بعض أفاضل بلاده ، وشرفاء أولاده ذكر أنّ المراد به هو ابن أخي هذا الرجل ، يعني به الشيخ عليّ بن الشيخ زين الدين بن الشيخ محمّد المبرور بالنسبة إلى عمّه المذكور». (3) وكذا ترجم لهما العلاّمة الطهراني حيث أطلق على مترجمنا بالشيخ عليّ الكبير (4) ، وذكر ابنَ أخيه باسم الشيخ عليّ الصغير. (5)

.


1- . أمل الآمل ، ج 1 ، ص 129 ؛ رياض العلماء ، ج 4 ، ص 197 ؛ روضات الجنّات ، ج 4 ، ص 390 ؛ طبقات أعلام الشيعة ، قرن 12 ، ص 545 ، وفيه أطلق عليه : عليّ الكبير العاملي المشهدي .
2- . ريحانة الأدب ، ج 2 ، ص 430 ؛ وانظر : روضات الجنّات ، ج 4 ، ص 392 .
3- . روضات الجنّات ، ج 4 ، ص 392 .
4- . طبقات أعلام الشيعة ، القرن 12 ، ص 545 .
5- . المصدر ، ص 536 .

ص: 10

ولادته

ولادته :في عام ثلاث عشرة أو أربع عشرة وألف ، وفي «جبع» إحدى قرى جبل عامل (1) ، أشرق ذلك الكوكب المضيء ، وأطلّ على الدنيا بوجه باسم ، ملأ قلب أبويه محبّة وأملاً ، فمنحاه اسم «عليّ» ، ولم يطل الوقت كثيرا حتّى برزت فيه ملامح النبوغ والذكاء.

قرية جُبَع :«جبع» اسم عبراني معناه التلّ ، وتسمّى أحيانا «جباع» بالمدّ ، وتعرف ب «جبع الحلاوة» تمييزا لها عن «جبع الشوق» في جبل لبنان ، و«جبع بنيامين» في فلسطين. (2) وهي تقع في أقصى شمال لبنان ، وتعتبر من أنزه البلاد وأطيبها هواءً ، وأعذبها ماءً ، وأكثرها وألذّها ثمارا ، فكانت هي و«جزّين» و«مشغرى» مجمع علماء جبل عامل وطلاّبها . ولا ريب في أنّ للبيئة الجغرافية المناسبة ، والهواء المعتدل الذي كانت تتّصف به تلك المنطقة ، وجمال الطبيعة ، وكثرة الينابيع ، وانتشار الزهور والخضرة ، ووفرة الثمار اللذيذة ، الأثر الكبير في بروز علماء كبار أمثال الحرّ العاملي والشيخ البهائي والشهيد الثاني ، وأولاده الذين تألّقوا في سماء العلم والأدب ، كالمترجم الذي نشأ وتربّى في تلك البلاد الطيّبة ، ولكن للأسف لم يكتب له البقاء طويلاً في ذلك الموطن الذي احتضنه ، وفتح عينيه فيه ، بل جرت ظروف قاسية أدّت به إلى الانتقال إلى أصفهان ، كما سيأتيك إن شاء اللّه تعالى.

.


1- . أمل الأمل، ج1،ص129_130؛ رياض العلماء، ج4،ص198؛ الدرّ المنثور، ج2،ص245؛ روضات الجنّات ، ج4 ، ص391 ؛ موسوعة طبقات الفقهاء ، ج12، ص227، وجميع هؤلاء اتّفقوا على أنّ تاريخ ولادته ما ذُكر أعلاه . لكنّ المترجم نفسه قال في موضع آخر من كتابه الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 239 : «ثمّ سافرت إلى مكّة المشرّفة بعد وفاة والدي، وذلك في سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين بعد الألف،وسنّي إذا ذاك نحو ستّ عشرة سنة ...» . وإذا صحّ ذلك يكون مولده إمّا في السنة السادسة عشرة بعد الألف ، أو في السنة السابعة عشرة بعد الألف . والأمر سهل ، إذ لعلّ ذكره لسني عمره وقت حجّه على نحو التخمين ، لا التحقيق ؛ واللّه العالم .
2- . انظر كتاب : الشهيد الثاني زين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي الشامي ، ص 20_21 .

ص: 11

اُسرته

اُسرته:نشأ المترجم وترعرع في أحضان العلم والأدب ، فاُسرته تعرف بسلسلة الذهب ، لتسلسل العلم والفضل فيهم زمانا طويلاً ، فهي من الاُسر العلميّة العريقة ، ولها مكانتها الاجتماعيّة والعلميّة المرموقة. فكان والده عالما فاضلاً محقّقا مدقّقا متبحّرا جامعا كاملاً صالحا ورعا ثقة فقيها محدّثا متكلّما حافظا شاعرا أديبا مُنشِئا ، جليل القدر ، عظيم الشأن ، حسن التقرير . وقد ألّف كتبا كثيرا ، منها : شرح تهذيب الأحكام ، وشرح الاستبصار المسمّى ب «استقصاء الاعتبار» في الطهارة والصلاة ، وطبع جديدا ؛ وحاشية شرح اللمعة _ مجلّدان _ إلى كتاب الصلح ، وغيرها. (1) وذكره في الدرّ المنثور وأثنى عليه ثناءً جميلاً. (2) وأمّا جدّه : فهو أبو منصور جمال الدين الشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني قدس سره . قال في حقّه صاحب رياض العلماء : الفقيه الجليل والمحدّث الاُصولي الكامل النبيل ، المعروف بصاحب المعالم ، ذوالنفس الطاهرة ، والفضل الجامع ، والمكارم الباهرة ، وهو مصداق قوله صلى الله عليه و آله : «الولد سرّ أبيه» . بل هو أعلم ، ومظهر المثل السائر «ومن يشابه أبه فما ظلم» . له كتب ورسائل ، منها : كتاب منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان ، و كتاب معالم الدين وملاذ المجتهدين ، وله كتاب مناسك الحجّ ... وغيرها. (3) وأمّا جدّ أبيه : فهو الشهيد الثاني زين الدين بن عليّ العاملي . وقد قال في حقّه المحقّق التستري : أفضل المتأخّرين ، وأكمل المتبحّرين ، نادرة الخلق ، وبقيّة السلف ، مفتي طوائف الاُمم ، والمرشد إلى التي هي أقوم ، قدوة الشيعة ، ونور الشريعة ، الذي قصرت الأكارم الأجلاّء عن استقصاء مزاياه وفضائله السنيّة ، وحارت الأعاظم الألبّاء في مناقبه وفضائله العليّة .. . وله كتب ورسائل كثيرة فاخرة مهذّبة في فنون مختلفة ، ومطالب متشعّبة . (4) وأمّا شقيقه : الشيخ زين الدين ، فقد قال في حقّه في الدرّ المنثور : كان فاضلاً ذكيّا ، وعالما لوذعيّا ، وكاملاً رضيّا ، وعابدا تقيّا .. . وله فوائد متفرّقة على بعض الكتب، وما رأيت له كتابا مدوّنا لشدّة احتياطه ، وله شعر رائق في فنون الشعر. (5) وأمّا والدته : فلم أعثر على شيء يذكر في ترجمتها سوى ما ذكره المترجم في كتابه الدرّ المنثور ، حيث قال : وكانت والدتي رحمها اللّه شديدة الرأفة بي والشفقة عليّ ، ودائما توصي الذي أقرأ عنده أن لا يضربني ولا يهينني ، وتتفقّد أحوالي في اليوم مرارا لذلك. (6) وأما اُمّ والدته : فهي ابنة المحقّق الكركي قدس سره ، قال المترجم : أدركتها وهي طاعنة في السنّ وأنا ابن نحو تسع سنين وقت وفاتها ، وربّما قاربت من التسعين فما زاد ، وكانت في غاية من الصلاح والتقوى والعبادة ، أوقاتها مصروفة في تلاوة القرآن والأدعية وغيرها رحمها اللّه تعالى ، وكانت بي رؤوفة جدّا ، وعليّ عطوفة. (7)

.


1- . انظر : أمل الآمل ، ج 1 ، ص 139 .
2- . الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 209_222 .
3- . رياض العلماء ، ج 1 ، ص 225_226 .
4- . مقابس الأنوار ، ص 15 .
5- . الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 222_223 .
6- . الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 239 .
7- . الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 245 .

ص: 12

أولاده : .

ص: 13

أولاده

نقل العلاّمة الطهراني قدس سره في طبقات أعلام الشيعة عن مجلّة المجمع العلميّ : «أنّ عليّا الكبير _ أي : المترجم _ وأولاده محمّدا والحسين ومحييالدين كلّهم من أكابر العلماء في أصفهان ، وماتوا بها». 1 وقد ذكرت بعض التراجم ولدا رابعا له من أهل الفضل والعلم باسم «زين الدين» (1) ، وإليك نبذة عن حياة كلّ واحد منهم.

1 . محمّد بن عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني :وترجم له العلاّمة الطهراني باسم محمّد الأصفهاني بن عليّ الكبير المشهدي : « ... كان من أكابر العلماء بأصفهان ، وتوفّي بها». (2) والظاهر أنّ للمترجم أكثر من ولد باسم «محمّد» أحدهم هذا الذي نحن بصدده ، والثاني ذكر المترجم نقسه في كتابه الدرّ المنثور ، وقد وافاه الأجل وعمره نحو ثمان سنين ، وثالث سمّاه ب «محمّد الأوّل» وقد وافاه الأجل وهو ابن أربع سنين. (3)

2 . الشيخ حسين بن عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني الجبعي العاملي :المولود في 18 ذي الحجّة 1056 هجريّة ، والمتوفّى في 21 أو 22 ذي الحجّة 1078 هجريّة. (4) قال في أمل الآمل : « .. . كان فاضلاً صالحا ، قرأ على أبيه ، وتوفّي في أصفهان ، ودفن في المشهد». (5) وقد ذكره والده في الدرّ المنثور ، ونقل شدّة تأثّره وتأسّفه على فراقه ثمّ قال : ولم أره من أوّل عمره إلى آخره يميل إلى لعب أو ينظر إلى غير أدب ، لم يرفع طرفه إليّ إذا كلّمني ، ويتلجلج لسانه بذلك حتّى لا أكاد أفهم ما يريد، ولم يطلب منّي شيئا بغير واسطة، وكان منذ كان سنّه نحو عشر سنين معتادا لقيام الليل وصلاته، وينبّه النائمين للصلاة، ويحيي جميع ليالي شهر رمضان بالعبادة والتلاوة والدعاء. ولا يشكو إلى أحد مع كثرة عياله وتقتيري عليه في الجملة في الخرج ليعتاد القناعة... ولمّا كان ابن نحو ثمان سنين سألني فقال: الولد قبل البلوغ يدخل الجنّة؟ قلت: نعم، فقال: ادع اللّه أن يميتني وأنا صغير لأدخل الجنّة. قلت له: والكبير إذا كان صالحا يدخل الجنّة أيضا. رزقه اللّه أوّلاً ذكرا، وتوفّي وهو ابن أيّام، وكنت أبكي عليه بكاءً كثيرا، وهو قليل البكاء، يظهر عليه أثر الرضا بحكم اللّه ، ووهبه اللّه بعده ثلاث بنات، وكلّما جاءت واحدة يظهر فيه البشر ويسلّي زوجته بأنّ ثوابنا صار أكثر ... . ولمّا آن أن ينتقل إلى جوار اللّه سبحانه ورضوانه ذكر لي أنّه يريد زيارة الرضا عليه السلام ، فقلت له: أنا لا اُطيق مفارقتك وإن شاء اللّه اُسافر معك في وقت آخر، فقال لي بعد هذا: قد تفألّت في القرآن فظهرت هذه الآية: « فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَ هُوَ خَيْرُ الْحَ_اكِمِينَ » (6) ، فقلت له: لا آذن لك في هذا الوقت خوفا عليك، وبعد أيّام مرض وبقي ثمانية أيّام، واختار له ربّه دار البقاء، فحكم اللّه سبحانه له بإرساله إلى المشهد المقدّس. (7) فدفن في مدرسة الميرزا جعفر بالمشهد الرضوي بخراسان في مقبرة الشيرواني والسبزواري (8) ، وعليه آلاف التحيّة والرضوان.

.


1- . أمل الآمل ، ج 1 ، ص 92 ؛ رياض العلماء ، ج 2 ، ص 387 .
2- . طبقات أعلام الشيعة ، القرن 12 ، ص 642 .
3- . الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 250 .
4- . الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 249 .
5- . أمل الآمل ، ج 1 ، ص 78 . وقال فيه : «فكأنّ نسبته بالعاملي من باب التوسّع ، كما في الكركيَّين وغيرهم ، أو أنّه عاملي وسكن الفُرزُل» .
6- . يوسف (12): 80 .
7- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 247 _ 250.
8- . طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 546.

ص: 14

. .

ص: 15

3 . محيي الدين بن عليّ بن محمّد بن حسن بن زين الدين الشهيد الثاني:قال السيّد حسن الصدر في تكملة أمل الآمل: كان من أفاضل علماء عصره في الفقه والاُصول والحديث وفنون الأدب، قرأ على والده الشيخ عليّ السبط. وله ولد جليل هو الشيخ عليّ سميّ جدّه ، وهو جدّ جدّي للأدنى السيّد محمّد عليّ من قبل اُمّه الستّ، فإنّها اُمّ جدّي السيّد العلاّمة، واُمّ أخيه السيّد العلاّمة السيّد صدر الدين قدّس اللّه أرواحهم جميعا. (1)

4 . الشيخ زين الدين بن عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني.قال الحرّ العاملي قدس سره: «الشيخ زين الدين... فاضل عالم صالح معاصر، ولد في أصفهان لمّا سكن والده بها، وقرأ عند والده وغيره». (2) ونقل في الرياض عبارة الحرّ المتقدّمة ، ثمّ قال: «وأقول: إن كان مراده هو الشيخ زين الدين ولده الموجود الآن ، فهو بعد من أهل التحصيل، وليس في درجة فحول العلماء». (3) ويعرف بالشيخ زين الدين الصغير مقابل عمّه زين الدين بن محمّد والذي يعرف بالأوسط، وجدّه زين الدين الشهيد الثاني الكبير . (4) وفي أعيان الشيعة: «ولد نهار 18 ذي الحجّة سنة 1078 على ما ذكره والده في الدرّ المنثور، وتوفّي حوالي سنة 1100 عن نحو من 22 سنة على ما في الدرّ المنثور أيضا...». (5) ثمّ نقل ما ذكره والده في نفس الكتاب من فقده شابّا وتألّمه عليه (6) ، وكذا الوارد في موسوعة طبقات الفقهاء (7) ، والحال أنّ الموجود في كتاب الدرّ المثور أنّ الذي فقده شابّا هو ولده «حسين» . (8) فهل إنّهما واحد، اسمه حسين ولقبه زين العابدين؟ يبعده أنّ الحرّ العاملي ترجم للاثنين معا، كما تقدّم، وهو معاصر لهما. وهناك احتمالات كثيرة ليس المقام مقام طرحها.

.


1- . تكملة أمل الآمل، ص 398. وانظر: أعيان الشيعة، ج 1، ص 115؛ طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، 718.
2- . أمل الآمل، ج 1، ص 92.
3- . رياض العلماء، ج 2، ص 387.
4- . أعيان الشيعة، ج 7، ص 158 _ 159.
5- . أعيان الشيعة، ج 7، ص 158.
6- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 247 _ 248.
7- . موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 228.
8- . انظر الدرّ المنثور، ج 2، ص 249، حيث جاء فيه: «كان مولده في آخر ساعة من نهار الثلاثاء ثامن عشر ذي الحجّة سنة ستّ وخمسين بعد الألف، ووفاته في الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين من ذي الحجّة سنة ثمان وسبعين وألف، واسمه حسين».

ص: 16

مدحه واطراؤه

النشأة العلميّة

مدحه وإطراؤه:فقد مدحه وأطراه كلّ من ذكره أو ترجم له. قال الحرّ العاملي في أمل الآمل: «الشيخ عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي الجبعي ، أمره في العلم والفضل والفقه والتبحّر والتحقيق ، وجلالة قدره أشهر من أن يذكر». (1) و قال في رياض العلماء : «الشيخ عليّ بن الشيخ محمّد بن الشيخ حسن...، الفاضل الفقيه العالم العامل المعاصر قدّس اللّه روحه». (2) وجاء في لؤلؤة البحرين: «الشيخ عليّ بن الشيخ محمّد ، فإنّه كان فاضلاً جليلاً متبحّرا». (3) وقال في روضات الجنّات : «الشيخ المتبحّر البصير المتتبّع النحرير عليّ بن الشيخ محمّد بن الشيخ حسن بن زين الدين الشهيدي الجبعي العاملي ثمّ الأصفهاني...». (4)

النشأة العلميّة:نشأ المترجم في بيت طاهر مُفعَم بالتواضع والتقوى والإيمان، فبدأ نشاطه العلمي أوّلاً باختلافه إلى المكتب، وقراءة القرآن، فختَمه وهو في سنّ الربيع التاسع من عمره تقريبا. (5) ثمّ واصل دراسته على من كان من تلامذة جدّه وأبيه وغيرهم، ولم يقرأ على أبيه لأنّه ارتحل عن بلاده وسافر إلى العراق وللمترجم من العمر ستّ سنين. (6) فدرس من صغر سنّه على أخيه زين الدين (7) (المتوفّى 1063 أو 1064 ه) (8) ، فلمّا بلغ اثنتي عشرة سنة ، التحق أخوه زين الدين بوالده في العراق (9) ، فأخذ عن نجيب الدين عليّ بن محمّد بن مكّي تلميذ صاحب المعالم، وعن نور الدين عليّ العاملي أخي صاحبي المدارك والمعالم (10) ، وذكر أنّ طريق روايته عن نجيب الدين ونور الدين عن شيخهما صاحب المعالم. (11) كما ودرس على الحسين بن الحسن الظهيري ومحمّد الحرفوشي. (12) وعندما تُلاحظ التراجم التي ترجمت له يتّضح أنّه لم يكن متفرّغا للدراسة تمام التفرّغ، فإنّه كان مشغولاً باُمور العيال الذي خلّفه أبوه وأخوه بالرغم من صغر سنّه، مضافا إلى اشتغاله بتنظيم أملاك آبائه، وبعد ذلك غربته وما حلّ بأهله، حيث فقد ولدين من أولاده، ولكنّ كلّ هذا لم يمنعه من مواصلة طلب العلم، وحضور دروس كبار العلماء الموجودين في زمانه وفي بلدته، أمثال من تقدّم ذكرهم، بل يظهر أنّه كان مؤيّدا من قبل ربّه منذ أوائل دراسته إذ إنّه سليل الشهيد الثاني قدس سرهالمرشد إلى التي هي أقوم، فقد قال قدس سره: اتّفق لي مرّة أنّي في أوائل الأمر كنت أدرس شرح اللمعة، فمرّت عبارة فيها الصدوقان، فسألني من يقرأ: الصدوقان من هما؟ فقلت له: محمّد بن بابويه وأخوه، وكان ذلك غلطا منّي، فرأيت تلك الليلة في المنام جدّي المبرور الشهيد الثاني، وهو يقول لي: ياولدي، الصدوقان محمّد وأبوه (13)

.


1- . الأمل الآمل ، ج 1 ، ص 129 .
2- . رياض العلماء، ج 4، ص 197.
3- . لؤلؤة البحرين، ص 85.
4- . روضات الجنّات، ج 4، ص 390.
5- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 239.
6- . المصدر السابق؛ موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 227، رقم 3573.
7- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 239. وانظر: طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 545؛ موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12 ، ص 227 .
8- . أمل الآمل، ج 1، ص 93.
9- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 239.
10- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 239؛ طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 545؛ موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 227.
11- . الذريعة، ج 8، ص 76.
12- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 239، ولكن فيه: «الحسين بن الظهير».
13- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 241.

ص: 17

. .

ص: 18

أسفاره

أحداث مؤلمة:تقدّم أنّ والد المترجم الشيخ محمّد بن حسن قدس سره قد سافر إلى العراق وكان لمترجمنا ستّ سنين من العمر. ثمّ جرت لهم بعض الحوادث المؤلمة، فقد احترق لهم نحو ألف كتاب، ووقع على بلادهم فتور عظيم ممّا اضطرّهم أن ينتقلوا إلى كرك نوح عليه السلام (1) ، فأقاموا بها مدّة، ثمّ سافر أخوه إلى العراق وكان في سنّ الاثنتي عشرة سنة تقريبا. وبعدها بمدّة أثكل بوفاة والده حيث وافاه الأجل في سنة 1030 هجريّة (2) ، فشاءت الأقدار أن يصبح المترجم يتيما وهو في مطلع بلوغه، فيعيش معترك الحياة فاقدا لأبيه، ولكن هذه الحوادث المؤلمة لم تمنعه من مواصلة درسه، بل شدّت من عزيمته وقوّت إرادته حتّى نال من العلوم ما نال، فلّله درّه وعليه أجره.

سفره إلى مكّة:سافر شيخنا المترجم إلى مكّة المكرّمة بعد وفاة والده، وذلك في سنة 1032 أو 1033 هجريّة، وكان عمره إذ ذاك نحو ستّ عشرة سنة (3) ، فإنّه كان يشعر بأنّه قد ارتوى بعض الشيء من العلم والمعرفة، وتاقت روحه السامية إلى مهبط الوحي، ومهد الرسالة الخالدة مكّة المكرّمة، فانطلق شوقا لزيارة البيت العتيق، حيث مقام خليل اللّه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهماالسلام، وحيث مشاهد الوحي الكثيرة، وليشهد بعينيه أوّل بيت وضع للناس، ويرى المدينة التي ولد فيها أعظم مخلوق على وجه الأرض خاتم النبيين صلى الله عليه و آله ، وولد فيها سيّد الوصيين أمير المؤمنين عليه السلام ، ولتداعى إلى ذهن ذلك الشابّ جهاد الطليعة الاُولى من المسلمين أمثال أمير المؤمنين عليه السلام وخديجة الكبرى وتضحيات ياسر وسميّة، وصلابة بلال وصهيب وأضرابهم. ثمّ ينتقل إلى المدينة المنوّرة حيث قبر الرسول الأكرم، وحيث المشاهد الشريفة، والمواقف التاريخيّة الكريمة، وعندها يتأمّل الذكريّات التي سجّلها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ومن معه بأحرف من دم، حيث واقعة بدر واُحد والخندق وغيرها. فسار إلى تلك الديار محفوفا بلطف اللّه وعنايته، كما وصف لنا سفرته قائلاً: «...وكنت أرى من إلهي جلّ شأنه عناية ولطفا بي مع صغر سنّي ووحدتي، واتّفق لي في ذلك السفر اُمور لا تخلو من غرابة». (4) وذكر قدس سره عدّة اُمور كان منها: أنّي لمّا دخلت مكّة المشرّفة ، سبقت الحاجّ أنا وإثنان راكبين بغالاً من عسفان، فلمّا وصلنا إلى مكّة المشرّفة ، ذهبتُ إلى الحرم لطواف العمرة وأنا وحدي، فدرت أوّلاً حول البيت الحرام حتّى عرفت الأماكن المعهودة التي ينبغي معرفتها وقت الطواف، ثمّ أردتُ أن أشرع في الطواف وإذا رجل ممّن هناك يطوّفون الناس جاء لي وقال: أنا اُطوّفك، فقلت له: أنا رجل من أهل الشام، وسبقت الحاجّ الشامي، وما معي شيء من الدراهم اُعطيك إيّاه ، ولا عندي شيء سوى ما أنا محرم به، فإن كنت ترضى أن تعلّمني بغير شيء ، وإلاّ فاتركني أطوف لنفسي، فجعل ينازعني ويتكلّم بكلام خشن، فبينما نحن في ذلك إذ أقبل رجل فجذب ذلك، وقال له: اتركه يطوف لنفسه، أنت تريد تعلّم هذا الطواف! هذا وأبوه من قبله يعلّمان مائة مثلك الطواف _ أو قال معنى هذا _ اتركه يطوف، فتركني، وطفتُ كما أردت. (5) هذا، وكانت له سفرة اُخرى إلى مكّة ومن بلاد أصفهان سيأتي الكلام عنها إن شاء اللّه تعالى.

.


1- . كرك نوح: لفظة سريانيّة أصلها «كركو» بمعنى حصن أو معقل، اسم قرية بأسفل جبل لبنان من جهة الجنوب، تنسب إلى نوح عليه السلام لوجود قبر ومشهد فيها منسوبين إليه. وقد قيل: إنّ هذه القرية كانت أشبه بمدينة حصينة جرت إليها مياه البردوني، ثمّ تحوّل عمرانها إلى غيرها، وأصبحت اليوم قرية صغيرة. وإلى هذه القرية ينتسب الكثير من العلماء أمثال المحقّق الكركي وغيره. انظر: كتاب الشهيد الثاني، ص 23 _ 24 .
2- . انظر: الدرّ المنثور، ج 2، ص 239 .
3- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 239. وقد تقدّمت الإشارة عند الكلام في تاريخ ولادته أنّ المشهور في ولادته 1013 أو 1014 هجريّة، وعليه يكون له من العمر حين سفره إلى مكّة بين 17 سنة و 20 سنة.
4- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 239.
5- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 240 _ 241.

ص: 19

. .

ص: 20

في أصفهان:سافر فقيدنا المترجم في أواسط حاله إلى بلاد إيران ، فسكن أصفهان. (1) وكان سفره إلى تلك البلاد لاُمور اقتضت ذلك، ولم تكن على وجه الجبر، كما ذكر ذلك في كتابه الدرّ المنثور. (2) وكانت أصفهان آنذاك مركز الدولة الصفويّة، حيث اختارها الشاه عبّاس الصفوي عاصمة لسلطانه، وذلك في عام (1007 قمري / 1598 ميلادي)، وكانت مركز العلم والعلماء، بل مركز الجدل والآراء الكلاميّة المختلفة، فسادها المذهب الحنفي فترة، والشافعي اُخرى، وهما معا ثالثة، وكانت كلّ فرقة تكفّر الاُخرى، وتحمل عليها فتبيح دماءها وأموالها، ولكنّ بعد مجيء الصفويّين لم يبقَ مجال لتلك المذاهب في البقاء والسيادة. فاحتضنت أصفهان كبار العلماء الإماميّة من الاُصوليّين، أمثال المحقّق الكركي قدس سرهوالذي أسّس فيها وفي غيرها من مدن إيران حوزات علميّة، وأنشأ مدارس لتلك الحوزات، وخصّص مبالغ معيّنة لطلاّب العلم من أجل التفرّغ للدراسة، فكثر عدد المشتغلين بدراسة العلوم الإسلاميّة، فشهدت إيران آنذاك حركة ثقافيّة وعلميّة مشهودة. وقد طوّرت تلك الحوزات والمدارس من قبل أفاضل جاؤوا بعد المحقّق الكركي، كالشيخ البهائي، والميرداماد، وجمال الدين الخوانساري، والفاضل الهندي، وغيرهم. (3) وفي نفس الوقت ضمّت أصفهان خيرة علمائنا الأخباريّين أمثال الشيخ محمّدتقيّ المجلسي وابنه الشيخ محمّد باقر المجلسي وغيرهما. (4) وبهذه الأجواء التي تعيشها مدينة أصفهان، وبذلك المعترك العلمي العظيم دَخَلَها شيخنا المترجم، واعتلى أمره بها، فقرأ عليه جماعة حتّى تبحّر في الفقه والحديث، وأحاط بغيرهما من العلوم، ودرّس وصنّف وحقّق في مختلف العلوم، بل بيّن المسائل المشكلة، وعلّق على كثير من الكتب (5) ، كما سيأتي في مؤلّفاته إن شاء اللّه تعالى.

.


1- . رياض العلماء، ج 4، ص 198؛ أمل الآمل، ج 1، ص 129، وفيه: «خرج من البلاد في أوائل الشباب وسكن أصفهان»؛ روضات الجنّات، ج 4، ص 390، موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 227.
2- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 242.
3- . انظر: دائرة المعارف بزرگ إسلامي (فارسي)، ج 9، ص 186 _ 187.
4- . المصدر السابق.
5- . انظر: أمل الآمل، ج 1، ص 129؛ رياض العلماء، ج 4، ص 197؛ روضات الجنّات، ج 4، ص 390؛ موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 227، الرقم 3573.

ص: 21

تلامذته

تلامذته:كان من النشاطات العلميّة التي قام بها فقيدنا المترجم أن قام بتربية وتدريس عددٍ من التلامذة، ولنذكر جملة منهم: 1 . ابنه: حسين بن عليّ، وقد وافاه الأجل شابّا في حياة أبيه، وقرأ عليه في الفقه والحديث والرجال والنحو والمنطق والحساب والهيئة. قال المترجم قدس سره في الدرّ المنثور متوجّها لابنه: عمّر نحوا من اثنتين وعشرين سنة، وقرأ في هذه المدّة القصيرة من الفقه عليَّ الألفيّة ومختصر النافع والشرائع، وكتبهما بخطّه، وشرح اللمعة، وكتب حواشيه التي كتبتها عليه مفردة ومدوّنة. ومن النحو: شرح الاُجروميّة، وشرح القطر وشرح ألفيّة ابن مالك، وكتبهما بخطّه وقرأ مغني اللبيب على غيري. وقرأ عليَّ من الحديث: من لا يحضره الفقيه بتمامه، وكتب حواشيه التي علّقتها عليه، وسمع طرفا من التهذيب. وقرأ عليَّ من الرجال: الخلاصة، وكتاب الدراية، وكتبهما بخطّه، ومعالم الدين بعضها عندي، وبعضها عند غيري، وشرح الشمسيّة، ومختصر التلخيص، وأكثر المطوّل، وشرح التجريد، وخلاصة الحساب، ورسائل اُخرى في الحساب وتشريح الأفلاك، وطرفا من شرح الجغميني في الهيئة . (1) هذا، ولكنّ الموجود في أعيان الشيعة (2) وموسوعة طبقات الفقهاء (3) وبعض الكتب الاُخرى (4) أنّ الذي قرأ على أبيه العلوم المتقدّمة هو ابنه «زين الدين»، وقد تقدّمت الإشارة إليه عند الكلام حول أولاد المترجم. 2 . ابنه: زين الدين بن عليّ بن محمّد. (5) 3 . ابن أخيه: عليّ بن زين الدين بن محمّد. (6) 4 . ابن أخيه: الحسن بن زين الدين بن محمّد. (7) 5 . أحمد بن عبدالعالي الميسي. (8) 6 . عبداللّه بن محمّد الفقعاني العاملي. (9) 7 . العلاّمة الميرزا محمّد جعفر بن الميرزا عيسى بيك التبريزي (10) 8 . محمّد بن جعفر بن عيسى التبريزي. (11) وأجاز لجماعة، منهم: محمّد باقر المجلسي قدس سره وكان تأريخها سنة 1068 هجريّة ، وأوّلها: «الحمد للّه على جزيل نواله....». (12) ومنهم: السيّد عليّ خان بن خلف المشعشعي الحويزي (المتوفّى سنة 1088 هجريّة) . أورد بعضها في رسالة ترجمة السيّد شبّر الحويزي (13) ومنهم: ابن أخيه عليّ بن زين الدين الثاني بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي. ونقلنا صورة هذه الإجازة في «خاتمة» هذه المقدّمة عند توصيف مخطوطة الدرّ المنظوم في جامعة طهران، المرقّمة 926.

.


1- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 247 _ 248. وانظر: أعيان الشيعة، ج 7، ص 159، موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 228.
2- . أعيان الشيعة، ج 7، ص 158 _ 159.
3- . موسوعة طبقات الفقهاء، ج 2، ص 228.
4- . ريحانة الأدب، ج 2، ص 404.
5- . أمل الآمل، ج 1، ص 92؛ رياض العلماء، ج 2، ص 387.
6- . أمل الآمل ، ج 1 ، ص 120 ؛ ريحانة الأدب ، ج 2 ، ص 431 ؛ موسوعة طبقات الفقهاء ، ج 12 ، ص 228 .
7- . أمل الآمل، ج 1، ص 63؛ طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 165؛ موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 228.
8- . موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 228.
9- . المصدر السابق.
10- . رياض العلماء، ج 4، ص 198.
11- . موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص 228.
12- . الذريعة، ج 1، ص 220.
13- . الذريعة، ج 11، ص 23.

ص: 22

. .

ص: 23

من أصفهان إلى مكّة المشرّفة:تقدّم أنّ فقيدنا قد حجّ البيت الحرام بداية شبابه، وكان سفره من موطنه جبل عامل، ولمّا سكن أصفهان وأقام فيه ، ذهب إلى مكّة، كما يظهر من طيّات ما كتبه في الدرّ المنثور مترجما لنفسه، فإنّه نقل بعض الحوادث التي جرت له منذ أن عزم على السفر إلى مكّة، وفي طريقه من أصفهان إلى مكّة وبالعكس، وكانت كلّها تشير إلى العناية الربّانيّة التي لقّاها في سفره ممّا يدلّ على إخلاصه وحسن نيّته، وقوّة علاقته بخالقه، فأولاه تلك العناية، وحفظه من أيدي الأعداء والحسّاد ذهابا وإيابا. فيقول: ومن غريب ما اتّفق لي أنّي لمّا عزمت على السفر من أصفهان إلى مكّة المشرّفة ، بعت بعض كتب كانت عندي، فجاءني في اليوم الثاني رجل خصيّ اسمه خواجه التفات، وكان من توابع زينب بگم بنت الشاه طهماس رحمهماالله، فقال: اُريد أن تخبرني، هل بعت شيئا من كتبك في هذه الأيّام، فقلت له: أخبرني عن سبب سؤالك حتّى اُخبرك ، فقال: أرسلت إليّ البگم في هذا الوقت تطلبني، فلمّا ذهبت إليها قالت: في هذه البلدة رجل اسمه الشيخ عليّ من أولاد الشيخ زين الدين؟ فقلت: نعم، فقالت: رأيت هذه الليلة في المنام الشاه عبّاس، وهو يقول ما معناه: أنّ هذا الرجل يجيء إلى بلادنا، وكنّا نطلب آباءه فلم يقبلوا أن يجيئوا إلينا ، وتصل حاله إلى أن يبيع كتبه وأنتم موجودون؟! فلمّا سمعتُ منه هذا ، أخبرته بالواقع، وهو أنّي بعت الكتب من غير إظهار لذلك. (1) وبعدها يمّم المترجم طرفه نحو البيت العتيق، وأدّى مناسك الحجّ ، ثمّ قفل راجعا إلى محلّ إقامته أصفهان تحرسه ملائكة الرحمن، وكان كلّ ذلك ببركة حجّ بيت اللّه الحرام.

.


1- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 242.

ص: 24

مؤلّفاته

مؤلّفاته:لقد عاش المترجم أكثر أوقاته في بلاد الغربة، مكدّر العيش، محزون القلب، خصوصا وأنّه فَقَدَ ثمرة فؤاده ولده العزيز، فحُرِم لذيذ الرقاد، وأضرمت النيران في أحشائه، فزادت مع ذلّ الاغتراب محنتُه وحزنُه وبلاؤه، ولكنّه مع كلّ هذا كان مشغولاً بالمطالعة والبحث والتدريس والتأليف، ولم يكن عنده ما يحتاجه من الكتب، فكتب ما يزيد عن سبعين كتابا ممّا يحتاج إليها ، كما صرّح به في الدرّ المنثور (1) ، وألّف عدّة كتب، وفي مجالات مختلفة، وفي هذه العجالة نذكر ما عثرنا عليه من الكتب والرسائل والحواشي والشروح: 1 . الدرّ المنثور من الخبر المأثور وغير المأثور: وهو كتاب كبير في ثلاثة مجلّدات (2) ، وهو كتاب جليل، كثير الفوائد، فيه حلّ عبارات معضلة، وبيان مسائل مشكلة، وشرح جملة من الأخبار المجملة، وتحقيق مطالب عديدة في علوم متنوّعة، حسنة الفوائد. (3) وأورد فيه تمام كتاب الفصول الأنيقة لجدّه صاحب المعالم و «تحفة الدهر في مناظرة الغنى والفقر» تأليف والده الشيخ محمّد ، وأورد في أواخر المجلّد الثاني فيه تمام ما وجده من «بغية المريد في كشف أحوال الشيخ زين الدين الشهيد» وهو من تأليفات ابن العودي تلميذ الشهيد. (4) وقد فرغ من تأليف الجزء الأوّل في 10 صفر 1073، ومن الجزء الثاني 22 ذي القعدة 1092، وليس للجزء الثالث منه تأريخ. (5) وقد طبع الكتاب أخيرا عام 1398 هجري بتحقيق السيّد أحمد الحسيني وتحت رعاية آية اللّه العظمى السيّد المرعشي النجفي قدس سره، وكان عبارة عن مجلّدين فقط. وقد نُبّه على ذلك في مقدّمة الكتاب، حيث جاء فيها: «ويجب أن نشير هنا إلى أنّنا رأينا نسخا عديدة من هذا الكتاب في مكتبات العراق وإيران، ولكنّها تضمّ الجزء الأوّل أو الأوّل والثاني منه، ولذلك نظنّ أنّه لم يؤلّف منه إلاّ هذان الجزآن». (6) واللّه العالم بخفيّات الاُمور . 2 . الدرّ المنظوم من كلام المعصوم: وهو هذا الكتاب الذي بين أيديكم، وسيأتي البحث عنه. 3 . الأحاديث النافعة: صرّح بذلك في ريحانة الأدب. (7) ويمكن أن يكون هذا الأثر هو الذي صرّح بذلك المؤلّف في الدرّ المنثور هكذا: وكتبت كتابا جمعت فيه رسائل كثيرة في فنون شتّى وفوائد وأشعارا وحلّ أحاديث وغير ذلك يقرب من أربعين ألف بيت. ومثله كتاب آخر يقرب من اثني عشر ألف بيت، ومثله كتاب آخر يقرب من خمسة ألف بيت، ومجاميع اُخر. (8) 4 . تنبيه الغافلين وتذكير العاقلين : وهذه رسالة في تحريم الغناء وعمومه من حيث المتعلّق، ردّ فيها على المحقّق السبزواري. قال في الذريعة: «أتى فيها من الطعن والتهجين بما يقبح كلّ القبيح، نسأل اللّه العفو عنه». (9) ونقل في اللؤلؤة وكذا في روضات الجنّات تجهيله للمحقّق السبزواري والطعن في عدالته، بل والطعن فيه بما يستقبح ذكره . (10) وتوجد من هذه الرسالة ثلاث نسخ في مكتبات إيران: ألف: مخطوطة مكتبة جامعة طهران، رقم ميكروفيلم: 3653 ، تاريخ تحرير: 1087 . (11) ب: مخطوطة مكتبة المرعشي، المرقّمة 4033، كتبت من نسخة المؤلّف . (12) ج: مخطوطة مكتبة المرعشي، المرقّمة 6185 . (13) وطبعت هذه الرسالة أخيرا في مجموعة «غنا، موسيقى» ج 1، ص 63 _ 100. 5 . الحاشية على الألفيّة : قال العلاّمة الطهراني: «توجد نسخة منها متضمّنة إلى حاشية جدّه الشهيد في مكتبة السيّد محمّد عليّ هبة الدين الشهرستاني». (14) 6 . الحاشية على شرائع الإسلام: قال في الذريعة: «خرج منها مجلّد كبير إلى آخر صلاة المسافر، أوّلها: «الحمد للّه المحمود لآلائه، المشكور لنعمائه، المعبود بكماله، الموهوب بجلاله...» ثمّ أطرى كتاب الشرائع وشرح جدّه الشهيد له، وذكر أنّ مسلكه فيه على الاختصار، وعناوينها «قوله، قوله». (15) 7 . الحاشية على الفوائد المدنيّة: وله نسخة في مكتبة المرحوم آية اللّه گلپايگاني، المرقّمة 14011 . (16) 8 . الحاشية على مختصر النافع : قال العلاّمة الطهراني: «قيل : إنّ نسخة منها في الرضويّة، ولكنّي لم أجد ذكرها في فهرسها». (17) 9 . الحاشية على المعالم : صرّح بذلك في الدرّ المنثور . (18) 10 . الحاشية على من لا يحضره الفقيه : صرّح بذلك في الدرّ المنثور. (19) ويمكن أن يكون نسخة المرقّمة 10918 في مكتبة المرحوم آية اللّه گلپايگاني، هي هذا الأثر. (20) 11 . الردّ على سلطان العلماء: فيما أورده من الاعتراضات على المجلّد الأوّل من الروضة البهيّة، وهي الرسالة التي تقدّم ذكرها نقلاً عن اللؤلؤة، وأوّلها: «الحمد للّه ربّ ...» وفرغ منها 5 ربيع الأوّل 1086 هجريّة. وهي _ كما تقدّم _ دفع لاعتراضات سلطان العلماء على جدّه الشهيد. (21) وفي الرياض: «والحقّ أنّه تعسّف في دفع أكثر الإيرادات». (22) قال في الذريعة: «رأيت النسخة في خزانة الصدر، ونسخة اُخرى منه في الرضويّة منضمّا إلى حاشية الروضة...، ونسخة عند السيّد شهاب الدين بقمّ، وفيها تأريخ فراغ المؤلّف 27 جمادى الثانية 1075 هجريّة. فيظهر أنّ ما في نسخة الصدر من التأريخ هو تأريخ الكتابة لا الفراغ». (23) 12 . الردّ على محمّد أمين الاسترابادي. صرّح بذلك في الدرّ المنثور. (24) 13 . الردّ على من يبيح الغناء: وفيه تعريض على الفيض في تجويزه. وهو غير رسالته المتقدّمة في تحريم الغناء المسمّى ب_ «تنبيه الغافلين». (25) 14 . الزهرات الزويّة في الروضة البهيّة: وهي حاشية وشرح على شرح اللمعة بعنوان (قوله، قوله) مبسوطة في مجلّدين. قال في الذريعة: موجود في الخزانة الرضويّة وغيرها. أوّله: «الحمد للّه الذي نوّر روضة الدين البهيّة الزاهرة، وأوضح مسالك الشرائع السنيّة الباهرة...». انتهى مجلّده الأوّل الذي فرغ منه في 14 ربيع الأوّل عام 1074 إلى آخر الحجّ، وعليها خاتمه المنقوش فيه: «الحَسَن الظنّ بربّه العليّ، عبد محمّد وآله : عليّ». وفرغ من مجلّدة الثاني عام 1075 هجري ، كما في النسخة الرضويّة. (26) قال في اللؤلؤة: «وقد أكثر في المجلّد الثاني من دفع اعتراضات سلطان العلماء على جدّه، ولمّا فاته ذلك في المجلّد الأوّل لانتشار نسخه، كتب رسالة مستقلّة في دفع إيراداته على المجلّد الأوّل...». (27) وهي الرسالة الآتية، تحت الرقم (3) المسمّى ب «الردّ على سلطان العلماء». 15 . السهام المارقة من أغراض الزنادقة: ردّ فيها على الصوفيّة. قال في الدرّ المنثور: «وكتبت كتابا في الردّ على مَن شنّع على علماء الشيعة من المتصوّفة الحائدين عن طريق علمائنا، وانتصر لملاحدة المتصوّفة، سمّيته السهام المارقة من أغراض الزنادقة...». (28) وفي طبقات أعلام الشيعة: أساء فيها التعبير بما لا يليق على فلاسفة الشيعة وعلمائها من مدرستي شيراز وكاشان دفاعا عن الأخباريّين وشيوخ الإسلام، والصدور الرسميّين، أورد فيها فهرسا لأسماء 19 كتابا اُلّفت ضدّ الصوفيّة مثل مقصد المهتدين، و ذخيرة المؤمنين، و معيار العقائد، ودرّة فاخرة، و توضيح المشربين، وأصل فصول التوضيح، وغير ذلك. (29) ويشتمل هذا الأثر على اثني عشر فصلاً، وطبع أخيرا الفصل الأوّل والثاني منه في مجموعة «غنا، موسيقى» ج 3، ص 1661 _ 1671. ومنه نسخة في مكتبة المرعشي، المرقّمة 1576 (30) ، ص383)؛ ونسخة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي . (31) 16 . شرح الصحيفة السجّاديّة: قال العلاّمة الطهراني طاب ثراه: «وقد عبّر عنه في الرياض بالحاشية... وهو في الحقيقة شرح مدوّن يقتضي الإنصاف أن يعدّ في الشروح، ونسخة الأصل بخطّ المؤلّف في مكتبة السيّد محمّد المشكاة في طهران». (32) 17 . فائدة في عقد المتعة وما يعتبر فيها: قال العلاّمة الطهراني: «موجودة في خزانة كتب سيّدنا الشيرازي بسامرّا، منضمّة إلى المختصر النافع. أوّلها: هو العليّ، لا شكّ أنّه يشترط لصحّة عقد المتعة ذكر المهر وتعيينه بما يرفع الجهالة...». (33) 18 . القصائد الكثيرة: صرّح بذلك في الذريعة وقال: «وهي موجودة في خزانة كتب المولى محمّدعليّ الخوانساري بالنجف». (34)

.


1- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 244؛ طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 545.
2- . الذريعة، ج 8، ص 76، لكنّ الموجود في أمل الآمل، ج 1، ص 129: «خرج منه مجلّدان»، وكذا في رياض العلماء، ج 4، ص 198.
3- . روضات الجنّات، ج 4، ص 391.
4- . الذريعة، ج 8، ص 76 _ 77 .
5- . المصدر السابق.
6- . الدرّ المنثور، ج 1، المقدّمة.
7- . ريحانة الأدب، ج 2، ص 430.
8- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 245.
9- . الذريعة، ج 11، ص 138 _ 139.
10- . انظر: لؤلؤة البحرين، ص 163، ذيل ترجمة إبراهيم القطيفي؛ روضات الجنّات، ج 2، ص 71 _ 77؛ دين وسياست در دوره صفوى (فارسي)، ص 202.
11- . فهرس المكتبة ، ج 2 ، ص 212 .
12- . فهرس المكتبة ، ج 11 ، ص 38 .
13- . فهرس المكتبة ، ج 16 ، ص 185 .
14- . الذريعة، ج 6، ص 24. وراجع: ريحانة الأدب، ج 2، ص 430.
15- . الذريعة، ج 6، ص 107 _ 108.
16- . الذريعة، ج 16، ص 358؛ ريحانة الأدب، ج 2، ص 430.
17- . الذريعة، ج 6، ص 194.
18- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 245.
19- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 245؛ ريحانة الأدب، ج 2، ص 430 .
20- . فهرس المكتبة، ج 1، ص 165.
21- . الذريعة، ج 10، ص 200.
22- . رياض العلماء، ج 4، ص 199.
23- . الذريعة، ج 10، ص 200 _ 201؛ وج 5، ص 174.
24- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 245.
25- . الذريعة، ج 1، ص 229.
26- . الذريعة، ج 12، ص 67 _ 68.
27- . المصدر السابق.
28- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 245.
29- . الذريعة، ج 12، ص 260 _ 261. وانظر: لؤلؤة البحرين، ص 85 _ 86؛ طبقات أعلام الشيعة ، القرن 12، ص 546.
30- . فهرس المكتبة ، ج 4 ، ص 383 .
31- . فهرس المكتبة ، ج 22 ، ص 235 .
32- . الذريعة، ج 13، ص 354.
33- . الذريعة، ج 16، ص 89.
34- . الذريعة، ج 17، ص 87.

ص: 25

. .

ص: 26

. .

ص: 27

. .

ص: 28

. .

ص: 29

. .

ص: 30

أشعاره

أشعاره:قال المؤلّف قدس سره: لقد كنت في أوائل عمري أتعاطى نظم الشعر، وكنت كلّما نظمت شيئا من قصيدة وغيرها، تطلب نفسي ما يكون أعلى طبقة من ذلك النظم؛وكنت لذلك لا اُثبت ما نظمته، وبقي الآن في خاطري بعض أبيات اُثبت منها ما يحضرني وقت الكتابة ليكون تذكرة. (1) فذكر أبياتا شعريّة نظمها في مناسبات مختلفة، ولنختر منها بعض ما نظمه راثيا ابنا له توفّي، اسمه «محمّد الأوّل»: عرفت الليالي غثّها وسمينهافسيّان عندي سهلها وحزونها _ إلى أن قال _ : وما اُمّ خشف لم تجد طول عسرهاسواه ولم تظفره نجل بعينها اضربه جرا الهجر فأصبحتعلى حاله فيها يجنّ جنونها فلاح لها ماء فلمّا تعرّضتله نفسه وافته ثمّ منونها بأعظم منّي لوعة يوم خبروابأنّك في تلك الفلاة دفينها فياليت سمعي صمّ قبل سماعهوياليت نفسي قبله حان حينها (2) وله مقتطعات اُخرى نعرض عنها ونكتفي بهذا المقدار.

.


1- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 250.
2- . الدرّ المنثور، ج 2، ص 250_251 .

ص: 31

وفاته

الفصل الثاني : الدرّ المنظوم

وفاته:توفّي الشيخ عليّ الكبير قدس سره في أصفهان عام 1103 هجري أو 1104 هجري، بعد غربة قاتلة طويلة، وبعد فقده لثمرة فؤاده، وبعد طعنه في السنّ حتّى أنّه بلغ التسعين عاما. وبعد وفاته نقل إلى خراسان ودفن في مدرسة الميرزا جعفر بالمشهد الرضوي في مقبرة الشيرواني والسبزواري، حيث دفن فيها من قبله ولده حسين المتقدّم الذكر. (1)

الفصل الثاني : الدرّ المنظوم (الكتاب الذي بين يديك)1 . لا إشكال ولا ترديد في نسبة هذا الكتاب للمؤلّف قدس سره ، وذلك للاُمور التالية : أوّلاً : أنّ كتب التراجم التي ترجمت للمؤلّف ، أوردت هذا الكتاب في آثاره . وثانيا : لقد تعرّض المؤلِّف في كتاب الدرّ المنثور إلى طرف من حياته ، وذكر بعضَ مؤلّفاته ، وكان منها شرحه لاُصول الكافي . وثالثا: أنّ المؤلّف صرّح باسمه واسم الكتاب «الدرّ المنظوم» في مقدّمة الكتاب. 2 . يعتبر الدرّ المنظوم من الآثار المهمّة للمؤلِّف ، وله مكانته الخاصّة من بين مؤلّفاته ، فمن خلال هذا الأثر اتّضحت القدرة العلميّة والأدبيّة واللغويّة له ، فنراه يطرح نكاتا أدبيّة ظريفة ، ويبيّن معاني لغويّة لطيفة ، ويغور في طرح وجوه واحتمالات كثيرة للروايات. وقد تعمّق في ذكر المعاني السامية لما ورد في كتابي العقل والعلم ، وبيّن أحاديث الكافي مستعينا بالآيات والروايات ، كاشفا أسرارها على أحسن ما يرام ، ممّا زان هذه الحاشية وزادها رفعة على غيرها ؛ وجميع هذه الاُمور تشكل بعض خصوصيّاتها وامتيازاتها على غيرها من الحواشي. 3 . ضمّنت هذه الحاشية بيان أحاديث اُصول الكافي إلى آخر كتاب فضل العلم. وكان المؤلّف قاصدا مواصلة شرحه لروايات الكافي بتمامها ، فقد قال قدس سره في آخر هذه الحاشية: تمّ بعون اللّه تعالى وتوفيقه .. . الجزء الأوّل من الكتاب الموسوم ب «الدرّ المنظوم» على يد مؤلّفه أقلّ العباد عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي .. . ويتلوه بعون اللّه تعالى وتوفيقه ومشيّته في أوّل الجزء الثاني كتاب التوحيد. ومن هنا قد يحتمل أنّه استمرّ في شرحه وبيانه لأحاديث الكافي بما يزيد على ما في أيدينا ، وقد يكون كذلك ، ولكن مع الفحص والتتبّع في فهارس الكتب الخطّيّة لم نعثر ولو على نسخة واحدة تدلّ على استمرار تدوينه لهذا الأثر. بل هناك ما يدلّ على أنّ جميع ما كتبه حاشية على اُصول الكافي هو هذا المقدار الذي بين يدي القارئ الكريم ، وأمّا مازاد عليه فهو لم يكن إلاّ مسوّدات لم يتّفق له تبييضها ، فقد قال _ فى معرض بيانه لبعض أحواله في كتاب الدرّ المنثور متطرّقا لحاشيته على الكافي _ : «وكنت شرعت في شرحٍ على اُصول الكافي ، ظهر منه مجلّد إلى البياض ، ولم يتّفق تبييض بقيّة المسوّدات». (2) نعم ، يحتمل أنّ تلميذه الشيخ عليّ الصغير استعان بتلك المسوّدات في شرحه لكتاب التوحيد من اُصول الكافي حتّى أخرجه بشكل رسالة مستقلّة. وممّا يؤيّد هذا الاحتمال أنّ اُسلوب الشيخ عليّ الصغير وطريقة بيانه وشرحه لكتاب التوحيد قد شابه ما جاء في حاشية المؤلِّف . 4 . لم يتعرّض المؤلِّف في هذه الحاشية إلى أسناد الأخبار وأحوال الرجال ، وإنّما أحاله إلى الكتب المختصّة . وقال في توجيهه في مقدّمة الكتاب : هذه حواشٍ يسيرة ، وتعليقات حقيرة .. . على اُصول الكتاب الكافي والمنهل العذب الصافي .. . معرضا عن التعرّض لأحوال الرجال ، روما للاختصار ؛ ولأنّ ذلك يحصل بمراجعة ماحرّره في هذا الفنّ علماؤنا الأخيار ، وبناءً على إخباره _ قدّس اللّه روحه _ بصحّة ما في كتابه من الآثار عمّا ظهر معناه وانكشفت حقيقة مبناه. 5 . نقل المؤلّف في هذه الحاشية عدّة مطالب عن والده الشيخ محمّد بن حسن بن زين الدين صاحب كتاب «استقصاء الاعتبار» ويقول عند نقلها : «قال والدي طاب ثراه» ، وهذا مايعني أنّ لوالده قدس سره شرحا مكتوبا على الكافي . وقد ذكرت بعض التراجم أنّ للشيخ محمّد قدس سره والد المؤلّف حاشية على الكافي . ولكن مع التتبّع والفحص في فهارس الكتب الخطّيّة لم نعثر على هذا الأثر . واحتمال أن تكون تلك المطالب التي نقلها عن والده أخذها عنه مشافهة مردود ؛ وذلك لأنّه قدس سره صرّح في بعضها أنّه ينقل عن كتاب حرّره والده ، فمثلاً يقول في ذيل الحديث 29 من كتاب العقل : «وكتب والدي طاب ثراه على هذا ما صورته ...» . وبناء على هذا يكون ما جاء في الدرّ المنظوم من حاشية الشيخ محمّد ليس إلاّ أثرا منقولاً من آثاره . ونأمل أن نعثر على نسخة من تلك الحاشية كي تحقّق وتدخل في مجامع الحديث وتطرح في خدمة المحقّقين والفضلاء . 6 . كانت للمؤلّف عناية خاصّة ودقّة متناهية في نقل الأحاديث التي ذكرها ورواها ثقة الإسلام الكليني رحمه الله في الكافي . ولم يعتمد في نقلها على نسخة واحدة ، بل أخذ من نسخ مختلفة ، واختار أصحّ العبارات ، وأشار إلى بعض الاحتمالات مستندا على النسخ بعبارة «في بعض النسخ». 7 . بعد التدقيق في هذه الحاشية ، وبعد المقايسة بين المباحث التي طرحت فيها وبين سائر الشروح والحواشي المعروفة على الكافي يتّضح أنّ هذه الحاشية لم تكن مقتبسة من غيرها من الشروح والحواشي. كما وأنّ المطالب التي طرحت فيها تختلف اختلافا كبيرا عن مطالب الشروح والحواشي الاُخرى . وعليه يمكن أن يقال : إنّ هذه الحاشية انفردت بمطالب كثيرة ومهمّة لم تطرح في باقي الحواشي والشروح التي كتبت على الكافي .

.


1- . انظر: رياض العلماء، ج 4، ص 198؛ روضات الجنّات، ج 4، ص 390؛ الفوائد الرضويّة، ص323؛ طبقات أعلام الشيعة، القرن12، ص 545 _ 546؛ موسوعة طبقات الفقهاء، ج 12، ص228.
2- . الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 245 .

ص: 32

. .

ص: 33

. .

ص: 34

خاتمة : علمنا في الكتاب

خاتمةعملنا في الكتاب:التفحّص عن النسخ الخطّيّة. بعد المراجعة إلى الفهارس، وصلنا إلى تسع نسخ خطّيّة من هذا الأثر، التي كتب بعضها في حياة المؤلّف، وعلى حاشية بعضها حواش بخطّ المؤلّف. واعتمدنا من بينها على أربع نسخ، معتبرة مصحّحة، نتعرّفها في الصفحة الآتية. والآن نشير إلى خمس نسخ التي لم تصل إلينا : ألف: مخطوطة مكتبة جامعة طهران، المرقّمة 926. والنسخة مصحّحة وعلى الورقة الأخيرة صورة بلاغ وإجازة المؤلّف إلى ابن أخيه، عليّ بن زين الدين بن محمّد، المعروف بالشيخ عليّ الصغير، هكذا: بلغ قراءة من أوّله إلى آخره بعون اللّه تعالى الولد الأعزّ الشيخ عليّ ولد الأخ الشيخ زين الدين، قدّس اللّه روحه. وقد أجزت له _ وفّقه اللّه _ روايته ورواية أصله الشريف بطريقي إلى مصنّفه _ قدّس اللّه نفسه وطهّر رمسه _ وكتبه الفقير إلى اللّه تعالى عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين، مؤلّف هذا الكتاب عفا اللّه عنهم في ثامن شهر ربيع الأوّل 1085. (1) ب : مخطوطة مكتبة مدرسة الإمام الصادق بقزوين، المرقّمة: 263، والنسخة مصحّحة، نسخت في حياة المؤلّف وعليها حواش منه بهذا العنوان «منه سلّمه اللّه ». (2) ج : مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي، المرقّمة: 4751، نسخت في القرن 11، والنسخة مخرومة الآخر. (3) د : مخطوطة مدرسة العالي الشهيد المطهّري (سپهسالار) نسخت في القرن 12، وعلى حواشيها مطالب بعنوان «منه». (4) ه_ : مخطوطة مكتبة مسجد الأعظم بقمّ المقدّسة، المرقّمة: 564. (5) 2 . المقابلة. قابلنا نسخة «د» مع ثلاث نسخ اُخرى المعتمد عليها. وكتبنا في هذه المرحلة كلّ الاختلافات، وأيضا قابلنا متن الكافي في هذه الحاشية مع الكافي المطبوع. 3 . التخريجات. قد تمّ استخراج جميع الآيات والروايات والأقوال. وقد عمدنا في استخراج الروايات على المصادر الاُولى مع تكثير المصادر حدّ الإمكان. وتمّ استخراج الأقوال من كتب قائليها، وإلاّ من أقرب ناقليها. 4 . تقويم النصّ . قمنا في هذه المرحلة _ التي كانت من أهمّ مراحل التحقيق _ بتقويم النصّ وتصحيح المتن من الخطأ، واختيار الصحيح عند اختلاف النسخ، أو الأرجح مع احتمال الصحّة في الجميع، مع الإشارة إلى المرجوح في الهامش. هذا مع تزيين المتن بالفواصل المعتدلة ووضع علائم الترقيم ورعاية قواعد الإملاء ممّا يسهّل الأمر على القاري والطالب. 5 . التعليقات. كانت على حواشي النسخ الخطّيّة مطالب وفوائد من المؤلّف ، فكتبناها بعد التصحيح في الهامش. 6 . جعلنا متن الكافي المطبوع بتمامه فوق الصفحات تسهيلاً للقاري، وذلك بعد تصحيح الكافي عن بعض الأخطاء، ووضع علائم الترقيم من جديد، وتعريب بعض الكلمات، وأشرنا أيضا في حاشية الصفحات إلى رقم الصفحة من الكافي المطبوع (وهو طبع دار الكتب الإسلاميّة مع تصحيحات وتعليقات المرحوم المحقّق عليّ أكبر الغفاري قدّس اللّه نفسه الزكيّة). 7 . بعد تنضيد الحروف والإخراج الفنّي للكتاب، وضعنا له فهارس عامّة.

.


1- . فهرس المكتبة ، ج 5 ، ص 1305 .
2- . فهرس المكتبة ، ص 119 .
3- . فهرس المكتبة ، ج 13 ، ص 138 .
4- . فهرس المكتبة ، ج 4 ، ص 416 .
5- . فهرس المكتبة ، ص 171 .

ص: 35

. .

ص: 36

النسخ المعتمدة:اعتمدنا في تحقيق هذا الأثر القيّم على أربع نسخ: 1 . مخطوطة مركز إحياء التراث الإسلامي، المرقّمة 2538، نسخها محمّد بن فيّاض الحسيني الكربلائي في يوم السبت من شهر ذي الحجّة سنة 1071، والنسخة من أوّله إلى آخره مصحّحة وعليها علامة البلاغ. وكتب المؤلّف في الورقة الأخيرة بخطّه هكذا: «بلغ مقابلة فصحّ سوى ما زاغ عنه البصر، والحمد للّه ، كتبه عليّ بن محمّد العاملي». وعلى حواشي النسخة تعليقات من المؤلّف هكذا: «منه عفى اللّه عنه». ويحتمل قويّا أن يكون هذه التعليقات وكذا علامة البلاغ المتكرّرة على حواشي النسخة بخطّ المؤلّف. وعلى أيّ حال هذه النسخة من أقدم النسخ وأصحّها. (رمزها «الف»). (1) 2 . مخطوطة مكتبة المرحوم آية اللّه العظمى المرعشي النجفي، المرقّمة 1647، ونسخت في حياة المؤلّف. وعلى الورقة الأخيرة بخطّ المؤلّف هكذا: «قابل هذا الكتاب من يعتمد على مقابلته، فصحّ سوى ما زاغ عنه البصر، وكتبه أقلّ العباد عليّ بن محمّد سامحه اللّه تعالى». والنسخة مصحّحة وعليها تعليقات من المؤلّف بهذه العناوين: «منه دام ظلّه»؛ «منه دام تأييده»؛ «منه دام عزّه»؛ «منه مدّ ظلّه». وقليل من التعليقات بخطّ آخر، يحتمل أن يكون بخطّ المؤلّف. وعلى الورقة الاُولى تملّك ميرزا محمّد الهمداني بتاريخ 1302. (رمزها «د»). (2) 3 . مخطوطة مكتبة المرحوم آية اللّه العظمى المرعشي النجفي، المرقّمة 3574. والنسخة مصحّحة مجدولة، قابلها كمال الدين بن حيدر بن نور الدين الحسيني العاملي لزبدة الوزراء ميرزا حاتم بيك، وأتمّ المقابلة في يوم الخميس 24 جمادى الاُولى سنة 1095. (رمزها «ج»). (3) 4 . مخطوطة مركز إحياء التراث الإسلامي، المرقّمة 2733، والنسخة مصحّحة، مكتوبة في القرن 12، وعليها حاشيتان بهذا العنوان: «أبو عليّ عفي عنه». (رمزها «ب»). (4)

.


1- . فهرس المكتبة (مخطوط) .
2- . فهرس المكتبة ، ج 5 ، ص 46 .
3- . فهرس المكتبة ، ج 9 ، ص 360 .
4- . فهرس المكتبة (مخطوط) .

ص: 37

كلمة شكر وثناء:وفي الختام نرى من الواجب علينا أن نقدّم جزيل الشكر والثناء إلى جميع الإخوة الذين ساهموا في مساعدتنا على تحقيق هذا الأثر القيّم، وفي مقدّمهم فضيلة الاُستاذ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ نعمة اللّه الجليلي لنهوضه بمهمّة مراجعة الكتاب، وكذلك الإخوة الأفاضل السيّد محمود الطباطبائي، والشيخ عبدالحليم الحلّي والشيخ أحمد الأحمدي لمساعدتهم في بعض مراحل العمل؛ وكذا سماحة الأخ المحقّق الشيخ عليّ الأنصاري للمساعدة في تنظيم مطالب حول حياة المؤلّف وتعريبه؛ وكذا الأخ العزيز فخرالدين جليلوند الذي بذل جهوده في الإخراج الفنّي للكتاب . كما أنّ الواجب يدعونا إلى تقديم جزيل الشكر إلى المحقّق الفاضل الشيخ مهديّ المهريزي مسؤول مركز تحقيقات دار الحديث، وكذا سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الدكتور السيّد محمود المرعشي النجفي مسؤول مكتبة المرحوم آية اللّه العظمى المرعشي النجفي وحجّة الاسلام والمسلمين السيّد أحمد الحسيني الإشكوري مسؤول مركز إحياء التراث الإسلامي. نسأل اللّه تعالى أن يكتب لهم الأجر وأن يتقبّله بأحسن القبول. محمّد حسين الدرايتي 2 محرّم 1426 ه 24 بهمن 1383 ش

.

ص: 38

. .

ص: 39

M450_T1_File_670354.jpg

.

ص: 40

M450_T1_File_670355.jpg

.

ص: 41

M450_T1_File_670356.jpg

.

ص: 42

M450_T1_File_670357.jpg

.

ص: 43

M450_T1_File_670358.jpg

.

ص: 44

M450_T1_File_670359.jpg

.

ص: 45

الدُّرُّ المنظوم من كلام المعصوم .

ص: 46

. .

ص: 47

مقدّمة الشارح

خطبة الكافي

بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه الاستعانة ومنه التوفيق (1) أصحُّ الأخبار سنداً وأعلاها ، وأحسن الآثار متناً وأغلاها ، وأوثق الأحاديث معنى وأقواها ، حمدُ من تواترت اُصول نعمه وفروعُها ، وتظافرت دلائل توحيده ، معقولها ومسموعها ، وتظاهرت آيات حجّته ، فتفجّرت من العلوم ينابيعها . والصلاة على من أسّسَ قواعد الدين وشيّدها ، وأحكم أحكام الشريعة الحنيفيّة ومهّدها ، وأطفأ نيران الجهل والضلال وأخمدها ، وعلى آله الذين أذهبَ اللّه عنهمُ الرجس وطَهَّرهم تطهيراً ، وجعلهم لدينه أعلاماً وسراجاً وقمراً 2 منيراً ، (2) « لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنم بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنم بَيِّنَةٍ » (3) ، ولم يزل بعباده لطيفاً خبيراً . (4) وبعد ، فيقول غريق بحر ذنبه ، وراجي عفو ربّه «عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين» نوَّر اللّه قلبه بأنوار المعرفة واليقين : هذه حواش يسيرة ، وتعليقات حقيرة كنتُ قد كتبتها متفرّقة ، فعَنّ (5) لي أن أجعلها متّسقة مع إضافة ما تيسّر ، وعدم التعرّض لما أشكَل وتعسَّر ، بحسب ما وصَل إليه نظري القاصر ، وتصوَّر (6) فكري الفاتر ، وإلاّ فحقيقة مطالب حججه عليهم السلام ومقاصدهم لا تحصل غالباً إلاّ من نحو مشافههم ومشاهدهم ، فإنّ علمهم البحر الذي لا ينزف ، وفضائلهم لا تحدّ ولا توصف على اُصول الكتاب الكافي ، والمنهل العذب الصافي للثقة الجليل محمّد بن يعقوب الكليني أنار اللّه برهانه ، وأعلى في علّيّين مكانه ؛ فلعمري لم ينسج ناسجٌ على منواله ، ومنه يُعلم قدر منزلته وجلالة حاله ، معرضاً عن التعرّض لأحوال الرجال ، روماً للاختصار ، ولأنّ ذلك يحصل بمراجعة ما حرّره في هذا الفنّ علماؤا الأخيار ، وبناءً على إخباره _ قدّس اللّه روحه _ بصحّة ما في كتابه من الآثار ، وعمّا ظهر معناه ، وانكشفت حقيقة مبناه ؛ وعلى اللّه قصد السبيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل . ولنبدأ أوّلاً بما يتعلّق بالخطبة ممّا لعلّه يحتاج إلى البيان ، وباللّه سبحانه الاستعانة وعليه التكلان ، فإنّ أكثرها مقتبس من كلام اللّه سبحانه وأخبارهم ، وعليها مسحة من نور فيضهم وآثارهم ، ولتشرّف هذه الحاشية بكلامهم الشريف ، سمّيتها ب_ «الدرّ المنظوم من كلام المعصوم» .

.


1- . في «ب ، د» : - «وبه الاستعانة ومنه التوفيق» .
2- . في «د» : + «و» .
3- . الأنفال (8) : 42 .
4- . في «ب» : + «بصيرا».
5- . في «ألف و ب» : «فهنّ» .
6- . في «ألف و ج » : «وتصوّره» .

ص: 48

. .

ص: 49

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه المحمودِ لنعمته ، المعبودِ لقدرته ،

قوله : (الحمدُ للّه المحمودِ لنعمته) . جمعتْ هذه الفقرة بين معنيي الحمد والشكر ، فالحمد المطلق أوّلاً لإرادته . «والمحمود لنعمته» : المراد به «المشكور» بقرينة التعليل بالنعمة ، فالحمد للّه معناه الحمد لمن يستحقّ الحمد لذاته ، والمحمود لنعمته الذي يستحقّ الحمد الذي هو الشكر لأجل إنعامه . ولم يقل «المشكور لنعمته» لإرادة دخول حمده من جهة الشكر ، ولشكره تعالى برأس الشكر وأظهر أفراده ، و«المحمود لنعمته» وما بعده من الصفات ممّا يكشف عن كونه تعالى يستحقّ الحمدَ لذاته ، فإنّ من يشكر لأجل النعمة الحقيقيّة يرجع إلى ذلك ، وكذا البواقي . قوله : (المعبودِ لقدرته) أي المعبود لكونه قادراً ، وبكونه قادراً يكون أهلاً للعبادة ، فإنّ المراد بالقدرة المضافة إليه تعالى القدرة الكاملة التي لا تشبهها قدرة ، أو القدرة الحقيقيّة التي كلّ ما يسمّى قدرة فهو مجاز بالنسبة إليها ، ومتسبّب عنها . ولا ينافيه قوله عليه السلام : «ما عَبَدْتُك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك ، بل وجدتُك أهلاً للعبادة» (1) ، فإنّ وجدان كونه تعالى أهلاً للعبادة يظهر من جهة القدرة ونحوها ، وصفاته تعالى عين ذاته .

.


1- . شرح نهج البلاغة ، لابن أبيالحديد ، ج 10 ، ص 157 ؛ الألفين ، للعلاّمة الحلّي ، ص 128 ؛ نهج الحقّ ، للعلاّمة الحلّي ، ص 248 ؛ القواعد والفوائد ، للشهيد الأوّل ، ج 1 ، ص 77 ؛ عوالي اللئالي ، ج 1 ، ص 404 ، ح 63 ؛ و ج 2 ، ص 11 ، ح 18 ؛ تفسير الصافي ، ج 3 ، ص 353 ؛ بحارالأنوار ، ج 41 ، ص 15 ، باب عبادته وخوفه عليه السّلام ، ذيل ح 4 ؛ وج67 ، ص 186 ، باب النيّة وشرائطها ومراتبها ... ، ذيل ح 1 ؛ وص234 ، باب الإخلاص ومعنى قربه تعالى ، ذيل ح 6 ؛ وج69 ، ص 278 ، باب الرياء ، ذيل ح 1 .

ص: 50

المطاعِ في سلطانه ، المرهوبِ لجلاله ، المرغوبِ إليه فيما عنده ، .........

قوله : (المُطاعِ في سلطانِه) أي الذي لا يقدر شيء من مخلوقاته على مخالفته تعالى فيما يريده بقوله له : «كن» . وهذا لا يثبت لغيره تعالى من السلاطين المجازيّة ونحوهم ؛ فإنّ قدرتهم لا تعمّ كلّ ما يريدونه أن يكون واقعاً . وعصيان بعض مخلوقاته _ بمعنى عدم امتثالهم أمره تعالى ونهيه _ لا ينافي عموم قدرته وسلطانه . وترك الانتقام العاجل إمّا أن يكون عفواً ، أو للانتقام الآجل . وهو سبحانه إذا أراد الانقياد من جميع المخلوقات ، انقادتْ له طائعةً أو مكرهةً ، ولكن لمّا بنيت حكمة التكليف على ما ذكر ، كان العاصي له تعالى عاصياً من هذه الجهة ، وكثير ممّن يعصي أمر السلاطين لا يقدرون عليه بوجه . وبالجملة، فالمطاع في سلطانه على الإطلاق هو اللّه تعالى لا غيره ، وهو ظاهر. ولمّا كان السلطان بتسلّطه بالأمر والنهي على من تحت سلطنته يسمّى سلطاناً ، أتى ب_ «في» هنا دون «اللام» . قوله : (المَرْهوبِ لجَلالِه) ، أي الذي يخاف منه ويخشى لعظمته على الإطلاق ، وذلك هو اللّه تعالى . وكذلك قوله : (المرغوبِ إليه فيما عِنْدَه) ، فإنّ غيره تعالى إذا رُغب إليه فيما عنده إمّا أن يبخل به ، فتنقطع الرغبة فيما عنده ، وإمّا أن يُعطي كلّ من رَغب ، فينفد ما عنده ؛ قال تعالى : « مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَ مَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ » (1) ، فلا رغبة ولا عند ، فلا يرغب إلى غيره تعالى فيما عنده على الإطلاق ، أو إنّه تعالى يرغب إليه فيما هو عنده على وجه الملك والتصرّف الحقيقيّين . وهذا بخلاف غيره ، فإنّ ما عنده ليس في قبضته وتصرّفه على هذا الوجه . أو أنّ المرغوب فيه هو الذي يستحقّ أن يرغب فيه ، وهو الثواب الدائم ، وإن اُضيف إليه غيره ، وهو عنده تعالى ومختصّ به ، ولا يوجد عند غيره إلاّ ما لا ينبغي الرغبة فيه ؛ بل ما (2) ينبغي الرغبة عنه .

.


1- . النحل (16) : 96 .
2- . في «ألف» : - «ما» .

ص: 51

النافذِ أمرُه في جميع خلقه ؛ علا فاستعلى ، .........

قوله : (النافِذِ أمْرُهُ في جميعِ خَلْقِهِ) . هذا مختصّ به تعالى ، لا يشاركه فيه غيره بوجه « إِنَّمَآ أَمْرُهُو إِذَآ أَرَادَ شَيْ_ئا أَن يَقُولَ لَهُو كُن فَيَكُونُ » (1) . قوله : (عَلا فَاسْتَعْلى) ، أي عَلا فزادَ في علوّه لا إلى غاية ولا إلى نهاية ، أو إلى غاية ونهاية لا تبلغهما غاية ونهاية ، و (2) علوّ شرف ومرتبة ، وبَعُدَ عن مشابهة الممكنات ومباينة لها ، وعن أن تدركه العقول ؛ فإنّ الموجود إمّا مؤثر أو أثر ، والأوّل أشرف وأعلى ؛ وإمّا واجب أو ممكن ، والأوّل كذلك ؛ وإمّا كامل مطلق أو لا ، والأوّل كالأوّل . وكذا القول في كمال العلم ، والقدرة ، والحياة ، والدوام ، والجود ، والرحمة ، ونظائرها . ومرجع علوّه تعالى إمّا إلى أنّه لا يساويه شيء في الشرف والمجد والعزّ ، فمعناه التنزيه ؛ أو إلى أنّه قادر على الكلّ ، فيرجع إلى الصفات الذاتيّة ؛ أو إلى أنّه متصرّف في الكلّ ، فيرجع إلى صفات الفعل . وأصل العلوّ في المكاني أنّ الإنسان إذا بَعُد عن آخر إلى جهة العُلوّ ، كان العالي أقدر على من دونه ، والسافل أبعد عن الوصول (3) إليه ممّا إذا كان بعيداً عنه إلى غير جهة العلوّ ، وكانت مرتبته في المكان أشرف من مرتبته ؛ واللّه تعالى منزّه عن هذا العلوّ . ومنه يظهر العلوّ الرتبي والشرفي . واعلم أنّك إذا قلت : «علا فعلا» ، أو «ارتفع فارتفع» أفاد الثاني زيادة عن الأوّل في ذلك الفعل ، وهذا كذلك مع زيادة على الزيادة من جهة زيادة البناء .

.


1- . يس (36) : 82 .
2- . في «ألف» : - «و» .
3- . في «ج» : «الموصول» .

ص: 52

ودَنا فتعالى ، وارتفَعَ فوقَ كلِّ مَنظرٍ ؛ .........

قوله : (ودَنا فتعالى) . يعني أنّه تعالى مع علوّه قريبٌ علماً من كلّ شيء ، محيطٌ علمه بكلّ شيء . وأتى ب «تعالى» بعده لما يشعر به لفظ «دنا» ، ففيه مع إفادته علوّه تعالى مع دنوّه تنزيهُه عمّا يشعر به ظاهر لفظ «دنا» . قوله : (وَارْتَفَعَ فوقَ كُلِّ مَنْظَرٍ) ، أي ارتفع شأناً وعظمةً عن أن تدركه أنظار العقول والأوهام والأبصار وغيرها ، أو عن أن يكون محلاًّ لنظرها . وقد يكون «المنظر» : المكانَ الذي يُنظر منه إلى ما يراد النظر إليه ، وكلّما ارتفع كان تحصيل المنظور إليه أسهل ، والاطّلاع عليه والإحاطة به أكثر . فالعقول ونحوها لو ترقّت إلى أعلى ما يتصوّر من الارتفاع المعنوي ، فاللّه سبحانه أرفع شأناً من أن تدركه بنظرها ، وكذلك الأبصار وإن رَقَتْ أعلى مكانٍ ، فاللّه أرفع شأناً وأجلّ وأعظم من أن تدركه بحاسّتها . وفي الجمع بين «فوق» و«ارتفع» ما تقدّم في «علا فاستعلى» .

.

ص: 53

الذي لا بدءَ لأوّليّته ، ولا غايةَ لأزليّته ، .........

قوله : (الذي لا بَدْءَ لأوَّلِيَّتِه) ، لأنّه تعالى سابق على كلّ شيء ، فهو أوّل كلّ شيء ، والسابق غيرُه تعالى لابدّ لسبقه من ابتداء ، وسبقُه تعالى من غير أن يكون لذلك السبق ابتداء ؛ أو أنّ كلّ أوّل يوصف بالابتداء ، وأوّليّته تعالى ليست ممّا يوصف به ويثبت له كما ثبت لغيره ؛ أو (1) أنّ أوّليّته تعالى ليست بمعنى الابتداء ، كما تكون أوّليّة غيره بمعناه . و«الأوّليّة» من المصادر ، كالعالميّة ونحوها ممّا تلحقه هذه «التاء» للدلالة على المصدريّة . قوله : (ولا غايةَ لأزَلَيَّتِه) . في القاموس : الأزَل _ بالتحريك _ القِدَم ، وهو أزَلِيٌّ ؛ وأصله يَزَلِيٌّ منسوب إلى لَمْ يَزَلْ ، ثمّ اُبدلت الياء ألفاً للخفّة ، كما قالوا في الرُّمْح المنسوبِ إلى ذي يَزَنٍ : أَزَنِيٌّ ؛ (2) انتهى . ونحوه في الصحاح . (3) فقوله : «لا غاية لأزليّته» يؤول إلى معنى «لا بدء لأوّليّته» بأن تكون الغاية من جهة الأوّل ، ويزيد عنه بدلالته على ما لم يزل صريحاً . أو أنّه مبنيّ على ما تقرّر من أنّ ثابت القدم ممتنع العدم ، فما ثبَت له الأزل ثبَت له الدوام ، فقِدمه الذي ثبَت ليس له غاية ينتهي إليها من جهة الأبد . أو بمعنى أنّ قدمه تعالى ليس له غاية ينتهي إليها بحيث يكون بعد الغاية غير موصوف به . وهذا يرجع إلى الأوّل ، وبينهما فرق مّا . أو أنّه لا غاية لأزليّته ينتهي إليها الواصفون في وَصْفه (4) تعالى بالأزلي . ويحتمل أن يكون مراده بالأزليّة الآخريّةَ أو الدوامَ ؛ بقرينة أوّليّته . إلاّ أنّه خلاف المنقول الذي رأيته في هذا المعنى ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «و» .
2- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 328 (أزل) .
3- . الصحاح ، ج 4 ، ص 1622 (أزل).
4- . في «ج» : «بوصفه» بدل «في وصفه» .

ص: 54

القائم قبل الأشياء ، والدائم الذي به قوامُها ، والقاهر الذي لا يؤوده حِفظُها ، .........

قوله : (القائم قبلَ الأشياء) أي الموجود الثابت الوجود على أكمل وجه وأتمّه ممّا يليق بذاته تعالى ، غير محتاج في قيامه ذلك إلى شيء ، بل هو قائم بذاته . وفي غريب القرآن : القائم : الدائم الذي لا يزول ، وليس من قيام رجل . (1) والمناسب لهذا المقام الأوّل ، وذاك في مقام قوله تعالى : « هُوَ قَآل_ءِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسِم» (2) . قوله : (والدائم الذي به قوامُها) . قِوام الشيء _ بالكسر _ نظامه وعماده وملاكه ، والمعنى أنّ الأشياء انتظمت واستقامت بعلمه وقدرته ، فهي محتاجة إليه في وجودها وبقائها . قوله : (لا يَؤدُه) أي لا يثقله ، من «الأود» وهو الاعوجاج الحاصل من حمل الثقيل في نحو الأجسام ؛ ويستعمل في مطلق الثقل من مجاز السببيّة والمسبّبيّة .

.


1- . تفسير غريب القرآن ، للطريحي ، ص 517 . وانظر مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 564 (قوم).
2- . الرعد (13) : 33 .

ص: 55

والقادر الذي بعظمته تفرَّدَ بالملكوت ، وبقدرته توحَّدَ بالجبروت ، وبحكمته أظهرَ حُججَه على خلقه . اخترع الأشياء إنشاءً ، .........

قوله : (تَفَرَّدَ بالملكوتِ) . الملكوت : العزّ والسلطان ، والواو والتاء زائدتان ، كرهبوت ورحموت من الرهبة والرحمة . تقول العرب : رهبوت خير من رحموت ، أي أن ترهب خير من أن ترحم . وكأنّ الزيادة للدلالة على التمكّن في الملك والسلطان . قوله : (وبقُدْرَتِه تَوَحَّدَ بالجبروتِ) . الجبروت _ كالملكوت _ من الجبر بمعنى القهر ، أو التسلّط ، أو التكبّر . ومناسبة العظمة بالملكوت ، والقدرة بالجبروت ظاهرةٌ . قوله : (وَبحِكْمَتِه أظْهَرَ حُجَجَه على خَلْقِه) . الحكيم : الذي أفعاله محكمةٌ متقنةٌ لا تفاوت فيها ولا اضطراب ، ومقتضى حكمته تعالى إظهار الحجج من الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام للمكلّفين بعد أن منَحهم العقول وآلات التكليف ؛ « لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة» (1) ، و « لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنم بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنم بَيِّنَةٍ » (2) . قوله : (اخْتَرَعَ الأشياءَ إنْشاءً) . في الصحاح : اخترع كذا ، أي اشتقّه ، ويقال : أنشأه وابتدعه . (3) وفي القاموس : وكمَنَعَه أنشأه كابْتَدَعَهُ (4) ؛ انتهى . فهو من قبيل : قعدت جلوساً ، وفائدته التنبيه على معنى الاختراع وتفسيره .

.


1- . النساء (4) : 165 .
2- . الأنفال (8) : 42 .
3- . الصحاح ، ج 3 ، ص 1203 ، (خرع).
4- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 4 (بدع) . وفيه : «بَدِعَ _ كفَرِحَ _ : سَمِنَ ، وكمَنَعَه : أنشأه كابْتَدَعَه» .

ص: 56

وابتدعها ابتداءً بقدرته وحكمته ، لا من شيءٍ فيبطلَ الاختراعُ ، ولا لعلّة فلا يصحّ الابتداع . خلقَ ما شاء كيف شاء متوحّدا بذلك .........

قوله : (وَابْتَدَعَها ابتداءً (1) ) . «الابتداع» قريبٌ من الاختراع ، أو بمعناه مع زيادة كونه على وجه بديع . و«الابتداء» هنا نحو الإنشاء ، ومعناهما الإتيان بالشيء لا على مثال سبق . قوله : (لا مِن شَيْءٍ فيبطُلَ الاختراعُ) ، أي اخترعها لا من مادّة ، أو لا من شيء ، حذا في إيجادها حذوه ؛ إذ لو كان كذلك ، لبطَل كونه مخترعاً لها ، وذلك يستلزم احتياجه تعالى وإمكانه ، وقد ثَبَتَ خلافُ ذلك بما تقدّم وغيره ممّا يقتضي وجوبه تعالى وغناه ؛ فيثبت (2) الاختراع له تعالى . ولا فرق بين فرض كون الشيء منه وغيره ، وإن كان من غيره أشدّ وأظهر فساداً . قوله : (ولا لعلّةٍ فلا يَصِحَّ الابتداعُ) ، أي ولا لعلّة غائيّة (3) تعود عليه تعالى ، أو ولا لعلّة مادّيّة ، فإنّه لو كان كذلك فيهما ، لم يكن مبتدعاً وإن ابتدع الصورة ؛ لأنّ ذلك ينفي صحّة الابتداع الذي ثبت له تعالى ، والغائيّة تناسب المادّيّة في الأوّل ، والماديّة تلائم الثاني فيه . قوله : (خلَق ما شاء كيف شاء) لأنّه لا يُسأل عمّا يفعل ، وما يفعله لا يكون إلاّ على الوجه الأكمل ؛ لثبوت حكمته المقتضية لذلك . قوله : (مُتَوَحِّداً بذلك) ، أي بذلك المذكور ، أو بذلك الفعل الذي هو الخلق والكيفيّة ، أو بذلك الخلق الموصوف . وفي الإشارة به إشارةٌ إلى عظمِه وبُعدِه عن قدرة كلّ أحد .

.


1- . كذا في كثير من نسخ الكافي ، وفي نسخة منه «ابتدعها ابتداعا» ، وفي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال : « ... ومبتدعها ابتداعا» . انظر : الكافي ، ج 1 ، ص 105 ، باب النهي عن الصورة والجسم ، ح 3 .
2- . في «ب» : «فثبت» .
3- . في «ج ، د» : «غايته» .

ص: 57

لإظهار حكمته ، .........

قوله : (لإظهارِ حِكْمَتِه) ، من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي لإظهاره (1) حكمته ، أو أثر حكمته . والمعنى حينئذٍ أنّه تعالى خلق ما شاء كيف شاء (2) لعلّة هي إرادة إظهار حكمته لمصلحة اقتضتها ، وغرض يعود نفعه على ما خلقه من معرفته وعبادته ، وترتّب الثواب لهم على ذلك ، لا لغرضٍ يعود إليه تعالى ؛ لتنزّهه وتقدّسه وغناه . والعلّة ليست نفس الغرض والمصلحة ، بل أعمّ منهما وإن استلزمتهما بالنسبة إليه تعالى ، كما إذا قلت : خلَق اللّه كذا لتعلّق إرادته به ، فإنّ تعلّق الإرادة ليس نفس الغرض والمصلحة ، بل هما لازمان لذلك ؛ لتنزّهه تعالى عن العبث ؛ فتأمّل . ولو قلنا : إنّ إظهار الحكمة غرضٌ له تعالى لا يلزم منه احتياجه (3) ، فإنّ معناه أنّه غرض تعلّقت به الإرادة لأجل ما يترتّب عليه ممّا يعود على العبد ونحوه ، كما في قوله تعالى : «وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ » (4) ، فإنّ خَلْقهم لغرض هو العبادة لا يلزم منه احتياجه تعالى إلى عبادتهم ، مع أنّ غاية هذا الغرض تعود عليهم . والحصر فيه باعتبار أنّه تعالى خَلَقَهم غير محتاج إلى خَلْقهم ؛ لقوله تعالى : «مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَ مَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ» (5) ، واللّه تعالى أعلم . ومع قطع النظر عمّا يترتّب على العبادة ، فنفس العبادة له تعالى لمن يعبده فيها حظّ عظيم ولذّة جليلة ، كما يشاهَد من حال خُدّام الملوك ورغبتهم في خدمتهم لهم من حيث كونهم ملوكاً ؛ ومن هذا القبيل قوله عليه السلام : «ما عَبَدْتُك خوفاً من نارِك ، ولا طَمَعاً في جنّتك ، بل رأيتُك أهلاً للعبادة» . (6) ويحتمل بعيداً أن يكون قول المصنّف رحمه اللّه تعالى : «لإظهار حكمته» من إضافة المصدر إلى فاعله ، والمعنى حينئذٍ أنّه خلق ما شاء لاقتضاء حكمته إظهار الخلق .

.


1- . في «ج» : «لإظهار» .
2- . في «ألف ، ب» : «خلق ما يشاء كيف يشاء» .
3- . في «ج» : + «إليه» .
4- . الذاريات (51) : 56 .
5- . الذاريات (51) : 57 .
6- . شرح نهج البلاغة ، لابن أبيالحديد ، ج 10 ، ص 157 ؛ الألفين ، للعلاّمة الحلّي ، ص 128 ؛ نهج الحقّ ، للعلاّمة الحلّي ، ص 248 ؛ القواعد والفوائد ، للشهيد الأوّل ، ج 1 ، ص 77 ؛ عوالي اللئالي ، ج 1 ، ص 404 ، ح 63 ؛ و ج 2 ، ص 11 ، ح 18 ؛ تفسير الصافي ، ج 3 ، ص 353 ؛ بحارالأنوار ، ج 41 ، ص 15 ، باب عبادته وخوفه عليه السّلام ، ذيل ح 4 ؛ وج67 ، ص 186 ، باب النيّة وشرائطها ومراتبها.. . ، ذيل ح 1 ؛ وص234 ، باب الإخلاص ومعنى قربه تعالى ، ذيل ح 6 ؛ وج69 ، ص 278 ، باب الرياء ، ذيل ح 1.

ص: 58

وحقيقة ربوبيّته . لا تَضبطُه العقولُ ، ولا تَبلغُهُ الأوهامُ ، ولا تُدركه الأبصارُ ، ولا يُحيط به مقدارٌ ، عجزَتْ دونه العبارةُ ، .........

قوله : (وحَقيقةِ رُبوبِيَّتِه) ، أي ولإظهار حقيقة الربوبيّة ، أو ولحقيقة الربوبيّة ، أي فعل ذلك لما اقتضته ربوبيّته الثابتة حقّاً . وكان المراد بإظهار حقيقة الربوبيّة أنّ اللّه سبحانه كان ربّاً ولا مربوب ، وإلهاً ولا مألوه . و«الرب» هو السيّد المالك ، ومعناه قيام الأشياء بتربيته ، فكانت حقيقة الربوبيّة قبل خَلْق الأشياء غير ظاهرة ، فبعد خَلْقها ظهرت الحقيقة . قوله : (لا تَضْبِطُه العقولُ ، ولا تَبْلُغُه الأوهامُ) . مناسبة الضبط للعقول ، والبلوغ للأوهام ظاهرةٌ ؛ لأنّ العقل يُدرك الأشياء التي يتعلّق بها على وجهها إذا لم يخالطه شيء ويضبطها ويعقلها ؛ ولهذا سُمّي عقلاً ، بخلاف الأوهام ، فإنّ دائرتها أوسع . قوله : (عَجَزَتْ دونَه العِبارَةُ) ، أي دون أن تصل إلى ذاته بالتعبير عنها بوجه من الوجوه ؛ أو إلى صفته ، أي دون أن تصل إلى كنهها ؛ أو عمّا يعمّ الذات والصفة ، أي دون أن تصفه من نفسها ودون التعبير عن الذات ، أو دون حقيقة الذات والصفة ، فإنّ التعبير عن الذات بالصفات ، وعن الصفات تعبير بما لا تدرك معه الحقيقة ، أو باعتبار صفاته التي هي عين ذاته .

.

ص: 59

وكلَّتْ دونه الأبصارُ ، وضلَّ فيه تصاريفُ الصفاتِ .

قوله : (وَكَلَّتْ دونَه الأبصارُ) . ليس هذا تكراراً لقوله : «لا تدركه الأبصار» وهو ظاهر . قوله : (وضَلَّ فيه تَصاريفُ الصفاتِ) . «تصاريف» جمع تصريف ، بمعنى الاسم لا المصدر ؛ لأنّه لا يجمع كتعاريف وتراكيب . و تصريف الرياح : تحويلها من حال إلى حال جنوباً وشمالاً ودبوراً وصبا وسائر أجناسها ؛ كذا في الغريب . (1) فالمعنى أنّ الصفات التي يصرفها الإنسان من حال إلى حال ، الجاريةَ في الممكن _ كأن يوصف زيد مثلاً بالكرم تارةً ، وبالبخل اُخرى ، أو بزيادة كلّ منهما ونقصانه ، وبالطول تارة والقِصَر اُخرى ، إلى غير ذلك _ ممّا يجد تصريف الصفة إلى وصفه بذلك طريقاً واضحاً ، وسبيلاً سهلاً ، فيصرفه بما يوافق حال الموصوف ؛ واللّه سبحانه وتعالى منزّه عن التغيّر والتبدُّل وغيرهما ممّا يجد تصريف الصفات إليه سبيلاً ، فيكون ضالاًّ تائهاً لو رامَ ذلك . أو المعنى أنّ صفاته تعالى لا يمكن معرفتها بكنهها ، فلو رام أحد تصريفها كتصريف صفات غيره الموجب لذلك ، كان ذلك التصريف ضالاًّ . أو بمعنى أنّ تصاريف الصفات مع كثرتها وكثرة طرُقها تاهت عن الوصول إلى حقيقة ذاته وكنه صفاته . وهو من باب « عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ » (2) ، والمقصود منه النهي عن وصفه تعالى بغير ما وصف به نفسه والوقوف عند ذلك ، وإنّ من لم يكن كذلك كان ضالاًّ في وصفه ، ذاهباً على غير الطريق الذي أمر بسلوكه .

.


1- . غريب القرآن ، ص 395 .
2- . الحاقّة (69) : 21 ؛ القارعة (101) : 7 .

ص: 60

احتجب بغير حجابٍ محجوبٍ ، واستتر بغير سِتْر مستور ، عُرِفَ بغير رؤية ، .........

قوله : (احْتَجَبَ بغير حجابٍ مَحْجُوبٍ ...) . صيغة مفعول جاءت بمعنى فاعل ، كما في قوله تعالى : « حِجَابًا مَّسْتُورًا » (1) و « كَانَ وَعْدُهُو مَأْتِيًّا » (2) و « جَزَآءً مَّوْفُورًا » (3) ، كما جاءت صيغة فاعل بمعنى مفعول ك_ «مَّآءٍ دَافِقٍ» (4) ، و «لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» (5) ، فمحجوب ومستور بمعنى فاعل. ويجوز كونهما على أصلهما ، فإنّ الحجاب والستر يطلقان على المكان الذي يحتجب فيه ويستتر ، وذلك المكان قد يمنع بما يحجب الناس ويسترهم عن الوصول إلى المحجوب أو النظر إليه من وجهٍ ، أو يحجب المحجوب ويستره عن ذلك ، والستر به أليق منهم . والوجه الأوّل يفيد التأكيد ، والثاني تأسيس (6) . ويمكن التأسيس في الأوّل أيضاً ؛ فتأمّل . قوله : (عُرِفَ بغير رُؤيَةٍ) ، أي عرف تعالى من غير أن يرى بوجه من الوجوه ، وعلى حال من الأحوال ، وفي وقت من الأوقات . والمراد به الردّ على من ادّعى الرؤة ، لا أنّه خاصّ به تعالى . ويحتمل أن يراد أنّ معرفته تعالى بغير الرؤية ؛ لما ثبت أنّه لا يعرف بما يستلزم النقص والإمكان ، تعالى اللّه (7) عن ذلك . والمراد رؤ?ة الأبصار ، دون غيرها على وجه خاصّ ؛ لقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لمَنْ قالَ له : هل رأيت ربّك ؟ : «ويلك ، كيف أعبد ربّاً لم أره ، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان» . (8) ولمّا كانت الرؤ?ة قد يعرف بها غيره تعالى ، أتى بالباء هنا دون «من» .

.


1- . الإسراء (17) : 45 .
2- . مريم (19) : 61 .
3- . الإسراء (17) : 63 .
4- . الطارق (86) : 6 .
5- . هود (11) : 43 .
6- . في «ج» : «التأسيس» .
7- . في «د» : - «اللّه » .
8- . الكافي ، ج 1 ، ص 97 ، باب في إبطال الرؤية ، ح 6 ؛ وص138 ، باب جوامع التوحيد ، ضمن ح 6 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 342 ، المجلس 55 ، ضمن ح 1 ؛ التوحيد ، ص 109 ، باب ماجاء في الرؤية ، ح 6 ؛ وص304 _ 309 ، باب حديث ذعلب ، ضمن ح 1 و 2 ؛ الإرشاد ، ج 1 ، ص 224 ، فصل في مختصر كلامه في وجوب المعرفة باللّه ...؛ الاختصاص ، ص235؛ كفاية الأثر ، ص 261 ، باب ماجاء عن جعفر بن محمّد عليه السلا ا يوافق هذه الأخبار... ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 32 ، باب الكلام فيما ورد من الأخبار في معنى العدل والتوحيد ؛ متشابه القرآن ، لابن شهرآشوب ، ج 1 ، ص 93 ؛ الاحتجاج ، للطبرسي ، ج 2 ، ص 336 ؛ إرشاد القلوب ، ص 374 ، مكالمته مع رأس اليهود. وورد هذا الحديث في بحار الأنوار في مواضع متعددة من هذه المصادر المذكورة .

ص: 61

ووُصِفَ بغير صورةٍ ، ونُعِتَ بغير جسمٍ ، .........

قوله : (ووُصِفَ بغير صورةٍ) ، أي وصف تعالى بأوصاف لا تستلزم صورة من إثبات جوارح لتلك الأوصاف ، كالسميع ، والبصير ، وذي البطش ، ممّا وصف به غيره تعالى على نحو يقتضي إثبات الجوارح اللازمَ للصورة ، أو المستلزمَ لها ، فوصفه تعالى بها على نحو يليق بجنابه من سلوب وإضافات ونحوها ؛ أو أنّه وصف بكونه غير صورة . وكيف كان فهو ردٌّ على من قال بالصورة ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً . قوله : (ونُعِتَ بغير جِسْمٍ) . على نحو ما تقدّم في الوصف بغير صورة . ومناسبة المعرفة بالرؤية لأنّ بها يحصل كمال معرفة المرئيّ ، والوصف بالصورة لاشتمال الصورة على ما يقتضي تعدّد الوصف الحاصل من الصورة . والنعت بالجسم كذلك ، أو قريب منه .

.

ص: 62

لا إله إلاّ اللّه الكبير المتعال ، .........

قوله : (لا إل_ه إلاّ اللّه ُ الكبيرُ المُتَعالِ) . هذا كالفذلكة والنتيجة لما تقدّم من صفاته تعالى ، وتنزيهه عمّا لا يليق به ، الدالّ على أنّه متوحّد بالإل_هيّة ، فإنّ من اتّصف بهذه الأوصاف (1) لا يكون إلاّ واحداً أحداً ؛ ولكون هذه الكلمة أخذة بمجامع التوحيد ، فإنّ نفي الإل_هيّة عن غيره تعالى وإثباتها له يدخل تحته (2) جميع الصفات الثبوتيّة والسلبيّة ، كانت أعلى كلمةٍ وأشرفَ لفظةٍ نَطَقَ بها في التوحيد ، وترتّب عليها لقائلها من الثواب ما هو مشهور . وقد ذكرتُ طرفاً منه في حاشية شرح اللمعة . (3) والتحقيق : أنّ خبر «لا» «إلاّ» بمعنى «غير» ، وهو أسدّ من تقدير خبر كيف كان ؛ لاستلزام كلّ تقدير مفسدة ؛ وأولى من تقدير أصله اللّه إل_ه ، ولمّا اُريد الحصر زيدت لا وإلاّ ، وقدّم واُخّر لما فيه من التعسّف ، وما يلزم من مغاير لا يلزم من غير ، ودلالة أصل التركيب على نفي إل_ه غيره ، وقد صار دالاًّ مع ذلك على إثبات الإل_هيّة له وحده ، بل المقصود والمتبادر منه ذلك كغيره من نحو هذا التركيب (4) ، فإنّ قولك : «لا قائم غير زيد» يفيد إثبات القيام له وحده . وقد حرّرتُ هذا المبحث في الحاشية المذكورة . وأتى بالاسم المقدّس الظاهر _ وإن كان المقام يقتضي من جهةٍ أن يقول : لا إل_ه إلاّ هو _ لترتّب الثواب على هذه الكلمة بهذا الاسم المقدّس ، وللتبرّك باسمه الشريف وعدم احتماله لغيره ، ولما في ذكره ممّا هو كالبرهان على توحيده ، وغير ذلك . والوجه الأخير نظير ما خطر لي في قوله تعالى : « فَسُحْقًا لاِّصْحَ_ابِ السَّعِيرِ » (5) ، ولم يقل «لهم» . ولا بأس بذكر جميع ما خطر في العدول إلى الظاهر ؛ لاشتماله على فوائد في الجملة .

.


1- . في «ج» : «الصفات» .
2- . في «ألف ، ب» : «تحتهما» .
3- . حاشية شرح اللمعة ، للمصنّف نفسه. انظر : الذريعة ، ج 6 ، ص 183 ، وج8 ، ص 76 ؛ ولؤلؤة البحرين ، ص 85 ؛ وأمل الآمل ، ج 2 ، ص 23.
4- . في حاشية «د»: «نظير هذا قوله تعالى: لاإله غيراللّه ؛ وما في الأدعية: لاإله غيرك، لاإله سواك (منه رحمه الله )».
5- . الملك (67) : 11 .

ص: 63

وفيه احتمالات :الأوّل : أنّه لو أتى بالضمير لكان الدعاء على المحدّث عنهم الداخلين في جملة أصحاب السعير فقط ، بخلاف الإتيان بالظاهر ؛ فإنّ الدعاء يعمّ الجميع . الثاني : أنّه لو قيل «فسحقاً لهم» بعد الاعتراف بالذنب ، لم يحسن ترتّب الدعاء بالسحق ، وتفريعه بعد الاعتراف بالذنب ، فأتى بالظاهر لئلاّ يوهم أنّه بحسب الظاهر وبادى الرأي متفرّع عليه ، مع أنّ المناسب الدعاء للمعترف ، لا عليه ، أو السكوت . (1) الثالث : أنّه إذا قيل مثلاً : قاتل اللّه زيداً ، وكان ظالماً في الواقع ، أنكر من سمع ذلك ولم يعلم بحاله ، حتّى أنّه ربّما وقع الإنكار ممّن يعلم ذلك ، من حيث إنّ الدعاء مجرّد عمّا يقتضيه ، فإذا قيل : قاتل اللّه الظالم ، فقد أتى القائل مع دعائه بما يرفع الإنكار ، فإنّه قد أتى ببرهان على ما يوجب الدعاء . وهذا وجهٌ زائد عن القاعدة المشهورة من أنّ التعليق على الوصف يشعر بالعلّيّة ؛ فهو وجه رابع . الخامس : أنّ في الدعاء على أصحاب السعير بالظاهر مع ما ذُكر تنبيهاً وإيقاظاً لكلّ قادر على أن لا يكون منهم ؛ وهذا لا يكون مع الضمير . وليس هذا تفسيراً للقرآن ، بل احتمالات تناسب بلاغته وفصاحته ؛ واللّه أعلم . و«المتعالي» (2) : البالغ في علوّ الشأن والمرتبة ، وما يليق بجنابه المقدّس . وقد تحذف ياؤه في الوقف .

.


1- . في «ألف ، ب ، ج » : - «أو السكوت» .
2- . في «د» : «المتعال» .

ص: 64

ضلَّت الأوهام عن بلوغ كُنهه ، وذَهلت العقولُ أن تبلغَ غايةَ نهايتِهِ ، .........

قوله : (ضَلَّتِ الأوْهامُ عن بلوغِ كُنْهِه) ، يعني أنّ الأوهام _ مع كونها أوسع مجالاً وأكثر طرقاً من العقول ؛ لعدم ما يعقلها ويمنعها عن الوصول إلى ما قد يمنع العقل من الوصول إليه _ ضلّت عن أن تصل إلى معرفة كنه ذاته ، أي حقيقتها ؛ فبلوغها : معرفتها بوجه مّا باعتبار الصفات ، خصوصاً الذاتيّة . وقد يقال : إنّ حقيقة الذات إذا لم تعرف بالوهم ، لم تتحقّق معرفة الذات (1) بوجهٍ ؛ لأنّ ذلك لا يكون معرفةً للذات ؛ فليتأمّل . أو إلى معرفة كُنْه صفاته ، إمّا بمعنى معرفة جميع صفاته ، أو معرفة حقيقة الصفات ، فإنّ غاية ما يمكن من معرفتها ما يرجع إلى السلوب والإضافات المفيدة للمعرفة بوجهٍ مّا . أو إلى كُنْه معرفته ذاتاً وصفةً ، والوصول في الجملة باعتبار ما عرف من الصفات . وإذا ضلّت الأوهام ، فالعقول بطريق أولى . والمراد بمعرفة الوهم إدراكُه . قوله : (وذَهَلَتِ العقولُ أن تَبْلُغَ غايةَ نِهايَتِهِ) أي نهاية معرفة صفاته ، أو ذاته ، أو مطلقاً . ولعلّ الذات أظهر في الأوّل ، والصفات في الثاني . ولمّا كانت العقول لا تدرك إلاّ ما يمكن تعقّله والوصول إليه _ بخلاف الأوهام _ ولم تجد العقولُ سبيلاً إلى ذلك ، ذهلتْ وتحيّرتْ عن بلوغه ؛ فناسب هنا ذكر الذهول . وفي «الأوهام» الضلال ؛ لأنّها تذهب كلّ مذهب ، وهي في الجميع ضالّة عن طريق الوصول . وفي الصحاح : الغاية : المدى ، يقال : قطعة أرض قدر مَدَى البصر . (2) فالمعنى : ذهلت عن أن تصل إلى أوّل هذا المدى لنهايته ، أو الذي هو نهايته ، فإنّ الغاية تأتي بمعنى النهاية أيضاً ، والمرجع إلى قصورها عن الوصول إلى ما لا يحيط بعلمه إلاّ هو سبحانه ذاتاً وصفةً . ويحتمل أن يكون المعنى أنّها ذهلت عن الوصول إلى نهاية تضاف وتنسب إليه تعالى . وذهولها عن بلوغ النهاية أو مداها يدلّ على أنّها قد تصل إلى ما دون ذلك ، وهو كذلك . ولعلّ ذكر غاية النهاية للدلالة على أنّ ما تصل إليه العقول لا ينتهي إلى ما يقرب من النهاية ؛ فتدبّر ، واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ج» : «للذات» .
2- . الصحاح ، ج 6 ، ص 249 (مدى).

ص: 65

لا يبلُغه حدُّ وَهْمٍ ، .........

قوله : (لا يَبْلُغُهُ حَدُّ وَهْمٍ) . هذا قريب ممّا تقدّم من قوله : «ضلّت الأوهام عن بلوغ كنهه» ، ويزيد عنه (1) بذكر الحدّ ، وبوقوعه مفرداً نكرةً في سياق النفي ؛ فلا يتوهّم فيه ما يتوهّم في تعليق الضلال بالجمع . ويمكن أن يُراد بالحدّ الطرف ، فيكون أبلغ من بلوغ الوهم .

.


1- . في «ج» : «عليه» .

ص: 66

ولا يُدركه نفاذُ بَصَرٍ ، وهو السميع العليم ، احتجَّ على خلقه برُسُله ، وأوضحَ الأُمورَ بدلائله ،

قوله : (ولا يُدْرِكُهُ نَفاذُ بَصَرٍ) ، أي لا يدركه نفاذ البصر الذي له تمام القوّة ، فهو يفيد ما لا يفيده قوله : «وكلّت دونه الأبصار» . وقوله : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_ارُ » (1) وإن أفاد ذلك عموم الأبصار ونفي إدراكها وكَلالها ؛ لأنّ نفي النكرة أصرح لما تقدّم ولتقييده بالنفاذ ، أو أنّه من ذكر الخاصّ بعد العامّ لتقييده بالنفاذ صريحاً . وهذا يأتي أيضاً في «حدّ وهم » . قوله : (وهو السميعُ العليمُ) ، أي وهو مع بعده عمّا ذُكر السميعُ العليم ؛ أو والحال أنّه مع ذلك السميعُ العليم لكلّ شيء وبكلّ شيء ، أي الذي يستحقّ الوصف بذلك والكامل فيه ، كقولك : أنت الرجل . ولا يتوهّم في حقّه تعالى ما يعهد من عدم سماع المخلوق ما بَعُد وعدم علمه به غالباً ، أو عدم إحاطته بعلمه لنقصه ، فكان بذلك كأنّه غير مستحقّ لهذا الوصف ، بخلافه تعالى « وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ » (2) . قوله : (اِحْتَجَّ على خَلْقِه برُسُلِه) ، أي أرسل الرسل إلى خلقه بعد أن أعطاهم العقول التي تدلّهم على قبول كلام الرسل وتصديقهم ؛ ليكون له تعالى الحجّة عليهم ، و « لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُم بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا » (3) . قوله : (وأوْضَحَ الاُمورَ بِدَلائله) ، أي أوضح الاُمور التي دلّهم عليها الرسل من وحدانيّته وقدرته وعلمه وغير ذلك بالآثار التي أظهرها ، المؤ?دة لقولهم ، والشاهدة بتصديقهم . ويمكن أن يكون المراد بالدلائل المعجزات التي جاءت بها الرسل والعقول التي منحهم إيّاها ليعقلوا بها ذلك ، أو ما هو أعمّ من ذلك .

.


1- . الأنعام (6) : 103 .
2- . الحديد (57) : 4 .
3- . النساء (4) : 165 .

ص: 67

وابتعَثَ الرسلَ مبشّرين ومنذرين ؛ « ليَهْلِك من هَلكَ عن بيّنة ويَحيا مَن حَيَّ عن بيّنة» ، وليَعْقِلَ العبادُ عن ربّهم ما جهلوه ، .........

قوله : (وَابْتَعَثَ الرُّسُلَ) . في الصحاح : بعثه وابتعثه بمعنى ، أي أرسله . (1) وقد يقال : إنّ في الابتعاث زيادة عمّا يدلّ عليه البعث ، والزيادة من حيث تأكيد الحجّة والبيان وإيضاحهما (2) ، ووضوح أمر الرسل ، وكونهم من قِبَله تعالى بحيث لايبقى لهم شبهة يتشبّثون بها ، ونحو ذلك . قوله : (مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ) ، أي مبشّرين بالثواب ومنذرين من العقاب ؛ واللّه أعلم . قوله : « لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ » ، أي بعد ظهور البيّنة والحجّة ، أو هلاكاً ناشئاً عن البيّنة ، بمعنى أنّ ظهور البيّنة كان سبباً لهلاكه ، فإنّها لو لم تظهر ربما لم يهلك . وكان هذا أبلغ من الأوّل ، ومثله : « وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنم بَيِّنَةٍ» (3) ، واللّه أعلم . قوله : (وَلِيَعْقِلَ العبادُ عن رَبِّهم ما جَهِلوا) (4) . علّة ثانية (5) لابتعاث الرسل . ووجه ذلك : أنّ العقل لا يستقلّ بمعرفة اللّه تعالى ومعرفة أحكامه ، ولا ينافي ذلك كون الحسن والقُبح عقليّين ؛ ففائدة العقل أن يعرف به حقّية (6) إرسال الرسل ، وما يأتون به عن اللّه ، وأنّه منه تعالى لا منهم ؛ فيحصل لهم العلم الكائن عن العقل الذي لولاه ولولا إرسال الرسل واستعمال العقل فيما أتوا به ، لكانوا جاهلين به . وهذا هو السرّ في مقابلة العقل بالجهل ، فإنّ من علم علماً ناشئاً عن العقل كان عالماً ، ومن اكتسب لا بطريق العقل كان جاهلاً . وسيأتي _ إن شاء اللّه _ زيادة توضيح لهذا في بابه . وفي قوله : «ما جهلوا» إشعارٌ بأنّ كلّ عاقل لا يخلو من معرفة في الجملة بالصانع تعالى ، وأنّ الرسل يدلّونهم على كمالها بالنسبة إليهم ، وما يجب الاحتراز عنه فيها . ونحوه : «كلّ مولود يولَد على الفطرة» الحديث . (7)

.


1- . الصحاح ، ج 1 ، ص 273 (بعث) .
2- . في «ج» : «إيضاحها» .
3- . الأنفال (8) : 42 .
4- . في الكافي المطبوع وأكثر نسخ الكافي : «ماجهلوه» .
5- . في «د» : «علمة ثابتة» .
6- . في «د» : «حقيقة» .
7- . الكافي ، ج 2 ، ص 12 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 4 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 49 ، ح 1668 ؛ التوحيد ، ص 331 ، باب فطرة اللّه عزّوجلّ الخلق على التوحيد ، ذيل ح 9 ؛ تصحيح الإعتقاد ، ص 61 ، معنى فطرة اللّه ؛ المبسوط ، ج 5 ، ص 158 ؛ الخلاف ، ج 3 ، ص 591 ، المسألة 19 ؛ وج5 ، ص 533 ، المسألة 21 ؛ وج6 ، ص 140 ؛ عوالي اللئالي ، ج 1 ، ص 35 ، ح 18 ؛ بحارالأنوار ، ج 3 ، ص 281 ، باب الدين الحنيف والفطرة ... ، ح 22 .

ص: 68

فيعرفوه بربوبيّته بعد ما أنكروه ، .........

قوله : (فيَعْرِفوهُ بِرُبوبِيَّتِهِ) أي بحقيقة ربوبيّته . والمعنى : فيعرفوا أنّه ربّهم وخالقهم على الوجه الذي يؤمرون به ، كما تقول : عرفت زيداً بالفضل . وتحتمل الباء السببيّة ، والمعنى : فيعرفوه بسبب تربيته لهم ودلالته إيّاهم على الطرق التي فيها نجاتهم . قوله : (بعد ما أنكَرُوهُ) . الإنكار بالنسبة إلى منكر الصانع ظاهرٌ ، وإنكاره إمّا عن تقليد ، أو شبهة ، أو عناد ونحو ذلك ، فلا ينافي عموم معرفة الصانع في الجملة لكلّ عاقل ؛ بدلالة الأخبار على ذلك . وأمّا غيره فباعتبار أنّ كلّ من عرف اللّه سبحانه على غير الوجه الذي اُمر بمعرفته به ، كان معتقداً لما هو عليه ، منكراً لغيره ، والعقول لا تستقلّ بذلك ، فلا يكاد يسلم منه إلاّ من اُلهم حقيقة المعرفة ، ولا كلام فيه ، فيكون منكراً له تعالى .

.

ص: 69

ويوحِّدوه بالإلهيّة بعد ما أضدّوه . أحمدُه حمدا يَشفِي النفوسَ،ويبلُغُ رضاه،ويؤدّي شكْرَ ما وصلَ إلينا، من سوابغ النعماء،

قوله : (ويُوَحِّدُوه بالإل_هيّةِ بعدَ ما أضَدّوه) ، أي يعتقدوا إل_هيّته وحده لا شريك له بعد ما جعلوا له شريكاً ، وبعد ما جعلوا غيره إل_هاً دونه بالنسبة إلى كلّ فريق ، كالنصارى والمجوس ونحوهم . والشريك والغير ضدّان وإن تفاوتا معنى . و«أضدّه» أي جعل له ضدّاً ، ك «أمدّه» بمعنى جعل له مدداً ، أو ممدّاً . وهذه علّة اُخرى لابتعاث الرسل ، ولكونها مع العلّة التي قبلها كالشيء الواحد ، فإنّ المعرفة لحقيقة الربوبيّة تستلزم التوحيد ونفي الضدّ ، ترك اللام بخلاف قوله : «وليعقل» بالنسبة إلى ما قبله . قوله : (أحْمَدُهُ حَمْداً يَشْفِي النفوسَ) لمّا حَمَدَه أوّلاً بما يقتضي الدوام والثبات ، وذَكَرَ ما يدلّ على استحقاقه الحمد على الإطلاق ، وعَدَّدَ من توحيده وصفاته وتنزيهه ما به يليق ، وما هو به جدير وحقيق ، وذَكَرَ بعد ذلك حال من جهله تعالى وأنكره ، حَرَّكَه ذلك وبَعَثَه على أن يحمده ثانياً بعد ذلك حَمْداً مختصّاً به لمعرفته بذلك ، ولدخول حمده السابق تحت الإطلاق ، أو الاستغراق الشامل لحمده وحمد غيره المقتضي لقبول حمده ، وإن أفرده بعد ذلك ، ودالاًّ على التجدّد والاستمرار ، طالباً أن يكون هذا الحمد وسيلة إلى شفاء النفوس من مرض الجهل ، أو من كلّ مرض يكون فيه البُعْد عن رضاه . قوله : (ويَبْلُغَ رِضاهُ) أي يصل إليه على وجه يقبله ويدخل في رضاه ، فالتعبير بالبلوغ لذلك ، فإنّه أدلّ على القبول من الوصول . قوله : (ويُؤدي شُكْرَ ما وَصَلَ إلينا مِنْ سَوابِغِ النَّعْماء) . بمعنى أنّ اللّه سبحانه يقبل هذا الحمد المراد به الشكر أيضاً بأن يرضى به منّا شكراً على ما أنعم به ، تفضّلاً منه تعالى . والاكتفاء به لأنّه صالح لهما ، واستعماله فيهما بالقرينة . وإسناد تأدية الشكر إلى الحمد بمعنى أنّه حمد بمعنى الشكر أيضاً فيؤدي ما يؤديه ، أو بمعنى حمداً في مُقابلة النعمة وغيرها ، والمآل واحد أو متقارب . ويحتمل أن يكون بمعنى أحمده حمداً يكون ثوابه وقبوله بحيث لو قصّرنا في تأدية الشكر كان ذلك الحمد وثوابه جابرين لما قصّرنا فيه من الشكر ، وموصلين ثوابه إلينا . والإتيان بضمير المتكلّم مع الغير طلبٌ منه لشمول هذا لغيره ، كما طلَب به شفاء النفوس ، وإلاّ فظاهر المقام ضمير المتكلّم وحده . ويقال : سبغت النعمة : اتّسعت ، ودرع سابغة : تامّة طويلة ؛ فسوابغ النعم (1) جمع سابغة . والنعماء _ بالفتح والمدّ _ بمعنى النعمة ، وهي اليد ، والضيعة ، والمنّة ، وما أنعم به عليك ؛ فإضافة سوابغ النعماء لاميّة ، كمكارم زيد ومحاسنه ، لا من إضافة الصفة إلى الموصوف (2) ؛ لإفراد «النعماء» . ولو لم يشترط المطابقة في الإفراد والجمع ، أو جاز إجراؤه مجرى الدينار الصفر والدرهم البيض ، لجاز أن يكون من باب الإضافة المذكورة . وفي خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام : «نحمده بجميع محامده كلّها على جميع نعمائه كلّها» . (3) وظاهره كون «النعماء» في كلامه عليه السلام جمعاً ، وغير الجمع محتمل أيضاً .

.


1- . في «ج» : - «النعم» .
2- . في حاشية «د» : «ذكروا في وجه منع إضافة الموصوف إلى الصفة لزوم اضافة الشيء إلى نفسه . ويمكن أن يقال : إنّ الإضافة يعتبر معها ما يعتبر في مطابقة الصفة للموصوف في الأُمور المشهورة ، فمع الإضافة في مثل مسجد الجامع بقدر المكان الجامع ؛ ليحصل المطابقة ويندفع أيضا إضافة الشيء نفسه ، وهذا أظهر في إضافة الصفة إلى الموصوف (منه رحمه اللّه ) » .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 141 ، باب جوامع التوحيد ، ح 7 ؛ التوحيد ، ص 31 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 1 . وفي بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 264 ، باب جوامع التوحيد ، ح 14 ، عن التوحيد .

ص: 70

. .

ص: 71

وجزيلِ الآلاء ، وجميلِ البلاء . وأشهدُ أن لا إله إلاّ اللّه .........

قوله : (وجَزيلِ الآلاء) أي النعم . وهذه الإضافة كالسابقة . ويمكن هنا إضافة اعتبار الصفة ؛ لصدق فعيل على الجمع أيضاً إن لم يشترط المطابقة في التعريف والتنكير . قوله : (وجَميلِ البَلاء) . إضافته على نحو سابقه . وفي الصحاح : البلاء الاختبار ، يكون في الخير (1) والشرّ (2) ، فلذا (3) قيّده بالجميل . قوله : (وأشهدُ أن لا إل_ه إلاّ اللّه ُ) . أتى بهذه الكلمة الشريفة مع تقدّمها بدون الشهادة لما ورد من أنّ كلّ خطبة ليس فيها تشهّد فهي كاليد الجذماء (4) ، ولما يحصل لقائلها من الثواب الجزيل ، فإنّه قد ورد في كلّ من كلمتي الشهادة ولا إل_ه إلاّ اللّه بخصوصه ، فأراد المصنّف رحمه الله الجمع بينهما ليفوز بثوابهما . ولمناسبة مقام التوحيد لذكر كلّ لمناسبة ما قبله ، ولبناء ما بعده . ولمّا كان التشهّد شرعاً المراد به الشهادتان ، أتى بشهادة الرسالة معها ، ولأنّها كالباب لها ، وقدّمت عليها لزيادة الشرف والرتبة ؛ وذلك لا ينافي كونها كالباب لها .

.


1- . في المصدر : «بالخير» .
2- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2285 (بلا) .
3- . في «ج» : «فلهذا» .
4- . المجازات النبويّة ، للشريف الرضي ، ص 244 ، الروضة البهية ، ج 1 ، ص 231 ؛ مسند أحمد ، ج 2 ، ص302 ؛ سنن الترمذي ، ج 2 ، ص 286 ، ح 1112 ؛ سنن أبيداود ، ج 2 ، ص 444 ، ح 4841 . وفي دعائم الإسلام ، ج2 ، ص203 ، فصل ذكر اختطاب النساء ، ح 743 ؛ و مستدرك الوسائل ، ج 14 ، ص201، ح16507 عن دعائم الإسلام: «كلّ نكاح لا خطبة فيه فهو كاليد الجذماء».وفي المهذّب البارع،لابن فهد الحلّي ، ج 3 ، ص 174 ؛ وعوالي اللئالي ، ج 3 ، ص 296 ، ح 75 : «النكاح بغير خطبة كاليد الجذماء» .

ص: 72

وحدَه لا شريك له ، إلها واحدا أحدا صمدا ، .........

قوله : (وَحْدَه لا شريك له إل_هاً واحداً (1) ) . هذه كلّها مؤ?ّدات للتوحيد ، وتوحيدٌ بعبارات شتّى اقتضاها المقام والرغبة في زيادة توحيده تعالى . قوله : (صَمَداً) . في باب تأويل الصمد من هذا الكتاب عن أبي جعفر الثاني عليه السلام : «أنّه السيّدُ المصمودُ إليه في القليلِ والكثيرِ» . (2) وعن أبي جعفر عليه السلام من جملة حديث : «صَمَدٌ قدُّوسٌ يَعبُدُه كلُّ شيءٍ ، ويَصمُدُ إليه كلُّ شيءٍ ، ووَسِعَ كلَّ شيءٍ عِلْماً» . (3) ومن طرق العامّة : عن أمير المؤمنين عليه السلام معناه : الذي لا ينام ولا يسهو ، و (4) لا يغفل ولا يلهو . (5) ومن طرقهم أيضاً عن الصادق عليه السلام : «الذي يغلب ولا يُغلب» . (6) وقد وقفت على أقوال كثيرة لأهل اللغة والمفسّرين في معنى الصمد : أمّا اللغة : فقيل : إنّه فَعَلٌ بمعنى مفعول من صَمَدَ إليه : إذا قصده ، وهو السيّد المصمود إليه في الحوائج . تقول العرب : بيتٌ مصمودٌ ومُصمَدٌ : إذا قصده الناس في حوائجهم . (7) وقيل : هو الذي لا جوف له . ومنه قيل لسداد القارورة : الصماد . (8) قال ابن قتيبة : وعلى هذا الدالُ فيه مبدلة من التاء ، وأنكر المصنّف رحمه الله هذا (9) ، وذكره الصدوق رحمه الله في كتاب التوحيد من جملة ما نقله . (10) وقيل : هو الأملس من الحجر الذي لا يقبل الغبار ، ولا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه . (11) فحمله عليه تعالى بطريق من طُرُق المجاز ، ككونه لا يقبل التصرّف عن الغير . وهو إشارة إلى كونه واجب الوجود لذاته غير قابل للتبدّل في وجوده ، ولا في صفاته . هذا ما حكي عن أهل اللغة . وأمّا ما حكي عن المفسّرين : فما تقدّم نقله عن أمير المؤمنين والصادق عليهماالسلام . وقيل : العالم بجميع المعلومات . (12) وقيل : الحكيم . (13) وقيل : السيّد الذي عظم سؤدده . (14) وقيل : الخالق للأشياء . (15) وقيل : المقصود إليه في الرغائب ، المستعان به عند المصائب . (16) وقيل : الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه . (17) وقيل : السيّد العظيم . (18) وقيل : الفرد الماجد الذي لا يتمّ أمرٌ إلاّ به . (19) وقيل : الكبير الذي ليس فوقه أحد . (20) وقيل : الكامل في كلّ الصفات . (21) وقيل : الذي لا يكافيه في خلقه أحدٌ . (22) وقيل : الذي لا يوصف بصفته أحدٌ . (23) وقيل : الذي يحتاج إليه كلّ أحد ، وهو يستغني عن كلّ أحد . (24) وقيل : الذي تقدّس ذاته عن إدراك الأبصار والعيان ، وتنزّه جلاله عن أن يدخل تحت الشرح والبيان . (25) وقيل : الذي ليس لسؤدده أمد ، ولا لبقائه عددٌ . (26) وقيل : الذي ترفع إليه الحاجات ، وتطلب منه الخيرات . وقيل : الذي ليس فوقه أحد ، وهو القاهر فوق عباده . (27) وقيل : الذي لا يأكل ولا يشرب ، وهو يُطعِم ولا يُطعم . (28) وقيل : الباقي بعد فناء الخلق . (29) وقيل : الذي لم يزل ولا يزال ، ولا يجوز عليه الزوال ، كان ولا مكان ، ولا أين ، ولا أوان ، ولا عرش ، ولا كرسيّ ، ولا جنّ ، ولا إنس ، وهو الآن على ما عليه كان . (30) وقيل : الذي لا يموت ولا يورث (31) ، « وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَ_اوَاتِ وَالْأَرْضِ » (32) . وقيل : الذي لا يتّصف بصفة أحد ، ولا يتّصف بصفته أحد . (33) وقيل : المنزَّه عن كلّ عيب ، المطّلع على كلّ غيب . (34) وقيل : المقدّس عن الآفات ، المنزّه عن المخافات . (35) وقيل : الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله . (36) وقيل : الذي يئسَ الخَلْق من الاطّلاع على كنه عزّته ، وعجزت العقول عن الوصول إلى سرّ حكمته . (37) وقيل : هو الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار . (38) وقيل : الذي تنزَّهَ عن الحدوث والزوال . (39) وقيل : المنزَّه عن قبول النقصان والزيادات ، وعن التغيّرات والتبدّلات ، وعن الأزمنة والأوقات والساعات ، وعن الأمكنة والأحياز والجهات . وقيل : الذي لا تُدركه الأبصار ، ولا تحويه الأفكار ، ولا تبلغه الأخطار ، وكلّ شيء عنده بمقدار . (40) هذه أقوال المفسّرين ، والمعتمد ما ثبت نقله عن أئمّتنا عليهم السلام . وذِكْر هذه الأقوال للاطّلاع عليها ، ولإمكان تطبيق كثير منها على المعتمد عليه .

.


1- . في الكافي المطبوع : + «أحدا» .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 123 ، باب تأويل الصمد ، ح 1 ؛ التوحيد ، ص 94 ، باب تفسير « قُلْ هُوَ اللّه ُ أحد » إلى آخرها ، ح 10 ؛ معاني الأخبار ، ص 6 ؛ باب معنى الصمد ، ح 2 . وفي بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 220 ، باب التوحيد ونفي الشريك ... ، ح 8 ، عن التوحيد و معاني الأخبار .
3- . المحاسن ، ج 1 ، ص 242 ، باب جوامع من التوحيد من كتاب مصابيح الظلم ، ح 226 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص124 ، باب تأويل الصمد ، ح 2 ؛ التوحيد ، ص 94 ، باب تفسير « قُلْ هُوَ اللّه ُ أحد » إلى آخرها ، ح 9 ؛ و ص136 ، باب العلم ، ح 7 . وفي بحارالأنوار ، ج 3 ، ص 220 و228 ، باب التوحيد ونفي الشريك ... ، ح 10 و16 ، عن التوحيد.
4- . في «د» : «أو» .
5- . أنظر مجمع البيان ، ج 10 ، ص 487 .
6- . المصدر.
7- . مجمع البحرين ، ج 2 ، ص 634 (صمد) .
8- . ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 1008 ؛ تاج العروس ، ج 2 ، 401 (صمد) . وانظر : تفسير فرات الكوفي ، ص 617 .
9- . في «ج» : - «هذا» .
10- . التوحيد ، ص 90 _ 92 ، باب تفسير « قُلْ هُوَ اللّه ُ أحد » إلى آخرها ، ح 3 _ 10 .
11- . حكاه العلاّمة المجلسي في بحارالأنوار ، ج 3 ، ص 224 ؛ وانظر : التوحيد ، ص 90 ، باب تفسير « قُلْ هُوَ اللّه ُ أحد » إلى آخرها ، ح 5 .
12- . نقله في مجمع البيان ، ج 10 ، ص 861 .
13- . انظر : جامع البيان ، للطبري ، ج 30 ، ص 451 .
14- . انظر : مجمع البيان ، ج 10 ، ص 861 ؛ والدرّ المنثور ، ج 6 ، ص 416 .
15- . الصافي ، ج 5 ، ص 392 ؛ زاد المسير ، ج 8 ، ص 33 .
16- . حكاه المجلسي عن السدي في بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 227 .
17- . انظر : مجمع البيان ، ج 10 ، ص 861 .
18- . انظر : تفسير فرات الكوفي ، ص 617 ؛ والتبيان ، ج 10 ، ص 43 .
19- . انظر : الدرّ المنثور ، ج 6 ، ص 416 .
20- . حكاه في مجمع البيان ، ج 10 ، ص 861 .
21- . انظر : جامع البيان ، للطبري ، ج 30 ، ص 451 ؛ والدرّ المنثور ، ج 6 ، ص 416 .
22- . انظر : جامع البيان ، للطبري ، ج 30 ، ص 451 ؛ والدرّ المنثور ، ج 6 ، ص 416 .
23- . انظر : جامع البيان للطبري ، ج 30 ، ص 451 ؛ والدرّ المنثور ، ج 6 ، ص 416 .
24- . انظر : جامع البيان ، للطبري ، ج 30 ، ص 451 ؛ والدرّ المنثور ، ج 6 ، ص 416 .
25- . مجمع البيان ، ج 10 ، ص 861 .
26- . مجمع البيان ، ج 10 ، ص 861 .
27- . التبيان ، ج 10 ، ص 431 .
28- . حكاه الطبري في جامع البيان ، ج 30 ، ص 222 . وانظر : مجمع البيان ، ج 10 ، ص 487 ؛ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ، ج 4 ، ص 911 .
29- . حكاه الطبري في جامع البيان ، ج 30 ، ص 223 .
30- . مجمع البيان ، ج 10 ، ص 487 .
31- . انظر : جامع البيان ، ج 30 ، ص 450 .
32- . آل عمران (3) : 180 ؛ الحديد (57) : 10 .
33- . انظر : جامع البيان ، ج 30 ، ص 222 ؛ وتفسير القرآن العظيم ، ج 4 ، ص 911 .
34- . انظر : جامع البيان ، ج 30 ، ص 222 ؛ وتفسير القرآن العظيم ، ج 4 ، ص 911 .
35- . انظر : جامع البيان ، ج 30 ، ص 222 ؛ وتفسير القرآن العظيم ، ج 4 ، ص 911 .
36- . انظر : جامع البيان ، ج 30 ، ص 222 ؛ وتفسير القرآن العظيم ، ج 4 ، ص 911 .
37- . انظر : جامع البيان ، ج 30 ، ص 222 ؛ وتفسير القرآن العظيم ، ج 4 ، ص 911 .
38- . انظر : جامع البيان ، ج 30 ، ص 222 ؛ وتفسير القرآن العظيم ، ج 4 ، ص 911 .
39- . انظر : الأصفى ، ج 2 ، ص 149 .
40- . والأقوال في الصمد جمعها القرطبي في كتاب الأسنى . انظر : تفسير القرطبي ، ج 20 ، ص 245 .

ص: 73

. .

ص: 74

. .

ص: 75

. .

ص: 76

لم يتّخذْ صاحبةً ولا ولدا ، وأشهدُ أنّ محمّدا صلى الله عليه و آله عبدٌ انتجبه ، .........

قوله : (انْتَجَبَه) ، أي اختاره واصطفاه .

.

ص: 77

ورسولٌ ابتعثه ، على حين فترةٍ من الرسل ، وطولِ هَجْعةٍ من الأُمم ، وانبساطٍ من الجهل ، واعتراضٍ من الفتنة، وانتقاضٍ من المبْرَم ، .........

قوله : (ابْتَعَثَه على حينِ فَتْرَةٍ من الرُّسُلِ) . «الفترة» ما بين الرسولين ، و«على» بمعنى «في» كما في قوله تعالى : « وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا » (1) ، و«من» كمن في كونها مع مجرورها ظرفاً مستقرّاً صفةً لفترة . ويحتمل على الاستعلاء المعنوي ، وتضمين ابتعث معنى سلّط ، والمعنى : ابتعثه مسلّطاً على زمان الفترة ، أي على أهله . وقد يؤ?ده ابتعث دون بعث . وفيه بُعْدٌ . قوله : (وطولِ هَجْعَةٍ من الاُمَمِ) . «الهجعة» من الهجُوع ، وهو النوم . شَبَّهَ حال الاُمم ، وعدمَ استقامة أحوالهم وغفلتهم عن اُمور الدين ، وعدمَ وجود رسول فيهم يدعوهم ، بهَجْعة النائم الذي تَطاوَلَ نومه ، فحواسّه الظاهرة والباطنة وأعضاؤه وقواه معطّلة تاركة للعمل الذي يليق بها وخلقت لأجله . قوله : (وَانْبِساطٍ من الجَهْلِ) . بمعنى ظهوره ظهوراً تامّاً بحيث لم يوجد ما يقتضي انقباضه ويقلّل انبساطه . قوله : (واعتراضٍ مِنَ الفِتْنَةِ) أي اعتراض عظيم . وفي ذكر الاعتراض تنبيه على تمكّن الفتنة وثبوتها بحيث لم يوجد ما يحتمل التأثير في رفعها وتخفيفها . قوله : (وانتقاضٍ مِنَ المُبْرَمِ) أي من الدين المحكم الذي كان قد أحكمه مَنْ تقدَّم من الرُّسُل . و«من» مع مجرورها صفةٌ في الجميع .

.


1- . القصص (28) : 15 .

ص: 78

وعمىً عن الحقّ ، واعتسافٍ من الجور ، وامتحاقٍ من الدين . وأنزلَ إليه الكتابَ ، فيه البيانُ والتبيانُ « قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ »

قوله : (وعَمًى عن الحَقِّ) . في بعض النسخ «من الحقّ» وحينئذٍ فالمعنى أنّ الحقّ صار كالأعمى الذي فَقَدَ ما هو من أشرف أعضائه ولا يهتدي إلى ما يريد . وعلى ما في الأصل المعنى : عمى الناس عنه ، وهو ظاهر . قوله : (وَاعْتِسافٍ مِنَ الجَوْرِ) . «الاعتساف» : الأخذ على غير الطريق . و«من» في الجميع ابتدائيّة ، ويحتمل (1) البيان في الأخير . قوله : (فيه البيانُ والتبيانُ) . يحتمل أن يكون «البيان» لنحو المتشابه والمجمل ؛ لقلّة بيانه ، و«التبيان» لمثل النصّ والمحكم أو العكس ؛ لاحتياج الأوّل إلى زيادة البيان ، بخلاف الثاني . أو «البيان» من النبيّ عليه السلام ، و«التبيان» له ؛ لاطّلاعه على ظاهره وباطنه وإظهار بعضه وبيانه للناس ، أو بالعكس لظهوره له عليه السلام بالبيان ، وعدم ظهوره لغيره إلاّ بالتبيان . أو فيه البيان لمن يحتاج إليه ، والتبيان كذلك ، أو لما يحتاج إليه كذلك . أو أنّ «البيان» للظاهر ، و«التبيان» للباطن ، ونحو ذلك . وهذه احتمالات ، واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال . قوله : (غيرَ ذي عِوَجٍ) ، أي اعوجاج . ويمكن أن يكون ذكره دونه لأنّ المستقيم قد لا ينافي بعض الاعوجاج استقامته ، بخلاف نفي الاعوجاج ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ج» : «تحتمل» .

ص: 79

قد بَيَّنَه للناس ونَهَجَه ، بعلمٍ قد فصّله ، ودينٍ قد أوضحه ، وفرائضَ قد أوجبها ، واُمورٍ قد كشفها لخلْقه وأعلنها ، فيها دَلالةٌ إلى النجاة ، ومعالِمُ تدعو إلى هُداه .

قوله : (قد بَيَّنَهُ للنّاسِ) ، أي بيّنه اللّه سبحانه بعضه ببيانه تعالى ، وبعضه ببيان الرسول والأئمّة عليهم السلام وبيانهم بيان اللّه ؛ أو بيّنه بهم عليهم السلام وبيّنه للناس بعضه لجميعهم وبعضه خاصّ بهم عليهم السلام . ورجوع ضمير «بيّنه» إلى النبيّ عليه السلام لا يناسبه السياق ، وإن احتمل بعيداً . قوله : (ونَهَجَهُ بعلمٍ قد فَصَّلَه) . «النهج» الطريق الواضح ، والمعنى : جعل طريقه واضحاً بالعلم الذي فصّله فيه ، أو في غيره . وأهل الذِّكر عليهم السلام اختصّوا بعلم جميع ما فيه ، فقد أوضح طريقه كلّه بنصبهم عليهم السلام وعلمهم بكلّ ما فيه ، وتعليم كلّ من أراد ؛ فالعلم المفصّل عندهم . ويمكن إرادتهم عليهم السلام من العلم ، وإرادة واحد بعد واحد بنصّ من اللّه ورسوله من التفصيل . ويحتمل حينئذٍ قراءة «العَلَم» متحرّكَ اللام مع فتح العين ، لكنّه خلاف الظاهر . قوله : (فيها دَلالَةٌ إلى النَّجاةِ) . ضمّن الدلالة معنى الإيصال لتقيّده معها ، والنجاة يوقف عليه بالهاء ؛ لأنّها لتأنيث الاسم ولم يتقدّمها حرف ساكن صحيح ؛ فناسب هداهُ . قوله : (وَمعالِمُ تَدعو إلى هُداه) . «المعالم» جمع معلم ، وهو الأثر يستدلّ به على الطريق ؛ قاله في الصحاح (1) ، وذكر «تدعو» للإشارة إلى أنّ مع هذه الآثار من يقوّيها ويؤ?دها ويدعو بها ؛ أو لما فيها من الدلالة حتّى صارت كأنّها تدعو بنفسها إلى الهدى .

.


1- . الصحاح ، ج 5 ، ص 1991 (علم) .

ص: 80

فبلَّغَ صلى الله عليه و آله ما اُرسلَ به ، وصدع بما اُمر ، وأدّى ما حُمِّلَ من أثقال النبوّة ، وصبر لربّه ، وجاهَدَ في سبيله ، ونصح لأُمّته ، .........

قوله : (وصَدَعَ بما اُمِرَ) ، أي بما اُمر به ، أو بالأمر ؛ لقوله تعالى : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ » (1) ، أو بما اُمر به وهو الصدع ، بمعنى «أتى به» ، أو صدع بمقتضى ما اُمر به الذي هو الصدع . والوجه الأوّل . والمعنى : أنّه أتى به من غير محاشاة ولا مداخلة لشيء ينافي ذلك . وأصله من صدع نحو الزجاج : الذي لا يقبل الالتيام . وفي القاموس : «الصدع» الشقّ في شيءٍ صلب . (2) وقوله تعالى : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ » أي شقّ جماعاتهم (3) بالتوحيد ، أو اجهر بالقرآن ، أو أظهره ، أو اُحكم بالحقّ وافصل بالأمر ، أو اُقصد بما تؤمر ، أو افرق بين الحقّ والباطل . قوله : (من أثقالِ النبوَّةِ) . «من» بيانيّة . قوله : (وصَبَرَ لِرَبِّهِ) ، أي لأجل رضى ربّه . قوله : (ونَصَحَ لاُمَّتِهِ) . قال ابن الأثير : النصيحة في اللغة الخلوص ، يقال : نصحته ونصحت له . ومعنى نصيحة اللّه : صحّة الاعتقاد في وحدانيّته ، وإخلاص النيّة في عبادته ، والنصيحة لكتاب اللّه هو التصديق به والعمل بما فيه ، ونصيحة رسوله صلى الله عليه و آله : التصديقُ بنبوّته ورسالته والانقياد لما اُمر به ونهى عنه ، ونصيحة عامّة المسلمين : إرشادُهم إلى مصالحهم ؛ انتهى . (4)

.


1- . الحجر (15) : 94 .
2- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 49 (صدع) .
3- . في «د» : «جماعتهم» .
4- . النهاية ، ج 5 ، ص 63 (نصح) .

ص: 81

ودعاهم إلى النجاة ، وحَثَّهم على الذكر ، ودَلَّهم على سبيل الهدى من بعده ، بمناهجَ ودَواعٍ أسَّسَ للعباد أساسَها ، .........

قوله : (ودَعاهُم إلى النَّجاةِ) ، أي إلى سبب النجاة . والتجوّز باعتبار أنّ المطلب الأسنى والغاية القصوى هي النجاة ، فالدعاء إليها . قوله : (وحَثَّهُمْ على الذِّكْرِ) ، أي القرآن . ويحتمل مطلق الذِّكر . قوله : (ودَلَّهُمْ على سَبيلِ الهُدى مِنْ بَعدِه بِمَناهِجَ) . «المناهج» جمع منهج ومنهاج ، وهما الطريق الواضح . والمعنى : دلّهم النبيّ صلى الله عليه و آله على طريق الهُدى بسلوك طرق واضحة إذا سَلَكوها لم يضلّوا ، وهي كتاب اللّه وعترته عليهم السلام ؛ أو دَلَّهم على طريق الهدى الذي هو الكتاب والعترة بطرق واضحة إذا سَلَكوها اهتدوا إليهم ، وهدوهم إلى ما فيه سعادتهم ؛ ويترتّب على الوجهين . قوله : (ودَواعٍ أسَّسَ للعبادِ أساسَها) . فعلى الأوّل معناه أنّه جعل الكتاب والعترة دواعي تدعوهم إلى طريق الهدى بعد أن أسّسَ أساس هذه الدواعي وأحكمَه وبَيَّنَه لهم وأوضحه . ويحتمل رجوع ضمير «أساسها» إلى المناهج والدواعي . ولا يخلومن بُعدٍ بحسب المعنى . وعلى الثاني : دَلَّهم على ما ذكر بطرق واضحة ، ودواع مؤسسة محكمة .

.

ص: 82

ومنائر رفع لهم أعلامَها ، لكي لا يَضِلّوا من بعده ، وكان بهم رؤوفا رحيما . فلمّا انقضتْ مدّتُهُ ، واستكملتْ أيّامُه ، توفّاه اللّه وقَبَضَه إليه ، وهو عند اللّه مرضيٌّ عملُه ، وافرٌ حظُّه ، عظيمٌ خطرُهُ ، فمضى صلى الله عليه و آله وخلَّفَ في اُمّته كتابَ اللّه ، ووصيَّه أميرَ المؤمنين وإمامَ المتّقين صلوات اللّه عليه ، صاحبَيْن مؤتلفَيْن ، .........

قوله : (ومَنائرَ رَفَعَ لهم أعلامَها) . هذا يؤ?د الأوّل ، مع عدم منافاته الثاني . (1) ورفع أعلام المنائر _ التي شُبّهوا عليهم السلام بها في الهداية الكاملة _ إمّا باعتبار رفع ما بنيت عليه ، فإنّ «العلم» الجبل ونحوه ، وإذا كانت المنارة على مرتفع ، كانَتْ أكثر وأعظم هدايةً . أو أنّ المراد بأعلامها نفسها ، وذكر الأعلام للإعلام بأنّها منصوبة للهداية . أو أنّ المراد بالأعلام ما في رؤوسها ، وهو ما يبنى في رأس المنارة كالراية ، فإنّ العَلَم الراية أيضاً . والعَلَم العلاّمة أيضاً ؛ فيحتمل إرادة رفع علامات المنائر التي بارتفاعها تزيد الهداية والوضوح . ونحو هذا المقام قول الخنْساء : وإنّ صَخْرا لتأتم الهُداةُ بهكأنّه عَلَم في رأسِه نارٌ (2) قوله : (عَظيمٌ خَطَرُه) بفتح الطاء المهملة ، أي قَدْره ومنزلته . قوله : (صاحِبَيْنِ مُؤتلِفَيْنِ) أي كلّ واحد منهما مصاحبٌ للآخر ومؤتلفٌ معه ؛ لأنّ الصاحب لا يكون صاحباً إلاّ بآخر ، وقيّد الائتلاف للتنبيه على أنّ الصحبة قد تكون من غير ائتلاف ولو في الباطن . ولمّا كانت الإمامة في كلّ عصر منحصرة في واحد ، وكان الإمام بعد النبيّ صلى الله عليه و آله أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان المقام مقام ذِكْر مَن خَلْفه من بعده على الاُمّة ، ذَكَرَه مع الكتاب ، وإلاّ فكلّ منهم عليهم السلام مصاحبٌ للكتاب بنصّ من اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله . والأحاديث في ذلك كثيرة ، مثل قوله صلى الله عليه و آله : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي» (3) وإخباره عليه السلام : إنّهما (4) لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض ، وإنّهما حبلان ممدودان (5) ، وإنّهما ثقلان : أكبر وأصغر (6) ، وغير ذلك ممّا هو مذكور في محالّه .

.


1- . في «ج» : «للثاني» .
2- . بلاغات النساء ، لابن طيفور ، ص 47 ؛ تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 345 ؛ التبيان ، ج 9 ، ص 166 ؛ مجمع البيان ، ج 9 ، ص 54 ؛ تفسير القرطبي ، ج 16 ، ص 32 ؛ شرح نهج البلاغة ، لابن أبيالحديد ، ج20 ، ص 160 .
3- . قد تواترت هذه الرواية بين العامّة والخاصّة ونشِر إلى بعض مصادره الروائية الخاصّة ، منها : بصائر الدرجات ، ص 413 ، باب في قول رسول اللّه إنّي تارك ... ، ح 3 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 414 ، باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا ... ، ح 1 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 415 ، المجلس 64 ، ح 15 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج1 ، ص 228 ، الباب 23 ، ح 1 ؛ كمال الدين ، ج 1 ، ص 238 ، الباب22 ، ح 54 ؛ معاني الأخبار ، ص 91 ، باب معنى الثقلين والعترة ، ح 5 ؛ الأمالي ، للمفيد ، ص 45 ، المجلس 6 ، ح 6 ؛ الإرشاد ، ج 1 ، ص 176 ؛ الغيبة ، للنعماني ، ص 41 ، باب فيما جاء في تفسير قوله تعالى : واعتصموا بحبل اللّه جميعا ، ح2 ؛ الأمالي ، للطوسي ، ص 161 ، المجلس 6 ، ح 20 .
4- . في «ج» : «بأنّهما» .
5- . المجازات النبويّة ، للشريف الرضي ، ص 216 ؛ العمدة ، لابن البطريق ، ص 83 و118 ؛ شرح نهج البلاغة ، لابن أبيالحديد ، ج 9 ، ص 133 ؛ إيمان أبيطالب ، للفخّار ، ص 65 ؛ بحار الأنوار ، ج 29 ، ص630 .
6- . عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 30 ، باب 31 ، ح 40 ؛ كمال الدين ، ج 1 ، ص 234 و238 ، باب 22 ، ح45 ، 55 و57 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 60 ؛ رجال الكشّي ، ص 219 ، ح 394 .

ص: 83

يَشهدُ كلُّ واحد منهما لصاحبه بالتصديق ، .........

قوله : (يَشهَدُ كلُّ واحدٍ منهما لصاحبِه بالتصديقِ) . هذا وما بعده ممّا ينشأ عن الائتلاف الحقيقي ويترتّب عليه .

.

ص: 84

والعبارة تحتمل وجهين :أحدهُما _ وهو الأظهر من التصديق _ : أنّ كلّ واحد منهما يشهد لصاحبه بأنّه _ أي المشهود له _ صدّق الشاهد ، فالكتاب يشهد بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام صدّقه وآمن به وعمل بما فيه ، وأمير المؤمنين يشهد بأنّ الكتاب صدّقه واعْتَرَفَ بإمامته ، وأنّه يعلم بكلّ ما فيه ويعمل به . وحاصله : أنّ كلّ واحد شاهد بذلك باعتبار ما تضمّنه الكتاب وما علم من حال أمير المؤمنين عليه السلام . ويحتمل هذا وجهاً آخر ، وهو أنّ كلّ واحد منهما يشهد بذلك لصاحبه حيث يطلب منه الشهادة . الثاني : أن يكون المعنى أنّ كلّ واحد (1) يشهد (2) لصاحبه بشهادة هي تصديقه فيما ادّعاه ، أي يشهد بأنّه صادق ، كما تقول : شهدتُ له بالتعديل : إذا ادّعى العدالة ، فقلت : أشهد أنّه عدل ، أو هو عدل ؛ فشهادة أمير المؤمنين عليه السلام بصدق الكتاب ظاهرة ، وشهادة الكتاب كآية « إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ » (3) ، و « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » (4) وغيرهما ممّا هو مذكور في هذا الكتاب في باب ما نصّ اللّه عزّ وجلّ ورسوله على الأئمّة (5) ، وغيره ممّا نزل في شأنه عليه السلام دالاًّ على إمامته . أو بمعنى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام إذا علم بكلّ ما في القرآن وأخبر عن كلّ ما سئل عنه _ ولم يظهر في كلامه وإخباره خلل ولا اضطراب ، ولم ينكر عليه عاقل منصف ما بيّن له _ كان القرآن مصدّقا (6) له في إمامته ، فإنّ من كان في هذه المرتبة لا يكون غير إمام معصوم بعد النبيّ صلى الله عليه و آله ، فالقرآن مصدّق له في هذه الدعوى . ومن كلام أمير المؤمنين عليه السلام : «وَاللّه ِ ، لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ وَسادَةٌ فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا ، لَأَفْتَيْتُ أَهْلَ التَّوْراةِ بِتَوْراتِهِمْ حَتّى تَنْطِقَ التَّوْراةُ فَتَقُولَ : صَدَقَ عَلِيٌّ ، مَا كَذَبَ ، لَقَدْ أَفْتاكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه ُ فِيَّ ؛ وَأَفْتَيْتُ أَهْلَ الاْءِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ حَتّى يَنْطِقَ الاْءِنْجِيلُ فَيَقُولَ : صَدَقَ عَلِيٌّ ، مَا كَذَبَ ، لَقَدْ أَفْتاكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه ُ فِيَّ ؛ وَأَفْتَيْتُ أَهْلَ الْقُرْآنِ بِقُرآنِهِمْ حَتّى يَنْطِقَ الْقُرآنُ فَيَقُولَ : صَدَقَ عَلِيٌّ ، مَا كَذَبَ ، لَقَدْ أَفْتَاكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّه ُ فِيَّ» . (7)

.


1- . في «ألف» : + «منهما» .
2- . في «ألف ، ب» : + «بذلك» .
3- . المائدة (5) : 55 .
4- . المائدة (5) : 3 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 286 .
6- . في «د» : «صدقا» .
7- . الأمالي للصدوق ، ص 341 ، المجلس 55 ، ح 1 ؛ التوحيد ، 304 ، باب حديث ذعلب ، ح 1 ؛ الاختصاص ، ص 235 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 258 ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 118 ، مجلس في ذكر فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ؛ إرشاد القلوب ، ص 374 ، في مكالمته مع رأس اليهود ؛ تأويل الآيات ، ص337 ؛ وفي بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 118 ، باب ما تفضّل صلوات اللّه عليه به على الناس ، ح 1 ، عن التوحيد والأمالي .

ص: 85

ينطقُ الإمامُ عن اللّه في الكتاب بما أوجب اللّه فيه على العباد ، من طاعته ، وطاعةِ الإمام

قوله : (يَنطِقُ الإمامُ عن اللّه ِ) ، أي يكون الإمام عليه السلام ناطقاً نُطقاً أخذه عن اللّه ، أي عن وحي وإلهام ونحوه من اللّه لرسُوله صلى الله عليه و آله وقد علمه أمير المؤمنين عليه السلام . وقد يكون بعضه له عليه السلام ، فنطقه عن اللّه وكذا من بعده ، أو نطقاً كائناً عن أمر اللّه ، أو معبّراً عن اللّه ؛حيث إنّه تعالى منزّه عن ذلك . قوله : (في الكتابِ) أي يتكلّم في الكتاب (بما أوجَبَ اللّه ُ فيه على العبادِ من طاعةِ اللّه وطاعةِ الإمامِ وولايته) بمعنى أنّه يبيّن لهم ذلك ويوضّحه ، ولو أصغوا له وأنصفوا ، لقبلوا إمامته من الكتاب بعد بيانه لهم وظهور صدقه ، ولكنّ الذين لم يقبلوا عموا وصمّوا . ولا يبعد أن يكون سقط من هنا شيء ، وأنّ العبارة هكذا : «ينطق الإمام عن اللّه في الكتاب ، وينطق الكتاب بما أوجب اللّه ...» . ويترتّب عليه ما يناسبه من سياق العبارة .

.

ص: 86

وولايته ، وواجبِ حقّه ، الذي أراد من استكمال دينه ، وإظهار أمره ، والاحتجاجِ بحُجَجه ،

قوله : (ووِلايَتِه) أي ولاية اللّه ، أو الإمام . قوله : (وواجِبِ حَقِّهِ) أي حقّه واجب ، أو الواجب الذي هو حقّه . وضمير «حقّه» للّه أو للإمام . قوله : (الذي أرادَ من استكمالِ دينِه) أي (1) الذي أراده اللّه تعالى بقوله : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الاْءِسْلَ_امَ دِينًا » (2) . وذلك دالٌّ على وجوب طاعته وحقّه وولايته ، أو وجوب طاعة اللّه وحقّه وولايته ، وذلك الذي أراده من استكمال دينه بنَصْب أمير المؤمنين عليه السلام . و«من» ابتدائيّة ، ويجوز كونها بيانيّة . قوله : (وإظْهارِ أمْرِهِ) أي من اللّه بالآية وغيرها ، ومن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بقوله : «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ...» . (3) والأظهر رجوع ضمير «أمره» إلى اللّه تعالى ، والمعنى : إظهار أمره بولاية عليّ بعد أن لم يكن في هذه المرتبة من الظهور على الناس ، أو إظهار أمر اللّه فيه بعد أن كان مخزوناً هذا الظهور في علمه وإرادته . قوله : (والاحتجاجِ بحُجَجِهِ) . هم الأئمّة عليهم السلام ، فإنّ إمامتهم أيضاً تعلم من استكمال دينه .والاحتجاج بهم التمسّكُ بهم واتّخاذهم حجّة عند اللّه ، فإنّ العباد اُمروا باتّخاذهم حجّة ليكون ذلك واجباً . أو المعنى أنّ اللّه تعالى جَعَلَهم حجّةً له على العباد .

.


1- . في «ج» : - «أي» .
2- . المائدة (5) : 3 .
3- . قد تواتر هذا الحديث في كتب الفريقين ونذكر بعض مصادرنا : الكافي ، ج 1 ، ص 286 ، باب ما نصّ اللّه عزّ وجلّ ورسولُه على الأئمّة ... ، ح 1 ؛ وص293 ، باب الاشارة والنصّ على أميرالمؤمنين عليه السلام ح 3 ؛ الفقيه ، ج 1 ، ص229 ، ح 686 ؛ وج2 ، ص 559 ، ح 3144 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص 143 ؛ ح 317 ، وللمزيد راجع : الغدير ، ج 1 ، ص 11 .

ص: 87

والاستضاءةِ بنوره ، في معادن أهل صفوته ومُصْطَفَيْ أهلِ خِيرته . فأوضَحَ اللّه ُ بأئمّة الهدى من أهل بيت نبيّنا صلى الله عليه و آله عن دينه ، وأبلجَ بهم عن سبيل مناهجه ؛

قوله : (والاستضاء (1) بنورِه في معادنِ أهلِ صَفْوَتِه) أي بالنور الذي أودعه اللّه فيهم ، وهو العلم ؛ أو النور الذي خلَقهم اللّه منه . وقد اجتمع هذا النور بعد افتراقه في النبيّ صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام وبعد افتراقه في فاطمة والحسنين عليهم السلام في الأئمّة عليهم السلام واحداً بعد واحد . وإضافة «معادن أهل صفوته» بيانيّة ، و«أهل صفوته» لاميّة ، وكذا «صفوته» . قوله : (ومُصْطَفَيْ أهلِ خِيَرَتِه) أي المصطفين من أهل خيرته . قوله : (فأوضَحَ اللّه ُ ...) أي تَرتّب على ذلك أو تفرّع عليه وضوح الدين بهم . قوله : (وأبْلَجَ بهم عن سبيلِ مناهِجِه (2) ) . «البلوج» : الإشراق ، يقال : بلج الصبح يبلُج _ بالضمّ _ أي أضاء . وضمِّن «أبلج» معنى «كشف» مع دلالته على الإضاءة ، فالمعنى : كشف بهم الظلمة مع إضاءة سبيل طرقه الواضحة الموصلة إلى رضوانه ، وهي توحيده تعالى وأحكامه . ووضوحها بمعنى أنّها واضحة في نفسها ، غير مشوبة بشيء من ظلمة الشكّ والشبهة ، ولكنّها غير مكشوفة على العباد ؛ لحكمة التكليف ، فكَشَفَها اللّه تعالى بأهل الكشف عليهم الصلاة والسلام .

.


1- . كذا في أكثر نسخ الكافي ، وفي بعض نسخ الكافي والمطبوع : «والاستضاءة» .
2- . في حاشية «د» : «المناهج _ جمع منهج _ : الطريق الواضح (منه) » .

ص: 88

وفتحَ بهم عن باطن ينابيع عِلْمه ، وجعلهم مسالكَ لمعرفته ، ومعالمَ لدينه ، وحُجّابا بينه وبين خلقه ؛ والبابَ المؤدّي إلى معرفة حقّه ، وأطْلَعَهم على المكنون من غَيب سِرّه . كلَّما مضى منهم إمامٌ ، نَصَبَ لخَلْقه من عقبه إماما بيّنا ، .........

قوله : (وفَتَحَ بهم عن باطنِ يَنابيعِ علمِه) أي جعلهم مفاتيح العلم الذي كان مستورا ؛ وقد يكون علم اللّه له ظاهر وباطن ، واللّه سبحانه فتح بهم عن الباطن ، فالظاهر أولى . أو أنّ الظاهر علمه اللّه تعالى غيرهم من الأنبياء والأوصياء ، وكشف لهم عن الباطن غير ما استأثر به وفَتَحَه لهم . وفي الكلام استعارةٌ . قوله : (وجَعَلَهم مَسالِكَ لمعرفتِه) أي طرقاً موصلة إليها ، أو طرقاً كائنة لها . قوله : (وحُجّابا بينَه وبينَ خَلْقِه) . يحتمل أن يكون «حجّاب» مشدّداً جمع حاجب ، كعمّال وعامل . والمعنى حينئذٍ : أنّهم هم الذين يوصلون إلى الخلق ما اُمروا به ، كما أنّ الحاجب يوصل إلى مَن له حاجة من المحجوب حاجته ؛ أو أنّهم حجّابٌ للخلق عن أن ينسبوا إلى اللّه سبحانه مالا يليق به ، ويصفوه بما لا يوصف به ، فهم حجّاب لمن احتجب بهم . ويحتمل أن يكون مخفّفا . والمعنى حينئذٍ : أنّ اللّه سبحانه جعلهم حجاباً ، أي سِتْرا وحاجزا بين خلقه وعذا به ؛ فهم حجّاب لمن احتجب بهم وتمسَّكَ بحبلهم عن دخول النار وحلول العذاب . وهو نظير قوله عليه السلام : «أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ بك منك» . (1) قوله : (نَصَبَ لخَلْقِه من عَقِبِه إماما بَيِّنا ، وهادِيا نَيِّرا ، وإماما قَيِّما) . «الإمام» لغةً الذي يقتدى به ويؤتمّ به من رئيس أو غيره ، والطريق . وقيّم الأمر : المصلح له ، فالإمام الأوّل مَن يقتدى به ويؤتمّ (2) ، والثاني القيّم ، أو الطريق إلى ما يوصل إلى المطلوب من الحقّ (3) . «وقيّماً» على الأوّل تفسير ، وذكر الإمام ليبنى عليه ويوصف به ؛ وعلى الثاني معناه أنّه طريقٌ قيّمٌ ، أي قائم مستقيم . ذكر تفسير القيّم بهذا في الغريب (4) .

.


1- . الكافي ، ج 3 ، ص 469 ، باب صلاة فاطمة عليهاالسلام من صلاة الترغيب ، ح 7 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص185 ، ح 419 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 830 ، صلاة ليلة النصف من شعبان ؛ وص839 ، صلاة أُخرى في هذه اليلة ؛ إقبال الأعمال ، ص 695 ، فصل فيما نذكره من صلاة أربع ركعات أُخرى في ليلة النصف من شعبان ؛ وص703 ، فصل فيما نذكره من رواية أُخرى بسجدات ودعوات ... ؛ البلد الأمين ، ص 173 .
2- . في «ج» : + «به» .
3- . في «د» : «ما يوصل من المطلوب إلى الحقّ» .
4- . تفسير غريب القرآن ، ص 517 .

ص: 89

وهاديا نيّرا ، وإماما قيّما ، يهدون بالحقّ وبه يعدلون . حُجَجُ اللّه ودُعاتُه ورُعاتُه على خَلْقه ، يدين بهَدْيِهم العبادُ ، وتَستهلُّ بنورهم البلادُ .

قوله : (حُجَجُ اللّه ِ ودُعاتُه) أي هم حجج اللّه على الاستيناف ، وهو أبلغ من غيره الذين يحتجّ بهم على الخلق بأنّه أقامهم ونصبهم ليدلّوهم على ما فيه صلاحهم ونجاتهم ، فمن لم يتبعهم لزمته الحجّة بذلك . قوله : (ورُعاتُه على خَلْقِه) . «الرعاة» _ بالضمّ _ جمعُ راع ، كالرعاء بالكسر . والإتيان ب «على» لبيان استعلائهم على الخلق وشرفهم عليهم ، وأنّه يجب عليهم الانقياد إليهم كانقياد الغنم ونحوها إلى الراعي ، فمن خرج عن رعايتهم ، كان أكيل النار ، كما أنّ الخارج عن رعاية راعي الحيوانات يكون أكيل السبع أو هالكاً . قوله : (يَدينُ بهُداهم (1) العبادُ) أي يعبدون اللّه ، أو يأتون بما تعبّدهم به ، أو يتورّعون ، أو يخدمونه ، أو ينقادون إليه ويطيعونه ، أو يذلّون أنفسهم في طاعته ، أو يعتادون فعل الخير بسبب هداهم . وهذه كلّها معاني «يدين» . قوله : (وتَستَهِلُّ بنورِهم البلادُ) . كأنّه أراد به (2) : يستضيء بنور وجودهم وهداهم أهل البلاد ، أو تضيء وتتلألأ به من ظلمات الجهل ؛ فيكون السالك فيها ذا نور يقدر أن يسلك به الطريق المستقيم ، ومَن ضَلَّ فإنّما يضلّ على نفسه (3) ، « وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا » (4) . وفي القاموس : هَلَّ المطرُ : اشْتَدَّ انصِبابُه ، كانْهَلَّ ، واسْتَهَلَّ الصبيُّ : رَفَعَ صوتَه بالبكاء ، وكذا كلّ متكلّمٍ رفع صوتَه . (5) وفي الصحاح : تَهَلَّلَ وجهُ الرجل من فَرَحِه ، واستهلّ . وتَهَلَّلَ السحاب ببرقه : تَلَأْلَأَ . (6) ويمكن أن يكون المراد به استهلال المطر ، بمعنى أنّ البلاد تمطر وتخضب بنورهم . وذكر النور بدلاً عن البرق الذي قد يكون صادقا وقد يكون خُلَّبا ، بخلاف النور فإنّ نورهم عليهم السلام الذي يستمطر به لا يكون إلاّ صادقا ؛ أو يقال : استعار استهلال المطر للخير والبركة ونحوهما الحاصلة من نور وجودهم وهداهم . ويمكن أن يكون المراد استهلال وجوه أهل البلاد، أي إشراقها وتلألؤها بنورهم، وهو كناية عمّا يحصل بسببهم من الإيمان وحصول نوره في وجوههم ، وحذف أكثر من مضاف موجود في القرآن وغيره ، كقوله تعالى : « فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ » (7) . قيل : أصله من أثر حافر فرس الرسول (8) . ومآل هذه الأوجه متقارب .

.


1- . في الكافي المطبوع وبعض نسخ الكافي : «بهَدْيِهِم» .
2- . في «د» : - «به» .
3- . اقتباس من الآية 108 من سورة يونس (10) والآية 15 من سورة الإسراء (17) : « فَمَنِ اهْتَدى فَإنّما يَهْتَدِي لِنَفْسِه ومَنْ ضَلَّ فإنّما يَضِلُّ عَلَيْها » .
4- . الأنعام (6) : 104 .
5- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 70 (هلل) .
6- . الصحاح ، ج 5 ، ص 1851 (هلل) .
7- . طه (20) : 96 .
8- . حاشية ردّ المختار ، لابن عابدين ، ج 6 ، ص 680 ؛ نيل الأوطار ، للشوكاني ، ج 3 ، ص 361 ؛ عون المعبود ، للعظيم آبادي ، ج 3 ، ص 342 ؛ البرهان ، للزركشي ، ج 3 ، ص 153 .

ص: 90

. .

ص: 91

جعلهم اللّه ُ حياةً للأنام ، ومصابيحَ للظلام ، ومفاتيحَ للكلام ، ودعائمَ للإسلام .

قوله : (جَعَلَهم اللّه ُ حياةً للأنامِ) أي حياةً لهم من موت الجهالة والضلالة لمن أرادها ، وحياةً لهم ؛ لأنّهم أركان الأرض أن تميد بأهلها (1) ، ولولاهم لساخت الأرض كما ورد (2) ، ويأتي أنّهم سبب لبقائهم . قوله : (ومَصابيحَ لِلظَّلامِ) أي لأجل الخلاص من ظلمة الكفر والجهل . قوله : (ومفَاتيحَ لِلْكلامِ) أي لكلام اللّه تعالى ، فإنّهم عليهم السلام هم الذين يفتحون مغلقه ويحلّون مشكله ؛ أو لما يشتمل غير كلامه تعالى الذي هو القرآن من كلّ ما يناسب كونهم مفاتيحه . قوله : (ودَعائمَ للإسلامِ) . جمع دعامة أو دِعام _ بالكسر _ أي عماده ، وأصله عماد البيت .

.


1- . بصائر الدرجات ، ص 199 _ 200 ، باب في الأئمّة عليهم السلام أنّه جرى لهم ... ، ح 1 _ 3 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص196_197 ، باب أنّ الأئمّة هم أركان الأرض ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 575 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص79 ، باب زيارتهم عليهم السلام ؛ كامل الزيارات ، ص 44 و53 ؛ الاختصاص ، ص 21 ؛ الأمالي ، للطوسي ، ص205 ، المجلس8 ، ح 2 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 713 ، دعاء الموقف ؛ وص744 ، زيارة أُخرى لأميرالمؤمنين عليه السلام .
2- . بصائر الدرجات ، ص 488 _ 489 ، باب أنّ الأرض لا تبقى بغير إمام ... ، ح 1 _ 8 ؛ الكافي ، ج 1 ، ص179 ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ح 10 _13 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 186 ، المجلس 34 ، ح 15 ؛ علل الشرايع ، ج 1 ، ص 196 _ 198 ، باب 153 ، ح 15 _ 21 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 272 ، باب 28 ، ح 1 _ 4 ؛ كمال الدين ، ج 1 ، ص 201 ، باب 21 ، ح 1 و2 ؛ وص202 ، ح 5 ؛ ص 203 ، ح 8 ؛ ص204 ، ح 14 و15 ؛ وص207 ، ح 22 ؛ الغيبة ، للنعماني ، ص 138 _ 139 ، باب ماروي في أنّ اللّه لا يخلي أرضه بغير حجّة ، ح 8 _ 11 ؛ وص141 ، باب ماروي في غيبة الإمام المنتظر ... ، ح 2 ؛ الغيبة ، للطوسي ، ص220 ؛ دلائل الإمامة ، لمحمّد بن جرير الطبري ، ص 231 ؛ نوادر المعجزات ، للطبري أيضا ، ص196 ، ح 4 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 317 ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 199 .

ص: 92

وجعل نظامَ طاعته وتمامَ فَرْضه التسليمَ لهم فيما عُلِمَ ، والردَّ إليهم فيما جُهِلَ ، وحَظرَ

قوله : (وجَعَلَ نِظامَ طاعَتِهِ وتَمام فَرْضِه التسليمَ لهم فيما عُلِمَ) أي فيما علم أنّه ورد عنهم عليهم السلام ، سواء أدرك العقل وجهه أم لا ، وحينئذٍ فيجب التسليم لهم والانقياد إليهم ؛ لأنّه بعد ثبوت إمامتهم وعصمتهم ووجوب طاعتهم يجب ذلك ، فيكون الرادُّ عليهم فيه رادّا على اللّه ورسوله ، وفي ذلك عدم نظام طاعتهم إيّاه وعدم إتمام فرضه ، وإن أدّوا غيره من الفروض (1) ؛ فإنّه لايكفيهم في الانقياد والإتيان بما فرضه عليهم الإتيانُ بغير هذا الفرض ؛ لأنّهم يكونون مؤدّين لفرض ناقص غير مؤدّى على وجهه المقصود منه ، وهو الإتيان به تامّا . ففَرْض مَن وَصَلَ إليه شيء أن يأخذه على وجه التسليم والانقياد ، ولا ينكر ما جهل معناه ، فإنّ العقول لا تدرك وجه جميع ما أراده اللّه واُمناؤه من الحكمة والمصلحة ؛ فالتسليم واجبٌ في مثله . قوله : (والرَّدَّ إليهم فيما جُهِلَ) أي فيما جهل أنّه عنهم عليهم السلام ، وإن علم له وجه يحسّنه العقل ويقبله . ويحتمل أن يكون أراد بالأوّل ما علم معناه ، وبالثاني ما لم يعلم ، فيقبل الأوّل كيف كان ، ويعمل به على وجه يجوز العمل به ، ويردّ علم الثاني إليهم كيف كان ، وذلك بعد العلم بكونه وَرَدَ عنهم عليهم السلام ، ويؤيّده في الجملة التسليم . والأوّل دلالته بنفسه وأعمّ فائدة . قوله : (وحَظُرَ) أي منع على وجه التحريم ، فلهذا عدّى ب «على» ليفيد المنع المحرّم . وهذه فائدة في التضمين جليلة لم أَرَ من ذكرها .

.


1- . في «ألف» : «المفروض» .

ص: 93

على غيرهم التهجّمَ على القول بما يجهلون ، ومَنَعَهم جَحْدَ ما لا يعلمون ؛ لما أرادَ تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خَلْقه ، .........

قوله : (عَلى غَيْرِهم التَّهَجُّمَ على القولِ بما يَجهَلونَ) أي الإقدام على القول بما لا يعلمون . وقد ثبت أنّهم عليهم السلام لا يقولون إلاّ عن علم ، فلا يتوهّم من العبارة المفهوم الضعيف . قوله : (ومَنَعَهُم جَحْدَ ما لا يَعْلَمونَ) أي منع غيرهم أن ينكروا الشيء الذي يصل إليهم مع العلم بكونه منهم عليهم السلام ولا يعلمون وجهه ومعناه . والجمع باعتبار إرادة المتعدّد من غيرهم ، وقوله «وحظر ...» مؤيّد لأن يكون المراد بما علم ما علم أنّه ورد عنهم فقط ؛ وإلاّ كان الأنسب أن يقال «فحظر» بالفا ، إلاّ أن يكون الأوّل ذكره لورود ما يدلّ عليه ، والثاني لقوله تعالى : « أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَ_اقُ الْكِتَ_ابِ أَن لاَّيَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ » (1) وقوله تعالى : «بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ» (2) فتأمّل . قوله : (لِما أرادَ اللّه تبارك وتعالى مِن اسْتِنْقاذِ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِهِ) . هذه (3) علّة لجميع ما تقدّم ممّا يصلح كونه علّة له ، والمعنى : أنّ اللّه (4) تعالى فعل كذا وكذا ؛ لإرادة استنقاذ من شاء من خلقه . واعلم أنّ ضمير «شاء» يحتمل وجهين . أحدهما _ وهو الظاهر _ : أن يكون راجعا إلى اللّه تعالى ، والمعنى حينئذٍ : أنّ اللّه تعالى يستنقذ بحججه ودلائله مَن تعلّقت مشيّته باستنقاذه ، ولا يستنقذ من لم يشأ استنقاذه . وخلقه تعالى أقسام : منهم من يكون له به تمام العناية ، بأن يسدّده ويوفّقه لقبول الحقّ والعمل به زيادةً عن أصل اللطف الذي يشترك فيه هذا وغيره ، وتعلّق الاستنقاذ والمشيّة بهذا ظاهر . وقسمٌ يختار من نفسه الطاعة بالاختيار الذي أعطاه اللّه تعالى كلّ مكلّف ، وهذا أيضاً قد شاء اللّه استنقاذه . ولا يتوهّم من هذا القسم كون الأوّل مجبوراً ؛ فإنّ لطف اللّه تعالى به زيادةً عن غيره لا يقتضي سلب الاختيار ، نعم قد يتّحد مع هذا بأن يكون سبب تلك العناية طاعته وانقياده. وقسمٌ خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً . وهؤلاء قد يشاء اللّه إدخالهم أو بعضهم في قسم المستنقذين بالعفو عنهم ، وقد لا يشاء بمقتضى عدله . وقسمٌ بقوا على كفرهم أو ضلالتهم وهؤلاء لم يشأ اللّه استنقاذهم ؛ من حيث إنّهم اُعطوا القدرةَ والاختيار ، واتّبعوا أهواءهم من غير جبرٍ لهم على ذلك . ولو شاءاللّه أن يجبر هؤلاء على الطاعة لفَعَلَ ، ولكن حكمة التكليف اقتضت ذلك ، كما قال اللّه (5) تعالى : « وَ لَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَأَمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ » (6) . فمشيّة اللّه تعالى لاستنقاذ من شاء من حيث إنّهم يختارون الطاعة ، أو من حيث علمه بمَن يُطيع ومن لا يُطيع ؛ شاء أن يستنقذ المطيع بالحجج التي يتبعها . وعلمه تعالى غير مؤثّر في المعلوم . والمشيّة لها معانٍ متعدّدة ، لكلّ مقام منها معنى ؛ وستأتي إن شاءاللّه تعالى . الوجه الثاني : أن يكون راجعا إلى «من» وهو عائد الموصول . والمعنى حينئذٍ : أنّه تعالى نَصَبَ الحجج والدلائل لتعلّق إرادته باستنقاذ مَن شاء مِن الخَلْق الاستنقاذ أو الطاعة وعمل بما يقتضيه . وهذا الوجه بحسب المعنى لا تدخله شبهة من شبه أهل الجبر . والمفعول كثيراً مّا يحذف لقرينة ، والقرائن هنا كثيرة ، حاليّة ومقاليّة ، إلاّ أنّه خلاف الظاهر من هذا التركيب . وهذا الوجه يقرب من معنى قوله تعالى : « فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِى سَبِيلاً » (7) ، وقوله تعالى : « لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ » (8) فإنّه يدلّ ظاهراً _ واللّه أعلم _ على أنّ اللّه تعالى أعطى عباده القدرة والاختيار لسلوك السبيل إلى اللّه والاستقامة وعدمها ، مع ما تظافرت به الأدلّة على نفي الجبر وتكليف مالا يطاق ، واستلزام ذلك العبث في حقّه تعالى ونسبة الظلم إليه . فإن قلت : ما بعد ذلك _ وهو قوله تعالى : « وَ مَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَ_الَمِينَ » (9) _ يدفع ذلك . قلت : بعد أن علم وتقرّر أنّ اللّه تعالى منزّه عن الظلم والعبث والاضطراب في كلامه ، فأيّ وجه لكونه تعالى يعد ويهدّد ويقول : من شاء فعل كذا ، ثمّ يأتي بما يدلّ على أنّهم ليس لهم قدرة على ذلك ؛ فلابدّ من الحمل على معنى لا يتناقض به كلامه تعالى . وقد ذكر أهل العدل والحقّ في تفسيرهم أنّ المعنى : وما تشاؤون ذلك إلاّ أن يشاء اللّه إجباركم على الاستقامة واتّخاذ السبيل إليه . أقول : فالخطاب للجميع ، والمعنى أنّ الجميع لا يفعلون إلاّ أن يجبر من لا يفعل ؛ فيتعلّق الفعل بالجميع ؛ أو أنّ الخطاب لمن لم يشأ ؛ واللّه أعلم ؛ أو ما تشاؤون ذلك إلاّ واللّه يشاؤه . ويخطر بالبال وجه يرجع إلى الثاني ، وهو مقتضى هذا التركيب ، وذلك أنّ «أن» مع ما بعدها في تأويل المصدر . فالمعنى _ واللّه أعلم _ : وما تشاؤون إلاّ مشيّة اللّه ، بمعنى أنّ اتّخاذ السبيل والاستقامة ممّا يشاؤه (10) اللّه لكم ويرضيه ؛ فمشيّتكم لا تخالف ما يشاؤه ويرتضيه . والظاهر أنّ هذا المرادُ من عبارتهم . فإن قلت : قد ورد في الحديث : «ما شاء اللّه كان ، ومالم يشأ لم يكن» (11) فكيف وجهه؟ قلت : قد خطر لي في توجيهه أوجه : (12) أحدها : أن يكون المعنى أنّ كلّ شيء تتعلّق به مشيّة اللّه (13) تعالى يكون ، بخلاف مشيّة غيره ، فإنّه لا يكون كلّ ما يشاؤه ؛ وما لم يشأ لم يكن ، بخلاف غيره ، فإنّ الذي لا يشاؤه قد يكون . ونحوه ما في الدعا :«يامن يفعل ما يشاء ، ولا يفعل ما يشاء غيره» . (14) الثاني : أن يكون معنى «ماشاء اللّه كان» كما تقدّم ، و«مالم يشأ لم يكن» بمعنى : مادام لم تتعلّق به مشيّته لم يكن ، بخلاف العبد ، فإنّ الشيء قد يكون بمشيّة اللّه تعالى وإن لم تتعلّق به مشيّة العبد . الثالث : أن يكون معنى «مالم يشأ لم يكن» : ماشاء أن لا يكون لم يكن ؛ لمقابلة ما قبله ، نحو قوله تعالى : «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الظَّ_الِمُونَ » (15) فإنّ ظاهره _ واللّه أعلم _ أنّ المعنى : ومن يحكم بغير ما أنزل اللّه ؛ لأن لا يدخل في الحصر من لم يحكم بشيء أصلاً . ومثلُه كثيرٌ . الرابع : أن يكون معنى المشيّة هنا فيما يتعلّق بفعل العبد أن يتركه على حاله ، ولا يحول بينه وبين الفعل ، فيصدق حينئذٍ أنّ كلّ ماشاء اللّه كان ممّا يشمل فعل العبد ، وإن كان اللّه تعالى لا يريده منه ولا يرتضيه ، ومالم يشأ بمعنى مَنَعَه منه فيما يتعلّق به ، وما يتعلّق به تعالى وجهه ظاهر . وبهذا المعنى فسّر الصدوق رحمه اللّه في كتاب الخصال ما يقرب من هذا (16) ، وأظنّه في كتاب التوحيد أيضا . وقد يفسّر المشيّة في نحو هذا بالعلم ، بمعنى أنّ كلّ ما علم اللّه أنّه يكون ، فلابدّ أن يكون ، وما علم أن لا يكون ، فلا يكون . وفي كلّ هذه الأوجه تنزيه له تعالى عن القبيح الذي يلزم من قول أهل الجبر ، وتمسّكهم بمثله . وإنّما أطلنا الكلام هنا لأنّ ما ذكر لعلّه ينفع في مواضع اُخر ؛ واللّه تعالى أعلم . فإن قلت : هل يجوز أن تكون «لمّا» مشدّدة بمعنى «حين»؟ قلت : وجود «من» ينافي هذا الوجه ، ولولاها لصحَّ أيضاً .

.


1- . الأعراف (7) : 169 .
2- . يونس (10) : 39 .
3- . في «ألف ، ب ، ج » : «هذا» .
4- . في «ج» : «أنّه» بدل «أنّ اللّه » .
5- . في «ألف ، ب» : «قاله» بدل «قال اللّه » . وفي «د» : - «اللّه » .
6- . يونس (10) : 99 .
7- . المزّمّل (73) : 19 .
8- . التكوير (81) : 28 .
9- . التكوير (81) : 29 .
10- . في «ج» : «بما يشاؤه» .
11- . الزهد لحسين بن سعيد ، ص 14 ، باب الأدب والحثّ على الخير ، ح 28 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 571 ، باب الحرز والعوذة ، ح 10 ؛ وج8 ، ص 81 ، ح 39 ؛ الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ح 5868 ؛ الأمالي للصدوق ، المجلس 74 ، ح 1 ؛ الخصال ، ص 630 .
12- . في حاشية «ألف ، د» : «رأيت لشيخنا المفيد _ قدّس اللّه روحه و نوّر ضريحه _ بعد كتابة هذا الكتاب بنحو عشر سنين رسالةً ، وفيها ما هذا لفظه [ في د : رأيت رسالة للشيخ المفيد _ طاب ثراه _ في العقايد بعد كتابة ما هنا ، وفيها ما هذا لفظه ] : قول المسلمين : ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن ، يعنون بذلك منه أفعاله تعالى خاصّة ، دون افعال المكلّفين ، يشهد بذلك قوله تعالى : « وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ » [ البقرة (2) : 205 ]و « وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُ_لْمًا لِّلْعِبَادِ » [ غافر (40) : 31 ] انتهى [ في د : وهو صريح فيما ذكرته ] . (الف : منه عفا اللّه عنه) ؛ (د : منه دام تأييده) » .
13- . في «ألف ، ب» : «مشيّته» .
14- . الكافي ، ج 2 ، ص 549 ، باب الدعاء في إدبار الصلوات ، ح 9 ؛ الدعوات ، للراوندي ، ص 45 ، فصل في ألحّ الدعاء وأوجزه ، ح 112 ؛ فلاح السائل ، ص 165 ، الفصل التاسع عشر فيما نذكره من فضل صلاة الظهر و ... ؛ مهج الدعوات ، ص 238 ، ومن ذلك دعاء مستجاب ؛ عدّة الداعي ، ص 61 ؛ المصباح ، للكفعمي ، ص 257 ، الفصل الثامن والعشرون في أدعية لها أسماء معروفة ؛ البلد الأمين ، ص 39 .
15- . المائدة (5) : 45 .
16- . الخصال ، ص 631 .

ص: 94

. .

ص: 95

. .

ص: 96

. .

ص: 97

. .

ص: 98

من ملمّات الظُلَم ، ومَغْشِيّاتِ البُهَمِ . وصلّى اللّه ُ على محمّد وأهلِ بيته الأخيار الذين أذهَبَ اللّه عنهم الرجسَ وطَهَّرَهم تطهيرا . أمّا بعد ، فقد فَهِمتُ يا أخي ما شكوتَ من اصطلاح أهل دَهْرِنا على الجَهالةِ وتَوازُرِهم وسَعيِهم في عِمارة طُرُقِها ، ومُبايَنَتِهم العلمَ وأهلَه ، حتّى كادَ العلمُ معهم أن يَأزِرَ كلُّه

قوله : (مِن مُلِمّاتِ الظُّلَمِ) . «الملمّات» جمع ملمّة ، وأصلها النازلة من نوازل الدهر . والإضافة وصفيّة ، أو لاميّة. قوله : (ومَغْشِيّاتِ البُهَمِ) أي مغطيّاتها . و«البُهَم» جمع بُهمة ، وهي الخطّة الشديدة ؛ أو أنّها مأخوذة من البُهْمَة ، وهي الفارس الذي لا يدري من أين يؤتى ، فاستعيرت لما يغطّي الإنسان بحيث يستوعب جميع بدنه ممّا يشاء به ويضرّه من الجهل والضلال وما شابههما (1) ؛ أو من البُهْمَة ، وهي الصخرة أو الجيش . والأوّل أظهر ، ولا تكلّف فيه . قوله : (أمّا بعدُ ، فقد فَهِمْتُ يا أخي ما شَكَوْتَ من اصطلاحِ أهلِ دَهْرِنا على الجَهالة ...) . لا شبهة في أنّ كلّ علمٍ لم يكن مأخوذاً عن اللّه ورسوله والأئمّة عليهم السلام وما يتوقّف عليه فهو جهلٌ . والمراد من «أهل الدهر» من كان علمهم ناشئا عن الاجتهاد الذي ليس له أصل يجوز الأخذ به ، من مثل الرأي والقياس والاستحسان . وهذا الأمر الذي توازر عليه أهل الدهر ، أي تعاونوا عليه وحملوا أثقاله وإثمه من الوزر ، وهو الإثم والثقل . قوله : (حتّى كادَ العلمُ مَعَهُم أنْ يَأرِزَ (2) ) بتقديم المهملة على المعجمة ، أي يتضامّ ويتقبّض . والمراد عدم اشتهاره وانتشاره ، يقال : أرزَ فلان يأرز أرزاً وأروزاً : إذا تضامّ وتقبّض من بخله .

.


1- . في «ج» : «وما يشابههما» . وفي «د» : «وما تشابههما» .
2- . كذا في كثير من نسخ الكافي ، و في حاشية بعض نسخ الكافي والمطبوع : «يأزر» بمعنى يضعف ، وفي بعض نسخ أُخرى للكافي : «يأرن» بمعنى يهلك وينعدم . استظهر العلاّمة المجلسي تقديم المهملة على المعجمة ، أي «يأرز» ، ولم يستعبد المازندراني العكس ، وأمّا السيّد الداماد والصدر الشيرازي فقد أورداها بتقديم الراء على الزاي . قال المازندراني : «أن يأزر كلّه ... أي يجتمع كلّه في زاوية النسيان ، من أزرت الحيّة إلى جحرها : إذا انضمّت إليها واجتمع بعضها إلى بعض فيها» . انظر : التعليقة ، للداماد على الكافي ، ص 10 ، وشرح ملاّ صدرا ، ج 1 ، ص 190 ؛ وشرح المازندراني ، ج 1 ، ص 44 ؛ ومرآة العقول ، ج 1 ، ص 15 ؛ والصحاح ، ج3 ، ص 864 ؛ والنهاية ، لابن الأثير ، ج 1 ، ص 37 (أرز) .

ص: 99

ويَنقطِعَ موادُّه ، لما قدرَضوا أن يَستَنِدوا إلى الجهل ، ويُضيّعوا العلمَ وأهلَه . وسألتَ : هل يَسَعُ الناسَ المُقامُ على الجَهالةِ ، والتديّنُ بغير علم ، إذا كانوا داخلين في الدين ، مُقرّين بجميع اُموره على جهة الاستحسان ، والنشوءِ عليه ، والتقليدِ للآباء والأسلافِ والكبراء ، والاتّكالِ على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلِها ؟

قوله : (وتَنْقَطِعَ مَوادُّه) أي اُصوله ، وهي الآثار المأخوذة عن (1) أهل العلم عليهم السلام . قوله : (لِما قَدْ رَضُوا أنْ يَستَنِدوا) أي لأجل ميلهم (إلى الجهلِ) ، فإنّ فيه تسهيلاً (2) لمشاقّ التكليف ، وهو الحاصل من استحسان ماتهوى أنفسهم ، ولانحرافهم عن أهل العلم وحسدهم إيّاهم على ما آتاهم اللّه من فضله . وفي ذلك تضييع للعلم الحقيقي ولأهل العلم ، أي لمعرفة قَدْرهم ومنزلتهم والانقياد إليهم فيما فيه النجاة . وقد يكون في ذلك تضييع لنفوس أهل العلم من قتل ونحوه ، كما وقع للأئمّة عليهم السلام ولغيرهم من العلماء . قوله : (إذ كانوا داخِلينَ في الدينِ ، مُقِرِّينَ بجميعِ اُمورِه على جَهَةِ الاستحسانِ) يعني أنّهم داخلون في دين الإسلام ، وليسوا من أقسام الكفّار ، ولكن اُمورهم التي يدّعون أنّهم بها مسلمون وبها عاملون بشرائط الإسلام مأخوذة من جهة الاستحسان والنشوء عليه إلخ ، فلا إيمان ولا إسلام إلاّ بحسب الظاهر .

.


1- . في «ج» : «وهي الاثارة المأخوذة من» بدل «وهي الآثار المأخوذة عن» .
2- . في «ج» : + «إليهم» .

ص: 100

فاعلم يا أخي _ رحمك اللّه _ أنّ اللّه _ تبارك وتعالى _ خلَق عبادَه خِلْقةً منفصلةً من البهائم في الفِطَنِ والعقولِ المركّبةِ فيهم ، محتملةً للأمر والنهي ، وجعَلهم جلّ ذكرُه صنفين : صنفا منهم أهلَ الصحّة والسلامة،وصنفا منهم أهلَ الضرر والزمانة.فَخَصَّ أهلَ الصحّة والسلامة بالأمر والنهي ، بعد ما أكْمَلَ لهم آلةَ التكليف ، ووَضَعَ التكليفَ عن أهل الزمانة والضرر ؛ إذ قد خلَقهم خِلْقَةً غيرَ محتملةٍ للأدبِ والتعليمِ ، وجعَل عزّ وجلّ سَبَبَ بقائهم أهلَ الصحّة والسلامة ، وجعَل بقاءَ أهلِ الصحّة والسلامة بالأدب والتعليم . فلو كانت الجَهالة جائزةً لأهل الصحّة والسلامة لجازَ وَضْعُ التكليفِ عنهم ، وفي جواز ذلك بطلانُ الكتب والرسلص 6 والآداب ، وفي رفع الكتبِ والرُّسُلِ والآدابِ فسادُ التدبير ، والرجوعُ إلى قولِ أهل الدهر ؛

قوله : (مُحْتَمِلَةً للأمرِ والنهي) . أراد هنا أنّ خلقة الإنسان محتملة للأمر والنهي بالنسبة إلى خلقة البهائم ؛ فهو في معنى إرادة الطبيعة من حيث هي ، أو بإرادة المجموع من حيث المجموع ، لا الحكم على الأفراد ؛ لأن لاينافي قوله بعد : (ووَضَعَ التكليفَ عن أهلِ الزَّمانَةِ والضررِ ؛ إذْ قد خَلَقَهُم خِلْقَةً غيرَ مُحتَمِلَةٍ للأدبِ والتعليمِ) . قوله : (وجَعَلَ عزّ وجلّ سببَ بقائهم أهلَ الصحّةِ والسلامةِ ، وجَعَلَ بقاءَ أهلِ الصحّةِ والسلامةِ بالأدَبِ والتعليمِ ، فلو كانَتِ الجَهالَةُ جائزةً لأهلِ الصحّةِ والسلامةِ ، لجازَ وَضْعُ التكليفِ عنهم ، وفي جوازِ ذلك بُطلانُ الكُتُبِ والرُّسُلِ والآدابِ ، وفي رَفْعِ الكُتُبِ والرُّسُلِ والآداب فَسادُ التدبيرِ ، والرجوعُ إلى قولِ أهلِ الدَّهْرِ) . حاصل الكلام في هذا المقام : أنّ اللّه سبحانه وتعالى اقتضت حكمته خَلْق الإنسان للتكليف الذي أراده وما يتبعه ، قال تعالى : « وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ » (1) . وقد ثبت أنّ فعله تعالى منزّه عن العبث بقوله : « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَ_اكُمْ عَبَثًا » (2) وغيرِه ممّا يدلّ على التكليف ونفي العبث ؛ وعلى أنّه تعالى إنّما يفعل الأشياء لحِكْمةٍ وغَرَضٍ يعود نفعه على العبد فيما يتعلّق به . والأدلّة على ذلك قد تظافرت عقلاً ونقلاً . فإذ أثبت ذلك وأخبر اللّه تعالى به ، لَزِمَ تحقّق وقوع التكليف ، ووَجَبَ على اللّه سبحانه _ بمعنى عدم التخلّف _ أن ينصب للمكلّف ما يدلّه (3) على طريق التكليف وجهته ؛ لقبح تكليف الغافل ومالا يطاق ؛ ووَجَب أن يعطي المكلّف ما يتوقّف عليه التكليف ويحصل به من العقل والآلات ، بحيث يقدر على ما اُريد منه . وقد أنْزَل اللّه سبحانه الكُتُب وأرْسَل الرُّسُل ونحوهم لتعليم المكلّف ما كُلّف به واُريد منه ، فلو جوّز الجهل وعدم العلم من المكلّف ، كانَ ذلك بخلاف ما اقتضته الحكمة وما أخبر تعالى بوقوعه ، ونقضاً للغرض الذي ثبت . ولو ارتفع التكليف وجاز الجهل ، لاَسْتَلْزَمَ بطلان الكُتُب والرسل ؛ لأنّ وجودهم لأجل المكلّفين وتعليمهم ، فوجودهم حينئذٍ عَبَثٌ لا يجوز على الحكيم ، وفي بطلان ذلك فساد التدبير ؛ لأنّ اللّه سبحانه اقتضى تدبيرُه وحكمته إيجاد المكلّفين وتكليفهم ، فارتفاع الكتب لبطلانها المترتّب على جواز رفع التكليف الموجب لعدم بقاء أهل التكليف بعد الإخبار بوقوعه وإرادة الغرض منه فسادٌ في تدبير ما يراد من الغرض ، أو جهل من صاحب الغرض ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً . وفساد التدبير أو الجهل يدلّ على فساد المدبّر ، وهذا ينافي إثبات الصانع الحكيم . وإذا كان الصانع بهذه الصفة ، رجع الأمر إلى قول الدهريّة من التعطيل ، وعدم وجود صانع مدبّر للعالم ؛ فثبت المطلوب ، وهو عدم جواز الجهل ورفع التكليف . ولو ارتفعت الكُتُب والرُّسُل مع بقاء التكليف ، كانَ في ذلك أيضاً فسادُ التدبير الذي خُلقوا لأجله ؛ لأنّ في إرادة شيء من المكلّف لا يعرف وجه الوصول إليه _ والعقل غير مستقلّ بمعرفته _ فسادا للتدبير على نحو ما ذُكر . وأمّا أهل الضرر والزمانة _ وهما الجنون وكلّ ما يرتفع معه التكليف _ فإنّهم وإن لم يتعلّق بهم التكليف ، لكن وجودهم بسبب وجود المكلّفين ؛ لأنّهم لولاهم لم يوجدوا ، فضلاً عن البقاء ؛ لعدم أهليّتهم (4) لما يتعلّق به الغرض ، فيكون وجودهم وبقاؤهم وحدهم عبثاً ومنافياً للحكمة . ومع وجود المكلّفين يحصل الغرض من التكليف . ولا ينافيه وجود غير المكلّف ، ومن التكليف إعانتهم ومساعدتهم على ما يحتاجون إليه وحفظهم ، فيحصل الثواب بذلك . وبالجملة ، فمع وجود المكلّفين يرتفع سبب عدم بقائهم ، فوجودهم تابعٌ لوجودهم ، وبقاؤهم تابعٌ لبقائهم كبقيّة مخلوقاته تعالى من الحيوانات وغيرها التي خُلقت لأجلهم . وإذا كان بقاء المكلّفين لأجل التكليف ، فإذا ارتفع ارتفعوا ، فلم تبق أهل الضرر والزمانة . وقد ورد أنّ الأرض لو خَلَتْ من الإمام لساخَتْ بأهلها . (5) وأنّ الأئمّة عليهم السلام أركان الأرض أن تميد بأهلها . (6) ومثلُه كثيرٌ . وفائدة بَعْث الأنبياء والرسل ونَصْب الأئمّة عليهم السلام دلالة المكلّف وإثبات الحجّة عليه ، فإذا ارتفع التكليف ارتفع ذلك ، فامتنع بقاء المكلّف ، فيمتنع بقاء أهل الضرر والزمانة . وورد أيضاً ما معناه أنّ في الأرض مَن بهم يحصلُ الرزق ، وبهم ينزل القطر . (7) وظاهره أنّه غير مخصوص بالأئمّة عليهم السلام ؛ وذلك فَرْع تكليف من بهم يحصل ذلك ، فيكون بقاء المكلّف سبباً لبقاء غيره ، إلاّ أن يكون المراد من الرزق زيادته ووفوره الذي يحصل بسببه عدم القحط . ولعلّ هذا أظهر ؛ فإنّ بقاء التكليف المقتضي لوجود الإمام لا يرتفع معه ذلك بالكلّيّة ، إلاّ أن يكون المراد الأئمّة عليهم السلام ونحوهم ، فيرجع إلى السابق . ويحتمل أن يراد ببقائهم أنّ التكليف به ينتظم أمر المعاش ، وأهل الضرر والزمانة لا يتمّ بهم انتظام المعاش ، فسبب بقائهم وتعيّشهم وجود المكلّفين الذين يوصلون إليهم ما به تقوم معيشتهم بحسب ماجرت به العادة . ولكن يأتي ما يبعّد هذا من قوله : (وكانوا (8) يَكونونَ عند ذلك بمنزلةِ البَهائم ، ومَنزلةِ أهلِ الضررِ والزمانة ، ولو كانوا كذلك لما بَقُوا طَرْفَةَ عَينٍ ، فلمّا لم يَجُزْ بَقاؤهم إلاّ بالآداب (9) والتعلّم (10) لم يجز (11) ...) . وكيف كان ، فقد جعل اللّه سبحانه بقاءهم منوطاً ببقاء أهل التكليف ، وبقاء أهل التكليف منوطاً بوجوب التكليف والتعلّم ، فإنّ وجودهم وبقاءهم لما خلقوا لأجله ، فإذا انتفى انتفيا . أو يقال : إنّ في ذلك انتظام حالهم الذي يترتّب عليه الغرض ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب منوطان بوجود المكلّفين ؛ وقد ثبت جميع ذلك . فإن قلت : لم لا يمكن البقاء مع رفع التكليف وأن يكون من باب البداء ؟ قلت : بعد أن أخبر سبحانه بأنّه خَلَقهم للتكليف ، وترتّب الثواب والعقاب عليه للمطيع والعاصي ، وأنّ ذلك كائن إلى انقضاء الدنيا ، وأنّه يُجازيهم (12) في الآخرة على ذلك ؛ فوقوع خلاف ذلك مخالف لما أخبر به وظهر من حكمته وإرادته ؛ فلا يتصوّر البداء في مثل هذا ؛ فإنّه يستلزم وقوع الكذب ؛ تعالى اللّه عن ذلك . واحتمال النَّسْخ يندفع بنحو ما ذكر في البداء .

.


1- . الذاريات (51) : 56 .
2- . المؤمنون (23) : 115 .
3- . في «ج» : «ما يدلّ» .
4- . في «ج» : «أصليّتهم» .
5- . مرّ تخريجه قبيل هذا .
6- . مرّ تخريجه قبيل هذا .
7- . علل الشرايع ، ج1 ، ص124 ، باب 103 ، ح1 ؛ كمال الدين ، ج1 ، ص259 ، باب 24 ، ح5 ؛ إعلام الوري ، ص399 ؛ القصص ، للراوندي ، ص366 ، ح439 ؛ وفي بحار الأنوار ، ج23 ، ص19 ، باب الاضطرار إلى الحجّة ، ح14 عن علل الشرايع ؛ وج36 ، ص254 ، باب نصوص الرسول ... ، ح69 ، عن كمال الدين .
8- . كذا في كثير من نسخ الكافي ، وفي بعض نسخه والمطبوع : «وكادوا» .
9- . في كثير من نسخ الكافي والمطبوع «بالأدب» .
10- . كذا في جميع النسخ ، وفي الكافي المطبوع ونسخه : «بالتعليم» .
11- . كذا في جميع النسخ ، وفي الكافي المطبوع ونسخه : «وجب ...» بدل «لم يجز ...» .
12- . في «ب» : «مجازيهم» .

ص: 101

. .

ص: 102

. .

ص: 103

. .

ص: 104

فوَجَبَ في عدلِ اللّه _ عزّ وجلّ _ وحكمتِه أن يَخُصَّ مَن خلَق من خَلْقِه خِلْقةً محتملةً للأمر والنهي بالأمر والنهي ، .........

قوله : (فَوَجَبَ في عدلِ اللّه ِ وحِكْمَتِه أنْ يَخُصَّ مَن خَلَقَ مِن خَلْقِه خِلْقَةً مُحْتَمِلَةً للأمرِ والنهي بالأمرِ والنهي) إلى آخره . أي فوجب بمقتضى عدل اللّه وحكمته أن يخصّ من الخلق من يتحمّل الأمر والنهي ، فإنّ تعلّق الأمر والنهي بالمحتمل وغيره ظلم ، وكذا غير المحتمل ، واللّه تعالى منزّه عنه ، وذلك مناف للحكمة أيضاً ؛ فإنّ الحكيم هو الذي يفعل الأشياء المحكمة المتقنة بحيث لا يشوبها شيء ممّا ينافيها ، ويضع الأشياء مواضعها ، وفعل غير ما ذكر منافٍ للحكمة ، ومقتضى العدل والحكمة أنّه يجب عليه تعالى ذلك ، أو يجب اعتقاده . وتعلّق الوجوب به تعالى بمعنى أنّ الشيء الذي يليق بجنابه ولا يجوز أن يتخلّف عنه ثابتٌ له تعالى ولازمٌ ، وليس المراد الوجوب الذي يترتّب على تركه الذمّ أو (1) العقاب المتعلّق بالمكلّف . وعلى هذا المعنى يتوجّه إنكار الأشاعرة ، وهذا لم يقل به أحد . والمعنى الأوّل لا وجه لإنكاره ؛ وذلك لإنكارهم (2) البداء على الإماميّة ، فإنّهم قرّروا من أنفسهم شيئاً يتوجّه عليه الاعتراض ، والإماميّة بريئون منه ، وهو ظهور شيء لم يكن ظاهراً . وسيأتي إن شاء اللّه في بابه .

.


1- . في «ألف ، ب» : - «الذمّ أو» .
2- . في «ألف ، ب» : «كإنكارهم» .

ص: 105

لئلاّ يكونوا سُدًى مُهمَلينَ ؛ ولِيُعَظِّموه ويُوَحِّدوه ، ويُقِرُّوا له بالربوبيّة ، ولِيَعْلَموا أنّه خالقُهم ورازقُهم ؛ إذ شواهدُ ربوبيّته دالّةٌ ظاهرةٌ ، وحججُه نيّرةٌ واضحةٌ ، وأعلامُه لائحةٌ تَدعوهم إلى توحيد اللّه عزّ وجلّ ، وتَشهَدُ على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهيّة ؛ لما فيها من آثار صُنعه ، وعجائبِ تدبيرِه ، فَنَدَبَهم إلى معرفته لئلاّ يُبيحَ لهم أن يَجهلوه ويَجهلوا دينَه وأحكامَه ؛ لأنّ الحكيمَ لا يُبيحُ الجهلَ به ، والإنكارَ لدينه ، فقالَ جلّ ثناؤه : « أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَ_اقُ الْكِتَ_ابِ أَن لاَّيَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ » وقال : « بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ » ، فكانوا محصورين بالأمر والنهي ، مأمورينَ بقول الحقّ ، غيرَ مرخَّصٍ لهم في المُقام على الجهل ، أمَرهم بالسؤال والتفقّهِ في الدين ، فقال : « فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَ_آل_ءِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ » وقال : « فَسْ_الُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » .

قوله : (لِئلاّ يَكونوا سُدىً مُهمَلينَ) . «السُّدى» بالضمّ : المهمل ، فقوله : «مهملين» تفسيرٌ وتاكيدٌ . قوله: (فَنَدَبَهُم إلى مَعرِفَتِه لِئلاّ يُبيحَ لهم أن يَجهَلوه ويَجهَلوا دينَهُ وأحكامَهُ) أي لأجل أنّه لم يبح لهم جهله وجهل دينه وأحكامه ، فندبهم إلى معرفته ، أي دعاهم إليها . وأراد بمعرفته ما يدخل تحته معرفة دينه وأحكامه ، فإنّ معرفته تعالى لا تتمّ إلاّ بذلك ، أو أنّها تستلزمه ليناسب التعليل . قوله : (فقالَ جَلَّ ثَناؤه : « أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَ_اقُ الْكِتَ_ابِ أَن لاَّيَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ » (1) ) أي نَدَبَهم ودَعاهم ، أو اَمَرهم إلخ . فقال : وكأنّه _ قدّس سرّه _ استدلّ بالآية من حيث إنّهم أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا فيما يتعلّق به تعالى _ من المعرفة والدين والأحكام _ بغير الحقّ مع ضميمة التكليف واضطرارهم إلى القول واحتياجهم إليه وإنّهم لم يخلوا منه ؛ فهو يستلزم أمرهم ودعاءهم إلى معرفة الحقّ ليقولوه فيما يتعلقّ به تعالى ، وإلاّ فمجرّد ظاهر الآية كأنّه غير مستقلّ بالمراد . ويمكن أن يقال : إنّ قولك مثلاً : «عاهدتُك على أن لا تفعل إلاّ هذا ، ولا تقول إلاّ هذا» معناه : افعل ما عاهدتك عليه وحده ، فتكون الآية من هذا القبيل ، بمعنى أنّ اللّه تعالى أمرهم بقول الحقّ وحده ؛ واللّه تعالى أعلم ، والآية الاُخرى ظاهرة في ذمّهم على الجهل . وفي باب النهي عن القول بغير علم من هذا الكتاب عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «إنّ اللّه خصّ عباده بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا حتّى يعلموا ، ولا يردّوا ما لم يعلموا ؛ قال اللّه عزّ وجلّ : « أَلَمْ يُؤْخَذْ » » وذكر الآيتين . (2) وعن زرارة ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام : ما حقّ اللّه على العباد؟ قال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون» . (3)

.


1- . الأعراف (7) : 169 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 43 ، باب النهي من القول بغير علم ، ح 8 .
3- . المصدر ، ح 7 .

ص: 106

فلو كانَ يَسَعُ أهلَ الصحّة والسلامة المقامُ على الجهل ، لما أمَرَهم بالسؤال ، ولم يَكُنْ يَحتاجُ إلى بَعْثة الرسل بالكتب والآداب ، وكانوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم ، ومنزلةِ أهل الضرر والزمانة ، ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفةَ عَيْنٍ ، فلمّا لم يَجُزْ بقاؤُهم إلاّ بالأدب والتعليم ، وجَب أنّه لابُدَّ لكلّ صحيح الخِلْقة ، كاملِ الآلة من مؤدِّبٍ ودليلٍ ومشيرٍ ، وآمِرٍ وناهٍ ، وأدبٍ وتعليمٍ ، وسؤالٍ ومسألةٍ .

قوله : (فلَمّا لم يَجُزْ بَقاؤهم إلاّ بالأدَبِ والتعليم) أي فلمّا اقتضت حكمة التكليف ذلك ، وَجَبَ على اللّه تعالى من لطفه أن ينصب للمكلّف بعد اعطائه الصحّة والآلة _ التي هي العقل _ مؤدِّباً ومشيراً وآمراً وناهياً وأدبا يؤدّب به ، ووَجَبَ على المكلّف المسألة والتأدّب ، فيجب عليه الفحص عن ذلك ، وأخذه عمّن نَصَبَه اللّه له ؛ فيكون على بصيرة ويقين ممّا هو مأمور بالأخذ به وعنه . والأخذ عن غيره أخذٌ للشيء من غير موضعه ، فهو جهل وضلال ، فيجب على العاقل الصحيح تدبّر ذلك ، وأخذه من عين صافية .

.

ص: 107

فأحقّ ما اقْتَبَسَه العاقلُ ، وَالْتَمَسَه المتدبِّرُ الفطنُ ، وسعى له الموفَّقُ المصيبُ ، العلمُ بالدين ، ومعرفةُ ما استعبدَ اللّه ُ به خَلْقَه من توحيده ، وشرائعِه وأحكامِه ، وأمرِه ونهيه ، وزواجِرِه وآدابِه ؛ إذ كانت الحجّةُ ثابتةً ، والتكليفُ لازما ، والعمرُ يسيرا ، والتسويفُ غيرَ مقبولٍ . والشرطُ مِن اللّه _ جلّ ذكره _ فيما استعبد به خلقَه أن يُؤدّوا جميعَ فرائضه بعلم ويقينٍ وبصيرةٍ ؛ ليكونَ المؤدِّي لها محمودا عند ربِّه ، مُستوجِبا لثوابهِ وعظيمِ جزائه ؛

قوله : (والشرطُ مِنَ اللّه ِ _ جلَّ ذِكْرُه _ فيما استعبَدَ به خَلْقَه أن يُؤدّوا جميعَ فرائضِه بعِلْمٍ ويقينٍ وبصيرةٍ) . يحتمل أن يكون المراد بالعلم العلمَ العادي الشامل للظنّ القويّ (1) ؛ لما علم أنّه في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله كان العمل بالظنّ كثيراً ، وكذا في زمن الأئمّة عليهم السلام ، فإنّه يستبعد _ بل قد يقال بامتناع _ وصول الأحكام إلى جميع المسلمين على سبيل القطع والعلم الجازم المطابق للواقع ، فإنّ الناس كانوا يؤمرون بما يصل إليهم ممّن يعلم أنّه غير معصوم . وأمر المعصوم باتّباع قوله لا يدلّ على أنّه لا يقول إلاّ ما هو معصوم فيه عن الخطأ ، وتكليفُ كلّ أحدٍ بتحصيل العلم المذكور بمشافهةٍ وتواترٍ ونحوهما والعمل به لا بغيره يَستلزمُ حرجاً زائداً ومشقّةً عظيمةً . فعلى هذا يكون المراد _ واللّه أعلم _ أنّ الإنسان ينبغي أن يكون علمه وعمله مأخوذين عن أهل العلم عليهم السلام بحسب ما يصل إليه على وجه يحصل له به القطع أو الظنّ . ومَن لم يكن عنده أثر من هذا العلم ، كانَ على غير يقين وبصيرة ، وكان شاكّاً في أنّ ما عمله برأيه وقياسه هل يكون موافقاً لحكم اللّه ، أو لما كان يصل إليه ويظنّ أنّه حكم اللّه فيعمل به ولو على سبيل الانقياد والتسليم ، أم لا؟ وممّا يؤيّد هذا الحمل اختلاف المتقدّمين في المسائل وتغليطُ بعضهم بعضاً ، مع قربهم من زمان الأئمّة عليهم السلام ، ومعاصرة بعضهم لهم ، ولم يكن أحدٌ يعتمد على مجرّد نقل الآخر إلاّ بقرائن معها تفيدهم ذلك ؛ والعلم لا يكون مناطاً للاختلاف ، بل العلم العادي الشامل للظنّ يترتّب عليه ذلك منهم ومن غيرهم . ولو فرض القطع بألفاظ المتن بتواترٍ ونحوه ، فالمعاني التي يدلّ عليها كثير منها يتطرّق إليها الاحتمال المنافي للقطع ، بل قد يجد ظهور معنى شخصٌ ويظهر لغيره آخَرُ ، وأيّ قطع يبقى مع ذلك ؟ ومن مناط الاختلاف في الفتاوى ظهور معنى لواحدٍ غيرِ ما يظهر للآخر ونحوه . وبالجملة ، فإثبات ذلك دونه خَرْطُ القَتادِ . نعم ، قد يقال : إنّ اللّه سبحانه أرسَلَ الرسل وأنزلَ الكتب ونَصَبَ الأوصياء بعد إعطاء العقول ليأخذ الناس منهم على سبيل الجزم والعلم ولو كان في ذلك مشقّة ، بل لو اتّفق الناس على ذلك لتواترٍ ووَصَلَ إلى المكلّفين العلم القطعي من غير مشقّة تمنع من ذلك ، فقد أعطاهم اللّه السبيلَ إلى ذلك ، ودَلَّهم عليه ، وقد وقع التقصير من المكلّفين : أمّا مع حضورهم عليهم السلام ، فبعدم الرجوع إليهم في كلّ ما لم يحصل لهم العلم من المعاني المقصودة والأحكام الحقيقيّة ونحوها ، وأمّا مع غيبتهم ، فبالتقصير في حقّهم من العباد الموجب لغيبتهم وحجبهم عنهم ؛ فالتقصير مستندٌ إلى المكلّف . ومن لم يدخل في التقصير ، فاللّه تعالى أولى بالعذر . وأمّا اللّه سبحانه فقد نصب لهم الدليل ودلّهم على طريق العلم ، وحيث وقع التقصير فلم يتيسّر العلم لكلّ أحد ، وصار المدار على الظنّ غالباً من حيث إنّ الأمر راجع إليهم عليهم السلام ، فلعلّ اللّه تعالى من عفوه وكرمه يكون راضياً منهم بالتكليف على هذا النحو ؛ لعدم إمكان التوصّل غالباً إلى غيره وعدم تقصير من لم يمكنه الأخذ على سبيل الجزم ، فإنّه بالنسبة إليهم يكون تكليفاً بما لا يطاق فيما لا يعلم من القرآن ونحوه . والرخصة في مثل أعمال الخير ، وإنّ العامل بها مأجور وإن لم يكن على ما بلغه قد يستانس بها لذلك لا على سبيل القياس ، بل من حيث إنّها تقتضي جواز العمل بما ليس من أحكام اللّه في الواقع مع عدم التقييد بتحصيل العلم مع إمكانه وعدمه . ونحوه ماورد من أنّهم عليهم ذكر الاُصول وعلينا التفريع . (2) فإنّ مثل ذلك لايكاد ينفكّ عنه تجويز الخطأ ، فلا يلزم المكلّف معرفة حكم اللّه في الواقع دائماً . وحاصل الكلام : أنّ الإنسان مكلّف بالأخذ عنهم عليهم السلام بقدر ما تصل إليه طاقته ، وهذا المقدار يكفيه ، فإن أمكن العلم الجازم لا يعدل عنه إلى غيره ، وإلاّ فالعلم المتقدّم . ومن لم يفعل ذلك ، كان على غير يقين وبصيرة ، وأخذ عن مجرّد عقله ورأيه مع المنع من ذلك ؛ واللّه تعالى أعلم . ويحتمل أن يكون مراده تأدية الفرائض التي تتعلّق باُصول العقائد من معرفته تعالى ومعرفة أنبيائه ورُسُله والأوصياء ونحو ذلك ، فإنّ مثله يجب معرفته على سبيل العلم واليقين ؛ فتأمّله .

.


1- . في «ألف ، ب» : - «القوي» .
2- . السرائر ، ج 3 ، ص 575 (المستطرفات) ؛ عوالي اللئالي ، ج 4 ، ص 63 ، ح 17 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص62 ، ح 33201 و33202 ؛ وفي بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 245 ، باب علل اختلاف الأخبار ... ، ح53 عن السرائر .

ص: 108

. .

ص: 109

لأنّ الذي يُؤدّي بغير علمٍ وبصيرةٍ ، لا يَدري ما يُؤدّي ، ولا يَدري إلى من يُؤدّي ،

قوله : (لأنّ الذي يُؤدِّي بغيرِ علمٍ وبصيرةٍ لا يَدْري ما يُؤدّي ، ولا يَدري إلى مَن يُؤدّي) أي لا يدري أيّ شيء يفعل بحيث يكون مراداً منه ، فإنّ فعله _ الذي يخطر بباله أن يفعله _ لا يترجّح على غيره إلاّ بترجيح رأيه واستحسانه ونحوه ، وذلك لا يقتضي كونه الذي ينبغي أن يؤدّى ، بل ربما كان المراد منه غيره ؛ من حيث خفاء وجه كثير من الأحكام عن العقول . ولهذا اُمرنا بمخالفة ما وافَقَ العامّة ؛ حيث إنّ فعلهم مستندٌ إلى رأيهم (1) ، وما هذا حكمه فالرشاد في مخالفته ، ومخالفته تدلّ على أنّ ما يكون عن الرأي غير حكم اللّه تعالى ، وإن اتّفق موافقته فهو غيره ؛ من حيث إنّه غير مأخوذ عن أهل حكم اللّه ، فلا يكون حكماً للّه من حيث إنّه حكم اللّه . والأمر بالمخالفة قد يدلّ على أنّه لا يكون حكم اللّه مع وجود ما يخالفه ، وأنّه لا يكون حينئذٍ موافقاً أصلاً ، وكذلك لا يدري إلى مَن يؤدّي ؛ لأنّ الذي يجب أن يؤدّى له هو اللّه تعالى ، وينبغي أن يؤدّى له ما يقبله ويأمر به ، وإذا لم يعلم ذلك على وجهه لا يدري أنّ هذا للّه فيؤدّيه إليه ، أو لغيره فيؤدّيه له ، فيتحيّر في ذلك .

.


1- . في «ألف» : «آرائهم» .

ص: 110

وإذا كان جاهلاً لم يكن على ثقة ممّا أدَّى ، ولا مصدّقا ؛ لأنَّ المصدِّقَ لا يكونُ مصدِّقا حتّى يكونَ عارفا بما صدَّقَ به من غير شكّ ولا شُبْهة ؛ لأنّ الشاكَّ لا يكونُ له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرُّب مثلُ ما يكونُ من العالم المستيقِن ، وقد قالَ اللّه عزَّ وجلَّ : « إِلاَّ مَن شَهِدَ

قوله : (وإذا كانَ جاهلاً ...) . يمكن أن يكون هذا راجعاً إلى الأوّل ، على أن يكون المراد بالأوّل جُهّال أصحاب الرأي ونحوهم . ويحتمل أن يكون قسما آخر ، وهو من يكون تأديته لا عن رأي ، بل عن جهل غير ذلك الجهل ، بمعنى تأديته على أيّ وجه اتّفق ، فإنّ الأوّل قد يكون باعتقاده غير شاكّ ، وهذا شاكّ فيما يأتي به هل هو مطيع فيه وموافق للصواب ، أم لا ؟ ويؤيّده قوله : (لأنّ الشاكَّ لا يَكونُ له من الرغبةِ والرهبةِ والخضوعِ والتقرّبِ مثلُ ما يَكونُ من العالمِ المُستَيْقِنِ) . فحال هذا دون حال ذاك في الضرر اللاحق له ، وقد يعفو اللّه عنه . وقد يكون له مع ذلك رهبة ورغبة مّا ، بخلاف الأوّل .

.

ص: 111

بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » فصارت الشهادةُ مقبولةً لِعِلّةِ العلمِ بالشهادة ، ولو لا العلمُ بالشهادة ، لم تكن الشهادة مقبولةً . والأمرُ في الشاكّ _ المؤدّي بغير علم وبصيرة _ إلى اللّه جلَّ ذكره ، إن شاءَ تطوّلَ عليه فقَبِلَ عملَه ، وإن شاء رَدَّ عليه ؛ لأنّ الشرطَ عليه من اللّه أن يُؤدِّيَ المفروضَ بعلم وبصيرة ويقين ؛ كي لا يكونوا ممّن وَصَفَه اللّه ، فقالَ تبارك وتعالى : « وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الْأَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ » لأنّه كان داخلاً فيه بغير علمٍ ولا يقينٍ ، فلذلك صارَ خروجُه بغير علم ولا يقين . وقد قال العالم عليه السلام : «من دخل في الإيمان بعلمٍ ، ثَبَتَ فيه ، ونفعَه إيمانُه ، ومن دخل فيه بغير علمٍ ، خرج منه كما دخل فيه» .

وكذلك قوله : (والأمرُ في الشاكّ _ المُؤدّي بغير علمٍ وبَصيرةٍ _ إلى اللّه ِ جَلَّ ذِكْرُه ، إنْ شاءَ تَطَوَّلَ عليه فقَبِلَ عملَه ، وإن شاءَ رَدَّه عليه) . فهذه قرائن في الجملة على إرادة القسم الثاني ؛ لأنّ صاحب الرأي مع اعتقاده أنّه الحقّ لا يليق إدخاله في هذا القسم من المصنّف إلاّ على تقدير العمل بالرأي مع عدم اعتقاده ، أو بتأويل مّا ، والتأويل بما يرجع إلى قسم واحد ممكنٌ . قوله : (وقد قالَ العالمُ عليه السلام : «مَن دَخَلَ في الإيمان بعلم ، ثَبَتَ فيه ونفعه إيمانه ، ومن دَخَلَ فيه بغير علمٍ ، خَرَجَ منه كما دَخَلَ فيه» (1) ) . «العالم» كثيراً مّا يُطلق على الكاظم عليه السلام ، فإن كان الحديث مرويّاً عنه ، وإلاّ فكلّهم عليهم السلام أهل العلم ؛ فيكون المراد من روى عنه غيره ، ولا يحضرني الآن مأخذه . وهذا الكلام الشريف من البلاغة وحسن التشبيه بمكان ، فإنّ من دَخَلَ بعلمٍ ، كانَ كمَن يَدخل مكاناً يثبت فيه ويستقرّ ويقضي وَطَرَه منه ، فكان كمن دخل مكاناً أعجبه من كلّ وجه بحيث لا يتصوّر الخروج منه إلى غيره . والداخل بغير علم كما أنّه دَخَلَ ليتفحّص عمّا يستقرّ فيه ويثبت ، فلم يجد مطلبه ، خرج من ذلك المكان طالباً لما يستقرّ فيه فلم يجده ؛ فدخوله كخروجه في عدم حصول المقصود فيهما ، وعدم ترتّب فائدة غير مشقّة الدخول والخروج والحركة والطلب وغير ذلك . والتشبيه من حيث تحقّق الدخول الذي قد تحقّق عدم ترتّب الفائدة عليه ، فهو أقوى من الخروج وأظهر .

.


1- . بصائر الدرجات ، ص 530 ، باب فيه شرح اُمور النبيّ و ... ح 1 . وفيه : «من دخل في هذا الأمر بغير يقين وبصيرة ، خرج منه كما دخل فيه» .

ص: 112

وقال عليه السلام : «من أخذ دينَه من كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلوات اللّه عليه وآله، زالت الجبالُ قبلَ أن يزولَ ، ومن أخذ دينَه من أفواه الرجالِ ، رَدَّتْه الرجالُ» .

قوله عليه السلام : (مَن أخَذَ دينَه مِن كتابِ اللّه ِ وسُنّةِ نبيِّه صلوات اللّه عليه وآله ، زالَتِ الجِبالُ قبلَ أن يَزولَ ، ومَن أخَذَ دينَه مِن أفواه الرجال ، رَدَّتْهُ الرجالُ) . (1) قوله عليه السلام : «زالت الجبال قبل أن يزول» نظير قوله تعالى : « لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ » (2) فهذا ونحوه ممّا قصد فيه إثبات شيء أو نفيه بتعليقه على المحال مبالغةً في ثبوته أو نفيه وعدم تبدّله أصلاً ، فإنّ زوال الجبال لمّا كان محالاً عادة مادامت الدنيا باقية ، كان زوالها على تقديره متقدّماً على زوال هذا الدين ، فهو أثبت منها وأمكن . ومن أخذه من أفواه الرجال بحيث كان مصدره ومأخذه أفواه الرجال فقط ، من غير أن يكون له مصدر ومأخذ غيرها من كتاب أو سنّة ، فهذا يردّه (3) الرجال ، إمّا هؤلاء أو غيرهم ، فإنّه صادر عن مجرّد الرأي والاستحسان ونحوهما (4) ، وهذا يتغيّر ويتبدّل ، فما أخذه عن هذا ، يزيله عنه غير هذا أو هو في وقت آخر ، بل في وقت واحد ، فلا يكون دينه ثابتاً . والظاهر إرادة اُصول الإيمان والعقائد من الحديثين ، وإذا أُخذت الاُصول من أهلها _ الذين هم أدلّتها _ تبعها غيرها . ويحتمل أن يكون المراد أنّه يكون مرتدّاً عن دينه من الرجال الذين أخذ من أفواههم دينه ولو بكونه مولوداً على الفطرة . ويحتمل أن يكون من التردّي ، وهو الهلاك الذي أصله الوقوع من جبل أو في بئر . ولعلّ هذا أنسب .

.


1- . ورد نحوه عن الصادق عليه السلام في الغيبة ، للنعماني ، ص 22 ، وفيه : «من دخل في هذا الدين بالرجال ، أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه ، ومن دخل فيه بالكتاب والسنّة ، زالت الجبال قبل أن يزول» ؛ وتصحيح الاعتقاد ، للمفيد ، ص 72 ، فصل في النهي عن الجدال ، وفيه : «من أخذ دينه من أفواه الرجال ، أزالته الرجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة ، زالت الجبال ولم يزل» .
2- . الأعراف (7) : 40 .
3- . في «ألف ، ج » : «تردّه» .
4- . في «د» : «غيرهما» .

ص: 113

وقال عليه السلام : «من لم يعرفْ أمرَنا من القرآن ، لم يتنكّب الفتن» . ولهذه العلّة انبثقت على أهل دهرنا بُثُوقُ هذه الأديان الفاسدة ، والمذاهب المستشنعة ،

قوله : (وقال عليه السلام : «مَن لَمْ يَعرِفْ أمرَنا من القرآنِ لم يَتَنَكَّبِ الفِتَنَ») . (1) «التنكّب» التجنّب ، ومعرفة أمرهم عليهم السلام بأنّهم حجج اللّه وأئمّة الهدى ، وبهم كمال الدين وتمام النعمة ، وأنّهم اُولوا الأمر ، ونحو ذلك ممّا يعلم من الآيات التي نزلت في شأنهم ودلّت على إمامتهم ، ولعلمهم بكلّ ما في القرآن . قوله : (ولهذه العلّةِ انْبَثَقَتْ على أهلِ دَهْرِنا بُثوقُ هذه الأديانِ الفاسِدَةِ ، والمَذاهِبِ المُسْتَشْنِعَةِ) . أي ولكون العلم والدين لم يؤخذا من معدنهما ، ولكون الدخول في الإيمان من غير بابه الذي أمر اللّه بالدخول منه ، ولكون الدين أخذه من غير الكتاب والسنّة ونحو ذلك ممّا تقدّم ، انبثقت ، أي انفجرت هذه الأديان الفاسدة والمذاهب المستشنعة ؛ فإنّ أصلها اتّباع الآراء والاستحسان والتقليد ونحو ذلك ، وإلاّ فلو اُخذ الدين من معدنه كانَ واحداً لا تغيّر فيه ، ولا تبدّل في الاُصول والعقائد ، وكانت الفروع متلقّاة من أهلها من غير محاشاة ولا تقيّة .

.


1- . المحاسن ، ج 1 ، ص 216 ، باب التثبّت من كتاب مصابيح الظلم ، ح 104 ، وفيه : «من لم يعرف الحقّ» بدل «من يعرف أمرنا» ؛ تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 13 ، ح 1 .

ص: 114

التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلَّها ، وذلك بتوفيق اللّه تعالى وخذلانه ، فمن أرادَص 8 اللّه توفيقَه وأن يكونَ إيمانُه ثابتا مستقرًّا ، سبَّبَ له الأسباب التي تُؤدِّيه إلى أن يأخُذَ دينَه من كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلوات اللّه عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة ، فذاك أثْبَتُ في دينه من الجبال الرواسي ، ومن أراد اللّه خذلانَه وأن يكونَ دينُه معارا مستودعا _ نعوذ باللّه منه _ سبَّبَ له أسبابَ الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة ، فذاك في المشيئة ، إن شاءَ اللّه ُ تبارك وتعالى أتمَّ إيمانَه ، وإن شاءَ سَلَبَهُ إيّاه ، ولا يُؤْمَن عليه أن يُصْبِحَ مؤمنا ويُمسيَ كافرا ، أو يمسيَ مؤمنا ويُصبِحَ كافرا ؛ لأنّه كلَّما رأى كبيرا من الكُبراء مالَ معه ، وكلَّما رأى شيئا استحسن ظاهرَه قَبِلَه ، .........

قوله : (التي قد اسْتَوْفَتْ شرائطَ الكفرِ والشركِ كُلَّها) فمن مشبّه ، ومجسّم ، ومصوّر ، وقائل بصفات زائدة على ذاته ، وقائل بأنّه تعالى يرى بالأبصار ، ومجبر ، وقدريّ ، وغير ذلك ممّا اللّه تعالى مقدّس ومنزّه عنه ، وسبب ذلك كلّه اتّباع الأهواء والآراء والاعتماد على العقول الناقصة . قوله : (وذلك بتوفيقِ اللّه ِ عزّ وجلّ وخِذلانِه ، فمَن أرادَ اللّه ُ توفيقَه وأن يكونَ إيمانُه ثابِتاً مُستقِرّاً سَبَّبَ له الأسبابَ التي تُؤدّيه إلى أن يَأْخُذَ دينَه من كتابِ اللّه ِ وسُنَّةِ نبيِّهِ صلوات اللّه عليه وآله) . من المعلوم المقرّر أنّ اللّه سبحانه منزَّه عَن الظلم والكذب ، وأنّه أعطى كلّ مكلّف استطاعة يفعل بها ما يشاء من الخير والشرّ ؛ فاللّه سبحانه منزَّه عن أن يخذل من لا يستحقّ الخذلان بسوء فعله الذي صار سبباً للتخلية بينه وبين ما يريد ، ومنعه العناية التي تميله وتصرفه عمّا يفعله بسوء اختياره ، وإذا رأى من عبد طاعةً وانقيادا ، أمَدَّه بالتوفيق والعناية اللذين يتقوّى بهما ميله ودواعيه إلى ما يقرّبه إلى رضاه ويبعّده عن معصيته ، وهذه زيادة عن أصل اللطف بكلّ مكلّف ، فهذا _ واللّه أعلم _ معنى التوفيق والخذلان منه تعالى . وقد يتدارك اللّه بتفضّله وعفوه بعض أهل الخذلان بالإمداد بالتوفيق إلى الإيمان ؛ ولهذا قال رحمه اللّه : (فذاك في المشيّة) وذلك إتمامٌ لأصل إيمانه الذي نقص باتّباعه الإستحسان والميل مع كلّ ناعق . وقد يكون ميله إلى من يهديه بتوفيق اللّه تعالى فيتمّ إيمانه ، وقد يسلبه الإيمان بالكلّيّة بأن يبقيه على اتّباعه هواه وسوء فعله الذي اختاره وترقّى به إلى أن منع العناية الإل_هيّة . وكون الإيمان عارية ووديعة عند مثل هذا ظاهرٌ ، بخلاف الأوّل الثابت على الإيمان ، فإنّه كالمالك الذي لا يؤخذ ما في يده منه ، كما تؤخذ العارية والوديعة . وقد رأيت بعد كتابة هذا الكلام في كتاب التوحيد للصدوق رحمه الله _ في باب التوفيق والخذلان من اللّه تعالى _ ما يؤ?ده بحمد اللّه تعالى ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في قوله عزّ وجلّ : « إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنم بَعْدِهِ » (1) ، قال : «إذا فعل العبد ما أمره اللّه عزّ وجلّ به من الطاعة ، كان فِعْلُه وفقاً لأمر اللّه عزّ وجلّ ، وسمّي العبد به موفّقاً ؛ وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي اللّه ، فحال اللّه تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية ، فتركها ، كان تركه لها بتوفيق اللّه تعالى ذكره ؛ ومتى خلّى بينه وبين (2) المعصية فلم يحل بينه وبينها حتّى يرتكبها ، فقد خَذَلَه ولم ينصره ولم يوفّقه» . (3)

.


1- . آل عمران (3) : 160 .
2- . في المصدر : + «تلك» .
3- . التوحيد ، ص 242 ، باب تفسير الهدى والضلالة والتوفيق والخذلان من اللّه تعالى ، ح 1 .

ص: 115

. .

ص: 116

وقد قال العالم عليه السلام : «إنّ اللّه عزّ وجلّ خلَقَ النبيّين على النبوّة ، فلا يكونون إلاّ أنبياءَ ، وخلَقَ الأوصياءَ على الوصيّة ، فلا يكونون إلاّ أوصياءَ ، وأعارَ قوما إيمانا ، فإنْ شاءَ تمَّمَهُ لهم ، وإن شاءَ سَلَبَهم إيّاه» قال : «وفيهم جرى قوله : « فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » » . وذكرْتَ أنّ اُمورا قد أشكلَتْ عليك ، لا تَعرفُ حقائقَها لاختلاف الرواية فيها ، وأنّك تَعْلم أنّ اختلاف الرواية فيها لاختلاف عِلَلِها وأسبابِها ، وأنّك لا تجدُ بحضرتك من تُذاكِرُه وتُفاوِضُه ممّن تثق بعِلْمه فيها .

قوله : (وقد قالَ العالِمُ عليه السلام : «إنّ اللّه َ _ عزَّ وجَلَّ _ خَلَقَ النبيّينَ على النبوّةِ ، فلا يَكونونَ إلاّ أنبياءَ ، وخَلَقَ الأوصياءَ على الوصيّةِ ، فَلا يَكونونَ إلاّ أوصياءَ ، وأعارَ قوماً إيماناً ، فإنْ شاءَ تَمَّمَهُ لهم ، وإن شاءَ سَلَبَهم إيّاهُ» ، قال : «وفيهم جَرى قولُه (1) : « فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » (2) ») . معنى الحديث ظاهرٌ ، فإنّ خَلْقه تعالى النبيّين على أن يكونوا أنبياء _ أي لأجل أن يجعلهم أنبياء _ لا يجوز تخلّف ما خُلقوا لأجله ، كما تقدّم في خلق العباد للتكليف ؛ وكذلك الأوصياء ، ولا مدخل للبداء هاهنا . والفرق ظاهر بين هذا وقوله تعالى : « وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ » (3) ؛ فتدبّر . وفي باب المعارين من كتاب الإيمان والكفر من هذا الكتاب ، عن أبي الحسن ، وهو الكاظم عليه السلام ، قال: «إنّ اللّه تعالى خَلَق النبيّين على النبوّةِ، فلايَكونونَ إلاّ أنبياءَ،وخَلَقَ المؤمنين على الإيمانِ ، فلا يَكونونَ إلاّ مؤمنين ، وأعارَ قوماً إيماناً ، فإن شاءَ تَمَّمَهُ لهم ، وإن شاء سَلَبَهُم إيّاه» ، قال : «وفيهم جرى : « فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » » الحديث . (4) وهذا _ كما ترى _ أنسب بما ذكره المصنّف رحمه الله هنا ، فإنّه دالّ على من إيمانهم ثابت ، وهو القسم الذي ذكره ؛ والحديث المنقول هنا ليس فيه ذكر ثابتي الإيمان الذين هم غير الأنبياء والأوصياء ؛ فتأمّل . ويمكن أن يكون مراده الاستشهاد على المعارين فقط ، والمؤمنون في الحديث لا يبعد أن يكون المراد بهم الأوصياء ، أو ما يشمل غيرهم .

.


1- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- . الأنعام (6) : 98 .
3- . الذاريات (51) : 56 .
4- . الكافي ، ج 2 ، ص 418 ، باب المعارين ، ح 4 .

ص: 117

وقلتَ : إنّك تُحِبُّ أن يكونَ عندك كتاب كافٍ يُجْمَع فيه من جميع فنون علم الدين ما يَكْتفي به المتعلّمُ ، ويَرْجع إليه المسترشد ، ويأخُذُ منه من يريد علمَ الدين والعملَ به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام والسننِ القائمة التي عليها العملُ ، وبها يُؤَدَّى فرضُ اللّه عزّ وجلّ وسنّةُ نبيّه صلى الله عليه و آله . وقلت : لو كان ذلك ، رَجَوْتُ أن يكونَ ذلك سببا يَتدارك اللّه تعالى بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملّتنا ، ويُقْبِلُ بهم إلى مَراشدهم .

قوله : (ويَأخُذُ مِنْه مَن يُريدُ عِلْمَ الدينِ والعَمَلَ به بالآثارِ الصحيحةِ عن الصادقينَ عليهم السلام والسُّنَنِ القائمةِ التي عليها العَمَلُ ، وبها يُؤدى فَرْضُ اللّه ِ عزّ و جلّ وسُنَّةُ نَبِيّه صلى الله عليه و آله ) . هذه شهادة من المصنّف _ قدّس اللّه روحه _ بصحّة ما في كتابه . واحتمال إرادة الأخذ منه بالآثار الصحيحة لا يستقيم ، فإنّه مبنيّ على الصحّة بالمعنى المشهور بين المتأخّرين ؛ للنهي عن قبول خبر الفاسق (1) ، ولما في الأحاديث من نحو : «فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه» (2) ؛ و «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين» الحديث (3) ، وغيره . وهذا لم يكن في زمن المصنّف ليحمل عليه ، بل المراد بالصحيح ما صحّ عنده بقرائن تدلّ على صحّته . ومع هذا لم يكتف المتقدّمون _ رحمهم اللّه _ بصحّة حديث والعمل به بمجرّد صحّته عند آخر . يظهر ذلك لمن تتبّع كلامهم ، فالصدوق يدلّ بعض كلامه على هذا ، والشيخ يردّ كثيراً أخباراً شهد بصحّتها الكليني والصدوق _ رحمهم اللّه _ بأنّها ضعيفة أو أخبار آحاد . ولتفصيل هذا محلّ آخر ذكرتُ طرفاً منه في حاشية شرح اللمعة . وربّما ظهر من بعض كلام والدي _ رحمه اللّه _ الميلُ (4) إلى الاعتماد على الحَسَنِ من أحاديث هذا الكتاب باعتبار هذه الشهادة من مثل هذا الرجل الجليل . وفي المقام كلامٌ ليس هذا محلّه .

.


1- . الحجرات (49) : 6 .
2- . الكافي ، ج1، ص32، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح2؛ بصائر الدرجات ، ص10_11، نادر من الباب وهو منه...، ح1و3؛ الاختصاص، ص4؛ الدعوات، للراوندي، ص63، فصل في ألحّ الدعاء وأرجزه، ح157؛ وسائل الشيعة ، ج27، ص78، ح33247 ، وفي بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 92 ، باب من يجوز أخذ العلم منه ... ، ح 21 عن البصائر ؛ وج2 ، ص 151 ، باب فضل كتابة الحديث وروايته ، ح 31 عن الدعوات .
3- . رجال الكشّي ، ص 3 ، ح 4 ، وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 150 ، ح 33457 ، وفي بحار الأنوار ، ج 2 ، ص82 ، باب من يجوز أخذ العلم منه ... ، ح 2 عن رجال الكشّي .
4- . في «ألف وب» : «وكان والدي رحمه اللّه ربما يميل» ، وفي «ج» : «وكان والدي رحمه اللّه أخيرا ربما يميل» كلاهما بدل «وربما يظهر من بعض كلام والدي رحمه اللّه الميل» . ووالده : محمّد بن حسن بن زين الدين ، صاحب استقصاء الاعتبار .

ص: 118

فاعلَمْ يا أخي _ أرشدَكَ اللّه _ أنّه لا يسعُ أحدا تمييز شيء ممّا اختلفت الرِّوايةُ فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه ، إلاّ على ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام : «اعرضوها على كتاب اللّه ، فما وافَقَ كتابَ اللّه عزّ وجلّ فخذوه ، وما خالَفَ كتابَ اللّه فرُدُّوه» .

قوله : (لا يَسَعُ أحداً تَمييزُ شيءٍ ممّا اختلفَ (1) الروايةُ فيه عن العلماء عليهم السلام بِرَأيِه إلاّ على ما أطْلَقَه العالِمُ بقوله عليه السلام (2) : «اعْرِضوها على كتابِ اللّه ، فما وافَقَ كتابَ اللّه ِ جَلَّ وعَزَّ فَخُذوهُ ، وما خالَفَ كتابَ اللّه ِ فَرُدّوهُ») . (3) الأحاديث في الأمر بالردّ إلى كتاب اللّه كثيرة ، ويأتي منها طرف في باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب (4) وغيره ، من هذا الكتاب وغيره ، كقوله صلى الله عليه و آله : «أيّها الناس ، ما جاءكم عنّي يُوافقُ كتاب اللّه فأنا قلتُه ، وما جاءكم يُخالفُ كتاب اللّه فلم أقلْه» . (5) وكثير من الأحاديث تتضمّن (6) الإنكار على من يسأل عن مسألة بنحو قولهم عليهم السلام : «أما قرأت قوله تعالى : كذا» ، فما كان من القرآن نصّاً ومحكماً ، فالظاهر أنّه لا كلام في جواز العمل به مع معرفة ناسخه ومنسوخه ونحوهما ممّا يتوقّف العمل عليه . وظواهرُ القرآن _ واللّه أعلم _ أنّها ممّا يجوز العمل به أيضاً والردّ إليه ، فإنّ المدار على ذلك قديماً وحديثاً . وأمّا نحو المجمل والمبيّن والعامّ والخاصّ ، إذا تعلّقا بشيء واحد فيهما وعلم وجههما ، فالظاهر كونهما من هذا القبيل . وأمّا المتشابه ونحوه فلا يجوز العمل به إلاّ بعد توقيف العالم عليه السلام . والنهي عن تفسير القرآن بالرأي وذمّ فاعله لعلّه باعتبار الجميع ، أو مع الجزم بما أراد اللّه تعالى من مثل الظاهر ونحوه،أو يحمله على ما يقتضيه الرأي،ويكون مخالفاً له نصّاً أو ظاهراً ونحو ذلك ؛ فإنّ الأوّل والثاني مخصوصان بالمعصوم عليه السلام ، وهو الذي يعلم ظاهره وباطنه علماً يقينيّاً ، وغيره يرجع كثير منه إلى الظنّ ؛ واللّه أعلم . وإرادة الرجوع إلى الكتاب والعرض عليه فيما علم تفسيره من المعصوم عليه السلام بعيدة ؛ واللّه تعالى أعلم . والاستثناء في قول المصنّف : «إلاّ على ما أطلقه» يدلّ على أنّ هذا وإن سمّي عملاً بالرأي فلا حرج فيه ؛ لأنّه غير خارج عن اتّباعهم عليهم السلام ، بل هو إعمال للرأي والفكر فيما اُمروا به . ومن هذا الباب قول بعض علمائنا _ أعلى اللّه شأنهم _ على رأي ، ونحوه تسمية استخراج الأحكام من اُصول متلقّاة من الشارع اجتهاداً ، فإنّه ليس من قسم الاجتهاد المذموم . ومن نظر إلى مجرّد الحروف والصيغة ، اعترض عليهم بنحو ذلك . والمراد بالإطلاق الإباحة ، أو الجواز ، أو الرخصة ، ونحو ذلك . والمعنى أنّه رَخَّصَ أو جَوَّزَ العمل بالرأي على هذا الوجه . ويمكن اعتبار الاستثناء _ منقطعا أو متّصلاً _ مستثنى من تمييز شيء . وفيه تأمّل .

.


1- . كذا في بعض نسخ الكافي ، وفي الكافي المطبوع وبعض اُخرى من النسخ : «اختلفت» .
2- . في الكافي المطبوع : «العالم عليه السلام بقوله» .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 69 ، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب ، ح 1 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 226 ، باب حقيقة الحقّ من كتاب مصابيح الظلم ، ح 151 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 367 ، المجلس 58 ، ح 18 ؛ تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 8 ، ح 2 ؛ وج2 ، ص 115 ، ح 150 ، وفي الكلّ رويت هذه الرواية عن أبيعبداللّه عليه السلام _ إلاّ تفسير العيّاشي ، ج 2 ففيه عن أبيجعفر _ هكذا : «... إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب اللّه فخذوا به (وفي الأمالي والكافي : فخذوه) وما خالف كتاب اللّه فدعوه» .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 69 .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 69 ، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب ، ح 5 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 221 ، باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسنّة من كتاب مصابيح الظلم ، ح 130 و131 ؛ معاني الأخبار ، ص 390 ، باب نوادر المعاني ، ح 30 ؛ تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 8 ، باب ترك رواية التي بخلاف القرآن ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 112 ، ح 33348 . وفي بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 188 ، باب أنّ حديثهم عليهم السلام صعب مستصعب ... ، ح 19 عن معاني الأخبار ... ، ح 39 و40 عن المحاسن ؛ وص244 ، نفس الباب ، ح 49 عن تفسير العيّاشي .
6- . في «ألف ، ب ، ج » : «يتضمّن» .

ص: 119

. .

ص: 120

وقوله عليه السلام : «دَعُوا ما وافَقَ القوم فإنَّ الرشدَ في خلافهم» .

قوله : (وقوله عليه السلام : «دَعُوا ما وافَقَ القومَ ، فإنّ الرشدَ في خِلافِهم») . (1) هذا قد يدلّ على أنّه يجب الاطّلاع على مذاهب القوم والتفحّص عنها ليرجع عند التعارض إلى ترك ما وافقهم ، وعلى أنّ ما خالفهم فيه الرشد من حيث إنّ أساسه الرأي والقياس والاستحسان ، وأحكام اللّه تعالى ووجوه حكمته فيها لا تُعلم بالعقل ، فكلّ ما كان منها (2) منشأه ذلك فهو فاسد ، كما ورد من قولهم عليهم السلام : «إنّ دين اللّه لا يُصاب بالقياس» (3) ، و«إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (4) ، و«من نَصَبَ نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان اللّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس» (5) ، وغير ذلك . ولا بُعد (6) في كون صاحب هذه الأشياء لا يوفّق لإصابة الحقّ بها أصلاً . وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تتمّة الكلام في هذا المقام في بابه ، ويدلّ على أنّ الاختلاف قد يكون للتقيّة فيما لم يوافق مذهبهم ، فهو موافق لمذهب الحقّ أو مرخّص في العمل به ، وقد يرجع إلى السابق .

.


1- . قطعة من رواية عمر بن حنظلة الواردة في الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 ؛ والفقيه ، ج3 ، ص 8 ، ح 3236 ؛ وتهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 301 ، ح 845 ؛ والاحتجاج ، ج 2 ، ص 355 .
2- . في «ألف ، ب» : «منهم» .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 57 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 14 ؛ بصائر الدرجات ، ج 1 ، ص 146 ، باب في الأئمّة أنّ عندهم الصحيفة الجامعة ... ، ح 23 ؛ وص149 ، باب آخر فيه أمر الكتب ، ح 16 . وفي بحار الأنوار ، ج26 ، ص 35 ، باب جهات علومهم ... ، ح 52 عن بصائر الدرجات .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 57 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 15 ؛ وج7 ، ص 299 ، باب الرجل يقتل المرأة و ... ، ح 6 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 214 ، باب المقاييس والرأي من كتاب مصابيح الظلم ، ح 97 ؛ الفقيه ، ج 4 ، ص118 ، ح 5239 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 41 ، ح 33160 ؛ وج29 ، ص 352 ، ح 35762 . في بحار الأنوار ، ج 101 ، ص 405 ، باب الجناية بين المسلم والكافر ، ح 5 عن المحاسن .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 57 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 17 ؛ قرب الإسناد ، ص 7 ، ح 35 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 41 ، ح 33161 . وفي بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 299 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح23 من قرب الإسناد .
6- . في «ج» : «لا يبعد» .

ص: 121

وقوله عليه السلام : «خُذُوا بالمُجْمَعِ عليه ؛ فإنَّ المجْمَعَ عليه لا ريب فيه» .

قوله : (وقوله عليه السلام : «خُذوا بالمُجْمَعِ عليه ، فإنّ المُجمَعَ عليه لا رَيْبَ فيه» ) . (1) هذا يدلّ على أنّ الإجماع حجّة فيما إذا كان الإجماع على ما ورد به حكم ؛ ففيه دلالة على حجّيّة الإجماع في الجملة . وحديث : «لا تجتمع اُمّتي على الخطأ» (2) ذكر العلاّمة _ طاب ثراه _ في كتاب الألفين أنّه حديث متّفق عليه ، (3) فعلى حجّيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد يمكن أن يكون دليلاً على حجّيّة الإجماع مطلقاً ؛ فتأمّل . (4)

.


1- . قطعة من رواية عمر بن حنظلة الواردة في الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 ؛ والفقيه ج3 ، ص 8 ، ح 3236 ؛ وتهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 301 ، ح 845 ؛ والاحتجاج ، ج 2 ، ص 355 .
2- . صحيح الترمذي ، ج 4 ، ص 405 ، ح 2167 ؛ مسند أحمد ، ج 5 ، ص 145 ؛ سنن ابن ماجه ، ج 2 ، ص 1303 ، ح 3950 ؛ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 20 ، ص 34 ، المحصول ، للرازي ، ج 4 ، ص 147 ؛ المستصفى ، للغزايى ، ص 138 ، 143 ، 149 . وللمزيد راجع : كشف اللثام ، ج 7 ، ص 39 ؛ القوانين المحكمة ، ص 361 ؛ الحدائق الناضرة ، ج 9 ، ص 370 ؛ المراجعات ، ص 337 و346 ؛ مصباح الاُصول ، للسيد الخوئي ، ج 2 ، ص 139 ؛ اُصول الفقه ، للمظفّر ، ج 2 ، ص 90 ، شرح اُصول الكافي ، للمازندراني ، ج 2 ، ص 340 ، الهامش رقم 1 .
3- . الألفين ، ص 110 .
4- . في «ألف» : «فليتأمّل» .

ص: 122

ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلَّهُ ولا نجدُ شيئا أحوَطَ ولا أوسَعَ من رَدِّ علم ذلك كلِّه إلى العالم عليه السلام وقبولِ ما وَسَّعَ من الأمر فيه بقوله عليه السلام : «بأيّما أخذتم من باب التسليم وَسِعَكم» .

قوله : (ونَحْنُ لا نَعْرِفُ من جَميعِ ذلك إلاّ أقَلَّهُ) ، أي لا نعرف من كتاب اللّه ، وما وافَقَ العامّة وخالفهم ، وما أجمع عليه إلاّ أقلّه . أمّا الكتاب ، فجميعه لا يعرفه إلاّ أهل العصمة عليهم السلام ، وما دون ذلك قد يتوقّف على معرفة الناسخ والمنسوخ ، والخاصّ منه والعامّ ونحو ذلك . أو يكون المراد بالأقلّ النصّ والمحكم ، أو ما يشمل (1) الظاهر ، أو ما علم منهم عليهم السلام على احتمال . ومذاهب العامّة كثيرة منتشرة تحتاج إلى إحاطة زائدة واطّلاع تامّ ، وكذلك معرفة ما اُجمع عليه ، فالأخذ من باب التسليم أسهل من ذلك ، وأبعد عن الوقوع في الخطأ . قوله : (ولا نَجِدُ شيئاً أحوَطَ ولا أوسَعَ مِنْ رَدِّ عِلْمِ ذلك كُلِّهِ إلى العالِم عليه السلام ) . كأنّه يريد رحمه الله أنّ الاُمور المذكورة _ من العرض على كتاب اللّه ومعرفة موافق القوم ومخالفهم والمجمع عليه وغيره _ لا يخلو العمل بها من وقوع في الخطأ ؛ لعدم الوثوق بمعرفة ما به يسلم منه ؛ فكان الاحتياط في أن يقال : إنّ العالم عليه السلام يعلم جميع ذلك بحيث لا يجوز عليه الخطأ فيه ، وقد اُمروا عليهم السلام بردّ ما لا يعلم إليهم ، بمعنى أن يقال : هم أعلم به ، أو بمعنى سؤالهم عنه ليعلم منهم . والأوّل أنسب بهذا المقام ، ولكلٍّ شاهدٌ من كلامهم عليهم السلام مثل : «أرْجِهْ حتّى تَلْقى إمامَك» (2) وغيره . وذلك بخلاف الأخذ من باب التسليم ، فإنّه مع تجويزهم ذلك والرخصة فيه ، يجوز الأخذ والعمل به ، ولا يرد فيه ما يرد في غيره . نعم قد يقال : بأنّ أمرهم عليهم السلام بما ذكر من الردّ إلى الكتاب والأخذ بالمجمع عليه وخلاف ما وافق القوم ، قد يكون في تركه ترك للاحتياط ، بل للوجوب ، فإنّه مع تيقّن خلاف الإجماع وعلم المخالفة للكتاب والاطّلاع على قول القوم قد ينافيه الأخذ بالتسليم في كلّ موضع ، ويمكن أن تكون الإشارة بذلك كلّه إلى ما لا يعلم ، وهو غير الأقلّ .

.


1- . في «د» : «يشتمل» .
2- . قطعة من رواية عمر بن حنظلة الواردة في الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، باب اختلاف الحديث ، ج 10 ؛ والفقيه ، ج3 ، ص 8 ، ح 3236 ؛ وتهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 301 ، ح 845 ؛ والاحتجاج ، ج 2 ، ص 355 .

ص: 123

وقد يسّر اللّه _ وله الحمد _ تأليفَ ما سألتَ ، وأرجو أن يكونَ بحيث تَوَخّيتَ ، فمهما كان فيه من تقصير فلم تُقَصِّرْ نيّتنا في إهداء النصيحة ؛ إذ كانت واجبةً لإخواننا وأهلِ ملّتنا ، مع ما رجونا أن نكونَ مشاركين لكلّ من اقتبس منه ، وعَمِلَ بما فيه في دهرنا هذا ، وفي غابره إلى انقضاء الدنيا ؛ إذ الربّ _ جلّ وعزّ _ واحدٌ ، والرسولُ محمّد خاتم النبيّين _ صلوات اللّه وسلامه عليه وآله _ واحدٌ ، والشريعةُ واحدةٌ ، وحلالُ محمّدٍ حلالٌ وحرامُه حرامٌ إلى يوم القيامة ، ووَسَّعْنا قليلاً كتاب الحجّة وإن لم نكمِّلْه على استحقاقه ؛

قوله : (إذ الربُّ _ جَلَّ وعَزَّ _ واحِدٌ ، والرسولُ محمّدٌ صلى الله عليه و آله (1) واحِدٌ ...) . هذا تعليل للعمل بما فيه في الدهر وفي غابره إلى انقضاء الدنيا ، فإنّ مجرّد تطاول الزمان لا يقتضي تغيّر الشريعة الواحدة ؛ لأنّ نبيّنا صلى الله عليه و آله خاتم الأنبياء ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فأحكامه (2) وحلاله وحرامه باقية إلى انقضاء الدنيا ، وما في هذا الكتاب من جملة ذلك .

.


1- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخة : «محمّد خاتم النبيّين صلوات اللّه و سلامه عليه و آله» .
2- . في «ج» : «وأحكامه» .

ص: 124

لأنّا كَرِهْنا أن نَبخَسَ حظوظَه كلَّها . وأرجو أن يُسهِّلَ اللّه _ جلّ وعزّ _ إمضاءَ ما قدَّمْنا من النيّة ، إن تأخَّرَ الأجلُ صنَّفْنا كتابا

قوله : (لأنّا كَرِهْنا أن نَبْخَسَ حُظوظَهُ كُلَّها) . لا يخفى أنّ حال المتقدّمين لم يكن كحال المتأخّرين من جهة التدقيق في العبارات والمناقشة فيها والاحتراز عمّا يفهم خلاف المقصود ، بل يأتون بما يدلّ على قصدهم _ الذي هو المعنى المراد ، وهو اللبّ ، من غير التفات إلى القشر _ بقرائن الحال وألفاظ تدلّ عليه مع ذلك ، فلا يُناسب (1) مناقشتهم في ذلك ممّا قد يناقش به في هذه العبارة . ويمكن توجيهها بأنّه قد أتى في كلّ كتاب من هذا الكتاب بنصيبه ممّا يتعلّق به في كلّ باب ، وكتاب الحجّة لمّا كانت أبوابه كثيرة أتى بها جميعها (2) ، كما أتى بأبواب غيره ، ولم يترك منها باباً أو أبواباً ليكون ذلك بخساً لجميع حظوظه من حيث المجموع ، وإن ترك من بعض الأبواب ما كان ذكره يفضي إلى التطويل الزائد ، وهذا يشترك فيه مع غيره من الكتب والأبواب في أنّ ما نقص نقص من الأبواب التي ذكر من كلّ منها شيئاً ، وقد ينفرد بالنقص لأجل الاختصار . قوله : (وأرْجُو أن يُسَهِّلَ اللّه ُ _ جَلَّ وعَزَّ _ إمضاءَ ما قَدَّمْنا من النيّةِ ، إن تَأَخَّرَ الأَجَلُ صَنَّفْنا (3) كِتاباً أوْسَعَ وأكْمَلَ منه ...) . معنى هذه العبارة أنّه قدّم نيّة تصنيف الكتاب الذي هو أوسع وأكمل إن تأخّر الأجل ، ويرجو إمضاء هذه النيّة بمعنى المنويّ أو منويّها بالتوفيق لتصنيفه (4) ، فالنيّة إن تأخّر الأجل صنّفنا (5) ؛ ونسأل من اللّه تعالى تسهيل ذلك . ولا تخلو العبارة من حزازة ، والعذرُ ما تقدّم . ويحتمل أن يكون «وإن» والواو ساقطة ، والمعنى حينئذٍ غير الأوّل ، فالمعنى أنّه يسأل من اللّه سبحانه أن يمضي نيّته التي قصد بها تصنيف هذا الكتاب بأن يكتب له ثوابها ، فيكون قوله : «وإن تأخّر ...» كلاماً مستقلاًّ .

.


1- . في «الف ، ب» : «فلا تناسب» .
2- . في «ألف ، ب» : «جميعا» .
3- . في «د» وبعض نسخ الكافي : «صنعنا» .
4- . في «د» : «لتصنيعه»
5- . في «د» : «صنعنا» .

ص: 125

أوسعَ وأكملَ منه ، نوفّيه حقوقَه كلّها إن شاء اللّه تعالى ، وبه الحولُ والقوَّةُ ، وإليه الرغبةُ في الزيادة في المعونةِ والتوفيقِ . والصلاةُ على سيّدنا محمّد النبيّ وآله الطاهرين الأخيار . وأوّل ما أَبتدِئُ به وأفتتحُ به كتابي هذا كتاب العقل وفضائلِ العلم ، وارتفاعِ درجة أهله ، وعلوِّ قَدْرهم ، ونقصِ الجهل ، وخساسةِ أهله ، وسقوطِ منزلتهم ؛ إذ كان العقلُ هو القطبَ الذي عليه المدار ، وبه يحتجّ ، وله الثواب ، وعليه العقاب ، واللّه الموفّق .

قوله : (وبه يُحْتَجُّ ، وله الثوابُ ، وعليه العقابُ) ، أي به يحتجّ اللّه على خلقه بأنّه أعطاهم العقل الذي يدلّهم على ما ينجيهم ، وباتّباعه يتّبعون حججه ورُسُله ، فيكونونَ مطيعين بذلك للّه ، وبمخالفته يكونون عاصين للّه ، فهو أصل الحجّة في حصول الثواب والعقاب للمكلّف ، وله الثواب وعليه العقاب فيما يتعلّق به ممّا جعله اللّه له من نوع التكليف والثواب والعقاب ؛ لا أنّ ثواب صاحب العقل له وعقاب صاحبه عليه ، كما يظهر من العبارة تبعاً لظاهر الحديث الأوّل . ويأتي بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى .

.

ص: 126

. .

ص: 127

كتاب العقل والجهل

كتاب العقل والجهلاعلم أنّ هنا فائدتين ينبغي التنبيه عليهما والتنبيه لهما قبل الشروع في المقصود ، وبالاُولى يسلم من الوقوع في ظلمات شبه نسبة الجور والجبر إلى اللّه تعالى . الاُولى : أنّ غالب أحاديث هذا الباب المراد من العقل والجهل فيها _ واللّه أعلم _ عقلُ الأشياء وجهلها بمعنى العمل بما يقتضيه العقل ويدلّ صاحبه عليه وعدمه ، وكذلك الآيات في حديث هشام . ومثل هذا شائع كثير ، فإنّ ذَمَّ من ليس لهُ عقل _ بمعنى الغريزة التي قسّمها اللّه تعالى على عباده _ قبيحٌ ، فيتعيّن أن يكون العقل والجهل في مثله بالمعنى المذكور ، وهو من يعمل بمقتضى عقله ومَن لا يعمل ، فيقال : فلان عاقلٌ وفلان ليس بعاقلٍ ، وفلانٌ يعقل وفلانٌ لا يعقل ، ولا يُراد أنّه مسلوبُ العقل وثابته . وهو السرّ في التعبير في مثله غالباً بسلب العقل ونحوه ، لا بالمجنون ونحوه ، فإنّ قولك : فلانٌ لا عقل له ، يُشعر بأنّه عاقل لا يعمل بعقله ، ونحوه : فلانٌ عاقلٌ . والمقام (1) أيضاً يدلّ على المراد منه . وهذا في القرآن وكلام الفصحاء كثيرة ، ونحوه قولك : فلان يسمع ويبصر ونحوهما ، وليس المراد منه أنّه ذو سمع وبصر ، وفلانٌ لا يسمع ولا يبصر ، ولا يراد منه نفي الحاسّتين عنه . ومنه قوله تعالى : « صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ » (2) ، وقوله تعالى : « إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ » (3) ، وهو كثير . وقد يراد بالعقل المخلوق الشريف ، وهو الذي خَلَقه اللّه عزّ وجلّ من نوره ، وهو أوّل خلق من الروحانيّين ، كما يأتي في حديث سماعة . (4) وهو المراد من أوّل أحاديث هذا الباب ، ويقابل هذا العقل الجهل بالمعنى المذكور هناك . وهذان لا يتعلّق بصاحبهما مدحٌ ولا ذمٌّ إلاّ من حيث المتابعة وعدمها . وقد قسّم اللّه هذا العقل على عباده المكلّفين قسمةً متفاوتة بحسب ما اقتضته حكمته على قَدْر القوابل والاستعدادات التي خلقهم عليها ، وجعَل تكليف كلّ واحد على قَدْر ما أعطاه من العقل ، ولم يكلّفه فوق ذلك . وذلك كقسمة الأرزاق والآجال ونحوهما ، وجعل الثواب والعقاب منوطين بما يعمله العبد من مقتضى العقل ودلالته ويتركه ، ولا ظلم في ذلك ولا جور ، بل هو على وجه المصلحة ، فقد يعمل صاحب الجزءين من العقل مثلاً بمقتضاهما ، وقد لا يعمل صاحب العشرة أجزاء بمقتضاها،فإعطاء الأكثر لايستلزم الجور في القِسمة، كما في قسمة الأرزاق والآجال ، فإنّ صاحب الرزق القليل قد يصرفه في طاعة اللّه دون الكثير ، وقد يكون صاحب العمر القصير كذلك . ومراتب ذلك كثيرة ، وكلّها منوطة بإعطاء قَدْرٍ من العقل والعمل بمقتضاه ، وإعطاء القدرة على العمل به وتركه . وفي التفاوت في ذلك ونحوه من المصالح ما لا يعلم كنه حقيقته إلاّ اللّه سبحانه ، وقد يظهر للعقول بعضها ، وبعد ثبوت حكمته وفعله الأصلح بعباده لا يختلج في فكر عاقل نسبة شيء ممّا لا يليق إليه تعالى . الثانية : مقابلة الجهل بالعقل وعدم مقابلته بالعلم ، لعلّ السرّ فيه _ واللّه أعلم _ مع ما تقدّم ، التنبيه على أنّ العلم لا يكون علماً يستحقّ أن يسمّى به إلاّ إذا كان صادراً عن العقل ، وما ليس كذلك فهو جهل ، بل هو أعظم أنواع الجهل ؛ لما يترتّب عليه ممّا لا يترتّب على غيره من المفاسد ، وقد احتجّ اللّه تعالى بالعقل على العباد ، والعقل يدلّهم على العلم الذي يجب أخذه عن أهله ؛ فكلّ من تبع عقله وعمل بما دلّه عليه كانَ عالماً ، وما ليس فليس . فلو قوبل العِلم بالجهل ، لأوهم دخول كلّ ما يسمّى علماً ولو ظاهراً . ولم يقابل العقل بعدم العقل ؛ لأن لا يتوهّم دخول من ليس له عقل من المجانين ، فإنّ مثلهم لا دَخْل له بهذا المقام ؛ لعدم تعلّق شيء بهم من الأحكام والوعد والوعيد ، والمدح على المتابعة ، والذمّ على عدَمها . وحاصل ما في هذا الباب بيان ماهيّة العقل والجهل ، وما يترتّب على إطاعتهما ومخالفتهما ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «و بالمقام» .
2- . البقرة (2) : 18 .
3- . النمل (27) : 80 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 21 ، كتاب العقل و الجهل ، ح 14 .

ص: 128

. .

ص: 129

أخبرنا أبو جعفر محمّد بن يعقوب ، قال :حدّثني عدَّةٌ من أصحابنا منهم : محمّد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن

قوله : (أخبرنا (1) أبُو جَعْفر) . كان المصنّف رحمه الله لمّا جَمَعَ هذا الكتاب إجابةً لمن ذكره وصَنَعَه لأجله وَجَعَله متمسّكاً له ، ذَكَرَ قوله : «أخبرنا» إجازةً للسائل بروايته وأخذه عنه ؛ فهو في قوّة قوله «أجزتُ لك أن تقول : أخبرنا أبوجعفر محمّد بن يعقوب» كما يقول المحدّث : حدّثكم فلان وأخبركم فلان (2) . أو بتقدير «قل» أخبرنا ، ونحو ذلك . وقد ذكره أيضاً في أوّل باب فرض العلم (3) ، وأوّل كتاب التوحيد (4) وكتاب الإيمان والكفر (5) . وقد كثُر في حواشي نسخ الكتاب أنّ هذه الزيادة من تلامذة المصنّف . والوجه ما ذكرناه .

.


1- . في حاشية «د» : «في أوّل صحيح البخاري : أخبرنا أبو عبداللّه محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري إلخ ، وهذا كان متعارفا (منه) » .
2- . في «ج ، د» : - «كما يقول المحدّث حدّثكم فلان و أخبركم فلان» .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 30 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، ح 1 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 72 ، باب حدوث العالم ، ح 1 .
5- . الكافي ، ج 2 ، ص 2 ، ولم يرد فيه هذه اللفظة .

ص: 130

محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «لمّا خلقَ اللّه ُ العقلَ استنطَقَه ، ثمّ قال له : أقبِلْ ، فأقبَلَ ، ثمّ قال له : أدْبِر ، فأدبَرَ ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ، ما خلقتُ خلقا هو أحبُّ إليَّ منك ، ولا أكملتُك إلاّ فيمن اُحِبُّ ، .........

قوله عليه السلام : (لَمّا خَلَقَ اللّه ُ العقلَ استنطقه ، ثمّ قالَ له : أقْبِلْ فَأقْبَلَ ، ثمّ قالَ له : أدْبِرْ فَأدْبَرَ ، ثمّ قالَ : وعِزَّتي وجَلالي ما خَلَقْتُ خَلْقاً هو أحَبُّ إليَّ مِنك ، ولا أكْمَلْتُك إلاّ في مَن اُحِبُّ ، أما إنّي إيّاك آمُرُ ، وإيّاك أنْهى ، وإيّاك أُعاقبُ ، وإيّاك اُثيبُ) . قوله عليه السلام : «استنطقه» يحتمل أن يكون معناه أنّه تعالى أراد منه النطق _ مع إقداره عليه _ بالإقرار له تعالى بما يريده منه ؛ وأن يكون جعل فيه قوّة النطق . أو أنّ النطق بمعنى الفهم والإدراك ، وأن يكون بمعنى «كلّمه» . قال في الصحاح : واستنطقه ، أي كلّمه . (1) والإتيان ب «ثمّ» إمّا لتراخي القول عن كلام سابق ، أو لكون «ثمّ» هنا بمعنى الفاء ، كقوله : جرى في الأنابيب ثمّ اضطرب . ويؤيّده قوله : «ثمّ قال له : أدبِرْ فأدْبَرَ» وكذا قوله : «ثمّ قال» فإنّ الظاهر تعاقب الأمرين ، وإن كان في الأوّل أظهر . ونُطق العقل بأيّ معنى اعتبر غير مستحيل بالنسبة إلى قدرته تعالى ؛ قال تعالى : «قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ» (2) ؛ «قَالَتَآ أَتَيْنَا طَ_آل_ءِعِينَ» (3) ؛ « وَ إِن مِّن شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِى» (4) ومنكر ذلك منكر لكمال قدرته تعالى . والإقبال والإدبار بمعنى الذهاب والإياب لتمام امتثال الأمر ، كما أنّ من أراد اختبار طاعة عبده مثلاً ، فيقول له : اذهب ، ثمّ يقول له : ارجع ، فإنّ (5) به يظهر الانقياد والطاعة ولزوم الحجّة في مثل أمره تعالى ، وقد يكون ذلك في أمر غيره . ولا بُعد في وصف العقل بالإقبال والإدبار (6) والذهاب والإياب ، وكذا ما أشبهه من الحواسّ والفكر والنفس ، فإنّ هذه الأشياء تذهب وتجيء وتفارق على وجه يناسب نسبته إليها ، ولا ينحصر ذلك فيما يعهد من إقبال نحو الإنسان بوجهه وحركته نحو الأمر (7) وإدباره كذلك عنه ، فإنّ لكلّ مقام مقالاً . وفي حديث العقل وجنوده أنّه أوّل خلق من الروحانيين (8) ، فلا بُعد في أن يجعله اللّه تعالى على حالة يتّصف بها بالإقبال والإدبار بالمعنى المتعارف ، ويكون مأموراً بالإقبال والإدبار إلى جهةٍ أُمِرَ بالإقبال والإدبار إليها وعنها ، فإنّه لا دليل في الحديث على أنّ أمره ، بل ولا خلقه قبل خلق المكان ، وقد أعطى اللّه الملائكة والجنّ قدرة التشكّل بأشكال بني آدم وغيرهم ، فأيّ مانع من كون العقل كذلك ولو في حالة الأمر بالإقبال والإدبار ، ولكن هذا غير محتاج إليه بعد ملاحظة ما تقدّم . وإكماله تعالى العقل إمّا بمعنى أنّه تعالى إذا رأى من عبد طاعةً وانقياداً ، وكان قد أعطاه شيئاً من العقل ، تَفَضَّلَ عليه بحصّة اُخرى ليعمل بها ، كما عمل بما قسم اللّه له أوّلاً ، لتكون مرتبته أعلى وأسنى . وإمّا بمعنى أنّه تعالى يمدّ عبده الذي قد أحبّه بطاعته وانقياده بالهداية والتوفيق لأن يعمل بما أعطاه من العقل ولا يخالفه . وذلك قد يرجع إلى اختيار العبد ذلك ، كما في الحديث القدسي : «وإنّه ليتقرّب إليّ بالنوافل حتّى اُحِبَّه ، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمَعُ به ، وبَصَرَه الذي يَبصر به ، ولسانَه الذي يَنْطِقُ به ، ويَدَه التي يَبْطِشُ بها ، إن دَعاني أجَبْتُه ، وإن سألَني أعطَيْتُهُ» . (9) وقد يكون ذلك منه تعالى من أوّل الأمر ؛ لعلمه بأنّه يطيع وينقاد ، فالعقل على الأوّل ناقص بالنسبة إلى ما اُضيف إليه ، وعلى الثاني باعتبار عدم العمل بمقتضاه ، فنقصه يرجع إلى نقص صاحبه .

.


1- . الصحاح ، ج 4 ، ص 326 (نطق) .
2- . فصّلت (41) : 21 : « وَ قَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ » .
3- . فصّلت : (41) : 11 : « فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَ_آل_ءِعِينَ » .
4- . الإسراء (17) : 44 : « تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَ_اوَتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَن فِيهِنَّ وَ إِن مِّن شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِى » .
5- . في «ألف ، ب» : فإنّه» .
6- . في «د» : «بالإدبار والإقبال» .
7- . في «ألف» : «الآمر» .
8- . الكافي ، ج 1 ، ص 20 ، كتاب العقل و الجهل ، ح 14 .
9- . المؤمن ، ص 43 ، باب ما خصّ اللّه به المؤمن من الكرامات والثواب ، ح 62 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 291 ؛ باب المحجوبات من كتاب مصابيح الظلم ، ح 443 ؛ الكافي ج 2 ، ص 352 ، باب من أذى المسلمين واحتقرهم ، ح 7 و8 ؛ إرشاد القلوب ، ج 1 ، ص 91 ، الباب الثاني والعشرون في فضل صلاة الليل ؛ جامع الأخبار ، ص 81 ، الفصل الثامن والثلاثون في صوم رمضان وغيره ؛ عوالي اللئالي ، ج 4 ، ص 103 ، ح 152 ؛ وسايل الشيعة ، ج 4 ، ص 72 ، ح 4544 ؛ وفي بحارالأنوار ، ج 67 ، ص 22 ، باب حبّ اللّه ، ح 21 ، عن المحاسن ؛ و ج 72 ، ص 155 ، باب من أخاف مؤمنا... ، ح 25 عن الكافي .

ص: 131

. .

ص: 132

أما إنّي إيّاك آمُرُ ، وإيّاك أنهى وإيّاك اُعاقبُ ، وإيّاك اُثيبُ» .

وقوله تعالى : «أما إنّي إيّاك آمُرُ ... » الظاهر منه _ واللّه أعلم _ أنّ اللّه سبحانه لمّا أمَر العقل وأعلَمَه أنّه خلقه ليكون حجّته الباطنة على عباده ودليلهم على سبيل النجاة ، وبذلك قد يظنّ العقل أنّه لخلقه لذلك غير مكلّف وأنّ مخاطبته بالأمر والنهي لا يترتّب على خلافها عقابٌ وثوابٌ يرجعان إليه ، فنَبَّهَهُ تعالى بقوله «أما إنّي ...» أي أما إنّ الأمر الذي أمرتك به بقولي «أقبل» و«أدبر» مختصّ بك ومنحصر فيك ، وإيّاك أنهى فيما أنهاك عنه لا غيرك، وإيّاك اُثيب إذا امتثلتَ،وإيّاك اُعاقب إذا لم تنته. ويحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون ذكر «آمر» دون «أمرت» ليتناول غير هذا الأمر أيضاً . و«أنهى» كذلك ليتناول النهي الذي استلزمه هذا الأمر وغيره ، وحاصله إرادة : إيّاك أقصد بكلّ أمر ونهي . وقد يستعمل مثل هذا والمراد به ما تقدّم من الأمر ونحوه ، فيقول بعده : إيّاك أعني بكلامي . ويمكن في مثله إرادة ما وقع في هذه الحال وإن كان قد مضى ، فإنّه قد يسمّى حالاً عرفاً ؛ واللّه أعلم . إذا تقرّر هذا فلا منافاة بين هذا الحديث والحديث الذي يأتي في هذا الباب : «بك آخُذُ ، وبك أُعطي» (1) أي بسببك أخذ المسيء بإساءته والمذنب بذنبه ، وبسببك أعطي الثواب ونحوه ، فإنّ العقل لكونه دليلاً ومرشداً سببٌ لذلك ؛ وكذلك ماورد في حديث آخر : «بك اُثيب ، وبك اُعاقب» (2) نقل هذا الحديث والدي طاب ثراه . فإنّ الحديث الأوّل في هذا الباب يتعلّق أمره ونهيه وثوابه وعقابه بنفس العقل ، وهذان بغيره ؛ فلا منافاة . وأيّ بُعد في أن يكون العقل مكلّفاً بنوع من التكليف وهو الطاعة والانقياد بل غير العقل أيضاً ممّا يتعلّق به الأمر والنهي منه تعالى ، ويترتّب على ذلك نوعٌ من الثواب والعقاب ، كما في حديث العقل وجنوده والجهل وجنوده ، فإنّه لمّا قال تعالى للجهل : أقبل ، فلم يقبل ، قال له : استكبرت ، فلعَنه ، وقول الجهل : ياربّ ، هذا خلقٌ مثلي خلقتَه وكرّمتَه وقوّيتَه ، إلى أن قال تعالى للجهل : فإن عصيتَ بعد ذلك أخرجتُك وجندَك من رحمتي . ومثل هذا ظاهرٌ فيما ذكرناه ؛ فظهر الفرق بين تكليف العقل وما خلق لأجله . ولا ينافي ذلك علمه تعالى بعدم معصية العقل ، فقد خاطب تعالى أنبياءه ونحوهم ممّن يعلم عدم وقوع معصية منهم بمثل ذلك ، كقوله تعالى : «لَ_ل_ءِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (3) لحكمة في ذلك ومصلحة نحو إسماع غير النبي صلى الله عليه و آله بأنّ مثله لو حصَل منه ذلك لترتَّبَ عليه ما ذُكر ، فيكون أبلغ في الزجر وقبول المأمور به وترك المنهيّ عنه ، وككونه من قبيل «القولُ لَكِ ياكنّه لِتسمعي باجارة» ونحو ذلك ممّا اللّه سبحانه أعلم بحقيقته . ولا يليق بَعَدْلِه سبحانه أن يجعل عقاب المدلول على الدالّ ، ليكون المعاقب العقل بجناية صاحبه «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخرى» . (4) واحتمال إرادة النفس الناطقة أو بعض مراتبها بعيد ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 28 ، كتاب العقل والجهل ، ح 32 .
2- . الفقيه ، ج 4 ، ص 368 ، ح 5762 ؛ كنز الفوائد ، ج 1 ، ص 57 ؛ السرائر ، ج 3 ، ص 620 (مستطرفات) ؛ مكارم الأخلاق ، ص 442 ، الفصل الثالث في وصية النبيّ صلى الله عليه و آله ؛ أعلام الدين ، ص 172 ؛ عوالى اللئالي ، ج 4 ، ص 99 ، ح 142 ؛ وفي بحارالأنوار ، ج 74 ، ص 60 ، باب ما أوصى رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ، ح 3 عن مكارم الأخلاق .
3- . الزمر (39) : 65 .
4- . الأنعام (6) : 164 ؛ الإسراء (17) : 15 ؛ فاطر (35) : 18 ؛ الزمر (39) : 7 .

ص: 133

. .

ص: 134

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن عمرو بن عثمان ، عن مفضّل بن صالح ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نُباتةَ ، عن عليّ عليه السلام ، قال :«هبط جبرئيلُ على آدمَ عليه السلام ، فقال :يا آدمُ ، إنّي اُمرتُ أن اُخيِّرَك واحدةً من ثلاثٍ ، فاختَرْها ودَع اثنتين ، فقال له آدمُ : يا جبرئيلُ ، وما الثلاث؟ فقال : العقلُ والحياءُ والدينُ ، فقالَ آدمُ : إنّي قد اخترتُ العقلَ ، فقالَص 11 جبرئيلُ للحياء والدين : انصرفا ودعاه ، فقالا : يا جبرئيل ، إنّا اُمرنا أن نكونَ مع العقل حيث كان ، قال : فشأنكما ، وعرج» .

قوله عليه السلام في حديث الأصبغ : (هَبَطَ جَبْرئيلُ عليه السلام على آدمَ عليه السلام ، فقال : يا آدمُ ، إنّي اُمِرتُ أن اُخَيِّرَك واحدةً من ثلاثٍ ، فَاخْتَرْها ودَعِ اثنتينِ ، فقالَ له آدمُ : يا جَبرئيلُ ، وما الثلاثُ؟ فقالَ : العقلُ والحياءُ والدينُ ، فقال آدم عليه السلام : إنّي قَدِ اخْتَرْتُ العقلَ ، فقالَ جَبرئيلُ عليه السلام للحياء والدين : انْصَرِفا ودَعاه ، فقالا : ياجَبرئيلُ : اُمِرْنا أن نَكونَ مع العقلِ حيثُ كانَ ، قالَ : فشَأنَكُما ، وعَرَجَ) . المراد بالعقل هنا _ واللّه أعلم _ متابعته والعمل بكلّ ما يدلّ عليه ، بمعنى عَقَلَ ذلك ، كما تقدّم في أوّل كتاب العقل ، لا الغريزة (1) ، فإنّ اختيار آدم عليه السلام العقل بالمعنى المذكور فرع وجوده فيه ، مع بُعد كونه عليه السلام كان قبل هذا خالياً من العقل بالكلّيّة ، نعم يحتمل وجوده في الجملة ، والذي خيّر فيه زيادته وكماله ؛ أو أنّ اللّه تعالى أعطاه ما يميّز به مثل هذا ، سوى العقل . ووجه كون الحياء والدين تابعين للعقل ظاهرٌ ، فإنّهما بلا عقل لا يتحقّقان على الوجه المراد منهما ، بخلاف العقل ، فإنّه بمتابعته يحصل الحياء والدين وغيرهما . قال والدي ، _ طاب ثراه _ في بعض فوائده على الكتاب : قد يُسأل أوّلاً عن قول جبرئيل عليه السلام : «ودَعِ اثنتينِ» مع أنّ أمره عليه السلام إنّما هو من قِبَلِ اللّه ، والحال أنّ الحياء والدين قالا «اُمرنا أن نكون مع العقل» وأمرهما من قِبَل اللّه أيضاً ؛ فيحصل التنافي . وإمكان الجواب بأنّ جبرئيل لم يكن أمره إلاّ على سبيل الاختبار ، فلا ينافي أمرهما بعدم الترك ؛ قد يشكل بأنّ الظاهر من الأمر هو فعل المأمور به . ويُجاب بأنّ العدول عن الظاهر لما ذكر لابُدّ منه . وثانياً : أنّ قول جبرئيل عليه السلام للحياء والدين : «انصرفا» ينافي الأمر بعدم الانصراف في قول الحياء والدين . والجواب كالأوّل . واحتمال كون الأمر من جبرئيل لا من اللّه في غاية البُعْد ؛ بل لا وجه له . ثمّ إنّ «الدين» في المقام محتملٌ لأن يُراد به العبادة ، كما صرّح به بعض أهل اللغة (2) ؛ ويحتمل أن يُراد به الورع ؛ للتصريح به أيضاً (3) . وأمّا «الحياء» فله تفسير في الأخبار ، كما يأتي إن شاء اللّه . انتهى كلامه ، أعلى اللّه مقامه (4) . أقول : قد يُجاب عن الأوّل أيضاً بأنّ اللّه تعالى أمر جبرئيل عليه السلام بأن يخيّره واحدة ، وظاهر قول جبرئيل : «ودَع اثنتين» أنّه منه عليه السلام تاكيداً وتوضيحاً لما اُمر به ، فإنّ الأمر باختيار واحدة فقط يقتضي ترك اثنتين ؛ ويُمكن اعتباره أمراً من اللّه تعالى ولو من هذه الجهة . وكيف كان فمعناه : اخترها ودَع اختيار اثنتين . والأمر بترك اختيار الاثنتين لاينافي أمر الحياء والدين بكونهما مع العقل حيث كان ، نعم أمر الحياء والدين بكونهما مع العقل ينافي الأمر بالانصراف ، فيكون الأمر به على طريق الاختيار ، كما أفاده والدى رحمه اللّه . وقد وَرَدَ في بعض الأخبار في هذا الكتاب ما يدلّ بظاهره على أنّ المعصوم قد يتكلّم بكلام مترتّب على ظنّ حَصَلَ له ، كقول النبيّ صلى الله عليه و آله لبعض الملائكة ما معناه : ياجبرئيل ، فقال له : لست بجبرئيل ، إنّما أنا فلان . وغير هذا ممّا يظهر منه ترتّب كلام منهم عليهم السلام بمجرّد الظنّ بحيث لا يستلزم الكذب ونحوه ممّا ينافي منصب العصمة. فإن ثَبَتَ مثل هذا للمعصوم وكان غير مناف للعصمة ، أمكنَ أن يقال في هذا الحديث : إنّ جبرئيل عليه السلام أمرهما بالانصراف ظنّاً منه أنّ ذلك لازم للأمر باختيار غيرهما وعدم اختيارهما ، وهو لا يعلم الغيب ؛ بل الأمر هاهنا أظهر من حيث إنّه ظَهَرَ له من عدم انصرافهما مخالفتهما ، فأمرهما بذلك . والأولى ترك الاعتماد على مثل هذا التوجيه ، وكلام النبيّ صلى الله عليه و آله قد يكون له وجه غير ظاهره كالاختبار ونحوه ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه . وتانيث «واحدة» و «ثلاث» باعتبار «الخصلة» ونحوها ، وضمير «دعاه» يرجع إلى العقل ، أو إلى آدم عليه السلام ، والأوّل أقرب . و«شأنكما» أي الزما شأنكما ونحوه .

.


1- . في حاشية «ألف ، د» : «من المعلوم أنّ سبحانه لم يكلّف إلاّ بعد إعطاء العقل ، ولو اريدت الغريزة لزم وجود الحياء والدين معها حيث وجدت . وهذا بديهي البطلان ، فتدبّر . (الف : منه) ؛ (د : منه دام عزّه) » .
2- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 225 (دين) .
3- . لسان العرب ، ج 13 ، ص 170 (دين) .
4- . والده محمّد بن حسن بن زين الدين ، صاحب استقصاء الاعتبار ، وفوائده على الكافي غير مطبوعة .

ص: 135

. .

ص: 136

. .

ص: 137

أحمد بن إدريس ، عن محمّد بن عبدالجبّار ، عن بعض أصحابنا ، رَفَعَه إلى أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :قلت له : ما العقل؟ قال : «ما عُبِدَ به الرحمن ، واكتُسِبَ به الجِنان» قال : قلت : فالذي كانَ في معاويةَ؟ فقال : «تلك النَّكْراءُ ، تلك الشيطنةُ ، وهي شبيهةٌ بالعقل ، وليست بالعقل» .

قوله عليه السلام في الحديث المرفوع بعد قول السائل : ما العقل؟ : (ما عُبِدَ بِه الرحمنُ ، واكْتُسِبَ بِه الجِنانُ ...) . يمكن أن يكون قصد السائل السؤال عن ماهيّة العقل ، فأجابه عليه السلام بما الأولى له السؤال عنه ، وهو ما يترتّب على العقل من متابعته التي يترتّب عليها ذلك ، كما في قوله تعالى : « يَسْ_ئلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ » (1) الآية . أو أنّه عليه السلام أجابه بما يفهمه من أنّ العقل ما يدلّ على عبادة الرحمن واكتساب الجنان . وهو من قبيل الأوّل . ويحتمل أن يكون معناه ما تعقل الأشياء الذي ينتفع به ، فأجابه عليه السلام بذلك . وقوله عليه السلام : (وهي شبيهة بالعقل) أي النكراء التي في معاوية ليست بعقل ، فإنّها يعبد بها الشيطان ويدخل بها النيران ، ولكنّها شبيهة بالعقل من حيث الإتيان بالتحلّم الذي هو الشيطنة ، والنكراء عوضاً عن الحلم الذي هو صادر عن العقل . وكذا نحوه من تكلّف العفو وملاءَمة بعض الناس لمصلحة دنياه ، فكانت هذه الأشياء شبيهة بالعقل مِن تصويرها بصورته ، ومِن توهّمها عقلاً عند بعض الناس ، وإلاّ فهي عين الجهل ونفس المنكر ، وأيّ عقل مع خلاف من تجب طاعته والخروج عليه . وفي الصحاح : النُّكْرُ المنكَرُ ، والنَّكراء مثله ، والنكارة : الدهاء ، وكذا النُّكر بالضّم . (2)

.


1- . البقرة (2) : 215 .
2- . الصحاح ، ج 2 ، ص 575 (نكر) .

ص: 138

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن ابن فضّال ، عن الحسن بن الجهم ، قال : سمعتُ الرضا عليه السلام يقول : «صديقُ كلّ امرئٍ عقلُه ، وعدوُّه جهلُه» .

قوله عليه السلام في حديث الحسن بن الجهم : (صَديقُ كُلِّ امْرِى ءٍ عَقْلُهُ ، وعَدُوُّهُ جَهْلُهُ) . لا شبهة في أنّ العقل يدلّ صاحبه على ما فيه صلاحه ، فهو ظاهر الصداقة ؛ والجهل بخلافه ، فهو ظاهر العداوة . قال والدي طاب ثراه : لا يخفى أنّ في الخبر احتمالين : أحدهما : أنّ في كلّ إنسان عقلاً وجهلاً ؛ لذكر كلّ في الأمرين . والثاني : أن يكون الناس على قسمين : عاقل وجاهل ، فالعقل صديق لكلّ إنسان ، والجهل عدوّ لكلّ إنسان على أن يؤخذ كلّ واحد من حيث هو ؛ فليتأمّل . انتهى كلامه ، أعلى اللّه مقامه . أقول : الظاهر أنّ المراد من الحديث على الاحتمال الأوّل أنّ كلّ إنسان يكون له عقل وجهل يمكن أن يتّصف بهما ليخرج غير المتّصف بشيء منهما ؛ على أنّ المراد بالعقل الغريزة ، وبالجهل ما قابله ، وكلُّ إنسانٍ ممّن ذُكر هذا حكمُه . فلا يرد ما يمكن أن يقال : إنّه قد يوجد عاقل من غير جهل وعكسُه ، بل قد يوجد الخالي منهما ، فإنّ هذا يترتّب على إرادة الأثر الحاصل من العقل والجهل ؛ وما يمكن أن يقال : إنّ «كلاًّ» وإن كان لاستغراق الأفراد ، إلاّ أنّه لا يلزم من العبارة أن يكون لكلّ فردٍ عقل وجهل ، غايتها أنّها تفيد صداقة العقل المضاف إلى كلّ واحد ، وعداوة الجهل كذلك ، وهو لا يستلزم وجودهما في كلّ فرد ؛ فإنّ قولنا مثلاً : «صديقك كلّ من نصحك ، وعدوّك كلّ من غشّك» لا يلزم منه وجود الناصح والغاشّ ؛ فتأمّل . والاحتمال الثاني الذي ذكره والدي _ رحمه اللّه _ لا يخلو من خفاء . بقي احتمال آخر ، وهو أن يكون المعنى : صديق كلّ امرئ ذي عقل عقلُه ، وعدوّ كلّ امرئ ذي جهل جهلُه . والمقدّر يفهم من الإضافة . وهذا الاحتمال ينطبق على كلّ من العقل والجهل وما يترتّب عليهما ، مع إخراج غير المتّصف بهما أو بأحدهما ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 139

وعنه ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عن الحسن بن الجَهْم ، قال :قلت لأبي الحسن عليه السلام : إنّ عندنا قوما لهم محبّةٌ ، وليستْ لهم تلك العزيمةُ يقولون بهذا القول ، فقال عليه السلام : «ليس اُولئك ممّن عاتَبَ اللّه تعالى، إنّما قال اللّه : « فَاعْتَبِرُواْ يَ_ااُوْلِى الْأَبْصَ_ارِ» ».

قوله عليه السلام في حديث الحسن بن الجَهْم : (إنّ عندَنا قوماً لهم مَحبّةٌ ، ولَيسَتْ لهم تلك العَزيمةُ يَقولونَ بهذا القولِ ، فقال : ليس أُولئك ممّن عاتَبَ اللّه ُ ، إنّما قال اللّه : «فَاعْتَبِرُواْ يَ_اأُوْلِى الْأَبْصَ_ارِ» ) (1) . يحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون المعنى : أنّ هؤلاء المذكورين لهم إليكم محبّة عظيمة ، أو نوع من المحبّة ، وهم يقولون بقولكم ، وليس لهم تلك العقول الراجحة ، أو ذلك الثبات والرسوخ بحيث يأتمرون بكلّ ما ينبغي ، وينتهون كذلك ، ويعملون بما يعمل غيرهم ممّن عقولهم أرجح من عقولهم . فأجاب عليه السلام بأنّهم ليسوا ممّن عاتبهم اللّه وأمَرَهم بالاعتبار ؛ لضعف عقولهم ، وأنّ المأمور به هم ذوو العقول الراجحة ، فإمّا أن يعتبروا ، أولا ؛ ولكلٍّ حكمه . وظاهر الحديث أنّ هؤلاء يكفيهم ماهم عليه مع ما تَسَعُه عقولهم من التكليف ، أو أنّهم راجعون إلى مشيّة اللّه ، إن حُمل على معنى آخر يُناسب الرجوع إلى المشيّة. وفيه دلالة على خلاف ما يقوله مَن أوجب الاجتهاد عينا على الأوّل ؛ واللّه أعلم . ويأتى في أواخر كتاب العقل حديث لابن الجهم بهذا المعنى ، وفيه : «وليس لهم تلك العقول» (2) .

.


1- . الحشر (59) : 2 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 27 ، كتاب العقل والجهل ، ح 32 .

ص: 140

أحمد بن إدريس ، عن محمّد بن حسّان ، عن أبي محمّد الرازيّ ، عن سيف بن عَمِيرَةَ ، عن إسحاق بن عمّار ، قال :قال أبو عبداللّه عليه السلام : «من كانَ عاقلاً كانَ له دينٌ ، ومن كانَ له دينٌ دَخَلَ الجنّةَ» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن الحسن بن عليّ بن يقطين ، عن محمّد بن سنان ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«إنّما يداقُّ اللّه ُ العبادَ في الحساب يومَ القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا» .

قوله عليه السلام في حديث إسحاق بن عمّار : (مَن كانَ عاقِلاً كانَ له دينٌ ، ومَن كانَ له دينٌ دَخَلَ الجَنّةَ) . أي مَن كان عاملاً بمقتضى عقله وتابعاً له كانَ له دين ألبتّة ؛ لأنّ العقل دليلٌ على ذلك ، والغرض من خلق صاحب العقل وتكليفه إدخاله الجنّة بشرط متابعة العقل ، وهو ظاهر . قوله عليه السلام في حديث أبي الجارود : (إنّما يُداقُّ اللّه ُ العِبادَ في الحسابِ يَومَ القيامَةِ على قَدْرِ ما آتاهم من العقولِ في الدنيا) . هذا الحديث يدلّ على قسمة العقول بالتفاوت،ويؤيّد حديث ابن الجهم السابق. والعقول هنا (1) الغرائز التي تدلّهم ، واللّه سبحانه عدلٌ حكيمٌ لا يكلّف العبد مالا يطيق ولا يصل إليه عقله ، فحساب كلّ مكلّف على مقدار ما اُعطي من العقل .

.


1- . في «ج» : «هاهنا» .

ص: 141

عليُّ بن محمّد بن عبداللّه ، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر ، عن محمّد بن سليمانَ ص 12 الديلميّ ، عن أبيه ، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : فلانٌ من عبادته ودينه وفضله كذا؟ فقال عليه السلام : «كيف عقله؟» قلت : لا أدري ، فقالَ : «إنّ الثوابَ على قَدْر العقل ، إنّ رجلاً من بني إسرائيل كانَ يعبُدُ اللّه في جزيرة من جزائر البحر ، خضراءَ ، نَضِرَةٍ ، كثيرةِ الشجر ، ظاهرةِ الماءِ ، وإنَّ مَلَكا من المَلائكة مَرَّ به ، فقال : يا ربِّ أرِني ثوابَ عبدِك هذا ، فأراه اللّه تعالى ذلك ، فاستقلّه المَلَكُ ، فأوحى اللّه تعالى إليه : أنِ اصْحَبْه ، فأتاهُ المَلَكُ في صورة إنسيّ ، فقال له : مَن أنت؟ قال : أنا رجلٌ عابِدٌ بَلَغني مكانُك وعبادتُك في هذا المكان ، فأتيتُكَ لأعبُدَ اللّه َ مَعَك ، فكانَ معه يومَه ذلك ، فلمّا أصبَحَ ، قالَ له الملك : إنّ مكانَك لنَزِهٌ ،

قوله عليه السلام في حديث محمّد بن سليمان : («كيفَ عقلُه؟» ، قلتُ : لا أدري ، فقال : «إنّ الثوابَ على قَدْرِ العقلِ») . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ هذا الذي وصفته بالعبادة والدين والفضل ، إن كانت هذه الأوصاف مأخذها ما دَلَّ (1) عليه العقل ، فأَخَذها وحصلها على وجهها الذي ينبغي ، كانَتْ عبادة هذا ودينه وفضله ممّا يترتّب عليه الثواب الجزيل ، ويترتّب الثواب على كلّ مرتبة بحسبها ، فليس كلّ ما كان بصورة العبادة والدين والفضل ومشابها لها يترتّب عليه ثواب ما شابهه ، كما تقدّم في مشابهة نكراء معاوية للعقل من حيث الظاهر . قوله عليه السلام في هذا الحديث : (إنّ رجلاً من بني إسرائيل كانَ يَعبُدُ اللّه َ في جزيرةٍ من جَزائرِ البحرِ) الحديث . ذكر عليه السلام هذه القصّه مثلاً للذي يقلّ ثوابه وإن كثر عمله إذا لم يكن عمله مقروناً بما ينبغي متابعة العقل فيه ، وهذا العابد كانَ عليه أن يعرف اللّه حقّ معرفته التي تجب عليه بالتعلّم ونحوه ، لتكون عبادته وعمله مع كمال العلم ، ليكون ثوابه على أقلّ من هذه العبادة أكثر منه عليها . وقلّة ثواب هذا العابد باعتبار اتّباع عقله في الجملة ، وإلاّ فالعمل من غير متابعة أصلاً لا يكون له ثوابٌ إلاّ ما استثنى نادرا .

.


1- . في «د» : «دلّه» .

ص: 142

وما يصلُحُ إلاّ للعبادة ، فقال له العابد : إنّ لمكاننا هذا عيبا ، فقال له : وما هو؟ قال : ليس لربّنا بهيمةٌ ، فلو كان له حمار رَعَيْناهُ في هذا الموضع ، فإنّ هذا الحشيشَ يَضيعُ ، فقال له ذلك الملكُ : وما لربّك حمارٌ؟ فقال : لو كان له حمارٌ ما كان يَضيعُ مثل هذا الحشيشِ ، فأوحى اللّه تعالى إلى الملك : إنّما اُثيبُهُ على قَدْر عقله» .

فقوله تعالى : (إنّما اُثِيبُه على قَدْرِ عَقْلِه) معناه _ واللّه أعلم _ على قدر عقله لما ينبغي أن يعقله ، وهذا مقصّر في ذلك كغيره ممّن ذَمَّه اللّه تعالى على عدم العقل . والقرآن وغيره مشحونان به ، وأكثر الآيات التي في حديث هشام الآتي من هذا القبيل . ويحتمل قوله تعالى : «إنّما اُثيبه على قدر عقله» وقول أبي عبداللّه عليه السلام : «إنّ الثواب على قدر العقل» وجهاً آخر لا ينافي عدله تعالى أيضا ، وهو أنّ مَن أعطاه اللّه تعالى حصّةً من العقل ، كانَ ثوابُه بمقدار متابعته لتلك الحصّة ، وعقابُه بمقدار مخالفته لها ، فإذا زاد عن المتابعة التي يؤدّى إليها العقل ، كانت تلك الزيادة صادرة عن غير عقل ، فيكتب له ثواب ما تعلّق بالعقل فقط ، والزائد إمّا أن ينهاه العقل عنه ، فيرجع إلى العمل به ، فيكون مخالفاً له ، فيعاقب عليه ، وإمّا أن يفعله من غير ملاحظة دخوله تحت نهيه مع عدم معرفته لذلك أو من غير تعلّق له بما عنده من العقل ، فهذا الزائد لا ثوابَ له عليه . ويمكن أن يكون العابد هنا من هذا القبيل ، فإنّه ليس عنده من العقل ما يدلّه على أنّ اللّه تعالى منزّه عن اتّخاذ الحمار ونحوه ، ويمكن أن يكون أكثر عبادته مشوباً بنقص من نحو هذا ، فلا يكتب له إلاّ ثواب ما أدّى إليه العقل القليل بالنسبة إلى غيره ، ولا يعاقب على غيره ؛ لعدم تكليف غير العاقل . وهذا بالنسبة إلى هذا القدر ، ونحوه غير عاقل . وكذا قول أبي عبداللّه عليه السلام : «إنّ الثواب على قدر العقل» . وعدم ذكر العقاب في الموضعين لأنّ المقام مقام من يستحقّ الثواب على عمله في الجملة ، ولا يستحقّ الثواب على جميع العمل ؛ واللّه تعالى أعلم . قال والدي أنار اللّه برهانه : قد يقال : إنّ في الأمر بصحبته _ مع وقوع الكلام القبيح من العابد _ نوعَ إغراء بالقبيح ، ولا يليق باللّه سبحانه . ويمكن الجواب بأنّ الأمر بالصحبة لا يقتضي وقوع القبيح . ويشكل بأنّه تعالى يعلم وقوع القبيح من العابد ، فلا يخرج عن الإغراء . ويمكن الجواب بعدم قبح ما صَدَرَ من العابد نظراً إلى قلّة عقله ، وعدم التصريح بالقبيح كما يقتضيه لفظ «لو» وفيه نوعُ تأمّلٍ . ولعلّ الأولى أن يقال : إنّ مقام رفع إنكار المَلَكِ يحسّن ما هو غير لائق في الجملة ، ويرجع الأمر إلى أنّ حُسن هذا أظهر من القبح الحاصل من كلام العابد في الجملة . وله نظائر في الآيات القرآنيّة والأخبار ؛ فليتأمّل . انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه . وهذا الكلام مع ما فيه من الفوائد دالٌّ _ كماترى _ على حمله على الوجه الثاني ، وهو أصل العقل ، لا ما يترتّب عليه .

.

ص: 143

. .

ص: 144

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام :قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «إذا بَلَغَكم عن رجلٍ حُسْنُ حالٍ ، فَانْظروا في حُسْن عقله ، فإنّما يُجازى بعقله» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عبداللّه بن سنان ، قال :ذكرتُ لأبي عبداللّه عليه السلام رجلاً مُبتلىً بالوضوء والصلاة ، وقلتُ : هو رجلٌ عاقلٌ ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «وأيُّ عقلٍ له وهو يُطيعُ الشيطانَ؟» فقلت له : وكيف يُطيعُ الشيطانَ؟ فقال عليه السلام : «سَلْه : هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو ؟ فإنّه يقولُ لك: من عَمَلِ الشيطانِ» .

قوله عليه السلام في حديث السكوني : (إذا بَلَغَكم عن رجلٍ حُسنُ حالٍ ، فَانْظُروا في حُسنِ عَقْلِه ، فإنّما يُجازى بعقِله) . يقال : فلانٌ عقلُه حَسَنٌ بمعنى أنّ تعقّله لما يطلب منه حَسَنٌ ، وفلان عقلُه غير حسن : إذا لم يكن كذلك . وقوله عليه السلام : «فانظروا في حسن عقله» ولم يقل : «فانظروا في عقله» ونحوه ؛ لفائدة أنّ حُسن الحال من غير حُسن العقل لا يُنظر ولا يُلتفت إليه ، بل الحُسْن هو حُسْن العقل ؛ فينبغي النظر إلى حُسن العقل ، لا إلى مطلق ما يظنّ حَسَناً ، فإنّما يُجازى بعقله ، فإن كانَ حَسَناً كانَ جزاؤه حسناً ، وإلاّ كانَ جزاؤه العقاب . ففي هذا الكلام الشريف من البلاغة ما لا يخفى ، فإنّ ذكر الحسن ثانياً لما ذكر ، وتركه في قوله «فإنّما يُجازى بعقله» لما علم أنّ حسن الحال تابعٌ لحسن العقل ، وهو يدلّ على أنّ (1) عدم حسن الحال مع عدم حسن العقل ؛ فبالعقل يُجازى ، حسناً كان أم غير حسن ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث عبداللّه بن سنان : (وأيُّ عقلٍ له وهو يُطيعُ الشيطانَ ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ هذا الرجل المبتلى بالوسواس في الوضوء والصلاة كيف يوصف بكونه عاقلاً ، أي عاملاً بعقله بحيث يوصف به على الإطلاق ، فإنّ مَن حاله هذه لا يطيع الشيطان في مثل أعظم العبادة ، ومَن أطاع الشيطان لا يكون مطيعاً للعقل الذي هو الدليل من اللّه سبحانه . والإمام عليه السلام عَلِمَ من خصوص هذا اعترافه بأنّه من الشيطان . وأكثر أهل الوسواس يعترفون بذلك ، وجميعهم إذا أنصفوا اعترفوا به . ولا معنى هنا لسلب أصل العقل عنه مع اعترافه بأنّه من الشيطان وذمّه على ذلك . وهذا الحديث لو لم يوجد غيره ، لكانَ كافياً في ذمّ أهل الوسواس ، فلا ينبغي إدخال مثله فيما أمر به الشارع ونَهى عنه ورضي به من المكلّف ، فتحكيم ظاهر العقل فقط في مثله يؤول إلى متابعة الشيطان .

.


1- . في «د» : «أنّه» .

ص: 145

عِدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد، عن بعض أصحابه، رفعه، قال:قال ص 13 رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ما قَسَمَ اللّه ُ للعبادِ شيئا أفضلَ من العقل، فنومُ العاقلِ أفضلُ من سَهَرِ الجاهل،

قوله صلى الله عليه و آله في حديث محمّد بن خالد : (فنومُ العاقِل أفضلُ مِن سَهَرِ الجاهلِ ...) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّ نوم من كان عاملاً بعقله أفضل من سَهَرِ الجاهل في عبادة وتحصيل علم لا يكونان على وجههما ممّا يقتضي متابعة العقل فيه ، فإنّ سعي مثل هذا وإتعابه نفسه كالراقم على الماء . وقد يحصل له إثم بسهره في ذلك ، فالتفضيل باعتبار ظنّه فيه الفضل ، وقد يكون فيه فضلٌ في الجملة ، لكنّ العاقل لمّا كان نومه ويقظته منوطين بمتابعة العقل الذي فيه رضى اللّه فقط ، فكان نومه غير مشوب بجهل ؛ فهو أفضل من سَهَرِ الجاهل . ولكلٍّ منهما مراتب يعتبر معها التفاوت في العقل والجهل . فيحتمل التفضيل في زائد العقل على ناقصه . وينقسم إلى أقسام ويحتاج إلى تفصيل لا يسعه المقام . ويحتمل أن يكون من قبيل قولهم : الحياة أفضل من الموت ، والحيّ أفضل من الميّت ؛ فالسَّهَر كالحياة ، والنوم كالموت ، فهو كما تقول : العالم الميّت أفضل من الجاهل الحيّ ؛ واللّه تعالى أعلم .

.

ص: 146

وإقامةُ العاقلِ أفضَلُ من شُخُوص الجاهلِ ؛ ولا بَعَثَ اللّه ُ نبيّا ولا رسولاً حتّى يَستكمِلَ العقلَ ، ويكون عقلُه أفضلَ من جميع عقولِ اُمّتِهِ ، .........

وقوله عليه السلام : (وإقامةُ العاقلِ أفضَلُ من شُخوصِ (1) الجاهلِ) على نحو ما تقدّم . فالمعنى على الأوّل أنّ إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل وسفره وحركته لمثل حجّ وجهاد وقضاء حاجة لأحد إذا لم يكنّ موافقةً لمقتضى العقل . وتمام الكلام فيه يظهر ممّا تقدّم . وقوله عليه السلام : (ولا بَعَثَ اللّه ُ نَبيّاً ولا رسولاً حتّى يَستكمِلَ العقلَ) . معناه _ واللّه أعلم _ : حتّى يكون ذا حظّ وافر من العقل ، عاملاً بمقتضى عقله بحيث لا يخالفه في شيء ، وهو معنى العصمة ، فإنّ مَن كانَ كذلك لم يكنْ غير معصوم . (ويَكونَ عقلُه أفضلَ من جميعِ عُقولِ اُمّتِه) وهو ظاهر في غير المعصوم من اُمّته ، فإنّه لا ينفكّ عن مخالفة لمقتضى عقله ، وسهمه أقلّ من سهمه ، وأمّا المعصوم _ كالأئمّة عليهم السلام _ فيحتمل أن يكون عقله أفضل من عقلهم كفضله عليهم بحيث لا ينافي عصمتهم ، فإنّ فضله عليهم كفضله على جميع الأنبياء مع عصمتهم . ويمكن أن يكون الإتيان بالواو دون الفاء في «ويكون» للدلالة على تفضيل النبيّ عليه السلام على الأئمّة ، فإنّهم داخلون فيمن استكمل العقل ، وكذا من كان من أوصياء الأنبياء معصوما غير نبيّ ولا رسول .

.


1- . «الشخوص» هو السيرُ من بلدٍ إلى آخر والخروج من موضع إلى غيره ، والمراد هاهنا خروجه من بلده إلى بلد آخر في سبيل اللّه تعالى و طلبا لمرضاته ، كالجهاد والحجّ وتحصيل العلم . راجع : لسان العرب ، ج 7 ، ص 46 ؛ المصباح المنير ، ص 306 (شخص) ؛ تعليقة الداماد على الكافي ، ص 28 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 85 ؛ مرآة العقول ، ج 1 ، ص 37 .

ص: 147

وما يُضْمِرُ النبيُّ صلى الله عليه و آله في نفسه أفضلُ من اجتهاد المجتهدين ، وما أدّى العبدُ فرائضَ اللّه ِ حتّى عَقَلَ عنه ، ولا بَلَغَ جميعُ العابدينَ في فضل عبادتهم ما بَلَغَ العاقلُ ، والعقلاءُ هم اُولوا الألبابِ الّذين قال اللّه تعالى : « وَمَا يَتذَّكَّرُ إِلاَّ اُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » » .

وقوله عليه السلام : (وما يُضْمِرُ النبيّ في نفسه أفضلُ من اجتهادِ المجتهدينَ) . يحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون معناه : أنّ ما يضمره النبيّ من المعرفة والذكر ونحوهما في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين في ذلك بالقلب واللسان والأركان ، فإنّ إضماره عليه السلام لا يتطرّق إليه خطأ ونحوه من المنافي ، بخلاف غيره . ويمكن أن يكون ذلك فضلاً من اللّه تعالى له على غيره ، كفضله في غيره . وقوله عليه السلام : (وما أدَّى العبدُ فرائضَ اللّه ِ حتّى عَقَلَ عنه) . أي ما أدّاها بحيث تكون موافقة لما ينبغي تأديته على وجهه المطلوب منه إلاّ بعد أن تعقّل وجهها ، وأطاع عقله في أخذها من الموضع الذي ينبغي الأخذ منه ، ومَن فعَل ذلك كانَ آخذاً لها بدلالة العقل أخذاً ينتهي إلى كونها مأخوذة عن اللّه تعالى . (ولا بَلَغَ جَميعُ العابدينَ في فَضلِ عبادتِهم ما بَلَغَ العاقلُ) . أي ولا بلغ جميع العابدين في زيادة عبادتهم وبذل جهدهم فيها إذا لم تكن ناشئة كلّها أو بعضها عن متابعة العقل ما بلغ العاقل بعقله في عبادته أو مطلقاً أو ما بلغ بعقله ، فتدخل العبادة وغيرها . (والعقلاءُ هم اُولو الألبابِ) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّ الذين قال اللّه تعالى في شأنهم : «وما يَتذكَّرُ (1) إلاّ اُولوا الألباب» (2) هم العقلاء الذين يستحقّون هذا الوصف ، وهم الذين يتّبعون عقلهم فيتذكّرون ، لا أنّ كلّ مَن له عقلٌ يتّصف بكونه عاقلاً ، فإنّ مَن لا يتذكّر من قبيل قوله تعالى : « صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ » . (3) والذمّ إنّما يكون بعد إعطاء العقل ، فمن لم يعمل بعقله فقد سلب هذا الوصف .

.


1- . فى القرآن «يذّكّر» ، ونسخ هذا الشرح وأيضا كثير من نسخ الكافي متّفقة على الموجود في المتن . والصحيح ما في المحاسن ، ج 1 ، ص 193 ، باب العقل من كتاب مصابيح الظلم ، ح 11 : «إنّما يَتَذَكَّرُ أُولُوالألبابِ» . الرعد (13) : 19 ؛ الزمر (39) : 9 .
2- . البقرة (2) : 269 ؛ آل عمران (3) : 7 : «وما يَذَّكَّرُ إلاّ أُولواالألباب » .
3- . البقرة (2) : 18 .

ص: 148

أبو عبداللّه الأشعريُّ ، عن بعض أصحابنا ، رَفَعَه ، عن هشام بن الحكم، قال:قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام : «يا هشامُ ، إنّ اللّه َ تبارك وتعالى بَشَّرَ أهلَ العقلِ والفهمِ في كتابه ، فقال : « فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُو اُوْلَ_ئِكَ الَّذِينَ هَدَ?هُمُ اللَّهُ وَ اُوْلَ_ئِكَ هُمْ اُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » » . يا هشام ، إنَّ اللّه َ تبارك وتعالى أكمَلَ للناس الحُجَجَ بالعقول ، ونَصَرَ النبيّين بالبيان ،

قوله عليه السلام في حديث هشام الطويل : (بَشَّرَ أهلَ العقلِ والفهم) أي عقل الأشياء التي ينبغي عقلها وفهمها كذلك ، وذلك لا يكون إلاّ بعد إعطاء العقل والفهم . قوله عليه السلام في هذا الحديث : (أكمَلَ للناسِ الحُجَجَ بالعقولِ ، ونَصَرَ النبيّينَ بالبيانِ ، ودَلَّهُم على ربوبيّته بالأدلّةِ ، فقال : « وَ إل_هكُمْ إل_ه وَاحِدٌ » (1) الآية) . أي أكمل حججه على الناس التي هي إرسال الرسل وإنزال الكتب وإعطاء القدرة ونحو ذلك بإعطائهم العقول ، ونَصَرَ النبيّين بالبيان الذي تقبله العقول ويكون باعثاً على تصديقهم والانقياد إليهم ، ودَلَّهم على ربوبيّته بالأدلّة التي بالعقول يستدلّ بها . وفي جعل الحجج كاملة بالعقول تنبيه على أنّ غيرها من الحجج لا يكفي في المعرفة والتكليف ، كما أنّ العقل وحده لا يستقلّ بذلك . وفي بعض النسخ بدل قوله : «بالبيان» : «بالبيّنات» وهي المعجزات ونحوها ممّا يدلّ على نبوّتهم .

.


1- . البقرة (2) : 163 .

ص: 149

ودَلَّهم على ربوبيّته بالأدلّةِ ، فقالَ : « وَ إل_هكُمْ إل_ه وَاحِدٌ لاَّ إل_ه إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَ_نُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ_اوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَ_افِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيَ_احِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَ الْأَرْضِ لَأَيَ_اتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . يا هشام ، قد جَعَل اللّه ُ ذلك دليلاً على معرفته بأنّ لهم مدبِّرا ، فقال : « وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّرَاتُم بِأَمْرِهِى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَأَيَ_اتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . وقالَ : « هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ

وقوله عليه السلام : «فقال : «وإلهكم إله واحد ...» » . الظاهر _ واللّه أعلم _ أنّه تفريع على قوله : «ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة» بعد الإكمال بالعقول ، فقوله تعالى : « إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ_اوَاتِ وَ الْأَرْضِ » (1) دالٌّ على الربوبيّة المعلومة من قوله تعالى : « وَ إل_هكُمْ إل_ه وَاحِدٌ لاَّ إل_ه إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَ_نُ الرَّحِيمُ » . (2) ويحتمل أن يكون «دلّهم» معطوفاً على «أكمل للناس» ، و«نصر» بصيغة المصدر معطوفاً على «العقول» . والأوّل أظهر ، وإن كان لهذا وجه من حيث توسّط «نصر النبيّين» ورجوع ضمير «دلّهم» إلى الناس ، لكنّه لاينافي أظهريّة الأوّل . وإدخال «نصر النبيّين» تحت التفريع بوجه مّا ممكنٌ . قوله عليه السلام فيه : (يا هِشامُ ، قد جَعَلَ اللّه ُ ذلك دليلاً على معرفته بأنّ لهم مدبّراً) .

.


1- . البقرة (2) : 164 .
2- . البقرة : (2) : 163 .

ص: 150

طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا وَ مِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » وقال : «إنّ في اختلاف اللّيلِ والنهارِ* وما أنزلَ اللّه ُ مِنَص 14 السماء من رِزْقٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِها* وتصريفِ الرياحِ والسحابِ المسخّرِ بين السماءِ والأرضِ لآيات لقومٍ يعقلونَ» وقال : « يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَيَ_اتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » . وقال : « وَ جَنَّ_اتٌ مِّنْ أَعْنَ_ابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الْأُكُلِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَأَيَ_اتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » ؟ . وقال : « وَ مِنْ ءَايَ_اتِهِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَ طَمَعًا وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْىِى بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَأَيَ_اتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . وقال : « قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِى شَيْ_ئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَ_انًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَ_ادَكُم مِّنْ إِمْلَ_اقٍ ، نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَاظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّ_?_كُم بِهِى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » . وقال : « هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَ_انُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَ_اكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْأَيَ_اتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » .

المشار إليه ما ذكر ، وهو الدالّ على ربوبيّته من الآية المشتملة على الآيات ، وحاصله : أنّه جعل تلك الآيات أو مثلها دالاّت على معرفة أنّ لهم مدبّراً ، فقال : « وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ » (1) . والجارّ في «بأنّ» يجوز تعلّقه بقوله : «دليلاً» كتعلّق «على» به إمّا لغوَيْن أو مستقرَّيْن ، والمعنى حينئذٍ أنّه (2) جعله دليلاً بأنّ لهم مدبّراً . فإن قلت : المناسب بالدليل «على» لا الباء . قلت : الجواب عن ذلك من وجهين : أحدهما : أنّ الباء تأتي بمعنى «على» كما قيل في قوله تعالى : « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَ_ابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ » (3) وقوله تعالى : «وَ إِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ» (4) بدليل « كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ » (5) « وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ » . (6) والثاني : أنّ العدول إلى الباء لأن لا يلزم التكرار ؛ على أنّه يقال : دلّ عليه ودلّ به ؛ وإن اختلف المعنى بأنّ الباء مدخولها يقتضي كونه دليلاً ، بخلاف «على» وهنا «بأنّ لهم مدبّراً» يمكن تنزيله على المعنيين فلا يأبى الباء ؛ فتدبّر . ويجوز تعلّق الجارّ «بمعرفته» بمعنى أنّه جعل ذلك دليلاً على معرفته تعالى بسبب أنّ لهم مدبّراً . والمدبّر على الوجه المذكور لا يكون غيره تعالى . فإن قلت : على الوجه الأوّل لأيّ شيء ترك العطف؟ قلت : إذا عرفت الفرق بين قولك : مررتُ على زيد وبعمرو ، وقولك : رأيت زيداً على الطريق على بابه ، تجد ماهنا من قبيل الثاني ، لا الأوّل . هذا على ما رأيته من النسخ من إفراد ضمير «معرفته» ، ولو كان «معرفتهم» بضمير الجمع فالمعنى ظاهرٌ . واعلم أنّا تركنا التعرّض لما يتعلّق بالآيات الشريفه في هذا الحديث غالباً ؛ لأنّ أمرها معلوم من التفاسير ، فالرجوع إليها يُغني عن التعرّض لتفسيرها ، مع خوف الوقوع في الخطر .

.


1- . النحل (16) : 12 .
2- . في «ألف ، ب ، ج » : - «أنّه» .
3- . آل عمران (3) : 75 .
4- . مطففين (83) : 30 .
5- . يوسف (12) : 64 .
6- . الصافّات (37) : 137 .

ص: 151

يا هشامُ ، ثمّ وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة ، فقال : « وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » .

قوله عليه السلام فيه : (ثمّ وَعَظَ أهل العقل) . أي أهل الغريزة ، أو الذين يعقلون بها .

.

ص: 152

يا هشام ، ثمّ خَوَّفَ الّذين لا يعقلون عقابه ، فقال تعالى : « ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأَخَرِينَ * وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَ بِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » . وقال : « إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَ_ذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَ لَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةَم بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . يا هشام ، إنَّ العقلَ مع العلم ، فقالَ : « وَ تِلْكَ الْأَمْثَ_الُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَ_الِمُونَ » . يا هشام ، ثمّ ذَمَّ الّذين لا يعقلون ، فقال : « وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْ_ئا وَ لاَ يَهْتَدُونَ » وقال :ص 15 «وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَ نِدَآءً صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ

قوله عليه السلام فيه : (إنّ العقلَ معِ العلم ، فقال : «وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَالِمُونَ» ) . أي أصل عقل (1) الأشياء لا ينفكّ عن العلم الحقيقي بها ولا يفارقه ، وهو العلم المأخوذ عن العقل وما أدّى إليه ، فالعالم كذلك يعقل ، وغيره لا يعقل ؛ ويمكن أن يكون المراد أصل العقل والعلم ، فصاحبهما يعقل بالعلم . قوله عليه السلام فيه : (ثُمّ ذَمَّ الّذينَ لا يَعقِلونَ ، فقال : « وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ » (2) الآية) . الذمّ للذين قيل لهم : اتّبعوا ، فقولهم : « بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ » (3) بمعنى أنّهم لا يعقلون ما اُمروا به ولآبائهم من جهة أنّهم لو كانوا لا يعقلون لا يجوز اتّباعهم ، فهو ذمٌّ لهم من هذه الجهة ، وإن كان ما عليه آباؤهم غير معقول ؛ لمخالفتهم ما أنزل اللّه ، واتّباعهم آباءهم (4) مثلهم ؛ فطريق آبائهم غير ما أنزل اللّه . ويحتمل أن يكون المراد ذمّ المأمورين بالاتّباع من الجهة المذكورة فقط ؛ على أن يكون معنى « لاَ يَعْقِلُونَ شَيْ_ئا وَ لاَ يَهْتَدُونَ » (5) أنّهم ولو كانوا مسلوبي العقل والاهتداء ، ولا ينافي هذا كونهم ذوي عقول لا يعقلون بها . وهو أبلغ من الأوّل ، فافهمه ؛ واللّه تعالى أعلم . ومنهما يظهر احتمال ما يشمل المعنيين .

.


1- . في «ألف ، ب» : + «و» .
2- . البقرة (2) : 170 .
3- . البقرة : (2) : 170 .
4- . في «ج» : «إيّاهم» .
5- . البقرة (2) : 170 .

ص: 153

لاَ يَعْقِلُونَ » وقال : « وَ مِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ » وقال : « أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَ_امِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً » . وقال : « لاَ يُقَ_اتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرِم بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ » وقال : « وَ تَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَ أَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَ_ابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » . يا هشام ، ثمّ ذمّ اللّه الكثرة فقال : « وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ » وقال : « وَ لَ_ئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَ_اوَاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ » وقال : « وَ لَ_ل_ءِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنم بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ » . يا هشام ، ثمّ مدح القلّة فقال : « وَ قَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ » وقال : « وَ قَلِيلٌ مَّا هُمْ » وقال : « وَ قَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَ_انَهُو أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ » وقال : « وَ مَنْ ءَامَنَ وَ مَآ ءَامَنَ مَعَهُو إِلاَّ قَلِيلٌ » . وقال : « وَلَ_كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ » . وقال : « وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ » وقال : «وأكثرهم لا يشعرون» . يا هشام ، ثمّ ذكر اُولي الألبابِ بأحسنِ الذكرِ ، وحَلاّهم بأحسن الحِلْيَةِ ، فقال : « يُؤْتِى

قوله عليه السلام (ثمّ ذَكَرَ اُولي الأَلبابِ بِأحْسَنِ الذكرِ ، وحَلاّهُم بأحْسَنِ الحِليةِ ، فقالَ : « يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ » (1) الآية) .

.


1- . البقرة (2) : 269 .

ص: 154

الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » وقال : « وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِى كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُص 16 إِلاَّ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » وقال : « إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ_اوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَ_افِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأَيَ_اتٍ لاِّوْلِى الْأَلْبَ_ابِ » وقال : « أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » وقال : « أَمَّنْ هُوَ قَ_انِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَ قَآل_ءِمًا يَحْذَرُ الْأَخِرَةَ وَ يَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » وقال : « كِتَ_ابٌ أَنزَلْنَ_اهُ إِلَيْكَ مُبَ_ارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَ_اتِهِى وَ لِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » . وقال : « وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَ أَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَ_ابَ * هُدًى وَ ذِكْرَى لِأُوْلِى الْأَلْبَ_ابِ » وقال : « وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » . يا هشام ، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه : « إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُو قَلْبٌ » يعني : عقل ، وقال : « وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَ_انَ الْحِكْمَةَ » قال : الفهم والعقل .

يأتي بعد هذا تفسير الحكمة بالفهم والعقل ، وفي باب معرفة الإمام والردّ إليه فسّرت بطاعة اللّه ومعرفة الإمام . وكيف فُسّرتْ ، فهي راجعة إلى العقل ومتابعته ؛ فقوله تعالى : « وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا » (1) فيه ذكر اُولي الألباب التي هي العقول بأحسن الذكر ، وتحليتهم بأحسن الحلية . ويحتمل أن يكون مراده عليه السلام أنّ اللّه تعالى ذكر اُولى الألباب بأحسن الذكر ، بمعنى أنّهم أحسن ذكراً ، أي تذكّراً بقوله تعالى : « وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » (2) فإنّ حَصْرَ التذكّر فيهم ذكرٌ لهم بأحسن الذكر ، وتحليةٌ لهم بأحسن حِلْية ، فإنّهم هم الذين ينتفعون بالعظه ويتذكّرون بالتذكير ؛ واللّه تعالى أعلم . و«الألباب» جمع لبّ ، وهو العقل ، وكأنّه مأخوذ من لبّ الشيء وهو خالصه ، فإنّ العقل خالص الإنسان ؛ أو من اللبّ بمعنى القلب ، فإنّ الإنسان بلا عقل كالقشر بلا قلب . ويأتي عن قريب تفسير القلب بالعقل في قوله تعالى : « إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُو قَلْبٌ » (3) .

.


1- . البقرة (2) : 269 .
2- . البقرة (2) : 269 .
3- . ق (50) : 37 .

ص: 155

يا هشام ، إنَّ لقمان قال لابنه : تواضَعْ للحقّ تَكُنْ أعقلَ الناسِ ، وإنّ الكَيْسَ لدى الحقّ يسيرٌ ، يا بُنيَّ إنّ الدنيا بَحْر عميقٌ ، قد غَرِقَ فيها عالَم كثير ، فلتكنْ سفينتُك فيها تقوَى اللّه ، وحَشْوُها الإيمانَ ، وشِراعُها التوكّلَ ، وقيّمُها العقلَ ، ودليلُها العلمَ ، وسكّانُها الصبرَ .

قوله عليه السلام فيه : (إنّ لقمانَ قال لابنه : تَواضَعْ للحقّ تَكُنْ أعقلَ الناس ، وإنّ الكَيْسَ لدى الحقّ يَسيرٌ ، يا بُنَيَّ إنّ الدنيا بحرٌ عميقٌ قد غَرِقَ فيه عالَمٌ كثيرٌ ، فَلتَكُنْ سفينتُك فيها تقوَى اللّه ِ ...) . «تواضَعْ للحقّ» إمّا بمعنى تَواضَعْ لأهل الحقّ ، وحذف المضاف للدلالة على أنّ التواضع لهم لأجل الحقّ ، لا مطلقا . وهذا وإن أشعر به التعليق على المشتقّ إلاّ أنّ هذا أظهر في المقصود . أو بمعنى : تَواضَعْ لأجل الحقّ ، فكلّ ما كان حقّاً لا تتكبّر عليه ، ولا تنظر إلى ما ينظره الناس من ترك أشياء تكون حقّاً لاُمور دنيويّة يتركونها لأجلها . أو بمعنى : ضَعْ نفسك للحقّ ولا ترفعها عليه ، بمعنى الانقياد له ، ولا شبهة في أنّ مَن تواضَعَ للحقّ يكون أعقل الناس الذين هم دونه في ذلك ، أي أعملهم بعقله ، فإنّ المتعارف ذلك من مثل هذا التركيب، كما إذا قلت: افعل كذا تكن أحسن الناس، ونحوه ؛ فالمراد : أحسن ممّن لم يفعل مثله . وهذا أنسب بالمقام ، ثمّ ما قبله . وإنّ الكيس _ وهو خلاف الحمق _ قليلٌ عند الحقّ ، والقليل بالنسبة إلى ما هو أكثر منه وأعظم يسيرٌ ، فلا ينبغي ترك التواضع الذي هو الكيس هنا . وليكن النظر إلى كون الحقّ أعلى من هذا التواضع . ولمّا كانت التقوى بها ينجو الإنسان من الوقوع في لجج الذنوب ومهالك الآخرة ، جَعَلَها كالسفينة . ومناسبة الإيمان للحشو ظاهرةٌ ؛ فإنّ السفينة إذا لم تكن مملوءة بمقدار مافيه صلاحها كانَ ذلك سبباً لغرقها ، وكلّما خفّت وقَلَّ حَشْوها كانت في محلّ الخطر . ومناسبة الشراع للتوكّل من جهة أنّ مدار السير على الريح الموافق الذي يحرّك الشراع لتسير السفينة ، وهذا ممّا ليس في قدرة العبد ، بل ينبغي التوكّل على اللّه في ذلك « وَ مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » . (1) (وقَيِّمُها العقلَ) لأنّ القيّم هو الذي يقوم بأمر الشيء ويصلحه ، فكذلك العقل كلّ ما كان ناشئاً عن أمره ففيه الرشاد ، وهو لا يعقل (2) إلاّ ما فيه المصلحة ، فكان كالقيّم لهذه السفينة . ولمّا كانَ الشيء من الأعمال الصالحة ونحوها إنّما يكون مأخوذًا على وجهه من أهله بالعلم ، كانَ العلم دليلاً مستقلاًّ ، فإنّ العقل وحده لا يكفي في الدلالة ، والعلم لا يكون إلاّ عن العقل ؛ فلهذا كانَ دليل السفينة الذي به يتوصّل إلى الغرض المقصود . وسُكّان السفينة : ذَنَبها ومؤخّرها ، والصبر عاقبته محمودة ، وهو آخر ما قد يستعمله الإنسان بعد ما يتصوّره أو يفعله من إعمال الحيلة فيما يريده ولمناسبة كونه تابعاً دائماً للمقدّم وصبره على ذلك كسكون النفس معه عن الحركة والاضطراب لغيره ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . الطلاق (65) : 3 .
2- . في «ألف ، ب ، ج » : «لا يفعل» .

ص: 156

يا هشام ، إنّ لكلّ شيء دليلاً ، ودليلُ العقل التفكّرُ ، ودليلُ التفكّرِ الصمتُ ، ولكلّ شيء مَطيّةً ، ومطيّةُ العقلِ التواضعُ ، وكفى بك جهلاً أن تركبَ ما نُهيتَ عنه .

قوله عليه السلام فيه : (إنّ لِكلِّ شيءٍ دليلاً ، ودليلُ العقلِ التفكّرُ ، ودليلُ التفكّر الصمتُ ، ولكلِّ شيءٍ مَطيّةً ، ومَطيّةُ العقلِ التواضعُ ، وكفى بك جهلاً أن تَرْكَبَ ما نُهيتَ عنه) . لا شبهة في أنّ عقل الأشياء إنّما يكون بالتفكّر ليظهر به صحيحها من فاسدها . وتعقّلُ شيء بغير إعمال الفكر والتأمّل فيه لا يحصل إلاّ اتّفاقاً نادرا ، ومثله لا يعتدّ به . «ودليل التفكّر الصمت» لأنٍّ مع عدم الصمت لا يتمّ التفكّر على الوجه الذي يراد ، ومعه يكون دليلاً غير معتبر الدلالة ، فيكون غالباً دليلاً يوصل إلى خلاف المطلوب والمعتبر الموصل إليه لا ما يُحتمل ذلك . «ومطيّة العقل التواضع» لأنّ به يُستعان على إعمال العقل فيما يريده ، كما يُستعان بالمطيّة على قطع المسافة ، ومع التواضع يكون العقل مستعلياً ومسلّطاً على ما يريد ، فهو كراكب المطيّة بخلافه مع عدم التواضع ، فإنّه لا يكون كذلك ، بل يكون التكبّر عالياً عليه وقاهراً له ، فلا يكون مطيّة له . «وكفى بك جهلاً أن تركب ما نُهيتَ عنه» أي أن تجعل مركوبك ما نهيت عن ركوبه وجعله مطيّة ، فإنّه حينئذٍ كالدابّة الصعبة التي قد تهلك صاحبها وتدقّ عنقه . ولم يعبّر هذا بالمطيّة لأنّها تشعر بالانقياد والطاعة له ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 157

يا هشام ، ما بعث اللّه أنبياءَه ورسلَه إلى عبادِه إلاّ ليعْقِلوا عن اللّه ، فأحْسَنُهم استجابةً أحْسَنُهم معرفةً ، وأعلَمُهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً ، وأكْمَلُهم عقلاً أرْفَعُهم درجةً في الدنيا والآخرة . يا هشام ، إنّ للّه على الناس حُجّتينِ : حُجّةً ظاهرةً ، وحُجّةً باطنةً ، فأمّا الظاهرةُ فالرُّسُلُ والأنبياء والأئمّةُ عليهم السلام ، وأمّا الباطنةُ فالعقولُ .

قوله عليه السلام فيه : (ما بَعثَ اللّه أنبياءه ورُسُلَه إلى عباده إلاّ ليعْقِلوا عن اللّه ...) . فيه دلالةً على أنّ معرفة الأشياء التي يؤمر بها المكلّف لا يكفي في جميعها العقل المأخوذ عن اللّه ، بل مادلّت عليه الأنبياء والرسل بمساعدة العقل واستعماله فيما يستعمل فيه ؛ فأحسنهم استجابةً وانقياداً للأنبياء والرسل أحسنُهم معرفةً للّه . ولعلّ في ترك العقل هنا دلالة على أنّ معرفة اللّه لا ينبغي أن يكون العقل وحده محكَّماً فيها ، أو جعله غالباً على غيره والأحاديث تؤيّده ، بل ينبغي الاقتصار على ما عرف سبحانه من نفسه ووصفها به سوى ما استثنى . وسيأتي إن شاء اللّه تفصيلُ ذلك . (وأعْلَمُهم بأمرِاللّه أحْسَنُهم عقلاً) . لأنّ من علم أوامراللّه تعالى كانَ ذلك عن عقل ، ومراتبه تتفاوت بتفاوت العلم (1) ، وبه يتفاوت حسن عقل الأشياء . ويمكن أن يُراد بالأوّل الانقياد من غير العلم أو زيادته ، وبالثاني العلم أو زيادته ، ويُراد بالأمر كلّ ما يتعلّق بأمر اللّه . ويمكن أن يُراد بالأوّل معرفة الجزئيّات ،فإنّ المناسب لها الاستجابة والانقياد والتسليم ، وبالثاني الكلّيّات أو الأعمّ ، فإنّ الإنسان إذا كانَ أحسن عقلاً _ أي متابعة لعقله _ كانَ عالماً ؛ فتأمّل . (وأكمَلُهم عقلاً أرْفَعُهم درجةً في الدنيا والآخرة) . يمكن أن يكون هذا مرتبةً فوق مرتبة الأحسن ، وهو الظاهر عن العدول عن الأحسن ، والمناسب لما قبله من أحسنهم وأعلمهم . وهذا يؤيّد كون مرتبة العلم فوق مرتبة المعرفة . ولعلّ الأنسب على هذا أن يكون المعنى أحسن العباد استجابةً أحسنهم معرفة ، وأعلم أهل المعرفة أحسنهم عقلاً ، وأكمل أهل العقل أرفعهم درجةً ، أو أكمل الأحسن في المعرفة والعقل ، وأعلم الأحسن في المعرفة . ويحتمل أن يكون «أكملهم عقلاً» المراد به الأحسن عقلاً ، والعدول إلى الأكمل للتنبيه على الوصف به . وهو كماترى . ورفع الدرجة في الآخرة ظاهرٌ ، وفي الدنيا ؛ باعتبار أنّه بكمال العقل يحصل تمام المداراة وحسن المعاشرة اللَذيْن يرفع اللّه بهما درجته في الدنيا ؛ أو أنّ اللّه يرفع درجته بذلك ونحوه . ولعلّ الأولى أن يُراد أنّ درجته عنده تعالى في الدنيا والآخرة مرفوعة ، بمعنى شأنه وقرب منزلته ، والدرجة تشعر بذلك ؛ ولا عبره بالناس . وأن يراد بالناس على الأوّل الذين هم الناس الذين تعتبر الرفعة عندهم ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «د» : «العقل» .

ص: 158

. .

ص: 159

يا هشام ، إنّ العاقلَ الذي لا يَشْغَلُ الحلالُ شكرَه ، ولا يَغْلِبُ الحرامُ صبرَه . ص 17 يا هشام ، مَن سلّطَ ثلاثا على ثلاثٍ فكأنّما أعانَ على هَدْم عقله : من أظلم نورَ تفكّره بطول أمله ، ومحا طرائفَ حكمته بفضول كلامه ، وأطفأ نورَ عِبْرته بشهوات نفسه ، فكأنّما

قوله عليه السلام فيه : (ياهشام ، إنّ العاقلَ الذي لا يَشْغَلُ الحلالُ شكرَه ، ولا يَغْلِبُ الحرامُ صبرَه) . أي لا يشغله الرزق الحلال ونحوه وإن كَثُرَ عن شكره تعالى ؛ لأنّ متابعة العقل تدلّه دائماً على مُنعِمِه ورازقه ووجوب شكره ، فلا يشتغل بما آتاه اللّه عن شكره ، ولا يكون الحرام ، غالباً على صبره ، بل يغلب صبره الحرام ؛ لأنّ متابعة العقل زاجرة له عن ارتكاب الحرام وباعثة له على ملازمة الصبر . قوله عليه السلام فيه : (مَنْ أظْلَمَ نورَ تفكّرِه بطول أمَلِهِ) . في القاموس : أظْلَمَ وظَلِمَ كسَمِعَ (1) . فإن كان المراد مع الوزن التعدّي في أظلم أيضاً كظلم أو سمع ، تعدّى أظلم احتمله هنا ، وإلاّ فيمكن تضمينه معنى فعلٍ متعدّ كغطّى وستر وأذهب ونحوهما . ويحتمل كون «النور» فاعلاً ، وإن خالف السياق ، فإنّه يرجع في المعنى إلى التسليط .

.


1- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 147 (ظلم) .

ص: 160

أعانَ هواهُ على هَدْم عقلِه ، ومن هَدَمَ عقْلَه أفسَدَ عليه دينه ودنياه . يا هشام ، كيف يزكو عند اللّه عملُكَ ، وأنت قد شغلتَ قلبَك عن أمر ربّك ، وأطعْتَ هواك على غلبة عقلك؟! يا هشام ، الصبرُ على الوحدةِ علامة قوّةِ العقلِ ، فمن عَقَلَ عن اللّه اعتزلَ أهلَ الدنيا والراغبين فيها ، ورَغِبَ فيما عند اللّه ِ ، وكانَ اللّه اُنْسَه في الوحشة ، وصاحبَه في الوحدة ، وغِناهُ في العَيْلَةِ ، ومُعِزَّهُ من غير عَشيرةٍ .

قوله عليه السلام فيه : (ومَن هَدَمَ عقلَه أفسَدَ عليه دينَه ودُنياهُ) . إمّا أن يُراد هَدْم أصل العقل فبترك العمل به يصيّره كالمهدوم الذي لا ينتفع به ؛ أو يُراد هَدْم الأثر المترتّب . وهو أظهر . وضمير «أفسد» يرجع إلى الهدم المدلول عليه بهدم ، ورجوعه إلى الموصول وإن كان أقرب معنى إلاّ أنّه يلزم منه تعدّي فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتّصل في غير باب ظنّ وفقد وعدم ، وقد منعه المحقّقون . ويمكن تأويله بنحو ما أوّلوا به ما استدلّ به على جوازه . ويحتمل أن يكون «أفسد» مبنيّاً للمفعول ، ولا يرد عليه ما ذكر ، وكما أنّ الدين يحتاج إلى العمل بمقتضى العقل ، فكذا الدنيا . قوله عليه السلام فيه : (وأطَعتَ هَواك على غَلَبَةِ عَقلِك) . أي على غلبة هواك عقلك ، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول . ويحتمل إضافته إلى الفاعل ، وذكر الغلبة حينئذٍ للتنبيه على أنّ الذي يستحقّ أن يكون غالباً هو العقل ، لا الهوى . قوله عليه السلام فيه : (ياهشامُ ، الصبرُ على الوحدةِ عَلامَةُ قوّةِ العقلِ ...) . المراد به _ واللّه أعلم _ الوحدة والانفراد عن أهل الدنيا ؛ بدليل قوله عليه السلام بعده : (فمَن عَقَلَ عن اللّه اعتزلَ أهلَ الدنيا والراغبينَ فيها ، ورَغِبَ فيما عنداللّه ) وأمّا مخالطة غير أهل الدنيا ، فهو آنس باللّه وبهم . (وكان اللّه ُ أُنْسَه في الوحشةِ) . أي فيما يستوحش فيه المنفرد الذي يأنس بغير اللّه تعالى . ويحتمل أن تكون «في» بمعنى «على» كقوله تعالى : « فِى جُذُوعِ النَّخْلِ » (1) . وضمّن الاُنس معنى المساعدة والتسلّط ونحوهما ، وذكره لإفادته مع ذلك الاُنسَ ونحوه . (وصاحِبَه في الوحدة ، وغِناه في العَيْلَة) بفتح المهملة ، أي الفاقة . واُنسه وغناه بمعنى مونسه ومغنيه ، وباب رجل عدل لا يجترأ بمثله هنا ، اللهمّ إلاّ بتأويل .

.


1- . طه (20) : 71 .

ص: 161

يا هشام ، نُصِبَ الحقُّ لطاعة اللّه ، ولا نَجاةَ إلاّ بالطاعة ، والطاعةُ بالعلم ، والعلمُ بالتعلّم ، والتعلُّمُ بالعقل يُعْتَقَدُ ، ولا عِلْمَ إلاّ من عالِمٍ ربّانيٍّ ، ومعرفةُ العلمِ بالعقلِ .

قوله عليه السلام فيه : (والطاعةُ بالعلم ، والعلمُ بالتعلّم ، والتعلّمُ بالعقل يُعتقلُ) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّ الطاعة تكون بالعلم الذي هو العلم الحقيقي ، والعلم يحصل بالتعلّم من أهل العلم.والتعلّم بالعقل يعتقل إمّا بمعنى يتعقّل، أو بمعنى يحفظ ويحبس عن أن يداخله غيره أو يضبط على وجهه ، وهو أكثر استعمالاً من الأوّل . قوله عليه السلام فيه : (ولا عِلْمُ إلاّ من عالمٍ رَبّانيٍّ ، ومعرفةُ العلمِ بالعقلِ) . في هذا وما قبله دلالة على أنّ العلوم الخارجة عمّا هو مستند إلى الأنبياء والأئمّة عليهم السلام المستندة إليه تعالى ، وما يتوقّف (1) عليه ممّا لا يستلزم تضييعها أو التقصير فيها ، ليست علماً ينتفع به ، بل فيه دلالة على النهي عنها . و«الربّانيّ» المنسوب إلى الربّ بزيادة الألف والنون ، وهو الكامل في العلم والعمل ؛ ذكره بعض المفسّرين . (2) ومعرفة العلم بالعقل ؛ لأنّ العقل دليلٌ لصاحبه على اتّباع الأنبياء ونحوهم ، وباتّباعهم يُعرف العلم الذي هو علم ما هو ، فمن لم يأخذ علمه عنهم لم يعرف العلم .

.


1- . في «ألف ، ب» : نتوقّف» .
2- . أحكام القرآن ، للجصّاص ، ج 2 ، ص 560 ؛ التبيان ، ج 3 ، ص 579 ؛ جامع البيان ، للطبري ، ج 3 ، ص 445 ؛ معاني القرآن ، للنحاس ، ج 1 ، ص 428 .

ص: 162

يا هشام ، قليلُ العملِ من العالم مقبولٌ مُضاعَفٌ ، وكثيرُ العملِ من أهل الهوى والجهلِ مَردودٌ . يا هشام ، إنَّ العاقلَ رَضِيَ بالدون من الدنيا مع الحكمةِ ، ولم يَرْضَ بالدون من الحكمةِ مع الدنيا ، فلذلك رَبِحَتْ تِجارَتُهُم .

قوله عليه السلام فيه : (ياهشام ، قليلُ العملِ من العالم مقبولٌ مضاعفٌ ، وكثيرُ العمل من أهل الهوى والجهل مَردودٌ) . المضاعفة إمّا تفضّل من اللّه تعالى ، أو مضاعف باعتبار العلم والعمل . والعمل وإن كثر إذا لم يكن عن العلم الذي هو شرطه لا يستحقّ عليه ما يقابله ، فيكون ضائعاً . و«أهل الهوى» الظاهر أنّ المراد بهم مَن أخَذَ العلم عن غير أهله ، فسمّاه الناس عالماً وسمّى نفسه بذلك ؛ أو من كان علمه عن هواه . وهذا في الحقيقة لا يستحقّ التسمية بالعالم ، بل هو من أهل الهوى والرأي ونحوهما التي ترك العمل لأجل متابعتها . وأهل الجهل مَن عداهم من الجهّال . وتقديم أهل الهوى لتقدّم مرتبتهم في فساد العمل . ويحتمل إرادة الجميع من أهل الهوى . وذكر أهل الجهل للتنبيه على كونهم أهل جهل ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 163

يا هشام ، إنَّ العقلاءَ تَرَكوا فضولَ الدنيا ، فكيف الذنوب ، وتَرْكُ الدنيا من الفَضْلِ ، وتَرْكُ الذنوبِ من الفَرْضِ . يا هشام ، إنَّ العاقلَ نَظَرَ إلى الدنيا وإلى أهلِها ، فعَلِمَ أنَّها لا تُنالُ إلاّ بالمشقّة ، ونَظَرَ إلى الآخرة ، فَعَلِمَ أنّها لا تُنالُ إلاّ بالمشقّة ، فطَلَبَ بالمشقّة أبقاهما . يا هشام ، إنَّ العقلاءَ زَهِدوا في الدنيا ورَغِبوا في الآخرة ؛ لأنّهم عَلِموا أنّ الدنيا طالِبةٌ ومطلوبَةٌ ، والآخِرَةَ طالبةٌ ومطلوبةٌ ، فمن طَلَبَ الآخرة ، طَلَبَتْه الدنيا حتّى يَستَوفيَ منها رزقَه، ومن طَلَبَ الدنيا طَلَبَتْه الآخرةُ ، فيأتيه الموتُ ، فيُفْسِدُ عليه دنياهُ وآخرتَهُ.

قوله عليه السلام فيه : (إنّ العقلاءَ تَرَكوا فضولَ الدنيا ، فكيف الذنوبَ) . المراد منه _ واللّه أعلم _ بفضول الدنيا مباحاتها الزائدة عمّا يحتاج إليه ، أو ما يعمّ المكروه ، ومن تبع عقله في ترك ذلك فتركه للذنوب بطريق أولى . قوله عليه السلام فيه : (ياهشام ، إنّ العُقلاءَ زَهِدوا في الدنيا ورَغِبوا في الآخرة ؛ لأنّهم عَلِموا أنّ الدنيا طالبةٌ و (1) مطلوبةٌ ، والآخرة طالبةٌ ومطلوبةٌ ، فمَن طَلَبَ الآخرةَ طَلَبَتْه الدنيا حتّى يَستوفِيَ منها رزقَه ، ومن طَلَبَ الدنيا طَلَبَتْه الآخرةُ ، فيأتيه الموتُ ، فيُفْسِدُ عليه دنياه وآخرتَه) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّ علّة زهد العقلاء في الدنيا أنّهم علموا أنّ الدنيا طالبةٌ للإنسان أن يكون فيها حريصاً عليها إلى انقضاء أجله ، ومطلوبةٌ له كذلك ، فإذا انقضى الأجل بطل الطلب من الجانبين ، والآخرة طالبةٌ للإنسان أن يعمل لها في الدنيا عملاً يوصله إلى نعيمها الدائم ، ومطلوبةٌ للإنسان بأن يكون متنعّماً فيها كذلك ؛ فمن طلب الآخرة وأراد الوصول إليها ، فعمل بما يوصله في الدنيا ، كانت الدنيا طالبة له وطامعة فيه بأن يحرص عليها وينقاد إليها إلى أن يستوفي رزقه منها الذي كتبه اللّه له ، سواء حرص عليها وطلبها أم لا ، ويحضر أجله ، وعند ذلك ينقطع طلبها وتيأس منه ، ومن طلب الدنيا واشتغل بها عمّا يوصله إلى الآخرة وحرص عليها ، طلبته الآخرة أن يعمَل لها ، فإذا انقضى أجله واستوفى رزقه من الدنيا ، أتاه الموت فأراحه عن الدنيا وحالَ بينه وبينها ، ولم يحصل الآخرة . وتحتمل العبارة معنى آخر ، وهو أنّ الدنيا تطلبه لأجل أن يستوفي منها رزقه ؛ فتكون «حتّى» للتعليل ، لا للغاية كما في الأوّل ، وإذا طلبته لذلك فالرزق في الدنيا وطلبها لأجله لابدّ منه ، وهذا هو مقصود العقلاء من الدنيا ؛ ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة على الوجه المتقدّم ، أو طلبته فأجاب داعيها ، وهو الموت في وقت لا يترتّب له على إجابتها فائدة من حيث إنّ ذلك مشروط بالعمل وقد انقضى وقته ، فبموته فسدت دنياه ولم يحصل الآخرة . ولا يخفى الراجح بعد التأمّل في هذه الاحتمالات ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ألف و ب» وكثير من نسخ الكافي : - «و» .

ص: 164

يا هشام ، من أرادَ الغِنى بلا مالٍ ، وراحة القلبِ من الحَسَد ، والسلامةَ في الدين ، فَلْيتضرَّعْ إلى اللّه عزّ وجلّ في مسألته بأن يُكَمِّلَ عقلَه ، فمن عَقَلَ قَنِعَ بما يكفيه ، ومن قَنِعَ بما يكفيه استغنى ، ومن لم يَقْنَعْ بما يكفيه لم يُدْرِك الغنى أبدا .

قوله عليه السلام فيه : (مَن أرادَ الغِنى بلا مالٍ ، وراحةَ القلب من الحَسَد ، والسلامةَ في الدين ، فليتضرَّعْ إلى اللّه عزّ وجلّ في مسألته بأن يُكَمِّلَ عقلَه ...) . تقدّم معنى إكمال العقل ، والمعنى ظاهرٌ ، فإنّه مع كمال العقل ومتابعته تترتّب عليه الفوائد المذكورة ، ولم يذكر عليه السلام في التفريع الحسد والسلامة في الدين ؛ لأنّه بالعقل والقناعة والغنى ينتفي ما ذكروا غيره ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام : (ومَن لم يَقْنَعْ بما يَكفيه لم يُدْرِكِ الغِنى أبدا) . معناه ظاهرٌ وجدانيّ ، فإنّا ما رأينا من أهل الدنيا مَن يقتصر منها على حدّ ، فهذا لا تستغني نفسه عن طلب زيادة الدنيا إلى أن يموت . ولا ينافيه تسميته غنيّاً ، فإنّ المراد (1) _ واللّه أعلم _ أنّه لا يصل إلى مرتبة تكون نفسه غنيّة عن طلب ما فوقها ، بخلاف القانع ، فإنّه غنيّ وإن كان فقيرا .

.


1- . في «ج» : «فالمراد» .

ص: 165

يا هشام ، إنّ اللّه َ حكى عن قومٍ صالحينَ أنّهم قالوا : « رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ » حين علموا أنّ القلوبَ تَزيغُ وتَعودُ إلى عماها ورَداها . إنَّه لم يَخَفِ اللّه َ مَنْ لم يَعْقِلْ عن اللّه ، ومن لم يَعْقِلْ عن اللّه لم يَعْقِدْ قلبَه على معرفةٍ

قوله عليه السلام فيه : (إنّ اللّه حَكى عن قومٍ صالحينَ أنّهم قالوا : «رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ» (1) حين عَلِموا أنّ القلوبَ تَزيغُ وتَعود إلى عَماها ورَداها) . عودها إلى عماها ظاهرٌ فيمن كان زائغاً ثمّ اهتدى ، وغيره يمكن أن يكون باعتبار أنّ الإنسان بحسب طبعه يميل إلى الشهوات وما فيه فساده ؛ فكذا قلبه ؛ فإذا زاغت القلوب ، فقد عادَتْ إلى مقتضى طبعها وميلها وهواها ؛ أو أنّ الزيغ راجع إلى قسم منها ، والعود إلى آخَرَ . ويمكن عدم اعتبار معنى العود الأصلي كالرجوع ، فيقال : رجع إلى كذا وإن لم يسبق له كون به ونحوه . وإسناد الزيغ إلى اللّه سبحانه كإسناد الخذلان والإضلال إليه ، وقد تقدّم بيان معناهما ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (إنّه لم يَخَفِ اللّه َ مَن لم يَعْقِلْ عن اللّه ، ومَن لم يَعقِلْ عن اللّه لم يَعقِدْ قلبَه على معرفةٍ ثابتةٍ يُبْصِرُها ويَجِدُ حقيقتَها في قلبه) . وجه كون هذا غير خائف من جهة أنّه بعد دلالة العقل له على الأنبياء ونحوهم الذين بهم مع العقل يُعرف اللّه وأحكامه ، فمن ترك ذلك واعتمد على هواه ونحوه ، ففعله هذا فعل غير خائف ، وهذا كما يقال لمن يفعل شيئاً لا يرضى اللّه : أنت لا تخاف اللّه ، ونحوه . وتكرار «من لم يعقل عن اللّه » ليترتّب عليه ما بعده ، فلو لم يذكر مرّة اُخرى لفات هذا الغرض ؛ فتأمّل . وقد تكرّر نحو هذا من أنّه ينبغي أخذ المعرفة عن اللّه بواسطة أنبيائه ورُسُله والأئمّة عليهم السلام ، ومن لم يكن كذلك ، لم تحصل له المعرفة اليقينيّة التي يبصرها بقلبه ويجد حقيقتها فيه ، فيكون غير ثابت على ذلك وشاكّاً فيه ، بخلاف ما إذا أخذها من معدنها ، فإنّه يكون على بصيرة في ذلك ، مطمئنَّ القلب ، لا يعتريه تبدّل ولا تغيّر . ففي هذا الحديث ونحوه نهيٌ وذمٌّ لمن كانت معرفته للّه وعلمه بمجرّد الرأي والهوى والاستحسان والاجتهاد الذي لا يجوز ، ونهي عن العلوم التي لا تكون عن اللّه ، فتكون ثمرتها مشقّة الدنيا والآخرة .

.


1- . آل عمران (3) : 8 .

ص: 166

ثابتةٍ يُبْصِرُها ويَجِدُ حقيقتَها في قلبه ، ولا يكونُ أحدٌ كذلك إلاّ مَن كان قولُهُ لفعلِهِ مُصدِّقا ،

قوله عليه السلام فيه : (ولا يكونُ أحد كذلك إلاّ مَن كانَ قولُه لفعلِه مُصدِّقاً ، وسِرُّه لعلانيته موافقاً) . هكذا فيما رأيته من النسخ بتقديم (1) قوله على فعله (2) ، وظاهر السياق العكس . ويحتمل أن يكون التقديم والتأخير سهواً من النسّاخ ، أو أنّ أصله «بفعله» بالباء ، ومصدّقاً حينئذٍ مبنيٌّ للمفعول ، فتصرّف النسّاخ فيه باللام لاشتباهها بها كثيراً في مثله . ويمكن (3) توجيه ما في الأصل بأنّ الفعل إذا خالف القول ، كان كلّ منهما مكذّباً للآخر ، وإذا وافقه ، كانَ كلّ منهما مصدّقاً للآخر ؛ أو أنّ «مصدّقا» مبنيّ للمفعول مع اللام ، كما تقول : زيدٌ مضروبٌ لعمرو . وفيه تأمّل ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «د» : بتقدّم» .
2- . في «ألف ، ب» : «لفعله» .
3- . في حاشية «ألف ، د» : «يمكن أن يكون المراد بالقول نحو الاستدلال على مرتبة أو حالة يفعل ما يقتضيه ، فإذا استدلّ عليها بما هو موافق ومقبول فقد صدّق القول الفعل . وهو كما ترى (الف : منه) ؛ (د : منه دام ظلّه) » .

ص: 167

وسرُّهُ لعلانيته موافقا ؛ لأنّ اللّه َ _ تبارك اسمه _ لم يَدُلَّ على الباطن الخفيّ من العقل إلاّ بظاهرٍ منه ، وناطقٍ عنه . يا هشام ، كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : ما عُبِدَ اللّه ُ بشيء أفضلَ من العقل ، .........

قوله عليه السلام فيه : (لأنّ اللّه َ _ تبارَكَ اسْمُه _ لم يَدُلَّ على الباطنِ الخَفِيِّ من العقلِ إلاّ بظاهرٍ منه وناطقٍ عنه) . يمكن أن يكون هذا تعليلاً لموافقة السرّ والعلانية ، فإنّه لولا العلانية لم يظهر أثر العقل الباطني ، فإذا وافَقَ الظاهر الباطن ، كانَ الظاهر دالاًّ على الخفيّ من العمل بمقتضى العقل ، ومتى خالَفَ الظاهر الباطن ، لم يكُنْ ذلك صادراً عن العقل . وليس هذا للدلالة على معرفة العاقل من غيره فقط، ليقال: إنّه قد لا يطّلع على ذلك؛ بل هو تعليم للإنسان كيف يجب عليه أن يعمل بعقله ، وكيف يعلم أنّه عامل أو غير عامل . وقد يستدلّ غيره عليه بذلك ، فإنّه قد يظهر للغير الموافقة أو المخالفة بالاختيار . ويمكن أن يكون التعليل لتصديق القول والفعل ، وموافقة السرّ والعلانية . وهذا أظهر وأنسب بالسياق ، فبتصديق القول للفعل يظهر أثر العقل الباطني له ولغيره ، وكذا بموافقة السرّ للعلانية . وهذا غير الوجه الأوّل ؛ فتدبّر . قوله عليه السلام فيه : (كان أميرُالمؤمنين عليه السلام يقولُ : «ما عُبِدَ اللّه بشيء أفضَلَ من العقلِ ، وما تَمَّ عَقل امرئٍ حتّى يكونَ فيه خِصالٌ شَتّى) . أي ما عُبِدَ اللّه بشيء من العبادات أفضل من عبادته بعقل الأشياء والعمل بمقتضى العقل فيها ، فإنّ هذه العبادة أفضل من غيرها ، وإن كان الغير مأخوذاً عن العقل ، فأصل عقلها أفضل منها . فهو بمعنى أفضليّة العالم على العابد . ويحتمل أن يكون المعنى ما عُبِدَ اللّه بشيء أفضل من عبادة ناشئة عن العقل ؛ فالتفضيل حينئذٍ إمّا باعتبار اعتقاد العابد غير العامل في عبادته بمقتضى العقل فضلاً في عبادته ، نحو قول أميرالمؤمنين عليه السلام : «فأبْدِلني بهم خيراً منهم ، وأبْدِلْهُم بي شرّاً منّي» ؛ (1) وإمّا بإرادة أفضل من تمام العقل ؛ وإمّا باعتبار كون المفضّل عليها مشتملة على ما هو عن عقل وغيره والذين «خَلَطُواْ عَمَلاً صَ_الِحًا وَ ءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» . (2) والوجه الأوّل ، كأنّه خالٍ عن التكليف ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . نهج البلاغة ، ص 67 ، الخطبة 25؛ الغارات ، ج 2 ، ص 317؛ الفصول المختارة ، للفميد ، ص 169؛ المسائل العكبريّة (ضمن مجموعة مصنّفات الشيخ المفيد) ج 6 ، ص 35؛ مناقب آل أبي طالب ، لابن شهر آشوب ، ج 2 ، ص 281 ، فصل في إجابة دعواته؛ وفي بحارالأنوار ، ج 34 ، ص 159 ، باب سائر ماجرى من الفتن ... ، ج 970؛ و ج 42 ، ص 226 ، باب كيفية شهادته و ... ، ج 37 عن نهج البلاغة .
2- . التوبة (9) : 102 .

ص: 168

وما تَمَّ عقلُ امرئ حتّى يكونَ فيه خصالٌ شتّى : الكفرُ والشرُّ منه مَأمونان ، والرشدُ والخيرُص 19 منه مَأمولان ، وفضلُ ماله مبذولٌ ، وفضلُ قوله مكفوفٌ ، ونصيبُهُ من الدنيا القوتُ ، لا يَشْبَعُ من العلم دهرَه ، الذلُّ أحبُّ إليه مع اللّه من العزّ مع غيره ، .........

وقوله عليه السلام : «وما تمّ عقل امرئ ...» أي ما تمّ عقله بمتابعته إيّاه في كلّ ما يدلّ عليه ، وعدم مخالفته في شيء ؛ أو ماتمّ بإتمام اللّه تعالى له إيّاه بزيادته وتوفيقه حتّى يكون فيه خصال شتّى ، أي متفرّقة ، قلّما تجتمع في واحد بتوفيق اللّه تعالى وهدايته ولطفه الزائد «وَ الَّذِينَ جَ_اهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» (1) ومَن جَمَعَها جَمَعَ غيرها من الخصال الحميدة . وآخر الخصال ينافي دخول المعصوم ليكون متميّزاً بغير هذه ، وذكر المؤمن في حديث الصادق عليه السلام الآتي يشعر بذلك وتعليمهم الناس يدلّ على المغايرة ، وليس منه تعليم غيرهم لغيرهم ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (والرشدُ والخيرُ منه مَأمولانِ ، وفضلُ مالِه مبذولٌ ، وفَضْلُ قولِه مَكفوفٌ) . أي يكون تحصيل الرشد والخير منه مأمولاً . «وفضل ماله مبذولٌ» أي الزائد عن قدر كفايته وما يحتاج إليه . وفيه دلالة على أنّ الذي يبذل غير الفضل لا يكون تامّ العقل ، وكذا من يقول قولاً زائداً عمّا يحتاج إليه ويقتضيه المقام والعقل . قوله عليه السلام فيه : (والتواضعُ أحَبُّ إليه من الشرف) . المراد من الشرف هنا الرفعة التي يُنافيها التواضع عند صاحبها أو الناس ؛ واللّه أعلم .

.


1- . العنكبوت (29) : 69 .

ص: 169

والتواضعُ أحبُّ إليه من الشَرَف ، يستكثرُ قليلَ المعروفِ من غيره ، ويستقلُّ كثيرَ المعروفِ من نفسه ، ويرى الناسَ كلَّهم خيرا منه ، وأنّه شرُّهم في نفسه ، وهو تمامُ الأمرِ .

قوله عليه السلام فيه : (ويَرَى الناسَ كُلَّهم خيراً منه ، وأنّه شَرُّهم في نفسِه ، وهو تَمامُ الأمرِ) . الظاهر أنّ المراد بالناس هنا المؤمنون ، فإنّ غيرهم ليسوا من الناس الذين يدخلون في هذا المقام . وهذا كما يسمّى بالعقلاء العاملون بعقلهم ، وغيرهم يسلب عنهم هذا الاسم وإن كان لهم عقل ، بل لا يسلب في مقام الذمّ إلاّ عن ذوي العقول ، ويمكن دخول من يجهل حاله . وأمّا نحو الكفّار فلا يناسب إدخالهم في الناس هنا ، إلاّ أن يُراد بالشرّ والخير ما يشمل ما لا يتعلّق بالعقائد ونحوها ممّا يمكن اشتراك المؤمن وغيره فيه ؛ فيحتمل بعيداً إدخالهم في العموم ، أو باعتبار الخاتمة وأنّ كلّ أحد يراه يقول : ربما يكون خاتمته أحسن من خاتمتي ، فإنّ الكافر ونحوه يمكن رجوعهما (1) إلى الحقّ وحسن الخاتمة ، ويمكن فيه العكس . ذكر مضمون هذا الوجه الغزالي في الإحياء (2) ؛ واللّه تعالى أعلم . وفي أمالي الشيخ بإسناده عن زر بن أنس قال : سمعت جعفر بن محمّد عليه السلام يقول : «لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون كامل العقل ، ولن يكون كامل العقل حتّى يكون فيه عشر خصال : الخير منه مأمول ، والشرّ منه مأمون ، يستقلّ كثير الخير من نفسه ، ويستكثر قليل الخير من غيره ، ويستكثر قليل الشرّ من نفسه ، ويستقلّ كثير الشرّ من غيره ، ولا يتبرّم بطلب الحوائج قِبَلَه ، ولا يسأم من طلب العلم عمره ، الذلّ أحبّ إليه من العزّ ، والفقر أحبّ إليه من الغنى ، حسبه من الدنيا قوت ، والعاشرة _ وما العاشرة _ : لا يلقى أحداً إلاّ قال هو خير منّي وأتقى ، إنّما الناس رجلان : رجلٌ خير منه وأتقى ، وآخَرُ شرّ منه وأدنى ، فإذا لقي الذي هو خير منه تواضَعَ له ليلحق به ، وإذا لقي الذي هو شرّ منه وأدنى ، قال : لعلّ شرّ هذا ظاهرٌ وخيره باطنٌ ، فإذا فعل ذلك فقد علا وسادَ أهل زمانه» (3) انتهى . فقوله عليه السلام في هذا الحديث : «والعاشرة وما العاشرة» هو معنى قول أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه : «وهو تمام الأمر» ومعناهما تعظيم أمر العاشرة والتعجيب منها ، وأنّها أمر شاقّ عزيزُ الوقوع ، كتعظيم أمر القارعة في قوله تعالى «الْقَ_ارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ» (4) ونحوه . وأنّها تمام أمر الإيمان إمّا بمعنى أنّها كمال أمره ، بحيث إذا حصلتْ دخل تحتها غيرها ، فإنّ من حصَّل هذه المرتبة هانَ عليه غيرها ؛ وإمّا بمعنى أنّ بها يختم هذا الأمر ، ولا يبقى بعده ما يحتاج إليه تمام الإيمان ، كما ختمتْ نبيّنا صلى الله عليه و آله النبوّة والرسالة ، وكان جامعاً لكمالات الأنبياء وزائداً عنهم . وفي هذا الحديث قرينة على إرادة المؤمنين دون غيرهم ، فالأوّل مثله ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ج» : «رجوعهم» .
2- . راجع : إحياء علوم الدين ، ج 3 ، ص 384 .
3- . الأمالي ، للطوسي ، ص 153 ، المجلس 6 ، ح 5 .
4- . القارعة (101) : 1 _ 2 .

ص: 170

. .

ص: 171

يا هشام ، إنّ العاقلَ لا يَكْذِبُ وإن كانَ فيه هواه . يا هشام ، لا دينَ لمن لا مروءةَ له ، ولا مروءة لمن لا عقلَ له ، وإنّ أعظمَ الناسِ قدْرا الذي لا يَرى الدنيا لنفسه خطرا ، أما إنَّ أبدانَكُم ليس لها ثمنٌ إلاّ الجنّةُ ، فلا تَبيعوها بغيرها .

قوله عليه السلام فيه : (لا دينَ لمن لا مروّةَ له ، ولا مروّةَ لمن لا عَقلَ له) . إن اُريد بالمروّة ما يتحقّق به أصل الدين ، فنفي الدين بنفي المروّة ظاهرٌ ، وإلاّ فالمراد نفي الكمال . ومن لم يعمل بعقله ، فقد سلب المروّة كما سلب غيرها إن لم يعمل أصلاً ، وإلاّ فبما يقتضي سلب المروّة ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (وإنّ أعظمَ الناسِ قَدْراً الذي لا يَرَى الدنيا لنفسه خَطَراً) . «الخطر» : الحظّ والنصيب ؛ عن النهاية . (1) وفي الصحاح : خطرُ الرجل : قدرُه ومنزلتُه والسَبَق الذي يتراهن عليه . (2) والمعنى هنا _ واللّه أعلم _ أنّ أعظم الناس قَدْرا عنداللّه من لا يرى الدنيا عوضاً لنفسه ، فإنّ من اختار الدنيا على الآخرة ، فقد باعَ نفسه بالدنيا ورضي بها عوضاً عن نفسه وثمناً لها ؛ أو من لا يرى كلّ الدنيا ثمناً لنفسه ، على احتمال . قوله عليه السلام فيه : (أما إنّ أبدانَكُم ليس لها ثمنٌ إلاّ الجنّةُ ، فلا تَبيعوها بغيرِها) . أي ثمن الأبدان الذي ينبغي للعاقل أن يبيعها به إنّما هو الجنّة ، فإنّ اللّه سبحانه خَلَقَ عبادَه ليكونوا من أهلها بشرط طاعتهم ، وأعطاهم القدرة على تحصيل ذلك ، فمن باعَ بدنه بغيرها كانَ سفيهاً مغبونا ببيعه بغير الثمن . وقوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» (3) من هذا القبيل ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . النهاية ، ج 2 ، ص 46 (خطر) .
2- . الصحاح ، ج 2 ، ص 309 (خطر) .
3- . التوبة (9) : 111 .

ص: 172

يا هشام ، إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول : إنَّ من علامة العاقل أن يكونَ فيه ثلاثُ خصالٍ : يُجيب إذا سُئلَ ، وينطقُ إذا عجزَ القومُ عن الكلام ، .........

قوله عليه السلام فيه (إنّ مِن عَلامةِ العاقلِ أنْ يَكونَ فيه ثَلاثُ خِصالٍ : يُجيب إذا سُئلَ ، ويَنطِقُ إذا عجَز القومُ عن الكلامِ ، ويُشيرُ بالرأي الذي يَكونُ فيه صَلاحُ أهلِه ، فمَن لم يَكُنْ فيه مِن هذه الخصال الثلاث (1) شيءٌ فهو أحمقُ) . لا شبهة في أنّ العاقل يدلّه عقله على أنّه إذا سُئل وكان عالماً بما سئل عنه أن يُجيب السائل بما يعلم ، وإذا لم يعلم أن يجيبه بعد العلم ، ومع المصلحة المسوّغة قد ينعكس الأمر ، والجميع داخلٌ تحت الجواب إذا سئل ، وفي ترك الجواب مخالفة لمقتضى العقل . والجواب بما يخالف ليس بجوابٍ مطلوبٍ من العقلاء ليدخل تحت الجواب . وقوله عليه السلام : «وينطق إذا عجز القوم» معناه _ واللّه أعلم _ أنّ العقل يقتضي أنّه متى تكلّم القوم بالصواب ، فماداموا يتكلّمون به فالعاقل في راحة من الكلام وغناء عنه . وقد ورد في الحديث «أنّ راحة اللسان في النطق ، وراحة العقل في الصمت» (2) . فالعاقل يختار راحة عقله ، فإذا عجزوا عن الكلام بالصواب تعيّن عليه الكلام ، وحينئذٍ تصير راحة العقل في النطق ؛ فإنّ قوله عليه السلام : «وينطق إذا عجز القوم» يدلّ على أنّ راحة العقل ليستْ في مطلق الصمت ، بل في الصمت المستغني به عن النطق . فإن قلت : قد ورد «تكلّموا في العلم تبيّن أقداركم» (3) كما يأتي ، و«تكلّموا تعرفوا». (4) قلت : لا منافاة ، فإنّ المقامات مختلفة ، فقد يقتضي المقام التكلّم بالصواب ، كما تقدّم ، فيعرف بكلامه الصواب وأنّه أهله ؛ وقد يقتضي المقام تكلّمه ؛ لجهل الحاضرين حاله ورتبته ونحو ذلك ؛ فالتقييد لابدّ منه . والجاهل ونحوه غير داخلين ، والضابط متابعة العقل صمتاً ونُطقاً ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب ، د» : - «الثلاث» .
2- . التحفة السنيّة ، للسيّد الجزائري ، ص 326 ؛ الصمت وآداب اللسان ، لابن أبي الدنيا ، ص 300 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 50 ، باب النوادر ، ح 14 .
4- . نهج البلاغة ، ص 545 ، الحكمة 392 ؛ غررالحكم ، ص 209 ، ح 4025 ؛ معدن الجواهر ، للكراجكي ، ص 67 ، باب ما جاء في تسعة ؛ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 19 ، ص 340 ، ح 398 ؛ وفي بحارالأنوار ، ج 68 ، ص 291 ، باب السكوت والكلام... ، ذيل ح 62 ، عن نهج البلاغة .

ص: 173

ويُشيرُ بالرأي الذي يكونُ فيه صَلاحُ أهلِه ،فمن لم يكنْ فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمقُ . إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : لا يَجلسُ في صدر المجلس إلاّ رجلٌ فيه هذه الخصالُ الثلاث ، أو واحدةٌ منهنّ ، فمن لم يكن فيه شيء منهنّ فجَلَسَ ، فهو أحمقُ .

وقوله عليه السلام : «ويشير بالرأي الذي [ يكون ] فيه صلاح أهله» . الظاهر منه عود ضمير «أهله» إلى الرأي ، وظاهر الإطلاق دخول غير المؤمنين بل غير المسلمين . وقد يؤيّد بما يدلّ بإطلاقه على نصح مطلق المستشير ، وحينئذٍ فيقيّد بما لا ضرر فيه على مؤمن أو مسلم ولا يخالف الشرع ونحو ذلك ممّا فيه صلاح المستشير . أو يقال : إنّ نحو هذا مخصوص بالمؤمنين ، فإنّ مثل ذلك يكون متعلّقاً بهم كما تقدّم . وفي التعبير ب «أهله» دون «صاحبه» أو «المستشير» ونحوه ما لعلّه تنبيه (1) على ذلك . ويحتمل رجوع ضمير «أهله» إلى الصلاح لا على معنى الاستخدام ، فإنّ النصح غير مختصّ بأهل الصلاح بالمعنى المشهور مع احتماله ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (لا يَجلسُ في صدرِ المجلسِ إلاّ رجلٌ فيه هذه الِخصالُ ...) . لمّا كان الذي يجلس في صدر المجلس يتوجّه إليه الناس بالسؤال ، ويكون محلاًّ للكلام بما ليس عند غيره وكذا المشورة ، كان جلوس هذا ناشئا عن (2) قلّة عقل منه ، وعدم تأمّل لما يترتّب عليه ممّا يلزم صاحب هذا المجلس . والواحدة من هذه الخصال تكفي لكونه محلاًّ لذلك في الجملة . والحماقة هنا إمّا من قبيل سلب العقل عن العاقل ، وهو الظاهر من المقام (3) ؛ وإمّا لتنبيه غيره لأن لا يفعل كفعله وإن كان بغير اختياره . ص 20

.


1- . في «ب» و «ج» : «ينبّه» .
2- . في «ب ، ج ، د» : - «ناشئا عن» .
3- . في «د» : - «من المقام» .

ص: 174

وقال الحسن بن عليّ عليهماالسلام : إذا طَلَبْتُم الحوائجَ فاطلبوها من أهْلِها ، قيلَ : يا ابن رسول اللّه ، ومَن أهلُها؟ قال : الّذين قَصَّ اللّه ُ في كتابه وذَكَرَهم ، فقال : « إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ » قال : هم أُولوا العقول . وقال عليُّ بن الحسين عليهماالسلام : مجالَسةُ الصالحين داعيةٌ إلى الصلاح ، وآدابُ العلماء زيادةٌ في العقل ، وطاعةُ ولاةِ العدلِ تمامُ العزّ ، واستثمار المال تمامُ المروءة ، وإرشاد المستشير قضاءٌ لحقّ النعمة ، .........

قوله عليه السلام فيه : (إذا طَلَبْتُم الحوائجَ فاطلبوها من أهلها ...) . أي إذا أردتم طلب الحوائج ، فاطلبوها من أهل العقول العاملين بمقتضى عقولهم ، فإنّه مَن كان كذلك ، كانَ محلاًّ لأن يقضي الحوائج ، فإنّ تركه ذلك لا يجامع عقله ، والفرض أنّه عاقل بالمعنى المذكور . قوله عليه السلام فيه : (واستثمارُ المالِ تمامُ المروّةِ) . أي في استثماره مروّة تامّة ؛ لأنّه باعث على اجتناب ما فيه دناءة وخِسّة . وذلك مروّة كاملة في نفسها لمن يقنع به ، ولا يميل به الدناءة معه إلى غيره ، فإنّ المراد استثماره لأجل رفع (1) ذلك . والمقامات تدلّ على مثل هذا التقييد في نحو هذا ، ومن هذا القبيل دلالته على أنّ المراد استثماره على وجه لا ينافي المشروع . قوله عليه السلام فيه : (وإرشادُ المُستشيرِ قَضاءٌ لحقِّ النعمةِ) . الظاهر أنّ المراد من النعمة فيه النعمة التي أنعم اللّه سبحانه بها على المستشار بأن منحه من العقل والرأي السديد ماصار بسببه يُرجَع إليه في المشورة . وقوله تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام : «وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ» (2) لمصلحة اقتضت ذلك ، لا لكونهم أحسن رأياً منه . وهذا على تقدير أن يكون بمعنى الاستشارة ، ولو كان المراد منها مشاركَتهم في المشورة لمصلحة ، لم يرد ما ذكر ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ألف» : «دفع» .
2- . آل عمران (3) : 159 .

ص: 175

وكفُّ الأذى من كمال العقل ، وفيه راحةُ البدن عاجلاً وآجلاً . يا هشام ، إنَّ العاقلَ لا يُحدِّثُ من يَخافُ تكذيبَه ، ولا يسألُ من يَخافُ منعَه ، ولا يَعِدُ ما لا يقدرُ عليه ، ولا يرجو ما يُعنَّفُ برجائه ، ولا يُقْدِمُ على ما يخافُ فوتَه بالعجز عنه» .

قوله عليه السلام فيه : (وكَفُّ الأذى من كمالِ العقلِ ، وفيه راحةُ البدنِ عاجلاً وآجلاً) . لا شبهة في أنّ العاقل يعلم أنّ الأذى المنهيَّ عنه وَبالٌ وتَعَبٌ على صاحبه في الدنيا كخوفه ممّن يؤذيه وغيره من نحو السلطان ، فيتعب بدنه بحركة وضرب ونحوهما ، وقد يؤول إلى مرض ونحوه يحصلان من خوف وفكر ووساوس (1) ؛ وفي الآخرة بالعذاب بسبب ذلك ؛ ففي ترك الأذى راحة الدارين ، فمن كمال العقل _ بمعنى متابعته في ترك ذلك _ كفّ الأذى . ولا ينافي ذكر البدن مشاركة الروح في الراحة والتعب للبدن ، فإنّه يعبّر في مثله بالبدن ونحوه عمّا له زيادة تميز وظهور فيما تعلّق به شيء ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه وهو آخره : (ياهشام ، إنّ العاقلَ لا يُحَدِّثُ مَن يَخافُ تكذيبَه (2) ...) . أي من يتابع عقله ويعمل به لا يفعل هذه الأشياء ، فينبغي للعاقل أن لا يفعلها . ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ من ليس له غريزة أصلاً _ أو غريزة ناقصة _ يفعل هذه الأشياء ، فينبغي لصاحب الغريزة أن لا يفعل مثل فعله ويتشبّه به . و«التعنيف» التعيير واللؤم ، والمعنى ظاهرٌ ، واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «وسواس» .
2- . في حاشية «د» : «حديث هشام هذا ، نقله الحسن بن شعبة في كتاب تحف العقول ، وفيه زيادة كثيرة عمّا هنا . [راجع : تحف العقول ، ص 390] (منه) » .

ص: 176

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد رَفَعَه قال :قال أميرالمؤمنين عليه السلام : «العقلُ غِطاءٌ ستير ، والفضلُ جمالٌ ظاهرٌ ، فاسْتُرْ خَلَلَ خلقِك بفَضْلك ، وقاتِلْ هواكَ بعقلك ، تَسْلَمْ لك المودّةُ ، وتَظْهرْ لك المحبّةُ» .

قوله عليه السلام في حديث سهل بن زياد : (العقلُ غِطاءٌ ستيرٌ ، والفضلُ جمالٌ ظاهرٌ ، فَاستُرْ خَلَلَ خلقِك بفضلك ؛ وقاتِلْ هَواك بعقلك ، تَسْلَمْ لك المودّةُ ، وتَظهرْ لك المحبّةُ) . «ستير» يحتمل أن يكون بمعنى مستور ، وأن يكون بمعنى ساتر . والأوّل أنسب ب «ظاهر» معنىً ، والثانى به لفظاً . وبمعنى مستور قد يكون من باب «حجاب محجوب وستر مستور» فيرجع إلى فاعل . و«الفضل» في اللغة ضدّ النقص . (1) و«الخلق» بالفتح بمعنى الخلقة ، وبالضمّ وضمّتين السجيّة والطبع والمروّة والدين . والمعنى _ واللّه أعلم _ أنّ العقل غطاء يستر العيوب الباطنة ، والفضلُ _ وهو الأثر الذي يظهر في الإنسان من المزايا الحسنة _ جمالٌ له ، فإذا كان خلقته ناقصة ، جمّلها بالفضل وجَبَرَ نقصها به . ومنه قيل : الكرم يغطّي كلّ عيب ، والإحسان يقطع اللسان ، وعالج هواه الباطني بالعقل الساتر أو المستور ، أي الباطني ، فيصير بذلك كاملاً في الظاهر والباطن ، ساتراً للظاهر بالظاهر ، وللباطن بالباطن ؛ فتسلم له المودّة ، أي مودّته للّه تعالى ، وتخلص من شوائب مرضها بمتابعة الهوى ، أو مودّة الناس له ، وتظهر له محبّته للّه ، أو تنكشف له محبّة اللّه له أو أثرها ، أو محبّة الناس ، أو مطلقا ؛ فمن أحبّه اللّه أحبَّه الناس الذين هم الناس ؛ واللّه أعلم . و«الغطا» الستير ، بمعنى فاعل ، إمّا تأكيد وإمّا تأسيس ؛ لأنّ الغطاء قد لا يستر . والمعنى على تقدير «الخُلق» _ بضمّ الخاء _ ظاهرٌ ، إلاّ أنّه متفرّع على ذكر الفضل من غير ملاحظة ما في الخَلق بفتح الخاء ، وحاصله أنّ الفضل جمالٌ ظاهرٌ ، فاستر خلقك به . ويؤيّده في الجملة ما يأتي في حديث المفضّل : «وحسن الخلق مجلبة للمودّة» (2) . وعبّر عليه السلام ب «قاتل هواك» دون «استر» لما في كلّ واحد ممّا يدخل تحت الهوى من القوّة وشدّة المدافعة ، فناسب التعبير به ، فإنّ الستر لا يشعر بذلك ، بل ربما أشعر بخلافه ، فإنّ المستور مشعر بضعف فيه وعدم مقاومة ، والأمر بما ذكر أمرٌ بتحصيله وبذل الجهد فيه إن لم يكن حاصلاً وبالعمل به ومراعاة ما يليق به إن كان حاصلاً ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . لسان العرب ، ج 11 ، ص 524 (فضل) .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 27 ، كتاب العقل والجهل ، ح 29 .

ص: 177

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن حديد ، عن سُماعة بن ص 21 مهران ، قال : كنتُ عند أبي عبداللّه عليه السلام وعنده جَماعةٌ من مَواليه ، فجرى ذكرُ العقل والجهل ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «اعْرِفوا العقلَ وجندَه ، والجهلَ وجندَه تَهتدوا» قال سماعة : فقلتُ : جعلتُ فِداك ، لا نَعرفُ إلاّ ما عرَّفتنا ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق العقلَ _ وهو أوّلُ خَلْق من الروحانيّين _ عن يمين العرش من نوره ،

قوله عليه السلام في حديث سماعة : (اعْرِفوا العقلَ وجندَه والجهلَ وجندَه تَهتَدوا) . كثيراً مّا يستعمل المعرفة بمعنى التصديق بالشيء والعمل به ، ولا يراد التصوّر فقط ، ولا التصديق من غير عمل فيما لا يكفي فيه ذلك ، كما تقول : «اعرف الحقّ تدخل الجنّة» وما هنا من هذا القبيل ؛ فالمعنى _ واللّه أعلم _ : اعرفوا ذلك واتّبعوا العقل وجانبوا الجهل تهتدوا . ولا ينافيه ما يأتي في آخر الحديث من قوله عليه السلام : «وإنّما يُدْرَكُ ذلك بمعرفة العقل وجنوده ، وبمجانبة الجهل وجنوده» فإنّ المراد _ واللّه أعلم _ بالإدراك الوصول إليه ؛ ففيه تأييدٌ لما ذكر من المعرفة . ويحتمل أن يكون بمعنى تهتدوا إن أردتم الهداية ، أو بمعنى تهتدوا إلى ما تريدون منهما ؛ كقوله تعالى : «وَ هَدَيْنَ_اهُ النَّجْدَيْنِ» . (1)

.


1- . البلد (90) : 10 .

ص: 178

فقال له : أدبِرْ فأدبَرَ ؛ ثمّ قال له : أقبِلْ فأقبَلَ ؛ فقال اللّه تبارك وتعالى : خلقتُكَ خلْقا عظيما ، وكرّمتُكَ على جميع خلقي» . قال : «ثمّ خلَق الجهلَ من البحر الأُجاج ظلمانيّا ، فقال له : أدبِرْ فأدبَرَ ؛ ثمّ قال له : أقبِلْ فلم يُقْبِلْ ، فقالَ له : استكبرتَ ، فلَعَنَهُ ، ثمّ جعل للعقل خسمةً وسبعينَ جُندا ، فلمّا رأى الجهلُ ما أكرَمَ اللّه به العقلَ وما أعطاهُ ، أضمَرَ له العداوةَ ، فقال الجهلُ : ياربِّ ، هذا خلقٌ مِثْلي خَلَقْتَه وكرَّمْتَه وقوَّيْتَه ، وأنا ضدُّه ولا قوّةَ لي به ، فأعْطِني من الجُنْد

قوله عليه السلام : (فقال له: أدْبِرْ فأدْبَرَ ، ثمّ قال له : أقبِلْ فلم يُقْبِلْ، فقال له : استكبرتَ، فَلَعَنَه) . قد تقدّم أنّ اللّه سبحانه جعل للعقل والجهل نوعاً من التكليف ، ونوعاً من العقاب مع المخالفة ، فبمخالفة الجهل لَعَنَه ، وتوعّده إن عصى بعد ذلك بالإخراج من الرحمة . وعصيانه بمخالفته ما يؤمر به لا باستعمال جنوده . ومَن تدبّر حكمة التكليف مع إعطاء القدرة للمكلّف والاستطاعة لا يتوهّم أنّ في خَلْق الجهل وجنوده ما لعلّه يخطر بالبال ؛ فهو من قبيل خلق الشهوات والدواعي في الإنسان مع قدرته على الكفّ عنها . قوله عليه السلام فيه : (ثمّ جعلَ للعقل خمسةً وسبعينَ جُنداً) (1) .

.


1- . في حاشية «د» : «إن اطلق الجند على الواحد كإطلاقه على المتعدّد ، كان تمييزا ، وإلاّ فهو من قبيل قول تعالى : « ثَلَ_اثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ » [ الكهف (18) : 25] . (منه) » .

ص: 179

مِثْلَ ما أعطيتَه ، فقال : نعم ، فإن عصيتَ بعد ذلك أخرَجْتُك وجندَك من رحمتي ، قال : قد رضيتُ ، فأعطاه خمسةً وسبعينَ جُندا ، فكان ممّا أعطى العقلَ من الخمسة والسبعين الجندَ :

المذكور هنا ثمانية وسبعون ، ويحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون وقع في لفظة «خمسة» اشتباه وتحريف أوّلاً ، ثمّ تبعه الناسخون بأن يكون أصله «ثمنية» فإنّها كثيراً ما تكتب بغير الف ، بل الأصل فيها ذلك بحسب قواعد الخطّ ، فكانت النقطتان قريبتين من الثاء ، وهما في نفسهما متّصلتان أو متّصلتين بالثاء ، فحصل اشتباه ثمانية بخمسة إمّا في الموضعين ، أو في أحدهما ، وتصرّف النسّاخ في الآخر أو الآخرين بالموافقة ، وتصحيف الخمسة بالثمانية أيضاً قريبٌ مع توهّم الموافقة ؛ واللّه أعلم . ومثل هذا واقع في الحديث يَظْهَر لمن تتّبعه . و يُنسب إلى شيخنا البهائي _ طاب ثراه _ هنا حواش هذه صورتها : المذكور هنا ثمانية وسبعون ، ولعلّ الثلاثة الزائدة إحدى فقرتي الرجاء والطمع ، وإحدى فقرتي الفهم ، وإحدى فقرتي السلامة والعافية ، فجمع الناسخون بين البدلين ، غافلين عن البدليّة ، كما ذكرناه عند الطمع واليأس ؛ انتهى . (1) وعند ذكر الطمع ذكر : الطمع وضدّه تكرار لذكر الرجاء وضدّه ، ولا يمكن توجيهه بإرادة الطمع من الخلق واليأس منهم لذمّ الطمع منهم ومدح اليأس ، فكيف يجعل الأوّل من جنود العقل ، والثاني من جنود الجهل . وكان ينبغي أن يقال : واليأس وضدّه الطمع ؛ والظاهر أنّ هذه النسخة كانت في بعض النسخ بدلَ اُختها ، فرآها بعض الناظرين فجمع بينهما . والصواب عدم الجمع بين الاُختين ، انتهى . (2) وكتب على العافية وضدّها البلاء : «تقدّم السلامة وضدّها البلاء ، فينبغي حمل إحدى الاُختين على ما حملناه عليه في الطمع والرجاء» . انتهى المنسوب إليه . أقول : لا يخفى إمكان أن يقال : إنّ الرجاء والقنوط مغايران للطمع واليأس في الجملة ، والبلاء في الموضعين يمكن اعتباره مختلفاً ، فالبلاء مع السلامة غيره مع العافية . وفي هذه الجنود ما هو متقارب المعنى من هذا القبيل غير ما ذكر ، فمع وجود الجميع يمكن حمل كلّ على معنى يخالف الآخر ، ولكنّه توجيه في الجملة كما ذكرته . ويحتمل أن يكون بعض الجنود _ التي عباراتها مختلفة ومآلها واحد _ معدودا كلّ اثنين منها بواحد ، وذكرها لاختلاف التعبير باختلاف أهله كالرجاء والقنوط ، والطمع واليأس ، والفهم والغباوة ، والفهم والحمق ، والسلامة والبلاء ، والعافية والبلاء . ولا يخفى بُعد هذه التوجيهات ؛ واللّه أعلم وأهله بحقيقة الحال . وفي كتاب الخصال أحد وثمانون (3) وفي أوّل الحديث كما هنا خمسة وسبعون ، وبين ماهنا وهناك اختلاف ، مَن أرادَ الاطّلاع عليه راجعه هناك ، ومثل هذا يقع من التساهل في ضبط الأحاديث ، وبعض الألفاظ في الخصال بمعنى بعض الألفاظ في هذا الكتاب ، وكأنّه قرينة على ما ذكرناه من اختلاف التعبير ، أو من النقل بالمعنى . ويحتمل أن يكون بعض الرواة كان يروي بعض الكلام بلفظٍ ، وآخَرُ يرويه بآخَرَ ، وفي وقت الجمع جمع الجميع ؛ واللّه أعلم .

.


1- . نقله عنه ملاّ صالح المازندراني في شرحه ، ج 1 ، ص 212 .
2- . نقله عنه ملاّ صالح المازندراني في شرحه ، ج 1 ، ص 225 ؛ بالاختصار .
3- . الخصال ، ص 590 ، ح 13 .

ص: 180

الخير ، وهو وزير العقل ، وجعل ضدَّه الشرَّ ، وهو وزير الجهل ؛ والإيمانُ ، وضدَّه الكفرَ ؛ والتصديقُ ، وضدّه الجحودَ ؛ والرجاءُ ، وضدّه القنوطَ ؛ والعدلُ ، وضدّه الجورَ ؛ والرضا ، وضدّه السخطَ ؛ والشكرُ ، وضدّه الكفرانَ ؛ والطمعُ ، وضدّه اليأسَ ؛ والتوكّلُ ، وضدّه الحرصَ ؛ والرأفةُ ، وضدّها القسوةَ ؛ والرحمةُ ، وضدّها الغضبَ ؛ والعلمُ ، وضدّه الجهلَ ؛

قوله عليه السلام فيه : (الخير ، وهو وزير العقل ، وجعَل ضدّه الشرّ ، وهو وزير الجهل) . لعلّ الوجه في هذا أنّ ما عدا الخير من جنود العقل يرجع إليه ، وكذا الشرّ ، كما يرجع الجند إلى وزير السلطان في اُمورهم ، فوجه الشبه كون كلّ واحد مرجعا . واعلم أنّ هذه الجنود منها ما هو اختياريٌّ وهو أكثرها ، وبعضها غير اختياريّ بحسب الظاهر ، كالفهم والحمق ، والغنى والفقر ، والتذكّر والسُهو ، والحفظ والنسيان والشهامة والبلادة ، والفهم والغباوة ، فما كان منه من جنود العقل يكون تفضّلاً منه تعالى على من يتّبع العقل وجنوده الاختياريّة ، وتابَعَ الجهل وجنوده الاختياريّة يمكن أن يكون متابعته سبباً لحصول هذه الأشياء فيه عقوبة له بها وإن لم يعاقب عليها ، وقد يمدّه اللّه تعالى برفعها عنه إذا سلك سبيل العقل وجنوده ، كما يأتي في آخر الحديث من قوله عليه السلام : «وأمّا سائر ذلك من موالينا ، فإنّ أحَدَهم لا يخلو من أن يكونَ فيه أحد هذه الجنود حتّى يستكملَ ويَنقى من جنود الجهل» فإذا اطّلع اللّه على عبده بذلك مَنَحَه ما هو من جنود العقل ، ورفَع عنه ماهو من جنود الجهل «وَ الَّذِينَ جَ_اهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» (1) وهو تعالى أحقّ من برّ بالقسم ووَفى بالوعد . ويمكن توجيه ما ذكر من كونه غير اختياري أو أكثره بما يرجع إلى الاختياري ، كما يأتي إن شاءَاللّه تعالى .

.


1- . العنكبوت (29) : 69 .

ص: 181

والفهمُ ، وضدّه الحُمْقَ ؛ والعفّة ، وضدّها التهتُّكَ ؛ والزهُد ، وضدّه الرغبةَ ؛ والرفق ، وضدّه الخُرْقَ ؛ والرهبةُ ، وضدّه الجرأةَ ؛ والتواضعُ ، وضدّه الكِبْرَ ؛ والتُّؤَدَةُ ، وضدّها ص 22 التسرُّعَ ؛ والحلمُ ، وضدّها السَّفَهَ ؛ والصمتُ ، وضدّه الهَذَرَ ؛ والاستسلامُ ، وضدّه الاستكبارَ ؛ والتسليمُ ، وضدّه الشكَّ ؛ والصبرُ ، وضدّه الجَزَعَ ؛ والصفْحُ ، وضدّه الانتقامَ ؛

قوله عليه السلام : (والفهم ، وضدّه الحُمْقَ) . الفهم يأتي مع الغباوة أيضا ، ويمكن أن يكون المراد به فهم الأشياء التي ينبغي فهمها بمعنى تفهّمها ، ويكون تركه حمقاً ، كالعاقل وغير العاقل ، فإنّه قد يقال : فلانٌ مجنونٌ : إذا لم يعمل بمقتضى عقله ، ويقال : فلانُ أحمقٌ كذلك ، كما قال تعالى : «صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ» (1) فيرجع إلى الاختياري .

.


1- . البقرة (2) : 18 .

ص: 182

والغنى ، وضدّه الفقرَ ؛ والتذكّرُ ، وضدّه السهْوَ ؛ والحفظُ ، وضدّه النسيانَ ؛ والتعطّفُ ، وضدّه القطيعةَ ؛ والقنوعُ ، وضدّه الحرصَ ؛ والمؤاساةُ ، وضدّها المنعَ ؛ والمودَّةُ ، وضدَّها العداوةَ ؛ والوفاءُ ، وضدّه الغَدْرَ ؛ والطاعةُ ، وضدّها المعصيةَ؛ والخضوعُ، وضدّه التطاوُلَ؛ والسلامةُ، وضدّها البلاءَ؛ والحُبُّ، وضدّه البغضَ؛ والصدقُ ، وضدّه الكذبَ ؛ والحقُّ ، وضدّه الباطلَ؛ والأمانةُ ، وضدّها الخيانةَ ؛ والإخلاصُ ، وضدّه الشَّوْبَ ؛

قوله عليه السلام : (والغنى ، وضدّه الفقرَ) . يمكن أن يكون المراد به غنى النفس وفقرها ، لا غنى المال ، فإنّ الأوّل هو الغنى الحقيقي ، فالعاقل غنيٌّ بهذا المعنى وإن كان فقيراً ، والجاهل فقيرٌ وإن كان غنيّاً ، فيرجع إلى الاختياري ؛ أو الغنى الحاصل من القناعة ، وقد يرجع إلى الأوّل ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام : (والتذكّرُ ، وضدّه السهوَ ؛ والحفظُ ، وضدّه النسيانَ) . يمكن إلحاقه بالاختياريّ بقرينة التذكّر ، فإنّ العاقل لمحافظته على ما يقتضي العقل المحافظة عليه لا يرتكب التغافل الذي يؤول إلى السهو عنه ، فهو من قبيل عقل الأشياء وجهلها ، لا أصل الغريزة ، ونحوه الحفظ والنسيان . قوله عليه السلام : (والسلامةُ ، وضدّها البلاءَ) . يمكن أن يكون المراد به السلامة من الذنوب والتبعات والبلاء بها ، فإنّ السليم من سلم منها ، والمبتلى من ابتلي بها ، لا السلامة من محن الدنيا وآفاتها ، فإنّ البلاء موكّل بالأمثل فالأمثل .

.

ص: 183

والشهامةُ ، وضدّها البلادَةَ ؛ والفهمُ ، وضدّه الغَباوَةَ ؛ والمعرفةُ ، وضدّها الإنكارَ ؛ والمداراةُ ، وضدّها المكاشَفَةَ ؛ وسلامةُ الغيب ، وضدها المماكرة ؛ والكتمان ، وضدّها الإفشاء؛ والصلاةُ ، وضدّها الإضاعَةَ ؛ والصومُ ، وضدّه الإفطارَ ؛ والجهادُ ، وضدّه النكولَ ؛ والحجُّ ، وضدّه نَبْذَ الميثاق ؛ وصَوْنُ الحديث ، وضدّه النميمةَ ؛ وبِرُّ الوالدين ، وضدّه العقوقَ ؛ والحقيقةُ ، وضدّها الرياءَ ؛ والمعروفُ ، وضدّه المنكَرَ ؛ والستْرُ ، وضدّه التبرّجَ ؛ والتقيّةُ ، وضدّها الإذاعةَ ؛ والإنصافُ ، وضدَّه الحميّةَ ؛ والتَهْيِئَةُ ، وضدَّها البَغْيَ ؛ والنظافةُ ، وضدّها القَذَرَ ؛

قوله عليه السلام : (والشهامةُ ، وضدّها البلادةَ) . في القاموس : الشهم : الذكيّ الفؤاد المتوقّد (1) . ولا يبعد حصول ذلك من متابعة العقل وعدمها . ويمكن التوجيه بنحو ما مرّ في الفهم والحمق ، فيرجع إلى الاختياري ؛ وكذا الفهم والغباوة . قوله عليه السلام : (والنهية (2) ، وضدّها البغي) . في الصحاح : النهية واحدة النهى ، وهي العقول ؛ لأنّها تنهى عن القبيح . (3) وفي أكثر ما رأيته من نسخ الكتاب «التهيئة» بالتاء المثنّاة من فوق والمثنّاة من تحت والهمزة ، ولا يظهر له وجه مناسبة يعتدّ به ، والأوّل له وجه في الجملة . وربما كتبوا على النسخ حاشية مجهولة أنّ المراد التهيئة للقاء الإمام والبغي عليه . وهو كما ترى . والحاصل أنّه لا يحضرني وجه يعتدّ به ، ولعلّه مصحّف عن لفظ آخَرَ ؛ واللّه أعلم .

.


1- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 137 (شهم) .
2- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «التهيئة» . والمراد من التهيئة هنا التثبّت في الاُمور والاستقامة على المأمور ، أو الكون على حالة واحدة ، أو الموافقة والمصلحة بين الجماعة وإمامهم . وقرأها الداماد : «البهشة» وهي الارتياح لذي فضل وللمعروف وأحبّائه و الميل إليه . راجع : التعليقة على الكافي ، للداماد ، ص 45 ؛ شرح صدر المتألّهين ، ج 1 ، ص 512 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 74 .
3- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2517 (نهى) .

ص: 184

والحياء ، وضدّها الجَلَعَ ؛ والقصد ، وضدّه العدوانَ ؛ والراحة ، وضدّها التعَبَ ؛ والسهولةُ ، وضدّها الصعوبة ؛ والبركةُ ، وضدّها المَحْقَ ؛ والعافية ، وضدّها البلاءَ ؛ والقَوامُ ، وضدّه المكاثرة ؛ والحكمةُ ، وضدّها الهوى ؛ والوقارُ ، وضدّه الخِفّةَ ؛ .........

قوله عليه السلام : (والقصدُ ، وضدّه العدوانَ) . كان المراد بالعدوان تجاوز حدّ القصد الذي لا ينبغي تجاوزه . قوله عليه السلام : (والراحةُ ، وضدّها التعَبَ) . لعلّ المراد الراحة من متاعب الدنيا للدنيا ، فالتعب للآخرة في الدنيا راحة للعقل ، والتعب للدنيا من لوازم الجهل . وقريب منه السهولة والصعوبة ، فإنّ العقل يسهل معه ما يصعب مع الجهل ؛ لأنّ طريقه مستقيم سهل ، وطريق الجهل حزن وعَرٌّ . قوله عليه السلام : (والبركةُ ، وضدّها المَحْقَ) . لا شبهة في أنّ ما يكون صادراً عن العقل يكون موافقاً لرضاه تعالى ، ولمّا كان كذلك فالبركة لازمة له ، وما خالفه فالمحق لازم له . قوله عليه السلام : (والعافية ، وضدّها البلاء ...) . يحتمل أن يكون المراد بها العافية ممّا يبتلى به أهل الجهل بنوع مغايرة للسلامة والبلاء ، ويحتمل الاتّحاد كما تقدّم . و«الحكمة» يحتمل أن يراد بها هنا ما تقدّم من تفسيرها بأنّها طاعة اللّه ومعرفة الإمام ، ويحتمل غيره من معانيها ، ككونها كلّ كلام وافَقَ الحقّ ونحوه ، فإنّها جميعها ترجع إلى كون الهوى ومتابعته ضدّاً لها . ومن معاني الحكمة العقل . قال في الغريب : وإنّما سمّي العقل حكمة لأنّه يمنع صاحبه من الجهل (1) . فيمكن اعتباره بنوع مغايرة لأصل العقل ليكون من جنده .

.


1- . تفسير غريب القرآن ، للطريحي ، ص 495 .

ص: 185

والسعادةُ ، وضدّها الشقاوةَ ؛ والتوبةُ ،وضدّها الإصرارَ ؛ والاستغفارُ ، وضدّه الاغترارَ ؛ والمحافَظَةُ ، وضدّها التهاونَ ؛ والدعاءُ ، وضدَّه الاستنكافَ ؛ والنشاطُ ، وضدّه الكَسَلَ ؛ والفَرَحُ ، وضدَّه الحَزَنَ ؛ والأُلْفَةُ ، وضدَّها الفُرْقَةَ ؛ والسخاءُ ، وضدَّه البخْلَ . فلاتجتمعُ هذه الخصالُ كُلُّها من أجنادِ العقلِ إلاّ فينبيّ أو وصيّ نبيّ،أو مؤمن قد امتحَنَ

قوله عليه السلام : (والسعادةُ ، وضدّها الشقاوةَ) . لا شبهة في أنّ من كان عاقلاً ، أي عاملاً بعقله ، كان سعيداً ، ومن كانَ جاهلاً كذلك كانَ شقيّاً . ومع القدرة على سلوك طريق يكون به الإنسان سعيداً وطريق يكون به شقيّاً ترجعان (1) إلى الاختيار . قوله عليه السلام : (والفَرَحُ ، وضدّه الحَزَنَ) . وجهه أنّ العاقل لا يحزن على مافات ؛ لدلالة عقله إيّاه على عدم الفائدة في الحزن ، وبعثه على الرضا بقضاء اللّه ، فيكون فَرِحا فيما يحزن منه الجاهل ، مسرورا بما يساء منه ؛ فلا ينافيه ما قد يحزن له المؤمن من نحو حزنه على مافات منه من التقصير ، أو ممّا يعدّه تقصيراً ونحوه ؛ ولا قوله تعالى : «وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَ__اكُمْ» (2) فإنّ لهذا مقاماً آخر ، وهو الفرح بما يحصل له ويقع في يده ولا يفوته ، فهو مقيّد بنحو هذا . والمؤمن يفرح بما فيه رضاه تعالى ، سواءٌ فاتَه أم لم يَفُتْهُ . وبالجملة ، فالتقييد لابدّ منه في الجميع ؛ واللّه أعلم . وقد يقال : إنّ من جمع هذه الخصال ووصل إلى مرتبة الرضا بالقضاء لا يعتريه غمّ ولا حزن أصلاً، وإن حصل ما يشبههما منه، فليس منهما؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه.

.


1- . في «ب» : «قد ترجعان» .
2- . الحديد (57) : 23 .

ص: 186

اللّه ُ قلبَه للإيمان ، وأمّا سائرُ ذلك من موالينا فإنّ أحدَهم لا يخلو من أن يكونَ فيه بعضُ هذه الجنودِ حتّى يَستكملَ ، ويَنْقى من جنود الجهل ، فعند ذلك يكونُ في الدرجة العُليا مع الأنبياء والأوصياء ، وإنّما يُدْرَكُ ذلك بمعرفة العقل وجنوده ، وبُمجانبة الجهل وجنودِه ؛ وَفَّقنا اللّه ُ وإيّاكم لطاعته ومَرضاتِه» .

جَماعةٌ من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى،عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما كَلَّمَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله العبادَ بكُنْهِ عقله قطُّ» . وقال : «قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : إنّا _ معاشِرَ الأنبياء _ اُمِرْنا أن نُكَلِّمَ الناسَ على قَدْر عقولهم» .

قوله عليه السلام : (وأما سائرُ ذلك من موالينا فإنّ أحدَهم لا يخلو من أن يكون فيه بعضُ هذه الجنودِ حتّى يَستكملَ ويَنْقى من جنود الجهل ...) . معناه _ واللّه أعلم _ : وأمّا بقيّة الناس الذين ذكر منهم النبيّ والوصيّ والمؤمن الذين هم شيعتهم عليهم السلام وموالوهم ومحبّوهم لا غيرهم ، فلا يخلو أحدهم من أن يكون فيه بعض جنود العقل حتّى يستكمل ويحصل جميع الجنود ، فيكون نقيّا من جنود الجهل إن فعل ذلك وطلب الكمال وحصّله ، فإن فعل ذلك يكون في الدرجة العليا . ويفهم منه أنّ غير الشيعة ليسوا كذلك ، وذلك لأنّ صاحب الجنود قد ضيّعوه ولم يحصلوا منه على شيء يعتدّ به ، والجنود تابعة للسلطان ، فما كان منها بصورة السلطان وصورة بعض الجنود ، فليس منها كما تقدّم في معاوية ، نعم إذا حصل صاحب الجند أمكن تحصيله . وقد تقدّم بقيّة ما يتعلّق بهذا المقام ؛ واللّه تعالى أعلم . قوله عليه السلام في حديث ابن فضّال: (ما كَلَّمَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله العبادَ بكُنْهِ عقله قطُّ، وقال...) . لا شبهة في أنّ عقول غير المعصومين ناقصة بالنسبة إلى عقولهم عليهم السلام ، ومخاطبة من لا يدرك بعقله المخاطب به قد تكون سبباً لعدم القبول ، وبالعقل يعرف المكلّف نبوّة النبيّ ونحوها؛ فلهذا كان كلامهم لهم على قدر عقولهم.وبتفاوت العقول يتفاوت الكلام ، ومقتضى العقل والتأسّي بهم أن يكون غيرهم ممّن يكلّم الناس كذلك . فإن قلت : عقول الأنبياء عليهم السلام كاملة ، ومن خلاف العمل بمقتضى العقل كلامُ الإنسان بمالا يعقل ، فأيّ فائدة في أمرهم عليهم السلام بذلك؟ قلت : قد اقتضت حكمة اللّه سبحانه أنّه لم يفوّض إلى أنبيائه التبليغ بمجرّد دلالة العقل ، بل بأمر منه تعالى في غير ما ثبت فيه التفويض ، وأمرهم بالتبليغ المطلق قد لا يظهر للأنبياء كونه بقدر عقولهم أو بقدر عقول المخاطبين ، فإنّ الأنبياء أيضاً لا يعلمون وجوه حكمته تعالى إلاّ بتعليم منه ، ولا يفعلون إلاّ ما اُمروا به ، ولو كان مدلولاً عليه بالعقل .

.

ص: 187

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زيادٍ ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن جعفر ، عن أبيه عليهماالسلام ، قال :«قال أميرالمؤمنين عليه السلام : إنَّ قلوبَ الجُهّالِ تَستفِزُّها الأطماعُ ، وتَرتهنُها المنى ، وتَستعلِقُها الخدائعُ» .

قوله عليه السلام في حديث السكوني : (إنّ قلوبَ الجُهّالِ تَستَفِزُّها الأطماعُ ، وتَرتهنُها المنى ، وتَستعلِقُها الخدائعُ) . لا شبهة في أنّه إذا لم يعمل الإنسان بمقتضى عقله كانَ جاهلاً ، فتستفزّه الأطماع ، أي تستخفّه ، بمعنى أنّها تجده خفيفاً ، فتطلب لخفّته انقياده إليها ، فتجده سريعا إلى إجابتها . وهنا شأن كلّ من استخفّ شيئاً وأراد انقياده ؛ بخلاف العاقل ، فإنّ الأطماع تستثقله ، فلا تقدم على تسخيره . «وترتهنها المنى» أي تجعلها كالرهن الذي لا ينتفع به صاحبه مادام رهناً ، وإذا فكّه خرج عن الرهن . وقلوب الجُهّال مرهونة عند الأمانيّ ، مسلّطة على منعها عمّا تستعمل فيه ، فهي في يدها وتصرّفها ، ومانعة إيّاها عن التصرّف في غير ما يتعلّق بها ، بخلاف قلوب العقلاء ، فإنّها تتصرّف كيف ما اقتضاه العقل . «وتستعلقها الخدائع» من العلق وهو الهوى ، يقال : علقها بالكسر وعلق حبّها بقلبه ، أي هواها . والمعنى أنّ الخدائع تجعل قلوب الجهّال متعلّقة بها وهاوية إيّاها كتعلّق العاشق بالمعشوق . ويحتمل بعيداً أن يكون من الإعلاق ، وهو إرسال العلق على الموضع ليمصّ الدم ؛ أو من العلق وهو الدم الغليظ ، والقطعة منه : علقة . والمعنى على الأوّل أنّ الخدائع تجعلها كاللحم الخالي من الدم في عدم قوامه بما فيه حياته ، من غير نظر إلى إخراج الفاسد منه ؛ لأنّ ذلك من فعل العاقل لا الجاهل . وعلى الثاني كالقطعة من الدم ، وإذا وصل القلب إلى هذه الحالة سقط من الانتفاع به ، وذلك بخلاف قلوب متابعي العقل ، فإنّ الخدائع لا تجد إليها سبيلاً ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.

ص: 188

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ ، عن عبيداللّه الدهقان ، عن دُرُستَ ، عن إبراهيم بن عبدالحميد ، قال :قال أبو عبداللّه عليه السلام : «أكْمَلُ الناسِ عقلاً أحْسَنُهم خُلُقا» .

عليٌّ ، عن أبي هاشم الجعفريّ ، قال : كُنّا عند الرضا عليه السلام فتذاكرنا العقلَ والأدبَ ، فقال :«يا أبا هاشم ، العقلُ حِباءٌ من اللّه ، والأدبُ كُلْفَةٌ ، فمن تكلّفَ الأدبَ قَدَرَ عليه ، ومن تكلّفَ العقلَ ، لم يَزدَدْ بذلك إلاّ جهلاً» .

قوله عليه السلام في حديث إبراهيم بن عبدالحميد : (أكملُ الناسِ عقلاً أحْسَنُهُم خُلقاً) . «الخُلق» بالضمّ والضمّتين ، وقد تقدّم معناه ، وإذا كان الإنسان حَسَن الخلق ، كانَ العقلُ معه مستريحاً في انقياده إليه وتسخيره ، بخلاف ما إذا كان سيّء الخلق ، فإنّه يضعف عن مقاومته ويقوى به جانب الجهل وجنوده . وقد يتحقّق كمال العقل في الجملة ولو بالإضافة مع عدم إساءة الخلق ، أو معها كذلك ، وبه يتمّ التفضيل ، وقد يكون من باب قوله تعالى : «وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» (1) . والأمر باتّباع محاسن الأخلاق واجتناب مساويها كثيرٌ ، وهذا إنّما يكون بعد إعطاء القدرة على تحصيلها ، فإذا عمل بمقتضى العقل وأجهَدَ نفسه في تحصيلها ، كانَ عقله كاملاً ، والكمال متفاوت ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث أبي هاشم الجعفري : (يا أباهاشم ، العقلُ حباءٌ من اللّه ، والأدبُ كُلْفَةٌ ، فمن تكلّفَ الأدبَ قَدَرَ عليه ، ومن تكلّفَ العقلَ لم يَزْدَدْ بذلك إلاّ جهلاً) . «الحبا» ككتاب : العطاء بلا جزاء ، فالعقل عطاء من اللّه سبحانه لعبده لأجل نفعه بمتابعته ، وترتّب الثواب الجزيل له عليها ، والأدب ممّا يقتضيه العقل ، فإذا لم يكن حاصلاً يقدر الإنسان على أن يحمل نفسه مشقّة تحصيله ، فتحصيله مقدورٌ له ، بخلاف العقل بمعنى الغريزة ، فمن أراد أن يزيد في عقله الذي أعطاه اللّه تعالى إيّاه وقسمه له ، لم يقدر على ذلك ، فلو تكلّفه لم يزدد به إلاّ جهلاً ؛ لأنّه ينتقل من الجهل البسيط إلى الجهل المركّب ، فيزيد جهله . ثمّ يرتّب عليه ما يتوهّم أنّه من مقتضى العقل ، فكلّ ما يترتّب عليه يكون زيادة في الجهل ، أو أنّه يزيد بذلك زيادة العقل لأجل رفع الجهل بمالا يصل إليه بما عنده من العقل ، فيزيد بذلك جهله ، فينبغي طلب الزيادة من واهب الأصل الذي لا يخيب سائله . وفيه دلالة على عدم حصول العقل المكتسب بقدرة العبد ، إلاّ أن يُراد به ما يَحصل من مقتضى العقل الغريزي ويترتّب عليه ، فمن سمّى مثل هذا عقلاً مكتسباً فلا نزاع معه ، فهو غير العقل المقسوم الذي لا يقدر العبد على زيادته ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الروم (30) : 27 .

ص: 189

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن يحيى بن المبارك ، عن عبداللّه بن جَبَلَةَ ، عن إسحاق ابن عمّار ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :قلت له : جُعِلْتُ فداك ، إنَّ لي جارا كثيرَ الصلاةِ ، كثيرَ الصدقةِ ، كثيرَ الحجِّ لا بأس به ؟ قال : فقال : «يا إسحاقُ ، كيف عقلُهُ؟» ، قال : قلت له : جعلت فداك ليس له عقلٌ ، قال : فقال : «لا يرتفعُ بذلك منه» .

قوله عليه السلام في حديث إسحاق بن عمّار بعد قوله له : جعلتُ فداك ، إنّ لي جاراً كثير الصلاة ، كثير الصدقة ، كثير الحجّ لا بأس به : (يا إسحاق ُكيف عقلُه؟ قال : قلتُ : جُعلتُ فِداك ليس له عقلٌ ، قال : فقال : لا يَرتَفِعُ بذلك منه) . في بعض النسخ «لا ينتفع بذاك منه» . والمعنى على الأوّل أنّ هذا الشيء الكائن منه مع عدم العقل لا يحصل به الرفعة عنداللّه أو رفعة بسببها ، يقال : إنّه رفيع المنزلة بوصفه بذلك .

.

ص: 190

الحسين بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد السيّاريّ ، عن أبي يعقوب البغداديّ ، قال :قال ابنُ السكّيتِ لأبي الحسن عليه السلام لِمَاذا بَعَثَ اللّه ُ موسى بن عمران عليه السلام بالعصا ويَدِهِ البيضاء وآلةِ السحرِ؟ وبعث عيسى بآلة الطبّ ؟ وبعث محمّدا _ صلّى اللّه عليه وآله وعلى جميع الأنبياء _ بالكلام والخُطَبِ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام : «إنّ اللّه لمّا بَعَثَ موسى عليه السلام كان الغالبُ على أهلِ عصره السحرَ ، فأتاهم من عنداللّه بما لم يكنْ في وُسْعِهِم مثلُهُ ، وما أبْطَلَ به سحرَهم ، وأثْبَتَ به الحجّةَ عليهم ، وإنّ اللّه َ بَعَثَ عيسى عليه السلام في وقتٍ قد ظهرَتْ فيه الزماناتُ ، واحتاجَ الناسُ إلى الطبّ ، فأتاهم من عنداللّه تعالى بما لم يكن عندهم مثلُه ، وبما أحيا لهم الموتى ، وأبرَأَ الأكمَهَ والأبرصَ بإذن اللّه تعالى ، وأثبَتَ به الحجّةَ عليهم . وإنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلى الله عليه و آله في وقتٍص 25 كان الغالبُ على أهل عصره الخُطَبَ والكلامَ _ وأظنُّه قال : الشعر _ فأتاهم من عند اللّه تعالى من مواعظه وحِكَمِه ما أبطلَ به قولَهم ، وأثْبَتَ به الحجّةَ عليهم» .

وبناء «يرتفع» للمفعول أنسب من بنائه للفاعل ؛ لأنّه على الأوّل يفيد أنّ هذا الذي يحصل منه من العبادة لا يحصل به لأحد ارتفاع . وبناؤه للفاعل يفيد أنّه لا يرتفع هو به . وهذا وإن استفيد منه أنّه من غيره كذلك ، إلاّ أنّ الأوّل أدلّ . ونحوه نسخة «ينتفع» . وسلب العقل عنه سلب للعمل بمقتضاه بحيث تقع هذه منه على وجهها ، فهو جاهل مؤدٍّ لما ذكر على غير وجهه ، فلا يحصل له رفعة بذلك ، وكذا غيره الذي يعمل عمله . ويحتمل بعيداً سلب أصل العقل ، بمعنى سلبه بالكلّيّة أو بسلب (1) أكثره ، وقد يفعل المجنون مثل ذلك لا عن قصد ، ومسلوب الأكثر قد يفعله مشوباً برياء ونحوه بحيث لا يكون كفعل الكامل ، ولا يكون معاقباً فيما لا يصل إليه عقله . ونفي الارتفاع حينئذٍ يحمل على مالا يدخل فيه الذمّ ، بمعنى أنّ مثل هذا الفعل الصادر عن مثل هذا ليس ممّا يرتفع به العاقل لو فعله كما فعله . ووجاهة الأوّل ظاهرة ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «سلب» .

ص: 191

قال : فقال ابنُ السكّيتِ : تاللّه ِ ما رأيْتُ مثلَكَ قطُّ ، فما الحجّةُ على الخلق اليومَ؟ قال : فقال عليه السلام : «العقلُ ، يَعرفُ به الصادقَ على اللّه فيُصدِّقُه ، والكاذبَ على اللّه فيُكذِّبُه» قال : فقال ابنُ السكّيتِ : هذا _ واللّه _ هو الجوابُ .

الحسين بن محمّد ، عن مُعلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن المثنّى الحَنّاط ، عن قُتيبةَ الأعشى ، عن ابن أبي يعفور ، عن مَوْلًى لبني شيبان ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«إذا قامَ قائمُنا وَضَعَ اللّه ُ يَدَهُ على رؤوس العباد ، فجَمَعَ بها عقولَهم وكَمَلَتْ به أحلامُهم» .

قوله عليه السلام في حديث ابن السكّيت بعد قوله : فما الحجّةُ على الخلقِ اليومَ : (العقلُ يَعْرِفُ به الصادقَ على اللّه فيُصَدِّقُه ، والكاذبَ على اللّه فيُكَذِّبُه) . جواب أبي الحسن عليه السلام لابن السكّيت يتضمّن أنّه عليه السلام الحجّة في ذلك الوقت ، وأنّ معرفة الحجّة بتصديق العقل له . ومعرفة غيره بتكذيب العقل له ، فقد أجاب عليه السلام على أبلغ وجه وأحسنه بحيث لو كان مخالف يُتّقى منه لما وجد إلى الكلام سبيلاً . وباقي الحديث ظاهر . قوله عليه السلام في حديث مولى بني شيبان (1) : (إذا قامَ قائمنا ، وَضَعَ اللّه ُ يَدَه على رؤوسِ العبادِ ، فجَمَعَ بها عقولَهم ، وكملَتْ به أحلامُهم) . «اليد» هنا بمعنى القدرة ونحوها ممّا يليق به سبحانه ، وتكون بمعنى النعمة . والمعنى _ واللّه أعلم _ أنّ عقولهم المنتشرة المختلفة _ التي سمّوها أو اعتقدوها عقولاً وإن لم تكن كلّها عقولاً في الحقيقة _ تصير كلّها عقلاً واحداً حقيقيّاً ظاهرا مع إزالة شبهة مارسخ في أفكارهم وسمّوه عقلاً وتمييزه وإخراجه ، فيصير الحقّ بذلك واضحاً كمال الوضوح لكلّ أحدٌ ، خالصاً من شوائب الجهل ، يعقل به المكلّف ما يراد منه ويدلّ عليه بسهولة ، فإمّا أن يتبعه مع هذا الوضوح فيسلم ، أو لا فيهلك ، ولا يقبل منه الجهل . أو المعنى أنّ العقول التي أعطاهم اللّه إيّاها ولم يتبعوها كلّهم وخالفوا ما دلّتهم عليه ، كأنّها قد فارقتهم ، أو فارقهم بعضها (2) ، وألفوا الجهل ومتابعته ، فيجمعها اللّه تعالى لهم في ذلك الوقت بعد تفرّقها وانتشارها على الوجه المذكور . وإرادة النعمة من اليد محتملة ، فإنّ هذا نعمة عظيمة منه تعالى . وفي التعبير بوضع اليد على الرؤوس التي هي مقرّ العقول إشعارٌ بكمال الرأفة والرحمة . و«الأحلام» جمع حلم ، وهو الأناة والعقل ، والمناسب هنا الثاني ، وذكره لدفع التكرار إن لم يغاير العقول في الجملة . وضمير «به» يرجع إلى الجمع ، نحو قوله تعالى : «اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» (3) واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب ، د» : «مولى بن شيبان» . وفي الكافي المطبوع : «مولى لبني شيبان» .
2- . في «د» : «بعضا» .
3- . المائدة (5) : 8 .

ص: 192

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن سليمانَ ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن عبداللّه بن سنان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«حجّةُ اللّه ِ على العِباد النبيُّ ، والحجّةُ فيما بين العباد وبين اللّه العقلُ» .

قوله في حديث عبداللّه بن سنان : (حُجّةُ اللّه ِ على العبادِ النبيُّ ، والحجّةُ فيما بين العبادِ وبين اللّه العقلُ) . كون النبيّ عليه السلام حجّة اللّه على العباد إمّا بمعنى أنّ اللّه سبحانه يحتجّ عليهم بأنّي بعثت إليكم نبيّاً وقطعت عذركم به . أو بمعنى أنّ النبيّ الذي بعثه يحتجّ عليهم به ، بأن يقول لهم النبيّ (1) : إنّي قد بلّغتكم ما اُمرتُ به . والحجّة فيما بين العباد وبين اللّه العقل من حيث إنّ النبيّ لا يعلم جميع العقلاء من اُمّته ، ولا مقدار ما عند كلّ واحد من العقل ؛ فهذه الحجّة بينهم وبين اللّه ، فيحتجّ اللّه على العاقل بأنّي قد منحتك عقلاً تطيع به الأنبياء وتعمل بما تؤمر به وتنهى عنه . أو بمعنى أنّ العقل يحتجّ عليهم به ، كما تقدّم . وهذا التركيب _ وهو بين العباد وبين اللّه _ إن ثبت بصورته عن المعصوم ، فهو حجّة على الحريريّ في إنكاره ، وإن كانَ نقلاً بالمعنى ، فلا . ويحتمل استثناء مثل هذا باعتبار ؛ واللّه أعلم (2) ، فتدبّر .

.


1- . في «ج ، د» : - «النبيّ» .
2- . في «ألف ، ب ، د» : - «أعلم» .

ص: 193

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّدٍ مُرسلاً ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«دِعامةُ الإنسانِ العقلُ ، والعقلُ منه الفِطْنَةُ والفهمُ والحفظُ والعلمُ ؛ .........

قوله عليه السلام في حديث أحمد بن محمّد المرسل : (دِعامَةُ الإنسانِ العقلُ ، والعقلُ منه الفِطْنَةُ والفهمُ والحفظُ والعلمُ) . دعامة الشيء عماده ، فدعامة الإنسان وعماده وركنه الأعظم _ الذي يستحقّ به أن يسمّى إنساناً _ هو العقل . والعقل هنا يحتمل المعنيين ، فالمعنى على أحدهما أنّ عقل الإنسان للأشياء التي يدلّه عليها (1) العقل هو عماده الذي قام به ، والعقل بهذا المعنى منه تحصل فطنته وفهمه وحفظه وعلمه التي يحصّلها على وجهها ؛ لأنّ العقل يبعثه على تفطّن مايليق به ، ويبعثه أيضاً على فهمه وحفظه وعلى تحصيل العلم . وبالجملة ، فبالعقل يتوجّه إلى ما ينفعه تمام التوجّه ، فتحصل هذه المذكورات ، ومن جَدَّ وَجَدَ ، «وَ الَّذِينَ جَ_اهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» (2) . والجاهل الذي لا يتّبع عقله لا يحصل منه هذا التامّل والتوجّه،فيكون ذلك باعثاً على أضداد ما ذكر، فإنّ الشيء ما لم يتكرّر النظر فيه والإقبال عليه لم يحصل التفطّن له وفهمه وحفظه والعلم به . وليست هذه الأشياء ونحوها ممّا لا يمكن تحصيله ليكون تكليفاً بما لا يطاق ، بخلاف العقل . نعم قد يتفاوت قدر ما أعطى اللّه الإنسان منها ، وعلى قدر ذلك يكون التكليف ، فإنّ اللّه سبحانه جَلَّ عن أن يكلّف فوق الطاقة ، وأن يأمر وينهى ويحسّن المأمور به ويرغّب فيه ويعد عليه الثواب ، ويقبّح المنهيّ عنه ويتوعّد عليه بالعقاب ولا يكون للمكلّف إلى ذلك سبيل . وهذه قاعدة في مثل هذه المذكورات من الفهم والفطنة والحفظ ونحوها بأن يكون معناها فهم الأشياء وحفظها ، لا أصل الفهم والحفظ كأكثر مواقع العقل ، وهي التي يقع بسببها المدح والذمّ والوعد والوعيد . فمن تعقّل هذا ، خلص من ورطة نسبة الجبر ونحوه إليه تعالى ممّا هو منزّه عنه ؛ فالجاهل _ وإن كان ذا فطنة وفهم وحفظ _ لا يَنخَرِطُ (3) في هذا السلك ، فإنّ وصفه بالفهم والحفظ بمعنى أنّه يفهم ما يسمعه ، سواء كان عن عقلٍ أم لا . ومعنى كونه حافظاً أنّ قوّته الحافظة قويّة على حفظ ما يرد عليها ؛ وقس على هذا الفطنة ونحوها . ومعنى كونه عالماً أنّه عالم بما يسمّيه الجهّال علماً ، كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام : «قد سمّاه أشباه الناس عالماً وليس بعالم» (4) ؛ لا أنّه عالم بالعلم الحقيقي ، فإنّه لا يكون ناشئاً إلاّ عن العقل ، فهو عالم بما لا يعتدّ به ، وحافظ وفطن بالمعنى المذكور . وهو غير معتبر ، وإنّما المعتبر ما يترتّب عليه النفع من هذه الأشياء ونحوها ، لا ما يسمّيه صاحبها ونحوه بهذه الأسماء . ولهذا قال عليه السلام في هذا الحديث لإخراج نحو (5) هذا : «فإذا كان تأييد عقله من النور كانَ عالماً ، حافظاً ، ذاكراً ، فطناً» أي إذا كانَ تأييد عقله للأشياء من المؤيّد _ الذي دَلَّه عليها وتبعه فيها _ كائناً من النور الذي خلق اللّه تعالى العقل منه المذكور في الحديث السابق بقوله : «وهو أوّل خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره» كانَ هذا العاقل عالماً ، حافظاً ، ذاكراً ، فطناً ، فهماً ، أي كانَ هذا هو الموصوف بهذه في الحقيقة ؛ واللّه أعلم . وعلى الثاني ، وهو أن يراد بالعقل الغريزة ، فالمعنى حينئذٍ أنّ عماد الإنسان في أعضائه وقواه وحواسّه الظاهرة والباطنة وغيرها هو العقل ، فإنّه مع عدمه لا تميز له عن سائر الحيوانات ، بل هي متميّزة عليه ، فإنّه إنّما يستحقّ الإنسانيّة بالعقل . وهذه الغريزة يحصل منها الفطنة والفهم والحفظ والعلم التي يتفطّن بها ويفهم ويحفظ ، ويعلم ما ينبغي أن يدرك بها ويحصل ، فيخرج ما خرج أوّلاً ، فلا حاجة إلى إعادته .

.


1- . في «د» : «عليه» .
2- . العنكبوت (29) : 69 .
3- . انخرط الرجلُ في الأمر : ركب فيه رأسه من غير علمٍ ولا معرفة . لسان العرب ، ج 7 ، ص 285 (خرط) .
4- . نهج البلاغة ، ص 59 ، الخطبة 17 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 263 ، احتجاجه عليه السلام على من قال بالرأي في الشرع ... ؛ كشف اليقين ، ص 186 ؛ وفي بحارالأنوار ، ج 101 ، ص 267 ، باب أصناف القضاة و ... ح 21 عن نهج البلاغة .
5- . في «د» : «مثل» .

ص: 194

. .

ص: 195

وبالعقل يَكْمُلُ ، وهو دليلُه ومُبْصِرُه ومفتاحُ أمرِه ، .........

قوله عليه السلام في هذا الحديث : (وبالعقلِ يَكمُلُ ، وهو دليلُه ومُبصِرُه (1) ومِفتاحُ أمْرِه) . معناه على الأوّل : أنّ الإنسان بعقله للأشياء (2) يصير إنساناً كاملاً ، وبعدمه يكون ناقصاً بقدر ما ينقص من عقله لها . ولعلّه السرّ في إفهام النقص ، دون أن يقال : إنّه خارج عن الإنسانيّة ونحو ذلك ممّا لا يشعر بمطلق النقص . وهو أبلغ من اعتبار أنّ غير العاقل بهذا المعنى يكون إنساناً ناقصاً ، وإن كان هذا المتبادر الذي تدلّ عليه هذه العبارة ظاهراً ؛ فافهمه . وعلى هذا فمعنى قوله عليه السلام : «وهو دليله ومبصره ...» أنّ عقل الإنسان للأشياء هو الذي دَلَّه وَبَصَّرَه ، وفتح له أمر ما فعله ممّا فيه صلاحه . ويمكن إرجاع ضمير «هو» إلى العقل على وجه الاستخدام . وعلى الثاني : أنّ العقل الذي هو الغريزة هو الذي يدلّ ويبصر ويفتح الأمر لمن اتّخذه دليلاً ومبصراً ومفتاحاً ، وتركه لا ينفي كونه دليلاً .

.


1- . فى هذه الكلمة احتمالات ثلاث : الأوّل : بفتح الميم والصاد وسكون الباء ، بمعنى الحجّة _ كما فى اللغة _ أي ما فيه بصيرته وعلمه . هذا هو مختار السيّد الداماد في التعليقة . الثاني : اسم الفاعل من الإفعال أو التفعيل . قال به الفيض والمازنداراني . الثالث : بكسر الميم وسكون الباء وفتح الصاد ، اسم آلة ، أي ما به بصيرته . وظاهر كلام صدر المتألّهين الثاني والثالث ، وجوّز الثالث المازندراني ، واحتمل الكلّ المجلسي . راجع : التعليقة على الكافي ، للداماد ، ص 51 ؛ شرح صدر المتألّهين ، ج 1 ، ص 81 ؛ شرح المازندراني ، ج 1 ، ص 405 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 116 ؛ مرآة العقول ، ج 1 ، ص 81 ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 591 ؛ القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 503 (بصر) .
2- . في «د» : الأشياء» .

ص: 196

فإذا كانَ تأييدُ عقلِه من النور كانَ عالما ، حافظا ، ذاكرا ، فَطِنا ، فَهِما ، فعَلِمَ بذلك كيف ولِمَ وحَيْثُ ، وعَرَفَ مَن نَصَحَه ومَن غَشَّه ، .........

قوله عليه السلام فيه : (فإذا كانَ تأييدُ عقلِه من النور كانَ عالماً ، حافظاً ، ذاكراً ، فَطِناً ، فَهِما) . يمكن أن يكون تقديم غير العلم سوى العقل عليه أوّلاً لتوقّف العلم عليه ، وبعد معرفة ذلك قدّم هنا العلم لشرفه وعلوّ رتبته . فإن قلت : قوله عليه السلام : «فإذا كان تأييد عقله من النور ...» ظاهر في المعنى الذي تقدّم ، وهو أن يكون المراد بالعقل المعنى المصدري ، فإنّه حينئذٍ مؤيّد بالعقل الاسمي الغريزي ، وعلى الوجه الآخر كيف ينطبق؟ قلت : يمكن توجيهه بأنّ العقل كما يُطلق على الصحيح يُطلق على الفاسد وإن لم يكن عقلاً ، فيقال : فلان عقله فاسد ، إذا كانت الأشياء التي تصدر عنه لا تصدر عن العقل الصحيح ؛ فالمعنى حينئذٍ إذا كان عقله مؤيّداً بالنور ، أي عقلاً صحيحا ، ومالم يؤيّد بالنور فهو عقل فاسد . ويحتمل المقام هنا كلاماً طويلاً لعلّك إذا تدبّرته يظهر لك ، ويظهر أيضاً القويّ من الأوجه التي تقدّمت . ولا ينظر فيها إلى تقديم وتأخير ، بل إلى كثرة القرائن التي تظهر من تضاعيف الحديث ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (فَعَلِمَ (1) بذلك كيفَ ، و لِمَ ، وحيثُ) . أي إذا كان تأييد عقله من النور ، ترتّب عليه ما ذكر من العلم وما بعده ، فيعلم به كيف يكون الشيء ، ولأيّ شيء يكون ، وحيث ينبغي أن يكون . وهذا بخلاف مَن ليس كذلك ، فإنّه لا يعلم ، ولا يحفظ ، ولا يذكر ، ولا يتفطّن ، ولا يفهم كيف ، ولِمَ ، وحيث ؛ لأنّ إدراكها بهذه الأشياء فرع العقل النوري وما يترتّب عليه ، ويعرف أيضاً بذلك من نَصَحَه ومن غَشَّه بدلالة ما ذكر عليه .

.


1- . في «ألف ، ب ، د» : «فيعلم» . وما فى المتن مطابق نسخة «ج» وكثير من نسخ الكافي والمطبوع .

ص: 197

فإذا عَرَفَ ذلك عَرَفَ مَجْراه ومَوْصولَه ومَفْصولَه ، وأخلَصَ الوحدانيّةَ للّه ، والإقرارَ بالطاعة ، فإذا فَعَلَ ذلك كانَ مُستدركا لما فاتَ ، وواردا على ما هوآتٍ ، يَعْرِفُ ما هو فيه ، ولأيّ شيء هو هاهنا ، ومن أين يَأتيه ، وإلى ما هو صائرٌ ؛ وذلك كلُّه من تأييدِ العقلِ» .

قوله عليه السلام فيه : (فإذا عَرَفَ بذلك (1) عَرَفَ مَجراه ومَوْصولَه ومفصوله ، وأخلَصَ الوحدانيّة للّه والإقرارَ بالطاعة) . أي إذا عرف الإنسان هذه الأشياء ، عرف ما يجري فيه العقل وما يترتّب عليه وما يتّصل بذلك وينفصل عنه فيتبعه ، أو مجرى نفسه وما ينبغي أن يتّصل به كالنصح وما ينفصل عنه كالغشّ ونحوهما . وغاية معرفة هذه الأشياء ونتيجتها إخلاص الوحدانيّة للّه والإقرار له بالطاعة . قوله عليه السلام فيه : (فإذا فَعَلَ (2) كان مستدرِكاً لمافاتَ (3) ، ووارداً على ماهو آتٍ ، يَعرِفُ ما هو فيه ، ولأيِّ شيءٍ هو هاهنا ، ومِن أينَ يأتيه ، وإلى ماهو صائرٌ ؛ وذلك كلُّه من تأييدِ العقلِ) . المعنى _ واللّه أعلم _ فإذا أخلص الوحدانيّة والإقرار بالطاعة بسبب ما ذكر قبلهما ، أو إذا فعل جميع ذلك الذي غايته الإخلاص والإقرار ، كانَ قد أدرك مامضى من عمره ولم يفت منه . والسين حينئذٍ لمعنى أنّه كان طالباً لإدراكه فأدركه ، أو كان مستدركاً لمافات منه وضيّعه في الماضي كاستدراك الفائت من الذنب بالتوبة ، بمعنى أنّه أدرك الخلاص من تبعته ، أو بمعنى أنّه تلافاه ونحو ذلك ممّا يناسب هذا اللفظ ، وإذا حصل هذه الحالة كان وارداً على ماهوآت ، عارفا ماهو فيه في الحال ، ولأيّ شيء يفعل ذلك الحاضر الذي يفعله ، ومن أيّ جهة يأتيه ، وإلى أيّ شيء يصير ؛ وجميع ذلك من تأييد العقل . ولفظ «هاهنا» يمكن أن يكون لفائدة أنّ العاقل يعرف وجه الفعل الحاضر لا المستقبل ، فلولا التقييد به لأوهم ما يشمله إن لم يكن مصحّفاً فيما رأيته عن لفظ آخر ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . في «ألف ، ب ، د» : «بذلك» . وما فى المتن مطابق لنسخة «ج» وكثير من نسخ الكافيوالمطبوع .
2- . في كثير من نسخ الكافي والمطبوع : + «ذلك» .
3- . في «ألف ، ب ، د» : - «و» .وما في المتن مطابقة لسنخة «ج» وكثير من نسخ الكافي والمطبوع .

ص: 198

عليُّ بن محمّد ، عن سَهل بن زياد ، عن إسماعيل بن مِهران ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«العقلُ دليلُ المؤمِن» .

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمان ، عن السَّرِيِّ بن خالد، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال:«قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : يا عليُّ، لا فَقْرَ أشدُّ من الجَهْل، ولا مالَ أعْودُ من العقلِ» .

قوله عليه السلام في حديث ابن مهران : (العقلُ دَليلُ المؤمِن) . لاينافي هذا كونه دليل غير المؤمن أيضاً ، فإنّ من يتبع الدليل ويطيعه يضاف إليه ويقال : العقل دليله ، كما يدلّ شخص جماعة على طريق ونحوه ، فيتبعه بعضهم ولا يتبعه الباقي ، فيقال : هو دليل فلان ، والمراد من تبعه . والمؤمن لمّا كان مسيره وظَعْنه (1) وإقامته بدلالة العقل كانَ دليله . وفيه تنبيه على أنّ التخلّف عن هذا الدليل مخرج (2) عن الإيمان أو كماله بحسب التخلّف . قوله صلى الله عليه و آله في حديث السريّ بن خالد : (ياعليّ ، لا فقْرَ أشدُّ من الجهل ، ولا مالَ أعوَدُ من العقلِ) . الفقر كثيراً مّا يستعمل بمعنى كون الإنسان عادماً لما له خطر ، إمّا في نفس الأمر ، أو بحسب العرف والعادة . وإن لم يكن مالاً فيقال : فلانٌ فقير من المروّة ، وإن كان ذامالٍ ، كما قال الشاعر : وربّ مال فقير من مروّته . واستعمال الفقر هنا من هذا القبيل . وفي ذكر «أشدّ» هنا مالا يخفى من المناسبة للفقر . ولعلّه عليه الصلاة والسلام عدل عن مقابلة الفقر بالغنى لحصول الغنى من هذه العبارة ، مع ما في ذكر «مال» و «أعود» من المناسبة والبلاغه ممّا ليس في نحو قول القائل : «لا غنى كالعقل» (3) . وبالجملة ، فمن عرف هذا الكلام حقَّ المعرفة ، أشْعَرَ بمصدره ومورده ؛ كيف ، وهو كلام سيّد البشر ومورده أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليهما .

.


1- . ظَعَنَ ظَعْنا : سارَ . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 245 (ظعن) .
2- . في «ألف ، ج » : «يخرج» .
3- . هذا القول لأميرالمؤمنين ، راجع : نهج البلاغة ، ص 478 ، الحكمة 54 ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 4 ، مجلس في ماهيّة العقول وفضلها ؛ وفي بحارالأنوار ، ج 1 ، ص 94 ، باب فضل العقل وذمّ الجهل ، ح 27 عن روضة الواعظين ؛ وص 95 ، نفس الباب ، ح 40 ، عن نهج البلاغة .

ص: 199

محمّد بن الحسن ، عن سَهْل بن زياد ، عن ابن أبي نجرانَ ، عن العلاء بن رزينٍ ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«لمّا خلَقَ اللّه ُ العقلَ ، قال له : أقبِلْ ، فأقْبَلَ ، ثمَّ قال له : أدبِرْ ، فأدْبَرَ ، فقال : وعزَّتي وجَلالي ما خلقتُ خَلْقا أحْسَنَ منك ، إيّاك آمُرُ ، و إيّاك أنْهى ، وإيّاك اُثيبُ ، وإيّاكَ اُعاقبُ» .

عِدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمدَ بن محمّد، عن الهَيْثم بن أبي مسروقٍ النهديِّ، عن الحسين بن خالد، عن إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام :الرجلُ آتِيهِ واُكلِّمُهُ ببعض كلامي ، فيعرِفُهُ كلَّه ، ومنهم مَن آتِيهِ فاُكَلِّمُهُ بالكلام ، فيَسْتَوْفي كلامي كلَّه ، ثمّ يَرُدُّه عَلَيَّ كما كَلَّمْتُهُ ، ومنهم من آتِيهِ فاُكلِّمُهُ ، فيقول : أعِدْ عَلَيَّ ؟ فقال : «يا إسحاقُ ، وما تَدْرِي لِمَ هذا؟» قلت : لا ، قال : «الذي تُكَلِّمُهُ ببعض كلامك فيعْرِفُه كُلَّه ، فذاك مَن عُجِنَتْ نطفتُهُ بعقله ؛ وأمّا الذي تُكَلِّمُهُ فيستوفي كلامَك ثمّ يُجِيبُك على كلامك ، فذاك الذي رُكِّبَ عقلُه

قوله عليه السلام في حديث إسحاق بن عمّار : (الذي تُكَلِّمُه ببعض كلامك فيَعْرِفُه كلَّه) الحديث . حاصل معناه _ واللّه أعلم _ أنّ تفاوت الإدراك والفهم سببه ما ذكره عليه السلام ، فمن عجنت نطفته بعقله كان مدركاً بعقله لمضمون جميع الكلام من التكلّم ببعضه (1) ؛ وهو ظاهر . واعلم أنّ التفاوت بين هؤلاء لا يقتضي أحسنيّة حال الأوّل بالنسبة إلى من بعده ، وكذا الثاني من حيث إعطائه ذلك ؛ بل المدار في الثلاثة على متابعة العقل والعمل به على قدر ما أعطاه اللّه . وقسمة هذا الإدراك والشعور نحو قسمة العقل متفاوتاً ، فكما أنّ زيادة الحصّة من العقل لا يترتّب لصاحبها زيادة حسن حال على غيره إلاّ بالعمل، فكذا هنا صاحب الإدراك.

.


1- . في «ج ، د» : + «إلخ» .

ص: 200

فيه في بطن اُمّه ؛ وأمّا الذي تُكَلِّمُهُ بالكلام فيقولُ : أعِدْ عَلَيَّ ، فذاك الذي رُكّبَ عقلُه فيه بعدما كَبِرَ ، فهو يقول لك : أعِدْ عَلَيَّ» .

عِدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن بعض من رَفَعَهَ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إذا رأيتم الرجلَ كثيرَ الصلاة ، كثيرَ الصيام ، فلا تُباهوا به حتّى تَنظُروا كيف عقلُه؟».

قوله عليه السلام في الحديث المرفوع : (إذا رأيتم الرجلَ كثيرَ الصلاةِ ، كثيرَ الصيامِ فلا تُباهوا به حتّى تَنظُروا كيف عقلُه) . معناه _ واللّه أعلم _ : لا تنظروا إلى كثرة أعمال الرجل حتّى تنظروا كيف عقله لها وأخذه إيّاها عن العقل ، فإن كان كذلك كانت أفعاله واقعة على وجهها ، فكان ممّن يباهى به ، وإن كانت صادرة عن غير عقل وأخذاً (1) لها على غير وجهها ، فليس فاعلها ممّن يباهى به ، فإنّ العمل من غير علم لا ثمرة له ؛ هذا هو الظاهر . ويحتمل بعيداً أن يكون المراد بالعقل الغريزة ، والمعنى حينئذٍ أنّ العمل ينبغي أن يكون على قدر ما عند الإنسان من العلم والعقل الذي كلّف بمقداره من العمل ، فإذا كان ذلك منه كثيراً زائداً على ذلك ، كانَ ممّن لا يُباهى به ، فإنّ الزائد كالناقص .

.


1- . في «ج» : «آخذا» .

ص: 201

بعض أصحابنا، رَفَعَه، عن مفضّل بن عمرَ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال:«يا مُفضّلُ، لايُفْلِحُ من لايَعقِلُ، ولا يَعقِلُ من لايعلمُ، وسوفَ يَنْجُبُ من يَفهمُ، ويَظْفَرُ من يَحْلُمُ، والعلمُ ص 27 جُنَّة، والصدقُ عِزٌّ ، والجهلُ ذُلٌّ ، والفهمُ مَجْدٌ ، والجودُ نُجْحٌ ، وحُسْنُ الخُلُقِ مَجْلَبَةٌ للمودّة ،

قوله عليه السلام في حديث مفضّل بن عمر : (يامفضّلُ ، لا يُفلِحُ مَن لا يَعقِلُ ، ولا يَعقِلُ من لا يَعلَمُ) أي لا يفلح من لا يعمل بعقله ، ولا يعقل ما يُراد منه ويَدلّه العقل عليه من لا يتعلّم العلم ، فإنّه ثمرة العقل ونتيجته ، فإذا لم يحصّله كان كغير العاقل ، بل أسوأ حالاً من حيث عدم فوز غير العاقل الحقيقي بالمراتب العليّة . قوله عليه السلام فيه : (وسوف يَنجُبُ من يَفهَمُ ، ويَظفَرُ مَن يَحلُمُ) . يمكن أن يكون الإتيان ب «سوف» باعتبار أنّ أثر فهم الأشياء المطلوبة منه يظهر في الآخرة وأنّ نجيب الدنيا لا يكون نجيباً إلاّ بالاعتبار المذكور ، ونحوه الظفر الحاصل من الحلم . ويمكن إرادة نجابة الدنيا والظفر فيها بحيث يكون أثره في الآخرة ، وذكر «سوف» حينئذٍ باعتبار أنّ النجابة والظفر يحصلان بعد الفهم والحلم المقتضيين لمضيّ زمان يحصلان فيه ليترتّبا عليهما . قوله عليه السلام فيه : (والعلمُ جُنَّةٌ ، والصدقُ عِزٌّ ، والجهلُ ذُلٌّ ، والفهمُ مَجْدٌ ، والجودُ نُجْحٌ ، وحُسن الخُلُق مَجلَبَةٌ للمودّةِ) . لا شبهة في أنّ العلم يقي صاحبه ، ويحفظه في الآخرة من العذاب ، وفي الدنيا من النقص الحاصل من الجهل . و«الجُنَّة» بالضمّ : كلّ ماوقى . «والصدق عزّ» لأنّ الصادق لا يشينه ذلّ الكذب في الدنيا والآخرة ، والجاهل ذليل بالنسبة إلى العالم الحقيقي . وبفهم الأشياء على وجهها يصير الإنسان ذا مجد _ أي شرف _ وكرم عنداللّه وعند الناس الذين هم الناس . «والجود نُجح» ، وهو الظفر بالحوائج ، ونجح أمر فلان : تيسّر وسهل ، فالجواد يسرع إليه قضاء الحوائج في الدنيا وهو مقضيها في الآخرةِ ظافِرٌ بها . وحُسن الخلق مجلبة لمودّته للّه ومودّة اللّه له ، أو لمودّة العدوّ والصديق ، أو مطلقا .

.

ص: 202

والعالمُ بزمانه لا تهجُمُ عليه اللوابسُ ، والحزمُ مَساءةُ الظنِّ، .........

قوله عليه السلام فيه : (والعالِمُ بزمانه لا تَهجُمُ عليه اللوابِسُ ، والحَزمُ مساءةُ الظنِّ) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّ العالم بأهل زمانه لا يدخل عليه منهم ما يلبس عليه أمره ويضرّ بحاله ، بل يكون راجعاً في اُموره إلى اللّه وإلى العقل والعلم ودلالتهما على مافيه صلاحه ؛ أو العالم بزمانه وما يقتضيه من العمل فيه ، ونحوه لا يدخل عليه تلبيس أهله ، ولا يلتبس عليه فيه أمر كما يلتبس على غيره ممّن ليس بعالم ؛ وهذا كلّه ظاهر . وقوله عليه السلام : «والحزم مساءة الظنّ» من قبيل قول أميرالمؤمنين عليه السلام : «إذا كان الغدر طباعاً فالثقة بكلّ أحد عجزٌ» (1) وقول الشاعر : أسأت إذ أحسنت ظنّي بكموالحزم سوء الظنّ بالناس (2) وقد يتوهّم المنافاة بين هذا وما تضمّن مدح حسن الظنّ ، فالجمع بينهما بأن يقال : أمّا فيما يتعلّق باللّه سبحانه فظاهرٌ ، فإنّ حسن الظنّ باللّه تعالى مرتبة شريفة ، وكذا أنبياؤه ورُسُله والأئمّة عليهم السلام ونحوهم ؛ وأمّا غيرهم حسن الظنّ به من حيث حمل أفعاله وأقواله التي يمكن حملها على وجه صحيح فيما يتعلّق بذلك الغير إذا كان ممّن يحسن الظنّ به . وأمّا ما يتعلّق بمحسن الظنّ ، فإنّه مع تحصيل العلم بدلالة العقل يكون اعتماده على ذلك ، فلا ينبغي الاعتماد على غيره فيما يخالفه ولا يدلّ عليه العقل والشرع . فبهذا يمكن الجمع ، وفيه إشارة إلى النهي عن اتّباع الظنّ الذي لا يجوز وعدم تقليد الغير والاعتماد عليه لحسن الظنّ به فيما لا يجوز ويتيسّر تحصيل العلم به ، ونحو ذلك . وبالجملة ، فحسن الظنّ له موارد ، وسوء الظنّ له موارد تظهر بالتتبّع ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . عيون الحكم والمواعظ ، لعليّ بن محمّد الليثي الواسطي ، ص 134 ؛ عوالي اللئالي ، ج 2 ، ص 163 ، ح 452 . وفي تحف العقول ، ص 357 وعنه في بحارالأنوار ، ج 75 ، ص 239 ، باب مواعظ الصادق عليه السلام ، ذيل ح 108 مع اختلاف يسير .
2- . شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ؛ ج 18 ، ص 278 ؛ المناقب ؛ للخوارزمي ، ص 255 .

ص: 203

وبين المرء والحكمة نِعْمةُ العالِم، والجاهلُ شقيٌّ بينهما ، .........

قوله عليه السلام فيه : (وبين المرءِ والحِكْمةِ نِعمةُ العالِمِ ، والجاهِلُ شَقِيٌّ بينهما) . الذي يظهرلنظري القاصر من معنى هذا الكلام الشريف وتركيبه أنّ «نعمة» مبتدأ ، خبره الظرف المتقدّم ، و«العالم» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره «هي» أو «هو» بملاحظة ما قبل ، وما بعد قاعدة في مثله ، وضمير «بينهما» يرجع إلى المرء والحكمة . والمعنى حينئذٍ أنّ العالم نعمة عظيمة كائنة بين الإنسان والحكمة ، فإذا أراد الحكمة حصّلها من ذلك العالم ، وأمّا الجاهل فإنّه شقيّ بين المرء والحكمة ؛ لأنّه إن أجاب السائل المتعلّم يكون جوابه غير صحيح ولا موافق للصواب ؛ فشقاؤه ظاهر ، وإن اتّفق إصابته نادراً كان صوابه خطأ ؛ فلا يخرج بذلك عن الشقاوة ، كما في حديث تقسيم القاضي وأنّه أحد الثلاثة الذين في النار . وإن لم يجب كان متعوبا (1) بخجله من جهة عدم علمه . وهذا أظهر في الجاهل الذي يرى نفسه أهلاً لمعرفة الحكمة ، بل ربما كان توبيخاً لمن حصل غيرها من العلوم التي لا دَخْلَ لها بها ، فصار له بذلك شهرة يظنّ الجاهل به معرفة الحكمة التي هي أحكام اللّه ، ونحوها ممّا تقدّم ويأتي من معانى الحكمة . وفي ذكر الشقيّ والعدول عن المقابلة بالشقاء تنبيهٌ على أنّ الجاهل متّصف بالشقاوة ، وأنّ الحكمة لا ينبغي أن تطلب من الجاهل الشقيّ وأن يجعل واسطة بين الحكمة وطالبها . ويحتمل أن يكون الأصل : «والجاهل شقاء بينهما» للمقابلة المذكورة ، وكثيراً مّا يلتبس على الكتبة غير العارفين ما يكتب بالألف ، فيكتبونه بالياء وبالعكس توهّماً أنّه مقصورٌ أو لعدم التمييز ، ويكون هذا من هذا القبيل ، ولكن مع صحّة الأوّل لا يحتاج إلى هذا ؛ واللّه أعلم . وكتب والدي طاب ثراه على هذا ما صورته : الذي يظهر لي من الخبر أنّ قوله : «نعمة العالم» مضاف ومضاف إليه ، والإضافة لاميّة ، والمعنى أنّ بين المرء والحكمة نعمة للعالم ، وهي العلم . ويحتمل أن تكون الإضافة بيانيّة ، أي نعمة هي العالم . والجاهل شقيّ بينهما لحرمانه النعمة على الأوّل ، وحصول الشقاء مقابل النعمة على الثاني . ثمّ قال : ونقل عن بعض محقّقي المعاصرين أنّ المراد كون العالم شقيّاً لتعبه على تحصيل العلم ؛ لقوله تعالى : «ط_ه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى» (2) والجاهل شقيّ لفوات هذه الحالة عنه ، فهو تعبان أيضاً . وفيه نظر : أمّا أوّلاً ، فمن جهة اللفظ ؛ إذا الظاهر حينئذٍ شقيّان . وأمّا ثانياً ، فلأنّ الجاهل مستريح ، كما لا يخفى . وفي بعض الأخبار الآتية دليل على ذلك ، وهو ما روي في باب النوادر عن طلحة بن زيد من قوله عليه السلام : «فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية ، والجُهّال يحزنهم حفظ الرواية» (3) . انتهى كلام والدي أعلى اللّه مقامه . وما ذكره من كون الإضافة بيانيّة يؤول إلى ما ذكرته . وقوله في النظر «إذا الظاهر حينئذٍ شقيّان» يمكن أن يجاب عنه بأنّ فعيلاً يسوغ فيه مثل هذا ، أو إنّه من قبيل نحن بمّا عندنا وأنت بما عندك راض . لكنّه في هذا المقام خلاف الظاهر كما أفاده . والتوجيه الذي حكاه لا يخلو من اضطراب وعدم انتظام في اللفظ والمعنى يَظْهَرُ لمن تأمّله حقّ التأمّل . فإن قلت : إذا كان المعنى _ على تقدير الإضافة البيانيّة وكون «العالم» خبر مبتدأ محذوف _ واحدا ، كان الترجيح للإضافه للسلامة من الحذف . قلت : مجرّد السلامة من الحذف لا يصلح مرجّحاً مطلقاً ، فإنّه ربما كان اقتضاء المقام وبلاغة الكلام وسلاسته في الحذف ، وأنت إذا تأمّلت هذا المقام تجد في الحذف وتنكير «نعمة» والاستيناف مالا يوجد مع الإضافة . فإن قلت : هل يجوز أن يكون «العالم» مبتدأ و«نعمة» الخبر ، والأصل : العالم نعمة بين المرء والحكمة . قلت : تقديم الظرف على الخبر مع تقديم الخبر على المبتدأ يمنع من هذا ، فإنّه يصير كلاما من غير التراكيب المتعارفة في كلام الفصحاء على تقدير جوازه بحسب قواعد العربيّة ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب» : «متغوبا». والتَغَبُ : الهلاك ، والتَغْبَةُ : الإثم والقبيح .
2- . طه (20) : 1 _ 2 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 49 ، باب النوادر ، ح 6 .

ص: 204

. .

ص: 205

واللّه ُ وليُّ مَن عَرَفَه ، وعدوُّ من تكلَّفَهُ ، .........

قوله عليه السلام فيه : (واللّه ُ وَليُّ مَن عَرَفَه ، وعدوُّ مَن تَكَلَّفَه) . أي وليّ مَن عرفه المعرفة المأمور بها على وجهها ، وعدوّ من تكلّف معرفته أو تكلّفه في المعرفة . وإيجاز الحذف من فنون البلاغة ، خصوصاً مع تقدّم ما يدلّ على المحذوف ، وذلك إمّا بأن يعرفه بغير المعرفة المأمور بها ، كأن يجعل له شريكاً ، أو يصفه بما لا يجوز عليه تعالى ونحو ذلك ، أو بأن لا يطيعه فيما اُمر به ونهي ، فإنّ ذلك داخلٌ في عدم المعرفة أو كمالها على بعض الوجوه . فمن ادّعى معرفته مع ما ذكر فهو متكلّف لها ، غير داخلٍ إليها من بابها ؛ وهو معنى (1) التكلّف ، فإنّه يتعب نفسه على غير طائل ، بخلاف الأوّل ، فإنّه على يقين من المعرفة والثواب عليها ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «د» : «بمعنى» .

ص: 206

والعاقلُ غفورٌ ، والجاهلُ خَتورٌ ، وإن شئتَ أن تُكْرَمَ فَلِنْ، وإن شئتَ أن تُهانَ فَاخْشُنْ ، ومن كَرُمَ أصلُه لانَ قْلبُهُ، ومن خَشُنَ عنصرُه غَلُظَ كبدُه، .........

قوله عليه السلام : (والعاقِلُ غفورٌ ، والجاهلُ خَتورٌ ، وإن شِئتَ أن تُكرَمَ فَلِنْ ، وإن شئتَ أن تُهَنَ فَاخْشُنْ ... ) . «الختر» الغدر والخديعة ، وفي بعض النسخ «تُهان» وهو أنسب ب «تكرم» ؛ لأنّه من الهوان . وتهن من الوهن وهو الضعف ؛ والمعنى (1) ظاهر . قوله عليه السلام : (ومَن كَرُمَ أصلُه لانَ قلبه ، ومن خَشُنَ عُنصرُه غَلُظَ كَبِدُه) . «العنصر» الأصل . ويحتمل _ واللّه أعلم _ أنّ ذكر مثل هذا ليفعله الناس ، فإنّ ذلك مقدور ، فمن لانَ قلبُه كانَ فعلُه كفعل كريم الأصل إذا فعل بمقتضى كرم أصله ، وإن كان أصله غير كريم ؛ ومن غلظ كبده كانَ فعلُه (2) كفعل رديٌ الأصل كذلك ، وإن كان أصله كريماً . ويمكن أن يراد بالأصل الصفات الحميدة والخلال الحسنة ونحو ذلك ، وله شواهد ، فمن ارتكبها كان لين القلب ، دقيق الكبد ، ومن تَرَكَها كانَ قاسي القلب ، غليظ الكبد . وذلك كناية عن القسوة وضدّها أو الشدّة وضدّها ؛ واللّه تعالى أعلم . والكبد في بعض النسخ بالمثنّاة من تحت ، وفي بعضها بالموحّدة ؛ والمعنى على التقديرين ظاهر .

.


1- . في «ج» : «هو» .
2- . في «د» : «فعَل» .

ص: 207

ومن فَرَّطَ تَوَرَّطَ، ومن خافَ العاقبةَ تَثَبَّتَ عن التوغُّلِ فيما لا يَعلَمُ، ومن هَجَمَ على أمرٍ بغير عِلْم جَدَعَ أنفَ نفسه، ومَن لم يعلَمْ لم يفهَمْ، ومَن لم يفهَمْ لم يَسلَمْ، ومن لم يَسلَمْ لم يُكرَمْ ، ومَن لم يُكرَمْ يُهْضَمْ ، ومَن يُهْضَمْ كانَ ألْوَمْ ، ومن كانَ كذلك كانَ أحْرى أن يَنْدَم» .

قوله عليه السلام فيه : (ومَن فَرَّطَ تَوَرَّطَ ، ومَن خاف العاقبةَ تثبَّتَ عن التَّوَغُّلِ فيما لا يَعلَمُ ، ومَن هَجَمَ على أمرٍ بغير علمٍ فقد جَدَعَ أنفَ نفسه) . «الورطة» الهلاك ، و«تورّط» وقع في بليّة ، ويقال : أوغل القوم وتوغّلوا : إذا أمعنوا في سيرهم ، و«الوغول» : الدخول في الشيء ، و«جدع» _ بالمهملة _ : قطع . والمعنى : من فرّط فيما يجب التحفّظ منه فقد وقع في الهلكة ، ومن خاف العاقبة (1) _ وهي العقاب في الآجل والتعب والمشقّة في العاجل _ تثبّت عن الدخول فيما لا علم له به ، والظاهر أنّ المقام للأوّل . ومن هجم على أمر ممّا يجب الأخذ فيه بالعلم فقد نكل بنفسه بقطع أنفه ، وهو كناية عن فعله بنفسه كهذا الأمر الشنيع الذي يظهر للناس ولا يخفى على أحد ممّن يراه . وباقي الحديث ظاهر ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في حاشية «د» : «في القاموس : العاقبة : أجر كلّ شيء ؛ والعقبى : جزاء الأجر (منه) » .

ص: 208

محمّد بن يحيى رَفَعَه ، قال :قال أميرالمؤمنين عليه السلام : «من استَحكمَتْ لي فيه خَصلةٌ من خصال الخير احتَمَلْتُه عليها ، واغتفَرْتُ فقدَ ما سِواها ، ولا أغْتفِرُ فَقْدَ عقلٍ ولا دينٍ؛

قوله عليه السلام في حديث محمّد بن يحيى : (من استَحكمَتْ لي فيه خَصلةٌ من خِصالِ الخيرِ احتَمَلْتُه عليها ، واغتفَرْتُ فَقْدَ ماسواها ، ولا أغتَفِرُ فَقدَ عقلٍ ولا دينٍ ؛ لأنّ مُفارَقَةَ الدينِ مُفارقةُ الأمنِ ، فلا يَتَهَنَّأُ بحياةٍ مع مَخافةٍ ، وفَقْدُ العقلِ فَقْدُ الحياةِ ، ولا يُقاسُ إلاّ بالأموات) . قوله عليه السلام : «لي» يمكن أن يكون ذكره لإفادة أنّ الاستحكام بحسب الظاهر أو بما يقوله الناس غير معتدّ به ، بل المعتبر ما ظهر لي من ذلك وتحقّق ، فالاستحكام متضمّن لهذا المعنى مع إفادته أصل معناه . أو أن يكون معناه أنّ تلك الخصلة استحكمت لمحبّتي والانقياد إليّ ومعرفة حقّي ، فإذا كانت لغير ذلك لم يعتدّ بها وإن سمّاها الناس خيراً ووصفوها بالاستحكام ، فإنّه لا خير في غير ما يرضيه عليه السلام ، فالاستحكام يكون لغير الخير . وقوله عليه السلام : «احتملته عليها» يحتمل أوجهاً : الأوّل : أن يكون «على» فيه للتعليل ، كما قيل في قوله : ( لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَ?_كُمْ » (1) فالمعنى : تحمّلته بسببها . وهذا هو الظاهر . وفي معنى التحمّل ما يدلّ على أنّها لا تكفي إلاّ من جهة التحمّل، لاأنّها كافية له عن غيرها من خصال الخير. والثاني _ وهو وجه في الجملة _ أن تكون بمعنى المصاحبة ، كما قيل في قوله تعالى : « وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُ_لْمِهِمْ » (2) . والثالث كذلك ، وهو أن تكون بمعنى الباء ، كما قيل في «اركب على اسم اللّه » . وهذا قد يرجع إلى الثاني . والرابع _ وهو أبعدها _ : أن يكون الإتيان ب «على» لذكر الاحتمال ، دون التحمّل ، بمعنى حمله على هذه الخصلة دون تركه من غير حمل لأجل غيرها . والخامس : أن يكون بمعنى الاستعلاء المجازي . والظرف مستقرّ ، أي كائناً عليها . أو مستقّراً ؛ أو لغو بمعنى كونه ثابتا أو مقيماً إن لم يكن من المستقرّ . وهذا أيضاً بعيد ، لكنّه وجه في الجملة . إذا تقرّر هذا ، فالمعنى _ واللّه أعلم _ أنّ من تمكّنت فيه خصلة واحدة من خصال الخير بحيث صارت له كالملكة والسجيّة يتحمّله عليه السلام على ما فيه من عدم وجود غيرها من خصال الخير فيه . ويمكن أن يكون المراد به من لم يكن فيه مع ذلك شيء من خصال الشرّ ، أو شرّ يرجى إصلاحه من جهة الاستحكام ، وكون ذلك له عليه السلام ولا يتحمّل من كان فاقداً للعقل أو فاقداً للدين على معنى منع الخلو ، دون الجمع .

.


1- . الحجّ (22) : 37 .
2- . الرعد (13) : 6 .

ص: 209

لأنَّ مفارَقةَ الدين مفارَقَةُ الأمن ، فلا يَتهنّاُ بحياة مع مَخافةٍ ، وفَقْدُ العقل فَقْدُ الحياة ، ولا يُقاسُ إلاّ بالأموات» .

وقوله عليه السلام : «لأنّ مفارقة الدين ...» يحتمل وجهين : أحدهما : أنّ من فقد الدين لا يحصل معه أمن ، فإنّ من كان فاقداً لدين كان عدوّاً لذي الدين ، فالخوف منه دائماً متوقّع مع الصحبة ، ومع الخوف لا يتهنّأ الخائف بحياة . وكلامهم عليهم السلام في مثل هذا لتعليم الناس ، فلا يرد علمهم (1) بمن يحصل منه ذلك . و«فقد العقل» أي عقل الأشياء ، أو العقل الغريزي . والأوّل أنسب بالسياق ، والثاني بفقد الحياة والقياس بالأموات . ويمكن التوجيه بما يوافق الأوّل أو يوافقه الأوّل من المتحمّل مبنيّاً للمفعول فقد لحياة المتحمّل مبنيّاً للفاعل ، إمّا لأنّه مع عدم العقل يكون من تحمّله كفاقد الحياة ؛ إذ الضرر منه دائماً متوقّع . وقد يفرق بينه وبين فاقد الدين بأنّ فاقد الدين قد يبعثه العقل على ما لا يصل إلى مرتبة فقد الحياة ، بل إلى مرتبة الخوف ؛ ولهذا كان التعبير في الأوّل ب «لا يتهنّأ بحياة مع مخافة» ، وفي الثاني . «بفقد الحياة» . وإمّا لأنّ مع عدم المناسبة بين شخصين كعاقل وجاهل مع دوام الصحبة يكون العاقل كفاقد الحياة . وقد يفرق في هذا المثال بين العاقل والجاهل ، فإنّ الجاهل قد لا يسمّى حينئذٍ فاقد الحياة ؛ فلهذا لم أقل يكون أحدهما كفاقد الحياة ؛ ومن كانت هذه حاله لايقاس إلاّ بالأموات . الوجه الثاني : أن يكون المعنى : أنّ مفارقة الدين مفارقة لأمن من فارق الدين من العذاب باعتبار وجود العقل ، فلا يتهنّأ بحياة مع مخافة ، وفقد العقل فقد لحياة الفاقد ؛ لأنّ غير العاقل لا ينتفع بحياته كما ينتفع العاقل في تحصيل ثمرة الحياة ، فهو كغير الحيّ أو غير حيّ بالحياة المعتبرة ؛ ومن كان كذلك فحكمه حكم الأموات من حيث إنّ الميّت كما لا يحصل منه بعد الموت ما يترتّب عليه ثمرة ، فكذا غير العاقل ، كما في قوله تعالى : «أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» (2) ، وقوله تعالى : «صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ» (3) ونحو ذلك . ومن هذين الوجهين يظهر احتمال وجهٍ آخَرَ مركّبٍ منهما ؛ أو وجهين ، أحدهما أبعد من الآخر ، وكان السياق يقتضي ترجيح الوجه المتقدّم من الوجهين السابقين ؛ واللّه تعالى أعلم . وعلى كلّ تقدير ينبغي قراءة «يتهنّأ» مبنيّاً للمفعول ، وإن توهّم مناسبة بناء الفاعل لبعض الوجوه ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . في «ب ، ج » : «عليهم» .
2- . يونس (10) : 42 .
3- . البقرة (2) : 18 .

ص: 210

عليُّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن موسى بن إبراهيم المحاربيّ ، عن الحسن بن موسى ، عن موسى بن عبداللّه ، عن ميمون بن عليّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال أميرالمؤمنين عليه السلام : إعجابُ المرءِ بنفسه دليلٌ على ضَعْف عقلِه» .

قوله عليه السلام في حديث ميمون : (إعجابُ المرءِ بنفسِه دليلٌ على ضَعفِ عقلِه) . إن كان إعجابه مع وجود العقل ودلالته على ترك الإعجاب ، فالمراد بضعف عقله ضعفه بترك العمل به ؛ وإن كان المراد ضعفه بمعنى كونه غير مدرك بما عنده من العقل ترك الإعجاب ، فالمراد ضعف الغريزة ، ويترتّب عليهما الذمّ وعدمه . والأوّل أظهر ، فإنّ مثل هذا لتقريع من يعمل هذا العمل إلاّ على إرادة ترك ما يعمله مثله ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 211

أبو عبداللّه العاصميّ ، عن عليّ بن الحسن ، عن عليّ بن أسباطٍ ، عن الحسن بن الجَهْم ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال :ذُكر عنده أصحابُنا وذُكر العقلُ ، قال : فقال عليه السلام : ص 28 «لا يُعْبَاُ بأهل الدين ممّن لا عقْلَ له» . قلت : جُعلت فداك ، إنَّ ممّن يَصف هذا الأمر قوما لا بأسَ بهم عندنا وليستْ لهم تلك العقولُ ؟ فقال : «ليس هؤلاء ممّن خاطَبَ اللّه ُ ، إنَّ اللّه

قوله عليه السلام في حديث الحسن بن الجَهْم : (لا يُعْبَأُ بأهلِ الدينِ بمن (1) لا عَقْلَ له) . وفي بعض النسخ «لا يعبأ أهل الدين» . فالمعنى على الأوّل أنّه لا يعبأ بمن كان من أهل الدين والمنسوبين إليه إذا لم يكن له عقل يتّبعه ويعمل به . ويحتمل بعيداً سلب الغريزة بمعنى أنّه ليس معدوداً من أهل الدين الذين يعتنى بهم ويحصل لهم النفع بعملهم وينتفع بهم ، بل من كان هكذا ، كان بمنزلة البهائم أو نقصها بتقريب ما ذكر . والفرق بينهما ترتّب العقاب واللوم وعدمه . وقوله عليه السلام : «بمن لا عقل له» بدلٌ من قوله : «باهل الدين» ، أو «من لا عقل له» بدلٌ من «أهل الدين» فتأمّل . وعلى النسخة المعنى أنّ أهل الدين لا يعدّون مثله داخلاً في الدين ، وهو ظاهر ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (ليس هؤلاء ممن خاطَبَ اللّه ُ ، إنّ اللّه َ خَلَقَ العقلَ ...) . الظاهر منه أنّ المراد أنّ هؤلاء ليس لهم عقول كاملة ، فهي ناقصة من أصلها ، ومن كان كذلك ، فليس ممّن خاطب اللّه بقوله تعالى : «فَاعْتَبِرُواْ يَ_اأُوْلِى الْأَبْصَ_ارِ» (2) كما تقدّم في ح ديث الحسن بن الجهم أيضاً من قوله عليه السلام : «ليس اُولئك ممّن عاتب اللّه » بعد ذكر نحو ما تقدّم هنا . ويحتمل دخول قوله عليه السلام : «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_ابِ» (3) ونحوه تحت الخطاب .

.


1- . فى الكافي المطبوع وبعض نسخة : «ممّن» .
2- . الحشر (59) : 2 .
3- . البقرة (2) : 269 .

ص: 212

تعالى خلَق العقلَ ، فقال له : أقبِلْ ، فأقبَلَ، وقال له: أدبِرْ، فأدبَرَ، فقال: وعزَّتي وجَلالي ما خلقْتُ شيئا أحسَنَ منك أو أحبَّ إليَّ منك، بك آخُذُ ، وبك اُعطي» .

عليُّ بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال:«ليس بين الإيمان والكفر إلاّ قِلّةُ العقلِ» . قيل : وكيف ذاك يابن رسول اللّه ؟ قال : «إنَّ العبدَ يَرفَعُ رغبتَه إلى مخلوق ، فلو أخلَصَ نيّتَه للّه لَأتاهُ الذي يُريدُ في أسرعَ من ذلك» .

وقوله عليه السلام : «إنّ اللّه خلق العقل ...» دليل على أنّ هؤلاء لا يخاطبهم اللّه بما لا تصل إليه عقولهم ؛ لأنّ اللّه تعالى خلق العقل ، إلى أن قال : بك آخذ ، وبك اُعطي ؛ فالثواب أو العقاب إنّما يكون على قدر ما يؤتى الإنسان من العقل ، وقد تقدّم . قوله عليه السلام في حديث أحمد بن محمّد بن خالد : (ليس بين الإيمانِ والكفرِ إلاّ قلّةُ العقلِ . قيل : وكيف ذاك يابن رسول اللّه ؟ قال : إنّ العبدَ يَرفَعُ رَغْبَتَه إلى مخلوقٍ ، فلو أخْلَصَ نيّتَه للّه لأتاه الذي يُريدُ في أسْرَعَ مِن ذلك) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه ما بين انتقال الإنسان من الإيمان إلى الكفر في مثل ما يأتي إلاّ قلّة العقل ، أي إلاّ ترك العمل بما يقتضيه العقل ؛ بقرينة تتمّة الحديث ، وهي قوله عليه السلام : «إنّ العبد ...» . ويحتمل أن يكون المعنى ما بين إيمان الإنسان وكفره إلاّ قلّة العقل وعدمها . ومثله قد يحذف كثيراً لقرينة المقام . وهذا بحسب المعنى كأنّه أنسب . والكفر إن كان المراد به الكفر الحقيقي ، فلعلّ المراد رفع رغبته إلى المخلوق مع اعتقاده أنّه هو الرازق أو المعطي أو الشريك في ذلك ، وإن كان المراد به غيره ممّا لا ينبغي أن يفعله كامل الإيمان _ كما هو شائع في الحديث وغيره من إطلاق الكفر والشرك والكافر والمشرك على مثل ذلك _ فالمعنى ما بين كمال الإيمان ونقصه واسطة إلاّ قلّة العقل ، كانَ يرفع الإنسان حاجته إلى مخلوق يجعله وسيلة وسبباً إلى نجحها ، لا على معنى الشركة والاختصاص . وكامل الإيمان ينبغي أن لا يشرك معه تعالى غيره بسببيّة ولا نحوها ، كما ورد في الحديث : «إيّاكم والوسائل ، فإنّ القلّة مع الذلّة» (1) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّه لا ينبغي الطلب إلاّ من اللّه سبحانه ، فإنّ في الطلب من غيره وجعله وسيلة ذلّةً . و«القلّة لا تفارق الذلّة» إمّا بمعنى أنّه لا يحصل له حينئذٍ شيء ، كما في دعاء زين العابدين عليه السلام : «ومن توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك ، أو جعله سبب نجحها دونك ، فقد تعرّض للحرمان ، واستحقّ من عندك فوت الإِحسان» (2) إن لم يكن الحرمان من غير هذه الحاجة . وإمّا بمعنى أنّه وإن حصّل شيئاً ممّن قصده ، فهو مقلّ فقير ؛ من حيث إنّ التحصيل بما فيه ذلّة لا ينبغي أن يُسمّى صاحبه غنيّاً ، بل الغنيّ من أغناه اللّه ولو بالفقر ، والفقير من حرمه اللّه ولو بالغنى . ولا ينافي ذلك مادلّ على قضاء حاجة المؤمن إذا طلبها من أخيه ، واحتياج الناس بعضهم إلى بعض . وما في بعض الأحاديث من سؤال الغنيّ عن شرار الخلق لا غيرهم ، وما في بعض الأدعية من سؤال الغنيّ عمّن هو غنيّ عن السائل ومثله كثيرٌ ، ومدار نظام العالم على احتياج الناس بعضهم إلى بعض ؛ لأنّه في جميع ذلك ينبغي أن يكون الإنسان طلبه وسؤاله من اللّه تعالى معتقداً أنّ العبد الذي يطلب منه عبدٌ مثله غير مالك حقيقي ، بل مسخّر من اللّه لأن يقضي حاجته ؛ لما قد جرى من عادة اللّه ، ولتنزّهه عن أن يتعاطى مثل ذلك ، فهو كطلب عبد من عبد مالايملك من مال مولاه ، فإذا كان الطلب من المولى أمَرَعبده بإعطاء ما يريده ، والعبد لا ملك له في الحقيقة يتصرّف فيه بإعطاء ونحوه ، وإيّاك أن تعجّل بتوهّم شيء من هذا الكلام ينفي (3) الاختيار والقدرة والملك للعبد . وقد يفهم من كلام سيّد العابدين عليه الصلاة والسلام ما يؤيّد ذلك من قوله : «أو جعله سبب نجحها دونك» فإنّ مفهومه على أحد معنيي ما يدلّ عليه أنّه إذا جعلك سبب نجحها دونه ، لم يتعرّض للحرمان ، وإن كان الطلب من العبد مع اعتقاده أنّه تعالى سبب النجح وحده . والإشارة بذلك إلى رفع الرغبة بمعنى أنّ اللّه تعالى يؤتيه ما يريد في أسرع من زمان رفع الرغبة إلى المخلوق ، فكيف بما بعده ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . لم نعثر عليه .
2- . الصحيفة السجّادية ، ص 70 ، الدعاء 13 ؛ المصباح ، للكفعمي ، ص 400 .
3- . في «ب ، د» : «بنفي» .

ص: 213

. .

ص: 214

عدّةٌ من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن عُبيد اللّه الدهقان ، عن أحمدَ بن عمر الحلبيّ ، عن يحيى بن عمران ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«كانَ أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : بالعقل استُخْرِجَ غورُ الحكمة ، وبالحكمة استُخْرِجَ غورُ العقل ،

قوله عليه السلام في حديث يحيى بن عمران : (بالعقلِ استُخْرِجَ غورُ الحكمةِ ، وبالحكمة استُخرج غور العقلِ) . أي باستعمال العقل استعمالاً تامّا استخرج الخفيّ من الحكمة ، فالظاهر بطريق أولى وباستعمال الحكمة وتتبّعها استخرج الخفيّ من العقل ؛ فكلّ واحد منهما ممدّ للآخر فيما يستخرج ، ومنبّه لصاحبه على الخفيّ من الآخر ، ومظهر لما كان كامناً منه . ولا يتوهّم فيه الدور حتّى لو اُريد استخراج خفيّ كلّ منهما بالآخر لم يلزم ؛ فتأمّل . والتعبير ب «استخرج» دون «يستخرج» لأنّه يدلّ على أنّ من كانوا بهذه الحالة هكذا ، كان فعلهم الذي وصلوا به إلى هذه المرتبة ، وهذا ليس في التعبير بغير الماضي .

.

ص: 215

وبحُسْن السياسةِ يكون الأدبُ الصالح» . قال : «وكان يقول : التفكّرُ حَياةُ قلب البصير ، كما يَمشي الماشي في الظلمات بالنور بحُسن التخلّصِ وقلّة التربّصِ» .

قوله عليه السلام فيه : (وبحُسْنِ السياسةِ يَكونُ الأدبُ الصالحُ) . وجهه ظاهر ، فإنّ الأدب الصالح إنّما يكون بالسياسة الحسنة التي تقتضيه ، وهو وضع كلّ شيء موضعه ، فلا توضع العصا موضع (1) السيف ولا العكس ، ولا الكلام الليّن موضع الخشن ولا العكس ونحو ذلك ، ومتى خرج عن ذلك خرج عن الصلاح إلى الفساد . قوله عليه السلام فيه : (وكان يقولُ _ يعني أميرالمؤمنين عليه السلام _ التفكّرُ حياةُ قلبِ البصيرِ ، كما يَمشي الماشي في الظلماتِ بالنور بحُسْنِ التَّخَلُّصِ وقلّةِ التربُّصِ) . شبّه عليه الصلاة والسلام صاحب البصيرة في أنّ التفكّر حياة لقلبه بصاحب البصر الذي يمشي في الظلمات ومعه نور من سراج ونحوه يحسن التخلّص بذلك النور من مهالك الأرض وحزنها وصعبها ، ولا يتربّص زيادة عن مقدار ما لابدّ منه من قطع المسافة ، فكما أنّ الماشي في الظلمات من غير نور فإنّه متوقّع هلاكه وضلاله فهو ميّت الجسد ، فكذا صاحب البصر القلبي إذا لم يصدر منه ما يصدر عن فكر وتأمّل ، يقع في مهاوي الضلال والعمى ، ويتربّص ويلبث فيها ولا يحسن التخلّص منها ، ومَن هذا شأنه فهو ميّت القلب . أو شبّه عليه السلام التفكّر في كونه حياة قلب البصير بمشي الماشي في الظلمات إلخ . أو شبّه التفكّر بالنور الذي به يحسن الماشي التخلّص وقلّة التربّص . والمآل واحدٌ أو متقارب ، والأوسط أقرب إلى مدلول اللفظ ، وهذا من تشبيه المعقول

.


1- . في «ج» : «بموضع» .

ص: 216

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن عبداللّه البزّاز ، عن محمّد بن عبدالرحمن بن حمّاد ، عن الحسن بن عمّار ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث طويل :«إنَّ أوَّلَ الأُمور ومَبدأَها وقوَّتَها وعِمارتَها _ التي لا ينتفع شيء إلاّ به _ العقلُ الذي جعله اللّه ُ زينةً لخَلْقه ونورا لهم ، فبالعقل عَرَفَ العبادُ خالقَهم ، وأنّهم مخلوقون ، وأنّه المدبّر لهم ، وأنّهم المدبَّرون ، وأنّه الباقي وهم الفانون ؛ واستدلّوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه ، من سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره ، وبأنَّ له ولهم خالقا ومدبِّرا لم يَزَلْ ولا يَزولُ ، وعَرَفوا به الحسنَ من القبيح ، وأنَّ الظلمةَ في الجهل ، وأنَّ النورَ في العلم ، فهذا ما دَلَّهم عليه العقلُ» . قيل له : فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال : «إنَّ العاقلَ لدَلالة عقله _ الذي جعله اللّه ُ قِوامَه وزينتَه وهدايتَه _ عَلِمَ أنَّ اللّه َ هو الحقُّ ، وأنّه هو ربُّه ، وعَلِمَ أنَّ لخالقه محبّةً ، وأنَّ له كَراهِيَةً ، وأنَّ له طاعةً ، وأنَّ له معصيةً ، فلم يَجِدْ عقلَه يَدُلُّهُ على ذلك ، وعَلِمَ أنّه لا يوصَلُ إليه إلاّ بالعلم وطَلَبِهِ ، وأنّه لا يَنتفِعُ بعقله إنْ لم يُصِبْ ذلك بعلمه ، فوجب على العاقل طلبُ العلمِ والأدبِ الذي لا قوام له إلاّ به» .

عليُّ بن محمّد ، عن بعض أصحابه ، عن ابن أبي عمير ، عن النضر بن سُوَيْدٍ ، عن حُمْرانَ وصفوانَ بن مِهْرانَ الجمّال ، قالا : سمعنا أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«لا غِنى أخصَبُ من العقل ، ولا فَقْرَ أحطُّ من الحُمق ، ولا استظهارَ في أمرٍ بأكثرَ من المشورة فيه» . وهذا آخر كتاب العقل [ والجهل] والحمدللّه وحده وصلّى اللّه على محمّد وآله وسلّم تسليما .

بالمحسوس باعتبار ما يؤول إليه والمجموع بالمجموع . ويمكن عدم اعتبار (1) الحياة في المشبّه به ؛ فتأمّل . والباء في قوله : «بالنور» للاستعانة أو المصاحبة ، وترك العطف في قوله : «بحسن التخلّص» لأنّه كالبدل منه ، أو لكونه مسبّباً عنه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب» : «اعتباره» .

ص: 217

كتاب فضل العلم

باب فرض العلم ووجوب طلبه

كتاب فضل العلمباب فرض العلم ووجوب طلبه والحَثِّ عليهأخبرنا محمّد بن يعقوب ، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسيّ ، عن عبدالرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسولُ اللّه عليه السلام : طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مُسْلِمٍ ، ألا إنَّ اللّه َ يُحِبُّ بُغاةَ العلم» .

[ كتاب فضل العلم ]باب فرض العلم و وجوب طلبه و الحثّ عليه قوله صلى الله عليه و آله : (طلبُ العلمِ فَريضةٌ على كلِّ مُسلِمٍ ، ألا إنّ اللّه َ يُحِبُّ بُغاةَ العلمِ) . الظاهر أنّ المراد بالعلم هنا ما يشمل المعرفة على الوجه الذي لا يحصل إلاّ بالتعلّم والطلب والعلم بأحكام اللّه تعالى التي يحتاج إليها المكلّف ؛ ولا شبهة في تفاوت أحوال المكلّفين ، فمن كان قادراً على فهم كلام اللّه ورسوله والأئمّة عليهم السلام ولو بحسب الظاهر ، يجب عليه تعلّم ذلك من أهله ، ومن لم يكن له هذه القوّة ، وجب عليه الرجوع إلى مَن يفهم معاني كلامهم بمقتضى حديث «اُنظروا إلى رجل قد روى حديثنا» (1) ، وما يأتي إن شاء اللّه تعالى في حديث نَقَله في الاحتجاج من الأمر

.


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 218 ، ح 516 ؛ و ص 301 ، ح 845 ؛ عوالي اللئالي ، ج 3 ، ص 193 ، ح 37 ؛ و ج 4 ، ص 67 ، ح 28 .

ص: 218

محمّدُ بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عبداللّه ، عن عيسى بن عبداللّه العُمَريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«طلبُ العلم فريضةٌ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس بن عبدالرحمن ، عن بعض أصحابه ، قال :سُئل أبوالحسن عليه السلام : هل يَسَعُ الناسَ تَرْكُ المسألة عمّا يَحتاجون إليه؟ فقال : «لا» .

بتقليد مَن كان كذا وكذا (1) ، وغيره ؛ فمن لم يكن له هذه القوّة ورجع إلى غيره فهو طالب أيضاً لعلم ما يحتاج إليه ، وواجبٌ عليه ذلك . وهذا هو معنى الاجتهاد والتقليد عند الإماميّة . وأمّا وجوبه عيناً بالمعنى الأوّل ، فيشهد ببطلانه العقل والنقل ، ويلزم منه تكليف ما لا يطاق ، أو سقوط التكليف عن بعض المكلّفين . نعم ، من كان قادراً على العلم بالمعنى الأوّل ، فالظاهر أنّه يجب عليه تحصيله ، ومن كان قادراً على علم شيء من غير تقليد فيه ، وجب عليه علم ذلك المقدار ، والرجوع فيما عداه إلى غيره ممّا يحتاج إليه ؛ بمقتضى العلم في الحديث . ولتفصيله محلّ آخر . والقرآن ناطق بما يدلّ على وجوب التعلّم ؛ فالفريضه بمعناها المشهور وكذا السنّة ؛ فالفريضة بمعنى الواجب . و«البغاة» جمع باغ ، كقُضاة وقاض ، وهو الطالب . ويمكن أن يكون من «بغا الشيء» الواوي ، بمعنى نظر إليه كيف هو ، ويكون فائدته في الحديث التنبيهَ على أنّ طالب العلم ينبغي أن ينظر إلى علمه الذي يطلبه ويحصّله كيف يأخذه ومن أين يأخذه ، فلا ينظر إلى مجرّد التسمية بالعلم وطالبه . وهذا أحسن من الأوّل ، فإنّ العدول في الأوّل كأنّه لعدم تكرار هذه المادّة فقط ؛ إلاّ أن يقال : إنّه مشعر بزيادة عن مطلق الطلب . وفي هذا _ وهو الثاني _ معنى شريف ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . الاحتجاج ، ج 2 ، ص 355 .

ص: 219

عليُّ بن محمّد وغيرُه ، عن سهل بن زياد ؛ ومحمّدُ بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، جميعا عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزةَ ، عن أبي إسحاقَ السَّبيعي ، عمّن حَدَّثَه ، قال : سمعتُ أميرَ المؤمنين عليه السلام يقول :«أيّها النّاس ، اعلَموا أنّ كمالَ الدين طلبُ العلم والعملُ به ، ألا وإنَّ طلبَ العلم أوجَبُ عليكم من طلب المال ؛ إنّ المالَ مَقسومٌ مضمونٌ لكم ، قد قَسَمَه عادلٌ بينكم ، وضَمِنَه وسَيَفي لكم ، والعلمُ مخزونٌ عند أهله ، وقد اُمِرْتُمْ بطلبه من أهله ، فَاطلُبوهُ» .

قوله عليه السلام في حديث أبي إسحاق السبيعي : (أيّها الناسُ ، اعلَموا أنّ كمالَ الدينِ طلبُ العلمِ والعملُ به ، ألا وإنّ طَلَبَ العلمِ أوجَبُ عليكم من طلَبِ المالِ ...) . لمّا كان أصل الدين يحصل بالإقرار بالشهادتين ، كانَ الكمال بالعلم والعمل معاً ، فكما لا يحصل الكمال بالعلم وحده لا يحصل بالعمل وحده ؛ لانتفاء فائدة كلّ منهما بدون الآخر . وقوله عليه السلام : «وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال» يمكن أن يكون التفضيل فيه على أصله ، بمعنى أنّ طلب المال والسعي في تحصيله واجبٌ في الجملة ، ومع هذا يمكن أن يصل إلى صاحبه من غير سعي ، وقد يكون الضمان والوصول في بعضه متوقّفاً على شرط كالتوكّل والسعي ونحوه ، بخلاف العلم ، فإنّ اللّه سبحانه لم تقتض حكمته أن يوصل إلى أحد حصّة من العلم من غير تعلّمٍ من أهله وسعي في تحصيله ، سوى المستثنى من المعرفة في الجملة ، بل خزَنَه عند أهل العلم وأمر بتحصيله منهم ، وذلك بخلاف الرزق ، فإنّ المضمون منه لابدّ أن يصل إلى صاحبه إمّا بغير شرط أو مع الشرط . وربما فرّق بين المضمون والمقسوم ، فالمضمون لابدّ (1) من وصوله ، سواء سعى صاحبه أم لا ، والمقسوم قد يتوقّف على السعي ، فإذا صادف محلّ القسمة وَصَلَ إلى صاحبه . ويمكن أن يكون هذا المقسوم غير المقسوم في كلامه عليه السلام ، فإنّه يكون بمعنى الذي قسمه اللّه وضمنه ، فلاينافيه هذا _ إن ثبت _ بما يعتمد عليه ؛ واللّه أعلم . ويحتمل أن يكون المراد أنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال من الناس الذي يحتجّ طالبه بأنّه واجب عليه ؛ لأنّ تحصيل الكفاية أو ما تقوم به الحياة واجبٌ ، فخطابه عليه السلام لمثل هذا بأنّ الرزق مضمون يصل إلى الإنسان ولو بالاحتياج إلى السعي بغير هذا الطلب ، فيقال لمن يدّعي وجوب مثله : غيره أوجب عليك منه إذا كان الغير واجبا دونه ؛ وهذا بخلاف العلم . والأوّل أظهر ؛ واللّه أعلم . وعلى التقديرين يمكن الجمع بين القسمة والضمان والأمر بالسعي بما تقدّم ونحوه ؛ فتأمّل .

.


1- . في «ج» : + «له» .

ص: 220

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن يعقوبَ بن يزيدَ ، عنص 31 أبي عبداللّه _ رجلٍ من أصحابنا _ رَفَعَه قال:قال أبو عبداللّه عليه السلام : «قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : طلبُ العلمِ فريضةٌ». وفي حديث آخر ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلّ مسلم ، ألا وإنَّ اللّه َ يُحِبُّ بُغاةَ العلمِ» .

عليُّ بن محمّد بن عبداللّه ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن عليّ بن أبي حمزةَ ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«تفقّهوا في الدين ؛ فإنّه من لم يَتفقَّهْ منكم في الدين فهو أعرابيٌّ ؛ إنَّ اللّه تعالى يقول في كتابه : « لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » » .

قوله عليه السلام في حديث عليّ بن أبي حمزة : (فإنّه مَن لم يَتَفَقَّهْ منكم في الدين فهو أعرابيٌّ ، إنّ اللّه يقول في كتابه : «لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (1) ) . «الأعراب» جمع أعرابي ، وهم سكّان البادية ، سواء كانوا عرباً أم غيرهم ؛ ولذلك كانوا بعيدين عن معرفة أحكام اللّه وحدوده ومحاسن الشيم ومكارم الأخلاق ، فمن لم يتفقّه في دين اللّه كانَ أعرابيّاً ، أي متّصفاً بما يتّصف به الأعرابي ممّا ذكر ، فمن شاركهم في ذلك فهو مثلهم ، فهو من قبيل : فلانٌ حاتم ، وفلانٌ أبو لهب ونحوهما ، وهم الذين قال اللّه تعالى في شأنهم : «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَ نِفَاقًا وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ» (2) . واستدلّ بالآية على كون الأمر للوجوب . وفيه كلام ليس هذا محلّه . وربما دلّت بظاهرها على وجوب التفقّه كفايةً ، وتقليد من لم يَنفُر لمن نَفَرَ ، إلاّ أن يقال بعدم منافاتها لوجوب التفقّه ، فيكون الإنذار للتفقّه منهم كما تفقّهوا ؛ فيرجع إلى غيرها من الأدلّة ، وهذا على تقدير كون التفقّه معنى خاصّا ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . التوبة (9) : 122 .
2- . التوبة (9) : 97 .

ص: 221

الحسين بن محمّد ، عن جعفر بن محمّد ، عن القاسم بن الربيع ، عن مفضّل بن عمر ، قال :سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «عليكم بالتفقّه في دين اللّه ، ولا تكونوا أعرابا ، فإنّه من لم يَتفقَّهْ في دين اللّه لم يَنظُرِ اللّه ُ إليه يوم القيامة ، ولم يُزَكِّ له عملاً» .

قوله عليه السلام في حديث مفضّل بن عُمر : (فإنّه مَن لم يَتَفَقَّهْ في دينِ اللّه ِ لم يَنظُرِ اللّه ُ إليه يومَ القيامةِ ، ولم يُزَكِّ له عَمَلاً) . قد يقال : إنّ هذا الحديث يدلّ بظاهره على وجوب التفقّه على كلّ مكلّف ، وإنّه لا يجوز له التقليد . ويمكن الجواب بأنّ المقلّد متفقّه أيضاً ، فإنّه يفقه الأحكام الواجبة عليه ونحوها بواسطة غيره . و«النظر» بمعنى الرحمة والرأفة (1) ونحوهما ، وهو يدلّ على أنّ مثل هذا لا يعفو اللّه عنه . ولا ينافيه قوله تعالى : «وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ» (2) إمّا لعلمه عليه السلام بأنّ مشيّة المغفرة لا تتعلّق بهذا ، كما لا تتعلّق بغيره ممّن لا يشاء اللّه أن يغفر له ؛ أو يقال : إنّ عدم النظر لاينافي أصل المغفرة في الجملة بحمل النظر على معنى يوافقه . فإن قلت : ما الفرق حينئذٍ بين المشرك الذي لا يغفر اللّه له ، ومَن علم أنّه لا يغفر له من غير المشركين ، كما في تارك التفقّه على تقدير عدم المغفرة أصلاً؟ قلت : ظاهر الآية _ واللّه أعلم _ أنّ أهل الذنب قسمان : مشركٌ ، وهذا لا يغفر اللّه له ألبتّة ، وغيره ، وهو قسمان : قسمٌ تتعلّق المشيّة بمغفرته له ، وقسمٌ لا تتعلّق بها ، أو تتعلّق بعدمها . فبعد التعلّق بعدم المغفرة لافرق بين غير المشرك وبينه إلاّ من جهة تفاوت العقاب بحسب الذنب . وغير من علم تعلّق المشيّة به بالمغفرة أو عدمها ، الفرق بينه وبين المشرك ظاهرٌ ، وكذا عدم تزكية عمل غير المتفقّه ، فإنّ عمله من غير تحصيل ما هو شرط صحّة العمل لا يصلح للتزكية ، وعدم تزكية العمل قد لا يستلزم وجود العمل ، فإنّ حاصله أنّه غير داخل في أهل العمل المزكّي ، وغير الداخل يشمل من لا عمل له أصلاً ؛ فتأمّل .

.


1- . في «ج» : «الرأفة والرحمة» .
2- . النساء (4) : 48 .

ص: 222

محمّدُ بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن جَميل بن دَرّاج ، عن أبان بن تَغْلِبَ، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:«لوَدِدْتُ أنّ أصحابي ضُرِبَتْ رؤوسُهم بالسياط حتّى يَتفقّهوا».

قوله عليه السلام في حديث أبان بن تغلب : (لوَدِدْتُ أنّ أصحابي ضُرِبَتْ رؤوسُهم بالسياطِ حتّى يَتَفَقَّهوا) . معنى «وددت» : تمنّيتُ أو أحببتُ ، وقد أكّد عليه السلام ذلك بلام الابتداء لزيادة تمنّيه ومحبّته لأن يقع ، ولو توقّف على هذا النوع العظيم من الضرب الواقع على أشرف الأعضاء . و«حتّى» إمّا بمعنى انتهاء الغاية ، أي إلى أن يحصل منهم التفقّه ؛ أو بمعنى التعليل ، أي لكي يحصل . والأوّل أبلغ .

.

ص: 223

باب صفة العلم وفضله

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عمّن رواه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :قال له رجل : جُعلت فداك ، رجلٌ عَرَفَ هذا الأمر ، لَزِمَ بيتَه ولم يَتعرَّفْ إلى أحد من إخوانه؟ قال : فقال : «كيف يَتفقَّهْ هذا في دينه؟» .

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماءمحمّد بن الحسن وعليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عُبيد اللّه بن عبداللّه الدهقان،عن دُرُستَ الواسطيّ،عن إبراهيمَ بن عبدالحميد،عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال :«دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله المسجدَ ، فإذا جَماعةٌ قد أطافوا برجل ، فقال : ما هذا؟ فقيل : علاّمةٌ ، فقال : وما العلاّمةُ؟ فقالوا له : أعلَمُ الناس بأنساب العرب ووقائعها ، وأيّام الجاهليّة ، والأشعار العربيَّة ، قال : فقال النبيُّ صلى الله عليه و آله : ذاك علْمٌ لا يَضرُّ مَن جَهِلَه ، ولا يَنفَعُ من عَلِمَه ؛ ثمَّ قال النبيُّ صلى الله عليه و آله : إنّما العلمُ ثلاثةٌ : آيةٌ محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنَّة قائمة ،

قوله عليه السلام في حديث محمّد بن عيسى : (كيفَ يَتَفَقَّهُ هذا في دينِه) . هذا من جملة ما يدلّ على أنّ التفقّه يجب أن يكون من الأفواه ، ولا يكفي فيه تتبّع الكتب ، وتارك الأمرين أشدّ فساداً إن لم يحصل من التتبّع ماهو أعظم .

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماءقوله صلى الله عليه و آله في حديث إبراهيم بن عبد الحميد : (إنّما العلمُ ثَلاثةٌ : آيَةٌ مُحكَمَةٌ ، أو فَريضةٌ عادِلَةٌ ، أو سُنّةٌ قائمة ، وما خلا هنّ فهو فَضْلٌ) . حصر صلى الله عليه و آله العلم الحقيقي في ثلاثة أقسام ، أو أشياء ، أو علوم و (1) نحو ذلك . ولاينافي الحصر قوله عليه السلام : «ذاك علم لا يضرّ مَن جهله» فإنّ ذاك ليس علماً حقيقيّاً وإن سمّاه علماً ، أو باعتبار تسمية غيره له علماً ، كما لو قال أحد : أغنيت زيداً بأن أعطيته درهما ، فيقال له : هذا الغنى لا يضرّ زيداً ولا ينفعه ، ومثل هذا متعارف شائع . قال والدي طاب ثراه : يحتمل أن يُراد بالعلم ما يحصل منه العمل ، ولا يتمّ إلاّ بالآية المحكمة ؛ إذ المتشابه لا يتشخّص معناه . والفريضة العادلة محتملة لأن يراد العلم بها ، لإمكان العمل . ويراد بالعادلة المستقيمة ردّاً على المبدعة . والسنّة القائمة محتملةٌ لإرادة نحو العادلة ، ويحتمل أن يراد بها الدائمة ؛ لما صرّح به في القاموس . (2) والاحتراز بها في الأوّل عن المبدعات من الغلوات،وفي الثاني عن المنقطع من السنن. ويحتمل أن يراد من العلم العمل بنوع من التوجيه ؛ فليتأمّل . انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه . وعن النهاية الأثيريّة ومنه الحديث : العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو سنّة قائمة ، أو فريضة عادلة . «القائمة» : الدائمة المستمرّة التي العمل بها متّصل لا يترك . (3) و«فريضة عادلة» أراد العدل في القسمة ، أي معدّلّة على السهام المذكورة في الكتاب والسنّة من غير جور ؛ ويحتمل أن يكون المراد أنّها مستنبطة من الكتاب والسنّة ، فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخذ عنها ؛ (4) انتهى . وبقي احتمال آخر ، وهو أن يكون المراد بالآية المحكمة الآية التي قد أُحكم معناها ، وأتقن وعلم على وجهه بمعرفته ونقله عن أهل العلم عليهم السلام ، سواء كانت محكمة بالمعنى المشهور أم لا ، فإنّ المحكّم به قد يحتاج في بيانه ووضوحه وما يتوقّف عليه إلى ذلك ؛ وبالفريضة العادلة الواجب المفروض الخالي عن الزيادة والنقصان ، وبالسنّة القائمة إمّا المندوب ، أو ما يشمله إن خصّصنا الفريضة بالقرآن . وكان في وصف الآية بالمحكمة إشارة إلى تمام التثبّت في معرفة كلام اللّه تعالى ، والفريضة بالعادلة إلى أنّ الفرائض معرفتها أسهل لشهرتها وتكثّر نقلها والعمل بها ، فناسب التنبيه فيها على الخلل بالقيام بها في الحدّين ، والسنّة بالقيام لمناسبته لها ، فإنّ السنن لاحرج في أمرها كالفرائض والآيات . والذي يظهر أنّ أقوى الاحتمالات إرادة معرفة الكتاب والسنّة على وجههما الذي ينبغي ، وتخصيص الفريضة لما في علم الفرائض من الإشكال الذي كثيراً مّا يقع بسببه خلاف العدل ، فيجب معرفته على وجهه والتحرّز فيه من الغلط . وهذا وإن شاركه فيه غيره إلاّ أنّه كثيراً مّايقع فيه الجور بسبب عدم معرفته على وجهه ؛ واللّه تعالى أعلم . ويمكن أن يكون وجه العدول عن التعبير بالعلم بالآية ، والعلم بالفريضة ، والعلم بالسنّة للتنبيه على أنّ العلم وحده لا يكفي في كون صاحبه عالماً ، بل لابدّ من العمل . وقد أشار والدي رحمه اللّه إلى نحو هذا فيما تقدّم نقله عنه . وفريضه عادلة وسنّة قائمة من باب «عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ» (5) بمعنى عادل صاحبها وقائم بها . وآية محكمة يمكن أن يكون معناها محكم معناها ، فيرجع إلى نحو «عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ» بوجه آخر . ويمكن أن يكون العلم بمعنى المعلوم ، فلا يحتاج إلى تقدير . وكأنّه أظهر ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «أو» .
2- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 168 (قوم) .
3- . النهاية ، ج 4 ، ص 126 (قوم) .
4- . النهاية ، ج 3 ، ص 191 (عدل) .
5- . الحاقّة (69) : 21 .

ص: 224

. .

ص: 225

. .

ص: 226

وما خلاهنّ فهو فَضْلٌ» .

وقوله عليه السلام : «وما خلاهنّ فهو فضل» الظاهر أنّ المراد به أنّ ما عداهنّ زيادة غير محتاج إليها ، ويمكن دخول ما يتوقّف عليه من باب المقدّمة ، ولعلّ تركه لعدم الاحتياج سابقاً إلى أكثر المقدّمات وتيّسر فهم ما يراد منهم عليهم السلام بالسليقة ، ولكنّه من جملة كون الأمر بالشيء أمراً بما يتوقّف عليه ؛ ومن جملة الفضل ما زاد عمّا يحتاج إليه من المقدّمات . ويحتمل أن يراد بالفضل معنى أنّ من اتّصف بغير ما ذكر لا يستحقّ صاحبه الوصف بالعلم ، بل يقال : إنّه فاضل ؛ لأنّ العلم منحصر فيما ذكر . وقوله عليه الصلاة والسلام في جملة الحديث : «وما العلاّمة» لإرادته عليه السلام أن يخبروا بما يعتقدونه من معنى العلاّمة فينبّههم على الخطأ في هذه التسمية ، بل في أصل العلم فضلاً عن العلاّمة . وقولهم : «والأشعار والعربيّة» لا ينافي كون علم العربيّة المدوّن الآن لم يكن في عصره عليه السلام ، فإنّ العرب كان فيهم من يميّز الكلام الصحيح من غيره ، والفصيح كذلك ؛ وكانوا يرجعون إلى آحاد منهم في ذلك . وقصّة حسّان بن ثابت مع الخنساء في مجلس النابغة في البيت المشهور مشهورةٌ من قوله : لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحىوأسيافنا يقطرن من نجدة دما (1) . واعتراضها بذكر الأسياف دون السيوف ، ويقطرن دون يسلن ، وبالجفنات دون الجفان وغير ذلك ؛ فعلم العربيّة كان يعرف بالسليقة ، ويظهر الصحيح من الكلام والفاسد والفصيح وغيره لبعض دون بعض وإن كان كلامه صحيحاً .

.


1- . ديوان حسّان بن ثابت ، ص 69 ؛ التبيان ، ج 2 ، ص 175 ؛ مجمع البيان ، ج 6 ، ص 394 ؛ تفسير القرطبي ، ج 18 ، ص 311 ؛ البرهان ، للزركشي ، ج 3 ، ص 55 .

ص: 227

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن خالد ، عن أبي البَخْتريّ، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:«إنّ العلماءَ ورثة الأنبياء، وذاك أنَ الأنبياءَ لم يُورِثوا درهما ولا دينارا ، وإنَّما أورَثوا أحاديثَ من أحاديثهم ، فمَن أخَذَ بشيء منها فقد أخَذَ حظّا

قوله عليه السلام في حديث أبي البَخْتَري : (إنّ العلماءَ وَرَثَةُ الأنبياءِ ، وذاكَ أنّ الأنبياءَ لم يورِثوا درهماً ولا ديناراً ، وإنّما أوْرَثوا أحاديثَ من أحاديثهم ، فمن أخَذَ بشيءٍ منها فقد أخَذَ حظّاً وافراً) . هذا الحديث يدلّ على خلاف ما ادّعى من معنى قوله صلى الله عليه و آله : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (1) وذلك لأنّه لمّا قال : «إنّ العلماء ورثة الأنبياء» ربما توهّم من هذا الكلام أنّ الأنبياء لا يورثون صاحب الميراث المالي فاستأنف عليه السلام ذلك وعلّله بقوله : «وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ...» ومعناه أنّ الوارث هنا إنّما يرث وإن كان أجنبيّاً من حيث النسب ؛ لأنّ الأنبياء لم يتركوا الوارث المال شيئاً ممّا ذكر يصل إليه بالميراث النسبي ونحوه حتّى يكون مختصّاً بهم، بل ورّثوا أحاديث من أحاديثهم،وذلك لايختصّ به الوارث للمال. وحمل التوريث على ما ذُكر هو الذي يقتضيه المقام وسياق الكلام ، فلا يرد أنّه عدل عن غيره مع احتمالها ، أو ظهور المعنى الآخر . والدرهم والدينار يحتمل أن يكون المراد بهما النوعان ، وأن يكونا كناية عن المتروكات ، أو عن الشيء المعتدّ به . وإن ثبت توريث بعض الأنبياء على أحد الأوجه ، اُجيب ببعضها أو بتخصيص العامّ وأنّ الحكم باعتبار الأغلب . وطلب فاطمة عليهاالسلام الميراث يمكن أن يكون طلبا لحقّها من هذه الجهة ؛ حيث منعت من غيرها ؛ واللّه تعالى أعلم . قال والدي قدّس سرّه : قد يقال : إنّ هذا الخبر يدلّ على ما ادّعاه الأوّل لأجل منع فاطمه عليهاالسلام ، والحال أنّ الأصحاب لم يتوجّهوا إليه . ويمكن الجواب بأنّ المراد نفي التوريث من حيث النبوّة ، وأمّا من حيث غيرها فالميراث منهم . ويدلّ عليه إرث العلماء منهم ، فإنّه إنّما يتعلّق من حيث النبوّة ؛ حيث إنّ العلماء ورثة الأنبياء في هذا الخبر ، فلمّا ذكر عليه السلام ذلك أراد نفي إرادة توريث المال ، بل العلم . انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه . وبه تمّ ما رأيته بخطّه _ قدّس سرّه _ في مجموعة على هذه الأحاديث التي نقلت كلامه عليها ، وقد رأيته بعد ما كتبت مضمون ما تقدّم في حاشية المعالم ، وفّق اللّه لإتمامها ولكلّ ما له فيه رضى .

.


1- . دلائل الإمامة ، للطبري ، ص 118 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 104 . وللمزيد راجع : رسالة حول حديث «نحن معاشر الأنبياء ...» ، للشيخ المفيد (مجموعة مصنّفات الشيخ المفيد) ج 10 ، ص 17_29 .

ص: 228

وافرا ، فانظُروا عِلْمَكم هذا عمّن تأخذونه؟ فإنَّ فينا _ أهلَ البيت _ في كلّ خَلَفٍ عُدولاً يَنفون عنه تحريفَ الغالين ، وانتحالَ المبطلين ، وتأويلَ الجاهلين» .

قوله عليه السلام فيه : (فَانْظُروا علمَكم هذا عمّن تأخُذُونَه؟ فإنّ فينا أهلَ البيتِ في كلّ خَلَفٍ عدولاً يَنْفُونَ عنه تحريفَ الغالينَ ، وانْتِحالَ المُبطلينَ ، وتأويلَ الجاهلينَ) . قوله عليه السلام : «فانظروا ..» أمر لمن يأخذ العلم بأن لا يأخذه إلاّ ممّن ورّث العلم من الأنبياء ، وأن لا يأخذ إلاّ ما وصل منهم إلى العلماء على سبيل الإرث . وفي الإشارة بهذا إشارةٌ إلى أنّ غيره ليس من العلم الذي يُنتفع به ، فمن أراد أخذه أخَذَه من أيّ من شاء ، لا أنّه أمرٌ بأخذه ، بل هو للدلالة على أنّ ما كان كذلك فليس بشيء وليس له معدن . ثمّ بيّن عليه السلام مواضع أخذه ؛ لأنّ الحقّ كثيراً مّا يشاب بالباطل ، وبسبب عدم التميز يذهب الباطل بالحقّ ويترتّب عليه مفاسد الاختلاف . وقد تقدّم وجه الاختلاف بين الإماميّة فقال عليه السلام : «فإنّ فينا ...» أي فإنّ في زمان كلّ خلف _ أي واحد منهم عليهم السلام يخلف من قبله _ جماعةً موصوفين بهذه الصفات . والظاهر شمول ذلك لزمان الغيبة الكبرى ، ففيه أمرٌ بأخذه عن مثل هؤلاء ، ونهيٌ عن أخذه عمّن لم يتّصف بهذه الصفات ، فهو دالّ على عدم الاعتماد على رواية مخالفي المذهب وموافقيه غير العدول . ولعلّ المتقدّمين _ رضوان اللّه عليهم _ كان اعتمادهم على القرائن الدالّة على صحّة الحديث ، وإلاّ فكيف يخفى عليهم هذا مع نقل ما يدلّ على اجتنابه . فإن قلت : إذا كان من جملة القرائن أن يروي الحديثَ الذي رواه المخالف العدلُ الإمامي أيضاً ، فلِمَ عدلوا عنه إلى ذكر المخالف؟ قلت : على هذا التقدير ربما لم ينقلوه عنه بطريق الرواية ، بل وجدوه في كتاب ونحوه . والمقصود من سند الرواية ذكر المرويّ عنه في جميع السند . واحتمالُ كون المراد من العدالة ما يدخل تحته نحو المخالف الثقة بعيدٌ ، فإنّه جاهل مبطل أو غال . وفي التعبير ب «فينا» دون «منّا» إشارة إلى أنّ العدول غيرهم ، ولا يلزم أن يكونوا منهم غير أئمّة حتّى لو كان لفظ «منّا» حمل على هذا المعنى كما في «سلمان منّا أهل البيت» . (1) والتحريفُ من الغالين حملُهم الكلام على ما يُناسب اعتقادهم الفاسد ونحوه . و«انتحالُ المبطلين» نسبتُهم إليهم عليهم السلام أحاديث ونحوها توافق ماهم عليه من الباطل ، يقال : انتحل فلان شعر غيره أو قول غيره : إذا ادّعاه لنفسه . و«تأويل الجاهلين» وهم الذين لا يعرفون مواقع الكلام ومعانيه ومصادره وموارده ، فيحملونه على ما يخطر ببالهم . ويمكن أن يكون المراد بالجاهلين ما يعمّ كلّ من لم يأخذه على وجهه ، ويجزم بتأويل يقتضيه جهله ، ولا يكون مدلولاً ولا ظاهراً ونحو ذلك ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 64 ، باب 31 ، ح 282 ؛ رجال الكشّي ، ص 14 ، ح 33 ؛ و ص 18 ، ح 42 ؛ دلائل الإمامة ، للطبري ، ص 48 ؛ الاختصاص ، ص 341 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 259 ؛ تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام ، ص 120 ، ح 63 ؛ تفسير فرات الكوفي ، ص 171 ، ح 170 ، وعن المصادر المذكورة في بحارالأنوار فى مواضع متعدّدة .

ص: 229

. .

ص: 230

الحسينُ بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمانَ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا أرادَ اللّه ُ بعبد خيرا فَقَّهَه في الدين» .

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن رِبْعِيّ بن عبداللّه ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال :«الكمالُ كلُّ الكمالِ : التفقّهُ في الدين ، والصبرُ على النائبة ، وتقديرُ المعيشة» .

قوله عليه السلام في حديث حمّاد بن عثمان : (إذا أرادَ اللّه ُ بعبدٍ خيراً فَقَّهَه في الدين) . الإرادة لها معانٍ تأتي إن شاء اللّه تعالى ، واللّه تعالى لا شكّ في أنّه يريد الخير من كلّ أحد ولكلّ أحد ، ولكن إذا أطاعه العبد هَيَّأَ له أسباب الخير وأعانه عليه وأعظمه التفقّه في الدين ، فهذا ممّن أراد اللّه به الخير ومنه ، ومن لم يكن كذلك يريده منه ، لا به ؛ وفرق ما بينهما . وحديث بشير الآتي يؤيّد مضمون ما ذكر في هذا الحديث ، وعدل اللّه وحكمته يقتضيان ذلك . وعلى كون الإرادة بمعنى العلم المعنى ظاهرٌ (1) ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث رِبْعيّ : (الكمالُ كلُّ الكمالِ : التفقّهُ في الدين ، والصبرُ على النائبة ، وتقديرُ المعيشة) . هذا من قبيل قولك : «أنت الرجل كلّ الرجل» إذا أردت أنّه جامع لصفات كلّ رجل ممّا يقتضي المقام جمعه . والمعنى هنا أنّ الكمال منحصرٌ في هذه الثلاثة حصراً إضافيّاً أو خطابيّاً ونحوه ، وأعظمها ما تقدّم ذكره . و«النائبة» : المصيبة . والباقي ظاهرٌ .

.


1- . في «ألف ، ب ، ج » : - «وعلى كون الإرادة بمعنى العلم المعنى ظاهر» .

ص: 231

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«العلماءُ اُمناءُ ، والأتقياءُ حصونٌ ، والأوصياءُ سادةٌ» . وفي رواية اُخرى : «العلماءُ مَنارٌ ، والأتقياءُ حصونٌ ، والأوصياءُ سادةٌ» .

قوله في حديث إسماعيل بن جابر : (العلماءُ اُمناء ، والأتقياء حصونٌ ، والأوصياء سادةٌ . وفي رواية آُخرى : العلماء منارٌ ...) . وفي بعض النسخ : «الأوصياء منارٌ ، والأتقياء حصون ، والعلماء سادة» . والمراد من العلماء أهل العلم الحقيقي ، فإنّهم هم الموصوفون بالأمانة وهم أهلها . وفيه إيماءٌ إلى أنّ من لا أمانة له لا يؤخذ عنه العلم . والمراد من الأتقياءِ _ واللّه أعلم _ الأتقياءُ من العلماء ، فإنّ التقوى بغير علم لا يتحقّق كالعلم بغير تقوى ، إلاّ أن يكون من يوصف بالتقوى من غير أهل العلم الذين يمكنهم التعلّم ، ويكون تقواه مأخوذة عن العالم ، وهذا إن سمّي عالما فبها ، وإلاّ فالظاهر أنّ دخوله في الأتقياء الذين هم حصون من حيث الضميمة إلى العلماء الأتقياء . فكان المراد من العلماء من يكون عندهم من التقوى مالا يخرجهم عن الأمانة في تأدية العلم وغيره ، ومن الأتقياء منهم من عنده زيادة في التقوى عن الأوّل ولهذا كانوا حصوناً ، فإنّ زيادة تقواهم تبعثهم على التشدّد في أمر العلم والدين ، فأشبهوا الحصون . وأمّا العالم الأوّل فليست عنده تلك الشدّة ، بل هو أمين على ما عنده من العلم . ويمكن أن يكون المراد بكونهم حصوناً أنّ اللّه سبحانه يمنع بسببهم عباده من أن ينزل بهم قحط أو نحوه ، كما في بعض الآثار ممّا معناه أنّ للّه عباداً بهم يرزقون وبهم يمطرون (1) ، والأوصياء لا يكونون إلاّ علماء أتقياء . وكونهم سادة العلماء والأتقياء فضلاً عن غيرهم ظاهرٌ ، فإنّهم مصدر العلوم والتقوى ومعدنهما (2) ، ومنهم اُخذت . وتأخيرهم في الذكر للإخبار بأنّهم سادة لمن ذكر وغيره ، أو لأنّهم سادة من ذكر فقط ، فإنّ غير العلماء والأتقياء لا يكونون لهم سادة ؛ لكونهم غير منقادين إليهم . وهذا الوجه لا ينافي عموم سيادتهم بمعنى آخر . وأمّا العلماء بغير تقوى والمتّقون بغير علم فلا يدخلون هنا ، ولا يليق حمل الكلام على ما يقتضي إدخالهم ؛ لدلالة العقل والنقل على خلافه ، وكلام المعصوم يجلّ عنه . نعم ، بقي احتمال ، وهو أن يكون المراد تفسير العلماء بأنّهم هم الاُمناءُ فمن لم يكن أميناً لا يكون عالماً . وتفسير الأتقياء بالحصون للمناسبة بين معنى التقوى والحصن ، فكما يمنع الحصن ويقي مادار عليه ، فكذا التقوى تمنع من ارتكاب ما لا يجوز ، وتقي صاحبها منه . وتفسير الأوصياء بأنّهم سادة لأنّهم قد استخلفوا من قبل اللّه ، وقيل : من نَصَّ عليهم بأمره ، ومن كان كذلك فهو سيّدٌ واجب الاتّباع والطاعة . وهذا وجه جيّد ، والفرق بينه وبين ما تقدّم اعتباريٌّ ؛ واللّه تعالى أعلم والتوجيه على الرواية والنسخة يظهر ممّا ذكرناه .

.


1- . الخصال ، ص 361 ، ح 50 ؛ رجال الكشّي ، ص 6 ، ح 13 ؛ شواهد التنزيل ، للحسكاني ، ج 2 ، ص 450 ، ح 1115 ؛ روضة الواعظين ، ج 3 ، ص 280 ؛ تفسير فرات الكوفي ، ص 570 ، ح 570 . وعنهم في بحارالأنوار في مواضع متعدّدة .
2- . في «ألف ، ب ، ج » : «معدنها» .

ص: 232

أحمدُ بن إدريس ، عن محمّد بن حسّان ، عن إدريس بن الحسن ، عن أبي إسحاقَ الكنديّ ، عن بَشير الدهّان ، قال :قال أبو عبداللّه عليه السلام : «لا خيرَ فيمن لا يتفقّهُ من أصحابنا ،

قوله عليه السلام في حديث بَشير : (لا خيرَ فيمن لا يَتَفَقَّهُ مِن أصحابِنا) الحديث . «من» بيانيّة ، وليس المراد لاخير فيمن لا يأخذ الفقه عنهم لتكون ابتدائيّة ، وإن كان المعنى في نفسه صحيحا إلاّ أنّه في غير هذا المقام . ومعنى الحديث ظاهر ، فإنّ الرجل إذا لم يكن غنيّاً بفقهه ما يحتاج إليه فقهاً مأخوذاً عنهم عليهم السلام ولو من غيرهم ، احتاج إلى أخذ ما يحتاج إليه من أهل الخلاف ، وقد لا يكون عنده غيرهم فيسألهم عمّا يحتاج إليه فيعلمونه (1) بما يقتضيه مذهبهم ، فيدخل في باب ضلالتهم وهو لا يعلم أنّه باب ضلالة ، فإنّه مع التعلّم منهم وعدم وجود من يدلّه قد لا يهتدي إلى أنّ هذا مخالف للحقّ ؛ وهو ظاهر .

.


1- . في «ألف ، ب» : «فيعلموه» .

ص: 233

يا بشير ، إنّ الرجلَ منهم إذا لم يَستَغْنِ بفِقْهِهِ احْتاجَ إليهم ، فإذا احْتاجَ إليهم أدخَلوهُ في باب ضَلالتهم وهو لا يَعْلَمُ» .

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن آبائه، قال:«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لا خيرَ في العيش إلاّ لرجلين:عالم مُطاع،

قوله صلى الله عليه و آله في حديث السكوني : (لا خيرَ في العيش إلاّ لرجلينِ : عالِمٍ مُطاع ، ومُستمعٍ واعٍ) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ العالم إذا كان مطاعاً لعلمه ، كانَ فَرِحاً مسروراً لذلك ، لا لجهة حبّ الرئاسة ، بل لإجراء أحكام اللّه تعالى على وجهها وظهور أثر علمه فيمن أطاعه ، فيكون الخير في عيشه ، وإذا لم يطع كان منغّصاً حزيناً على فوات ذلك ، فإنّ المراد به مثل هذا العالم ، وكان مكدّر العيش لما ذكر ولعدم ظهور أثر خيره ، حزيناً على ضياع ثمرة علمه بالنسبة إلى الغير ، وأمّا بالنسبة إليه فثوابه ثوابه ؛ إذ لا تقصير من جهته . وقد يزيد حزنه من جهة أنّ عدم الإطاعة يترتّب عليه ترك مدارسة العلم وتعليمه فيؤدّي إلى نقصه ، فيكون حزنه على نقصه وعلى ما يفوته من الثواب على مدارسته ونشره ، وإذا لم يكن عالما ولا مطاعاً ، أو كان مطاعا غير عالم ، فلا خير في عيشه وإن كان منعماً فيه ؛ «فلا خير بخيرٍ بعده النار» (1) . ومعنى الخير على هذا غيره على الأوّل . والظاهر هنا اعتبار العالم المطاع ، والعالم غير المطاع فقط دون بقيّة الأقسام وإن ترتّب عليها ما يناسبها .

.


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 22 ، ح 4 ؛ الفقيه ، ج 4 ، ص 392 ، ح 5834 ؛ و ص 406 ، ح 5880 ؛ الأمالي ، للصدوق ، المجلس 52 ، ح 8 ؛ التوحيد ، ص 72 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 27 ؛ نهج البلاغة ، ص 544 ، الحكمة 382 . وفي بحارالأنوار ، ج 74 ، ص 382 ، باب مواعظ أميرالمؤمنين عليه السلام ... ، ح 5 ، عن التوحيد والأمالي ؛ وج 8 ، ص 199 ، باب الجنّة ونعيهمها ... ، ح 203 ، عن نهج البلاغة .

ص: 234

أو مُستمع واع» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ؛ ومحمّدُ بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن أبي عمير ، عن سَيف بن عميرة ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«عالم يُنتفع بعلمه أفضَلُ من سبعين ألف عابدٍ» .

وقوله عليه السلام : «ومستمع واع» أي مستمع للعلم ، وكلّ ما فيه صلاحه ، وإن كان الظاهر الأوّل ، ويكون مع ذلك واعياً ، أي حافظاً له ، عاملاً به ، فلو انتفى الأمران أو أحدهما ، كان عيشه لا خير فيه وإن كان منعماً في دنياه . والخير هنا كالثاني المتقدّم ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث أبي حمزة : (عالِمٌ ينتفع بِعلمه أفضلُ من سبعينَ ألفَ عابدٍ) . يحتمل أن يكون «ينتفع» مبنيّاً للمفعول ، ويكون بناؤه له لإرادة انتفاعه وانتفاع غيره ؛ أو يحمل العالم على من يعمل بعلمه وينتفع هو به ، فإنّه هو الذي يستحقّ هذا الاسم ثمّ يعتبر انتفاع غيره به . وفي هذا نوع تأمّل من جهة التقييد ب «ينتفع» ؛ اللّهمّ إلاّ أن لا يُراد الانتفاع الكامل منه ، ولا يخلو منه شيء . ويحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل ، فالمعنى حينئذٍ أن يكون عاملاً بعلمه عملاً ينفعه في الآخرة ، فإنّ هذا هو الانتفاع الحقيقي الذي يعدّ انتفاعاً ، لا أن يستأكل به حطام الدنيا . ويدخل تحت انتفاعه به نفع غيره . و«العابد» الظاهر أنّ المراد به من لا يكون عنده علم ينتفع به وينفع غيره ، وإن كان عنده في الجملة معرفة ما تقع به العبادة صحيحة ؛ ليتمّ أصل التفضيل ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 235

الحسينُ بن محمّد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن سَعدانَ بن مسلم ، عن معاوية بن عمّار ، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : رجل راوِيَةٌ لحديثكم يَبُثُّ ذلك في الناس ، ويُشَدِّدُهُ في قلوبهم وقلوب شيعتكم ، ولعلّ عابدا من شيعتكم ليسَتْ له هذه الروايةُ ، أيُّهما أفضلُ؟ قال : «الراوِيَةُ لحديثنا يَشُدُّ به قلوبَ شيعتنا أفضلُ من ألفِ عابدٍ» .

قوله عليه السلام في حديث معاوية بن عمّار : (الراوِيَةُ لحَديثنا يَشُدُّ به قلوبَ شيعتِنا أفضلُ من ألفِ عابِدٍ) . الجمع بين ما هنا وحديث «السبعين ألف عابد» إمّا بأنّ الراوية لايصل إلى مرتبة العالم الأوّل ، كما يشعر به لفظ «الراوية» ، وإمّا بأنّ التفضيل على الألف لاينافي التفضيل على أكثر منه ، وقد يترك الأكثر لمناسبة حال المخاطب وما يصل إليه عقله ونحو ذلك . وفي حديث أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، قال : قرأت كتاب أبي الحسن الرضا عليه السلام : «أبْلِغْ شيعتي أنّ زيارتي تَعدِلُ عنداللّه ألفَ حَجَّةٍ» . قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام _ يعني ابنَهُ عليه السلام _ : ألفَ حَجَّةٍ؟ ، قال : «أي واللّه ِ ، وألفَ ألف حَجَّةٍ لمن زاره عارفا بحقّه» (1) .

.


1- . كامل الزيارات ، ص 306 ، باب 101 ، ح 9 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 582 ، ح 3182 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 85 ، ح 168 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 64 ، المجلس 15 ، ح 9 ؛ و ص 119 ، المجلس 25 ، ح 3 ؛ ثواب الأعمال ، ص 98 ، ثواب زيارة قبور الأئمّة عليهم السلام ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 257 ، باب 66 ، ح 10 ، روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 233 . وفي بحارالأنوار ، ج 99 ، ص 33 ، باب فضل زيارة الإمام الإنس والجن ... ، ح 5 ، عن ثواب الأعمال والعيون والأمالي وكامل الزيارات .

ص: 236

باب أصناف الناس

باب أصناف الناسعليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ؛ ومحمّدُ بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى جميعا ، عن ابن محبوب ، عن أبي اُسامة ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاقَ السَّبيعيّ ، عمّن حدّثه ممّن يوثَقُ به ، قال : سمعتُ أميرَالمؤمنين عليه السلام يقول :«إنّ الناسَ آلوا بعدَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى ثلاثة : آلوا إلى عالِم على هُدًى من اللّه قد أغناه اللّه ُ بماص 34 عَلِمَ عن عِلْم غيره،وجاهلٍ مُدَّع للعلم لا عِلْمَ له ، مُعجَبٍ بما عنده قد فَتَنَتْهُ الدنيا وفَتَنَ غيرَهُ،

ولا يناسب كون صاحب الألف غير عارف ، نعم قد تتفاوت المعرفة فيتفاوت المقدار . وإمّا باختلاف مراتب العُبّاد بكثرة العبادة وقلّتها ، أو بزيادة الإخلاص ونقصه ، أو بما معها شيء من العلم ، كما يفهم من قول الراوي : «ولعلّ عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية» ونحو ذلك . و«الراوية» مبالغة لكثير الرواية ، وفي بعض النسخ : «رواية» فهو من باب «رجل عدل» وإنّما هي إقبال وإدبار .

باب أصناف الناسقوله عليه السلام في حديث أبي إسحاق السبيعي : (إنّ الناسَ آلوا بعدَ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله إلى ثلاثةٍ : آلوا إلى عالمٍ على هُدًى من اللّه ِ قد أغناه اللّه ُ بما عَلِمَ عن عِلْمِ غيره ، وجاهلٍ مُدَّعٍ للعلم لا عِلْمَ له ، مُعجَبٍ بما عنده قد فَتَنَتْهُ الدنيا وفَتَنَ غيرَه ، ومُتَعَلِّمٍ من عالمٍ على سبيلِ هُدًى من اللّه ونَجاةٍ ، ثمّ هَلَكَ مَن ادَّعى ، وخابَ مَن افْتَرى) . قوله عليه السلام : «إنّ الناس آلوا ...» يحتمل وجهين : أحدهما _ وهو الظاهر _ أنّ الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله رجعوا إلى ثلاثة أقسام.والثاني أنّهم رجعوا بعده صلى الله عليه و آله إلى هؤلاء الثلاثة بعد أن كانوا في حياته يرجعون إليه فقط ، وإن كان بعضهم رجوعه بحسب الظاهر . واحتمال قسم رابع (1) على هذا يقابل الثالث أغنى عنه قوله «وفتن غيره» . أحد الأقسام : عالم كائن على هدى من اللّه قد أغناه اللّه بما علم عن علم غيره ، أي عن أن يحتاج إلى أخذ العلم عن غيره على نحو أخذ الناس بعضهم من بعض . وهو الإمام المعصوم المفترض الطاعة ، فإنّه الموصوف بهذه الأوصاف . والثاني : جاهل مدّع للعلم لاعلم له معجَبٌ _ بالبناء للمفعول _ قد سوّل له الشيطان وهواه العجب بذلك ، وهو من لم يتمسّك بحبلهم وسلك غير طريقتهم ، عالماً بأنّ الحقّ لهم ومعهم ، فقد افتتن بالدنيا وترك طاعتهم لذلك ، وفتن غيره بإضلاله عن الحقّ . ولم يقل عليه السلام «وفتن غيره بالدنيا» كما قال فيه ؛ لأنّه هو افتتن بالدنيا وترك الآخرة لها ، وغيره قد يكون افتتانه للدنيا وقد لا تكون الدنيا ملحوظة له ، كافتتان الغافلين والجاهلين الذين لا معرفة لهم ولم يتفحّصوا عن الحقّ وأهله ، بل رأوا انقياد أشباه الناس إليهم ، فتابعوهم على ذلك من غير تفتيش عن حقيقة الأمر . والثالث : المتعلّم من العالم ، وهو المتعلّم منهم عليهم السلام ، بواسطة أو بغيرها . وإخباره عليه السلام بانقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة كان في زمنه عليه السلام ، والظاهر استمرار هذا بعده أيضاً ، وإن تشعّب بعض الأقسام شُعَباً وتفرّق فرقاً .

.


1- . في «ج» : «آخر» .

ص: 237

ومُتعلِّمٍ من عالِم على سبيل هُدًى من اللّه ونَجاةٍ ، ثمَّ هلكَ من ادَّعى ، وخابَ من افْتَرى» .

وقوله عليه السلام : «ثمّ هلك من ادّعى ، وخاب من افترى» . يحتمل أن يكون «ثمّ» فيه بفتح المثلّثة بمعنى «هنالك» أو «هناك» ، فكأنّه عليه السلام بعد أن ذكر الأقسام قال «ثَمّ هلك ...» أي في ذلك القسم الذي هو محلّ البعد عن الخير والصواب ومتابعة الحقّ وأهله وَقَعَ الهلاك بالدعوي لغير الحقّ ، والخيبة للمفتري بالافتراء عليهم . فذِكْر من ادّعى وافترى لبيان سوء حالهم وقبيح صفاتهم ، أو يكون إشارة إلى الآخرة ، أو إلى ظهور أثره فيها . والإشارة إلى محلّ النجاة الذي هو الآخرة أقرب لفظاً ومعنى . وعلى التقادير فالماضي لتحقّق الوقوع وإرادته _ واللّه أعلم _ فهو إخبار . ويحتمل أن يكون «ثمّ» بالضمّ بتقدير : ثمّ يقول ، أو قال ، فيكون «ثمّ» من كلام الراوي ، ويحتمل أن يكون من كلامه عليه السلام من غير تقدير . والإتيان ب «ثمّ» لتغاير ما قبلها وما بعدها بالخبريّة والإنشائيّة ، وتأخّر وقت الهلاك لأنّه في الآخرة ، وهلاك الدنيا معه غير معلوم إرادته مع احتماله ، وهو كماترى . ونحوه في الاختلاف بالخبريّة والإنشائيّة مالو كان من كلام الراوي ، وهو إنشاء للدعاء على من فعل ذلك ، ويحتمل بعيداً الإخبار ؛ واللّه تعالى أعلم .

.

ص: 238

الحسين بن محمّد الأشعريّ ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أحمدَ بن عائذ ، عن أبي خديجةَ سالِمِ بن مُكْرَمٍ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«النّاسُ ثلاثَةٌ : عالمٌ ، ومتعلّمٌ ، وغُثاءٌ» .

قوله عليه السلام في حديث أبي خديجة : (الناسُ ثَلاثةٌ : عالِمٌ ومُتعلِّمٌ وغُثاءٌ) . الظاهر أنّ المراد بالعالم العالم الحقيقي الذي ينصرف إليه العالم عند الإطلاق ، وذلك هم عليهم السلام ، كما في حديث جميل : «فنحن العلماء» (1) . ومَن تعلّم منهم يكون عالماً ، كما في حديث أبي حمزة : «اغْدُ عالماً» (2) . وقد يكون عالماً ومتعلّماً باعتبارين . والجاهل المدّعي العلم أو التعلّم داخل في الغثاء ، وإن كان بصورة العالم أو المتعلّم . وعن النهاية : «الغثاء» _ بالضمّ والمدّ _ ما يجيء فوق السيل ممّا يحمله من الزبد والوسخ وغيره . وفي حديث الحسن «هذا الغثاء الذي كنّا نحدّث عنه» يريد به أراذلَ الناس وسَقَطَهم ؛ انتهى . (3) وفي القاموس : «الغثا» كغُراب وُزنّار : القَمْش ، والزَّبْدُ والهالكُ ، والبالي من ورق الشجر المخاط زَبَدِ السيل ؛ انتهى (4) . فهو مستعار ممّا ذكر للمناسبة بينهما . ويمكن أن يكون مأخوذاً من غَثَا السيلُ المرتَعَ يَغْثوه غَثْواً : إذا جمع بعضه إلى بعض وأذهَب حلاوتَه . والمناسبة هنا أيضاً ظاهرة ، لكنّه موقوف على استعمال الغثاء بهذا المعنى ، فإنّه لم يذكر في الصحاح سوى ما نقل هنا . (5)

.


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 34 ، باب أصناف الناس ، ح 4 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 34 ، باب أصناف الناس ، ح 3 .
3- . النهاية ، ج 3 ، ص 343 (غثا) .
4- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 368 (غثا) .
5- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2443 (غثا)ء .

ص: 239

محمّد بن يحيى ، عن عبداللّه بن محمّد ، عن عليّ بن الحَكَم ، عن العلاء بن رَزينٍ ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي حمزةَ الثمالي ، قال :قال لي أبو عبداللّه عليه السلام : «اغْدُ عالما ، أو متعلّما ، أو أحِبَّ أهلَ العلم ، ولا تكن رابعا فتَهْلِكَ بِبُغْضِهم» .

قوله عليه السلام في حديث أبي حمزة : (اغْدُ عالماً ، أو مُتعلّماً ، أو أحِبَّ أهلَ العلم ، ولا تَكُنْ رابعاً فَتَهْلِكَ ببغضهم) . يحتمل أن يكون المراد : إن قدرتَ على أن تكون عالماً فكن عالماً ، وإن لم تقدر على هذه المرتبة فكن متعلّماً ، فإن لم تقدر فكُنْ محبّاً لأهل العلم ، ولا تكن رابعاً ، أي لاتكن مبغضاً لأهل العلم باعتبار تقسيم غير العالم والمتعلّم إلى محبّ ومبغض بقرينة قوله عليه السلام : «فتهلك ببغضهم» . فلا يرد ما يحتمل أن يقال ، وهو أن يفرض (1) قسم آخر غير محبّ ولا مبغض . وهذا القسم قد فهم من الأمر بالثلاثة النهي عنه وكذا المبغض ، لكن لمّا كان المبغض متحقّق الهلاك خَصَّه عليه السلام بالذكر . وهذا قد تناوله (2) النهي الذي تضمّنه الأمر . والهلاك في حقّه قد لا يكون متحقّقاً ؛ من حيث إنّه قد يعفو اللّه عنه ، أو أنّه مبنيٌّ على ما هو متعارف من طباع البشر من كون المرء عدوّ ما جهل والناس إلى أشباههم أميل ، فإذا خلا الإنسان من القسمين الأوّلين ، كانَ مقتضى طبعه البغض ، أو من الثلاثة فكذلك ، فلا يكاد (3) حينئذٍ يتحقّق من يخلو من المحبّة والبغض ، فترك ذكره عليه السلام لذلك ، واللّه أعلم . ويحتمل أن يكون المراد من قوله عليه السلام «اغد عالماً ...» الأمر بتحصيل هذه المرتبة الشريفة ، فإن قصرت في هذا التحصيل والوصول إلى هذه المرتبة ، فحصّل ما دونها وهو التعلّم ، فإن قصرت همّتك عن الأمرين ، فكن من القسم الثالث ، ولا تضيّع ما يراد منك بالكلّيّة، ولا تصل إلى المرتبة الرابعة فتهلك بسببها.والخطاب حينئذٍ لمن يقدر على ما ذكر. وفيه تأمّل . ومن الاحتمالين يظهر ثالث يتعلّق الخطاب فيه بالقسمين باعتبار ما يناسب حال كلّ واحد . وقد يستفاد من هذا الحديث أنّ من كان مقصّراً في تحصيل العلم والتعلّم قد ينفعه حبّ العلماء في الجملة ، وربما يعفواللّه عنه بسبب ذلك ، ولكنّه لا يخرج به عن الغثاء ، كما يدلّ عليه الحديث السابق والآتي . وكذا من لا يتيسّر له ذلك أو لا يقدر عليه وإن كان معذوراً ، فإنّه خال من النفع كالغثاء . ويحتمل خروج المحبّ لأهل العلم عن الغثاء الصِرْف بنفعه لنفسه بالمحبّة في الجملة ، لا عن مطلق الغثاء . وفيه تأمّل . ولا شبهة في أنّ محبّ العالم الحقيقي حقّ المحبّة لا يكون إلاّ من محبّيهم وشيعتهم فقد ينفعه ذلك ، وغير محبّهم وإن كان بصورة العالم والمتعلّم والمحبّ له خارجٌ عمّا ذكر ، ولا شبهة في بغضهم لأهل العلم الحقيقي ، فيكونوا من الهالكين ؛ واللّه أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . في «ب» : «نفرض» .
2- . في «ألف ، ب» : «قد يتناوله» .
3- . في «ألف ، ب» : «ولا يكاد» .

ص: 240

. .

ص: 241

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن جميل ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :سمعته يقولُ : «يَغدوا النّاسُ على ثلاثة أصنافٍ : عالِمٍ ، ومتعلّمٍ ، وغُثاءٍ ؛ فنحن العلماءُ ، وشيعتُنا المتعلّمون ، وسائرُ الناس غُثاءٌ» .

قوله عليه السلام في حديث جميل: (فنحنُ العلماءُ، وشيعَتُنا المتعلّمونَ،وسائرُ الناسِ غُثاءٌ) . أي فنحن العلماء حقّ العلماء ، وشيعتنا الذين يصدق عليهم المتعلّمون لو تعلّموا بخلاف غيرهم ، فإنّهم وإن علموا أو تعلّموا ليسوا بعالمين ولا متعلّمين . ولاينافي هذا صدق العالم على من تعلّم من شيعتهم فصار عالماً ، كما في الحديث السابق . وفي الحديث دلالة على أنّ من لا يتعلّم ليس من شيعتهم وأنّه داخل في الغثاء . ويمكن أن يحمل على أنّه ليس من كاملي الشيعة ، خصوصاً إذا كان محبّاً لأهل العلم على ما تقدّم تفصيله ؛ واللّه أعلم . و«سائر» هنا بمعنى البقيّة ، مأخوذٌ من السؤر ، وهو الذي صحّحه الحريري وجعله بمعنى الجميع في درّة الغوّاص من أوهام الخواصّ (1) . وقد جوّزه بعضهم . ويؤيّده ما في الحديث الآتي من قوله عليه السلام : (كفَضْلِ القمر على سائرِ النجومِ) (2) إلاّ أن يتكلّف (3) بإدخاله في النجوم ، ولكن استعماله بمعنى الجميع كثير شائع .

.


1- . لسان العرب 4 : 390 (سير) قال : وسائر الناس : جميعُهم .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 34 ، باب ثواب العالم والمتعلّم ، ح 1 .
3- . في «ألف» : «أن نتكلّف» .

ص: 242

باب ثواب العالم والمتعلّم

باب ثواب العالم والمتعلّممحمّدُ بن الحسن وعليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ؛ ومحمّدُ بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد جميعا ، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ ، عن عبداللّه بن ميمون القدّاح ؛ وعليّ بن إبراهيمَ، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن القَدّاح، عن أبيعبدللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من سَلَكَ طريقا يَطلُبُ فيه عِلْما سَلَكَ اللّه به طريقا إلى الجنّة ، وإنَّ الملائكةَ لتَضَعُ أجنحتَها لطالب العلم رضا به، وإنّه يَستغفرُ لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض حتّى الحوت في البحر ، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلةَ البدر ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء ، إنَّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، ولكن ورَّثوا العلمَ ، فمَنْ أخَذَ منه أخذ بحظٍّ وافرٍ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«إنَّ الذي يُعلّم العلمَ منكم له أجرٌ

باب ثواب العالم والمتعلّمقوله عليه السلام في حديث محمّد بن مسلم : (إنّ الذي يُعَلِّمُ العلمَ منكم له أجرٌ مثلُ أجرِ المتعلِّمِ ، وله الفضلُ عليه ، فَتَعَلَّموا العلمَ من حَمَلَةِ العلم ، وعَلِّمُوهُ إخوانَكم كما عَلَّمَكُموه العلماءُ) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ أجر المعلّم مثل أجر المتعلّم ، وللمعلّم الفضل على المتعلّم من حيث كونه معلّمه ؛ فالفضل إمّا بمعنى التفضّل بالتعليم ولاينافي زيادة الأجر ، أو بمعنى الزيادة في الأجر ، أي له أجر مثل أجره وزيادة . و«حملة العلم» الظاهر أنّ المراد بهم الأئمّة عليهم السلام ، ويحتمل إرادة ما يشمل غيرهم ممّن تعلّم من علمهم وحمله . وفيه تنبيه على أنّه لا ينبغي تعلّم العلم إلاّ من حملته ولو بواسطة ، فإنّ علم غيرهم جهل .

.

ص: 243

مثلُ أجرِ المتعلّمِ ، وله الفضلُ عليه ، فتعلّموا العلمَ من حَمَلَةِ العلم ، وعلّموه إخوانَكم كما علّمكموه العلماءُ» .

عليّ بن إبراهيم ، عن أحمدَ بن محمّد البرقي ، عن عليّ بن الحَكمَ ، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال:سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول: «مَن عَلَّمَ خيرا فله مثلُ أجر من

وقوله عليه السلام : «وعلّموه إخوانكم كما علّمكموه العلماء» أي علّموه إخوانكم في الإيمان .

والتشبيه ، يحتمل وجهين :أحدهما : أنّكم علّموهم إيّاه على وجهه من غير زيادة ولانقصان مثل ما تعلّمتموه من حملته وما رخّص فيه من الزيادة والنقصان غير المخلّين لاينافيه . والثاني : أنّكم علّموهم مثل ما علّموكم ، فكما يجب عليكم التعلّم يجب التعليم . و«العلماء» الحملة ، ولعلّ في التعبير به إشارة إلى أنّهم هم الذين يسمّون بالعلماء ، وأنّهم المستحقّون لهذا الاسم ، لاغيرهم ممّن لم يكن علمه عنهم ، ومن كان علمه عنهم فتسميتهم بالعلماء من حيث تعلّمهم علمهم عليهم السلام . قوله عليه السلام في حديث أبي بصير : (مَن عَلَّمَ خيراً فله مثلُ أجرِ مَن عَمِلَ به ، قلتُ :

.

ص: 244

عَمِلَ به». قلت : فإنْ علَّمَه غيرَه يَجري ذلك له؟ قال : «إن علّمه النّاسَ كلّهم جَرى له» . قلت : فإن مات؟ قال : «وإن مات» .

فإن عَلَّمَه غيرَه يَجري ذلك له؟ قال : إنْ عَلَّمَهُ الناسَ كُلَّهم جرى له . قلت : فإن ماتَ؟ قال : وإنْ ماتَ) .

«الخير» يحتمل وجهين :أحدهما : أن يراد به العلم الذي فيه الخير ، فيكون احترازاً عن تعليم ما لا خير فيه ممّا يسمّيه الناس علماً إمّا مع كونه خالياً من الشرّ أيضاً ، وهو العلم الذي لا ينفع من عَلِمَه ولا يضرّ من جَهِلَه ، وإمّا مع كونه شرّاً كالعلوم التي تنتهي بصاحبها إلى الخروج عن سبيل العلوم الحقّة ، وتنفّر الخاطر منها ، وقد تنتهي به إلى زيغ العقيدة ؛ نسأل اللّه العفو والعافية . وفي قوله عليه السلام «فله مثل أجر من عمل به» تنبيهٌ على أنّ العالم بغير عمل لا أجر له ، بل عليه الوزر ، كما يدلّ عليه أحاديث متكثّرة . الثاني : أن يكون المراد به شيئاً من أعمال الخير أو ما يشمله . وقوله عليه السلام : «فإن علّمه غيره» يحتمل وجهين : أحدهما : أنّ ضمير «علّمه» المنصوبَ يرجع إلى الخير ، وكذا ضمير «علّمه» الثاني ، و«غيره» فاعل «علّمه» وضمير «غيره» يرجع إلى المعلِّم بالبناء للفاعل ، و«الناس» فاعل «علّمه» الثانى ، والمعنى : قلت : فإن علّم ذلك الخير أحد غير المعلِّم _ بالبناء للفاعل _ بأن كان التعليم من المعلَّم _ مبنيّاً للمفعول _ بلا واسطة أو بواسطة ، يجري ذلك الثواب للمعلّم الأوّل؟ قال : إن علّم ذلك الخير الذي أصله (1) من تعليمه الناس كلّهم يجري له مثل أجرهم . ووجه السؤال حينئذٍ أنّه تبادر إلى فهم السائل من قوله عليه السلام : «من علّم خيراً فله مثل أجر من عمل به» التعليم بغير واسطة ، مع أنّ الواسطة هو المعلّم ، فسأل عن ذلك الخير الذي علّمه ، أنّه لو علّمه المتعلّم هل يجري للمعلّم أم لا؟ الثاني : أن يكون «غيره» مفعولاً ثانياً لعلّمه ، وضميره للمتعلّم العامل ، والمنصوب في «علّمه» الراجع إلى الخير مفعوله الأوّل ، ومفعول «علّمه» الثاني الأوّلُ ضميره المنصوب ومفعوله الثاني «الناس» والمعنى : قلت : فإن علّم المتعلّم ذلك الخير أحداً غيره يجري ذلك له؟ قال : إن علّمه الناس كلّهم إلخ . وهذا على سبيل الفرض والتقدير بمعنى أنّه لو فرض تعليم ذلك المتعلّم جميع الناس ، جرى ذلك للمعلّم الأوّل . وإفراد الفرض في الوجه الأوّل من الناس أكثر ، فافهمه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ب» : «يواصله» .

ص: 245

وبهذا الإسناد ، عن محمّد بن عبدالحميد ، عن العلاء بن رزين ، عن أبي عبيدةَ الحَذَّاء ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«من عَلَّمَ بَابَ هُدًى فله مثلُ أجرِ من عَمِلَ به ، ولا يُنقَصُ اُولئك من اُجورهم شيئا ، ومَن عَلَّمَ بابَ ضَلالٍ كانَ عليه مثلُ أوزارِ من عَمِلَ به ، ولا يُنقَصُ اُولئك من أوزارهم شيئا» .

قوله عليه السلام في حديث أبي عبيدة الحذّاء : (مَن عَلَّمَ بابَ هدىً فله مثلُ أجرِ مَن عَمِلَ به ، ولا يُنقَصُ أُولئك من اُجورِهم شيئاً ، ومَن عَلَّمَ بابَ ضَلالٍ كانَ عليه مثلُ أوزارِ مَن عَمِلَ به ، ولا يُنقَصُ أُولئك من أوزارِهم شيئا) . «نقص» يستعمل لازماً ومتعدّياً إلى مفعول وإلى مفعولين ، وهو هنا من قبيل الثالث وهو مبنيّ للمفعول في الموضعين . فإن قلت : ما الفائدة في قوله عليه السلام : «ولا ينقص» في الموضعين ، فإنّ ماقبله يغني عن ذكره؟ قلت : يمكن أن يكون (1) فائدته من جهة أنّ باباً من الهدى أو باباً من الضلالة إذا كان للعامل به ثواب مقدّر أو عقاب كذلك كما لو قيل : فعلُ كذا أجره عشرة دراهم مثلاً ، ومن أعان فاعله كان له مثله ؛ فربما يوهم أنّ له مثله من ذلك المقدّر ، بمعنى أنّهما يشتركان فيه بالسويّة ، فربما توهّم هنا مثل ما توهّم في المثال ؛ فدفع عليه السلام ذلك الوهم بقوله : «ولا ينقص اُولئك من اُجورهم شيئاً» . ومثله تعليم باب الضلالة ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب» : «تكون» .

ص: 246

الحسين بن محمّد ، عن عليّ بن محمّد بن سَعْد ، رَفَعَه ، عن أبي حمزةَ ، عن عليّ بن الحسين عليه السلام ، قال :«لو يَعلمُ النّاسُ ما في طلب العلم لَطَلَبوه ولو بسَفْك المُهَجِ وخَوضِ

قوله عليه السلام في حديث أبي حمزة : (لو يَعلَمُ الناسُ ما في طلبِ العلمِ لَطَلَبوه ولو بسَفْكِ المُهَجِ وخَوْضِ اللُّجَجِ) . «المهج» جمع مهجة ، وهي الدم ، ويقال لدم القلب . و«لُجّة الماء» _ بالضمّ _ : معظمه ، وهما كنايتان عن بذل أنفَس ما يكون وأعزّه على صاحبه ، وركوب أشقّ ما يكون وأصعبه . والمعنى _ واللّه أعلم _ : لو علم الناس ما في طلب العلم من الفائدة والمنفعة وحصول السعادة الأبديّة ، لبذلوا في تحصيله أعزّ شيء عليهم ، ولو كان المبذول مهجهم ، أو تسبّبوا إلى تحصيله بذلك ، وسلكوا إليه أشقّ المسالك . ولا يخطر ببال عارف بمواقع الكلام أنّ مثل هذا يظهر منه أنّ بذل النفس وإلقاءها إلى التهلكة في مثله جائز ، فإنّه مجرّد بيان ما ذكر مع أنّ طلب العلم الذي تحصل (1) منه الفائدة يشترط كونه خاليا ممّا لا يجوز . وبالجملة ، فهذا ممّا لا يخطر ببال من يعتدّ به . ويحتمل أن يكون المراد : ولو بسفك المهج لو كان يمكن بذله ، وخوض اللجج لو كان يمكن خوضها ، كما يقول الناس : اُعطيك حقّك ولو من عينى ، ولا اُعطيك ولو صعدت إلى السماء . والمراد من مثله الفعل على تقدير إمكان هذا الأمرُ ، والحثّ على فعله أو تركه . ويحتمل وجهاً آخر ، وهو أنّ من تصوّر أمراً عظيماً وطلب تحصيله ، لا يلتفت في تحصيله إلى ما يحصل له من المشقّة حتّى لو كان في ذلك هلاكه ، فبشدّة تهالكه عليه لا يلتفت إلى ما ذكر. فلو علم الناس ما يترتّب على طلب العلم، لبذلوا مهجهم، ذاهلين عن كون بذلها ينبغي أولا ينبغي،ولخاضوا اللجج ذاهلين عن إمكان خوضها وعدمه . وحينئذٍ فالمعنى أنّ اللّه سبحانه أخفى عنهم كنه فائدة طلب العلم وإن ظهرت بوجه مّا ؛ لئلاّ يسلكوا ما لايليق سلوكه ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . في «ألف ، ب» : «يحصل» .

ص: 247

اللُّجَجِ ، إنَّ اللّه _ تبارك وتعالى _ أوحى إلى دانيال أنَّ أمقَتَ عبيدي إليَّ الجاهلُ المستخِفُّ بحقِّ أهل العلم ، التاركُ للاقتداء بهم ، وأنَّ أحَبَّ عبيدي إليَّ التقيُّ الطالبُ للثواب الجزيل ، اللازمُ للعلماء ، التابعُ للحلماء ، القابلُ عن الحكماء» .

قوله عليه السلام فيه : (إنّ اللّه َ _ تبارك وتعالى _ أوحى إلى دانيالَ أنّ أمْقَتَ عبيدي إليَّ الجاهلُ المستخِفُّ بحقّ أهلِ العلمِ ، التارِكُ للاقتداء بهم ، وأنّ أحَبَّ عبيدي إليَّ التَّقِيُّ الطالِبُ للثوابِ الجَزيلِ ، اللازمُ للعلماء ، التابعُ للحكماء ، القابلُ عن الحكماء) . هذا بيان منه عليه السلام لما هو أعظم فوائد العلم وما يترتّب على تركه ، فإنّ مقت اللّه سبحانه ، المترتّبَ على تركه وحبّه تعالى لمن فيه الصفات المذكورة أمرٌ يسهل عنده بذل المهج وخوض اللجج . و«الحكمة» تقدّم تفسيرها بأنّها طاعة اللّه ومعرفة الإمام عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى : «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ» (1) ؛ وبأنّها الفهم والعقل عن الكاظم عليه السلام في قوله تعالى : «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَ_انَ الْحِكْمَةَ» (2) . وفي القاموس : الحكمة _ بالكسر _ العدل ، والعلم ، والحلم ، والنبوّة ، والقرآن ، والإنجيل . (3) وفي الصحاح : الحكم أيضا الحكمة من العلم (4) ؛ والحكيم : العالم ، وصاحب الحكمة : المتقن للأُمور (5) . وفي المغرّب : والحكمة ما يمنع من الجهل ، وقيل : كلّ كلام وافق الحقّ (6) . وهذه ترجع إلى قولهما عليهماالسلام ، وهو العمدة . وتقديم الجاهل على المستخفّ لترتّب الاستخفاف على الجهل وترك الاقتداء مترتّب على الأمرين . وفي تقديم «التقيّ» تنبيهٌ على أنّ من أرادَ ملازمة العلماء لينتفع بعلمهم ، ومتابعة الحكماء ليقبل عنهم ، ينبغى أن يتزوّد التقوى أوّلاً ويتّخذها مركباً وعدةً لتوجّهه إليهم ، وذخيرةً وزاداً في ملازمته لهم وغيرها ، وإلاّ فالملازمة والمتابعة والقبول _ بمعنى الأخذ عنهم _ لا تفيد شيئاً مع عدم التقوى . ولعلّ في ذكر الحكماء بعد العلماء تنبيها على أنّه لا يكفي ملازمة من يسمّى عالماً ؛ بل إذا لازَمَ العالم لا يتّبعه إلاّ إذا كان حكيماً مطيعا للّه ، عاملاً بعلمه ، فإذا كان كذلك قبل عنه ، إن لم يكن بينهما مغايرة في الجملة . وتكرير الحكماء بالاسم الظاهر دون المضمر لئلاّ يتوهّم أنّ القبول عن العلماء والحكماء معاً ، مع أنّ العلماء غير الحكماء لا ينبغي القبول عنهم . والاتّحاد في العلماء والحكماء والتقارب محتملان . وإرادة الأنبياء والأوصياء من العلماء والحكماء كأنّها أظهر . ومعناه حينئذٍ ملازمتهم للعلم ومتابعتهم والقبول عنهم للحكمة ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 185 ، باب معرفة الإمام والردّ إليه ، ح 11 . والآية في سورة البقرة (2) : 269 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 15 ، كتاب العقل والجهل ، ضمن ح 12 . والآية في سورة لقمان (31) : 12 .
3- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 98 (حكم) .
4- . في «د» : «من العلم» بدل «والعلم» .
5- . الصحاح ، ج 5 ، ص 1901 (حكم) .
6- . المغرّب ، ص 124 (حكم) .

ص: 248

. .

ص: 249

باب صفة العلماء

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن سليمانَ بن داود المِنْقَريّ ، عن حفص بن غياث ، قال :قال لي أبو عبداللّه عليه السلام : «مَن تَعَلَّمَ العلمَ ، وعَمِلَ به ، وعَلَّمَ للّه ، دُعِيَ في ملكوت السماوات عظيما ، فقيل : تَعَلَّمَ للّه ، وَعَمِلَ للّه ، وعَلَّمَ للّه » .

باب صفة العلماءمحمّد بن يحيى العطّار ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب عن معاويةَ بن وَهْب ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«اطلبوا العلمَ ، وتَزيّنوا معه بالحلم والوَقار ، وتواضَعوا لمن تُعلِّمونه العلمَ ، وتَواضَعوا لمن طلبتم منه العلمَ ، ولا تكونوا علماءَ جبّارين فيَذْهَبَ باطلُكُم بحقِّكُمْ» .

قوله عليه السلام في حديث حفص بن غياث : (مَن تَعَلَّمَ العلمَ وعَمِلَ به وعَلَّمَ للّه دُعِيَ في ملكوتِ السماواتِ عظيماً ، فقيل : تَعَلَّمَ للّه ، وعَمِلَ للّه ، وعَلَّمَ للّه ) . قوله عليه السلام : «للّه » قيدٌ للثلاثة ، و«دعي في ملكوت السماوات عظيماً» أي ذكر ذكراً عظيما ، أو وصف وصفاً عظيما ونحو ذلك . ويحتمل أن يكون المعنى : سمّي بهذا الاسم ، فيقال : فلان عظيمٌ ؛ فإنّه تعلّم للّه وعمل للّه وعلّم للّه . وعلى الأوّلين يكون هذا القول هو العظيم ، فإنّ وصف تعلّمه وعمله وتعليمه بكونها للّه وصف عظيم ؛ واللّه أعلم .

باب صفة العلماءقوله عليه السلام في حديث معاوية بن وهب : (ولا تَكُونوا علماءَ جَبّارينَ فيَذْهَبَ باطلُكُم بحقّكم) . أي يكون الباطل الذي هو التجبّر مذهبا لثمرة علمكم عنكم وإبقاء محض الاسم عليكم ، فإنّكم لا تستحقّون ثمرة العلم إلاّ بترك التجبّر . ويحتمل أن يراد بالباطل التجبّر وغيره ممّا قد لا يكون فعله مذهباً للحقّ وثوابه ، ولكن وجود التجبّر سبب لذهاب الباطل بالحقّ . ومعنى ذهاب الباطل بالحقّ أنّه يأخذه معه عنهم فيكون ذاهباً به ، وقد يكون بمعنى إذهابه ، فلا يحتاج إلى أن يكون الباطل ذاهباً أيضاً . وهذا الذي حقّقه بعض النحاة من أنّ ذَهَبَ به بمعنى أذهبه لقوله تعالى : «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» (1) . وفرّق بعضهم بينهما بأنّ ذَهَبَ به يقتضي ذهابه معه (2) . والوجه الأوّل مبنيّ على هذا . ويمكن أن يقال : إنّه يأتي بمعنى أذهبه ، ومنه الآية وذهب معه ومنه غيرها ممّا يناسبه ؛ واللّه أعلم . ويحتمل أن يكون الباء للمصاحبة ، والمعنى يذهب باطلكم مصاحباً لحقّكم . وفيه تأمّل . وقد يقال : إنّه يدلّ على الإحباط . ويمكن الجواب بأنّ معناه أنّه بسبب التكبّر الذي هو الباطل لا يكتب للعالم ثوابٌ ، لا أنّه يحبط به العمل .

.


1- . البقرة (2) : 17 .
2- . انظر : مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 623 ؛ شرح ابن عقيل ، ج 2 ، ص 22 .

ص: 250

عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن حمّاد بن عثمان ، عن الحارث بن المغيرة النصريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه عزَّ وجلَّ : « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَ_اؤُاْ » قال : «يعني بالعلماء من صَدَّقَ فعلُه قولَه ، ومن لم يُصَدِّقْ فعلُه قولَه فليس بعالم» .

قوله عليه السلام في حديث الحارث بن المغيرة : (يَعني بالعلماءِ مَن صَدَّقَ فِعلهُ قولَه ، ومن لم يُصَدِّقْ فعلُه قولَه فليس بعالمٍ) . الظاهر أنّه ليس المراد من تصديق الفعل للقول وعدم تصديقه الصدقَ والكذب فقط ، بل يشمل (1) ما إذا أمر بشيء أو نهى عنه أو ذكر موعظة ونحو ذلك ممّا يقتضيه العلم والعمل ، فإن فعَل به مع القول كان عالماً ، وإلاّ فهو ليس ممّن يستحقّ التسمية بالعالم ، فإنّه لا يسمّى به إلاّ من كان محصّلاً لمعناه ؛ أو أنّه ليس بعالم ينتفع بعلمه ، كما يقال : فلانٌ ليس بعاقل : إذا لم يعمل بمقتضى عقله ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ج ، د» : «ما يشمل» .

ص: 251

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن إسماعيل بن مِهرانَ ، عن أبي سعيد القمّاط، عن الحلبيّ، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:«قال أميرالمؤمنين عليه السلام : ألا اُخبِرُكم بالفقيه حقّ الفقيه؟ من لم يُقَنِّطِ الناسَ من رحمة اللّه ، ولم يُؤمِنْهم من عذاب اللّه ، ولم يُرخّصْ لهم في معاصي اللّه ، ولم يَتركِ القرآنَ رغبةً عنه إلى غيره ، ألا لا خيرَ في علم ليس فيه تَفَهُّمٌ ، ألا لا خيرَ في قراءةٍ ليس فيها تدبُّرٌ ، ألا لا خيرَ في عبادةٍ ليس فيها تَفكُّرٌ» .

قوله عليه السلام في حديث الحلبي : (ألا اُخْبِرُكُم بالفقيهِ حَقِّ الفقيهِ) . «حقّ» صفة للفقيه الذي قبلها ، ويحتمل البدل ، وقد كان في الأصل صفة للفقيه الذي بعدها والأصل : «بالفقيه الفقيه الحقّ» من باب رجل عدل ، فيكون حينئذٍ بدلاً أو عطف بيان . والظاهر عدم اشتراط المطابقة في مثل هذه الإضافة بين الصفة والموصوف في الاُمور المشهورة فيهما مع عدم الإضافة . ويحتمل «حقّ» القطع والنصب بتقدير «أعني» ونحوه ، أو الرفع بتقدير «هو» . قوله عليه السلام فيه : (ولم يَتْرُكِ القرآنَ رغبةً عنه إلى غيره) . قيد الترك بالرغبة عنه إلى غيره للاحتراز عمّا لو ترك لمانع وعذر . والمعنى : أنّ الفقيه لا يترك القرآن لأجل الرغبةً عنه ، أي الزهد فيه وعدم الاعتناء به منتهياً في الرغبة أو مائلاً إلى غيره بحيث يكون راغباً فيه دونه . وذكر «إلى غيره» للتوضيح وبيان أنّ الغير قد يكون فعلاً وقد يكون تركاً ونحوهما ، والكلّ غير الاشتغال بالقرآن . وترك القرآن يحتمل أن يكون المراد به ترك العمل بأحكام القرآن رغبةً عنه إلى العمل بغيره من الهوى والرأي والاستحسان . ويحتمل أن يكون المراد ترك تلاوته للرغبة عنه إلى غيره ممّا لا ينبغي تركه لأجله ، فإذا ترك شيئاً من أحكامه أو غيرها ولم يكن عالماً به ، لم يكن خارجاً عن صفة الفقيه مع عدم التقصيرُ أو ترك تلاوته لعذر كان كذلك . ويحتمل أن يراد بترك القرآن ترك تعلّمه لأجل الرغبة في غيره ، فلو كان لعذر (1) لم يكن كذلك . لكنّه بعيد من الفقيه . ويحتمل أن يكون فائدة قوله عليه السلام : «إلى غيره» الاحتراز عمّا لو ترك القرآن لا رغبةً عنه إلى غيره ، بل لاحتياجه إلى الغير ورغبته (2) فيه لذلك . والرغبة في الغير أعمّ من الرغبة عن القرآن . ولعلّ هذا أوجه وأنسب ، وهو ينطبق على ترك التلاوة في الجملة لشغل بغيرها يجب عليه الاشتغال به أو يجوز الرغبة فيه ، وعلى ترك الأحكام التي لا يمكنه تحصيلها ، وقد ينطبق على ترك التعلّم . وفيه مامرّ ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «د» : «العذر» .
2- . في «ألف ، ب ، ج » : «رغبة» .

ص: 252

وفي رواية اُخرى : «ألا لا خيرَ في علمٍ ليس فيه تَفهُّمٌ ، ألا لا خيرَ في قراءة ليس فيها

قوله عليه السلام فيه : (ألا لاخَيْرَ في علمٍ ليس فيه تَفَهُّمٌ ، ألا لاخيرَ في قراءةٍ ليس فيها تَدَبُّرٌ ، ألا لاخيرَ في عبادةٍ ليس فيها تَفَكُّرٌ) . ليس المراد من التفهّم مجرّد التوجّه إلى فهم معاني المسائل ، بل العمل بما يقتضيه العلم ، فإنّ من يعلم ويفهم إذا لم يعمل بما يعلمه ويفهمه لا يستحقّ الوصف بالعلم والفهم ، وكذا التدبّر والتفكّر ، فإنّ ثمرتهما العمل بما يؤدّيان إليه ، لا مجرّد الخطور (1) في الفكر ؛ قال تعالى : «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ» (2) و «لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَ_اتِهِ» (3) . وقد لا يحتاج التدبّر إلى تقييد كالتفكّر والتفهّم . وفي الإتيان بهذه الصيغ دون الفهم والفكر إشعارٌ بما تقدّم . والمراد _ واللّه أعلم _ من التفكّر في العبادة إحضارُ معاني الأقوال والأفعال في فكره عند كلّ واحد منها (4) ، ورسالة جدّى المبرور الشهيد الثاني _ قدّس سرّه _ في أسرار الصلاة وافية بهذه المعاني (5) .

.


1- . في «ج» : «الحضور» .
2- . النساء (4) : 82 ؛ محمّد (47) : 24 .
3- . ص (38) : 29 .
4- . في «ألف» : «منهما» .
5- . رسائل شهيد ثانى ، كتاب أسرار الصلاة ، ص 120 .

ص: 253

تَدَبُّرٌ ، ألا لا خيرَ في عبادةٍ لا فِقْهَ فيها ، ألا لا خيرَ في نُسُكٍ لا وَرَعَ فيه» .

قوله عليه السلام : (ألا لاخيرَ في عبادةٍ لا فِقْهَ فيها ، ألا لاخيرَ في نُسُكٍ لا وَرَعَ فيه) . عن القاموس : النُّسُك _ مثلّثة وبضمّتين _ : العبادة ، وقد نَسَكَ ، كَنَصَر وكَرُمَ (1) ؛ والوَرَع _ محرّكة _ التقوى ، ووَرِعَ كوَرِثَ : كفّ (2) . فالمعنى : لاخير في عبادة لا تقوى فيها ولا كفّ عمّا ينبغي الكفّ عنه ، كما لاخير في عبادة لا فِقْه فيها . ويحتمل أن يكون المراد بالنسك عبادة خاصّة أو صفة فيها للمغايرة ظاهراً . وعلى الأوّل ذكر النسك لعدم تكرار اللفظ ؛ واللّه أعلم .

.


1- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 321 (نسك) .
2- . القاموس المحيط : ج 3 ، ص 96 (ورع) .

ص: 254

محمّدُ بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ؛ ومحمّدُ بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان النيسابوريّ جميعا ، عن صفوانَ بن يحيى ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال :«إنَّ من علامات الفقه الحلمَ والصمتَ» .

أحمد بن عبداللّه ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن بعض أصحابه ، رَفَعَه ، قال :قال أميرالمؤمنين عليه السلام : «لا يكونُ السَّفَهُ والغِرَّةُ في قلب العالم» .

قوله عليه السلام في حديث صفوان : (إنّ مِن عِلاماتِ الفقه (1) الحلمَ والصمتَ) . «الفقه» هنا يحتمل معنيين : أحدهما : فقه الأشياء وفهمها ، فإنّ الإنسان إذا كان حليماً لم يمنعه غضبه وطيشه عن التعلّم والتفقّه ، وإذا كان غير حليم كان ذلك مانعاً له عنهما . والصمت من الإنسان يدلّ أيضاً على فقهه (2) الأشياء ، فإنّ الذي يفقه لا يتكلّم إلاّ بما تدعو الحاجة إليه ، بخلاف من قصده الجدال ونحوه ، فإنّه يكثره ليظفر بما يريده من المنازعة . والثاني : أن يكون المعنى : من علامات كون الإنسان فقيهاً قد حصل الفقه على وجهه أن يكون حليماً ؛ لأنّ الحلم لازم للفقيه حقّ الفقيه ، وكذا الصمت ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث البرقي : (لا يكونُ السَّفَه والغِرَّةُ في قلب العالِم) . «السفه» ضدّ الحلم ، وأصله الخفّة والحركة . عن الصحاح وعن القاموس : السَّفَه _ محرّكة _ : خفّة الحلم أو نقيضه ، أو الجهل . (3) و«الغرّة» : الخديعة والغفلة . (4) فالمعنى أنّه لا يكون خادعاً لغيره ولا غارّاً له ، فإنّ العالم الذي يسمّى عالماً لا يشتمل على مثل هذين من النقائص . وأمّا الغرّة بمعنى الغفلة فيمكن إرادتها ، بمعنى أنّه لا يكون غافلاً عمّا يتعلّق بدينه . وأمّا كونه لا يغرّ فيمكن إرادته بما ذكر في معنى الغفلة ، لا مطلقا ، فإنّ المؤمن غِرٌّ كريم ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في الكافي المطبوع وبعض نسخه : «الفقيه» .
2- . في «د» : «فقه» .
3- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2234 ؛ القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 285 (سفه) .
4- . الصحاح ، ج 2 ، ص 768 ؛ القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 101 ، (غرر) .

ص: 255

وبهذا الإسناد ، عن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن سنان ، رفعه ، قال :قال عيسى ابن مريم عليه السلام : «يا معشر الحواريّين ، لي إليكم حاجةٌ اقضوها لي» ، قالوا : قُضِيَتْ حاجتُك يا روح اللّه ، فقام فغَسَلَ أقدامَهم ، فقالوا : كُنّا نحن أحقَّ بهذا يا روح اللّه ، فقال : «إنَّ أحقَّ النّاس بالخدمة العالمُ ، إنّما تواضَعْتُ هكذا لكيما تَتَواضَعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم» ثمَّ قال عيسى عليه السلام : «بالتواضع تُعمر الحكمةُ لا بالتكبّر ، وكذلك في السَّهْل يَنْبُتُ الزرْعُ ، لا في الجَبَل» .

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عليّ بن معبد ، عمّن ذكره ، عن مُعاويةَ بن وَهْب ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«كان أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : يا طالب العلم ، إنَّ للعالم ثلاثَ

قوله عليه السلام في حديث محمّد بن سنان : (بالتواضع تُعْمَرُ الحكمةُ لا بِالتكبُّرِ ، وكذلك في السَّهْلِ يَنْبُتُ الزرعُ لا في الجَبَلِ) . لاشبهة في أنّ العالم إذا كان متواضعاً ، أقبلت عليه القلوب ولم تتنفّر منه ، وإذا كان متكبّراً نفرتْ منه ، وميل الناس إليه وتعلّمهم منه سبب لعمارة الحكمة وقيام نظامها ، وتنفّرهم سبب لهدم بُنيانها ، فتكبّر (1) العالم يلحقه مع ما يلزم التكبّر من الإثم ، إثم هَدْم بناء الحكمة ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث معاوية بن وَهْب : (يا طالبَ العلمِ ، إنّ للعالمِ ثَلاثَ عَلاماتٍ : العلمَ والحلمَ والصمتَ ، وللمُتكلِّفِ ثلاثَ علاماتٍ : يُنازِعُ مَن فوقَه بالمعصية ، ويَظلِمُ مَن دونَه بالغَلَبَة ، ويُظاهِرُ الظَّلَمَةَ) . قوله عليه السلام : «يا طالب العلم» يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون نداء لمن يريد تحصيل العلم ، فنبّهه عليه السلام بأنّ للعالم ثلاث علامات ، فإذا رأيتهنّ في عالم فاطلب منه العلم وحَصِّلْه . وهذا أيضاً يفيده أنّه ينبغي أن يكون هكذا ليكون عالماً . إحداها : العلم الذي يسمّى علماً حقيقةً ؛ فلا عبرة بما قد يسمّى علماً وهو محض القشر من دون لبّ يُنتفع به . الثانية : الحلم الذي هو لازم للعلم المذكور ، فإنّه من جملة العمل بالعلم ، بل هو من العمدة في العمل ؛ لما يترتّب على عدم الأناة والرفق من المفاسد التي تخرج العالم عن كونه عالماً . وإن اُريد بالعلم ما يدخل تحته الحلم والصمت ، يكون ذكراً لهما صريحاً بعد ذكرهما ضمناً ؛ وإن اُريد العلم مع قطع النظر عن اللوازم فالأمر واضح . ولعلّ هذا أظهر . والثالثة : الصمت فيما ينبغي الصمت عنده ، فإنّ فيه راحة العقل ، وهو علامة الفهم للأشياء ، وفي النطق راحة اللسان كما ورد في الحديث . (2) وهما متضادّ ان ، ولا شبهة في أنّ ملاحظة العقل وراحته ممّا يقود صاحبه إلى أنواع الخير ودفع الضرر ، ومجرّد ملاحظة راحة اللسان قد يترتّب عليها مفاسد لاتحصى ، فربّ كلمة جلبت حتفاً وضرراً دنيويّاً واُخرويّاً ؛ ولهذا قيل : «لسانُ العاقل وراء قلبه ، وقلبُ الجاهل وراء لسانه» . (3)

.


1- . في «ألف ، ب ، ج » : «فبتكبّر» .
2- . ورد في الحديث عن الصادق عليه السلام : «النطق راحة للروح ، والسكوت راحة للعقل» . راجع : الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ح 5865 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 441 ، المجلس 68 ، ح 1. وفي وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 186 ، ح 16037 ، وبحارالأنوار ، ج 68 ، ص 276 ، باب السكوت والكلام... ، ح 6 عن الأمالي .
3- . نهج البلاغة ، ص 476 ، الحكمة 40. وفيه : «الأحمق» بدل «الجاهل» .

ص: 256

. .

ص: 257

علاماتٍ : العلمَ والحلمَ والصمتَ ، وللمتكلّف ثلاثَ علاماتٍ : يُنازِعُ مَن فوقَه بالمعصية ، ويَظلِمُ مَن دونَه بالغَلَبَة ، ويُظاهِرُ الظَّلَمَةَ» .

ولا يخفى أنّ المراد بالصمت الصمت في المحلّ الذي يقتضي الشرع والعقل أن يصمت عنده؛ بقرينة المقام، وتتمّة الحديث، ودلالة العقل. وهذا لاينافي كون الناطق أشرف من الصامت مع قطع النظر عمّا يلزم كلاًّ منهما من المحاسن والمساوي . الوجه الثاني : أن يكون نداء للعالم بحسب الظاهر ، فإنّه يسمّى بطالب العلم إمّا توبيخاً لمن لم تكن فيه هذه العلامات ، وإمّا تنبيهاً له على أنّه ينبغي أن يكون فيه وأن لا يكون خالياً منها . وعلى التقديرين أتى عليه السلام بصيغة نداء البعيد للتنبيه على أنّ من لم تكن فيه هذه العلامات لا يكون عالماً وأنّه بعيد عنه . وأتى عليه السلام بالعالم ثانياً لأنّ من كانت فيه كانَ عالما ، ومن لم تكن فيه وكان موبخا (1) أو قصَد تنبيهه ، كانت تسميته بطالب العلم هي المناسبة لحاله ، فإنّه مع عدم هذه العلامات _ إمّا بتركها أو الغفلة عنها _ لم يصل إلى مرتبة استحقاق التسمية بالعالم ؛ واللّه أعلم . وقوله عليه السلام : «وللمتكلّف ...» أي لمن يريد أن يدخل نفسه في زمرة العلماء وليس منهم إمّا لعدم تحصيله أصل العلم ، أو لتضييع ثمرته وهي العمل . وهذا له ثلاث علامات : إحداها : أنّه ينازع من فوقه من العلماء بما فيه معصية اللّه ، ومعصيته ذلك العالم بأن لا يطيعه مع وجوب طاعته عليه حُبّاً للرئاسة وعدم الانقياد ، وإظهاراً لأنّه ليس دونه حسدا وبغياً .

.


1- . موبخا ، أي ملوما. راجع : لسان العرب ، ج 3 ، ص 65 (وبخ) .

ص: 258

باب حقّ العالم

باب حقّ العالمعليّ بن محمّد بن عبداللّه ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن محمّد بن خالد ، عن سليمان بن جعفر الجعفريّ ، عمّن ذَكَرَهُ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«كان أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : إنَّ مِن حقّ العالم أن لا تُكثرَ عليه السؤالَ ، ولا تَأخُذَ بثوبه ، وإذا دَخَلْتَ عليه وعندَه قومٌ فسَلِّمْ

الثانية : أنّه يظلم من هو دونه ، إمّا في العلم الرسمي ، أو في الجاه والاعتبار ، أو فيهما إظهاراً لتسلّطه وغلبته عليه ، وميلاً إلى أن لا يترقّى فيكون له حالة لا يريدها له ، والظلم من شيم النفوس إن لم يكن منها لها زاجراً . الثالثة : مَن هذه حاله يكون معاوناً للظلمة ؛ لميله إلى الظلم وعدم ورع يحجزه ، وللطمع فيما عندهم ، وحبّ المال والجاه ، وغير ذلك ممّا يكون سبباً إلى الالتجاء (1) إلى أهل الظلم ومعاونتهم ، فهو شريكهم في الظلم ، بل حظّه من الظلم أوفى ؛ لإظهاره في لباس غيره . وهذا شأن من يتّخذ العلم سُلَّما يعرج فيه إلى منازل الظلمة التي علوّها انخفاض . وقد يخيّل مثل هذا على أهل العقول الضعيفة أنّه ربما يسعف بمعاونتهم مظلوماً أو يقوى ضعيفاً ، وما هو إلاّ مكرٌ وخديعةٌ ؛ نسأل اللّه التوفيق لما يحبّه ويرضاه . وعن القاموس : المتكلّف : العريض لما لايعنيه . (2)

باب حقّ العالمقوله عليه السلام في حديث سليمان بن جعفر الجعفري : (إنّ مِن حَقِّ العالِمِ أنْ لا تُكْثِرَ عليه السؤالَ ، ولا تَأخُذَ بثوبه (3) ...) . أمّا كثرة السؤال فقد تورث الملل والسامة ، وأمّا الأخذ بالثوب وهو التشبّث به كما يفعله أهل الإلحاح بمن يطلبون منه حاجة ، فإنّه من سوء الأدب ، والأدب مع الاُستاد مطلوبٌ .

.


1- . في «ب» : «للالتجاء» بدل «إلى الالتجاء» .
2- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 192 (كلف) .
3- . في حاشية «د» : في إرشاد المفيد : ولا تأخذ بثوبه إذا نهض [ الإرشاد ، ج 1 ، ص 230 ، وفيه : لا يؤخذ بثوبه إذا نهض ] . (منه) .

ص: 259

باب فقد العلماء

عليهم جميعا ، وخُصَّهُ بالتحيّة دونَهم ، وَاجْلِسْ بين يديه ، ولا تَجْلِسْ خلفَه ، ولا تَغْمِزْ بعينك ، ولا تُشِرْ بيدك ، ولا تُكْثِرْ من القول : قال فلانٌ وقال فلانٌ ، خلافا لقوله ، ولا تَضْجَرْ بطول صحبته ، فإنّما مَثَلُ العالم مَثَلُ النَّخْلَةِ تَنتظرُها حتّى يَسقُطَ عليك منها شيء ، والعالمُ أعظمُ أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه » .

باب فقد العلماءعدَّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن

وقوله عليه السلام : (واجْلِسْ بين يديه ، ولا تَجْلِسْ خَلفَه) . وجهه ظاهرٌ ، فإنّ الجلوس خلفه ينافي التأدّب المطلوب مع الاُستاد ، وهو الجلوس بين يديه على الهيئة المعتبرة ، وقد يحوج الاُستاد إلى الالتفات إليه إذا سأله ، وفي ذلك مشقّة عليه تنافي التأدّب معه ، وإن لم يلتفت كانَ منافياً لما ينبغي من المعلّم من الرفق بالمتعلّم ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (والعالِمُ أعظمُ أجراً من الصائم القائم ، الغازي في سبيل اللّه ) . لعلّ وجهه أنّ من فيه هذه الصفات كانَ نفعه مقصوراً على نفسه ، وربما دَخَلَ عليه بسبب عدم العلم ما يفسدها أو يقلّ ثوابها بسببه ، كما تقدّم في حديث العابد . والعالم نفعه لنفسه ولغيره عامٌّ وخالصٌ من الوجوه المفسدة ، فإنّ المراد به العالم الذي يعمل بعلمه ، وغيره علمه كسراب بقيعة وكخضراء الدَمَن ؛ واللّه أعلم .

باب فقد العلماءقوله عليه السلام في حديث سليمان بن خالد : (ما مِن أحَدٍ يَموتُ من المؤمنينَ أحَبَّ إلى

.

ص: 260

أبي أيّوب الخزّاز ، عن سليمانَ بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما مِن أحدٍ يموتُ من المؤمنينَ أحَبَّ إلى إبليسَ من موت فقيه» .

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا ماتَ المؤمنُ الفقيهُ ثُلِمَ في الإسلام ثُلمةٌ لا يَسُدُّها شيءٌ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن أبي حمزةَ ، قال :سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول : «إذا ماتَ المؤمنُ بَكَتْ عليه الملائكةُ وبقاعُ الأرض التي كانَ يَعبد اللّه َ عليها ، وأبوابُ السماء التي كانَ يُصعَدُ فيها بأعماله ، وثُلِمَ في الإسلام ثُلمَةٌ لا يَسدُّها شيء ؛ لأنَّ المؤمنين الفقهاءَ حصونُ الإسلام كحِصْن سُورِ المدينة لها» .

وعنه ، عن أحمدَ ، عن ابن محبوب ، عن أبي أيّوب الخزّاز ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما من أحدٍ يَموتُ من المؤمنين أحَبَّ إلى إبليسَ من مَوْت فقيه» .

إبليسَ من مَوْتِ فَقيهٍ) . لأنّ الفقيه حقّ الفقيه كلّ ما يفعله ناقض لغرض إبليس لعنه اللّه ، ومن أطاعه فليس بفقيه . وإذا مات الفقيه فإن كان واحداً اشتدّت شوكته ، وإن تعدّد سُرَّ بنقص عدوّه ورجاء قوّة التسلّط على مَن يريد ؛ وذلك بخلاف غير الفقيه ، فإنّه يحزن لموته من حيث إنّه مسلّط عليه ومن جملة جنوده الذين سخّرهم للانقياد إليه ، أو هو طامع في تسخيرهم . قوله عليه السلام في حديث ابن أبي عمير : (إذا ماتَ المؤمنُ الفقيهُ ثَلُمَ في الإسلام ثُلمَةٌ لا يَسُدُّها شَيْءٌ (1) ) .

يحتمل وجهين :أحدهما : أنّه لا يسدّها شيء ولو كان عالماً آخر ؛ لما يأتي في الحديث الذي بعده من قوله عليه السلام : «لأنّ المؤمنين الفقهاءَ حصونُ الإسلام» فإنّه كلّما وجد عالم كان حصناً مستقلاًّ ، والثلمة التي حصلت بموت الفقيه تبقى على حالها . وحاصله : أنّ كلّ فقيه فهو بناء وقوّة للإسلام غير البناء الذي انثلم . الثاني : أن يكون المراد أنّه لا يسدّها شيء غير الفقيه ؛ لأنّ تشييده للإسلام وتقويته لا يحصلان من غيره ، فإنّه الذي يتمّ به النظام الشرعي ؛ فبه يتمّ أمر العبادات والمعاملات وغيرهما وينتظم على الوجه المعتبر ، فالكلّ راجع إليه ، وهو الأساس . وذكر المؤمن قبل الفقيه للاحتراز عمّن يسمّى فقيهاً من فقهاء الإسلام الظاهري ؛ واللّه أعلم . والثُّلمة _ بالضمّ _ فرجة المكسور والمهدوم ، أو الخلل ؛ كما في القاموس والصحاح . (2)

.


1- . في حاشية «د» : «في إرشاد المفيد : لا يسدّها إلاّ خَلَفٌ منه [ الإرشاد ، ج 1 ، ص 230 ] . (منه) .
2- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 85 ؛ الصحاح ، ج 5 ، ص 1881 (ثلم) .

ص: 261

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن عليّ بن أسباط ، عن عمّه يعقوبَ بن سالم ، عن داود بن فَرْقَدٍ ، قال :قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ أبي كان يقول : إنَّ اللّه _ عزَّ وجلَّ _ لا يَقْبِضُ العلمَ بعد ما يُهبِطُهُ ، ولكن يموتُ العالمُ فيَذْهَبُ بما يَعلَمُ ، فَتَلِيهِمُ الجُفاة ، فيَضِلّونَ ويُضِلّونَ ، ولا خيرَ في شيء ليس له أصل» .

قوله عليه السلام في حديث داود بن فرقد : (إنّ اللّه َ عزّ وجلّ لا يَقْبِضُ العلمَ بعد ما يُهْبِطُه ، ولكن يَموتُ العالمُ فيَذْهَبُ بما يَعلَمُ ، فتَلِيهِمُ الجُفاةُ ، فَيَضِلّونَ ويُضِلّونَ ، ولا خير في شيء ليس له أصلٌ) .

في هذ الحديث فوائد :الأولى : أنّ اللّه سبحانه أهبط العلم على أهله وهم الأنبياء ، وقد وصل منهم ، إلى الأوصياء لأجل مصلحة عباده وانتظام تكليفهم المطلوب منهم ، ليتعلّموه منهم ويعلّموا به وينقادوا إليهم ، كما اُمروا . وذلك لطف منه سبحانه بهم ، ولا يليق بجنابه الكريم أن يقبض عنهم العلم ويمنعهم اللطف ، بل إن ضيّعوه كان ذلك من سوء صنيعهم واختيارهم ، ويقبح من آحاد أهل الكرم المجازي الرجوعُ فيما جادَ به ، فما ظنّك بالكريم الحقيقي المطلق الذي من جوده يجود الجواد ، ومن كرمه يتكرّم الكريم . الثانية _ وهي مترتّبة على الاُولى _ أنّه إذا مات العالم ولم يأخذ الناس عنه العلم ، ذَهَبَ معه علمه ، وهو كناية عن عدم وجوده إذا لم يأخذوا عنه العلم ، فإذا أخذوا عنه وتعلّموه ، لم يذهب العلم الذي يحتاج إليه بذهابه ، بل ذهب وأبقى عندهم العلم المحتاج إليه ، وإذا ذهب العلم بذهابه ، تصدّى له من لا عِلْمَ له ، فضَلَّ عن سبيل الهدى ، وارتكب طريق الغواية والعمى ، ولَفَّقَ حشواً من رأيه يُجيب به مَن سَألَه لئلاّ ينسب إلى الجهل ؛ فضَلَّ في نفسه وأضَلَّ غيره ؛ فهذا هو الجافي القاطع لصلة الرحم الإسلاميّة ، وسمّى نفسه مجتهداً يرجع إليه ونحوه . ولا تظنّنّ بعلماء أهل الحقّ شيئا من هذا ، فإنّهم لا يقولون بشيء إلاّ أن يكون أصله مأخوذاً من كلامه تعالى أو من قول معصوم ، واختلافهم لاختلاف ما وَصَلَ إليهم بحسب الظاهر وتفاوت أفهامهم . ولا حرج في تسمية ما أدّى إليه سعيهم اجتهاداً ، بل الاجتهاد الذي لا أصل له إلاّ الرأي والقياس والاستحسان واتّباع الهوى ، هو الممنوع منه والمذموم في الأحاديث . وقد صرّح جمع من علمائنا _ رضوان اللّه عليهم _ بنحو هذا ، وسيأتي إن شاءاللّه طرفٌ منه ، ومع ذلك فقد يقع الخطأ ؛ لأنّهم غير معصومين . وكثيراً مّا ينبّه على مثله جدّي المرحوم السعيد الشهيد الثاني ، وجدّي المحقّق الشيخ حسن _ طاب ثراهما _ وغيرهما ، ومثل هذا كان من المتقدّمين ، لكنّه قليل ، والخلاف واقع بينهم ، وبسبب كثرة الأحاديث لديهم وقرب عهدهم قَلَّتْ فروعهم وفروع كثيرة ترجع إلى قاعدة أو أصل معتمد أيّحرج فيه؟ وقد تقدّم نحو هذا ، وتكراره لتكرار التشنيع عليهم في مثل هذه المقامات من الجاهل بحالهم وحال علمهم ؛ واللّه تعالى أعلم . الثالث : نبّه بقوله عليه السلام : «ولا خير في شيء ليس له أصل» على أنّ علم الجفاة الذين صاروا ولاةً لهم _ أي للناس الذين يرجع إليهم ضمير «تليهم» المدلول عليهم بالمقام ، كما في قوله تعالى : «حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ» (1) يرجعون إليهم من غير أن يكون عندهم أصل علم مأخوذ عن أهل العلم _ لاخير فيه ، فلا ينبغي متابعتهم فيه ، بل كلّه شرّ . فإن قلت : ما وجه التعبير بقوله عليه السلام : «ولا خير في شيء ليس له أصل» وظاهر المقام التعبير بأنّه شرٌّ ونحوه ، خصوصا ما في هذا المقام من ولاية الجفاة وضلالهم وإضلالهم ، فإنّه محض الشرّ؟ قلت : يمكن الجواب عنه من وجوه : الأوّل : أنّه لمّا كان من يليهم من الجفاة في قالب العلماء _ الذين يأتون بصورة ما يتوهّمه الجاهل علماء _ يتوهّم كونهم علماء ؛ وذلك مظنّة توهّم الخير فيهم من الجهّال ، فنفى عليه السلام هذا الخير المتوهّم منبّهاً على أنّه ليس من الخير في شيء ، نظير ماورد في الحديث : «لاخير بخير بعده النار» (2) . الثاني : أنّه عليه السلام نفى الخير عن كلّ ما ليس له أصل ، ونفيه يوافق كلّ ما ليس له أصل ، بخلاف إثبات الشرّ ، فإنّه لا يُناسب إرادة العموم ؛ فتدبّر . الثالث : أنّ ما لاخير فيه فهو شرّ أو في حكمه ، فإنّ كون الإنسان _ مثلاً _ مسلوب الخير بالكلّيّة يكون شرّاً أو بمنزلته ؛ فتأمّل . الرابع : أنّه قد يستعمل مثله ويراد منه نفي الشيء مع إثبات ضدّه أو نقيضه ، بل قد يكون المقصود بالذات إثبات الضدّ أو النقيض ، كما يقال : فلانٌ ليس عنده من العدل شيء ، ويراد أنّه مع ذلك ظالم ، أو يراد به أنّه ظالم فقط في جميع أحواله . ونحوه ما يأتي في حديث لقمان من قوله : «وإذا رأيت قوماً لا يذكرون اللّه ...» (3) . والعالم الذي يموت فيذهب معه العلم ، الظاهر أنّ المراد به غير المعصوم ، والمعنى حينئذٍ ظاهر . ويحتمل أن يكون المراد به المعصوم ، أو ما يشمل غيره ، والمعنى في غيره أيضاً ظاهر . وأمّا المعصوم وذهابه بما يعلم فباعتبار أنّ الإمام الذي بعده قد لا يمكن الوصول إليه ، ولا أخذ العلم عنه ؛ لخوفٍ وتقيّةٍ ونحو ذلك ، فإذا ذهب الإمام الذي كان يمكن أخذ العلم عنه ولم يؤخذ ، ذَهَبَ بعلمه حيث لم يأخذوه عنه ، فيبقى بين أيديهم ينتفعون به فيمتنعون عن متابعة الجفاة والانقياد إليهم . وهذا لا يخلوا من بُعدٍ . وفي قوله عليه السلام : «فيذهب بما يعلم» تأييد في الجملة لكون ذهب به قد يقتضي ذهابه معه ، والظاهر أن يقال : إنّها تستعمل في المعنيين ، فيقال في مثل قوله تعالى : «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» (4) : إنّه بمعنى أذهبه ، وفي مثل ماهنا : إنّه بمعنى ذهب معه ، والقاعدة ما يقتضيه المقام ، وقد تقدّم نحوه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . ص (38) : 34 .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 24 ، ح 4 ، ضمن خطبة الوسيلة ؛ الفقيه ، ج 4 ، ص 392 ، ضمن ح 5834 ؛ و ص 406 ، ضمن ح 5880 ؛ الأمالي ، للصدوق ، 320 ، المجلس 52 ، ضمن ح 8 ؛ التوحيد ، ص 72 ، باب التوحيد و نفي التشبيه ، ح 27 ؛ نهج البلاغة ، ص 544 ، الحكمة 387 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 39 ، باب مجالسة العلماء ، ح 1 .
4- . البقرة (2) : 17 .

ص: 262

. .

ص: 263

. .

ص: 264

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن عليّ ، عمّن ذَكَرَهُ ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«كان عليُّ بن الحسين عليهماالسلام يقول : إنّه يُسَخّي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول اللّه : « أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا » وهو ذهابُ العلماء» .

قوله عليه السلام في حديث جابر : (إنّه يُسَخّي نفسي في سُرعَةِ الموتِ والقتلِ ، فينا قول اللّه : «أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا» (1) وهو ذهاب العلماء) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه لمّا كانت الآية دالّة على ذهاب العلماء ، وهم عليهم السلام العلماء حقّ العلماء ، كان ذلك باعثاً لأن يكون عليه السلام سخيّاً بنفسه في سرعة الموت والقتل ، فمن أسباب السخاء إخباره تعالى بأنّه بذهابهم يحصل النقص العظيم في الأرض ؛ لقوله تعالى : «مِنْ أَطْرَافِهَا» . وقوله عليه السلام : «إنّه يسخّي» لاينافي أن يكون ممّا يسخّي ، فيكون هذا من جملة ما تسخوا به النفس ، فإنّ وراءه من أسباب السخاء الرضا بقضاء اللّه تعالى وحُبّ لقائه ، فمن أحَبَّ لقاء اللّه أحَبَّ اللّه لقاءه ، ونحو ذلك ممّا يليق بشأنهم وعلُوّ منزلتهم . أو المعنى أنّه تعالى لمّا أخبر بنقص الأرض من أطرافها ، وكان المراد به ذهاب العلماء ، وكانوا عليهم السلام هم العلماء حقّ العلماء ، سخت نفسه بما يريده اللّه من نقص الأرض حبّاً لما يريده ويختاره ويقضي به . وفي هذا الكلام الشريف ترغيبٌ للعلماء ، وحثٌّ على تحصيل العلم ؛ ليكون العالم داخلاً تحت مضمون الآية . وإتيان الأرض من اللّه سبحانه بمعنى إتيان أمره ونحوه ، ونقص الأرض نقصُ أعظم أهلها . و«أطرافها» يحتمل أن يكون كناية عن النقص الحاصل في جميع الأرض ، فإنّ العلماء بركة الأرض وأهلها ، وبهداهم يهتدون ، وبنقصهم ينقصون ، أو باعتبار تعدّد العلماء الكائنين في أطرافها . وهذه الاحتمالات مبنيّة على تفسير الآية لا تفسير لها ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . الرعد (13) : 41 .

ص: 265

. .

ص: 266

باب مجالسة العلماء

باب مجالسة العلماء وصحبتهمعليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، رَفَعَه ، قال :قال لقمان لابنه : «يا بُنيَّ ، اخْتَرِ المجالسَ على عينك ، فإن رأيتَ قوما يذكرونَ اللّه جلَّ وعزَّ فاجْلِسْ معهم ؛

باب مجالسة العلماء وصحبتهمقوله عليه السلام في حديث لقمان : (قالَ لقمانُ لابنه : يابُنيّ ، اخْتَرِ المجالسَ على عينك ، فإن رأيتَ قوماً يَذكُرونَ اللّه _ جلّ وعزّ _ فاجْلِسْ معهم ، فإن تَكُنْ عالماً نَفَعَكَ علْمُك ...) . «اختر المجالس على عينك» أي اختياراً كائناً على عينك ، كما تقول : اعمل على رأيك ، أي عملاً كائناً على رأيك ، إمّا بمعنى : على حسب ما توصلك إليه عينك (1) وما يؤدّي إليه رأيك ؛ أو من قبيل ما يقال : كُلْ ما تشتهي عينك والبس ما يشتهي قلبك . ولعلّ كونه من باب الاستعلاء على ما يقرب من المجرور أظهر ، نحو قوله تعالى : «أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى» (2) أي اختياراً كائناً على ما تراه عينك ، فيكون من الاستعلاء المعنوي . أو أنّ على بمعنى «عن» . ويحتمل كون «على» بمعنى الباء ، كما في «اركب على اسم اللّه » . أو بمعنى «مع» بمعنى كون اختياره مشاركاً لاختيار عينه . أو بمعنى «من» كقوله تعالى : «إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» (3) . والظاهر أنّ المراد بذكر اللّه ذكر ما يتعلّق بتوحيده وتنزيهه وعظمته ، ونحو ذلك

.


1- . في «ج» : «عيناك» .
2- . طه (20) : 10 .
3- . المطفّفين (83) : 2 .

ص: 267

فإن تكن عالما نَفَعَكَ عِلْمُك ، وإن تكنْ جاهلاً عَلَّموكَ ، ولعلّ اللّه َ أن يُظِلَّهم برحمته فيَعُمَّك معهم ، وإذا رأيت قوما لا يذكرون اللّه فلا تَجْلِسْ معهم ، فإن تكن عالما لم يَنْفَعْكَ علمُك ، وإن كنتَ جاهلاً يزيدوك جهلاً ، ولعلَّ اللّه َ أن يُظِلّهم بعقوبة فَيَعُمَّكَ معهم» .

ممّا يتعلّق بالمعرفة ؛ بقرينة قوله عليه السلام : «فإن تكن عالماً نَفَعك علمُك» أي فإن كنت عالماً نَفَعَكَ علمك بمذاكرتك إيّاهم وكلامك معهم في ذلك وكتب لك ثوابه . والظاهر دخول ما يتعلّق بأحكام اللّه تحت ذكر اللّه بنوع توجيه أو تقدير يشمله بقرينة ذكر القسمين فقط ، وهما ذكراللّه وعدم ذكره ، وأمره بالجلوس في الأوّل ، ونهيه عن الجلوس في الثاني . ويحتمل إرادة ذكر اللّه المتعارف ؛ فإنّه المتبادر ، أو ما يشمله . وقوله عليه السلام : (وإذا رأيتَ قوما لا يذكرونَ اللّه َ) من قبيل مامرّ في خطبة الكتاب من قوله تعالى : «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ» (1) وما في الحديث : «ما لم يشأ لم يكن» (2) فإنّ الظاهر أنّ المراد هنا : إذا رأيت قوماً يذكرون غير اللّه بقرينة قوله : (ولعلّ اللّه َ أنْ يُظِلَّهُم بعقوبةٍ) . وعدم نفع العلم وزيادة الجهل قرينتان في الجملة وبعد اجتماع الناس في المجالس من غير كلام كذلك ، وذكر غير اللّه كالغيبة ونحوها ممّا يحتمل حصول العقوبة بسببه ، ويمكن دخول ذكر ما يتعلّق باُمور الدنيا ممّا لايحتاج إليه ولا يجدي نفعاً ، بل ما يشمل السكوت عبثاً ، فإنّ معاشرة الغافل عن ذكراللّه تكسب الغفلة ، والجليس يكتسب من جليسه ، فلم ينتفع بعلمه لتركه حينئذٍ ، وبالمشاركة والسماع (3) يزيد الجهل عما كان فيه قبل مجالستهم . ولا بُعد في نزول العقوبة بهذه الأشياء والمداومة عليها في ذلك الزمان أو مطلقا بنوع منها . ولا يخلو من شيء ؛ واللّه تعالى أعلم . وباقي الحديث ظاهر .

.


1- . المائدة (5) : 44 .
2- . الزهد ، ص 14 ، باب الأدب والحثّ على الخير ، ضمن ح 28؛ الكافي ، ج 2 ، ص 571 ، باب الحرز والعوذة ، ضمن ح 10؛ وج 8 ، ص 81 ، ضمن ح 39؛ الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ضمن 5868؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 487 ، المجلس 74 ، ضمن ح 1؛ الخصال ، ص 630 ، ضمن ح 10 .
3- . في «ألف ، ب» : «أو السماع» .

ص: 268

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ ومحمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى جميعا ، عن ابن محبوب ، عن دُرُسْتَ بن أبي منصور ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ، قال :«مُحادَثَةُ العالم على المزابل خيرٌ من مُحادَثَةِ الجاهل على الزرابيّ» .

قوله عليه السلام في حديث إبراهيم بن عبدالحميد : (مُحادَثَةُ العالمِ على المَزابِلِ خيرٌ من مُحادَثَةِ الجاهلِ على الزَّرابِيِّ) . فيه تنبيه على أنّ الشرف والرفعة الحقيقيين ليسا بالزرابيّ ونحوها من مزخرفات أهل الدنيا وتجمّلاتهم التي قد صارت سببا لانحصار الشرف والرفعة فيمن جمعها ولو من غير حلّها ، بل الشريف من تشرّف بطاعة اللّه والقرب منه والزلفى لديه ، والرفيع كذلك ، وإن كان مقامه على المزابل ونحوها ممّا هو خسيس عند أهل الدنيا . و«الزرابيّ» و«المزابل» كنايتان عمّا هو رفيع وخسيس عند أشباه الناس ، أو المقصود هذان النوعان ، وغيرهما يعلم منهما . والزربيّة: الطنفسة؛ وقيل: البساط ذو الخَمل،وجمعها «زرابيّ». كذا في النهاية. (1) والخطاب بمثل هذا الكلام لأهله ، وللإعلام بمن ينبغي محادثته وترك محادثته ، وأنّه لو كانت محادثة الجاهل علي الزرابيّ ومحادثة العالم على المزابل ، كانَتْ هذه خيراً من تلك ، فإنّ غرض العاقل ومطلبه الأهمّ الاستفادة من العالم ، فلاينافي ذلك خسّة المكان ، كما لا يزين الجاهل اعتبار المكان ظاهراً . وفيه إيماء إلى أنّ الجُهّال _ ولو غالباً _ أهلُ هذه الأشياء المعتبرة عند أهل الدنيا ؛ وإلى أنّ العالم بخلافه . والوجه ظاهر ؛ فإنّ العالم حقَّ العالم يكون زاهداً في الدنيا ، قانعاً بما يعبر به إلى الآخرة من أقلّ القوت ونحوه ، غير متعرّض لتحصيل ما يحصل به الزرابيّ ونحوها من الحرام والشبهات ؛ نسأل اللّه حُسن الخاتمة . وظاهر مقابلة الجاهل بالعالم أنّ المراد به غير العالم ، ومن كان عالماً مرتكباً لما ذكر ، كان كذي العقل غير العاقل . ويمكن أن يكون المراد به الجاهل المقابل للعاقل ، فإنّ العالم المذكور هو العاقل ؛ والمآل واحد .

.


1- . النهاية ، ج 2 ، ص 300 (زرب) .

ص: 269

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن شريف بن سابق ، عن الفضل بن أبي قُرَّة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قالت الحواريّونَ لعيسى : يا روحَ اللّه ، مَن نُجالِسُ؟ قال من تذكّرُكُم اللّه َ رؤيتُهُ ، ويَزيدُ في علمِكُم منطِقُهُ ، ويُرغِّبُكُمْ في الآخرة عملُه» .

قوله عليه السلام في حديث الفضل بن أبي قُرّة : (قالتِ الحواريّونَ لعيسى : يا روحَ اللّه ، مَن نُجالِسُ؟ قال : من تُذَكِّرُكُم (1) اللّه َ رُؤيَتُه ، و يَزيدُ في علمكم مَنطِقُه ، ويُرَغِّبُكُم في الآخرةِ عمَلُه) . الظاهر أنّ مراده عليه السلام مَن جَمَعَ الأوصاف الثلاثة ، فإنّ من جمَعها لا يحصل فيه التباسٌ ؛ لأنّ من يذكّر اللّه رؤيته قد يكون بصورة من هو كذلك في نفس الأمر ، إذا لم يكن عالماً ولا عاملاً ، وكذا إذا اُضيف إليه مع ذلك العلم دون العمل ، أو انفرد بالعلم دون العمل . وتقديم التذكير لأنّه أوّل المراتب ، وترتّب الباقي ظاهر . ويحتمل الاكتفاء بكلّ واحد إذا علم حال مَن يرى ، ومن يزيد في العلم منطقه كذلك إذا قام بشروط العلم ، ومن يرغّب في الآخرة عمله كذلك إذا كان عنده من العلم ما يصحّ به العمل . فالأوّل: من كان عليه أثر الخوف والعبادة ، وهو ممّن ورد في شأنهم : «ذُبُل الشفاه من الظماء ، خُمُص البطون من الطوى ، عمش العيون من البكاء» (2) . وما في خطبة أميرالمؤمنين عليه السلام لهمام من قوله : «قد بَراهم الخوف بَرْيَ القِداحُ ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ، ويقول : قد خولطوا ولقد خَالَطَهم أمر عظيم» . (3) وفي هذه الخطبة ما يقصم الظهور . وبالجملة ، فعلاماتهم في الآثار كثيرة ، وبالمخالطة وحسن النقد وترك اتّباع الهوى يتميّز المحقّ من المبطل ، وصاحب الخلق من المتخلّق ، والطبع من المتطبّع ، وإلاّ فهذا وما بعده ممّا تنصب (4) بتكلّفه الحبائل التي توقع الجاهل كثيراً فيها خصوصاً الأخير ، ولكون الخطاب للحواريين يكون خطاباً لمن يعرف الموصوف حقّ المعرفة وجريانه في غيرهم لمن يكون أهلاً لذلك ، فإنّ مَن تابع متصنّعا ورآه بصورة من يذكّر (5) اللّه رؤيته ، فتذكيره له ليس تذكيراً حقيقياً ؛ لاستناده إمّا إلى جهل أو تعصّب ومتابعة هوى ونحوه . وقد يقال : إنّ من كان في هذه المرتبة ، كان من رآه تذكّره رؤيته اللّه سبحانه أن تذكر . ويقرب من هذا القبيل ماورد من قوله صلى الله عليه و آله : «النظر إلى عليّ عبادة» (6) بمعنى أنّ من رآه كان ثوابه ثواب من فعل نوعاً من العبادة . وقال ابن الأثير بعد ما نقل الحديث «النظر إلى وجه عليّ عبادة» : قيل : إنّ معناه أنّ عليّاً كان إذا بَرَزَ ، قال الناس : لا إله إلاّ اللّه ، ما أشرف هذا الفتى ، لا إله إلاّ اللّه ، ما أعلم هذا الفتى ، لا إله إلاّ اللّه ، ما أكرم هذا الفتى ، أي ما أتقى ، لا إله إلاّ اللّه ، ما أشجع هذا الفتى ، فكانت رؤيَتُه عليه السلام تَحْمِلُهم على كلمة التوحيد ؛ انتهى (7) . وهو خلاف الظاهر ، ولا يبعد أن يكون المقصود بالذات من عيسى عليه السلام نفسه ، وكذلك أبو عبداللّه عليه السلام ومَن في مرتبتهما من أهل العصمة ، فإنّهم الجامعون لهذه الأوصاف ، ومن يحذو حذوهم داخلٌ بالتبعيّة . والتعبير بمثله لإرادة العموم وكونه أحسن من أن يقال : جالسوا مثلي وأكثرَ فائدة ؛ واللّه أعلم . والثاني : من كان عالماً عاملاً ، لكنّه لا يصل في العمل إلى مرتبة الثالث . والثالث : الذي علمه أكثر من الثاني . ومن جمع منها وصفين أو الجميع ، فهو نور على نور . ويمكن الفرق بين الأوّل والثالث بعدم ظهور عمل الأوّل جميعه ، بل أثره ، كما يدلّ عليه كلام أميرالمؤمنين عليه السلام ، والثالث من يُظهر عملَه لا لرياء ونحوه ، بل إمّا ليُتّبع في ذلك أو لغرض آخر صحيحٍ . ودخول مجهول الحال لايليق ، فإنّ من يذكّر (8) اللّه حقَّ ذكره رؤيتُه لا يكون (9) إلاّ بعد الاطّلاع على حقيقة أمره،والعالم إذا لم يكن عاملاً، لا يؤخذ عنه العلم ؛ لأنّه غير مأمون ، وقد نهي عن الأخذ عن مثله ، وكذا المرائي . نعم يمكن أن يقال : إنّه مع التفحّص وعدم ظهور خلاف الواقع _ إن لم يعتبر أمر الباطن _ ربما يكون من يذكّر اللّه برؤيته مثاباً ، وإثم تصنّعه عليه ، وكذا العامل المرائي . وما تقدّم من قوله عليه السلام : «فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ في كلّ خلف منّا عدولاً» الحديث ، يقتضي أنّ العلم لا يؤخذ إلاّ من العدل ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ألف ، ج » : «يذكّركم» .
2- . الكافي ، ج 2 ، ص 233 ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته ، ح 10 ؛ الإرشاد ، للمفيد ، ج 1 ، ص 238 ، فصل : ومن كلامه في صفة شيعته المخلصين ؛ الأمالي ، للسيّد المرتضى ، ج 1 ، ص 13 ؛ الأمالي ، للطوسي ، ص 216 ، المجلس 8 ، ح 27 ؛ وص 576 ، المجلس 23 ، ح 3 ؛ نهج البلاغة ، ص 177 ، ضمن الخطبة 121 ؛ إرشاد القلوب ، ص 108 ، الباب 29 في الرجاء للّه تعالى ؛ وص 144 ، الباب 46 من كلام أميرالمؤمنين والأئمّة عليهم السلام .
3- . الأمالي ، للصدوق ، ص 570 ، المجلس 84 ، ح 2 ؛ التمحيص ، ص 70 ، باب في أخلاق المؤمنين و... ، ح 170 ؛ صفات الشيعة ، ص 18 ؛ روضة الواعظين ، ج 2 ، ص 438 ، مجلس في الزهد والتقوى ؛ نهج البلاغة ، ص 303 ، الخطبة 193 ؛ تحف العقول ، ص 159 .
4- . في «ج» : «ينصب» .
5- . في «ألف ، ج » : «تذكّر» .
6- . الأمالي ، للصدوق ، ص 361 ، المجلس 58 ، ح 1 ؛ الأمالي ، للطوسي ، ص 454 ، المجلس 16 ، ح 22 ؛ مأة منقبة ، لابن شاذان القمّي ، ص 151 ، المنقبة الرابعة والثمانون ؛ العمدة ، لابن البطريق ، ص 366 _ 368 ؛ بشارة المصطفى ، ص 191 ؛ الصراط المستقيم ، ج 1 ، ص 153 ، الباب التاسع في شيء ممّا ورد في فضائله ... ؛ المناقب ، لابن شهر آشوب ، ج 2 ، ص 268 ؛ كشف الغمّة ، ج 2 ، ص 268 ؛ سعد السعود ، ص 23 و277 .
7- . النهاية ، ج 5 ، ص 77 (نظر) .
8- . في «ج» : «تذكّر» .
9- . في «ج ، د» : «لا تكون» .

ص: 270

. .

ص: 271

. .

ص: 272

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن حازم، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : مُجالَسَةُ أهل الدين شرفُ الدنيا والآخرة».

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد الأصبهانيّ ، عن سليمان بن داودَ المِنْقَريّ ، عن سفيانَ بن عُيَيْنَةَ ، عن مِسْعَرِ بن كِدامٍ ، قال :سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : «لَمَجْلِسٌ أجْلِسُهُ إلى مَن أثِقُ به أوْثَقُ في نفسي من عَمَلِ سَنَةٍ» .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث منصور بن حازم : (مُجالَسَةُ أهلِ الدينِ شَرَفُ الدنيا والآخرةِ) . المراد بالمجالسة _ واللّه أعلم _ كثرتها وتكرّرها من حيث إنّهم أهل الدين ، كما يشعر به التعليق على الدين ، والتكرّر يفهم من المجالسة ، ولا شرف أعلى من الإسلام الذي هو الدين ، ومن كان شريفاً في الدنيا بالدين (1) ، كانَ شريفاً في الآخرة ؛ وهو ظاهر . قوله عليه السلام في حديث مِسْعَرِ بن كِدامٍ : (المجلس (2) أجْلِسُهُ إلى مَن أثِقُ به أوثَقُ في نفسي مِن عَمَلِ سَنَةٍ) . هذا الكلام ونحوه منهم عليهم السلام تعليمٌ لشيعتهم ومتابعيهم ، وحَثٌّ لهم على أخذ العلم من معدنه . وهذا باب شائع ، وهو أن يتكلّم الإنسان كلاماً مع نفسه وقصده تعليم السامع وتفهيمه ، كما في قوله تعالى حكاية : «وَ مَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى» (3) . فالمعنى أنّ الإنسان إذا جلس إلى عالم يثق بعلمه وتعلّم منه العلم ، كانَ خيراً له من عبادة سنة ، أو من أن يتعب نفسه في تحصيل علم من غير العالم المذكور بالفكر والتأمّل ونحوه ، أو بمجالسة من لم يحصل به تمام الوثوق ونحو ذلك ، وما فيه من هذه الأقسام خير على تقدير إفرادها ، والتفضيل (4) فيه ظاهر ، ومالا خير فيه أصلاً ، فهو بحسب اعتقاد فاعله ، كما في حديث : «لصوم يوم من شعبان أحبّ إليّ من أن اُفطر يوماً من شهر رمضان» . (5) وقول أميرالمؤمنين عليه السلام : «فأبْدِلْني بهم خيراً منهم ، وأبْدِلْهُم بي شرّا منّي» . (6) وقد تقدّم . وفي تعدّي «اجلس» ب «إلى» تنبيهٌ على أنّه ينبغي أن يكون الجالس متوجّهاً ومصغيا وملتجئاً إليه فيما يريده ، بتضمينه ما ذكر ممّا يناسبه أو تقديره ، لا مجرّد الجلوس معه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : - «بالدين» .
2- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخة : «لَمَجْلِسٌ» .
3- . يس (36) : 22 .
4- . في «ج» : فالتفضيل .
5- . الكافي ، ج 4 ، ص 81 ، باب اليوم الذي يشكّ فيه... ، ح 1 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 126 ، ح 1922 ؛ و ص 128 ، ح 1929 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 4 ، ص 181 ، ح 505 ؛ الاستبصار ، ج 2 ، ص 78 ، ح 237 ؛ وسايل الشيعة ، ج 10 ، ص 20 ، ح 12730 ؛ وص 23 ، ح 12730 ؛ وص 23 ، ح 12738 ؛ وص 28 ، ح 12751 و12752 ؛ وص 300 ، ح 13470. وفي جميع المصادر : «لأنّ أصوم يوما من شعبان» بدل «لصوم يوم من شعبان» .
6- . نهج البلاغة ، ص 67 ، الخطبة 25 ؛ الغارات ، ج 2 ، ص 317 ؛ الفصول المختارة ، للمفيد ، ص 169 ؛ المسائل العكبريّة (ضمن مجموعة مصنّفات الشيخ المفيد) ج 6 ، ص 35 ؛ مناقب آل أبي طالب ، لابن شهر آشوب ، ج 2 ، ص 281 ، فصل في إجابة دعواته. وفي بحارالأنوار ، ج 34 ، ص 159 ، باب سائر ماجرى من الفتن... ، ح 970 ؛ وج 42 ، ص 226 ، باب كيفية شهادته و... ح 37 عن نهج البلاغة .

ص: 273

. .

ص: 274

باب سؤال العالم وتذاكره

باب سؤال العالم وتذاكرهعليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : سألتُه عن مَجدور أصابَتْهُ جَنابةٌ ، فغسّلوه فماتَ ، قال :«قتلوه ألاّ سألوا ، فإنَّ دَواءَ العِيِّ السؤالُ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريزٍ ، عن زرارةَ ومحمّد بن مسلم وبريد العجليّ، قالوا :قال أبو عبداللّه عليه السلام لحُمْرانَ بن أعينَ في شيء سَأَلَه : «إنّما يَهْلِكُ النّاسُ لأنّهم لا يَسألونَ» .

باب سؤال العالم وتذاكرهفي بعض النسخ «العلم» وهو أنسب بتذاكره ، والأنسب بالعالم «مذاكرته» إلاّ أنّ «تذاكره» هو الواقع في الباب ، ومعناه حينئذٍ : تذاكر العلم ، فهو معطوف على «سؤال» . قوله عليه السلام في حديث ابن أبي عمير : (قَتَلُوه ، ألاّ سألوا ، فإنّ دواءَ العِيِّ السؤالُ) . عيَّ الأمر و عيي كرضي : لم يهتد لوجه مراده ، أو عجز عنه ولم يطق أحكامه ؛ كذا في القاموس . (1) وقيل : أصل العيّ التحيّر في الكلام (2) ، والمراد به هنا الجهل . وفي الحديث تنبيه على أنّ الجاهل قد يؤدّيه هوى نفسه وحُبّ عدم الاعتراف بجهله إلى إهلاك النفس ، وفيه مع ذلك هلاك نفسه كما في الحديث الذي بعده : «إنّما يَهلك الناس لأنّهم لا يسألون» . و«المجدور» مَن به الجُدَري _ بضمّ الجيم وفتح الدال وفتحهما _ وهي القروح في البدن تنقط وتقيح ؛ كذا في القاموس والصحاح . (3) ويحتمل إرادة ما يشمل غيره .

.


1- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 368 (عيي) .
2- . راجع : مرآة العقول ، ج 1 ، ص 129 ؛ شرح اُصول الكافي ، للمازندراني ، ج 2 ، ص 105 .
3- . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 387 ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 609 (جدر) .

ص: 275

عليُّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ، عن عبداللّه بن ميمون القدّاح ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :قال : «إنَّ هذا العلمَ عليه قُفْلٌ ، ومفتاحُه المسألةُ» . عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام مثلَه .

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى بن عُبيد ، عن يونس بن عبدالرحمن ، عن أبي جعفر الأحول ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«لا يَسَعُ الناسَ حتّى يَسألوا ويَتفقّهوا ويَعرفوا إمامَهم ، ويَسعُهم أن يَأخُذوا بما يقولُ وإن كان تقيّةً» .

قوله عليه السلام في حديث عبداللّه بن ميمون: (إنّ هذا العلمَ عليه قُفلٌ، ومِفتاحُه المَسألةُ) . في قوله عليه السلام : «هذا العلم» إشارة إلى أنّ العلم الحقيقي هو الذي يكون محفوظاً ومصوناً ، وغيره مبتذل لا يستحقّ أن يُصان ويضرب عليه بقفل ، فإنّه لا يستحقّ من العلم إلاّ لفظه . وفي التشبيه بالقفل وجعل مفتاحه المسألة إيماءٌ إلى أنّ مَن أراد فتح هذا القفل بغير مفتاح ونحوه ، احتاج إلى كسره ، فلا يكون قفلاً صحيحا يستحقّ التسمية بالقفل بعد الكسر ، فكذا من أراد أخذ هذا العلم من غير مسألة ، كان كاسرا لقفل العلم ومخرجاً للعلم عن صيانته ، فلا يكون ذلك العلمَ المصونَ ، بل غيرَه . قوله عليه السلام في حديث أبي جعفر الأحول : (لا يَسَعُ الناسَ حتّى يَسألوا ويَتفقّهوا ويَعرِفوا إمامَهم ، ويَسَعُهم أن يَأخُذوا بما يقولُ وإن كانت (1) تقيّة) . أي مضيّق عليهم وغير جائز لهم أن يقولوا أو يفعلوا أو يعتقدوا شيئاً من أحكام اللّه تعالى من غير أن يسألوا عنه من يعلمه ، وموسّع لهم أن يأخذوا بكلّ ما يقوله الإمام عليه السلام وإن وجدت تقيّة فيما يقوله . والتوسعة في غير التقيّة كالأخذ من باب التسليم مع الاختلاف ونحوه ، فإنّ كلاًّ منهما مع كونه مأخوذاً عن الإمام يكون له وجه ، وقد لا يعرف ذلك الوجه ، بخلاف التقيّة ، فإنّها لا وجه للأمر بما يقتضيه إلاّ التقيّة ؛ فلهذا أتى ب «إن» ؛ فليفهم . ولعلّ تأخير معرفة الإمام عليه السلام في الذكر _ وإن كانت الواو لا تدلّ على الترتيب _ باعتبار أنّ السؤال والتفقّه ينبغي أن يكونا من إمام يعرفونه بالإمامة أو عنه ؛ فهو في قوّة أن يقال : لا يسعهم حتّى يسألوا ويتفقّهوا من إمامهم أو عنه ويسعهم إلخ ؛ واللّه أعلم . و«كان» هنا تامّة كما سبق التنبيه عليه . و«حتّى» إمّا بمعنى «إلاّ» كما قيل في حديث «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يُهوّدانه ويُنصرّانه» ، (2) أي إلاّ أن يكون أبواه . وكما في قول الشاعر : ليس العطاء من الفضول سماحةحتّى تجود وما لديك قليل (3) أي إلاّ أن تجود . فالمعنى في الحديث : لا يسع الناس إلاّ أن يسألوا . أو بمعنى «إلى» أي لا يكونون في سعة من ضيق الجهل إلى وقت السؤال ، بمعنى أنّهم مضيّق عليهم إلى ذلك الوقت . وهي بمعنى «إلى» أكثر ، ومعنى «إلاّ» هنا أنسب ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في بعض نسخ الكافي والمطبوع : «وإن كان» .
2- . الفقيه ، ج 2 ، ص 49 ، ح 1668 ؛ علل الشرايع ، ص 376 ، باب 104 ، ح 2 ؛ تصحيح الاعتقاد ، للمفيد ، ص 61 ، معنى فطرة اللّه ؛ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 4 ، ص 114 ؛ و ج 6 ، ص 140 ؛ عوالي اللئالي ، ج 1 ، ص 35، ح 18 ؛ وسايل الشيعة ، ج 15 ، ص 125 ، ح 2013 ؛ بحارالأنوار ، ج 3 ، ص 281 ، باب الدين الحنيف والفطرة ... ، ح 22 .
3- . مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 125 .

ص: 276

. .

ص: 277

عليٌّ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عمّن ذَكَرَه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : اُفٍّ لرجل لا يُفَرِّغُ نفسَه في كلّ جُمُعَةٍ لأمر دينه ، فيَتعاهَدَه ويسألَ عن دينه» . وفي روايةٍ اُخرى : «لكلّ مُسْلِمٍ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبداللّه بن سِنان ، عن ص 41 أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنَّ اللّه َ _ عزَّ وجلَّ _ يقولُ : تَذاكُرُ العلمِ بين عبادي ممّا تحيا عليه القلوبُ الميتةُ إذا هُمُ انْتَهَوْا فيه إلى أمري» .

قوله عليه السلام في حديث يونس : (اُفٌٍ لرجلٍ لا يُفَرِّغُ نفسَه في كلّ جُمُعَةٍ لأمر دينه ، فيَتَعاهَدَه ويَسألَ عن دينه) . «اُفّ» كلمة استقذار ، وفيها ستّ لغات : الضمّ والفتح والكسر ، مع التنوين وعدمه . وتنوينها للتنكير . (1) والظاهر أنّ المراد : «كلّ يوم جمعة» ، ويحتمل : «في كلّ جمعة يوماً أو مرّة» ، لكنّه خلاف الظاهر . ومعنى الحديث ظاهر . والمقام في مثل هذا يفيد العموم في من يحتمله وإن لم يكن فيه أداة تفيده ، كما في «تمرة خير من جرادة» ونحوه فهو في معنى اُفّ لكلّ رجل ، كما في الرواية الاُخرى : «اُفّ لكلّ مسلم» . (2) قوله عليه السلام في حديث عبداللّه بن سنان : (قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ اللّه عزّ وجّل يقول : تَذاكُرُ العلمِ بين عبادي ممّا تَحيا عليه القلوبُ الميتةُ إذا هُمُ انْتَهَوْا فيه إلى أمري) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ تذاكر العلم إذا كان العلم ممّا ينتهى به أو بتذاكره إلى أمر اللّه تعالى ، أي تكون غايته أمراللّه ، من معرفته ومعرفة أمره ونهيه ، ونحوهما ممّا تحيا عليه القلوب الميتة بالجهل وما في معناه ، فالجاهل من حيث عدم انتفاعه بما ينتفع به العالم كالميّت من حيث عدم انتفاعه بما ينتفع به الحيّ ؛ بل هو الميّت ، والعالم هو الحيّ . وفي الشرط تنبيه على أنّ تذاكر العلم المسمّى به ، الذي لا يكون غايته أمره تعالى ، لا تيحا به القلوب ، وربما زادها موتاً وعمىً ، وربما دخل تحت الانتهاء إلى أمراللّه ما يتوقّف عليه أمراللّه . وتذاكر العلم المشروط يكون سبباً لعناية اللّه تعالى وهدايته وتوفيقه ورفع خساسة الجهل ، وهذا هو الحياة ، أو الإحياء ؛ واللّه أعلم . و«على» في «عليه» يحتمل التعليل ، أي ممّا تحيا لأجله ؛ أو الاستعلاء المعنوي بمعنى حياة كائنة عليه . والأوجه التي تقدّمت في قول لقمان عليه السلام : «اختر المجالس على عينك» (3) يمكن تنزيل ما هنا عليها ، أو على أكثرها .

.


1- . الصحاح ، ج 4 ، ص 1331 (أفف) .
2- . المحاسن ، ج 1 ، ص 225 ، باب فرض طلب العلم من كتاب مصابيح الظلم ، ح 149. وعنه في بحارالأنوار ، ج 1 ، ص 176 ، باب فرض العلم و... ، ح 44 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 39 ، باب مجالسة العلماء ، ح 1 .

ص: 278

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سِنان ، عن أبي الجارود ، قال :سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول : «رَحِمَ اللّه ُ عبدا أحيا العلمَ» . قال : قلت : وما إحياؤه؟ قال : «أن يُذاكِرَ به أهلَ الدين وأهلَ الورع» .

قوله عليه السلام في حديث أبي الجارود : (رَحِمَ اللّه ُ عبداً أحيا العلمَ . قال : قلت : وما إحياؤه؟ قال : أن يُذاكِرَ به أهلَ الدينِ وأهلَ الوَرَعِ) . فيه دلالة على أنّ غير أهل الدين وأهل الورع لا ينبغي بذل العلم ومذاكرته لهم. والظاهر أنّ المراد بأهل الدين أهل الديانة والتقوى ، لا المقابل للمخالف في الدين . ووجهه أنّ غير أهل الدين بالمعنى المذكور وأهل الورع لم يحفظوه على وجهه ، وربما خانوا (1) فيه ، أو اتّخذوه سلّماً للعروج إلى غير تقوى اللّه ، وسبباً لحطام الدنيا والاستطاعة على الناس . وحينئذٍ فذكر الأهل مع الورع إمّا لإرادة قسم آخر من أهل الدين ، فيهم زيادة تقوى عن القسم الأوّل ، أو باعتبار وجه آخر مغاير في الجملة ، وإمّا لإرادة تفسير أهل الدين بأهل الورع ، لا تفسير الدين بالورع ، وإن كانت الفائدة تظهر في المضاف فقط ؛ فليفهم . ويحتمل أن يراد بأهل الدين أهل الإيمان بشرط أن يكونوا من أهل الورع ؛ للاحتراز عمّا ذكر سابقاً ، أو أهل الدين يتفرّس فيهم الانتفاع بالعلم والخروج به عن الجهل . وهذا قريب ممّا تقدّم ، وأهل الورع قد علموا . ويحتمل أن يكون بمعنى «أهل الدين والورع» وإظهار (2) المقدّر لنكتة . وهذه الأوجه مبنيّة على قراءة «يُذاكر» مبنيّاً للمفعول ، وعلى قراءته مبنيّاً للفاعل فالمعنى أنّ أهل الدين والورع بأيّ وجه اعتبرا ممّا تقدّم إذا تذاكروا به ، فتذاكرهم إحياءٌ للدين ، وأمّا غيرهم فمذاكرتهم بالعلم لا تكون إحياءً له ، فإنّ حياة العلم بأن تكون المذاكرة بحيث لا يخرج بها عمّا يليق بالعلم والعمل به ، وغير أهل الدين لا يتذاكرون به على الوجه المذكور ؛ لعدم تقواهم وأمانتهم ، فيخرجوا العلم عمّا هو عليه ولا يعملوا به ، فيبقى العلم على ما كان عليه من عدم الانتفاع به الذي هو كمَوْتِه ، بل ربما زادوه موتاً ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف»« «خالفوا» .
2- . في «ب ، ج ، د» : «باظهار» .

ص: 279

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن عبداللّه بن محمّد الحَجّال ، عن بعض أصحابه ، رَفَعَه ، قال :قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «تَذاكروا وتَلاقوا وتَحدّثوا ، فإنَّ الحديثَ جِلاءٌ للقلوب ، إنَّ القلوبَ لترينُ كما يَرين السيفُ ، وجلاؤها الحديث» .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث الحَجّال : (تَذاكَروا وتَلاقوا وتَحَدَّثوا ، فإنّ الحديثَ جلاءٌ للقلوبِ ، إنّ القلوبَ لَتَرِينُ كما يَرينُ السيفُ ، جلاؤه (1) الحديدُ) (2) . جملة «جلاؤه الحديد» من المبتدأ والخبر صفة للسيف ؛ لكون اللام فيه للجنس . والحال وإن جازت في مثل هذه اللام ، إلاّ أنّها هنا لا تستقيم . ويحتمل أن تكون مستأنفة ، كأنّه قيل : ماجلاؤه؟ والأوّل أربط وأنسب بالتشبيه . وكون السيف يجلى بالحديد ظاهرٌ . والمراد من الحديث هنا الحديث المعهود ، لا مطلق الحديث ؛ وهو ظاهر . و«الرين» الدنس ، يقال : رانَ على قلبه ذنبه ، يرين ، ريناً ، وريوناً : غلب . والمعنى هنا أنّ القلوب تصدى كما يصدى السيف ، ويجلى صداها بالحديث كما يجلى صدا السيف بالحديد . والواو في «تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا» للجمع المطلق ، ويحتمل باعتبار الترتيب الذكري أن يكون الأمر بالمذاكرة مطلقاً ، ويكونَ الأمر بالتلاقي للحديث ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخ الكافي : «وجلاؤه» .
2- . كذا في كثير من نسخ الكافي . وفي الكافي المطبوع وبعض نسخه : «وجلاؤها الحديث» .

ص: 280

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن فَضالةَ بن أيّوبَ ، عن عمر بن أبان ، عن منصور الصيقل ، قال :سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول : «تَذاكُرُ العلْمِ دراسةٌ ، والدراسةُ صلاةٌ حَسنةٌ» .

قوله عليه السلام في حديث الصيقل : (تذاكُرُ العلمِ دِراسةٌ ، والدراسةُ صلاةٌ حَسنةٌ) . لمّا كان التذاكر قد يظهر منه كونه أعمّ من الدراسة ، ذَكَرَ عليه السلام هذا ، أي إنّ مطلق التذاكر دراسة ، أي يترتّب عليه من الثواب ما يترتّب على الدراسة الخاصّة ، أو أنّه عليه السلام أفاد أنّ التذاكر جميعه دراسة ، لا بعضه .

.

ص: 281

باب بذل العلم

باب بذل العلممحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن منصور بن حازم ، عن طلحةَ بن زيد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قرأتُ في كتاب عليّ عليه السلام : إنَّ اللّه َ لم يَأخُذْ على الجُهّال عهدا بطلب العلم حتّى أخَذَ على العلماء عهدا ببذل العلم للجُهّال ؛ لأنَّ العلمَ كان قبلَ الجهل» .

ويمكن أن يكون التذاكر غير الدراسة ، فأفاد أنّه كالدراسة في الثواب ، وثواب الدراسة ثواب صلاة حسنة بالوصفيّة ، أي تامّة الأفعال والأقوال غير مشوبة بشيء ينافي الوصف بالحسن ؛ واللّه أعلم .

باب بذل العلمقوله عليه السلام في حديث طلحة بن زيد : (إنّ اللّه لم يَأخُذْ على الجُهّالِ عَهْداً بطلبِ العلمِ حتّى أخَذَ على العلماء عهدا ببذل العلم للجُهّال ؛ لأنّ العلمَ كان قبلَ الجهل) . يحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون المراد من هذا الحديث أنّ اللّه سبحانه أخذ العهد على العلماء في الميثاق أن يبذلوا العلم لمن لا يعلمه أوّلاً ، ثمّ أخذ العهد على الجُهّال بتعلّمه منهم . ووجه تقديم الأخذ على العلماء أنّ اللّه تعالى خَلَقَ العلم قبل الجهل المقابل للعلم ، كما يدلّ عليه حديث العقل وجنوده والجهل وجنوده من أنّ اللّه تعالى خلق العقل أوّلاً ، ثمّ خلَق الجهلَ ، ثمّ أعطى العقل جنوده ، ثمّ أعطى الجهل جنوده ، ومن جملة جنود العقل العلم ، ومن جملة جنود الجهل المقابل للعقل الجهلُ المقابل للعلم ؛ فحاصله أنّ تقديم أخذ الميثاق على العلماء لتقدّم وجود العلم والعلماء . يحتمل أن يكون المراد بهم الأنبياء والأوصياء ، فيكون وجوب التعلّم على غيرهم من العلماء معلوماً من جهة اُخرى ؛ وأن يكون المراد بهم مطلق العلماء . ولعلّه أظهر . ويحتمل أن يكون المراد أنّ اللّه تعالى أخذ العهد على العلماء أوّلاً ؛ لأنّ أوّل من علَّم العلم آدم عليه السلام ولم يكن أحد قبل خلقه ولا معه من البشر يتعلّم منه ، بل وجدوا بعد ذلك ؛ فالعلم وجد فيه عليه السلام قبل أن يوجد محلّ للجهل ، فأخذ العهد عليه بالتعليم قبل الأخذ على الجهّال بالتعلّم . ولا بُعد في أن يكون في أخذِ العهد (1) على آدم عليه السلام أخذ العهد على غيره من العلماء ولو بواسطة آدم ؛ فلهذا كان أخذ العهد على العلماء مقدّماً . وهو لا ينافي أخذ العهد على جميع العلماء بأيّ معنى اعتبر ؛ واللّه أعلم . ويحتمل أن يكون المراد بأخذ العهد (2) التكليف ، بمعنى أنّ اللّه تعالى لم يوجب التعلّم على المكلّف إلاّ بعد إيجاب التعليم على العالم ، ومقتضى الحكمة وجود العلم أو مرتبته قبل وجود الجهل أو مرتبته . وهو كماترى ؛ واللّه أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . في «ج ، د» : «العلم» .
2- . في «ألف ، ب» : «العلم» .

ص: 282

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن أبيه ، عن عبداللّه بن المغيرة ومحمّد بن سِنان ، عن طلحةَ بن زيد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في هذه الآية : « وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ » قال : «ليَكُنْ الناسُ عندك في العلم سَواءً» .

قوله (1) : في حديث طلحة بن زيد عن أبي عبداللّه عليه السلام في هذه الآية : «وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ» : (2) (قال : لِيَكُنِ الناسُ عندك في العلمِ سَواءً) . في الصحاح : «الصعر» الميل في الخدّ خاصّة ، وقد صعّر خدّه ، أي أماله . (3) وفي القاموس : الصعر _ محرّكة _ والتصعّر : ميل في الوجه ، وصعّر خدّه تصعيراً وصاعره وأصعره : أماله عن النظر إلى الناس تهاوناً من كبرٍ ، وربما يكون خلقة ؛ (4) انتهى . والمراد هنا _ واللّه أعلم _ أنّ المعلّم لا ينبغي أن يتفاوت الناس عنده في تعليم العلم بشرف دنيوي وغنىً ونحوه ، بل يكونون عنده بمنزلة سواء في التعليم وبذل العلم ، وإن تفاوتت مراتب التعليم ببذله لكلّ ما يناسب حاله وفهمه ؛ فإنّ هذا لا يشترط فيه المساواة ؛ بل عدمها ، وليس فيه ميل وجور ؛ بل عدلٌ وإنصافٌ .

.


1- . في «ج» : - «قوله» .
2- . لقمان (31) : 18 .
3- . الصحاح ، ج 2 ، ص 712 (صعر) .
4- . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 69 (صعر) .

ص: 283

وبهذا الإسناد ، عن أبيه ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«زكاةُ العلم أن تُعلّمَه عبادَ اللّه » .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبيد ، عن يونسَ بن عبدالرحمن ، عمّن ذَكَرَه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قامَ عيسى بن مريمَ عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل ، فقال : يا بني إسرائيل ، لا تُحدّثوا الجُهّالَ بالحكمة فتظلموها ، ولا تَمنعوها أهلَها فتظلموهم» .

قوله عليه السلام في حديث يونس : (يابني إسرائيلَ ، لا تُحَدِّثُوا الجُهّالَ بالحكمةِ فتَظْلِموها ، ولا تَمْنَعوها أهلَها فَتَظْلِموهم) . المراد بالجُهّال هنا غير الجهّال في الحديث السابق في أوّل الباب ، فإنّ معنى الجاهل في الأوّل الذي لم يكن له علم ، وهنا مَن لم يكن من أهل الحكمة . واحتمال الفرق بين الحكمة هنا والعلم هناك لاتّحاد معنى الجاهل فيهما بعيدٌ ، وإن كان قد يفرق بين الحكمة ومطلق العلم بوجهٍ ما ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 284

باب النهي عن القول بغير علم

باب النهي عن القول بغير علممحمّد بن يحيى ، عن أحمدَ وعبداللّه ابنَي محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن مفضّل بن يزيد ، قال : قال لي أبو عبداللّه عليه السلام :«أنهاكَ عن خصلتين فيهما هلاك الرجال : أنهاك أن تَدينَ اللّه َ بالباطل ، وتُفتِيَ الناسَ بما لا تَعلمُ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونسَ بن عبدالرَّحمن عن عبدالرَّحمن بن الحَجّاج قال :قال لي أبو عبداللّه عليه السلام : «إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إيّاك أن تُفِتيَ الناسَ برأيك ، أو تَدينَ بما لا تَعلَمُ» .

باب النهي عن القول بغير علمقوله عليه السلام في حديث مفضّل بن يزيد : (أنهاكَ عن خصلتين فيهما هلك الرجال : أنهاك أن تَدينَ اللّه َ بالباطل ، وتُفْتِيَ الناسَ بما لا تَعلمُ) . المعنى _ واللّه أعلم _ : أنهاك عن أن تكون أعمالك وأقوالك التي تتعلّق بالدين مبنيّة على غير أساس ، بأن تكون مأخوذة على غير وجهها ، ومن غير من ينبغي الأخذ عنه ، أو لم تكن مأخوذة عن أحد ؛ فيكون التديّن بها باطلاً . ومثله فتواك الناس بمالا تعلم ، سواء علمت ما تفتى به على غير وجهه ومن غير أهله ، أم لم تكن عالما . ولا تنظر إلى ما يقصده الجُهّال من الإقدام على مثله لدفع أن يقال : فلان لا يعلم فتنسب إلى الجهل ، وهذا عين الجهل ؛ فإنّ ثمرته توقع رفع اسم الجهل وتحصيل ثمرته التي هي الوبال والعقاب . وقوله عليه السلام في الحديث الذي بعده : (إيّاك أن تُفْتِيَ الناس برأيك ، أو تَدينَ بما لا تَعلَمُ) توضيح لهذا الحديث ، والمعنى واحد .

.

ص: 285

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن أبي عُبيدةَ الحذّاء ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«مَن أفتى الناسَ بغير علمٍ ولا هُدًى لَعَنَتْه ملائكةُ الرَّحمة وملائكةُ العذاب ، ولَحِقَه وِزرُ من عمل بِفُتْياه» .

قوله عليه السلام في حديث أبي عبيدة : (مَن أفتى الناسَ بغير علمٍ ولا هُدًى لَعَنَتْه ملائكةُ الرحمة وملائكةُ العذابِ ، ولَحِقَه وِزْرُ مَن عَمِلَ بِفُتْياه) . في قوله عليه السلام «ولا هدى» تنبيه على أنّ العلم وحده غير كاف في جواز الإفتاء ، بل لا بُدّ معه من الهدى . والظاهر أنّ المراد به التقوى والورع ونحوهما ، فإنّ العالم غير المهتدي لا يتخرّج عن الإقدام على مالا يجوز ، وظاهره أنّه لا يجوز له أن يفتي وإن كانت فتواه موافقة للصواب ، ولا يجوز العمل بفتواه كذلك ؛ لأنّ المراد _ واللّه أعلم _ من أفتى الناس من غير أن يجمع بين الأمرين : العلم والهدى ، لا من غير أن يكون عنده أحدهما . ففي الحديث دلالة على اشتراط العدالة التي اشترطت في المفتي ، فإنّ غير العدل لاهدى عنده ، فلا عمل بعلمه . وقوله عليه السلام : «ولحقه وزر من عمل بفتياه» يشمل من عمل بفتياه عالماً بعدم أهليّته ، وغير عالم ؛ فالأوّل يلحقه مثل وزره ، والثاني إن كان مقصّراً احتمل أن يكون مثله ، وإن كان غير مقصّر فالوزر الذي يلحق العامل بالفتوى العالم ونحوه يحتمل أن يلحق المفتي . وفي لفظ «لحقه» إشعارٌ بأنّه يضاف هذا الوزر إلى ما عليه من وزر الفتوى وإن لم يشعر به ، فوزره معلوم من محلّ آخر ، مع احتمال لحوق هذا الوزر وحده مع اللعن ؛ واللّه أعلم . والباء في قوله : «بغير» يحتمل أن تكون بمعنى «عن» ، وأن تكون للسببيّة ، وأن تكون لتعدية المتعدّي إلى الثاني بإرادة الجهل من غير العلم والهدى .

.

ص: 286

عدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد، عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن أبان الأحمر، عن زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال:«ما عَلِمْتم فقولوا، وما لم تَعْلَموا فقولوا : اللّه أعلم ، إنَّ الرجلَ لَيَنْتَزِعُ الآيةَ من القرآن يَخِرُّ فيها أبعدَ ما بين السماء والأرض» .

قوله عليه السلام في حديث زياد : (ما عَلِمْتم فقولوا ، وما لم تَعلَموا فقولوا : اللّه أعلَمُ ، إنّ الرجلَ لَيَنْتَزِعُ الآيةَ من القرآن يحرّفها (1) أبعدَ ما بين السماء والأرض (2) ) . لاينافي هذا الحديث ما في الحديث الثالث (3) من قوله عليه السلام : «إذا سُئل الرجل منكم عمّا لا يعلم فليَقُل : لا أدري ، ولا يقل : اللّه أعلم ، فيوقِع في قلب صاحبه شكّاً ،وإذا قال المسؤول : لا أدري ، فلا يتّهمه السائل» . فإنّ هذا مخصوص بغير العالم ، والأوّل بالعالم ، كما في الحديث الذي بعده (4) ، وهو قوله عليه السلام : «للعالم إذا سئل عن شيء وهو لا يعلمه أن يقول : اللّه أعلم ، وليس لغير العالم أن يقول ذلك» . وفي قوله عليه السلام في الحديث الأوّل : «ما علمتم فقولوا» إشعارٌ بذلك . وقوله فيه : «إنّ الرجل لينتزع ..» وفي الحديث الثالث : «إذا سئل الرجل» قرينة على إرادة غير العالم فيهما ؛ فليفهم . فلا منافاة بين هذه الأحاديث . والفرق بين قول : «اللّه أعلم» من العالم والجاهل من وجهين : أحدهما : أنّه مشعر بأنّ المسؤول من أهل العلم ؛ فإنّ مثل هذا القول متعارف من العلماء الذين إذا لم يحصل لهم جزمٌ بمضمون ما يسألون عنه أن يقولوه في جواب السائل ، فإذا صَدَرَ من الجاهل ، شكَّ السائل في أنّ عنده علما ، أو ظَنَّ فيه هذا ، وقد ينجرّ الأمر إلى الشكّ والاعتقاد فيه من السائل وغيره ، بل إلى شكّه أو اعتقاده في نفسه ، فيكون ذلك سبباً لسؤال الناس له وتجريّه على الجواب بمالا يعلم . وهذه المفاسد لا تترتّب على قول العالم : «اللّه أعلم» . وهو ظاهر ممّا تقرّر . والثاني : أنّ لفظ «أعلم» على قاعدة أفعل التفضيل يقتضي أن يكون للمتكلّم بقوله : «اللّه أعلم» علمٌ ، والجاهل ليس عنده أصل العلم ؛ بخلاف العالم ، فإنّ عنده أصل العلم ، إمّا باعتبار غير ما سئل عنه ، أو باعتبار علمه بهذه المسألة على وجه لا يحصل له الجزم بالإفتاء بها ، وتكون محتاجة إلى مراجعة وتأمّل ونحو ذلك ؛ فما يترتّب هنا أيضاً على قول الجاهل لا يترتّب على قول العالم . و«يحرّفها» بالحاء المهملة من قبيل قوله تعالى : «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ» . (5) وفي الصحاح : تحريف الكلم عن مواضعه : تغييره . (6) وهذا معنى ظاهر . وما يوجد في بعض النسخ «يخرّفيها» (7) من خَرَّ _ بالخاء المعجمة والراء المشدّدة _ أي يسقط ، فكأنّه من تحريف الكلم عن مواضعه ؛ واللّه أعلم . وفيه تنبيه على أنّه لا يجوز تفسير القرآن وتأويله بمجرّد الرأي وما تؤدّي (8) إليه الأفكار القاصرة . وقد تقدّم ما يتعلّق بهذا المبحث في شرح خطبة الكتاب . و«أبعد» صفة حذف موصوفها ، أي تحريفاً أبعد . و«ما بين» هكذا رأيته ، وظاهره «ممّا بين» فيحتمل سقوط الميم . ويمكن توجيه «ما» بوجهين : أحدهما : أنّ الأبعاد التي بين السماء الدنيا والأرض متفاوتة بسبب (9) تضاريس الأرض بالجبال والوهاد ، (10) فالمعنى : تحريفاً كأبعد ما بين السماء والأرض من الأبعاد . والثاني : أن يكون المراد جنس السماء ، فالأبعاد التي بين مطلق السماء والأرض متفاوتة ، فالبعد بين الأرض والسماء الدنيا أقلّ منه بينها وبين السماء الثانية ، وهكذا .

.


1- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «يَخِرُّ فيها» من الخرور بمعنى السقوط من العلوّ . وفي بعض نسخ الكافي «يحرّفها» _ كما في المتن _ من التحريف . قال الداماد : «فكأنّه تحريف يخترقها» ونسبه الفيض إلى التصحيف ، وصحّحه المازندراني . ونقل المازندراني قرائة «يخترقها» بمعنى قطع الأرض على غير الطريق . انظر : التعليقة ، للداماد ، ص 90 ؛ شرح المازندراني ، ج 2 ، ص 146 ؛ مرآة العقول ، ج 1 ، ص 137 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 191 ، باب النهي عن القول بغير علم ، ح 122 ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 643 (خرر) .
2- . في حاشية «د» : «والأرض» مضروب عليه في نسخة جدّي رحمه اللّه (منه) .
3- . أي الحديث السادس في هذا الباب .
4- . أي الحديث الخامس من هذا الباب .
5- . النساء (4) : 46 .
6- . الصحاح ، ج 4 ، ص 1343 (حرف) .
7- . في حاشية «د» : رأيتُ بعد ما كتبتُ في نسخة جدّي طاب ثراه «يخرّ» بالخاء المعجمة (منه) .
8- . في «ألف ، ج » : «يؤدّي» .
9- . في «د» : «بحسب» .
10- . الوَهْدُ : المكان المنحفض . لسان العرب ، ج 3 ، ص 471 (وهد) .

ص: 287

. .

ص: 288

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن رِبْعيّ بن عبداللّه ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«للعالم إذا سُئل عن شيء وهو لا يعلمه أن يقول : اللّه ُ أعلَمُ ، وليس لغير العالم أن يقولَ ذلك» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حَريز بن عبداللّه ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا سُئل الرَّجلُ منكم عمّا لا يعلم فليَقُلْ: لا أدري، ولا يقل: اللّه أعلم، فَيوقِعَ في قلب صاحبه شكّا، وإذا قال المسؤول: لا أدري، فلا يَتّهِمُه السائلُ» .

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن عليّ بن أسباط ، عن جعفر بن سماعة، عن غير واحد ، عن أبان ، عن زرارة بن أعيَن ، قال :سألت أبا جعفر عليه السلام : ما حقُّ اللّه ِ على العباد؟ قال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويَقِفوا عند ما لا يعلمونَ» .

قوله عليه السلام في حديث زرارة بعد قوله : ما حقُّ اللّه ِ على العِبادِ؟ (أن يقولوا ما يَعْلَمونَ ، ويَقِفوا عند مالا يَعْلَمونَ) . ظاهر هذا الكلام _ واللّه أعلم _ أنّ حقّ اللّه على العباد أنّهم إذا احتاجوا إلى القول بسؤال ونحوه أن لا يقولوا في الجواب ونحوه إلاّ ما يعلمونه ، ومالم يحصل العلم به فحقّ اللّه أن يقفوا عنده ولا يتكلّموا فيه . ويحتمل أن يكون المراد به ما يشمل تعليم ما يعلمونه ونشره ومالا يعلمونه ، فحقّ اللّه فيه الوقوف عن تعليمه وعدم القول به .

.

ص: 289

عليُّ بن ابراهيمَ ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن يونس [ بن عبدالرحمن ] ، عن أبي يعقوب إسحاقَ بن عبداللّه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال :«إنَّ اللّه َ خَصَّ عبادَه بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا حتّى يعلَموا ، ولا يَرُدُّوا ما لم يعلَموا ، وقال عزّ وجلّ : « أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَ_اقُ الْكِتَ_ابِ أَن لاَّيَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ » وقال : « بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِى وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُو » » .

قوله عليه السلام في حديث إسحاق بن عبداللّه : (إنّ اللّه َ خَصَّ (1) عبادَه بآيتين من كتابِه : أن لا يَقُولوا حتّى يَعلَموا ، (2) ولا يَرُدّوا مالم يَعلموا ، وقالَ عَزَّ وجَلَّ «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَ_اقُ الْكِتَ_ابِ أَن لاَّيَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ» (3) وقال : «بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِى وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» (4) ) . قد تقدّم في الخطبة هاتان الآيتان ، وتقدّم ما يتعلّق بهما من الكلام ، والمعنى ظاهر ؛ وحاصله _ واللّه أعلم _ أنّ اللّه تعالى أخذ على عباده أن لا يقولوا إلاّ بعد أن يعلموا ، أي لا يكون قولهم عن مجرّد الرأي والاستحسان ونحوه من غير علم مستنده أهل العلم _ ولعلّ الظنّ داخل في العلم مع تعذّره ؛ واللّه أعلم _ وأن لا يردّوا شيئاً أتاهم من صادق بسبب أنّهم لا يعلمون وجهه وتأويله ، بل متى أخبر به الصادق وجب قبوله ، وإن لم يعلموا معناه وتأويله . وفيما رأيته من النسخ «وقال عزّ وجل» بالواو ، والظاهر أنّها زائدة ، أو أنّها مبدلة من الفاء . واحتمال عطف التفسير (5) في غاية البُعد .

.


1- . في حاشية «الف ، د» : يحتمل أن يكون «حضّ» بالمهملة فالمعجمة ، وفيما رأيته من النسخ العكس ، كما في الأصل (الف : منه) ؛ (د : منه دام ظلّه) .
2- . في حاشية «د» : العلم يطلق على الظنّ القوي كثيرا ، والذي يظهر من كلام المتقدّمين _ رحمهم اللّه _ إرادته واستعماله (منه دام عزّه) .
3- . الأعراف (7) : 169 .
4- . يونس (10) : 39 .
5- . في حاشية «ألف ، د» : على تقدير أن يكون «حضّ» بالمهملة فالمعجمة ، يمكن اعتبار عطف التفسير (منه) .

ص: 290

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن داودَ بن فَرقَدٍ ، عمّن حدَّثه ، عن ابن شُبْرُمَةَ ، قال : ما ذكرتُ حديثا سمعتُهُ عن جعفر بن محمّد عليه السلام إلاّ كاد أن يَتصدَّعَ قلبي ، قال :«حدَّثني أبي ، عن جدّي ، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله » . قال ابنُ شُبْرُمَةَ : واُقسِمُ باللّه ما كذب أبوه على جدّه ،ولا جدُّه على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من عمل بالمقاييس فقد هَلكَ وأهْلَكَ ، ومن أفتى الناسَ بغير علم وهو لا يعلم الناسخَ من المنسوخ والمحكمَ من المتشابه فقد هَلَكَ وأهلَكَ» .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث ابن شُبْرُمَةَ : (ومَن أفتى الناسَ بغير علمٍ وهو لا يَعلَمُ الناسِخَ من المنسوخِ والمحكمَ من المتشابهِ (1) فقد هَلَكَ وأهْلَكَ) . قد يدلّ بظاهره على جواز العمل بظواهر القرآن ، فإنّ جملة «وهو لا يعلم ...» حاليّة ، والمعنى : مَن أفتى الناس في حال كونه لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك . ومفهوم الشرط أو الوصف أنّ من أفتى الناس وهو يعلم ذلك لم يَهلك ولم يُهلك . ولو اعتبرت الظرف وهو قوله عليه السلام : «بغير علم» حالاً ، وعطفت الجملة الحاليّة عليه ، تغيّر المعنى الحاصل من التوجيه الأوّل ؛ فتدبّر . وهذا ونحوه يدلاّن على جواز تقليد المفتي فيما يفتي به مع أهليّته للفتوى دون غيره ، وهلاك مثل هذا ظاهر . وأمّا إهلاكه ، فإن كان المستفتي عالماً بأنّه ليس أهلاً لذلك ، فهو ظاهر أيضاً ، وكذا المقصّر في استعلام حاله على الظاهر . ومن ليس كذلك فالظاهر أنّه لا وجه لهلاكه وإهلاكه يتحقّق فيمن ذكر ، فلاينافيه هذا القسم ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «د» : - «والمحكم من المتشابه» .

ص: 291

باب من عمل بغير علم

باب من عَمِلَ بغير علمعدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن محمّد بن سِنان ، عن طلحة بن زيد ، قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«العاملُ على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ، لا يزيده سرعةُ السير إلاّ بُعدا» .

باب من عمل بغير علمقوله عليه السلام : (العامِلُ على غير بَصيرةٍ كالسائر على غيرِ الطريقِ ، لا يَزيدُه سُرعَةُ السيرِ إلاّ بُعْداً) . وجهه _ واللّه أعلم _ أنّ من كان علمه مبنيّاً على غير بصيرة ، أي علم ، كما لو اعتقد نوعاً يتعلّق بالمعرفة من غير أصل يبنى عليه ، ثمّ رتّب عليه اُموراً كثيرة أعمل فيها فكره ، كان تخيّل فيه تعالى ما يجلّ عنه من القول بالجسميّة والتشبيه ونحوهما ، فكلّ ما بناه على هذا الأصل الفاسد فقد ازداد به بُعداً عن الحقّ وإثماً ، وكمن اتّخذ مقيسا عليه وقاس عليه غيره ، فكلّما فعل شيئاً منه ازداد به بعداً . ومثله العبادة على غير وجهها المتلقّى ، فإنّه كلّما أتعب نفسه بانياً على أصله الفاسد ازداد إثماً وبُعداً ، وقس عليه غيره . فالمراد بالعمل _ واللّه أعلم _ ما يشمل هذا وغيره ، وإن كان العمل قد يستعمل كثيراً فيما هو أخصّ ممّا ذكر ، ولاينافيه التشبيه بالسير على غير الطريق ، ولو حمل على العمل الخاصّ صحّ أيضاً ، لكن هذا أعمّ فائدة ، مع صحّته . والتشبيه بالسائر على غير الطريق إمّا أن يُراد به على جهة مقابلة للطريق الذي يوصل إلى المطلوب على خطّ مستقيم ونحوها ممّا يزيد بالسرعة فيه البعد ، بقرينة قوله عليه السلام : «لا يزيده سرعة السير إلاّ بُعداً» فإنّ مالا يزيد بُعداً ممّا قارب سمت الجهة المطلوبة خارجٌ بهذه القرينة ، فهو في معنى السائر على طريق لا يزيده سرعة السير فيه إلاّ بُعداً عمّا يقصده . والتعبير بغير الطريق لأنّه لو كان طريقاً فهو غير طريقة الموصِل ، وقد لا يكون طريقاً أصلاً ، فالمناسب التعبير بغير الطريق . وإمّا باعتبار أنّ من أراد السفر إلى مكان بعده مسافة مثلاً ، وهو يعلم هذا المقدار من البُعد ، فإذا سلك غير الطريق المعهود ، كان كلّما أسرع في قطعه زادَتْ المسافة على غير الطريق ، فهذه إذا ضمّت إلى المعلوم زاد البعد عن المسافة المعلومة الموصلة إلى المطلوب ، فبُعده قبل أن يشرع في سلوك غير الطريق عن المقصود ثمانية فراسخ مثلاً ، وكلّما بَعُدَ عن ابتدائها كانَ زيادة عن البعد المعلوم ، فإنّه لا يتحقّق الوصول إلاّ إذا رجع (1) إلى ابتداء الطريق المعلوم . وهذا وجه لطيف، ووجه الشبه في المشبّه به أقوى من حيث الظهور؛واللّه أعلم.

.


1- . في «ج» : «راجع» .

ص: 292

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سِنان ، عن ابن مُسكان، عن حسين الصيقل ، قال :سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «لا يَقبلُ اللّه ُ عملاً إلاّ بمعرفة ، ولا معرفةً إلاّ بعمل ، فمن عرف دَلَّتْه المعرفةُ على العمل ، ومن لم يَعْمَلْ فلا معرفةَ له ، ألا إنَّ الإيمانَ بعضُه من بعض» .

قوله عليه السلام في حديث الصيقل : (لا يَقبَلُ اللّه ُ عَمَلاً إلاّ بمعرفةٍ ، ولا معرفةً إلاّ بعملٍ ، فمن عَرَفَ دَلَّتْه المعرفةُ على العملِ ، ومن لم يَعمَلْ فلا معرفةَ له ، ألا إنّ الإيمانَ بعضُه من بعضٍ) . ذكر المعرفة والإيمان في هذا الحديث يظهر منهما أنّ المراد بالمعرفة معرفةُ اللّه سبحانه وما يتعلّق بالعقائد ، وأنّ قبول العمل موقوفٌ على المعرفة ، كما أنّ المعرفة لا تتمّ إلاّ بالعمل ، فمن عرف اللّه دلّته المعرفة على أنّ اللّه سبحانه يجب العمل بما يأمر به وينهى عنه ، فإنّ المعرفة الحقّة لا تجامع المعصية ، فمن ادّعى معرفة اللّه وعصاه ، فهو مدّع للمعرفة من غير أن يكون عنده حقيقتها ، فمن لم يعمل لا يكون عارفاً ؛ لأنّ الإيمان بعضه مأخوذ من بعض ويرتبط به ؛ فالمعرفة ثمرتها مأخوذة من العمل ، والعمل مأخوذ من المعرفة ؛ إذ هي أصلٌ له وهو (1) فرعها ، من حيث إنّ العامل لابدّ أن يكون وجه عمله ملحوظاً لماذا ، وإلاّ كانَ عبثاً لا يسمّى عملاً لما يكون لأجله ؛ إذ هو المقصود والمفروض . ويحتمل أن يُراد بالمعرفة هنا العلم ، كما هو ظاهر موضوع الباب ، ولذكر العمل والدلالة معها ، فالمعنى : أنّ اللّه لا يقبل عملاً إلاّ بمعرفة كيفيّة ذلك العمل ووجهه وما يقتضي صحّته ، فإنّ العمل بغير علم لا ثمرة له ، كما في الحديث السابق من أنّ صاحبه كالسائر على غير الطريق ، فهو _ وإن أتعب نفسه _ لا أرضاً قطع إلى ما يريده ولا ظهراً أبقى . وكذلك المعرفة بغير عمل ، فإنّ العالم إذا لم يكن عاملاً لم تحصل (2) له ثمرة العلم ، فهو في الحقيقة غير عالم ؛ لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه . ومن عرف طرق العمل بالعلم كانَتْ تلك المعرفة دالّة له على العمل الصحيح ، فإن عمل بمقتضى الدلالة كانَ عالماً ؛ لإتيانه بما هو شرط العلم ، وإن ترك لم يستحقّ ثمرة المعرفة والعلم . ولعلّ العدول _ على هذا الاحتمال _ عن العلم إلى المعرفة لأنّ المقام مقام معرفة العمل وكيفيّته الحاصلة من العلم ، ولاينافيه دخول المعرفة الخاصّة تحت العلم . وحينئذٍ فقوله عليه السلام : «ألاّ إنّ الإيمان بعضه من بعض» يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون تمثيلاً للعلم والعمل ، وكونهما كالشيء الواحد بالإيمان ، فكما أنّ الإيمان بعضه من بعض فكذا العلم والعمل . الثاني : أنّه قد يسمّى نحو العلم والعمل إيماناً ولو مجازاً باعتبار أنّهما أثر التصديق ، وكلّ منهما مرتبط بالآخر ، فبالعلم تعرف (3) كيفيّة العمل ، وبالعمل تحصل ثمرة العلم . وعلى الوجه الأوّل _ وهو حمل المعرفة على معناها المتعارف _ فعلى تقدير كون العمل جزءاً من الإيمان ، المعنى ظاهرٌ . ويؤيّده ظاهر كثير من الأحاديث ، كالحديث الدالّ على كفر تارك الصلاة من غير تقييد بالاستحلال ونحوه (4) ، وحديث «لا نعدّ المؤمن مؤمناً» (5) ، والحديث الآتي من قوله : «فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلاّ كفراً» (6) وغيره ممّا يأتي في كتاب الإيمان والكفر ، إن لم تحمل على خلاف ظاهرها . وعلى تقدير كون العمل ليس جزءاً من الإيمان _ كما هو المشهور المعمول به _ فيمكن تنزيله على من ترك العمل بالعلم ولو في فرد مستحلاًّ ، أو على نفي الإيمان . الكامل بحيث لا يؤدّي الترك إلى ترك الإيمان وكذا ما تقدّم من الأحاديث ونحوها يحمل على هذا التقدير على ما يوافق كون العمل ليس جزءاً من أصل الإيمان ؛ واللّه تعالى أعلم . و«ألا» _ بفتح الهمزة والتخفيف _ للتنبيه واستفتاح الكلام ، فكأنّه عليه السلام استفتح كلاماً مستأنفاً لقصد التنبيه للسامع بأنّ ما ذكر أوّلاً يحصل به الإيمان ، وهو جمع الأمرين ؛ ولا تتوهّم أيّها السامع أنّ الإيمان يتمّ بدون الجمع بينهما وأنّ كلاًّ منهما غير مرتبط بالآخر ومأخوذ منه كما تقدّم ؛ واللّه أعلم .

.


1- . «ألف ، ب ، د» : «وهي» .
2- . في «ألف» : «لم يحصل» .
3- . في «ج ، د» : يعرف» .
4- . الكافي ، ج 2 ، ص 278 ، باب الكبائر ، ح 8 ؛ و ص 382 ، باب الكفر ، ح 9 ؛ الفقيه ، ح 1 ، ص 206 ، ح 616 ؛ علل الشرايع ، ص 523 ، باب 37 ، ح 1 ؛ وسايل الشيعة ، ج 4 ، ص 41 _ 42 ، ح 4463 و 4465 ؛ وج 15 ، ص 321 ، ح 20631 .
5- . الكافي ، ج 2 ، ص 71 ، باب الخوف والرجاء ، ح 11 ؛ وص 241 ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته ، ح 39 ؛ المؤمن ، ص 39 ، باب ما جعل اللّه بين المؤمنين من الإخاء ، ح 90 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 329 ، المجلس 53 ، ح 8 ؛ علل الشرايع ، ص 523 ، باب 300 ، ح 2 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 256 ، باب 26 ، ح 9 ؛ معاني الأخبار ، ص 184 ، باب معنى السنّة من الربّ ... ، ح 1 .
6- . سيأتي قريبا في باب استعمال العلم ، ح 4 .

ص: 293

. .

ص: 294

. .

ص: 295

عنه ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عمّن رواه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : مَن عَمِلَ على غير علم كانَ ما يفسِدُ أكثرَ ممّا يُصلِحُ» .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث ابن فضّال : (من عَمِلَ على غير علمٍ كانَ ما يُفسِدُ أكثَرَ ممّا يُصلِحُ) . أي من عمل عملاً مبنيّاً على غير علم ولو بتقليد مَن يجوز تقليده ، كما يدلّ عليه أحاديث كثيرة من رجوع العوامّ إلى من يجوز تقليده ، ورجوع المستفتي إلى من يجوز الرجوع إليه ، كما في حديث العسكري عليه السلام : «فأمّا مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم» الحديث . (1) ويأتي إن شاء اللّه ما يتعلّق بهذا المقام في باب التقليد ، وقد مرّ طرف منه في شرح خطبة الكتاب . وقوله عليه السلام : «كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح» يحتمل وجهين باعتبار التفضيل : أحدهما _ وهو الظاهر بحسب المتعارف من مثل هذا الكلام في مثل هذا المقام _ : أن يكون من قبيل قولك لمن يفعل شيئاً يعتقد فيه الصلاح إذا لم يكن فعله على وجهه ولا صلاح فيه : ما تفسد أكثر ممّا تصلح ، أي ما تفسده في الواقع أكثر ممّا تصلحه بحسب اعتقادك ، وهو من قبيل ما تقدّم من قول أميرالمؤمنين عليه السلام . والثاني : أن يكون المراد من عمل عملاً مبنيّاً على غير علم تامّ يتعلّق بجميع أعماله بحسب وسعه وطاقته من اجتهاد ولو فيما يحتاج إليه أو تقليد كذلك ، كان ما يفسده ممّا كان عن غير علم ، أو عن غير علم تامّ ، أكثر ممّا يصلحه ممّا كان عالما بطريق عمله . والأكثريّة هنا قد تكون بالكمّيّة وقد تكون بالكيفيّة بأن يكون عمل واحد على غير وجهه أكثر من مائة عمل على وجهه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . تفسير الإمام العسكري عليه السلام ، ص 299 ، ح 143 ؛ الاحتجاج ، للطبرسي ، ج 2 ، ص 458. وعنه في وسايل الشيعة ، ج 27 ، ص 131 ، ح 33401 .

ص: 296

باب استعمال العلم

باب استعمال العلممحمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن حمّاد بن عيسى ، عن عُمَرَ بن اُذينةَ ، عن أبان بن أبي عَيّاش ، عن سُلَيْم بن قيس الهلاليّ ، قال : سمعتُ أميرَ المؤمنين عليه السلام يُحدِّثُ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال في كلام له :«العلماءُ رجلان :

باب استعمال العلمقوله صلى الله عليه و آله في حديث سليم بن قيس : (العلماء رجلان : رجلٌ عالمٌ آخِذٌ بعلمه ، فهذا ناجٍ ؛ وعالمٌ تاركٌ لعلمه ، فهذا هالكٌ) . العلماء رجلان بمعنى العلماء قسمان، وهذا شائع، وهو من فصيح الكلام وبليغه، كما يقال : «الدهر يومان» (1) و«العمر ساعتان» ، والمراد به التعبير عمّا مضى ويأتي . ويحتمل أن يكون من هذا القبيل ماورد في الحديث «من تساوى يوماه فإنّه لمغبون» (2) بمعنى مَن تساوى أوّل عمره وآخره بمعنى المتقدّم منه والمتأخّر . ويحتمل أن يكون من قبيل فلان يزيد على السنّ خيرا ، أو قول الشاعر : ورجّ الفتى للخير ما إن وجدتهعلى ألسنّ خيرا لايزال يزيد (3) ولعلّ هذا أقرب .

.


1- . الإرشاد ، ج 1 ، ص 300 ، فصل : ومن كلامه عليه السلام في الحكمة والموعظة ؛ نهج البلاغة ، ص 463 ، الكتاب 72 ؛ وص 546 ، الحكمة 396 .
2- . الفقيه ، ج4، ص381، ح5833؛ الأمالي ، للصدوق، ص393 ، المجلس 62، ح4؛ وص 668، المجلس 95، ح 4 ؛ معاني الأخبار ، ص 197 ، باب معنى الغايات ، ح 4 ، وص 342 ، باب معنى المغبون ، ح 3 ؛ الأمالي ، للطوسي ، ص 434 ، المجلس 15 ، ح 31 ؛ روضة الواعظين ، ج 2 ، ص 444 ، مجلس في ذكر الدنيا .
3- . مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 25 ؛ وج 2 ، ص 679 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 35 . وفي الكلّ «رأيته» بدل «وجدته» .

ص: 297

رجلٌ عالمٌ آخِذٌ بعلمه ، فهذا ناج ، وعالمٌ تاركٌ لعلمه ، فهذا هالك ، .........

وقوله عليه السلام «رجل عالم» ولم يقل «عالم» بدون «رجل» لأنّ في ذكر الرجل في هذا المقام إشعاراً بأنّ مثل هذا يستحقّ هذا الاسم الذي يدلّ على معنى في الرجوليّة ، وهو الكمال فيها ، كما يقال : رجل أنت ، وزيدٌ رجلٌ ، وأنت الرجل أي الكامل في الرجوليّة . ومن كان عالما آخذا بعلمه _ أي عاملاً به _ كان هو المستحَقّ لأن يسمّى بهذا الاسم ويوصَف به ؛ ولهذا ترك عليه السلام لفظ «الرجل» في قوله : «وعالم تارك لعلمه» . ففيه تنبيه على أنّ هذا ليس برجل ولا يستحقّ هذا الاسم ، كما يقال لمن لا يعمل بمقتضى عقله : ليس بعاقل ، وكما في قوله تعالى «صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ» (1) . وقوله عليه السلام أوّلاً : «رجلان» لفائدة أنّ كلاًّ منهما يصدق عليه أنّه رجل وأنّه قادر على ما يُراد منه ، ولكن الأوّل لعمله ما ينبغي أن يعمله الرجل سُمّي به ، والثاني لتركه سُلِب هذا الاسم . وتسميته بالعالم لإثبات الحجّة عليه وأنّه لا عذر له ولا مانع سوى التقصير والإهمال ، فإنّ عنده من العلم مع الرجوليّة ما يقطع عذره . والأخذ بالعلم والترك له بمعنى العمل به ، وترك بالعمل به . والتعبير بالعلم دون العمل للتنبيه على أنّ العالم التارك للعمل لا يتوهّم بقاء شيء من علمه ينتفع به مع تركه العمل ، فإنّ تاركه تارك لعلمه ، وكذا العامل ، فإنّه معه آخذ بعلمه ومتمسّك به ؛ لأنّه الأصل فيهما ، وهو الدليل المرشد بعد العقل إن أطاعه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . البقرة (2) : 18 .

ص: 298

وإنَّ أهلَ النار لَيَتَأذّونَ من ريح العالم التارك لعلمه ، وإنَّ أشدَّ أهلِ النار نَدامةً وحسرةً رجلٌ دعا عبدا إلى اللّه ، فاستجاب له وقَبِلَ منه ، فأطاع اللّه ، فأدخَلَه اللّه ُ الجنّةَ وأدخَلَ الدَّاعِيَ النارَ

قوله عليه السلام فيه : (وإنّ أهلَ النارِ لَيَتَأذّونَ من ريحِ العالمِ التاركِ لعِلْمِه) . في هذا ما يقصم الظهور لمن اعتبر ، نسأل اللّه العفو والعافية والتوفيق لما يحبّه ويرضاه ، فإنّ في كون أهل النار _ مع ما هم فيه من شدائد العذاب _ يعذّبون بريح هذا العالم ويشعرون به مالو تأمّله ذو عقل لجَاهَدَ نفسه على الثبوت على العمل أو ترك تحصيل العلم ، لا أنّه ينبغي له تركه ، فإنّه هو سبب الفوز بالسعادة الأبديّة إذا عمل به ، بل لتركه أشدّ القبيحين ، وهو العلم إذا لم يوطّن نفسه على العمل به بالنسبة إلى الجهل . وبالجملة ، فهو غير معذور في ترك العمل مع العلم ، وترك العلم والعمل بعد أن أعطاه اللّه سبحانه القدرة على ذلك ، ولطف به ، وجعل بيده الاختيار ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (وإنّ أشَدَّ أهلِ النارِ نَدامةً وحَسرةً رجلٌ دَعا عبداً إلى اللّه ِ ، فاستجابَ له وقَبِلَ منه ، فأطاعَ اللّه َ ، فأدْخَلَه اللّه ُ الجنّةَ ، وأدخَلَ الداعِيَ النارَ بِتَرْكِهِ عِلْمَه ، واتّباعِهِ الهوى وطولِ الأمَلِ ، أمّا اتّباعُ الهوى فيَصُدُّ عن الحقّ ، وطولُ الأملِ يُنسي الآخرةَ) . وجه زيادة الندامة والحسرة أنّه قد أتى بما يوجب الندامة والحسرة ، وهو ترك العمل بالعلم واتّباع الهوى وطول الأمل ، ويرى مع ذلك من كان هو السبب في إدخاله الجنّة بتعليمه إيّاه وقبوله منه ودخوله الجنّة ، فتزيد ندامته وحسرته من حيث دخوله الجنّة بسبب ما اكتسبه منه ، ودخولُه النار مع كونه داعياً ومعلّماً بسبب تركه ما علّمه غيره واتّباعه هواه وطول أمله .

.

ص: 299

ب_تَرْكه علمَه ، واتّباعِهِ الهوى وطولِ الأم_ل ، أمّا اتّباعُ اله_وى فيَصُدُّ ع_ن الحقّ ،

وفي قوله عليه السلام : «بتركه علمه واتّباعه الهوى ...» فائدتان : إحداهما : أنّ ترك (1) علمه بسبب اتّباعه الهوى وطول الأمل ، والسببيّة تفهم من المقام ، فإنّه لولاهما لما ترك العلم ؛ إذ لو خالف النفس الأمّارة وهواها لفَعَلَ ما ينبغي فعله ، ولو قصر أمله بأن جعل الموت نَصْب عينه وعمل بقوله عليه السلام : «من أمّل أن يعيش غداً ، فقد أساء صحبة الموت ، ولم يؤمّل طول الحياة لما ترك العمل» (2) ، وحديث : «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً» (3) ممّا ينتظم في هذا السلك ، فإنّ من قدر طول العيش أخّر ما يحصّله من الدنيا ولم يهتمّ له ، بخلاف من قدر أن يموت غداً ، فإنّه يبذل جهده فيما ينبغي من أعمال الآخرة . وهذا أمتن الوجوه التي نقلها ابن الأثير في نحو هذا الحديث ؛ (4) واللّه أعلم . الثانية : أنّ من ترك شيئاً لأجل شيء آخر ينبغي أن يكون الباعث على تركه حصولَ فائدة له فيما جعله عوضاً عنه ، وهنا العوض اتّباع الهوى وطول الأمل ، وكلّ منهما مهلك وموجب لدخول النار ؛ لما ذكره عليه السلام من قوله : «أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وطول الأمل يُنسي الآخرة» . وما هذا شأنه كيف يجعل عوضاً لتفويت مافيه دوام السعادة ؟ هل هذا إلاّ عين الجهل والغبن ، وعدم الحصول على شيء سوى الندم؟ والمراد أنّه جعل فائدة علمه عوضاً لاتّباع الهوى وطول الأمل .

.


1- . في «ألف» : «تركه» .
2- . ورد مضمونه في الكافي ، ج 3 ، ص 259 ، باب النوادر ، ح 30 ؛ الزهد ، ص 81 ، باب ذكر الموت والقبر ، ح 217 ؛ والفقيه ، ج 1 ، ص 139 ، ح 382 ؛ والأمالي ، للصدوق ، ص 108 ، المجلس 23 ، ح 4 .
3- . الفقيه ، ج 3 ، ص 156 ، ح 3569 ؛ كفاية الأثر ، ص 226 ، باب ما جاء عن الحسن عليه السلام ... ؛ وسايل الشيعة ، ج 17 ، ص 76 ، ح 22026 ؛ بحارالأنوار ، ج 44 ، ص 139 ، باب جمل تواريخه وأحواله ... ، ح 6 .
4- . النهاية ، ج 1 ، ص 346 .

ص: 300

وطولُ الأمل يُنسي الآخرةَ» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن إسماعيلَ بن جابر ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«العلمُ مَقرونٌ إلى العمل ، فمَن عَلِمَ عَمِلَ ، ومن عَمِلَ عَلِمَ ، والعلمُ يَهتِفُ بالعمل ، فإن أجابَه ، وإلاّ ارتحَل عنه» .

وقوله عليه السلام : «وطول الأمل» بدون «أمّا» إن لم يكن من المواضع التي جوّز النحاة تركها واستدلّوا عليه بآيات قرآنيّة ونحوها ، فكلامه عليه السلام حجّة عليهم مع ثبوته . وكون اتّباع الهوى صادّاً _ أي مانعا _ من قبول الحقّ والعمل به ظاهرٌ ، فإنّ النفس أمّارة بالسوء والشيطان مساعدٌ لها ، وكذا طول الأمل ، فإنّه معه يؤخّر الإنسان أعمال الآخرة ويسوّفها أو يذهل عنها ؛ لعدم توجّهه إليها وتذكّره إيّاها ، وذلك باعث على نسيانها ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث إسماعيل بن جابر : (العلمُ مَقرونٌ إلى العمل ، فمن عَلِمَ عَمِلَ ، ومن عَمِلَ عَلِمَ ، والعلمُ يَهتِفُ بالعمل ، فإن أجابَه ، وإلاّ ارتحلَ عنه) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّ العلم الذي ينبغي أن يسمّى علماً ما كان منضمّاً إلى العمل ؛ ولهذا عدّي ب «إلى» فلا يسمّى صاحبه عالماً إلاّ إذا عمل . ومثله العمل ، فلا يسمّى العامل عاملاً إلاّ إذا كان عمله عن علم ، وإذا حصل العلم صاحَ بالعمل وناداه وطلبه ليكون معه ، فإن أجابه إلى ذلك فهو المراد ، وبه يستقرّ العلم ويثبت وتحصل ثمرته ، وإن لم يجبه ولم يقبل أن يكون معه ، فارقَه وبقي كلّ واحد وحده ، وبقاء كلّ واحد وحده لا يسمّى من كان محلاًّ له عالماً ولا عاملاً ؛ هذا الذي يقتضيه السياق . ويحتمل بعيداً رجوع ضمير «عنه» إلى «العالم» المفهوم من المقام ، أو إلى «من علم» والمعنى حينئذٍ أنّ علم العالم يطلب العمل ليكون معه ، فإن أجابه إلى ذلك ، وإلاّ فارَقَ ذلك العلم العالم بحيث لا يسمّى عالماً ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 301

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن عليّ بن محمّد القاسانيّ ، عمّن ذكره ، عن عبداللّه بن القاسم الجعفريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إنَّ العالمَ إذا لم يَعمَلْ بعلمه زَلَّتْ موعظتُه عن القلوب كما يَزِلُّ المطرُ عن الصفا» .

قوله عليه السلام في حديث عبداللّه بن القاسم : (إنّ العالِمَ إذا لم يَعمَلْ بعلمه زَلَّتْ موعظتُه عن القلوب كما يَزِلُّ المطرُ عن الصفا) . «الصفا» بالقصر جمع صفاة ، وهي الصخرة الملساء ، شبّه عليه السلام عدم تأثير موعظته لغيره وعدم ثبوتها في قلب من يعظه بالمطر الواقع على الصخر الأملس في عدم ثبوته عليه وعدم ترتّب فائدة منه ينتفع بها ، وذلك بخلاف ما إذا وقع المطر على التراب ، فإنّه يترتّب عليه فائدة نحو النبات والزرع ، وبخلاف وقوعه على الصخر غير الأملس ، فإنّه ربما حصلت منه فائدة مّا باجتماعه في وهدة فيها (1) يشرب ذلك الماء ، ونبات ما إذا خالطه بعض التراب ؛ ففيه فائدة في الجملة . وهذا كلّه منتف في الصخر الأملس كانتفاء فائدة موعظة غير العامل بعلمه ، فإنّ من عُلم منه عدم العمل ، كان أوّل ما يخطر ببال السامع أنّ هذا لو كان صادقاً لعمل بما يقول ، وكيف يعتمد على قول من يقول ولا يفعل ، بخلاف العامل ، فإنّ عمله بعلمه مصدّق لقوله ، وذلك باعثٌ على الاعتماد على ما يقول والاقتداء به . وما أحسن ما قيل : يا أيّها الرجل المعلم غيرههلاّ لنفسك كان ذا التعليم إبدَأ بنفسك فَانْهَها عن غيّهافإذا انتهت عنه فأنت حكيم لاتَنْه عن خلق وتأتي مثلهعارٌ عليك إذا فعلت عظيم (2)

.


1- . في «ج ، د» : «فيه» .
2- . نسبة القرطبي في تفسيره ج 1 ، ص 367 إلى أبي الأسود الدؤلي ، وذكر بعضه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ، ج 34 ، ص 159 ونسبه إلى ابن السماك ، ونقل بعضه الشعراني في العهود المحمديّة ، ص 402 ،، وأيضا ذكره ورام بن أبي فراس في مجموعة ورّام ، ج 2 ، ص 301 .

ص: 302

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن المنقريّ ، عن عليّ بن هاشم بن البَريد ، عن أبيه ، قال :جاء رجلٌ إلى عليّ بن الحسين عليه السلام فسَأَلَه عن مسائلَ فأجابَ ، ثمَّ عادَ ليَسْأَلَ عن مثلها ، فقالَ عليُّ بن الحسين عليه السلام : «مكتوبٌ في الإنجيل :ص 45 لا تَطلُبوا علمَ ما لا تعلمون ولمّا تَعْمَلوا بما عَلِمتم ، فإنَّ العلمَ إذا لم يُعملْ به لم يَزدَدْ صاحبُه إلاّ كفرا ، ولم يَزدَدْ من اللّه إلاّ بُعدا» .

قوله عليه السلام في حديث عليّ بن هاشم بن البَريد بعد سؤال السائل إيّاه عن مسائل وجوابه له ، ثمّ عوده ليسأل عن مثلها : (مكتوبٌ في الإنجيل : لا تَطلُبوا علمَ ما لا تَعلمونَ ، ولمّا تَعملوا بما عَلِمْتم ، فإنّ العلمَ إذا لم يُعْمَلْ به لم يَزدَدْ صاحبُه إلاّ كفراً ، ولم يَزدَدْ من اللّه إلاّ بُعداً) . في هذا الحديث فوائد : الاُولى : النهي عن طلب العلم إذا لم يعمل الطالب بما كان قد علمه ، وعلَّلَه عليه السلام بأنّ العلم إذا لم يعمل به لم يَزْدَدْ صاحبه مع كفره الحاصل من ترك العمل بما علمه إلاّ كفراً آخر من التعلّم الآخر وعدم العمل به ، ولم يزدد مع البُعد من رضوان اللّه الحاصل من ترك العمل بما علمه إلاّ بُعداً ، أو لم يزدد مطلق العالم غير العامل إلاّ كفراً وبُعداً ، أو لم يزدد مع كفره وبُعده الحاصلين من الجهل إلاّ كفراً وبُعداً . وكون السائل أتاه عليه السلام ليسأله بعد سؤاله الأوّل يؤيّد الأوّل . ومعنى «لمّا» حينئذٍ أنّه مالم يكن عمله بما يعلمه (1) كائناً ومستمرّاً ، وأنّه إن ترك العمل في الماضي ينبغيأن يقلع عنه ويعمل به فيما يستقبل ثمّ يتعلّم غيره . وظاهر «لمّا» قد يؤيّد الثاني . والمعنى : لا تطلبوا العلم من غير عمل . ولا ينافيه زيادة البعد والكفر ، والسياق على الأوّل ، ووجه الثالث يظهر ممّا تقرّر فتأمّل . والظاهر أنّ المراد من الكفر البعد عن تحصيل كمال الإيمان ومزاياه إن لم يصل بترك العمل إلى مرتبة الكفر الحقيقي . وهذا على تقدير كون العمل ليس جزءاً من الإيمان . الثانية : فيه دلالة على أنّ العالم غير العامل أسوأ حالاً من الجاهل ، وأنّه كلّما ازداد علماً بغير عمل ازداد كفراً وبُعداً على قدر علمه . الثالثة : فيه تقريعٌ للجاهل وتنبيهٌ له على أنّه كافر بالمعنى السابق إن لم يصل إلى المرتبة الثانية ، وعلى أنّه بعيد من اللّه ، وإنّ من كان كذلك يجب عليه التخلّص من ظلمة الجهل إلى نور العلم بشرطه ، وأنّه لا يكون ساعياً في تحصيل ما قد يسمّى علماً وليس بعلم ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج ، د» : «تعلمه» .

ص: 303

محمّد بن يحيى، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سِنان، عن المفضّل بن عمرَ، عن أبيعبداللّه عليه السلام ، قال:قلتُ له: بِمَ يُعرَفُ الناجي؟ قال: «مَن كان فعلُه لقوله موافقا فأثْبِتْ له الشهادةَ ، ومَن لم يَكُنْ فعلُه لقوله موافِقا فإنّما ذلك مُستودَعٌ» .

قوله عليه السلام في حديث المفضّل بعد قوله له : بِمَ يُعرَفُ الناجي؟ : (من كان فعلُه لقولِه موافقاً فإنّما ثابتٌ له (1) الشهادة (2) ، ومن لم يَكُنْ فعلُه لقولِه موافقاً فإنّما ذلك مُستودَعٌ) . هذا الحديث مذكور في كتاب الإيمان والكفر من هذا الكتاب بهذا الطريق عن المفضّل الجعفي مع زيادة في المتن ، والظاهر أنّه ابن عمر ، وإن شاركه غيره فيه . ومتن الحديث : قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ الحسرةَ والندامةَ والويلَ كلَّه لمن لم يَنتَفِعْ بما أبصَرَه ، ولم يَدْرِ ما الأمرُ الذي هو عليه مقيمٌ ، أنفعٌ له أم ضَرٌّ» . قلت : فبِمَ يُعرَفُ الناجي من هؤلاء جُعلتُ فداك؟ قال : «من كان فعلُه لقولِه موافقاً فاُثْبِتَ له الشهادةُ بالنجاة ، ومن لم يكن فعلُه لقولِه موافقاً فإنّما ذلك مُستودَعٌ» (3) انتهى . وترجمة الباب باب في علامة المعار . وفي بعض النسخ : باب فيمن تثبت عليه الشهادة بالإيمان والنفاق . وبين الحديثين كماترى اختلاف بالزيادة والنقصان ، وفي بعض الألفاظ ما لا يخفى . وحاصل المعنى مع ملاحظتهما معاً : أنّ من وافق فعلُه قولَه فهو ممّن تثبت له الشهادة بأنّه مؤمن وأنّه ناج ، فيكون مستعملاً لعلمه وعاملاً به ، فيدخل من هذه الجهة في باب استعمال العلم . ومن لم يكن كذلك فإنّما إيمانه الذي هو عليه بحسب الظاهر مستعارٌ غير ثابت ومستقرّ له ، وبالتقريب السابق يدخل أيضاً في باب استعمال العلم . وسياق استعمال العلم يقتضي أن يكون المراد بالقول العلم وبالفعل العمل ، ويحتمل إرادة ما يعمّ غيرهما إن فرض من القول والفعل مالا يدخل تحتهما ، لكنّ الظاهر أنّ كلّ ما يفرض داخل تحتهما ممّا يعدّ قولاً وفعلاً . ومع قطع النظر عن ملاحظة الحديث الثاني يحتمل أن يكون المراد في هذا الحديث بالشهادة أنّ من كان كذلك يثبت (4) له الإقرار بالشهادة وأنّه مؤمن ، أو مؤمن ثابت ، أو كامل ؛ فتحصل له ثمرة الشهادة ، ومن لم يكن كذلك فإنّما إيمانه الذي حصّله بالشهادة مستعارٌ عنده ، مستودعٌ غير مستقرّ . وفيه دلالة على كون العمل جزءاً من الإيمان ، إن لم يكن المراد الكمال ونحوه . وقد يشعر لفظ «مستودع» بعدم الكمال . وفي الحصر ب «إنّما» في الموضعين تأكيدٌ لثبوتها له في الأوّل ، وانتفائها عنه في الثاني . ولا يخفى ما في الحصر وإرادة الإضافي تقربه . والكلام على مثل ألفاظ هذا الحديث ونحوها من حيث إنّها ربما تكون محرّفة من النُّساخ أو من الناقل بالمعنى ، وإلاّ فلو ثبت كونها صادرة عن المعصوم فأيّ عاقل يجترىٌ على الكلام فيها؟ وأيّ عقل يدرك حقيقة ما يقوله؟ فالخطأ حينئذٍ من سوء الفهم . وفي لام «له» دلالة على الاستحقاق والثبات . بقي احتمال لا يخلو من بُعد ، وهو أن يكون المعنى أنّ من كان كذلك ، كان ممّن تقبل شهادته ؛ لأنّه ثابت الإيمان عاملٌ بعلمه ، ومن لم يكن كذلك فإيمانه مستودع ، وكذا علمه ، فلا تقبل شهادته ، وليس له أن يشهد . وهذا الاحتمال بالنظر إلى مجرّد متن الحديث ، وهو كماترى ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في كثير من نسخ الكافي والمطبوع : «فأثبت له» ؛ وفي بعضها : «فإنّها له» ؛ وفي بعضها : «فأبثّ له» وهو مختار العلاّمة المجلسي في مرآة العقول، قال فيه : «قوله عليه السلام : فأبث له الشهادة. في بعض النسخ هكذا بالباء الموحدّة والثاء المثلثة ، من البثّ بمعنى النشر . ويمكن أن يقرأ بصيغة المضارع المعلوم وبصيغة الأمر وبصيغة الماضي المعلوم . وفي بعضها بالموحّدة أوّلاً ثم المثنّاه ، من البتّ بمعنى القطع ، وفي بعضها «فأثبت» بالمثلثة ثم الموحّدة ثم المثنّاة، من الاثبات، ويحتمل الوجوه الثلاثة أيضا كسابقة. وفي بعضها : «فإنّما بثّ له الشهادة». وسيأتي هذا الحديث في باب المستودع والمعار، وفيه : «فأتت له الشهادة بالنجاة» وهو أظهر» . مرآة العقول، ج1، ص144.
2- . في الكافي ، ج 2 ، ص 419 ، باب علاّمة المعار ، ج 4 ؛ والمحاسن ، ص 252 ، باب الأخلاص من كتاب مصابيح الظلم ، ح 274 + : «بالنجاة» . وفي الأمالي ، ص 358 ، المجلس 57 ، ح 7 : «فهو ناج» بدل «فأثبت له الشهادة» .
3- . الكافي ، ج 2 ، ص 419 ، باب علامة المعار ، ح 4 .
4- . في «ج» : «ثبت» .

ص: 304

. .

ص: 305

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، رَفَعَه ، قال :قال أميرُالمؤمنين عليه السلام في كلام له خَطَبَ به على المنبر : «أيُّها الناسُ ، إذا عَلِمْتم فاعمَلوا بما عَلِمْتم لعلّكم تَهتدون ، إنَّ العالِمَ العامِلَ بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يَستفيقُ عن جهله ،

قوله عليه السلام في حديث أحمد بن محمّد بن خالد : (إنّ العالمَ العامِلَ بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يَستفيقُ عن جهله ، بل قد رأيتُ أنّ الحجّةَ عليه أعظمُ ، والحسرةَ أدومُ على هذا العالمِ المُنْسَلِخِ من علمِه منها على هذا الجاهلِ المتحيّرِ في جهله ، وكلاهما حائرٌ بائرٌ) . شبّه عليه السلام العالم الذي يعمل بغير علمه الذي هو أدلّ على المقصود ممّن لا يعمل بعلمه بالجاهل المتحيّر بسبب جهله الذي لا يرتفع عنه جهله بوجه ، ولا يفيق من سكرة الجهل ليهتدي ولو في وقت مّا إلى طريق من طرق العلم والهدى ، فهو مثل الجاهل الذي هو في أعلى طبقات الجهل وأسفل دركات الشقاء ، فكان هذا الشقاء ثمرة تعبه وشقائه على تحصيل العلم ، فأعظم أفراد الجاهل أقلّ وبالاً منه ؛ لقوله عليه السلام : «بل قد رأيت أنّ الحجّة على أعظم» وهذا الإضراب منه عليه السلام لدفع توهّم أنّه مشابه له من جميع الجهات . ومعناه : أنّي قد تحقّقتُ وعلمتُ أنّ الحجّة على هذا العالم أعظم من الحجّة على هذا الجاهل . ووجهه ظاهر ، فإنّ العالم تَرَكَ ما ترك عن علمٍ ومعرفةٍ ، والجاهل تركه لا عن ذلك ، وإن كان مقصّراً بتركه التعلّم ، وليس من عَلِمَ كمن لا يَعلَم .

.

ص: 306

بل قد رأيتُ أنَّ الحجَّةَ عليه أعظمُ ، والحسرةَ أدومُ على هذا العالم المنسلخ من علمه منها

وقوله عليه السلام : «والحسرة ...» كقوله : «والحجّة عليه أعظم» ، أي حسرته أدوم عليه من الحسرة الحاصلة للجاهل ، فإنّ حسرته على عدم التعلّم ، وحسرةَ هذا على تعبه وسعيه ومشقّته التي كانت ثمرتها الذلَّ والشقاء المقتضيين لدوام الحسرة زيادة عن غيره . ف «الحسرة» مبتدأ ، خبره «أدوم» ، وهي مفضلة على نفسها باعتبارين : أحدهما كونها مع هذا العالم ، والآخر كونها مع هذا الجاهل . ومناسبة «أعظم» للحجّة و«أدوم» للحسرة ظاهرة . وفي التعبير بالمنسلخ تنبيهٌ على أنّ هذا العلم الذي قد انسلخ عنه وفارقه موجب لتمام الضرر ، وعدم بقاء الحياة المعنويّة معه ، كما أنّ من انسلخ عنه جلده من الحيوانات لا يبقى له معه حياة ظاهرة ولا بقاء ، وعلى أنّ بقاء العلم مع العمل كبقاء ذي الجلد مع الجلد من جهة الحياة وما يترتّب عليها من أنواع المنافع . ومنه يظهر أيضاً وجه دوام الحسرة ومفارقته للجاهل من حيث إنّه لم يكن له جلد ينسلخ عنه . وفي التعبير بالمنسلخ تنبيهٌ أيضاً على أنّه هو الفاعل لذلك ، والباحث على حتفه بظلفه . ولم يقل «المنسلخ عنه علمه» لأنّ الإنسان وعاء للعلم ، كما أنّ الجلد وعاء لما يحتوي عليه .

.

ص: 307

على هذا الجاهلِ المتحيّرِ في جهله ، وكلاهما حائرٌ بائرٌ ، لا تَرتابوا فَتَشُكّوا ، ولا تَشُكّوا

وفي قوله عليه السلام : «المتحيّر في جهله» بعد ذكره أوّلاً تنبيهٌ على أنّه أسوأ حالاً من هذا الشخص الموصوف بما ذكر ، وفي ذكره ماليس في تركه ، كما يدركه من له دربة ببلاغة الكلام . ولمّا ذكر عليه السلام الفرق بينهما وأنّ العالم أسوأُ حالاً ، ربما توهّم أنّ الجاهل المذكور ناجٍ في الجملة ، فنبّه عليه السلام على أنّ كلّ واحد منهما حائرٌ عن قصد سبيل الحقّ والصواب ، بائرٌ ، أي هالك ، وإن تفاوتا في ذلك ؛ واللّه أعلم . وضمير «بغيره» يرجع إلى العلم المفهوم من العالم ، نحو : «اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ» . (1) قوله عليه السلام في هذا الحديث : (لا تَرتابوا فَتَشُكّوا ، ولا تَشُكّوا فتكفروا ، ولا تُرَخِّصوا لأنفسكم فتُدْهِنوا ، ولا تُدهنوا في الحقّ فتَخْسَروا ، وإنّ من الحقّ أن تَفَقَّهوا ، ومن الفقهِ أن لا تَغتَرَّوا ، وإنّ أنصَحَكُم لنفسه أطوَعُكم لربّه ، وأغَشَّكم لنفسه أعصاكم لربّه) .

.


1- . المائدة (5) : 8 .

ص: 308

فتَكْفُروا ، ولا تُرخِّصوا لأنفسكم فَتُدهِنوا ، ولا تُدهِنوا في الحقّ فتَخْسَروا ، وإنَّ من الحقّ أن

قوله عليه السلام : «ولا ترخّصوا» معطوف على «لا ترتابوا» لا على ما قبله ، و«إنّ من الحقّ ...» معطوف على «لا ترخّصوا» ، و«إنّ أنصحكم ..» معطوفٌ على «إنّ من الحقّ» ، أو الجميع معطوف على المعطوف عليه الأوّل . و«الريب» في الأصل قلق النفس واضطرابها ، ولعلّ المراد هنا أنّكم لاتسلكوا طريق الشبهات التي توصل إلى الشكّ في أمر الدين والولاية ، بل الزموا طريق الصواب الواضح الذي أمرتم بسلوكه . «ولا تشكّوا فتكفروا» أمّا الكفر الحقيقي ، كما لو أدّى الشكّ إلى ما يقتضيه ؛ أو الكفر المنافي لكمال الإيمان ، كما هو كثير متعارف ؛ أو الشامل لهما باعتبار ما يصدق عليهما بالتواطؤ والتشكيك ، وصَرْف كلّ إلى ما يناسبه . والمداهنة : إظهار خلاف ما يضمر والغشّ . ولعلّ المراد هنا : لا ترخّصوا لأنفسكم فيما لا يجوز ، أو فيما ينبغي تركه مطلقاً ، فإنّه قد يؤدّي إلى ما لا يجوز فتغشّوا أنفسكم ، أو مطلقا ، وإن كان يرجع إلى غشّ النفس ، فإنّ من غَشَّ غيره فقد غشّ نفسه ، ولا تستعملوا الغشّ في الحقّ فتخسروا دينكم وآخرتكم . وعبّر عليه السلام ب «تخسروا» من حيث إنّ الغشّ في الحقّ كالغشّ فيما يعارض به الإنسان ، فإنّه يغشّ سلعته لنفع دنيويّ يترتّب عليه الضرر الاُخرويّ ، وقد يترتّب عليه ضرر وخسارة دنيويّان أيضاً . والغشّ في الحقّ يقتضي خسارة الدين ، وهي أعظم الخسران ؛ بل هي الخسران ، وقد يخسر معها الدنيا . وقوله عليه السلام : «وإنّ من الحق أن تفقّهوا» بيانٌ لما هو من أجَلِّ أفراد الحقّ الذي لا ينبغي غشّ النفس فيه ، وهو الفقه الذي هو العلم ، ومن ذلك العلم أن لا تغترّوا ، أي تخدعوا (1) أنفسكم ويخدعها غيركم بما يؤدّي إلى ترك العمل بالعلم ، فإنّ العمل من العلم من حيث إنّه لا يتمّ ولا تحصل ثمرته إلاّ به . ولا ينافيه «المؤمن غرٌّ كريمٌ» (2) فإنّ الظاهر أنّ المراد به أنّه قد يغترّ و يخدع فيما يتعلّق بدنياه ، لا بدينه وآخرته ، وقد تقدّم . ثمّ نبّه عليه السلام على أنّ النصيحة والغشّ المعبّر عنه بما يتضمّنه الإدهان تتفاوت مراتبه ، فبقدر النصيحة تكون الطاعة ، وبقدر الغشّ تكون المعصية ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ب» : «لا تخدعوا» .
2- . الأمالي ، للطوسي ، ص 462 ، المجلس 16 ، ح 36 ؛ جامع الأخبار ، ص 85 ، الفصل الحادي والأربعون ؛ وسايل الشيعة ، ج 12 ، ص 18 ، ح 15528 ؛ بحارالأنوار ، ج 64 ، ص 298 ، باب علامات المؤمن وصفاته ، ح 23 ؛ مسند أحمد ، ج 2 ، ص 394 ؛ سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 435 ، ح 4790 .

ص: 309

تَفَقَّهوا ، ومن الفقه أن لا تَغتَرُّوا ، وإنَّ أنصحَكم لنفسه أطوَعُكم لربّه ، وأغَشَّكم لنفسه أعصاكم لربِّه ، ومن يُطِعِ اللّه َ يأمَنْ ويَسْتَبْشِرْ ، ومن يَعْصِ اللّه َ يَخِبْ ويَنْدَمْ» .

قوله عليه السلام في هذا الحديث : (ومَن يُطِعِ اللّه يأمَنْ ويَستَبْشِرْ ، ومن يَعْصِ اللّه يَخِبْ ويَنْدَمْ) . تنبيه منه عليه السلام على أنّ كلّ مطيع للّه بما ذكر وغيره يَأمَنُ العذاب ، ويستبشر بالجنّة وحصول الثواب ، وكلّ عاص للّه يكون سعيه باطلاً ، وعلمه وبالاً ، وتركه التعلّم خسارة ، فكان خائباً ممّا يحصل لاُولي العلم ، ونادماً على ما فرط . ولاينافي العموم عفوه تعالى عن بعض العُصاة ؛ لحصول الخيبة لهم والندم في الجملة . والتقييد بعدم التوبة معلومٌ بالنسبة إلى الخيبة والندم في الآخرة ، مع احتمال حصول الندم مطلقا ولو في الجملة في الآخرة ، وقد تحصل الخيبة أيضاً ممّا يناله غيره ؛ فتأمّل . ويمكن أن تؤخذ القضيّة طبيعيّة ؛ وفيه تأمّل . ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام : «ومن يطع اللّه ...» راجعاً إلى ما تقدّمه ممّا يتضمّن الطاعة والمعصية ، فإنّه شامل لجميع الطاعات والمعاصي على وجه يمكن إدخالها تحته ، فلا يحتاج إلى فرض ما خرج عنه ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 310

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عمَّن ذكره ، عن محمّد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، قال :سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : «إذا سَمِعتم العلمَ فاستَعْمِلوه ، ولْتَتَّسِعْ قلوبُكم ؛ فإنّ العلمَ إذا كَثُرَ في قلب رجل لا يحتمله قَدِرَ الشيطانُ عليه ، فإذا خاصَمَكم الشيطانُ فأقْبِلوا عليه بما تَعرفونَ ؛ فإنَّ كيدَ الشيطانِ كانَ ضعيفا» . فقلت : وما الذي نَعرِفُه؟ قال : «خاصِموه بما ظهَر لكم من قدرة اللّه عزّ وجلّ» .

قوله عليه السلام في حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى : (إذا سَمِعْتُم العلمَ فاستعملوه وَلْتَتَّسِعْ قلوبُكم ، فإنّ العلمَ إذا كَثُرَ في قلب رجلٍ لا يَحتَمِلُه قَدَرَ الشيطانُ عليه ، فإذا خاصَمَكم الشيطانُ فأقْبِلوا عليه بما تَعرِفونَ ، فإنّ كيدَ الشيطانِ كانَ ضعيفاً . قلت : وما الذي نعرفه؟ قال : خاصِموه بما ظَهَرَ لكم من قُدرةِ اللّه ِ عَزَّ وجَلَّ) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّكم إذا سمعتم العلم وأخذتموه من أهله فاعملوا به وإن لم يظهر لكم وجهه كلّه ، وكلّفوا قلوبكم حمله والتسليم له وإن لم تطّلعوا على ذلك ، فإنّ العلم إذا كثر في قلب رجل لا يتكلّف حمله ، ولا يسلم لما لم يفهم وجهه ، قدر عليه الشيطان ، فأبرز له شبهات وتشكيكات ، خصوصاً فيما لم يعلم وجهه ، فأخرجه عن كونه حاملاً له وأنكره ، بخلاف من سمع العلم من أهله وعمل به وتحمّله من غير أن ينظر إلى ما يلحقه من الشبهة ، فإنّه يكون حاملاً له حملاً لا يزيله عنه الشيطان . ثمّ إنّه عليه السلام علّم حملة العلم ما يقدرون به على دفع كيد الشيطان ، فإنّ كيده ضعيف يقدر الإنسان على دفعه بأن يخاصمه بما ظهر له من قدرة اللّه عزّ وجلّ التي لا تدخل عليه من جهتها الشبهة ، ويترك ما لم يظهر له ، فإذا خصمه بذلك اكتفي شرَّه ، وإذا وسوس إليه بما فيه شبهة دَفَعَه بالظاهر الجليّ من قدرته تعالى ولم يلتفت إلى غيره ، وإذا أتى بما يدلّ على قدرته تعالى قَدَرَ أن يدفعه عمّا فيه شبهة ، كأن يقول له _ مثلاً _ : من كانت هذه قدرته لا يعجز عمّا أخبرنا به المخبر الصادق وان لم نعلم وجهه ، أو هذا أخبرنا به الصادق فهو حقّ وإن لم نعلم وجهه ، وكما لو وسوس إليه بما يقتضي نفي الصانع ، فأجابه بأنّ هذا العالم ونظامه وإتقانه وإحكامه لا يكون إلاّ بمؤثّر ، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك من الشبهات . وأمثلة هذا كثيرة . فهذا معنى حمل العلم والتسليم والانقياد له . فقوله عليه السلام : «فإذا خاصمكم ...» تعليم لمن يحمل العلم بالمحافظة على حمله به مع ما تقدّم . وأمّا من لم يحمل العلم فإنّ الشيطان يأتيه من قِبَلِ ما فيه شبهة ، فإذا خاصمه به كان الشيطان أقدرَ على ترويج الشبهة منه ، فإنّ علمه لا أساس له يرجع إليه ويعتمد عليه ؛ لحمله من غير أهله ، فالعلم ما كان من أهل العلم عليهم السلام . ومن هذا الكلام الشريف يظهر أنّ أصل العقائد الفاسدة والآراء السخيفة هو ما يلقّيه الشيطان إلى أهلها ويحسّنه عندهم فيتّبعونه ، ولو حملوا العلم على الوجه الذي اُمروا به لما وقعوا في لجج الضلال . واللام في «لتتّسع» لام الأمر ، والمعنى : لتتّسع قلوبكم لحمله ، أو له . وحذفه لدلالة المقام وما يأتي عليه . و«لا يحتمله» صفةٌ ل «رجل» ، و«قدر» جزاء الشرط .

.

ص: 311

. .

ص: 312

باب المستأكل بعلمه والمباهي به

باب المستأكل بعلمه والمباهي بهمحمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ؛ وعليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا، عن حمّاد بن عيسى ، عن عُمَرَ بن اُذينةَ ، عن أبان بن أبي عيّاش ، عن سُلَيم بن قيس، قال : سمعتُ أميرَ المؤمنين عليه السلام يقول :«قالَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله : مَنهومانِ لا يَشْبَعانِ : طالبُ دنيا ، وطالبُ علمٍ، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحَلَّ اللّه ُ له سَلِمَ،ومن تناوَلَها من غير حِلّها هَلَكَ،

باب المستأكل بعلمه والمباهي بهقوله صلى الله عليه و آله في حديث سُلَيْمِ بن قَيْسٍ : (مَنهومان لايَشبَعان : طالبُ دنيا ، وطالبُ علمٍ ، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحَلَّ اللّه ُ له سَلِمَ ، ومن تَناوَلَها من غير حِلّها هَلَكَ ، إلاّ أن يتوب ، أو يُراجِعَ ، ومن أخَذَ العلمَ من أهله وعَمِلَ بعلمه نَجا ، ومن أراد به الدنيا فهي حَظُّه) . النهمة : بلوغ الهمّة في الشيء ، وقد نهم بكذا فهو منهوم ، أي مولع . والنَهَم _ بالتحريك _ إفراط الشهوة في الطعام ، شبّه عليه السلام مَن يتناول الدنيا مِن أيّ وجه اتفّق ولا يشبع من تناولها ومَن يحصّل العلم _ سواء كان علماً نافعاً أم ضارّاً ، أم خالياً من النفع والضرر ، وسواء قَرَنَه بالعمل أم لا ، وسواء كان أخَذَه مِن أهله أم لا _ بمن لا يشبع من الطعام ، أي لا يكتفي بما فيه صلاحه ، فكما أنّ الزيادة منه مفسدة للبدن ومخرجة للمزاج عن قرب الاعتدال وربما أهلكته ، فكذلك الدنيا والعلم ، فإنّ الزيادة عمّا هو مأمور بأخذه على وجهه مفسدة للدين ، وقد تذهب به وتهلكه ، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحلّ اللّه له ، فقد كفَّ شهوته عن الزائد عن القدر المفسد ، كمن كفَّ شهوة بطنه . وكذا العلم ، فإنّ مَن أخذه مِن أهله وهم أهل العلم عليهم السلام ، ومن أخذه عنهم وانقادَ لما يأخذه وعمل به ، سَلِمَ من ورطة الشبهات الحاصلة من العلوم التي لا تنفع ، بل قد تضرّ .

.

ص: 313

إلاّ أن يَتوبَ أو يُراجِعَ ، ومن أخَذَ العلمَ من أهله وعَمِلَ بعلمه نجا ، ومن أرادَ به الدنيا فهي حَظُّهُ» .

وقوله عليه السلام : «إلاّ أن يتوب أو يراجع» يحتمل أن يكون المراد به : إلاّ أن يتوب فيما لا يمكن فيه المراجعة ، كما يفوت من حقوق اللّه تعالى التي لا يقدر على أدائها ، ومالا يقدر عليه من حقوق العباد إمّا بانقراض أهلها ، أو بعدم إمكان الخلاص منهم ولو بصلح أو إبراء ونحوه . وهذا في حقّ اللّه تعالى ظاهر ، فإنّه أكرم الأكرمين ، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات . وأمّا حقوق الناس ، فلا يبعد أنّ اللّه سبحانه يعوّض عنها أهلها إذا وصل الإنسان إلى مرتبة لا يمكنه الخلاص ، وأخلص التوبة والندم ؛ واللّه تعالى أعلم . أو يراجع فيما يمكن فيه المراجعة ، فيوصل إلى ذوي الحقوق حقوقهم ولو بإبراء أو هبة أو صلح ، وما كان من حقوقه تعالى له وجه يصرف فيه ، فكذلك . فالإتيان ب_ «أو» لفائدة أنّ الأوّل يكفي فيه التوبة ، وهي الندم على ما فرّط منه ، والثاني تكون توبته بالمراجعة ، مع أنّهما قد لا يجتمعان ، واجتماعهما لاينافي الإتيان ب_ «أو» بعد معرفة ما يترتّب على كلّ قسم . وليست القضيّه مانعة للجمع . والواو لا تفيد ما ذكر من الفوائد ؛ على أنّ «أو» قد تفيد الجمع المطلق كالواو ؛ قاله الكوفيّون والأخفش والجرمي (1) ، واستدلّوا عليه بأدلّة كثيرة ، كقول جرير : جاء الخلافة أو كانت له قدراً 2 وقول توبة : لنفسي تُقاها أو عليها فجورها 3 وقول النابغة : إلى حمامتنا أو نصفه فقد 4 وغير ذلك . وحينئذٍ يمكن حمل المراجعة على نحو ما تقدّم ، وعلى التأكيد . بقي احتمال آخر ، وهو تعلّق التوبة بما هو حقّ اللّه والمراجعة بما هو حقّ الناس ، فتأمّله ؛ واللّه أعلم . وهذا المقام محتمل لتفصيل وكلام أكثر من هذا لا يخفى على المتدبّر .

.


1- . انظر : مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 62 ؛ شرح ابن عقيل ، ج 2 ، ص 233 .

ص: 314

الحسين بن محمّد بن عامر ، عن مُعلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أحمدَ بن عائذ ، عن أبي خديجةَ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«من أرادَ الحديثَ لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيبٌ ، ومن أرادَ به خيرَ الآخرة أعطاهُ اللّه خيرَ الدنيا والآخرةِ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد الأصبهانيّ ، عن المِنقَريّ ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«من أرادَ الحديثَ لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نَصيبٌ» .

قوله عليه السلام في حديث أبي خديجة : (من أرادَ الحديثَ لمنفعةِ الدنيا لم يَكُنْ له في الآخرةِ نَصيبٌ ، ومن أرادَ به خيرَ الآخرةِ أعطاه اللّه ُ خيرَ الدنيا والآخرة) . في تعبيره عليه السلام فيما يتعلّق بالدنيا ب_ «المنفعة» ، وفيما يتعلّق بالآخرة ب_ «الخير» تنبيهٌ على أنّ ما يُراد به الدنيا لا خير فيه ، وإن ترتّب عليه شيء فهو محض منفعة دنيويّة «وما خير بخير بعده النار» (1) كما في الحديث ؛ فما لا خير فيه من المنافع لا ينبغي طلبه . ولمّا كان ما يعطى في الدنيا بسبب طلب خير الآخرة كان أيضاً خيراً ، فلهذا قال عليه السلام : «خير الدنيا والآخرة» . والظاهر أنّه لو ضمّ إلى إرادة خير الآخرة الدنيا التي يُستعان بها على الآخرة ، لم يكن ذلك منافيا لإرادة خير الآخرة ، بل هو داخل تحت إرادة خير الآخرة ؛ لما ورد في الحديث : «نعم العون الدنيا على الآخرة» (2) . وتقسيم الإرادة إلى القسمين الظاهر أنّ المراد به الدنيا فقط والآخرة فقط ولا يرد صورة اجتماعهما (3) لأنّه لا يحصل ، كما ورد من تشبيههما بالضرّتين ، وبكفّتي الميزان ، وبالمشرق والمغرب . وقد تقدّم أنّ ضميمة الدنيا على وجهٍ داخلٌ تحت إرادة الآخرة ، فلا يتحقّق اجتماعهما على غير هذا الوجه . ويحتمل قوله عليه السلام : «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا» وجهاً آخر ، وهو أن يكون المقصود منه بالذات منفعة الدنيا ، سواء كانت مقصودة وحدها أم ضمّ إليها منفعة الآخرة بالتبعيّة ؛ وكذا قوله عليه السلام : «ومن أراد به خير الآخرة» أي سواء كان مقصوداً وحده ، أم مقصوداً بالذات وإرادة الدنيا معه بالتبعيّة والضميمة ؛ فالأوّل ليس له فيما قصده بالتبعيّة نصيب ، والثاني ينبغي حمله على ما يؤول إلى الأوّل من دخول الضميمة تحت ما يتعلّق بالآخرة . ويحتمل شموله مالاينافي الآخرة ؛ فتأمّله . وكأنّ في لفظ «النصيب» إشعاراً مّا بهذا الوجه الأخير ، ولكلٍّ مرجّحات تظهر بالتأمّل ؛ واللّه أعلم . و«الخير» هنا ليس للتفضيل ، وهو ظاهر .

.


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 24 ، ح 4 ، ضمن خطبته الوسيلة ؛ الفقيه ، ج 4 ، ص 392 ، ضمن ح 5834 ؛ و ص 406 ، ضمن ح 5880 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 320 ، المجلس 52 ، ضمن ح 8 ؛ التوحيد ، ص 72 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 27 ؛ نهج البلاغة ، ص 544 ، الحكمة 387 .
2- . الكافي ، ج 5 ، ص 72 _ 73 ، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة ، ح 8 ، 14 ، 15 ؛ الفقيه ، ج 3 ، ص 156 ، ح 3567 ؛ الزهد ، ص 51 ، باب ما جاء في الدنيا ومن طلبها ، ح 136 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 29 _ 30 ، ح 21899 و 21901 ؛ بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 127 ، باب حبّ الدنيا وذمّها ... ، ح 126 .
3- . في «ألف ، ب ، د» : «اجتماعها» .

ص: 315

. .

ص: 316

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم ، عن المنقريّ ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا رأيتم العالمَ مُحبّا لدُنياه فَاتّهِموه على دينكم ، فإنّ كلَّ محبّ لشيء يَحوطُ ما أحَبَّ» .

قوله عليه السلام في حديث حفص بن غياث : (إذا رأيتم العالمَ مُحِبّاً لدنياه فَاتَّهمُوهُ على دِينِكم ، فإنّ كلَّ مُحِبٍّ لشيءٍ يَحوطُ ما أحَبَّ) . قد علم من الحديث السابق وغيره عدم اجتماع تحصيل الدنيا والآخرة على الوجه المتقدّم ، فإذا كان العالم محبّاً لدنياه كانَ عمله لها ، ومن عمل للدنيا ترك العمل للدين والآخرة ، وإذا أحبّ الدنيا كانَ حريصاً على حفظها وصيانتها . وهذا معنى الإحاطة ، فيخرج بذلك عن الأمانة على اُمور الدين ، فلا ينبغي أخذها عنه ؛ لأنّه يصير بذلك متّهماً محلاًّ لأن يخون الأمانة ، فيكون إخباره بما يسأل عنه متعلّقاً بما يقتضيه هواه والمحافظه على دنياه ، ومن كان أميناً كان بخلاف ذلك ، يصدع بالحقّ ويقول به ، ويؤدّي ما اُمر بأدائه من غير ملاحظة أهل الدنيا ومنفعة الدنيويّة . وقوله عليه السلام : «فإنّ كلّ محبّ ...» دليلٌ على أنّ محبّة الدنيا تكون سببا للتهمة ، وهذا ممّا يجده كلّ عاقل حقّاً بديهيّاً . وفي إضافة «الدنيا» إلى ضمير العالم دون أن يقول عليه السلام : «محبّاً للدنيا» إيماءٌ إلى خسّته ، وإلى أنّه أضاف إلى نفسه ما لايليق بالعالم إضافته إليه ، وإلى أنّ وبال الدنيا عليه أكثر من وبالها على غير العالم . ومن هذه يستخرج وجوه إضافة الدين إلى المخاطبين ؛ فتدبّر .

.

ص: 317

وقال عليه السلام : «أوحى اللّه ُ إلى داودَ عليه السلام : لا تجعَلْ بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا ، فيَصُدَّك عن طريق محبّتي ، فإنَّ اُولئك قُطّاعُ طريقِ عبادي المريدين ، إنَّ أدنى ما أنا صانِعٌ بهم أن أنزِعَ حَلاوَةَ مُناجاتي عن قلوبهم» .

قوله عليه السلام : (أوحى اللّه ُ إلى داودَ عليه السلام : لا تَجعَلْ بيني وبينك عالِماً مَفتوناً بالدنيا ، فيَصُدَّك عن طريق محبّتي ، فإنّ اُولئك قُطّاعُ طريقِ عبادي المريدين ، إنّ أدنى ما أنا صانعٌ بهم أن أنْزِعَ حلاوةَ مناجاتي من قلوبهم) . معناه _ واللّه أعلم _ : لا تجعل بين محبّتي أو طاعتي أو رضاي أو القرب منّي ونحوه وما تريده من ذلك عالماً مفتوناً بالدنيا ، فيمنعك ويضلّك عن الطريق الموصل إلى محبّتك إيّاي ، أو محبّتي إيّاك ، أو إليهما باعتبار التلازم ، أو بناء على جواز إرادتهما . «فإنّ اُولئك» أي العلماء المفتونين بالدنيا . والإشارة بصيغة الجمع لوقوع «عالماً» في سياق النفي ، ولدفع توهّم إرادة عالم مخصوص . «قُطّاع طريق عبادي» الذين يُريدون الوصول إلى محبّتي ورضاي ونحوهما ، فإنّ افتتانهم بالدنيا يبعثهم على ارتكاب مالا يتوصّل به إلى هذا المطلب الجليل ، كما هو ظاهر ، فهم قُطّاع هذا الطرق كقطاع غيره من الطرق التي نسلك لغرض من الأغراض . إنّ أقلّ ما أنا صانع بهم من الجزاء على هذا أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم التي هي من أجلّ المطالب وأسنى المآرب . ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ أقرب ما أنا صانع بهم . وذكر «أنزع» لرفعها بالكلّيّة بحيث لا يبقى لها أثر . ونَزْعها إمّا بعدم تداركهم بالعناية والتخلية بينهم وبين افتتانهم بالدنيا بحيث لا يتوجّهون إلى المناجاة ، أو بعدم قبول مناجاتهم وعدم ترتّب الثواب عليها ، أو بمعنى أنّهم يصيرون بحيث لا يدركون هذه الحلاوة ، ومن لم يجد لشيء لذّة ولا أثرا تَرَكَه وأعرض عنه . ويحتمل أن يكون قطع الطريق بمعنى أنّ الناس إذا رأوهم _ مع علمهم _ حريصين على الدنيا متهالكين عليها ، كانَ ذلك سبباً لحرص الناس وتهالكهم عليها ؛ من حيث توهّمهم أنّ العالم لولا أنّ علمه اقتضى حبّ الدنيا ودَلَّه عليه لما حرَص ، فمن يريد الوصول يتوهّم أنّ مثل هذا طريق موصل ، أو يقولون : إذا كان هذا كذلك مع علمه ، فنحن أولى بالحرص ، فيكون ذلك باعثاً على ترك العلم أو العمل به . ويخدش هذا الوجه التقييد بالمريدين . إلاّ أن يُجاب بأنّهم في الأصل يريدون ذلك ، فمنعهم ما ذكر . وهو كماترى . وقريب منه احتمال أنّه إذا أحبّ الدنيا كان سلوكه مع الناس بمقتضى طباعهم وميلهم ، والناس عبيد الدنيا واُسارى الشهوات ، واُمور الآخرة شاقّة وقد حُفّت الجنّة بالمكاره ، وحُفّت النار بالشهوات ، فحِرْصُه يبعثه على المساهلة وتسويغ مالا يجوز، فمن يريد الوصول يحول هذا العالم بينه وبين ما يريد أوّلاً، فهو قاطع طريقه. وخطابه تعالى لداود عليه السلام الظاهر أنّه _ واللّه أعلم _ من قبيل : أقول لك ياكنّة لتسمعي ياجارة . ونحوه قوله تعالى : «لَ_ل_ءِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) وغيره ممّا المقصود بالخطاب به غير المخاطب ؛ واللّه أعلم . وتكرار «بين» في «بيني وبينك» لأجل الضمير ، فلو قيل : «بين زيد وعمر» بالظاهر لم يتكرّر ، كما تقدّم نقله عن الحريري .

.


1- . الزمر (39) : 65 .

ص: 318

. .

ص: 319

عليٌّ ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الفقهاءُ اُمناءُ الرسلِ ما لم يَدخُلوا في الدنيا ، قيل : يا رسول اللّه ، وما دُخولُهم في الدنيا؟ قال : اتّباعُ السُلطان ، فإذا فعلوا ذلك فاحْذَروهم على دينكم» .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث السكوني عن أبي عبداللّه عليه السلام : (الفقهاء اُمناءُ الرُّسُلِ ما لم يَدخُلوا في الدنيا . قيل : يارسول اللّه ، وما دخولُهم في الدنيا؟ قال : اتّباعُ السلطانِ ، فإذا فَعَلُوا ذلك فَاحْذَروهم على دينِكُم) . لا شبهة في أنّ سلاطين الجور اُمورهم مبنيّة على خلاف ماجاءت به الرسل في جميع الأشياء أو في أكثرها إن فرض ، والفقهاء إذ اتّبعوهم باختيارهم إنّما يكون ذلك لأجل تحصيل الجاه وحطام الدنيا منهم ونحو ذلك ، ومن ذلك سلوكهم معهم بما يرضيهم ، وكلّ هذا يخرجون به عن الأمانة التي هي تأدية ماينافي مطلبهم ، ومنه عدم ارتكابهم السلطنة والجور . وقد تقدّم ما هو أعمّ من هذا من محبّة الدنيا والفتنة بها عن أبي عبداللّه عليه السلام ، وذكر هذا الفرد بخصوصه إمّا لاقتضاء المقام إيّاه ، أو لكونه أشدّ خطراً ، أو للتنبيه على ترك الاعتماد على الفقهاء الذين يتّبعون السلاطين المخالفين لولاة الأمر ، وأنّ الاتّباع يجب أن يكون لهم ، فإنّهم اُمناء الرسل ، وغير من سلك طريقهم خائن الرسل ونحو ذلك ، ولا يغترّ أحد بتمويههم على الناس ، إنّ ذلك لأجل جلب نفع لغيرهم أو دفع ضرر ، فإنّ هذا ونحوه على تقدير صحّته لا يفي بما يترتّب على فعلهم من المفاسد . وما وقع لبعض من عاصر الأئمّة عليهم السلام مستثنى ؛ لكونه بأمرهم ، ولعلّ منه ما يدخل في التقيّة الجائزة ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 320

محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن رِبْعيّ بن عبداللّه ، عمَّن حَدَّثَه، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال:«من طَلَبَ العلمَ ليُباهِيَ به العلماءَ، أو يُمارِيَ به السفهاءَ ، أو يَصْرِفَ به وجوهَ الناس إليه ، فَلْيَتَبَّوأ مَقعدَه من النار ،

قوله عليه السلام في حديث رِبْعِيّ: (مَن طَلَبَ العلمَ لِيُباهِيَ به العلماءَ،أو يُمارِيَ به السفهاءَ، أو يَصْرِفَ به وجوهَ الناسِ إليه ، فَلْيَتَبَوَّأ مقعَدَه من النارِ ، إنّ الرئاسةَ لا تَصْلُحُ إلاّ لأهلها) . معناه _ واللّه أعلم _ : مَن كانَتْ غاية طلبه للعلم مباهاةَ العلماء بالتفوّق عليهم وإظهار أنّه أعلم منهم ومجادلتهم لأجل ذلك ونحوه . ومماراة السفهاء بمعنى جدالهم ومنازعتهم وإلقاء الشكوك عليهم ونحو ذلك ممّا يريد التميّز به على مثله . وصرف وجوه الناس بمعنى أن يكون طلبه العلم ليكون الناس له أتباعاً ومريدين ومعتقدين ، فلو كان قصده الهدايةَ والإرشاد ، لم يكن من هذا القبيل ، وصرف الوجوه كناية عن كونهم مقبلين عليه ومايلين إليه ، كما أنّ الإقبال يكون بالوجه . ويحتمل أن يكون المراد به إقبال من يتبعهم الناس وصرفهم نحوه ، فإذا رآهم مَن دونهم ، تبعه لمتابعة الوجوه إيّاه ، يقال : فلان وجه قومه ، إذا كان كبيرهم ورئيسهم ، كما أنّ أشرف أعضاء الإنسان الوجه . وقوله عليه السلام : «فليتبوّأ مقعده من النار» . قال ابن الأثير : قد تكرّرت هذه اللفظة في الحديث ، والمعنى : لينزل منزله من النار ، يقال : بوّأه اللّه منزلاً ، أي أسكنه إيّاه ، وتبوّأ منزلاً ، أي اتّخذه ؛ انتهى (1) . وهذا نحو ما تقدّم يقتضي زيادة عذاب هذا العالم عن غيره ممّن ليس بعالم . وحاصل معناه : أنّه قد اتّخذ النار منزلاً ومستقرّاً ينزل به ويستقرّ ، كمن كان على ثقة ويقين واطمينان بمنزل اتّخذه وهَيَّأه ليكون به ويستقرّ عن الحركة في السعي والمشقّة ، وهذا يستقرّ عن الحركة والسعي في غير الشقاء والعذاب ؛ نعوذ باللّه من ذلك ونسأله التوفيق لما يحبّه ويرضاه . وكثيراً ما يدخل الشيطان في هذا الباب على العلماء نحو ما تقدّم من اتّباع الظالم من كونهم يدفعون ضرراً أو يغيثون ملهوفاً ، وهذا قد يكون المقصود بالذات منه صرفَ الوجوه ، وتتّخذ هداية الناس سُلّماً يعرج به إلى ذلك ، ومن كان قصده الهداية فهنيئاً له إن كان من أهلها ، لكن مثله لا يصدق عليه طلب العلم لصرف وجوه الناس إليه من هذه الحيثيّة ، بل قصده طلبه للهداية بالذات وإن قصد صرف الوجوه لأجلها ، وإذا لم يقصد لا ينافيه صرفهم وجوههم ، والمحذور قصد صرف الوجوه على الوجه المذكور ؛ واللّه أعلم .

.


1- . النهاية ، ج 1 ، ص 157 ( بوأ) .

ص: 321

إنَّ الرئاسةَ لاتَصْلَحُ إلاّ لأهلها» .

وقوله عليه السلام : «إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها» يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المراد بالرئاسة التفوّق على الناس وكونه رئيساً لهم من غير أن يكونوا مأمورين باتّباعه ولا مأموراً بالترأّس عليهم . وهذه الرئاسة إنّما تصلح بمعنى تليق وتناسب ، كما تقول : السفه إنّما يصلح للجاهل لا للعالم ، وذلك بحسب اعتبار الدنيا وأوضاعها لا الصلاح الحقيقي إلاّ لأهلها ، وهم غير العلماء من الجُهّال المتمرّدين ، فإنّ العالم لا يليق به أن يقصد إلى مثل هذه الرئاسة ، بل يجب عليه العمل بعلمه ، ومن جملته ترك حبّ الرئاسة . وهذا الوجه بصرف وجوه الناس له تمام الربط ، وبمباهاة العلماء ومماراة السفهاء له ربط في الجملة . الثاني : أن يكون المراد بالرئاسة الرئاسة من اللّه تعالى (1) ، وهي رئاسة من جعله اللّه رئيساً واجب الاتّباع والطاعة ، فإنّ هذا الرئيس _ مع حرصه على صرف وجوه الناس إليه ليبعثهم على طاعة اللّه ويهديهم السبيل _ معصومٌ من حبّ الرئاسة الباطلة ، وغيرهم عليهم السلام ممّن تابعهم وسلك طريقهم وكان أهلاً للهداية إذا قصد الهداية خالياً من حبّ الرئاسة كانَ داخلاً بالتبعيّة لهم عليهم السلام . وهذا أمر عزيز الوجود إلاّ فيمن هداه اللّه ، ومع هذا يكون القصد منه بالذات إلى الهداية ، ولو قصد معها صرف الوجوه لأجلها فكما تقدّم ، وإلاّ فالغالب أن يقود صاحبه إلى حبّ الرئاسة الباطلة . وهذا الوجه يتعلّق بالأخير فقط ، إلاّ أن يكون المراد منه أنّ العالم لا ينبغي له أن يفعل ما يقصد به التفوّق بأحد الاُمور المذكورة ، فإنّ ذلك طلب للرئاسة ، والرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها ، فلا ينبغي أن يترأّس العالم بما ذكر ونحوه .

.


1- . في حاشية «ألف ، د» : «في كتاب تحف العقول لابن شعبة [ ص 44 ] في هذا الحديث : فإنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ للّه ولأهلها . فهو مؤيّد للوجه الثاني (منه) » .

ص: 322

باب لزوم الحجّة على العالم

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليهعليُّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن المنقريّ ، عن حَفص بن غياث ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :قال : «يا حفصُ ، يُغفَرُ للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يُغفَرَ للعالم ذنبٌ واحدٌ» .

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليهقوله عليه السلام في حديث حفص بن غياث : (يُغْفَرُ للجاهلِ سَبعونَ ذَنْباً قبل أن يُغفَرَ للعالِم ذَنبٌ واحدٌ) . هذا الحديث _ كما تقدّم _ يدلّ على كون العالم المذنب أشدّ عذاباً من الجاهل ، وعلى أنّ الجاهل دونه من وجهين : أحدهما تقدّم المغفرة للجاهل على المغفرة للعالم ، والثاني أنّه لا يغفر له ذنب واحد حتّى يغفر للجاهل سبعون ذنباً . والظاهر أنّ المراد من السبعين هذا العدد ، كما في قوله تعالى : « إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً » (1) وقوله صلى الله عليه و آله : «لأزيدنّ على السبعين» (2) . ويحتمل أن يكون كنايةً عن مغفرة ذنوب كثيرة للجاهل قبل مغفرة ذنب واحد للعالم . والكلام في الآية مشهور . ويمكن أن يقال : إنّ الكلام قد لا يدلّ على حصول مغفرة الذنب الواحد بعد مغفرة السبعين ونحوها ، أو يقال : إنّ مغفرة السبعين قبل الواحد لا يدلّ على مغفرة الواحد ، فيكون من قبيل مالو قال أحد لآخر : لأقتلنّك ، فيقول له : أنا أقتلك قبل أن تقتلني ؛ فلا يلزم أن يحصل مغفرة الذنب الواحد للعالم بعد حصول مغفرة السبعين للجاهل ؛ فتأمّل .

.


1- . التوبة (9) : 80 .
2- . متشابه القرآن ، لابن شهرآشوب ، ج 2 ، ص 149 ؛ نهج الحقّ ، ص 309 ؛ تفسير الصافي ، ج 2 ، ص362 ؛ نور الثقلين ، ج 2 ، ص 248 ؛ الميزان ، ج 9 ، ص 354 . والرواية من طرق العامّة ، راجع : جامع البيان ، للطبري ، ج 10 ، ص 253 ؛ تفسير القرطبي ، ج 8 ، ص 219 ، تفسير الثعالبي ، ج 5 ، ص 436 ؛ أحكام القرآن ، للجصاص ، ج 3 ، ص 185 ؛ الفصول في الاُصول ، للجصاص ، ج 1 ، ص 305 ؛ الدرّ المنثور ، ج 3 ، ص 263 ؛ لباب النقول ، للسيوطي ، ص 196 ؛ فتح الباري ، لابن حجر ، ج 8 ، ص 253 ؛ فتح القدير ، للشوكاني ، ج 2 ، ص 387 ؛ المحصول ، للرازي ، ص 266 ؛ المستصفى ، للغزالي ، ص 266 .

ص: 323

وبهذا الإسناد ، قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام :«قال عيسى بن مريم _ على نبيّنا وآله وعليه السلام _ : ويلٌ للعلماء السوء كيف تَلظّى عليهم النّارُ» .

قوله عليه السلام : (وَيْلٌ للعلماءِ السوءِ كيف تَلَظّى عليهم النارُ) . فيما رأيت من النسخ هكذا بتعريف «العلماء» باللام ، ولعلّ اللام زائدة ، وكأنّه على التعريف للمبالغة بأنّهم كأنّهم نفس السوء كما في «رجل عدل» ، وهو ممّا يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، والمثنّى والجمع . ويحتمل أن يكون جمع «أسوأ» كحُمْر جمع أحمر ، وغُبْر جمع أغبر ؛ أو ممّا يستوي فيه الجمع والمفرد ، كفُلْك وهجان ؛ لكنّه موقوفٌ على السماع . و«ويل» كلمة عذاب ووادٍ في جهنّم ؛ قاله في القاموس . وفيه : الويل : الشرّ (1) . وفي غريب القرآن : «ويل» كلمة تقال عند الهلكة ، وقيل : واد في جهنّم . (2) وقال الأصمعي : ويل قبوح ، وويس استصغار ، وويح ترحّم ؛ انتهى (3) . و«تلظّى» مضارع أصله تتلظّى . ويحتمل بعيداً أن يكون ماضياً ؛ لتحقّق الوقوع ، ومعناه تتلهّب أو تلهّبت .

.


1- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 66 _ 67 (ويل) .
2- . تفسير غريب القرآن ، للطريحي ، ص 486 (ويل) .
3- . مفردات غريب القرآن ، للراغب ، ص 535 (ويل) .

ص: 324

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن جَميل بن دَرّاج ، قال :سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «إذا بلغت النفسُ هاهنا _ وأشار بيده إلى حلقه _ لم يَكُنْ للعالم توبةٌ ، ثمَّ قرأ : « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَ_الَةٍ » » .

قوله عليه السلام في حديث جميل : (إذا بَلَغَتِ النفسُ هاهنا _ وأشار بيده إلى حلقه _ لم يَكُنْ للعالِم توبةٌ ، ثمّ قرأ : «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَ_الَةٍ » (1) . مفهوما الوصفِ والشرطِ يدلاّن على شيئين : أحدهما أنّ غير العالم قد تقبل توبته عند بلوغ النفس إلى ما أشار إليه عليه السلام . والثاني : أنّ العالم قد تقبل توبته قبل البلوغ ؛ لوقوع النكرة بعد الإثبات فيهما . ومقتضى الشرط ووقوعُ التوبة نكرةً في سياق النفي أنّ العالم في ذلك الوقت لا تقبل له توبة أصلاً . وقوله عليه السلام : «إِنَّمَا التَّوْبَةُ ...» يحتمل أوجهاً : أحدها : أن يكون المراد مجرّد بيان الفرق بين العالم وغيره ، بأنّ التوبة قد تقبل إلى ذلك الوقت بحيث يكون داخلاً من غير العالم باعتبار أنّ عمله السوء عن جهالة ، بخلاف العالم . الثاني : أن يكون جواباً لما لعلّه يقال : أيّ فرق بين العالم وغيره بمقتضى قوله تعالى : « وَ هُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِى وَ يَعْفُواْ عَنِ السَّيِّ_ئاتِ » (2) وغيره ، وظاهره عدم الفرق بين العالم وغيره في الانتهاء وغيره ، فذكر عليه السلام الآية للفرق بينهما . الثالث : أنّ مفهوم الشرط لمّا دلّ على قبول توبة العالم وغيره فيما يقبل توبتهما فيه ، ولكن لا على سبيل الحتم ؛ واللّه تعالى كريم ، والكريم إذا وعد وفى ، فكيف يؤتى بما يدلّ على القبول في الجملة ؟ أجاب عليه السلام بأنّ التوبة التي على اللّه أن يقبلها هي التي صدرت بعد عمل السوء بجهالة ، بخلاف التي صدرت عن علم بالسوء . وحينئذٍ يحتمل أن يكون المراد ثمّ قرأ هذه الآية الشاملة لقوله تعالى : «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ » (3) واكتفى الراوي بما ذكر ، فتدبّر ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . النساء (4) : 17 .
2- . الشورى (42) : 25 .
3- . النساء (4) : 17 .

ص: 325

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سُوَيْدٍ ، عن يحيى الحلبيّ ، عن أبي سعيد المُكاري ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزَّ وجلَّ : « فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَ الْغَاوُونَ » قال : «هُمْ قومٌ وصفوا عَدلاً بألسنتهم ثمّ خالَفوه إلى غيره» .

قوله عليه السلام في حديث أبي بصير في قول اللّه عزّ وجلّ : «فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَ الْغَاوُونَ» (1) : (هم قومٌ وَصَفوا عَدْلاً بألْسِنَتِهم ثمّ خالَفوه إلى غيره) . الظاهر أنّه تفسير للغاوين ، فإنّ من وصف شيئاً وعمل بغيره ، فهو ضالّ عن الطريق الذي وصفه . والعدل إمّا أن يكون المراد به ضدَّ الجور ، فبوصفه ذكر أوصافه الحسنة وما يترتّب عليها من الصلاح والثواب ، وما يترتّب على ضدّه من أضدادهما بالتبعيّة ، وذلك داخل تحت العلم ، فيكون الواصف عالماً . وإمّا أن يكون المراد من وصف شيئاً عادلاً ، أو طريقا عادلاً ، أي مستقيما جارياً على قانون الشرع ، ثمّ خالفه وعمل بغيره . وضمّن «خالفوه» معنى عدلوا عنه ونحوه ، فعدّي ب_ «إلى» ؛ أو المعنى : خالفوه منتهين إلى غيره . ويمكن أن يكون وجه التضمين إيهام العدول ثبوته أوّلاً لهم بالفعل ، ثمّ المخالفة بخلاف المخالفة ، فإنّها لا توهم ذلك مع إفادتها معنى العدول . والتعبير ب_ «ثمّ» لما بين الوصف باللسان وعدم العمل به من البعد وبعد صاحبه عن طريق الصواب . وفي ذكر اللسان إشارة إلى أنّ ذلك لم يكن إلاّ بتحريك اللسان فقط من غير أن يكون ناشئاً عن عمل ونحوه . و«كبكبوا» مبالغة وزيادة في كبّوا ؛ واللّه أعلم .

باب النوادر .


1- . الشعراء (26) : 94 .

ص: 326

باب النوادر

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البَختريّ ، رَفَعَه ، قال :كانَ أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : «رَوِّحوا أنفسَكم ببديع الحكمة ، فإنّها تَكِلُّ كما تَكلُّ الأبدانُ» .

باب النوادرقوله عليه السلام في حديث حفص بن البختري : (رَوِّحُوا أنفسَكم ببديعِ الحِكْمَةِ ، فإنّها تَكِلُّ كما تَكِلُّ الأبدانُ) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّكم أريحوها ، من الروح بمعنى الراحة إذا حصل لها ملل من تحصيل العلم أو مطلق الطاعة بالأشياء البديعة من الحكمة لا من غيرها وهي التي تنتعش النفس وتستلذّ بها لتكون في راحة من التعب ، ويحصل لها بعد الراحة إقبال وتوجّه إلى تحصيل ما هي بصدد تحصيله . والحكمة وإن كانت كلّها بديعة ، لكن قد يكون بعضها أبدع ، أو بديعاً من حيث اشتماله على نحو مواعظ وقصص تدخل في الحكمة ؛ أو لأنّ النفس قد تملّ من الكدّ في بعضها ، فالنظر إلى البديع غير ما ملّت منه النفس يزيل عنها ذلك ويريحها ، فيجده الإنسان بديعاً بالنسبة إلى ما كان فيه ، أو أنّه بديع باعتبار أنّ لكلّ جديد لذّة ، أو أنّ المراد بالبديع الجنس الشامل لأشياء متعدّدة ، فإنّ النفس تملّ ممّا هو كالشيء الواحد كما تملّ من الطعام الواحد ونحو ذلك . و«بديع الحكمة» يجوز أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ولو اشترطت المطابقة ففعيل يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، وعلى عدم الاشتراط _ وهو الظاهر _ ظاهرٌ . ويجوز أن تكون الإضافة بيانيّة ، وأن تكون لاميّة ، وأن تكون بمعنى «من» ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 327

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن نوح بن شُعيب النيسابوريّ ، عن عبيداللّه بن عبداللّه الدهقان ، عن دُرُستَ بن أبي منصور ، عن عروة بن أخي شعيب العَقَرقوفيّ، عن شعيب ، عن أبي بصير قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«كانَ أميرُالمؤمنين عليه السلام يقول : يا طالبَ العلم ، إنَّ العلمَ ذو فضائلَ كثيرة ؛ فرأسُه التواضعُ ، وعينُه البراءةُ من الحسد ، واُذنُه الفهمُ ، ولسانُه الصدقُ ، وحفظُه الفحْصُ ، وقلبُه حُسْنُ النيّة ، وعقلُه معرفةُ الأشياء والأُمور ، ويدُه الرحمةُ ، ورِجْلُه زيارةُ العلماء ، وهمّتُه السلامةُ ، وحكمتُه الورعُ ، ومستقرُّه النجاةُ ، وقائدُه العافيةُ ، ومركبُه الوفاءُ ، وسلاحُهُ لين الكلمة ، وسيفُه الرضا، وقوسُه المداراةُ، وجيشُه محاوَرَةُ العلماء، ومالُه الأدبُ، وذخيرتُه اجتنابُ الذنوب، وزادُه المعروفُ ، ومأواهُ الموادَعَةُ ، ودليلُه الهدى ، ورفيقُه محبّةُ الأخيار» .

قوله عليه السلام في حديث أبي بصير : (يا طالبَ العلمِ ، إنّ العلمَ ذو فضائلَ كثيرةٍ ؛ فرأسُه التواضعُ) الحديث . قد تقدّم ما يفيده مثل هذا النداء من قوله عليه السلام : «يا طالب العلم» فليراجعه من أراده . وفي تشبيهه عليه السلام العلم بصاحب هذه الأعضاء وما يتبعها تنبيهٌ على أنّ كمال العلم _ الذي يحصل بحمله كمال العالم _ إنّما يكون بوجودها ، ونقصه يكون بحسب ما نقص منها ، فالعالم غير المتواضع علمه كجسد لا رأس له ، فكما أنّ الجسد من غير رأس لا نفع له ، بل مآله إلى أن يصير جيفة أو هو كالجماد الملقى ، كذلك العالم المتكبّر أو غير المتواضع يكون كالجسد في عدم ما يترتّب له ومنه من المنافع ، ويعقّبه من المضارّ الاُخرويّة ، وقد يكون بعضها في الدنيا . والعالم الحسود كالأعمى ، فكما أنّ الأعمى لا يستضيء بنور عينيه (1) ، كذلك الحسود لا يستضيء بنور علمه ، بل هو أشدّ ظلمةً . ولمّا كان مشهوراً شائعاً تأثير عين الحسود في المحسود ناسَبَ ذكر العين له . والمراد من الفهم _ واللّه أعلم _ في قوله عليه السلام : (واُذنُهُ الفهمُ) فهم الأشياء وتدبّرها ، فإنّ المقام مقام الحثّ والتعليم بأن لا يترك العالم هذه الخصال . وكون الإنسان لا فهم له _ بمعنى أنّه لا يقدر على فهم ما يراد منه _ يأباه المقام والعقل ، فإنّ مثله لا يكلّف مالا يطيق ، ولا يليق خطابه بهذا . وجعل اُذنه الفهم باعتبار أنّ التفهّم يحصل من الإنصات والاستماع ، وهذا قرينة اُخرى على إرادة المعنى الأوّل . وفي قوله عليه السلام : (ولسانُه الصدقُ) تنبيه على أنّ الكذب لا يكون لساناً يعبّر به في العلم ، وإنّما الكذب لسان ضدّ العلم ، فالعالم الكاذب لا ينبغي قبول كلامه ، فإنّه كالأخرس من حيث إنّه لا نطق له لظهوره للحسّ وشهرته ، وإلاّ فهو أشدّ نقصاً منه ، بل قد لا يكون الأخرس أو عادم اللسان ناقصاً إلاّ من حيث الخلقة ، وهو أمر سهل عند عدم حصول لسان العلم بالكذب ؛ ونحوه غيره ممّا شبّه به . ولمّا كان رسوخ الشيء وثباته في الحافظة يحصل بالتكرار والتفحّص ، كانَ الفحص مناسباً لجعله حفظاً للعلم ، ولكون العمدة العظمى في العلم الإخلاص وحسن النيّة ، وكان ذلك متعلّقاً بالقلب جَعَلَ قلب العلم حسن النيّة . والمراد بالعقل في قوله عليه السلام : (وعقلُه معرفةُ الأشياءِ) إمّا العقل الغريزي لهذا العلم _ ومناسبته للعقل الحقيقي للإنسان ظاهرةٌ ، فإنّ الأشياء تعرف بالعقل ، فناسب كون المعرفة عقلاً للعلم _ أو العمل بمقتضى العقل على نحو ما تقدّم في الفهم ، فإنّ الكلام في هذا ونحوه مع من آتاه اللّه العقل ، لا مع من لا غريزة له يعقل بها ، فإذا عرف العالم الأشياء التي ينبغي معرفتها على وجهها ، كانَ عاقلاً بالمعنى المذكور ، فكان علمه ذا عقلٍ بهذا المعنى ؛ فتأمّل . ومناسبة اليد بالرحمة من حيث ظهور أثرها بها أكثر من غيرها ، وللحثّ على بسط اليد بما تقتضيه الرحمة . ومناسبة الِرجل لزيارة العلماء ظاهرة . والظاهر أنّ المراد بالعلماء من جمعوا الأوصاف ليكمل العالم بزيارتهم ، فإنّ مقتضى هذا الحديث وغيره أنّ من اتّصف بغير ما ذكر هنا وغيره في غيره لا يستحقّ الوصف بكونه عالماً ، إلاّ أن يكون الزيارة لجهة اُخرى تقتضيها وليست ممّا نحن فيه . والعموم في العلماء إضافي ، وله مراتب . ولمّا كان علوّ الهمّة سبباً لسلامة الإنسان ممّن يخاف منه بالامتناع منه بما يمنعه وممّا يكسب نقصاً من خسّة وبخل ونحوهما من الخصال الذميمة ، فكذلك العالم إذا سلم ممّا يشين دينه ومروّته ، كانت همّته السلامة من أذى يسوء (2) في الآخرة وفي الدنيا إذا كان سوءها يؤول إلى الآخرة ؛ فالسالم من ذلك صاحب همّة . ومن يتورّع عن محارم اللّه أو عمّا نهى اللّه عنه ، كانَ واضعاً للأشياء في مواضعها التي اُمر بوضعها فيها عاملاًبعلمه ، وهذا هو الحكيم . ومن نجا من ورطات الذنوب فقد استقرّوا من التزلزل . ومن عوفي من الذنوب كانت العافية قائدة به إلى الجنّة وكلّ مافيه حسن العاقبة . ومن وفى بعهده كانَ وفاؤه كأنّه مركب يأمن به من هزال وضعف في مثل الدابّة ، وغرق وكسر في مثل السفينة ، فإنّ الآفات التي تحصل من خلف الوعد كالآفات المذكورة للمركب ونحوها . وسلاح العلم ليس كالسلاح الذي يدفع به بالعنف والضرر كالسيف ونحوه ، بل هو سلاح سهل (3) يليق بالعالم ، وهو لين الكلمة فيما ينبغي اللين فيه الموجب للانقياد وعدم النفرة ، وذلك يتفاوت بتفاوت المقامات والأزمان . وكما يترتّب على استعمال السلاح من قتل وفتك لتسهيل ما يريده مستعمله ودفع الأذى عنه ونحوه ، فكذلك الكلام اللين يترتّب عليه قبول الكلام وتأثيره وعدم معاداة الناس ومقاومتهم ، بخلاف الكلام الخشن ، فإنّ جرح اللسان أعظم من جرح السنان ، وما يترتّب على الكلام الخشن والسلاح المتعارف من المفاسد لا يترتّب على الكلام اللين مع حصول النفع المقصود . ومناسبة الرضا للسيف من حيث إنّ الرضا يؤثّر نحو ما يؤثّر السيف ، فكما أنّ السيف مشهور أمره من بين الأسلحة لقضاء الوطر ، فكذلك الرضا بقضاء اللّه تعالى وعمّا ينبغي الرضا عنه وبه ، فإنّ صاحبه مطمئنّ القلب ساكن الجوارح ، كما أنّ المصاحب للسيف غير فزع ممّا يخاف منه لو لم يكن معه سيف . ومناسبة القوس للمداراة من حيث إنّ الرامي يحتاج إلى تأمّل وتفحّص في تصحيح قوسه وسهمه وغرضه وهدفه ، ويحتال في أمر الرمي والإصابة ، فكذلك العالم إذا كان مدارياً للناس كلٍّ بحسب ما يقتضيه حاله ، كان مصيباً لغرضه ، رامياً عن قوس الإصابة ، سالماً من خطر سوء الرمي . ومناسبة المحاورة بالجيش ظاهرة ، فكما أنّه بالجيش وتعبيته وترتيبه على الوجه المقرّر يحصل الظفر ونيل المراد ، فكذلك بمحاورة العلماء ومباحثتهم على وجه تحقيق الحقّ واستعمال الآداب المقرّرة وإخلاص النيّة يحصل الظفر بتحصيل الحقّ من العلم وثمرته ، فالمحاورة له على الوجه المذكور كالجيش المقاتل بحسن التعبية والقتال . وكما أنّ اختلاف القلوب والآراء من الجيش وعدم الاتّفاق على قصد واحد فيه صلاحهم ، تكون عاقبته خذلانهم وهلاكهم ، فكذلك العالم المحاور لا لطلب الحقّ ، بل للمجادلة والمماراة وإظهار الغلبة والفضيلة _ كما هو كثير شائع _ يكون في ذلك هلاكه في الآخرة والعقبى كعاقبة الجيش المذكور . وإذا تأدّب العالم بآداب العلماء التي ينبغي التأدّب بها ، كانَ غنيّاً ينفق من أدبه ما ينفقه ذو المال من ماله ، وغير المتأدّب فقير لا شيء عنده ينفق منه ، فإنّ ما عنده من العلم لو كان يذهب بغير الأدب ضياعاً . ومن المشهور شعراً ونثراً فقر المروّة والأدب ونحوهما . وكون اجتناب الذنوب _ وهو التقوى _ ذخيرة يعدّها الإنسان ليوم فاقته أمرٌ ظاهرٌ ، فإنّ من حاز هذه الذخيرة ، كان غير محتاج عند احتياج الناس إلى ما يدفع عنهم ألم خوف المعاد ، كما أنّ صاحب الذخيره في الدنيا مطمئنّ القلب ممّا يدخل على غير المدّخر من خوف الجوع والاحتياج ونحوهما . وكما أنّ الزاد يتوصّل به المسافر إلى ما يريد في قطعه المسافة ، كذلك فعل الإحسان والمعروف للعالم ، فإنّه زاده في قطع مسافة مجاراة الناس وقطع مسافات الآخرة . وكما أنّ صاحب المنزل الذي يأوي إليه ويستقرّ فيه مطمئنّ القلب ، غير محتاج إلى أن يأوي إلى منزل غيره ، فكذلك العالم الموادع للناس _ أي المصالح لهم _ مستقرّ القلب ، مطمئنّ الخاطر من خطر العداوة والقيل والقال ، والتفكّر في احتيال مقاومة العدوّ ودفع كيده بما يصير به مضطرب الجنان ، مشوّش الفكر كمن لا مأوى له . ومن كان على هُدًى ، دلّه الهدى على الطريق المستقيم ، فسلم عن مشاقّ حزن الطريق ووَعْره ، التي يقاسيها السالك بغير دليل كالسالك في غيره . (ورفيقهُ صُحبَةُ الأخيارِ) أو محبّتهم ؛ على النسختين ؛ لأنّ من أحبّ الأخيار أو صحبهم لا يستوحش ، كما لا يستوحش من صحب رفيقاً في سفره . وهذا مع من صحبه أو أحبّه رفقاء في سفر الآخرة ؛ رزقنا اللّه تعالى والمؤمنين هذه السعادة ، وخَتَمَ لنا ولهم بالحسنى وزيادة ، إنّه جواد كريم ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه عليهم الصلاة والسلام .

.


1- . في «ج» : «عينه» .
2- . في «ألف ، ب» : «يسوءه» .
3- . في «د» : - «سهل» .

ص: 328

. .

ص: 329

. .

ص: 330

. .

ص: 331

. .

ص: 332

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن أحمدَ بن محمّد بن أبي نصر ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : نِعْمَ وزيرُ الإيمانِ العلمُ ، ونعم وزيرُ العلمِ الحلمُ ، ونعم وزيرُ الحلمِ الرفقُ ، ونعم وزيرُ الرفقِ الصبرُ» .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث حمّاد : (نِعْمَ وزيرُ الإيمانِ العلمُ ، ونعم وزيرُ العلمِ الحلمُ ، ونعم وزيرُ الحلمِ الرفقُ ، ونعم وزيرُ الرفِق العبرةُ) (1) . لا شبهة في أنّ الإيمان أعلى المراتب المذكورة وغيرها ، فناسب تشبيهه بالسلطان ، وهو استعارة بالكناية ، وإثبات الوزير له تخييل . والمدح ب_ «نعم» ترشيح . وجعل العلم وزيراً من باب «صمّ بكم» . ولمّا كان قوام الإيمان ونظامه وتحمّل مشاقّه بالعلم _ كما أنّ قوام أمر السلطان وانتظام حاله وحمل أثقال السلطنة يكون بمن يتحمّل عنه ذلك _ جَعَلَ العلم وزيراً للإيمان . والحلم وما بعده لا يصلح للوزارة ، فكان حقيقاً بها . ولمّا كان العلم مشاقّه كثيرة ، كان المعيّن له عليها الحلم ، فناسب كونه وزيراً له ، وكذلك احتياج الحلم إلى الرفق ، واحتياج الرفق إلى الصبر ؛ ومناسبتهما ظاهرة . هذا على نسخة «الصبر» . وعلى نسخة «العبرة» فمعناه _ واللّه أعلم _ أنّ صاحب الرفق محتاج إلى الاعتبار والتأمّل والتدبّر ليضع الرفق موضعه ، ولا يكون مضيّعاً له ، فإنّ الشيء الموضوع في غير موضعه يخرج عن حقيقته .

.


1- . في حاشية «ألف و ج » والكافي المطبوع : «الصبر» . وليكن في أكثر نسخ الكافي وشرح صدر المتألهين والمازندراني والميرزا رفيعا ومرآة العقول : «العبرة» .

ص: 333

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ ، عن عبداللّه بن ميمون القَدّاح ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام، قال : «جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : يا رسول اللّه ، ما العلمُ؟ قال: الإنصاتُ، قال: ثمّ مَهْ؟ قال: الاستماعُ ، قال : ثمّ مَهْ؟ قال : الحفظُ ، قال : ثمّ مَهْ؟ قال : العملُ به ، قال : ثمّ مَهْ يا رسول اللّه ؟ قال : نَشْرُهُ» .

قوله عليه السلام في حديث عبداللّه بن ميمون القدّاح : (جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال : يارسولَ اللّه ، ما العلمُ؟ قال : الإنصاتُ . قال : ثمَّ يارسولَ اللّه مَهْ؟ قال : الاستماعُ . قال : ثمّ مَهْ؟ قال : الحفظُ . قال : ثمّ مَهْ؟ قال : العملُ به . قال : ثمّ مَهْ يا رسولَ اللّه ؟ قال : نَشْرُه) . لا شبهة في أنّه صلى الله عليه و آله أعلم بمواقع الكلام ومراد السائل وما فيه نفعه ومصلحته ، فجوابه عليه الصلاة والسلام مطابقٌ لذلك ، فجوابه أوّلاً بالإنصات فقط _ الذي هو السكوت ، سكوت مستمعٍ ، كما في النهاية (1) _ لعلمه عليه السلام أنّه يسأله بعده عمّا يعقّب الإنصات بوحي أو غيره ، أو أنّه إن لم يسأله ذَكَرَ له ما بعده . ووجه ترتّبها (2) ظاهر . والظاهر أنّ المراد بالحفظ ما يشمل الحفظ عن ظهر القلب والحفظ بكتابة ونحوها بحيث لا يعتريه تغيّر . وقد لا ينافيه النقل بالمعنى بالشروط المعتبرة . والإتيان ب_ «ثمّ» في كلام السائل يمكن أن يكون لتراخي كلٍّ عن سابقه بالفصل بالجواب . وقد تأتي «ثمّ» لمطلق الترتيب . وفي تأخير النشر عن العمل بالعلم تنبيهٌ على أنّ العالم إذا لم يعمل لا ينبغي أن ينشر ما علم ؛ لكونه حينئذٍ غير مأمون ، وعلى أنّ العلم لا يؤخذ منه لذلك . ومثله ما قبله من المراتب في عدم الاعتداد باللاحق من دون السابق ؛ واللّه أعلم . والهاء في «مه» هاء السكت دخلت على ما الاستفهاميّة .

.


1- . النهاية ، ج 5 ، ص 62 (نصت) .
2- . في «ج» : «ترتيبها» .

ص: 334

عليُّ بن إبراهيم ، رَفَعَه إلى أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«طلَبَةُ العلم ثلاثَةٌ فَاعْرِفْهم بأعيانهم وصفاتهم: صنفٌ يَطلبُه للجهل والمراء، وصنفٌ يطلُبُه للاستطالة والخَتْل، وصنفٌ يطلُبُه للفقه والعقل ، فصاحبُ الجهل والمراء موذٍ ، مُمارٍ ، مُتعرِّضٌ للمقال في أندِيَة الرجال

قوله عليه السلام في حديث عليّ بن إبراهيم المرفوع : (طَلَبةُ العلمِ ثلاثةٌ ، فاعْرِفْهُم بأعيانِهِم وصفاتهم : صنفٌ يَطلُبُه للجهل والمراء ، وصنفٌ يَطلُبُه للاستطالة والخَتْلِ ، وصنفٌ يَطلُبُه للفقهِ والعقلِ) الحديث . في قوله عليه الصلاة والسلام : «فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم» تنبيهٌ وحثٌّ على أنّه ينبغي تمام التفحّص في تمييز هذه الأقسام ، وإلاّ فكثيراً مّا يشتبه على الناس اختلاط الأقسام بعضها ببعض ، فلا ينظر الإنسان إلى مجرّد عين الشخص ، بل يتفحّص عن الصفات المذكورة ، فمن وُجدت فيه عُمل بمقتضاها ، ولا يلتفت إلى ما عليه أكثر الناس من متابعة أهوائهم وميلهم ؛ فترى الكثير منهم تحمله العصبيّة مع من يطّلع منه على ما ينافيها لمجرّد كونه مريداً لذلك الشخص . وممّا يدلّ على ذلك أنّك ترى شخصين كلّ واحد منهما تلمّذ وانتسب إلى واحد ، وكلٌّ منهما يظهر انحصار (1) الحقّ فيمن تبعه ، ومثله كثير يشهد به الوجدان والإنصاف ؛ فجمعه عليه السلام بين العين والصفة لفائدة أنّه قد يرى شخص ويظهر منه أو يتخيّل فيه صفة وليست فيه ، وقد يوصف شخص ولا يكون الوصف مطابقاً ، وسببه ما ذكرناه ؛ فينبغى أن تكون (2) المعرفة بالعين والصفة على الوجه المعتبر ، فباجتماعهما غالباً يظهر الحقّ . وهذه المقامات خطابيّة يظهر المراد منها بنحو هذا التوجيه ؛ واللّه أعلم . واللام في قوله عليه السلام «للجهل» يحتمل معنيين : أحدهما : التعليل ، وهو يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون المعنى أنّه يطلب العلم ليجهل على غيره ويماريه ، بمعنى أنّه يفعل به فعل الجاهل ، ويتعدّى عليه بتضمينه معناه من حيث إنّ المتعدّي يستحقّ التسمية بالجاهل . ومنه قوله تعالى واللّه أعلم : « بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ » (3) ، وقول الحماسي : ألا لا يجهلنّ أحد علينافنجهل فوق جهل الجاهلينا (4) وهذا أمتن الوجوه (5) ، وله تمام الربط بالمراء . وقد يؤيّده أيضا قوله عليه السلام : «فصاحب الجهل والمراء ...» . ثانيها : أنّه يطلبه لإظهار جهل غيره ومماراته . ثالثها : أنّه يطلبه لرفع الجهل عن نفسه فقط ، بحيث يسمّى عالماً ولا يسمّى جاهلاً ؛ ولا يقصد ثمرته . فالمضاف محذوف للقرينة ، فإنّ طلب العلم لأجل تحصيل الجهل لا يتعلّق به قصد ذي عقل ، ومثله قولك : زيد يجمع المال لأجل الفقر والفخر على الناس . وظاهر أنّ معناه لأجل دفع (6) الفقر أو مخافته وإرادة الفخر ونحو ذلك . ومثله شائع ولا يلزم منه تقدير هذا المضاف للمعطوف أيضا ؛ لما قد علمت من تقدير مضافين متغايرين تدلّ عليهما القرينة ، أو يكون العطف بحسب المعنى على المضاف الأوّل المحذوف . ونحو هذا عطف المراء على الجهل في الوجه الثاني وقد لا يحتاج إليه فيه ؛ فتأمّل . ويرجحّ الثاني على الثالث تعلّق الجهل والمراء به وبغيره ، لكنّ الثالث أحسن معنى من الثاني . والوجه الوجيه الأوّل . المعنى الثاني : أن تكون اللام لام العاقبة ، كما في قوله تعالى : «فَالْتَقَطَهُو ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَنًا » (7) . والمعنى حينئذٍ أنّ هذا الصنف يطلبه لأجل أن ينفعه في الآخرة وتحصل له ثمرته ، ولكنّه لم يطلبه على وجهه ولم يعمل به كذلك من إخلاص النيّة وغيره من الشروط المعتبرة في العالم العامل ، فكانت عاقبة هذا الطالب وغايته الجهل ، أي استحقاق أن يسمّى جاهلاً لا عالماً ، فإنّ الطالب إذا لم يكن عاملاً لا يحصل من ثمرة هذا العلم إلاّ الجهل ونحوه . ولعدم جمعه الشرائط تكون عاقبته المماراة أيضاً . ويمكن تنزيل رفع الجهل عن نفسه وتجهيل غيره على لام العاقبة أيضاً ؛ فتدبّر . واللام في قوله عليه السلام : «للاستطالة» للتعليل ، ويحتمل العاقبة بتقريب ما تقدّم . و«الختل» : الخديعة . واللام في قوله عليه السلام : «للفقه والعقل» للتعليل فقط ، وهو يؤيّد التعليل في الجميع . ومعنى طلبه للفقه ظاهرٌ . والعقل مقابل الجهل الموصوف به الأوّل ، وقد تقدّم كثيراً مقابلة العقل بالجهل . والمعنى هنا _ واللّه أعلم _ أنّه يطلبه ليكون فقيهاً وليستعمل عقله فيما ينبغي استعماله فيه ، فإنّ العلم قد يكون باعثاً على ذلك ومحرّكاً له ، كما تقدّم من قول أميرالمؤمنين عليه السلام : «بالعقل استخرج غور الحكمة» (8) . والفقيه غير العاقل بالمعنى المذكور غير فقيه ، فلا بدّ معه من العقل . و«الأندية» جمع النديّ ، على فعيل ، وهو مجلس القوم ومتحدَّثهم ؛ أو جمع النادي كذلك ؛ أو مجلس القوم نهاراً ؛ أو المجلس ماداموا مجتمعين فيه .

.


1- . في «ألف» : «انحصاره» .
2- . في «د» : «يكون» .
3- . النمل (27) : 55 .
4- . الشعر منسوب إلى عمرو بن مكثوم : تنزيه الأنبياء ، للسيّد المرتضى ، الأمالي ، للسيّد المرتضى ، ج 1 ، ص 42 ؛ التبيان ، ج 1 ، ص 70 ؛ أحكام القرآن ، للجصاص ، ج 1 ، ص 30 ؛ تفسير القرطبي ، ج 1 ، ص 207 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 177 .
5- . في «ألف ، ب» : «الأوجه» .
6- . في «د» : «رفع» .
7- . القصص (28) : 8 .
8- . الكافي ، ج1 ، ص28 ، كتاب العقل والجهل ، ح34 .

ص: 335

. .

ص: 336

. .

ص: 337

الرجال بتذاكُرِ العلمِ وصفة الحلمِ ، قد تَسَرْبَلَ بالخشوع ، وتَخَلّى من الورع ، فَدَقَّ اللّه ُ من هذا خيشومَه ، وقَطَعَ منه حَيزومَه ، وصاحبُ الاستطالة والخَتْلِ ذو خِبٍّ ومَلَقٍ ، يَستطيلُ على مِثْله من أشباهِهِ ، ويَتواضَعُ للأغنياء من دونه ، فهو لحلوائهم هاضِمٌ ، ولدينه حاطِمٌ ،

وقوله عليه السلام : (قد تَسَرْبَلَ بالخشوع) أي تلبّس به وجعله كالسربال ، وهو القميص ، أو الدرع ، أو كلّ ما لبس (1) ، فقد جعل هذا السربال شاملاً لبدنه حرصاً على إظهاره والتلبّس به . ولمّا كان الخشوع يحصل كثيراً بالأعضاء التي تظهر للحسّ وقد يكون تصنّعا عبّر عليه السلام به ، بخلاف الورع ، فإنّه ممّا يظهر بأثره ، فلهذا قال عليه السلام : (وتَخَلَّى مِنَ الوَرَعِ) . وفي «تخلّى» إشارةٌ إلى أنّه لم يحصل من الورع على شيء أصلاً . ويمكن أن يكون المراد وَصْفه بالخشوع الخالي من الورع ، فإنّ الخشوع لا يعتدّ به ، إلاّ إذا كان مقرونا بالورع . (فَدَقّ اللّه ُ من هذا خَيْشُومَه) . في القاموس : دقّه : كسره أو ضربه فهشمه (2) ؛ انتهى . و«الخيشوم» أقصى الأنف (3) . و«الحيزوم» وسط الصدر وما يضمّ عليه الحِزام (4) . والفقرتان دعاء منه عليه السلام على هذا الطالب . و«الخِبّ» بالكسر الخداع والخبث والغشّ ، ورجل خَِبّ بالفتح والكسر (5) . (يَستطيلُ على مثله من أشباهه) أي على الطالب مثله للجهل والمراء الكائن من أمثاله ، فإنّ القسم الثالث لا يليق به أن يكالم هذا ويباحثه ليكون مستطيلاً عليه . ويحتمل أن يكون المراد من أشباهه في كون (6) كلّ منهما موصوفاً بالعلم وإن تغاير الوصفان . (ويَتَواضَعُ للأغنياء مِن دونِه) أي يتواضع (7) للأغنياء الذين هم دون هذا المتواضع من جهة العلم ونحوها كالشرف والنجابة ، أو الذين هم دون من يستطيل عليه في المرتبة المذكورة ، أو يتواضع للأغنياء من غير أن يتواضع لمن يستطيل عليه من أشباهه إرادة لسقوط محلّه من أعين الناس وحبّا لأن يكون متفوّقاً عليه ، وبالتواضع قد يتخيّل فيه خلاف ذلك ، أو يتواضع للأغنياء من غير أن يتواضع لهذا الذي يستحقّ التواضع بناء على الوجه الثاني المتقدّم . (فهو لحلوائهم هاضم) . «الحلوا» يمدّ ويقصر ، وهو كناية عمّا يتناوله منهم من الحطام والاُكْل بسبب تملّقه لهم وعدم النظر فيما في ذلك من الخسّة والشبهة . وفي ذكر الحلوا المتعلّقة بما يؤكل على وجه الميل الزائد تنبيهٌ على الخسّة من جهة اُخرى ، وهي قضاء شهوة البطن . والهضم كنايةٌ عن كونه يأكله برغبة وميل زائد ، واشتهاء كاشتهاء من يهضم كلّ ما يأكله . وفي هذا الفعل حطم لدينه ، وأصله الكسر للشيء اليابس . وفيه تنبيهٌ على أنّ هذا الكسر ككسر مالا يجبر ، فإنّ اليابس إذا كسر امتنع جبره .

.


1- . الصحاح ، ج 5 ، ص 1729 (سربل) .
2- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 232 (دقق) .
3- . المصباح المنير ، ج 1 ، ص 170 (خشم) .
4- . المصباح المنير ، ج 1 ، ص 162 (حزم) .
5- . النهاية ، ج 2 ، ص 4 (خبب) .
6- . في «د» : «كونه» .
7- . في «د» : - «يتواضع» .

ص: 338

. .

ص: 339

فأعمى اللّه ُ على هذا خَبَرَه ، وقَطَعَ من آثار العلماء أثرَه ، وصاحبُ الفقهِ والعقلِ ذوكَآبَةٍ وحَزَنٍ وسَهَرٍ ، قد تَحَنَّكَ في بُرْنُسِهِ ، وقام الليل في حِنْدِسِه ، يَعمَلُ ويَخْشى وَجِلاً داعِيا مُشفِقا ، مُقبِلاً على شأنه ، عارفا بأهل زمانه ، مُسْتَوْحِشا من أوثق إخوانه ، فشدَّ اللّه ُ من هذا أركانَه ، وأعطاه يومَ القيامة أمانَه» . وحدَّثني به محمّدُ بن محمودٍ أبو عبداللّه القزوينيّ ، عن عدَّة من أصحابنا منهم جعفر بن محمّد الصيقل بقزوين ، عن أحمد بن عيسى العَلَوِيّ ، عن عَبّاد بن صُهَيب البصريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام .

وقوله عليه السلام : (فأعْمَى اللّه ُ على هذا خَبَرَهُ) . دعاء منه على هذا الصنف ، وهو من قبيل قوله تعالى : «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَمنبَآءُ » (1) ضمن «اعمى» معنى أظلم ونحوه . والتعبير بأعمى لما فيه مع الظلمة من النقص الكامل الحاصل من العمى . و«على» مثلها في قولك : ضاع على فلان سعيه وأتلف عليه ماله ، أي أعمى اللّه على هذا الطالب خبره ، وهو عبارة عن قطع خبره ، أي الخبر عنه بهلاكه ونحوه . ويحتمل أن يكون المعنى : أعمى اللّه خبره لأجل هذا الفعل الذي يفعله . ويمكن أن يكون «خُبْره» بضمّ المعجمة وسكون الموحّدة ، بمعنى علمه ومعرفته ، أي أظلم عليه ذلك بحيث لا يهتدي به كما يهتدي غيره بنور علمه . والوجهان يأتيان هنا أيضاً في «على» . ويحتمل بعيداً أن تكون الجملة خبريّة لادعائيّة ، والمعنى أنّه لسوء فعله أعمى اللّه خبره بحيث لم يكن في زمرة من يخبر عنهم بالخير والعمل بالعلم . وهذا يأتي أيضاً في قوله عليه السلام : (وقَطَعَ مِن بينِ (2) العلماءِ أثَرَهُ) وفيما قبله وبعده لتناسب الجميع ، وإن كان الدعاء في الجميع ظاهراً . ومعنى قطع الأثر حينئذٍ أنّه لم يكتبه سبحانه في زمرة العلماء ولو بالأثر القليل . و«الأثر» يجوز فيه فتح الهمزة والمثلّثة معاً ، وكسرها فسكونها ، والثاني أنسب بالثاني ، والأوّل بالأوّل . وفي معالم جدّي طاب ثراه فيما رأيته : «لخلواتهم» بالمعجمة والمثناة من فوق «ولدينهم حاطم» (3) . وكذا في كتاب الخصال في الأوّل أو فيهما (4) . وكان الحديث منقولاً من غير هذا الكتاب أو أنّه في نسخته (5) هكذا . والمعنى حينئذٍ أنّه ينقصهم ويكسر من أقدارهم إذا خلا بذكرهم من غير حضورهم لما هو متعارف من عدم الرضى من الأغنياء وأهل الدنيا . يقال : هضمه : إذا ظلمه وكسر عليه حقّه ؛ أو أنّه لترخيصه لهم في أمر الدين (6) والعبادة وتسهيله عليهم ذلك ميلاً إلى ما يوافق طباعهم ويسهل عليهم بظلمهم (7) ، ويكسر خلواتهم لما هو نافع لهم في العقبى . (وهو لدينهم كاسر) بالمعنيين المذكورين . وقد رأيت في كتاب البيان والتبيين للجاحظ في جملة حكاية أنّ أباك يأكل من حلوائهم فحطّ في أهوائهم (8) . و«الكآبة» : الغمّ وسوء الحال والانكسار من حزن (9) . فذكر الحزن إمّا من عطف الخاصّ على العامّ ، أو السبب على المسبّب ، أو بإرادة ما سواه من الكآبة . و«البرنس» قلنسوةٌ طويلةٌ كانَ النُّسّاك يلبسونها في صدر الإسلام (10) . و«الحِندس» _ بالكسر_ : الليل المظلم ، والظلمة (11) . والمعنى : قام في الليل في وقت ظلمته ؛ ومن جمع هذه الصفات كان اُنسه باللّه وحده ، ومن أنس به استوحش من (12) سواه ، ومن استوحش من أوثق إخوانه مع ما يقتضي عدم الوحشة فمن غيره أولى . (وأعطاه يوم القيامة أمانَه) على الدعا الإعطاء في يوم القيامة ، وعلى الإخبار معناه : حصل الإعطاء للأمان الكائن في يوم القيامة . والفرق بينهما كالفرق بين قولك : أعطيتك اليوم الأمان غداً ، وأعطيتك الأمان غداً ؛ واللّه أعلم .

.


1- . القصص (28): 66.
2- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «آثار» .
3- . المعالم ، ص 15 .
4- . الخصال ، ص 194 ، ح 269 .
5- . في «ب» : «نسخة» .
6- . في «ألف ، ب» : «الدنيا» .
7- . في «ج» : «لظلمهم» .
8- . حكاه ابن منظور في لسان العرب ، ج 14 ، ص 193 عن ابن شبرمة حينما عاتبه ابنه على إتيان السلطان . وانظر : تاج العروس ، ج 10 ، ص 95 .
9- . مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 5 (كأب) .
10- . الصحاح ، ج 3 ، ص 908 (برنس) .
11- . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 209 (حندس) .
12- . في «ج» : «ممّن» .

ص: 340

. .

ص: 341

. .

ص: 342

عليُّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، قال:سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول: «إنَّ رُواةَ الكتاب كثيرٌ ، وإنَّ رعاتَه قليلٌ، وكم من مُسْتَنْصِحٍ للحديث

قوله عليه السلام في حديث طلحة بن زيد : (إنّ رواةَ الكتابِ كثيرٌ ، وإنّ رُعاتَه قليلٌ ، وكم من مُستَنصِحٍ للحديث مُستَغِشٌّ للكتاب ، فالعلماء يَحزُنُهم تَركُ الرعايةِ ، والجُهّالُ يَحزُنُهم حِفظُ الروايةِ ، فراعٍ يَرعى حياتَه ، وراعٍ يَرعى هَلَكَتَه ، فعند ذلك اْختَلَفَ الراعيان ، وتَغايَرَ الفريقانِ) . هذا الحديث لا يخلو من إشكال بحسب الظاهر من حيث معناه وربط بعضه ببعض ، وهذا ما خطر لي في توجيهه واللّه أعلم بمقاصد أوليائه : قوله عليه السلام : «إنّ رواة الكتاب كثير» معناه _ واللّه أعلم _ أنّ الرواة من الناس كثير ، وهم الذين يروون الكتب مع المراعاة وعدمها ، والمراعي قليل بالنسبة إلى غيره ، فالراوي من غير مراعاة كان يروي مثلاً كتاب الكافي من غير أن يصحّحه ويضبطه ويتدبّر أحاديثه ويعمل بها ، وينقلها على وجهها ونحو ذلك ، وهذا ونحوه هم الجُهّال ، فإنّه قد تقدّم ما يدلّ على أنّ مثلهم لا يسمّى عالماً ، بل هم أحقّ باسم الجهل ممّن لا يروي شيئاً ، والمراعي لما ذكر ممّا ينبغي مراعاته قليلٌ ، وهم العلماء . و«كثير» و«قليل» ممّا يستوي فيه المفرد والجمع ، فلهذا حملا عليه . و«رعاة» جمع راع كقضاة . وقوله عليه السلام : «وكم من مستنصح للحديث مستغشّ للكتاب» كلام له مناسبة وربط بالأوّل ، لاربط تفريع ليكون بإلقاء ، بل هو كلام مستقلّ معطوف على ماقبله ليتفرّع على الجميع ما بعده . و«مستنصح» و«مستغشّ» يمكن أن يكونا مبنيَّيْن للفاعل ، والمعنى حينئذٍ : كَمْ من شخص يريد أن يروي كتاب الكافي مثلاً مع اعتقاده فيه ، فلا يجد له نسخة مضبوطة على الوجه المعتبر ، فيكون ذلك سبباً لتركه روايته إلى أن يجد ما فيه بغيته من نسخة ، ولو كان راويه قد صحّحه على الوجه المعتبر ، لوجد هذا الطالب المستنصح مطلبه سهلاً من غير تعب زائد على ما يحتاج إليه . ويمكن أن يكونا مبنيَّيْن للمفعول ، والمعنى حينئذٍ أنّ كثيراً من الناس يُراد أخذ الحديث عنه على وجه أنّه مستنصح في ذلك ، فيظهر غشّ كتابه وأنّه غير معتبر ، فيكون ذلك سبباً لترك أخذ الحديث عنه ، فيصير مستغشّاً لغشّ كتابه . فاللام في قوله «للكتاب» للتعليل . وفي قوله «للحديث» يجوز كونها للتعليل وغيره . ويمكن أن يكون الأوّل مبنيّاً للمفعول والثاني للفاعل ، والمعنى حينئذٍ كم من شخص يمكن أن يؤخذ الحديث منه على وجه النصيحة ويكون أهلاً لذلك ، ولكنّه لا يجد كتاباً يعتمد عليه ، فيكون في ذلك تعطيله ، وقد يكون كتابه ذهب لوجه من الوجوه ، وغيره من الرواة لم يحصل منهم تصحيح يعتمد عليه أو لم يحضره . وكون الأوّل مبنيّاً للفاعل والثاني للمفعول يمكن توجيهه بتقريب ما ذكر .

.

ص: 343

مُستَغِشٌّ للكتاب ، فالعلماءُ يَحْزُنُهُم تركُ الرعاية ، والجهّالُ يَحْزُنُهم حفظُ الرواية ،

وقوله عليه السلام : «فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية» يظهر وجه تفريعه من التقرير السابق ، فإنّ العلماء يحزنون لأجل ترك رعاية الحديث وضبطه وحفظه والعمل به ، وقد يؤول ذلك إلى تعطيلهم فيحزنون لمطلق ترك رعايته من حيث حرصهم على ضبطه ونشره ، فما يفعله الجُهّال من مجرّد الرواية يكون باعثاً على حزنهم . وقوله عليه السلام : «والجُهّال يحزنهم حفظ الرواية» يحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون معناه أنّ الجُهّال وهم الرواة من غير الشروط المعتبرة _ أو مطلق الجُهّال على احتمال _ يحزنهم حفظ الرواية بمعنى صونها وضبطها عن الخلل والعمل بها ، فإنّهم قد ألفوا عدم العمل والصحّة والضبط وغيرهم من العلماء بخلافهم ، والمرء يحوط ما أحبّ ويميل إلى ما اعتاد ويكره ما خالفه ، فهم يحزنون من حفظ الرواية على وجهها ، أي يتألّمون لذلك ، فحزنهم من باب المشاكلة ؛ لأنّ الحزن الحقيقي على مافات أو يفوت ، إلاّ أن يقال : إنّ الحزن على فوات ما يريدونه ، وهو عدم الحفظ من الحفظ .

.

ص: 344

فَراعٍ يَرْعى حياتَه ، وراعٍ يرعى هَلَكَتَه ، فَعِند ذلك اختَلَفَ الراعيانِ ، وتَغايَرَ الفريقانِ» .

وقوله عليه السلام : «فراع يرعى حياته ، وراع يرعى هلكته» متفرّعٌ على ما قبله ، فإنّ العلماء الذين يحزنهم ترك الرعاية يكونون مراعين للرعاية ، وفي ذلك حياتهم وسعادتهم في الآخرة ، فإنّ الحياة فيها هي الحياة ، والجُهّال يحزنهم حفظ الرواية على وجهها ، فهم يرعون عدم تحقّق ذلك ، وفيه هلاكهم في الآخرة ، وهو الهلاك الحقيقي . ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب القرآن ، والمعنى حينئذٍ أنّ من يرويه كثير ، ومن يراعي معانيه ولو بأخذها من أهلها قليلٌ ، وكم من شخص يعتمد على ما يروي من الحديث كيف كان ، ويترك الكتاب _ لعدم فهم ما يوافق مطلبه منه ، أو عدم الرجوع في فهمه إلى غيره ، أو عدم مناسبة ما يفهم لمطلبه _ فهو مستنصح للحديث ، مستغشّ للكتاب من هذه الجهة . وحينئذٍ فكون العلماء يحزنهم ترك الرعاية وجهُه ظاهر ، وتوجيه حزن الجُهّال بتقريب ما ذكر في الأوّل . ويبعّد هذا الاحتمال لفظ «رواة» وسياق الكلام ، ويقرّبه ما ورد في حديث آخر (1) ممّا يدلّ على إرادة القرآن ، مع انصراف إطلاق الكتاب إليه . وهذا هو الوجه الوجيه ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في حاشية «ألف ، د» : «في الروضة [ الكافي ، ج 8 ، ص 52 ، ح 16 ] في رسالة أبي جعفر عليه السلام إلى سعد الخير : «قد رفع اللّه عنهم علمَ الكتاب حين نبذوه ، ووَلاّهم عدوَّهم حين تَولَّوْه ، وكان من نَبْذِهم الكتابَ أن أقاموا حروفَه ، وحرَّفوا حدودَه ، فهم يَروونَه ولا يَرعَونَه ، والجهّالُ يُعجِبُهم حفظُهم للرواية ، والعلماءُ يَحزُنُهم تَركُهم للرعاية» الحديث . وفيه تأييد لكون المراد بالكتاب هنا القرآن ؛ واللّه أعلم . وفي سرائر ابن إدريس [السرائر ، ج 3 ، ص 640] مما استطرفه منن كتاب انس العالم للصفواني عن أبي عبداللّه عليه السلام : «العلماء يحزنهم الدراية ، والجهّال يحزنهم الرواية» . والمعنى هنا ظاهر إن كان بالجيم والزاي ؛ ومن الحزن معنى حزنهم عليها حزنُهم على تركها أو فوتها (ألف : منه عفا اللّه عنه) ؛ (د : منه مدّ ظلّه) » .

ص: 345

الحسين بن محمّد الأشعريّ ، عن مُعلّى بن محمّد ، عن محمّد بن جمهور ، عن عبدالرحمن بن أبي نجرانَ ، عمّن ذكره ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«مَن حَفِظَ من أحاديثنا أربعينَ حديثا ، بَعَثَه اللّه ُ يومَ القيامة عالما فقيها» .

قوله عليه السلام في حديث عبدالرحمن بن أبي نجران : (من حَفِظَ من أحاديثنا أربعينَ حديثاً بَعَثَه اللّه ُ يومَ القيامةِ عالِماً فقيهاً) . الظاهر أنّ المراد الحفظ عن ظهر القلب ، فإنّه المتعارف في الصدر السالف ، ويحتمل إرادة ما يشمل الحفظ على وجه جامع للشرائط من ضبط ونحوه . وفي حديث رواه الصدوق قدّس سرّه : «من حفظ على اُمّتي أربعين حديثاً ممّا يحتاجون إليه في أمر دينهم ، بعثه اللّه _ عزّ وجّل _ يوم القيامة فقيهاً عالماً» (1) . ونقله شيخنا البهائي طاب ثراه في أوّل شرح الأربعين . وهو كما ترى مقيّد بما يحتاجون إليه في أمر دينهم ، فيمكن أن يقال بحمل المطلق على المقيّد ، أو أنّ اللّه سبحانه كما يعطي هذه المرتبة مع التقييد ، يعطيها مع الإطلاق . فإن قلت : مفهوم الشرط في كلامه صلى الله عليه و آله يدلّ على أنّه مع الإطلاق لا يكون كذلك . قلت : يمكن الجواب بأنّ الحديث المقيّد مرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، والمطلقَ عن الصادق عليه السلام ولا بُعدَ في اقتضاء المصلحة في وقت تكلّم أحدهما الإطلاق ، وفي الآخر التقييد ؛ أو أنّ الثواب على الإطلاق حَصَلَ بعد الثواب على التقييد ، لتأخّره عنه ولو في زمنه صلى الله عليه و آله ؛ أو أنّ الإطلاق ينافي كون مفهوم الشرط حجّة ؛ أو أنّ جميع الأحاديث محتاج إليها في أمر الدين ولو في الجملة ، والتقييد لمجرّد التوضيح ؛ فتأمّله . وهذا مع قطع النظر عن الإرسال وتكافؤا الحديثين وعدمه . ومعنى «بعثه عالماً فقيهاً» أنّ اللّه سبحانه بهذا القدر اليسير يبعثه في زمرة العلماء الفقهاء ، وإن لم يصل إلى مرتبة غيره ممّن زاد عنه . وظاهرٌ أنّ حافظ هذا المقدار إنّما يدخل في زمرة العلماء الفقهاء إذا كان قائماً بما يجب عليه ، وتاركاً لما يحرم ولو بتقليد . ويحتمل أنّه بهذا القدر يكون في جملة العلماء ، ثمّ يلحقه ما يلحق مثله من العلماء من الثواب والعقاب . وفيه تأمّل ؛ واللّه أعلم . وقال شيخنا البهائي _ رحمه الله _ في الحديث الذي نقله «من حفظ على أُمّتي»: الظاهر أنّ «على» بمعنى اللام ، أي حفظ لأجلهم كما قالوه في قوله تعالى : « وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَ?كُمْ » (2) أي لأجل هدايته إيّاكم . ويحتمل أن يكون بمعنى «من» كما في قوله تعالى : « الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ » (3) انتهى (4) . أقول : قد تقدّم وجه لطيف خطر لفكري الفاتر ينفع في مثل هذا المقام ، وهو أن يقال هنا : إنّ «حفظ» ضمِّن معنى «أملى» ونحوه ، فيفيد معنى الحفظ والإملاء بالتعدية ب_ «على» ، والمعنى أنّه يحفظه وينفع به الاُمّة ، فمجرّد الحفظ غير كافٍ . وإذا تأمّلت مواقع التضمين تجدها كلّها أو أكثرها مفيدة لما ذكرتُه ، ومنه يظهر معنى التضمين . وإذا نظرت إلى قوله تعالى : « وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَ?_كُمْ » تجد فيه من معنى التعليل ما ليس بظاهر في قوله صلى الله عليه و آله «على اُمّتي» . وكونها بمعنى «من» لا يفيد المعنى المذكور من كونه مع الحفظ ناشراً لما حفظ لينتفعوا به ؛ فتدبّر .

.


1- . الخصال ، ص 541 ، ح 15 ؛ ثواب الأعمال ، ص 134 ، ثواب من حفظ أربعين حديثا .
2- . البقرة (2) : 185 .
3- . المطفّفين (83) : 2 .
4- . الأربعون حديثا ، ص 66 .

ص: 346

. .

ص: 347

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عمَّن ذكره ، عن زيد ص 50 الشحّام ، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : « فَلْيَنظُرِ الاْءِنسَ_انُ إِلَى طَعَامِهِى » قال : قلت ما طَعامُه؟ قال : «عِلْمُه الذي يأخُذُه ، عمّن يأخُذُه» .

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن النعمان ، عن عبداللّه بن مسكان ، عن داودَ بن فَرقد ، عن أبي سعيد الزُّهْريّ ، عن أبي جعفر عليه السلام،

قوله عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : «فَلْيَنظُرِ الاْءِنسَ_انُ إِلَى طَعَامِهِ » (1) بعد قول السائل : قلت : ما طعامه : (عِلْمُه الذي يَأخُذُهُ عمّن يَأخُذُهُ) . لا شبهة في أنّهم عليهم السلام أعلم بظاهر القرآن وباطنه ، وهذا من تفسير الباطن الذي لم يهتد إليه المفسّرون فيما رأيته . والعجب من الطبرسي _ قدّس اللّه روحه _ أنّه لم ينقل هذا الحديث في تفسيره مع التزامه بنقل (2) ماورد عنهم عليهم السلام في تفسير القرآن. (3) وفيه تنبيه على أنّه لا يجوز أخذ العلم إلاّ من أهله ، وأصل أهله أهل العلم عليهم السلام وبقيّة الأهل الآخذون عنهم صاروا أهلاً بأخذهم عنهم . ولعلّ المتقدّمين _ رحمهم اللّه _ لم يعتمدوا في رواية المخالف الخارج عن الأهليّة على مجرّد نقله ، بل على القرائن على كونه من أهله ، كما تقدّم في نحو هذا ؛ واللّه أعلم . والذي يظهر من تفسيره عليه السلام بما ذكر أن يكون «الماء» في قوله تعالى : « أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا » (4) هو العلم ، والأرض في قوله تعالى : « ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا » (5) هي محلّ العلم ووعاؤه ، وهم أهل العلم عليهم السلام ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . عبس (80) : 24 .
2- . في «ج» : «نقل» .
3- . انظر : مجمع البيان ، ج 10 ، ص 269 .
4- . عبس (80) : 25 .
5- . عبس (80) : 26.

ص: 348

قال :«الوقوفُ عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكَةِ ، .........

قوله عليه السلام في حديث أبي سعيد الزُهري : (الوقوفُ عند الشُّبهَةِ خيرٌ من الاقتحامِ في الهَلَكَةِ ، وتَركُكَ حديثاً لم تَرْوِهِ خيرٌ من رِوايَتِك حديثاً لم تُحصِهِ) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّ التوقّف عند ما يشتبه على الإنسان _ إمّا بعدم حصول العلم أو الظنّ الذي يجوز العمل به ، أو ما يشمل (1) كلّ مشتبه يترتّب الضرر فيه على الوقوع فيما لا يجوز الوقوع فيه أو يحتمله _ خيرٌ من الاقتحام في الهلكة . وقحم في الأمر : رمى بنفسه (2) فيه فجأة بلا رويّة ، و«اقتحم» نحوه (3) . والتفضيل إمّا على أصله المتعارف ، بمعنى أنّ الذي يرمي نفسه فيما من شأنه أن يهلك ، قد يحصل له نادرا الخلاص من الهلاك ، كمن يرمي نفسه من شاهق من شأنه أن يهلك من يقع منه لغرض يمكن تحصيله إن سلم من الهلاك ، فعدم الوقوع خير من الإقدام على الوقوع وفعله ، فإنّ فيه السلامة يقيناً ، والوقوع محتمل للسلامة احتمالاً مرجوحاً ؛ فالخير ثابت في الجملة في الاقتحام باعتبار ما يترتّب عليه من النفع إذا سلم . وقد يعفو اللّه سبحانه عمّن يقتحم الهلكة فيما لا يجوز ، فالوقوف خيرٌ ممّا يحتمل تحصيله مع السلامة واحتمال العفو ؛ وكما إذا أراد الإنسان مثلاً أن يتناول مالاً مشتبهاً بالحرام ، فإمّا أن يكون في الواقع حراماً أو لا ، فالخير فيه في الجملة باعتبار الاحتمال المذكور ، وقد يوافق راوي الحديث ونحوه الصواب ، فكلّ ممّا ذكر لا يخرج عن الاقتحام فيما هو محلّ لأن يهلك ؛ فيكون التوقّف خيراً منه . وإمّا أن يكون التفضيل من قبيل ماورد من قوله عليه السلام : «لصوم يوم من شعبان أحبّ إليّ من أن أُفطر يوماً من شهر رمضان» (4) . فالتفضيل باعتبار أصل الحبِّ من جهة غيره عليه السلام . وقول أميرالمؤمنين عليه السلام : «فأبْدِلْني بهم خيراً منهم ، وأبْدِلهم بي شرّاً منّي» (5) . فالتفضيل باعتبار اعتقادهم الخير في أنفسهم والشرّقية عليه السلام . وهنا المقتحم في الهلكة يتصوّر خيراً يترتّب على اقتحامه ، كأن يرى الناس أنّه راوٍ للحديث مثلاً ، أو ليدفع عن نفسه نقص الجهل إذا سئل ؛ فيتخيّل هذا الشرّ خيراً ؛ فخيريّة التوقّف بهذا الاعتبار . وقريب منه المال المشتبه ونحوه ، فإنّه يعدّ الانتفاع به خيراً . والتفضيل بالمعنى الأخير أنسب من حيث إنّ من هذا شأنه على المعنى الأوّل من الثلاثة الذين في النار فيما يتضمّن الفتوى ونحوها ، وأمّا بالنسبة إلى نحو المال المشتبه فإنّه ينطبق على المعنى الأوّل إذا لم يكن النهي عنه للتحريم ؛ فتأمّله . والمعنى الثاني يوافق الجميع ، وإن خالف من حيث أكثريّة المعنى الأوّل في التفضيل ، لكنّه واقع في كلامهم عليهم السلام وغيره ، وإن نوقش في الأمثلة أمكن فرض غيرها ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . في «ألف» : «يشتمل» .
2- . في «د» : «نفسه» .
3- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 161 ؛ تاج العروس ، ج 9 ، ص 17 (قحم) .
4- . الكافي ، ج 4 ، ص 81 ، باب اليوم الذي يشكّ فيه ... ، ح 1 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 126 ، ح 1922 ؛ وص 128 ، ح 1929 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 4 ، ص 181 ، ح 505 ؛ الاستبصار ، ج 2 ، ص 78 ، ح 237 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 20 ، ح 12730 ؛ وص 23 ، ح 12738 ؛ وص 28 ، ح 12751 و 12752 ؛ وص 300 ، ح 13470 . وفي جميع المصادر : «لأن أصوم يوما من شعبان» بدل «لصوم يوم من شعبان» .
5- . نهج البلاغة ، ص 67 ، الخطبة 25 ؛ الغارات ، ج 2 ، ص 317 ؛ الفصول المختارة ، للمفيد ، ص 169 ؛ المسائل العكبريّة (ضمن مجموعة مصنّفات الشيخ المفيد) ج 6 ، ص 35 ؛ مناقب آل أبي طالب ، لابن شهر آشوب ، ج 2 ، ص 281 ، فصل في إجابة دعواته . وفي بحارالأنوار ، ج 34 ، ص 159 ، باب سائر ماجرى من الفتن ... ، ح 97 ؛ و ج 42 ، ص 226 ، باب كيفية شهادته و ... ، ح 37 ، عن نهج البلاغة .

ص: 349

وتركُك حديثا لم تَرْوِهِ .........

وقوله عليه السلام : (وتركك حديثاً لم تَرْوِهِ خيرٌ من روايتك حديثاً لم تُحصِهِ) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّك إذا رأيت حديثاً ولم تكن رويته عمّن تجوز الرواية عنه ولو بالطرق التي تجوز الرواية بها كالإجازة ونحوها ، أو رويت ذلك الحديث ولكن لم تحصه ولم تحفظه على وجهه الذي سمعته أو على وجهه الذي رويته به من الطرق ، فتركك لرواية هذا الحديث الذي لم تحصه _ على الأوّل بمعنى لم تحص صحّته وضبطه بالرواية ، وعلى الثاني بمعنى لم تحفظه على وجهه الذي رويته _ خيرٌ من روايتك لهذا الحديث الذي لم تحصه بالرواية والحفظ والضبط . وفي القاموس : «الإحصاء» العدّ والحفظ (1) . وقد لا ينحصر المراد من الألفاظ في نقل أهل اللغة ، فإنّ المقام قد يقتضي استعمالها في معانٍ (2) تناسبه على وجه المجاز ونحوه . ولاينافي هذا الحديث جواز النقل بالمعنى بشروطه ، فإنّه قد يحصى المعنى وإن لم يحص اللفظ . ومعنى التفضيل هنا يعلم ممّا تقرّر في التفضيل السابق .

.


1- . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 312 (حصي) .
2- . في «ج» : + «شتّى» .

ص: 350

خيرٌ من روايتك حديثا لم تُحْصِهِ» .

وقوله عليه السلام : «خيرٌ من روايتك حديثاً لم تحصه» ولم يقل : «خير من روايته» أو «من روايتك إيّاه» أو نحو ذلك ، كأنّه تنبيه وقرينة على إرادة ما تضمّنه لفظ «تروه» من المعنيين المذكورين ، ولو قال : «خير من روايته» ونحوه لم يظهر ذلك ؛ فافهمه واللّه أعلم . فإن قلت : يمكن أن يكون المعنى : إنّ (1) تركك حديثاً لم تروه بطريق من طرق الرواية خيرٌ من روايتك حديثاً لم تحفظه ولم تضبطه ، فيكون الحديث الثاني غير الأوّل ، فلِمَ لم يحمل عليه؟ قلت : هذا كلام ظاهري منظور فيه إلى قالب اللفظ ، ساقط بحسب المعنى والربط عن درجة الاعتبار ، فإنّ قولك : «تركك أكل مال زيد خير لك من أكل مال عمرو الحرام أو المشتبه» ممّا يتنزّه عن مثله كلام أهل الذوق السليم ، فكيف بكلام الإمام عليه السلام ، مع أنّ المقام وسياق الكلام يقتضيان أنّ الكلام على وتيرة واحدة ، وأنّ ترك الشيء خيرٌ من فعله ، لا التمييز بين فعلين متغايرين لا ربط لأحدهما بالآخر ، فإنّ التفضيل في مثلهما ينظر فيه إلى أنّ هذا له جهة حسن أقوى من الآخر ، فيرجّح عليه لتلك الجهة ولكن في غير مثل هذا المقام ، كما إذا قلنا مثلاً : جلوس زيد أحسن من أكله ، إذا كان جلوسه مشتملاً على هيئة حسنة وأدب بخلاف الأكل . وفرقٌ بين قولنا : هذا الفعل خيرٌ من هذا الفعل ، و [ قولنا ] : هذا الفعل الذي تفعله خير لك من كذا ؛ فتدبّر ، واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب» : - «إنّ» .

ص: 351

محمّدٌ ، عن أحمدَ ، عن ابن فضّال ، عن ابن بكير ، عن حمزةَ بن الطيّار ، أنّه عَرَضَ على أبي عبدللّه عليه السلام بعضَ خُطب أبيه ، حتّى إذا بلَغ موضعا منها ، قال له :«كُفَّ واسْكُتْ»

قوله في حديث حمزة بن الطيّار : (إنّه عَرَضَ على أبي عبداللّه عليه السلام بَعضَ خُطَبِ أبيه ، حتّى إذا بَلَغَ موضعاً منها ، قال له : «كُفَّ واسْكُتْ» . ثمّ قال أبو عبداللّه عليه السلام : «لا يَسَعُكم فيما يَنْزِلُ بكم ممّا لا تَعلمونَ إلاّ الكفُّ عنه والتَّثَبُّتُ والردُّ إلى أئمّة الهدى حتّى يَحمِلوكم فيه على القَصْدِ ، ويَجْلُوا عنكم فيه العَمى ، ويُعَرِّفوكم فيه الحقَّ ، قالَ اللّه ُ تعالى : « فَسْ_ئلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » (1) ») . هذا قريب من مضمون الحديث السابق ، وأمره عليه السلام بالكفّ والسكوت على وجه الزجر والمبالغة والتأكيد في الكفّ عند بلوغه ذلك الموضع ، إمّا لأنّه لم يرو الخطبة عند بلوغه على ما هي عليه ، أو لم يروها إلى ذلك الموضع على وجهها ، وكان كلامه له عند ذلك الموضع وعدم روايتها على وجهها بعدم ضبطها على وجهها ونحوه عمّن ينبغي الاعتماد على قوله ؛ أو أنّه عند بلوغ ذلك الموضع كان الكلام ممّا لا يظهر معناه والوقوف عليه إلاّ بتعليمهم عليهم السلام ، وكان من سمعه من غير تعليم ربما كان فهمه له باعثاً على اعتقاد مالا يجوز اعتقاده أو العمل به . فأمره عليه السلام بالكفّ عنه وقال : «لا يسعكم ... » بمعنى لا يسعكم في مثل هذا أن تتكلّموا فيه ولا في غيره ممّا ينزل بكم ، إلخ . ويحتمل أن تكون الخطبة ليست من كلام أبيه عليه السلام واتّفق أن صبر بالأمر إلى أن بلغ ذلك الموضع . ويحتمل غير ذلك ؛ واللّه أعلم .

.


1- . النحل (16) : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .

ص: 352

ثمَّ قال أبو عبداللّه عليه السلام : «لا يَسَعُكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمونَ إلاّ الكَفُّ عنه، والتثبّتُ والرَّدُّ إلى أئمّة الهدى حتّى يَحمِلوكم فيه على القصد ، ويَجْلوا عنكم فيه العمى ، ويُعَرِّفوكم فيه الحقَّ ، قال اللّه تعالى : « فَسْ_ئلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » » .

وقوله عليه السلام : «لا يسعكم ...» في معنى الأمر بما هو أعمّ من ذلك ، والمعنى : أنّ كلّ شيء لم يصل إليكم على وجه العلم فكفّوا عنه وتثبّتوا ، وردّوه إلى أئمّة الهدى ، إلخ .ومع حضورهم عليهم السلام تحصيل العلم سهلٌ لمن أمكنه مشاهدتهم وسئوالهم ونحوه ، وإذا أمكن لا يعدل عنه إلى الظنّ ؛ ولعلّ النهي عن اتّباع الظنّ مخصوص بنحو ذلك . ويحتمل إرادة ما يشمل (1) الظنّ من العلم باعتبار دخول من لم يتيسّر له تحصيل العلم ؛ واللّه أعلم . و«الأب» الظاهر أنّ المراد به الباقر عليه السلام ، ويحتمل إرادة أميرالمؤمنين عليه السلام ، فإنّ خطبه مشهورة . و«القصد» الوسط بين الطرفين ؛ قاله في النهاية (2) . والمراد به هنا _ واللّه أعلم _ الطريق المستقيم غير المائل إلى إحدى الجهتين ، أو الوسط الخالي من الإفراط والتفريط ، وهو الحقّ والصواب اللذان لاميل فيهما ولا عدول عنهما ، وهو صريح كغيره في أنّهم عليهم السلام هم أهل الذكر الذين ينبغي سؤالهم . وضمير «بلغ» يرجع إلى الذي عرض الخطبة ، ويحتمل رجوعه إلى الإمام عليه السلام بمعنى بلغ سماعه ونحوه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب» : «يشتمل» .
2- . النهاية ، ج 4 ، ص 67 (قصد) .

ص: 353

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن المِنقريّ ، عن سفيان بن عُيينة ، قال :سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «وجدتُ علم الناس كلَّه في أربع : أوّلها : أن تَعرفَ ربَّك ، والثاني : أن تَعرفَ ما صنَع بك ، والثالث : أن تعرف ما أرادَ منك ، والرابع : أن تعرف ما يُخرجك من دينك» .

قوله عليه السلام في حديث سفيان بن عُيَيْنَةَ : (وَجَدْتُ عِلْمَ الناسِ كلَّه في أربعٍ : أوّلها : أن تَعرِفَ ربَّك ، والثاني : أن تَعْرِفَ ما صَنَعَ بك ، والثالث : أن تَعِرْفَ ما أرادَ منك ، والرابع : أن تَعِرْفَ ما يُخْرِجُك من دينِك) . معناه _ واللّه أعلم _ : وجدتُ علم الناس الكاملين الذين يستحقّون التسمية بالناس العلماء ، وغيرهم إمّا خارج عن استحقاق التسمية بالناس ، أو بالناس العلماء . أو وجدت العلم الذي في الناس وهو الذي ينبغي أن يصدق عليه حقيقة العلم ، وما عداه من العلوم التي سمّوها بهذا الاسم خارجٌ عن العلم . أو وجدت علم الناس الذي كلّفوا بمعرفته ، فغيره (1) ليس من علم الناس . ولا شبهة في أنّهم عليهم السلام معدن الفصاحة والبلاغة وصحّة الكلام . والمطابق للقاعدة «أربعة» بالتاء (2) أو الاُولى والثانية إلخ . وما هو واقع في الحديث من هذا القبيل إمّا من حيث النقل بالمعنى مع عدم تمكّن الراوي من طرق هذا الفنّ ، أو من تحريف النسّاخ ، أو من اشتباه في الخطّ على الناسخ ونحو ذلك . وكون معرفة الربّ تبارك وتعالى أوّل الأربعة ظاهرٌ ، فإنّها مقدّمة شرفاً ورتبةً وغيرهما ممّا لا يخفى ؛ إذ شرف العلم ورتبته بشرف المعلوم ورتبته . والمراد بمعرفة الربّ ما يجوز أن يعرف به تعالى ممّا عرف من نفسه وعرفه به أنبياؤه ورسله وأوصياؤهم عليهم السلام ، لا كلّ ما يدّعي أنّ له دخلاً في المعرفة الناشي عن مجرّد إعمال الفكر القاصر ، فإنّ كثيراً من ذلك ممّا يزيل المعرفة ويوقع في الشكوك والشبهات المانعة من المعرفة . «والثاني : أن تعرف ماصنع بك» من كونه تعالى منحك عقلاً وقوّةً وقدرةً وإرادةً واختياراً وغير ذلك ممّا لا يحصى من إنعامه عليك ، ومننه لديك ، ثمّ أرسل لك رسلاً يدلّونك على ما ينفعك وما يضرّك ممّا لا يدرك جهته العقل باستقلاله ، ونَصَبَ لك بعد الرسل _ صلّى اللّه عليهم _ أوصياء يهدونك إلى مثل ما يهدون به ، ولم يكلّفك إلاّ دون ما أعطاك ممّا يقع التكليف به . وهذه مرتبة ثانية بعد المعرفة . «والثالث : أن تعرف ما أراد منك» من طاعته وعبادته وترك معصيته . ويدخل فيه علم الشرائع والأحكام وما يتعلّق بهما وما يتوقّفان عليه ، ومرتبة هذا بعد مرتبة معرفة الصنع . ولمّا كانت المعرفة قد تحصل من التعمّق فيها وإعمال الفكر والآراء ، وَصَفَ اللّه سبحانه بما لا يجوز وصفه به ، ونسبة مالا يليق بجنابه المقدّس نسبته إليه ، ونحو ذلك ، كما وقع كثيراً لكثير بحيث يؤدّي إلى التجسيم والتشبيه والوصف بالصورة والتخطيط ونحوه . وذلك سبب الاعتماد على الأفكار القاصرة عن حقيقة معرفته تعالى . والصنع قد يؤدّي إلى نحو الجبر والقدر المذموم صاحبه ونسبة تأثير العلويات وغيرها في القوى وغيرها لا على وجه خاصّيّة أودعها اللّه فيها يقتضي تأثيراً مخصوصاً ونحو ذلك ممّا لا يجوز اعتقاده . وكان القسم الثالث _ وهو معرفة ما أراد منك _ قد يحصل منه (3) العُجب والرياء وغيرهما ممّا ينقص أصل الدين أو يزيله . كانت مرتبة هذا القسم بعد مرتبة الأقسام الثلاثة في الترتيب الذكري ؛ فقد جمعت هذه الأربعة جميع العلوم التي يحتاج إليها ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ج» : «وغيره» .
2- . في حاشية «د» : يمكن توجيهه بالخصال ونحوها ، وقد وقع نحوه ، ونقلته من حاشية شرح اللمعة في غير موضع (منه رحمه اللّه ) .
3- . في «ألف ، ب» : + «مثل» .

ص: 354

. .

ص: 355

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : ما حقُّ اللّه على خلقه؟ فقال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويَكُفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدُّوا إلى اللّه حقَّه» .

محمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد ، عن ابن سنان ، عن محمّد بن مروان العِجْليّ ، عن عليّ بن حنظلةَ ، قال :سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «اعرِفوا منازلَ الناس على قَدْرِ روايتهم عنّا» .

قوله عليه السلام في حديث هشام بعد قوله له : «ما حقُّ اللّه ِ على خَلْقِه»؟ : (أنْ يقولوا ما يَعلَمون ، ويَكُفّوا عمّا لا يَعلَمونَ ، فإذا فَعَلوا (1) فقد أدَّوْا إلى اللّه ِ حَقَّه) . يحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون معناه : أنّ من أدّى إلى اللّه سبحانه هذا الحقّ كانَ مؤدّياً لجميع الحقوق ، فإنّها لازمة لمن هذا شأنه وموجودة بوجوده ؛ أو أنّ مقام السؤال والجواب يقتضي تخصيص القول مع العلم والكفّ مع عدمه ، وإلاّ فحقوق اللّه تعالى على خلقه لا تُحصى ؛ أو باعتبار كثرة ما يترتّب على (2) القول والكفّ وتركهما من المصالح والمفاسد التي لا تحصى ، بخلاف غيرهما ، ومن هذا شأنه يكون مؤدّياً لأكثر الحقوق ، فذكر عليه السلام أعظم الحقوق . وهذا الوجه كماترى ، ولعلّ الوجه ما تقدّم ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث عليّ بن حنظلة : (اِعْرِفوا مَنازِلَ الناسِ على قَدْرِ روايَتِهم عَنّا) . معناه _ واللّه أعلم _ : اعرفوا منازل الناس الذين يُعتمد على روايتهم ونقلهم ، إمّا لفهمه من الناس ، أو باعتبار الناس المعهودين ، أو لأنّه كلام مع من يعرف من يتحمّل الرواية ويجوز نقلها عنه من الناس ، أو للاعتماد على قوله عليه السلام : «عنّا» فإنّه يخرج الكاذب ومن لا يتحرّج من الزيادة والنقيصة على وجه لا يجوز ونحوه . وعلى الأخير يدخل المخالف المعلوم بقرينة صدقه ، وقد يدخل على بعض الاحتمالات الاُخر ، وكان الظاهر عدم إرادة دخوله وكونه ليس ممّن يتناوله الأمر بمعرفة منزلته ؛ واللّه أعلم . و«القَدْر» الظاهر أنّ المراد به الكمّيّة مع اعتبار الكيفيّة ، ويحتمل العكس . وإرادتهما معا إمّا بناء على جواز استعمال المشترك في معنييه ولو حقيقة ومجازاً ، وإمّا بإدخال الكيفيّة تحت الكمّيّة أو بالعكس ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : + «ذلك» .
2- . في «ج» : + «هذا» .

ص: 356

الحسين بن الحسن، عن محمّد بن زكريّا الغَلابيّ، عن ابن عائشة البصريّ ، رفعه ، أنَّ أميرَ المؤمنين عليه السلام قال في بعض خُطَبه:«أيّها الناس، اعلَموا أنّه ليس بعاقل من

قوله عليه السلام في بعض خطبه في حديث ابن عائشة البصريّ : (أيّها الناسُ ، اعلَموا أنّه ليس بعاقلٍ من انْزعَجَ من قولِ الزورِ فيه ، ولا بحكيمٍ مَن رَضِيَ بثناء الجاهلِ عليه ؛ الناسُ أبناءُ ما يُحْسِنونَ ، وقَدْرُ كلِّ امْرِىً ما يُحْسِنُ ، فَتَكَلَّموا في العلِم تَبَيَّنْ أقدارُكم) . معناه _ واللّه أعلم _ : ليس ممّن استعمل عقله فيما ينبغي استعماله فيه مَن انزعج من قول الزور فيه ، ومن فعل ذلك كانَ فعله كفعل غير العاقل ؛ فلهذا وصف بكونه ليس بعاقلٍ . ففي التعبير به دون التعبير بالمجنون تنبيهٌ على أنّ مثل هذا مع هذا الفعل له عقل يقدر على أن يفعل به فعل العقلاء ، بخلاف التعبير بالمجنون (1) ، فإنّه ليس فيه هذه النكتة ، وإن كان قد يوصف مثله بالمجنون أيضاً ، وقد تقدّم مضمون هذا . فالعاقل إذا استعمل عقله عَلِمَ أنّ قول الزور لا ضرر عليه فيه في الآخرة ، بل له بذلك النفع ، وضرر الدنيا إن حصل بقول الزور فهو سهل «فلا شرّ بشرّ بعده الجنّة ، ولا خير بخير بعده النار» (2) . وكما يحصل له الثواب يحصل لقائل الزور العقاب ؛ فينبغي أن لا ينزعج ؛ لدلالة العقل إيّاه على الضرر الذي يريد الإنسان إيقاعه بمن كان سبباً للانزعاج ؛ فهذا المزعَج (3) قد أدخل الضرر على نفسه ، وجلب النفع لمن يريد إزعاجه ، فالذي يعقل لا ينزعج لذلك . نعم لو كان ممّا يقتضي الشرع دفعه عن نفسه ، سعى في دفعه ما أمكن . ومن كان عاملاً بمقتضى حكمته _ وهي ما يرجع إلى العلم والعمل ، ووضع الأشياء مواضعها ، وطاعة اللّه ورسله وأوصيائهم _ لم يرض بثناء الجاهل عليه ، فإنّ الرضا بذلك خلاف ما تقتضيه الحكمة وتدلّ عليه ؛ لأنّ ثناء الجاهل إمّا خطأ أو في حكم الخطأ ، فإن أصاب لا يكون صوابه عن قصد يعتدّ به ؛ فالرضا بثنائه رضا بباطل ، أو بثناء مبطل صادر ثناؤه عن غير محلّه . وقد يترتّب على الرضا مفاسد كالغرور وفعل منافي الحكمة ، فإنّ الإنسان يحوط ما أحبّ ، والناس إلى أشكالهم أميل ، وحبّ الشيء يُعمي ويصمّ ، وذلك من فعل غير الحكيم . وهذا بخلاف ثناء العالم أو العاقل ، فإنّه لايثني إلاّ بما يترتّب عليه نفع دنيوي واُخروي ، أمّا الدنيوي فإنّه قد يكون الثناء سبباً للاعتقاد فيه والانتفاع منه واحترامه لذلك وعزّته ونحو ذلك ، وأمّا الاُخروي فلما يترتّب على ما ذكر ونحوه من الثواب . وذلك من مقتضى الحكمة والعمل بها ، وفيها (4) رضا اللّه وطاعته والتأدّب بآداب الإمام وامتثال أمره وفي ذلك معرفته ؛ فقد ورد من جملة تفسير الحكمة أنّها طاعة اللّه ومعرفة الإمام (5) . ويحتمل أن يكون المراد ثناء الجاهل بحاله ، فإنّه إمّا أن يكون مخالفاً لما يثنى به ، ووجهه ظاهر ، أو يتّفق إصابته ، وذلك غير معتدّ به مع عدم العلم بحاله وصدوره عن الجاهل ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : + «ونحوه» .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 24 ، ضمن خطبة الوسيلة ؛ الفقيه ، ج 4 ، ص 392 ، ضمن ح 583 ؛ وص 406 ، ضمن ح 5880 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 320 ، المجلس 52 ، ضمن ح 8 ؛ التوحيد ، ص 72 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 27 ؛ نهج البلاغة ، ص 544 ، الحكمة 387 .
3- . في «ج» : «المنزعج» .
4- . في «ألف ، ب» : «فيه» .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 185 ، باب معرفة الإمام والردّ إليه ، ح 11 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 148 ، باب المعرفة من كتاب الصفوة، ح 60 ؛ تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 151 ، ح 496 ؛ تأويل الآيات ، ص 103 . وفي بحار الأنوار ، ج 1 ، ص215، باب العلوم التي أمر الناس ... ، ح 22 ؛ ج 24 ، ص 86 ، باب أنّ الحكمة معرفة الإمام ، ح 2 ، عن المحاسن .

ص: 357

. .

ص: 358

انْزَعَجَ من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه؛الناس أبناءُ ما يُحسنونَ،

وقوله عليه السلام : «الناس أبناء ما يُحسنون» يحتمل وجهين : أحدهما : أنّ الفخر لا ينبغي أن يكون بالآباء ، بل بالكمال والفضل ومحاسن الشيم والآداب ، فإنّ الفخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية . قد يسود المرء من غير أبوبحسن السبك قد ينفي الزغل لا تقل أصلي وفصلي أبداًإنّما أصل الفتى ما قد حصل فأبو الإنسان ما يحسنه من المحاسن ، بمعنى أنّه ينسب إليها ويفتخر بها كما يفتخر بالآباء بل الفخر بها لا بالآباء . وفيه إشارة إلى أنّ من لا يكون فعله حسناً ، يكون كمن لا أب له ينتسب (1) إليه ، وكلّما زادت المحاسن زاد حسن الانتساب . الثاني : أن يكون المراد به ما يشمل غير الحسن أيضاً ، فالمعنى الناس أبناء ما يأتون به ويصدر عنهم ونحوه ، سواء كان حسناً أم قبيحا ، فصاحب المحاسن حَسَنٌ وإن كان آباؤه غير كرام ، وصاحب القبائح ونحوها غير حَسَنٍ وإن كان آباؤه كراماً . فالإنسان يُنسب إلى ما يصدر عنه ويحتوى عليه ، إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً ، فصاحب الخير أبوه خيره ، وصاحب الشرّ أبوه شرّه . فإن قلت : المناسب على هذا الوجه أن يُؤتى بنحو «يفعلون ويأتون» ، فيقال : الناس أبناء ما يأتون ويفعلون ، ونحو ذلك . قلت : يمكن الجواب بأنّ أصل هذا الفعل وإن كان يدلّ على حُسن الفعل ، إلاّ أنّه قد يستعمل في غير الفعل الحسن في نفسه ، كما تقول : أنا أُحسن قتل زيد شرّ قتلة ، وعقوبته أشدَّ عقوبة إذا كان ذلك قبيحاً ، بمعنى الإتيان بهذا الفعل على أكمل وجوهه ، حتّى أنّه صار شائعاً أن يقول الإنسان لمن يتوعّده بالأذى : أنت تحسن أن تؤذيني ، بمعنى تقدر على ذلك . ويمكن أن يكون ذكره للحثّ على أن يكون الفعل حسناً أو التفألّ به . والوجهان مفادهما الردّ على من يفتخر بالآباء ، ويتوهّم أنّ ذلك كافٍ في الكمال .

.


1- . في «ج» : «ينسب» .

ص: 359

وقَدْرُ كلِّ امرئ ما يُحسِنُ ، .........

وقوله عليه السلام : «وقدر كلّ امرى ء ما يحسن» نحو ماورد من كلامه عليه السلام : «قيمة كلّ امرئ ما يحسنه» (1) وهما يفيدان _ مع تأكيد الأوّل مضمون الكلام السابق _ فائدةً اُخرى جليلة ، وهي أنّ حسن الهيئة والمنظر والتركيب والصورة قد يكون لكلّها أو بعضها (2) دَخْل في زيادة القدر والقيمة والاعتبار بحسب مراتب ما له قدر وقيمة ، فنبّه عليه الصلاة والسلام على أنّ الإنسان ليس من قبيل الضأن مثلاً ليكون سمنه (3) سبباً لزيادة قدره وقيمته ، والجواهر ليكون صفاء لونها وكبرها وحسن تدوير بعضها أو شكله سبباً لذلك ، بل قيمة الإنسان _ بمعنى أنّه لو كان ممّا تبذل (4) فيه القيمة _ وقدرُه واعتباره ما يحسن ، لا غيره من نحو ما ذكر في غيره ، فإنّ أحسن الخصال الجميلة كانت قيمته على قدر مافيه منها ، وإن خلا من الخصال الحسنة كان كما لا قيمة له ، من نحو القاذورات وكلاب الهراش . ويمكن هنا أيضاً اعتبار الوجهين السابقين في قوله عليه السلام : «الناس أبناء ما يحسنون» . أمّا الأوّل فظاهر . وأمّا الثاني فهو ظاهر أيضاً فيما له قيمة ، وفيما لا قيمة له يكون من قبيل ما لو رأى شخص حجراً يشبه أحد الجواهر مثلاً في نظره ، فتوهّمه من ذلك النوع وأنّه ذو قيمة ، فعرضه على من له خُبرة وتمييز ، وسأله : ما قيمة هذا؟ فقال له : قيمته كقيمة الحجر الملقى الذي لا ينتفع به بوجه . ويمكن اعتبار وجه آخر ، وهو أن تعتبر القيمة حسنةً وقبيحةً ، فيقال مثلاً : قيمة كذا الذهب وقيمة كذا التراب ، ولمّا كان بين جملة «الناس أبناء ما يحسنون» وجملة «قدر كلّ امرئ ما يحسن» ما يقتضي العطف عَطَفَها عليها (5) ، بخلاف الجملة الاُولى بالنسبة إلى ما قبلها ، وإن كان لها بما قبلها مناسبة مّا باعتبار قسمي المنزعج وغيره والحكيم وغيره ، بناءً على الوجه الثاني المتقدّم ، أو بالحكيم وغير المنزعج بناءً على الأوّل . وذلك ظاهر لمن أحاط خبراً بباب الفصل والوصل .

.


1- . الأمالي ، للصدوق ، ص 446 ، المجلس 68 ، ح 9 ؛ الخصال ، ص 420 ، ضمن ح 14 ؛ عيون أخبار الرضا صلى الله عليه و آله ، ج 2 ، ص 53 ، الباب 31 ، ضمن ح 204 ؛ خصائص الأئمّة ، للسيّد الرضي ، ص 95 ؛ الإرشاد ، ج 1 ، ص 300 ، فصل : ومن كلامه عليه السلام في الحكمة والموعظة ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 109 ، مجلس في ذكر فضائل أمير المؤمنين عليه السلام . وفي الفقيه ، ج 4 ، ص 388 ، ضمن ح 5832 ، في وصايا عليّ عليه السلام لابنه محمّد بن الحنفيّة هكذا : «قيمة كلّ امرئ ما يحسن الاعتبار» .
2- . في «ج» : «لبعضها» .
3- . في «د»: «ثمنه».
4- . في «ج» : «يبذل» .
5- . في «د» : «عليه» .

ص: 360

. .

ص: 361

فتَكَلّموا في العلم تَبَيَّنْ أقدارُكم» .

وقوله عليه السلام : «فتكلّموا في العلم تَبَيَّنْ أقداركم» معناه _ واللّه أعلم ، على تقدير أن يكون المراد بما يُحسن ما يُحسن من العلم وصفات الكمال ونحوها ممّا يدخل تحت العلم ولو بما يلزم العالم _ : أنّكم تكلّموا فيه لتظهر محاسنكم عند الناس وقدر مراتبكم ، لا لمجرّد إظهار ذلك ، بل ليظهر للمنتفع وجه الانتفاع منكم بقدر ما يجد من حالكم ، وللجاهل بحالكم ما يرفع عنه ذلك الجهل ونحوه . وقد يجب على الإنسان إظهار حاله ليقتدى به ويعتمد عليه فيما يحتاج إليه من الأحكام والفتاوى ، وتعلّم الخير والصلاح ووجوه العلم ، فمع عدم الكلام قد لا يحصل ذلك ، وربما يكون آثماً إلاّ من علّة ، فإنّ إظهار ما ينبغي إظهاره منوطٌ برفع المانع كما هو معلوم مقرّر . ويمكن أن يكون المراد أمرهم بالتكلّم لتظهر أقدارهم عند غيرهم وعند أنفسهم ، فكم من عالم مجهول القدر عند غيره ، وكم من جاهل لنفسه بأن يعتقد مرتبة من العلم ، فإذا تكلّم ظهر له أنّه ليس من أهل تلك المرتبة ، فيتبيّن (1) له قدره ؛ فيكون ذلك باعثاً على ظهور فساد اعتقاده ورجوعه عنه إلى غيره . وقد يكون الإنسان غير معتقد مرتبة وهي فيه ، أو هو أعلى منها ، ويمنعه عن اعتقادها كَسْر نفسه وعدم ميله إلى إظهار الفضل ونحوه هرباً من الشهرة ، فينشأ من ذلك شكّ أو شبهة في تلك المرتبة ، فيبقى على ما دونها ، فإذا تكلّم ظهر له ذلك ، وكان باعثاً على جرأته على إظهارها واعتقادها . وكلّ ذلك يترتّب عليه وجود المنافع ودفع المضارّ . وقد يكون الجهل بسيطاً ، فالتكلّم يكون باعثاً على تعلّم العلم وترك ما هو عليه من الجهل ، وحينئذٍ يمكن أن يكون الأمر لكلّ أحد يمكن في حقّه ذلك بالكلام في العلم ؛ واللّه أعلم . والفاء في قوله عليه السلام : «فتكلّموا» يجوز كونها للاستيناف ، والتفريع ، ومجرّد العطف إن جاز . وربط هذه الوجوه بما يناسبها يظهر بالتأمّل الصادق . و«تبيّن» أصله تتبيّن ، وهو مجزوم في جواب الأمر .

.


1- . في «ج» : «فتبيّن» .

ص: 362

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن أبان بن عثمان ، عن عبداللّه بن سليمان ، قال :سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول وعنده رجلٌ من أهل البصرة يقال له : «عثمان الأعمى» وهو يقول : إنَّ الحسنَ البصريّ يَزعُمُ أنَّ الذين يكتمونَ العلمَ يُؤذي ريحُ بطونهم أهلَ النار ، فقال أبو جعفر عليه السلام : «فهَلَكَ إذَنْ مؤمنُ آل فرعونَ ، ما زال العلمُ

قوله عليه السلام في حديث عبداللّه بن سليمان بعد قول عثمان الأعمى له : إنّ الحَسَنَ البصريَّ يَزعُمُ أنّ الذين يَكتمونَ العلمَ يُؤذي ريحُ بطونهم أهلَ النار : (فَهَلَكَ إذَنْ مؤمنُ آلِ فرعونَ ، ما زالَ العلمُ مَكتوماً مُنذُ بَعَثَ اللّه ُ نوحاً ، فَليَذهَبِ الحَسَنُ يَميناً وشِمالاً ، فواللّه ِ ما يوجَدُ العلمُ إلاّ هاهنا) . لمّا كان كلام الحسن البصري مشتملاً على قصور وجهل وعناد من جهات ، تكلّم عليه السلام بما تكلّم : أحداها : إتيانه بما يدلّ على العموم في حقّ من يكتم العلم بأنّ هذا شأنه ، وكان ينبغي تخصيصه إن كان لكلامه أصل أخذه منه بمن لا يكون له مانع من إظهار العلم من تقيّة ونحوها ، كأن يكون مأموراً بذلك من قِبَلِ اللّه عزّ وجلّ . الثانية : أنّه كان من أهل العلم الظاهري ، وكان بحيث لا تخفى على أحوال الأئمّة عليهم السلام وأنّهم أهل العلم ، فما ذكره شامل لمن كتم علمه بالنسبة إلى غيره (1) لأمر إلهيّ اقتضاه ، والحسن البصري كان منحرفاً عنهم عليهم السلام فإنّ كلّ من لم يلتجى ء إليهم ولم يأخذ عنهم ولم يعتقد إمامتهم فهو منحرف عنهم فضلاً عن غيره ، وإن لم يعلم بذلك كان في زمرة أهل الجهل في حقّ من كتم العلم منهم وحقّ من تقدّمهم ممّن كتم العلم ، والإمام عليه السلام أعلم بمواقع الكلام ومقاصده . وإنّ كلام الحسن البصري كان مشتملاً على مثل (2) ما ذكر ومحلاًّ لأن يُرَدُّ ، فلا يرد إمكان حمل كلام الحسن البصري على من يكتم العلم في حال لا يجوز له كتمه ، فإنّ ذلك مذموم في الكتاب والسنّة وهم عليهم السلام أمروا بنشر العلم . ويمكن أن يكون هذا الكلام اخترعه الحسن البصري أو وضعه ، فيرد عليه ما ذكر . الثالثة : أنّه كأنّه لمّا رأى ذمّ كتم العلم في الكتاب والسنّة حمله على العموم ، ولم يأخذ وجه تأويله عنهم عليهم السلام ليظهروا له من يؤاخذ بالكتم ومن لا يؤاخذ به بل قد يجب عليه .

.


1- . في «ألف ، ب» : + «كزين العابدين عليه السلام ، فإنّه ممّن كتم علمه» .
2- . في «ب» : «نحو» .

ص: 363

مكتوما منذُ بعث اللّه نوحا عليه السلام ، فليذهب الحَسَنُ يمينا و شمالاً ، فواللّه ما يوجد العلمُ إلاّ هاهنا» .

وقوله عليه السلام : «فليذهب الحسن يميناً وشمالاً» . الأمر فيه يحتمل الإهانة والإدلال أو الاحتقار ، كما قيل في قوله تعالى : « ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ » (1) وفي قوله تعالى : «قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً » (2) على أحد الوجهين ، والآخر فيه التسخير . ويحتمل التخويف ، نحو « اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ » (3) . ويحتمل بعيداً الإنذار ، كما قيل (4) في قوله تعالى : « قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً » (5) . وهو عبارة عن كونه في علمه كمن لا يهتدي إلى الطريق المستقيم ، ويكون سلوكه إلى جهة اليمين والشمال مع عماه أو ضلاله عن السلوك في جادّة الطريق وحقيقته ، فهو ضالّ في علمه كما يضلّ هذا السالك . وقوله عليه السلام : «فواللّه ما يوجد العلم إلاّ هاهنا» لفائدة أنّ العلوم التي لم تؤخذ منهم عليهم السلام ليست بعلوم ، وللتنبيه على أنّ مَن كان في مثل حال الحسن البصري ممّن يذهب يميناً وشمالاً . والإشارة ب_ «هاهنا» إمّا إليه عليه السلام أو إلى صدره حيث إنّه صاحب الوقت ، فالعلوم موجودة فيه فقط ، بمعنى أنّه وعاؤها وحاملها ومرجع لمن يأخذ العلم ، ولا ينافيه وجود بعضها فيمن أخذ منهم باعتبار أنّه ذلك الوقت أصل العلم ومعدنه . والأخذ مستعمل لبعض ما عنده من العلم ، وإمّا بمعنى إلاّ عندنا أهل البيت الذين هم معدن العلم . ويحتمل أن يراد بالإشارة ما يتناول من أخذ عنهم العلم من شيعتهم باعتبار الأخذ ، لا الأصالة ؛ ومن خرج عن ذلك كان علمه جهلاً ، وهداه ضلالاً ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . الدخان (44) : 49 .
2- . الإسراء (17) : 50 .
3- . فصلت (41) : 40 .
4- . انظر : التبيان ، ج 9 ، ص 13 ؛ معاني القرآن ، ج 6 ، ص 156 ؛ زاد المسير ، لابن الجوزي ، ج 7 ، ص 7 .
5- . الزمر (39) : 8 .

ص: 364

باب رواية الكتب والحديث

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتبعلىُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن يونسَ ، عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام قول اللّه جلّ ثناؤه : « الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُو » ؟ قال : «هو الرَّجل يَسمع الحديث، فيُحدّثُ به كما سَمِعَه ، لا يَزيدُ فيه ولا يَنقصُ منه» .

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب[ قوله : ] في حديث أبي بصير : (قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام قول اللّه جلّ ثناؤه : «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» (1) قال : هو الرجلُ يَسمَعُ الحديثَ فَيُحَدِّثُ به كما سَمِعَه ، لايَزيدُ فيه ولا يَنقُصُ منه) . الظاهر أنّ المراد عدم الزيادة والنقيصة في اللفظ والمعنى ، كما في قوله عليه السلام : «رحم اللّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها ، فأدّاها كما سمعها» (2) ، الحديث ؛ فيكون التفضيل على أصله . ويؤيّده ما يأتي من نفي البأس مع الزيادة والنقيصة اللتين لا تغيّران المعنى . ولا ينافيه ذكر البشارة في الآية ؛ فتدبّر . ولو حملت الزيادة والنقيصة على زيادة ونقيصة تؤثّران في المعنى ، كان التفضيل من قبيل قوله تعالى : « وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » (3) .

.


1- . الزمر (39) : 18 .
2- . عدّة الداعي ، ص 28 ؛ عوالي اللئالي ، ج 4 ، ص 66 ، ح 24 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 17 ، ص 288 ، ح 21369 . وفي الكافي ، ج 1 ، ص 403 ، باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين ... ، ح 1 و 2 ؛ و الأمالي ، للصدوق ، ص 350 ، المجلس 56 ، ح 3 ؛ والخصال ، ص 149 ، ح 182 ؛ والأمالي ، للمفيد ، ص 186 ، المجلس 23 ، ح 13 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 153 ، مع اختلاف يسير .
3- . الروم (30) : 27 .

ص: 365

محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن اُذينةَ ، عن محمّد بن مسلم ، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : أسمَعُ الحديثَ منك فأزيدُ وأنقُصُ؟ قال : «إن كنتَ تُريد معانيه ، فلا بأسَ» .

قوله عليه السلام في حديث محمّد بن مسلم بعد قوله : أسْمَعُ الحديثَ منك فأزيدُ وأنقُصُ : (إنْ كُنتَ تُريدُ مَعانِيَهُ فلا بَأسَ) . «زاد» و«نقص» يقعان لازمين ومتعدّيين إلى واحد وإلى اثنين ، وتعلّق الزيادة بالفاعل في الأوّل ، وبالمفعول في الثاني والثالث . وهما هنا من قبيل المتعدّي إلى واحد ، وحذف المفعول للعلم به ، وهو «شيئاً» ونحوه . وقد يقال : إنّ الاستغناء عن المفعول من حيث إنّ الفعل متضمّن لمعنى أوجد الزيادة والنقيصة ، والفرض يتعلّق بهذا المقدار . وهذا وجه لطيف ينفع في مواضع تشاكل هذا . أو يقال بتنزيله منزلة اللازم لنحو ما ذكر . وهذان الوجهان متقاربان في الفائدة . والزيادة والنقيصة هنا غير مقيّدتين بالعمد وعدمه ، فيحتمل التقييد بما يقيّد به الحديث الذي بعده بحمل المطلق على المقيّد ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 366

وعنه ، عن محمّد بن الحسين ، عن ابن سنان ، عن داود بن فَرقد ، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : إنّي أسمَعُ الكلامَ منك ، فاُريدُ أن أروِيَهُ كما سمعتُه منك فلا يَجيءُ؟ قال : «فَتعَمَّدُ ذلك؟» قلت : لا ، فقال : «تريد المعاني؟» قلت : نعم ، قال : «فلا بأس» .

[قوله :] في حديث داود بن فَرقَد : (إنّي أسمَعُ الكلامَ منك ، فاُريدُ أن أرْوِيَه كما سَمِعْتُه منك فلا يَجيءُ؟ قال : «فَتَتَعَمَّدُ ذلك؟» قلت : لا ، فقال : «تُريدُ المعاني؟» قلت : نعم ، قال : «فلا بأس») . معناه _ واللّه أعلم _ أنّي إذا رويت الحديث عنك ، فأردتُ أن أرويه على ما سمعته بحيث لا أزيد فيه ولا أنقص شيئاً من الألفاظ والمعاني ، فلا يجيء (1) ذلك في بالي ولا يتيسّر لي . ولمّا كان النسيان قد يكون سببه عدم الاعتناء بالشيء والمحافظة عليه ، قال له عليه السلام : «فتتعمّد ذلك» أي فتتعمّد أن لا تحافظ عليه وأن لا تكون (2) في فكرك ألفاظه ومعانيه اعتماداً منك على أنّك تأتي بالمعاني وتتساهل في أمر الألفاظ وترتيبها ، أو يكون ذلك منك لعدم الاعتناء به مطلقا ، ومن فعل ذلك يكون متعمّداً لتركه بحيث لا يجيء في فكره ، أو كالمتعمّد ؛ فالمعنى أنّك تتعمّد سبب عدم مجيئه في فكرك . أو أنّ ذلك من باب النسيان بعد المحافظة على حفظه وبذل الجهد فيه . «قلت : لا» أي لا أتعمّد ما ذكر ، بل هو من قبيل النسيان بعد المحافظة . فظهر وجه ربط الكلام بعضه ببعض ، ودفع ما يتوهّم من عدم مناسبة ذكر التعمّد بعد قوله : فلا يجيء ذلك . ويحتمل وجهاً آخر ، وهو أن يكون معنى «لا يجيء» لا يتّفق ، بمعنى أنّ في تأدية الألفاظ قد يقع السهو أو الخطأ في التعبير بها بتبديل بعضها وإن كانت جميعها في محفوظة ، فلا يتّفق حينئذٍ الإتيان بها على ما هي عليه ، وحينئذٍ يتصوّر فيه العمد وعدمه ؛ ويتمّ ربط الكلام بعضه ببعض أيضاً . ثمّ إنّه عليه السلام أفاده أنّ الألفاظ التي يأتي بها لا حرج عليه في كونها تلك الألفاظ التي سمعها أو غيرها ولو ببعضها إذا كانت المعاني محفوظة عنده بحيث لم يقع فيها زيادة ولا نقيصة ، فقوله عليه السلام «تريد المعاني» أي المعاني التي سمعتها من غير زيادة ولا نقيصة ، فإنّ ذلك في هذه الصورة جائز . ويفهم منه عدم جواز ذلك عمداً ، وأنّه لو أراد الألفاظ لا يأتي بها إلاّ مع حفظها على وجهها ، فروايتها مع إسقاط بعضها ونحوه غير جائزة . وظاهر الجمع المعرّف وهو «المعاني» والتعبير ب_ «الكلام» يدلّ على أنّه إذا أراد معاني حديثٍ لا ينبغي أن يُسقط منها شيئاً ، ومع سقوط البعض لا يجوز . فإن قلت : هل يدلّ العموم على أنّه إذا روى حديثاً مشتملاً على معاني كثيرة ، لا يجوز له إلاّ رواية الجميع ، دون البعض؟ قلت : الظاهر عدم دلالته على هذا ، فإنّ قول السائل : «أسمع الكلام» وقوله عليه السلام : «تريد المعاني» غاية ما يدلاّن على الكلام الذي سَمِعَه وقَصَدَ روايته وعلى معانيه ، فلا دلالة له على جميع ما سمعه وجميع معانيه . نعم ، لو كان المعنى لا يتمّ إلاّ بما لم يقصده ويروه ، لم تجز روايته ؛ لأنّه لم يأت بما يدلّ على جميع معانيه . ويمكن أن يكون العموم في هذا المقام غير ملحوظ ، وذكر «المعاني» باعتبار تعدّدها في الكلام ؛ فتأمّل . ولا يخفى أنّ معنى «تريد المعاني» تقصد بالتعبير التعبير عن المعاني التي هي محقّقة في ذهنك ، لا مطلق الإرادة ، فإنّ الإرادة قد تتعلّق بتحصيل شيء ولا يحصل على وجهه ، وهذا ليس من هذا القبيل ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب ، ج » : «لا يجيء» .
2- . في «ألف ، ب ، ج » : «لا يكون» .

ص: 367

. .

ص: 368

وعنه ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن محمّد ، عن عليّ بن أبي حمزةَ ، عن أبي بصير ، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : الحديثُ أسمَعُه

[قوله] في حديث أبي بصير : (قالَ قُلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : الحديثُ أسْمَعُه منك أرْوِيهِ عن أبيك ، أو أسْمَعُه من أبيك أرْوِيهِ عنك؟ قال : «سواءٌ إلاّ أنّك تَرويه عن أبي أحَبُّ إليَّ» . وقال أبو عبداللّه عليه السلام لجميلٍ : «ما سَمِعتَ منّي (1) فَارْوِهِ عن أبي») . لمّا كان حديثهم عليهم السلام وأمرهم ونهيهم واحدا ، وكان المتأخّر صادراً علمه عن المتقدّم حتّى في قضايا ووقائع لم تكن في زمن المتقدّم ، فإنّها تعرض على السابق ثمّ على من بعده إلى أن تصل إلى صاحب الوقت ؛ كما نطق به كلامهم عليهم السلام ، فكان كلامهم واحداً ، فالصادق عليه السلام قد رخّص للراوي عنه أن يقول : أروي عن الباقر عليه السلام ، وعكسه . ويحتمل أن يكون منه قال الباقر عليه السلام وقال الصادق عليه السلام ، والظاهر أنّه مخصوص بنحو ما ذكر ، فلو (2) قال : سمعت الباقر عليه السلام ، أو سأله رجل وأنا حاضر فقال كذا وكذا ونحو ذلك ، لم يكن داخلاً تحت الرخصة ؛ لما لا يخفى . فإن قلت : هل تتعدّى الرخصة إلى غيرهما فيجوز أن تقول فيما روي عن الصادق عليه السلام مثلاً : أروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بقرينة الحديث الآتي من قوله عليه السلام : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ... » (3) . ولما تقرّر من أنّ كلامهم عليهم السلام واحد؟ قلت : أمّا الحديث فغاية ما يدلّ عليه ما ذكر ، وهو كون كلامهم عليهم السلام واحدا ، وأنّه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن اللّه عزّ وجلّ ، ولا دلالة فيه على الرخصة ، وكذا ما ذكر من التوجيه والرخصة وقعت في مادّة خاصّة ، فهي فيها متيقّنة دون غيرها ؛ فالظاهر عدم تجاوز مادلّ عليها مع احتمال التعدّي ، وأن يكون من باب اتّحاد الطريق . والوجه عدم التعدّي ؛ واللّه أعلم . والظاهر عدم اختصاص الرخصة بهذا الراوي مع احتماله ، ويشكل تناول الرخصة لمن روى بواسطة ، والظاهر عدم التناول ، وكذا الإشكال فيمن روى بالمعنى من حيث إنّ المتيقّن الروايةُ باللفظ والمعنى ، ومن حيث الرخصة في الرواية بالمعنى بشروطها .

.


1- . في «ج» : «عنّي» .
2- . في «د» : «فإن» .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 53 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 14 .

ص: 369

منك أرْوِيهِ عن أبيك ، أو أسمَعُه من أبيك أرْوِيهِ عنك؟ قال : «سواءٌ ، إلاّ أنّك تَرويه عن أبي أحَبُّ إليَّ» . وقال أبو عبداللّه عليه السلام لجميل : «ما سمعتَ منّي فاروِه عن أبي» .

وقوله عليه السلام : «سواء ، إلاّ أنّك ترويه عن أبي أحبّ إليّ» . سياق الحديث يدلّ على كون ضمير «ترويه» راجعاً إلى الحديث السابق الذي قسّم السائل سماعه إلى القسمين . وكذا (1) ما بعده من قوله عليه السلام : «ما سمعت منّي فاروه عن أبي» . ويحتمل أن يكون راجعاً إلى القسم الأخير فقط (2) ؛ بقرينة القرب وتعظيم أبيه عليهماالسلاموظاهر كون الرواية ينبغي أن تكون عمّن روى عنه وذكر ما قاله عليه السلام لجميل : «ما سمعت منّي فاروه عن أبي»لكونه بياناً للرخصة في القسم الأوّل، والحاجة (3) غير متيقّنة وقت الخطاب . وفيه تأمّل ؛ واللّه أعلم . وظاهر أنّ الأمر في قوله عليه السلام : «فاروه عن أبي» للإباحة والرخصة . و «الحديث» في كلام الراوي منصوب على شريطة التفسير ، ويجوز كونه مبتدأ وجملة «أسمعه» صفة لجنسيّة الحديث ، والحال هنا لا يستقيم . وليس من قبيل «يحمل أسفاراً» ليجوز فيه الوجهان . وجملة «أرويه» خبر «الحديث» ، وهي إمّا إنشائيّة بتقدير الاستفهام ، أو خبريّة . وقوله : «أو أسمعه» معطوف على «أسمعه» وما بعده على نحو ما تقدّمه . ويجوز أن يكون جملة «أسمعه» خبراً أوّلاً ، وجملة «أرويه» خبراً ثانياً ؛ وأن يكونا (4) صفتين ، والخبر محذوف تقديره : «جائز ذلك أم لا» ونحوه . وقوله عليه السلام : «سواء» خبر مبتدأ محذوف بتقدير «هما سواء» أو «حديثي وحديث أبي سواء» ، أو «أنا وأبي سواء» ، ونحو ذلك ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في حاشية «ألف ، د» : أي وكذا ما بعده يدلّ على ذلك (منه) .
2- . في حاشية «ألف ، د» : «توضيح معنى العبارة أنّه إذا رجع إلى الحديث بقسيمه ، فرجوعه إلى القسم الأخير ظاهر ، ورجوعه معه إلى القسم الأوّل يؤيّده الحديث الذي بعده من قوله عليه السلام : «ما سمعت منّي فاروه عن أبي» . فمعنى «وكذا» إلخ أنّه اذا دخل القسم الأوّل كان الحديث الذي بعده مثله في ذلك ، لا في التقسيم إلى القسمين (ألف : منه) ؛ (د : منه دام تأييده) » .
3- . في حاشية «ألف ، د» : «دفع لما يقال : إنّ ما ورد في حديث جميل كانَ في غير وقت الخطاب في غيره ، ولم يقتض في غيره الحاجة إلى عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، غايته تأخيره عن وقت الخطاب ، وهو جائز على تقديره (ألف : منه) ؛ (د : منه مدّ ظلّه) » .
4- . في «ألف ، ب ، ج » : «تكونا» .

ص: 370

وعنه ، عن أحمد بن محمّد ؛ ومحمّد بن الحسين ، عن ابن محبوب ، عن عبداللّه بنص 52 سنان ، قال :قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام يَجيئني القومُ فيَستمعون منّي حديثَكم ، فأضْجَرُ ولا أقْوى ، قال : «فاقْرَأ عليهم من أوّله حديثا ، ومن وَسَطِه حديثا ، ومن آخِره حديثا» .

[قوله :] في حديث عبداللّه بن سنان : (قال : قُلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام يَجِيئُني القومُ فَيَسمَعونَ (1) منّي حديثكم ، فأضْجَر ولا أقوى ؟ قال : «فَاقْرَأ عليهم من أوّلِهِ حَديثاً ، ومن وَسَطِه حَديثاً ، ومن آخرِهِ حَديثاً») . هذا الحديث يحتمل وجهين : أحدهما _ وهو المشهور _ : أنّه إذا روى الراوي أحاديث مجموعةً في كتاب ، فيكفي في طريق الرواية عنه لذلك الكتاب أن يقرأ على الراوي عنه من أوّله حديثاً ومن وسطه حديثاً ومن آخره حديثاً ، فإذا فعل ذلك جاز لمن سمع هذا المقدار أن يروي عنه جميع الكتاب بإجازته له ذلك أو مناولته (2) أو الاكتفاء بهذه القراءة ، ولعلّ المناولة أو الإجازه مفهومة من المقام . ويأتي في آخر الباب ما يدلّ على جواز الرواية من غير إجازة ونحوها في حديث محمّد بن الحسن بن أبي خالد (3) . الثاني : أنّ المرويّ عنه يقرأ هذا المقدار ويقرأ الراوي الباقي أو يسمعه ، وما يأتي من جواز رواية الكتاب بمجرّد إعطائه وعلمه أنّ الكتاب له قد يؤيّد الأوّل ، ولكن لا ينافي مرتبة الثاني . ويبعد الثاني عدم ما يدلّ على قراءة الراوي ماعدا ما يقرأه المرويّ عنه ، نعم تفيد هذه الصورة تحصيل هذه المرتبة ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في الكافي المطبوع وبعض نسخه : «فيستمعون» .
2- . في «ج» : + «له» .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 53 ، باب رواية الكتب والحديث ، ح 15 .

ص: 371

عنه ، بإسناده عن أحمد بن عمر الحلاّل ، قال : قلت لأبي الحسن الرّضا عليه السلام :الرجلُ من أصحابنا يُعطيني الكتابَ ولا يقول : «اروِهِ عنّي» يجوزُ لي أن أروِيَه عنه؟ قال : فقال : «إذا علمتَ أنّ الكتابَ له ، فارْوِهِ عنه» .

[قوله] في حديث أحمد بن عُمَرَ الحَلاّل : (قال : قلتُ لأبي الحسن الرضا عليه السلام الرجلُ من أصحابِنا يُعطيني الكتابَ ولا يقولُ : ارْوِهِ عنّي ، يجوز لي أن أرْوِيَه عنه؟ قال : فقال : «إذا عَلِمْتَ أنّ الكتابَ له فَارْوِهِ عنه») . هذا الحديث فيه دلالة على أنّ هذا القدر يكفي في جواز الرواية ، وهو ظاهر . وهذا أحد قسمي المناولة في اصطلاح أهل الدراية ، وقد منعه بعض المحدّثين ، وهذا الحديث حجّة عليه . واستدلّ على جوازه من طرق العامّة بما روي عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعث بكتابه إلى كسرى مع عبداللّه بن حداقة ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، ويدفعه عظيم البحرين إلى كسرى (1) .

.


1- . صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 136 ؛ مسند أحمد ، ج 1 ، ص 243 و 305 ؛ السنن الكبرى ، للنسائي ، ج 3 ، ص 436 ؛ السنن الكبرى ، للبيهقي ، ج 9 ، ص 177 ؛ معرفة علوم الحديث ، للحاكم النيسابوي ، ص 258 ؛ تهذيب الكمال ، ج 1 ، ص 197 ؛ سير أعلام النبلاء ، ج 2 ، ص 12 ؛ نصب الراية ، للزيعلي ، ج 6 ، ص 563 .

ص: 372

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ وعن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :قال أميرالمؤمنين عليه السلام : «إذا حَدَّثْتم بحديث فأسْنِدوه إلى الذي حدّثَكم ، فإن كان حقّا فلكم ، وإن كان كذبا فعليه» .

قوله عليه السلام في رواية السكوني : (إذا حَدَّثْتُم بحديثٍ فَأَسْنِدوُه إلى الذي حَدَّثَكُم ، فإن كانَ حَقّاً فلكم ، وإن كانَ كَذِباً فعليه) . يجوز كون «حدّثتم» مبنيّا للفاعل ، والمعنى : إذا حدّثتم غيركم بحديث ، فقولوا مثلاً : قال فلان ، أو نروي عن فلان عن الصادق عليه السلام ، ولا تقولوا : قال الصادق عليه السلام و لا يُروى عن الصادق عليه السلام من غير ذكر الواسطة . ويجوز كونه مبنيّاً للمفعول ، والمعنى : إذا حدّثكم غيركم فأسندوه إليه أوّلاً إذا حدّثتم غيركم به . وهو ظاهر ، فإن كان ما حدّثكم به حقّاً فلكم أجره وثوابه ، أو فالحقّ لكم ، وقد وصل إليكم . والظاهر أنّ الخطاب غير مختصّ بالطبقة الاُولى ، بل يجري في جميع الطبقات . فينبغي ذكر جميع الرواة . وفيه دلالة على عدم جواز الإرسال في الجملة . وإن كان كذباً فعليه وزره وعقابه ، وليس عليكم منه شيء . وفي «عليه» دلالة ما على دخول المحدّث حقّاً تحت من يستحقّ الثواب ، مع دلالة القرينة الحاليّة على دخوله تحت الخطاب في «لكم» وإن كان ظاهره متعلّقاً بغيره . أو أنّ المعنى : فلكم ثواب روايته وعملكم به . وهو لا ينافي ثوابه على روايته والعمل به ؛ فتأمّل . فإن قلت : في هذا الحديث دلالة على جواز رواية الحديث عمّن لا يعلم صدقه ويجوز كذبه ، ففيه رخصة في العمل بحديث مثل هذا وروايته عنه . قلت : قد دلّ غير هذا الحديث من الأحاديث وغيرها على اشتراط العدالة ونحوها ، فيحمل هذا على كون الراوي عدلاً ، والعدالة لا يستحيل معها احتمال الكذب ، ولكن قد ينافي في الجملة اشتراط العدالة الباطنيّة مع بقاء الاحتمال في الجملة . نعم ، فيه دلالة على جواز رواية مثله والعمل بها وإن كانت في الواقع كذباً ؛ فهو رخصة لنا منهم عليهم السلام كما في غيره ممّا هو على وجه التقيّة ، وكما في حديث «من بلغه شيء من أعمال الخير» (1) . فإن قلت : يمكن أن تكون الرخصة متعلّقة بالرواية فيما يجوز فيه الكذب ، دون العمل . قلت : هذا في غاية البُعد ، وفيه سدّ باب العمل بالأحاديث المبنيّة على الظنّ ، والظاهر أنّ الكتب المشهورة المدوّنة لاتكاد تخلو من هذا الاحتمال ، اللهمّ إلاّ أن يكون حصل بها القطع عند مضيقها ونحوهم ، فيؤول الأمر إلى العمل بالظنّ ، ومن ادّعى القطع فيها كلّها لم يتجاوز الدعوى ، ولو سلّم كون جميعها صادراً عن المعصوم على سبيل القطع ، فأيّ قطع يحصل من دلالة جميع متونها ليخرج به الإنسان عن العمل بالظنّ ، ويعمل بحكم اللّه في الواقع في جميع الأحاديث ؟ والتكليف الآن بغير الظنّ فيما لم يثبت فيه القطع تكليفٌ بما لا يطاق ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج 2 ، ص 17 ، باب من بلغه ثواب من اللّه على عمل ، ح 1 و 2 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 25 ، باب ثواب من بلغه ثواب شيء ... من كتاب ثواب الأعمال ، ح 1 و 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 80 _ 81 ، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 182 _ 190 .

ص: 373

. .

ص: 374

عليُّ بن محمّد بن عبداللّه ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبي أيّوب المدنيّ ، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«القلبُ يَتَّكِلُ على الكتابة».

قوله عليه السلام في حديث الأحمسيّ : (القلبُ يَتَّكِلُ على الكتابة) . يحتمل هذا الكلام وجهين : أحدهما _ وهو الظاهر والموافق لعنوان الباب ولما بعده من الأحاديث _ : أن يكون المراد به الحثَّ على الكتابة وعدم الاعتماد على الحفظ عن ظهر القلب ولو بالكتابة أوّلاً ثمّ الحفظ إن اُريد ، فإنّ الحفظ قلّما يتّفق على الوجه المعتبر مع طول الحديث أو تعدّده وكثرته ، أو ضعف الحافظة وخصوصاً إذا لم يحفظ بعد الكتابة ، ففي الكتابة اعتماد للقلب واتّكال عليها بحيث يرجع إليها مع عدم الحفظ وإلى ما يشتبه عليه مع الحفظ كما يعتمد من يشقّ عليه أمرا و لا يقدر عليه على من يحمله عنه أو يساعده عليه ، فالكلام خبر يتضمّن الأمر بالكتابة . وهذه العبارة من البلاغة بمكان ، فإنّها متضمّنة للأمر مع إفادة ما ذكر سابقاً ، ومتضمّنة للأمر بتعلّم الكتابة وأنّها لا يستغنى عنها ، وإنّه بها تضبط الأحاديث وغيرها ، وتحفظ عن الزيادة والنقصان ونحوهما ومفيدة ؛ لأنّ القلب مناط الحفظ بنفسه أو مع من يعتمد عليه . الثاني : أن يكون المراد به الأمر بالحفظ عن ظهر القلب ، كما قيل : إنّه كان متعارفاً في الصدر السالف ، وإنّ الكتابة إذا حصلت فقد اتّكل القلب عليها ولم يتوجّه إلى الحفظ ، كما هو وجدانيّ ، ومن هذا شأنه يذهب علمه بذهاب كتبه ، بخلاف من كان حافظاً . وقد قيل لبعض الحكماء : ما الذي ينبغي للإنسان أن يقتنيه؟ فقال : ما إذا كسرت به سفينته (1) وغرق ما فيها ونجا بنفسه ، نجا معه . ولا ينافيه الأمر بالكتابة في الحديث الذي بعده وغيره ، فإنّه أمر بها لأجل الحفظ ، وفرق (2) بين الكتابة مطلقاً وبينها لأجله . بقي إحتمال آخر ، وهو أن يكون مراده عليه السلام مجرّد بيان أنّ القلب له اعتماد على الكتابة ، فمن أراد أن يفعل ما يعتمد عليه القلب فليفعل ، ومن أراد أن يكون معتمده قلبه فليفعل . وهذان الاحتمالان بالنظر إلى مجرّد الحديث ودلالته _ مع قطع النظر عن نقله في هذا الباب _ مع أنّه يمكن إدخاله فيه حينئذٍ بوجه . والوجه هو الأوّل ، والثاني لا يخلو من بُعد ، والثالث أبعد ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب ، د» : «سفينة» .
2- . في «د» : «ولا فرق» .

ص: 375

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن عاصم بن حُميد ، عن أبي بصير ، قال :سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «اكْتُبوا ، فإنّكم لا تَحفظون حتّى تَكتبوا» .

قوله عليه السلام في حديث أبي بصير : (اُكْتُبوا ، فإنّكم لا تَحفَظونَ حتّى تَكْتُبوا) . من هذا الحديث يظهر وجه آخر للأوّل يفسّره هذا ، وهو أن يكون المراد به أنّ القلب له اعتماد على الكتابة بحيث إذا أراد حفظ شيء على وجهه لا يتيسّر إلاّ بعد الكتابة ، فيكون أمراً بالكتابة قبل الحفظ ، ثمّ بالحفظ ؛ فيتّحد مضمونهما أو يتقارب على أحد الوجهين الآتيين . ومعنى «لا تحفظون حتّى تكتبوا» يحتمل وجهين : أحدهما : لا تحفظون ما تسمعون عن الزيادة والنقصان والتبديل والتغيير إلاّ بالكتابة ، فإنّ ذلك كثيراً ما يحصل من الحفظ عن ظهر القلب ، فمع الكتابة يؤمن من ذلك . والثاني : أنّه لا يتيسّر الحفظ عن ظهر القلب على وجهه إلاّ بالكتابة ؛ لأنّ الإنسان إذا أراد حفظ شيء بمجرّد سماعه ، قلّما يتّفق له ذلك ؛ فإذا كتب ثمّ كرّر المراجعة تيسّر له الحفظ إذا أراده . ويمكن إرادتهما معاً . والظاهر أنّ معنى «لا تحفظون حتّى تكتبوا» : لا يتيسّر لكم حفظ كلّ ما تريدون حفظه على وجهه حتّى تكتبوا ، فلا يرد إمكان الحفظ في الجملة من دون الكتابة أو باعتبار الغالب ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 376

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن ابن بكير ، عن عُبَيد بن زرارة ، قال :قال أبو عبداللّه عليه السلام : «احتفِظوا بكُتُبكم ، فإنّكم سوف تَحتاجون إليها» .

عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد البرقيّ ، عن بعض أصحابه ، عن أبي سعيد الخَيبريّ ، عن المفضّل بن عمرَ ، قال :قال لي أبو عبداللّه عليه السلام : «اكتُبْ وبُثَّ علمَك

قوله عليه السلام في حديث عُبيد بن زرارة : (اِحْتَفِظوا بكُتُبِكم ، فإنّكم سوف تَحتاجونَ إليها) . كان هذا إشارة منه عليه السلام إلى زمان الغيبة أو ما يعمّ عدم تيسّر الوصول إلى الإمام عليه السلام وسؤاله ، فإنّ الخطاب شامل لمن بعد المخاطبين بأيّ وجه اعتبر . والإتيان ب_ «سوف» على التقديرين ظاهر . وفي التعبير ب_ «احتفظوا» دون «احفظوا» زيادة حثّ على الحفظ ، وكان فيه إيماء إلى أنّها تحفظهم أيضا إذا حفظوها ، بمعنى أنّ اللّه سبحانه يحفظهم بسبب حفظها (1) ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث المفضّل : (اُكْتُبْ وبُثَّ علمَك في إخوانك ، فإن مِتَّ فأوْرِثْ كُتُبَك بَنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمانُ هَرْجٍ لا يَأنَسونَ فيه إلاّ بكُتُبِهم) . فيه أمر بالكتابة ونشر العلم في إخوانه الذين يقولون بمقالته ، دون غيرهم . وفي قوله عليه السلام : «فإن متّ» دون قوله : «فإذا متّ» مع أنّ الموت مجزوم به ومحقّق الوقوع لطفٌ منه عليه السلام بالمخاطب بعدم خطابه بما يتحقّق وقوعه ، فإنّه يصير من قبيل الدعاء عليه ؛ من حيث إنّ اللفظ محتمل لما يريد المتكلّم الجزم به ، ولما هو مجزوم به في نفس الأمر . وهذا متعارف في مخاطبة الأحبّة ، كقولك : إن كان كون ولا أراه ونحو ذلك ، فيعدل عن «إذا» إلى التعبير ب_ «إن» . ولمّا كان في مثله الكلام معلّقاً على الموت لم يكن مرتبة اُخرى دون الإتيان به ، ومثل : إن كان كون إلخ ، ونحوه يليق تقييده ممّن هو دون المخاطب ، أو مساو له ولو ادّعاء .

.


1- . في «ج» : + «إذا حفظوها» .

ص: 377

في إخوانك ، فإن مِتَّ فأوْرِثْ كُتُبَكَ بَنيك ، .........

وقوله عليه السلام : «فأورِثْ كتبك بنيك» إمّا أن يكون المراد به الأمر باحتفاظ الكتب وعدم إخراجها عنه ببيعٍ وهبةٍ ونحوها في حياته ، ووصيّته لغير بنيه بعد مماته ؛ لتصل إلى بنيه لينتفعوا بها كما انتفع هو ، فإنّ البنين أحبّ إليه من غيرهم ، ومن أحبّ أحداً ينبغي أن يحبّ له ما يحبّ لنفسه ، والأقرب أولى بالمعروف . وذكر البنين يمكن أن يكون باعتبار أنّ الإمام عليه السلام كان عالماً بأنّ الراوي له بنون فقط ، أو بنون هم أهل الانتفاع دون البنات ، أو باعتبار الغالب من عدم (1) انتفاع البنات بالكتب ، أو باعتبار التغليب ، وإن لم يختصّ الأمر بالمخاطب وإن كان له بنون فقط . وتوريث البنين يمكن أن يكون على وجه يصل إليهم سهمهم منها بخلاف مالو أخرجها عنه ، أو على وجه يختصّهم بها كوقف ووصيّة ونحوها لو لم يعتبر التغليب ونحوه . وهذا على تقدير وجود البنين ، فإنّهم أولى من غيرهم بذلك مع أهليّتهم ، وقيد الأهليّة معلوم إرادته ، فإنّ المقام مقام انتفاعهم كانتفاعه . ويحتمل بعيداً أن يكون ذكر البنين كناية عمّن يتقرّب به واختياره على من يتقرّب به ؛ ليفيد أنّهم إن كانوا بنين فهم أولى ، وإلاّ فمن كان أقرب . ولعلّ الوجه كون المراد من الحديث إبقاءها لبنيه على وجه تصل إليهم وينتفعون بها ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «مع عدم» ؛ وفي «د» : «بعدم» .

ص: 378

فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنَسون فيه إلاّ بكُتُبِهم» .

وقوله عليه السلام : «فإنّه يأتي على الناس ...» يمكن أن يكون تفريعاً على جميع ما تقدّمه وتعليلاً له ، فإنّ الذي يكتب يأنس بكتبه ، ومن بثّ علمه إليه لا يكون حفظه للعلم على وجهه وتحصيله التامّ إلاّ بالكتابة ونحوها . والأمر بالكتابة ونحوها من جملة العلم المبثوث ، وكذلك من وصلت إليهم الكتب ، وإن كان التفريع بما عدا البثّ أظهرَ وخالياً من التكلّف . و«زمان هرج»بالإضافة، ويحتمل أن يكون من قبيل «رجل عدل»، لكنّه بعيد. وفي الصحاح : الهرج : الفتنة والاختلاط (1) . وكأنّ المراد به هنا زمان لا يؤخذ فيه العلم من أهله ، ويكثر فيه القول بغير علم ، ويختلط فيه الحقّ بالباطل ، وتقع الفتنة بين من يدّعون العلم لعدم تفحّصهم على وجه الحقّ ، وميل كلّ إلى ما تكلّم به واقتضاه رأيه كيف كان ، وعدم الرجوع إلى الحقّ عمّا قاله لئّلا يتّهم بعدم المعرفة . ويجمع كلّ هذا عدم الإخلاص ، وفي كلّ هذا اختلاطٌ وفتنةٌ يوجبان التوحّش من أهلهما ، نسأل اللّه العفو والعافية ، فمن كانت عنده كتب يعتمد عليها كان اُنسه بكتبه ، أي بما فيها ، فلا يستوحش لفتنة ولا اختلاط . ويحتمل أن يكون المراد بزمان الهرج زمانا تعدم أو تقلّ فيه المصادقة والاجتماع على ما يرضى اللّه سبحانه ونحو ذلك ، فتنفر النفس من مخالطة الناس ، وتميل إلى تركهم والانفراد عنهم ، فيحصل من الوحدة وحشة بحسب الطباع البشريّة ، فإذا كانت الكتب عندهم أنسوا بها من تلك الوحشة . ومآل الوجهين متقارب ، وإرادتهما وما يشملهما ممكنة . ولا ينافي ذلك أنّ من أنس باللّه لم يستوحش من غيره ، فإنّ مصاحبة الكتب والتأمّل فيها وتدبّرها والعمل بما فيها من أعظم الاُنس باللّه . والمراد بالناس من كانوا مستحقّين التسميةَ بالناس ، وهم المستأنسون بذلك ، فإنّ أهل الفتنة ليسوا من الناس ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . الصحاح ، ج 1 ، ص 350 (هرج) .

ص: 379

وبهذا الإسناد ، عن محمّد بن عليّ ، رَفَعَه ، قال:قال أبو عبد اللّه عليه السلام : «إيّاكم والكَذِبَ المُفترعَ». قيل له : وما الكَذِبُ المفترع؟ قال : «أن يُحدِّثَك الرجلُ بالحديث فتَتْرُكَه وتَروِيَه عن الذي حَدَّثَك عنه» .

قوله عليه السلام في حديث محمّد بن عليّ : (إيّاكم والكَذِبَ المُفْتَرِعَ . قيل له : وما (1) الكَذِبُ المفترِع؟ قال : أن يُحَدِّثَك الرجلُ بالحديث ، فَتَتْرُكَه وتَروِيَه عن الذي حَدَّثَك عنه) . هذا مخصوص بغير ما رخّص عليه السلام فيه من رواية أبيه عنه وبالعكس ، وبما يحتمل تعدّيه إلى غيرهما منهم عليهم السلام كما تقدّم . والمعنى : فتترك الذي رويت عنه وترويه عمّن روى عنه . ولذلك أسباب : منها زيادة اعتبار الأوّل وشهرته ، أو ضبطه وحفظه ونحو ذلك . ومنها إرادة قرب الإسناد . ومنها كونه أحد المعصومين عليهم السلام . ومنها أنّ من روى عنه لو ذكره قد تردّ روايته بسببه ، أو أنّها لا تفيد العلم أو الظنّ الحاصل ممّن (2) روى عنه، وغير ذلك ممّا هو مبسوط في كتب الدراية (3) ، وفي كلّ ذلك كذب وتدليس. وفيه نهي عن الإرسال في الجملة ، وقد لا يدخل فيه الإرسال مع عدم الترك للرواية عن غيره ولا مع ما يدلّ على الترك والإرسال ؛ فليفهم واللّه أعلم . و«المفترع» كأنّه مأخوذ من افترعت البكر : إذا اقتضضتها (4) ؛ إمّا باعتبار أنّ الاقتضاض يوجب نقصاً زائداً في البكر ، فكذا هنا يوجب النقص الزائد في الحديث ، فإنّه لولا ذلك لربما ظهر عدم صحّة الحديث . وبالجملة ، فهو تضييعٌ للحديث وإخراجٌ له عن وجهه وطريقته ؛ فإسناده مجازيّ . وإمّا باعتبار أنّ الجرأة على هذا الكذب كالجرأة على الاقتضاض ، فهو مثله في التهجّم على أمر عظيم بالنسبة إلى ما يتعلّق به من الأحكام التي قرّرها الشارع خصوصاً إذا كان حراماً ، فإنّه يترتّب عليه مفاسد كثيرة . وإمّا باعتبار أنّ الاقتضاض شيء لم يسبق المقتضّ إليه أحد ، فكأنّ هذا الكذب أمر اخترعه هذا الكاذب ولم يسبق إليه ، فيكون أعظم من غيره من أنواع الكذب ، فإنّه قد يترتّب عليه تحليل حرام وتحريم حلال وغير ذلك ممّا لولا هذا الكذب لظهر أمره وترك . وكونه أعظم من غيره هنا إضافي ، ولم أجد في كتب اللغة التي تحضرني معنى للافتراع غير هذا ، وتفسيره عليه السلام له كاف ، فإنّهم أئمّة كلّ فنّ ، وما ذكرتُه من كلام أهل اللغة لاحتمال المناسبة المذكورة ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : + «هو» .
2- . في «ج ، د»: «ممّا».
3- . انظر سماء المقال ، ج 2 ، ص 185 و 208 .
4- . الصحاح ، ج 3 ، ص 1258 (فرع) .

ص: 380

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن أحمدَ بن محمّد بن أبي نصر ، عن جميل بن دَرّاج ، قال :قال أبو عبداللّه عليه السلام : «أعْرِبوا حديثَنا ، فإنّا قومٌ فصحاءُ» .

قوله عليه السلام في حديث جميل بن درّاج : (أعْرِبوا حَديثَنا ؛ فإنّا قومٌ فُصَحاءُ) . «الإعراب» في اللغة الإبانة والإفصاح (1) ، وكأنّ المراد هنا _ واللّه أعلم _ : أنّكم إذا تكلّمتم به فليكن على الوجه الموافق لقوانين العربيّة والفصاحة من غير أن تلحنوا أو تحرفوا ، وإذا كتبتموه فأظهروه وأبينوا أمره بالإعراب الذي هو الشكل المخصوص الجاري على قوانينه ، فإنّا قوم فصحاء لانتكلّم بما هو ملحون . والخطاب بذلك لمن سمعه بأن يرويه كما سمعه ، ولغيره بأن يرويه كما رواه الأوّل ، أو يعربه مكتوباً كما أعربه الأوّل . وقد يتعلّق الخطاب في غير ذلك بمن له أهليّة ذلك في غير مواضع الاشتباه التي يختلف المعنى باختلافها ، ومنه يعلم أنّ التساهل الذي وقع في بعض الأحاديث إمّا من جهة النقل بالمعنى ولم يكن للناقل تلك المرتبة ، أو أنّه تساهل في ذلك ، وإمّا من جهة النسّاخ ونحو ذلك . وخطاب كلّ واحد بما يفهمه لاينافي كونه كلّه فصيحاً متفاوتاً بتفاوت أفهام المخاطبين ؛ واللّه أعلم .

.


1- . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 102 (عرب) .

ص: 381

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن عُمَرَ بن عبدالعزيز ، عن هشام بن سالم و حمّاد بن عثمان وغيره ، قالوا :سمعنا أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «حديثي حديثُ أبي ، وحديثُ أبي حديثُ جَدّي ، وحديثُ جَدّي حديثُ الحسين ، وحديثُ الحسين حديثُ الحسن ، وحديثُ الحسن حديثُ أميرِالمؤمنين عليهم السلام وحديثُ أميرالمؤمنين حديثُ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله وحديثُ رسولِ اللّه قولُ اللّه عزّ وجلّ» .

قوله عليه السلام في حديث حمّاد بن عثمان : (حَديثي حديثُ أبي ، وحديثُ أبي حديثُ جدّي ، وحديثُ جدّي حديثُ الحسينِ) إلى آخر الحديث وهو قوله عليه السلام : (وحَديثُ رسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله قولُ اللّه ِ عَزَّ وجَلَّ) . ظاهر الترتيب أنّ معناه أنّ حديثه أخذه عن أبيه عليهماالسلام ؛ وهكذا (1) كلّ لاحق عن سابقه ولو على وجه كلّي إلى أن ينتهي إلى كونه قول اللّه عزّ وجلّ . ويحتمل أن يكون من قبيل «زيد أسد» ، فالمعنى أنّ حديثه عليه السلام مثل حديث أبيه ، وهكذا في كون كلّ واحد (2) منها حقّاً غير مشوب بباطل وظنّ ونحوهما ، وعلى هذا لا يكون قوله عليه السلام : «وحديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله قول اللّه عزّ وجلّ» من هذا القبيل ؛ بل المعنى هو قول اللّه ، إلاّ على معنى أنّه يقول كما يقول اللّه ، أو باعتبار تجويزه تعالى له عليه السلام أن يكلّم الناس على قدر أفهامهم بما يقوله تعالى له ، أو أنّه مثل قول اللّه في كونه حقّاً وإن كان أصله من اللّه . ولمّا كان الحديث يقتضي محدّثا عنه قال عليه السلام : «قول اللّه عزّ وجلّ» وهذا قد يؤيّد الوجه الأوّل ، لكنّ الحديث قد يستعمل من غير ملاحظة هذا الوجه ، وإن كان أصله المقتضي لذلك هو اقتضى العدول إلى قول اللّه عزّ وجلّ . وقد يؤيّد الأوّل بعرض ما يتجدّد على السابق ، ثمّ على من بعده ، وبأنّ أصل علومهم عليهم السلام واحدٌ وعلمهم بما يتفرّع عنه واحد ، فالمحدّث الأخير يحدّث بما يعلم به الأوّل ويخبر به لو سئل عنه . والوجه الثاني يلزم (3) الأوّل ويدخل تحته . وقد تقدّم الاحتمال في أنّ مثل كلام أبي عبداللّه عليه السلام يمكن أن يقال هو قول أميرالمؤمنين عليه السلام مثلاً من مثل هذا الحديث ، أو يقصر على محلّ الرخصة المتقدّم في حديث أبي عبداللّه وأبي جعفر (4) عليهماالسلام ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «كذا» .
2- . في «ج ، د» : - «واحد» .
3- . في «ج» : + «من» .
4- . في «ج» : «أبي جعفر وأبي عبداللّه » .

ص: 382

. .

ص: 383

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شينُولَةَ ، قال :قلت لأبي جعفر الثاني عليهم السلام : جعلت فداك ، إنّ مشايخَنا رَوَوْا عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهماالسلاموكانتِ التقيّةُ شديدةً ، فكَتَموا كُتُبَهم ولم تُرْوَ عنهم ، فلمّا ماتوا صارَتِ الكُتُبُ إلينا ، فقال : «حَدِّثوا بها ، فإنّها حقٌّ» .

[قوله :] في حديث محمّد بن الحسن بن أبي خالد : (قالَ : قلتُ لأبي جعفرٍ الثاني عليه السلام : جُعِلتُ فِداك ، إنّ مشايخَنا رَوَوْا عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهماالسلاموكانَتِ التقيّةُ شَديدةً ، فكتموا كُتُبَهم فلم تُرْوَ عنهم ، فلمّا ماتوا صارَتِ الكُتُبُ إلينا فقال : «حَدِّثوا بها فإنّها حقٌّ») . في هذا الحديث دلالة على جواز رواية الكتاب والعمل به من غير أن يرويه عن صاحبه ولو بواسطة ، أو يجيزه روايته كذلك ونحوها ، وهذا لاينافي علوّ مرتبة الرواية وكون هذا دون الإجازة والمناولة ونحوها بحسب الاصطلاح . وحقّيّة هذه الكتب لم تعلم من مجرّد قول الراوي ، بل قول الإمام عليه السلام كشف عن حقّيّتها . وقوله عليه السلام : «فإنّها حقّ» معناه التعليل فيكون من باب منصوص العلّة ، فيتعدّى جواز التحديث إلى كلّ ما علم حقّيّته . وقيد التقيّة والكتم في كلام السائل لا دَخْل له في الجواز . ويؤيّده في الجملة حديث إعطاء الكتاب . وممّا علم روايته ولو بواسطة أو وسائط مثل الكتب الأربعة ، فروايتها عن مصنّفيها يمكن أن يكون من هذا القبيل من حيث المجموع ، فتأمّل واللّه أعلم .

باب التقليد .

ص: 384

باب التقليد

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن عبداللّه بن يحيى ، عن ابن مُسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :قلت له : « اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَ_انَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ » ؟ فقال : «أما واللّه ، ما دَعَوْهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دَعَوْهم ما أجابوهم، ولكن أحَلّوا لهم حراما، وحَرَّموا عليهم حلالاً، فَعَبَدُوهم من حيثُ لا يَشعرون».

باب التقليدفي حديث أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام : (قالَ : قلتُ له « اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَ_انَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ » (1) فقال : أما وَاللّه ِ ، ما دَعَوْهم إلى عبادةِ أنفسهم ، ولو دَعَوْهم ما أجابوهم ، ولكن أحَلّوا لهم حَراماً وحَرَّموا عليهم حَلالاً ، فَعَبَدُوهم من حيثُ لا يَشعُرونَ) . في النهاية : الأحبار هم العلماء ، جمع حِبر وحَبر بالفتح والكسر ، وكان يقال لابن عبّاس رحمه اللّه : الحبر والبحر ؛ لعلمه وسعته ؛ انتهى (2) . ومعنى الحديث _ مع ما يتوقّف بيانه عليه واللّه أعلم _ : أنّه لمّا كان المحرِّم والمحلِّل حقيقةً هو اللّه سبحانه ، وما حرّمه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ونحوهم إنّما كان إسناده إليهم من حيث تبليغه وبيانه ، والذين اتّخذوا الأحبار والرهبان أرباباً إمّا أنّهم كانوا عالمين بما حرّمه اللّه وحلّله ، أو أنّه كان يجب عليهم الفحص عن حرام اللّه وحلاله (3) وعمّن يعرفهما ، ولا يتجاوزهما على وجه لايسوغ له مع قدرتهم وقصروا ، فكان الأحبار والرهبان يحلّلون لهم الحرام ويحرّمون الحلال بمجرّد التشهّي والرأي ومراعاة الانقياد إليهم وما يخف عليهم والميل إلى متابعتهم ، وكانوا يتبعونهم في ذلك كما في الحديث الآتي من قوله عليه السلام : «لكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم» . وهذا تعريض بمن حذوا حذوهم من أهل الإسلام حذو النعل بالنعل ، ولو ادّعوا الإلهيّة لم يقبلوا منهم ، فإنّ هذا أمر ظاهر الفساد مكشوف ، فلو دعوهم إلى عبادتهم لم يقبلوا ؛ لظهور معنى المربوبيّة فيهم . والتحريم والتحليل يتساهل فيهما بالنسبة إلى دعوى الإلهيّة وعبادتهم ، فجنحوا إلى ما يُعينهم الشيطان عليه وتميل نفوسهم إليه ، وهو تحريم ما حللّه اللّه وتحليل ما حرّمه لمصلحة المحرّم عليه والمحلّل له ، أو المحلّل أو المحرّم أو لهما ، فكان العامل بقولهم في ذلك متّخذاً لهم أرباباً من دون أن يتّخذ اللّه ربّاً من هذه الجهة ، فإنّه يكون تاركاً لحلال اللّه وحرامه ، وعاملاً بحلالهم وحرامهم ، وإن وافق بعضه حلال اللّه وحرامه ، فإنّ عملهم به من حيث تحريمهم وتحليلهم ولو خلطوا من الأمرين ، احتمل أن يكون المعنى _ واللّه أعلم _ أنّهم اتّخذوهم أرباباً من دون أن يتّخذوا اللّه وحده ربّاً ، وهو الذي يجب عليهم . ولمّا كان المحلّل والمحرّم حقيقة لا يكون إلاّ ربّاً ، فهم من دون اللّه أربابهم ؛ لأنّ اللّه لا ربّ معه ، والمربوب عابدٌ والربّ معبود ، فقد عبدوهم من حيث لا يشعرون بأنّ هذا الترك أو التقصير يؤدّي إلى كونهم أرباباً لهم . وكونهم عابدين لهم من هذه الجهة ، أو من حيث لا يشعرون بأنّهم عابدون لهم ، فقد أتوا مع شعورهم بما يصيّرهم عابدين . إذا تقرّر هذا ، فاعلم : أنّ ما يتوهّم من الاستدلال بمثل هذا الحديث على بطلان مطلق الاجتهاد والتقليد وذمّهما ممّا لا يصلح (4) للاستدلال ، فإنّ الحديث يدلّ بظاهره على أنّ ما علم كونه حراماً يجعله حلالاً وبالعكس . وقد يدخل تحته من كان جاهلاً بالحرام والحلال ، فيحرّم ويحلّل من غير علم ، وكذا بالنسبة إلى المقلّد ، فإنّه إمّا أن يكون متابعاً له فيما يعلم أنّه حرّمه وهو حلال أو حلّله وهو حرام ، أو يكون جاهلاً يمكنه التفحّص والتمييز ليدخل تحت الذمّ كما يأتي في حديث العسكرى عليه السلا 5 . والفرض في هذا المقلّد أنّه لم يكن عالماً بما يعلمه المجتهد كلاًّ أو بعضاً فيقلّده فيه بأمرهم عليهم السلام كما في قوله : «اُنظروا إلى رجل قد روى حديثنا» الحديث (5) ، وقوله عليه السلام : «اُنظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا إليه» (6) ، وغيرهما كأمرهم عليهم السلام بالرجوع إلى آحاد في بعض النواحي ، وهو كثير ؛ وكحديث العسكري عليه السلام نقله في الاحتجاج فنقلته بتمامه ؛ لاشتماله على فوائد ، وصورته : وبالإسناد الذي مضى ذكره عن أبي محمّد العسكري عليه السلام في قوله تعالى : « وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَ_ابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ » (7) أنّ الاُمّي منسوب إلى اُمّه ، أي هو كما خرج من بطن اُمّه لا يقرأ ولا يكتب، «لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَ_ابَ» المنزّل من السماء ولا المكذّب به ولا يميزون بينهما « إِلاَّ أَمَانِىَّ » أي إلاّ أن يقرأ عليهم ويقال لهم : إنّ هذا كتاب اللّه وكلامه ، لا يعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف مافيه . « وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ » (8) أي ما يقرأ عليهم رؤساوهم من تكذيب محمّد صلى الله عليه و آله في نبوّته وإمامة علي عليه السلام سيّد عترته وهم يقلّدونهم مع أنّه محرّم عليهم تقليدهم . « فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَ_ابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَ_ذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِى ثَمَنًا قَلِيلاً » (9) . قال عليه السلام : قال اللّه تعالى : هذا القوم من اليهود كتبوا صفة زعموا أنّها صفة محمّد صلى الله عليه و آله ، وهي خلاف صفته ، وقالوا للمستضعفين منهم : هذه صفة النبيّ المبعوث في آخر الزمان ، أنّه طويل ، عظيم البدن والبطن (10) أصهب الشعر (11) ومحمّد بخلافه ، وهو يجيء بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة . وإنّما أرادوا بذلك لتبقى لهم على ضعفائهم رياستهم ، وتدوم لهم إصاباتهم (12) ، ويكفّوا أنفسهم مؤونة خدمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخدمة عليّ عليه السلام وأهل خاصّته (13) ، فقال اللّه عزّ وجلّ : « فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ » (14) من هذه الصفات المحرّفات والمخالفات لصفة محمّد وعليّ عليهماالسلامالشدّة لهم من العذاب في أسوأ بقاع جهنّم . وويلٌ لهم الشدّة في العذاب ثانية مضافة إلى الاُولى ممّا يكسبونه (15) من الأموال التي تأخذونها إذ أثبتوا عوامّهم على الكفر بمحمّد رسول اللّه ، والجحد لوصيّه وأخيه عليّ بن أبي طالب وليّ اللّه . ثمّ قال عليه السلام : قال رجل للصادق عليه السلام : فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم (16) بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا؟ (17) فقال عليه السلام : بين عوامّنا وعلمائنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة ، وتسوية من جهة . أمّا من حيث استووا : فإنّ اللّه قد ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامّهم ، وأمّا من حيث افترقوا فلا . قال : بيّن لي يابن رسول اللّه . قال عليه السلام : إنّ عوامّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشاء ، وبتغيير الأحكام عن وجهها (18) بالشفاعات والعنايات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا مالا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم ، وعرفوهم يقارفون (19) المحرّمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على اللّه ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه ، فلذلك ذمّهم لما قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ، ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم . وكذلك عوامّ اُمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه ، وإن كان لإصلاح أمره مستحقّاً ، وبالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصبّوا له ، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّاً ، فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء ، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه بالتقليد لفسقة فقهائهم . فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة ، لا جميعهم ، فإنّه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقه فقهاء العامّة ، لا تقبلوا منه (20) شيئاً ولا كرامةً ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل هنا (21) أهل البيت لذلك ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم ، وآخرين يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا ، يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة ، فيتوجّهون به عند شيعتنا ، وينتقصون بنا عند نصّابنا ، ثمّ يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن برآء منها ، فيتقبّله المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا ، وهم أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن عليّ عليه السلام وأصحابه ، فإنّهم يسلبونهم الأرواح والأموال ، وهؤلاء علماء السوء الناصبون المتشبّهون بأنّهم لنا موالون ولأعدائنا معادون ، يدخلون الشكّ والشبهة على ضعفاء شيعتنا ، فيضلّونهم ويمنعونهم عن قصد الحقّ المصيب ، لاجرم أنّ من علم اللّه من قبله من هؤلاء العوامّ (22) أنّه لا يريد إلاّ صيانة دينه وتعظيم وليّه لم يتركه في يد هذا المتلبّس الكافر ، ولكنّه يقيّض (23) له مؤمناً يقف به على الصواب ، ثمّ يوفّقه اللّه للقبول منه ، فيجمع له بذلك خير الدنيا والآخرة ، ويجمع على من أضلّه لَعْن الدنيا وعذاب الآخرة . ثمّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : شرار علماء اُمّتنا المضلّون عنّا ، القاطعون للطرق إلينا ، المسمّون أضدادنا بأسمائنا ، الملقّبون أندادنا بألقابنا ، يصلّون عليهم وهم للّعن مستحقّون ، ويلعنونّا ، ونحن بكرامات اللّه مغمورون ، وبصلوات اللّه وصلوات ملائكته المقرّبين علينا عن صلواتهم علينا مستغنون . ثمّ قال : قيل لأميرالمؤمنين عليه السلام : مَن خير خلق اللّه بعد أئمّة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال : العلماء إذا صلحوا . قيل : فمن شرار خلق اللّه بعد إبليس وفرعون وثمود وبعد المتسمّين بأسمائكم والمتلقّبين بألقابكم والآخذين لأمكنتكم والمتأمّرين في ممالككم؟ قال : العلماء إذا فسدوا ، هم المظهرون للأباطيل ، الكاتمون للحقائق ، وفيهم قال اللّه عزّ وجلّ « أُوْلَ_ئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّ_اعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ » (24) الآية . انتهى كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه (25) . وبعض الألفاظ سقيمة في المنتسخ منه ، والحاصل أنّ من كان له قوّة على فهم كلام اللّه ورسوله وأوصيائه ومعرفة أحكامه على الوجه الذي يجوز له العمل به سمّوه مجتهداً ، ومن ليس كذلك كان مقلّداً لمن له تلك القوّة ولو في البعض . وهذا الاجتهاد والتقليد لا مانع منه ، بل المدار عليه حتّى في عصر النبيّ والأئمّة عليهم السلام لمن لم يشاهدهم ويأخذ منهم بغير واسطة ومن في حكمه . وقد صرّح جدّي السعيد الشهيد الثاني _ قدّس اللّه تربته _ بهذا في غير موضع من كُتُبه ، وذكر أنّ من كانوا ينصبونه لتعليم الناس كان مجتهداً بالمعنى المذكور ، ولا شبهة في أنّ العوامّ كانوا يرجعون إلى تعليم من هو مأمور بذلك ، فالاجتهاد والتقليد ليسا حادثين في هذا الزمان وما قاربه ليكونا من البدع . وأمّا الاجتهاد والتقليد المذمومان فما كان ناشئاً عن مجرّد الرأي والاستحسان والقياس ونحوها ممّا لا يرجع مستنده إلى دليل شرعي . وهذا لا قائل به من الإماميّة المعتدّ بهم ، سوى من شذّ منهم ، فنقل عنه العمل بالقياس (26) . وقد صرّح العلاّمة _ قدّس سرّه _ في غير واحد من كُتُبه بأنّ الإماميّة لا يقولون بالاجتهاد وبأنّ فروعهم مأخوذة عن أئمّتهم عليهم السلام لا بالرأي والقياس ولا باجتهاد الناس (27) ، فهذا هو الاجتهاد المذموم كاجتهاد أبي حنيفة ومن ضارعه (28) . وبعد أن علم أنّه لا مفرّ من العمل بالظنّ ولو في بعض الأحكام ثَبَتَ الاجتهاد والتقليد. وممّا يؤيّد هذا ما يجده من تتبّع كلام متقدّمينا رضوان اللّه عليهم والخلاف الواقع بينهم في الفتاوى ، فإنّ مثل هذا لو كان مناطه (29) كلّه غير الظنّ فلأيّ شيء يقع (30) في الخلاف أو يكثر ، ويُرى (31) مثل الصدوق _ طاب ثراه _ يُخالف أباه ويشنع على من يذهب إلى نقصان شهر رمضان ؟ وقد صرّح أبوه رحمه الله في رسالته إليه _ على ما رأيته منقولاً عنها بخطّ من يُعتمد على نقله _ أنّ شهر رمضان يكون ثلاثين يوماً وتسعة وعشرين يوماً ، وحمل أحاديث التمام على الفضل والكمال ، وولده رحمه اللّه يقول في الفقيه : إنّ من يعتقد ذلك ينبغي أن يتّقى كما يتّقى العامّة إلاّ أن يسترشد فيرشد (32) . هذا حاصل كلامهما . ويغلظ الفضل بن شاذان في مسائل في الميراث (33) والعلماء يوافقون الفضل ؛ ونرى (34) الصدوق لا يعتمد على مجرّد ما نقله الكليني _ قدس سرّه _ في كتابه ، بل على ما أدّى إليه علمه أو اجتهاده من تعدّد الطرق والقرائن ونحوها ، والشيخ الطوسي _ قدّس سرّه _ يطعن في كثير ممّا نقله الكليني والصدوق ، وقد شهدا بصحّة ما في كتابيهما (35) بأنّها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً أو ضعيفة (36) ، ومثل هذا كثير يظهر لمن تتبّع كتبهم وأقوالهم . وفي الكافي في عدّة مواضع كلام له رحمه الله ولغيره يرجع إلى معنى الاستنباط ، ومناط مثل هذه الأشياء لا يخلو من الظنّ ، ولو كان مناط جميعها العلم والقطع ، لما كانت بهذه المثابة ، فكيف يثبت العلم والقطع لنا في كلّ ما وصل إلينا ، ولا يثبت لهم مع قرب زمانهم إلى المعصوم ، وقرب زمان بعضهم من بعض . وإذا ثبت الظنّ أمكن فيه اختلاف الظنون ؛ فتختلف الفتاوى لأجلها . ولو سلّم القطع والعلم بكون الأحاديث المشهورة وارداً جميعها عن المعصوم ، فأيّ قطع يحصل في دلالة كثير منها مع اشتمالها على ما يحتاج إليه؟ ونحن نسأل ممّن يدّعي هذا أن يوضح لنا طريقا إلى العلم نخلّص به من العمل بالظنّ ، فإنّا لا نجد هذا إلاّ مجرّداً عمّا تركن النفس إليه ، وسدّا لباب التكليف والعمل بأحكام اللّه تعالى ما أمكن . ولمّا كانت مراتب الظنّ متفاوتةً ، جعلوا من الأحاديث الصحيحَ والحسن والموثّق ؛ لاحتمال حصول الظنّ فيه ، والضعيفَ ليترك العمل به ؛ للنهي عن قبول خبر الفاسق ، ولقولهم عليهم السلام : «فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه» (37) وغيره ممّا تضمّن النهي عن أخذ العلم من المخالف ، وقد تقدّم طرفٌ منه . وقد يكون الضعيف مؤيَّداً في الجملة ، فيكون مناطاً للظنّ في الجملة . فمجرّد كون المخالفين قسّموا أحاديثهم إلى هذه الأقسام لا يصلح مانعا من تقسيم علمائنا أحاديثهم إليها . وهذا من قبيل ما يحكى عن بعض المخالفين أنّهم لا يأكلون الجبن مع البطّيخ ؛ لكون الإماميّة تجمع بينهما . نعم قد يقال : إنّ ما تكرّر في الكتب المشهورة مع شهادتهم بصحّته يفيد قوّة الظنّ ؛ واللّه تعالى أعلم ، والمسؤول من كرم اللّه سبحانه أن يعجّل ظهور صاحب الأمر عليه السلام ليخلّص الناس من هذه الشكوك والأوهام ، فقد صار متعارفاً أن يرى الإنسان عاراً عليه أن يسلك طريقاً سلكه غيره وإن كان حقّاً ، واللّه يهدينا وجميع المؤمنين إلى سواء السبيل . بقي شيء : وهو أنّ الشروط التي ذكرها المتأخّرون للاجتهاد (38) ، قد يقال : إنّ بعضها يظهر أنّه لم يكن مشترطاً سابقاً . ويمكن الجواب بأنّ الاحتياج إليها لأجل انتشار الأقوال وكثرة الفروع وبنائها على الشروط المذكورة فاحتيج إلى معرفتها لذلك ، وفي الزمان السابق لم يكن ما يقتضي الاحتياج إلى جميعها ، وبعدُ فلا يخلو الاحتياج إلى بعضها من تأمّل . وقد صنّف جدّي السعيد الشهيد الثاني رحمه الله رسالة في الاجتهاد ، وجعله أمراً سهلاً يقدر عليه أكثر الناس حتّى العامي والأعمى ، ولكن قصور الهمم هو الذي يبعث الناس على ترك تحصيل هذه المرتبة ، وتخيّل أنّ المجتهد ينبغي أن يكون في مرتبة مثل العلاّمة قدّس سرّه . وليس الأمر كذلك ، وذكر فيها اجتهاد المتقدّمين 40 . وهذا معنى ما رأيته من كلامه ، واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع وعليه الاتّكال .

.


1- . التوبة (9) : 31 .
2- . النهاية ، ج 1 ، ص 317 (حبر) .
3- . في «ج» : «حلال اللّه » .
4- . في «ج» : «لا يصحّ» .
5- . الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 ؛ و ج 7 ، ص 412 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 5 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 318 ، ح 514 ، و ص 301 ، ح 845 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 355 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 34 ، ح 51 ؛ و ج 27 ، ص 136 ، ح 33416 .
6- . الكافي ، ج 7 ، ص 412 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 4 ؛ الفقيه ، ج 3 ، ص 2 ، ح 3216 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 219 ، ح 516 ؛ دعائم الإسلام ، ج 2 ، ص 530 ، كتاب آداب الصلاة ، ح 1885 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 13 ، ح 33083 .
7- . . البقرة (2) : 78 .
8- . البقرة (2) : 79 .
9- . في المصدر: + «أهدف». والهَدَف بفتحتين: كلّ شيء عظيم مرتفع. المصباح المنير، ج2، ص349 (هدف).
10- . الصهبة : إحمرار الشعر . المصباح المنير ، ج 1 ، ص 422 (صهب) .
11- . في المصدر : «إصابتهم» .
12- . في المصدر : «وأهل بيته وخاصّته» بدل «وأهل خاصّته» .
13- . البقرة (2) : 79 .
14- . في المصدر : «بما يكسبونه» .
15- . في «ج» : «ذمّتهم» .
16- . في المصدر : + «يقلّدون علماءهم» .
17- . في «ألف ، ج » والمصدر : «واجبها» .
18- . قارَفَ الذنب وغيره : داناه ولاصقه ، وقارَفَ فلانٌ الخطيئة ، أي خالطها . ولا تكون المقارفة إلاّ في الأشياء الدنيّة . لسان العرب ، ج 9 ، ص 280 (قرف) .
19- . في المصدر : «منّا عنه» .
20- . في المصدر : «يحتمل عنّا» .
21- . في المصدر : «القوم» .
22- . قَيَّضَ اللّه له ، أي هَيَّأَه وسَبَّبه من حيث لا يحتسبه . لسان العرب ، ج 7 ، ص 225 (قيض) .
23- . البقرة (2) : 159 _ 160 .
24- . الاحتجاج ، ج 2 ، ص 456 .
25- . حكى العمل بالقياس عن ابن الجنيد في الحدائق الناضرة ، ج 5 ، ص 173 و 481 ، وج 20 ، ص 391 .
26- . مختلف الشيعة ، ج 9 ، ص 213 ؛ تحرير الأحكام ، ج 1 ، ص 13 .
27- . «ضارعه» أي شابهه ، والمضارعة : المشابهة . راجع لسان العرب ، ج 8 ، ص 223 (ضرع) .
28- . في «ألف ، ب» : «مناط» .
29- . في «د» : + «في» .
30- . في «ألف ، ب» : «نرى» .
31- . الفقيه : ج 2 ، ص 111 ، ذيل ح 473 و 474 . وانظر : الخصال ، ص 532 ، ذيل ح 9 ؛ وسائل الشيعة ، ج 10 ، ص 274 ، أبواب شهر رمضان ، الباب 5 .
32- . انظر : الإيضاح ، للفضل بن شاذان ، ص 333 .
33- . في «ج» : «ترى» .
34- . انظر مقدّمة الكافي والفقيه .
35- . في «ألف ، ب» : «بأنّها تارة بالضعف ، وتارة أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملاً» بدل : «بأنها أخبار _ إلى _ أو ضعيفة» .
36- . الكافي ، ج 1 ، ص 32 ، باب صفة العلم وفضله ، ح 2 ؛ بصائر الدرجات ، ص 10 _ 11 ، باب نادر وهو منه ... . ، ح 1 و 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 78 ، ح 33247 .
37- . انظر : مفاتيح الاُصول ، ص 626 ؛ معالم الاُصول ، ص 288 ؛ قوانين الاُصول ، ج 2 ، ص 278 .
38- . تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد (رسائل الشهيد الثاني) ج 1 ، ص 9 .

ص: 385

. .

ص: 386

. .

ص: 387

. .

ص: 388

. .

ص: 389

. .

ص: 390

. .

ص: 391

. .

ص: 392

. .

ص: 393

. .

ص: 394

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن إبراهيمَ بن محمّد الهمذانيّ ، عن محمّد بن عُبيدة ، قال :قال لي أبو الحسن عليه السلام : «يا محمّد ، أنتم أشدُّ تقليدا ، أم المرجئة؟» قال: قلت قلَّدْنا وَقَلَّدوا ، فقال: «لم أسْألكَ عن هذا ، فلم يَكُنْ عندي جوابٌ أكثَرُ من الجواب الأوّل» فقال أبو الحسن عليه السلام : «إنّ المرجئةَ نصبت رجلاً لم تَفْرِضْ طاعتَه وقلّدوه ،

[قوله] في حديث محمّد بن عُبيدة : (قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام : «يا محمّدُ ، أنتم أشدُّ تقليداً أم المرجئةُ؟» قال : قلت : قَلَّدْنا وقَلَّدوا . فقال : «لم أسألْك عن هذا» ، فلم يَكُنْ عندي جوابٌ أكْثَرُ من الجوابِ الأوّلِ . فقال أبو الحسن عليه السلام : «إنّ المرجئةَ نَصَبَتْ رجلاً لم تَفْرِضْ طاعَتَه وقَلَّدوه ، وأنتم نَصَبْتُم رجلاً وفَرَضْتُم طاعَتَه ثمّ لم تُقَلِّدوه ، فهم أشَدُّ منكم تَقليداً) . الظاهر أنّ المراد بالمرجئة هنا من أرجأ عليّاً عليه السلام ، أي أخّره ، لا الفرقة المقابلة للوعيديّة . وهذا موجود في غير هذا المكان بهذا المعنى وأظنّه في كلامهم عليهم السلام ولا يحضرني الآن . وقوله عليه السلام : «لم أسألك عن هذا» معناه أنّي لم أسألك عن قولك : «قلّدنا وقلّدوا» وإنّما سألتك عمّن هم أشدّ تقليداً ؛ لدلالة بيانه عليه السلام له عليه . ومحمّد بن عبيدة مجهولٌ (1) . فإن كان من الإماميّة _ كما هو الأظهر من سياق الحديث _ فمعناه أنّ المخالفين نصبوا رجلاً قبل عليّ عليه السلام فيحتمل إرادة الأوّل ومَن بعده ، بمعنى نصبوا رجلاً ليطيعوه ويقلّدوه ، وهو لا يأبى التعدّد والإفراد باعتبار أنّه واحد في كلّ وقت .

.


1- . لاحظ : نقد الرجال ، ج 4 ، ص 261 ؛ جامع الرواة ، ج 2 ، ص 147 ؛ معجم رجال الحديث ، ج 17 ، ص 293 .

ص: 395

وأنتم نَصَبْتُم رجلاً وفَرَضْتم طاعتَه ثم لم تُقلّدوه ، فهم أشدُّ منكم تقليدا» .

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن رِبْعيّ بن عبداللّه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه جلّ وعزّ : « اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَ_انَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ » فقال : «واللّه ما صاموا لهم ولا صلّوا لهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما ، وحرَّموا عليهم حلالاً ، فاتَّبَعوهم» .

وكذلك قوله عليه السلام : «وأنتم نصبتم رجلاً» يحتمل إرادة كلّ واحد من الأئمّة عليهم السلام بالتقريب المذكور . ويحتمل إرادة الأوّل في نصب المرجئة وأميرالمؤمنين عليه السلام في نصب المخاطب وفريقه بمعنى أنّ تلك الفرقة نصبت ، وأنتم أيّتها الفرقة نصبتم وحينئذٍ من جملة تقليد (1) المرجئة تقليدهم في نصب الثاني وتقليد غيرهم في نصبه على من بعده من الائمة عليهم السلام . وعلى هذا فقوله عليه السلام : «وأنتم نصبتم رجلاً وفرضتم طاعته ثمّ لم تقلّدوه» إمّا باعتبار المشاكلة لما قبله من قبيل قوله تعالى : « وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ » (2) وهو كثير في القرآن وغيره ، فالمشاكلة في النصب ؛ أو أنّ إسناد النصب إليهم باعتبار اعتقادهم إمامته وطاعته ؛ أو باعتبار اعتقاد أنّه منصوب من اللّه ؛ أو بمعنى اعتقادهم أنّه منصوب لهم ؛ ففيه تجوّز . و«فرضتم» بمعنى أنّكم جعلتم طاعته عليكم فرضاً من اللّه ، والمرجئة لا يقولون بهذا في حقّ من نصبوه ، فإنّهم لا يقولون بأنّ اللّه نصبه كما نصب غيره من الأنبياء (3) ، ولا يقولون إنّ اللّه فرض طاعته بخصوصه من حيث إنّه منصوب بخصوصه كفرض طاعة عليّ عليه السلام ، وإن كان عندهم داخلاً تحت اُولي الأمر على أحد أقوالهم ، فطاعته من هذه الجهة ، لا من حيث هذا الشخص ؛ على أنّهم لا يطلقون وجوب الطاعة بل يخصّونه بما لا يخالف المشروع ونحوه ، بخلاف المعصوم ، فإنّ فرض طاعته مطلق ، وغير المشروع لا يتصوّر منه ؛ لعصمته . وحاصل كلامه عليه السلام : أنّ المرجئة مع نصبهم غير مفترض الطاعة تابعوه وقلّدوه ، وانتصروا له ، وأنتم مع هذا الاعتقاد لم تفعلوا كفعلهم ، بل تركتم أميرالمؤمنين عليه السلام ولم تنصروه كما نصروا منصوبهم ، ولم تقلّدوه كما قلّدوه ، أو تركتم تقليد أئمّتكم ومتابعتهم في كلّ ما يأمرونكم به ويريدونه منكم ، ولم تفعلوا كما فعلت المرجئة في متابعة من نصبوهم ؛ فيكون تقريعاً منه عليه السلام للشيعة بترك التقليد ، مع أنّ التقليد في مثل هذا يجب أن يفعل ؛ فالباب مسوق لذكر مطلق التقليد ، وبيان الممدوح من غيره . ويقرب من هذا كلام أميرالمؤمنين عليه السلام من كلام له في نهج البلاغة : «وإنّي واللّه لأظنّ (4) هؤلاء القوم سَيُدالونَ منكم باجتماعِهم على باطلِهم وتَفَرُّقِكم عن حقِّكم ، ومعصيتكم (5) إمامكم في الحقّ ، وطاعتِهم إمامَهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانةَ إلى صاحبهم وخيانتِكم ، وصلاحهم (6) في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتَمَنْتُ أحدَكم على قعْبٍ (7) لَخَشِيتُ أن يَذهَبَ بعلاقته ، اللهمّ إنّي قد مَلِلْتُهم ومَلُّوني ، وسَئِمْتُهم وسَئِمُوني ، فأبدِلْني بهم خيراً منهم ، وأبدِلْهم بي شرّاً منّي ... » (8) . وإن كان محمّد بن عبيدة من غير الإماميّة ، فيحتمل أن يكون من الزيديّة ، ويكون المراد من المرجئة ما تقدّم ، والنصب هنا على ظاهره فيهما ، فإنّ الزيديّة لا يقولون بنصب الإمام من اللّه بنصّ ونحوه ، بل بنصب الرعيّة ، ويوجبون على أنفسهم طاعته وتقليده من حيث إنّه إمام ، وكلّ إمام عندهم واجب الطاعة من حيث إنّه إمام . فكلامه عليه السلام حينئذٍ يتضمّن تقريع الفريقين وتوبيخهم ، أمّا المرجئة فإنّ تقليدهم مع قولهم بعدم فرض الطاعة وتهالكهم على ذلك وانقيادهم إليه في جميع الاُمور غير معقول ، فإنّ من هذا شأنه ينبغي أن يكون مفترض الطاعة ، منصوباً من اللّه بخصوصه ؛ وأمّا الزيديّة فلكونهم هم نصبوا وهم فرضوا ، والنصب والفرض يكونان من اللّه سبحانه ، مع أنّكم أيّها الزيديّة لم تفعلوا مع من فعلتم به ذلك مثل ما فعلت المرجئة ، فتنصروا أئمّتكم وتقلّدوهم كزيد مثلاً . فكلامه عليه السلام يقتضي ذمّ التقليدين معاً . والمراد بقوله عليه السلام : «ثمّ لم تقلّدوه» أنّكم لم تقلّدوه التقليدَ الذي قلّده غيركم ، بقرينة قوله عليه السلام : «فهم أشدّ منكم تقليداً» وقوله أوّلاً : «أنتم أشدّ تقليداً أم المرجئة» . وهذا يتمشّى على التوجيهين ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . في «د» : «من تقليد جملة» .
2- . آل عمران (3) : 45 .
3- . في «ألف ، ب» : + «ونحوهم» .
4- . في المصدر : + «أنّ» .
5- . في المصدر : «بمعصيتكم» .
6- . في المصدر : «بصلاحهم» .
7- . «القعب» : القَدَح الضخم . لسان العرب ، ج 1 ، ص 683 (قعب) .
8- . نهج البلاغة ، ص 67 ، الخطبة 25 .

ص: 396

. .

ص: 397

باب البدع والرأي والمقاييس

باب البدع والرأي والمقاييسالحسين بن محمّد الأشعريّ ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ؛ وعدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال جميعا ، عن عاصم بن حُميد ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«خَطَبَ أميرُالمؤمنين عليه السلام الناسَ ، فقال : أيّها الناسُ ،

باب البدع والرأي والمقاييس[قوله] في حديث محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام : (قال : خَطَبَ أميرُالمؤمنينَ عليه السلام الناسَ، فقالَ: أيّها الناسُ، إنّما بَدْءُ وقوعِ الفِتَنِ أهواءٌ تُتَّبَعُ ، وأحكامٌ تُبتدَعُ، يُخالَفُ فيها كتابُ اللّه ، يَتَوَلّى فيها رجالٌ رجالاً ، فلو أنّ الباطلَ خلَص لم يَخْفَ على

.

ص: 398

إنّما بَدْءُ وقوع الفتن أهواءٌ تُتَّبَعُ ، وأحكام تُبْتَدَعُ ، يُخالَفُ فيها كتابُ اللّه ، يتولّى فيها رجالٌ رجالاً ، فلو أنّ الباطلَ خَلَصَ لم يَخْفَ على ذي حِجى ، ولو أنَّ الحقَّ خَلَصَ لم يكن اختلافٌ ، ولكن يُؤخَذُ من هذا ضِغثٌ ومن هذا ضِغثٌ فيُمزَجان فيجيئان معا ، فهُنالِك استَحْوَذَ الشيطانُ على أوليائه ، ونجا الذين سبَقَتْ لهم من اللّه الحُسنى» .

ذي حِجًى ، ولو أنّ الحقّ خلَص لم يكن اختلافٌ ، ولكن يُؤخَذُ من هذا ضِغْثٌ ومن هذا ضِغْثٌ فيُمزَجانِ فَيَجِيئانِ معاً ، فهُنالِك اسْتَحْوَذَ الشيطانُ على أوليائه ، ونجا الذين سَبَقَتْ لهم من اللّه ِ الحُسنى) . لمّا كان كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله _ التي هي مطابقة للكتاب ومبيّنة له _ يقوم بهما نظام العالم على وجه واحد من غير اختلاف وتشتّت ، وباتّباعهما يكون الحقّ واحداً والطريقة واحدة ، فلا يقع باتّباعهما فتنة ولا اختلاف في شيء من الاُصول والعقائد وغيرهما كانت مخالفة ذلك ، واتّباع الآراء والأهواء هو الداعي إلى وقوع الفتن ومنه ابتداؤها ، فلو اتّبع الناس الكتاب ، ورجعوا فيما لم يعلموا منه إلى من يعلمه ، وتركوا أهواءهم وآراءهم المقتضية لمجرّد اتّباعها ، أو حمل ما في الكتاب على ما يوافقها من غير علم بما في الكتاب أو تجاهل فيما علموه منه ، لم يقع ذلك ، وإذا نشأ من ذي رأي فاسد بدعة تابعة عليها رجال وكذا (1) صاحب الرأي الآخر وهكذا ، ووقع الخلاف والفتنة لحبّ كلّ تشييد ما ذهب إليه وترويجه . فأصل تشعّب المذاهب والاعتقادات الرأيُ والهوى ، وكذلك الأحكام . وما في الأحكام من الاختلاف الباقي بسبب ما داخَلَه أوّلاً من التقيّة ، وإدخال ما ليس من أحكام الكتاب فيها من غير أهلها ونسبتها إليهم ، ونحو ذلك ، وإلاّ فحكمهم عليهم السلام واحدٌ ، ولكنّ الاختلاف لاختلاف ما نقل عنهم . وهذا فيما لا وجه للجمع فيه بما يرجع إلى معنى واحد ، ولا يحصل القطع بوروده عنهم عليهم السلام ، فإنّه حينئذٍ وإن اختلف ظاهرا ، لكنّه في الواقع غير مختلف . ولهذا الكلام تفصيل ليس هذا محلّه . ومناسبة الاتّباع للأهواء والابتداع للأحكام ظاهرة ، فلو أنّ الباطل خلص من الأهواء والآراء التي خلطت الحقَّ بالباطل لترويج ما ذهبت إليه ، وترك كلّ رأيه وهواه في إثباته ومزجه وترويجه ، لظَهَرَ لكلّ ذي عقل ، وتَرَكه لكونه باطلاً . وكذلك الحقّ لو سلم من ميل الهوى واستعمال الرأي اللذين أدخلا فيه شيئاً من الباطل ، لم يقع فيه اختلاف . أو المعنى : فلو أنّ الباطل خلص من شوب الحقّ ، ولو أنّ الحقّ خلص من شوب الباطل . وهذا أنسب بما بعده ، والأوّل أنسب بالتفريع على ما قبله . ومنهما (2) يظهر وجه أصل المناسبة للأوّل والثاني بما بعدهما وما قبلهما ؛ فتدبّر . و«الضغث» أصله القطعة من الحشيش ونحوه ، فاستعير لفظه للنصيب من الحقّ والباطل (3) ، فما اختلط من الضغثين تمسّك كلّ بحصّة منه ، فإمّا محض باطل بحيث ترك ما في أصله من الحقّ كما يوجد فيمن تابعهم ، وإمّا باطل مشوب بحقّ ، أو عكسه ، أو متساويان . فلو لم يحصل اختلاط الضغثين ، لم يحصل التشعّب من المتولّين لأهل الآراء . وفيه إشارة إلى أنّ أهل الآراء ، هم الداعي الأعظم إلى زيغ من تابعهم ، وأنّه عند المزج لا ينبغي الاعتماد على مجرّد أخذ حصّة من الضغثين كيف كانت ، والاكتفاء بمجرّد اجتماعهما في أخذ النصيب ، ولا الاعتماد على متابعة من أخذ حصّة من ذلك بمجرّد أخذه لها ، فإنّ ذلك لا يكون سبباً لرفع التكليف عن التابعين ، بل يكون باباً لولوج الشيطان وغلبته وتسلّطه عليهم بأن يزيّن لهم الاكتفاء بمتابعة من أخذ حصّة ممزوجة من الحقّ والباطل ونحو ذلك . وفي ذلك تسهيل عليهم ، وإلاّ فمن عمل بمقتضى عقله الذي منحه اللّه إيّاه ليميز به بين الحقّ والباطل مع قدرته عليه ، يجب عليه أن ينظر لنفسه ويميّز تلك الأجْزاء حقّها من باطلها ، فيتّبع الحقّ ويترك الباطل ، ففي مثل هذا يتسلّط الشيطان على من يطيعه مع قدرته على مخالفته ، وطاعته قد تكون سبباً لعدم العناية به من اللّه وتركه واختياره ، وذلك لاينافي استناد سوء الاختيار إليه . ومن سبقت له من اللّه العناية بأن يسدّده ويحول بينه وبين الشيطان أو يلهمه ترك متابعته وتحمّل مشقّة التمييز لكونه ليس من أولياء الشيطان ومتابعيه ، وبسوء اختياره نجا من تلك الفتنة وخلص من تلك الورطة ؛ واللّه تعالى أعلم . قيل : ومن ذلك شبهة (4) قتل عثمان التي تمسّك بها الناكثون والقاسطون ، فإنّ فيها مقدّمة صادقة ، وهي كون إمام المسلمين قتل مظلوماً ، ومقدّمة كاذبة وهي نسبة ذلك القتل إليه عليه السلام تارةً بأنّه أجلب عليه ، وتارةً بأنّه خَذَلَه . وهنالك ، أي عند امتزاج الحقّ بالباطل يستولي الشيطان على أوليائه ، فيزيّن لهم اتّباع من ينعق بتلك الشبهة ونحوها ، وينجو من سبقت عناية اللّه له بتمييز الحقّ من الباطل . كذا ذكره الشيخ ميثم رحمه اللّه في مختصر الشرح (5) . وفي النهج : ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين اللّه ، فلو أنّ الباطلَ خلَص من مزاج الحقّ لم يَخْفَ على المرتادين ، ولو أنّ الحقَّ خلَص من لَبْسِ الباطل انقطعَتْ عنه ألْسُنُ المعاندين ، وفيه يستولي وينجو (6) . ويحتمل أن يكون المراد بالشيطان صاحب البدعة الذي (7) ابتدعها ، وجمع فيها بين حقّ وباطل ؛ ليكون بذلك مسلّطاً على متابعيه وأوليائه ، فإنّه لو أتى بباطل محض لم يقبلوا منه ، فمزج هذا بهذا ليطيعوه ، ومن ميّز بين الحقّ والباطل فهو ممّن سبقت له من اللّه الحسنى ، فيكون غير داخل في أوليائه . و«سبق الحُسنى» يحتمل أن يكون معناه أنّه سبق في علمه تعالى أنّهم من أهل الطريقة الحسنى . وذكر «من» للدلالة على أنّ ذلك بهداية اللّه تعالى ولطفه ؛ وأن يكون معناه الهداية الحسنى والسبق باعتبار أنّهم فعلوا من الطاعة قبل هذه الفتنة ما اقتضى أنّ اللّه تعالى منحهم هداية وتوفيقاً بحيث إذا ورد عليهم شيء من مثل هذا تأمّلوه وميّزوا بين الحقّ والباطل واتّبعوا الحقّ . ويحتمل أن يكون بمعنى الإحسان بأنّ تقدّم إحسانه تعالى إليهم بالمعنى المتقدّم ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب» : «كذلك» .
2- . في «ج» : «منه» .
3- . الصحاح ، ج 1 ، ص 285 ؛ النهاية ، ج 3 ، ص 90 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 164 (ضغث) .
4- . في «ج» : + «في» .
5- . اختيار مصباح السالكين ، ص 158 .
6- . نهج البلاغة ، ص 50 ، الخطبة 50 ، مع تفاوت يسير .
7- . في «ج» : «التي» .

ص: 399

. .

ص: 400

. .

ص: 401

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن محمّد بن جمهورٍ العَمِّيِّ يَرْفَعُه ، قال :قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «إذا ظَهَرَتِ البِدَعُ في اُمّتي ، فَلْيُظْهِرِ العالمُ علْمَه ، فمن لم يَفْعَلْ فَعليه لعنةُ اللّه » .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث محمّد بن جمهور : (إذا ظَهَرَتِ البِدَعُ في اُمّتي فَلْيُظْهِرِ العالمُ علمَه ، فمَن لم يَفْعَلْ فعَلَيه لعنةُ اللّه ِ) . معناه _ واللّه أعلم _ : إذا ظهر ما يخالف الكتاب والسنّة فإنّ كلّ ما خالفهما بدعة ، فليظهر الذي يعلمهما (1) علمه ، ويأمر بمقتضاهما وينهى . فالأمر للوجوب المؤكّد من هذه الجهة ، وقد يكون الإظهار واجباً لجهة اُخرى . والظاهر أنّ المأمور هنا غير الأئمّة عليهم السلام ؛ لأنّهم لا يكتمون ما يجب إظهاره ؛ لعصمتهم . ويحتمل الإطلاق مع العلم بأنّهم لا يخالفون ولا يتخلّفون ، ويكون اللعن مع المخالفة باعتبار من يمكن في حقّه ذلك ، فإنّه قد يقول الإنسان : «لعن اللّه من تخلّف عن متابعة فلان» مع العلم قطعاً بأنّ جماعة لا يتخلّفون . ولكن هذا بعيد عن هذا المقام . ويحتمل أن يكون المراد بمن لم يفعل، من لم يفعل ما يأمر به العالم وينهاه عنه. وهو بعيد أيضاً عن السياق . ولعلّ جمع «البِدَع» للإعلام بأنّها كلّها تجب (2) عند ظهورها ذلك ، بمعنى كلّ واحدة ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «يعلمها» .
2- . في «ج ، د» : «يجب» .

ص: 402

وبهذا الإسناد ، عن محمّد بن جمهور ، رَفَعَه ، قال :«من أتى ذا بِدعَةٍ فعَظَّمَه ، فإنّما يَسعى في هَدم الإسلام» .

قوله عليه السلام في حديث محمّد بن جمهور : (مَن أتى ذا بِدْعَةٍ فعَظَّمَه ، فإنّما يَسعى في هَدْمِ الإسلامِ) . قوله عليه السلام : «فعظّمه» احتراز عمّن يأتيه بقصد إهانته والردّ عليه ونحو ذلك ، فإنّ هذا ممّن يسعى في تشييد الإسلام ، لا في هدمه . ومعلوم أنّ المبتدع يكون آتياً بما يخالف الإسلام ، وكلّما قويت بدعته ضعف الإسلام ، فبتلك البدعة ينهدم شيء من الإسلام ، والذي يعظّم هذا يكون ساعياً في الهدم ، ولم يكن هادماً ؛ من حيث إنّه ليس بذي بدعة ، ولكنّه بتعظيمه إيّاه ورفع شأنه يكون ساعياً في الهدم ، كمن أعان من أراد هدم بيت مثلاً بآلة أو زاد ونحو ذلك . وتعظيمه يكون أيضاً مقوّياً له على اجترائه على بدعته التي يهدم بها الإسلام ، وقد يكون تعظيمه باعثاً على متابعة بعض الناس له واعتقادهم فيه ، وفي كلّ ذلك سعي وإعانة له على مطلبه . ويحتمل أن يكون المراد أنّ هذا السعي لأجل التعظيم سعيٌ في هدم الإسلام ، كما أنّ المبتدع بابتداعه يسعى في هدمه ، فيكون مشاركاً له في هدم الإسلام والسعي فيه ، كقولك : «من سعى في قتل مؤمن كانَ قاتله» (1) بمعنى أنّه مثل قاتله ، أو شريكه في قتله ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «قتله» .

ص: 403

وبهذا الإسناد عن محمّد بن جمهور ، رَفَعَه ، قال :قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «أبى اللّه ُ لصاحب البِدعة بالتوبة» . قيل : يا رسول اللّه ، وكيف ذلك؟ قال : «إنّه قد اُشربَ قلبُه حُبَّها» .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث محمّد بن جمهور : (أبَى اللّه ُ لصاحبِ البِدْعَةِ بالتوبةِ . قيل يارسولَ اللّه ، وكيف ذاك؟ قال : إنّه قد أُشْرِبَ قلبُه حُبَّها) . في القاموس : اُشرب فلان حبَّ فلان : خالَط قلبه ؛ انتهى (1) . وقد يستفاد من التعليل أنّ كلّ شيء أُشرب قلب الإنسان حبَّه لا تقبل توبته منه ، أو لا يوفّق للتوبة منه ؛ إلاّ أن يقال : إنّ البدعة مع إشراب القلب حبَّها مانعان من قبول التوبة ، وهو الظاهر ؛ فتدبّر . ولمّا كان الماء مثلاً للإنسان ونحوه لا يخرج ممّن يشربه إلاّ ما فَضُلَ عمّا يحتاج إليه البدن ، وغيره يتفرّق في أعضاء البدن وأجزائه ويستحيل إلى أن يصير من جملة الأجزاء ، وهو للطافته أسرع نفوذاً من غيره من الغذاء ، ولمعاونته غيره على النفوذ صار الإشراب متعارفاً دون غيره ، كذلك من خالطت قلبَه البدعةُ ، فإنّ المخالطة على هذا النحو كالشرب (2) المذكور ، فصارت كالجزء من القلب الذي لا يزول إلاّ بزواله ، ومادام حيّاً فالقلب على حاله ، والحياة محلّ التوبة . والباء في قوله عليه السلام : «بالتوبة»يحتمل الزيادة لتأكيد مضمون الكلام ومعنى النفي. ويخطر بالبال وجه لا يخلو من لطف ودقّة ، ولكن بشرط أن يتأمّل على وجهه لئّلا يتوهّم منه نسبة مالا يليق به سبحانه إليه ، وهو أنّ الفعل الذي يتعدّى بالباء «بخل» و«ضنّ» ونحوهما ، ومثل هذه المذكورات يدلّ (3) على امتناع صاحبها أشدَّ الامتناع من إعطاء البخيل ما يعطيه غيره من حيث إنّها كالطبيعة لصاحبها ، والبخل ونحوه ممّا لا يجوز إسناده إليه تعالى ووصفه به والإباء قد لا يشعر بالامتناع الذي يشعر به البخل ونحوه ، فأتى عليه السلام بالباء لإفادة أنّ اللّه سبحانه يمتنع من قبول توبة المبتدع بحيث لا يقبلها أصلاً ؛ ف_ «أبي» يدلّ على الامتناع المتضمّن لما ذكر ، مع عدم إسناد مثل البخل إليه تعالى ؛ فافهمه . وقد يستعمل البخل ونحوه في مقام المدح ، فيقال : فلانٌ بخيل بعِرْضِه وضنين بإهانته . ومن هذا قد يتصوّر معنى يدلّ عليه الأوّل من غير إسناد البخل ونحوه إليه تعالى أيضاً ؛ واللّه أعلم . ويحتمل أن يكون الباء للدلالة على أنّ اللّه سبحانه قبوله لتوبة عبده يكون تفضّلاً منه تعالى ، والتفضّل يتعدّى بالباء ؛ ففى «أبي» إشارة إلى أنّ اللّه تعالى يمنعه هذا التفضّل ؛ واللّه أعلم . والتوبة يحتمل وجهين : أحدهما : التوفيق لها ؛ والثاني : قبولها ، كما تقدّم التنبيه عليه ضمناً .

.


1- . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 86 (شرب) .
2- . في «ألف ، ب» : «كالشراب» .
3- . في «ب» : «تدلّ» .

ص: 404

. .

ص: 405

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن معاوية بن وهب ، قال :سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ عند كلّ بِدعة _ تكون من بعدي يُكادُ بها الإيمانُ _ وليّا من أهل بيتي موكَّلاً به يَذُبُّ عنه ، يَنطق بإلهام من اللّه ، ويُعلِنُ الحقَّ ويُنَوِّرُه ، ويَرُدُّ كيدَ الكائدين ، يُعَبّرُ عن الضعفاء ،

قوله صلى الله عليه و آله وآله في حديث معاوية بن وَهْبٍ : (إنّ عند كلِّ بِدعَةٍ تكونُ من بعدي يُكادُ بها الايمانُ _ وليّاً من أهل بيتي مُوكَّلاً به ، يَذُبُّ عنه ، ينطق بإلهام من اللّه ، ويُعْلِنُ الحقَّ ويُنَوِّرُه ، ويَرُدُّ كيْدَ الكايدينَ ، يُعَبَّرُ عن الضعفاء ، فَاعْتَبِرُوا يا اُولي الأبصارِ ، وتَوَكَّلوا على اللّه ِ) . جملة «يكاد بها الإيمان» صفة ثانية لبدعة ، و«وليّاً» اسم «إنّ» . ولمّا كانت جملة «يذبّ عنه» كالبدل من قوله عليه السلام : «موكّلاً به» والتفسير والبيان له وبمعنى موكّلاً بالذبّ عنه ، تركَ العطف فيها ، ولمّا لم تكن جملة «ينطق بإلهام من اللّه » داخلة (1) في شيء من هذه المذكورات ، لم تعطف أيضاً ؛ لأنّ العطف يقتضي المشاركة مع ما عطفت عليه فيما قبله . ولا معنى لقولنا : موكّلاً بالنطق بالإلهام ، ولا لقولنا موكّلاً بالإيمان الذي هو النطق بالإلهام ، بل هي (2) صفة ثالثة أو رابعة لقوله عليه السلام : «وليّاً» . ولإبهام العطف على ما قبلها _ مع عدم صحّة المعنى والفصل بين الصفتين _ ترَك العطف أيضاً على ما قبل قوله : «يذبّ عنه» . ويمكن أن يكون تفسيراً وبياناً للذبّ عن الإيمان وتفصيلاً له بأنّه بالنطق والإعلان وما بعده ، لا أنّه يذبّ عنه بقتال وسلاح ونحوه ، والمعنى : يذبّ بالنطق والإلهام من اللّه وبإعلان الحقّ وتنويره وردّ كيد الكائدين ؛ وذلك يقتضي ترك العطف أيضاً . وعطف «يُعلن الحقّ وينوّره ويردّ كيد الكائدين» لعدم المانع من العطف مع وجود المقتضى له ، وتركه في «يعبّر عن الضعفاء» باعتبار عدم دخوله فيما يذبّ به ، كما تقدّم . ويحتمل أن يكون تركه لكونه كالتفسير والبيان لردّ كيد الكائدين بمعنى أنّه عليه السلام يردّ كيد من كاد الإيمان بشبهة لايقدر على ردّها غيره عليه السلام ،فإنّ من عدا الإمام ضعيف في الاحتجاج بالنسبة إليه،أو أنّه قد يضعف وإن كان متمكّناً من العلم، وحاصله أنّه يعبّر عمّن ضعف عن الردّ ، والكائد يجتري باستضعافه من يدفع عنه ؛ فتأمّل . والحديث صريح كغيره في أنّ المراد بالوليّ الأئمّة عليهم السلام ، وأنّ الأرض لا تخلو من واحد منهم ، فإنّه يدلّ على أنّ في وقت كلّ بدعة توجد بعده عليه السلام وليّاً موصوفاً بهذه الصفات ، وفي كلّ زمان وجود البدعة محتمل ، إن لم يلتزم بوجودها في كلّ زمان فلابدّ من وجود الموكّل بالدفع عن الإيمان حتّى إذا وُجدت دفعها ، مع أنّ العادة تقضي بأنّ أهل البدع وأعداء الدين لا يخلو منهم زمان ، وقد وُجدت البدع إلى الآن ، واحتمال عدم وجودها بعد هذا كالمستحيل عادة . فإن قلت : يمكن أن توجد البدعة في زمان أو أزمنة مخصوصة ، وعند وجودها يكون الوليّ موجوداً في ذلك الوقت ، ولا يلزم منه وجوده دائماً . قلت : الجواب عن هذا ما تقدّم ، مع أنّه لم يقل بهذا أحد ممّن يقول بوجود الأئمّة عليهم السلام ، فإنّ كلّ من قال بهم قال باتّصالهم ووجودهم دائماً ، ومن يقول بأئمّة منهم ومن غيرهم ، قائل أيضاً بنحو ذلك مع الاعتراف بعدم اجتماع هذه الأوصاف فيهم . وبالجملة ، فدلالة الحديث على أنّ اللّه تعالى وكّل بالايمان من يدفع عنه إذا اُريد كيده بشبهة ، ومن نصب وكيلاً عنه لدفع المضارّ عن شيء ، اقتضى وجوده مادام وجودها محتملاً ، والاحتمال هنا باق إلى آخر الزمان ، وقد دلّ كثير من الأحاديث والأدلّة العقليّة على وجودهم عليهم السلام بهذا المعنى مادامت الأرض باقية . (3) وقد يستدلّ بالحديث أيضاً على أنّ الأرض لم تخل من واحد هذا شأنه ، ولو بضميمة مقدّمات اُخرى تستنبط من هذا الحديث وغيره . وإذ قد ثبت أنّ اللّه سبحانه قد وكّل بالإيمان من يذبّ عنه لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة ، فقد فَعَلَ بهم من لطفه ما يقتضيه العدل والحكمة ، فظهور البدع وعدم تمكّن الأئمّة عليهم السلام من ردّها ودفعها من سوء أفعال العباد ، وإلاّ فهم قد علموا بوجود من جمع هذه الصفات في كلّ زمان ، ومن لم يعلم كان عدم العلم مستنداً إلى تقصيره في مشاهدة الإمام ونحوها ، والاطّلاع على حقّيّة ما قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيهم . وترتّب الأثر وحصول الغاية التي فُعل الشيء لأجلها،إذا كان المراد وقوعها من المكلّف باختياره مع فعل الحكيم ما تقتضيه الحكمة ، لا يلزم في مثله حصولهما ، كما في خلق اللّه سبحانه الجنّ والإنس للعبادة،فإنّه تعالى خلقهم ليفعلوها باختيارهم غير محتاج إليها ، ولا غرض له بذلك يعود نفعه عليه ، بل عليهم إن فعلوا ، فتركهم للعبادة (4) تركٌ للغرض الذي كانت فائدته لهم ونفعه ، وهنا إيجاد الإمام عليه السلام لئّلا يكون (5) للناس على اللّه الحجّة في تعذيبهم على ارتكاب البدع وغيرها مع عدم وجود من يرفعها عنهم ، ولو رجعوا إليهم لحفظوا الإيمان من شبههم الفاسدة ، على أنّهم عليهم السلام ذبّوا عنه ما أمكنهم وحفظوا ما تمكّنوا منه ، والإيمان _ وللّه الحمد _ بسبب ذبّهم عنه لم يذهب ، وإن قلّ أهله بالنسبة إلى غيرهم الذين هم أهل البدع ، والكثرة لا تدلّ على الحقّ ولا القلّة على الباطل ، بل الموجود ما قد يدلّ على العكس . والنطق بالإلهام إمّا باعتبار إلهامه ما يتجدّد من الوقائع ، أو بسبب هذا الإلهام وغيره من إلهام آبائه عليهم السلام . وما كان يوحى به إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وآله إمّا داخل تحت الإلهام ولو تغليباً ، أو أنّ نطق الإمام عليه السلام بما يدخل فيه إلهامه صلى الله عليه و آله ، ونطقه بالإلهام الذي يدخل فيه من هذه الجهة ، كما تقدّم من وصفه بالنطق بما فيه إلهام له ، أو له ولآبائه . ويحتمل أن يكون المراد مجرّد وصفه بالنطق بالإلهام ، فإنّ من كان هكذا ، كان في مرتبة لا تفوقها إلاّ مرتبة النبوّة التي علت عليها . والظاهر أنّ المراد نطقه عليه السلام بالإلهام فيما يتعلّق بأحكام اللّه تعالى وأوامره ونواهيه ، وكلّ ما يتعلّق بالكتاب والسنّة ونحو ذلك ، لا كُلّ ما ينطق به ، كما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان « لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحي » (6) . وليس المراد _ واللّه أعلم _ أنّ جميع ما ينطق به عن وحي ، فإنّ بعض المكالمات التي لا دخل لها بالتبليغ ونحوه غير داخلة فيما يوحى به إليه ، وإن لم تكن عن الهوى على أحد الوجهين . وقيل : المراد به القرآن (7) ، ويحتمل ما هو أعمّ منه ؛ واللّه أعلم . والظاهر أنّ المراد بالإيمان الموكّل بحفظه الإيمان الخاصّ لا مطلق الإيمان ، فإنّه لم يقل أحد بوجود من يذبّ عن الإسلام جامعاً لهذه الصفات بعد النبيّ صلى الله عليه و آله ، ومن جمعها يلزم أن يكون الإيمان معه وبمتابعته . ومنه يظهر أنّ الإسلام الخالي عن هذا الإيمان ليس بشيء ؛ لعدم توكيل اللّه تعالى من يحفظه ، ولأنّ دين النبيّ صلى الله عليه و آله والإيمان والإسلام واحد حقيقةً ، وإن سمّي غير هذا إيماناً وإسلاماً باعتبار أحكام تترتّب (8) عليه ، وهو الإقرار بالشهادتين .

.


1- . في «ج» : «داخلاً» .
2- . في «ج» : «هو» .
3- . في حاشية «ألف ، د» : «قال السيوطي في شرح شواهد المغنى : أخرج ابن عساكر [تاريخ مدينة دمشق ، ج 16 ، ص 101 ؛ و ج 40 ، ص 107] عن خالد بن صفوان أنّه وفد إلى هشام بن عبدالملك وذكر قصّة طويلة عن ملك من الملوك ، قال : وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجّة ولم يخل الأرض من قائم للّه بحجّته في عباده ؛ انتهى (ألف : منه) ؛ (د : منه مدّ ظلّه ) » .
4- . في «ألف ، ب» : «العبادة» .
5- . في «ج» : «كيلا يكون» .
6- . إشارة إلى 3 _ 4 من سورة النجم (53) : « وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى » .
7- . التبيان ، ج 9 ، ص 421 .
8- . في «ألف» : «ترتّبت» ؛ وفي «ب» : «يترتّب» ؛ وفي «ج» : «ترتّب» .

ص: 406

. .

ص: 407

. .

ص: 408

. .

ص: 409

فاعتَبِروا يا اُولي الأبصار ، وتوكّلوا على اللّه » .

محمّد بن يحيى ، عن بعض أصحابه ؛ وعليُّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن ص 55 مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ؛ وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن محبوب، رَفَعه، عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال:«إنَّ من أبغض الخلق إلى اللّه عزّوجلّ لَرجلين: رجلٌ وَكَلَه اللّه

وقوله عليه الصلاة والسلام : «فاعتبروا يا اُولي الأبصار» أمر منه لأهل البصائر بأن يتفحّصوا ويتبيّنوا من هو بهذه المنزلة ، ولا يزيغوا عن الحقّ بعد هذا البيان الواضح والحجّة البالغة . وفي التعبير ب_ «الأبصار» دون «البصائر» من النكتة ما لا يخفى على المتأمّل . ثمّ أمرهم عليه السلام بالتوكّل على اللّه في ذلك وغيره ، وأن لا يكون اتّكالهم على قواهم وأهوائهم وآرائهم ، ومتابعة الشيطان في أمره بسلوكهم غير هذا السبيل ، وهذا كما تقول : افعل كذا وتوكّل على اللّه ، أي لا تتّكل فيه على عقلك وحولك وقوّتك ؛ أو اتّخذ التوكّل عليه تعالى عوناً لك على فعله أو مطلقا ؛ واللّه أعلم . قوله عليه الصلاة والسلام : (إنّ من أبغَضِ الخلقِ إلى اللّه عزّ وجلّ لَرجلينِ : رجلٌ وَكَلَه اللّه إلى نفسه ، فهو حائرٌ (1) عن قصدِ السبيلِ ، مَشغوفٌ (2) بكلامِ بِدعةٍ ، قد لَهِجَ بالصومِ والصلاةِ ، فهو فتنةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ به ، ضالٌّ عن هَدْيِ مَن كان قبلَه ، مُضِلٌّ لمن اقتدى به في حياته وبعد موته ، حَمّالُ خطايا غيرِه ، رَهْنٌ بخطيئته . ورجلٌ قَمَشَ جهلاً في جُهّالِ الناسِ ، عانٍ بأغباشِ الفتنةِ ، قد سمّاهُ أشباهُ الناسِ عالِماً ، ولم يَغْنَ فيه يوماً سالما ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ ، ما قَلَّ منه خيرٌ ممّا كَثُرَ ، حتّى إذا ارتوى من آجِنٍ واكتنزَ مِن غير طائل جَلَسَ بين الناسِ قاضياً ضامناً لتخليص ما الْتَبَسَ على غيره ، وإن خالَفَ قاضياً سَبَقَه ، لم يَأمَنْ أن يَنْقُضَ حُكمَه مَن يأتي بعدَه كفِعْلِه بمَن كانَ قبلَه ، وإن نزلَتْ به إحدى المُبهَماتِ المُعضِلاتِ هَيَّأَ لها حشواً من رأيه ، ثمّ قَطَعَ (3) ، فهو من لَبْسِ الشُّبُهاتِ في مِثْلِ غَزْلِ العنكبوت لا يَدْرِي أصابَ أم أخطَأَ ، لا يَحْسَبُ العلمَ في شيء ممّا أنكَرَ ، ولا يَرى أنّ وراءَ ما بَلَغَ فيه مَذهباً ، إن قاسَ شيئاً بشيءٍ لم يُكَذِّبْ نَظَرَه ، وإن أظلَمَ عليه أمرٌ اكْتَتَمَ به ؛ لما يَعلَمُ من جهلِ نفسه ، لكي لا يُقالَ له : لا يَعلَمُ ، ثمّ جَسَرَ فقضى ، فهو مفتاحُ عَشَواتٍ ، رَكّابُ شُبُهاتٍ ، خبّاط جَهالاتٍ ، لا يَعتذِرُ ممّا لا يَعلَمُ فَيَسْلَمَ ، ولا يَعَضُّ في العلم بِضرْسٍ قاطِعٍ فيَغْنَمَ ، يَذري الرواياتِ ذَرْوَ الريحِ الهَشيم ، تَبكِي منه المواريثُ ، وتَصْرُخُ منه الدماءُ ؛ يُستَحَلُّ بقضائه الفَرْجُ الحرام ، ويُحَرَّمُ بقضائه الفَرْجُ الحلالُ ، لا مَلِئٌ بإصدار ما عليه وَرَدَ ، ولا هو أهلٌ لما منه فَرَطَ مِن ادّعائه علمَ الحقِّ) . هذا الكلام الشريف في نهج البلاغة (4) ، وبينه وبين ماهنا اختلاف كثير ، وقد تقدّم الكلام في وجوه الاختلاف الواقع في مثله . قوله عليه السلام : «إنّ من أبغض الخلق إلى اللّه عزّ وجلّ لَرجلين» . قد اشتمل هذا الكلام الشريف على ضروب من التأكيد الدالّة على كونهما في زمرة من هم أبغض الخلق إلى اللّه ، وهب أنّهما ليسا في مرتبة مثل فرعون وفلان وفلان ، فهما من مشاركيهم في مرتبة التفضيل الناقص . قال الشيخ ميثم رحمه اللّه في مختصر الشرح : البغض من اللّه يعود إلى علمه بمخالفة العبد لأوامره ، وإطلاقه مجازٌ ؛ إطلاقاً لاسم اللازم على ملزومه ؛ و«وكّله إلى نفسه» : جعل اعتماده عليها ؛ انتهى (5) .

.


1- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «جائر» .
2- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «مشعوف» .
3- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : + «به» .
4- . نهج البلاغة ، ص 59 ، الخطبة 17 .
5- . اختيار مصباح السالكين ، ص 113 .

ص: 410

. .

ص: 411

إلى نفسه ، فهو جائرٌ عن قَصْد السبيلِ ، مَشعوفٌ بكلام بدعة ، قد لَهِجَ بالصوم والصلاة ؛

ولا شبهه في أنّ من كان كذلك كان حائراً (1) عن قصد السبيل ، أي مائلاً عن السبيل القصد أو القاصد ، أي الطريق الحقّ الذي ينبغي سلوكه ولا يعدل عنه . «مشغوف» بالغين المعجمة ، وفي نسخةٍ بالمهملة ؛ وبالمهملة في النهج ، وفسّره في مختصر الشرح بمعجب . (2) وفي الصحاح : الشَّغاف : غلافُ القلب ، وهو جلدة دونه كالحجاب ، يقال : شَغَفَه الحُبُّ ، أي بلغ شَغافَه . وقرأ ابن عبّاس : « قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا » قال : دخل حُبّه تحت الشغاف (3) . وفيها أيضاً في المهملة : شَعَفَه الحُبُّ ، أي أحرق قلبه ؛ وقال أبو زيد : أمرضه . وقرأ الحسن : «قَدْ شَعَفَها حُبّاً» ، قال : بَطَنَها حُبّاً ؛ انتهى (4) . والمعنى على التقديرين ظاهرٌ ، فإنّ هذا الشخص لشدّة محبّته لكلام البدعة بحيث بلغ شغافه ودخل تحته وبطنه وأحرقه ، كمن أحبّ شخصاً بلغت محبّته به ذلك . ولعلّ الأنسب هنا معنى الإحراق أو المرض ، كما قاله أبو زيد ؛ ليدلّ على أنّ هذا قد احترق قلبه ، أو مرض من هذه المحبّة ، فقلبه خارج عن الصحّة وقرب الاعتدال كالمريض ، ومرض القلب أعظم من مرض البدن ؛ ولمناسبة مرض القلب هنا لاستناد ما فعل إليه وتعلّقه به أكثر من غيره ، ومع احتراق القلب الأمر أظهر . «قد لَهِجَ بالصومِ والصلاةِ» أي ولع بهما ليكون ذلك محرّكاً لميل الناس وانقيادهم إليه. وفي اللهج والولوع ما يدلّ على أنّ هذا الفعل لمجرّد ما ذكر واعتياده لأجله. «فهو فتنةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ به» . في القاموس : الفِتنة _ بالكسر _ : الحيرة (5) كالمفتون ، وإعجابك بالشيء ، والضلال ، والإثم ، والكفر ، والفضيحة ، والعذاب ، والإضلال ، والجنون ، والمحنة ، والمال ، والأولاد ، واختلاف الناس (6) . وأكثر هذه المعاني يناسب المقام يحمل كلّ على معنى يناسبه .

.


1- . في «ب» : «جائرا» .
2- . اختيار مصباح السالكين ، ص 113 .
3- . الصحاح ، ج 4 ، ص 1382 (شغف) . والآية في سورة يوسف (12) : 30 .
4- . الصحاح ، ج 4 ، ص 1382 (شعف) .
5- . في المصدر : الخِبرة» .
6- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 254 (فتن) .

ص: 412

فهو فتنة لمن افْتَتَنَ به ، ضالٌّ عن هَدْي من كان قبلَه ، مُضلٌّ لمن اقتدى به في حياته

«ضالٌّ عن هدي من كان قبلَه» أي من كان على طريق الهدى وقصد الحقّ . وكثيراً مّا يكون ذلك لاختراع شيء يحدثه الإنسان ليشتهر بسببه ، خصوصاً مع عدم إدراك شأْوِ من تقدمه ، وله أسباب كثيرة غير هذا . و«الهدى» كما يحتمل أن يكون بضمّ الهاء وفتح الدال مقابل الضلال ، يحتمل أن يكون بالفتح فالسكون ، بمعنى الطريقة والسيرة . والأوّل دالّ بنفسه على معنى هدى من قبله ، والثاني بالقرينة الحاليّة وإشعار لفظ «الهدى» والتعبير به عن الطريقة . «مُضلّ لمن اقْتَدى به في حياته وبعد موته» . الجارّ والظرف متعلّقان ب_ «اقتدى» ، ويجوز تعلّقهما ب_ «مضلّ» ، والأوّل أقرب وغير محتاج إلى تقدير «في حياته وبعد موته» وإن دلّ المذكور على المقدّر . وعلى التقديرين ضمير «حياته وموته» يرجع إلى المحدّث عنه ، وهو الضالّ المضلّ . ويحتمل بعيداً رجوعه إلى «من اقتدى» وتعلّقهما ب_ «مضلّ» والمعنى : أنّه يضلّه في الدنيا والآخرة ، أو أنّ ضلاله لا يزول بموته . وهو كماترى . والوجه الأوّل .

.

ص: 413

وبعد موته ، حمّالُ خطايا غيرِهِ ، رَهْنٌ بخطيئته .

«حمّالُ خطايا» بالإضافة ، وتنوين «حمّال» ونصب «خطايا» على المفعوليّة يُناسبه ، كما تقدّمه إدخال لام التقوية مع جوازه وذكره للجواز . ويحتمل أن يكون في ترك اللام مع العدول إلى الإضافة وعدمه إشارةٌ إلى تكلّفه حمل ما لا يقوى غيره على حمله ، أو إلى الدعاء عليه بعدم القوّة لا من جهة الخطايا ، كما تقول لمن حمل ما لا ينبغي حمله : لا قوّاه اللّه . والمبالغة في «حمّال» باعتبار حمله خطايا غيره فوق ما حمّل من خطايا نفسه ، أو باعتبار كثرة الخطايا أو ثقلها التي لا يقدر على مثلها كلّ حامل ، بل الحمّال الذي يحمل الأشياء الثقيلة ، أو باعتبار تكرّر ذلك منه ، كما يسمّى من تكرّر منه الحمل «حمّالاً» . «رهنٌ بخطيئته» بمعنى أنّه مع حمله خطايا غيره وثقلها عليه لا يقدر على أن يلقي خطيئته عنه ويخفّف عن نفسه ، بل هي ثابتة عليه ولازمة له كلزوم الرهن وثبوته مادام مرتهناً ، وبعد فكّ الرهن لا رهن ، وهذا رهنه باق . قال ابن أبي الحديد في شرح النهج على ما نقل عنه : أمّا الأوّل _ وأراد به هذا _ فهو الضالّ في اُصول العقائد ، كالمشبّه والمجبّر ونحوهما ، ألا تراه كيف قال : مشعوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، وهذا يُشعر بما قلناه من أنّ مراده به المتكلّم في اُصول الدين ، وهو ضالّ عن الحقّ ؛ ولهذا قال : «إنّه ضالّ عن هدى من كان قبله ...» انتهى (1) . «ورجلٌ قَمَشَ جَهْلاً» . هذا هو الرجل الثاني . وفي الصحاح : «القمش» جمع الشيء من هاهنا وهاهنا (2) . وفي القاموس : «القمش» جمع القماش ، وهو ما على وجه الأرض من فُتات الأشياء حتّى يقال لرذالة الناس : قماش . وتقمّش : أكل ما وجد وإن كان دوناً ؛ انتهى (3) . وأكثر هذه المعاني له مناسبة بالمقام ، فإنّه لا شيء أدون من الجهل ، والجاهل يجمع كلّ ما حصل ولا يتفحّص عن الحقّ والخالص ، وما يجمعه كالفُتات الملقى في الدناءة ، وكالناس الأراذل .

.


1- . شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 286 .
2- . الصحاح ، ج 3 ، ص 1016 (غمش) .
3- . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 285 (غمش) .

ص: 414

ورجل قَمَشَ جهلاً في جُهّال الناس ، عانَ بأغباش الفتنة ، .........

وقوله عليه السلام : «في جُهّال الناس» يمكن أن يكون الظرف فيه حالاً من فاعل قمش ، والمعنى أنّه حصل الجهل حال كونه في عداد الجهّال ، وأنّه لم يخرج بذلك عن زمرتهم إلى زمرة العلماء ، كما يتوهّمه هو ومن تابعه ؛ أو صفة ل_ «جهلاً» أي جهلاً كائناً في جهّال الناس . ومعناه : أنّ هذا الذي قمشه ويتوهّم التميّز به موجود في أمثاله من جهّال الناس ، فلا يتميّز عن غيره من الجهّال ، بل له الزيادة بالقمش ، وبما يترتّب على جهله ممّا قد لا يترتّب على جهلهم ؛ أو بمعنى أنّه قمش الجهل في جملة من قمشه ، فأيّ شيء حصل ليتميّز به؟ «عانٍ بأغباشِ الفتنةِ» أي مهتمّ ومشتغل ؛ كذا في النهاية (1) ، من اعتنى بالشيء : إذا اهتمّ به واشتغل . و«الأغباش» جمع الغَبَش بالتحريك : البقيّة من الليل ، ويقال ظُلمة آخر الليل ؛ كذا في الصحاح (2) . والمعنى : أنّه مهتمّ بتحصيل هذه الظلمة الشديدة الثابتة للفتنة ، أو الظلمة التي هي الفتنه . ويحتمل أن يكون «عان» من «عني» ، أي تعب ونصب . والمعنى : أنّه قد أتعب نفسه بسبب هذه الظلمة التي يحصّلها . وقد يرجع إلى الأوّل . و«العاني» (3) الأسير ، فيحتمل أن يكون المراد هنا أنّه قد أسر نفسه بسبب تحصيل هذه الظلمة ، فقد ارتكب ذُلّ الأسر وتعبه فيما هو ظلمة ، ومثل هذا لا يرتكبه عاقل . وفي مختصر الشرح : «أغباش الفتنة» : أوائل ظلماتها . وروي «غار» أي غافل في ظلمات الخصومات لا يهتدي لوجه تحصيلها (4) ، وروي «أغطاش الفتنة» والغطش أيضاً ، الظلمة ؛ انتهى (5) . وفي النهاية : ومنه حديث عليّ عليه السلام : «قمش علما غارّاً بأغباش الفتنة» أي بظلمها ؛ انتهى (6) . وفي أصل النسخ «غار» وفي نسخةٍ «غاد» .

.


1- . النهاية ، ج 3 ، ص 314 (عنا) .
2- . الصحاح ، ج 3 ، ص 1013 (غبش) .
3- . في «ألف ، ب ، ج » : + «أيضا» .
4- . في المصدر : «تخليصها» .
5- . اختيار مصباح السالكين ، ص 113 .
6- . النهاية ، ج 3 ، ص 339 (غبش) .

ص: 415

قد سمّاه أشباه الناس عالما ، ولم يَغْنَ فيه يوما سالما ، .........

«قد سمّاه أشباهُ الناسِ عالماً» أي سمّاه بهذا الاسم ووصفه به الجُهّال الذين يشبهون الناس في الصورة الجسميّة الحسّيّة ، لا في الصورة المعنويّة الكماليّة التي بها يستحقّون التسمية بالناس . وبعده في النهج : «وليس به» . «ولم يَغْنَ فيه يوماً سالماً» . هذه الفقرة ليست في النهج . وفي الصحاح : غني بالمكان ، أي أقام ، وغني أي عاش (1) . فالمعنى : أنّهم سمّوه عالماً والحال أنّه لم يقم في العلم ، أو لم يعش فيه يوماً حال كونه سالماً من الآفات والخطايا التي يسلم (2) منها أهل العلم إذا عاشوا فيه أو أقاموا (3) . ويمكن اعتبار جملة «لم يغن» غير حاليّة ، لكنّ الحاليّة أنسب . ويجوز أن يكون «سالماً» صفة ل_ «يوماً» من باب نهاره صائم وليله قائم . واليوم في مثله يستعمل بمعنى الوقت والزمان ، ولا يراد به خصوصيّة اليوم ، كما تقول : لا أراني اللّه يومك ، ولابدّ من يوم أراك فيه ، ومثله شائع .

.


1- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2449 (غنى) .
2- . في «ب» : «تسلم» .
3- . في «ب ، د» : «وأقاموا» .

ص: 416

بكَّرَ فاستَكْثَرَ ، ما قَلَّ منه خيرٌ ممّا كَثُرَ ، .........

«بكّر فاستكثر» . قال في مختصر الشرح : « [ استعار ] (1) وصف التبكير للسبق في أوّل العمر إلى جمع الشبهات والآراء الباطلة» انتهى (2) . ويحتمل أن يكون المعنى أنّ هذا الرجل جدّ في هذا الأمر كما يجدّ الذي يغدو لحاجته بكرةً . «فاستكثر» ، أي فحصل الكثير من هذا المطلب الخسيس ، فالاستفعال ليس بمعنى الطلب كاستقبل واستدبر ، ومثله كثير ، فهو من قبيل استوسق واستوثق . ويحتمل إرادة طلب الفعل بمعنى أنّه لمّا بكّر طلب بهذا الفعل أن يحصل له الكثير . والوجهُ الأوّل . «ما قَلَّ منه خيرٌ ممّا كَثُرَ» أي ماقلّ من هذا الرجل من التبكير والاستكثار ، أو ماقلّ من هذا الفعل الصادر منه خير ممّا كثر منه . ولمّا كانت الأفعال الحسنة والخصال الحميدة كثيرها خيرٌ من قليلها باتّفاق العقلاء ، أرادَ عليه السلام أن ينبّه على أنّ هذا عكس ذاك ، وأنّه ممّا قليله خير من كثيره ، بمعنى أنّه ليس بداخل في ذلك القسم ، وليس المقصود وجود الخير في القليل أكثر منه في الكثير . ويمكن أن يكون بمعنى أنّ القليل أقَلّ ضرراً من الكثير ، أو أن يكون الخير فيهما باعتبار اعتقاده وعكسه عليه ، أو باعتبار تسمية ترك العقوبة على مازاد على القليل خير ، أو الخير في الكثير باعتبار اعتقاده فيه الخير .

.


1- . ما بين المعقوفين من المصدر .
2- . اختيار مصباح السالكين ، ص 113 .

ص: 417

حتّى إذا ارتوى من آجِنٍ واكْتَنَزَ من غير طائل جَلَسَ بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ، وإن خالَفَ قاضيا سَبَقَه ، لم يأمَنْ أن يَنقُضَ حكمَه مَن يأتي بعدَه كفِعْلِهِ بمَن كانَ قبلَه ، .........

«حتّى إذا ارتوى من آجنٍ» أي بكّر وحصل الكثير حتّى امتلأ ممّا هو كالماء الآجن ، وهو المتغيّر الطعم واللون والرائحة من الجهل والاعتقادات الفاسدة وما شابهها (1) ، كما يمتلي المرتوي من الماء ، يقال : رويتُ وارتويتُ وتروّيتُ ، كلّه بمعنى ؛ ذكره في الصحاح (2) . «واكتنز من غير طائل» . في القاموس : «اكتنز» : اجتمع وامتلأ (3) . فالمعنى أنّه امتلأ من هذا الشيء الذي لا طائل تحته ، أو أنّه حصّل وجمع وأحرز ما هو عنده بحسب اعتقاده الفاسد كالكنز من غير أن يكون إحرازه وجمعه لشيء ينتفع به ، أو من غير أن يكون أصله ممّا يُشابه ما يكتنز ، أو من غير أن يترتّب عليه نفع كما يترتّب على المال المكتنز ؛ بل ضرر . «ضامناً لتخليص ما التبس على غيره» . وجه ضمانه أنّه لم يكن فعله وتحصيله مأخوذين عن أصل ليكون حجّة وسنداً ، بل لمجرّد الشهرة وإظهار الفضيلة بين الناس ليعتقدوه ويروّجوا حاله ، ولم يكن أساسه على تقوى ، ومن كانت هذه حاله كان ضامناً للجواب عن كلّ ما يسأل عنه ويرد عليه ، فإنّ المانع حينئذٍ من التحرّز والتثبّت مفقود ، والمقتضي للجرأة والضمان موجود ، وجوابه ب_ «لا أدري» ونحوه ينافي مطلبه ، فيجترأ على الشيء الذي التبس على غيره ولم يعرف وجهه ، وتركه خوفاً من اللّه أو نحو ذلك ، وغير ما التبس ظاهر جرأته عليه . «وإن خالف قاضياً سَبَقَه ، لم يأمن أن يَنقُضَ حكمَه مَن يأتي بعدَه» . لمّا لم يكن ما يأتي به هذا ناشئاً عن أصل صحيح ، كان هذا المتصدّي خائفاً من نقض حكمه ؛ لبنائه على غير أساس . وعدم الأمن بمعنى أنّه غير مستقرّ الخاطر بما أتى به ، بل حكمه معرض للنقض والهدم ، والناقض قد يكون محقّاً وقد يكون مبطلاً مثله ، ونقضه له من غير وجه . وكلّ هذا بيان لحال هذا الرجل وأنّ ما حصّله لمّا لم يكن على وجهه ، كان ما ذكره عليه السلام من جملة مفاسده الدنيويّة وما يترتّب عليها من العقوبات الاُخرويّة ، وتنبيهاً للغافلين عن حال هذا الرجل ، وعلى أنّ العلم يجب أن يكون مأخوذاً عن أهله حتّى لا يحصل نقض في حضورهم عليهم السلام ، ويكون القاضي مستندا إلى أمرهم ونهيهم في فتواه في غيبتهم . والنقض لسهو مع التحفّظ أو لترجيح ما يستند إليهم لعلّه ليس من هذا القبيل ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «شابههما» .
2- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2364 (روى) .
3- . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 189 (كنز) .

ص: 418

وإن نزلَتْ به إحدى المبهمات المعضلات هَيَّأَ لها حشوا من رأيه ، ثمّ قطع به ،

«وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هَيَّأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع» . في مختصر الشرح : «المبهمات» : القضايا الملتبسة التي يدقّ فيها الحقّ ، و«الحشو» : الكلام الكثير لا فائدة فيه ؛ انتهى (1) . وفي القاموس : «الحشو» : فضل الكلام (2) ، و«المعضلات» : الشدائد ؛ انتهى (3) . والمراد هنا _ واللّه أعلم _ : إذا نزلت به الاُمور المشتبهة ؛ من أبهم الأمر : إذا اشتبه ، أو المظلمة ؛ من قولهم : ليل بهيم ، أي أسود الشديدة ، أي الشديد أمرها وخطرها أو التخلّص منها ، أو الشديدة على الإنسان من حيث إشكالها . و«الرأي» : الذي لا أصل له من كتاب أو سنّة ، كرأي المخالفين واستحسانهم . وقول بعض علمائنا _ أعلى اللّه شأنهم وأنار برهانهم _ : «على رأي» لا يتوهّم منه العمل بالرأي ، فإنّه ليس من هذا القبيل ، ونحوه الاجتهاد . وقوله عليه السلام : «هَيَّأ لها حشواً من رأيه» ظاهرٌ في أنّ ذلك مستند إلى مجرّد رأيه . وفي النهج بعد قوله : «قطع» لفظ «به» (4) ، والمعنى : أنّ هذا المهيّئ للحشو يهيّئه أوّلاً ممّا لا طائل تحته ، ثمّ يجزم به ويفتي على وجه القطع . فهو تنبيه مع الذمّ على فساد وجه هذا القطع ، وأنّه عن غير علم وأساس تبتني عليه .

.


1- . اختيار مصباح السالكين ، ص 113 .
2- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 317 (حشو) .
3- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 17 (عضل) .
4- . هكذا أيضا في الكافي المطبوع وكثير من نسخه . والظاهر أنّ المصنّف رحمه اللّه قد اعتمد على نسخة اُخرى للكافي ليس فيها هذا المقطع .

ص: 419

فهو من لَبْس الشبهات في مثل غَزْلِ العنكبوت .........

«فهو مِن لَبْس الشبهات في مثل غَزْلِ العنكبوت» . في النهج : «نسج العنكبوت» . وفي مختصر الشرح : ونسج العنكبوت : مَثَل للاُمور الواهية ، ووجه التمثيل أنّ ذهن الجاهل إذا قصد حلّ مبهمة كثرت عليه الشبهات ، فيلتبس على ذهنه وجه الحقّ ، ولا يخلص إليه منها ، فمثله في الشبهات الواهية كالذباب في نسج العنكبوت ، لا يتمكّن على ضعفه أن يخلص منها ؛ انتهى (1) . وهو مبنيّ على أنّ اللَّبس بالفتح ، مصدر قولك : لبست عليه الأمر ألبس بمعنى خلطت ، فإن ثبت الفتح فقط ، وإلاّ احتمل أن يكون بالضمّ ، مصدر قولك : لبست الثوب ، والمعنى حينئذٍ : فهو من لبسه للشبهات كما يلبس الإنسان الثوب ليقيه الحرَّ والبردَ ، والدرع ليقيه ما يحذر منه ، والعلم والتقوى ليقياه ضررَ الجهل وعذابَ الآخرة في لباس مثل غزل العنكبوت الذي لا يقي الذباب الذي ينسجه ليتّقى به ولا غيره ؛ أو هو من لبسه لها في لباس مثل غزل العنكبوت بالنسبة إليه باعتبار أنّ لباسه واهٍ كهذا اللباس ؛ لأنّ النسج ينفع الذباب في الجملة . وعلى التقديرين يختلف معنى «من» . وكان هذا الوجه أحسنَ معنى من الفتح ، مع ما فيه من الإشعار باعتياد ذلك وتكريره ، وأنّه مع ذلك لا يتجاوز مثل ما شبّه به . والإضافة على الفتح لاميّة ، وتحتمل البيان والوصفيّة ؛ فتأمّل . وعلى الضمّ من إضافة المصدر إلى مفعوله .

.


1- . اختيار مصباح السالكين ، ص 113 .

ص: 420

لا يدري أصابَ أم أخْطَأ ، لا يَحسَبُ العلمَ في شيء ممّا أنكَرَ ، ولا يَرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهبا ، إن قاس شيئا بشيء لم يُكذِّبْ نظرَه ، .........

«لا يدري أصاب أم أخطأ» أي لا يدري أصاب بقوله الواقعَ أم أخطأه ، بمعنى وافقه أم لا ، وإلاّ فصواب مثل هذا خطأ من حيث الإخبار به وإن وافق الحقّ ، أو أنّه لشدّة جهله وارتكابه للخطأ صار بحيث لا يدري أنّه مصيب أو مخطئ . «لا يَحسَبُ العلمَ في شيء ممّا أنكر» أي لا يعدّه شيئاً ولا يدخله في الحساب ، بل ينكره كسائر ما أنكره . وأراد علم الاُصولَيْن وغيرهما ، دون الفروع . وروي «يَحسِبُ» بكسر السين من الحسبان وهو الظنّ ، أي لا يظنّ العلم الذي هو وراء اعتقاده فضيلة يجب اعتقادها ؛ كذا في مختصر الشرح (1) . بقي احتمال لا يخلو من بُعد ، وهو أن يكون «يحسب» بمعنى يعلم ، والمعنى أنّه لا يعلم أنّ العلم في شيء ممّا أنكره ، وهذا جهل عظيم منه . «ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مَذهباً» بمعنى لا يظنّ ذلك ، كقوله تعالى : « إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُو بَعِيدًا » (2) ؛ أو لا يعلم . ونفي الظنّ فيهما أبلغ في الجهل . وضمِّن «بلغ» معنى «ولج» أو «دخل» فاُتي ب_ «في» وفائدته إفادة المذكور بالقرينة ودلالة البلوغ على انتهائه إلى أقصاه وتمكّنه من الدخول فيه . «إن قاس شيئاً بشيء لم يُكذّبْ نظرَه» أي لم يكذّبه وإن ظهر له الخطأ فيما قاسه ، اعتماداً على أصله الفاسد ، ولئّلا يظهر غلطه .

.


1- . اختيار مصباح السالكين ، ص 114 .
2- . المعارج (70) : 6 .

ص: 421

وإن أظلم عليه أمرٌ اكْتَتَمَ به؛لما يعلم من جهل نفسه،لكيلا يقال له: لا يعلم، ثمّ جَسَرَ فقضى،

«وإن أظلم عليه أمرٌ اكتتم به ؛ لما يعلم من جهل نفسه ، لكي لا يقال له : لا يعلم ، ثمّ جسر فقضى» . من قوله عليه السلام : «لا يحسب» إلى هنا ليس في النهج ، وفيما بعده مغايرة أيضاً . ولا يخلو ربط قوله عليه السلام : «وإن أظلم» إلى آخره بعضِه ببعض من إشكال بحسب الظاهر من حيث عدم وجود الواو في قوله : «لكي لا» فيحتمل سقوطها من النسّاخ ، وارتكاب حذف العاطف في مثل هذا بعيد . والذي يخطر بالبال في توجيه العبارة على ما في الكتاب أنّ قوله عليه السلام : «لكي لا يقال : لا يعلم» تعليل لمجموع ما تقدّمه من الشرط والجزاء والعلّة ، فهو من قبيل قولك : إن جاءني سائل أعطيته لفقره ؛ لئّلا يقال : إنّي أردّ السائل الفقير . والمعنى هنا أنّ هذا الرجل إذا أظلم عليه أمر لم يجد له قياساً ولم يتيسّر له تهيئة الحشو له من رأيه ، تستّر من إظهاره وكتمه ؛ لانكشاف جهله له ، فإنّه في صورة القياس وتهيئة الحشو يتخيّل بذلك أنّه ليس بجاهل ، بل قد يصل إلى مرتبة الجزم بعدم الجهل من حيث اعتياده ذلك ومداومته عليه ، فلا يقطع على نفسه بجهله ، وقد يجزم بذلك من أوّل الأمر لتورّطه فيه وعدم توجّهه إلى غيره ، وإذا لم يجد سبيلاً من هذه السبل المظلمة ، انكشف له جهله ، فلئلاّ يقال : لا يعلم ، اكتتم فيما أظلم عليه ؛ لعلمه بجهل نفسه . ثمّ بعد ذلك جسر ، أي أقدم واجترأ عليه فقضى به كيف كان ؛ لئّلا ينسب إلى عدم العلم ، وحينئذٍ لم يلاحظ انكشافَ خطئه على الناس وعدمَه ؛ لشدّة تهالكه على ذلك . ويحتمل أن يكون في العبارة تقديم وتأخير من النسّاخ ، والأصل هكذا : «وإن أظلم عليه أمرٌ اكتتم به ؛ لما يعلم من جهل نفسه ، ثمّ جسر فقضى لكي لا يقال له : لا يعلم» وحينئذٍ تستقيم العبارة لفظاً ومعنى أيضاً ، ولعلّه غير بعيد وقوع مثل هذا ، فإنّ بين ما هنا وما في نهج البلاغة تفاوتاً كثيراً ، اللهمّ إلاّ أن يكون عليه السلام تكلّم به كلَّ مرّة بصورة . ومع صحّة التوجيه الأوّل يُستغنى عن هذا ؛ واللّه أعلم . فإن قلت : هل يتمّ التوجيه على تقدير أن تكون جملة «اكتتم» صفة ل_ «أمر» ، لا جواباً للشرط مع ارتكاب تقدير العاطف؟ قلت : هذا لا يستقيم من حيث عدم تماميّة الكلام ، وبقاء الشرط بلا جواب وعدم مناسبة التعليل ب_ «كيلا» وعطفه على التعليل السابق . نعم يبقى احتمال قد يتمشّى على التقديرين ، وهما كون «اكتتم» جواباً وصفة ، وهو أن يكون قوله : «لما لا يعلم» تعليلاً ل_ «أظلم عليه» ، و«لكيلا» تعليلاً ل_ «اكتتم به» ؛ فعلى تقدير كون «اكتتم» جواب الشرط يتمّ الكلام . وعلى تقدير الوصفيّة يحتمل قراءة «ثَمَّ» بالفتح ، بمعنى هنالك ، بناءً على جواز حذف فاء الجزاء في مثله ، والمعنى : إذا أظلم عليه أمر لما يعلم من جهل نفسه اكتتم به ؛ لكيلا يقال له : لا يعلم ، ثمّ جسر فقضى ، أو هناك جسر فقضى . والتكلّف في هذا ظاهر .

.

ص: 422

فهو مفتاح عَشَواتٍ ، .........

«فهو مفتاح عشوات» . في النهج : «ركّاب عشوات» . وعن النهاية : «العشوة» _ بالضم والفتح والكسر _ : الأمر المتلبّس (1) ، وأن تركب أمرا بجهل لا يعرف وجهه ؛ مأخوذ من عشوة الليل وظلمته ، ويجمع على «عشوات» . ومنه حديث عليّ عليه السلام : «خبّاط عشوات» وهو الذي يمشي في الليل بلا مصباح فيتحيّر ويضلّ وربما تردّى في بئر (2) ؛ انتهى (3) . وفي مختصر الشرح : العشوة مصدر قولك : عشوت ضوء النهار إذا تبيّنته على ضعف ، وأراد أنّه لا يستليح (4) نور الحقّ في ظلمات الشبهات إلاّ على ضعف لنقصان ضوء بصيرته ؛ انتهى (5) . ومعنى ماهنا _ واللّه أعلم _ أنّ الاُمور المجهولة الملتبسة المظلمة مقفولة على من يريد الوصول إليها وارتكابها أو مطلقا ، وهذا الرجل مفتاح لقفلها ، فكما أنّ المفتاح بسببه يحصل الدخول إلى ما يفتح قفله ونحوه ، فكذا هذا به وباتّباعه يقع هو في هذه الأشياء ويوقع غيره ؛ فهو مفتاح لنفسه ولغيره . ويحتمل إرادة غيره فقط من جهة أنّه مفتاح ، ومن كونه مفتاحاً يظهر ما يلزمه ويترتّب عليه وله .

.


1- . كذا في النسخ ، وفي المصدر : «الملتبس» .
2- . في «ج» : + «ونحوه» .
3- . النهاية ، ج 3 ، ص 242 (عشو) .
4- . في المصدر: «لا يستنتج».
5- . اختيار مصباح السالكين ، ص 114 .

ص: 423

رَكّابُ شبهاتٍ ، خبّاطُ جهالاتٍ ، لا يَعتذِرُ ممّا لا يعلم فيسلم ، ولا يَعَضُّ في العلم بضِرْسٍ قاطِعٍ فيَغْنَمَ ، .........

«رَكّابُ شبهاتٍ ، خبّاط جهالاتٍ» . في الصحاح : خبط البعير الأرض بيده : ضربه ، ومنه قيل : خبط عشواء ، وهي الناقة التي في بصرها ضعف تخبط إذا مشت (1) . وهذا كثير الركوب للشبهات وكثير الخبط للجهالات ، أو في الجهالات . وإضافة «ركّاب شبهات» لفظيّة أو معنويّة ، و«خبّاط جهالات» معنويّة ، ويجوز كونها لفظيّة ، والمعنويّة في الأوّل لاميّة وفي الثاني كمكر الليل ، ويجوز كونها لاميّة . «لا يعتذر ممّا لا يعلم» بأن يقول : لا أعلم «فيسلم» من خطر القول بغير الحقّ . «ولا يَعَضّ على (2) العلم بضرس قاطع» فيكون قوله بالحقّ ولا يحتاج إلى الاعتذار «فيَغْنَمَ» ثواب العالم . وهو كناية عن كونه لم يُتْقِنه ولم يُحكم الاُمور ، كما في النهاية (3) . وفي مختصر الشرح : «هو كناية عن عدم إتقانه للقوانين الشرعيّة ، وأصله أنّ الإنسان يمضغ الشيء ثمّ لا يُجيد مضغه» ؛ انتهى (4) . أقول : كلام الشرح والنهاية مبنيّ على ما هو المشهور من توجّه النفي إلى القيد إذا وقع المنفيّ مقيّداً ، وهو الظاهر من مثل هذا المقام ، فإنّ المعنى أنّ من هذا شأنه يكون ما عنده من مسمّى العلم وتمويه كونه علماً مثل ما يلوكه (5) من لا ضرس له أو من له ضرس لا يقطع شيئاً ، فكلامه في العلم كحركة فمِ مَن هذا شأنه ، فإنّه وإن حرّكه أضعاف ما يحرّك ذوالضرس القاطع لا تحصل منه فائدةُ تقطيع المأكول على وجه جيّد ولا غيره ، ومن فعل ذلك حصل الغنيمة وهي فائدة العلم وأصله وثمرته ، كما يحصّل الماضغ بالضرس القاطع الفائدة من المضغ ؛ فتوجّه النفي إلى القيد من جهة دخول ما حصّله هذا في مسمّى العلم في الجملة . فإن قلت : توجّه النفي إلى القيد ليس كلّيّاً،فإنّه قد لا يتوجّه إليه ، كما في قولك: زيد لا يحبّ المال محبّةً للفقر ، فهل يتوجّه النفي (6) هنا إلى القيد كما في المثال؟ قلت : ماهنا ليس من هذا القبيل ، فإنّ المقام يدلّ على أنّ عند هذا مسمّى العلم ولو بحسب اعتقاده . نعم ، قد يحتمل المقام نفي أصل العضّ مع القيد بالنسبة إلى من لم يكن عنده آثاره من علم ، ويكون هذا الرجل من هذا القبيل . وفيه تأمّل . والوجه ما تقدّم .

.


1- . الصحاح ، ج 3 ، ص 1121 (خبط) .
2- . كذا في النسخ ، وذكر المؤلّف هذه الفقرة قبل ذلك ، وفيه : «في» بدل «على» ، وهو مطابق للكافي المطبوع وكثير من نسخه .
3- . النهاية ، ج 3 ، ص 84 (ضرس) .
4- . اختيار مصباح السالكين ، ص 114 .
5- . «اللَّوْكُ» : إدارة الشيء في الفم ، وقيل : هو مضغ الشيء الصُّلْب الممضغة تديره في فيك . راجع : لسان العرب ، ج 10 ، ص 484 ؛ مجمع البحرين ، ج 5 ، ص 287 (لوك) .
6- . في «د» : - «النفي» .

ص: 424

. .

ص: 425

يَذري الرواياتِ ذَرْوَ الريح الهَشيم ، .........

«يَذري الروايات ذَرْوَ الريحِ الهَشيم» . في النهج : «إذراء الريح» وهو مصدر أذرى ، وأمّا «ذرو» كما هاهنا فهو مصدر «ذرا» ، وهو من باب «غزا» لا من باب «رمى» ، فكأنّه هنا من قبيل « وَ اللَّهُ أَمنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا » (1) . وفي الصحاح : ذَرَتِ الريح الترابَ وغيرَه تَذَروه وتَذْرِيه ، ذَرْوا وذَرْيا ، أي سَفَتْه (2) . ولم أظفر بجواز الإتيان بمصدر واوي يجوز في فعله الواو والياء ، ويكون الفعل بالياء والمصدر بالواو ليحمل ماهنا عليه (3) ، ويكون «يَذري» بفتح الياء وإن ثبت أنّ هذا لفظه عليه السلام فهو الحجّة . وعن شرح ابن ابي الحديد : في بعض نسخ نهج البلاغة : «يذرو الروايات» وأكثر الروايات «يذري» من أذرى ، يقال : طعنه فما ذرأه ، أي فما ألقاه ، وأذريت الحبّ للزرع ، أي ألقيته . وكأنّه يقول : يلقي الروايات كما يلقي الإنسان الشيء على الأرض . والأجود الأصحّ الرواية الاُخرى «يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم» وهو مايبس من النبت وتفتّت ؛ انتهى (4) . وفي مختصر الشرح : «وإذراؤه للروايات : تصفّحها وقراءتها مع عدم فهمها والانتفاع بها» انتهى (5) . ويمكن أن يقال أيضاً : إنّ المعنى أنّه يلقي الروايات ويفرّقها ويشتّتها عن معانيها ، أو يشتّت معانيها عنها ، أو يشتّت بعضها الذي يكون مفسّرا لبعض أو مقيّداً أو مخصّصاً له ونحو ذلك عن بعض ؛ لعدم علمه بما يجب أن يفعل بها بالجمع بينها ونحوه والحكم بما يلزم ذلك ، كما يلقى الحبّ للزرع على وجه يتفرّق بعضه عن بعض . وحينئذٍ يمكن أن يكون قوله عليه السلام : «ذرو الريح» دون «إذراء الريح» لفائدة تفرّقِ هذا الملقى تفرّقاً زائداً عن تفرّق مثل الحبّ ؛ لأنّ ما تذروه الريح يتفرّق أشدّ تفرّق . ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد بالروايات الروايات الكاذبة التي يدّعى أنّها روايات ، فإنّ من هذا شأنه لا يتحرّج من الكذب على اللّه ورسوله . ويقرّب هذا المعنى تشبيههاً بالهشيم ، فكما أنّه ليس ممّا يعتدّ وينتفع به ، كذلك هذه الروايات التي يرويها . ولفظ «يلقي» و«يذري» قد يشعران بهذا المعنى مع المشبّه به ، كما أنّ الإلقاء مع ذكر الزرع يشعر بحسن ما يترتّب عليه وكونه لفائدة ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.


1- . نوح (71) : 17 .
2- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2345 (ذرأ) .
3- . في «ج» : «عليه ما هنا» .
4- . شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 285 .
5- . اختيار مصباح السالكين ، ص 114 .

ص: 426

تبكي منه المواريثُ ، وتَصرُخُ منه الدماء ؛ يُستحلُّ بقضائه الفَرْجُ الحرام ، ويُحرَّمُ بقضائه

وقوله عليه السلام : «تَبكي منه المواريثُ ، وتَصرُخُ منه الدماءُ» إمّا بمعنى أنّها تبكي وتصرخ بلسان حالها متظلّمة شاكية من جوره عليها وعدم إعطائها حقّها ووضعها مواضعها ، فالاستعارة تبعيّة ؛ وإمّا بتقدير مضاف فيهما ، أي أهل المواريث وأهل الدماء ، وهو بالثاني أنسب . ولا يخفى مناسبة البكاء بالمواريث ، والصراخ بالدماء . «يُستَحَلُّ بقضائه الفَرْجُ الحرام ، ويُحرّمُ بقضائه الفَرْج الحلال» . يمكن أن يكون «يستحلّ» و«يحرّم» مبنيَّيْن للمفعول ، وأن يكونا مبنيَّين للفاعل ، والأوّل أبلغ في ذمّه وأنسب بحاله ؛ لأنّ عليه حينئذٍ مع إثمه بسبب قضائه مثلَ إثم من يستحلّ ويحرّم بسبب قضائه ، وأمّا الثاني فقد يكون مخصوصاً به وقد لا يكون ؛ والإتيان بالظاهر في مقام المضمر في الثاني _ وهو أن يقال : «ويحرّم به» _ لأنّ ذكر الشيء الذي يكون قد تقرّر وثبت في النفس أنّه سبب للذمّ يكون الإتيان باسمه الظاهر أنسب بالمقام ، ونحوه ما يشعر بالمدح وغيره ، كما تقول : البخيل لا يكرم ، البخيل لا تقضى له حاجة ، الكريم يكرم الكريم اقض حاجته ، ونحو ذلك ، فالإتيان بالظاهر خروجاً عن مقتضاه لنكتة ، كما تقدّم نحوه في شرح خطبة الكتاب .

.

ص: 427

الفَرْج الحلال ، لامَلِيءٌ بإصدار ما عليه وَرَدَ ، ولا هو أهلٌ لما منه فَرَطَ ، .........

«لا مَليءٌ بإصدار ما عليه وَرَدَ» . في الصحاح : مَلُؤَ الرجلُ : صار مَليئا ، أي ثقةً (1) ، فالمعنى أنّ هذا ليس ممَّن ينبغي أن يوثق به بأن يصدر عنه الوارد عليه لأجل قضاء حاجته ممّا يتعلّق بالعلم ونحوه، كما يصدر الوارد على ماء ينتفع به ويتروّى منه ؛ أو ليس بثقة، أي ليس عنده ما يطلب ، بل هو « كَسَرَابِم بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْ_ئانُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُو لَمْ يَجِدْهُ شَيْ_ئا » (2) . و«ما ورد» بمعنى ماورد من القضايا ونحوها ؛ ففيه تجوّز عقلي ؛ أو ماورد عليه من الناس الذين يريدون الإصدار بقضاء حوائجهم ، ففي التعبير ب_ «ما» إشارة إلى كون من يرجع إليه ويرد عليه ليس داخلاً فيمن يعقل . «ولا هو أهلٌ لما منه فَرَطَ» أي سبق وتقدّم . ففي الصحاح : فرط إليه منّي قولٌ ، أي سبق (3) . وكان هذا الكلام الشريف يتضمّن الدعاء على من هذا شأنه بانقضاء مدّته وانقطاع بدعته ودعواه ، وإلاّ لقال عليه السلام : ولا هو أهل لما منه وقع أو يقع ونحوه . ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى أنّه من قبيل قولك : فلان لايبالي بما سبق منه ، أي من شأنه أن لا يتأمّل ولا يتدبّر بحيث لا يسبقه الكلام ، بل ينبغي أن يكون تأمّله سابقاً على كلامه ، كما أنّ لسان العاقل وراء قلبه ، وقلبَ الجاهل وراء لسانه ؛ فالمضيّ والاستقبال وغيرهما حينئذٍ غير ملحوظة ، فيكون على هذا معنى كلامه عليه السلام أنّ هذا ليس أهلاً لما سبق منه بالمعنى المذكور . وكان في لفظ «فرط» دون «سبق» ونحوه إشعار بأنّ ذلك من تفريطه وتضييعه ونحوه .

.


1- . الصحاح ، ج 1 ، ص 73 (ملأ) .
2- . النور (24) : 39 .
3- . الصحاح ، ج 3 ، ص 1148 (فرط) .

ص: 428

مِن ادّعائه علمَ الحقّ» .

الحسين بن محمّد ، عن مُعلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي شيبةَ الخراسانيّ ، قال :سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «إنّ أصحابَ المقاييس طلبوا العلمَ بالمقاييس ، فلم تَزِدْهم المقاييس من الحقّ إلاّ بُعدا ، وإنَّ دين اللّه لا يُصابُ بالمقاييس» .

«من ادّعائه علم الحقّ» بيانٌ لما فرط منه ، فإنّ دعواه ذلك سابقة على ما يترتّب عليها من المفاسد ، أو على الحال التي هو فيها ، أو بمعنى يناسب ما تقدّم ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه . قوله عليه السلام في حديث أبي شيبة الخراساني : (إنّ أصحابَ المقاييسِ طلبوا العلمَ بالمقاييس ، فلم تَزِدْهم المقاييس من الحقّ إلاّ بُعداً ، وإنّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ بالمقاييس) . المقاييس جمع مقياس (1) ، وهو في الأصل المقدار الذي يستعلم به الشيء ، ثمّ استعمل في مطلق ما يستعلم به الشيء (2) . والمراد هنا ما يستعلم به شيء خاصّ ، وفي الحقيقة ما يستجهل به زيادة عن أصل الجهل به . ولمّا كان الجاهل بالشيء بعيداً عن العلم به ، فالذي يريد معرفة المجهول الشرعي بالقياس يكون سلوكه لهذا الطريق إلى العلم سلوكاً لغير الطريق الموصل إليه ، فيزداد بعداً عن الحقّ ، كمن سلك طريقاً يريد به التوصّل إلى مكان بعيد عنه ، ولم يكن ماسلكه طريقاً يوصل إليه ، وكمن يريد تحصيل شيء فربما تصوّره في الجملة ، ولكن رتّب له مقدّمات كاذبة لا تنتج شيئاً من الذي تصورّه ، فيصير بعد ذلك أبعد ، بخلاف ما إذا أراد الحقّ بدليل ، فحينئذٍ يكون وصوله إليه كوصول من صحب دليلاً عارفاً بالطريق والمكان الذي يريده ، وكذا من رتّب المقدّمات الصادقة المنتجة لما تصوّره . فإن قلت : يمكن أن يوافق قياسه الحقّ ، كما يمكن وصول قاطع مسافة إلى مكان يريده ويتّفق له ذلك من غير قصد ومعرفة بالطريق ؛ فالبعد في هذا كيف يتصوّر ، فضلاً عن ازدياده؟ قلت : أمّا ما نحن فيه من معنى الحديث فإنّ الإنسان قبل أن يعرف وجه الحقّ في مسألة مثلاً فهو بعيد عنه من هذه الجهة ، فإذا قاس ووصل إليه في نفس الأمر وهو لا يدري أنّه الحقّ في نفس الأمر ، ولكن اعتقاده أنّه عرفه حقّاً من جهة القياس الذي لا يجوز أن يعرف الحقّ به حقّاً ، ولا يكون دليلاً على الحقّيّة ، فهو من هذه الحيثيّة أبعد عن الحقّ من الجاهل وإن وافق الواقع . ويؤيّده ما في حديث عمر بن حنظلة الآتي من قوله عليه السلام : «وما يحكم له فإنّما يأخذ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له ؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت» الحديث (3) . ولهذا كان مَن هذا شأنه أحدَ الثلاثة الذين في النار ، ولم يكن الجاهل بمثل (4) هذا مطلقاً من أهل النار ، بل قد يكون من أهل الجنّة إذا لم يمكنه تحصيل الحقّ بوجه ، ولم يجترئ على دعوى الحقّ والقول به مع عدم مناف آخر ، فهذا الذي وصل إلى الحقّ في الواقع ولا يعلمه حقّاً في الواقع من حيث عدم علمه بالطريق التي يجب عليه العلم بها أبعد منه في حالة جهله قبل أن يقيس . وبُعده الزائد عن الحقّ بمعنى بُعده عمّا يترتّب له على معرفة الحقّ من الثواب ويلزمه ما يترتّب من العقاب ، على أنّ الأبعديّة يمكن تحقّقها باعتبار ماعدا هذا الشقّ وإن انضمّ إليه ، فإنّ ما عداه صورة كثيرة . وفي هذا تأمّل . وقد يقال : إنّ صاحِب القياس لا يصيب الحقّ بالقياس أبداً ، كما نطق به قوله عليه السلام : «إنّ دين اللّه لا يُصاب بالمقاييس» على وجه التأكيد ، فلا يحتاج إلى ما ذكر من التوجيه ، فيكون ذكره جواباً لما لعلّه يقال أو يحتمل . وقد يفرق بين الإصابة والموافقة ، فما اتّفق لصاحب القياس لا يكون إصابة ؛ ولهذا نفى عليه السلام الإصابة به ، والكلام فيما اتّفق له يرجع إلى ما تقدّم وسالك الطريق إلى مكان ليس المراد به التشبيه من جميع الجهات ؛ على أنّه يمكن أن يوجّه بما يقرب من هذا ، وقد تقدّم الكلام في مثله . وتكرار لفظ «المقاييس» والعدول عن الإضمار لنحو ما تقدّم عن قريب ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في حاشية «ألف ، د» : «إن سمع كون مقاييس جمعا لقياس أيضا ، كان هنا جمعا له (منه) » .
2- . انظر الصحاح، ج3، ص967؛ القاموس المحيط، ج2،ص244؛ لسان العرب ، ج6،ص186 (قاس).
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 .
4- . في «ج» : «مثل» .

ص: 429

. .

ص: 430

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ ومحمّدُ بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، رَفَعَه ، عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهماالسلام قالا:«كلُّ بدعةٍ ضَلالةٌ ، وكلُّ ضلالَةٍ سبيلُها إلى النار» .

قوله عليه السلام في حديث الفضل بن شاذان : (كلُّ بِدعَةٍ ضلالةٌ ، وكلُّ ضَلالةٍ سبيلُها إلى النارِ) . كلامه عليه السلام شكل اقتراني من الشكل الأوّل ، ومقدّماته ونتيجته كلّها حقّ ؛ ففائدة العدول عن مثل قوله : «كلّ بدعة سبيلها إلى النار» من أوّل الأمر هي أنّ اللّه سبحانه جعل الطريق الموصل إلى الجنّة طاعته واتّباع سنّة نبيّه صلى الله عليه و آله ، وجعل مخالفتهما طريقاً موصلاً إلى النار ، وهذا حقّ لا شبهة فيه ، فنبّه بقوله : «كلّ بدعة ضلالة» على أنّ المبتدع ضالّ عن طريق الحقّ ، وكلّ من ضلّ عن طريق الحقّ كان سلوكه طريقَ الضلالة سلوكاً لطريق موصل إلى النار ، ففي ذكر كونه ضلالة وأنّ كلّ ضلالة هذا شأنها ما ليس في كلّ بدعة سبيلها إلى النار من وضوح المقصود وسرعة تصوّره والتصديق به وتسليمه ، وإن أمكن استنباط هذا من البدعة ، لكنّه قد يمنع من أوّل الأمر أنّ كلّ بدعة سبيلها إلى النار ، فيحتاج إلى بيانه وإيضاحه بأنّها ضلالة ، وكلّ ضلالة هذا شأنها . وهذا بالنسبة إلى من يحتاج في كلامهم عليهم السلام إلى دليل أو إيضاح ، وإلاّ فكلامهم حجّة وحقّ بأيّ صورة وقع ؛ على أنّ فائدة كون البدعة ضلالة وكلّ ضلالة هذا حكمها (1) لكلّ أحد ولو في الجملة بالنسبة إلى البعض . وفي كون الصغرى كلّيّة دلالة على أنّ كلّ ما يصدق عليه البدعة فهو ضلالة ، ومن لم يجعل كلّ بدعة حراما أو قسّمها إلى الأحكام الخمسة ، كأنّه نظر إلى أنّ المتعارف من البدعة والابتداع في كلامهم عليهم السلام هو ما يتعلّق بالعقائد والاُصول وما يكون ضلالة . والضلالة هنا مشعرة به ، وكذلك سبيلها إلى النار ؛ فتأمّل . وهو إمّا بمعنى سبيل صاحبها ومبتدعها والعامل بها ، أو أنّ إضافة السبيل إلى ضميرها للملابسة ، والمعنى : موصل أو منتهٍ إلى النار . وقد يؤيّد الأوّل ما يأتي في حديث آخر : «وكلّ ضلالة في النار» (2) ، ولكن لاينافي الوجه الثاني . وكيف فسّرت البدعة فليس منها ما رجع إلى قواعد مأخوذة من الكتاب ومن كلامهم عليهم السلام ، وما وقع فيه الخطأ فهو من تقصير أو سهو ، فيجب التحفّظ لئلاّ يقع في البدعة أو ما يشبهها ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : «شأنها» .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 56 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 12 .

ص: 431

. .

ص: 432

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمّد بن حكيم ، قال :قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام : جُعلتُ فداك ، فُقِّهْنا في الدين وأغْنانا اللّه بكم عن الناس ، حتّى أنَّ الجماعةَ منّا لتكون في المجلس ما يسأل رجلٌ صاحبَه تَحضُرُه المسألةُ ويَحضره جوابُها

[قوله :] في حديث محمّد بن حكيم : (قال : قلتُ لأبي الحسن موسى عليه السلام : جُعِلتُ فداك ، فُقِّهْنا في الدين وأغْنانا اللّه ُ بكم عن الناس ، حتّى أنّ الجَماعةَ منّا لَتَكونُ في المجلسِ ما يَسألُ رجلٌ صاحبَه تَحضُرُه المسألةُ ويَحضُرُه جوابُها فيما مَنَّ اللّه ُ علينا بكم ، فربما وَرَدَ علينا الشيءُ لم يَأتِنا فيه عنك ولا عن آبائك شيءٌ ، فَنَظَرْنا إلى أحسنِ ما يَحضُرُنا وأوفَقِ الأشياء لما جاءنا عنكم ، فنأخُذُ به؟ فقال : «هيهاتَ هيهاتَ ، في ذلك واللّه هَلَكَ من هَلَكَ يابن حكيم» . ثمّ قال : «لَعَنَ اللّه ُ أبا حنيفةَ ، كان يقول : قال عليٌّ وقلتُ» . قال محمّدُ بن حكيمٍ لهشامِ بن الحَكَمِ : واللّه ِ ما أرَدْتُ إلاّ أن يُرَخِّصَ لي في القياسِ) . كلام الراوي في هذا الحديث لا يخلو من تعقيد ، والأمر سهل حيث إنّه ليس من كلام المعصوم . والذي خطر لي في توجيهه أنّ قوله : «ما يسأل رجل صاحبه تحضره المسألة ويحضره جوابها» ، «ما» فيه إمّا شرطيّة ، نحو قوله تعالى : « وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ » (1) ف_ «يسأل» مجزوم فعل الشرط ، و«يحضره» الجواب ، والمعنى : إذا سأل رجل صاحبه مسألة يحضر ذلك الصاحب تلك المسألة وجوابها ؛ أو زمانيّة بمعنى مادام ، أي مادام يسأله يحضره المسألة وجوابها ، نحو قوله تعالى حكايةً : « إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الاْءِصْلَ_احَ مَا اسْتَطَعْتُ » (2) . ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون «ما» نافية ، فيكون «ما يسأل رجل صاحبه» كلاماً مستقلاًّ ، وكذا «يحضره المسألة ويحضره جوابها» . وفي حديثٍ ما يؤيّد هذا ، وكان الأوّل أنسب بالسياق ؛ واللّه أعلم ، فتأمّل . ويحتمل بعيداً أن تكون موصولة ، والمعنى : الذي يسأل رجل صاحبه عنه تحضره إلخ .

.


1- . البقرة (2) : 197 .
2- . هود (11) : 88 .

ص: 433

فيما مَنّ اللّه ُ علينا بكم ، فربّما وَرَدَ علينا الشيءُ لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شيءٌ ، فنظَرْنا إلى أحسنِ ما يَحضرُنا وأوفَقِ الأشياء لما جاءنا عنكم ، فنأخذ به؟ فقال : «هيهاتَ هيهاتَ ، في ذلك واللّه هَلَكَ من هَلَكَ يا ابْنَ حكيم» . قال : ثمَّ قال :

وقوله : «فيما مَنّ اللّه علينا بكم» يحتمل أن يكون «ممّا» فحرِّف . وعلى ما في الكتاب معناه : يسأله حال كون المسؤول كائناً أي داخلاً في جملة ما منّ اللّه علينا بسببكم ، أو تحضره المسألة والجواب الكائنان أو كائنين على الصفة أو الحال فيما مَنّ اللّه ، أو بتقدير مبتدأ ، أي وذلك كائن فيما منّ اللّه . والأصل : فيما مَنّ اللّه علينا به بكم ، فحذف «به» إمّا لاجتماعه مع «بكم» أو لغير ذلك ، وهو جائز ؛ ويأتي في حديث يونس : «وذلك ممّا أنعم اللّه به علينا بكم» (1) . وقوله : «فنظرنا إلى أحسن ما يَحضرنا» يمكن أن يكون المراد به العمل فيه بالرأي والاستحسان بمعنى : نظرنا إلى ما تحسنه عقولنا ويقتضيه رأينا على أحسن وجه . «وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم» إشارة إلى القياس والعمل به . وقوله : «بعد ما أردتُ إلاّ أن يرخِّصَ لي في القياس» لاينافي إرادة ما ذكر من الرأي والاستحسان ، فإنّه قد يذكر الشيء المراد في ضمن أشياء اُخر ، ويحتمل إرادة القياس من مجموع ذلك،لموافقة هذا الكلام لما يأتي من إرادة القياس فقط من نحو هذا الحديث ، حيث قال فيه : «وعندنا ما يشبهه فنقيس على أحسنه» (2) ؛ ولعلّه أظهر .

.


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 57 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 13 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 57 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 13 .

ص: 434

«لَعَنَ اللّه ُ أبا حنيفَةَ ، كان يقول : قال عليٌّ ، وقلتُ» . قال محمّد بن حكيم لهشام بن الحكم : واللّه ِ ما أردتُ إلاّ أن يُرَخِّصَ لي في القياس .

محمّد بن أبي عبداللّه ، رَفَعَه ، عن يونس بن عبدالرّحمن ، قال :قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام : بما اُوَحِّدُ اللّه َ؟ فقال : «يا يونس ، لا تكونَنّ مُبتدِعا ، مَن نَظَرَ برأيه هَلَكَ ، ومن تَرَكَ أهلَ بيت نبيّه صلى الله عليه و آله ضَلَّ ، ومن تَرَكَ كتابَ اللّه ِ وقولِ نبيّه كَفَرَ» .

وقوله عليه السلام : «لعن اللّه أبا حنيفة ، كان يقول : قال عليّ وقلتُ» يعني أنّه كان يقول قولاً يخالف قول عليّ عليه السلام ، وما يخالفه لا يكون إلاّ من باب الرأي والقياس والاستحسان ونحوه ، وهو قرينة على أنّه عليه السلام رَدّ كلام السائل الدالّ على جميع ما ذكر أوّلاً ، لا القياس وحده . ويمكن أن يكون الردّ لكلّ ما دلّ عليه كلامه ، وإن لم يكن مراده إلاّ القياس والسؤال عنه بمقتضى ظاهر قوله : «واللّه ما أردتُ إلاّ أن يُرخّص لي في القياس» . والحديث ظاهر في تعلّقه بالنهي عن القياس أو ونحوه ممّا لا يقول به الإماميّة . والمتكلّم ب «قال محمّد بن حكيم» يحتمل أن يكون ابنَ أبي عمير الراويَ عنه ، وهو الظاهر . واحتمال أن يكون من المصنّف رحمه اللّه بعيدٌ ممكنٌ ، واحتمال أن يكون من قول محمّد بن حكيم أبعد ، والإتيان ب_ «ذلك» في قوله عليه السلام : «في ذلك» لبعد المشار إليه عن الحقّ وإرادة البعد عنه ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام بعد قول يونس بن عبدالرحمن له : بما أُوَحِّدُ اللّه َ؟ : (يايونسُ ، لا تَكونَنَّ مُبتَدِعاً ، مَن نظَر برأيه هلَك ، ومَن ترك أهلَ بيتِ نبيّه صلى الله عليه و آله ضَلَّ ، ومَن ترَك كتابَ اللّه ِ وقولَ نبيّه كَفَرَ) . «ما» الاستفهاميّة إذا دخل عليها حرف الجرّ تحذف ألفها للفرق بين الاستفهام والخبر ، وقد تثبّت نادراً ، كقراءة عكرمة وعيسى : «عمّا يتساءلون» (1) وضرورةً كقوله : «على ما قام يشتمني لئيم» (2) . وقيل : في قوله تعالى : « بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى » (3) أنّها استفهاميّة . وممّن جوّزه الزمخشري ، وعن جماعة منهم الفخر الرازي أنّها للاستفهام التعجّبي في قوله تعالى « فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ » (4) حكى هذا كلّه في المغني (5) . وإثبات ألفها في الحديث كثير ، ولكن لا يحضرني وقوعها في كلام الإمام عليه السلام ، فإن ثبت فهو حجّة على من أنكره ، وإن لم يثبت وكان في كلامه المنسوب إليه لا على وجه التحقيق فيمكن أن يكون من تحريف النسّاخ ، أو نقلاً بالمعنى ، أو غفلة من الراوي ؛ والأمر سهل على كلّ حال بعد وقوعه وثبوته . ومعنى الحديث _ واللّه أعلم _ أنّ يونس لمّا سأل الإمام عليه السلام : «بأيّ شيء يوحَّد اللّه ؟» أجابه بما يدلّه على التوحيد وغيره ممّا يجب على المكلّف ، فقوله عليه السلام : «لا تكوننّ مبتدعاً» معناه : لا تكوننّ من أهل البدع الذين يتّبعون آراءهم وأهواءهم في التوحيد وغيره ، وكلّ شيء لم يكن من طريق السنّة فهو بدعة ، سواء كان توحيداً أم غيره . ثمّ ذكر عليه السلام ما حاصله أنّ أهل البدع لا يخرجون عن هذه الأقسام : الأوّل: من نظر برأيه، وكان المراد به من أراد معرفة اللّه برأيه بقرينة لفظ «نظر» وكونه جواباً عن التوحيد . ويحتمل عمومه لما يشمل النظر في معرفة اللّه وغيره . والثاني : قوله عليه السلام : «ومن ترك أهل بيت نبيّه» ، وكان المراد به من ترك الاقتداء بهم فيما سألت عنه من التوحيد وغيره ، فهو ضالّ عن طريق الهدى ، فإنّ أخذ التوحيد بمجرّد النظر مهلكٌ ، وكذا غيره . وفيه دلالة على أنّ كلّ مخالف لهم عليهم السلام في الاُصول والفروع ضالّ ، وأنّه لا يسمّى كافراً بحسب الظاهر ، أو لا تجري عليه أحكام الكفّار في الدنيا ، وإن كان من أهل الضلالة والعذاب في الدنيا والآخرة ، إلاّ أن تؤدّي مخالفته لهم إلى الكفر . والثالث : من ترك كتاب اللّه وقول نبيّه . وهذا القسم من الابتداع كفرٌ . وظاهر الترك أنّه ترك العمل بهما واتّبع غيرهما من رأيه ونحوه إمّا غير معتقد لهما ، أو متهاوناً بهما ، فإن ترك الإنسان شيئاً يجب عليه التمسّك به (6) وأنّه من ضروريّات دينه ، واتّباع غيره لا يخرج عن القسمين ؛ وكلاهما كفرٌ ، أمّا مع اعتقاده ما يخالفهما فظاهرٌ ، وأمّا مع التهاون والاعتناء بالغير المخالف فيؤول إلى هذا . ولا يدخل الجاهل ؛ لإخراجه بلفظ «الترك» وإن كان قد يدخل في غير هذا الحكم . ولو حمل على ما يتعدّى القسمين ونحوهما يكون المراد بالكفر ماهو أعمّ من الكفر الخاصّ ، كما وقع كثيراً وَصْف من فعل شيئاً لا يوجب الكفر الخاصّ بالكفر . ويحتمل أن يكون الجواب جميعه متعلّقاً بالتوحيد ، وما يتبعه من الاُصول الدينيّة أو الفروع مستفادة من آخر الحديث ، فالمعنى حينئذٍ : من نظر برأيه في توحيد اللّه وصفاته وما يتعلّق بذلك هَلَكَ ، ومن ترك أهل بيت نبيّه ، أي ترك اعتقاد إمامتهم _ وإن كان موحّداً بما لا يخرج به إلى الابتداع والرأي _ فهو حينئذٍ ضالّ ، ومن ترك الكتاب وقول النبيّ المتعلّقين بالاُصول فهو كافر خاصّ ، أو بالاُصول والفروع فهو كافر عامّ ، أو الفروع فهو عامّ خاصّ . بقي احتمال آخر ، وهو أن يكون المعنى : من نظر برأيه هلك ، وإن كان معتقداً في أهل بيت النبي وأنّهم أئمّة ، وإن كان معتقداً لما في الكتاب ولقول النبيّ صلى الله عليه و آله ، ومن ترك اعتقاد إمامة أهل بيت النبيّ فهو ضالّ وإن اعتقد الكتاب وقول النبيّ ، ومن ترك الكتاب وقول النبيّ _ بمعنى عدم اعتقادهما _ فهو كافر . ويمكن حمل الكلام على إطلاقه في الجميع ، ومضمون الجميع ذمّ العمل بالرأي وترك الاعتماد على ما ذكر ؛ لأنّه يؤدّي إلى هذه الأشياء ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . النبأ (78) : 1 .
2- . مجمع البيان ، ج 1 ، ص 238 ؛ تفسير القرطبي ، ج 13 ، ص 200 ، مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 299 .
3- . يس (36) : 27 .
4- . آل عمران (3) : 159 .
5- . مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 300 .
6- . في «ج» : : - «به» .

ص: 435

. .

ص: 436

. .

ص: 437

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الوشّاء،عن مُثنّى الحَنّاط، عن أبي بصير، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : تَرِدُ علينا أشياءُ ليس نَعرِفُها في كتاب اللّه ، ولا سنّةٍ ، فنَنظرُ فيها؟

[قوله :] في حديث أبي بصير : (قال : قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : تَرِدُ علينا أشياءُ ليس نَعرِفُها في كتاب اللّه (1) ولا سنّةٍ فنَنْظُرُ فيها؟ فقال : لا ، أما إنّك إن أصَبْتَ لم تُؤجَرْ ، وإنْ أخطأتَ كَذَبْتَ على اللّه عزّ وجلّ) . المراد _ واللّه أعلم _ أنّ الأشياء التي ترد عليهم لا يفهمونها من الكتاب وإن كان فيه تبيان كلّ شيء ، ولم يصل إليهم من طريق السنّة ما يستدلّ به عليها . وقوله «فننظر فيها» بمعنى أنّه يجوز لنا أن نعمل نظرنا فيها بنحو القياس والرأي أو بما يفعله أهل النظر ، أو لا؟ فالكلام استفهام بتقدير همزته ، والجواب ب_ «لا» قرينة عليه ، والإخبار لايناسب المقام ، والمناسب له إضافة شيء آخر إلى لفظ «لا» . ويبعد من أبي بصير _ إن كان الثقةَ _ وقوعُه على وجه الإخبار والسؤال ، والإخبار أيضاً يتضمّن السؤال ، لكن بمعنى : هل ما فعلناه حقّ أم لا ؟ وبالجملة ، فلا وجه للإخبار هنا .

.


1- . في «ألف ، د» : - «اللّه » .

ص: 438

فقال : «لا ، أما إنّك إن أصَبْتَ لم تُؤْجَرْ ، وإن أخْطَأتَ كذبتَ على اللّه عزّ وجلّ» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم ، عنص 57 عُمرَ بن أبانٍ الكلبيّ ، عن عبدالرحيم القصير ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : كلّ بِدعةٍ ضَلالةٌ ، وكلّ ضَلالةٍ في النار» .

عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبيد ، عن يونس بن عبدالرحمن ، عن سَماعة بن مِهران ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال :قلت : أصلحك اللّه ُ، إنّا نَجتمعُ فنتذاكَرُ ما عندنا ، فلا يَرِدُ علينا شيءٌ إلاّ وعندنا فيه شيءٌ مُسَطَّرٌ ، وذلك ممّا أنعمَ اللّه ُ به علينا بكم ، ثمّ يَرِدُ علينا الشيءُ الصغيرُ ليس عندنا فيه شيءٌ ، فيَنظُرُ بعضُنا إلى بعضٍ ، وعندنا ما يُشْبِهُهُ ، فنقيسُ على أحسنه؟ فقال : «وما لكم وللقياس؟ إنّما هَلَك مَن هَلَكَ مِن قبلِكم بالقياس» ثمّ

وقوله عليه السلام : «لا» معناه : لا تفعل هذا ، فإنّك إن أصبت برأيك وقياسك وجهَ الحقّ ، بمعنى صادفته واتّفق لك (1) ، لم تؤجر على هذه المصادفة ؛ من حيث إنّك أخذته من غير الوجه الذي اُمرت بأخذه منه ، وعدم الأجر لاينافي ثبوت العقاب بدليل آخر ، أو نخصّ (2) هذا بما يفعله جاهلاً ، أو بما لا يترتّب عليه ما يترتّب على كونه أحد الثلاثة الذين في النار ، ونحو ذلك ممّا يناسب الجمع . وقوله عليه السلام : «وإن أخطأت كذبت على اللّه » مجمل بالنسبة إلى وقوع الكذب وما يترتّب على الكذب على اللّه ، وكأنّه ترك إمّا لعلم حكم العمد منه وغيره ، وإمّا للاكتفاء به في الردع ونحو ذلك ، مع أنّ هذا غير مقامه إلاّ لقصد زيادة الردع ، وأبو بصير يكفيه هذا المقدار ، وذمّ أصحاب المقاييس في الحديث السابق ظاهر في أنّهم استعملوها مع العلم ، أو لأنّهم فعلوها فاستحقّوا الذمّ المتقدّم لذلك ، والسائل لم يفعل ؛ فالمقامان متفاوتان ، واللّه أعلم . [قوله :] في حديث سَماعة بن مِهران : (ثمّ يَرِدُ علينا الشيءُ الصغيرُ ليس عندنا فيه شيءٌ ، فينظرُ بعضُنا إلى بعضٍ ، وعندنا ما يُشْبِهُهُ ، فنَقيسُ على أحسَنِه؟ فقال : «ومالكم وللقياس؟ إنّما هَلَكَ من هَلَكَ من قَبْلِكم بالقياسِ») . حاصل كلام الراوي أنّه يرد علينا الشيء السهل الذي لم يصل إلينا فيه شيء عنكم ، و«الصغير» عبارة عن كونه ليس من الاُمور المهمّة المشكلة التي يترتّب عليها ما يترتّب على غيرها من الأحكام ، ومع كونه صغيرا نحتاط فيه ونقيسه على ما هو أشدّ مناسبة به وربطاً ، فأجابهم عليه السلام بأنّه لا يجوز لهم القياس في هذا ولا في غيره بقوله : «ومالكم والقياس» بمعنى أي شيء ثبت لكم وللقياس بحيث يجمعكم معه في هذا الفعل ما يسوغ لكم العمل به ، إنّما هلك من هلك قبلكم بالقياس . والظاهر أنّ المراد بمن قبلهم إبليس باعتبار «قبلكم» ولا يحضرني من قاس من الاُمم الماضية ليكون مشاركاً لإبليس في الهلاك ، فإنّ «من قبلكم» قد يشعر بغير إبليس أيضاً . ويحتمل أن يكون المراد أبو حنيفة وأضرابه ، أو هم مع إبليس ، والقبليّة للمخاطبين . وهذا على تقدير أن يكون «قَبْل» بفتح القاف ، فسكون الموحّدة ، كما هو الظاهر . ويحتمل أن يكون بكسر القاف وفتح الموحّدة ، بمعنى : جهتكم وناحيتكم ، ويكون المراد به من استعمل القياس في جهتهم ؛ ف_ «من» حرف جرّ على التقديرين ، ويحتمل بعيداً الموصوليّة والبدل فيهما . وفي التعبير ب_ «هلك من هلك»تفضيع بتكرير الهلاك، وزيادة زجر عن القياس.

.


1- . في «ج» : + «ذلك» .
2- . في «ب ، ج » : «يخصّ» .

ص: 439

قال : «إذا جاءكم ما تَعلمون ، فقولوا به ، وإن جاءكم مالا تَعلمون فها» وأهوى بيده إلى

قوله عليه السلام فيه : (وإنْ جاءَكم مالا تَعلمونَ فها ، وأهوى بيده إلى فِيه) . معناه _ واللّه أعلم _ : فها هو هاهنا فخذوه منه ، أو فخذوه من هاهنا ، ويحتمل أن يكون إشارة إليهم ان اسكتوا إذا لم تعلموا ولا تنطقوا به . والأوّل أظهر ، فإنّ هذا يستعمل في مثل التقيّة ، وما بعده من لَعْن أبي حنيفة قد ينافي التقيّة ، اللهمّ إلاّ أن يكون عرض ما يقتضيها ، أو كان ثمّ زال . وقد يؤيّده دلالة «ثمّ» على التراخي في لعن أبي حنيفة ، وإن كانت السابقة في قوله : «ثمّ قال : إذا جاءكم ما تعلمون ...» ظاهرها غير التراخي مع احتماله . والأوّل أيضاً يحتمل التقيّة ، وهو الإشارة إلى أخذه من فيه عليه السلام .

.

ص: 440

فيه ، ثمَّ قال : «لَعَنَ اللّه ُ أبا حنيفةَ ، كان يقول : قالَ عليٌّ وقلتُ أنا ، وقالت الصحابة وقلت» ثمَ قال: «أكُنْتَ تَجلسُ إليه؟» فقلتُ: لا، ولكن هذا كلامُه. فقلت: أصلَحَكَ اللّه ُ، أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله الناسَ بما يَكتفون به في عهده؟ قال : «نعم ، وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة» . فقلت : فضاعَ من ذلك شيء؟ فقال : «لا ، هو عند أهلِه» .

عنه ، عن محمّد ، عن يونس ، عن أبان ، عن أبي شيبةَ ، قال :سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «ضَلَّ عِلْمُ ابن شُبْرُمَةَ عند الجامعة ، إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخطّ علي عليه السلام بيده ، إنَّ الجامعة لم تَدَعْ لأحد كلاما ، فيها علمُ الحلالِ والحرامِ ، إنّ أصحابَ القياس طَلَبوا العلمَ بالقياس ، فلم يَزدادوا من الحقّ إلاّ بُعدا ، إنَّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ بالقياس» .

قوله عليه السلام فيه : (لَعَنَ اللّه ُ أبا حنيفةَ ، كان يَقولُ : قال عليٌّ وقلتُ (1) ، وقالِت الصحابةُ وقلتُ) . معناه أنّه كان يقول بخلاف قول عليّ عليه السلام وبخلاف قول الصحابة ، مع أنّ كلامهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وكلامه عن رأيه وقياسه ، وهذا الذي يقتضيه المقام واللعن ، لا أنّ قولهم كان بدعواه عن اجتهاد كاجتهاده . (ثمّ قال : أكُنْتَ تَجلسُ إليه؟ فقلت : لا ، ولكن هذا كلامُه) أي هذا الذي ذكرته من قوله : «قال عليّ ... » كلام أبي حنيفة . وقوله عليه السلام فيه : (فقال : لا ، هو عند أهله) معناه : ما ضاع منه شيء ، ولكنّه محفوظ عند أهله ، وهم الأئمّة عليهم السلام ، وهو ظاهر . قوله عليه السلام في حديث أبي شيبة : (ضَلَّ علمُ ابن شُبْرُمَةَ عند الجامعة) . يأتي في باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة : قلت : جعلت فداك وما الجامعة؟ قال : «صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإملاؤه من فلق فيه وخطّ عليّ بيمينه ، فيها كلّ حلال وحرام وكلّ شيء يحتاج الناس إليه حتّى الأرش في الخدش» (2) . وفي حديث آخر من الباب : «طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم مثل فخذ الفالج» الحديث (3) . وفي القاموس : «الفالج» : الجمل الضخم ذوا السنامين يُحمل من السِنْد للفحلة (4) .

.


1- . في الكافي المطبوع : + «أنا» .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 239 ، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر و ... ، ح 1 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 241 ، باب فيه ذكر الصحفية والجفر و ... ، ح 5 .
4- . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 203 (فلج) .

ص: 441

محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إنّ السنّةَ لا تُقاسُ ،

قوله عليه السلام في حديث أبان بن تغلب : (إنّ السنّةَ لا تُقاسُ ، ألا ترى أنّ المرأةَ تَقضي صومَها ولا تقضي صلاتَها ؟ ياأبان ، إنّ السنّةَ إذا قيسَتْ مُحِقَ الدينُ) . الذي يظهر أنّ معنى كلامه عليه السلام _ واللّه أعلم _ بيان أنّ وجه الحِكمة في أحكامه تعالى ونحوها لا تدركه العقول ليؤخذ بالقياس ، وإذا لم يعلم وجه الحكمة من جهة العقل فقياس شيء على شيء غير معقول ؛ لأنّ كلّ واحد من المقيس والمقيس عليه مع عدم العلم بوجه كلّ واحد منهما إلاّ من جهة الشرع ، كيف يحكم عليه بحكم يتحقّق ويحصل بمجرّد القياس ، مع أنّا نرى أشياء مع اختلافها قد تتّفق في الحكم ، ومع اتّفاقها قد تختلف فيه ؛ فكيف مع ذلك يجوز لنا أن نقيس شيئاً لم نعلم حُكمه على شيء علمنا حُكمه ولم نعلم وجه الحِكمة (1) فيهما (2) .

.


1- . في «ب» : «الحكم» .
2- . في «ج» : «فيها» .

ص: 442

ألا تَرى أنّ المرأة تَقْضِي صومَها ولا تَقضي صلاتَها ؛ يا أبانُ ، إنّ السُنَّةَ إذا قيسَتْ مُحِقَ الدينُ» .

عدّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن عثمان بن عيسى ، قال :سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن القياس ، فقال : «ما لكم والقياسَ ، إنّ اللّه لا يُسألُ كيف أحَلَّ وكيف حَرَّم» .

وقوله عليه السلام : «ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها» تنبيهٌ للسامع وغيره واستدلالٌ به على بطلان القياس ونقضه بأنّه لو كان حقّاً وعَلِمْنا حكم الشارع بقضاء الصوم دون أن نعلم حكم قضاء الصلاة أو بالعكس ، كان مقتضى القياس الحكمَ بقضائهما معاً ، ولو لم نعلم حكمهما معاً ، كان مقتضى القياس قضاءهما معاً ، قياساً على قضاء مافات المكلّف إن وجب القضاء بأمر جديد ، أو عدم قضائهما معاً إن كان فرعَ الأداء ، فحكمه تعالى بقضاء الصوم دون الصلاة دليلٌ على بطلان القياس . ولو أردتَ ترتيبه قياساً وجدتَه واضحَ المقدّمات واللزوم والنتيجة . ومنصوص العلّة ، مستثنى بالنصّ على العلّة ، وقياس الأولويّة لا يخلو على هذا التوجيه من إشكال . وقد يدفع بالتأمّل ؛ واللّه أعلم . وقوله عليه السلام : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين» وجهه ظاهر بعد ما تقرّر ، وهو استدلال لنفي القياس بمحق الدين ، وتعليلٌ له على وجه التأكيد . قوله عليه السلام في حديث عثمان بن عيسى : (مالكم والقياسَ ، إنّ اللّه لا يُسألُ كيف أحَلَّ وكيف حَرَّمَ) .

تركيب هذه العبارة يحتمل وجهين :أحدهما : أنّ اللّه سبحانه لا يسأل هو ، أي ليس ممّن يُسأل عن وجه تحريمه وتحليله كيف هو؟ ولأيّ شيء هو ؟ والسؤال من غير أنبيائه ورسله ومن يمكنهم سؤاله تعالى لا عبرة به ومحال أن يجابوا عنه ، والأنبياء ونحوهم لا يقع منهم السؤال ؛ لعلمهم بكونه تعالى لا يُسأل عمّا يفعل ، ولأنّ السؤال عن الفعل متضمّن لمعنى التعرّض أو الإنكار ونحوه ممّا يقتضيه السؤال في مثل هذا المقام ، كما في قوله تعالى : « لاَ يُسْ_ئلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْ_الُونَ » (1) . وقولُ الملائكة « أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَآءَ » (2) يمكن تأويله ، وقد يقع السؤال من الأنبياء ونحوهم عن بعض وجوه حكمته تعالى ، لا على الوجه المذكور ، بل السؤال العلم به ، ويمكن أن لا يقع ذلك منهم إلاّ بإذن منه تعالى ؛ وهذا خارج عمّا نحن فيه . الثاني : أنّه لا يسأل أحد عن وجه تحليله وتحريمه بحيث يترتّب على هذا السؤال جواب من المسؤول ؛ لأنّ المسؤول إمّا جاهل ، فلا عبرة بجوابه ، وإمّا عالم ، فلا يجيب بمثله ؛ لأنّه يعلم أنّ الحكيم لا يفعل إلاّ الأشياء المحكمة المتقنة على وجه المصلحة ولا يعلم وجوه حكمته تعالى ، وإن أجاب كان غير عالم . ويمكن أن لا يعتبر معنى الاعتراض ونحوه من السائل ، ويكون المعنى : أنّ اللّه سبحانه ليس ممّن يسأل هو أو غيره : لأيّ شيء حلّلت هذا وحرّمت هذا ؟ أو لأيّ شيء حُلّل هذا وحرّم هذا؟ على وجه طلب معرفته واستفادته ؛ لأنّ حكمته تعالى أمر عظيم لا تسعه عقول البشر ، فلا يترتّب على السؤال فائدة للسائل ، بخلاف غيره تعالى ؛ فإنّه يمكن السؤال منه ومن غيره بحيث إذا أجاب يكون جوابه متضمّناً لما تدركه العقول إمّا بقبول أو ردّ . والتعبير ب_ «كيف أحلّ» دون «كيف أحللت» قد يؤيّد الوجه الثاني ، ولكنّه لاينافي بعدُ التأويلَ الأوّل . ووجه الاستدلال بذلك على بطلان القياس أنّه إذا كان تعالى لا يُسأل كيف أحلّ وكيف حرّم _ بأيّ معنى اعتبر _ كان كلّ ما يفعله بمقتضى حكمته تعالى ، ووجوه حكمته لا تدركها العقول ، لتحكم بتماثل ما يظهر لها اتّفاقُه فتقيس بعضه على بعض ، ولا باختلافه ، فلا تعمل فيها القياس . ولا يمكن معرفتها من سؤاله فيتخيّل فيها إجراء القياس ولا تقدر على إنكار ما فعل ، فلا يعترض عليه تعالى بالسؤال بكيف حلّلت هذا وحرّمت هذا؟ لإرادة إظهار وجههما ، ولا يُسال بوجه آخر ممّا تقدّم . وهذا بخلاف غيره تعالى ، فإنّ العقول غالباً ما يتّفق على وجه صحّة فعله وفساده ، والفرض أنّ الفاعل من العقلاء ، فإذا كان ممّن يُسأل عن فعله : لِمَ فعلت هذا ، ولم فعلت هذا؟ أمكن القياس في فعله ؛ لأنّه إذا صدر منه فعلٌ وكان عاقلاً وعرف وجهه بقوله الموافق للعقل أو بالعقل ، أمكن قياس فعل آخر صدر منه عليه ، فمفهوم كلامه عليه السلام يدلّ على أنّ من يُسأل : كيف أحلّ وكيف حرّم؟ يمكن أن تقاس أفعاله بعضُها على بعض ؛ لأنّه يُسأل : كيف فعل هذا وكيف فعل هذا؟ ومنطوقه أنّه تعالى لا يجرَى القياس في أحكامه ؛ لأنّه لا يُسأل : كيف أحلّ وكيف حرّم ؟ . والحاصل : أنّ من يُسأل عن علّة التحريم والتحليل ، يمكن إجراء القياس في أفعاله ، واللّه تعالى لا يُسأل عن علّة ذلك ، ولا تعلم العلّة بالعقل ، فلا يجرى القياس في أفعاله ؛ لأنّ القياس ممكن مع معرفة العلّة والوجه ، لا مع جهلهما ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . الأنبياء (21) : 23 .
2- . البقرة (2) : 30 .

ص: 443

. .

ص: 444

عليُّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مَسعدةَ بن صدقة ، قال :حدّثني جعفرٌ ،ص 58 عن أبيه عليهماالسلام : «أنَّ عليّا _ صلوات اللّه عليه _ قال : مَن نَصَبَ نفسَه للقياس، لم يَزَلْ دهرَه في التِباسٍ ، ومن دانَ اللّه َ بالرأي، لم يَزَلْ دهرَه في ارتماسٍ» .

قوله عليه السلام في حديث مسعدة بن صدقة : (من نَصَبَ نفسَه للقياس لم يزل دَهْرَه في التباس ، ومن دانَ اللّه َ بالرأي لم يزل دهرَه في ارتماس) . «دهره» في الموضعين نصب على الظرفيّة ، ويحتمل الرفع على أنّه اسم «يزل» من باب : نهاره صائم وليله قائم . ومناسبة الالتباس بالقياس (1) من حيث إنّه قد يعلم في الجملة ماهو من أحكام اللّه تعالى وهو المقيس عليه ، فهو مادام ناصباً نفسه للقياس يلبس الحقّ بالباطل ، فيجعل الباطل المقيس كالحقّ المقيس عليه ، فهو دهرَه يلبس الحقّ بالباطل ، فيلتبس أحدهما بالآخر ، أو أنّه يأتي بالباطل في لباس أنّه حقّ ، فيلتبس به ، فهو دائماً واقع في هذا الالتباس وفي إثمه وسبب عقابه مادام ناصباً نفسه للقياس ، أو من حيث إنّه إذا قاس شيئاً بشيء قد يجد مقيساً عليه آخر ، فلا يدري على أيّهما يقيسه ، فهو في التباس بهذا المعنى . ومن دان اللّه بالرأي كان دائماً مرتمساً في الذنوب والباطل ، لا يخرج منها مادام كذلك ، ولا يكون أمره مشوباً بحقّ كالذي يقيس ، فإنّ هذا يدين اللّه بالرأي ، فهو كمن يرتمس في الماء ونحوه ، ولا يبرز من بدنه شيء منه ؛ لأنّ الرأي لا حقّ فيه أصلاً ، فناسب ارتماسه دائماً . وهذه المقامات خطابيّة يمكن الاكتفاء فيها بمثل هذا التوجيه بالنسبة إلى استعمال كلّ من اللفظين في مقامه ، وإن كان معناهما وما يترتّب لفاعلهما باستعمالهما قطعيين لا شبهة فيهما ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «د» : «بالقايس» .

ص: 445

قال : وقال أبو جعفر عليه السلام : «من أفتى الناسَ برأيه، فقد دانَ اللّه بما لا يَعلَمُ ، ومن دانَ اللّه َ بما لا يَعلَمُ ، فقد ضادَّ اللّه َ ؛ حيث أحَلَّ وحَرَّمَ فيما لا يَعلمُ» .

قوله عليه السلام : (من أفتى الناسَ برأيه فقد دانَ اللّه َ بما لا يَعلَمُ ، ومن دانَ اللّه َ بما لا يَعلَمُ فقد ضادَّ اللّه َ حيثُ أحَلَّ وحَرَّمَ فيما لا يَعلَمُ) . نتيجة هذا القياس : من أفتى الناس برأيه فقد ضادّ اللّه (1) . و«حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم» بيانٌ للمضادّة ، واسم الشرط يفيد كلّيّة الكبرى ولو بالقرينة ، وفائدة ترتيبه شكلاً بيان أنّ هذا يعتقد أنّ الإفتاء بالرأي دين اللّه باعتقاده الفاسد ، فنبّه عليه السلام بذكر الحدّ الأوسط على أنّ من دان اللّه بهذا الدين فليس بعامل بدين اللّه ، بل هو مضادّ للّه ؛ لأنّ دين اللّه ينبغي أن يكون بالعلم ، وما كان عن غير علم فهو ضدّ دين اللّه ، فمعنى كونه مضادّا للّه أنّه عامل بخلاف دين اللّه ، وخلاف دين اللّه ضدّ دينه ، والضدّ قد يستعمل بمعنى النقيض والخلاف في الاصطلاح القديم ، على أنّه قد يفرّق بين الضدّ والمضادّة ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ب» : + «بما لا يعلم» .

ص: 446

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ بن يقطين ، عن الحسين بن مَيّاح ، عن أبيه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إنّ إبليسَ قاسَ نفسَه بآدمَ ، فقال :

قوله عليه السلام ، في حديث الحسين بن ميّاح : (إنّ إبليس قاسَ نفسَه بآدمَ ، فقال : خلقتني من نار وخلقتَه من طين ، فلو قاسَ (1) الجوهر الذي خلق اللّه منه آدمَ بالنار ، كان ذلك أكثرَ نوراً وضياءً من النار) . الظاهر أنّ المراد من هذا الحديث وكذا الحديث الآتي _ واللّه أعلم _ بيانُ فساد القياس الذي قاسه إبليس ، ومنه يظهر فساد القياس المتعارف ، وذلك أنّ إبليس _ لعنه اللّه _ قاس نفسه بآدم عليه السلام ، فدلّه قياسه الفاسد على أنّه خير من آدم من حيث خَلْق آدم من الطين وخَلْقه من النار ، وقد أخطأ في القياس ؛ فإنّه لو عرف حقيقة ما خلق منه آدم _ وهو النور الذي هو أشرف من النار وأكثر نوراً وضياء منها _ لعَرَفَ أنّ قياسه معكوس عليه ؛ ولو كان عالماً بخلق آدم من النور فقد خالف ما يعلمه إلى ما جعله دليلاً باطلاً ، فالذي يقيس بغير هذا القياس لا يعلم وجه ماقاسه على ماقاسه عليه . وإذا لم يعلم الوجه ، فمن أين يحصل له العلم بمساواة هذا لذاك أو الظنّ به ؟ فإنّه قد يكون في الواقع التفاوت بينهما كتفاوت النار والنور ، أو لا جامع بينهما أصلاً ، وإذا علم القائس بهذا القياس عدمَ صحّة المقيس بوجه _ كما كان أبو حنيفة يقول : «قال عليّ وقلتُ» _ كان أشدّ فساداً ، فإنّه ترك قول مثل أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا حجّة فوقه إلى نحو رأيه وقياسه . فالمقصود من هذا الحديث _ واللّه أعلم _ بيانُ وجه فساد القياس وإن لم يكن من قبيل قياس أبي حنيفة وأمثاله ، وبه يبطل قياسهم ويظهر وجه فساده .

.


1- . في الكافي المطبوع : «ولو قاس» .

ص: 447

خَلَقتنيمن نار وخلقتَه من طين ، ولو قاسَ الجوهَرَ الذي خَلَقَ اللّه ُ منه آدمَ بالنار ، كانَ ذلك أكثرَ نورا وضياءً من النار» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبيد ، عن يونسَ ، عن حريزٍ ، عن زرارةَ ، قال :سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الحلال والحرام؟ فقال : «حلالُ محمدٍ حلالٌ أبدا إلى

وقوله عليه السلام : «فلو قاس الجوهر ... » بمعنى أنّه لو عرف حقيقتهما ، أو عرف خلق آدم من أيّ شيء هو ، فقاس هذا بهذا ، أو لو قاس الجوهر الذي يعرف أنّ آدم خلق منه بالنار ، لظَهَرَ له فساد قياسه . ف_ «قاس» الثاني إمّا من باب المشاكلة ، وفيه تأمّل ؛ أو لبيان أنّ مثل هذا القياس الذي يعلم فيه وجه المقيس والمقيس عليه قياس حقّ وإن سمّي قياسا ؛ لظهور التفاوت المقتضي لتمييز أحدهما على (1) الآخر ، والفساد ليس لازماً لمجرّد الاسم . وقد يستدلّ به في الجملة على صحّة قياس منصوص العلّة ، فإنّه كما أنّه يظهر التفاوت هنا بسبب معرفة وجههما ، فكذا تظهر المساواة في منصوص العلّة ؛ فتأمّل . وقد يستدلّ به على عدم صحّة قياس الأولويّة المسمّى بمفهوم الموافقة . ويجاب بأنّ شرط قياس الأولويّة معرفة حقيقة الجامع بين المقيس والمقيس عليه ، كالإهانة في قوله تعالى « فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ » (2) الحاصلة من الضرب بطريق أولى ؛ فتأمّل . قوله عليه السلام في حديث زرارة : (حلالُ محمّدٍ حَلالٌ أبداً إلى يومِ القيامةِ ، وحرامُه حرامٌ أبداً إلى يومِ القيامةِ ، لا يكونُ غيرهُ ، ولا يجيء غيرهُ) . لا شبهة في أنّ حلاله صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة ، وكذا حرامه (3) اللذين لم يتغيّرا بنسخ ونحوه في حياته صلى الله عليه و آله وما تغيّر رجل الحلال منه في الحلال ، والحرام في الحرام ؛ وذلك لأنّه لم يأت بعده ما ينسخ شريعته ولا بعضها . وما في بعض الأخبار من أنّ صاحب الأمر عليه السلام يورث بعض من لا يرث ، وهو مضمون حديث في الفقيه (4) ، فعلى تقدير مقاومته للمعارضة ، لا بُعد في أن يكون في شريعته صلى الله عليه و آله ما إظهاره منوطٌ بزمان أحد الأئمّة عليهم السلام كصاحب الأمر ، فيكون هذا مستثنى كاستثناء ما نسخ في وقته صلى الله عليه و آله ، وإن كان هذا الكلام بعد زمانه . والمقام مقام الردّ على من يحلّل الحرام ويحرّم الحلال من غير أن يكون ذلك مستنداً إليه . فحاصله أنّ حلاله لا يجوز لأحد تحريمه من غير تحريم يرجع إليه عليه السلام ، وكذا حرامه ؛ ونحوه ما كانوا عليهم السلام يتكلّمون به على وجه التقيّة ، فإنّه برخصة من اللّه سبحانه ومنِّه . وبالجملة ، فهم ولاة الأمر ، فما يفعلونه له وجه صحيح وغير داخل في تحليل الحرام وتحريم الحلال الممنوع من غيرهم . أو يقال : إنّ ذاك الحديث مخصّص لمضمون هذا ، ومرجعه إلى الأوّل ، وكيف كان فليس فيه تغيير لشريعته .

.


1- . كذا . والأنسب : «عن» .
2- . الإسراء (17) : 23 .
3- . في حاشية «ألف ، د» : «أي وأنّ حرامه كذا ؛ فيصحّ نصب اللذين (منه) » .
4- . الفقيه ، ج 4 ، ص 333 ، باب ميراث من لا وارث له .

ص: 448

يوم القيامة ، وحرامُه حرامٌ أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكونُ غيرُه ولا يجيءُ غيرُه» .

وقوله عليه السلام : «لا يَكونُ غيرُه ولا يَجِيءُ غيرُه» ظاهر معناه أنّه لم يأت من قِبَلِ اللّه سبحانه تحريم الحلال وتحليل الحرام بعد تحليله وتحريمه ، وما يفعله صاحب الأمر عليه السلام لم يكن ولم يجئ بعده صلى الله عليه و آله الأمر به ، وما يفعله غيرهم عليهم السلام من التحليل والتحريم ، لم يكن عن اللّه من النبيّ صلى الله عليه و آله ولا بعده . وبالجملة ، فما علم من حلاله وحرامه لا يجوز العمل بخلافه ، والخلاف الواقع بين علمائنا _ رضوان اللّه عليهم _ باعتبار اختلاف مأخذه ظاهر ، أو ظنّ كلّ أحد أنّ ما ظنّه حلاله وحرامه ونحو ذلك ، وإلاّ فأيّ عاقل يجترئ على خلاف ما علم تحريمه وتحليله ، إلاّ أن يكون مخالفاً تبع هواه ورأيه . والحديث كأنّه في مقام الذمّ لمن ترك معرفة الحلال والحرام منهم عليهم السلام ، وتبع قياسه وهواه ورأيه التي بها يحرّم حلاله عليه السلام ويحلّل حرامه ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 449

وقال : «قال عليُّ عليه السلام : ما أحدٌ ابْتَدَعَ بِدعةً إلاّ تَرَكَ بها سُنّةً» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمدَ بن عبداللّه العقيليّ ، عن عيسى بن عبداللّه القُرَشيّ،قال:دَخل أبوحنيفةَ على أبي عبداللّه عليه السلام ، فقال له: «يا أباحنيفةَ، بلَغني أنّك تَقيسُ؟»

قوله عليه السلام : (ما أحدٌ ابْتَدَعَ بِدعةً إلاّ ترَك بها سُنّةً) . يأتي في الباب الذي بعد هذا أنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه الناس إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّة ، وهو ترجمة لما في الباب ، فجميع البدع داخلة تحت الحرام ، فكلّ من ابتدع بدعة فقد ترك بسببها سنّة ، ولو باعتبار أنّ ترك الحرام من السنّة ، ففاعل البدعة قد ترك بها ترك الحرام بالنسبة إليها ، وقد يكون خلافها بخصوصه سنّة ، فارتكاب البدعة ترك للسنّة ، وما خرج عن هذا القسم يدخل تحت الأوّل إن فرض خروج شيء ليتمّ العموم ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام لأبي حنيفة حين دخل عليه : (يا أبا حنيفةَ ، بلغني أنّك تَقيسُ؟ قال : نعم ، قال : لا تَقِسْ ، فإنّ أوّلَ من قاسَ إبليسُ حينَ قال : « خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُو مِن طِينٍ » (1) فقاسَ ما بينَ النارِ والطينِ ، ولو قاسَ نُورِيَّةَ آدمَ بنوريّةِ النارِ ، عَرَفَ فَضْلَ ما بينَ النورينِ ، وصَفاءَ أحَدِهما على الآخَرِ) .

.


1- . الأعراف (7): 12؛ ص (38): 75.

ص: 450

قال : نعم ، قال : «لا تَقِسْ ، فإنَّ أوّلَ من قاسَ إبليسُ حين قال : خلقتَني من نار وخلقتَه من طين ، فقاسَ ما بين النار والطين ، ولو قاسَ نوريّةَ آدمَ بنوريّة النار عَرَفَ فَضْلَ ما بين

قوله عليه السلام «لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس» معناه _ واللّه أعلم _ : لا تفعل هذا الفعل الذي أوّل من فعله واخترعه إبليس ، ومن فعل كفعل إبليس كان مثله . ولا شبهة في أنّ هذا الفعل كان من إبليس فعلاً شنيعاً باطلاً ، كيف وقد جعله دليلاً على ترك طاعة اللّه سبحانه ، وحجّةً له على اللّه ، وما كان بهذه المرتبة كان من فعل مثله مشابهاً له وجاعله أمامه ومقتداه ؛ فما أشبهه بإبليس وأشبه من كان يجب عليه اتّباعهم والانقياد إليهم بآدم ، عليهم جميعاً سلام اللّه . والنور الموصوف بالنوريّة هو الجوهر المتقدّم في الحديث السابق . والقياس في الحديث السابق للجوهر بالنار وهنا لنوريّة أحدهما بنوريّة الآخر ، ولا منافاة بينهما ، فإنّه لو فعل كلاًّ منهما لظهر له التفاوت وخطاؤه في قياسه . لا يقال : إنّ قوله عليه السلام : «ولو قاس ...» يدلّ على صحّة القياس في الجملة . لأنّا نقول : إنّه عليه السلام بصدد بيان القياس الفاسد ، وهو الذي لا يعلم وجهه ، وأمّا هذا فإنّه قياس غير فاسد ؛ أو أنّه عليه السلام سمّاه قياساً لما تقدّم . وكيف كان ، فلا يرد ما ذكر ، مع أنّ قياس منصوص العلّة المشهور أنّه لا حرج فيه ، فليس كلّ قياس باطلاً ، بل الباطل قياس إبليس وما شابهه . وحاصله : أنّ التسمية بالقياس لا دخل لها ، بل معنى القياس ، فإن أردت بقولك : «إنّه يدلّ على صحّة القياس في الجملة» صحّةَ بعض أفراد القياس (1) ، فهو مسلّم ، وإن أردت ما يدخل تحته القياس الفاسد ، فهو ممنوع . ونحو هذا قول أبي جعفر عليه السلام في حديث سدير الصيرفي : «أما علمت أنّ أصحاب الكهف كانوا صيارفة» (2) . وفسّره الصدوق رحمه اللّه بقوله : يعني صيارفة الكلام ولم يعن صيارفة الدراهم (3) . فالمراد منه _ واللّه أعلم _ أنّ التسمية وحدها لا تعتبر ، بل المعتبر المعنى ، فالصيرفيّ سواء كان صيرفيَّ كلامٍ أم صيرفيّ دراهم ونحوها مع الزيادة والنقصان ونحوهما مذمومٌ ، دون مجرّد التسمية . وقد وقع في توجيه الحديث المذكور في الفقيه كلام باعتبار كلام الصدوق بعده ، وبتأمّل ما ذكرته هنا يظهر وجهه . ويمكن أن يكون كلام الصدوق مضمونه من كلام الإمام عليه السلام ؛ واللّه أعلم . وهذه صورة الحديث : وروى سدير الصيرفيّ قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : حديث بلغني عن الحسن البصري ، فإن كان حقّاً فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون . قال : «وما هو؟» قلت : بلغني أنّ الحسن يقول : لو غلى دماغه من حرّ الشمس ما استظلّ بحائط صيرفيّ ، ولو تفرثت كبده عطشاً، لم يستسق من دار صيرفيّ ماء، وهو عملي وتجارتي،وعليه نبت لحمي ودمي ، ومنه حجّي وعمرتي . قال : فجلس عليه السلام ، ثمّ قال : «كذب الحسن ، خذ سواء ، وأعط سواء ، فإذا حضرت الصلاة ، فدع ما بيديك وانهض إلى الصلاة ، أما علمت أنّ أصحاب الكهف كانوا صيارفة» (4) يعني صيارفة الكلام ، ولم يعن صيارفة الدراهم (5) .

.


1- . في «ج» : «أفراده» .
2- . الكافي ، ج 5 ، ص 114 ، باب الصناعات ، ذيل ح 2 .
3- . الفقيه ، ج 3 ، ص 159 ، ذيل ح 3583 .
4- . الكافي ، ج 5 ، ص 113 ، باب الصناعات ، ح 2 .
5- . الفقيه ، ج 3 ، ص 159 ، ح 3583 .

ص: 451

النورَيْنِ ، وصَفاءَ أحدهما على الآخَر» .

وقوله عليه السلام : «وصفاء» بالجرّ معطوفٌ على «مابين» ، والمعنى : وعرف فضل صفاء أحدهما على الآخر . ولو عطف على «فضل مابين النورين» كان معناه: وعرف صفاء أحدهما على الآخر،واحتيج في تصحيح لفظه ومعناه إلى تكلّف مستغنى عنه. وباقي ما يتعلّق بالحديث قد تقدّم ما تيسّر من حلّه ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 452

عليٌ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن قُتيبةَ ، قال :سأل رجلٌ أبا عبداللّه عليه السلام عن مسألةٍ، فأجابَه فيها ، فقال الرجل : أرأيتَ إن كان كذا وكذا ما يكونُ القولُ فيها؟ فقال له : «مَهْ ، ما أجَبتُك فيه من شيء فهو عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله لسنا من أرأيتَ في شى ءٍ» .

[قوله] في حديث قُتَيْبَة : (قال : سألَ رجلٌ أبا عبداللّه عليه السلام عن مسألةٍ فَأجابَه فيها ، فقالَ الرجلُ : أرأيتَ إن كانَ كذا وكذا ما كانَ يَكونُ (1) القولُ فيها؟ فقال له : مَه ، ما أجَبتُك فيه من شيءٍ فهو عن رسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، لَسْنا من «أرَأيتَ» في شيءٍ) . لمّا قال له السائل : «أرأيت إن كان كذا وكذا» كان معناه أنّها لو كانت كذا وكذا ما كان رأيك فيها (2) ؟ وهذا يدلّ على أنّ السائل كان معتقداً أو ظانّاً أنّ ما أجابه عليه السلام به كان عن رأي ، فقال له عليه السلام ما حاصله : مَهْ ، أي اكفف عن هذا الكلام ، فإنّ ما أجبتك به ليس صادرا عن الرأي ، بل هو عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولسنا من قولك : «أرأيت» المقتضي لأنّا نجيب بالرأي _ كما يفعله أهله _ من شيء ، بمعنى أنّه ليس عندنا منه شيء ، فلو قال له الرجل : «لو كان كذا وكذا» من دون قوله «أرأيت» لأجابه عليه السلام بما يقتضيه سؤاله ولم يزجره ، ويحتمل أن يكون بعد هذا أجابه . فإن قلت : «أرأيت» بمعنى أخبرني ، والرأي هنا لا دخل له . قلت : نعم ، هو في الأصل كذلك ، ولكن سياق الكلام هنا يظهر منه ما ذكرته ، فكان استعمالها فيما يدلّ على معنى الرأي من السائل ، فأجابه عليه السلام بما أجاب ، أو أنّه عليه السلام لشدّة كراهته الرأي لمّا سمع منه هذا تغيّرت (3) نفسه منه ، فأجابه بذلك ، أو أنّه هنا بمعنى أخبرني برأيك . والظاهر أنّ ضمير «لسنا» ليس للتعظيم وإن كانوا عليهم السلام أهله ، بل لإفادة معنى : لسنا أهل البيت ونحوه من الرأي في شيء ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في الكافي المطبوع وبعض نسخه : «ما يكون» بدل «ما كان يكون» . وفي بعض نسخ اُخرى من الكافي و بصائر الدرجات ، ص 300 ، باب في الأئمّة أنّ عندهم اُصول ، ح 8 : «ما كان يكون» كما في المتن .
2- . في حاشية «ألف ، د» : «أ رأيت» وإن كان بمعنى «أخبرني» لكنّه يشعر بما ذكرته ؛ فتدبّر (منه) .
3- . في «ألف ، ج » : «نفرت» .

ص: 453

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، مرسلاً ، قال :قال أبو جعفر عليه السلام : «لاتَتّخِذوا من دون اللّه وليجةً فلا تكونوا مؤمنين ، .........

قوله عليه السلام في حديث قُتَيْبَة : (لا تَتَّخِذُوا مِنْ دُوِن اللّه ِ وَليجةً فلا تَكونوا مؤمنينَ ، فإنّ كلَّ سببٍ ونَسَبٍ وقَرابةٍ ووَليجَةٍ وبِدعَةٍ وشُبهَةٍ مُنقَطِعٌ إلاّ ما أثْبَتَه القرآنُ) . في غريب القرآن في معنى الوليجة : كلّ شيء أدخلته في شيء ليس منه ، فهو وليجة فيه ، والرجل يكون في القوم وليس منهم ، فهو وليجة فيهم . وقوله جلّ وعزّ : « وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِى وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً » (1) أي بطانة ودخلاً من المشركين يخالطونهم ويودّونهم ؛ انتهى (2) . وفي الصحاح : وليجة الرجل : خاصّته وبطانته (3) . فالمعنى _ واللّه أعلم _ : أنّكم لا تدخلوا في اُمور الدين وأحكامه وما يتعلّق بمعرفته تعالى وما يعتمدون عليه في أمر دينكم واعتقادكم وما يجب عليكم الأخذ والعمل به ونحو ذلك ممّا فرضه اللّه عليكم وأمركم به ونهاكم عنه بواسطة أنبيائه ورسله وأوصيائهم عليهم السلام شيئاً ليس منه ؛ لأنّ كلّ ما تدخلونه ممّا كان من دون اللّه منقطعٌ لا يفيدكم ارتكابه وإدخاله شيئاً سوى الإثم وسلب الإيمان ؛ فإنّ الإيمان باللّه يُنافيه إدخال مالم يجز إدخاله فيما أمر به ونهى عنه ، وذلك بخلاف ما أثبته القرآن ، فإنّه سبب لا ينقطع ، وموصل إلى ما أمر اللّه به وإلى رضاه ونحوه ممّا تقدّم . ونفي الإيمان له مراتب تترتّب على اتّخاذ الوليجة ، فقد يكون اتّخاذها مقتضياً لسلبه بمعنى الإسلام ، وقد يكون مقتضياً لسلبه بمعنى الإيمان الخاصّ ، وقد يكون مقتضياً لسلب كماله ، فالمؤمن الكامل من لا يتّخذ وليجةً من دون اللّه أصلاً ولا سبباً سوى ما ثبت بالقرآن على لسان نبيّه صلى الله عليه و آله ، ولا ينافيه ما ثبت بالسنّة ، فإنّ في القرآن تبيانَ كلّ شيء ولكنّ البيان قد يكون من النبيّ واُمنائه عليهم السلام .

.


1- . التوبة (9) : 16 .
2- . تفسير غريب القرآن ، ص 161 .
3- . الصحاح ، ج 1 ، ص 348 (ولج) .

ص: 454

فإنّ كلّ سَبَبٍ ونَسَبٍ وقَرابةٍ ووَليجَةٍ وبِدعَةٍ وشُبهَةٍ مُنقَطِعٌ إلاّ ما أثبَتَهُ القرآنُ» .

وقوله عليه السلام : «فإنّ كلّ سبب ...» يحتمل وجهين : أحدهما : أن يراد بالوليجة الثانية وليجة خاصّة من نحو خاصّة الرجل وبطانته بقرينة النسب والقرابة ، فيكون عليه السلام بعد ذكره الوليجة الشاملة لجميع ما ذكر ذَكَرَ أفرادها وبَيَّنَ فسادها بأنّ كلّ سبب بقرابة سببيّة كالاعتماد عليها منقطع ، وكلّ نسب كذلك كان يعتمد الإنسان على قربه من النبيّ صلى الله عليه و آله مثلاً وعلى شرف آبائه وشأنهم أو على متابعتهم في اعتقاد فاسد ونحو ذلك ولا يعمل بما في الكتاب منقطعٌ ، أو كلّ سبب أعمّ ممّا ذكر يريد الإنسان التوصّل به في اُمور الدين ، ويكتفى به ويدخله فيه من غير أصل . ومثل النسب القرابة والوليجة ، وكذلك البدعة إذا ابتدعها الإنسان في الدين أو تابعه عليها غيره ، فإنّها تنقطع ولا يبقى أثرها كما يبقى أثر ما أثبته الكتاب . ومثلها الشبهة ، فإنّ جميع هذه الأشياء تنقطع ولا يترتّب عليها بعد انقطاعها فائدة كما يترتّب على غيرها ، وإن ترتّب لفاعلها ومرتكبها ما سمّاه فائدة في الدنيا . الثاني : أن يكون المراد بالوليجة الثانية الوليجة الاُولى ، فيكون عليه السلام نهى أوّلاً عن اتّخاذ الوليجة من دون اللّه ، ثمّ ذكر وجه النهي عنها وذكر معها أشياء اُخر لا ينبغي الاعتماد عليها ، وهي السبب والنسب وبقيّة ما ذكر معها ، وأنّها (1) مشاركة لها في الفساد . إذا تقرّر هذا ، فالاستثناء يمكن اعتباره متّصلاً ، فيكون الاستثناء من كلّ سبب منقطع ، والمعنى : كلّ سبب منقطع إلاّ ما أثبته القرآن بحيث لا يكون داخلاً في الوليجة من دون اللّه ، أو يكون معنى لا تتّخذوا من دون اللّه وليجة : لا تتّخذوا غيره وسيلةً وملجأً وموصلاً إلى رضاه سوى ما أثبته القرآن ، فإنّه سبب موصل إلى اللّه لا ينقطع . ويمكن اعتباره منقطعا باعتبار نفي الوليجة من السبب وغيره ، بمعنى أن لا يكون الاعتماد إلاّ على اللّه ، ولا يكون غيره متّخذا وليجة . وذكر «ما أثبته القرآن» لبيان طريق الاتّصال به تعالى دون غيره ، فإنّه يكون بما أثبته القرآن ، وحاصله : أنّ جميع الولائج تنقطع إلاّ التعلّقَ باللّه والاعتمادَ عليه ومتابعةَ ما يرضيه الثابتةَ بالقرآن . واعلم أنّ ضمير «منقطع» يرجع إلى السبب ، ولا يجوز رجوعه إلى الجميع إلاّ على وجه بعيد ، وهو أن يقدّر بكلّ ذلك ، أو كلّ ما ذكر . وهو كماترى . وكان السرّ في إفراده ليرجع إلى السبب فقط ليكون الاستثناء منه ، فيكون متّصلاً ، ولا ينافي الاستثناء منه ذكر البواقي معه ، كما تقول : جاء الناس والخيل والدوابّ إلاّ زيداً ، وحينئذٍ فيقدّر للبواقي ما يناسبها من التذكير والتأنيث ، ولو رجع الضمير إلى الجميع لقيل «منقطعة» واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ج» : «فإنّها» .

ص: 455

باب الردّ إلى الكتاب والسنّة

باب الرّد إلى الكتاب والسُنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّةمحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن حديد ، عن مُرازِمٍ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إنّ اللّه َ تبارك وتعالى أنزَلَ في القرآن تبيانَ كلِّ شيء ، حتّى واللّه ما تَرَكَ اللّه ُ شيئا يَحتاجُ إليه العبادُ _ حتّى لا يَستطيعَ عبدٌ يقول : لو كان هذا اُنزلَ في القرآن _ إلاّ وقد أنزَلَه اللّه ُ فيه» .

باب الردّ إلى الكتاب و السنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّةقوله عليه السلام : (إنّ اللّه َ _ تبارك وتَعالى _ أنْزَلَ في القرآنِ تبيانَ كلِّ شيءٍ ، حتّى واللّه ِ ما تَرَكَ اللّه ُ شيئاً يَحتاجُ إليه العِبادُ ؛ حتّى لا يَستطيعَ عبدٌ يقولُ : لو كانَ هذا اُنزِلَ في القرآنِ إلاّ وقد أنزَلَه اللّه ُ فيه) . «التبيان» _ ويفتح _ : تفعالٌ من البيان ، وهو مصدر شاذّ ، و«حتّى» الاُولى ابتدائيّة ، والثانية تعليليّة ، يتعلّق معنى التعليل فيها بعدم ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد ؛ بقرينة «لا يستطيع عبد» . ويحتمل تعلّقه به وبما قبله . و«لو» للتمنّي ، مثلها في : لو تأتيني فتحدّثني . والاستثناء من قوله عليه السلام : «ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد» كما في الحديث الذي بعد هذا من قوله عليه السلام : «لم يدع شيئاً يحتاج إليه الاُمّة إلاّ أنزله» . والمعنى : أنّ اللّه سبحانه أنزل في القرآن بيان كلّ شيء ، بمعنى أنّه أنزل بيان حكم كلّ شيء وما يتعلّق به . و«التبيان» يمكن أن يكون لكون بيانه تعالى ليس كبيان غيره ممّا قد يشوبه شيء ، فإنّ بيانه تعالى بيان غير مشوب بشيء ممّا ينافيه ومقطوع به . ولا ينافيه عدم ظهور البيان كلّه لكلّ أحد ، فإنّ بيانه مخصوص بالنبيّ والأئمّة عليهم السلام ، وهم الذين يكشفون عن حقيقة ذلك البيان لغيرهم ، ولو ظهر لكلّ أحد تبيان كلّ شيء لم يحتج إلى أخذ الأحكام من الرسول ونوّابه عليهم السلام ، وممّا يترتّب على نصبهم كشفُهم وبيانهم عمّا في القرآن . فإن قلت : ما وجه قوله عليه السلام : «حتّى واللّه ما ترك ... » فإنّه يغني عنه إنزال تبيان كلّ شيء في القرآن؟ قلت : يمكن أن يكون فائدته دفع توهّم عدم إنزال بيان بعض ما يحتاج إليه العباد فيما يستقبل ، أو فيما يتجدّد ويقع ولم يسبق له نظير ، أو أنّه إذا كان احتياجهم إليه قليلاً يمكن أن لا يكون منزلاً ، وهو كما يأتي من قوله عليه السلام : «حتّى أرش الخدش فما سواه ، والجلدة ونصف الجلدة» (1) . أو لما اشتهر من قولهم : «ما من عامٍّ إلاّ وقد خصّ» أو هو بمعنى قدم الحجّاج حتّى المشاة ، ونحو ذلك . وحاصل معنى «ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد إلاّ وقد أنزله اللّه تعالى» أنه ما تركه على حالة من الحالات إلاّ على حالة الإنزال أو ما أبقاه إلاّ عليها ، كما قيل في قوله تعالى : « وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ » (2) والترك من الأضدادِ ، فهو بمعنى الجعل أيضاً ، فيحتمل أن يكون المعنى ما جعله إلاّ على حالة الإنزال ، ويحتمل أن يكون بمعنى : ما تركه غير منزل ، وهو حاصل المعنى . ويمكن اعتبار الاستثناء من قوله عليه السلام : حتّى لا يستطيع بتقرّب ما تقدّم ؛ واللّه أعلم .

.


1- . راجع الحديث 3 من هذا الباب .
2- . الصافات (37) : 78 ، 108 ، و129 .

ص: 456

. .

ص: 457

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن حسين بن المنذر ، عن عُمَر بن قيس ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :سمعته يقول : «إنّ اللّه َ تبارك وتعالى لم يَدَعْ شيئا يحتاج إليه الأُمّةُ إلاّ أنزلَه في كتابه، وبَيَّنَهُ لرسوله صلى الله عليه و آله وجعَل لكلّ شيء حدّا ، وجعل عليه دليلاً يَدلُّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدَّ حَدًّا» .

قوله عليه السلام في حديث عُمَرَ بن قَيْسٍ : (إنّ اللّه َ _ تَبارك وتَعالى _ لم يَدَعْ شيئاً يَحتاجُ إليه الاُمّةُ إلاّ أنزَلَه في كتابِه وبَيَّنَه لرسولِه صلى الله عليه و آله ، وجَعَلَ لكلِّ شيءٍ حَدّاً ، وجَعَلَ عليه دليلاً يَدُلُّ عليه ، وجَعَلَ على مَن تَعَدّى ذلك الحدَّ حَدّاً) . في هذا الحديث تصريح بالبيان للرسول عليه السلام ، ولا ينافيه ظهور بعضه لغيره ، فإنّ المراد _ واللّه أعلم _ بيان الجميع ، أو أنّ الذي يظهر معناه قد لا يظهر كلّه . وقد يكون المراد منه خلاف ما ظهر ، أو أنّ بيانه له عليه السلام لظاهره وباطنه . ومعنى «جعل لكلّ شيء حدّاً» واللّه أعلم : أنّه تعالى جعل له حكماً يتعلّق به لا ينبغي تجاوزه ، سواء كان حدّاً خاصّاً أم غيره ، وجعل على ذلك الحكم دليلاً يدلّ عليه بحيث لو سُئل النبيّ أو الإمام عليهماالسلام عن الدليل على ذلك الحكم من القرآن أتى به ، أو جعل عليه دليلاً يدلّ النبيّ والإمام على معرفته من ذلك الدليل ، وهو من جملة بيانه تعالى لرسوله صلى الله عليه و آله ، وجَعَلَ على من تعدّى ذلك الحكم حكماً ، سواء كان حدّاً خاصّاً أم غيره ، كحكم وجوب الصوم مثلاً ، فلو تعدّاه المكلّف بتركه الذي لا يجوز ، كانَ حكمه وجوب القضاء والكفّارة ، أو القضاء فيما يقتضي كلاًّ منهما ؛ وكالقصاص لو تعدّى فيه ، كانَ حكمه استيفاء الزائد ؛ وكذا الجلد ونحوه ممّا يلزم بسببه الحدّ الخاصّ أو العامّ ، وكجواز أكل الميتة إذا بلغ الإنسان الحدّ الذي يجوز له أكل مقدار منها ، فإن تجاوزه فَعَلَ حراماً ، وكان عليه الإثم والتعزير . وأيّ بُعد في كون كلّ شيء في القرآن ، بل في سورة ، بل في آية على وجه اقتضته قدرة اللّه سبحانه وتعالى بحيث يستخرج كلّ شيء منه بتبيينه تعالى وتعليمه ؛ ونحن نرى بعض أهل العلوم كأهل الرمل يستخرجون أشياء كثيرة من خطوط ونُقَط أصلها الأشكال الأربعة ، ونحوهم أهل النجوم مع أنّه ليس عندهم من العلم إلاّ اسمه أو رسمه ، وكذا غيرهم من أهل علم الحرف والجفر وغيرهم ، فأهل العلم الحقيقي إذا اطّلعهم اللّه على ما يريده من استخراج كلّ شيء من القرآن لا يبعد ، إلاّ عند من ينسب قدرته تعالى إلى النقص ويَقيسها على قدرة البشر ، ومن المشهور كلام أميرالمؤمنين عليه السلام في تفسير بسم اللّه الرحمن الرحيم (1) . وإن كان القرآن أكثر من الموجود _ كما يدلّ عليه بعض الأحاديث _ فالأمر أظهر . فإن قلت : تقدّم ما يدلّ على أنّ المعنى : جعل على كلّ حكم دليلاً يدلّ عليه ، بمعنى أنّه لو طلب الدليل لاستدلّ به ، فكيف يستدلّ بما هو غير ظاهر لطالب الدليل . قلت : لا بُعد في كونه عليه السلام يأتي له من القرآن بما يدلّه على المطلوب بحيث يقبله الخصم ؛ على أنّ المقام يحتمل غير هذا ، كأن يكون الدليل له عليه السلام ومن لا يصدّق به لا ينفعه الدليل ، ومن صدّق به يقبل ما يقوله من أنّ اللّه جعله (2) دليلاً مع فهمه لذلك أو دليلاً له عليه السلام ، فالمصدّق بالنبوّة والقرآن يصدّق بمثل ذلك ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . عن أمير المؤمنين عليه السلام : «كلّ العلوم تندرج في الكتب الأربعة ، وعلومها في القرآن ، وعلوم القرآن في الفاتحة ، وعلوم الفاتحة في بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وعلومها في الباء في بسم اللّه » . راجع : نور البراهين ، للسيد نعمة اللّه الجزائري ، ج 2 ، ص 3 ؛ ينابيع المودّة ، للقندوزي ، ج 1 ، ص 213 ؛ وج 3 ، ص 212 .
2- . في «د» : «جعل» .

ص: 458

. .

ص: 459

عليٌّ ، عن محمّد ، عن يونسَ ، عن أبان ، عن سليمان بن هارون ، قال :سمعت أباعبداللّه عليه السلام يقول: «ما خلَق اللّه ُ حلالاً ولاحراما إلاّ وله حَدٌّ كحدّ الدار،فما كانَ من الطريق

قوله عليه السلام في حديث سليمان بن هارون : (ما خَلَقَ اللّه ُ حَلالاً ولا حَراما إلاّ وله حَدٌّ كحدّ الدارِ ، فما كانَ مِن الطريقِ فهو من الطريق ، وما كانَ من الدارِ فهو من الدار حتّى أرشِ الخَدْشِ فما سواه ، والجَلْدَة ونصفِ الجَلْدَةِ) . كلامهم عليه السلام لكلّ أحد بما يصل إليه فهمه وعقله ، فالتشبيه بحدّ الدار كأنّه لمقتضى حال السامع وفهمه للمشبّه به ، على أنّ حدّ الدار وحدّ الطريق ممّا فهمه ممّن يكون عارفاً بنحوه من المسائل الفقهيّة ؛ فهو مفيد للعالم وغيره ، أمّا العالم فإنّه يعلم الحدّ المقرّر شرعا ، وأمّا غير العالم فإنّه يعلم إجمالاً أنّ الدار لها حدّ والطريق له حدّ ، فالتشبيه به يفيد كلّ من سمعه منهما . وقوله عليه السلام : «فما كان من الطريق فهو من الطريق ، وما كان من الدار فهو من الدار» إشارة في الجملة إلى مضمون ما تقدّم من أنّ حلاله صلى الله عليه و آله حلالٌ إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ؛ فالمعنى هنا أنّ الحلال لا يصير حراماً وعكسه ، كما أنّ ما كان من حدّ الطريق لا يدخل في حدّ الدار وعكسه ، فالحلال والحرام لكلّ منهما حدود يتميّز بها . ولا ينافيه قوله عليه السلام : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك» (1) فإنّ المشتبه ليس ممّا عرف حدّه ، فلو عرف وظهر حدّه كان إمّا حلالاً بيّناً أو حراماً بيّناً ، ولكن قد يشتبه على غيرهم عليهم السلام . فهذا الكلام باعتبار ما يظهر لغيرهم .

.


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 ؛ الفقيه ، ج 3 ، ص 8 ، ح 3233 ؛ وج 4 ، ص 75 ، ح 5149 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 301 ، ح 845 ؛ وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 157 ، ح 33472 ؛ وص 161 ، ح 33490 ؛ وص 175 ، ح 33531 .

ص: 460

فهو من الطريق ، وما كان من الدار فهو من الدار حتّى أرش الخَدْشِ فما سواه ، والجَلْدَةِ ونصف الجَلْدَةِ» .

عليٌّ ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن حمّاد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :سمعته يقول : «ما من شيء إلاّ وفيه كتابٌ أو سُنَّةٌ» .

وقوله عليه السلام : «حتّى أرش الخدش» متعلّق بالكلام السابق ، وما بينهما معترض اقتضى المقام تفريعه على ما تقدّمه ، وأصله : ما خلق اللّه حلالاً ولا حراما إلاّ وله حدّ حتّى أرش الخدش ، إلى آخره . ومعنى «فما سواه» : ما سواه ممّا هو مثله أو دونه ، و«الجلدة» معطوفة على أرش الخدش ، أي حتّى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ؛ ولهذا عطف «ماسواه» بالفاء وما بعده بالواو . وأرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ظاهرُ التركيب أنّها من المحدود ، والأنسب بحسب المعنى كونها من الحدّ . والمعنى على الأوّل أنّ أرش الخدش له حدّ ، فإنّ كلّ خدش له مقدار من الحكومة ونحوها وهو حدّه ، والجلدة ونصفها لكلّ منهما حكم على من تعدّى بهما ابتداء ، أو زاد في الحدّ بهما . وعلى الثاني يكون الأرش حدّا للخدش ، والجلدة ونصف الجلدة حدّا لشيء آخر ولو بالحدّ العامّ . والظاهر هنا الحدّ الخاصّ ، ويمكن فرضهما في بعض الصور ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث حمّاد : (ما مِن شيءٍ إلاّ وفيه كتابٌ أو سَنّةٌ) . إن قيل : إنّ ما تقدّم يدلّ على أنّه (1) ما من شيء إلاّ وفيه كتاب ، وهنا كتاب أو سنّة ، فكيف الجمع بينهما؟ قلت : يمكن الجمع بينهما بأنّ بعض الأشياء يدلّ عليها الكتاب نصّاً أو ظاهراً ونحوهما ، فهذا ما يتعلّق بالكتاب ، وما لم نعلم (2) حكمه من الكتاب بل من السنّة لا ينافي كون أصله من الكتاب ، فهو من السنّة باعتبار أنّ السنّة تبيّنه وتكشف عنه . ويحتمل كون «أو» بمعنى الواو ، بمعنى أنّ الكتاب والسنّة اتّفقا عليه ، والعدول إلى «أو» باعتبار أنّه إلى أيّهما نُسب كان حقّاً ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «د» : «أنّ» .
2- . في «ألف» : «ما لم يعلم» .

ص: 461

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونسَ ، عن حمّاد ، عن عبداللّه بن سنان ، عن أبي الجارود ، قال :قال أبو جعفر عليه السلام : «إذا حَدَّثْتُكُمْ بشيء فاسألوني من كتاب اللّه » ثمّ قال في بعض حديثه : «إنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن القيل والقال ، وفسادِ المال ، وكثرةِ السؤال» . فقيل له : يا ابن رسول اللّه أين هذا من كتاب اللّه ؟ قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول :

قوله عليه السلام في حديث أبي الجارود : (إذا حَدَّثْتُكم بشيءٍ فَاسألوني من كتابِ اللّه . ثمّ قال في بعض حديثه : إنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله نَهى عن القيلِ والقالِ ، وفَسادِ المالِ ، وكَثرةِ السؤالِ ، فقيل له : يابن رسولِ اللّه ، أين هذا من كتابِ اللّه ؟ قال : إنّ اللّه َ _ عَزَّ وجَلَّ _ يَقولُ : « لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَ?_هُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَ_احِم بَيْنَ النَّاسِ » (1) وقال : « وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَ_امًا » (2) وقال : « لاَ تَسْ_الُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ » (3) ) . قوله عليه السلام : «فاسألوني من كتاب اللّه » يحتمل أوجهاً : أحدها : أن يكون من قبيل قولك : سألته من الدراهم ، أي طلبت منه أن يعطيني منها ، فأمرهم عليه السلام بأن يطلبوا منه أن يجيبهم من كتاب اللّه ، وأنّ هذا ينبغي طلبه من مثله عليه السلام ومن الكتاب ، كما يطلب السائل الدراهم وغيرها ممّن عنده ذلك ، ومعناه : اطلبوا منّي معنى الحديث الذي حدّثتكم به من الكتاب لأدلّكم عليه فيه ومن أين أُخذ منه . الثاني : أن يكون ضمن «اسألوني» معنى «امتحنوني واختبروني» ونحوه ، فقد دلّ على المسألة والاختبار معاً بقرينة من بعد اسألوني ، فمعناه : اسألوني مختبرين أو ممتحنين ؛ فدلّ هذا اللفظ على ما ذكر ، وهو من الفصاحة والبلاغة بمكان . الثالث : أن يكون معناه : اسألوني سؤالاً منشؤه ومتعلّقه الكتاب ، كأن يقولوا : أين هذا من الكتاب أو في الكتاب . و«القيل والقال» : اسمان للمصدر ، أو مصدران ، أو القيل مصدر والقال اسمه . والقيل والقال للشرّ ، كما أنّ القول للخير ، أوهما اسمان للكثير من القول . و«فساد المال» بمعنى إفساده . فإن قلت : ما وجه التعبير بفساد المال دون إفساده ، مع أنّ النهي عنه لا عن الفساد؟ قلت : يمكن أن يكون وجه العدول _ واللّه أعلم _ لفائدة الحثّ على حفظ المال من الفساد ولو من نفسه ، فإنّ الإفساد يفيد ما كان مستنداً إلى صاحبه ، بخلاف الفساد ، وإن كان المقصّر في حفظ ماله يقال في حقّه : أفسد ماله ؛ فتدبّر . ولا ينافيه دلالة قوله تعالى « وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ » على الإفساد دون الفساد بحسب الظاهر ؛ لأنّ السفيه قد يحصل بسفهه تقصير يحصل منه الفساد ، كما يحصل الإفساد منه ومن الذي يعطيه ؛ واللّه تعالى أعلم . وعن النهاية : المناجي : المخاطب للإنسان والمحدّث له ، والنجوى اسم يقام مقام المصدر ؛ انتهى (4) . وفي القاموس : النجوى : السرّ كالنَّجِيّ ، والمتسارّون اسمٌ ومصدرٌ ؛ انتهى (5) .

.


1- . النساء (4) : 114 .
2- . النساء (4) : 5 .
3- . المائدة (5) : 101 .
4- . النهاية ، ج 5 ، ص 25 _ 26 (نجا) .
5- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 392 (نجا) .

ص: 462

. .

ص: 463

« لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَ?_هُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَ_احِم بَيْنَ النَّاسِ » وقال : « وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَ_امًا » وقال : « لاَ تَسْ_الُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ » » .

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عن ثعلبةَ بن ميمون ، عمّن حدّثه ، عن المعلّى بن خُنيس ، قال :قال أبو عبداللّه عليه السلام : «ما من أمر يَختلفُ فيه اثنان إلاّ وله أصلٌ في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ، .........

وقوله تعالى : « لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَ?_هُمْ » (1) باعتبار الكثير يناسب القيل والقال ، بمعنى الكثير من القول . وسلب الخير إن كان معه شرّ ناسب المعنى (2) الآخر ، وكذا إن كان كناية عن الشرّ ، كما يقال : فلان لاخير فيه إذا كان ذا شرّ ؛ واللّه أعلم . والسؤال عن الأشياء التي إن تُبْدَلهم تسؤهم لا شكّ في أنّه بسببه يكثر السؤال ، فالنهي عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال تدلّ عليه الآيات المذكورة ، والآية الاُولى تتضمّن النهي ، والنهي في الآيتين ظاهرٌ ؛ واللّه أعلم . وما يتعلّق بتفسير الآيات ليس هذا محلّه ، فإنّه مذكور في التفاسير . قوله عليه السلام في حديث المعلّى بن خُنيس : (ما مِن أمْرٍ يَختلفُ فيه اثنان إلاّ وله أصلٌ في كتابِ اللّه ِ عَزَّ وجَلَّ ، ولكن لا تَبْلُغُه عقولُ الرجالِ) . معناه _ واللّه أعلم _ : ما من شيء يقع فيه الاختلاف _ أي في حكمه ما هو _ إلاّ وله أصل في الكتاب يؤخذ منه ويعلم منه حكمه ، بحيث لو عرف ذلك الأصل وطريق أخذه منه لم يقع الاختلاف في ذلك ، وكان الحقّ في أحد الطرفين أو خارجا عنهما ، فالحقّ فيما يختلف فيه واحد . ومنه يظهر كون حكم اللّه في الواقع واحداً لا يتغيّر بأنظار المختلفين ، نعم ما كان منشؤ اختلافه منهم عليهم السلام فيمكن أن يقال : إنّ حكم اللّه تعالى يختلف باختلاف الأوقات التي يعلمون عليهم السلام أنّ كلّ وقت منها يقتضي حكماً من أحكام اللّه ، وما كان من ذلك من جهة التقيّة فالظاهر أنّه من قبيل الرخصة لهم بالقول والعمل به ، لا أنّه حكم اللّه في الواقع ، نعم قد يكون الأمر به على هذا الوجه حكماً للّه ؛ واللّه أعلم . ولا ينافي ذكر ما يقع فيه الاختلاف كون ما لا يختلف فيه له أصل أيضاً في الكتاب . وذكره (3) إمّا لأنّ المقام مقام بيان ما يقع فيه الاختلاف فقط ، وإمّا لأنّ ما لا اختلاف فيه أمره ظاهر . ويحتمل أن يكون المراد : ما من أمر من شأنه أن يقع فيه الاختلاف . وهذا يحتمل وجهين : أحدهما : ما من شأنه ذلك بأن يكون (4) محلاًّ لوقوع الاختلاف ؛ فهو أعمّ من الأوّل من حيث اعتبار وقوع الاختلاف في الأوّل بالفعل . والثاني : أن يكون شاملاً لكلّ أمر بحيث لو اختلف فيه ، لكان ذلك الأصل يرفع الاختلاف . وذكر الاختلاف حينئذٍ لفائدة أنّه لو وقع فيه اختلاف لا يكون الحقّ في الطرفين ، بل الحقّ واحد ، وأصله في كتاب اللّه . ووجه ذكر الاختلاف في غيره ظاهر . وهذا إذا لم يمكن الجمع بين وجهي الاختلاف ، وإلاّ فقد يتصوّر أصل يدلّ عليهما معاً إذا لم يكن بينهما تضادّ ونحوه . وذكر اختلاف الاثنين لأنّهما أقلّ ما يحصل بهما الاختلاف ، وأكثر منهما يصدق فيه اختلاف الاثنين ، فإنّ الثلاثة مثلاً إمّا أن يقول كلّ واحد بشيء فبين كلّ اثنين منها اختلاف ، وإمّا أن يقول واحد بشيء واثنان بشيء ، فبين الواحد وكلّ منهما اختلاف . وكذا ما فوق الثلاثة . ويحتمل أن يكون الاثنان كناية عمّن يقع بينهم الاختلاف ، سواء كانوا اثنين أم أكثر ، بل عمّن يشمل مالو خالف الإنسان نفسه .

.


1- . النساء (4) : 114 .
2- . في «ج»: + «المعنى».
3- . في «ج» : + «أيضا» .
4- . في «ج» : + «ذلك» .

ص: 464

. .

ص: 465

ولكن لا تَبلُغُه عقولُ الرجال» .

وقوله عليه السلام : «ولكن لا تبلغه عقول الرجال» الظاهر أنّ المراد منه غيرهم عليهم السلام ، ومعناه : أنّ العقول لا تقدر على أن تستقلّ بإدراكه وتستبدّ بمعرفته ، فإنّ ذلك مختصّ بهم عليهم السلام من اللّه عزّ وجلّ . ويحتمل أن يكونوا عليهم السلام داخلين في الرجال ، فإنّ معرفتهم للاُصول التي في القرآن لا من جهة العقل ، بل ببيان اللّه عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه و آله وبيانه لهم عليهم السلام . ولعلّ هذا أظهر ، واللّه أعلم . فإن قلت : ما كان في الكتاب محكماً ونحوه قد تدركه عقول غيرهم عليهم السلام فضلاً عن عقولهم ، فكيف وجه قوله عليه السلام : «ولكن لا تبلغه عقول الرجال»؟ قلت : أمّا على تقدير أن يكون المراد ما يقع فيه الاختلاف فقط ، فالأمر ظاهر ، فإنّ عقول الرجال لو بلغته على وجهه لم يقع الاختلاف إذا كان ذلك منشأ الاختلاف ، وكذا على تقدير إرادة ما من شأنه أن يكون محلاًّ للاختلاف بحيث لا يدخل ما أصله مثل المحكم ، ولو قدّر بما يشمله ، اُجيب بأنّ أمراً وقع نكرة في سياق النفي ، فمعناه متعدّد ولفظه مفرد ، فمعناه : كلّ أمر له أصل في كتاب اللّه ولا يبلغ أصل كلّ أمر عقول الرجال ، أو كلّ أصل أمر ؛ فلا ينافي بلوغ العقول بعض اُصول الاُمور ، فإنّه رفع للإيجاب الكلّي . أو يقال : إنّ في التعبير بقوله عليه السلام : «تبلغه» دلالةً على أنّ العقول لا تقدر على معرفته التامّة التي يعرفها المعصوم عليه السلام بعقله على ما تقدّم أو ببيان اللّه ورسوله . وهذا قد يدخل تحته المحكم ونحوه أيضاً ؛ فتأمّل ، واللّه تعالى أعلم .

.

ص: 466

محمّدُ بن يحيى ، عن بعض أصحابه ، عن هارونَ بن مسلم، عن مسعدة بن صدقةَ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال أميرُالمؤمنين عليه السلام : أيّها الناسُ ، إنّ اللّه َ _ تبارك وتعالى _ أرسَلَ إليكم الرسولَ صلى الله عليه و آله وأنزَلَ إليه الكتابَ بالحقّ وأنتم اُمّيّون عن الكتاب ومَن أنزَلَه ،

قوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسعدة بن صدقة : (أيّها الناسُ ، إنّ اللّه َ _ تبارَكَ وتَعالى _ أرْسَلَ إليكم الرسولَ صلى الله عليه و آله ، وأنزلَ إليه الكتابَ بِالحقِّ وأنتم اُمّيّون عن الكتابِ ومَن أنزلَه ، وعن الرسولِ ومَن أرسَلَه) . «الاُمّيّ» : من لا يكتب ، أو مَن على خلقة الاُمّة لم يتعلّم الكتاب (1) ، هو باق على جبلّته ، والعَيّي الجِلْف الجافي القليلُ الكلام ؛ قاله في القاموس (2) . وفي غريب القرآن : «اُمّيّون» : الذين لا يكتبون ، واحدهم «اُمّيّ» منسوب إلى الاُمّة الاُمِّيّة التي هي على أصل ولادات اُمّهاتها لم تتعلّم الكتابة ولا قراءتها (3) . والمراد هنا _ واللّه أعلم _ أنّ اللّه تعالى أرسل الرسول وأنزل الكتاب في حال كونهم بعيدين أو عادين أو غافلين ونحوه عن معرفة اللّه ورسوله وكتابه ، وما يتضمّنه (4) ممّا فيه صلاحهم ، فضمِّن «اُمّيون» معنى ما تقدّم . والظاهر أنّه ليس المراد بالرسول والكتاب خصوصَ نبيّنا عليه الصلاة والسلام والقرآنِ ، بل الظاهر عدم دخولهما تحت الإطلاق ، فليس المراد العهد الذكريَّ إلاّ على معنى لا يعرفون معنى المرسل ما هو ، والمرسل ما هو ، والكتاب ما هو ، ومنزله من (5) هو ؟ والمعنى على الأوّل أنّهم لا يعرفون اللّه وأحكامه ورسله وكتبه ، ولا يقرؤونها فيعرفون ما فيها . ولعلّ هذا أنسب معنى من إرادة الرسول صلى الله عليه و آله والقرآن ، وإن ذكرا قبل هذا الكلام ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «د» : «الكتابة» .
2- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 76 (أُمم) .
3- . تفسير غريب القرآن ، ص 488 .
4- . في «د» : «ويتضمّنه» .
5- . في «ج» : «ما» .

ص: 467

وعن الرّسول ومَن أرسَلَه ، على حين فَترةٍ من الرسل ، وطول هَجعةٍ من الأُمم ، وانبساطٍ من الجهل ، واعتراضٍ من الفتنة ، وانتِقاضٍ من المبرَم ، وعَمىً عن الحقِّ ، واعتِسافٍ من الجور ، وامتِحاقٍ من الدين ، وتَلَظٍّ من الحروب ، على حين اصفرارٍ من رياض جَنّاتِ الدنيا ، ويُبْسٍ من أغصانها ، وانتثارٍ من وَرَقِها ، ويأسٍ من ثمرها ، واغورارٍ من مائها ،

قوله عليه السلام فيه : (على حينِ فَترَةٍ من الرسلِ ، وطولِ هَجْعَةٍ من الاُمَمِ ، وانبساطٍ من الجهلِ ، واعتراضٍ من الفتنةِ ، وانتقاضٍ من المُبرَمِ ، وعمًى عن الحقِّ ، واعتِسافٍ من الجورِ ، وامتحاقٍ من الدين) . الجارّ في قوله عليه السلام : «على حين» متعلّق ب_ «أرسله» أو هو مستقرّ . وهذا الكلام بتمامه تقدّم من جملة خطبة الكتاب ، وتقدّم ما يتعلّق به من الكلام . قوله عليه السلام فيه : (وتَلَظٍّ من الحروبِ) . تَلَظِّي الحروبِ : تَلَهُّبُها . وهو من قبيل اشتعال الرأس أو أظفار المنيّة . قوله عليه السلام فيه : (على حينِ اصفرارٍ من رياضِ جَنّاتِ الدنيا ، ويُبْسٍ مِن أغصانِها ، وانتشارٍ (1) مِن وَرَقِها ، ويَأسٍ من ثَمَرِها ، واغوِرارٍ من مائها) . «على» هنا أيضاً متعلّقة ب_ «أرسله» أو مستقرّ ، وترك العطف لأنّه من قبيل قولك : أتيت زيدا في داره في وقت سروره . والعطف قد يدلّ على ما ليس بمقصود ؛ فتدبّر . والدنيا إذا لم يكن فيها رسول ولا كتاب يعمل به ولا تجرى فيها أحكام اللّه تعالى ولا يعرف ذلك أهلها ، كانت كالجنّات التي اصفرّت رياضها ، ويَبُست أغصانها ، وانتشر أو انتثر ورقها _ على النسختين ، والانتشار بالمثلّثة لعلّه أنسب _ وحصل اليأس من ثمرها ، بمعنى أنّها لا يحصل منها ثمر بعد حصول هذه الأشياء ، وغار ماؤها ؛ بخلاف ما إذا كان الرسول والكتاب بين أظهرهم ، فإنّ الدنيا تكون رياضها أنيقة ، وورقها غضّاً ، وأغصانها نضرة ، وثمرها يانعاً ، وماؤها جارياً .

.


1- . في الكافي المطبوع : «انتثار» ، وفي بعض نسخ الكافي : «انتشار» .

ص: 468

قد دَرَسَتْ أعلامُ الهدى ، فَظَهَرَتْ أعلامُ الردى ، فالدنيا مُتهجِّمَةٌ في وجوه أهلِها ،

قوله عليه السلام فيه : (قد دَرَسَتْ أعلامُ الهُدى ، وَظَهَرَتْ (1) أعلامُ الرَّدَى ، فالدنيا مُتَجَهِّمَةٌ في وجوهِ أهْلِها ، مُكفَهِرَّةٌ ، مُدبِرةٌ غيرُ مُقِبلَةٍ) . يجوز كون «درس» مبنيّاً للفاعل وكونه مبنيّاً للمفعول ، فإنّه يتعدّى ولا يتعدّى . و«الأعلام» فاعلٌ أو نائبه . ودروس أعلام الهدى كنايةٌ عن عدم معرفة اللّه تعالى وأنبيائه وأحكامه وشرائعه ، والتأدّبِ بآداب الإسلام ؛ وفيه استعارة . ومثله ظهور أعلام الردى ، وهي أعلام الكفر والضلال . ويقال : جهمه وتجهّمه : استقبله بوجه كريه (2) . و«المكفهرّ» : الغليظ الأسود ، واكفهرّ الرجل : إذا عبس ، وفلان مكفهرّ اللون : إذا ضرب لونه إلى الغبرة (3) . وكأنّ المراد به أنّها ناظرة إليهم بوجه عبوس غليظ ؛ لعدم وجود من يجرى فيها الأحكام والقوانين التي بها ينتظم أمرهم وتحسن (4) حالهم . وفي مختصر الشرح : «ووصف التجهّم والعبوس من الدنيا لعدم وضوح مطالبها وتيسّرها لطلاّبها من العرب ؛ إذ الخطاب معهم» ؛ انتهى (5) . وذكر «غير مقبلة» بعد قوله : «مدبرة» لإفادة أنّها ليست كما يُدبر ويرجا إقباله ، فالدنيا إدبارها عليهم من هذا القبيل ، أو أنّ إدبارها ليس فيه شائبة إقبال (6) ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في الكافي المطبوع : «فظهرت» . وفي كثير من نسخ الكافي : «وظهرت» .
2- . لسان العرب ، ج 12 ، ص 110 (جهم) .
3- . الصحاح ، ج 2 ، ص 809 (كفهر) .
4- . في «ب» : «يحسن».
5- . اختيار مصباح السالكين ، ص 213 .
6- . في «ج» : «الإقبال» .

ص: 469

مُكفَهِرَّةٌ ، مُدبِرَةٌ غيرُ مُقِبلَةٍ ، ثمرتُها الفتنةُ ، وطعامُها الجيفةُ ، وشِعارُها الخوفُ ، ودِثارُها السيفُ ، مُزِّقْتُم كلَّ مُمَزَّقٍ ، وقد أعمَتْ عيون أهلِها ، وأظلَمَتْ عليها أيّامُها ، قد قَطعوا أرحامَهم ، وسَفَكوا دماءَهم ، ودَفَنوا في التراب الموؤودةَ بينهم من أولادهم ،

قوله عليه السلام فيه : (ثَمَرَتُها الفتنةُ ، وطَعامُها الجيفةُ ، وشِعارُها الخوفُ ، ودِثارُها السيفُ ، مُزِّقْتهم (1) كلِّ مُمَزَّقٍ) . في مختصر الشرح : استعار لفظ الثمر للفتنة باعتبار أنّها غاية للعرب يومئذٍ من حركاتهم وحروبهم ، ولفظ الجيفة لما لم يذكر اسم اللّه عليه من الذبائح أو ما كانوا يأكلونه من النهب والغارة تنفيراً عنه لحرمته ، ولفظ «الشعار» للخوف من النهب والغارات باعتبار ملازمته لهم ، ولفظ «الدثار» للسيف لعلوّه لهم غالبا ؛ انتهى (2) . والممزّق مصدر كالتمزيق ، وكان المراد بكلّ ممزّق : نهاية التمزيق ، أو التمزيق التامّ ، أو كلّ نوع من التمزيق . وفي أكثر النسخ : «قد مزّقتم» ففيه التفات إلى أصل الخطاب . قوله عليه السلام فيه : (وقد أعْمَتْ عيونُ أهلِها ، وأظلَمَتْ عليها أيّامُها) . ضمير «عليها» و «أيّامها» رجوعه إلى العيون أنسب من رجوعه إلى الأهل ؛ من حيث الإتيان بهذا الضمير دون «عليهم أيّامهم» ، ومن حيث مناسبة الإظلام للعيون . ويجوز رجوعه إلى الأهل ، والعدول حينئذٍ إلى «عليها أيّامها» لمناسبة أهلها والازدواج معه ، مع جواز أن يقال : الرجال جاءت . ويحتمل أن يكون «أيّامها» فاعل «أظلمت» من قبيل قولك : ضاع على فلان سعيه . قوله عليه السلام فيه : (وسَفَكوا دماءَهم ، ودَفَنوا في الترابِ المَوؤودَةَ بينهم من أولادِهم) . سفكهم دماءهم من حيث إنّهم يفعلون سبب سفك دمائهم من قتل مَن سفك دمه غيره أو نحوه الباعث على سفك دمه ، فهو من قبيل قولك : فلان يبحث على حتفه بظلفه ؛ أو من حيث إنّ دم الغير محترم كاحترام دم النفس ، فمن سفك دم غيره فكأنّما سفك دم نفسه ؛ أو بتقدير مضاف بمعنى يسفكون دماء أقاربهم وإخوانهم ومن ينسب إليهم ؛ أو بتقدير دماء بعضهم ببعض . و«الموؤودة» : البنت المدفونة حيّةً ، يقال : وَأدَ بنته يَئدُها : دفنها حيّةً ، وهي وَئيدٌ ووَئيدةٌ وموؤودة (3) . فهو من باب قتل قتيلاً . وفي ذكر «بينهم» تنبيه على أنّ هذا الأمر الشنيع شاع بينهم ، وصار متعارفا بحيث لا ينكره أحد منهم . و«من» في قوله «من أولادهم» تبعيضيّة ، والظرف حال . وفيه تنبيه على نهاية قساوتهم حيث يفعلون مثل هذا بمن هو من أولادهم .

.


1- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «مزّقتم» .
2- . اختيار مصباح السالكين ، ص 213 .
3- . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 342 (وأد) .

ص: 470

يَجتازُ دونَهم طيبُ العيش ورَفاهِيَةُ خُفوضِ الدنيا ؛ لا يَرجونَ من اللّه ثوابا ، ولا يَخافونَ

قوله عليه السلام فيه : (يَختارُ (1) دونَهم طيبُ العَيْشِ ورَفاهِيةُ خُفوضِ الدنيا) . يحتمل هذا الكلام وجهين : أحدهما : أن يكون استينافاً ، كأنّه قيل : لأيّ شيء يفعلون ذلك ؟ فاُجيب بأنّهم يفعلونه لاختيار طيب العيش دونهم ، ومن يقصد إلى اختيار طيب العيش دون أولاده فقد تجاوز الحدّ في القساوة وعدم كونه من قسم البشر ، بل من قسم الحيوان ، فإنّ الطباع الحيوانيّة _ فضلاً عن البشريّة _ لا تختار طيب العيش دون أولادها ، بل ربما اختارت طيب عيش أولادها دونها . وضمير «دونهم» يرجع إلى الأولاد ، وإن كان هنا اختيار العيش دون النبات فقط ، ومقتضى السياق «يختار دونهنّ» ووجهه التنبيه على أنّه لا فرق بين الذكور والإناث في عدم اختيار طيب العيش دونهم ، فإنّهم كلّهم أولاد . الثاني : أن يكون استفهاماً إنكاريّاً ، والمعنى : أنّ مثل الأولاد يختار دونهم طيب العيش ، وهذا لا يفعله ذو عقل ، فلا ينبغي أن يختار دونهم . ويقال : هو في رفاهية من العيش ، أي سعة . والخفض : الدعة ، وعيش خافض ، أي واسع (2) . و«خُفوض» _ بالضم _ يحتمل أن يكون مصدراً أو اسمه ، ويحتمل أن يكون بالفتح بمعنى فاعل ، والإضافة وصفيّة .

.


1- . في الكافي ، المطبوع : «يجتاز» .
2- . الصحاح ، ج 3 ، ص 1073 (خفض) .

ص: 471

واللّه ِ منه عقابا ؛ حَيُّهُم أعمى نَجِسٌ ، وَميِّتُهم في النار مُبْلِسٌ ، فجاءهم بنُسخَة ما في الصُّحُف الأُولى ، وتصديقِ الذي بين يديه ، وتفصيلِ الحلالِ من رَيب الحرامِ .

قوله عليه السلام فيه : (حَيُّهم أعمى نَجِسٌ ، وَميّتهُم في النار مُبْلَسٌ) أي حيّهم أعمى عن (1) نور الحقّ ومصابيح الشريعة وآدابها ، أو قلبه أعمى عن ذلك ونجس بنجاسة الكفر والضلال نجاسةً ظاهرة وباطنة . وفي غريب القرآن : مبلسون : آئسون وملقون بأيديهم ، ويقال : المبلس : الحزين المتحيّر الساكت المنقطع الحجّة ؛ انتهى (2) . قوله عليه السلام فيه : (فجاءهم بنُسخَةِ ما في الصحفِ الاُولى ، وتصديقِ الذي بين يديه ، وتفصيلِ الحلالِ من رَيْبِ الحرامِ) . الخطاب في الأوّل بقوله عليه السلام : «أيّها الناس إنّ اللّه تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول» إلى آخره ، بمعنى : أرسل إليكم أيّها العرب ، وإن كانت رسالته عامّة ، ويمكن دخول من حضر من غيرهم بالتبعيّة ، أو الإصالة ، أو مطلقا ، وخطابهم بمثله مع وجود المخاطبين وعدمهم وقت الإرسال جائزٌ باعتبارهم واعتبار آبائهم وقت كذا وكذا ، وأنتم على حال كذا وكذا ، إذ فعلت الدنيا بأهلها كذا وكذا ، فجاءهم بنسخة مافي الصحف الاُولى ، أي بالقرآن الذي اشتمل على ما في الصحف الاُولى . ويحتمل بعيداً أن يكون «نسخة» مصدرا مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه و آله الذي هو فاعل ، وبُعْدُه من جهة قوله عليه السلام : ذلك القرآن . و«تصديق» معطوف على «نسخة ما في الصحف الاُولى» أي جاءهم بالنسخة وبتصديق الذي بين يديه ، وباعتبار تقدّم ما في الصحف عليه صلى الله عليه و آله ، وعلمه به ، وحضوره لديه ، كان بين يديه ، وجاءهم بتفصيل الحلال من ريب الحرام . وتفصيله منه بمعنى فصله وتمييزه والتفصيل لتمام إيضاحه وفرق بعضه من بعض بحيث لا يبقى شكّ ولا شبهة ؛ أو أنّه أتى بالتفصيل دون الفصل ليدلّ على فصل الحلال من الحرام مع تفصيله في نفسه ، وذكر «مِن» يدلّ على ارادة الفصل من التفصيل . وأصل الريب الشكّ والشبهة . وكأنّ المراد هنا _ واللّه أعلم _ أنّه ميّز الحلال مما فيه شكّ الحرام وشبهته ، فالحرام الصرف بطريق أولى ، أو يقال : إنّه كما دلّ التفصيل في الحلال على الفصل مع التفصيل في نفسه ، دلّ الريب على أنّه لم يبق في الحرام أيضاً ما فيه شكّ أو شبهة ؛ أو بمعنى الحرام الذي هو الريب أو محلّ لأن يرتاب فيه ، لا بمعنى كونه يرتاب فيه هل هو حرام أو غير حرام؟ وعلى كون المراد به الحرام الذي هو نفس الريب كأنّ معناه غير أصل معنى الريب ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب»: «من» .
2- . تفسير غريب القرآن ، ص 300 .

ص: 472

ذلك القرآنُ فاستَنْطِقوه .........

قوله عليه السلام فيه : (ذلك القرآنُ فَاسْتَنْطِقوه ولن يَنطِقَ لكم أُخبِرُكم عنه ، إنّ فيه علمَ ما مضى وعلمَ ما يأتي إلى يومِ القيامةِ ، وحُكمَ ما بينكم ، وبيانَ ما أصبحتم فيه تَختَلِفونَ ، فلو سألتموني عنه لَعَلَّمْتُكم) . الإشارة هنا كالإشارة في قوله تعالى : « ذَلِكَ الْ_كِتَ_ابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ » (1) . وقوله عليه السلام : «فاستنطقوه» ليس أمراً حقيقيّاً باستنطاق الكتاب ، بل أمرهم باستنطاقه بلسان من يعلم ما فيه وينطق به ، فإنّهم عليهم السلام لسان القرآن الذي ينطق به .

.


1- . البقرة (2) : 2 .

ص: 473

ولن ينطقَ لكم ، اُخبِرُكم عنه ، إنّ فيه علمَ ما مضى ، وعلمَ ما يأتي إلى يوم القيامة ، وحُكمَ ما بينَكم ، وبيانَ ما أصْبَحْتم فيه تَختلفونَ ، فلوسَأَلتُموني عنه لَعَلَّمْتُكم» .

وقوله عليه السلام «ولن ينطق لكم» يعني به أنّكم لا تتوهّموا أنّ مرادي باستنطاقه أن ينطق لكم بلسان ونحوه ، كما ينطق الإنسان ، فإنّ هذا لا يكون منه في الدنيا بحسب ماجرت به عادة اللّه ، وإلاّ فاللّه سبحانه قادرٌ على إنطاقه كإنطاق الشجرة والجوارح وغيرها . وحاصله : أنّكم اطلبوا منه أن يخبركم بما فيه ، وأنا الذي يعبّر عنه . ويمكن أن يكون مراده عليه السلام أنّهم قد علموا بأنّ في القرآن تبيانَ كلّ شيء ، وأنّ اللّه سبحانه أنزله لمصلحة العباد والعمل بما فيه ، وأنّهم لا يعلمون مافيه ، فاستعلامهم بأحد أمرين : إمّا أن يطلبوا من القرآن أن ينطق لهم بالبيان ، أو يكونَ البيان ممّن يعلم القرآن ، فأمرهم بالاستنطاق للتعجيز وأنّ هذا لا يقع أصلاً ، فما بقي إلاّ أن يكون أحد ينطق عنه ويبيّن ما فيه ، وذلك منحصر في أميرالمؤمنين عليه السلام في ذلك الوقت ، وليس لأحد غيرِه ممّن خالفه أهليّةُ ذلك . ويحتمل أن يكون المراد من استنطاقه معرفةَ الأحكام وغيرها منه من غير بيان لهم ، ثمّ بيّن لهم عليه السلام مافيه على وجه الإجمال ، فقال : «إنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة ، وحكم ما بينكم ، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون ، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم» . فقوله عليه السلام : «وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون» يريد به _ واللّه أعلم _ أنّ هذا الاختلاف الواقع بينكم في أمر من تجب طاعته وغيره وغير ذلك من الاختلاف لو سألتموني ورجعتم إليّ لأخبرتكم بما دلّ عليه القرآن ممّا يرفع الاختلاف عنكم ، ويدلّكم على الحقّ الواضح ، فإنّ دين اللّه واحد ، ولم يدَع في القرآن ما يحصل بسببه الاختلاف بعد بيانه من أهله . وفي «لو» دلالة على امتناع وقوع ذلك منهم ولو من جميعهم ، وحاصل الكلام منه عليه السلام تذكيرهم بنعمة اللّه التي رُفعت عنهم ما كانوا فيه من البؤس والشقاء ، وهي بعثة الرسول صلى الله عليه و آله وما يترتّب لهم عليها من المنافع الدنيويّة والاُخرويّة ليعتبروا ويشكروا اللّه على هذه النعمة ويطيعوا أهل العدل لتبقى لهم ويفوزوا بسعادَتيِ الدارين ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 474

محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن عبدالجبّار ، عن ابن فضّال ، عن حمّاد بن عثمانَ ، عن عبدالأعلى بن أعيَنَ ، قال :سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «قد وَلَدَني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله وأنا أعلَمُ كتابَ اللّه ، وفيه بَدءُ الخلقِ ، وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة ، وفيه خَبَرُ السماء وخَبَرُ الأرض ، وخَبَرُ الجنّة وخَبَرُ النار ، وخَبَرُ ما كانَ ، وَ خَبَرُ ما هو كائنٌ ، أعلَمُ ذلك كما أنظُرُ إلى كَفّي ، إنّ اللّه َ يقول : « فيه تبيانُ كلّ شيء » » .

قوله عليه السلام في حديث عبدالأعلى بن أعينَ : (قد ولدني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا أعلم كتابَ اللّه ، وفيه بَدْءُ الخَلِقْ ، وما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ ، وفيه خبرُ السماءِ وخبرُ الأرضِ ، وخبرُ الجنّةِ وخبرُ النارِ ، وخبرُ ما كانَ وما هو كائنٌ ، أعلمُ ذلك كما أنظر إلى كفّي ، إنّ اللّه يقول : فيه تبيان كلّ شيء) (1) . الأحاديث التي تضمّنت كونهم عليهم السلام يعلمون كلّ ما في القرآن كثيرة من طرق المخالف والمؤالف ، ولمّا كانت تدلّ على أنّ من يعلم ذلك من عترته عليه السلام وذرّيّته ككونهما حبلين ممدودين (2) ، وكونهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض (3) ، وأنّ الكتاب والعترة من تمسّك بهما لن يضلّ (4) ، وكون الأئمّة من ولد الحسين عليه السلام (5) ، وغير ذلك ممّا لو ذكر لأحوج إلى ما لا يسعه المقام ويطول بذكره الكلام ، استدلّ عليه السلام على الخصم بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد ولده وهذا لا ينكر ، ثمّ قال : إنّه يعلم كتاب اللّه وفيه كذا وكذا علماً يقينيّاً ، كما أنّه ينظر إلى كفّه ، فكما أنّ هذا يقينيٌّ فالعلم بما في الكتاب مثله ، من حيث ظهور هذا العلم وانكشافه لكلّ أحد . ثمّ ذكر عليه السلام ما به تتمّ الدعوى والدليل ، ومعناه أنّ اللّه سبحانه قد أخبر بأنّ في القرآن تبيانَ كلّ شيء ، وأحكام اللّه تعالى لا تختلف في الواقع ونفس الأمر ، ولا يفهم من التعبير عنها شخص غيرَ ما يفهمه الآخر ، فما كان كذلك لم يكن حكمَ اللّه يقيناً باعتبار الفهم المختلف ، فليست الأفهام مناطاً لحكم اللّه في الواقع ، وكونُه تعالى أنزل في القرآن تبيانَ كلّ شيء لأجل مصلحة الاُمّة واستعلامهم ما يحتاجون إليه ، وطلبَ معرفته إذا لم ينصب من يبيّن لهم ذلك يكون إنزاله وكون فيه تبيان كلّ شيء ممّا لم يعلم من القرآن عبثاً ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيرا . فلابدّ أن ينصب من يبيّن ذلك ، وقد كان المبيّن رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله في حياته ، ولم يحصل البيان لجميع مافيه لغيرهم عليهم السلام ، فلابدّ من مبيّن في كلّ وقت يحتاج فيه إلى البيان ، والاحتياج باق إلى آخر الزمان وانقطاع التكليف ، فكان عليه السلام في وقته هو المبيّنَ ، ومن لم يصدّق فعليه بالاختبار والامتحان ، ولم يدّعِ هذا أحد غيرهم عليهم السلام ، ولا حصل إنكار ما بيّنوه من ذي عقل منصف ، فهم عليهم السلام أهل القرآن وتراجمته 6 دون غيرهم بنصّ اللّه ورسوله .

.


1- . إشارة إلى الآية 89 من سورة النحل (16) : « وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَ_ابَ تِبْيَ_انًا لِّكُلِّ شَىْ ءٍ » .
2- . المجازات النبويّة ، للشريف الرضي ، ص 216 ؛ العمدة ، لابن البطريق ، ص 83 و118 ؛ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 9 ، ص 133 ؛ إيمان أبي طالب ، للفخّار ، ص 65 ؛ بحار الأنوار ، ج 29 ، ص630 .
3- . بصائر الدرجات ، ص 413 ، باب في قول رسول اللّه : إنّي تارك ... ، ح 3 ؛ الكافي ، ج 2 ، ص 414 ، باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا ... ، ح 1 ؛ كمال الدين ، ج 1 ، ص 238 ، الباب 22 ، ح 54 ؛ معاني الأخبار ، ص 91 ، باب معنى الثقلين والعترة ، ح 5 ؛ الأمالي ، للمفيد ، ص 45 . المجلس 6 ، ح 6 ؛ الإرشاد ، ج 1 ، ص 176 ؛ الغيبة ، للنعماني ، ص 41 ، باب فيما جاء في تفسير قوله تعالى : « وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا » ، ح 2 ؛ الأمالي ، للطوسي ، ص 161 ، المجلس 6 ، ح 20 .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 529 ، باب ما جاء في الاثنى عشر ... ، ح 4 ؛ الأمالي ، للصدوق ، ص 26 ، المجلس 7 ، ح 3 ؛ وص 131 ، المجلس 27 ، ح 8 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 47 ، الباب 6 ، ح 8 ؛ وص 57 ، الباب 6 ، ح 25 ؛ معاني الأخبار ، ص 126 ، باب معنى الكلمات التي ... ، ح 1 ؛ الغيبة ، للنعماني ، ص 68 ، باب ما روي في أنّ الأئمّة اثنا عشر ، ح 8 ؛ وص 82 ، نفس الباب ، ح 12 ؛ الغيبة ، للطوسي ، ص 137 ؛ الاحتجاج ، ج 1 ، ص 69 و 141 و 148 .
5- . في «ج»: «تراجمة الوحي».

ص: 475

. .

ص: 476

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن النعمان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«كتابُ اللّه فيه نباُ ما قبلكم ، وخبرُ ما بعدَكم ، وفَصْلُ ما بينَكم ، ونحنُ نَعلَمُهُ» .

عدّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن إسماعيل بن مِهرانَ ، عن سيف بن عَميرة ، عن أبي المغراء ، عن سَماعةَ ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال :قلت له :

قوله عليه السلام في حديث إسماعيل بن جابر : (كتابُ اللّه فيه نَبَأُ ما قبلَكم ، وخَبَرُ ما بعدَكم ، وفَصْلُ ما بينَكم ، ونحن نَعْلَمُه) . قد يشعر قوله عليه السلام : «نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم» بأنّ النبأ ، بما تقدّم ، والخبر بما يأتي ، أو أنّه أفصح إن لم يكن ؛ لعدم تكرار لفظ النبأ ، وقد تقدّم في الحديث السابق «وخبر ما كان وما هو كائن» ؛ واللّه أعلم . قال الراغب : النبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنّ ، ولا يقال للخبر : نبأ حتّى يتضمّن ما ذكر ؛ فهو أخصّ من مطلق الخبر ؛ انتهى (1) . وعلى هذا يمكن أن يكون ذكر الخبر لما بعد من حيث احتمال تعلّق البداء ببعضه وتوقّفه على شرط ، وهذا إن علموا عليهم السلام به فقد لا يعلمون وقوع الشرط وعدم وقوعه ، وهذا بخلاف ما تقدّم ، فإنّ الإخبار به لا يحتمل شيئاً من ذلك ؛ واللّه تعالى أعلم . [قوله :] في حديث سماعة عن أبي الحسن موسى عليه السلام : (قالَ : قلتُ له : أكُلُّ شيءٍ في كتابِ اللّه ِ وسُنّةِ نبيّه صلى الله عليه و آله ؟ أو يَقولونَ (2) فيه؟ قالَ : «بل كلُّ شيءٍ في كتابِ اللّه ِ وسُنَّةِ نبيّه صلى الله عليه و آله ») .

.


1- . المفردات ، ص 481 (نبأ) .
2- . في الكافي المطبوع وبعض نسخه : «تقولون» .

ص: 477

باب اختلاف الحديث

أكلُّ شيء في كتاب اللّه ِ وسُنّة نبيِّهِ صلى الله عليه و آله أو تقولون فيه؟ قال : «بل كلُّ شيءٍ في كتاب اللّه وسنَّةِ نبيّه صلى الله عليه و آله » .

باب اختلاف الحديثعليُّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيمَ بن عُمر اليمانيّ ، عن أبان بن أبي عَيّاش ، عن سُليم بن قيس الهلاليّ، قال : قلت لأميرالمؤمنين عليه السلام :إنّي سمعتُ من سلمانَ والمقدادِ وأبي ذرٍّ شيئا من تفسير القرآن وأحاديثَ عن نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله غيرَ ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعتُ منك تصديقَ ما سمعتُ منهم ، ورأيتُ في أيدي الناس أشياءَ كثيرةً من تفسير القرآن ، ومن الأحاديث عن نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله أنتم

معنى قول الراوي : «أ كلّ شي» إلى آخره : أ كلّ شيء فيهما في الواقع ، أو يقولون : إنّ كلّ شيء فيه من غير أن يكون ذلك واقعاً . وقوله عليه السلام : «بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه» لاينافي ما تقدّم من كون الكتاب فيه تبيانُ كلّ شيء ؛ لأنّ كلّ شيء في الكتاب والسنّة إمّا بمعنى كلّ شيء في كتاب اللّه وكلّ شيء في سنّة نبيّه (1) صلى الله عليه و آله وكلّ شيء في السنّة مبيّن لكلّ شيء في الكتاب ؛ أو بمعنى كلّ شيء في الكتاب وما وقع منه مبيَّناً بالسنّة صحّ أن يقال بالنسبة إليه : أنّ كلّ شيء في الكتاب والسنّة ؛ أو بمعنى أنّ الكتاب والسنّة واحد ، بمعنى أنّ ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله واحد ، وهو ما تضمّنه الكتاب والسنّة ، فكلّ شيء في الكتاب والسنّة بهذا المعنى . وقول الراوي : «أو يقولون فيه» دون أن يقول «فيهما» يؤيّد ما ذكر ؛ واللّه أعلم .

باب اختلاف الحديثقوله عليه السلام في حديث سُلَيم بن قيس الهلالي : (إنّ في أيدي الناسِ حَقّاً وباطلاً ، وصِدقاً وكِذباً) .

.


1- . في «ج» : «كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه» بدل «كلّ شيء في كتاب اللّه وكلّ شيء في سنّة نبيّه» .

ص: 478

تُخالفونَهم فيها ، وتَزعُمونَ أنّ ذلك كلَّه باطلٌ ؛ أفَتَرى الناسَ يَكذِبونَ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله مُتعمِّدين ، ويُفسّرونَ القرآنَ بآرائهم؟ قال : فأقبَلَ عَلَيَّ ، فقال : «قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلاً ، وصِدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وعامّا وخاصّا، ومحكما ومتشابها، وحِفظا ووَهما ،

المراد _ واللّه أعلم _ بما في أيدي الناس من الحقّ ما هم عليه من متابعته عليه السلام ومتابعة ما أمر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ونهى عنه ونحوه ، والباطل خلافه . وهذا لا يوصف بالصدق والكذب ، والصدق ما روي عنه صلى الله عليه و آله ، والكذب ما أُسند إليه ولم يرو عنه . والصدق قد يكون غير حقّ كالمنسوخ والعامّ الذي لم يُحمل على الخاصّ ونحوه . قال شيخنا البهائي _ قدّس سرّه _ في شرح الأربعين في هذا الحديث : «المحكم» في اللغة هو المضبوط المتقن ، ويطلق في الاصطلاح على ما اتّضح معناه ، وظهر لكلّ عارف باللغة مغزاه (1) ، وعلى ما كان محفوظاً من النَسخ أو التخصيص ، أو منهما معاً ، وعلى ما كان نظمه مستقيماً خاليا عن الخلل ، وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلاّ وجها واحداً ؛ ويقابله بكلّ من هذه المعاني المتشابهُ . وكلّ منهما يجوز أن يكون مراداً له عليه السلام بقوله : «محكما ومتشابها» انتهى (2) . قوله صلى الله عليه و آله فيه : (أيّها الناسُ ، قد كَثُرَتْ عليَّ الكَذّابَةُ ، فمن كَذَبَ عَلَيَّ متعمّداً فَلْيَتَبَوَّأ مَقعَدَه من النارِ) . قيل : إنّ هذا الحديث من الأحاديث المتواترة . والكذّابة جمع كذّاب ، كسيّارة وجلاّلة وحطّابة وفعّالة ، وهو كثير شائع فصيح ، ومن اجترأ على الكذب على مثله صلى الله عليه و آله كان كذّاباً . والكِذّابة _ بالكسر : فعّالة بمعنى مفعولة بتقدير الكلمة المكذوبة (3) _ ممّا ينزّه عنه كلام الفصيح لغرابته وبُعده (4) فكيف بكلام أفصح العرب صلى الله عليه و آله . قال الشيخ بهاء الدين قدّس سرّه : والجارّ إمّا متعلّق به ، أي ب_ «الكذّابة» أو ب_ «كثرت» على تضمين «اجتمعت» ونحوه ؛ انتهى (5) . وفي تضمين «اجتمعت» نظر ؛ لأنّ الاجتماع لايناسبه المقام ، فإنّ اجتماعهم مع كثرتهم على الكذب أو عليه عليه السلام للكذب كأنّه غير ملحوظ ولا يحتاج إليه ، والاجتماع قد يناسبه نحو ذلك : «تكاثروا عليَّ» لا«كثروا» ، فالظاهر عدم الاحتياج إلى التضمين ، فإنّ مثل «كثر عليه» و«كبر عليه» لا يحتاج معه إلى شيء في دلالته على معناه ؛ على أنّ «تكاثروا أيضاً» قد لا يحتاج فيه إلى التضمين . وتعلّقه ب_ «الكذّابة» وإن جوّزه بعض النُحاة إلاّ أنّه بعد «كثروا» كأنّه بعيد تعلّقه به ، والذي يمنع مثله ينظر إلى عدم جواز تقدّم معمول صلة «ال» عليها . واستدلّ المجوّز بقوله تعالى : « وَ كَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ » (6) . وعن النهاية في قوله صلى الله عليه و آله : «فليتبوّأ مقعده من النار» : قد تكرّرت هذه اللفظة في الحديث ، ومعناها : لينزل منزله من النار ، يقال بوّأه اللّه منزلاً ، أي أسكنه إيّاه ، وتبوّأ منزلاً ، أي اتّخذه ؛ انتهى (7) .

.


1- . مغزى الكلام : مقصده . لسان العرب ، ج 15 ، ص 123 (غزا) .
2- . الأربعون حديثا ، ص 293 .
3- . في حاشية «ألف ، د» : «أي بصيغة المبالغة ، أي كثير الكذب ، أو شديده ، أو عظيمه (منه) » .
4- . في حاشية «ألف ، د» : «ضبطها مير محمّد باقر رحمه اللّه بالكسر والتخفيف بالمعنى المذكور ، وشنع على من جعلها مشدّدة بالمعنى السابق (منه ) » . وللمزيد راجع : التعليقة ، للداماد ، ص 146 ؛ شرح المازندراني ، ج 2 ، ص 377 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 279 ؛ مرآة العقول ، ج 1 ، ص 378 .
5- . الأربعون حديثا ، ص 294 .
6- . يوسف (12) : 20 .
7- . النهاية ، ج 1 ، ص 159 (بوأ) .

ص: 479

. .

ص: 480

وقد كُذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله على عهده حتّى قام خطيبا ، فقال : أيّها النّاس ، قد كَثُرَتْ علَيَّ الكَذّابَةُ ، فمن كَذَبَ علَيَّ مُتعمّدا فَلْيتبوَّأ مَقعدَه من النار ، ثمّ كُذِبَ عليه من بعده ، وإنّما أتاكم الحديثُ من أربعةٍ ليس لهم خامس : ص 63 رجلٍ منافقٍ يُظهر الإيمانَ ، مُتصنِّعٍ بالإسلام ، لا يَتأثَّمُ ولا يَتحرَّجُ أن يَكذبَ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله متعمّدا ؛ فلو عَلِمَ الناسُ أنّه منافق كذّاب ، لم يَقبلوا منه ولم يُصدّقوه ، ولكنّهم قالوا هذا قد صَحِبَ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله ورآه وسَمِعَ منه ، وأخَذوا عنه وهم لا يَعرفون حالَه . وقد أخبَرَه اللّه عن المنافقين بما أخبَرَه ، ووَصَفَهم بما وَصَفَهم ، فقال عزّ وجلّ : « وَ إِذَا

قوله عليه السلام فيه : (رجلٍ منافقٍ يُظهِرُ الإيمانَ ، مُتَصَنِّعٍ بالإسلامِ ، لا يَتَأَثَّمُ ولا يَتَحَرَّجُ أن يَكْذِبَ على رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله مُتَعَمِّداً) . «المنافق» مأخوذٌ من النفق وهو السرب ، أي يتستّر بالإسلام كما يتستّر الرجل في السرب ، ويقال : هو من قولهم : نافق اليربوع ونفق : إذا دخل نافقاءه ، فإذا طُلب من النافقاء ، خرج من القاصعاء ، وإذا طُلب من القاصعاء ، خرج من النافقاء ، والنافقاء والقاصعاء والراهطاء والدامساء أسماء جِحَرَة اليربوع ؛ ذكره في الغريب (1) . وتصنّعه بالإسلام : تكلّفه له ، وتدلّسه به ، وتحلّيه به من غير أن يكون من أهله . «لا يتأثّم» أي لا يعدّ نفسه آثماً بما يفعله من الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله . «ولا يتحرّج» أي لا يعتقد أنّ عليه في ذلك حرجاً . والحرج : الضيقُ . وفي الصحاح : تأثّم ، أي تحرّج عنه وكفّ (2) . فالعطف تفسيريّ . وعلى الأوّل معناه : لا يجعل هذا أمراً ضيّقاً عليه بحيث يمتنع منه ، وأصل التأثّم والتحرّج للتجنّب ، أي ليدلّ على أنّ الفاعل جانَبَ أصل الفعل ، وهو هنا كذلك ، فحمْله على أصله أولى . قوله عليه السلام فيه : (وقد أخْبَرَهُ اللّه ُ عن المنافقينَ بما أخبَرَه ، ووَصَفَهم بما وَصَفَهم ،

.


1- . غريب القرآن ، ص 428 .
2- . الصحاح ، ج 5 ، ص 1858 (أثم) .

ص: 481

رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ » ثمَّ بَقوا بعدَه ، فَتَقَرَّبوا إلى أئمّة الضلالة والدُّعاةِ إلى النار بالزور والكَذِب والبهتان ، فَوَلّوهم الأعمالَ ، وحَمَلُوهم على رِقاب الناس ، وأكُلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناسُ مع الملوك والدنيا إلاّ مَن عَصَمَ اللّه ، فهذا أحدُ الأربعة . ورجلٍ سَمِعَ من رسول اللّه شيئا لم يَحْمِلْه على وجهه ووَهِمَ فيه ، ولم يَتعمَّدْ كذبا ، فهو في يده ، يقول به ، ويَعمل به ، ويَرويه ، فيقول : أنا سمعتُه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلو عَلِمَ المسلمون أنّه وَهِمَ لم يَقبَلوه ، ولو عَلِمَ هو أنّه وَهِمَ لرَفَضَه . ورجلٍ ثالثٍ سَمِعَ من رسول اللّه صلى الله عليه و آله شيئا أمَرَ به ثمَّ نهى عنه وهو لا يعلَمُ ، أو سَمِعَه ينهى عن شيء ثمَّ أمر به وهو لا يعلم ، فحَفِظَ منسوخَه ولم يَحفَظِ الناسخَ ، ولو علم أنّه منسوخ لرَفَضَه ، ولو علم المسلمونَ إذ سمعوه منه أنّه منسوخٌ لَرَفَضُوه . وآخَرَ رابعٍ لم يَكْذِبْ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، مُبغضٍ للكذب خوفا من اللّه وتعظيما لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لم يَنْسَه ، بل حَفِظَ ما سمِع على وجهه ، فجاء به كما سمِع ، لم يَزِدْ فيه ولم يَنقُصْ منه ، وعلِم الناسخ من المنسوخ ، فعمِلَ بالناسخ ورَفَضَ المنسوخَ ،

فقال عزّ وجلّ : « وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ » (1) ثمّ بَقُوا بعدَه ، فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالِ (2) والدُّعاةِ إلى النارِ بالزورِ والكَذِبِ والبهتانِ ... ) . لمّا كان سلوك المنافقين وتدليسهم بحيث يوجب اغترار الناس بهم ، وتصديقهم فيما يدّعون أنّه عن النبيّ صلى الله عليه و آله من الأحاديث (3) ، كانوا يقبلون منهم ، وقد أخبر اللّه تعالى نبيّه صلى الله عليه و آله عن حالهم بقوله : « وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ » لأنّ هيئتهم وترتيب كلامهم محلّ أن يتوهّم فيهم ذلك . ويحتمل أن يكون المراد من الإخبار عنهم الإخبارَ الواقع في غير هذه الآية ، والمراد من الوصف ما في الآية ؛ ويحتمل غير ذلك . وظاهر العبارة الأوّل (4) ؛ واللّه أعلم . وأئمّة الضلال معلومون هم ، ومن كانوا يقربونه من المنافقين . والجارّ في «بالزور» متعلّق بتقرّبوا . والزور : الكذب ؛ فالعطف تفسيريّ . ويحتمل أن يكون بمعنى الرأي ، يقال : ماله زور ، أي رأي (5) . وبَهَتَه بَهْتاً وبُهتاناً : قال عليه ما لم يفعله (6) .

.


1- . المنافقون (63) : 4 .
2- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «الضلالة» .
3- . في «ج» : + «المصنوعة» .
4- . في «ج» : «الآية» .
5- . الصحاح ، ج 2 ، ص 672 (زوز) .
6- . انظر لسان العرب ، ج 2 ، ص 12 (بهت) .

ص: 482

فإنَّ أمْرَ النبيّ صلى الله عليه و آله مثلُ القرآنِ ناسخٌ ومنسوخٌ ، وخاصٌّ وعامٌّ ، ومحكمٌ ومُتشابِهٌ ، قد كان يكون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكلامُ له وجهان : كلامٌ عامٌّ ، وكلامٌ خاصٌّ مثلُ القرآن ،

قوله عليه السلام فيه : (فإنّ أمْرَ النبيِّ صلى الله عليه و آله مثلُ القرآنِ ناسخٌ ومنسوخٌ ... ) . يحتمل أن يكون المراد بأمر النبيّ عليه السلام كلامَه الشامل للأمر وغيره ، أو هو بمعنى : شأن كلامه كشأن القرآن ، أو باعتبار كونه يرجع جميعه إلى الأمر بنوع من التوجيه ، أو باعتبار التغليب . و«ناسخ» خير ثانٍ ل_ «أنّ» ، أو خبر مبتدأ تقديره «بعضه» ، وكذا «منسوخ» . ويجوز كونه بدلاً من القرآن ، كما أفاده شيخنا البهائي قدّس سرّه ، بناءً على عدم لزوم صحّة إقامة البدل مُقام المُبْدل ، واستشهد بقول صاحب الكشّاف في قوله تعالى : « وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ » (1) . قوله عليه السلام فيه : (قد كانَ يكونُ من رسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله الكلامُ له وَجْهانِ) . جملة «له وجهان» إمّا حال من الكلام ؛ لتعريفه ، وإمّا صفة ؛ لكون تعريفه جنسيّاً . واسم «كان» ضمير الشأن . و«يكون» تامّة ، و«الكلام» فاعلها . وكون «يكون» ناقصةً ، كما ذكره الشيخ بهاء الدين (2) _ قدّس سرّه _ مع الأوجه المذكورة ، و«الكلامِ» اسمَها ، و«له وجهان» خبرَها كأنّه بعيد بعد قوله عليه السلام : «من رسول اللّه » فإنّ نحو قولك : «كان منك كذا ، وكان منّي كذا» إذا تأمّلته لم تجده ينفكّ عن معنى التمام . وعلى تقدير كونها ناقصة ، فالظاهر أنّ قوله : «من رسول اللّه » خبر مقدّم ، و «له وجهان» صفة «الكلام» الذي هو اسمها ، أو حال منه ؛ وإن كان ما أفاده محتملاً على تقدير النقص إن تمّ ، وكان المقام يأباه . بقي احتمال لا يخلو من بُعد ، وهو أن يكون «الكلام ذو الوجهين» اسمَ «كان» ، وجملة «يكون» مع الضمير خبرَها ، وحاصله : كان الكلام ذو الوجهين ، وكلام عامّ وكلام خاصّ يوجد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وعطف «كلام عامّ» وما بعده بالتنكير ؛ لكون «الكلام» في حكم النكرة ، وإن كان ذلك وعكسه لا حرج فيه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الأربعون حديثا ، ص 294 . وانظر : الكشّاف ، ج 2 ، ص 52 . والآية في سورة الأنعام (6) : 100 .
2- . الأربعون حديثا ، ص 295 .

ص: 483

وقال اللّه عزَّ وجلَّ في كتابه : « وَ مَآ ءَاتَ_اكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَ_اكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ »

قوله عليه السلام فيه : (وقالَ اللّه ُ عَزَّ وجَلَّ في كتابِه : « مَآ ءَاتَ_اكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَ_اكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ » (1) ) يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون عليه السلام ذكر هذه الآيةَ لمعنى أنّ اللّه سبحانه قال كذا ، فكان من سمعها إذا سمع شيئاً من الرسول صلى الله عليه و آله ينقله ويعمل به تمسّكاً بظاهر الآية بأنّ ما سمعه _ كيف كان _ داخلٌ تحت قوله تعالى : « مَآ ءَاتَ_اكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَ_اكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ » ولم يتفحّص عن شروط ما آتاهم وما نهاهم عنه من كونه منسوخاً أو غير منسوخ ، وعامّا أو خاصّا ، ومحكماً أو متشابهاً ، وغير ذلك ؛ فما آتاهم الرسول عليه السلام ينبغي أن يكون أخذه مع الشروط المذكورة ونحوها ، وكذا ما نهى عنه ؛ وحينئذٍ فقوله عليه السلام بعده : «فيشتبه» إلى آخره متفرّع على ما ذكره من قوله تعالى وما قبله . الثاني : أن يكون عليه السلام ذكرها لمعنى أنّ اللّه سبحانه أمر بأخذ ما آتاهم الرسول والانتهاء عمّا نهاهم عنه ، لكن على وجهه وبالشروط المعتبرة : من فهم كلامه عليه السلام ومعرفة الخاصّ منه والعامِّ ، وما له وجهان والمراد منهما أحدهما ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ ونحو ذلك ، فهذا ممّا ينبغي أخذه والعمل به ؛ وحينئذٍ تفريع «فيشتبه» على ما قبل الآية . وكان هذا الذي خطر للشيخ بهاء الملّة و (2) الدين قدّس سرّه ، أو الذي اعتمد عليه ؛ فلهذا قال : «فيشتبه» متفرّعٌ على ما قبل الآية (3) ، ولم يذكر ما يدلّ على الوجه الأوّل ، وكان الأوّل غير بعيد ، ولا اعتراض فيه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الحشر (59) : 7 .
2- . في «ج» : - «الملّة و»
3- . الأربعون حديثا ، ص 295 .

ص: 484

فيَشْتَبِهُ على من لم يعرِفْ ولم يَدرِ ما عَنَى اللّه ُ به ورسولهُ صلى الله عليه و آله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يسألُه عن الشيء فيَفهَمُ ، وكانَ منهم من يسألُه ولا يَستَفهِمهُ ، حتّى أن كانوا ليُحِبّونَ أن يَجيءَ الأعرابيُ والطارِئُ ، فيسألَ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله حتّى يَسمعوا .

قوله عليه السلام فيه : (فيَشْتَبِهُ على مَن لَمْ يَعرِفْ ولم يَدْرِ ما عَنَى اللّه ُ به ورسولُ اللّه (1) صلى الله عليه و آله ، وليس كلُّ أصحابِ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله كانَ يَسأَلُه عن الشيءِ فَيَفْهَمُ ، وكانَ منهم من يَسأَلُه ولاَ يَسْتَفْهِمُهُ ، حتّى أنْ كانوا لَيُحِبّونَ أن يَجِيءَ الأعرابيُّ والطارِئُ فيَسألَ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله حتّى يَسمَعوا) . هذا الكلام منه عليه السلام لبيان أنّه لم يكن كلّ أصحابه عليه السلام كان [ يسأل ] وإن سأل يفهم ما يجيبه به على وجهه ، وكان منهم من يسأله ولا يستفهم منه ما معناه ، وذلك إمّا لتقصير أو احترام أو نحو ذلك،فكانوا يكتفون بما يسمعون، ولايعرفونه على وجهه. ويفهم منه أنّ بعض أصحابه غيره عليه السلام ربما كان يسأل ويفهم ويستفهم ولو في الجملة ، وأمّا هو عليه الصلاة والسلام فكان يسأل ويفهم ويستفهم ، وإذا لم يسأل ولو يستفهم أفهمه صلى الله عليه و آله وابتدأه ليكون الحجّةَ بعده على اُمّته ، فلم يكن فيهم مثله . وفي الحديث دلالة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، وعن وقت الحاجة غير معلوم . فإن قلت : إذا كان إرسال الرسول ليبيّن للناس ، فما وجه كونه يأتي بالكلام متشابها وذا وجهين (2) ، ولم يأت به محكماً وعلى وجه واحد ؟ والقرآن لمّا كان الرسول صلى الله عليه و آله مبيّناً له ، أتى فيه بما ذكر . قلت : يمكن أن يكون الوجه الذي في القرآن بعينه جارياً في أمر الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان عليه السلام يأتي به على هذا الوجه ليرجع بيانه إلى من يقوم مقامه ، أو إلى سؤال منه ونحو ذلك،فإنّ في ذلك اعتناءً بأمر المسائل الدينيّة والتفحّص عنها وأخذها من أهلها على الوجه المعتبر لمصلحة في ذلك ، ووجوه المصلحة كثيرة . و«ما» في قوله عليه السلام : «ما عنى» موصولة تنازع فيها «يشتبه» و«يعرف» و«يدري» . الأوّل يقتضي الفاعليّة ، والثاني والثالث المفعوليّة . ويحتمل أن يكون فاعل «يشتبه» و«لم يعرف» و«لم يدر» من قبيل زيد يعطي ويمنع بمعنى الاشتباه على من ليست له معرفة ودراية . ويحتمل أن يكون «يعرف» و«يدري» تنازعا الموصولَ ، وفاعل «يشتبه» : «ذلك» أو «ما تقدّم» ونحوه ، ورجوع الضمير إلى ما تقدّم بتقديره ذلك ، ونحوه كثير في الكشّاف وغيره . قال السيوطي في شرح شواهد المغني : قال أبو عبيدة : قلت لروبة : إن أردت بقولك «كأنّه» : كأنّ الخطوط ، فقل : «كأنّها» أو كأنّ السواد والبلق ، فقل : كأنّهما ، فقال : أردت كأنّ ذلك . وبيت روبة : فيها خطوط من سواد وبلقكأنّه في الجلد توليع البهق (3) .

.


1- . في الكافي المطبوع وأكثر نسخه : «رسوله» بدل «رسول اللّه » .
2- . في «ج» : «متشابها ذا وجهين» .
3- . انظر : التبيان ، ج 1 ، ص 296 ؛ تفسير القرطبي ، ج 13 ، ص 312 ، وفيه : «أردت كلّ ذلك» بدل «أردت كأنّ ذلك» ؛ الصحاح ، ج 3 ، ص 1304 .

ص: 485

. .

ص: 486

وقد كنتُ أدخلُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله كلَّ يومٍ دَخْلَةً وكلَّ ليلةٍ دَخْلَةً ، فيُخليني فيها ، أدورُ معه حيث دارَ ، وقد عَلِمَ أصحابُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه لم يَصْنَعْ ذلك بأحدٍ من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله أكثَرُ ذلك في بيتي ، وكنتُ إذا دخلتُ عليه بعضَ منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه ، فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تَقُمْ عنّي فاطمةُ ولا أحدٌ من بَنِيَّ ، وكنتُ إذا سألتُهُ أجابَني ، وإذا سَكَتُّ عنه وفَنِيَتْ

قوله عليه السلام فيه : (فَيُخْليني فيها أدوُرُ معهُ حيثُ دارَ) . قال الشيخ بهاء الدين قدّس سرّه : «يخلّيني» إمّا من الخلوة أو من التخلية ، أي يتركني أدور معه حيث دار . والظاهر أنّه ليس المراد الدورانَ الجسميَّ ، بل العقليَّ . والمعنى : أنّه صلى الله عليه و آله كان يطّلعني على الأسرار المصونة عن الأغيار ، ويتركني أخوض معه في المعارف اللاهوتيّة والعلوم الملكوتيّة التي جلّت عن أن تكون شريعة لكلّ وارد ، أو يطَّلع عليها إلاّ واحد بعد واحد . «وعَلَّمَني تأويلَها وتفسيرَها» . «التأويل» : إرجاع الكلام وصرفه عن معناه الظاهري إلى معنى أخفى منه مأخوذ من آل يؤول إذا رجع . وقد تقرّر أنّ لكلّ آية ظهراً وبطناً . والمراد أنّه صلى الله عليه و آله اطّلعه عليه السلام على تلك البطون المصونة ، وعلى تلك الأسرار المكنونة . و«التفسير» لغة كشف معنى اللفظ وإظهارُه ، مأخوذ من الفسر ، وهو مقلوب السفر ، يقال : أسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته ، وأسفر الصبح : إذا ظهر . وفي الاصطلاح علم يبحث فيه عن كلام اللّه المنزّل للإعجاز من حيث الدلالة على مراده سبحانه . انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه . (1)

.


1- . الأربعون حديثا ، ص 295 .

ص: 487

مسائلي ابْتَدَأني ، فما نزلَتْ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله آيةٌ من القرآن إلاّ أقْرَأنيها وأملاها عَلَيَّ ، فكتبتُها بخطّي ، وعَلَّمَني تأويلَها وتفسيرَها ، وناسخَها ومنسوخَها ، ومحكمَها ومتشابِهَها ، وخاصّها وعامَّها، ودعا اللّه أن يُعطِيَني فهمَها وحفظَها، فما نسيتُ آيةً من كتاب اللّه ولاعلما أملاه عَلَيَّ وكتبْتُه منذُ دعا اللّه لي بما دعا ، وما ترك شيئا علَّمَه اللّه ُ من حلال ولا حرام ، ولا أمرٍ ولا نهيٍ ، كان أو يكون ، ولا كتابٍ مُنزَلٍ على أحد قبلَه من طاعة أو معصية إلاّ

قوله عليه السلام فيه : (فما نَزَلَتْ على رسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله آيةٌ من القرآن إلاّ أقْرَأنِيها وأملاها عَلَيَّ ، فَكَتَبتُها بخَطّي ، وعَلَّمَني تأويلَها وتفسيرَها ، وناسِخَها ومنسوخَها ، ومُحكمَها ومتشابِهَها ، وخاصَّها وعامَّها) . الظاهر أنّه ليس المراد أنّ في كلّ آية ناسخاً ومنسوخاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وخاصّاً وعامّا ، كما قد يدلّ عليه ظاهر العبارة ، بل المراد _ واللّه أعلم _ تعليمه عليه السلام كلّ ما يتعلّق بتلك الآية ممّا ذكر ، سواء اجتمع الجميع في آية أو بعضُه ، أو أنّ جميع الآيات كان يفعل معه فيها ما ذكر ، فما كان فيه ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وخاصّ وعامّ أو بعض ذلك علّمه إيّاه . ويحتمل أن يكون (1) الضمائر من قوله عليه السلام : «وعلّمني تأويلها» إلى الآخر راجعةً إلى الآيات ، لا إلى الآية ، وما قبله من الضمائر راجع إلى الآية . وقوله عليه السلام : «فكتبتها بخطّي» من قبيل قولك : كتبتُه بيدي . ومثله يفيد التأكيد ، ودفع (2) توهّم التجوّز بأن يكون من قبيل بنى الأمير المدينة ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام فيه : (ودَعا اللّه َ أن يُعطِيَني فهمَها وحفظَها ، فما نسيتُ آيةً من كتابِ اللّه ِ ولا علماً أملاه عَلَيَّ وكتبتُه منذ دعا اللّه َ لي بما دعا) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّه عليه السلام كان كلّ ما علّمه شيئاً دعا له ، فما نسي من ذلك الوقت شيئاً . وعلى الاحتمال الأخير السابق لاينافي كون الدعاء بعد كلّ آية ، كما لا ينافي التأويل والتفسير وما بعده . فإن قلت : ظاهره أنّ سبب عدم نسيانه عليه السلام شيئاً دعاؤه له ، والإمام لا يجوز عليه النسيان . قلت : إن جاز على الإمام النسيان قبل منصب الإمامة فالأمر ظاهر ، فإنّه عليه السلام ببركة دعائه صلى الله عليه و آله لم ينس شيئاً قبل أن يصل الأمر إليه ؛ وإن لم يجز مطلقا فلا بُعد في أن يكون دعاؤه له عليهماالسلام له دَخْل (3) في عصمته من النسيان بعد الدعاء ، وقبله لم يكن وقع منه ذلك بعصمة من اللّه ، على أنّه لا يلزم وقوع النسيان لو لم يكن الدعاء ؛ فتأمّل . وهذا من قبيل دعائه عليه السلام لأهل بيته بقوله : «اللهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» (4) . ويحتمل هذا ونحوه غير ما ذكر ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ألف ، ب» : «أن تكون» .
2- . في «ألف ، ب» : «رفع» .
3- . في «ج» : «ليدخل» بدل «له دخل» .
4- . الأمالي ، للطوسي ، ص 368 ، المجلس 13 ، ح 34 ؛ مسند أحمد ، ج 6 ، ص 398 و 304 ؛ سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 352 ، ح 3206 ؛ جامع البيان ، للطبري ، ج 22 ، ص 10 ؛ تفسير القرطبي ، ج 14 ، ص 183 ؛ الدرّ المنثور ، ج 5 ، ص 198 .

ص: 488

عَلَّمَنيه وحَفِظْتُه ، فلم أنسَ حرفا واحدا ، ثمّ وَضَعَ يدَه على صدري ودعا اللّه َ لي أن يَمْلَأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا ، فقلت : يا نبيّ اللّه ، بأبي أنت واُمّي ، منذُ دعوتَ اللّه َ لي بما دعوتَ لم أنْسَ شيئا ، ولم يَفُتْني شيءٌ لم أكْتُبْهُ ، أفتتخَوَّفُ عَلَيَّ النسيانَ فيما بعدُ؟ فقال : لا ، لستُ أتخوَّفُ عليك النسيانَ والجهلَ» .

قوله عليه السلام فيه : (ثمّ وَضَعَ يَدَه على صدري ودعا اللّه َ لي أن يَمْلَأَ قلبي علماً وفهماً وحُكماً ونوراً . فقلتُ : يا نبيَّ اللّه ، بأبي أنتَ واُمّي ، مُنذُ دَعَوْتَ اللّه َ لي بما دَعَوتَ لم أنْسَ شيئاً ولم يَفُتْني شيءٌ لم أكْتُبْهُ ، أفَتَتَخَوَّفُ عَلَيّ النسيانَ فيما بعدُ؟ فقال : لا ، لستُ أتَخَوَّفُ عليك النسيانَ والجهلَ) . قوله عليه السلام «ثمّ وضع» إلى آخره ، الظاهر أنّ المراد به بعد أن علّمني جميع ذلك وَضَعَ يده على صدري . والإتيان ب_ «ثمّ» باعتبار أوّل التعليم وما قاربه ، أو باعتبار أنّ الأوّل تعليم ودعاء وهذا دعاء فقط ، أو باعتبار أوّل الدعاء وهذا الدعاء ، والمعنى : أنّك قد دعوتَ اللّه لي فيما مضى فما نسيتُ شيئاً ، فهذا الدعاء لتخوّف أن يقع منّي نسيان فيما يأتي؟ فقال :لا ، لَستُ أتخوّف عليك النسيان والجهل ؛ فدعاؤه عليه السلام ثانياً كالتأكيد للدعاء الأوّل ، أو لما يقتضي زيادة عمّا فهّمه وعلّمه ممّا كان باقيا قبل الدعاء ممّا به تمام منصب الإمامة . وذكر الجهل لمعنى أنّي لستُ أتخوّف عليك النسيان فتكون بسببه جاهلاً ، فإنّ الإمام لو نسي شيئاً واحداً كان جاهلاً بالنسبة إلى ذلك الشيء ، وهو أجلّ من أن يكون منه ذلك . ويحتمل أن يكون المراد بالجهل ما هو أعمّ من ذلك . و«الحكم» بمعنى الحكمة ، ويحتمل أن يكون بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه .

.

ص: 489

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي أيّوب الخرّاز ، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال:قلت له: ما بالُ أقوامٍ يَرْوونَ عن ص 65 فلان وفلان عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله لا يُتَّهَمونَ بالكذب ، فيجيءُ منكم خلافُه؟ قال : «إنَّ الحديثَ يُنسَخُ كما يُنسَخُ القرآنُ» .

[قوله :] في حديث محمّد بن مسلم عن أبي عبداللّه عليه السلام : (قالَ : قلتُ له : ما بالُ أقوامٍ يَروونَ عن فلان وفلانٍ عن رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله لا يُتَّهَمونَ بالكَذِبِ فيَجيءُ منكم خلافُه؟ قال : «إنّ الحديثَ يُنسَخُ كما يُنسَخُ القرآنُ» ) . يحتمل أن يكون جملة «لا يتّهمون بالكذب» صفةً ثانية لأقوام ، والاُولى جملة «يروون» وأن يكون خبرَ مبتدأ محذوف بتقدير «وهم لا يتّهمون بالكذب» . والمعنى على الأوّل : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان مع عدم إتّصاف الأقوام بالكذب ، فإذا كانوا غير كاذبين كيف حال روايتهم ، وكيف وجه ما يجيء منكم بخلافه ، وحينئذٍ ففلان وفلان ممّن لا يقع منهم الكذب على رسول اللّه ، لا أنّه معلوم من كلام الراوي . وعلى الثاني : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان ، والأقوام وفلان وفلان جميعهم غير متّهمين بالكذب ، فأجابه عليه السلام بأنّ الحديث يُنسخ كما يُنسخ القرآن ، فلا يلزم ممّا يجيء منّا بخلافه كذبُهم . فإن قلت : هل يجوز أن يكون المعنى : ما بال هؤلاء لا يتّهمون بالكذب من حيث إنّه يجيء منكم خلافه ، فإنّ هذا يوجب تهمتهم بالكذب . قلت : هذا إنّما يستقيم لو كان في العبارة تقديم وتأخير ، فلو كانت هكذا : «ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيجيء منكم خلافه لا يتّهمون بالكذب» لتمّ ما ذكرت . وكذا لو كان بدلَ فاءِ «فيجيء» واوٌ ، وأمّا على ما في الكتاب فلا يستقيم . ولا بُعد في كون الفاء كانت واوا ، وحينئذٍ يتمّ الكلام بقوله : لا يتّهمون بالكذب ، وجملة «ويجيء منكم خلافه» حاليّة ؛ واللّه أعلم . بقي احتمال آخر على تقدير الواو ، وهو أن يكون عليه السلام أجابه على وجه التقيّة ، والمعنى : ما بالهم لايتّهمون بالكذب مع أنّ روايتهم عن فلان وفلان ومع مخالفة ما يجيء منكم . وعلى الفاء أيضاً يمكن حمل الجواب على التقيّة .

.

ص: 490

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي نجران ، عن عاصم بن حُميد ، عن منصور بن حازم ، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : ما بالي أسألُكَ عن المسألة فتُجيبُني فيها

[قوله :] في حديث منصور بن حازم : (قالَ : قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : ما بالي أسألُك عن المسألةِ فَتُجيبُني فيها بالجوابِ ، ثمّ يَجيئُك غيري فتُجيبُه فيها بجوابٍ آخَرَ؟ فقال : «إنّا نُجيبُ الناسَ على الزيادةِ والنقصانِ» . قالَ: قلتُ: فأخبِرْني عن أصحابِ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله صَدَقوا على محمّدٍ أم كَذَبوا؟ قال : «بل صَدَقوا» . قالَ : قلتُ : فما بالُهم اخْتَلَفوا؟ فقالُ : «أما تَعلَمُ أنّ الرجلَ كانَ يأتي رسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله فيَسألُه عن المسألةِ ، فيُجيبُه فيها بالجوابِ ، ثمّ يُجيبُه بعد ذلك ما يَنْسَخُ ذلك الجوابَ ، فَنَسَخَتِ الأحاديثُ بعضُها بعضاً») .

.

ص: 491

بالجواب ، ثمَّ يَجيئُك غيري فتُجيبُه فيها بجواب آخَرَ؟ فقال : «إنّا نُجيبُ الناسَ على الزيادة والنقصان» . قال : قلت : فأخبِرْني عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله صَدَقوا على محمّد صلى الله عليه و آله أم كَذَبوا؟ قال : «بل صدقوا» . قال : قلت : فما بالُهم اختلفوا؟ فقال : «أما تَعلَمُ أنَّ الرجلَ كان يأتي رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله فيسألُه عن المسألة ، فيُجيبُه فيها بالجواب ، ثم يُجيبُه بعد ذلك ما يَنسَخُ ذلك الجوابَ ؛ فَنَسَخَتِ الأحاديثُ بعضُها بعضا» .

قوله عليه السلام : «إنّا نُجيب الناس على الزيادة والنقصان» يحتمل أوجهاً : أحدها : أن يكون المراد على زيادة عقل السائل ونقصانه ، فإنّهم عليهم السلام كانوا يكلّمون الناس على قدر عقولهم كما أمروا به ، فما كان مثلاً يتعلّق بمعرفة اللّه قد لا تدرك العقول الناقصة بعضه ، فيكلّمون صاحبها بقدر ما تدركه وتصل إليه ؛ وكذا العقول الراجحة ، وما بينهما من المراتب . الثاني : أن يكون المراد أنّا نجيبهم على الزيادة منهم في السؤال والنقصان فيه ، فإنّ كلاًّ منهما قد يقتضي جواباً غير جواب الآخر . الثالث : أن يكون المراد زيادةَ حال السائل ونقصانه ، كما في الموسر والمعسر والمتوسّط في بعض الكفّارات ، والقادر على العتق والقادر على الصوم ونحو ذلك ، ولا منع للجمع ؛ واللّه أعلم . وقوله : «فأخبرني عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله صدقوا على محمّد أم كذبوا» وجوابه عليه السلام بقوله : «بل صدقوا» الظاهر أنّ المراد بالأصحاب فيه غير المتّهمين بالكذب ، والتقيّة محتملة احتمالاً ظاهرا ، فيكون كلامه عليه السلام توجيهاً بحسب الظاهر لما يشمل (1) الكاذب وغيره ، والمراد غير الكاذب . وباقي الحديث ظاهر ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في «ب» : «يشتمل» .

ص: 492

عليُّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن أبي عُبيدة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال لي : «يا زياد ، ما تقولُ لو أفتَيْنا رجلاً ممَّن يَتوَلاّنا بشيء من التقيّة؟» . قال : قلت له : أنت أعلمُ ، جعلتُ فداك . قال : «إن أخَذَ به فهو خيرٌ له وأعظمُ أجرا» . وفي رواية اُخرى : «إن أخَذَ به اُوجِرَ ، وإن تَرَكَه واللّه ِ أثِمَ» .

[قوله :] في حديث أبي عبيدة ، عن أبي جعفر عليه السلام : (قالَ : قالَ لي: يازيادُ ، ما تقولُ لو أفْتَيْنا رجلاً ممّن يَتَوَلاّنا بشيءٍ من التقيّة؟» قالَ : قلتُ له : أنتَ أعلمُ جُعِلتُ فداك ، قال : «إن أخَذَ به فهو خيرٌ له وأعظم أجراً» . وفي روايةٍ اُخرى : «إن أخذ به اُوجِرَ ، وإن تَرَكَه واللّه ِ أثِمَ») . إن قلت : بين هاتين الروايتين منافاة بحسب الظاهر ، فإنّ الاُولى تدلّ على أنّه لو ترك العمل به ، كان له خير وأجر في الجملة ، والثانية تدلّ على أنّه إن عمل به ، حصل له الأجر ، وإلاّ كان آثماً . وكذا بينهما وبين ما يأتي في حديث عمر بن حنظلة من قوله عليه السلام : «ينظر ما وافق حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به» وقوله فيه : «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» وقوله فيه : «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ، ويؤخذ بالآخر» (1) . وكذا غير ما ذكر من الأحاديث التي وردت بمقتضى الجهتين (2) . قلت : يمكن الجمع بين هاتين الروايتين باختلاف مقامي التقيّة ، ففي وقت كلام الرواية الاُولى كان المقام يقتضي أنّه لو ترك العمل بالتقيّة لم يأثم وكان له أجر في الجملة ، وفي وقت كلام الثانية كان الإنسان لو ترك العمل بما فيه تقيّة يترتّب عليه مفسدة وضرر ؛ فالمقامان مختلفان ، وهم عليهم السلام أعلم بما يترتّب على هذا وغيره ، وقد كانوا يأمرون بالتقيّة شخصاً واحداً في فعل واحد في وقت دون وقت ؛ لعلمهم بما يترتّب على الفعل والترك . ويحتمل وجهاً آخر ، وهو أن يكون من له الأجر في الجملة تركه لكونه تقيّة مع جواز الأخذ به ، والآثم يكون اعتقاده أنّه لا يجوز العمل به وإن أمروا به . وبنحو هذا يمكن الجمع بينهما وبين ما في رواية عمر بن حنظلة ، فإنّ الرجوع إلى ما خالف العامّة لا يكون فيه موجب للعمل بالتقيّة ، وما هنا ليس من هذا القبيل ، بل إمّا أن يجب العمل بالتقيّة أو يكون أعظم أجراً . وقد يفرّق بين ما سمع منهم عليهم السلام كما في هاتين الروايتين ، وما ورد عنهم كما في رواية عمر بن حنظلة ، فإنّه لا يلزم من رواية الثقات عنهم أن يكون عنهم في الواقع ، كما تقدّم . بقي احتمال آخر للجمع بين الروايتين المذكورتين في هذا الباب ، وهو أن يكون العمل خيراً له وأعظم أجراً باعتبار ما يعتقده أو يظنّه ، فإنّه يعتقد أنّ مذهب العامّة فاسد ، فكذا العمل به ؛ فالعمل بالتقيّة خير له ممّا يعتقد فيه الأجر فقط الذي هو مخالف لهم ، وقد يرجع إلى ما تقدّم ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 .
2- . انظر : وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 106 ، الباب 9 ، باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة .

ص: 493

أحمدُ بن إدريس ، عن محمّد بن عبدالجبّار ، عن الحسن بن عليّ ، عن ثَعْلَبَةَ بن ميمون ، عن زرارةَ بن أعيَنَ ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :سألته عن مسألة فأجابني ، ثم جاءه

[قوله :] في حديث زرارة عن أبي جعفر عليه السلام : (قال : سألتُه عن مسألةٍ فأجابَني ، ثمّ جاءَ (1) رجلٌ فَسألَه عنها فأجابَه بخلافِ ما أجابَني ، ثمّ جاء (2) آخر ، فأجابَه بخلافِ ما أجابَني وأجابَ صاحبي ، فلمّا خَرَجَ الرجلانِ قلتُ : يابنَ رسولِ اللّه ، رجلانِ من أهلِ

.


1- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «جاءه» .
2- . في الكافي المطبوع : + «رجل» . ولكن في كثير من نسخ الكافي : - «رجل» .

ص: 494

رجلٌ فسَألَهُ عنها ، فأجابه بخلاف ما أجابَني ، ثمَّ جاء رجلٌ آخر ، فأجابه بخلاف ما أجابَني وأجابَ صاحبي ، فلمّا خَرَجَ الرجلان قلت : يا ابن رسول اللّه ، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قَدِما يسألانِ ، فأجبتَ كلَّ واحدٍ منهما بغير ما أجَبْتَ به صاحِبَهُ؟ فقال : «يا زرارة ، إنّ هذا خيرٌ لنا ، وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتَمَعتُم على أمرٍ واحدٍ لصَدَّقَكُم الناسُ علينا ، ولكان أقَلَّ لبقائنا وبقائكم» . قال : ثمّ قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : شيعتُكم لو حَمَلْتُموهم على الأسِنَّةِ أو على النارِ لَمَضَوْا ، وهم يَخرُجون من عندكم مُختلِفينَ ، قال : فأجابَني بمثل جواب أبيه .

العراقِ من شيعتِكم قَدِمَا يَسألانِ ، فأجَبْتَ كلَّ واحدٍ منهما بغير ما أجَبتَ به صاحبَه؟ فقالَ : «يازرارةُ ، إنّ هذا خيرٌ لنا وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتَمَعْتُم على أمرٍ واحدٍ لصَدَّقَكم الناسُ علينا ، ولكانَ أقَلَّ لبَقائنا وبَقائكم) . حاصل معنى الحديث يرجع إلى أنّهم عليهم السلام كانوا يخالفون فيما يجيبون به ، ليكون الواحد ينقل عنهم غير ما ينقله الآخر ، فيكون ذلك أبعدَ عن (1) التهمة باتّفاق الناس عليهم ونقلهم عنهم شيئا واحدا . وقد يكون كلّ واحد ممّن يسأل يوافق ما يجيبه به ما هو متعارف في قطره وناحيته من مذاهب العامّة ، فإذا أخبر كلّ واحد بما يوافق ما في جهته لم يحصل إنكار . وهذا بخلاف ما إذا اتّفق الجميع على نقل واحد يخالف العامّة ، فيكون ذلك باعثاً على اشتهار ما خالفهم عنهم عليهم السلام ، فتتوجّه إليهم الناس بالأذى والضرر ، ويلحق ذلك شيعتهم ومحبّيهم ، فاختلاف الجواب منهم لهذا ونحوه ، وهو ظاهر ؛ واللّه تعالى أعلم . [قوله :] في هذا الحديث : (ثمّ قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : شيعتُكم لو حَمَلْتُموهم على الأسِنَّةِ أو على النارِ لَمَضَوْا ، وهم يَخرُجونَ من عندِكم مختلفين ، قال : فأجابَني بمثلِ جوابِ أبيه) . محصّل كلام زرارة رضي اللّه عنه أنّه بعد ما سأل الباقر عليه السلام بما سأله ، سأل بعده الصادق عليه السلام بما معناه : أنّ شيعتكم في تمام الانقياد إليكم والطاعة لكم بحيث لو حملتموهم على التكليف بأشقّ ما يكون لما خالفوكم ، ومع هذا الانقياد كيف تكلّمونهم بما يقتضي اختلافهم فيما ينقلونه عنكم ، وكان هذا لعدم الاعتماد عليهم وأنّهم لا يطيعونكم ، وبمقتضى ما أجده من انقيادهم ومحبّتهم أنّكم تجيبونهم بما لا يقع فيه اختلاف ، فما وجه جوابهم بذلك . وليس مراده بهذا التعرّضَ على الإمام عليه السلام ، بل استعلام وجه ذلك ، وكان زرارة لزيادة محبّته وربطه بهم عليهم السلام وعلمه بعدم مؤاخذته بما يقوله وعدم حملهم كلامه على ظاهره يتجرّأ عليهم بمثل هذا الكلام ، كما في حديث الوضوء وقوله : «ألا تخبرني من أين علمت وقلت إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين» (2) ومراده إخباره بدليله من القرآن ليحتجّ به ، كما تقدّم في حديث أبي الجارود من قول الباقر عليه السلام : «إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب اللّه » وقول القائل له بعد نقله عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يابن رسول اللّه ، أين هذا من كتاب اللّه (3) . ومثل هذا يقع كثيراً ممّن له تمام الإخلاص والمحبّة ، كما في حديث برخ الأسود ، وطلبه السقيا من اللّه عزّ وجلّ ، وخطابه بما هو مشهور (4) . ونحوه ما في كلام سيّد العابدين عليه الصلاة والسلام من قوله : «لئن أدخلتني النار لاُخبرنّ أهل النار بحبّي لك» (5) ، وقوله ما معناه _ ولا يحضرني ألفاظه _ : «إذا أدخلت أهل الجنّة الجنّة بإحسانهم ، وأهل النار النار بإساءتهم ، فأين عتقاؤك من النار؟» (6) . ومثله في كلامه كثير . وقولِ بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لمّا تاب اللّه عليه وأوحى إليه بما معناه : «إن أذنبت بعد ذلك لم أقبل منك ، في جوابه للحقّ عزّ وجلّ : إن لم تعصمني لاُذنبنّ (7) » . وهذا معنى ما رأيته ولم يحضرني ألفاظه . وما أحسن ما قاله بعض البلغاء في هذا المعنى : قد يخشن اللفظ وكلّه ودّ ، وقد يحسن وليس من رداءته بُدّ (8) . هذه العرب تقول : لا أباً لك ، ولا يريدون الذمّ ، وويل اُمّه لأمر إذا دهم ، وشأن مثل ذلك أن ينظر إلى قائله ، فإن كان وليّاً فهو للولاء وإن خشن ، وإن كان عدوّاً فهو للبلاء وإن حسن . ومع ذلك قد يكون قصد زرارة الاحتجاجَ على المخالف بحجّة يقطعه بها في حديث الوضوء ، فإنّه كان ذا مناظرة ومباحثة مع الناس . وفي هذا الحديث أنّه عليه السلام ضحك ثمّ أجابه بما في الحديث ، وضحكه قرينة على ذلك ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ب» : «من» .
2- . الكافي ، ج 3 ، ص 30 باب مسح الرأس والقدمين ، ح 4 ؛ الفقيه ، ج 1 ، ص 103 ، ح 212 ؛ علل الشرايع ، ج 1 ، ص 279 ، الباب 190 ، ح 1 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 61 ، ح 168 ؛ الاستبصار ، ج 1 ، ص 62 ؛ ح 186 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 412 ، ح 1073 ؛ و ج 3 ، ص 364 ، ح 3878 .
3- . الكافي ، ج 1 ، ص 60 ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ... ، ح 5 .
4- . مسكنّ الفؤاد ، ص 69 ؛ المحجّة البيضاء ، ج 8 ، ص 81 .
5- . مصباح المتهجّد ، ص595؛ الإقبال ، ص75 ؛ المصباح ، للكفعمي، ص599 ؛ بلد الأمين ، ص212.
6- . انظر : مصباح المتهجّد ، ص 585 .
7- . فيما أوحى اللّه عز وجل إلى داود عليه السلام أن ائت عبدي دانيال فقل له إن أذنبت ... . انظر : الكافي ، ج 2 ، ص 435 ، باب التوبة ، ح 11 ؛ الزهد ، ص 74 ، باب التوبة والاستغفار والندم ، ح 200 ؛ بحار الأنوار ، ج 14 ، ص 376 ، باب قصص أرميا ودانيال و ... ، ح 19 .
8- . حكى نظيره السيوطي في تنوير الحوالك ، ص 72 .

ص: 495

. .

ص: 496

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سنان ، عن نصر الخَثْعَميّ ، قال :سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «من عَرَفَ أنّا لا نقولُ إلاّ حَقّا فليَكْتَفِ بما يَعلَمُ

قوله عليه السلام في حديث نصر الخثعمي : (من عَرَفَ أنّا لا نَقولُ إلاّ حقّاً ، فليَكْتَفِ بما يَعلَمُ منّا ، فإن سَمِعَ منّا خلاف (1) ما يَعلَمُ ، فليَعْلَمْ أنّ ذلك دفاعٌ منّا عنه) . معناه _ واللّه أعلم _ : من عرفنا حقّ المعرفة وعرف أنّ جميع ما نقوله حقّ وإن كان مختلفاً لمصلحة نحن أعلم بها ، فلا ينبغي أن يحصل له شكّ بسبب الاختلاف ونحوه بعد معرفتنا ، ولكن بشرط أن يصل إليه منّا على وجه العلم . ومنه يظهر أنّ ما اُسند إليهم عليهم السلام وكان مخالفاً لا على وجه العلم لا عبرة به إلاّ على وجه دخول الظنّ واعتبار التعارض بما هو مظنون مثله ، وفي صورة القطع بأحدهما دون الآخر لا تعارض .

.


1- . في «ألف ، ب» : «بخلاف» .

ص: 497

منّا ، فإن سَمِعَ منّا خلاف ما يَعلَمُ ، فليَعْلَمْ أنّ ذلك دفاعٌ منّا عنه» .

وقوله عليه السلام : «فإن سمع منّا خلاف ما يعلم» إلى آخر ، معناه : فإن سمع منّا خلاف ما قد علم منّا بحيث حصل له العلم بكلّ منهما ، فينبغي أن يعلم أنّ ذلك دفاع منّا عنه لئلاّ يصل إليه ضرر ؛ لأنّه إذا نقل عنهم عليهم السلام شيئاً بحيث تأكّد من غيره أيضاً قد يترتّب عليه الضرر له . ويحتمل أن يكون المراد بالدفاع عنه الدفاعَ عنه وعن غيره ، وإفراد الضمير من حيث إنّه إذا كان دفاعاً عنه ، كان أقربَ إلى قبوله وتسليمه ، وما قصدوا عليهم السلام به الدفاع الظاهر أنّه على وجه التقيّة . ويحتمل ما هو أعمّ منها . ومعنى «فليكتف بما يعلم منّا» أنّه بعد أن علم أنّه منّا لا ينبغي أن ينظر إلى ما فيه بحسب الظاهر ممّا لا يفهمه ، بحيث يتوهّم فيه مخالفة بعضه لبعض ، أو كونه أو بعضه ممّا لا يقبله عقله . ومن خطر له شيء من ذلك فيما علم وروده عنهم عليهم السلام آل أمره إلى القدح في شأنهم وعصمتهم ، فلا يكون معتقداً لهم حقَّ الاعتقاد . وما يبحث فيه العلماء لا على الوجه المذكور ، بل لوجوه اُخَرَ لا حرج فيه (1) . وفي «سمع منّا» دلالة على كونه يعلم يقيناً أنّ المخالف صدر عنّا . والحاصل : أنّه بعد المعرفة بعصمتهم عليهم السلام وأنّهم لا يقولون إلاّ ما هو حقّ وصواب ولو لعارض ، فلا ينبغي أن يخطر بالبال شيء من وقوع الاختلاف ، بل يجب الانقياد إليهم والتسليم لأمرهم .

.


1- . في «ج» : «فيها» .

ص: 498

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عثمان بن عيسى ، والحسن بن محبوب جميعا ، عن سَماعَةَ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :سألتُه عن رَجل اختَلَفَ عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهُما يرويه : أحدُهما يأمُرُ بأخذه ، والآخَرُ ينهاه عنه ، كيف يَصنَعُ؟ فقال : «يُرْجِئُه حتّى يلقى من يُخبرُه ، فهو في سَعَةٍ حتّى يلقاه» . وفي رواية اُخرى : «بأيِّهِما أخَذْتَ من بابِ التسليم وَسَعَكَ» .

[قوله :] في حديث سماعة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام : (قال : سألتُه عن رجلٍ اخْتَلَفَ عليه رجلانِ من أهلِ ديِنه في أمرٍ كلاهما يَرْوِيه ، أحدُهما يأمُرُ بأخذِه والآخَرُ يَنهاه عنه كيف يَصنَعُ؟ قال : «يُرجِئُهُ حتّى يَلقى من يُخبِرُه ، فهو في سَعَةٍ حتّى يَلقاهُ» . وفي رواية اُخرى : «بأيّهما أخَذْتَ من بابِ التسليمِ وَسَعَك») . الإرجاء : التأخير ، يقال : أرجيته وأرجأته بالهمزة وعدمها (1) . والظاهر أنّ المراد ب_ «من يخبره» الإمام عليه السلام ، ويحتمل إرادة ما هو أعمّ من الإمام ؛ فيدخل فيه من تسكن النفس إليه ، ويكون الاعتماد على روايته أكثرَ . ومعنى «فهو في سعة حتّى يلقاه» أنّه موسّع عليه (2) في ترك العمل إلى ذلك الوقت ، ولمّا كان بعض الأشياء يضطرّ إليها وقد لا يتيسّر لقاء الإمام عليه السلام رخّص عليه السلام في الأخذ بأيّهما أراد من باب التسليم في الرواية الاُخرى ، وفي زمان غيبة صاحب الأمر عليه السلام يحتمل تعيّن الأخذ بالتسليم فيما يحتاج إليه . وقد يفهم من تقييد الراوي بكون الرجلين من أهل دينه أنّه إذا كان أحدهما من غير أهل الدين لا اعتبار بما يرويه ؛ من حيث إنّه كأنّه كان معلوما له ؛ وفيه تأمّل . وغير أهل الدين يخرج بغير هذا . ويأتي في رواية عمر بن حنظلة أوجه الترجيح فكأنّ هذين الرجلين متكافئان . ومعنى «كلاهما يرويه» أنّ كلّ واحد منهما سنده الرواية عنهم عليهم السلام ، وإن كان مضمون السؤال في الروايتين واحداً كما هو الظاهر . احتمل أن يكون الإرجاء لاحتمال عدم صحّة رواية أحدهما في الواقع ، وإلاّ كان الظاهر الأمرَ بالأخذ بأيّهما شاء ، والأخذ من باب التسليم أيضا كذلك ؛ فإنّه يشعر بأنّ هذا يأخذ على جهة التسليم من حيث إنّ الرواية منسوبة إليهم عليهم السلام ، كما في حديث «من بلغه شيء من أعمال الخير» (3) . ويحتمل أن يكون المراد بالتسليم الأخذَ به من حيث إنّه ورد عنهم صلى الله عليه و آله ، والأمر بالإرجاء لتعيين الإمام له أحدهما ، وقد يكون ما يصدر عنهم في وقت للعمل به لا يجوز العمل به في وقت آخر ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . النهاية ، ج 2 ، ص 206 (رجأ) .
2- . في «ألف ، ب» : «له» . وفي «ج» : - «عليه» .
3- . الكافي ، ج 2 ، ص 87 ، باب من بلغه ثواب من اللّه على عمل ، ح 1 و 2 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 25 ، باب ثواب من بلغه ثواب شيء ... من كتاب ثواب الأعمال ، ح 1 و 2 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 80 _ 82 ، باب استحباب الاتيان بكلّ عمل مشروع روى له ثواب عنهم عليه السلام ، ح 182 _ 190 .

ص: 499

عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عثمان بن عيسى ، ع_ن الحسين ب_ن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«أرأيتَكَ لوحدَّثْتُك بحديثٍ

قوله عليه السلام في حديث الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا : (أرأيتَك لو حَدَّثْتُك بحديثٍ العامَ ، ثمّ جِئتَني من قابلٍ فحَدَّثتُك بخلافِه ، بأيِّهِما كنتَ تأخُذُ؟» قال : قلت : كنتُ آخُذُ بالأخيرِ . فقال لي : «رَحِمَكَ اللّه ُ») . «أرأيت» بمعنى أخبرني ، والتاء فاعل ، والكاف حرف خطاب . وهو قول سيبويه . وعكس ذلك الفرّاءُ لمطابقة الكاف للمسند إليه . ورُدّ بصحّة الاستغناء عن الكاف وبأنّها لم تقع قطّ مرفوعةً . وقال الكسائي : التاء فاعل ، والكاف مفعول . ويلزمه أن يصحّ الاقتصار على المنصوب في نحو : أرأيتك زيداً ما صنع ؛ هذا معنى ما حكاه في المغني (1) . وعن الرضى رحمه اللّه : «أرأيت» بمعنى «أخبر» منقول من «رأيت» بمعنى أبصرت أو عرفت ، كأنّه قيل : إذا أبصرته وشاهدت حاله العجيبة أو عرفتها أخبرني عنها ، فلا يستعمل إلاّ في الاستخبار عن حالة عجيبة ، وقد يؤتى بعده بالمنصوب الذي كان مفعولاً به ، نحو : أرأيت زيداً ما صنع ، وقد يحذف نحو : « قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَ_اكُمْ عَذَابُ اللَّهِ » (2) و«كُم» ليس بمفعول ، بل حرف خطاب ولا بدّ _ سواء أتيت بذلك المنصوب أو لم تأت به _ من استفهام ظاهر أو مقدّر يبيّن الحال المستخبر عنها ؛ انتهى (3) . وفي شرح المغني : «معنى أرأيت» في الأصل : أعلمت ، إن جُعلت الرؤية علميّةً ، أو أبصرت ، إن جعلت بصريّةً ، لكنّها نقلت عن هذا المعنى إلى معنى آخر بدليل أنّك تقول : أرأيت زيداً ما صنع ، فيقال في جوابه : سافر مثلاً ، ولا يقال : لا ، ولا نعم ، ولو كان الاستفهام على أصله لقيل ذلك ؛ لأنّ الهمزة إذ ذاك لطلب التصديق ، كما يقال لك : أجاءك زيد؟ فتقول : لا أو نعم» انتهى .

.


1- . مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 240 .
2- . الأنعام (6) : 40 .
3- . شرح الكافية ، ص 161 _ 162 .

ص: 500

العامَ ، ثمَّ جئتَني من قابِلٍ ، فحدَّثْتُكَ بخلافه ، بأيِّهِما كنتَ تأخُذُ؟» قال : قلت : كنتُ آخُذُ بالأخير . فقال لي : «رَحِمَكَ اللّه ُ» .

وقوله عليه السلام «العامَ» بمعنى : في هذا العام ، ومن «قابل» : العام القابل . و«من» لابتداء الغاية الزماني ، نحو : من أوّل يوم . وفي الحديث : «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة» . ذكره في المغني (1) . ويجوز أن يكون بمعنى «في» كما قيل (2) في نحو قوله تعالى : « أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الْأَرْضِ » (3) ؛ « إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ » (4) . ولعلّه أنسب من الأوّل ، فإنّه قد يفرق بين ما في الحديث والمثالين ، والتوجيه ممكن . وليس المراد _ واللّه أعلم _ خصوصيّةَ العام الحاضر والقابل ، بل التقدّم والتأخّر . ويمكن أن يكون وجه ذكرهما أنّ الراوي كان يأتيه في موسم الحجّ أو بناء على ماهو متعارف من الإتيان في موسمه ، فذكر العام والقابل لما ذكر . وقول الراوي : «كنتُ آخُذُ بالأخير» كأنّه كان عنده أثر من ذلك الذي أجاب به عنهم عليهم السلام استند إليه ، لا أنّه عن مجرّد رأيه ، وإلاّ لقال له عليه السلام : لأيّ شيء ونحوه . ومثله لا يستحقّ السكوت فضلاً عن الدعاء له ، فإنّه قد تقدّم أنّ إصابة الحقّ بمثله لا عبرة بها ؛ واللّه أعلم .

.


1- . مغني البيب ، ج 1 ، ص 318 .
2- . تفسير القرطبي ، ج 3 ، ص 90 ؛ و ج 18 ، ص 97 . وانظر : تاج العروس ، ج 9 ، ص 353 .
3- . فاطر (35) : 40 ؛ الأحقاف (46) : 4 .
4- . الجمعة (62) : 9 .

ص: 501

وعنه ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مَرّارٍ ، عن يونسَ ، عن داودَ بن فَرقَدٍ ، عن المعلّى بن خُنيس ، قال :قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : إذا جاء حديثٌ عن أوَّلكم ، وحديثٌ عن

[قوله :] في حديث المعلّى بن خُنيس : (قال : قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : إذا جاء حديثٌ عن أوّلِكُم وحديثٌ عن آخِرِكم بأيّهما نَأخُذُ؟ فقال : «خُذُوا به حتّى يَبلُغَكُم عن الحيِّ ، فإن بَلَغَكم عن الحيّ فَخُذُوا بقولِه» . قالَ : ثمّ قالَ أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّا واللّه ِ لا نُدْخِلُكم إلاّ فيما يَسعُكُم» . وفي حديث آخر : «خُذُوا بالأحْدَثِ») . مراد الراوي بأوّلكم وآخركم الأوّل بالنسبة إلى من بعده والآخر بالنسبة إلى من قبله ، فالأوّليّة والآخريّة يمكن إدخالهما في مقوليّة التشكيك . ومرداه _ واللّه أعلم _ بالحديث عن الآخر ما كان مخالفاً للحديث عن الأوّل ؛ بقرينة المقام ، وقوله : «بأيّهما نأخذ» . ويحتمل أن يكون مراده أنّا نعمل به من حيث هو حديث من منكم ، وحينئذٍ يدخل غير المختلف .

.

ص: 502

آخركم ، بأيِّهما نأخُذُ؟ فقال : «خُذوا به حتّى يَبلُغَكم عن الحيّ ، فإن بَلَغَكم عن الحيّ ، فَخُذُوا بقوله» . قال : ثمَّ قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّا _ واللّه _ لا نُدخِلُكم إلاّ فيما يَسَعُكُم» .

وقوله عليه السلام : «خذوا به» أي بحديث الأوّل ، أو بقوله بقرينة قوله : «فخذوا بقوله» . والمآل واحد ، والاحتمال يجري هنا أيضاً . وكان في قوله عليه السلام : «حتّى يبلغكم عن الحيّ» قرينة مّا على الاحتمال ، فإنّه يظهر منه أنّ معناه : حتّى يبلغكم ذلك الحديث ، وإلاّ لقال عليه السلام : «حتّى يبلغكم حديث عن الحيّ» ولكن دلالة المقام على أنّ المراد حتّى يبلغكم غيره أو حديث عن الحيّ مخالف (1) بحسب الظاهر . ويؤيّد الأوّل _ مع ما ذكر _ أنّ العمل بقولهم ، سواء كان قول الأوّل أم الآخر ، إذا لم يكن فيه اختلاف واحد ، ولا يترتّب على تعيين من قاله من جهة العمل فائدة ، إلاّ أن يقال : إنّ كلّ آخذ (2) يجب عليه العمل بقول إمام زمانه إذا بلغه ، والحيّ إمام زمان من كان حيّاً ، وإن كان الميّت أيضاً إمامه ؛ فتأمّل ، واللّه تعالى أعلم . وقوله عليه السلام : «إنّا واللّه لاندخلكم إلاّ فيما يسعكم» معناه أنّهم عليهم السلام لا يضيّقون على شيعتهم ، بل يوسّعون عليهم بأمرهم في كلّ وقت بما يسهّل عليهم وما فيه مصلحتهم بتفويض ذلك إليهم عليهم السلام من اللّه ورسوله لمصلحتهم ومصلحة شيعتهم ونحوها .

.


1- . في «ج» : «يخالف» . والأولى : «مخالفة» أو «تخالف» .
2- . في «ألف» : «كلّ أحد» .

ص: 503

وفي حديث آخر : «خُذوا بالأحدَثِ» .

محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صَفوانَ بن يحيى ، عن داودَ بن الحُصين ، عن عمرَ بن حنظلةَ ، قال :سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن رجلَيْنِ من أصحابنا بينهما مُنازَعَةٌ في دَيْنٍ أو ميراثٍ ، فتحا كما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحِلُّ ذلك؟ قال : «من تَحاكَمَ إليهم في حقٍّ أو باطلٍ فإنّما تَحاكَمَ إلى الطاغوت ، وما يَحْكُمُ له

وقوله عليه السلام في الحديث الآخر : «خُذُوا بالأحدث» إن كان سؤال هذا الحديث مثل سؤال الحديث الأوّل ، فمعناهما واحد أو متقارب ، إلاّ احتمل أن يدخل تحت «الأحدث» ما يشمل ما كان أحدث من إمام واحد ؛ واللّه أعلم . [قوله :] في حديث عُمَرَ بن حَنظلة : (فتحَاكما إلى السلطانِ أو إلى القُضاةِ) . المراد بالسلطان والقضاة سلطان الجور وقضاته ؛ لأنّه لم يمكن (1) من يسمّى سلطاناً ويكون عادلاً ولا قاضيا كذلك ، ولدلالة المقام وسياق الكلام على ما ذكر ؛ وهو ظاهر . قوله عليه السلام فيه : (مَن تَحاكَمَ إليهم في حقٍّ أو باطلٍ فإنّما تَحاكَمَ إلى الطاغوتِ ، وما يَحكُمُ له فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كانَ حقّاً ثابتاً له ؛ لأنّه أخَذَه بحُكْمِ الطاغوتِ وقد أمَرَ اللّه ُ أن يُكْفَرَ به ، قالَ اللّه ُ تعالى : « يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّ_اغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ » (2) ) . يحتمل أن يكون «يحكم» مبنيّاً للفاعل وضميره يعود إلى الطاغوت ، وهو أقرب من عوده إلى السلطان أو القاضي المفهوم من القضاة . و«ما» موصولة بمعنى «مَن» والعدول عن «من» لتنزيل من يفعل هذا الفعل الشنيع منزلة من لا يعقل ؛ من حيث إنّ من لم يعمل بمقتضى عقله كان كغير العاقل ، فيلحق بما لا يعقل ، أو لكونه بمعنى المحكوم له ، كما قيل في قوله تعالى : « أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَ_انُكُمْ » (3) إنّه أتى ب_ «ما» لإرادة الوصف (4) . ويخطر بالبال وجه _ واللّه أعلم _ فيما ملكت أيمانهم : أنّ ذكر «ما» لكون ملك اليمين يجري فيه البيع والهبة ونحوهما ممّا لا يجري على الإنسان من غيره ، فنزل منزلة من لا يعقل لذلك . وعلى التوجيه المذكور لايحتاج إلى تقدير عائد الموصول ومفعولٍ ل_ «يأخذ» ، وجعلِ الحال أو (5) التميز مفعولاً مكان المفعول به كما يأتي . ويحتمل أن يكون (6) «ما» موصولة وعائدها محذوف ، تقديره «به» مع الجارّ ، ومفعول «يأخذ» أيضاً محذوف بتقدير «يأخذه» . وفي هذا الاحتمال «ما» جارية على أصلها ، لكن فيه ما ذكر من الحذف ونحوه . ويحتمل أن يكون «يحكم» مبنيّاً للمفعول . وممّا ذكر في المبنيّ للفاعل يعلم وجه المبنيّ للمفعول .

.


1- . في «ب» : «لم يكن» .
2- . النساء (4) : 60 .
3- . النساء (4) : 3 ؛ المؤمنون (23) : 6 ؛ المعارج (70) : 30 .
4- . انظر : مجمع البيان ، ج 6 ، ص 179 ؛ وج 7 ، ص 177 ؛ والمفردات ، للراغب ، ص 479 .
5- . في «ألف ، ب» : - «الحال أو» .
6- . في «ألف» : «أن تكون» .

ص: 504

فإنّما يأخُذُ سُحْتا وإن كانَ حقّا ثابتا له ؛ لأنّه أخَذَه بحكم الطاغوت ، وقد أمَرَ اللّه ُ أن يَكْفُروا به ، قال اللّه تعالى : « يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّ_اغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِى » » .

وقوله عليه السلام : «وإن كان حقّاً ثابتاً» يدلّ على أنّ الحقّ لا يجوز أخذه وإن كان حقّاً بهذا الوجه ، كما تقدّم فيمن يصادف الحقّ بالقياس ونحوه ، بل هنا زيادة عمّا تقدّم بقوله : «ثابتاً» ، فإنّه يدلّ على أنّ هذا وإن كان حقّاً في الواقع وصادف حكمه الحقّ وكان ثابتاً يعلم صاحبه أو هو والخصم ثبوته ، لا يجوز أخذه بحكم الطاغوت . اللهمّ إلاّ أن يكون المراد ثابتاً في الواقع فقط . وقوله عليه السلام : «لأنّه أخذه بحكم الطاغوت» تعليلٌ لكون هذا الشيء _ الذي هو حقّ لصاحبه حلالٌ له _ صارَ حراماً . والدليل على عدم جواز الأخذ بحكم الطاغوت أمرُ اللّه تعالى بأن يكفر به ، الدالّ عليه قوله تعالى : « يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّ_اغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ » (1) . فقوله عليه السلام : «قال اللّه تعالى» إلى آخره للدلالة على أنّ اللّه تعالى أخبر عن كونهم اُمروا بالكفر به في هذه الآية . والأمر ما تضمّنه غير هذه الآية من قوله تعالى : « فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّ_اغُوتِ وَيُؤْمِنم بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى » (2) . ولا يحضرني الآنَ غيرها ممّا هو صريح الأمر أو متضمّن له ؛ واللّه أعلم . وفي الصحاح : «الطاغوت» : الكاهن والشيطان ، وكلّ رأس في الضلال ؛ قد يكون واحدا ؛ قال تعالى : « يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّ_اغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ » ؛ وقد يكون جمعا ، قال تعالى : « أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّ_اغُوتُ يُخْرِجُونَهُم » (3) . وطاغوت وإن كان على وزن لاهوت فهو مقلوب ؛ لأنّه من طغى ، ولاهوت غير مقلوب ؛ لأنّه من لاه ؛ انتهى (4) . وفي غريب القرآن : طاغوت أصنام ، والطاغوت من الإنس والجنّ شياطينهم ، يكون واحداً وجمعاً (5) . وفيه : السحت كسبُ ما لا يحلّ (6) ، ويقال : السحت الرشوة في الحكم (7) . وعن النهاية : السحت الحرام الذي لا يحلّ كسبه لأنّه يسحت البركة ، أي يذهبها (8) . وفي القاموس : السُحت بالضمّ وبضمّتين : الحرام ، أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار 9 .

.


1- . النساء (4) : 60 .
2- . البقرة (2) : 257 .
3- . البقرة (2) : 257 .
4- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2413 (طغى) .
5- . تفسير غريب القرآن ، ص 46 .
6- . . النهاية ، ج 2 ، ص 345 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 42 (سحت) .
7- . النهاية ، ج 2 ، ص 345 .
8- . القاموس المحيط ، ج 21 ص 149 (سحت) .

ص: 505

. .

ص: 506

قلت : فكيف يصنعان؟ قال : «ينظران إلى من كانَ منكم ممّن قد روى حديثَنا ، ونَظَرَ في حلالنا وحرامنا وعَرَفَ أحكامَنا ، فَلْيَرْضَوْا به حَكَما ، فإنّي قد جعلتُه عليكم حاكما ،

قوله عليه السلام فيه : (يَنظُرانِ (1) مَن كانَ منكم ممّن قد روى حديثَنا ونَظَرَ في حلالِنا وحرامِنا ، وعَرَفَ أحكامَنا ، فَلْيَرْضَوْا به حَكَماً ، فإنّي قد جَعَلْتُه عليكم حاكِماً ، فإذا حَكَمَ بحُكْمِنا فلم يَقْبَلْ منه فإنّما اسْتَخَفَّ بحُكْمِ اللّه ِ وعلينا رَدَّ ، والرادُّ علينا الرادُّ على اللّه ِ ، وهو على حدّ الشركِ باللّه ِ) . قال شيخنا الشهيد _ قدّس اللّه روحه _ في أوّل الذكرى : يعتبر في الفقيه اُمور ثلاثة عشر ، قد نبّه عليها في مقبول عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق عليه السلام : «اُنظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا ولم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ وعلينا رَدَّ ، وهو رادّ على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه ، فإذا اختلفا فالحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما» . الأمر الأوّل : الإيمان ، لقوله «منكم» لأنّ غير المؤمن يجب التثبّت عند خبره ، وهو ينافي التقليد . الثاني : العدالة ؛ لذلك أيضاً ، وعليه نبّه بقوله : «أعدلهما» . الثالث : العلم بالكتاب . الرابع : العلم بالسنّة ، ويكفي منهما ما يحتاج إليه ولو بمراجعة أصل صحيح . الخامس : العلم بالإجماع والخلاف ؛ لئّلا يفتي بما يخالفه . السادس : العلم بالكلام . السابع : العلم بالاُصول . الثامن : العلم باللغة والنحو والصرف وكيفيّة الاستدلال ؛ وعلى ذلك دلّ بقوله : «وعرف أحكامنا» فإنّ معرفتها بدون ذلك محال . التاسع : العلم بالناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والظاهر والمأوّل ، ونحوها ممّا يتوقّف عليه فهم المعنى والعمل بموجبه . العاشر : العلم بالجرح والتعديل ، ويكفي الاعتماد على شهادة الأوّلين به ، كما اشتمل عليه كتب الرجال ؛ إذ يتعذّر ضبط الجميع مع تطاول الأزمنة ، وفي الكافي و من لا يحضره الفقيه و التهذيب بلاغ واف وبيان شاف (2) . وإلى ذلك أشار بقوله : «وروى حديثنا» . الحادي عشر : العلم بمقتضى اللفظ لغة وعرفاً وشرعاً . الثاني عشر : أن يعلم من المخاطب إرادة المقتضي إن تجرّد عن القرينة ، وإرادة ما دلّت عليه القرينة إن وجدت ليثق بخطابه ، وهو موقوف على ثبوت الحكم . الثالث عشر : أن يكون حافظاً ، بمعنى أنّه أغلبُ عليه من النسيان ؛ لتعذّر درك الأحكام من دونه . والأولى جواز تجزّي الاجتهاد ؛ لأنّ الغرض الاطّلاع على مأخذ الحكم وما يعتبر فيه ، وهو حاصل ، ويندر ويبعد تعلّق غيره به ، فلا يلتفت إليه ؛ لقيام هذا التجويز في المجتهد المطلق . وعليه نبّه في مشهور أبي خديجة عن الصادق عليه السلام : «انظروا إلى رجل منكم يعرف شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضيا» . انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه (3) . نقلتُه لما فيه من الفوائد . ولا يخلو دلالة الحديث على بعض ما ذكر من نظر ، وبعد التأمّل يمكن الجواب عنه . وربما فهم منه حياة الحاكم الذي جعله عليه السلام حاكماً ، فيكون مؤيّداً للقول بعدم جواز تقليد الميّت . وفيه تأمّل . وهذا الحاكم سمّوه مجتهداً وقد أمر عليه السلام بتقليده والرجوع إليه . وفي قوله عليه السلام «عليكم» بالخطاب بعد تعلّق الكلام بمن ذكر ، تنبيهٌ على أنّ مثل هذا ليس حاكماً مخصوصا بما سألت عنه ، بل هو مع كونه حكماً بينهما حاكمٌ في غير هذه القضيّة أيضا ؛ ولهذا عبّر عليه السلام ثانياً بقوله «حاكماً» بعد قوله أوّلاً «حَكَما» . ومنه يعلم اشتراط الاجتهاد في الحكم كما يشترط في الحاكم ، وهو يدلّ على ما ذكره علماؤنا _ رضوان اللّه عليهم _ من كون قاضي التحكيم يشترط أن يكون أيضاً مجتهداً (4) .

.


1- . في الكافي المطبوع : + «إلى» .
2- . هذا إشارة إلى القول بكفاية اتّفاق المشايخ الثلاثة _ الكليني والصدوق والطوسي _ على إخراج رواية الرجل في وثاقته والاعتماد على خبره .
3- . ذكرى الشيعة ، ج 1 ، ص 43 .
4- . مسالك الأفهام ، ج 13 ، ص 333 . وحكاه في الروضة البهية في شرح اللمعة ، ج 3 ، ص 68 عن الشهيد الأوّل . وانظر : جواهر الكلام ، ج 40 ، ص 28 .

ص: 507

. .

ص: 508

فإذا حَكَمَ بحُكمِنا فلم يَقْبَلْهُ منه فإنّما استخَفَّ بحكم اللّه وعلينا رَدَّ ، والرادُّ علينا الرادُّ على اللّه ، وهو على حدّ الشركِ باللّه » . قلت : فإن كانَ كلُّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرَضِيا أن يكونا الناظِرَيْنِ في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختَلَفا في حديثكم؟

وقوله عليه السلام : «فإذا حكم بحكمنا» إلى آخره لإفادة أنّ من جمع هذه الشرائط لايكفي في قبول حكمه كيف كان جمعها ، بل إذا حكم بحكمهم عليهم السلام ، وهذا يُعرف بالعدالة والورع والصدق الآتي اشتراطها . ومعنى كونه على حدّ الشرك باللّه أنّه وصل بهذا إلى حدّ الشرك ، وقارب أن يدخل فيه وفي إثمه ، فهو الآنَ في إثم مَن هو كذلك ؛ أو كونه على حدّ الشرك من حيث إنّه أخذ الحكم من غير أهله ، فكأنّه اتّخذ مع اللّه شريكاً في أخذ الحكم عنه ، مع أنّ الحكم للّه وحده ؛ أو قارب أن يجعل معه شريكاً في الحكم ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 509

قال : الحكمُ ما حَكَمَ به أعدلُهما وأفقهُهما وأصدقُهما في الحديث وأورعُهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» .

قوله عليه السلام فيه : (الحُكْمُ ما حَكَمَ به أعدَلُهما وأفقَهُهما وأصدَقُهُما في الحديثِ وأورَعُهما ، ولا يَلْتَفِتْ إلى ما يَحكُمُ (1) به الآخَرُ) . ظاهر مثل هذا التركيب اعتبار حكم من اتّصف بالزيادة في الجميع ، والظاهر إرادة الاكتفاء بالزيادة ولو في واحد ؛ أو أنّه بمعنى أعدلهما ، فإن تساويا فأفقههما ، فإن تساويا فأصدقهما في الحديث ، فإن تساويا فأورعهما . ومرجع الوجهين إلى أنّ مثل هذا الكلام يفيد اعتبار حكم من كان فيه كذا وكذا ، أو حكم من كان فيه كذا ، وحكم من كان فيه كذا فعلى الأوّل ظاهر ، وعلى الثاني الحكم ما حكم به أعدلهما ، والحكم ما حكم به أفقههما ، وهكذا ، وحينئذٍ يفيد أنّ الزيادة في واحد يكفي (2) ، وكان المقام _ واللّه أعلم _ يقتضي اعتبار الاكتفاء بزيادة وصف فما زاد ، وإن كانت القاعدة قد تؤيّد الوجه الأوّل ، لكنّ القرينة دلّت على خلافها ؛ واللّه أعلم . و«الأعدل» من شهد بعدالته أكثر ممّن شهد بعدالة الآخر ، وغير ذلك ممّا تثبت به العدالة ، ويزيد أحدهما عن الآخر . والزيادة في الفقه الزيادة في معرفته ، وفهم أحكامه ، وفهم معاني الحديث ووجوه دلالته ونحو ذلك زيادةً عمّا به يصحّ الإفتاء والحكم . ويحتمل اعتبار أفقههما في تلك المسألة . و«الأصدق» بمعنى ثبوت زيادة صدقه وتحقّقه أكثر ، لا أنّه أكثر صدقاً باعتبار كذبه وكذب الآخر ، فإنّ من كان كذلك كان خارجاً غير مراد . و«الأورع» يُعرف بنحو ما تقدّم . وتقييد «أصدقهما» بقوله عليه السلام «في الحديث» قد يفهم منه أنّه إذا اعتبر زيادة صدقه في الحديث كانت كافية وإن لم يزد في غير الحديث ، بل وإن نقص في غيره . ويحتمل أن يكون ذكر الحديث لكون المقام متعلّقا به ، فهو لبيان ما يتعلّق به الكلام من غير ملاحظة المفهوم ، ومع ملاحظته لو زاد غيره عليه في غير الحديث فلا اعتبار بهذه الزيادة ، فالترجيح لزيادة صدق الحديث لا لغيرها ، وكذا لو ساواه . وكأنّ المراد بالتقييد اعتبار المفهوم ؛ واللّه أعلم . وقد يفهم من التقييد أنّه إذا كان أصدق منه في الحديث وكان حالهما مجهولاً في غيره لا يقدح فيهما ، ففيه دلالة حينئذٍ على أنّ الأصل في المؤمن العدالة . وهو كماترى . والتعلّق بمثل هذا المفهوم لا يخلو من شيء . وعدم الالتفات إلى ما يحكم به الآخر ، إمّا لأنّ صاحب الزيادة يكون الحقّ في نفس الأمر معه ، وإن كان لا يقدح ظاهراً في عدالة الآخر وصدقه وفقهه وورعه ؛ لاحتمال استناده إلى سهو ونحوه ؛ وإمّا أمر منه عليه السلام باتّباع حكم هذا دون ذاك لما هو أعلم به .

.


1- . في «ج» : «ما حكم» .
2- . كذا . والأولى : «تكفي» .

ص: 510

قال : قلت : فإنّهما عَدْلانِ مَرضيّانِ عند أصحابنا ، لا يُفضَّلُ واحدٌ منهما على الآخَرِ؟

[قوله :] في هذا الحديث : (قلت : فإنّهما عَدلان مَرضِيّانِ عند أصحابِنا ، لا يُفَضَّلُ واحدٌ منهما على صاحِبِه؟ قالَ : فقالَ : «يُنظَرُ» (1) إلى ما كانَ من روايتهم عنّا في ذلك الذي حَكَما به المُجْمَعَ عليه من أصحابِك ، فيؤُخَذُ به من حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهورٍ عند أصحابِك ، فإنّ المُجمَعَ عليه لا ريبَ فيه) . «المجمع» يجوز أن يكون خبر «كان» وأن يكون بدلاً من «ما كان» ، وأن يكون عطف بيان له ، أو صفة . وضمِّن «يفضّل» معنى «يزيد» إن لم يتعدّ «يفضّل» ب_ «على» أو لكونه بمعناه .

.


1- . في «ألف» : «ننظر» ؛ وفي «ج» : «تنظر» .

ص: 511

قال : فقال : «يُنْظَرُ إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخَذُ به من حكمنا ، ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ،

وقوله عليه السلام : «في ذلك الذي حكما به» يفيد التقييد فيه أنّ هذا الذي تردّ روايته لشذوذها لا يكون ذلك قادحا فيه ، فتردّ روايته في غير هذا كما تردّ فيه ، والفرض أنّه عدل مرضيّ ؛ فلا تردّ روايته في غيره إذا لم تكن من هذا القبيل . فإن قلت : قوله عليه السلام بعدُ : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» قد يدلّ على أنّ رواية هذا ممّا فيه ريب ، وكون روايته ممّا فيه ريب إن لم يناف العدالة ، فلا أقلّ من كون روايته تردّ مطلقا ، من حيث إنّ الريب في روايته في الجملة . قلت : يمكن أن يكون الريب من جهة أنّه وقع منه سهو أو غفلة ونحو ذلك ، أو من حيث إنّه ورد عنهم عليهم السلام لأمر اقتضاه بحيث يكون في العمل به ريب إمّا من جهة التقيّة أو نحوها ، فالريب فيه أعمّ من الريب الذي به تردّ الرواية مطلقا ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ. وقوله عليه السلام : «فَيؤخذ به من حكمنا» قد يؤيّد ذلك قوله فيه : «من حكمنا» وكذا قوله فيما بعد : «وأمر مشكل يُرَدُّ علمُه إلى اللّه وإلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله » . فإن قلت : يمكن أن يكون المراد بقوله : «من حكمنا» من الحكم الذي نسبه إلينا ، والإضافة تصحّ لأدنى ملابسة . قلت : هذا خلاف الظاهر ، فلا يعدل عن الظاهر . فإن قلت : من المشهور أنّه إذا قام الاحتمال بطلَ الاستدلال . قلت : المراد في مثله بقيام الاحتمال كونه مقاوما للاحتمال الآخر ، ولفظ «قام» يشعر به ، وإلاّ لبطل الاستدلال بالظواهر ، فإنّه لا يكاد يخلو مثلها من الاحتمال المخالف لها . نعم ، يبقى احتمال أن يكون قوله عليه السلام «من حكمنا» بمعنى أنّ هذا يؤخذ به من جملة أحكامنا ، أو بمعنى : على أنّه من حكمنا ، بخلاف الشاذّ ، فإنّه ليس من حكمنا ؛ فتأمّل . فإن قلت : ما فائدة تقييد «الشاذّ» بقوله عليه السلام : «الذي ليس بمشهور عند أصحابك»؟ قلت : يمكن أن يكون المراد به مجرّد الكشف والتوضيح ، كما هو شأن صفة المعرفة غالباً . ويمكن أن يكون فائدته التنبيه على أنّه ليس كلّ ما كان شاذّاً يُترك العمل به لشذوذه من حيث التعليق على المشتقّ ، بل ما كان من الشاذّ من هذا القبيل ، فإنّ بعض الشاذّ إذا كان العمل به مشهوراً لا يُترك العمل به لشذوذه ، وبعض الشذوذ لاينافي الشهرة ، بل قد يعمل بالشاذّ وإن لم يكن مشهوراً إذا لم يقابله مشهور . فإن قلت : هل يدلّ هذا الكلام على حجّيّة الإجماع؟ قلت : هذا مخصوص بالإجماع على ما به رواية عنهم عليهم السلام ، لا مطلقا ، فهو دالّ على حجّيّة هذا الإجماع الذي هو أخصّ من الإجماع المتعارف . وفيه دلالة على أنّ المخالف المعلوم النسب لا يقدح في هذا الإجماع . وبأمر المعصوم بالعمل به يدخل قوله فيه ، وإن فرض كون الرواية ليست عنه في الواقع . ويمكن أن يكون المراد ب_ «المجمع عليه» هنا معنى المشهور بقرينة قوله عليه السلام : «الذي ليس بمشهور عند أصحابك» فتأمّل . وقوله عليه السلام : «فإنّ المجمع عليه لاريب فيه» تفريع على قوله : «ينظر (1) إلى ما كان» إلى آخره وتعليلٌ له .

.


1- . في «ج» : «تنظر» .

ص: 512

فإنّ المجمَعَ عليه لا ريبَ فيه ؛ وإنّما الأُمور ثلاثةٌ : أمرٌ بَيِّنٌ رشدُه فيُتَّبَعُ ، وأمرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ

قوله عليه السلام فيه : (وإنّما الاُمورُ ثَلاثةٌ : أمرٌ بَيِّنٌ رُشدُه فيُتَّبَعُ ، وأمرٌ بَيِّنٌ غَيُّه فيُجتَنَبُ ،

.

ص: 513

فيُجْتَنَبُ ، وأمرٌ مشكلٌ يُرَدُّ علمُه إلى اللّه وإلى رسوله ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : حلالٌ بَيِّنٌ وحرامٌ بَيِّنٌ وشبهاتٌ بين ذلك ، فمن تَرَكَ الشبهاتِ نجا من المحرّمات ، ومن أخَذَ بالشبهاتِ ارتَكَبَ المحرّماتِ ، وهَلَكَ من حيثُ لا يَعلَمُ» .

وأمرٌ مشكلٌ يُرَدُّ علمُه إلى اللّه ِ وإلى رسول اللّه (1) صلى الله عليه و آله ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : حلالٌ بَيّنٌ وحرامٌ بَيِّنٌ وشبهاتٌ بينَ ذلك ، فمَن تَرَكَ الشبهاتِ نجا من المحرّماتِ ، ومن أخَذَ بالشبهاتِ ارْتَكَبَ المحرّمات ، وهَلَكَ من حيثُ لا يَعلَمُ) . حصر عليه السلام الاُمور كلّها في ثلاثة اُمور بمعنى أنّها ترجع إلى هذه الثلاثة أقسام كلّ قسم يسمّى أيضاً أمراً ، كما تقول : الرجال ثلاثة : رجل عالم بمعنى كامل في العلم ، ورجل جاهل بمعنى كامل فيه ، ورجل بين ذلك . أحد الاُمور الذي طريقه وأمره واضح لاشبهة فيه ؛ فهذا يُتّبع ، وأمرٌ واضح غَيّه وبطلانه ، فهذا يُجتنب . ورشده وغيّه من باب « عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ » (2) أو بتقدير رشد صاحبه أو مرتكبه ونحوه ، وكذا غيّه . وأمر مشكل لا يعرف طريق غيّه ولا رشده ، وهذا يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله صلى الله عليه و آله . والانقسام إلى الأقسام الثلاثة باعتبار حال الناس ، فلاينافي عدم وجود القسم الثالث في نفس الأمر . ورَدّ علم الأخير إلى اللّه وإلى رسوله يحتمل وجهين : أحدهما : أن يقال فيه : اللّه ورسوله أعلم . والثاني : _ وهو الأظهر _ أنّه يرجع في معرفته وعلمه إلى اللّه ورسوله والأئمّة عليهم السلام ، فإنّهم يعلمون أمر اللّه ورسوله وكذا من أخذ عنهم ، فإنّ جميع ذلك مردودٌ إلى اللّه ورسوله . فالمعنى : أنّ ما أشكل أمره يرجع فيه إلى اللّه وإليهم ، إمّا بمعنى علمه من كتاب اللّه وسنّة رسوله ، أو بمعنى كون معرفته مستندة إلى اللّه بواسطة رسوله ؛ فذكرهما لكون الرسول مبلّغاً وهادياً عن اللّه ، فإذا لم يمكن معرفة ذلك ردّ علمه إليهما بالمعنى الأوّل . وهذا الكلام منه عليه السلام لفائدة ما يعمّ ما تقدّمه من ترك ما فيه ريب ، واتّباع ما لاريب فيه ، وهو المجمع عليه . ومعنى كلامه عليه السلام مارواه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله فإنّ الاُمور ترجع إلى الحلال والحرام والشبهات بين ذلك ، فالحلال البيّن ما ظهر حلّه من اللّه ورسوله ونوّابه عليهم السلام ، وكذا الحرام البيّن ، وما لم يظهر فهو مشتبه على من لم يصل إليه فيه أمر أو نهي ولو على وجه كلّي يجوز الأخذ به ، فمن ترك هذه الشبهات _ بمعنى المشتبه عليه أمرها من كونها حلالاً أو حراماً _ نجا من المحرّمات . وهذا لا شبهة فيه ، فإنّ من تركها لم يقع فيما هو محرّم في نفس الأمر ، ولا فيما هو محرّم الدخول فيه من غير باب ، وإن لم يكن حراما في نفس الأمر . «ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات» أمّا على الأوّل فإنّه مع ارتكابه للشبهات المتعدّدة لا يكاد يسلم من الوقوع في المحرّمات ، وأمّا على الثاني فإنّه بمجرّد ارتكابها يقع في المحرّمات . وكان هذا أظهر بحسب المعنى ، وإذا فعل ذلك هلك من حيث لا يعلم . وفي هذا قرينة مّا على الأوّل ، فإنّه لا يظهر له الحرام فيقول : اجتنبه لكونه حراماً ، فيرتكبه لاحتمال حلّه ، فيهلك (3) وهو غير عالم بوجه الهلاك . وعلى الوجه الآخر ، معنى هلاكه من حيث لا يعلم : أنّها من حيث إنّها شبهات يرتكبها غافلاً عن كون ما يشتبه أمره لا يجوز ارتكابه ؛ لأنّ فيه شبهةَ عدم معرفة وجهه ، فيهلك وهو جاهل بذلك . وليس المراد الغفلة التي يرتفع التكليف معها ؛ واللّه أعلم . بقي احتمال آخر ، وهو أن يكون معنى قوله صلى الله عليه و آله : «من ترك الشبهات نجا من المحرّمات» إلى آخره : أنّ من ترك الشبهات نجا من الوقوع في المحرّمات ، فإنّ الإنسان إذا سهل على نفسه أمر الشبهات وارتكابها ترقّى منها إلى ارتكاب المحرّمات، وهذا أمر وجداني ، فمن حام حول الحمى أوشك أن يدخله ، ومن كثر تردّده حوله دخله ، فإذا منع نفسه من الشبهات من أوّل الأمر ، كانَ منعها من المحرّمات بطريق اُولى،ومَن تعلّق بالشبهات انتهى الأمر به إلى ارتكاب المحرّمات. ومعنى هلاكه حينئذٍ من حيث لا يعلم : أنّ الإنسان إذا تصوّر الحرام ونحوه ممّا هو عظيم في نفسه ارتكابه من أوّل الأمر رآه أمراً عظيما في عينه ، فلا يكاد يقدم عليه إلاّ بجرأة تامّة ، كمن أراد الصعود إلى مكان عالٍ بغير مرقاة ، فإذا خفض على نفسه وسلك ما هو أسهل منه وَلَجَ في ذلك ودخَل أوّلاً فأوّلاً ، كان حين وصوله إليه بعد ذلك أمراً سهلاً عليه ، فينسى أو يتناسى ذلك الأمر العظيم أوّلاً ، فيصير وصوله إليه ودخوله فيه كوصول غير العالم بحاله (4) ودخوله . وهذا أمر ظاهر مكشوف وجداني في مرتكبي الشبهات أوّلاً ، وانتهائهم إلى الدخول في المحرّمات ، كاتّباع أهل الدنيا والجور ومعاونيهم ، تراهم أوّلاً ينزّهون أنفسهم عمّا هو ظاهر الحرام والظلم ، وفي زمانٍ يسيرٍ يترقون إلى أسفل دركات الحرام وظلم الناس ؛ نسأل اللّه التوفيق وحسن الخاتمة ، ونعوذ به من كلّ ما لا يرضاه . وإذا تأمّلتَ ما ذكرناه أمكنك الجمع بين ماهنا وما روي عن أبي عبداللّه عليه السلام من قوله : «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (5) . وكذا لو حمل ماهنا على ما يناسب ذكره في هذا الباب . ولا يذهب فكرك إلى أنّ ما تقدّم من الكلام يتضمّن تحريم الحلال ، وينافي كون الأصل في الأشياء الإباحةَ مع احتمال دلالته على خلافه ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في الكافي المطبوع وأكثر نسخه : «رسوله» .
2- . الحاقّة (69) : 21 ؛ القارعة (101) : 7 .
3- . في «ج» : «فيهلكه» .
4- . في «ج» : بحلاله» .
5- . الكافي ، ج 6 ، ص 339 ، باب الجبن ، ح 2 ؛ الفقيه ، ج 3 ، ص 341 ، ح 4208 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 7 ، ص 226 ، ح 988 ؛ وج 9 ، ص 79 ، ح 337 ؛ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 87 ، ح 22050 ؛ و ج 24 ، ص 236 ، ح 30425 ؛ وج 25 ، ص 117 ، ح 31376 ؛ وص 119 ، ح 31382 .

ص: 514

. .

ص: 515

. .

ص: 516

قلت : فإن كانَ الخَبَرانِ عنكما مشهورَيْنِ قد رواهما الثقاتُ عنكم؟ قال : «يُنظرُ ، فما وافَقَ حكمُه حكْمَ الكتاب والسنّة وخالَفَ العامّةَ ، فيُؤخَذُ به ، ويُترَكُ ما خالَفَ حكمُهُ حكمَ الكتاب والسنّة ووافَقَ العامّة» .

[قوله :] في هذا الحديث : (قلتُ : فإن كانَ الخبرانِ عنكما مشهورَيْنِ قد رواهما الثِّقاتُ عنكم؟ قال : «يُنظَرُ ، فما وافَقَ حكمُه حكمَ الكتابِ والسنّةِ وخالَفَ العامّةَ ، فيُؤخَذُ به ، ويُترَكُ ما خالَفَ حكمُه حكمَ الكتابِ والسنّةِ ووافَقَ العامّةَ) . ظاهر هذا الكلام يدلّ على أنّ المراد ، منه أنّ ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة مع مخالفته للعامّة ، يؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة مع موافقته للعامّة ؛ وحينئذٍ فذكر المخالفة للعامّة لفائدة أنّ ما خالف الكتاب والسنّة يلزمه (1) أن يكون موافقاً للعامّة ولو غالباً ، وليس المراد ترك ما وافَقَ الكتاب والسنّة لكونه موافقا للعامّة ، كما قد يفهم من القيد . ويحتمل أن يكون المراد : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة فيؤخذ به ، وينظر ما خالف العامّة فيؤخذ به . ولاينافي موافقته للكتاب والسنّة ، ولا ما يأتي من السؤال والجواب ؛ لاحتمال عدم فهم السائل هذا . وهذا يرجع إلى القاعدة التي تقدّم ذكرها ؛ فتأمّل . وقوله عليه السلام : «ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة» يعلم وجهه ممّا ذكر في الشقّ الأوّل . بقي احتمال لا يبعد _ واللّه أعلم _ أن يكون المراد ، وهو أن يقال : إنّ الترتيب الذكري غير معتبر ، والواو لا يدلّ على الترتيب ، والترتيب على الوجه الآتي يعلم من المقام ، فالمعنى : ينظر ما خالف العامّة ووافق حكمه حكم الكتاب والسنّة فيؤخذ به ويترك ما وافق العامّة وخالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ؛ فتدبّر . وفيما رأيته من النسخ «عنكما» (2) بضمير التثنية ، فإن كان في الواقع هكذا فهو باعتبار ما اشتهر عن الباقر والصادق عليهماالسلام من الأحاديث ، لكونها كانت كثيرة منتشرة عنهما عليهماالسلام .

.


1- . في «ج» : «يلزم» .
2- . في بعض نسخ الكافي و الفقيه ، ج 3 ، ص 8 ، ح 3233 ، والتهذيب ، ج 6 ، ص 218 ، ح 514 ؛ والوسائل : ج 27 ، ص 106 ، ح 33334 : «عنكم» . وقال العلاّمة المجلسي في مرآة العقول : «وفي الفقيه : «عنكم» ، وهو الأظهر» . وللمزيد راجع : شرح صدر المتألّهين ، ج 2 ، ص 373 ؛ شرح المازندراني ، ج 2 ، ص 415 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 292 ؛ مرآة العقول ، ج 1 ، ص 225 .

ص: 517

قلت : جُعلت فداك ، أرأيتَ إن كان الفقيهان عَرَفا حُكمَه من الكتاب والسنّة ، ووَجَدْنا أحدَ الخبَريْنِ موافقا للعامّة والآخَرَ مخالفا لهم ، بأيّ الخَبَرَيْنِ يُؤخَذُ؟ قال : «ما خالَفَ العامَّةَ ففيه الرَّشادُ» .

[قوله :] في هذا الحديث : (قلتُ : جُعِلتُ فداك ، أرأيتَ إن كانَ الفقيهانِ عَرَفا حُكمَه من الكتابِ والسنّةِ ، ووَجَدْنا أحدَ الخبرينِ موافقا للعامّة والآخَرَ مخالفاً لهم ، بأيّ الخبرينِ يُؤخَذُ؟ قالَ : «ما خالَفَ العامّةَ ففيه الرشادُ») . لا شبهة في أنّ حكم الكتاب والسنّة واحد ، فإذا أُسند إليهما ما هو مختلف يكون أحد المسندين وقع خطأً من الراوي أو لتقيّة ونحوها ، فما وقع بحسب الظاهر مأخوذاً من السنّة وكان موافقاً للعامّة ، فإن لم يكن في الواقع مأخوذاً عن أهل السنّة فالأمر ظاهر ، وإلاّ كان مأخوذاً على وجه التقيّة ونحوها ، فهذا يترك العمل به لذلك ، ويعمل بما ليس فيه شيء من هذا ، فإنّ الرشاد فيه ، والفرض أنّ هذا المقام ليس مقام العمل بالتقيّة كما تقدّم التنبيه عليه .

.

ص: 518

فقلت : جُعلت فداك ، فإن وافَقَهما الخبرانِ جميعا؟ قال : «يُنظَرُ إلى ما هم إليه أميَلُ حكّامُهُم وقضاتُهم ، فَيُتْرَكُ ويُؤخَذُ بالآخَرِ» . قلت : فإن وافَقَ حُكّامُهم الخبرين جميعا؟ قال : «إذا كان ذلك فَأرْجِهْ حتّى تَلْقى إمامَكَ ، فإنّ الوقوفَ عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكاتِ» .

[قوله :] في هذا الحديث : (فقلتُ : جُعِلتُ فداك ، فإن وافَقَهُما الخبرانِ جميعاً؟ قال : «يُنَظرُ إلى ماهم إليه أميَلُ حُكّامُهم وقضاتُهم فَيُتركُ ، ويُؤخَذُ بالآخَرِ») . الظاهر أنّ المراد : فإن وافقهما الخبران اللذان عرف حكمهما من الكتاب والسنّة ، ولمّا كان ما يتعلّق به العامّة غير مأخوذ على وجهه ، ولم يرجعوا في حقيقة معرفته إلى أهلها ، وكانوا يدخلون في الكتاب والسنّة الرأي ونحوه ، كان ميلهم إلى ما تقتضيه (1) اُصولهم الفاسدة ؛ فإذا ورد حديث وفرض كونه عن الإمام عليه السلام وهو موافق لما ذكر ، وحديث مخالف ، كان ما خالف خاليا من هذه الشوائب ، وإن لم يكن عنهم في الواقع كان الأمر أظهر . ومع قطع النظر عن هذه التوجيهات يكفينا أمره عليه السلام بالعمل بما ذكر ، ولكن هذه احتمالات لكلامه عليه الصلاة والسلام ؛ واللّه أعلم . [قوله :] في هذا الحديث : (قلتُ : فإن وافَقَ حُكّامُهم الخبرينِ جميعاً؟ قالَ : «إذا كانَ ذلك فأرْجِهْ حتّى تَلقى إمامَك،فإنّ الوقوفَ عند الشبهاتِ خيرٌ من الاقتحامِ في الهَلَكاتِ) . تقدّم في نحو هذا الرخصةُ منهم عليهم السلام في الأخذ بأحدهما من باب التسليم ، وكأنّه للوجه الذي ذكر هناك ؛ واللّه أعلم . وتقدّم الكلام في أنّ ما يشتبه أمره من نحو هذا يكون الوقوع فيه مهلكاً ، فإنّ مصادفة الحقّ في الواقع لاتنافي الوقوع في الهلاك ، والاشتباه لاينافي تحريم ارتكاب المشتبه في نحو هذا ؛ واللّه أعلم .

.


1- . في «ج» : يقتضيه» .

ص: 519

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتابعليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنَّ على كلّ حقٍّ حقيقةً ، وعلى كلّ صوابٍ نورا ، فما وافَقَ كتابَ اللّه فخُذوه ، وما خالَفَ كتابَ اللّه فدَعوه» .

محمّد بن يحيى ، عن عبداللّه بن محمّد ، عن عليّ بن الحَكَم ، عن أبان بن عثمانَ ، عن عبداللّه بن أبي يعفور ، قال :وحدّثني حسينُ بنُ أبي العلاء أنّه حضَر ابن أبي يعفورٍ

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتابقوله صلى الله عليه و آله في حديث السكوني عن أبي عبداللّه عليه السلام : (إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقةً ، وعلى كلّ صوابٍ نوراً ، فما وافَقَ كتابَ اللّه ِ فَخُذُوهُ ، وما خالَفَ كتابَ اللّه ِ فدَعُوهُ) . معناه _ واللّه أعلم _ أنّ على كلّ حقّ دليلاً حقّاً لا شبهة فيه يدلّ على حقّيّته ، وعلى كلّ صواب نوراً به يصير طريقه مضيئاً وواضحاً لمن استضاء به ، فإنّ اللّه سبحانه لم يترك الحقّ بغير دليل ، وطريقَ الصواب مظلماً ، فمن عمي عن ذلك فهو من سوء اختياره . ومن جملة الحقّ الذي عليه حقيقة والصواب الذي عليه نور ما اُتي به وكان موافقاً للكتاب ، فإنّه حقيقة ذلك الشيء ونوره ، وما خالفه فهو خارج عمّا هو حقّ وصواب . ومعرفة ما وافق الكتاب في المحكم والمبيّن ونحوه ظاهرة . ويحتمل كون الظاهر كذلك بالشروط المعتبرة فيما له شروط من معرفة الناسخ ونحوه ، وغير ذلك يعلم منه صلى الله عليه و آله ومن نوّابه عليهم السلام ، فنعلم بذلك الموافقة والمخالفة . ولاينافي ما ذكر اختصاصهم عليهم السلام بعلم القرآن ، فإنّ علمهم بكلّ ما فيه وبظاهره وباطنه لاينافي علم غيرهم ببعضه بتعليمهم ونحوه ؛ واللّه أعلم .

.

ص: 520

في هذا المجلس ، قال : سألتُ أبا عبداللّه عليه السلام عن اختلافِ الحديثِ يَرْويه من نَثِقُ به ومنهم من لا نَثِقُ به؟ قال : «إذا وَرَدَ عليكم حديثٌ ، فوَجَدْتم له شاهدا من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به» .

[قوله :] في حديث ابن أبي يعفور : (قال : سألتُ أبا عبداللّه عليه السلام عن اختلافِ الحديثِ يَرْوِيه مَن نَثِقُ به ، ومنهم من لا نَثِقُ به؟ قال : «إذا وَرَدَ عليكم حديثٌ ، فوَجَدْتُم له شاهداً من كتابِ اللّه ِ عزّ وجلّ ، أو من قولِ رسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به») . معنى قول الراوي «عن اختلاف الحديث» يحتمل أوجهاً يترتّب على كلّ منها مايناسبه من الجواب . أحدها : أن يكون المراد : سألته عن الحديث يختلف (1) رواته ، فبعضهم ممّن نثق به وبعضهم ممّن لانثق به ، فهل يجوز الاعتماد على كلّ ما يصل إلينا ، أو يختصّ بمن نثق به؟ الثاني : أن يكون المراد : أنّ الأحاديث المختلفة تصل إلينا ممّن نثق به وممّن لانثق به ، فما وجه المختلف من الجميع ؟ وهل يجوز العمل برواية من نثق به مع الاختلاف الحاصل في روايته وكذا من لانثق به ، أو لا؟ الثالث: أن يكون المراد: سألته عن الاختلاف الذي يقع في الحديث برواية من ذكر ، بمعنى أنّه يروي ما يكون مخالفاً لما هو مرويّ عندنا وثابت لدينا عنكم . الرابع : أن يكون المراد : سألته عن الحديث الذي يروى مختلفاً من الثقة وغيره ، بمعنى أنّ الراوي الثقة يرويه تارةً على وجه واُخرى على وجه آخر ، وكذا غير الثقة ، وما هذا شأنه كيف حكمه؟ فأجابه عليه السلام بقوله : «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه » إلى آخره . فمناسبة الجواب للوجه الأوّل أن يحمل الحديث الوارد على حديث من لا يوثق به ، فإنّ من يوثق به حكمُه معلومٌ من غير هذا الحديث ، أو بقرينة دلّت عليه من التخاطب . والجواب على الوجه الثاني يمكن حمله على إطلاقه ، فإنّ راوي الأحاديث المختلفة وإن كان يظنّ الوثوق به ، لكن بسبب الاختلاف يرجع فيه إلى الشاهد ، ومن لا يوثق به أمره ظاهر . ونحو هذا يُناسب الوجه الثالث ، فإنّ ما كان مرويّاً مقرّراً إذا ورد ما يخالفه من الثقة يرجع فيه إلى الشاهد من الكتاب أو قول الرسول ، ولاينافي وجود ما في الكتاب أو قول الرسول صلى الله عليه و آله مخالفاً ظاهراً لما عندهم منهم عليهم السلام ؛ لإمكان كونه لمصلحة التقيّة ونحوها . وعلى الوجه الرابع الجواب أيضا على إطلاقه ، فإنّ الراوي الواحد وإن كان يعتقد أنّه ثقة ، فالاختلاف في روايته ينافي ذلك ، أو يكون باعثا على ردّ مثل هذه الرواية . ومن جملة الشاهد من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما كان من قولهم عليهم السلام ، فإنّ قولهم وقوله واحد . وأظنّ أنّ الاقتصار عليه في هذا الحديث ونحوه للتقيّة . ويمكن أن يقال : إنّ أصل الجواب ورد موردَ التسقيّة في هذا ونحوه ، بأن يكون عليه السلام أمَرَ بما يوافق الكتاب وقول الرسول ؛ لأنّ الثقة قد ينقل عنهم ما هو مختلف ويكون حقّاً ، مع أمرهم بطريق العمل بالمختلف وقولهم به للمصلحة كما تقدّم ، فأراد عليه السلام أن لا يظهر هذا مع أنّ كلامه حقّ ، فإنّه يرجع إلى ما في الكتاب وقول الرسول صلى الله عليه و آله على الوجه الذي تقدّم التنبيه عليه . وما كان من غير الثقة ، فإن وافَقَ الكتاب أو قول الرسول أو قولهم يعمل به ، وإلاّ فلا ؛ فقد أتى عليه السلام بكلام حقّ موافق للتقيّة ، ولا عهدة عليه فيه من أحد ولا اعتراض ؛ واللّه تعالى أعلم . والشاهد من قول الرسول عليه السلام لاينافي كونه في الكتاب ، فإنّ شاهد الكتاب مثل المحكم والظاهر وما علم معناه ، وقول الرسول صلى الله عليه و آله قد يكون مبيّناً لما لم يظهر حكمه من الكتاب ، وكان هذه الأحاديث المتضمّنة للرجوع إلى الكتاب تدلّ على جواز العمل بظواهره وغيرها ممّا يجوز العمل به مع الشروط المعتبرة في معرفتها . وضمير «يرويه» يجوز رجوعه إلى «الحديث» وإلى «اختلاف الحديث» ولا يخفى عليك مناسبة كلّ منهما لما تقدّم من الأوجه في السؤال والجواب بعد الملاحظة والتأمّل . وكذا جملة «يرويه» فإنّها تحتمل الحاليّة والوصفيّة والاستئناف تفريعا على ما تقدّم . وقد تقدّم مكرّراً ما يعرف به معنى «أولى به» في قوله عليه السلام : «وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به» . وعلى الحمل على التقيّة يمكن إجراء التفضيل على أصله وغيره ؛ فتدبّر .

.


1- . في «د» : «يختلف» .

ص: 521

. .

ص: 522

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن النضر بن سُوَيد ، عن يحيى الحلبيّ ، عن أيّوبَ بن الحرّ ، قال :سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «كلُّ شيءٍ مَردودٌ إلى الكتابِ والسنَّةِ ، وكلُّ حديثٍ لا يُوافِقُ كتابَ اللّه فهو زُخْرُفٌ» .

قوله عليه السلام في حديث أيّوب بن الحرّ : (كلُّ شيءٍ مردودٌ إلى الكتابِ والسنّةِ ، وكلُّ حديثٍ لا يُوافِقُ كتابَ اللّه ِ فهو زُخرُفٌ) . عن الصحاح : الزخرف : الذهب ، ثمّ شبّه به كلّ مموَّهٍ مزوَّرٍ (1) . وقد تقدّم أنّ كلّ شيء في الكتاب والسنّة ، وأنّ ما في السنّة أصله في الكتاب ؛ فلاينافي قوله عليه السلام : «وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف» قوله أوّلاً : «كلّ شيء مردودٌ إلى الكتاب والسنّة» . فإن قلت : ماورد على وجه التقيّة ونحوها لايوافق الكتاب والسنّة ، فيدخل تحت العموم . قلت : قد تقدّم إدخال مثل هذا تحت السنّة على وجه تجويز اللّه ورسوله لهم العمل بالتقيّة ، على أنّه يمكن أن يقال بدخوله تحت العموم وإن وجب العمل به ؛ فافهمه .

.


1- . الصحاح ، ج 4 ، ص 1369 (زخرف) .

ص: 523

محمّد بن يحيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى ، عن ابن فَضّالٍ ، عن عليِّ بن عُقْبَةَ ، عن أيّوب بن راشد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما لم يُوافِقْ من الحديث القرآنَ فهو زُخْرُفٌ» .

محمّد بن إسماعيلَ ، عن الفضل بن شاذانَ ، عن ابن أبي عميرٍ ، عن هِشام بن الحَكَم وغيره ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«خطَب النبيُّ صلى الله عليه و آله بمنى ، فقال : أيّها الناسُ ، ما جاءَكم عنّي يُوافِقُ كتابَ اللّه فأنا قُلْتُه ، وما جاءَكم يُخالِفُ كتابَ اللّه فلم أقُلْهُ» .

قوله عليه السلام في حديث أيّوب بن راشد: (مالم يُوافِقْ من الحديثِ القرآنَ فهو زُخرُفٌ) . لا شبهة في أنّ ما علم حكمه من القرآن كان كلّ ما خالفه زخرفاً ، وما ثبت عنهم عليهم السلام قطعاً ولم يعلم حكمه من القرآن فهو موافق للقرآن على وجه لم يعلم لغيرهم عليهم السلام ، وما كان لتقيّة ونحوها تقدّم وجهه ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث هشام بن الحَكَم : (خَطَبَ النبيُّ صلى الله عليه و آله بِمِنى فقال : أيُّها الناسُ ما جاءَكم عنّي يُوافِقُ كتابَ اللّه فأنا قلتُه ، وما جاءكم يُخالِفُ كتابَ اللّه فلم أقُلْهُ) . قد تكرّر منه صلى الله عليه و آله أنّ عترته يعلمون الكتاب ، فما كان يمكن علمه كانت تعرف المخالفة والموافقة به ، وكذا ما كانوا قد علموه منه صلى الله عليه و آله ، وما عداه قد دلّهم على مَن يعلمه ، فإذا (1) وَرَدَ عنه صلى الله عليه و آله حديث فإمّا أن تعلم موافقته أو مخالفته ، والأمر فيهما ظاهرٌ ، وإمّا أن لا يعلم ذلك ، فيرجع فيه إليه في حياته ، وإلى نوّابه بعده . ويمكن أن يكونوا هم الحقيقة والنور في الحديث الأوّل مع الكتاب ، فإنّه بهم تعرف الموافقه والمخالفة في جميع الكتاب .

.


1- . في «ج» : «وإذا» .

ص: 524

وبهذا الإسناد ، عن ابن أبي عميرٍ ، عن بعض أصحابه ، قال :سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «من خالَفَ كتابَ اللّه وسُنَّةَ محمّدٍ صلى الله عليه و آله فقد كَفَرَ» .

عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبَيْدٍ ، عن يونس ، رَفَعَه ، قال :قال عليُّ بن الحسين عليه السلام : «إنَّ أفْضَلَ الأعمالِ عند اللّه ِ ما عُمِلَ بالسنّة وإن قَلّ» .

قوله عليه السلام في حديث ابن أبي عمير : (مَن خالَفَ كتابَ اللّه وسنّةَ محمّدٍ صلى الله عليه و آله فقد كَفَرَ) . ذكر السنّة مع الكتاب لكونها مبيّنة له ، فالمخالفة لكلّ واحد منهما كافية في الكفر . وظاهر المخالفة أن تكون مع الاعتقاد ، فالمراد الكفر المشهور الخاصّ ، ولو اُريد ما يدخل تحته عدم الاعتقاد ، فالكفر أعمّ من ذلك ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام في حديث يونس : (إنّ أفضلَ الأعمالِ عنداللّه عزّ وجلّ ما عُمِلَ بالسنّة وإن قَلَّ) . يحتمل أن يكون المراد : أنّ أفضل الأعمال عند اللّه ما اُتي فيه بجميع سنّته ، بمعنى مستحبّاته ؛ فهذا من أفضل الأعمال وإن كان قليلاً ، فهو أفضل عنداللّه من عملٍ ليس على هذا الوجه ، بحيث يكون بدون هذه السنن صحيحاً مجزياً ليكون فيه فضل ، فما اُتي به على الوجه الأكمل أفضل منه إذا نقص كماله ومن غيره كذلك وإن كان أكثر من هذا العمل . وهذا الوجه باعتبار التفضيل ، وإلاّ فكأنّه خلاف الظاهر من العمل بالسنّة ؛ واللّه أعلم . ويحتمل أن يكون التفضيل على غير أصله من باب « وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » (1) وصورة صيغة التفضيل لفائدة زيادة فضله في نفسه عند اللّه . وهذا وجه لطيف لم يتقدّم ذكره ولم أر من ذكره . ويمكن أن يكون « وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » من هذا القبيل ؛ واللّه أعلم . وحينئذٍ فالمراد بالسنّة ما كان عمله على وجه السنّة ، وهي طريقه ، سواء كان واجباً أم مستحبّاً . ويمكن هنا أيضا اعتبار اعتقاد العامل أنّ عمله له فضلٌ عند اللّه ، وإن لم يكن بطريق السنّة ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . الروم (30): 27.

ص: 525

عِدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أبي سعيد القَمّاط وصالح بن سعيد ، عن أبان بن تَغْلِبَ ، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه سُئلَ عن مسألة فأجابَ فيها ، قال :فقال الرجال : إنَّ الفقهاءَ لا يقولونَ هذا ، فقال : «يا ويحك ، وهل رأيتَ فقيها قطُّ؟! إنّ الفقيهَ حقَّ الفقيهِ الزاهدُ في الدنيا ، الراغبُ في الآخرة ، المتمسّكُ بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله » .

[قوله :] في حديث أبان بن تَغْلِبَ : (عن أبي جعفر عليه السلام أنّه سُئل عن مسألةٍ فأجابَ فيها، قالَ:فقالَ الرجلُ: إنّ الفقهاءَ لا يَقولونَ هذا.فقال: «يا وَيْحَكَ ، وهل رأيتَ فقيهاً قَطُّ؟! إنّ الفقيهَ حَقَّ الفقيهِ الزاهدُ في الدنيا ، الراغبُ في الآخرة ، المتمسّكُ بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله ») . قد تقدّم وجه تركيب مثل هذا . ولا شبهة في أنّ الفقيه الحقّ لا يخرج قوله عن قولهم عليهم السلام ، فالذين وصفهم الرجل بالفقهاء مع كونهم يقولون بخلاف قوله عليه السلام لا يكونون فقهاء إلاّ بتسمية من لا يعرف ما معنى الفقيه ، فكلّ من أخبر عنه الرجل لا يكون فقيهاً ، فلم ير فقيهاً قطّ ؛ لأنّه لو رأى واحداً يقول بقوله عليه السلام لما أتى بالجمع المعرّف المفيد للعموم . وهذا مع عدم الزهد في الدنيا وعدم الرغبة في الآخرة ، فإنّ الزهد والرغبة الحقيقيين تابعان للقول بقولهم . والمنادى في «ياويحك» محذوف ، والأصل : يا رجل ، أو يا هذا ويحك . و«ويح» منصوب بفعل محذوف ، ويحتمل كون «ويحك» المنادى مثل : يا غلامك ، إن جاز (1) . و«ويح» كلمة رحمة ، كما أنّ «ويلا» كلمة عذاب . وقيل : هما بمعنى (2) . وعلى الأوّل فخطابه له عليه السلام بقوله : «ياويحك» رأفة منه وترحّم على هذا الذي لا يعرف الفقيه ما هو ، أو أنّه وإن كان يستحقّ الخطاب ب_ «الويل» إلاّ أنّ اللائق بصدوره منه عليه السلام الخطاب ب_ «ويح» . والاستفهام في «هل رأيت» إنكاريّ ، بمعنى النفي . ثمّ نبّه (3) عليه السلام على الفقيه الحقيقي ما هو ، وهو من جَمَعَ الأوصاف الثلاثة : الأوّل : الزهد في الدنيا ، فإنّ الرغبة فيها تنافي الرغبة في الآخرة ، وعدم الرغبة في الآخرة لايجامع الفقه ، والفقيه من حصل مرتبتي العلم والعمل ، وذلك لا يكون إلاّ بالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة . ولمّا كان الزهد في الدنيا قد يكون للدنيا لا للآخرة والرغبة فيها _ وهذا شائع لا يحتاج في إثباته إلى برهان _ ذكر عليه السلام الوصف الثاني ، وهو الرغبة في الآخرة . ولو اكتفى بالأوّل أمكن الرجل أن يقول له : الفقيه الفلاني زاهد في الدنيا ، وهو يقول بخلاف قولك . وهذا يمكن إقامة الشهادة عليه وقد يكون مشهوراً شائعاً ، بخلاف الرغبة في الآخرة ، فإنّه لا يمكن إلاّ ادّعاؤها له فقط . وقد يحصل الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ولكنّهما مشروطان بالتمسّك بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله ، فإنّهما لاوجه لهما بدون هذا ، فإنّها هي الطريق الموصل إلى الزهد الحقيقي والرغبة كذلك . وهم عليهم السلام أهل السنّة ، ومنهم تؤخذ ، فالفقهاء غيرهم إذا قالوا بخلاف قولهم ، لو فرض زهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة مع عدم تمسّكهم بسنّتهم ، لا يترتّب على زهدهم ورغبتهم فائدة ، بل ضرر ووبال . وقولهم بخلاف قولهم دليلٌ على عدم تمسّكهم بالسنّة ، فلا يكونون فقهاء إلاّ بمحض التسمية . ولنذكر هنا حديثاً وَرَدَ عن الرضا عليه السلام يُناسب هذا المقام ، نسأل اللّه العمل بمقتضاه وتوفيقه لما يحبّه ويرضاه . ونقله في الاحتجاج : قال عليّ بن الحسين عليه السلام : «إذا رأيتم الرجل قد حَسُنَ سَمتُه وهَدْيُه وتَماوَتَ في منطقه وتخاضَعَ في حركاته فرويداً لا يغرّكم (4) ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيّته ومهانته وجبن قلبه ، فنصب الدين فَخّا لها ، فهو لا يزال يَخْتِلُ الناس بظاهره ، فإن تمكّن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يَعِفُّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّكم ، فإنّ شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شَوْهاء قبيحة ، فيأتي منها محرّماً ، فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك فرويداً لا يغرّكم حتّى تنظروا ما عَقَدَهُ عقلُه ، فما أكثر من تَرَكَ ذلك أجمعَ ثمّ لا يرجع إلى عقلٍ متينٍ ، فيكون ما يُفسده بجهله أكثر ممّا يُصلحه بعقله ، فإذا وجدتم عقلَه متيناً فرويداً لا يغرّكم حتّى تنظروا مع هواه يكون على عقله ، أو يكون مع عقله على هواه ، وكيف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ، فإنّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أنّ لذّة الرئاسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحلّلة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى « إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاْءِثْمِ فَحَسْبُهُو جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ » (5) فهو يخبط خبط عشوا ، يقوده أوّل باطل إلى أبعد غايات الخسارة ويمدّه ، وبه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في حياته ، فهو يحلّ ما حرّم اللّه ، ويحرّم ما أحلّ اللّه ، لا يبالي مافات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتّقى من أجلها ؛ فاُؤلئك الذين غضب اللّه عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذابا مهيناً . ولكنّ الرجل ، كلّ الرجل ، نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر اللّه ، وقواه مبذولةً في رضى اللّه ، يرى الذلَّ مع الحقّ أقربَ إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ؛ وأنّ كثير ما يلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤدّيه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول . فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربّكم به فتوسّلوا ، فإنّه لا تردُّ له دعوةٌ ، ولا تُخَيِّبُ له طَلِبَةٌ (6) . انتهى كلامه صلوات اللّه عليه . وفي المنتسخ منه بعض سقم في بعض الألفاظ .

.


1- . إلى هنا تمّت نسخة «ب» .
2- . الصحاح ، ج 1 ، ص 417 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 638 ؛ مجمع البحرين ، ج 4 ، 568 (ويح) .
3- . في «ألف ، ج » : «نبّهه» .
4- . في المصدر : «لا يغرّنّكم» وكذا فيما بعد .
5- . البقرة (2) : 206 .
6- . الاحتجاج ، ج 2 ، ص 320 .

ص: 526

. .

ص: 527

. .

ص: 528

عِدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن أبي إسماعيلَ إبراهيمَ بن إسحاق الأزدِيّ ، عن أبي عثمان العَبْديّ ، عن جعفرٍ ، عن آبائه ، عن أميرالمؤمنين عليهم السلام، قال : «قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله لا قولَ إلاّ بعَمَلٍ ، ولا قولَ ولا عملَ إلاّ بنيّةٍ ، ولا قولَ ولا عملَ ولا نيّةَ إلاّ بإصابة السنّةِ» .

قوله صلى الله عليه و آله في حديث أبي عثمان العَبْديّ : (لا قولَ إلاّ بعمل ، ولا قولَ ولا عملَ إلاّ بنيّةٍ ، ولا قولَ وعملَ ونيّةَ (1) إلاّ بإصابةِ السُّنَّةِ) . هذا الحديث كحديث «إنّما الأعمال بالنيّات» (2) يدلّ على أنّ جميع الأعمال تفتقر في الثواب عليها إلى النيّة ، كما ذكره جدّي قدّس سرّه (3) ، سوى ما شذّ من نحو الكرم ، والنيّة إن دخلت تحت العمل ، وإلاّ كانت مستثناة من العبادة المفتقرة في ترتّب الثواب عليها إلى النيّة . والظاهر عدم دخولها تحته ؛ للزوم التسلسل ، وتكلّف الجواب عنه . ويدلّ هذا الحديث على أنّ الأقوال كالأعمال في ذلك ، وعلى عدم صحّة ما يوصف بالصحّة من القول والعمل بدون النيّة . والظاهر أنّ القول داخل تحت العمل في حديث «إنّما الأعمال بالنيّات» فيدلّ على هذا أيضاً . والعدول عن العلم إلى القول ليدخل تحته بعض الأقوال وإن رجع بعضها إلى العلم والعمل بنوع من التوجيه ، كقول الإنسان ما ينبغي اتّباعه بالعمل ليترتّب عليه الصدق ، وكأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ووعظه غيره ، فإنّ جميع هذا وما أشبهه مع عدم العمل به لايترتّب عليه ما يترتّب على الجمع بين القول والعمل؛فنفي القول والعمل نفي لما يترتّب عليهما وكذا النيّة ، وليدخل تحته ما كان من العبادات قوليا . والحاصل أنّ كلّ ما دخل تحت القول والعمل ما لم يكن بنيّة ، فهو إمّا غير صحيح أو عارٍ عن الثواب ، سوى ما شذّ . والقول والعمل والنيّة إذا لم تكن على وجه مأخوذ من السنّة كانت عبثاً ، بخلاف ما إذا كان مأخذها السنّة . وترك لفظ «لا» في العمل والنيّة لدفع زيادة التكرار ، مع الدلالة على المقصود بدخول «لا» في أوّل الثلاثة ، وتكرارها في الثاني لنفي كلّ واحد بالاستقلال لمغايرته للآخر ، وبعد أن علم هذا من الثاني لا يحتاج إليه في الثالث . ولمّا علم أيضاً أنّ النيّة مصاحبة لكلّ منهما ، لم يحتج إلى نفيها بخصوصها ، خصوصا مع عدم تقدّم النفي على ما قبلها وملاحظة التكرار . والظاهر أنّ المراد «بإصابة السنّة» كون ذلك بطريق السنّة المعلوم كونه سنّة ، لا مجرّد الموافقة ، فإنّه قد تقدّم أنّ الإصابة بهذا المعنى خطأٌ ، ولفظ الإصابة قد يشعر به ؛ فتأمّل ، واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في الكافي المطبوع وبعض نسخه : «ولا قول ولا عمل ولا نيّة» .
2- . تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 83 ، ح 218 ؛ و ج 4 ، ص 186 ، ح 518 _ 519 ؛ الأمالى ، للطوسي ، المجلس 29 ، ضمن ح 10 .
3- . راجع : مسالك الأفهام ، ج 10 ، ص 57 _ 66 ؛ و ج 11 ، ص 397 ؛ وروض الجنان ، ص 254 .

ص: 529

. .

ص: 530

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عن أحمدَ بن النَّضْر ، عن عَمْرِو بن شِمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :قال : «ما من أحدٍ إلاّ وله شِرَّةٌ وفَتْرَةٌ ، فمن كانَتْ فَتْرَتُه إلى سنّةٍ فقد اهْتَدى ، ومن كانت فَتْرَتُه إلى بِدْعَةٍ فقد غَوى» .

قوله عليه السلام في حديث جابر : (ما من أحدٍ إلاّ وله شِرَّةٌ وفَتْرَةٌ ، فمن كانَتْ فَترَتُه إلى سنّةٍ فقد اهتدى ، ومن كانت فَترَتُه إلى بِدعَةٍ فقد غوى) . «شرّة» في بعض النسخ بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء وبالتاء . وعن (1) النهاية : الشرّة : النشاط والرغبة (2) . وفي القاموس : شِرة الشباب بالكسر : نشاطه (3) ، وفي الصحاح : حرصه ونشاطه ، والشرّة مصدر الشرّ (4) . وفي بعض النسخ «شَرَه» بفتحتين مع التخيف والهاء . وفي الصحاح : الشره : غلبة الحرص (5) . وعن القاموس : شره _ كفرح _ غلب حرصه (6) . وفتر يفتر : سكن بعد حدّته (7) . ولا يخفى أنّ الأوّل وهو «الشرّة» بالتاء أنسب بالمقام ، والثاني يحتاج إلى التوجيه بما يرجع إلى الأوّل . والمعنى _ واللّه أعلم _ أنّ كلّ إنسان لا بدّ له من حدّة ونشاط في وقت شبابه ، ثمّ بعد ذلك تسكن الحدّة والنشاط ، فإن استقرّ ذلك النشاط وتلك الحدّة على العمل بالسنّة وكانا منتهيين به إليها فكانت غاية ذلك ، فقد اهتدى صاحب الشرّة ، وإن استقرّا و سكنا منتهيين به إلى بدعة فقد غوى ؛ نسأل اللّه العفو والعافية . أو المعنى : أنّ كلّ إنسان لا بدّ له من حدّة وغضب وسكون بعدهما ، فإن كانت فترته منتهية إلى سنّة ، كأن يكون سبب سكون غضبه وحدّته نهيه نفسه عن ذلك ، وتأمّلَه ما يقتضي الرجوع عنه إلى الذي هو موافق للسنّة ، فقد اهتدى . وإن كانت فترته إلى بدعة ، كأن يكون سبب سكونه ارتكابَ ما هو مخالف للسنّة من قتل وضرب لا يجوزان ونحو ذلك ، فقد غوى . والتقييد بعدم الجواز لأنّ مثل القتل والضرب قد يكون سنّة . ويحتمل وجهاً آخر ، وهو أن يكون المعنى : ما من أحد إلاّ وله توجّه واهتمام بتحصيل شيء ، فيحصل له بذلك نشاط وحدّة لأجل تحصيله ، فإذا حصّله سكن النشاط والحدّة ، فإن كان ما توجّه إليه بذلك وسكنت بتحصيله نفسُه سنّةً ، فقد اهتدى ، وإن كان بدعةً ، فقد غوى . وعلى كون «الشرّة» مصدر «الشرّ» يمكن أن يكون المعنى : أنّه ما من أحد إلاّ وفيه حدّة ومبدأ شرّ ، فإذا تحرّك بسبب ذلك ثمّ سكن نفسه ونهاها بما يوافق السنّة ، فقد اهتدى ، وإن أعطاها هواها ، فسكنت على ما هو بدعة ، فقد غوى . وقد يرجع هذا إلى بعض ما تقدّم ، ويمكن اعتبار المغايرة في الجملة . ولا يخفى عليك الأنسب من هذه (8) الأوجه بالسنّة والبدعة والهداية والغواية ؛ واللّه تعالى أعلم .

.


1- . في حاشية «ألف ، د» : في كلّ موضع يذكر فيه «عن» في مثل «عن القاموس؛ عن الصحاح ، عن النهاية» رأيته مسندا إليها ، ولم يحضرني في ذلك الوقت الكتاب المنقول عنه (ألف : منه)؛ (د : منه دام ظلّه العالي) .
2- . النهاية ، ج 2 ، ص 458 (شره) .
3- . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 57 (شرّ) .
4- . الصحاح ، ج 2 ، ص 690 (شرّ) .
5- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2237 (شره) .
6- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 286 (شره) .
7- . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 107 (فتر) .
8- . في «ج» : «هذا» .

ص: 531

عليُّ بن محمّد ، عن أحمدَ بن محمّد البرقيّ ، عن عليّ بن حَسّان ؛ ومحمّد بن ص 71 يحيى عن سَلَمَةَ بن الخَطّابِ ، عن عليّ بن حَسّان ، عن موسى بن بَكْرٍ ، عن زُرارةَ بن أعْيَنَ ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :«كلُّ من تَعَدَّى السنَّةَ رُدَّ إلى السنّةِ» .

قوله عليه السلام في حديث زرارة : (كُلُّ مَن تَعَدّى السنّةَ رُدَّ إلى السنّة ِ) . تعدّى السنّة : ترك ما هو مقرّر من جهة السنّة وتجاوزه ، سواء كان بتركها ، أم الزيادةِ فيها ، أم النقيصةِ ، أم بنحو ذلك ، فيدخل فيه العمل بالرأي والقياس والاستحسان التي لا ترجع إلى السنّة ونحو ذلك ، وكلّ مالم يكن راجعاً إلى السنّة فهو بدعة ، يجب على من يمكنه ردُّ صاحبها أن يردّ عنها إلى السنّة بالشروط المعتبرة في نحو ذلك . وهو ظاهر .

.

ص: 532

عليُّ بن إبراهيمَ ، عن أبيه ، عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبداللّه ، عن آبائه عليهم السلام، قال : «قالَ أميرالمؤمنين عليه السلام : السنّةُ سُنَّتانِ : سنَّةٌ في فريضةٍ ، الأخْذُ بها هُدًى ، وتَرْكُها ضَلالَةٌ ؛ وسنّةٌ في غير فريضةٍ ، الأخْذُ بها فضيلَةٌ ، وتَرْكُها إلى غير خطيئةٍ» . تمّ كتاب فضلِ العلم ، والحمدُ للّه ربِّ العالمينَ ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين .

قوله عليه السلام في حديث السكوني : (السنّةُ سنّتانِ : سنّةٌ في فريضةٍ الأخذُ بها هُدًى وتركُها ضَلالةٌ ، وسنّةٌ في غير فريضةٍ الأخذُ بها فضيلَةٌ وتركُها إلى غير خطيئةٍ) . يحتمل أن يكون المراد _ واللّه أعلم _ بالسنّة المنقسمة إلى السنّتين ما كان مناطه السنّةَ ، سواء كان واجباً أم مستحبّاً أم غيرهما ، وهي تنقسم إلى ما هو فرض _ أي واجب ، سواء كان من القرآن ظاهراً أم لا _ وإلى ما هو سنّة بالمعنى الأخصّ ، أي مستحبّ ، وهذا مَن فَعَلَه حَصَلَ به فضلاً وثواباً ، ومَن تَرَكَه لم ينته به تركه إلى أن يكون ذا خطيئة يُعاقب بها ، بخلاف الأوّل ، فإنّ من أخذ به كانَ على هُدًى ومُثاباً ، ومَن تَركَه كانَ ضالاًّ آثماً ، وقد عُلم الحرام مِن تَرْك الواجب ، فيمكن إدخال جميع أفراده ؛ من حيث إنّ ترك كلّ واجبٍ حرامٌ ، وترك كلّ محرّم واجب . وأمّا المكروه ، فهو داخل أيضاً على تقدير أن يكون ترك كلّ مكروهٍ مستحبّاً ، وقد يستأنس له بهذا . وبقي المباح ، فيمكن إدخاله تحت قوله عليه السلام : «وسنّة في غير فريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير خطيئة» بنوع من التوجيه ، وهو أنّ من يفعل المباح أو يتركه ، إمّا أن يلاحظ مع الفعل أو الترك كون ارتكاب أحدهما لكون الشارع أباحَهُ ؛ فالأخذ به فضيلة ؛ وإمّا أن لا يلاحظ ذلك ، بل يفعل أو يترك مجرّداً عن القصد ؛ وهذا لا خطيئة عليه . وما كأنّ من أحكام الوضع ونحوها يمكن إدخاله بنحو هذا التقريب . وكأنّ المباح وما بعده غير مرادين هنا ، بل يحتمل إرادة الواجب والمندوب فقط وان ذكر ما يدلّ على تحريم ترك الواجب وحكم غيرهما ، أو غيرها (1) يعلم من غير هذا المقام إذ لا دليل على الحصر أو إرادته ؛ فتأمّل . ولفظ «الترك» في قوله عليه السلام : «وتركها ضلالة» قد يشعر بالترك استحلالاً أو تهاوناً . والأوّل ظاهر في الضلالة ، والثاني قد يؤول إليها . ولو حمل على ما يعمّ غير ذلك ، أمكن حمل الضلالة على ما هو أعمّ . ومعنى «سنّة في فريضة» و«سنّة في غير فريضة» أنّ السنّة الاُولى محلّها الفرض الواجب ، والثانية محلّها غيره ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه ، والمسؤول من عفوه وكرمه العامّ حُسن الخاتمة والختام . تمّ بعون اللّه تعالى وتوفيقه مع تشويش الفكر والبدن الجزءُ الأوّل من الكتاب الموسوم ب_ «الدرّ المنظوم من كلام المعصوم» على يد مؤلّفه أقلّ العباد «عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي» عفا اللّه عن زلاّته ، وحَشَرَه تحت لواء أئمّته وساداته ، وسامَحَه ممّا زلّت به القدم ، وطغى فيه الفكر وأورث الندم ، ووفّقه لإكماله بمحمّد صلى الله عليه و آله ، في آخر شهر ذي الحجّة الحرام من شهور سنة إحدى وستّين بعد الألف من الهجرة ، ويتلوه بعون اللّه تعالى وتوفيقه ومشيّته في أوّل الجزء الثاني كتاب التوحيد ؛ والصفح ممّن ظهرت له عثرة أو زلّة مأمولٌ ، والدعاء ممّن نظر فيه مسؤول ، والحمد للّه وحده ، وصلواته على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين .

.


1- . في «ج» : «غيرهما» .

ص: 533

. .

ص: 534

. .

ص: 535

الحاشية على اُصول الكافي

«كتاب التوحيد»

اشاره

الحاشية على اُصول الكافي«كتاب التوحيد»لعليّ بن زين الدين الثاني بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العامليالمعروف ب «الشيخ علي الصغير»تحقيق: محمد حسين درايتي

.

ص: 536

. .

ص: 537

مقدّمة التحقيق

نبذة من حياة المؤلّف

مقدّمة التحقيقنبذة من حياة المؤلّفاسمه ونسبه:هو الشيخ عليّ بن زين الدين بن محمّد بن حسن بن زين الدين الشهيد الثاني الجبعي العاملي الأصفهاني . (1) واشتهر ب_ «الشيخ عليّ الصغير» في قبال عمّه الشيخ عليّ بن محمّد بن الحسن صاحب كتاب الدرّ المنظوم و الدرّ المنثور ، حيث يعرف ب_ «الشيخ عليّ الكبير». (2)

ولادته:لم تذكر الكتب التي ترجمت له تاريخ ولادته، ولا تاريخ وفاته، إلاّ أنّ الوارد فيها أنّ عمّه الشيخ عليّا الكبير قد أجازهُ في سنة 1085 هجريّة. (3) وسنذكر صورة هذه الإجازة في الصفحات الآتية عند ذكر أساتيذه وتلامذته.

اُسرته:تعدّ اُسرة آل زين الدين الشهيد من الاُسَر العلميّة المعروفة، وهي دوحة من دوحات الفضل الشامخة؛ إذ إنّها من الاُسر المشهورة في العلم، والسابقة في الكمال، معروفة بالتقوى والصلاح، اشتهرت بسلسلة الذهب؛ لتسلسل العلم في أبنائها جيلاً بعد جيل، فمن هذه العائلة علماء كبار أمثال الشهيد الثاني وأجداده من قبله، خصوصا جدّه الخامس الشيخ صالح العاملي الذي تتلمذ على العلاّمة الحلّي، وأمثال الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني، صاحب المعالم، أعلى اللّه مقامهم، وهكذا أبناؤهم من بعدهم رجالاً ونساءً، فما منهم إلاّ عالم فاضل، أو أديب بارع، أو محدّث صادق، أو مجاهد بارز، بل إنّ أكثرهم جمعوا أغلب هذه الصفات وأكثر منها. ويشهد اليوم العالم الإسلامي بطولات هؤلاء النوادر، أمثال الإمام موسى الصدر الذي غيّبته يد الغدر والخيانة، وأمثال السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر واُخته الفاضلة بنت الهدى اللذين اغتالتهما الزمرة البعثيّة الغادرة صنيعة الاستعمار والصهيونيّة. وهؤلاء الأبطال هم أحفاد ذاك الشهيد السعيد الشيخ زين الدين الشهيد الثاني، والذي روّى الأرض بدمه الطاهر بعدما قضى عمرا حافلاً بطلب العلم دراسة وتدريسا، بل عمرا حافلاً بالإبداع والعطاء في أكثر من جانب من جوانب الحياة. (4) والمترجم من ذرّيّة ذلك المعطاء، فهو شبله، «والشبل للأسد المجرّب ينتمي»، وهو الامتداد الطبيعي لأبيه ولأجداده أرباب القلم والمطالعة والتدريس، فللّه درّهم وعليه أجرهم.

.


1- . أمل الآمل، ج 1، ص 120؛ رياض العلماء، ج 4، ص 99؛ روضات الجنّات، ج 4، ص 393.
2- . روضات الجنّات، ج 4، ص 393.
3- . طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 536.
4- . انظر في ذلك: مفاخر إسلام (فارسي)، ج 4، ص 481؛ شهيد ثانى مشعل هدايت (فارسي)، ص 13.

ص: 538

دراسته:نشأ الشيخ عليّ الصغير في أصفهان، وكانت مقرّا لكبار العلماء، وفيها حوزة علميّة عظيمة، وتتبعها مدارس كثيرة، وفي مثل هذه الأجواء شرع المترجم دراسته، فدرس على عمّه الشيخ عليّ الكبير صاحب الدرّ المنظوم (1) ، كما ودرس على غيره (2) ، ولكن لم تذكر المصادر العلوم التي أخذها عن عمّه أو عن الغير. وقد أجازه عمّه في آخر كتابه «الدرّ المنظوم» وذلك في سنة 1085 هجريّة. (3) كما وصرّح المترجم أنّه يروي عن عمّه في كتابه شرح الصحيفة السجّاديّة. (4)

.


1- . أمل الآمل، ج 1، ص 120؛ الذريعة، ج 6، ص 49.
2- . أمل الآمل، ج 1، ص 120.
3- . طبقات أعلام الشيعة ، قرن 12 ، ص 536 ، ونذكر نصّ هذه الإجازة في الصفحة الآتية عند ذكر أساتيده وتلامذته .
4- . الذريعة، ج 13، ص 354.

ص: 539

أساتيذه وتلامذته

إطراؤه:قال الحرّ العاملي قدس سره: «الشيخ عليّ بن زين الدين.... فاضل عالم، شاعر، أديب، معاصر، قرأ على عمّه وغيره». (1) وقال في رياض العلماء _ بعد نقله عبارة الحرّ العاملي المتقدّمة _ : «أقول: لم أعرف رجلاً فاضلاً بهذا الوصف في أصفهان في عصرنا هذا، وكأنّه أراد الشيخ عليّ المعروف ب_«الشيخ على كوچك» باللغة الفارسيّة، بمعنى الصغير، لكنّه ليس بتلك الدرجة والرتبة الموصوفة، وهو أعرف بما قاله». (2)

أساتيذه وتلامذته:لم تبيّن كتب التراجم أساتذة الشيخ عليّ الصغير، ولا تلامذته إلاّ نادرا. فنقل الحرّ العاملي رحمه الله أنّه قرأ على عمّه وغيره (3) ، ولكن لم يعرف الغير. وعمّه هو الشيخ عليّ الكبير صاحب الدرّ المنظوم، الذي أجاز إلى ابن أخيه (الشيخ عليّ الصغير) بخطّه في حاشية نسخة من الدرّ المنظوم (مخطوطة جامعة طهران، الرقم 926، الورقة 92) (4) هكذا: بلغ قراءة من أوّله إلى آخره بعون اللّه تعالى الولد الأعزّ الشيخ عليّ ولد الأخ الشيخ زين الدين، قدّس اللّه روحه. وقد أجزت له _ وفّقه اللّه _ روايته ورواية أصله الشريف بطريقي إلى مصنّفه ، قدّس اللّه نفسه وطهّر رمسه . وكتبه الفقير إلى اللّه تعالى عليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين، مؤلّف هذا الكتاب عفا اللّه عنهم في ثامن شهر ربيع الأوّل 1085. وقال العلاّمة الطهراني : «رأيت بخطّ صاحب الترجمة إجازته لتلميذه الحسن بن الشيخ عبّاس بن الشيخ محمّد عليّ البلاغي على ظهر الاستبصار في سنة 1102 هجريّة». (5)

.


1- . أمل الآمل، ج 1، ص 120. وانظر: روضات الجنّات، ج 4، ص 393؛ ريحانة الأدب، ج 2، ص 431.
2- . رياض العلماء، ج 4، ص 99.
3- . أمل الآمل، ج 1، ص 120.
4- . فهرس المكتبة ، ج 5 ، ص 1305 .
5- . طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 537، وانظر الصفحة 163 من نفس المجلّد.

ص: 540

تأليفاته

تأليفاته:لقد ترك الشيخ عليّ الصغير بعض التأليفات نتعرّض لها إجمالاً، وهي: 1 . الحاشية على تمهيد القواعد الاُصوليّة والعربيّة: ومعروف أنّ تمهيد القواعد من مؤلّفات الشهيد الثاني زين الدين بن عليّ، وقد فرغ المترجم من هذه الحاشية سنة (1104 هجريّة). وأوّلها: «الحمد للّه ربّ العالمين»، كما ذكر ذلك العلاّمة الطهراني وأضاف: «رأيت نسخة منها في مكتبة «كبّة» وعليها تملّك الشيخ عليّ بن الحسن الخاتوني في سنة 1163 هجريّة. (1) 2 . شرح الصحيفة السجّاديّة : وهو شرح مبسوط يشبه تفسير مجمع البيان في اُسلوبه ؛ حيث يذكر الدعاء أوّلاً، ثمّ اللغة، ثمّ الإعراب، ثمّ المعنى، ويتكلّم في كلّ واحد منها. وهو في مجلّدين، فرغ من أوّلهما يوم مولد النبيّ صلى الله عليه و آله سنة 1069 هجريّة. (2) أوّله: «بحمدك اللهمّ وبشكرك هديتنا، وبعظمتك وجلالك عن الغواية وقيتنا، وبعزّتك وكبريائك عظيم العقول أعطيتنا، وبحكمتك ونوالك في بحار الأنوار الحكم ألقيتنا، وبرحمتك وقدرتك برسولك محمّد صلى الله عليه و آله من ألم الجهالة نجّيتنا، وبآله العزّ الكرام عليهم أفضل الصلاة ، وأتمّ السلام من داء الضلالة شفيتنا». آخره: «لكنّي فتحت لاُولي الألباب من فقراته أبوابا توصل إلى العجب العجاب، فمن أتاها بقلب سليم ورويّة وفكر مستقيم ، هدته إلى الدين القويم، وبلّغته إلى رياض النعيم، وإنّي سائل من الناظر إليه بعين الإنصاف إصلاح الخلل، ملتمس منه إيضاح البرهان ومجانبة الجدل؛ واللّه الموفّق، وهو حسبي ونعم الوكيل». قال في الذريعة: رأيت نسخة الأصل منه في مكتبة الشيخ محمّد السماوي في النجف، وذكر في آخرها أنّه فرغ من تأليفه سنة 1097 هجريّة، وتاريخ كتابة النسخة سنة 1101 هجريّة. ونسخة في مكتبة الشيخ عبدالحسين شيخ العراقيّين الطهراني في كربلاء، تاريخ كتابتها شهر صفر سنة 1098 هجريّة. ونسخة رأيتها عند الشيخ حسين القديحي ابن صاحب أنوار البدرين في مجلّدين، فرغ من الأوّل في 17 ربيع الأوّل سنة 1096 هجريّة، ومجلّدها الثاني ناقص الآخر. (3) وتوجد في مكتبات إيران ثلاث نسخ منه: 1 . مخطوطة مكتبة الروضة الرضويّة، المرقّمة 10854. وهي مسودّة نسخة الأصل ، ولم تكن فيها خطبة الشارح، وتشتمل من دعاء التوبة وما بعده . والنسخة مصحّحة. (4) 2 . مخطوطة كلّيّة طهران، المرقّمة 42، نسخت في 1100 ق. (5) 3 . مخطوطة مكتبة مجلس شورى الإسلامي، المرقّمة 7043، القرن 13. (6) 3 . الحاشية على كتاب التوحيد من الكافي (هذه الرسالة). قال في الذريعة: «توجد نسخة من هذه الحاشية بخطّ المحشّي في مكتبة الخوانساري، ذكر في آخرها أنّه فرغ من تأليفه في 1085 هجريّة، وفرغ من كتابة هذه النسخة في 1088 هجريّة». (7) وإنّا وجدنا هذه النسخة في مكتبة الخوانساري وكانت النسخة بخطّ المؤلّف، كما استشهد به العلاّمة الطهراني وكتب على الورقة الاُولى منه بخطّه هكذا: «النسخة بخطّ مصنّفه، كتبها بعد التصنيف بثلاث سنين، كما صرّح به في آخر النسخة، فراجعه. الجاني آقابزرگ الطهراني». ولم نجد نسخة اُخرى منه رغم فحص الأكيد. والنسخة مخرومة الأوّل بورقة أو ورقتين.

.


1- . الذريعة، ج 6، ص 49.
2- . طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 537؛ الذريعة، ج 13، ص 353 _ 354.
3- . الذريعة، ج 13، ص 353 _ 354.
4- . فهرس المكتبة ، ج 15 ، ص 319 .
5- . فهرس المكتبة ، ج 1 ، ص 144 .
6- . فهرس المكتبة ، ج 25 ، ص 49 .
7- . الذريعة، ج 6، ص 183. وانظر: طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 537.

ص: 541

. .

ص: 542

وفاته

وفاته:لم تبيّن كتاب التراجم تاريخ وفاته ولا تاريخ ولادته كما تقدّم، إلاّ أنّ القدر المتيقّن أنّه عاش إلى سنة 1102 هجريّة ؛ إذ فيها أجاز تلميذه الحسن بن عبّاس البلاغي (1) ، كما تقدّم.

.


1- . طبقات أعلام الشيعة، القرن 12، ص 537.

ص: 543

M450_T1_File_671269.jpg

.

ص: 544

M450_T1_File_671270.jpg

.

ص: 545

. .

ص: 546

. .

ص: 547

متن الكتاب

كتاب التوحيد

باب حدوث العالم وإثبات المحدث

[كتاب التوحيد][باب حدوث العالم وإثبات المحدث][في حديث محمّد بن عبداللّه الخراسانيّ] (1) قوله عليه السلام : (أرأيتَ إنْ كانَ القولُ قولَكم ...) . الحاصل أنّه عليه السلام قال لهذا الرجل : إنّ إنكاركم مانقوله ، وإصراركم ومكابرتكم لايجديكم نفعا ؛ لأنّكم لستم قائلين بخالق وحساب وعقاب ، فإن كان القول الحقّ قولكم _ مع أنّ قولكم ليس بحقّ _ فنحن وإيّاكم على شِرْع واحد ؛ لأنّكم قائلين بأنّ الصلاة والصوم وغيرها من الطاعات لاتضرّ ولاتنفع ؛ لأنّه لانفع ولاضرر عندكم . ثمّ قال عليه السلام : (وإنْ كانَ القولُ قولَنا) . أي وإن كان القول الحقّ قولنا ، (وهو قولُنا) ، أي والقول الحقّ قولنا ، (ألَسْتُم قَد هَلَكتُم ونَجَوْنا؟) ؛ لأنّا قد فعلنا ما يجب علينا من الإقرار والصلاة والصوم والزكاة ، فقد حصل النجاة لنا بسببه ، ولكم الهلاك بالترك والإنكار . ثمّ لمّا سأله السائل بقوله : (رَحِمَكَ اللّه ُ ، أوجِدْني كيف هو؟ وأيْنَ هو؟) أنكر عليه السلام عليه (فقالَ : وَيْلَكَ إنّ الذي ذَهَبتَ إليه غَلَطٌ ، هو أيَّنَ الأينَ ...) . أي إنّ كلامك هذا يدلّ على أنّك تعتقد أنّ له كيف وأين (2) ، لكن لاتعلمهما . وهذا باطل ؛ لأنّه خالق جميع الأشياء ، والكيف والأين من الأشياء ، فهما مخلوقان وحادثان ، خلقهما وأوجدهما ، والقديم لايجوز اتّصافه بالحوادث ، واحتياجُه إليها ؛ لأنّ اللازم منه العجز قبل خلقها ، والخالق على الإطلاق لابدّ وأن يكون قادرا غير عاجز دائما ، لايعتريه تغيّر ولاتبدّل ؛ لأنّ كلّ متغيّر متبدّل حادثٌ محتاجٌ إلى غيره ، فلا يكون الخالقَ على الإطلاق . ثمّ بَيَّنَ عليه السلام [أنّ] له تنزّها عن صفات المخلوقين، فقال: (فلا يُعْرَفُ بالكيفوفيّةِ ...) . قوله عليه السلام : (وَيْلَكَ ، لَمّا عَجَزَتْ حَواسُّكَ عن إدراكِهِ ...) . لمّا توهّم السائل أنّ كلّ موجود لابدّ وأن يكون مدركا بالحواسّ ، وبنى على توهّمه الباطلِ أنّه إذا كان اللّه غير مدرك بالحواسّ ، فاللازم منه أن يكون «لاشيء» ، رَدَّ عليه السلام عليه بقوله : «ويلك لمّا عجزت حواسّك عن إراكه أنكرتَ ربوبيَّتَه» . (ونحن إذا عَجَزَتْ حواسُنا عن إراكه أيْقَنّا ...) . أي تيقُّنُنا أنّه الربّ والخالق على الإطلاق لاغيره إنّما حصَل بعد العلم بأنّه لا يدرك بشيء من الحواسّ ؛ لأنّ كلّ ما تدركه الحواسّ فهو مخلوق ، فلوكان الخالق يدرك بالحواسّ كان متّصفا بصفات المخلوقات ، وهي حادثة ، والقديم منزّه عن الحوادث . قوله عليه السلام في جواب السائل حين سأله بقوله : «متى كان؟» : (إنّي لمّا نظرتُ إلى جَسَدي ...) أجابه عليه السلام بدليل سَبْقه على جميع الأشياء ، وقِدَمِه من أوّل مرّة ؛ لأنّه عليه السلام كان يعلم أنّه لو أجابه بأنّه كان قبل كلّ شيء ، كان يطلب منه الدليل على ذلك ؛ وحاصل الدليل أنّي لمّا نظرت إلى عجزي وافتقاري واحتياجي ، علمتُ أنّ لي خالقا ومؤثّرا ، ولاريب في تقدّم المؤثّر على الأثر ، وكذا لمّا رأيت بعض هذه الآيات العجيبات _ من دَوَران الفلك ، وإنشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك ممّا لايحصى _ علمتُ أنّ له مقدّرا ومُنشئا ولاريب في تقدّم المنشى ء على المُنشأ ، فعلمتُ أنّه كان قبل كلّ شيء .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص78 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح3 .
2- . كذا ، والصحيح : «كيفا وأينا» .

ص: 548

. .

ص: 549

في حديث محمّد بن إسحاق (1) قوله : (إنّ عبداللّه الدَّيَصاني (2) ...) الظاهر أنّ الديصاني قصد بقوله : (أيقدر (3) أن يُدخِلَ الدنيا كلَّها البَيْضَة) ما أجاب به الإمام عليه السلام بدليل خروجه من عند هشام ودخوله على أبيعبداللّه عليه السلام وطَلبِ الدلالة لما علم من جواب هشام . إنّ الجواب من الإمام عليه السلا 4 : (فَخَرَجَ عَنْهُ وَلَم يُخْبِرْهُ بِاسْمِه ...) . ظاهر هذا الكلام أنّ وجه خروجه أنّه بعد علمه برتبته عليه السلام كان يتوقّع منه دليلاً برهانيّا ، فلمّا سأله عن اسمه ظَنَّ عنه إلزامه بالدليل الخطابي ، فخرج ليعود إليه ويسأله بغير هذه العبارة ، ليجيبه عليه السلام بالدليل الإلزامي ؛ واللّه أعلم .

في حديث هشام بن الحكم (4) قوله عليه السلام : (وإنْ زَعَمْتَ ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه مع كون أحدهما قويّا والآخر ضعيفا يلزم غلبة القويّ الضعيف وإعدامُه ؛ فيكون الموجود واحدا . قوله عليه السلام : (فإن قلتَ ...) . أي إن أنكرت وحدانيّته ، ولم تكتف بهذا ، وأردت عليه دليلاً ينبّه عليه ، فهاك . وتقرير الدليل : أنّهما لايخلو (5) إمّا أن يكونا متّفقين من جميع الجهات ، أو مفترقين كذلك . والثاني باطل؛ لأنّ اختلاف المؤثّر يلزم منه اختلاف الأثر،وعدم الاختلاف وجدانيّ،فثبت الاتّفاق، وإذا ثبت اتّفاقهما _ أي اتّحادهما من جميع الجهات _ ارتفعت الاثنينيّة ؛ وهو المطلوب . فإن قلت : يمكن اختلافهما من جهة واحدة ، فلم حصر عليه السلام الاختلاف (6) في القسمين فقط؟ قلنا : إذا اختلفا من جهة واحدة ، ثبتت الاثنينيّة ، فصار كلّ منهما غير الآخر ، فتكون الجهات الباقية جميعها مختلفةً ، وأقلّ فارق بينها اثنينيّتها ؛ لكونها في هذا وفي ذاك . قوله عليه السلام : (فَصارَتِ الفُرْجَةُ ثالِثا) . كأنّ المخاطب كان مجسّما ، وإلاّ يمكن أن تكون الفرجة صفة عين ذات أحدهما ، فلاتكون ثالثا ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام : (لايُدْرَكُ بِالحَواسّ) . أتى بالباء هنا ؛ لأنّ الحواسّ آلة للإدراك بخلاف الوهم ؛ فإنّه فاعل .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص79 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح4 .
2- . «الدَيَصاني» : منسوب إلى الدَيَصان . وهو مصدر داص يدص ، أي زاغ وحاد ومال . ومعناه الملحد ؛ لميله عن الدين بعد أن كان فيه ؛ إذ هو من تلامذة الحسن البصري . مال عن الدين لعدم قدرة اُستاذه على حلّ الشبهات . قال المحقق الشعراني : هذا غير مطابق للواقع ، والصحيح أنّ الديصانيّة كانوا قوما من الزنادقة القائلين بالنور والظلمة ، وأنّ الديصان اسم رئيسهم . انظر : الصحاح ، ج3 ، ص1040 (ديص) ؛ شرح صدرالمتألّهين ، ج3 ص28 ؛ شرح المازندراني ، ج3 ، ص46 ؛ مرآة العقول ، ج1 ، ص256 .
3- . في الكافي المطبوع : «يقدر» بدل «أيقدر» .
4- . الكافي ، ج1 ، ص80 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح5 .
5- . كذا ، والصحيح : «لا يخلوان» .
6- . كذا ، والظاهر : «الاحتمال» والمراد من «القسمين» هما : الاختلاف من كلّ الجهات والاتّفاق كذلك ، والاحتمال الثالث هو الاختلاف من وجه وجهة ، والاتّحاد من جهة .

ص: 550

في حديث أبيسعيد الزُّهْرِيّ (1) (وَما أَرْسَلَ بِه الرُّسُلَ ...) . وذلك لأنّها حِكَم بالغة ، لاتصدر إلاّ عن حكيم عالم متقن يعجز عنها من سواه تعالى ، فكفت دليلاً على وجوده وقدرته وعلمه .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص81 _ 82 ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح6 .

ص: 551

باب إطلاق القول بأنّه شيء

باب إطلاق القول بأنّه شيءفي حديث عبدالرحمن بن أبينَجران (1) (أتَوَهَّمُ شَيئا؟ فقال : «نَعَمْ ، غيرَ مَعْقولٍ ولامَحدودٍ») . أي توهّمه شيئا لايعقل ولايحدّ . قوله عليه السلام : (فَما وَقَعَ وَهْمُك عليه مِن شيءٍ فهو بخلافه (2) ) . هذا متسبّب عمّا قبله ؛ لأنّ كلّ ما يتوهّم حقيقته بقرينة قوله : «وقع» إمّا أن يكون معقولاً مستغنيا عن الحدّ ، أو محدودا ، و إذا امتنع كونه معقولاً بالحدّ و غيرِه ، امتنع كونه موهوما ؛ فهو خلاف الموهوم . قوله عليه السلام : (ولا يُشبِهُه (3) شيءٌ) . هذا ظاهر ؛ لأنّه لو أشبهه شيء لزم التعدّد ، وهو باطل بالدليل . قوله عليه السلام : (لاتُدرِكُه الأوهامُ) . تأكيدٌ وتأسيسٌ لقوله : «فما وقع وهمك عليه ...» ؛ لأنّه مختصّ بالمخاطب (4) . قوله عليه السلام : (وهو خِلافُ مايُعقَلُ) . دفْع لما يتوهّم من أنّه عُقل بهذه الصفات السلبيّة . وتقريره : أنّ العقل إنّما يتعقّل الأشياء بصفاتها الوجوديّة المعلوم حقيقتها ، وأمّا السلبيّة فكل [ ...] . (5) [ ...] وكذا المتوهّم بتشبيهه بغيره ؛ لأنّه لابدّ في التشبيه من ملاحظة التركيب والتأليف في الطرفين ، وهما من لوازم المخلوق ، ولمّا كانت هذه الآثار الظاهرة والدلائل الباهرة تدلّ على مؤثّر وصانع ، ومعرفتُه لابدّ وأن تكون بجهة إمّا بإدراكه بالحواسّ أو بالتشبيه أو بوجه ما ، والأوّلان من لوازم المخلوق ، فلم يبق إلاّ الثالث . فيه (6) : (قال السائل : فقد حَدَدْتَه إذ أثْبَتَّ وجودَه) أي وجودَ الحدّ ؛ لأنّه بعد نفي الحدّ بالجهتين وثبوت كونه موجودا ، يلزم أن يكون محدودا بالجهة الثالثة . فأجابه عليه السلام بأنّي (لم أحُدَّه ، ولكنّي أثْبَتُّه) أي أثبتّ الحدّ ؛ لأنّه لايمكن نفيه ؛ لأنّه يلزم من نفيه نفي الذاتيّات عنه ، وإذا انتفت الذاتيّات عن شيء انتفى ذلك الشيء ، فلزمها إثباته (7) ؛ لأنّه ليس بين النفي والإثبات منزلة ، ومعنى حدّ الشيء وجود حدّه في الذهن ، والإظهار عبارة عمّا في الذهن ، فلايلزم من عدم وجوده في الذهن عدمُه . قوله عليه السلام : (لأنّ الكيفيّةَ جِهةُ الصفةِ والإحاطة ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ اللّه تعالى منزّه عن هذه الكيفيّة التي هي جهة الصفة والإحاطة ، ولكن لمّا كان لابدّ من الخروج من جهة التعطيل _ بمعنى نفي جميع الصفات عنه اللازمِ منه نفيهُ ؛ لأنّ من لم يخرج فقد نفاه ، ومن نفاه فقد أنكره ودفع ربوبيّته وأبطله _ ومن جهة التشبيه _ وهي إثبات صفات الممكنات التي لاتستحقّ الربوبيّة له _ فلابدّ من إثبات أنّ له كيفيّةً لايستحقّها غيره ، ولايشارك فيها ، ولايحاط بها ، ولايعلمها غيره ، فنفي الكيفيّة عنه مطلقا بالمعنى المتعارف ، لامطلقا كما في «لاتدركه الأوهام» .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص82 ، ح1 .
2- . في الكافي المطبوع : «خلافه» .
3- . في الكافي ، المطبوع : «لايشبهه» بدون الواو .
4- . كون هذا تأكيدا وتأسيسا بالنسبة إلى «فما وقع ...» هو أنّ «لاتدركه الأوهام» عامّ يشمل وهم كلّ شخص وكلّ عامّ بالنسبة إلى خاصّ تحته تأكيد ، وبالنسبة إلى الزائد تأسيس ؛ واللّه العالم .
5- . سقط من شرح هذا الحديث والحديث الآتي شيء .
6- . أي في حديث هشام بن الحكم : الكافي ، ج1 ، ص84 ، ح6 .
7- . أي لزم الذاتيّات إثبات الحدّ .

ص: 552

باب أنّه لايعرف إلاّ به

باب أنّه لايُعرف إلاّ بهفي حديث الفضل (1) (قال أميرالمؤمنين عليه السلام : إِعْرِفوا اللّه َ باللّه ِ) . حاصل المعنى - واللّه أعلم _ أنّكم لاتعرفوه بأنّه شخص ولانور ولاجوهر إلى غير ذلك من الأشياء المخلوقة ، أي لاتصفوه بأنّه جوهر أو جسم إلى غير ذلك ، ولاتعتقدوا أنّه كذلك ؛ فإنّ من فعل ذلك ، عرف اللّه بخلقه ؛ لأنّ جميع هذه الأشياء حادثةٌ ممكنةٌ ، لابدّ لها من مؤثّر وخالق ، وخالقُها هو اللّه تعالى ؛ ومن نفى عنه هذه الأشياء ، عرفه بشيء غير خلقه ، وغير خلقه هو لاسواه ؛ لأنّه خالق كلّ شيء غيره ، فيكون عرف اللّه باللّه .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص85 ، ح1 .

ص: 553

في حديث عليّ بن عُقْبَة (1) (قيل : وكيف عَرَّفَك نفسَه) . يحتمل أن يكون السائل سأله عن أنّ المعرفة التي حصلت له كيف هي؟ فأجابه عليه السلام بأنّه (لاتُشبِهُه (2) صورةٌ ، ولايُحَسُّ بالحواسّ ...) ؛ أو أنّه سأله عن التعريف كيف هو؟ أهو كتعريف بعضنا بعضا الأشياءَ بأن يُرِيَه ذلك الشيءَ ، أو يأمره بمسّه ، أو يسمعه الصوت ، أو يقيسه له؟ فأجابه عليه السلام بنفي جميع هذه الأشياء عنه ، وأنّ تعليمه ليس كتعليم بعضنا بعضا . قوله عليه السلام : (قَريبٌ في بُعْدِه ، بَعيدٌ في قُربِه) . لا (3) وصفه بالقرب والبعد المتضادّين ، علم أنّ قربه وبعده ليس كقربنا وبعدنا ، فمعنى قوله : «قريب في بُعْده» أنّه مع بُعْده تعالى وتنزّهه عن مشابهة الأشياء ، عِلْمُه شاملٌ لها لايعزب عنه شيء . ومعنى قوله : «بعيدٌ في قربه» أنّه مع علمه بجميع الأشياء وإحاطته بها بعيدٌ عن وصول الأشياء إلى كنهه وعلمها به . وهكذا قوله عليه السلام (فوقَ كلِّ شيءٍ ، ولايقالُ : شيءٌ فوقَه) يدلّ على أنّ صفته ليست كصفتنا ، بل المراد به استيلاء قدرته وإحاطة علمه جميع (4) الأشياء بحيث لايخرج شيء منها ؛ لأنّ الأشياء كلُّ شيء منها فوقه شيء إلى أن تنتهي إلى آخرها ، فالذي فوق التحتاني تحت الفوقاني ؛ تعالى اللّه عمّا يقولون علوّا كبيرا ؛ فليتأمّل . وهكذا قوله : (أمامَ كلِّ شيءٍ ...) .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص86 ، ح2 .
2- . هكذا في المحاسن ، ص239 ، باب جوامع من التوحيد من كتاب مصابيح الظلم ، ح217 والتوحيد ، ص285 ، باب أنّه عزّوجلّ لايُعرف إلاّ به ، ح2 . وفي الكافي ، المطبوع : «لايشبهه» .
3- . كذا ، والصحيح : «لمّا» .
4- . كذا ، والأولى : «بجميع» .

ص: 554

في حديث منصور بن حازم (1) (قلت لهم : إنَّ اللّه َ أجلُّ (2) وأكرَمُ من أن يُعْرَفَ بخَلْقه ...) . الاستدلال إمّا بالمعلول على العلّة ، أو بالعلّة على المعلول ، ولمّا كان العلم بأنّ هذه الآثار _ المعلومَ لنا تغيُّرُها وتبدّلها _ لابدّ لها من مؤثّر بديهيّا ، وأردنا معرفة ذلك المؤثّر ، علمنا أنّه لابدّ أن يكون غيرَها وأن لايشبهها ؛ لأنّه لو أشبهها ، افتقر إلى مؤثّر آخَرَ ، وكذلك علمنا أنّ كلّ شيء له مشابهةٌ مّا بهذه الأشياء كالاشتراك في الجسميّة أو الحركة أو الاحتياج إلى حيّز إلى غير ذلك ، فحصل لنا علم آخَرُ بأنّ جميع هذه الأشياء لاتشبهه ، فينبغي أن تكون مخلوقةً ، فالعلم بأنّ جميع هذه الأشياء _ سواء كان تغيّرها وتبدّلها معلوما لنا أو غير معلوم _ مخلوقة حصَل لنا من معرفته ، فصَدَق قوله : «إنّ العباد (3) يُعرَفونَ باللّه » . وأمّا قوله : «إنّ اللّه أجلُّ وأكرمُ من أنْ يُعرَفَ بخَلْقه» معناه (4) _ واللّه أعلم _ : أجلّ وأكرم من أن يعرف بأنّه جسم أو جوهر إلى غير ذلك ؛ لأنّه خلقه وغيره ، والشيء لايكون غيرَه ؛ ولا علّة لنفسه ، والمراد بالعباد ما سوى اللّه تعالى ؛ لقوله عزّوجلّ : «وَ إِن مِّن شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِى وَ لَ_كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» . (5) ويحتمل أن يكون المعنى أنّ اللّه أجلّ وأكرم من أن يكون سبب معرفته تعريفَ الخلق له ، بل هو تعالى عرّفهم نفسه ، وإلاّ لم يعرفوه . ويؤيّد هذا ما يأتي في باب البيان والتعريف في حديث محمّد بن حكيم : قال : قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : المعرفة من صُنع مَن هي؟ قال : «مِن صُنْعِ اللّه ، ليس للعباد فيه (6) صُنعٌ» (7) . ولايخفى مناسبة «أجلّ وأكرم» لهذا المعنى ، ف «يعرف» لم يسمّ فاعله على الوجهين، و«يعرفون» كذلك على الأوّل، ومبنيّ للفاعل على الثاني؛ واللّه أعلم.

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص86 ، ح3 .
2- . في الكافي المطبوع : + «وأعزّ» .
3- . في الكافي المطبوع : «بل العباد» .
4- . كذا ، والأولى : «فمعناه» .
5- . الإسراء (17) : 44 .
6- . في الكافي المطبوع : «فيها» .
7- . الكافي ، ج1 ، ص162 ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح2 .

ص: 555

باب أدنى المعرفة

باب أدنى المعرفةفي حديث الفتح بن يزيد (1) قوله عليه السلام : (الإقْرارُ بأنّه لا إلهَ غيرُه ...) . لابدّ في التوحيد من الإقرار بجميع هذه الأشياء ؛ لأنّ نفي الشريك لاينفي الشبيه ، ونفي الشبيه لاينفي النظير ؛ لأنّ المتشابهين لابدّ وأن يكون فيهما وجها شبه تامٍّ ، والنظيرين أعمّ ، ثمّ اعتقادِ (2) أنّه قديم . قوله عليه السلام : ([وأنّه قَديمٌ] مُثْبَتٌ ، موجودٌ ، غَيْرٌ فَقيدٍ) . صفاتٌ (3) للقديم يؤكّد بعضها بعضا ، ولهذا لم يقل «وأنّه» (4) فيها ، وأتى بها في «أنّه ليس كمِثْلِه شَيْءٌ» ؛ لأنّ القدم قد يطلق على العدم ، كما يقال : العدم سابق على الوجود ، والعدم ليس له نهاية ، فيكون قديما . قوله عليه السلام : (وأنّه ليس كمِثْلِه شَيْءٌ) . دَفْعٌ لما قد يتوهّم من أنّ المراد من «لا إله غيره» أنّه لا إله لمخلوق خاصّ ، لا لجميع المخلوقات . وتقريره : أنّه لوكان إلها آخر لمخلوق آخر ، لزم أن يكون مثله ، فلمّا نفينا مثله انتفت جميع الآلهة ؛ ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص86 ، ح1 .
2- . عطف على «الإقرار» .
3- . أي الكلمات «مثبت» ، «موجود» ، «غير فقيد» صفات لقوله : «قديمٌ» .
4- . أي لم يقل : وأنّه مثبت وأنّه موجود وأنّه غير فقيد ، فضمير التأنيث في «فيها» راجع إلى الصفات . والضمير في «بها» راجع إلى كلمة «أنّه» .

ص: 556

باب المعبود

في حديث إبراهيمَ بن عُمَرَ (1) قوله عليه السلام : (إنّ أمْرَ اللّه ِ كُلَّه عَجيبٌ) أي ما عرفه أحد حقَّ المعرفة ، ولاوصل إلى كنهه . قوله عليه السلام : (إلاّ أنّه [قد احتجّ عليكم بما قد عرّفكم من نفسه]) . دفْعٌ لما يتوهّم أنّه إذا كان كذلك ، فكيف يعاقب الكفّار على إنكاره مع كون معرفته محالةً؟! وتقريره : أنّ الخطاب للعاقلين ، وكلّ عاقل يحصل له معرفة باللّه على قدر مايصل إليه عقله ، وهذه المعرفة هي المكلّف بها إن لم يجلب لنفسه الشبهات المهلكة ، فيكون هو باعثا على هلاك نفسه ، وللّه تعالى عليه الحجّة بذلك .

باب المعبودفي حديث ابن رئاب (2) قوله عليه السلام : (مَن عَبَدَ اللّه َ بالتوَهُّمِ فقد كَفَرَ) . العبادة لا تكون إلاّ بالمعرفة ، فالمعرفة سبب لها ، ومن عرفه تعالى بالتوهّم _ أي بأنّه شيئا (3) موهوما معقولاً لساير المخلوقات يمكن حدّه _ فقد كفر ، ولمّا كانت المعرفة سببا للعبادة ، والتوهّمُ سببا للمعرفة ، كان التوهّم سببا للعبادة ولو بواسطة . قوله عليه السلام : (ومَن عَبَدَ الاسمَ دونَ المعنى فقد كَفَرَ) . وذلك لأنّ لأسماء اللّه تعالى تأثيرا ظاهرا ، وهذا التأثير منه تعالى ، لا من الألفاظ والحروف ، فمن اعتقد أنّ هذا التأثير إنّما هو من هذه الألفاظ والحروف ، و لم يعتقد أنّها (4) منه تعالى ، فقد كفر . وذلك كاعتقاد بعض أصحاب الأعداد تأثير الحروف المفردة والأعداد الخاصّة بنفسها . وحديث هشام بن الحكم (5) يأتي تفسيره في باب معاني الأسماء (6) إن شاء اللّه تعالى .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص86 ، ح3 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص87 ، ح1 .
3- . كذا ، والصحيح رفعه ، أو تقدير «يكون» .
4- . كذا ، والصحيح : «أنّه» أي التأثير . ورجوعه إلى الألفاظ والحروف أيضا له وجه ، فمعنى العبارة ، أنّه لم يعتقد أنّ المؤثّر من اللّه .
5- . الكافي ، ج1 ، ص87 ، ح2 .
6- . الكافي ، ج1 ، ص114 ، باب معاني الأسماء واشتقاقها ، ح2 .

ص: 557

باب الكون والمكان

باب الكون والمكانفي حديث [أحمد بن محمّد بن] أبينصر (1) قوله عليه السلام : (إنَّ اللّه َ تَبارك وتعالى أيَّنَ الأيْنَ ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ اللّه تعالى خلق الأين والزمان ، فهما خَلْقان من خَلْقه ، والخالق سابق على المخلوق ، فهو سابق على الزمان ، ولم يكن زمان قبل هذا الزمان الحادث ، فلا يسأل بأنّه في أيّ زمان كان ، وكذا جميع الكيفيّات خَلْقٌ مِن خَلْقه ، حادثةٌ بعد العدم ، ولم يكن قبلها كيفيّة فيتكيّف بها ، فعلم أنّه تعالى مُنزَّه عن جميع الكيفيّات ؛ لأنّها كلّها خلْقه وخارجة عنه .

في حديث أبيبصير (2) قوله عليه السلام : (إنّما يُقالُ لشيءٍ لم يَكُنْ : متى كانَ ، ...) . لمّا قال له السائل : أخبرني عن ربّك متى كان؟ أجابه عليه السلام بأنّه إنّما يسأل عن الحادث المسبوق بالعدم : متى كان ، واللّه تعالى قديم أزليّ ، ليس مسبوقا بعدم حتّى يسأل عنه بأنّه متى وجد؟ قوله عليه السلام : (إنَّ رَبّي تَباركَ وتَعالى [كان ولم يزل حيّا بلا كيف]) . تركيب هذه العبارة _ واللّه أعلم _ هكذا : إنّ ربّي تبارك وتعالى كان ولم يزل حيّا وهو بلا كيف . قوله : (ولم يَكُنْ له) . أي عدم الكيف ليس حاصلاً له الآنَ ، بل لم يكن له كيف أبدا . ثمّ قال عليه السلام : (كانَ ، ولا كانَ لكَوْنِه كَوْنُ) . المعنى _ واللّه أعلم _ : كان ولا كان لكونه كون ككوننا،وهو الحدوث بعد العدم. ثمّ قال عليه السلام : (كيفٍ ، ولا كانَ له أيْنٌ) . أي لكونه ، أي كوننا له ابتداء وانتهاء ، فله أينٌ معلوم مخصوص ، واللّه تعالى ليس له أين ؛ لأنّه كان قبل الأين ، والأين خَلْقٌ مِن خَلْقه حادثٌ ، فكيف يكون له كونٌ ككوننا وليس له أين؟! قوله عليه السلام : (ولا كانَ في شيءٍ ، ولا كانَ على شيءٍ) . أي لوكان له كون ككوننا احتاجَ إلى أن يكون له مكان يحلّ فيه ؛ لاحتياج كوننا إلى أن يكون في مكان ، واللّه تعالى ليس في شيء ولا على شيء ؛ لأنّه كان قبل جميع الأشياء . ثمّ لمّا كانت هذه الكلمات البليغة الدالّة على أنّه لا مكان له دليلُها أنّه كان قبل المكان ، والمكان خلق من خلقه ، ولم [ ...] كونه تعالى خلق مكانا للكون فيه ، قال عليه السلام : (ولا ابْتَدَعَ لمكانِه مكانا) أي ولا ابتدع مكانا ليكون مكانه . قوله عليه السلام : (ولا قَوِيَ [بعدما كوّن الأشياء] ...) . أتى به للدلالة على أنّ صفاته كلَّها قديمة أزليّة ليست بحادثة . قوله عليه السلام : (ولم يَزَلْ (3) حَيّا بلا حَياةٍ) . أي ليس وصفه بالحياة لكون الحياة حالةً فيه كوصفنا بها . قوله عليه السلام : (ومَلِكا قادِرا قَبْلَ أن يُنْشِئَ شَيْئا) . دليله ظاهر ؛ لأنّه أنشأ الأشياء كلّها وهي معدومة بأجمعها ، ولم يكن وقتَ إنشائها وابتداعها شيء حتّى يشكّ في أنّ الإنشاء هل كان بمعونة بعض تلك الأشياء ، بل يعلم قطعا أنّه أنشأها بحوله وقوّته . قوله عليه السلام : (ومَلِكا جَبّارا بعد إنشائه للكَوْنِ) . لا دلالة لكونه جبّارا بعد إنشائه للكون إلاّ على ثبوت هذه الصفة له في ذلك الوقت ، وأمّا كونه جبّارا قبل ذلك فمسكوتٌ عنه هنا ، لكن يدلّ عليه قوله عليه السلام : «وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا» ؛ لأنّ الجبر فرع القدرة ، وإنّما صرّح به لئلاّ يتوهّم أنّه بعد إيجاد الخلق سلّم الأمر إلى بعض مخلوقاته ورفع يده من الملك والتدبير ، كما يؤول إليه كلام بعض الحكماء في إثبات العقول . قوله عليه السلام : (فلَيْس لكونِه كَيْفٌ) . أي إذا عُلم أنّ الأشياء كلّها أنشأها بقدرته ، وأنّ الكيف والأين من جملة الأشياء ، دلّ هذا على أنّه ليس لكونه كيف وأين ؛ لأنّه تعالى سابق عليهما ، وهما خَلْقان من خَلْقه . قوله عليه السلام : (ولا له حَدٌّ) . أي وعلم أنّه ليس لكونه حدّ ، أي ابتداء وانتهاء ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك كان حادثا ،و إذا كان حادثا وُصف بعدم الحياة في بعض الأوقات . ويحتمل كونه معطوفا على «لم يزل» بناء على جواز عطف الاسميّة على الفعليّة ، وكون الواو للابتداء ، والمعنى : لايمكن حدّه . قوله عليه السلام : (ولايُعْرَفُ [بشيء يُشبِهُه]) . التعريف أعمُّ من الحدّ . أي أنّه تعالى لايُعرف بشيء يشبهه ؛ لأنّه ليس له شبيه حتّى يعرف به ، ولا يخفى على من أنعم النظر أنّ المكرّرات ليست لمجرّد التأكيد من دون تأسيس .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص88 ، ح2 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص88 ، ح3 .
3- . في الكافي ، المطبوع : «لم يزل» بدون الواو .

ص: 558

. .

ص: 559

. .

ص: 560

في حديث [أحمد بن] محمّد بن خالد (1) قوله عليه السلام : (هو قَبْلَ القَبْلِ بلا قَبْلٍ) أي قبلٍ موصوفٍ بكونه لا قبل قبله . وقوله عليه السلام : (ولا غايةٍ ولا منتهىً) . كلامٌ مستأنف محذوف الخبر ، تقديره «له» أو «لغايته» . يدلّ على ذلك الحديثُ الذي بعده بلا فاصلة . في حديث [أحمد بن] محمّد بن خالد ، قول رأس الجالوت : (فهذا (2) أعْلَمُ ممّا يُقالُ فيه) . أي علمه أكثر ممّا يقال فيه من العلم ، فكأنّه جرّد منه عليه السلام عالما عظيما حالاًّ فيه ، ثمّ أخبر بأنّ هذا أعلم من ذلك العالم الذي مَلَأ الخافقين علمُه .

في حديث أبيالحسن الموصلي (3) قوله عليه السلام : (كانَ رَبّي قبلَ القبلِ بلا قَبْلٍ ، وبَعْدَ البعدٍ بلا بَعْدٍ) . المعنى _ واللّه أعلم _ : ويكون بعد البعدِ الموصوفِ بكونه لا بعد بعده ، وإنّما لم يأت بالعامل (4) وجعله معطوفا على «قبل» ليكون العامل فيه «كان» ؛ لأنّه لمّا كان كونه تعالى بعد ذلك أمرا ثابتا محقّقا كانَ بمنزله الكائن ، فلهذا أخبر عنه بالفعل الماضي ، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب ، كقوله تعالى : «فَاعْتَرَفُواْ بِذَمنبِهِمْ فَسُحْقًا لاِّصْحَ_ابِ السَّعِيرِ » . (5)

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص89 ، ح4 .
2- . في الكافي المطبوع : «فهو» .
3- . الكافي ، ج1 ، ص89 _ 90 ، ح5 .
4- . المراد به قوله : «يكون» .
5- . الملك (67) : 11.

ص: 561

في حديث محمّد بن سماعة (1) (قال له : يا يهوديُّ ، إنّما يُقالُ : «متى كانَ» لمن لم يكن ، فكان متى كانَ فهو (2) كائن بلا كينونةٍ (3) كائنٍ ، كانَ بلا كيفٍ يكونُ . بلى يا يهوديّ ، ثمّ بلى يا يهوديّ ، ثمّ بلى يا يهوديّ (4) ) . يحتمل كون «متى كان» الثانية زائدة من النسّاخ ، وعلى تقدير كونها غير زائدة فالمعنى _ واللّه أعلم _ : متى قلنا بوجوده فهو كائن موجود قبل كينونة كائن ، أي وجود شيء من الموجودات ؛ لأنّه علّة لها ، فهو سابق عليها ، فكان ولم يكن ، فكيف يوصف بها؟! ثمّ أخبر عليه السلام بطريق الجزم و قال : «كان بلا كيف يكون» ، أي بلا كيفيّة من الكيفيّات الممكنة ، وأكّده بقوله «بلى يا يهوديّ» . وإنّما قال : «بلا كيف يكون» ، أي بلا كيفيّة حادثة ، وإلاّ فللّه تعالى كيفيّة قديمة خاصّة به ، كما دَلَّ عليه الحديث المتقدّم ، وهو قوله عليه السلام : «ولكن لابدّ من إثبات أنّ له كيفيّة لا يستحقّها غيره ، ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره» . (5) ثمّ أكّد عليه السلام الجواب والتبيين : (فكيف (6) كيفَ يكونُ له قَبْلٌ ...) . أي إنّما يُسأل بهذا السؤال عمّن كان مسبوقا بشيء ، وهو تعالى كان قبل القبل الموصوف بكونه لا غاية ولا منتهى غاية ، وغاية الشيء ابتداؤه وانتهاؤه ، والعدم لايكون غاية ؛ لأنّها أمر وجودي . فقوله : (قَبْلَ القبلِ بلا غايةٍ) أي قبل قبلٍ موصوفٍ بأنّه لا غاية لذلك القبل ، وذلك كأوّل شيء خلقه اللّه ، فإنّه قبلٌ بالنسبة إلى ما بعده ، وهو بلا غاية أيضا ؛ لأنّ المفروض أنّه أوّل خلق ، فليس قبله شيء ينتهي هو إليه ، فصدق عليه أنّه قبلٌ بلا غاية . قوله عليه السلام : (ولا منتهى غايةٍ ، ولا غايةَ إليها) أي وقبل قبلٍ له غاية ، لكن ليس لغايته منتهى ، أي شيء تنتهي تلك الغاية إليه ، «ولا غاية إليها» ، أي وليس شيء ينتهي إلى تلك الغاية. والحاصل أنّه كان قبل قبلٍ له غاية موصوفةٌ تلك الغاية بأنّها لا تنتهي إلى شيء ولا ينتهي إليها شيء ، ولا يلزم كونها غير متناهية ؛ لأنّ المراد بالشيء الذي ينتهي إليها (7) الموجودُ وهو ينتهي إلى العدم ، فتكون (8) متناهية ، وهذه العبارة دالّة على أنّه كان قبل جميع الأشياء ؛ لأنّها إمّا أن تكون أوّل خَلْق خَلَق أو ما عداه ، والأوّل يدلّ على الأوّل ، والثاني يشمل الثاني . وقوله عليه السلام : (انْقَطَعَتِ الغاياتُ [عنده] ...) كلامٌ مستأنف ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص90 ، ح6 .
2- . في الكافي المطبوع : «هو» .
3- . هكذا في بعض نسخ الكافي و التوحيد ، للصدوق ، ص 175 ، باب نفى المكان والزمان ، ح6 . وتذكير الصفة باعتبار كون «كينونيّة» مصدرا جعليّا . وفي الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «كينونيّة» .
4- . في الكافي المطبوع : - «ثمّ بلى يا يهودي» الأخير .
5- . الكافي ، ج1 ، ص85 ، باب إطلاق القول بأنّه شيء ، ح6.
6- . في الكافي المطبوع : - «فكيف» .
7- . أي إلى الغاية . ولفظ «الموجود» خبر «أنّ» لا فاعل «ينتهي» .
8- . أي الغايات .

ص: 562

باب النسبة
باب النهي عن الكلام في الكيفيّة

باب النسبةفي حديث حمّاد بن عَمْرو النصيبي (1) قوله عليه السلام : (نِسْبةُ اللّه ِ إلى خَلْقِه) . أي هي نسبة من اللّه تعالى إلى خَلْقه ، يعني أنّه تعالى نسب نفسه بهذه النسبة ، وتفضّل بها على خلقه .

باب النهي عن الكلام في الكيفيّةفي حديث أبيعُبيدة الحَذّاء (2) (أنّ الرجل يدعى (3) من بين يديه [فيجيب من خلفه] ) . «من» الأُولى جارّة ، والثانية موصولة (4) ، وكذا في «يُدعى من خلفه ...» .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص91 ، ح2 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص92 ، ح4 .
3- . في الكافي المطبوع : «حتى أن كان الرجل ليُدعى» .
4- . انظر : شرح صدر المتألّهين ، ج3 ، ص131 ؛ مرآة العقول ، ج1 ، ص323 .

ص: 563

باب في إبطال الرؤية

في حديث الحسين بن مَيّاح (1) (مَن نظَر في اللّه ِ كيفَ هو ، فقد كَفَرَ (2) ) . يحتمل كون جملة «اللّه كيف هو» مقول قول محذوف مجرور ب «في» ، أي من طلب الإستدلال في مفهوم هذا القول _ أعني كيفيّة اللّه _ فقد كفر . وذلك بأنّه إمّا أن يصدق بأنّ له كيفيّة من الكيفيّات المخلوقة ، ثمّ يستدلّ بأنّها أيّ شيء هي ، وهذا كفر صريح ؛ أو يطلب الاستدلال للعلم بكيفيّته المخصوصة به التي لا تتجاوزه إلى شيء من المخلوقات ، ولا يدركها أحد غيره تعالى ، وهذا أيضا كفر ؛ لأنّ الأخبار ونصّ الكتاب قد تظافرا بعدم إدراكها والعلم بها ، وأنّها لا يعلمها غيره تعالى . ويحتمل أن يكون المجرور عامّا مقدّرا ، تقديره «في أمر اللّه » أو «في شأن اللّه » فيكون «كيف هو» تفسيرا لذلك المقدّر ، ليكون المراد بالنظر المنهيّ عنه النظرَ في الكيفيّة ، لا مطلقَ النظر الشامل النظر في إثباته وتنزيهه عمّا لا يليق به .

في حديث محمّد بن [أبي] عبداللّه (3) (فهذه الشمسُ [خَلْقٌ من خَلْقِ اللّه ِ] هذا الحديث يفسّره الحديث الذي قبله ، وذلك أنّ عِظَم الخَلْق يدلُّ على أعظميّة الخالق ، ومثّل عليه السلام بالشمس ؛ لأنّها لا يمكن إدراكها بهذه الحاسّة مع أنّها مخلوقة ، فكيف يطلب صاحب هذه الحاسّة إدراك خالقها .

باب في إبطال الرؤيةفي حديث أحمد بن إسحاق (4) قوله : عليه السلام : (لا تَجوزُ الرؤيةُ ما لم يَكُنْ بين الرائي والمرئيّ [هواء ينفذه البصر] ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ : لا يجوز رؤية الرائي المرئيَّ ما لم يكن بينهما هواء موصوف بكونه «ينفذه البصر» أي هواء صرفا غير منسوب بشيء من الأجسام المانعة من نفاذ البصر ، فإذا انقطع الهواء الموصوف بهذه الصفة بين الرائي والمرئيّ امتنعت الرؤية ، وإن اتّصل لزم منه مشابهة الرائي المرئيَّ ؛ لأنّ الرائي متى ساوى المرئيَّ في السبب الموجب للرؤية بينهما _ وهو اتّصال الهواء بهما وكونُهما نهايتي جسم واحتياجُهما إلى مكان ، إلى غير ذلك ممّا يمكن تصوّره من المشابهة بينهما _ وجب الاشتباه ، فكان القول بالرؤية هو القولَ بالتشبيه . فإن قيل : لزم من قولكم : «إنّه لابدّ من أن يكون بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر» أن يكون الهواء متّصلاً بهما ، فما الدليل عليه ؟ . قلنا : الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات ، والهوى سبب والرؤية مسبّبة ، وهي معنى حالّة (5) بالرائي والمرئيّ ولابدّو أن يكون الهواء متّصلاً بالرائي والمرئيّ ؛ لأنّهما محلّ العرض وقوامه بها ، فلا يجوز مفارقته إيّاهما ، فلزم من اتّصاله به اتّصاله بهما .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص93 ، ح5 .
2- . في الكافي المطبوع : «هلك» بدل «فقد كفر» .
3- . الكافي ، ج1 ، ص93 ، ح8 .
4- . الكافي ، ج1 ، ص97 ، ح4 .
5- . كذا ، والصحيح : «حالٌّ» .

ص: 564

في حديث عاصم بن حُمَيد (1)قوله : عليه السلام : (الشمس [جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي] ...) . لو حمل الرؤية في كلام الراوي على رؤية اللّه ، فلا يخلو من إشكال بحسب الظاهر ؛ لأنّه يظهر منه على هذا التقدير أنّ المانع من رؤيته عدم تمكّن البصر منها ؛ لأنّه كما لا يتمكّن من رؤية الشمس لكثرة نورها ومنع شعاعها تمكّنَ البصر منها ، مع أنّ نورها ضعيف جدّا بالنسبة إلى غيرها من المخلوقات المذكورة ، لا يتمكّن من النظر إلى الخالق ؛ لأنّ نوره أعظم من نور المخلوق ، ويلزم من هذا كون الخالق يشبه المخلوق في أنّ له نورا كنوره يمنع البصر من رؤيته ، وهو باطل إلاّ على تقدير مجاراة الخصم . فالتقدير أنّه لو سلّمنا ما يقولون أنّه كذلك ، لا يمكن رؤيته أيضا للعلّة المذكورة . ويحتمل أن يكون المراد بالرؤية رؤية نور الستر ، كما هو ظاهر الحديث ، وحينئذٍ فلا إشكال ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص98 ، ح7 .

ص: 565

في حديث عبداللّه بن سنان (1) (لا تُدْركُه الأبصارُ ...) . الإدراك : الوصول إلى الشيء ، فإذا كانت الأبصار بمعنى العيون هنا ، فُهم منه أنّ رؤيته ليست مُحالة في نفسها ، بل الأبصار عاجزة عنها ، وليس كذلك ؛ لأنّ الرؤية محالة في نفسها ، فتعيّن أنّ المراد بإدراك الأبصار «إحاطة الوهم» ، والإدراك بهذا المعنى ليس بممتنع في نفسه ، بل بالنسبة إلى أوهام المخلوقات . والحاصل أنّ كونه مبصَرا مُحال في نفسه ، وكونه مدركا ممتنع بالنسبة إلى أوهام المخلوقين ، لا مطلقا ؛ لأنّه لم يحصل لشيء .

في كلام هشام بن الحَكَم (2)وإنّما أتى به تفسيرا لقوله عليه السلام : «لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر» . (3) أو لأنّ كلام هشام مأخوذ من كلامه عليه السلام ، وإن لم ينسبه إليه . قوله : (كالناظر في المِرآةِ) . أي كالناظر في المرآة ليرى ماوراءها ، وإلاّ فالمرآة تُرى ، فوجه عدم رؤية ماوراءها _ كما قرّره _ أنّ ماوراء المرآة لاصق بالمرآة لا يتخلّل بينه وبينها هواء أصلاً ، وإلاّ لم تكن مرآة وارَتْ ماوراءها ، ومعنى كون الهواء سببا وكونه متّصلاً بين الرائي والمرئيّ أن يكون متّصلاً بالرائي والمرئيّ ، وأن لا يحول بينهما جسم كثيف ، وإلاّ فإن حال جسم لطيف غير متّصل اتّصالاً يمنع دخول الهواء بين ذلك الجسم وأحدهما ، فالرؤية ليست بممتنعة ، فإن منع امتنعت الرؤية كالغشاوة التي تغشي الناظر ، فإنّها لو لم تكن متّصلة به هذا الاتّصالَ ، لما منعت الإبصارَ . يؤيّد هذا قوله تعالى : « خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ عَلَى سَمْعِهِمْ وَ عَلَى أَبْصَ_ارِهِمْ غِشَ_اوَةٌ» (4) على قراءة من قرأ بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة، حيث قال: «ختم»، ولم يقل: «جعل» ؛ لأنّ الجعل قد لا يمنع من الرؤية ؛ لأنّه أعمّ، فالدليل على استحالة رؤيته عدم اتّصال الهواء به كما هو متّصل بالرائي ؛ لأنّه لو كان متّصلاً به لَزِمَ أن يكونَ كالمخلوق في كونه محدودا منتهيا ؛ فيلزم التشبيه ، كما دلّ عليه الحديث السابق ، وقوله في آخر هذا الكلام : (تَعالَى اللّه ُ أنْ يُشْبِهَهُ شيءٌ (5) ) ، فليتأمّل . والتمثيل بالناظر في المرآة للدلالة على أنّه لابدّ أن يكون الهواء متّصلاً بالرائي والمرئيّ .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص98 ، ح9 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص99 ، ح12 .
3- . الكافي ، ج1 ، ص97 ، ح4 .
4- . البقرة (2) : 7 .
5- . في الكافي المطبوع : «خَلْقُه» .

ص: 566

باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى

باب النهي عن الصفة [بغير ما وصف به نفسَه تعالى]في حديث عبدالرحيم (1) قوله عليه السلام : (فَتعالَى اللّه ُ [الذي ليس كمثله شيء] ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ : أنّ اللّه تبارك وتعالى وصف نفسه بكونه « لَيْسَ كَمِثْلِهِى شَىْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » (2) ، ومن كان كذلك فهو متعال «عمّا يصفُه الواصفونَ المشبّهونَ» . وتوضيحه : أنّ الآية صريحة في أنّه « ليس كمثله شيء » ، ووصْفه بالصورة يقتضي إثبات الشبيه له ؛ لأنّها من لوازم المخلوق . وما قالوه في تأويل هذه الآية بوجه يطابق مدّعاهم ، فهو افتراء على اللّه تعالى ؛ لأنّ مراده نفي ما نسبوه إليه ؛ فلهذا قال عليه السلام : «المفتَرونَ على اللّه ِ» . قوله عليه السلام : (فَانْفِ عن اللّه البُطلانَ والتَشْبيهَ) . أي لا تقل بقولهم إنّه صورة وجسم ، فتشبهَه ، ولا تسلم دليلهم أنّه لو لم يكن كذلك ، لزم أن لا يكون شيئا ، وأنّه لا واسطة بين التجسيم والعدم ، بل هو ثابتٌ ، موجودٌ ، متعال عمّا وصفوه به . قوله عليه السلام : (ولا تَعْدُوا القرآن فَتَضِلُّوا بَعْدَ البيانِ) . أي إن أردتم وصفه فهو كما وصفته لكم المأخوذ من نصّ القرآن ، فلا تعدوا ما في القرآن بعد بياني إيّاه لكم ، فتضلّوا . فقوله «بعد البيان» متعلّق ب «تعدوا» مقدّرة ؛ لعدم جواز تعلّق ما بعد الفاء بما قبلها ، أو يقدّر ل «تعدوا» متعلّقا (3) هذا مفسّر له . ولا يصحّ تعلّقه ب «تضلّوا» بدون تقدير متعلّق ل «تعدوا» لفساد المعنى ؛ لأنّه لا يلزم من تعدّي القرآن الضلال بعد البيان إلاّ على معنى أنّهم عليهم السلام بيّنوا كلّ ما يحتاج إليه فيه وعدم انتشاره من تقصير المكلّفين ، وهو بعيد ؛ أو تعلّق النهي بالتعدّي في هذا الحكم فقط ، ولا يلزم منه جوازه في غيره .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص100 ، ح1 .
2- . الشورى (42) : 11 .
3- . كذا ، والصحيح : «متعلّق» .

ص: 567

في حديث أبي حَمْزة (1) قوله عليه السلام : (عَظُمَ رَبُّنا عن الصِّفَةِ) . أي هو أعظم من أن يدركه وَهْمٌ فيَصِفَه ، فالذي لا يوصف مطلقا بغير ما وصف به نفسه لعدم إدراك الوهم إيّاه الدالّ عليه صريح القرآن . (كيفَ يُوصَفُ بالمحدوديّة) أي بأنّ له حدّ و غاية . فقوله عليه السلام : (ولا تُدْرِكُهُ الأبصارُ) عطفُ بيانٍ ، وتفسيرٌ لقوله «لا يُحَدُّ» ، وفيه استشهاد بالآية الشريفة ؛ وذلك لأنّ المراد بالأبصار الأوهام ، كما دلّ عليه الأحاديث السابقة ، والمحدود لابدّ أن يتوهّم حتّى يمكن حدّه ، ولمّا دلّت الآية الشريفة على عدم إدراك الوهم إيّاه ، علم أنّه لا يحدّ .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص100 ، ح2 .

ص: 568

في حديث أبي حمزة (1) قوله عليه السلام : (لَوِ اجْتَمَعَ أهلُ السماواتِ (2) والأرضِ أنْ يَصِفُوا اللّه َ بعَظَمَتِهِ لَمْ يَقْدِرُوا) . المعنى _ واللّه أعلم _ : أنّ صفات اللّه تعالى غير متناهية ، ولا تدركها ولا بعضَها أوهام أهل السماوات والأرض ، لكن لو أمكنهم إدراكها وأرادوا أن يصفوه بجميعها ، لَما أمكنهم ؛ لعدم تناهيها . أو أنّ المعنى أنّ وصفه تعالى غير مقدور بسبب عظمته ؛ لأنّه أعظم من أن يدركه وهم ، فكيف يوصف من لا يتوهّم ؟ ! وهذا الوجه وإن كان أقرب ؛ لسلامته من التجوّز ، لكن يدفعه كون الكناية أبلغَ من الصريح .

في حديث إبراهيم بن محمّد الهمداني (3) قوله عليه السلام : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ ...) . أي لو كان جسما أو صورة لَزِمَ أن يكون له مِثْل ، وقد دلّت الآية الشريفة على سلب المثل عنه ، وعلى أنّه سميع وبصير ، فلا يلزم من كونه سميعا وبصيرا أن يكون جسما أو صورة ، كما ذهبوا إليه ؛ لأنَّ الدالّ على كونه سميعا وبصيرا دالّ على نفي المِثل عنه ، فهو سميع بصير بلا حاسّة سمع وبصر .

في حديث سَهْل (4) قوله عليه السلام : (وهذا عَنكم مَعْزُولٌ) . أي علْم ما ينبغي أن يقف عليه ، ولا يتجاوز إلى غيره غير مكلّفين به ؛ لأنّ صفاته تعالى لا يُدركها غيره ، بل هو موصوف بهذه الصفات الثبوتيّة والسلبيّة التي وصف بها نفسه ، وهي (واحِدٌ أحَدٌ ...) . ويحتمل أن يكون معنى قوله عليه السلام : «وهذا عنكم معزول» القولَ بأنّه جسم أو صورة عنكم معزول ، ويكون قوله عليه السلام : «اللّه واحد أحد ...» دليلٌ (5) عليه ، وهو ظاهر ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص102 ، ح4 .
2- . كذا في بعض نسخ الكافي ، وفي الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «السماء» .
3- . الكافي ، ج1 ، ص102 ، ح5 .
4- . الكافي ، ج1 ، ص103 ، ح10 .
5- . كذا ، والصحيح : «دليلاً» .

ص: 569

باب النهي عن الجسم والصورة

في حديث الفُضَيْل بن يَسار (1) قوله عليه السلام : (إنَّ اللّه َ لا يُوصَفُ ...) . أي لا يمكن وصفه بوصف يليق بجلاله ، بحيث يعتقد أنّه ليس له وصْفٌ أعظم من ذلك ، بقرينة قوله عليه السلام : (فَلا يُوصَفُ بقَدَرٍ إلاّ كانَ أعْظَمَ من ذلك) ، لا مطلقا ؛ لجواز وصفه بما وصف به نفسه ، كما يدلّ عليه ظاهر الأحاديث السابقة . أو يكون معنى «إنّ اللّه لا يوصف» : لا يجوز أن يوصف بغير ما وصف به نفسه ، بقرينة الأحاديث السابقة .

باب النهي عن الجسم والصورةفي حديث عليّ بن أبيحمزة (2) قوله عليه السلام : (سبحانَ من لا يَعْلَمُ (3) كيْفَ هُوَ إلاّ هُوَ) . كيفيّة الشيء لا تعلم إلاّ بعد الإحاطة بجميع صفاته ، ولمّا كانت الصفات لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى ، امتنع العلم بالكيفيّة ، ولمّا كان ربما يتوهّم من هذا الكلام أنّه إذا كان كذلك فلا يمكن سلب شيء عنه ، ولا إثبات شيء له ، دَفَعَ عليه السلام هذا التوهّم ، فنفى عنه بعض الصفات ، وأثبت له بعضها ، فقال : (ليس كمِثْلِه شيءٌ ...) .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص103 ، ح11 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص104 ، ح1 .
3- . في الكافي المطبوع : + «أحد» .

ص: 570

في حديث محمّد بن يزيد (1) قوله عليه السلام : (فاطِرِ الأشياءَ إنْشاءً) . أي من غير مادّة قديمة اُنشئت الأشياء منها ، بل هي وموادّها خلقان من خلقه . قوله عليه السلام : (ومُبتَدِعِها ابتداءً (2) ) . أي من غير علّة وداعٍ أوجب ابتداعها ، فقوله : (بقُدْرَتِه) متعلّق ب «فاطر» ، أي من غير إعانة ؛ لأنّ المادّة أقوى ، وقد ثبت أنّها من خلقه ، فخلق الأشياء بقدرته لا غير . وقوله عليه السلام : (وحِكْمَتِه) متعلّق ب «مبتدع» ، أي إنّ مقتضي الابتداع هي الحكمة . وقوله عليه السلام : (لا مِنْ شَيْءٍ ... ، ولا لِعِلّةٍ ...) تأكيدٌ وتوضيحٌ لهما . وقوله عليه السلام : (لإظْهارِ حِكْمَتِهِ) . أي ليست غاية إيجاد هذه الأشياء راجعةً إليه ، بل لمّا كانت الحكمة تقتضي أن يوصل القادر على النفع النفعَ إلى مستحقّه ، وكان المستحقّ معدوما ، خلق الأشياء لظهور الحكمة وتحقّقها ، فلا يتوهّم أنّ إظهار الحكمة غاية راجعة إليه . قوله عليه السلام : (وحَقيقةِ رُبوبيَّتِهِ) . وذلك أنّ الربوبيّة على كلّ ما يمكن أن يكون مربوبا صفة قديمة هي عين ذاته ، لكن لمّا كانت الربوبيّة تقتضي مربوبا ، وكان اللّه ولا شيء ، كانت حقيقتها غير ظاهرة ، فأراد اللّه إظهارها ، فخلق الخلق لذلك ، وهذا الإظهار ترجع فائدته إلى العبد أيضا ؛ لأنّه يستحقّ الثواب الجزيل بمعرفته والإقرار به . ولمّا كان الإظهار لابدّ له من متعلّق ، كانَ ربّما يتوهّم أنّ بإظهار الحكمة وحقيقة الربوبيّة تُحْصِي حِكَمه وصفاتِه بعض العقول ، أو تبلغ كنهه بعض الأوهام . دفع هذا التوهّم بقوله : (لا تَضْبِطُهُ العقولُ ، ولا تَبلُغُه الأوهامُ ...) .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص105 ، ح3 . وفي الكافي المطبوع : «محمّد بن زيد» .
2- . كذا في بعض نسخ الكافي ، وفي الكافي المطبوع : «ابتداعا» .

ص: 571

باب صفات الذات

في حديث الحسن بن عبدالرحمن (1) قوله عليه السلام : (والكلامَ غيرُ المتكلّمِ) . يحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون المراد : وكلام الأجسام الذي أثبتّه للّه غير متكلّمها ، كما هو ظاهر بديهيّ ؛ لأنّه عبارة عن الصوت الخاصّ ، فكيف يقول : إنّه جسم وإنّ كلامه عين ذاته ، مع وضوح المغايرة بين هذين القولين . ويدلّ على كون المراد بالكلام في زعم هشام الكلامَ المخصوص بالأجسام . قولُه عليه السلام : (من غيرِ كلامٍ ، ولا تَرَدُّدٍ في نَفَسٍ ، ولا نُطْقٍ بِلِسانٍ) . ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام : «والكلام غير المتكلّم» ردّا لما زعمه من أنّ الكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحدا ؛ واللّه أعلم .

في حديث محمّد بن حكيم (2) (إنَّ اللّه َ لا يُشْبِهُهُ شيءٌ) . لا شبهة في أنّه لو كان كما يقولون ، لزم مشابهته للمخلوقات ؛ واللازم باطل ، فالملزوم مثله .

باب صفات الذاتفي حديث أبيبصير (3) قوله عليه السلام : (لَم يَزَلِ اللّه ُ عزّوجلَّ ربَّنا ...) . لمّا كان ربّما يقال : إنّ العلم يقتضي معلوما ، والسمعَ والبصرَ والقدرةَ أيضا كذلك ، فينبغي أن لا ينفكّ العلم عن المعلوم ، والسمع عن المسموع ، وكذا البصر والقدرة وبعض الصفات، وجميع ما عداه تعالى حادثٌ،فلو كانت صفاته قديمةً، للزم انفكاك اللازم عن الملزوم، وهو محال. قال عليه السلام : إنّ العلم صفة من الصفات هي عين الذات، وليست خارجة قديمة كانت قبل جميع المعلومات لا ملازمة بينها ، إنّما الملازمة بين العلم وتصوّر المعلوم ؛ لأنّه يصحّ تعلّق العلم بالمعدومات ، فلو كان بينهما ملازمة ، لما صحّ ذلك ، والتصوّر ليس من المعلومات ، وإلاّ لزم الدور أو التسلسل . فإن قيل : على هذا يلزم كون التصوّر قديما ؛ لأنّه لا ينفكّ عن العلم ، فقد اعترفتم بقدمه ، وتصوّر الشيء سابق على العلم به ؛ فيلزم حدوث العلم ؛ لسبقه بالتصوّر ، وعدم قدم التصوّر ؛ لأنّ دليلكم عليه عدم انفكاكه عن العلم ، فبقِدم العلم لزم قِدم التصوّر ، وقد لزم حدوث العلم ، فانتفى قدم التصوّر . قلنا : هما معا في الوجود ، لا سبق لأحدهما على الآخر ، وإلاّ لا يبقى اللزوم بينهما ، وهو ظاهر . ولا يخفى أنّ مرادنا بالتصوّر ما لا يتمّ العلم إلاّ به ، لا حصول صورة في الذهن ؛ لأنّه تعالى منزّه عنه . قوله : (فلمّا أحدَثَ الأشياءَ وكانَ المعلومُ [وقع العلم منه على المعلوم] ...) . أي لمّا خرجت المعلومات المتصوّرة _ التي يتعلّق العلم بها _ من العدم إلى الوجود ، وقع العلم منه على المعلوم ، أي كانت كما علم من غير زيادة ولا نقصان ، وفي الوقوع عليها إشارة إلى أنّ المعلومات المتصوّرة التي وقع العلم عليها كانت نفسَ هذه المعلومات من غير زيادة ولا نقصان ، فلو كان فيها زيادة أو نقصان ، لما كانت نفسَها بل غيرها ، فلزم أن يكون تصوّرها غير تصوّرها ، فلا يكون العلم واقعا عليها بل على معلوم ذلك التصوّر الآخر . والحاصل : أنّ اللّه _ سبحانه وتعالى _ كان عالما بجميع المخلوقات وسائر أحوالها قبل تكوينها وإيجادها ، ولا يلزم قدم العالَم ولا حدوث العالم من القول بأنّ العلم عين ذاته ؛ لما تقرّر . فيه (4) : (قال : قلت : فلم يَزَلِ اللّه ُ متكلِّما ؟) . (5) لمّا سأله عليه السلام السائلُ عن الكلام : أهي صفة قديمة ؟ أجاب بأنّ الكلام من لوازم المخلوق ؛ لأنّه عبارة عن الأصوات ، وهو مخلوق من خلقه محدث ؛ لأنّه لا ينفكّ عن المتكلّم وهو حادث ، فلزم كونه حادثا ، فكلام اللّه هو خلقه الأصوات في بعض الأجسام ، فخَلْق الأجسام مقدّم عليه .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص106 ، ح7 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص106 ، ح8 .
3- . الكافي ، ج1 ، ص107 ، ح1 .
4- . أي في حديث أبيبصير .
5- . لا يخرج الكلام عن القاعدة التي ذكرها المصنّف بعد هذا في الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل ؛ لأنّه يصحّ أن يقال له تعالى : متكلّم بهذا الكلام وغير متكلّم بهذا الكلام ، ولا يقال : عالم بهذا وغير عالم بهذا (منه) .

ص: 572

. .

ص: 573

باب آخر وهو من الباب الأوّل

في حديث أيّوب بن نوح (1) (لم يَزَلِ اللّه ُ عالِما بالأشياء قبلَ أن يَخلُقَ الأشياءَ كعِلْمه بالأشياء بعد ما خَلَقَ الأشياءَ) . أي كما أنّه لا شبهة في علمه بالأشياء بعد خَلْقها ، كذلك علمه بها قبل الخلق لا شُبهة فيه ، أي عِلْمنا بحقيقة ذلك كعِلْمنا بحقيقة هذا ، فالتشبيه في الحقيقة راجع إلى علمنا ، لا إلى علمه تعالى حتّى يلزم من كون المشبّه غير المشبّه به تعدُّدهما ، وبعد ثبوت تعدّدهما حدوثُ العلم بعد الخلق ؛ لدلالة البعديّة على تقدّم الخلق عليه ، فلا يكون كلّ علمه قديما .

بابٌ آخر [وهو من الباب الأوّل إلاّ أنّ فيه زيادة]في حديث محمّد بن مسلم (2) (قال : قلتُ : يَزْعُمونَ أنّه بَصيرٌ على ما يَعقِلونَه) . أي يقولون : إنّ رؤيته الأشياء كتعقّلهم إيّاها ، أي على هذا الوجه . فأجاب عليه السلام بأنّه إنّما يعقل الأشياء هذا التعقُّلَ ما كان بصفة المخلوق ، أي من كان له قوّة عاقلة حالّة فيه ، واللّه تعالى صفاته عين ذاته ، فهو ليس كذلك . ف «يعقل» مبنيّ للفاعل ، و«ما» فاعله ، وإنّما عدل عن «مَن» إلى «ما» لأنّ من كان يعقل هذا التعقّل المحتاج إلى آلة تتغيّر بالقوّة والضعف ، والحدوث والزوال كأنّه ممّن لا يعقل ، واللّه تعالى مُنزّهٌ عن ذلك . ويحتمل أن يكون معنى «بصير على ما يعقلونه» أنّه بصير على طريق ما يعقلونه ويصلحونه من معنى البصر ، فيكون معنى جواب الإمام أنّه لو كان كذلك ، لزم منه أن يكون بصره متعقّلاً ، ولا يعقل إلاّ ما كان بصفة المخلوق ، فيلزم التشبيه أو اتّصافه بصفة حادثة ، أي كون بصره حادثا ، واللّه تعالى منزّهٌ عن ذلك . وعلى هذا ف «يعقل» مبنيّ للمفعول ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص107 ، ح4 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص108 ، ح1 .

ص: 574

حديث هِشام بن الحَكَم (1)قد تقدّم هذا الحديث في باب : إطلاق القول بأنّه شيء ، وإنّما ذكر بعضه لمناسبته لأحاديث هذا الباب بتغيير ما في العبارة ، وهو أنّ هناك : «فأقول : إنّه سميع بكلّه ، لا أنّ الكلّ منه له بعض ، ولكنّي أردت ...» . (2) فقوله هنا : (لا أنّ كلَّه له بعضٌ ؛ لأنَّ الكلَّ لنا بعضٌ (3) ) . المراد _ واللّه أعلم _ سلب الكلّيّة والجزئيّة الثابتة لنا عنه مطلقا ، لا سلبها عنه بهذا الدليل الخاصّ ، وهو كون الكلّ لنا بعضا ؛ لأنّ اللازم من ذلك التشبيهُ ؛ وهو باطل . ومعنى «كون الكلّ لنا بعضا» هو أنّها أبعاضا خالفه (4) ، وإنّما أفرده باعتبار الجنس ؛ واللّه أعلم . وقوله عليه السلام : (وَ لا اختلافِ المعنى (5) ) . الظاهر كون المراد بأنّه سميع وبصير وخبير أنّه عالم بالمسموعات والمبصرات والمخبرات ليرجع الجميع إلى معنى العلم ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 108 ، ح 2 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص83 ، باب إطلاق القول بأنّه شيء ، ح6 .
3- . كذا في كثير من نسخ الكافي ، وفي بعض النسخ : «لأنّ الكلّ لنا له بعضٌ» وهذا هو الصحيح ؛ لأنّ الكلّ ليس بعضا ، كما هو ظاهر العبارة .
4- . والصحيح أن يقال : «هو أنّ له _ أي للكلّ _ أبعاضا خالفته» .
5- . في الكافي المطبوع : «معنىً» .

ص: 575

باب الإرادة أنّها من صفات الفعل

باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعلفي حديث عاصم بن حُمَيد (1) قوله عليه السلام : (إنَّ المُريدَ لا يكونُ إلاّ لمُرادٍ معه) . لمّا سأل عن الإرادة هل هي قديمة حتّى تكون من صفات الذات ؟ أجاب عليه السلام بأنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه ، فالإرادة والمراد متلازمان ، والمراد حادث ؛ لأنّ اللّه كان ولا شيء حتّى يكون مرادا ، إنّما الإرادة نفس الفعل ، كما يدلّ عليه الحديث الآتي ؛ فهي فرع القدرة . وقد نَبَّهَ عليه السلام على ذلك بقوله : (لم يزل (2) عالِما قادِرا ، ثمّ أرادَ) ، أي هو لم يزل عالما ولم يزل قادرا ثمّ أراد ، أي العلم والقدرة قديمان ، والإرادة حادثة ؛ لدلالة «ثمّ» على التراخي اللازمِ منه الحدوثُ .

في حديث بُكير بن أعْيَن (3)قول السائل : ( [عِلْمُ اللّه ِ ومَشيئتُه هما] مختلفانِ أو متّفِقانِ) . أي المشيئة قديمة فتكون عينَ الذات أو حادثة ؛ لأنّ اتّفاق العلم والمشيئة لازم للقدم ، فهما مختلفان ؛ لئلاّ يلزم تعدّد القدماء ، والاختلاف يدلّ على كون المشيئة حادثة ؛ لثبوت قدم العلم . قوله عليه السلام : (فقَولُك : «إنْ شاءَ اللّه ُ» دليلٌ على أنّه لم يَشَأْ) . أي صحّة هذا القول يدلّ على أنّه لم يشأ الآنَ ؛ لأنّ مُفاد الشرط عدم تحقّقه وقتَ التكلّم ، فتكون المشيئة حادثةً بعده ، فعلم أنّها غير العلم ؛ لقدمه ، فليست عينَ الذات ، بل معلولة القدرة ، فعلم موافقة الجواب السؤالَ . وقوله عليه السلام : (وعِلْمُ اللّه ِ السابِقُ للمشيئة) . أي العلم القديم السابق عليها ثابتٌ لها ، أي كان اللّه تعالى عالما بأنّه يشاء فيفعل ، ولا يلزم من كونها لها (4) أن لا يكون (5) لغيرها . ويمكن أن يكون مختصّا لها ؛ وذلك لأنّ العلم متعلّق بالمعلومات ، والمعلومات كلّها حادثة بإرادته ومشيئته ؛ فهي متسبّبة عن المشيئة لا تنفكّ عنها ، فيكون العلم للمشيّة ومخصوصا بها ؛ لأنّه إذا شاء فعل .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص109 ، ح1 .
2- . في الكافي المطبوع : + «اللّه » .
3- . الكافي ، ج1 ، ص109 ، ح2 .
4- . كذا ، والظاهر بقرينة ما مرّو يأتي : «كونه لها» أي كون العلم للمشيئة .
5- . أي لا يكون العلم لغير المشيئة .

ص: 576

في حديث صفوان [بن] يحيى (1) قوله عليه السلام : (بلا لَفْظٍ ...) . أي : قوله بلا لفظ (2) ، ولا نُطقٍ بلسانٍ ، وليس كقولنا في أنّه لا بدّ له من هذه اللوازم . و قوله عليه السلام : (لا كيْفَ لذلك ، كما أنَّه لا كيْفَ له) يدلّ على أنّ القول قديم ، وهو صفة عين الذات ، فكما أنّه ليس له كيفٌ من هذه الكيفيّات الحادثة ، ليس لقوله أيضا كيفٌ . فإن قيل : هذا يدلّ على أنّه إذا كان القول ، كان الكائن ، فيلزم كون الكائنات بعد وجود القول بلا فاصلة ، فيكون معه ، فيلزم قدمها أو حدوثه . قلنا : المفهوم من هذا إذا كان «كن» كان الكائن و«كن» مقول ، لا إذا كان القول كان الكائن ، فعلى هذا يكون الحادث «كن» ؛ لأنّه نفس الكائن ، كما أنّ الإرادة نفس المراد لا القولَ .

في حديث عُمَر بن أُذَنية (3) قوله عليه السلام : (خَلَقَ (4) المشيئةَ بنَفْسِها) . أي من غير أن يخلق لها سببا ؛ وذلك لأنّ جميع الأشياء حادثة ، والحادث علّته مشيئته ، فلو كان للمشيئة علّة سواه تعالى كانت مشيئةً أُخرى غيرَها ، وهلمّ جرّا ، فيلزم الدور أو التسلسل . وقوله عليه السلام : (وخَلَقَ (5) الأشياءَ بالمشيئةِ) . أي جعل المشيئة علّة وسببا لخلقها . في الكلام المصنّف قدّس اللّه روحه : ([إنّ] كلَّ شيئينِ وَصَفْتَ اللّه َ بهما) . (6) أي كلّ شيئين متضادّين كالإرادة وعدمها وأمثاله ممّا مثّل به . وقوله : (وكانا جَميعا في الوجودِ[ ، فذلك صفةُ فِعْلٍ] ) . أي كان اللّه تعالى موصوفا بهما معا ، أي وصْفه بهما جايز ، وليعلم أنّه لا بدّ في الجواز من اختلاف مكانهما ، أي متعلّقهما وزمانهما كأن يريد هذا ولا يريد ذاك ، أو في هذا الوقت لا في غيره .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص109 _ 110 ، ح3 .
2- . والمراد أنّ «بلا لفظ» خبر لمبتدأ مقدّر ، وهو كلمة «قوله» .
3- . الكافي ، ج1 ، ص110 ، ح4 .
4- . في الكافي المطبوع : + «اللّه » .
5- . في الكافي المطبوع : «ثمّ خلق» بدل «وخلق» .
6- . الكافي ، ج1 ، ص111 ، جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل .

ص: 577

باب حدوث الأسماء

باب حدوث الأسماءفي حديث إبراهيم بن عُمَر (1) قوله عليه السلام : (بالحروفِ غيرَ مُتَصَوَّتٍ ...) . صفةٌ للجنس (2) الذي هو الاسم المفهوم من الأسماء ، وإنّما لم يطابق الأسماء ليكون صفة لها للدلالة على أنّ كلّ واحد منها موصوف بهذه ، لا أنّ المجموع من حيث المجموع موصوف بها ؛ لأنّه يوهم اختصاص كلّ بعض منها ببعض . أو خبر (3) مبتدأ محذوف هو ضمير عائد إلى الاسم لا إلى الأسماء ؛ يلزم مخالفة الخبر للمبتدأ . ولا يجوز _ واللّه أعلم _ كون «اسما» مفردا ؛ لأنّه لو كان مفردا ، لزم أن يكون الأسماء خمسةً : المجموعَ من حيث المجموع ، والأجزاءَ الأربعة ، وعلى هذا يكون المحجوب اسمين : الاسمَ الذي هو أحد الأجزاء ، والاسمَ الذي هو مجموعها . وقد صرّح عليه السلام بأنّ الظاهر ثلاثة والمحجوب واحد ، فيكون المجموع أربعةً ، فيكون جمعا لا مفردا ؛ فليتأمّل . وقوله عليه السلام : (فجَعَلَهُ كلمةً تامّةً) أي جعل كلّ اسم من الأسماء كلمة تامّة لا احتياج لها إلى الآخر . وقوله عليه السلام : (على أربعةِ أجزاءٍ) صفة للأسماء ، أي خلق أسماءً موصوفة بكونها _ أي المجموعِ من حيث المجموع _ على أربعة أجزاء معا ، ليس منها واحد قبل الآخر في الخلق ، بل خلقها مرّة واحدة ؛ وذلك لأنّ أفعاله لا تنفكّ عن الحكمة المقتضيّة لها ، وقبل خَلْق الخلق لم تكن حاجة إلى الأسماء ، وبعد الخلق وحصول الداعي احتيج إلى الجميع ، فوجب إيجاد الجميع مرّة واحدة لئلاّ يتخلّف موجَب الحكمة عنها . ولا ينافيه قوله عليه السلام في الحديث الآتي «فأوّل ما اختار لنفسه العليّ العظيم» ؛ لأنّه من أسماء أركان الأجزاء . قوله عليه السلام : (فأظْهَرَ منها ثلاثةَ أسماءٍ ...) . أي أظهر لجميع الخلق ، لا أنّ الإظهار مطلقا مختصّ بهما ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام : (فَهذِهِ الأسماءُ التي ظَهَرَتْ) . أي هذه الأسماء الثلاثة جميع الأسماء بدلالة «ال» عليه التي ظهرت بعد أن لم تكن ، وهي ثلاثمائة وستّون اسما ، ف «الأسماء» خبر «هذه» وقوله عليه السلام : «التي ظهرت» صفة الأسماء . والحاصل : أنّه لمّا أخبر عليه السلام أنّ الأسماء على أربعة أجزاء ، وأنّ الظاهر منها هو ثلاثة ، أخبر عليه السلام بأنّ هذه الثلاثة هي جميع الأسماء التي ظهرت ، ثمّ لمّا كان هذا بحسب الظاهر لا يخلو من إشكال _ وهي (4) كون جميع الأسماء الظاهرة المتداولة وهي ثلاثمائة وستّون اسما هي نفس هذه الثلاثة لا تخرج عنها ولا تتجاوزها _ بيّنه عليه السلام بقوله : (وسَخَّرَ (5) لكلّ اسمٍ من هذه ...) . قوله عليه السلام : (فَالظاهِرُ هو اللّه ُ تَعالى (6) ) . يحتمل أن يكون المعنى : أنّ ظهور الاسم لابدّ وأن يدلّ على ظهور شيء ، فذلك الظاهر هو اللّه تعالى ؛ أو يكون المعنى : أنّك إذا علمت أنّ الأسماء خَلْق من خلقه ، وتقرّر عندك أنّها مخلوقة وأنّ ظهورها حادث ، فالظاهر القديم الخالق لها الذي لا يوصف بالحدوث هو اللّه تعالى ، أي الذات القديمة المستوجبة لجميع صفات الكمال . قوله عليه السلام : (فَهِيَ نِسبَةٌ لهذه الأسماء الثلاثةِ) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ هذه الأسماء الثلاثمائة والستّين تُعلم وتَظهر تلك الأسماء الثلاثة لنا بها ، وذلك لأنّ الشيء ، إنّما يعلم بالمشاهد أو سماع الصوت أو اللمس إلى غير ذلك من إدراكات الحواسّ ، أو بالعلم بالأشياء المنسوبة إليه ، ولمّا كانت الحواسّ كلّها عاجزة عن الوصول إليها _ لما ذكره عليه السلام في أوّل الحديث _ أظهرَ اللّه تبارك وتعالى لنا نسبتها لنتوصّل بها إليها ؛ واللّه أعلم . فإن قيل : يمكن أن يكون قوله عليه السلام : «بالحروفِ غير متصوَّتٍ ...» حالاً من فاعل «خلق» فتكون ظاهرةً هي وأسماء أركانها معا . قلنا : فحينئذٍ يكون الأسماء الظاهرة ثلاثمائة وثلاثا وستّين ، وكلامه عليه السلام صريح في أنّها ثلاثمائة وستّون . قوله عليه السلام : (وهذه الأسماءُ الثلاثةُ أركانٌ ، وحَجَبَ [الاسم الواحد المكنون المخزون] ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه كما أنّ هذه الأسماء الثلاثة لها أركان يعتمد الوصول إليها عليها ، كذلك هي بنفسها أركان وحجب للاسم الواحد المكنون المخزون . أمّا كونها أركانا ، فلأنّه لا يمكن الوصول إليه إلاّ بها ؛ وأمّا كونها حجبا ، فلأنّه لمّا كانت لا تدرك بالحواسّ ؛ لما بيّنه عليه السلام فكذلك ما هي ركن له لا يمكن إدراكه ؛ لتوقّف إدراكه على إدراكها وهو ممتنع ، فكونها ركنا له حاجب عن الظهور . وقوله عليه السلام : (بهذه الأسماءِ الثلاثةِ) . الباء في «بهذه» للسببيّة ، وهي متعلّقة بالمكنون المخزون ، أي هي سبب لجعله مكنونا ومخزونا ؛ وذلك لأنّ ظهور هذه الأسماء سببها التوصّل إليه تعالى في الدعاء بها ، فالمطلوب التوصّل ، وهو يحصل بأيّ اسم كان ، فأغنى ظهورها عن إظهار الإسم المكنون المخزون . فإن قيل : التوصّل كان يحصل بواحد منها فلو كان المطلوب التوصّل فقط ، لأغنى إظهار واحد منها عن إظهار الجميع ، فلِمَ أظهر ثلاثة ؟! قلنا : أمّا الأربعة فمشتركة في أنّ ما يحتاج إليه الخلق جميعهم يحصل بأيّ واحد كان منها ؛ وأمّا الواحد المخزون المكنون فليس يحتاج إليه الجميع ، فأغنى إظهار الثلاثة عن إظهاره ؛ وأمّا إظهار بعض الثلاثة فترجيح من غير مرجّح ؛ لأنّها متساوية في عموم الفائدة . وقد فسّر عليه السلام معنى هذه العبارة بقوله : (وذلك قولُه تعالى : « قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَ_نَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَآءُ الْحُسْنَى » (7) ) أي الأسماء الحسنى كلّها من أسمائه تعالى ، ولا تفاوت بين أسمائه ؛ لأنّها كلّها للوصول إليه ودعائه بها ، فادعوه بأيّ اسم شئتم منها : باللّه ، أو بالرحمان ، أو بغيرهما ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص112 ، ح1 .
2- . والمراد توجيه عدم المطابقة بين الصفة والموصوف ، فإنّ لحاظها يقتضي أن يقول : «بالحروف غير متصوّتة» .
3- . أي قوله : «غير متصوّت» خبر لمبتدأ محذوف .
4- . كذا ، والصحيح : «وهو» .
5- . في الكافي المطبوع : + «سبحانه» .
6- . في الكافي المطبوع : «تبارك وتعالى» .
7- . الإسراء (17) : 110 .

ص: 578

. .

ص: 579

. .

ص: 580

. .

ص: 581

في حديث ابن سنان (1) قوله عليه السلام : (ما كانَ مُحتاجا إلى ذلك ...) . لمّا سأله السائل عن أنّه هل كان يرى نفسه ويسمعها ، أجابه عليه السلام بما حاصله بأنّه لو صحّ ذلك لزم احتياجه ، واللّه تعالى ما كان محتاجا ؛ وذلك لأنّه يلزم من ذلك أن يكون غيرها حتّى يسألها ، فتجيبه ليسمع كلامها أو يراها ويخاطبها ويطلب منها ، وهو باطل ، وإلاّ لزم التعدّد ، فلزم الاحتياج ، واللّه تعالى قدرته نافذة دائما . والحاصل أنّه لمّا كان الإنسان محتاجا إلى رؤية نفسه ليدفع عن نفسه الضرر ، وكذا سماع صوت نفسه ليعلم ما يقول ، دلّ ذلك على عَجْزه واحتياجه ، واللّه سبحانه وتعالى قادر غير محتاج إلى شيء من ذلك ، فرؤية نفسه ليست واجبة ، لكنّه يجب أن يرى الغير ويسمع كلامه ؛ لأنّها فرع القدرة ، فلو وجب رؤية نفسه وسماع كلامها ، لزم أن تكون غيره ؛ لعدم وجوب سماع نفسه ورؤيتها ؛ لتأدّيه إلى الإحتياج ، ولو كانت غيره لزم منه الإحتياج أيضا ؛ للزوم التعدّد المؤدّي إلى الإحتياج والافتقار ، فدلّ هذا على عدم وجوب سماع نفسه ورؤيتها ، فقد كان اللّه سميعا بصيرا ولا مسموع ولا مبصر ، وإلاّ لكانا نفسه فيلزم احتياجه ، أو غيره فيلزم التعدّد المؤدّي إلى الاحتياج ؛ وهما باطلان ؛ فدلَّ بطلان اللازم على بطلان الملزوم . قوله عليه السلام : (فليس يَحتاجُ أن يُسَمِّيَ نَفْسَه ...) . أي لمّا علم أنّه هو نفسه وعدمُ (2) التعدّد اللازِم من وجوده عدم القدرة الثابت اتّصافه بها ، فهو تعالى ليس محتاجا إلى تسمية نفسه ؛ لأنّ فائدة الاسم الدعاء به ، ومع عدم الداعي لا حاجة إلى الاسم . فإن قيل : بعد خَلْقه الخلق احتاج إلى ذلك . قلنا : المحتاج الخلق ، لا هو تعالى ، وإلاّ لزم تغيّر الذات ؛ لأنّه لم يكن محتاجا ، ومعنى احتياجه تعالى إلى شيء وجوب اتّصافه به وكونه عين ذاته ، ولرفع هذا السؤال قال عليه السلام : (ولكن (3) اختارَ لنَفْسِه أسماءً لغيره يَدْعُوهُ بها) . فاللام في «لنفسه» للاختصاص ، أي هذه الأسماء اختارها ، وخصّ بها نفسه ، وفي «لغيره» للعلّيّة ، أي العلّة الغائيّة من هذا الاختيار راجع (4) إلى الغير . وقوله : «يدعوه بها» بيان للعلّة ، أي علّة الاختيار الدعاء بها . وقوله : (إذا لَمْ يُدْعَ بِاسْمِهِ [لم يعرف] ...) بيانٌ لهذا الاختيار المعلوم ، أي اختياره هذه الأسماء المخصوصة للدعاء ؛ لأنّ مع عدمها لا يمكن الدعاء . بيان ذلك ؛ أنّه لمّا كانت الناس محتاجة إلى دعائه لجلب النفع ودفع الضرر وتحصيل الثواب ، احتاجوا إلى اسم يدعوه به ؛ لأنّ سبب الدعاء بغير الاسم عدم المعرفة ، واللّه تبارك وتعالى أرادَ لخَلْقه معرفته ، فخَلَقَ الأسماء لمعرفته ؛ لإظهار عبوديّته ودعائه عند الاحتياج . قوله عليه السلام : (لأنّه أعلى الأشياءِ كلِّها) . هذا علّة لاختيار هذين الاسمين ، لا للأوّليّة ؛ واللّه أعلم . ويحتمل أن يكون علّة الأوّليّة أنّ هذه الأسماء إنّما خلَقها للاحتياج إليها ، وأوّل شيء يحتاج المخلوق إليه تعظيمه تبارك وتعالى ؛ لإخراجه من العدم إلى الوجود ، وهذا الاسم أبلغ في المراد ، فلهذا كان أوّل مختار ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام : (فمعناه : اللّه ُ ، واسمُه : العليُّ العظيمُ) . يحتمل أن يكون المراد أنّ «اللّه » من الأركان ، و«العليّ العظيم» من أسماء الأركان ، ويكون الضمير في «واسمه» عائدا إلى «اللّه » ، أي اسم هذا الركن «العليّ العظيم» . ولمّا كان هذا الكلام يوهم أنّ اسم هذا الركن منحصر في «العليّ العظيم» . قال عليه السلام : (هو أوّلُ أسمائه) .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص113 ، ح2 .
2- . عطف على «أنّه» أي لمّا علم عدم التعدّد .
3- . في الكافي المطبوع : «ولكنّه» .
4- . كذا ، والصحيح : «راجعة» .

ص: 582

. .

ص: 583

في حديث محمّد بن سنان (1) (قال : سألْتُه عن الاسمِ ما هو ؟ قالَ : «صفةٌ لمَوْصُوفٍ» ) . الظاهر من هذا أنّ جميع أسمائه تعالى مشتقّة .

في حديث عبدالأعلى (2) قوله عليه السلام : (اسمُ اللّه ِ غَيْرُهُ ...) . أخبر عليه السلام أنّ الاسم غير المسمّى ، ثمّ أورد الدليل عليه بأنّ (كلُّ شيءٍ وَقَعَ عليه اسمُ شيءٍ) ، أي اسم صفة من الصفات ؛ لأنّ هذه الألفاظ أسماء للمعاني (فهو مخلوقٌ) إلاّ اللّه تعالى ، فإنّ أسماء الصفات تقع عليه ، وهو خالق كلّ شيء . ثمّ قال عليه السلام : (فأمّا ما عَبَّرَتْه الألْسُنُ و (3) عَمِلَتْهُ (4) الأيدي فهو مَخْلوقٌ) . أي الأسماء تقع على الخالق والمخلوق ، وأمّا هي _ أي أسماء الصفات _ فمخلوقة ؛ لأنّها إمّا عبارة الألسن أو كناية اليد ، وهما مخلوقان (5) ؛ فظهر من هذا أنّها غيره تعالى وخَلْق من خلقه . ثمّ استدلَّ عليه السلام على هذا بقوله : (واللّه ُ غايةُ مَن غاياهُ) (6) ، أي إنّ اللّه موجود قبل جميع الموجودات ؛ لأنّه لولا ذلك لزم تعدّد القدماء ، وهو باطل ، وإذا كان كذلك فهي خَلْق من خلقه . ثمّ لمّا أوهم ذلك كون الغاية قديمة ؛ لأنّ غايته قبل غاية غيره ، قال عليه السلام : (والمعنى (7) غير الغاية) ، أي إنّ المراد بالغاية معناها ، فالقديم هو المعنى لا الغاية . ثمّ استدلّ عليه السلام على حدوث الغاية بقوله : (والغايَةُ موصوفَةٌ ...) ، أي إنّ الغاية توصف وتحدّ ، وكلّ موصوف مصنوع ، فينبغي أن تكون حادثة ؛ لأنّها لو كانت قديمة كانت صانعة ، والصانع ينبغي أن تجتمع فيه هذه الصفات ، وهو كونُه (غيرُ موصوفٍ بِحَدٍّ مُسَمّىً) ، أي بحدّ من هذه الحدود التي نعرفها ونسمّيها ، لئلاّ يلزم التشبيه ؛ وكونُه (8) (لم يَتَكَوَّنْ فتُعْرَفَ (9) كَيْنونِيَّتُهُ) ، أي لم يتكوّن بكينونة معروفة ، وهي كينونة المخلوقات . واستدلّ عليه السلام على هذا بقوله : (لصُنْعِ (10) غَيرِهِ) ، أي لأنّ كلّ شيء غيرِه مصنوع ، والكينونة المعروفة لنا مصنوعة ؛ لأنّها غيره ، وقد كان قبلها ، فهو خالقها ومستغنٍ عنها ، فاللام في «لصنع» للتعليل ؛ وكونُه (11) أيضا (لم يَتَناهَ إلى غايةٍ إلاّ كانَتْ غيرَه) ، أي ومن صفات الصانع أنّ كلّ غاية يصل إليها وتتّفق معه في الوجود هي غيره ؛ لأنّ وجودها حادث ووجوده قديم ، وهما متغايران ؛ فالغاية ليست صانعة ؛ لأنّ هذه الصفات غير مجتمعة فيها ، فتكون حادثة . قوله عليه السلام : (لا يَزِلُّ مَن فَهِمَ هذا الحُكْمَ أبَدا) . «يزلّ» مبنيّ للمفعول ، أي لا يتمكّن أحد أن يجيء بدليل رادّ لدليله . قوله عليه السلام : (وهو التوحيدُ الخالِصُ) . أي الإقرار بهذا الحكم وتعقّله هو التوحيد الخالص . قوله عليه السلام : (فَادْعوهُ (12) وصَدِّقُوهُ وتَفَهَّموهُ بإذنِ اللّه ِ) . أي بما أذن اللّه لكم فيه ، وأخبر به الصادق عليه السلام من الأسماء والصفات ولا تتجاوزوها إلى غيرها . ثمّ لمّا كان بعض الناس قائلين بأشياءَ يزعمون أنّهم مأذونون في ذلك ، صرّح عليه السلام الردَّ عليهم ، فقال : (مَن زَعَمَ أنَّه يَعْرِفُ اللّه َ بحجابٍ أو بصورةٍ أو بمثال ، فهو مُشرِكٌ) . وأتى بالدليل على ذلك ، فقال : (لأنَّ حِجابَه ومِثالَه وصورتَه غيرُه ...) أي إنّ هذه الأشياء _ التي زعموا أنّها ثابتة له _ أُمور متغايره ، وهو تعالى واحد موحّد ، فكيف يوحّده من زعم أنّه عرفه بغيره ؟! وقوله : (إنّما عَرَفَ اللّه َ مَنْ عَرَفَه باللّه ِ) . أي بالأشياء التي هي عين ذاته وغير مغايرة له ، فمن لم يعرفه بهذه الأشياء وعرفه بغيرها من الجسم والصورة والمثال فليس يعرفه ؛ لأنّه عرف الصورة والمثال ، وهي غيره . وقوله : (ليس بين الخالِق والمخلوقِ شيءٌ) . أي ليس شيء يكون مشتركا بين الخالق والمخلوق ؛ لأنّ اللّه خالق الأشياء لا من شيء كان ، فلو كان شيء مشتركا بينهما ، لزم كون ذلك الشيء قديما ؛ وبطلانه ظاهر ؛ واللّه أعلم بمقاصد أوليائه عليهم السلام .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص113 ، ح3 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص113 ، ح4 .
3- . في الكافي المطبوع : «أو» .
4- . هكذا في التعليقة للداماد و شرح صدر المتألّهين والمازندراني . وفي التوحيد للصدوق ، ص192 ، باب أسماء اللّه تعالى ، ح6 : «ما عملته» .وفي نسخ الكافي : «عملت» .
5- . كذا ، والصحيح : «مخلوقتان» سواء كان مرجع ضمير «هما» : «عبارة» و «كناية» أو «الألسن» و «اليد» .
6- . كذا في بعض نسخ الكافي و التعليقة للداماد و شرح المازندراني و مرآة العقول و التوحيد للصدوق . وفي الكافي المطبوع وبعض النسخ اُخرى للكافي : «غاية مِن غاياته» . وقال العلاّمة المجلسي : صحّفت «غاياه» ب «غاياته» وكذا في بعض النسخ أيضا ، أي علامة من علاماته . مرآة العقول ، ج2 ، ص32 .
7- . كذا في بعض النسخ الكافي وشرح صدر المتألّهين وشرح المازندراني ، واستظهره الفيض الكاشاني في الوافي ، ج1 ، ص496 . وفي الكافي المطبوع وبعض نسخ أُخرى للكافي : «والمُغَيّى» . وأورد في مرآة العقول ، ثلاثة احتمالات : بالغين المعجمة ، اسم الفاعل والمفعول من التفعيل ، والمعنى المصطلح . وقال : «في بعض النسخ : والمعنى ، بالعين المهملة والنون ، أي المقصود» . مرآة العقول ، ج2 ، ص33 .
8- . عطف على خبر «هو» .
9- . هكذا في بعض نسخ الكافي والوافي والتوحيد للصدوق . وفي الكافي المطبوع وبعض نسخ اُخرى للكافي : «فيعرف» .
10- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «بصُنع» .
11- . «كونُه» عطف على خبر «هو» .
12- . كذا في بعض نسخ الكافي وشرح صدر المتألّهين . وفي الكافي المطبوع وبعض نسخ أُخرى للكافي : «فارْعَوْهُ» من الرعاية بمعنى الحفظ أو الوفاء ، أو فارعوه من الإرعاء بمعنى الإصغاء ، تقول : أرعيته سمعي ، أي أصغيت إليه .وفي التوحيد للصدوق : «فاعتقدوه» . انظر : التوحيد ، ص142 ، باب صفات الذات و صفات الفعل ، ح7 ؛ التعليقة للداماد ، ص261 ؛ شرح المازندراني ، ج3 ، ص390 ؛ الصحاح ، ج6 ، ص2359 (رعى) .

ص: 584

. .

ص: 585

. .

ص: 586

باب معاني الأسماء واشتقاقاتها

باب معاني الأسماء واشتقاقاتها (1)في حديث هشام بن الحكم (2) قوله عليه السلام : (وإلهٌ يَقْتَضي مَألوها) . أي مسمّى «إله» يقتضي مألوها ، لا لفظه ؛ وذلك لأنّه لو كان المقتضي هو اللفظ وحده ، لكان هو المعبودَ ، واعتقاده كُفْرٌ ، أو مع المسمّى لكانا معا ، وهو شِرْكٌ . وإليه أشار عليه السلام بقوله : (فَمَنْ عَبَدَ الاسمَ دونَ المعنى فقد كَفَرَ ولم يَعْبُدْ شيئا) ، أي في الحقيقة لم يكن عابدا لشيء ؛ (ومَنْ عَبَدَ الاسمَ والمعنى فقد أشْرَكَ وعَبَدَ اثْنَيْنِ) . فقوله : «وعبد اثنين» عطفُ تفسيرٍ ل «أشرك» . (ومَنْ عَبَدَ المعنى دونَ الاسمِ) أي اعتقد أنّ الاسم مخلوق من مخلوقاته ، (فذلك (3) التوحيدُ) . قوله عليه السلام : ([للّه ] تسعةٌ وتسعونَ اسما ...) . الحاصل : أنّ المعبود هو اللّه وحده ، ولا مدخليّة للاسم ، وإلاّ لزم تعدّد الآلهة ؛ لأنّ الأسماء كثيرة . قوله عليه السلام : (لكانَ لكلِّ اسمٍ إلهٌ) . (4) أي لوكان الاسم عين المسمّى ، لزم أن يكون لكلّ اسم إله ، أي مسمّى هو إله ؛ لأنّه لا معنى لكون الحروف معبودة ، ولأنّ مفهوم الاسم يقتضي مسمّى ، فالإله هو المسمّى ، والاسم ثابت له ، وكون الأسماء كلّ منها غير الآخر ظاهر ، فلزم أن يكون مسمّاها غيره ، لئلاّ يلزم كون نفس الشيء غير الشيء ، فلزم من كون الاسم عين المسمّى تعدّد الآلهة ، ولا إله إلاّ اللّه . إذا تحقّق هذا فاللّه معنى غير الأسماء يُدَلُّ عليه بها ، وإليه أشار عليه السلام بقوله : (ولكنَّ اللّه َ معنىً ...) . وهذا الحديث تقدّم في باب المعبود (5) ، وفيه «لكان كلّ اسم منها إلها» ، ومآلهما واحد ؛ لأنّ معنى قولنا «كان لكلّ اسم إله» : كان لكلّ اسم مسمّى ، وإذا كان الاسم عين المسمّى كان هو نفس الإله ، فلا فرق بين العبارتين . ثمّ أوضح عليه السلام كون الاسم غير المسمّى ، فقال : (يا هشامُ ، الخُبْزُ اسمٌ للمأكولِ ...) أي كما أنّ الخبز اسم للمأكول وليس هو المأكولَ وكذا ما أشبهه ، فكذلك أسماء اللّه أسماء للخالق المعبود ، وليست هي الخالقَ المعبود .

.


1- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «اشتقاقها» .
2- . الكافي ، ج1 ، ص114 ، ح2 .
3- . في الكافي المطبوع : «فذاك» .
4- . في الكافي المطبوع : «لكان كلّ اسم منها إلها» .
5- . الكافي ، ج1 ، ص87 ، باب المعبود ، ح2 .

ص: 587

في حديث [ابن] أبي يعفور (1) قوله عليه السلام : (فليس (2) شيءٌ إلاّ يبيدُ (3) أو يتغيّر ...) . أي كلّ شيء لابدّ أن يطرأ عليه شيء من هذه الأشياء ، وهي الزوال ، أو تغيّر جوهره ، أو الزوال والتغيّر معا ، أو تغيّر عوارضه كاللون والهيئة التركيبيّة والصفات ، أو تغيّر كمّيّته كالزيادة والنقصان ، إلاّ ربّ العالمين ، فإنّه بحالة واحدة ، (هو الأوَّلُ قبلَ كلِّ شيءٍ ، وهو الآخِرُ على ما لم يَزَلْ) ، أي على الحال الذي لم يطرأ عليه الزوال ، وهو الحال الذي كان عليه أوّلاً ، ولا تختلف عليه الصفات بتغيّر عوارضه ، ولا الأسماء بتغيّر جوهره كما تختلف على غيره من المخلوقات حتّى يكون أوّله غير آخِره كالإنسان ، فإنّه كان في الأوّل ترابا ثمّ صار لحما ودما ، والأوّل الذي هوالتراب غير الآخِر الذي هو اللحم والدم ، ثمّ يصير رفاتا ورميما ، والأوّل الذي هو اللحم والدم غير الرفات والرميم ، وكذا غيره ، فإنّ البَلَحُ (4) غير البسر ، والبسرَ غير الرطب ، والرطبَ غير التمر ، فالأسماء لمّا كانت تتبدّل بتبدّل الصفات على ما عدى اللّه ُ ، كان أوّله غير آخِره ، واللّه تعالى منزّه عن ذلك ، فأوّله عين آخره بخلاف غيره ، وآخره عين أوّله كذلك .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص115 ، ح5 .
2- . في الكافي المطبوع : «إنّه ليس» .
3- . كذا في الكافي المطبوع ، وفي بعض نسخ الكافي : «إلاّ أن يبيدَ» .
4- . البَلَحُ قبل البُسر ؛ لأنّ أوّل التمر طَلْعٌ ، ثمّ خَلالٌ ، ثمّ بَلَحٌ ، ثمّ بُسرٌ ، ثمّ رُطَبٌ ، ثمّ تَمْرٌ . الصحاح ، ج1 ، ص 356 (بلح) .

ص: 588

في حديث مَيْمون البانِ (1) قوله عليه السلام : (الأوّلُ لاعَن أوّلٍ قَبْلَه ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ أوّليّته ليست صادرة عن أوّلٍ كانَ قبله جعله أوّلاً ، وآخريّته ليست عن شيء سابق عليه صيّره آخرا ، يتحوّل ذلك الأوّل إلى هذا الآخر (كما يُعْقَلُ من صِفَةِ المخلوقينَ) كالإنسان مثلاً في كونه ترابا مرّة ، ولحما ودما أُخرى ، ورفاتا ورميما بعد ذلك ، فإنّ كلاًّ منها بعد تناهي الآخر ، بل هو (قديمٌ ، أوّلٌ ، آخِرٌ) لا تفاوت بينهما في ذات ولا صفة ، لم يزل بلا بَدْء ، أي لا يقع عليه ، ولا يزال بلا نهاية ، ولا يحول من حال إلى حال . ولا يخفى ما في الحديث من اللفّ والنشر ، وتفسير كلّ لاحق لسابق .

في حديث أبيهاشم الجَعْفَري (2)قول السائل : (لَهُ أسماءٌ وصِفاتٌ في كتابِه) إخبارٌ ، لا استفهام ، وإلاّ لم يكن له جواب . قوله عليه السلام : (إن كُنْتَ تقولُ : هو هي (3) ، أي أنّه ذو عَدَدٍ وكَثْرَةٍ) . أي أنّ قولك «هو هي» يحتمل معنيين . الأوّل : أنّ كلّ واحد منها هو اللّه ، أي نفسه ، بمعنى أنّه ذو عدد وكثرة ، فاللّه تعالى متعال ومنزّه عن أن يقال فيه هذا . والثاني : أنّ هذه الصفات والأسماءَ لم تزل ، أي هي قديمة . وهذا أيضا يحتمل معنيين : الأوّل : أنّها لم تزل في علمه وهو مستحقّها ، أي علمُه تعالى بها _ أي أنّه يخلقها _ واستحقاقُه إيّاها أنّ كون معانيها مختصّة به وكونَها عين ذاته قديم (4) (فَنَعَمْ) أي فهذا حقّ لا يجوز إنكاره . ولا يخفى كون المراد بالصفات ألفاظَها ، لا معانيها ، حتّى يرد ما يرد . والثاني : أنّ تصويرها وهجاءها وتقطيع حروفها لم يزل ، فإن عنيت هذا فاللازم منه تعدّد القدماء ، ومعاذ اللّه أن يكون معه غيره ، بل كانَ ولا خَلْق ، ثمّ خَلَقَها لأن تكون وسيلة بينه وبين خلقه ، يتضرّعون بها إليه ويعبدونه بها . ثمّ أورد عليه السلام الدليل على حدوثها ، فقال : (وهي ذِكْرُهُ ...) أي إنّ هذه الأسماء والصفاتِ ذِكْرُ اللّه ، والذكر لابُدَّ له من ذاكرٍ ، ولا ريب في حدوث الذاكر ، وإذا كان الذاكر حادثا كانَ الذِكْر أيضا حادثا ، وإلاّ لزم تقدّم المعلول على العلّة ، وهو باطل . فكان اللّه ولا ذِكْر ؛ فظهر حدوث الذكر الذي هو الأسماء والصفات ، فالمذكور بها هو اللّه تعالى الثابت القديم الذي لم يزل ، فتحقَّقَ أنّها غيره ؛ لاختلافها بالحدوث والقدم ، وأنّها مخلوقة ؛ لأنّها حادثة ، والحادث لابدّ له من موجود . قوله عليه السلام : (والمعاني والمَعنِيُّ بها هو اللّه ُ) . يحتمل أن يكون الأصل : «لا المعاني» ، وأن يكون وقع تحريف من النسّاخ . والمعنى : أنّ المخلوقات هي الأسماء والصفات ، لا المعاني . وعلى الموجود ، فالواو للابتداء ، والمعنى : أنّ المعاني والمعنيّ بها واحد ، وهو اللّه ، أي إنّ صفاته تعالى عين ذاته ؛ لأنّها لو لم تكن عين ذاته لكانت حادثةً ؛ للزوم تعدّد القدماء ، وهو باطل ، وإذا كانت حادثة يلزم اختلافه ؛ لأنّه لم يكن متّصفا بها ثمّ اتّصف ، ويلزم أيضا ائتلافه من حادث وقديم ، وإنّما يختلف للاتّصاف بصفة بعد أن لم يكن متّصفا ، ويأتلف فيكون كثيرا بعد أن كان بسيطا غير قابل التجزّء ، وهو ما سوى الواحد ، واللّه تعالى واحد لا متجزّيٌ ؛ لأنّ جميع المتجزّءات مخلوقة . وإلى جميع ما ذكر أشار عليه السلام بقوله : (الذي لا يَليقُ به الاختلافُ ولا الائتلافُ ...) . وفي هذا تنبيه على أنّ المراد بالصفات في كلام السائل وجوابِ الإمام الألفاظ ، لا المعاني ، أو يكون السؤال شاملاً للمعنيين والجواب مفصّلاً . ثمّ لمّا بيّن عليه السلام أنّ المتّصف بالقلّة والكثرة هو المتجزّىٌ وأنّ كلّ متجزٍّ مخلوق ، فاللّه تعالى لا يتّصف بقلّة ولا كثرة ، أشار إلى بعض معاني الصفات التي متّصف بها ، فقال : (فقولُك : «إنّ اللّه َ قديرٌ» خَبَّرْتَ أنّه لا يُعْجِزُهُ شيءٌ ...) . أي قولك : هو قدير وعالم ، المراد به نفي العجز والجهل عنه ، لا إثبات هذه الألفاظ له وأنّه نفسها ؛ لأنّه تعالى إذا أفنى الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ، ولا يزال الذي لم يزل عالما بعد فناء هذه الأشياء وقديرا ، فعلم أنّ المراد بكونها هي هو أنّه تعالى متّصف بمعانيها وأنّ المعاني عين ذاته ، بخلاف الصورة والهجاء والتقطيع ، فإنّه زائل . واعلم أنّ قوله عليه السلام : (فقولُك : إنّ اللّه قديرٌ ، خبّرتَ أنّه لا يُعجِزُه شيءٌ ، فنَفَيْتَ بالكلمة العَجْزَ) وقوله عليه السلام : (وكذلك قولُك : «عالمٌ» إنّما نَفَيْتَ بالكلمةِ الجَهْلَ ، وجَعَلْتَ الجهلَ سِواهُ) . المراد منه _ واللّه أعلم _ أنّ قولنا : «اللّه قديم» ليس المراد منه أنّه هو هذه الكلمة ، إنّما المراد منه معناه ، وهو نفي العجز عنه ؛ لأنّه ليس المراد إثباتَ القدرة له ، بل نفي العجز ؛ لأنّ هذين المعنيين متلازمان ، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر ؛ وكذا القول في العلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص116 ، ح6 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص116 ، ح7 .
3- . في الكافي المطبوع : «هي هو» .
4- . قوله : «قديم» خبر «أنّ» .

ص: 589

. .

ص: 590

. .

ص: 591

في حديث ابن مَحبوب (1) (فقال أبوعبداللّه عليه السلام : حَدَّدْتَهُ) . وذلك لأنّه لابدّ أن يكون بين المفضّل والمفضّل عليه مشاركة في الصفة التي أُريد تفضيلها على غيرها ، وصفات اللّه ليست كصفات غيره من الأشياء المخلوقة حتّى تفضل عليها ، فيلزم التشبيه ؛ لأنّه لا تشبيه إلاّ بعد المشابهة ، واللّه تعالى ليس كمثله شيء ، فمن فضَّله شبَّهه، ومن شبَّهه فقد حَدَّه ، واللّه تعالى متعال عن الحدّ ؛ لعدم العلم بشيء من كيفيّاته. ومعنى قوله عليه السلام : (قُلْ : اللّه أكبر ، أكبر (2) من أن يوصف) : اللّه كبير منزّه عن الوصف ؛ وذلك لأنّه لوكان «أفعل» فيهما مقصودا به التفضيلُ ، أو في الأوّل فقط ، فالمعنى لا يستقيم ، أو في الآخِر فيكون صفةً للأوّل يعود المحذور ، فيلزم كونه محدودا . والحاصل : أنّه لمّا أراد عليه السلام تفهيمه هذا المعنى _ وهو كون صفات اللّه لا يصحّ تفضيلها _ سأله هذا السؤال ، فلمّا أجابه رَدَّ عليه ، وقال : يلزم من قولك أن يكون اللّه محدودا ، وهو منزّه عن ذلك . فقال له السائل : كيف أقول في جواب مثل هذا السؤال ؟ فأجابه عليه السلام بما حاصله : قل : لوكان التفضيل على حقيقته ، لكان المعنى هو أكبر من شيء ، فيلزم مشاركته لذلك الشيء في الصفة مع الزيادة ، وكلّ شيء سواه حادث ، وصفاته غير صفاته ، وغير مشابهة لها ؛ لأنّها مخلوقة ، وصفاته تعالى قديمة عين ذاته ، وهو ليس كمثله شيء ، فلمّا انتفت المشاركة بطل كون «أفعل» مقصودا به التفضيل . يدلّ على هذا التفصيل قوله عليه السلام : «أكبر من أن يوصف» ، أي منزّه عن الوصف ، وإذا بطل كون «أفعل» هنا للتفضيل ، ظهر كونه بمعنى كبير ، فلا يحتاج إلى تقدير مفضّل عليه ، وأمّا كون «أكبر» الثاني لغير التفضيل فظاهرٌ ؛ للزوم هذا المحذور ، وأمّا كونه بمعنى منزّهٌ ، فبقرينة «مِن» .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص117 ، ح8 .
2- . كذا في بعض نسخ الكافي ، وفي الكافي المطبوع وكثير من نسخ أُخرى للكافي : - «أكبر» الثاني .

ص: 592

في حديث جُمَيْعِ بن عُمَيْرٍ (1) قوله عليه السلام : (أيُّ شيءٍ اللّه أكْبَرُ ...) . لمّا سأله عليه السلام عن معنى «اللّه أكبر» وأجابَه السائل بأنّ المعنى (اللّه أكبرُ من كلِّ شيءٍ) ، استفهم عليه السلام منه بطريق الإنكار ، فقال : (وكانَ ثَمَّ شيءٌ فيكونَ أكْبَرَ مِنْه ؟) ، أي هذه الصفة أزليّة ، ويلزم من جعلك إيّاها بمعنى التفضيل إثباتُ شيء في الأزل سواه ليكون مفضّلاً عليه ، ولا أزليَّ غيره تعالى ، ف «أفعل» ليس للتفضيل . ولمّا ظهر من هذا أنّ «أكبر» ليس للتفضيل ، وأنّه بمعنى «كبير» سأله السائل عن حقيقة الكبير ، فقال : (وما هو ؟) فأجابه عليه السلام بقوله : (اللّه ُ أكبرُ من أنْ يُوصَفَ) ، أي إنّ صفاتِ اللّه عين ذاته ، وهو تعالى أكبر من أن يوصف ، أي منزّه عن الوصف ، فصفاته كذلك ؛ فكيف تسأل عن حقيقتها .

في حديث هشام بن الحَكَم (2) (قال : سألتُ أباعبداللّه عليه السلام عن «سبحانَ اللّه » ، فقال : «أنَفَةٌ للّه ِِ» ) . في القاموس : أنِفَ _ كفرح _ أنَفا وأنَفَةً _ محرّكتين _ : استنكف (3) . وفيه : نَكِفَ عنه _ كفَرِحَ ونَصَرَ_ : أنِفَ منه وامتنع ، وهو ناكفٌ ؛ ومنه _ كفرح _ : تَبَرَّأ (4) . وفيه : واستنكف : استكبر . (5) فمعنى قوله عليه السلام : «أنفةٌ للّه ِ» أي تبرُّءٌ من العبد ثابت للّه عمّا لا يليق بجنابه . وبهذا فسّره صاحب القاموس ، فقال : وسبحانَ اللّه : تنزيها للّه من الصاحبة والولد ، معرفةٌ ، ونُصِبَ على المصدر ، أي أُبَرِّئُ اللّه من السوء برآءة . (6) وبهذا أيضا فسّره عليه السلام في حديث هشام الجواليقي حين سألَه (عن قول اللّه عزّوجلّ : « سُبحانَ اللّه ِ» (7) ما يُعْنى به ؟ قالَ : تَنْزيهُهُ) . (8) ولوكان المعنى استكبار للّه أو امتناع (9) ، لقرب من هذا المعنى .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص118 ، ح9 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص118 ، ح10 .
3- . القاموس المحيط ، ج3 ، ص119 (أنف) .
4- . القاموس المحيط ، ج3 ، ص202 (نكف) .
5- . القاموس المحيط ، ج3 ، ص202 (نكف) .
6- . القاموس المحيط ، ج1 ، ص226 (سبح) .
7- . يوسف (12) : 108 ؛ المؤمنون (73) : 91 ، ومواضع أُخر .
8- . الكافي ، ج1 ، ص118 ، ح11 .
9- . كذا .

ص: 593

في حديث أبيهاشم الجعفري (1)قوله عليه السلام حين سئل عن معنى الواحد : (اجتماعُ (2) الألْسُنِ عليه بالوحدانيّة) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه لا يتوهّم أنّ الواحد حدّ للّه تعالى ، بل معناه أنّ الألسن لا تُطلق ضدَّ الواحد عليه تعالى ، بل كلّها مجتمعة على أنّه واحد ، ولا ينافيه ترك بعضهم ؛ لأنّه محض عناد لا برهان لهم به ، فإذا سألهم العالم وأوردَ لهم ورَدَّ مستمسكهم التجأوا إلى الإقرار بوحدانيّته . وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله : (لقوله (3) تعالى : « وَ لَ_ل_ءِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » (4) ) ، فاللام في «لقوله» متعلّقة باجتماع .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص118 ، ح12 .
2- . كذا في حاشية بعض نسخ الكافي والتوحيد للصدوق ، ص83 ، باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، ح2 . وفي الكافي المطبوع وكثير من نسخ الكافي : «إجماع» .
3- . في الكافي المطبوع وكثير نسخ الكافي : «كقوله» .
4- . الزخرف (43) : 87 .

ص: 594

باب آخر وهو من الباب الأوّل

باب آخر [وهو من الباب الأوّل إلاّ أنّ فيه زيادة ... ]في حديث الفتح بن يزيد الجُرجاني (1) (لم يُعْرَفِ الخالِقُ من المخلوقِ) . أي لا خالقَ سواه ؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى عِلمه شامل لكلّ معلوم ، فلوكان خالق سواه لعُلِم به ، وفُرِق بينه وبين المخلوق ، فلمّا حكم بأنّه لا يعرف الخالق من المخلوق ومعلوم أنّ علمه شامل لكلّ شيء عُلم أنّه لا خالق سواه ؛ لأنّه لوكان لَعَلِمه ولزم من العلم به معرفة الخالق من المخلوق ، فلزم من عدم الفرق بين الخالق والمخلوق عدم العلم بخالق سواه ، ومنه عدم الكون ؛ فليتأمّل . قوله عليه السلام : (فَرَّقَ بيْنَ من جَسَّمَه وصَوَّرَه وأنْشَأه ؛ إذ كانَ لا يُشْبِهُهُ شيءٌ ، ولا يُشْبِهُ هو شيئا) . هذا الكلام استفهام إنكاريّ ، أي إذا كان اللّه تعالى لا يشبهه شيء ولا يشبهه هو شيئا ، فكلّ من أثبت له صفة من صفات المخلوقين لم يعبد هذا الخالق الموصوف بهذه الصفات ، بل كان عابدا لغيره ، ولا فرق في هذا بين من قال : إنّه جسم ، أو قال : إنّه صورة ، أو إنّه مُنشأ ؛ لأنّه على جميع التقديرات قد أثبت له ما ليس فيه المنهيّ عنه ، كائنا ذلك الشيء ما كان . قوله عليه السلام : (إنّما قُلْنا : اللطيفُ ؛ للخَلْقِ اللطيفِ ، لعِلْمِه (2) بالشيء اللطيفِ) . أي قولنا : «إنّه لطيف» للخَلْق اللطيف ، لا لأنّه هو في نفسه لطيف ، فقوله «للخلق اللطيف» أي لعلمه بالخلق اللطيف ، فحُذف مجرور اللام والباء ، وأُدخل اللام على الخلق لدلالة القرينة عليه لعدم الربط مع عدم التقدير ، والخلق اللطيف : المخلوق اللطيف ، وهو ما صغر ودقّ . ثمّ لمّا كان يمكن تقدير غير هذا _ مثل «لخلقه الخلقَ اللطيفَ» وهو دالّ على العلم بالمخلوق فقط ؛ لأنّ من خلق شيئا لابدّ وأن يكون عالما به ، لا على العلم بسائر أفعاله وحركاته ، مثل اهتداه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه _ فسّره عليه السلام بقوله : «لعلمه بالشيء اللطيف» ، ثمّ أوضح ذلك ، فقال : (أوَ لا تَرى ...) . قوله عليه السلام : (وغيرِ اللطيفِ) . لمّا أوهم ما قبله أنّ أثر صنعه مختص بالنبات اللطيف ، دفعه عليه السلام بقوله : «وغير اللطيف» . قوله : (ومِن الخَلْقِ اللَطيفِ) . متعلّقٌ بمحذوف صفة لشيء محذوف موصوف بكونه لا تكاد تستبينه العيون ، والتقدير : أوَلا تنظر إلى أثر صنعه في البنات اللطيف ، وإلى الشيء الكائن من الخلق اللطيف ... الذي (لا يَكادُ تَسْتَبينُه العيونُ) . أمّا حذف الموصوف فلكونه مصوفا للموصول ، وحذف مثله كثير شائع ، ولا يضرّ كونه مصوفا لغيره ؛ لأنّ المجوّز وجود القرينة ، وهي حاصلة . وأمّا حذف الصفة فلأنّها متعلّق الجارّ . قوله عليه السلام : (والحَدَثُ المولودُ مِن القديمِ) . لا يخفى كون المراد من القديم السابق ولادته ؛ لأنّه من كلام المعصوم . قوله عليه السلام : (عَلِمْنا أنَّ خالِقَ هذا الخَلْقِ لطيفٌ ، لَطُفَ بخَلْقِ ما سمّيناه ...) . أي لمّا رأينا هذه الأشياء ، عَلِمْنا أنّ خالقها لطيفٌ ، أي محسنٌ إلى خَلْقه بخلق بإيصال المنافع إليهم برفق ولُطْفٍ لَطُفَ ، أي أحْسَنَ إلى خَلْقه بخلق هذه الأشياء ؛ لأنّه لم يخلقها عبثا . والحاصل : أنّه لمّا كان اللطيف هو ما صغر ودقّ ، واللطيف البرّ بعباده والمحسن إلى خلقه برفق ولطف ، واللطيف العالم بخفايا الأُمور ودقائقها ، حَصَرَ عليه السلام لطفه تعالى في الثالث ، فقال : «إنّما قلنا : اللطيف ؛ للخلق اللطيف ، لعلمه بالشيء اللطيف» . ثمّ بَيَّنَ معلوماته اللطيفة ، ثمّ قال : «فلمّا رَأيْنا صِغَرَ ذلك في لُطْفه ... عَلِمْنا أنّ خالقَ هذا الخَلْقِ لطيفٌ ، لَطُفَ بخَلْق ما سمّيناه» ، فبيّن أنّ اللطيف بالمعنى الثاني لازم للثالث ، فدخل في الحصر ، فخرج كونه بالمعنى الأوّل .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص118_ 120 ، ح1 .
2- . هكذا في بعض نسخ الكافي وجميع الشروح إلاّ مرآة العقول . وفي المطبوع وبعض نسخ أُخرى للكافي : «ولعِلمه» على أن يكون تعليلاً ثانيا لتسميته سبحانه لطيفا . واحتمل المازندراني كونه تعليلاً لتسميته تعالى خبيرا ، في فرض عدم الواو . للمزيد راجع : التعليقة للداماد ، ص280 ، شرح المازندراني ، ج4 ، ص42 ؛ الوافي ، ج1 ، ص483 .

ص: 595

. .

ص: 596

في حديث عليّ بن محمّد ، المُرسَل (1) قوله عليه السلام : (والقِدَمُ صِفَتُه ...) . أي إنّ من صفات اللّه تعالى القِدَمَ ، واتّصافه بهذه الصفة (دَلَّتِ (2) العاقلَ على أنّه لا شيءَ قبلَه ، ولا شيءَ معه في ديمومته (3) ) لما سيذكره من الدليل . قوله عليه السلام : (فقد بانَ لنا بإقرار العامّة معجزةَ الصفةِ ...) . معجزة الشيء مؤخِّره ، أي قد بان لنا بإقرار العامّة أنّه تعالى قديم مؤخِّر هذه الصفة ، وهو أنّه لاشيء قبل اللّه ولا شيء مع اللّه في بقائه ، أي إنّها لا ابتداء لها ولا انتهاء . قوله عليه السلام : (وبَطَلَ) أي بطل من إقرارهم بأنّه تعالى قديم ، (قولُ من زَعَمَ أنّه كانَ قبلَه ، أو كانَ معه شيءٌ) . يدلّ على جميع ما ذكر قوله : (وذلك أنّه لوكانَ معه شيءٌ في بقائه ...) . فظهر من هذا الدليل أنّ جميع الأشياء مخلوقة وحادثة خَلَقَها اللّه تعالى ؛ فلهذا قال : (ثمّ وَصَفَ تبارك وتعالى نفسَه (4) بأسماء) ، أي بعد خلقهم وصف نفسه بهذه الأسماء ، ودعا الخلق إلى دعائه بها ، وذلك لأنّه خلقهم وتعبّدهم ، وفي الخلق إظهار عظمة للمخلوق يستحقّ بها الخالق التعظيمَ منه ، والتعظيم محتاج إلى الاسم ، ولأنّه أوّل محتاج إليه . وَرَدَ في الحديث أنّ أوّل ما خلق من الأسماء العليّ العظيم (5) ؛ لأنّ التعبّد والابتلاء كان بعده ، ثمّ بعد ذلك تعبّدهم وابتلاهم ، فوجبت العبادة والشكر ، ولا يتمّان إلاّ بالأسماء ؛ فهذه الأشياء هي الغاية لخلقها . وفي هذا الكلام الشريف دلالة لا تخفى على أنّ الحادث هو الأسماء ، لا المعاني . قوله عليه السلام : (والدليلُ على ذلك) أي الدليل على جمع الاسم الواحد معنيين (قولُ الناسِ الجائزُ عندهم الشائع) ، فإنّهم كثيرا مّا يستعملون اسما واحدا في معانٍ مختلفة ، ولا منكر لمثل هذا . والذي خاطب اللّه به الخلق هو هذا المستعمَل الشائع عندهم ، فليس يكلّمهم بأنّه سميع وبصير ، وإرادة غير سمعهم وبصرهم أمرا غريبا لا يعرفونه ولا يعقلونه حتّى لا يكون له عليهم حجّة في تضييع ما ضيّعوا ، بل الحجّة ثابتة عليهم . ثمّ أوضح عليه السلام قوله : إنّ الاسم الواحد يجمع معنيين ، بقوله : (فقد يُقالُ للرجل : كَلْبٌ وحِمارٌ وثَوْرٌ ، و ...) . ولمّا بيّن عليه السلام : أنّ معاني أسمائه تعالى غير معاني أسمائنا ، وأنّ الاشتراك واقع في اللفظ لا في المعنى ، أخذ عليه السلام في بيان معانيها ، فقال عليه السلام : (وإنّما سُمِّيَ (6) بالعلم بغير عِلْمٍ حادثٍ ...) . قوله عليه السلام : (وسُمِّيَ رَبُّنا سَميعا لا بِخَرْتٍ فيه) . في القاموس : الخَرْت _ ويضمّ _ : الثقب في الأُذن وغيرها (7) . أي ليس معنى كون اللّه سميعا أنّ سمعه كسمعنا في كونه بخَرْت يُسمع به ولا يُبصر به ، ولكنّه أخبر بتسمية نفسه سميعا (أنّه لا يَخْفى عليه شيء [من الأصوات] ) . وفي هذا الكلام الشريف دليل على عدم كونه سميعا بخَرْتٍ ؛ وذلك لأنّ من يقول بأنّه سميع بخَرْتٍ يقول : إنّ السمع محمول على المعنى المعروف [عندهم] وهو السماع بخَرْت لا يبصر به . وكذا يحمل البصر على هذا المعنى وهو كونه بخَرْت لا يسمع به ، فيلزم التعدّد ، وهم قائلون بأنّه واحد من جميع الجهات ، واللازم باطل فالملزوم _ وهو كونه يسمع بخَرْت _ مثله . وقوله عليه السلام : (ولكنَّ اللّه َ بَصيرٌ لا يَحتَمِلُ شخصا منظورا إليه) . يحتمل أن يكون الأصل «لا يجهل» فوقع تحريف من النسّاخ ؛ وذلك لأنّه لوكان بصره كبصرنا لزم أن يكون جاهلاً بعضَ الأشخاص لاستتارها ، ولأنّه تعالى علمه بالنسبة إلى جميع الأشياء على السويّة . وعلى ماهنا ، فالمعنى أنّه لوكان يبصر بخَرت ، لكان شخصا منظورا إليه ؛ وكونه مرئيّا منظورا إليه أمرٌ غير محتمل ؛ لما بيِّن وبُرهن عليه في الأحاديث السابقة في باب إبطال الرؤية . والحاصل : أنّه لوكان مرئيّا منظورا إليه لكان شخصا ، ولجاز حمل الشخص عليه بأن يقال : إنّه شخص ، وهو لا يحتمل شخصا حتّى يحمل الشخص عليه ، و«حمل» و«احتمل» معناهما واحد . قوله عليه السلام : (وهو قائمٌ ليس على معنى انتصابٍ وقيامٍ على ساقٍ في كَبَدٍ كما قامَتِ الأشياءُ ...) . في القاموس : الكبد ككتف : الجوف بكماله . وفيه _ بعد قوله : «وبالتحريك»_ : «وسط الرمل ووسط السماء» . (8) فالمعنى _ واللّه أعلم _ أنّه تعالى ليس قائما في جوف شيء كقيام الأشياء _ كالأرض والسماء وما فيهما _ في جوف الهواء ، وهو في جوف الفلك ، وهكذا ؛ بل أخبر بوصف نفسه بهذه الصفة (أنّه حافظٌ ، كقول الرجل : القائمُ بأمرِنا فلانٌ) ، أي الحافظ الضابط لأموالنا ، أولها ولأنفسنا . قوله عليه السلام : (وأمّا اللطيفُ ...) . بيّن عليه السلام أنّ لطفه تعالى ليس محمولاً على معنى القلّة والقضافة وهي النحافة ، أي الهزال وقلّة اللحم ، كما تستعمل هذه المعاني في المخلوقات ، بل هو محمول على معناها (9) الآخر وهو «النفاذ في الأشياء» ، أي نفاذ علمه وقدرته (والامتناعِ من أن يُدْرَكَ) ؛ لأنّ اللطافة تطلق في الأشياء على الذي لا يمكن إدراكه ، كما يطلق على القليل القضيف . واستدلّ عليه السلام على استعمالها في المعنيين الأوّلين بقوله : (كقولِك للرجلِ) ، أي إنّه يصحّ أن تقول للرجل : (لَطُفَ عنّي هذا الأمرُ ، ولَطُفَ فلانٌ في مذهبِه) ، ولا نعني به إلاّ الخفاء والامتناع من الإدراك ونفاذ الوهم فيه . ثمّ مثّل عليه السلام بمثال آخر ، وهو قوله عليه السلام : (وقوله يُخْبِرُك أنّه غَمَضَ فيه العقلُ) أي وكقول الرجل حال كونه يخبرك أنّه غمض فيه العقل ، أي إنّ الأمر غمض فيه العقل ولم يدرك (وفاتَ الطلبُ) أي لم يبق مجال لطلبه وتحصيله لظهور خفائه . (وعادَ مُتَعَمِّقا مُتَلَطِّفا لا يُدرِكُه الوهمُ) أي صار الأمر المطلوب عميقا لا يمكن الوصول إلى قَعْره ، وهو كناية عن البعد عن الأفهام والأوهام ، فاستعمال مثل هذا دليل صريح على استعمال اللطيف في غير القليل والقضيف والصغير . و«إنّ» في قوله : «إنّه غمض فيه» مكسورة ؛ لأنّها مقولة القول (10) . [ ...] . (11) قوله عليه السلام : (عن أن يُدْرَكَ) متعلّقٌ ب «تبارك وتعالى» وليس «لطف» فعلاً وإلاّ فبه وإن جاز غيره على الوجهين . ولمّا دلَّ ظاهر هذا الكلام على أنّ الحدّ ممكن لكنّ الإدراك ممتنع ، نفاه عليه السلام بقوله : (أو يُحَدَّ بِوَصْفٍ) ، أي لا يتوهّم عليك أنّه يمكن حدّه ولكن يمتنع إدراكه بالحدّ ، بل حدّه بالوصف ممتنع ؛ لأنّ الحدّ لازمه الإدراك . ثمّ بيّن عليه السلام أنّ اللطافة بمعنى الصغر والقلّة مخصوصة بنا ، لا تتجاوزنا إلى الخالق ، فقال : (واللطافَةُ منّا الصِّغَرُ والقِلَّةُ) . فإن قيل : هذا يدلّ على أنّ اللطافة منّا مخصوصة بهذا المعنى ، وقد مثّل عليه السلام لاستعمالها في غيره . قلنا : الأمر كذلك ، وقوله عليه السلام يدلّ على جواز استعمال تلك المعاني في المعاني ، لا فينا ، فلا يقال : لطف زيد ، بمعنى امتنع من أن يدرك ويحدّ . قوله عليه السلام : (أمّا الخبيرُ ، فهو الذي (12) لا يَعْزُبُ عنه شيءٌ ولا يَفُوتُه) أي لا يبعد عن علمه . قوله عليه السلام : (ليس للتجربةِ ولا للاعتبار) أي ليس تعلّق عِلْمه بجميع الأشياء لكثرة تجربتها واعتبارها . ثمّ استدلّ عليه السلام على عدم كونه [ ...] (13) بقوله (فعند التجربة والاعتبار علمان ، ولولاهما ما علم) ، أي إنّه [ ...] من التجربة والاعتبار معقول [ ...] لا يتعقّل إلاّ بتعقّل شيئين قبله ؛ وذلك لأنّه لابدّ من العلم بالمجرّب أوّلاً ، ثمّ العلم بأنّ الآخر مثله ومشابها له حتّى يحصل علما ثالثا بالآخر ، ولولا العلمين (14) لم يحصل الثالث ، فهما علّة لحصوله ، فالعلم الحاصل من التجربة حادث ، [و ]فعله تعالى ليس منها ؛ لقدمه ، وقد برهن عليه . فتركيب العبارة هكذا : فالعلم الحاصل عند التجربة والاعتبار علمان ، فحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه ، وحذفت لدلالة الظرف عليها ؛ لافتقاره إلى عامل شائع الحذف ، فالجملة جواب شرط محذوف مع فعله ، تقديره : إذا علمت هذا فالعلم ... . وقوله عليه السلام : (لأنَّ مَن كانَ كذلك ...) تعليلٌ لكون علمه تعالى ليس للتجربة ، أي من كان علمه حاصلاً من التجربة كان جاهلاً ، أي صحّ اتّصافه بالجهل [ ...] لأنّك قد علمت أنّ مثل [ ...] تعالى لم يزل خبيرا ، أي هذه الصفة له تعالى قديمة لم تنفكّ عنه في وقت من الأوقات . ثمّ بيّن عليه السلام معنى الخبير من الناس ليعلم التنافي بين الصفتين ، وأنّ لكلّ واحدة منهما معنى ، إنّما الاشتراك واقع في اللفظ ، فقال : (وأمّا (15) الخبيرُ من الناسِ ...) . قوله عليه السلام : (ولكنْ ذلك منه على اسْتِبْطانِه للأشياء عِلْما وحِفْظا وتَدبيرا) . البطانة _ بالكسر_ : السريرة ، ومن الثوب خلاف ظهارته . فالمعنى _ واللّه أعلم _ أنّ تسميته باطنا لإحاطة علمه وحفظه وتدبيره بطانة لكلّ شيء ، (كقولِ القائل : أبْطَنْتُه ، يعني خَبَّرْتُه) وصار لي اطّلاع على أكثر أحواله (وعَلِمْتُ مَكتومَ سِرِّه) ، أي سرّه الذي يكتمه عن أكثر الناس ، وإلاّ فالمكتوم مطلقا بجميع الوجوه لا يعلمه سوى اللّه . ولمّا بيّن عليه السلام معنى صفته تعالى ، أشار إلى معنى الباطن منّا ليبيّن أنّ الاشتراك واقع في اللفظ دون المعنى ، فقال : (والباطنَ منّا الغائبُ ...) .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص120_ 123 ، ح2 .
2- . كذا ، والصحيح : «دلّ» وفي الكافي : «والقدم صفته التي دلّت» .
3- . في الكافي المطبوع : «ديموميّته» .
4- . في الكافي المطبوع : «ثمّ وصف نفسه تبارك وتعالى» .
5- . الكافي ، ج1 ، ص113 ، باب حدوث الأسماء ، ح2 .
6- . في الكافي المطبوع : + «اللّه تعالى» .
7- . القاموس المحيط ، ج1 ، ص147 (خرت) .
8- . القاموس المحيط ، ج1 ، ص332 (كبد) .
9- . كذا ، والصحيح : «معناه» والتأويل باللطافة يقتضي أن يقول : «بل هي محمولة» .
10- . بناءً على عدم قوله : «يخبرك» أو عدم مفعوله الثاني وقراءة «قوله» مرفوعا أو مجرورا عطفا على «قولك للرجل» واللّه تعالى هو العالم بالمراد .
11- . في نسخة الأصل بقدر سطرين لا يمكن قراءته .
12- . في الكافي المطبوع : «فالذي» .
13- . ما بين المعقوفين في هذا الموضع وفيما بعد كلمات مشوّشه لا تقرأ .
14- . كذا ، والصحيح : «العلمان» .
15- . في الكافي المطبوع : - «أمّا» .

ص: 597

. .

ص: 598

. .

ص: 599

. .

ص: 600

. .

ص: 601

. .

ص: 602

باب تأويل الصمد

باب تأويل الصمدفي حديث داود بن القاسم الجعفري (1) قوله عليه السلام : (السيّدُ المصمودُ إليه) . أي المقصود إليه . و«قصد» يتعدّى بنفسه وباللام و ب «إلى» .

في حديث جابر بن يزيد (2) (إنَّ اللّه َ تَبارَكَتْ أسماؤه ...) . تبارك اللّه : تقدّس وتنزّه ، صفةٌ خاصّةٌ باللّه . وتقدّس : تطهّر .كذا في القاموس (3) ، أي إنّ أسماء اللّه تعالى التي خلقها للدعاء بها تنزّهت عن أن تشبه أسماء المخلوقين ، وتتّفق معها في المعنى . (وتَعالى هو في عُلُوِّ كُنْهِه) أي في كنهه الذي لا تدركه الأوهام ؛ لعلوّه وتنزّهه عن وصولها إليه ، فالمعطوف عليها (4) إمّا أن يكون خبرَ «إنّ» ويكونَ قوله : «واحد توحّد» خبرا بعد خبر ، أو تمجيدا لَهُ تعالى والخبر «واحد» . قوله عليه السلام : (واحِدٌ تَوَحَّدَ ...) . أي إنّه توحّد في توحّده بالتوحيد ، أي باعتقاد أنّه واحد من جميع الجهات . فقوله : «في توحّده» متعلّق ب «توحّد» ، و«بالتوحيد» متعلّق ب «توحّده» . وفي بعض النسخ : «في توحيده» ، فالمعنى : توحّد في توحيده الموحّدون بالتوحيد ، أو بالإقرار بأنّه واحد . (ثمّ أجْراهُ على خَلْقِه) . أي ثمّ جعل الواحد من أسمائه وأجراه على خلقه . وإنّما أتى ب «ثمّ» للدلالة على قدم الاتّصاف وحدوث الاسم . (فهو واحِدٌ صَمَدٌ) . أي إذ قد علمت أنّ تسميته نفسه حادثة ، فهو تعالى في الأزل واحدٌ ، صمدٌ ، قدّوسٌ . ثمّ أشار عليه السلام إلى وجه التسمية بالقدّوس والصمد ، فقال : (يَعبُدُهُ كلُّ شيء) . هذا بيان للقدّوس ، أي يقرّ له بالعبوديّة وأنّه الخالق المنزّه عمّا لا يليق به ، فالتقديس الذي هو التنزيه لازمٌ للعبادة لم تتحقّق بدونه . (ويصمد إليه) ، أي يقصد ويتقرّب إليه (كلّ شيء) . ففي ذكر الصمد والقدّوس وبيانهما لفّ ونشر لا يخفى . ويحتمل أن يكون «يعبده ...» بيانا للصمد فقط ؛ لأنّ المصمود : المقصود ، وقصده تعالى لا يكون إلاّ بالعبادة ، فيكون «ويصمد إليه» عطفَ بيان ل «يعبده» . وقوله عليه السلام : (وَسِعَ كُلَّ شيءٍ عِلْما) تمجيدٌ ، وفيه إشارة إلى أنّه تعالى هو المستحقّ لأن يُقصد ويُعبد ، لا غيره . وقوله : (فهذا هو المعنَى الصحيحُ ...) . الإشارة إمّا إلى «أن يصمد إليه» أو إلى الجميع ؛ على الاحتمالين . قول المصنّف رحمه اللّه : (فأمّا ماجاء في الأخبارِ مِنْ ذلك ، فالعالِمُ عليه السلام أعْلَمُ بما قالَ) . الظاهر أنّ مراده أنّه ورد في الأخبار أنّ الصمد بمعنى المصمت وبمعنى المصمود إليه ، وأهل اللغة نقلوا أنّ المصمود : المقصود ، فكلامه عليه السلام دليل على أنّه يأتي بمعنى المصمت وبالمعنى الذي نقله أهل اللغة ؛ وذلك لأنّه عليه السلام قال : «إنّ الصمد هو السيّد المصمود إليه» ، فقرينة تعديته ب «إلى» ، وعدمُ صحّة المعنى على تقدير تأويله بغير المقصود يدلُّ (5) على كون المصمود إليه بمعنى المقصود إليه . فإن قيل : يمكن أن يكون المعنى : السيّد المتوجّه إليه أو المشار إليه ، وأمثال ذلك . قلنا : هما راجعان إلى معنى القصد ؛ لأنّ مع عدمه لا توجّه ولا إشارة .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص123 ، ح1 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص123_ 124 ، ح2 .
3- . القاموس المحيط ، ج3 ، ص293 (برك) .
4- . أي «تباركت أسماؤه» .
5- . كذا . والأولى : «تدلّ» .

ص: 603

. .

ص: 604

باب الحركة والانتقال

باب الحركة والانتقالفي حديث يعقوب بن جعفر (1) قوله عليه السلام : (إنَّ اللّه َ لا يَنْزِلُ) . لمّا كان لازم قول من يزعم أنّه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا أنّه يبرح _ أي يزول من مكان ويستقرّ في آخَرَ _ أخبَرَ عليه السلام أوّلاً بعدم بَراحِهِ ، ثمّ نَبَّهَ على الدليل على ذلك بقوله : (ولا يَحتاجُ [إلى] أنْ يَنْزِلَ ...) . وتقريره : أنّ المحتاج الذي يتفاوت علمه بالأشياء بسبب القرب والبعد يفتقر إلى البراح والنزول ، واللّه تبارك وتعالى مستغنٍ عن ذلك ؛ لأنّ «منظره» ، أي الأشياء التي ينظر إليها بالعلم والتدبير متساوية بالنسبة إليه في القُرْبِ والبُعْدِ . ثمّ فسّر عليه السلام معنى المتساوي ، فقال : (لم يَبْعُدْ مِنه قَريبٌ ...) ، أي إنّ الأشياء القريبة منّا ليست بعيدة عنه ، والأشياءَ البعيدة عنّا ليست قريبة منه على معنى أنّه بعيد عنّا ، بل جميع الأشياء متساوية بالنسبة إليه تعالى ، لا توصف بأقربيّة ولا بأبعديّة . ثمّ لمّا أوهم قوله عليه السلام : «ولا يحتاج [إلى] أن ينزل» أنّ عدم احتياجه مختصّ بهذا فقط ، قال : (ولَمْ يَحْتَجْ إلى شيءٍ ، بل يُحتاجُ إليه) . بالبناء للمفعول ليفيد عموم الفاعل ، أي بل جميع الأشياء محتاجة إليه ؛ لأنّ مع عدم ذكر الفاعل جَعْله البعضَ من غير قرينة ترجيحٌ من غير مرجِّح . ثمّ أشار عليه السلام إلى وجه استغنائه واحتياج جميع الأشياء إليه بقوله : (وهو ذُو الطَّوْلِ) ، أي هو ذو الفضل والقدرة والغناء والسعة ، فكيف يكون محتاجا ، وجميع الأشياء حادثة تحتاج إلى مؤثّر ومدبّر لبقائها ، و (لا إلهَ إلاّ هو العزيزُ الحكيمُ) الذي عزّ بعدم احتياجه ، وحكم على جميع الأشياء بقدرته . قوله عليه السلام : (أمّا قولُ الواصفينَ : إنّه يَنْزِلُ) . «إنّ» مكسورة على تقدير كونها مقولة القول ، أو مفتوحة إذ كانت مع ما بعدها في تقدير مجرور بمحذوف (2) باطّراد متعلّقٍ بالواصفين ، أو ب «قول» على تقدير كونه بمعنى وَصَف . قوله عليه السلام : (فإنّما يَقولُ ذلك مَن يَنْسُبُهُ إلى نَقْصٍ أو زيادَةٍ) . أي من يقول بتفاوت أحواله وصفاته وتغيّرها ؛ لأنّ من يقول بذلك يلزمه القول بهذا . وقوله عليه السلام : (وكلُّ مُتَحَرِّكٍ مُحتاجٌ ...) . دليلٌ على إبطال ما قالوه . وتوضيحه : أنّ من يقول بالنزول يلزمه القول بالحركة ، ومنه القول بالمحرّك ، واللازم باطل بالدليل والإجماع ، فالملزوم مثله .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص125 ، ح1 .
2- . والمراد بالمحذوف هو الباء الجارّة .

ص: 605

في حديث يعقوب بن جعفر (1) قوله عليه السلام : (لا أقولُ : إنّه قائم ، فأُزيلَه عن مكانِه) . أي لا أقول : إنّه قائم ، على معنى يلزم منه الزوال عن المكان الذي كان قاعدا فيه ، وذلك لقيامنا ، ولا يلزم من عدم إطلاق القائم بهذا المعنى عليه تعالى عدم جواز إطلاق القائم عليه مطلقا . والدالّ على كون القيام الذي نفى عليه السلام القول به الفاءُ في «فأُزيله» ؛ لأنّ القيام إذا حمل على معنى قيامنا ، يلزم من القول به القول بالزوال عن المكان ، وأمّا إذا كان القائم بمعنى الحافظ كما فسّره عليه السلام في الحديث الذي تقدّم ، فغير لازم منه هذا . قوله عليه السلام : (ولا أحُدُّه أن يَتَحَرَّكَ) أي بالحركة . قوله عليه السلام : (ولا أحُدُّهُ بلَفْظِ شَقِّ فَمٍ) . يحتمل أن يكون «شقّ» بفتح الشين ، والمعنى : لا أحدّه بلفظ حاصل من شقّ الفم ، أي فتحه ؛ أو بكسرها ، يعني : لا أحدّه تلفّظ حاصل من شقّ الفم ، أي من جانبه ، أي لا أقول : إنّ كلامه ككلامنا ، بل هو كما قال تعالى : « كُن فَيَكُونُ » (2) . ثمّ لمّا كان ظاهر قوله تعالى : « كُن فَيَكُونُ » أنّ «كن» المقولَ يحصل بالتلفّظ وترددّ النفس ، قال عليه السلام : (بمَشيئتِه مِنْ غيرِ تَرَدُّدٍ في نَفْسٍ) . أي إنّ هذا القول يحصل بمشيئة اللّه تعالى مفهومه ، لا بالتلفّظ بلفظه الصادر من تردّد النفس . ثمّ لمّا كان مشيئتنا للأشياء تحصل إمّا لاحتياجنا إليها أو لاحتياج غيرنا ، وعلى كلا التقديرين إمّا بتنبّهنا من غير واسطة إلى هذا الاحتياج أو أنّ الغير ينبّهنا على ذلك ، نَبَّهَ عليه السلام على أنّ مشيئته تعالى ليست كمشيئتنا ، فقال : (صَمَدا فَرْدا ...) أي بمشيئته حال كونه صمدا ، أي حال كونه مقصودا محتاجا إليه مستغنيا عن كلّ شيء ، فعلم أنّ مشيئته الاشياءَ مختصّة باحتياج الخَلْق إليها فردا . (لم يَحْتَجْ إلى شريكٍ يَذكُرُ له مُلكَه ، ولا يَفْتَحُ له أبوابَ علمِه) أي حال كونه متفرّدا بالتدبير ، عالما بما يحتاج إليه ، مستغنيا عن شريك يذكر له ملكه وينبّهه على ما يحتاج إليه ، ويفتح له أبواب العلم ؛ فعلم أنّه عالم بجميع المعلومات ، غير غافل عن شيء منها ؛ فاتّضح الفرق بين مشيئته ومشيئتنا .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص125 ، ح2 .
2- . البقرة (2) : 117 ؛ آل عمران (3) : 47 و56 ، ومواضع أُخر .

ص: 606

. .

ص: 607

في حديث عيسى بن يونس (1) قوله عليه السلام : (إنّما وَصَفْتَ المخلوقَ) . أي إنّ قولك : (إذا كانَ في السماء كيف يكونُ في الأرض ؟ ...) ، لازمه من صفات المخلوق المحتاج إلى حيّز يشتغل به ، ولا يجوز خلوّه عنه ولا اشتغاله بحيّزين (فلا يدرى) حال كونه (في المكان الذي صارَ إليه ما يَحْدُثُ في المكان الذي كانَ فيه) ، أي من القائمين به الحالّين فيه . (فأمّا اللّه ُ العظيمُ الشأنِ) المنزّه عن الاحتياج ، (المَلِكُ الديّانُ) وهو القهّار والقاضي والحاكم والمحاسب والمجازي ، الذي لا يضيع علما ، بل يجزي بالخير والشرّ ، (فلا يَخْلو منه مكانٌ ، ولا يَشتَغِلُ به مكانٌ) ، أي مع أنّه غير مشتغل به مكان ، لا يخلو مكان من علمه به وتدبيره له ، بخلافنا ، فإنّا إذا كنّا غائبين عن مكان خلينا عن العلم بأحواله . قوله عليه السلام : (ولا يَكونُ إلى مكانٍ أقْرَبَ منه إلى مكانٍ) . أي جميع الأشياء متساوية في القرب إليه تعالى من غير تفضيل . ولا يخفى أنّه ليس المراد بالقرب القربَ المكاني .

في حديث محمّد بن عيسى (2) (فوَقَّعَ عليه السلام : عِلْمُ ذلك عِنْدَه ، وهو المُقَدِّرُ له بما هو أحسَنُ تقديرا) . يحتمل _ واللّه أعلم _ أن يكون معنى هذا الكلام الشريف أنّه لمّا (3) كان السائل يعلم إجمالاً أنّ القول بأنّ اللّه يتحوّل من مكان إلى مكان باطلٌ غير مستقيم ، وأراد من الإمام عليه السلام توضيحا لذلك ، ونقل عن بعض مواليه دليلاً على ذلك ، حاصله : أنّه إذا جاز عليه تعالى التحوّل ، لزم أن يكون في موضع دون موضع ، وإذا كان كذلك لزم منه أن يلاقيه الهواء ويتكيّف عليه ؛ لأنّ الهواء جسم رقيق يتكيّف على كلّ شيء بقدره ، وكلّ شيء تكيّف الهواء عليه صار ظرفا له ، ذلك الشيء مظروفا مالئا له ، والظرف له طول وعرض وعمق وكيفيّة مخصوصة ، فالمظروف أيضا كذلك ، وكونه تعالى له كيفيّة ومثال باطل (فكيفَ يتكيّفُ (4) الهواء عليه جلّ وعزّ على هذا المثال) أي فتكيُّف الهواء عليه أيضا باطل . ولمّا كان تكيّف الهواء لازما للتحوّل وهو باطل ، كان الملزوم وهو التحوّل أيضا كذلك . ولمّا كان يرد على هذا الدليل أنّه مع عدم التحوّل والانتقال من موضع إلى موضع لا يدلّ هذا على عدم تكيّف الهواء ، بل يحتاج إلى دليل آخر ، قال عليه السلام : «عِلْمُ ذلك عندَه ...» ، أي إنّا نعلم قطعا أنّه تعالى لا يجوز عليه التحوّل والانتقال ؛ لأنّه من صفات المخلوق ، ويلزم منه الاحتياج إلى غير ذلك ، ونعلم أيضا أنّه حاضر في كلّ مكان لتساوي جميع الأشياء بالنسبة إليه تعالى . وأمّا كيفيّة الحضور ، فعِلْم ذلك عنده ، فالإشارة ب «ذلك» إلى كيفيّة الحضور في كلّ مكان الذي كان الظاهر من كلام الراوي التصديقَ به وإرادةَ بيانه وتوضيحه ؛ لأنّ نقله ما نقل كان على سبيل الإنكار له ، وأمّا ما ذكر _ من لزوم تكيّف الهواء عليه _ فباطل ، وقد أشار عليه السلام إلى وجه بطلانه بقوله : (وهو المُقَدِّرُ له ...) . وتوضيحه : أنّه إذا كان من المعلوم أنّه تعالى هو المقدّر الهواء بما هو أحسن تقديرا ، فالهواء حادث ، وهو تبارك وتعالى قديم ، كانَ ولا هواء ؛ فلا لزوم . ثمّ لمّا أرادَ عليه السلام أن يبيّن له معنى ما يجب أن يعتقد الذي كان السائل يعلمه مجملاً ، وأراد منه عليه السلام البيان والتوضيح ، وهو الحضور في كلّ مكان وعدم جواز التحوّل والانتقال ، قال عليه السلام : (وَاعْلَمْ أنّه إذا كانَ ...) ، أي ليس المراد بأنّه في السماء الدنيا أنّه ليس على العرش ، وكذا العكس ، ولا منافاة فيه ، إنّما تحصل المنافاة في نظير هذا بالنسبة إلى المخلوق المفتقر إلى المكان الذي لا يجوز عليه الحلول في مكانين مرّة واحدة . ثمّ نَبَّهَ عليه السلام على الدليل على أنّ حضوره في كلّ مكان على السويّة من غير حركة وانتقال وتحوّل بقوله : (والأشياءُ كُلُّها له سَواءٌ) ، أي إنّ الأشياء كلّها متساوية في علمه وقدرته وملكه وإحاطته ، فلو لم يكن كذلك اختلف ؛ لأنّه على هذا يكون علمه بما هو حاضر عنده أقوى وأكثرَ بالنسبة إلى ما هو غائب عنه ، وهكذا القدرة والملك والإحاطة . والاختلافُ باطل ؛ للزوم التغيّر والتبدّل في الصفات التي هي عين الذات اللازمِ منه حدوثها ؛ تعالى اللّه عمّا لا يليق به علوّا كبيرا ، واللّه أعلم بمقاصد أوليائه عليهم السلام .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص125_ 126 ، ح3 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص126 ، ح4 .
3- . لم يأت له جواب .
4- . كذا في بعض نسخ الكافي ، وفي الكافي المطبوع وبعض نسخ أُخرى للكافي «يتكنّف» . وتَكَنَّفه ، أي أحاط به . انظر : التعليقة للداماد ، ص307 ؛ الوافي ، ج1 ، ص404 ؛ الصحاح ، ج4 ، ص1424 (كنف) .

ص: 608

. .

ص: 609

في حديث ابن أُذينة (1)قوله تعالى : « مايَكُونُ مِنْ نَجْوى » (2) . في القاموس : والنجوى : السرّ كالنجيّ ، والمسارّون اسم ومصدر . (3) قوله عليه السلام : (هو واحِدٌ واحِدِيُّ الذاتِ) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه تعالى واحدٌ واحديّ الذات ، أي لا اختلاف في ذاتيّاته ، بل وحدانيّته من جميع الجهات ، والخلق ليسوا كذلك ؛ لأنّه وإن كان كلّ منهم بانفراده واحد ، إلاّ أنّ ذاتيّات كلّ واحد منهم مختلفة ، فليست وجد فهم حقيقة إنّما هي بالنسبة إلى الجموع . (4) إذا تبيّن هذا ، فهو تعالى (بَائنٌ مِنْ خَلْقِه) ، أي مباين لهم . ف «مِنْ» جارّة متعلقة باسم الفاعل ، وهو أولى من كونه (5) فعلاً ؛ لدلالته على التحدّد والحدوث ، وهي ليست حادثة ، (وبِذاكَ وَصَفَ نَفْسَه) لقوله تعالى : « لَيْسَ كَمِثْلِهِى شَىْ ءٌ » (6) . فظهر من هذا الكلام الشريف أنّه ليس المراد برابعهم وسادسهم أنّه مساوٍ لهم ، كما هو مفهوم من مثل هذا الكلام لو استعمل بالنسبة إلى المخلوق ؛ لأنّ معنى رابعُ ثلاثةٍ جاعلُ الثلاثة بنفسه أربعةً ، أي جاعل هذا الجنس _ الذي أفراده ثلاثةٌ _ أربعةً ، وذلك لثبوت المبانية ؛ بل المراد به الإحاطة ، فأتى عليه السلام بما هو دليل لهذا البيان ، وهو قوله تعالى : « إِنَّهُو بِكُلِّ شَىْ ءٍ مُّحِيطُم » (7) . ثمّ لمّا كان المراد بالإحاطة غيرَ معلوم ، قال عليه السلام : (بِالإشْرافِ وَالإحاطَةِ) ، أي إنّ إحاطته ليست كإحاطة الأجسام بعضِها ببعض ، بل هي الإشراف والإحاطة ، أي باطّلاعه على الأشياء وعلمه بها ، وإحاطة ذلك الاطّلاع والعلم بجميع جزئيّاتها . قوله : (والقُدْرَةِ) أي وبإحاطة قدرته جميع الأشياء بحيث لا يعجزه شيء . ثمّ تلا عليه السلام قوله تعالى الدالَّ على أنّ علمه وقدرته شاملة جميع الأشياء « لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَ_اوَاتِ وَ لاَ فِى الْأَرْضِ وَ لاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرُ » (8) ، أي لا يغيب ولا يذهب عنه ، بل كلّها مَحصيّة معلومة له ، ثمّ فسّر الإحصاء الدالّ عليه هذه الآيةُ الشريفة أنّه بالإحاطة والعلم لا بالذات . ثمّ استدلّ على ذلك بقوله عليه السلام : (لأنَّ الأماكِنَ مَحدودةٌ) أي إنّ الأشياء كلّها محتاجة إلى المكان ، والأماكنُ كلّها من حيث المجموع محدودة (تَحويها حدودٌ أربعةٌ) والمكان أيضا داخل في الأشياء ، فلوكانت الإحاطة بالذات ، لزم أن يكون المكان حاويا للذات الحاوية ، كما هو حاوٍ للذات المحويّة ، فيلزم منه أن يكون له مكان ؛ وقد برهن في الأحاديث السابقة على تنزيهه عنه . والحاصل : أنّه نفى عنه تعالى بهذا الدليل كونه له ذاتا (9) مشابهة لذات الأشياء التي حواها علمه وقدرته . في قوله : « الرحمن على العرش استوى » (10)

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص126 ، ح5 .
2- . المجادلة (58) : 7 .
3- . القاموس المحيط ، ج4 ، ص393 (نجا) .
4- . كذا . والعبارة في الأصل مشوّشة لاتقرأ .
5- . أي «باين» . كأنّه قيل : العبارة هكذا : «بايَنَ مَنْ خَلَقَهُ» .
6- . الشورى (42) : 11 .
7- . فصّلت (41) : 54 .
8- . سبأ (34) : 3 .
9- . كذا ، والصحيح : ذات . والعبارة لابدّ وأن تكون هكذا : نفى عنه تعالى بهذا الدليل أن يكون له ذات مشابهة ... .
10- . طه (20) : 5 .

ص: 610

. .

ص: 611

باب العرش والكرسي

في حديث الحسن بن موسى الخَشّاب (1) قوله عليه السلام : (اسْتَوى على كلِّ شَيْءٍ ...) . لمّا كان هنا سؤالان : الأوّل عن وجه تخصيص الاستواء بكونه على العرش ، والثاني عن معناه ، أجاب عليه السلام أوّلاً بأنّه استوى على جميع الأشياء . ولا يلزم من الإخبار باستوائه على العرش عدمُ استوائه على غيره ، ثمّ قال : (فَلَيْسَ شَيْءٌ أقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ شَيْء) أي ليس معنى الاستواء على الشيء هنا العلوّ كما هو بالنسبة إلينا ، بل المراد استيلاء علمه وقدرته [على] جميع الأشياء بحيث لا يكون شيء أقرب إليه بالنسبة إلى آخر ، بل الجميع متساوية في علمه بها وقدرته عليها ؛ وهكذا الحديث الآخر . وفي الحديثين الآخرين بيان لهذا البيان ، واللّه أعلم .

باب العرش والكرسيّفي حديث أحمد بن محمّد البرقي (2) قوله عليه السلام : (اللّه ُ عَزَ وجَلَّ حامِلُ العرشِ والسماواتِ والأرضِ وما فيهما ...) . لمّا كان حمل اللّه الأشياء بمعنى إمساكها وحفظها عن التلف والزوال وهو ليس كحملنا ، أجابَه عليه السلام بأنّه يحمل العرش وغيره من السماوات والأرض وجميع ما فيهما لا غيره . وقرينة إرادة الإمساك من لفظ الحمل ما استشهد به عليه السلام ، وإلاّ لم يصلح شاهدا . ثمّ لمّا سأله السائل عن معنى قوله تعالى : « وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَ_ل_ءِذٍ ثَمَ_انِيَةٌ » (3) لما فيه بحسب الظاهر من المنافاة ، أجابَه عليه السلام بما مضمونه أنّ بين الحمل في كلامه عليه السلام _ الذي يجوز إطلاقه عليه تعالى _ والحملِ في الآية اشتراك لفظيّ لا معنويّ (4) ؛ فإنّ الأوّل بمعنى الإمساك ، والثانيَ بمعنى التحمّل . وبَيَّنَ عليه السلام أنّ العرش المحمول هو العلم الذي هو جزء العرش ، وبَيَّنَ أنّه تعالى خلقه من أنوار أربعة ، فيكون من باب إطلاق الكلّ وإرادة الجزء ، والمجوّزُ كونُه أعلى الأفراد . قوله عليه السلام : (فبِعَظَمَتِه ونورِه أبْصَرَ قلوبُ المؤمنينَ ...) . «قلوب» مرفوع على الفاعليّة ، أي إنّ العظمة والنور الذي هو العلم إبصارُ قلوب المؤمنين بسببه لا لتباسها به ، وأيضا معاداة الجاهلين بسببه لخلوّهم منه ، وأيضا بسببه ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة ؛ لأنّ حصول الابتغاء إنّما يكون بعد حصول العلم . فقوله : «وهو العلم» بيان للنور الأبيض ، ويحتمل أن يكون المراد بالنور في قوله : «فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين» النورَ الأبيضَ الذي فسّره بالعلم ؛ وفي قوله : (وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون) النورَ الأصفرَ ، وفي قوله : (وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض ...) النورَ الأخضرَ والأحمرَ ، ليكون من ابتغى بالدين الحقّ مبتغيا بالنور الأخضر ، ومن ابتغى بالدين الباطل مبتغيا بالنور الأحمر ، فيكون النشر على ترتيب اللفّ ، بقرينة تقدّم الحقّ على الباطل ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام : (فكلُّ محمولٍ يحْمِلُهُ اللّه ُ ...) . جملة «يحمله اللّه » صفة «محمول» و«لا يستطيع» الخبر ، أي إذا تحقّق أنّه تعالى ممسك الأشياء وأنّ جميعها في قبضته ومنقادة لإرادته يفعل ما يشاء ويحكم مايريد ، فاعلم أنّ اللازم من هذا أنّ كلّ محمول موصوف بأنّ اللّه يحمله _ أي يمسكه (بنورِه وعظمتِه وقدرتِه) ، أي جميع الأشياء ؛ لأنّها كلّها موصوفة بهذه الصفة _ (لا يَستطيعُ لنفسه ضَرّا ولا نَفعا ولا مَوتا ولا حَياةً ولا نشورا) ، لعجزه وافتقاره ؛ فعلم أنّ كلّ شيء محمول ؛ لأنّه مفتقر ، وكلّ مفتقر حادث ، والحادث يحتاج إلى محلّ ومكان يستقرّ فيه ، وأنّ «اللّه تبارك وتعالى هو الممسك لهما» ، أي للحامل والمحمول من الزوال ، «والمحيط بهما» بالقدرة والعلم «من شيء» ، أي من أن يطرأ عليهما شيء بغير إرادته وعلمه . ويظهر من هذا الكلام الشريف الدليلُ على أنّه تعالى حاملاً لا محمولاً (5) ؛ لأنّ كلّ حامل سواه مفتقر إلى حفظه وإمساكه ، فهو حادث ، واللّه تعالى قديم مستغن عنه . وفي قوله عليه السلام : « سُبْحَ_انَهُو وَ تَعَ_الَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا » (6) تنبيه عليه ، ويصرّح به آخر الحديث وهو قوله عليه السلام : (وكَيْفَ يَحْمِلُ حَمَلَةُ العرشِ [اللّه َ] ...) . قوله عليه السلام : (وَلَيْسَ يَخرُجُ عن هذه الأربعةِ) . الظاهر _ واللّه أعلم _ أنّ الإشاره إلى الأنوار .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص127 ، ح6 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص129 ، ح1 .
3- . الحاقة (69) : 17 .
4- . كذا ، والصحيح : «اشتراكا لفظيا لا معنويا» .
5- . كذا ، والصحيح : «حامل لا محمول» .
6- . الإسراء (17) : 43 .

ص: 612

. .

ص: 613

في حديث صفوان بن يحيى (1) قوله عليه السلام : (كلُّ محمولٍ مفعولٌ به ، مُضافٌ إلى غيرِه ...) . لمّا سأله السائل عن أنّه هل يقرّ بأنّ اللّه محمول ؟ أجابه عليه السلام بالدليل على عدم الإقرار من أوّل مرّة ؛ لأنّ السائل لم يكن من مواليه عليه السلام حتّى يقنع بالجواب عن الدليل ، فقال: إنّ المحمول مفعول به مضاف إلى الغير ، وهو الحامل ؛ والمضافُ محتاج إلى المضاف إليه ، وإلاّ لم يكن مضافا ، واللّه تبارك وتعالى لا يوصف بعجز واحتياج . ثمّ استدلّ عليه السلام بدليل آخر حاصله أنّ اللّه تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى ، والمحمول صفة «نقصٍ» فليس منها ، فليس من أسمائه . وثالثا : إنّ أسماءه تعالى كلّها توقيفيّة ، موقوفة على تسمية نفسه بها ، (ولم يَقُلْ في كُتُبه : إنَّه المحمولُ ، بل قال : إنّه الحاملُ في البرِّ والبحرِ والمُمْسِكُ ...) ، والمحمول غير الحامل ؛ فلهذا قال عليه السلام : (والمحمولُ ما سوى اللّه ِ) . ثمّ لمّا كان يمكن أن يقال : لا يلزم أن تكون أسماؤه تعالى كلّها مذكورةً في الكتب ، بل يكفي إخبار الصادق عليه السلام بها ، قال عليه السلام : (ولم يُسْمَعْ) بالبناء للمفعول . (أحَدٌ آمَنَ باللّه العظيم (2) قَطُّ قالَ في دعائه : يا مَحمولُ) . أي لو وقع الإخبار لشاع ودُعي به ؛ لأنّ الدعاء علّة لخلق الأسماء ، وهو لا يحصل [إلاّ بها] . قوله عليه السلام : (العرشُ ليس هو اللّه َ) . لمّا توهّم السائل من الآيتين أنّ اللّه تعالى محمول ، أجابه عليه السلام أنّ المحمول هو العرش ، لا هو تعالى . ثمّ فسّر العرش بقوله : (والعرشُ اسمُ عِلْمٍ وقدرةٍ ...) . وفي هذا دليل على أنّ العلم جزء العرش ، وأنّ المراد بقوله في الحديث السابق : «وهو العلم» أنّ النور الأبيض هو العلم ، واتّضح معنى قوله فيه : و «بعظمته ونوره عاداه الجاهلون» أي بقدرته ، بمعنى أنّه لم يكن عاجزا عن جبرهم على محبّته . وهكذا تمام الحديث ؛ واللّه أعلم . قوله عليه السلام : (ثمّ أضافَ الحَمْلَ إلى غيرِه خِلْوا (3) من خَلْقه ...) . أي ثمّ اعلم أنّه أضاف الحمل إلى غيره الذي هو الخلق حالَ كونه خلوا من خلقه الحاملين ، أي جعلهم منفردين بحمله (لأنّه استَعْبَدَ خَلْقَه بحَمْلِ عَرْشِه) ، والعرش العلم وهو مخلوق ، (هم) ، أي الخلق (حَمَلَةُ عِلْمِه) ، أي العلمِ الذي خلقه لأنْ يحمله الخلق ، و «خَلْقا يسبّحونه» ، أي ينزّهونه ويقرّون له بالعبوديّة ، (وهم يَعْلَمونَ بعِلْمِه) ، أي إنّ علمهم مخلوق خلقه اللّه تعالى ، (وملائكته (4) يَكْتبونَ أعمالَ عبادِه) ، أي إنّ هذا العلم الذي أودعهم اللّه إيّاه جعل عليه حُرّاسا من الملائكة لئلاّ يضيعوه ، فإذا تحقّق أنّ حامل هذا العلم مستعبد وأنّه مخلوق وأنّ حملته مفتقرون مأمورون بحفظه ، وأنّ عليهم حرّاسا لحفظ ذلك العلم ، عُلم قطعا أنّ حمل هذا العلم مخصوص بالمخلوقَ . وليتذكّر أنّ حمل اللّه جميع الأشياء بمعنى الحفظ والإمساك ، وهو مناف لحمل الخلق لئلاّ يرد ما يرد . قوله عليه السلام : (واسْتَعْبَدَ أهلَ الأرْضِ للطوافِ (5) حَوْلَ بَيْتِه) . أي وأيضا هو تعالى استعبد أهل الأرض للطواف حول البيت الذي خلقه اللّه تعالى واصطفاه ، فكما أنّ الطواف مخصوص بالخلق فكذلك الحمل ؛ لأنّ كلاًّ منهما استعباد . قوله عليه السلام : (والعرشُ ومَن يَحمِلُه ومَن حَوْلَ العرشِ) . معطوفات ، والعرش معطوف على «أهل الأرض» ، أي واستعبد العرش ومن يحمله ومن حول العرش ، مثل ما استعبد أهل الأرض وحملة العرش . وقوله عليه السلام : (واللّه ُ على العرشِ اسْتوى ، كما قال) . جملةٌ معترضة ، أي معنى الاستواء المفهوم من الآية الشريفة ما قاله وهو الإمساك والحفظ الدالّ على قوله عزّ وجلّ : « إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَ_اوَاتِ وَ الْأَرْضَ ... » (6) . وإنّما أتى بها معترضةً تمهيدا لما سيذكر ، لئلاّ يتوهّم أنّ الاستواء بمعنى الكينونة حتّى يرد أنّهم إذا كانوا حاملين للعرش كانوا حاملين ما عليه . قوله عليه السلام : (واللّه ُ الحاملُ لهم) . لمّا دلّ هذا الكلام الشريف على أنّ جميع الأشياء مخلوقة ، عُلم أنّه لابدّ لها من حافظ وممسك ، فقال عليه السلام : «واللّه الحامل لهم» ، فغلب من يعقل على غيره . وقوله عليه السلام : (الحافِظُ لهم ، المُمْسِكُ لهم (7) ...) بيان للحامل . قوله عليه السلام : (ولا يُقالُ : مَحْمولٌ) . أي إذا علم أنّه الخالق والممسك لا غيره ، فلا يقال : إنّه محمول ؛ لأنّه الحامل على الإطلاق . قوله عليه السلام : (ولا أسْفَلُ قولاً مفردا لا يُوصَلُ بشيءٍ) . أي ولا يقال : إنّه أسفل من دون ضمّ شيء عن أضداده إليه ؛ لأنّه إذا قيل منفردا فسد اللفظ والمعنى ؛ وذلك لأنّه إذا ضمّ إليه الضدّ كان معناه أنّه الحاضر في كلّ مكان ، وهو من الأسماء الحسنى ، فيصلح اللفظ والمعنى ، بخلافه مع عدم الضميمة ، فإنّه اسمُ نقصٍ لا يصلح كونه من الأسماء الحسنى . قوله عليه السلام : (كيف تَجتَرِئُ أنْ تَصِفَ ربَّك بالتغيير ...) . أي لازم التصديق بهذه الرواية وصف اللّه تعالى بالتغيير ، فكيف تجترئ على وصفه بهذه الصفة ، وتصدق الرواية ، والحال أنّه تعالى (لم يَزُلْ مع الزائلين) ، أي إذا زالت الأشياء كلّها فهو باق ، (ولم يَتَغَيَّرْ مع المتغيّرين ، ولم يَتَبَدَّلْ مع المُتبدِّلينَ) . والحاصل أنّ تغيّر اللّه تبارك وتعالى باطل محال ، ومفهوم هذه الرواية يدلّ عليه ، فهي مردودة مكذّبة . وفي قوله : (وهو غَنِيٌّ عمّن سِواهُ) تنبيهٌ على دليل عدم جواز التغيّر عليه تعالى ؛ لأنّ كلّ متغيّر محتاج .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص130 ، ح2 .
2- . في الكافي المطبوع : «وعظمته» بدل «العظيم» .
3- . في الكافي المطبوع : «خَلْقٍ» .
4- . في الكافي المطبوع : «وملائكةً» .
5- . في الكافي المطبوع : «بالطواف» .
6- . فاطر (35) : 41 .
7- . في الكافي المطبوع : - «لهم» .

ص: 614

. .

ص: 615

. .

ص: 616

. .

ص: 617

في حديث الفُضيل بن يَسار (1)قوله عليه السلام : آخر الحديث : (وكلُّ شيءٍ في الكرسيّ) . لمّا دلّ قوله عليه السلام : إنّ كلّ شيء في الكرسيّ هو السماوات والأرض ، أنّ كلّ الأشياء فيه ؛ لأنّها كلّها في السماوات والأرض ، فإذا كانت فيه كان كلّ شيء فيه ، أراد عليه السلام أن ينبّه عليه صريحا وينبّه على أنّ كلّ الأشياء في السماوات والأرض ، فقال : «وكلّ شيء في الكرسي» ، أي ليس شيء من الأشياء خارجا عنه وغير داخل فيه .

في حديث أبيحمزة (2) قوله عليه السلام : (والعرشُ : العلمُ) . جملةٌ مفسّرة للعرش ، معترضة بين المبتدأ والخبر ؛ واللّه أعلم .

في حديث داود الرِّقّي (3) قوله عليه السلام : (ولَزِمَه أنَّ الشيءَ الذي يَحمِلُه أقوى مِنْه) . هذا دليل على بطلان كونه محمولاً .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص132 ، ح3 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص132 ، ح6 .
3- . الكافي ، ج1 ، ص132 ، ح7 .

ص: 618

باب جوامع التوحيد

باب جوامع التوحيدفي خطبة أمير المؤمنين عليه السلام (1) قوله عليه السلام : (الصَمَدِ المُتَفَرِّدِ) . لمّا كان الصمد بمعنى المقصود ، وكان من لوازم الحكيم المقصود قضاءُ حاجة من قصده إمّا بنفسه أو بإعانة غيره ، نَبَّهَ عليه السلام على أنّه تعالى متفرّد في قضاء حوائج المحتاجين من دون شريك ولا معين ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لكان محتاجا ، فلا يكون المقصودَ على الإطلاق . قوله عليه السلام : (لا مِنْ شيءٍ كان ، ولا مِنْ شيءٍ خَلَقَ ما كانَ) . المراد ما فسّره به عليه السلام في قوله : «وهذه الخطبة ...» ويحتمل أن يكون من كلام المصنّف أو الراوي . قوله في تفسيره : (فنَفى بقوله : «لا مِنْ شيء كانَ» معنى الحدوثِ) . وذلك لأنّه لوكان كونه حادثا لكان من شيء ، أي كان صادرا من شيء ؛ ضرورة افتقار الحادث إلى مؤثّر وخالق ، فهو تعالى قديم ، فقوله : «لا من شيء» دالّ على قدمه ، ولا يخفى كون «لا من شيء» خبر «كان» . قوله في تفسيره : (وكيف أوْقَعَ على ما أحدَثَه صِفَةَ الخَلْقِ والاختراعِ بلا أصْلٍ ولا مِثالٍ) . «كيف» مفعول «ترون» مقدّرة معطوفة على «ترون» الأوّل ، أي وألا ترون كيفيّة إيقاعه على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ، فإنّه قال : «لا من شيء» . قوله في التفسير : (نفيا لقولِ مَن قالَ ...) . الحاصل : أنّه لمّا كانت الثنويّة تقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى خلق الأشياء من أصل قديم ، فلا يكون تدبير «إلاّ باحتذاء مثال» ، أي باقتداء بمثال ، وكان دليلهم على ذلك قولَهم : «لا يخلو من أن يكونَ الخالِقُ خلَق الأشياءَ مِنْ شيءٍ ، أو مِنْ لا شيء» ، فهو إحالةٌ ، أي قول بالمحال ؛ لأنّ «لا شيء» عدمٌ محض ، فلا يكون مصدرا وعلّة مادّيّة لشيء ؛ فلزم أن يكون من شيء . وأمّا القول بأنّه قديم ؛ فذلك لأنّه لوكان حادثا ردّد فيه الكلام كما فعل ، فيلزم التسلسل أو الدور ، ردّ عليه السلام عليهم ، ونفى ماردّدوا الكلام فيه ، فقال : «إنّما خلق الأشياء لا من شيء» ، فأدخل النفي على «مِن» ، فنفى الشيء ، وترديدُهم إنّما كان يتمّ بعد القول بأنّه خلق من شيء ، وأنّ ذلك هو شيء أو لا شيء . والحاصل : أنّ خَلْقه تعالى الأشياء لا بشرط ، فانتفى كونه بشرط شيء أو بشرط لا شيء . والدليل على أنّه لا من شيء أنّه لو كان من شيء ، فإمّا أن يكون ذلك الشيء حادثا أحْدَثَه الخالق عزّ وجلّ ، أو قديما ؛ والثاني باطل ؛ للزوم تعدّد القدماء ، وقد برهن على استحالته . والأوّل ننقل الكلام إلى ما حدَث منه حتّى يلزم كونه حادثا لا من شيء . وجميع ما ذكرته يظهر من كلامه عليه السلام بعد التأمّل . فقوله عليه السلام : «ما كان» ، أي جميع ما تكوّن ووجد . وقوله عليه السلام : (قدرةٌ بانَ بها من الأشياء) . لما كانت قدرته تعالى قدرة ظهرت بسببها الأشياء ؛ لأنّها السبب في حدوث الأشياء اختراعا وابتداعا من غير أصل ولا مادّة ، فهي كالسبب ؛ لبُعْدِه وتنزهّه عن مشابهة الأشياء . قوله عليه السلام : (وبسببها (2) بانت الأشياء منه) . أي بعدت عن مشابهته ؛ لأنّ الأشياء كلّها عاجزة مفتقرة . قوله عليه السلام : (فَلَيْسَتْ له صفةٌ تُنالُ) أي إذا ظهر مباينته لجميع الأشياء، علم أنّه تعالى ليست له صفة تنال ؛ لأنّ صفات الشيء إنّما تدرك وتعلم بالمشاهدة أو بالمشابهة ، والمشاهدة غير جائزة ، وكذلك المشابهة ، فبانتفاء السبب ينتفى المسبّب . قوله عليه السلام : (ولا حَدٌّ تُضرَبُ (3) فيه الأمثالُ) . أي ودلّت (4) عدم مشابهته للأشياء على نفي هذا الحدّ الخاصّ أيضا عنه ؛ لأنّه فرع المشابهة ، لا الحدّ مطلقا ؛ لأنّ له تعالى حدّ (5) وكيفيّة مباينة لجميع الحدود والكيفيّات ، لا يعلمها سواه تعالى ؛ فلهذا خصّصه . قوله عليه السلام : (كَلَّ دونَ صفاتِه تحبيرُ اللغاتِ) . «كلّ» أي أعيا ، و «تحبير كلّ شيء» : تحسينه ، أي أعيت عن إحصاء صفاته اللغاتُ الحسنة ؛ لإفادة الجمع المعرّفِ العمومَ . قوله عليه السلام : (وضَلَّ هُناك) . أي دون صفاته تعالى . وإنّما أتى بإشارة البعيد لبُعْد صفاته تعالى عن الأوهام . قوله عليه السلام : (وحالَ دونَ غَيْبِهِ المكنونِ حُجُبٌ من الغيوبِ ، تاهَتْ في أدنى أدانيها طامِحاتُ العقولِ في لطيفاتِ الأُمورِ) . أي إنّ كون العقول الطامحة في الأُمور اللطيفة تاهت في إدراك أدنى أداني بعض غيوبه التي أظهرها لبعض أنبيائه ومن اجتباهم من خلقه دليلٌ على عدم إمكان إدراك الغيوب المكنونة على الإطلاق . وهذا أيضا كالسبب ؛ لأنّ العجز عن إدراك الأظهر كالسبب (6) للعجز عن إدراك الأخفى ، ف «حجب» فاعل «حالَ» ، و «من الغيوب» صفته ، والجارّ في لطيفات الأُمور متعلّق ب «طامحات» ، و «طمح في الطلب» ، أي أبعد ، وكلّ مرتفع طامح . قوله عليه السلام : (فَتَبارَكَ (7) الذي لا تَبْلُغُه (8) بُعْدُ الهِمَمِ) . في القاموس : الهمّة _ بالكسر وتفتح _ ما همّ به من أمر ليفعل (9) ، أي لوذهبت الهمم كلَّ مذهب وبعدت ، لا تبلغه ولا تصل إلى كنه صفاته ؛ فالمراد ببعد الهمم تباعدها ، أو الهمم البعيدة ، أي الطالبة لفعل الأشياء البعيدة الحصول . قوله عليه السلام : (ولا تَنالُه (10) غَوْصُ الفِطَنِ) . «الغوص» : النزول تحت الماء ، أي لوغاصت جميع الفطن في بحار الأفكار ما نالته بوصف تقف عليه ولا تتجاوزه . قوله عليه السلام : (وتَعالَى اللّه ُ (11) الذي لَيْسَ له وَقْتُ مَعْدودٌ) . يعني أنّه سبحانه وتعالى لا يشغله شاغل ، ولا يلهبه شيء ، ولا يتغيّر بشيء ، فهو في جميع الأوقات يسمع من دَعاه ، ويُجيب المضطرّ ، ويَكشف الضرّ ، ليس له وقت معدود لأفعاله كما هو لسائر المخلوقات . قوله عليه السلام : (سبحانَ الذي ليس له أوّلٌ مُبْتَدَأٌ ...) . إنّما فسّر الأوّل المنفيّ عنه بالمبتدأ ، والغاية بالمنتهى ، والآخر بكونه يفنى ؛ لأنّ الأوّل والآخر بغير هذا المعنى يطلق عليه تعالى كما تقدّم . قوله عليه السلام : (سبحانه و (12) هو كما وصف نفسه) . قال عزّ وجلّ: «لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_ارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَ_ارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » (13) . وقد تقدّم ت فسيره ، وأنّ المراد بالأبصار الأوهام . قوله عليه السلام : (حَدَّ الأشياءَ كُلَّها عند خَلْقِه ...) . أي لمّا خلق اللّه تبارك وتعالى الأشياء جعل لكلّ واحد واحد منها حدّا وعلامة (إبانةً لها مِنْ شِبْهِه) ، أي إبعادَ التوهّم أنّها مشابهة له ، (وإبانةً له من شِبْهِها) ، أي لأجل أن ينزّه من شبهها ، لا فيها من الدلائل الظاهرة الدالّة على احتياجها وافتقارها إلى خالق ومدبّر . ثمّ لمّا كان لفظ الإبانة يوهم الانفصال بعد الاتّصال قال عليه السلام : (فلَمْ يَحْلُلْ (14) فيها ، فيقالَ : هو فيها كائنٌ ...) . ثمّ لمّا أوهم نفي الكون فيها وعدم البعد عنها أنّ له مكانا آخر قريبا منها قال عليه السلام : (لم يَخْلُ منها ، فيقالَ له : أينَ ، لكنّه سبحانه أحاطَ بها علمُه ...) . فبيّن أنّ المراد بالخلوّ عنها وعدم البعد الخلوّ عنها وإحاطة علمه وقدرته بها ، لا ما يسبق إلى بادئ الرأي من هذه الألفاظ . قوله عليه السلام : (لكلّ شَيْءٍ منها حافظٌ ورقيبٌ) أيإنّ كلّ شيء من الأشياء له حافظ ورقيب . ثمّ بيّن بقوله : (وكلُّ شَيْءٍ منها بِشيءٍ محيطٌ) أنّ ذلك الحافظ هو من الأشياء المخلوقة ، وأنّه تعالى خَلَقَ جميع الأشياء خَلْقا يَحتاجُ كلّ منهم في بقائه وتأثيره الأثر الذي قدّره اللّه له إلى الآخر . ثمّ بيّن عليه السلام أنّ المحيط العالم بجميع الأشياء القادر الخالق لها هو اللّه تبارك وتعالى بقوله : (والمحيطُ بما أحاطَ منها الواحدُ الأحدُ الصَمَدُ ...) . وإنّما خصّ الإحاطة بالأشياء المحيطة في قوله : «والمحيط بما أحاط» ، أي بالذي أحاط ؛ لأنّ جميع الأشياء موصوفة بهذا الوصف مجملاً ، كما بيّنه عليه السلام ؛ ولأنّ المحيط بالمحيط محيطٌ بالمحاط أيضا . قوله عليه السلام : (ولا يَتَكَأّدُهُ صُنْعُ شيءٍ) . أي إنّه تعالى ليس يحتاج في خلق الأشياء وإيجادها إلى تعب وإلحاح في السعي كما يحتاج إليه المخلوق «إِنَّمَآ أَمْرُهُو إِذَآ أَرَادَ شَيْ_ئا أَن يَقُولَ لَهُو كُن فَيَكُونُ» (15) . قوله عليه السلام : (ابْتَدَعَ ما خَلَقَ بلا مِثالٍ سَبَقَ ...) . استدلّ عليه السلام على أنّ خلقه الأشياء من غير تعب ولا نَصَب بأنّ المحتاج إلى ذلك من اقتدى في خلقه مثالاً وصورة مسبوقة على الخلق ، وأمّا اللّه تعالى فإنّه خلَق الأشياء من دون مثال وصورة مسبوقة حذا حَذْوَها . ثمّ لمّا كان لفظ الصانع والعالم يطلق على غيره سبحانه ، نَبَّهَ عليه السلام على الفرق فقال : (وكلُّ صانعِ شيءٍ فمِنْ شيءٍ صَنَعَ ...) أي إنّ صنع غيره لابدّ وأن يكون من شيء ، بخلاف صُنعه تعالى ، فإنّه ابتداع ، وعلمه تعالى قديم غير مسبوق بالجهل . ثمّ لمّا كان ربّما يقال : إنّ العلم لابُدَّ له من معلوم ، وجميع المعلومات حادثة ، فكيف يكون العلم قديما ؟! قال عليه السلام : (أحاطَ بالأشياء عِلْما قبلَ كَوْنِها) . فنبّه على أنّه لا ملازمة بين العلم والمعلوم في الوجود الخارجي ، بل هو بالأشياء التي لم تقع إنّما يكون بالاستدلال عليه بالحادث الموجود ، كقولنا مثلاً : هذه الشجرة ظهر نورها ، وكلّ شجرة ظهر نورها تثمر غالبا ، فهذه الشجرة تثمر . فحصول العلم بأنّ هذه الشجرة تثمر حصل من التفكّر في هذا الحادث ، وهو النور ، وعلمه تعالى ليس كذلك ؛ لأنّه كان قبل جميع الكائنات . ثمّ لمّا كانت أفعالنا توصف بالإصابة والخطأ _ أي بإصابة ما قصدنا فعل الشيء له ولتحصيله ، أو عدمِها _ وكان عدم فعلنا الشيء القادرين على فعله غير المنهيّين عنه ، والممنوعين منه لشبهة تدخل علينا فيه ، أخبر عليه السلام بالمباينة بين صفتنا وصفته ، فقال : (أصابَ ما خَلَقَ ، ولا شُبْهَةٍ دَخَلَتْ عليه فيما لم يَخْلُقْ) . قوله عليه السلام : (وخَصَّ نفسَه بالوحدانيّة) أي لم يخلق شيئا يكون واحدا من جميع الجهات . قوله عليه السلام : (واسْتَخْلَصَ المجد (16) والثناء) أي اتّصف باستحقاق المجد والثناء خالصا من مشاركة شريك فيه والمجدُ : نيل الشرف والكرم . القاموس . (17) قوله عليه السلام : (فليس له فيما خَلَقَ ضِدٌّ ...) . لمّا كان من لوازم المشاركة في المُلك المجاورةَ ، فنفي المجاورة يدلّ على نفي المشاركة ، لكنّ الإمام عليه السلام لمّا أراد أن ينبّه على لزومهما ، ويصرّح بأنّه تعالى ليس له ضدّ ولا ندّ ولا شريك ، قال : «فليس له ...» ، واللّه أعلم بمقاصد أوليائه عليهم السلام .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص134 ، ح1 .
2- . في الكافي المطبوع : - «بسببها» .
3- . في الكافي المطبوع : + «له» .
4- . كذا ، والصحيح : «دلّ» .
5- . كذا ، والصحيح : «حدّا» .
6- . والمراد هو السبب في الإثبات ، دون الثبوت .
7- . كذا في بعض نسخ الكافي وشرح المازندراني والوافي ، ج1 ، ص427 . وفي الكافي المطبوع وبعض نسخ أُخرى للكافي : + «اللّه » .
8- . في الكافي المطبوع : «لا يبلغه» .
9- . القاموس المحيط ، ج4 ، ص192 (همم) .
10- . في الكافي المطبوع : «لا يناله» .
11- . كذا في التوحيد للصدوق ، ص 41 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 3 . وفي الكافي المطبوع وكثير من نسخه : - «اللّه ».
12- . في الكافي المطبوع : - «و» .
13- . الأنعام (6) : 103 .
14- . هكذا في كثير من نسخ الكافي ، وفي الكافي المطبوع : «لم يحلل» .
15- . يس (36) : 82 .
16- . كذا في بعض نسخ الكافي ، وفي كثير من نسخ الكافي والمطبوع : «بالمجد» .
17- . القاموس المحيط ، ج1 ، ص336 (مجد) .

ص: 619

. .

ص: 620

. .

ص: 621

. .

ص: 622

. .

ص: 623

. .

ص: 624

في حديث إبراهيم (1) (إنّ اللّه َ تبارك اسمُه) . تبارك اللّه تقدَّس وتنزَّه صفةٌ خاصَّة باللّه ، فالمراد بتبارك الاسم _ واللّه أعلم _ دلالته على تقدّس المسمّى وتنزّهه ، أي أسماؤه تعالى كلّها حسنة . قوله عليه السلام : (وتعالى ذِكْرُه) . يحتمل أن يكون المراد بالذكر القرآنَ ، أو الصيتَ والثناء والشرف ، أو الحفظ للأشياء ، أو دعاءه ومناجاته ؛ فإنّه أحسن شيء نطق به ، وباقي الصفات مرّ تفسيرها في الأحاديث السابقة ، وأنّ صفاته تعالى مباينة لصفاتنا ، إنّما الاشتراك في اللفظ دون المعنى . قوله عليه السلام : (لأنّه بالكيفيّةِ لا يُتَناهى إليه) _ بالبناء للمفعول _ تعليلٌ لقوله : (يَعْجِزُ الواصفونَ عن كُنْهِ صِفَتِه ...) وذلك لأنّه إنّما يمكن الوصول إلى العلم بالأشياء بعد العلم بكيفيّاتها ، فطُرُق الوصول منحصرة في العلم بالكيفيّة ، وهو محال ؛ فالوصول محال .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص137 ، ح2 .

ص: 625

في حديث الفتح بن يزيد الجُرجاني (1) قوله عليه السلام : (وإنَّ الخالِقَ لا يُوصَفُ ...) . لمّا حذّر عليه السلام عن سخط الخالق ، ونهى عن فعل ما يسخطه ، نَبَّهَ على فرد من أفراده لمزيد الاهتمام به ؛ لأنّ الناس كثيرا ما يفعلونه معتقدين جوازه ، مصرّين عليه ، فكان أحقّ بالتنبيه ؛ ولأنّه أعظم مُسخط . قوله عليه السلام : (إذ هو مُنْقطعُ الكيفوفة والأينونة (2) ) أي إنّ الكيفوفة والأينونة _ أي كون الشيء له كيف وله أين _ صفةٌ تصدق على كلّ فرد فرد من الأشياء ، فإذا وصلت إليه تعالى انقطعت عن الصدق عليه .

في حديث محمّد بن أبيعبداللّه (3) قوله عليه السلام : (ولكن رأتْه القلوبُ بحقائق الإيمانِ) . أي بالأشياء الحقّة التي لابدّ في الإيمان من معرفتها والتصديق بها حتّى يكون المؤمن مؤمنا . ولا يخفى كون «رأى» هنا بمعنى «علم» بقرينة «القلوب» . ثمّ بيّنها عليه السلام بقوله : (إنّ ربّي لطيفُ ...) ، فقوله : «إنّ ربّي لطيف اللطافة» ، أي لطافته _ بمعنى نفاذ علمه وقدرته في الأشياء _ لطيفةٌ ، أي لا يمكن إدراكها . ولمّا كان معنى اللطف في المخلوق الصغرَ والقلّةَ ، نَبَّهَ عليه السلام على تنزّهه تعالى عنه ، فقال : (لا يوصف باللطف) . وتمام الحديث بيان لمباينة معاني صفاته الحسنة صفاتِ المخلوق ، وأنّ الاشتراك إنّما هو في اللفظ فقط . قوله عليه السلام : (و (4) بِتَشْعيرِهِ ...) . وذلك لأنّها جميعا حادثة ، وهي خَلْق من خَلْقه ، وهو تعالى قديمٌ منزّهٌ عن الاحتياج إلى الحوادث . قوله عليه السلام : (وبتَجْهيره الجواهرَ ...) . أي بسبب إظهاره جميع الجواهر _ بدلالة «ال» _ مِنْ كَتْمِ العدم إلى الوجود علم أنّه لا جوهر له ؛ لسَبْقه وتقدّمه عليها . قوله عليه السلام : (وبمُضادَّتِه بينَ الأشياء عُلم أنّه (5) لا ضِدَّ له) . الضدّان شيئان بينهما غاية الخلاف ، أي خَلْقه جميع الأشياء متضادّةً دالٌّ على تمام قدرته ، ومَن كان هكذا فمعلوم أنّه لا ضدّ له ؛ لأنّه لوكان له ضدّ لما كان متّصفا بتمام القدرة . ولا يخفى أنّ المراد بالضدّ الثاني المضادّ والمناوي . قوله عليه السلام : (وبمُقارنته بين الأشياء ...) . وذلك أيضا لدلالته على تمام القدرة التي يستدلّ بها على عدم القرين ، وقد مثَّل لهما بقوله : (ضادَّ النورَ بالظلمة ...) . قوله عليه السلام : (دالَّةً بتفريقِها على مُفرِّقِها) . وذلك لأنّه لوكانت تقتضي ذلك بنفسها كما ذهب إليه الدهريّة ، للزم منه اتّفاقها في جميع الأشياء ؛ لأنّ العلّة حينئذٍ واحدة ، ولا إرادة متعدّدة ولا قدرة ولا اختيار ، فتفرّقها في الصفات والأحكام دالّ على أنّ لها مفرِّقا وصانعا قادرا مختارا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . قوله عليه السلام : (ففَرَّقَ بين قَبْلٍ وبَعْدٍ ...) . أي خلق الأشياء متغيّرة متبدّلة ، ففرق بين قبلها وبعدها ، كالإنسان في نشوه وتبدّله من التراب إلى اللحم والدم ، ومنه إلى الرفات والرميم ، وهكذا جميع صفاته ، وقس عليه الأشياء ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، أي إنّ قبله ليس غير بعده ، بل هو الأوّل والآخر ؛ وذلك لأنّ تغيّرها يدلّ على حدوثها ، وحدوثها على احتياجها إلى صانع غير متّصف به ، لئلاّ يلزم الدور أو التسلسل ، وهو اللّه لا سواه . قوله عليه السلام : (شاهِدَةً بغرائزها أن لا غريزةَ لمُغْرِزِها) . الغريزة : الطبيعة ، أي إنّ جميع الأشياء شاهدة بسبب أنّ لها غريزةً أنّ مغرزها _ أي الذي جعل لها غريزة ، وخلق الغريزة _ لا غريزة له ؛ لعلمها بأنّ الغريزة خَلْق من خَلْقه وأنّه تعالى سابق عليها ؛ ضرورة تقدّم العلّة على المعلول ، فلا يكون متّصفا بها . وهذا صريح في أنّ لكلّ شيء من الأشياء طبيعةً من الطبائع ، وأنّها غيره ، فانتفى وجودٌ مجرّد عن جميع الأشياء سواه تعالى ؛ فليتأمّل . قوله عليه السلام : (مُحَبِّرَةً (6) بتوقيتِها أن لا وَقْتَ لموقِّتِها) . تحبير كلّ شيء : تحسينُه ، أي دالّة بأحسن دليل بسبب أنّ لها وقتا أنّ موقّتها وخالق وقتها لا وقت له ، بالدليل الذي تقدّم . وهكذا قوله : (حَجَبَ بعضَها عن بعضٍ ...) . لأنّ الحاجب مخلوق حجب بين مخلوقين . وقوله عليه السلام : (كانَ ربّا ...) دليلٌ على جميع ما تقدّم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص137 ، ح3 .
2- . في الكافي المطبوع : «الكيفوفيّة والأينونيّة» .
3- . الكافي ، ج1 ، ص138 ، ح4 .
4- . في الكافي المطبوع : - «و» .
5- . في الكافي المطبوع : «عرف أن» بدل «علم أنّه» .
6- . في الكافي المطبوع : «مخبرة» .

ص: 626

. .

ص: 627

في حديث إسماعيل بن قُتَيْبَةَ (1) قوله عليه السلام : (الدالِّ على وجودِه بخَلْقِه ...) . أي وجود الخلق الحادث دالٌّ على أنّ له خالقا ، فقد دلَّ الوجود عليه تعالى ، وكذا دلَّ كون كلّ حادث محتاجا إلى علّة على قدمه ، وهو ظاهر . قوله عليه السلام : (المُسْتَشْهدِ) . الظاهر أنّه بالبناء للمفعول . قوله عليه السلام : (والحِجابُ بينَه وبينَ خَلْقه ...) . أي كون جميع المرئيّات _ التي يمكن مشاهدتها وتتمكّن في الذوات ، أي يصدّق بها بعد تصوّرها _ مخلوقةً دالّةٌ على أنّه تعالى منزّه عن أن يرى ؛ لأنّه ممتنع من هذه الممكنات . قوله عليه السلام : (أزَلُهُ نُهْيَةٌ لمَحاوِلِ (2) الأفكارِ) . «النهية» بالضمّ : اسمٌ من نهى ، ضدّ أمر وغاية الشيء وآخره كالنهاية ، وحاولت له بصري : حدّدته ؛ القاموس . (3) والمعنى _ واللّه أعلم _ أنّ من حدّد فكره وأنعم النظر ، فغاية فعله العلم بأنّه تعالى أزليّ ؛ أو أنّ كونه أزليّا ينهى محاول الأفكار ومحدّدها عن الوقوف له تعالى على صفة من صفات المخلوقين ؛ أو لأنّ جميع الصفات متغيّرة بالشدّة والضعف والزوال والتغيّر ، وهو ينافي الأزليّة . ويحتمل كون «محاول» جمْعَ مَحالة ، وهي البكرة العظيمة ؛ فليتأمّل . قوله عليه السلام : (ودَوامُه رَدْعٌ لطامِحاتِ (4) العقول) . أي إنّ العقول لا تصل إلى كنه صفاته تعالى ؛ لأنّ كلّ ما تدركه زائل ، وهو تعالى دائم ، فداومه هو المانع من الوصول إلى كنهه . قوله عليه السلام : (قد حَسَرَ كنْهُهُ نوافِذَ الأبصارِ) . حسر البصر بمعنى كَلَّ وانقطع ، وهو لازم ، وحسر البعير ساقه حتّى أعياه كأحسر المتعدّي ، وهو المناسب هنا ، أي إنّ الأبصار النافذة حسرت وأعيت من الوصول إلى كنهه . والمراد بالأبصار _ واللّه أعلم _ الأوهام . قوله عليه السلام : (فَمَنْ وَصَفَ اللّه َ فقد حَدَّهُ ، ومَنْ حَدَّهُ فقد عَدَّهُ ...) . وذلك لأنّ الحدّ لا يكون إلاّ بذكر جميع الذاتيّات ، ومن أثبتها له بزعمه فقد أثبت له تعدّدا ، ولا يجوز تعدّد القدماء ؛ لما برهن عليه ، ولا يجوز كون الشيء قديما وذاتيّاته حادثة ، فلزم من الحدّ العدّ ، ومن العدّ إبطال القدم ؛ تعالى اللّه عمّا يقولون علوّا كبيرا . قوله عليه السلام : (ومن قال : أين ، فقد عيّاه (5) ) . أي إنّ المستفهم بهذا الكلام لابدّ وأن يكون اعتقاده أنّ له مكانا حتّى يسأل عنه ، ومن قال : إنّ له مكانا ، فقد عيّاه ، أي أثبت له العيّ ، وهو العجز ؛ لأنّ الاحتياج إلى الشيء إنّما يكون للعجز عن الاستغناء عنه ، وظاهر أنّ اعتقاد عجزه كفر . قوله عليه السلام : (ومن قال : على ما (6) ، فقد أخلى منه) . أي من سأل عن استيلائه أنّه على أيّ شيء ؟ فقد أخلا منه ، أي جوّز خلوّ بعض الأشياء عن استيلائه وتسلّطه ؛ لأنّ تخصيص الاستفهام ببعض الجزئيّات يقتضي التصديق الإجمالي واعتقاد مثل هذا أيضا كُفْرٌ . قوله عليه السلام : (ومن قال : فيم ، فقد ضَمَّنَه) . أي اعتقد مجملاً أنّه في ضمن شيء ، وهو باطل بالضرورة . وقد نبّهوا عليهم السلام أيضا على بطلان هذا وأمثاله في الأحاديث السابقة .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص139 ، ح5 .
2- . هكذا في بعض نسخ الكافي ، وفي كثير من نسخ الكافي والمطبوع : «لمَجاوِل» . و «المَجاوِل» جمع مَجْوَل ، وهو مكان الجولان وزمانه .
3- . القاموس المحيط ، ج2 ، ص1756 (نهى) .
4- . «الطامحات» جمع الطامح ، وهو كلّ مرتفع . يقال : طمح بصرُه إلى الشيء ، أي ارتفع إليه . الصحاح ، ج1 ، ص388 (طمح) .
5- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «غيّاه» ، أي جعل له نهايةً ينتهي بها إلى إنّيّته . راجع الحاشية على أُصول الكافي للنائيني ، ص458 .
6- . كذا في الوافي ، ج1 ، ص436 . وفي الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «عَلامَ» .

ص: 628

. .

ص: 629

. .

ص: 630

في حديث فَتح بن عبداللّه (1) قوله عليه السلام : (وكذلك يُوصَفُ رَبُّنا) . أي حدّه تعالى غير ممكن ، لكن من أراد وصفه فله أن يصفه كذلك ، والإشارة إلى قوله عليه السلام : (عالم إذ لا معلوم ...) . ثمّ لمّا كان هذا الكلام يوهم في بادئ الرأي أنّ وصفه تعالى مطلقا منحصر في مثل هذا ، قال عليه السلام : (وفوقَ ما يَصِفُه الواصِفونَ) .

في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام (2) (الذي لم يَلِدْ فيكونَ (3) مُشارَكا) . يحتمل كون «مشارك» اسمَ مفعول؛ لأنّ عزّ الآباء عزّ الأبناء؛ أو اسمَ فاعل، أي فيكون مشاركا لخلقه في عزّهم المخصوص لهم ؛ لأنّ العزّ عندهم بالمال والبنون . قوله عليه السلام : (ولم يُولَدْ ...) . وذلك لأنّ من يولد حادث ، والحادث لابدّ له من التغيّر والزوال . قوله عليه السلام : (ولم تَقَعْ عليه الأوهامُ ، فتُقَدِّرَهُ شَبَحا ماثِلاً) . أي ذا مثال ، أي مقدار ؛ أو ذو (4) مثل . وفيه _ بقرينة الفاء _ دلالة على أنّ كلّ ما يقع عليه الوهم لابدّ وأن يكون شبحا ذا مقدار . (5) قوله عليه السلام : (ولم تُدْرِكْهُ الأبْصارُ ، فيكونَ بعد انتقالِها حائلاً) . الحائل : المتغيّر . والحاصل : أنّه قد تقرّر أنّ صفات الذات لازمة لا يجوز سلبها في بعض الأوقات وإثباتها في آخَرَ ؛ للزوم التغيّر ، وثبت بالدليل أنّ الواجب تعالى لا يجوز عليه التغيّر ، وقد استدلّ على أنّه تعالى «لم تدركه الأبصار» بما حاصله أنّ مايدركه البصر يكون مدركا حالَ إداركها ، غيرَ مدرك حالَ انتقالها منه إلى شيء آخر ، فيكون موصوفا بالإدراك وعدمه ، ولا يجوز اتّصافه تعالى بمثل هذه الصفة لما تقرّر . قوله عليه السلام : (الذي بَطَنَ عن خَفيّاتِ الأُمورِ ، فظَهَرَ (6) في العقول (7) ) . أي الذي علم بالأشياء الباطنة من الأُمور الخفيّة التي لم تتعقّل حتّى تعدّ في المعقولات ، وعلم بالأشياء الظاهرة التي تعدّ في المعقولات وإن كان بالنسبة إلى بعض المخلوقات ؛ لأنّه يصدق عليه أنّه معقول . ثمّ بيّن عليه السلام سبب علمنا بأنّ علمه تعالى شمل الباطن والظاهر بقوله : (بما يُرى في خَلْقِه من علاماتِ التدبيرِ) فهذا دالّ على المطلوب . قوله عليه السلام : (فلم تَصِفْه بِحَدٍّ ولا بنَقْصٍ (8) ، بل وَصَفَتْه ...) . أي إنّ حدّه لا يعلمه أحد سواه تعالى حتّى الأنبياء ، فلهذا لم يصفوه به ، وأيضا لم يصفوه بصفة نقص ؛ لأنّ له الأسماء الحسنى «بل وَصَفَتْه بِفعالِهِ» ولا شكّ في حسن جميعها ويدلّ عليه أيضا نفي وصفه بالنقص وإثبات وصفه بالفعال . قوله عليه السلام : (ودَلَّتْ عليه بآياته) . لا يخفى أنّ المراد الآيات والعلامات التي خلقها ليستدلّ بها العبادُ على وحدانيّته وعلمه وقدرته ؛ لأنّه تعالى ليس له آية وعلامة كما للمخلوقات . قوله عليه السلام : (لا تَستطيعُ عقولُ المفكّرين (9) جَحْدَه) . الظاهر _ واللّه أعلم _ أنّ المراد : لا تستطيع عقول المفكّرين إنكارَ قدرته ؛ بقرينة قوله عليه السلام : (فلا مَدْفَعَ لقُدرتِهِ) فيكون من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم . قوله عليه السلام : (الذي نَأى من الخَلْقِ) . أي الذي بَعُدَ وتَنَزَّهَ عن مشابهة الخَلْق ، وإذا كان كذلك فلا شيء كمثله . قوله عليه السلام : (وأقْدَرَهُم على طاعَتِه بما جعَل فيهم) من العقل الذي هو أعظم معين ، وغيره من القوى البدنيّة والماليّة . ثمّ لمّا أراد عليه السلام بيان عدم إمكان معرفته بغير ما وصف به نفسه وكان ذلك يحصل إمّا بالحدّ أو بمعرفة المثل _ سواء كانت بالحدّ أو بالرسم أو بالمشاهدة _ نفى عنه الحدّ والمثل ، فقال : (ليس له حَدٌّ ينْتَهى إليه (10) حَدّه ...) . والحدّ في الأصل الحاجز بين شيئين ، وإنّما سمّي التعريف بالذاتيّات حدّا لمنعه عن دخول الغير فيه ، والحدّ : المنع ، أي ليس له حدّ من الحدود المعروفة التي يمكن تصوّرها المشتملة على جميع ذاتيّات الشيء المانعة بصدقها دخول الغيرفيه . قوله : «ينتهي إليه حدّه» ، أي منع ذلك الحدّ . فإن قيل : هذا الكلام إنّما يدلّ على نفي الحدّ الموصوف بكونه ينتهي إليه منعه ، لا نفي الحدّ مطلقا . فالجواب : أنّ الحدّ إذا لم يكن كذلك فليس بحدّ . فإن قيل : فحينئذٍ ما الفائدة في وصفه بهذه الصفة إذا كان كذلك ؟ قلنا : الفائدة دفع توهّم كونه مجازا في الوصف مطلقا ، أو للتنبيه على دليل نفي الحدّ عنه . قوله عليه السلام : (ذَلَّ مَنْ تَجَبَّرَ غيره) . «غير» مرفوع على البدليّة من الموصول ، وإنّما أتى بالفعل بصيغة الماضي لإفادة تحقّق وقوعه ، فكأنّه واقع ، أي إنّ كلّ جبّار لابدّ له من أن يذلّ سواه تعالى . قوله عليه السلام : (أتْقَنَ ما أرادَ مِنْ خَلْقِه ...) بيانٌ للحكيم العليم ، فقوله : (من الأشْباحِ كُلِّها) بدل من قوله : «من خلقه» ، وإنّما أتى به للدلالة على أنّه تعالى خالق جميع الأشياء . والشَبَحَ _ محرّكا_ : الشخص . القاموس . (11) قوله عليه السلام : (ولا لُغُوبٍ ...) . «اللغوب» _ بضمّ اللام وفتحها_ : الإعياء ، أي ليس خلقه الخلق منه لاحتياج إليهم عند خلقهم ، فالظرف متعلّق ب «دخل» ، والضمير عائد إلى «الخلق» . ولمّا بيّن أنّ الأشياء المخلوقة لم تكن مسبوقة بمثال ، وأنّه تعالى لم يكن محتاجا ، أراد أن يبيّن أنّه تعالى خلَقها وأنشأها على وفق ماشاء وأراد ، وأنّ العلّة الغائيّة راجعة إليهم ، فقال : (ابْتَدَأَ ما أرادَ ابتداءَه ...) . فقوله عليه السلام : (لِيَعْرِفوا بذلك ربوبيّتَه ، وتَمَكَّنَ) أي تتمكّن (12) (فيهم طاعَتُه) أي إنّما خلقها لطاعته حتّى يستحقّوا الثواب الجزيل ، وجعل خلقهم دليل معرفته ، أي جعل في خلقهم دلائل تدلّ على معرفته ؛ وذلك لأنّ الحكيم لابدّ وأن تكون أفعاله محكمة متقنة ، وخلقهم للطاعة والعبادة يقتضي أن يعرّفهم نفسه ، فجعل خلقهم الذي هو سبب لإيصال النفع إليهم دليلاً على معرفته التي لا يحصل النفع إلاّ بها ، فالطاعة علّة غائيّة لمعرفة الربوبيّة ، وهي علّة غائيّة للخلق ، فالطاعة علّة للخلق ؛ لأنّ علّة علّة الشيء علّةٌ للشيء . قوله عليه السلام : (فَأنْجِعوا بما يَحِقُّ عليكم من السمعِ والطاعةِ ...) . أي إذا علمتم ذلك فأفلحوا وفوزوا بفعل ما يحقّ ويجب عليكم فعله من السمع والطاعة ، أي من سماع ما يصل إليكم والعمل به ، و (إخلاصِ النصيحة) لمن استنصحكم في أمر الدين والدنيا ، (وحُسْنِ المؤازَرَةِ) ، أي وتحسين حمل بعضكم ثقل الآخر ، وإعانته بما يستصوبه من الرأي . (وأعِينوا على أنْفُسِكم) . أي على نجاتها بلزوم الطريقة المستقيمة التي أمر اللّه تعالى باتّباعها ، وهي طريقة الفرقة الناجية الاثني عشريّة ، وهجر الأُمور المكروهة التي نهى اللّه ورسوله عنها . (وتَعاطَوُا الحقَّ بينَكم ، وتعاوَنوا به دوني) . أي وأعينوني على دفع ما تكرهونه بتعاطي الحقّ ، ولا تكلوا أمره إليّ . (وخُذُوا على يَدِ الظالمِ السفيهِ) . أي وامنعوا السفيه عن تلف أمواله ، فالسفيه بدل من الظالم ؛ لأنّه ينصرف في أمواله بغير الحقّ ، فيظلمها ويظلم نفسه .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص140 ، ح6 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص141 ، ح7 .
3- . في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : + «في العزّ» .
4- . كذا ، والصحيح : «ذا» .
5- . فانتفى وجودٌ مجرّد عن جميع العوارض سواه تعالى (منه) .
6- . كذا في قليل من نسخ الكافي و الوافي ، ج1 ، ص439 . وفي كثير من نسخ الكافي والمطبوع : «وظهر» .
7- . كذا في كثير من نسخ الكافي والمطبوع ، وفي بعض نسخ الكافي والوافي ، ج1 ، ص439 : «المعقول» .
8- . كذا في التوحيد للصدوق ، ص31 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح1 . وفي الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «ببعضٍ» . واختار النائيني في حاشيته : «بنغض» وقال : «النغض : الحركة ، فإنّه سبحانه لا يتحدّد بحدّ ، ولا ينتقل من حال إلى حال ، فلا يصحّ وصفه بشيء منها» . الحاشية على أُصول الكافي ، ص463 .
9- . في الكافي المطبوع : «المتفكّرين» .
10- . في الكافي المطبوع : «إلى» .
11- . القاموس المحيط ، ج1 ، ص230 (شبح) .
12- . أي حذفت إحدى التاءين .

ص: 631

. .

ص: 632

. .

ص: 633

. .

ص: 634

باب النوادر

باب النوادرفي حديث الحارث بن المغيرة (1) قوله عليه السلام : (إنّما عَنى بذلك وجهه (2) الذي يُؤْتى منه) . أي الوجه الذي يتقرّب إليه به ، فالمعنى _ واللّه أعلم _ أنّ جميع الأشياء تهلك وتفنى ، إلاّ طاعة اللّه وعبادته وامتثال أوامره ونواهيه ؛ لأنّ التقرّب لا يحصل إلاّ بها ، فهي وجهه الذي يؤتى منه ، ولا ينافيه قولهم عليهم السلام الدالُّ على أنّهم وجه اللّه ؛ لأنّ المراد أنّ طاعتهم عليهم السلام وجه اللّه ؛ لأنّه لاشكّ في فنائهم الدالِّ عليه صريح القرآن وكلامهم عليهم السلام ؛ وذلك لأنّ الطاعة والعبادة وامتثال الأوامر والنواهي لا تتمّ إلاّ بطاعتهم ، فلا شكّ في أنّه لا يمكن التقرّب إلى اللّه تعالى إلاّ بطاعتهم ، فهم وجهه الذي يؤتى منه . وكذلك يدلّ عليه قوله عليه السلام في الحديث الذي بعد هذا : (مَنْ أتَى اللّه َ بما أُمِرَ به مِنْ طاعةِ محمّدٍ صلى الله عليه و آله ، فهو الوجهُ الذي لا يَهْلِكُ) (3) ، فحصر الإتيان فيما أُمر به ، وفسّره بطاعة محمّد صلى الله عليه و آله ، ولا ريب في أنّ طاعتهم عليهم السلام طاعته ، وأنّها لاتتمّ إلاّ به ، كما أنّ طاعة اللّه لاتتمّ إلاّ بطاعة الرسول ، فمن أطاعهم فقد أطاع الرسول ، ومن أطاع الرسول فقد أطاع اللّه ، ومن أطاع اللّه تقرّب إليه ، وهو الوجه الذي لا يفنى ، بل يبقى أجره ذخيره لليوم الآخر ؛ نسأل اللّه التوفيق .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص143 ، ح1 .
2- . في الكافي المطبوع : «وجه اللّه » بدل «وجهه» .
3- . الكافي ، ج1 ، ص143 ، ح2 .

ص: 635

في حديث سَلام النحّاس (1) قوله عليه السلام : (ونحن وَجْهُ اللّه ِ الذي يَتَقَلَّبُ (2) في الأرضِ بين أظْهُرِكُمْ) . أخبر عليه السلام أنّهم وجه اللّه الذي يؤتى منه ويطاع به ، ويبقى أجره وثوابه عند فناء جميع الأشياء . ثمّ نبّه بقوله : «يتقلّب في الأرض ...» على سهولة الوصول إليه والفوز به وعدم تعسّره ، وإنّما قال : «بين أظهركم» ، ولم يقل : «بين أيديكم» ونحوه ، للدلالة على أنّ أكثر الناس غير متوجّهين إليهم ، فهم غير متوجّهين إلى طاعة اللّه . قوله عليه السلام : (ونَحْنُ عينُ اللّه ِ في خَلْقه) . المعنى _ واللّه أعلم _ : نحن عين خلق اللّه ، أي أشرفهم في خلقه . وقوله عليه السلام : (ويَدُهُ المبسوطَةُ ...) . أي سببها ؛ لأنّ الرحمة لا تستحقّ إلاّ بطاعته ، وهي لاتتمّ إلاّ بطاعتهم ، فهم سبب للرحمة . وقوله عليه السلام : (عَرَفنا مَنْ عَرَفنا ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ : عرف وجه اللّه من عرفنا ، فمن طلبه بعد معرفتنا فهو طالب للمعلوم ، فلا ريب في تحصيله إيّاه ، وجهل وجه اللّه من جهلنا ، فطالبه يكون طالبا للمجهول ، فلا يهتدي إليه أبدا . قوله عليه السلام : (وإمامةَ المتّقين) . أي ونحن قصد المتّقين ، أي مقصودهم ، فالمصدر هنا بمعنى المفعول .

.


1- . كذا في بعض نسخ الكافي ، وفي المطبوع وبعض نسخ أُخرى للكافي : «النخّاس» . والرجل مجهول لم نعرفه . وهذا الحديث في الكافي ، ج1 ، ص143 ، ح3 .
2- . في الكافي المطبوع : «وجه اللّه نتقلّب» .

ص: 636

في حديث حَمزة بن بَزيع (1) قوله عليه السلام : (لكنّه خَلَقَ أولياءَ لنفسِه يأسَفونَ ويَرْضَوْنَ) . «الأسف» : أشدّ الحزن ، وأسف عليه : غضب ؛ القاموس (2) . والمراد ب «يأسفون» هنا _ واللّه أعلم _ يغضبون بقرينة «ويرضون» ويمكن أن يكون المعنى يحزنون ويرضون ، أي يصبرون على ما أحزنهم ولا يضجرون . وعلى الأوّل يكون المراد أنّهم كسائر الخلق في الاتِّصاف بالغضب والرضا إلى غيره من الصفات ، لكنّهم يعصمون أنفسهم عن كلّ ما لا يرضيه ، ولا يفعلون إلاّ ما يرضيه . قوله عليه السلام : (لكنْ هذا معنى ما قالَ من ذلك) . أي ليس المراد بأمثال هذا إضافةَ المبارزة والمحاربة ، والطاعة والمتابعة إلى نفسه _ أي أثرها يصل إلى اللّه كما يصل إلى خلقه _ بل معناه هو الذي قلناه ، وهو أنّه تعالى «خلق أولياء لنفسه» ، أي شرّفهم واجتباهم على سائر الخلق «يأسفون ويرضون وهم مخلوقون» ، أي والحال أنّهم مخلوقون مُرَبَّون ، أي لهم ربّا (3) يعبدوه (4) ويقرّون له بالربوبيّة . «فجعل رضاهم رضا نفسه ...» . ثمّ أراد عليه السلام أن يذكر بعض ما قاله تبارك وتعالى من أمثال هذا تبيينا وتوضيحا ، فقال : (وقد قال : من أهانَ لي وليّا ...) . ثمّ ذكر عليه السلام دليلاً على عدم جواز كون إضافة هذه الأشياء إلى نفسه حقيقة ، فقال : (ولو كانَ يَصِلُ إلى اللّه ِ عزَّ وجَلَّ الأسَفُ والضَّجَرُ ...) . وحاصله : أنّ هذه الصفات متضادّة لا يجوز اتّصاف الشيء بها مرّة واحدة ، فلابدّ وأن يكون المتّصف بأحدها غيرَ متّصف بالآخَر حين اتّصافه به ، فالمتّصف بها متغيّر ، وكل متغيّر لا يمتنع إبادته وزواله ، فلا يبقى فرق بين المكوَّن والمكوِّن ، ولا بين القادر والمقدور ، ولا بين الخالق والمخلوق ، فيلزم كون الخالق مخلوقا ، فيحتاج إلى خالق ، فلا يكون هو الخالقَ للأشياء كلّها ؛ واللّه تبارك وتعالى متعالٍ ومنزّه عن هذا القول ، بل هو الخالق للأشياء كلّها ، فهو منزّه عن التغيّر ، فلا يكون متّصفا بشيء من موجباته . قوله عليه السلام : (لا لِحاجَةٍ ، فإذا كانَ لا لِحاجَةٍ استَحالَ الحَدُّ والكيفُ فيه ، فَافْهَمْ إنْ شاءَ اللّه ُ) . أي إنّ خلقه للأشياء ليس لحاجة ؛ لأنّ اللّه سبحانه وتعالى منزّه عن الاحتياج ، فإذا كان اللّه تعالى مستغنيا غيرَ محتاج ، استحال الحدّ والكيف ؛ وذلك لأنّ الحدّ إنّما يكون بجنس الشيء وفصله ، وكلّ ما له جنس وفصل فهو محتاج إليهما لا يتقوّم إلاّ بهما ، فكلّ محدود محتاج ، وهو تعالى منزّه عن الاحتياج ، فلا يكون محدودا ، وكذا الكيف ؛ لأنّ كلّ مكيّف بكيفيّة فهو محتاج إليها .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص144 ، ح6 .
2- . القاموس المحيط ، ج3 ، ص117 (أسف) .
3- . كذا ، والصحيح : «ربّ» .
4- . كذا ، والصحيح : «يعبدونه» .

ص: 637

في حديث عليّ بن سُوَيْد (1) قوله عليه السلام : (وكذلك ماكانَ بعدَه من الأوصياء بالمكانِ الرفيعِ) . «ما» نكرة موصوفة حذف صفتها وأُقيم صلتها _ وهو «كان» _ مُقامَه ، وإنّما أتى بها نكرة للدلالة على التعظيم ؛ لما فيها من الإبهام ، «ومن» للتبعيض ، والباء للظرفيّة متعلّقة ب «كان» ؛ فليفهم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص145 ، ح9 .

ص: 638

باب البداء

في حديث زُرارة (1) قوله عليه السلام : (حيثُ يَقولُ) متعلّق ب «خلطنا» .

باب البداءالذي يفهم من هذه الأحاديث الشريفة أنّ معنى الإقرار بالبداء هو الإقرار بأنّ اللّه سبحانه وتعالى قادرٌ مختارٌ ، لا يمنعه حكمه بشيء ولا إرادته لشيء عن فسخ ذلك الحكم وإرادة غير ما أراد ، وأنّ علمه تعالى كان في الأزل متعلّقا بما يغيّر ويبدّل ، لئلاّ يلزم حدوثه ، ثمّ الإقرار بأنّ ذلك إنّما يكون قبل إمضاء ما قضى لا بعده ؛ لأنّه ليس من صفات الحكيم العالم بعواقب الأُمور المتقِن لما فعل بما فعل ، وإنّما وجب الإقرار بذلك لأنّه لاريب في أنّه تعالى يثيب على الطاعة ، والثوابُ حادث ؛ لحدوث علّته وهي الطاعة ، ويجازي على المعصية وهي أيضا كذلك ، وإلاّ امتنعا أن يكونا سببا لمسبّبيهما ، مثلاً يطيل العمر بصلة الرحم ، فهو سبب لذلك ، ولا تتحقّق الزيادة إلاّ بعد تحقّق النقيصة ، وهو معنى البداء . ولا منافاة في تعلّق علمه تعالى بهما في الأزل ، وقد حقّق عمّي _ مدّ اللّه ظلّه _ هذا المبحثَ في كتابه المسمّى ب «الدرّ المنثور» فمن أراده فعليه الوقوف عليه .

في حديث زرارة بن أعين (2) قوله عليه السلام : (ما عُبِدَ اللّه ُ بشيءٍ مِثْلِ البَدَاء) . المعنى _ واللّه أعلم _ : ما أقرّ أحد للّه بالعبوديّة وأنّه المعبود على الإطلاق بشيء مثل البداء ؛ لأنّه إذا أقرّ به يكون عابدا لمتّصف هذه الصفات ، وهو اللّه تعالى ، وإذا أقرّ بغيرها يكون عابدا لمن ليس متّصفا بهما ، فلا يكون عابدا للّه ، وهكذا قوله عليه السلام في الحديث الذي بعده : (ما عُظِّمَ [اللّه ُ] بِمِثْلِ البداء) ؛ لأنّ التعظيم بغير البداء ليس تعظيما في الحقيقة ؛ لأنّ في إنكاره إثبات (3) للعجز ، وهو مناف للتعظيم ؛ فليتأمّل .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص146 ، ح11 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص146 ، ح1 .
3- . كذا ، والصحيح : «إثباتا» أو «إثباتَ العجز» .

ص: 639

في حديث هِشام بن سالم (1) قوله عليه السلام : (وهل يُمْحى إلاّ ما كانَ [ثابتا] ، وهل يُثْبَتُ إلاّ ما لم يَكُنْ) . هذا الاستفهام إنكار على من ينكر البداء ، ومعناه أنّ المحو لايكون إلاّ لما كان ، فقد كانَ شيء فمحي وأُثبت غيرُه . وأيضا لا يصدق على شيء أنّه أُثبت إلاّ بعد كونه معدوما وغير مثبت ، فكونه متجدّد (2) بعد أن لم يكن ، وهو معنى البداء .

في حديث محمّد بن مسلم (3) (وأنَّ اللّه َ يُقَدِّمُ ما يَشاءُ ويُؤخِّرُ ما يَشاء) . أي ويأخذ عليه الإقرار بأنّه يقدّم ما يشاء الذي كان قضى عليه التأخير ، ويؤخّر ما يشاء الذي كان قضى عليه التقديم ؛ بقرينة أنّ التقديم لا يكون إلاّ من متأخّر ، والتأخيرَ لا يكون إلاّ من متقدّم .

في حديث حُمْران (4) (هما أجَلانِ : أجَلٌ مَحتومٌ ، وأجَلٌ موقوفٌ) . يأتي في حديث الفضل ما حاصله أنّ للّه علمان (5) : علم مخزون عنده يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، وعلم علّمه الملائكة والرسل ، وهو لابدّ من أن يكون ، فالأجل الموقوف من العلم المختصّ به فهو موقوفٌ على فعل العبد وعلى مصلحته ، يزيد وينقص بإحسانه وإساءته ، وأجلٌ محتومٌ ، وهو الذي علمه المخلوق ، وهو الذي يؤول إليه الأمر من الزيادة والنقصان بالإحسان والإساءة ؛ واللّه أعلم ، وهذا أيضا دليل للبداء .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص146 ، ح2 .
2- . كذا ، والصحيح : «متجدّدا» .
3- . الكافي ، ج1 ، ص147 ، ح3 .
4- . الكافي ، ج1 ، ص147 ، ح4 .
5- . كذا ، والصحيح : «علمين» .

ص: 640

في حديث مالك الجهني (1) قوله عليه السلام : (لا مُقدَّرا ولا مُكوَّنا) . أقول : التقدير والتكوين والمشيئة والإرادة وأمثالها من صفات الفعل ، وهي حادثة ، ففسّر عليه السلام قوله تعالى : « وَلَمْ يَكُ شَيْئا » (2) بقوله : «لا مقدّرا ولا مكوّنا» ، فالإخبار عن الحالة _ التي هي قبل هذا _ من المخلوقين . ثمّ فسّر عليه السلام قوله تعالى : « لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا » (3) بقوله : (كان مقدّرا غير مذكور) أي كان مقدّرا غير مكوّن ؛ لأنّ كلّ مكوّن مذكور . والفرق بين الآيتين أنّ الشيء في الأُولى باق على إبهامه ، وفي الثانية مخصَّص بالوصف .

في حديث الفُضيل بن يَسار (4) قوله عليه السلام : (عِلْمانِ) . لا يتوهّم من هذا تعدّد العلم ؛ لأن التعدّد بالنسبة إلى علم الملائكة والرسل به وعدمه ، لا إلى ذات العلم .

في حديث عَمرو بن عثمان الجُهَني (5) قوله عليه السلام : (إنّ اللّه َ لم يَبْدُ له من جَهْلٍ) . لمّا كانت الأشياء التي يبدو لنا فعلها إمّا لتجدّد متعلّقها ، أو لحدوثه قبلها وجهلنا باحتياجه إلى هذا الفعل ، فرّق عليه السلام بين الاتّصافين ، وأشار إلى أنّ ما يبدو له موافق لما تقتضيه الحكمة من غير تأخّر من وقته ولا سهو وغفلة عنه . وأيضا فيه إشارة إلى أنّ سبب حدوث الأشياء التي تبدو له بعد أن لم يكن حدوث مقتضاها ، وهو احتياج الشيء إليها واستحقاقه لها عند حدوثها ؛ لأنّه لو تقدّم لزم سبق المعلول على العلّة ، ولمّا كان بيِّنَ البطلان لم ينبّه عليه ، ولو تأخّر فالتأخّر من الحكيم سببه منحصرٌ في الجهل والغفلة ، وهو تعالى منزّهٌ عنه ، فلهذا قال : «لم يبد له من جهل» .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص147 ، ح5 .
2- . مريم (19) : 67 .
3- . الإنسان (76) : 1 .
4- . الكافي ، ج1 ، ص147 ، ح6 .
5- . الكافي ، ج1 ، ص148 ، ح10 .

ص: 641

في حديث مالك الجهني (1) قوله عليه السلام : (ما فَتَرُوا عن الكلامِ فيه) . أي ما سكنوا أو ما ضعفوا ؛ لأنّ محبّة الشيء تورث حدّة وخفّة في تحصيله .

في حديث مُعَلّى بن محمّد (2) قوله عليه السلام : (عَلِمَ وشاءَ ، وأرادَ وقَدَّرَ ، وقَضى وأمْضى) . لمّا سئل عليه السلام عن كيفيّة علمه تعالى _ وكانت كيفيّات العلم مختلفةً ؛ لأنّ العلم قد يتعلّق بفعل العالم ومشيئته وإرادته وقَدَره وقضائه ، وقد يتعلّق بأفعال غيره كلِّها أو بعضِها _ أخبر عليه السلام أنّ جميع الأشياء التي يتعلّق علمه بها مخلوقة له ، فهو تعالى «أمضى ما قضى ، وقضى ما قدّر ، وقدّر ما أراد» . ثمّ لمّا كان هذا الكلام الشريف غيرَ دالّ صريحا على أنّ علمه تعالى بما شاء أزليّ ، وأنّ جميع هذه الأشياء منحصرة فيه ، قال عليه السلام : (فبعِلْمِه كانَتْ المشيئةُ) أي علمُه تعالى الذاتي بأنّ الحكمة تقتضي هذه المشيئة _ لا العلمُ المكتسب بالتجربة والتعلّم والاستدلال _ كان سببا وعلّة للمشيئة ولابدّ من تقدّم العلّة على المعلول . (وبمشيئته كانَتِ الإرادةُ) أي إنّ إرادته للأشياء سببها مشيئته من غير أن يدعو لها داع أو يحوج إليها شيء . وهكذا قوله عليه السلام : (وبإرادته كانَ التقديرُ ...) . فظهر من هذا تقدّم العلم على المشيئة وتقدّم المشيئة على الإرادة ؛ لكون كلّ منها علّة للآخر ؛ فالعلم مقدّم على جميعها . ثمّ لمّا أوهم الكلام السابق أنّ التقدير واقع على القضاء _ سواء كان متّصفا بالإمضاء أم لا _ فلا يوجد قضاء بغير تقدير ، أخبر عليه السلام أنّ التقدير لا يقع على القضاء إلاّ إذا كان متّصفا بالإمضاء ، فقال : (والتقديرُ واقعٌ على القضاء بالإمضاء) فالإمضاء سبب لوقوع التقدير على القضاء . قوله عليه السلام : (فللّه تبارك وتعالى البداءُ فيما عَلِمَ متى شاء ...) . أي له البداء فيما علم أنّه سيغيّره متى شاء ، فعلى هذا كلّما بدا له شيء فلابدّ وأن يكون عالما به قبلُ ، وأن تكون علّته منحصرةً في مشيئته ؛ لما تحقّق أنّ العلم سابق على المشيئة وعلّة لها ، وأنّ المشيئة علّة لجميع الأشياء . ولا يخفى عليك أنّ المراد بقولنا : العلم علّة للمشيئة ، الصفةُ الذاتيّة غير المكتسبة ، لا العلم الجزئي بهذه المشيئة ؛ فتأمّل . ثمّ لمّا كان قوله عليه السلام : «للّه تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء» شاملاً لإرادة المقدَّر المَقضيّ أو المقضيّ فقط أو غيرهما ، قال عليه السلام : (وفيما أرادَ بتقدير (3) الأشياء) فحصر الإرادة في إرادة تقدير الأشياء ، فدخلت الأخيرتين (4) وخرجت الأُولى ؛ لأنّ التقدير لايكون إلاّ لغير المقدَّر . ثمّ لمّا كان خروج الأُولى في نهاية الخفاء ، قال عليه السلام : (فإذا وَقَعَ القضاءُ بالإمضاء فلا بَداءَ) . قوله عليه السلام : (فالعلمُ في المعلومِ (5) قبلَ كونِه) . أي فعلم ممّا تقرّر أنّ العلم سابق على المعلوم ، والمشيئة سابقة على المنشأ (6) ، والإرادة سابقة على المراد ، وأنّ تقدير هذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيفها ، فبعد وقوع التقدير لا يكون تقدير . (والقضاءُ بالإمضاء هو المُبْرَمُ) أي القضاء المصاحب للإمضاء أو الموصوف بالإمضاء ، أي القضاء الماضي هو المبرم المحكم الذي وقع فيه التقدير (من المفعولات ...) ، فالجارّ متعلّق بالمبرم . وقوله : (ذواتِ الأجسامِ) بدلُ بعضٍ من «المفعولات» ، وقوله : «ومادَبَّ» معطوف على «ذوات الأجسام» . قوله عليه السلام : (فَلِلّهِ تبارك وتعالى فيه البداء ممّا لا عَيْنَ له ...) . أي فعلم أنّ البداء لا يكون إلاّ قبل وقوع القَدَر وتحقّق العين وخروجها إلى الوجود ، فإذا وقع القَدَر وتحقّقت العين وتعينّت ، فلا بداء . قوله عليه السلام : (واللّه ُ يَفْعَلُ مايَشاءُ) . أي إنّ علّة أفعاله تعالى مشيئته ، فلا يفعل شيئا من دون مشيئته . ثمّ لمّا كان هذا يوهم أنّها علّة بلا واسطة لكلّ مخلوق ، وأنّها ليست معلولة لشيء آخر ، بيّن عليه السلام أنّها معلولة العلم الذي هو عين الذات ، وأنّ معرفة صفات المخلوقات وحدودِها ، وإنشاءَها قبل إظهارها ، يحصل بالمشيئة ، فالظرف (7) متعلّق ب «عرف» ، ولا يجوز كونه صفة للإنشاء ؛ لأنّ العرض مفتقر إلى محلّ يقوم به ، وأنّ ظهورها وتميز أنفسها حالَ كونها في ألوانها وصفاتها التي شاءها اللّه لها يحصل بالإرادة . فإن قيل : قوله عليه السلام : «وبالمشيئة عرف صفاتها» يدلّ على أنّ العلم بالصفات والحدود حادث لحدوث علّته . قلنا أولاً : إنّه قد بيّن عليه السلام أنّ العلم سابق على المشيئة ، والمشيئة لا تكون إلاّ لشيء ؛ فعلمه تعالى سابق على ذلك الشيء أيضا . وثانيا : إنّه ليس المراد إلاّ أنّ علمه تعالى ليس كعلمنا في كونه لا يحصل إلاّ بعد خروج الشيء من العدم إلى الوجود ، بل هو في حال مشيّته إيجادَ العدوم عالم بجميع جزئيّاته قبل خروجه من كتم العدم . قوله عليه السلام : (فبالتقدير (8) قدّر أقواتها ...) . وذلك لأنّ التقدير هو إمضاء القضاء وتحقُّقُه ، وإذا تحقّق وخرج من كتم العدم ، فلابدّ له من القوت ، فتقدير الأقوات من معلولات التقدير ، وكذلك أيضا بالتقدير «عرف أوّلها وآخرها» ؛ لأنّ معنى التقدير وجود شيء وبقاؤه مدّةً معيّنة . ثمّ لمّا أوهم هذا أنّ الأقوات ليس فيها قضاء غير ممضى ، بل كلّها مقدّرة ممضاة لابدّ من أن تصل ، فلا يحتاج في تحصيلها إلى تعب وسعي ، قال عليه السلام : (بالقضاء أبانَ [للناس] أماكِنَها ، ودَلَّهُم عليها ، وبالإمضاء شَرَحَ عِلَلَها وأبانَ أمْرَها) أي بسبب أنّه تعالى قضاها لهم دلّهم عليها ، فإن استدلّوا مُضيَّ القضاء فوصولها إليهم وانتفاعهم لها إنّما يكون بعد مضيّ القضاء ، وهو إنّما يكون بعد طلبه والسعي فيه ؛ فليتأمّل في هذه الكلمات الوجيزة ليظهر ما خطر في فكري الفاتر في معنى هذا الخطاب العظيم ؛ نسأل اللّه العفو عن الخطأ والزلل .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص148 ، ح12 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص148 ، ح16 .
3- . في الكافي المطبوع : «لتقدير» .
4- . كذا ، والصحيح : «الأخيرتان» .
5- . كذا في الكافي المطبوع وبعض نسخه ، وفي بعض نسخ أُخرى للكافي : «بالمعلوم» .
6- . كذا ، والصحيح : «المَشِيء» .
7- . المراد به قوله : «قبلَ إظهارها» أي عرف قبل إظهارها .
8- . في الكافي المطبوع : «وبالتقدير» .

ص: 642

. .

ص: 643

. .

ص: 644

. .

ص: 645

باب في أنّه لايكون شيء في السماء و
باب المشيئة والإرادة

باب [في] أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعةفي حديث حريز بن عبداللّه بن مسكان (1)قوله عليه السلام في الحديث الأوّل : (بمشيئةٍ وإرادةٍ [وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل] ) . امّا تقدّم المشيئة على الإرادة والإرادةِ على القَدَر ، فظاهر لما تقرّر من الأحاديث السابقة أنّ المشيئة علّة للإرادة ، وهي علّة لغيرها . وأمّا تقديم القدر على القضاء ، فيحتمل أن يكون من الراوي ، أو أنّ المراد وجوب الإقرار بهذا المجموع من حيث المجموع ؛ والعقلُ وكلامهم عليهم السلام يدلّ على الترتيب . وأمّا تأخّر الثلاثة الأُخر عن القدر ، فلأنّها من فروعه . والرواية الأُخرى أيضا كذلك في التقديم والتأخير .

باب المشيئة والإرادةفي حديث عليّ بن إبراهيم الهاشمي (2) قوله عليه السلام : (ابتداءُ الفِعْلِ ...) . لمّا قال عليه السلام : (لا يَكونُ شيءٌ إلاّ ما شاءَ اللّه ُ وأرادَ ، وقَدَّرَ وقضى) ، سأله السائل عن معنى المشيئة أوّلاً ؛ لأنّ المتبادر من مثل هذا الكلام أنّ العبد ليس له فعل اختياري ، فأجابه عليه السلام أنّ معنى «شاء» ابتداء الفعل ، أي فعل أوّلَ ما يفعل ، وبهذا فسّرها الرضا عليه السلام في حديث يونس بن عبدالرحمن في باب الجبر والقدر بقوله «هي الذكر الأوّل» (3) . ثمّ فسّر الإرادة بالعزم ، ولاريب في أنّ التذكّر قبل العزم ، وهذا الحديث يدلّ على الفرق بين المشيئة والإرادة . ولا يخفى عليك أنّ تذكّره تعالى ليس كتذكّرنا ؛ لمغايرة صفاته تعالى صفاتِنا . واعلم أنّ المراد _ واللّه أعلم _ بقوله عليه السلام : «لا يكون شيء إلاّ ماشاء اللّه وأراد» التنبيهُ على أن علّة إرادته تعالى هي مشيئته لا مشيئة غيره ، فلابدّ من الإقرار بأنّه لا يكون شيء إلاّ بإرادته كما تدلّ عليه الأحاديث المتقدّمة أيضا ، بمعنى أنّه لا يكون واقعا ألبتّة شيء تعلّقت إرادته تعالى بعدم وقوعه ؛ لئلاّ يلزم غلبة إرادة الغير إرادته ، فلا يرد ما يقال من أنّ اللازم من الإقرار بأنّه لا يكون شيء إلاّ بإرادته أن لا يكون للعبد فعل ؛ لأنّ ذلك إنّما يلزم لو قلنا بأنّ إرادته متعلّقة بهذا الفعل فقط ، ونحن لا نقول به ، بل نقول : إنّ إرادته تعالى تعلّقت بتخيير المكلّف وتقويته على فعل الشيء وضدّه ، فأيَّهما فعل لا يكون خارجا ذلك الفعل عن إرادته وغالبا لها ؛ وذلك لأنّه تعالى إذا شاء وأعطانا عقلاً نميّز به بين ما يسخطه ويرضيه ، وأوضحها لنا ، وأقدرنا على الفعل والترك ، ووعد على الطاعة الثوابَ وعلى المعصية العقابَ ، فقد شاء جميع ما نفعله ، بمعنى أنّه ليس بعاجز عن جبرنا على عدم الفعل ، فخلقه القوّة _ التي لابدّ منها قبل فعل الأشياء _ مشيئتُه تعالى لابدّ وأن تكون متعلّقة بها ؛ لأنّه لو لم يشأ لم يخلقها ، وإنّما خلق القوّة العامّة ؛ لأنّ الثواب على الطاعة أكمل وألذّ على المُثاب من الثواب المبتدأ ، بل لا يسمّى ذلك ثوابا ، وهو أليق بجنابه تعالى ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بعد التمكّن من الشيء وضدّه حتّى يتحقّق الطاعة عند ترك الضدّ ، فبعد وضوح الدلالات وقيام البيّنات ، فإلقاء النفس إلى التهلكة موجب لتضاعف العذاب وشدّة العقاب ، نسأل اللّه النجاة . وما ذكره المتكلّمون _ من أنّ ما أراده اللّه تعالى يجب وقوعه ، وأنّ إرادة القبيح قبيحة وهو تعالى منزّه عنه _ لا ينافي هذا ؛ لأنّه إنّما أراد تخيير المكلّف وتقويته على فعل المأمور به والمنهيّ عنه ، ولاريب في حُسنه وقبح ترك الحَسَن . وسيأتي من الأحاديث ما يدلّ على جميع ما ذكرناه . ثمّ لمّا كان لفظ «قدّر» له معانٍ مختلفةٌ ، سأله عليه السلام عمّا عناه ، فقال : (بتقدير (4) الشيء مِنْ طوله وعَرْضه) أي بتدبير الشيء وإخراجه إلى الوجود متّصفا بجميع أوصافه التي هي من تمام الحكمة التي قلّ من يطّلع على قليل منها من طوله وعرضه وأشباه ذلك ، ف «من» للتبعيض متعلّقة ب «تقدير» ، وقريب منه تعبير الرضا عليه السلام في الحديث المذكور . ثمّ لمّا كان القضاء شاملاً للقضاء بالإمضاء وما هو أعمُّ منه ، سأله عن المعنى المراد ، فأجاب عليه السلام بقوله : (إذا قضى أمضاه) أي لا يكون شيء إلاّ إذا قضى أمضاه ، فالإمضاء مصدر مفعول «قضى» وإنّما فسّر القضاء بهذا لأنّ كلّ كائن موجودٍ لابدّ وأن يكون قضاه ماضيا ، فلهذا قال عليه السلام : (فذلك الذي لا مَرَدَّ له) أي الكائن الموجود المعيّن معلوم أنّه لا مردّ له ، والقضاء الذي لا مردّ له هو القضاء الممضى .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص149 ، ح1 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص150 ، ح1 .
3- . الكافي ، ج1 ، ص157 ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح4 .
4- . في الكافي المطبوع : «تقدير» .

ص: 646

. .

ص: 647

في حديث أبيبصير (1)قول السائل : (قلتُ : وأحَبَّ ؟ قال : «لا» ) . المعنى سألته : هل أحبّ جميع ماشاء وأراده وقدّره وقضاه ؟ فقال : لا ؛ وذلك لأنّه شاء جميع الأشياء ولم يحبّ المنكر ، وهكذا في الجميع . وهذا أيضا يدلّ على ما قلناه في حديث عليّ بن إبراهيم الهاشمي لدفع ما يتوهّم . ثمّ لمّا سأله عن أنّه تعالى (كيف شاء وأرادَ وقدَّر وقَضى ولم يُحِبَّ ؟) أي والحال أنّه لم يحبّ ، أجابه عليه السلام بقوله : (هكذا خرج إلينا) أي إنّ العالم بحقيقة هذه الأشياء وعللها هو اللّه تعالى ، لكنّ الذي خرج إلينا وعلّمنا اللّه إيّاه هو ما قلته لك .

في حديث عبداللّه بن سِنان (2) قوله عليه السلام : (أمَرَ اللّه ُ ولم يَشَأْ ...) . قد تقرّر من الأحاديث السابقة أنّ المشيئة غير الإرادة ، وأنّها علّة لها ولغيرها ، فمعنى «أمر اللّه ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر» أنّ الأمر والمشيئة ليسا متلازمين حتّى يلزم منه العجز عن الجبر عمّا نهى عنه ، بل الحكمة اقتضت أن يهب القوّة على الفعل والترك ، ففعل المأمور به وتركه هما بمشيئته . ومثّل عليه السلام للأوّل بقوله : (أمَرَ إبليسَ أن يَسجُدَ لآدمَ ، وشاء أنْ لا يَسْجُدَ ، ولو شاء لَسَجَدَ) أي وعدم السجود أيضا من مشيئته ، فلو كانت مشيئته منحصرة في السجود فقط لَسَجَدَ ، أي للزم عدم التخلّف ؛ وذلك لأنّ مشيئته عدمَ السجود لا دلالة فيها على عدم مشيئة السجود . ويدلّ أيضا على عدم الانحصار قوله عليه السلام : «ولو» أي ولو انحصرت المشيئة في السجود لَسَجَدَ . فإن قيل : يمكن أن يفهم من قوله عليه السلام : «وشاء أن لا يسجد» أنّ المشيئة منحصرة في عدم السجود ، ويكون معنى قوله : «ولو شاء لسجد» _ لولم تكن منحصرة في عدم السجود _ أي لوشاءهما معا لسَجَدَ . قلنا : مشيئتهما معا لا ملازمة بينها وبين تحتمّ سجوده . فإن قيل : يمكن أن يكون المراد بقوله : «ولوشاء لسجد» لولم تكن المشيئة منحصرة في عدم السجود ، احتمل سجوده وعدم سجوده ، وشرط «لو» منفيّ فهو مثبت ، وجوابها مثبت فهو منفيّ ، وإذا انتفى الاحتمال وجب عدم السجود ؛ لأنّهما نقيضان فلا يجبان ، وانحصار المشيئة في عدم السجود يناقض وجوب السجود ، وعند بطلان الاحتمالين يجب الثالث . فالجواب : أنّ اللام تمنع هذا الاحتمال . وكذلك أيضا قوله عليه السلام : (ونهى آدمَ عن أكْلِ الشجرةِ ، وشاء أن يَأكُلَ منها) ، أي لولم يكن الأكل من مشيئته ، أي لوشاء عدمه لم يأكل ، أي لم يتحقّق منه الأكل ، ف «لو» تدلّ على أنّ أكله كان بمشيئته ؛ لأنّ ما بعدها منفيين ، فهما موجبين (3) ؛ فليتأمّل . والحاصل : أنّه تعالى شاء تخيير العبد بين الطاعة والعصيان ؛ لما تقدّم ، فهما بمشيئته ، فماشاء كان ، ومالم شيأ لم يكن .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص150 ، ح2 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص150 ح3 .
3- . كذا ، والصحيح : «منفيّان فهما موجبان» .

ص: 648

. .

ص: 649

في حديث الفَتح بن يزيد الجُرجاني (1) قوله عليه السلام : (إنّ للّه ِِ إرادتين ومشيئتين : إرادةَ حَتْمٍ وإرادةَ عَزْمٍ) . فالحتم ماكان وتحقّق من خير أو شرّ منّا أو منه ، وهو القَدَر الواقع على القضاء بالإمضاء ، والعزم خطابه ، فاكتفى بالمثال عن الحدّ . قوله عليه السلام : (يَنهى وهو يشاءُ ...) . خبرٌ بعد خبر ل «إنّ» . قوله عليه السلام : (أوَما رَأيتَ أنّه نهى آدمَ وزوجتَه أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ، ولو لم يشأ ...) . مثال للمشيئتين وتحقّقِ المشيئة مع النهي ودليل عليها ؛ وذلك لأنّ النهي من الأكل علّته مشيئته عدمَ الأكل وهي مشيئة عزم ، وأكل آدم مع نهيه علّته مشيئته ، وهي مشيئة حتم ، فالأكل بمشيئته ، فقد اجتمعت المشيئة مع النهي ، والدليل على أنّه بمشيئته أنّه لولم يكن بمشيئته فلابدّ وأن تكون مشيئته عدم الأكل ، فيلزم غلبة مشيئتهما مشيئة اللّه ، واللازم باطل عقلاً ونقلاً ، فالملزوم _ وهو عدم كونه بمشيئته _ مثله . قوله عليه السلام : (وأمَرَ إبراهيمَ عليه السلام ) . مثالٌ للمشيئتين واجتماع الأمر مع عدم المشيئة ؛ وذلك لأنّ الأمر بالذبح فعل علّته المشيئة ، وهي مشيئة عزم ، وعدم إشاءة (2) الذبح وهو إشاءة 3 عدم الذبح مشيئة حتم ، فقد أمر وهو لا يشاء ، ولو لم تكن مشيئته متعلّقة بعدم الذبح أيضا ، واختصّت مشيئة إبراهيم عليه السلام بذلك ، لزم غلبة مشيئته مشيئةَ اللّه ، ولا يلزم التناقض ؛ لاختلاف زمانهما . فإن قيل : ما الدليل على اختلاف زمانهما ؟ قلت : تأخّر سببها ؛ لأنّه من فعل العبد ، مثلاً عدمُ مخالفة إبراهيم عليه السلام سبب لمشيئة عدم الذبح الذي كان سبب مشيئته إيصالَ الثواب إلى إبراهيم عليه السلام بعدم المخالفة ، ولا ريب في تقدّم الابتلاء على عدم المخالفة ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص151 ، ح4 .
2- . 4 . كذا ، والصحيح : «مَشاءة» وهو مصدر «شاء» ولم يجئ من الإفعال بهذا المعنى .

ص: 650

في حديث الفُضَيل بن يَسار (1) قوله عليه السلام : (وأرادَ ولم يُحِبَّ ولم يَرْضَ ...) . حاصل معنى هذا الحديث _ واللّه أعلم _ أنّه لا منافاة بين أن يشاء شيئا ويريده وهو لا يحبّه ولا يرضاه ؛ لأنّه كثيرا ما يكون أشياء لم يحبّها ولم يرضها مع أنّه شاءها وأرادها ، بمعنى أنّ مريدها ليست إرادته ومشيئته غالبةً لإرادة اللّه ومشيئته . ثمّ مثّل له بمثالين : مثالِ تبيين ومثال توضيح . أمّا الأوّل ، فهو قوله عليه السلام : (شاء أنْ لا يكونَ شيءٌ إلاّ بعِلْمِه ...) . فإذا كان عالما بجميع الأشياء ولم يجبر على فعلها ولم يمنع وجودها وتحقّقها فقد شاءها ، وإلاّ لزم العجز ، تعالى اللّه عنه . وهكذا نقول في الإرادة ، فجميع الأشياء بعلمه وإرادته مع أنّه لم يحبّ جميعها ولم يرض جميعها . وأمّا الثاني ، فقوله عليه السلام : (لم يُحِبَّ أن يقالَ : ثالثُ ثلاثةٍ ، ولم يَرْضَ لعباده الكُفْرَ) . أي علّة بطلان هذا القول وعدم جبره يدلّ على إرادته وعدم عجزه عن النهي عنه ؛ لأنّ مع العلم لو لم يكن مريدا لهما بالمعنى المذكور ، لزم المحذور ؛ فهو مريد ومُشيء (2) مع عدم المحبّة والرضا ؛ فاجتمعا ، فتحقّق عدم تضادّهما ؛ فليتأمّل .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص151 ، ح5 .
2- . كذا ، والأولى : «شاءٍ» .

ص: 651

في الحديث القدسي المرويّ عن الرضا عليه السلام (1)قوله تعالى : (بمشيئتي كُنْتَ أنتَ الذي تَشاءُ [لنفسك ماتشاء] ) . أي إنّ مشيئتك مايشاء لنفسك _ كائنا ماكان من خير أو شرّ _ سبُبه مشيئتي لك ، أي تخييرك وعدم قهرك وجبرك على فعل ما تحبّ ، لا لأنّ لك مشيئةً مستقلّة . قوله تعالى : (وبقُوَّتي أدَّيْتَ فَرائضي) . أي وبالقوّة التي منحتك إيّاه (2) قويت على فرائضي أيضا ، لا بحول وقوّة مستقلّة فيك . قوله : (وبنِعْمتي) أي وبما أنعمت به عليك من السمع والبصر والقوّة إلى غير ذلك (قَوِيتَ على مَعصيتي) . وكفى بمثل هذا الكلام توبيخا لمن اعتبر ؛ أسأل اللّه الهداية لما يحبّ ويرضى . قوله تعالى : « مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ...» . (3) وذلك لما يدلّ عليه قوله تعالى : ( وذلك أنّي أولى بحسناتِك ... ) ، أي علّة كون « مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ » (4) أنّي أولى بحسناتك منك ؛ وذلك لأنّ الحسنات سبب صدورها من العبد ما مَنَّ اللّه عليه به من الآلات التي علّتها الغائيّة وصول الأجر والثواب إلى العبد ، وسبب السيّئات تفريط العبد بعد مَنّ اللّه تعالى عليه بالآلات والقوى لتحصيل ما ينفعه وإرسال الرسل وإنزال الكتب . قوله تعالى : (وذلك لأنّي (5) لا أُسْألُ عمّا أفْعَلُ وهم يُسألونَ) . (6) يحتمل أن يكون تعليلاً لإعطاء القوّة العامّة ، وكون فعلهم ما نهى عنه سيّئةً ، وتقريره أنّ من يسأل عمّا يفعل لابدّ وأن يكون عالما قادرا حكيما جامعا لجميع الصفات الحسنة لا يفعل ما يخالف الحكمة ولا يريد القبيح ، فجميع أفعاله متقنة محكمة ، فإعطاؤه القوّة العامّة لابدّ وأن تكون مصلحتهم فيها ، وأمّا كونهم يُسألون فدالّ على عجزهم وافتقارهم وجهلهم عمّا فيه خيرهم ، فهم محتاجون إلى الأمر لفعل ما تفتضيه الحكمة وما فيه صلاحهم ، وإلى النهي لترك مايضرّهم ولا ينفعهم ، ولئلاّ يلزم التفويض الدالّ على بطلانه العقل والنقل ، فكلّ ما أُمروا به حسنة وفيه صلاحهم ، وجميع مانهوا عنه سيّئة وفيه ضررهم ، فهما لطف وهو الأمر بين أمرين ، وهو أعلم بما قال .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص152 ، ح6 .
2- . كذا ، والصحيح : «إيّاها» .
3- . النساء (4) : 79 .
4- . النساء (4) : 79 .
5- . في الكافي المطبوع : «وذاك أنّني» .
6- . اشارة إلى آية 23 من سورة الأنبياء (21) .

ص: 652

باب الابتلاء والاختبار

باب الابتلاء والاختبار[في حديث حمزة بن محمّد الطيّار (1) ] قوله عليه السلام : (ليس شيءٌ فيه قَبْضٌ وبَسْطٌ (2) ...) . أي ليس شيء فيه أمر ونهي إلاّ وللّه تعالى فيه مشيئة وقضاء ، أي إنّ الائتمار وعدمه والانتهاء وعدمه بمشيئة اللّه ، بمعنى أنّ مشيئته وقضاءه الحتم ليس في خلافه حتّى يلزم غلبة مشيئة العبد مشيئتَه ، وأنّ التخيير ومشيئته ما أمر به وخلافَه ، ونهى عنه وخلافَه لابتلاء العبد واختباره لا بمعنى ابتلائنا واختبارنا ؛ لأنّ علمه تعالى شامل لجميع الأشياء ، بل لوصول الثواب منه تعالى إلى العبد ، والحديثان معناهما واحد ، غير أنّ الثاني فيه بيان معنى القبض والبسط ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ص152 ، ح2 .
2- . في الكافي المطبوع : «أو بَسطٌ» .

ص: 653

باب السعادة والشقاء

باب السعادة والشقاء[في حديث منصور بن حازم (1) ] قوله عليه السلام : (إنّ اللّه َ خَلَقَ السعادةَ والشقاءَ ...) . يحتمل أن يكون السعادة والشقاء هما العقلَ والجهلَ ، وكونُهما خلقين آخرين غيرهما . وقوله عليه السلام : (فمَنْ خلَقه اللّه ُ سعيدا لم يُبْغِضْه أبَدا ...) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه تعالى كان عالما قبل خلق الأشياء بمن يحبّه ويطيعه ، وبمن يبغضه ويعصيه منهم ، فأحبّ من علم أنّه سيحبّه وخلقه سعيدا ، وأبغض من علم أنّه سيبغضه فخلقه شقيّا ، فعلى هذا من خلقه سعيدا لم يبغضه أبدا ؛ لأنّ سبب خلقه سعيدا علمُه تعالى بأنّه لا يبغضه ولا يعصيه ، وإذا كان كذلك فلا ريب في أنّه لم يبغضه أبدا ؛ لأنّه لو أبغضه ، لكان علّته العصيانَ ، وقد كان تعالى عالما بعدم العصيان ، فيلزم خلوّ علمه عن بعض الأشياء ؛ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا . ولمّا كان يرد هاهنا سؤال وهو أنّ بعض السعداء قد يصدر منهم ما يبغض اللّه ولا يرضيه ، فقد أبغض من أحبّه ، قال عليه السلام : (وإن عمل سوءا (2) أبْغَضَ عملَه ولم يُبْغِضْهُ) . وهكذا القول فيمن خلقه شقيّا . وقوله عليه السلام : (لما يَصيرُ إليه) تعليلٌ للمحبّة والبغض وإن أساء وأحسن ، أي إنّ سبب محبّته وإن عمل سوء ، وبُغضِه وإن عمل صالحا علمُه تعالى لما يصير إليه في آخر أمره ، أي إنّ السعيد هو السعيد عند خروجه من الدنيا وإن كان شقيّا ثمّ تَدارَك إساءته ، والشقيّ من خرج شقيّا من الدنيا وإن كان محسنا ثمّ ضَيَّع إحسانَه . ثمّ لمّا كان هذا الخطاب غيرَ صريح في أنّ كلّ شيء أحبّه اللّه لم يبغضه أبدا ، وأنّ كلّ شيء أبغضه لم يحبّه أبدا ؛ لأنّ غاية ما يدلّ عليه أنّ محبّته السعيدَ لا تتغيّر ، وبغضه الشقيَّ كذلك ، صرّح عليه السلام بذلك ، فقال : (فإذا أحَبَّ (3) شيئا لم يُبْغِضْهُ أبدا ...) .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص152 ، ح1 .
2- . في الكافي المطبوع : «شرّا» .
3- . في الكافي المطبوع : + «اللّه » .

ص: 654

في حديث أبيبصير (1)قول السائل : (من أين لَحِقَ الشقاءُ أهلَ المعصية ...) . الظاهر أنّ مراد السائل أنّ علم اللّه تعالى قديم ، والشقاء وأهل المعصية حادثون ، فكيف لحقهم الشقاء وحكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم قبل أن يوجدوا ، فقاس علمه تعالى على علم غيره . قوله عليه السلام : (حُكْمُ اللّه ِ عزّ وجلّ لا يَقومُ له أحَدٌ مِنْ خَلْقِه [بحقّه] ) . أي إنّك قِستَ حكم اللّه على حكم غيره في أنّه لا يكون إلاّ على الموجود المعايَن المعلوم ، وهذا سهو ؛ لأنّ حكم اللّه ليس كحكم المخلوقين ، بل حكمه تعالى «لا يقوم له أحد من خلقه بحقّه» ولا يقدر على الإتيان بمثله . ثمّ بيّن عليه السلام حكمه تعالى ، فقال : (فلمّا حَكَمَ بذلك) أي لمّا حكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم (وَهَبَ لأهلِ مَحبَّتِهِ القوّةَ على معرفته) لا لأنّ حكمه كان علّة لذلك ، بل لبيان أنّ الحكم كان قبل الخلق ؛ وذلك لأنّ علمه كان متعلّقا بهذه الهبة أيضا ، فالحكم كان متعلّق (2) بها أيضا ؛ لأنّ العذاب لا يكون إلاّ بعد المعصية ، وهي لا تكون إلاّ بعد إعطاء القوّة ، وإلاّ لزم أن يكون للعبد قوّة على غير ما قوّاه الخالق عليه ، فالحكم بالعذاب لابدّ وأن يتحقّق معه الحكم بإعطاء القوّة بل قبله ، فلوكان الحكم بالعذاب علّة لإعطاء القوّة لزم تقدّم السبب على المسبّب ، وهو باطل ، أو وجودهما دفعة ، فتنتفي السببيّة والمسبّبيّة . قوله عليه السلام : (ووَضَعَ عنهم ثِقَلَ العَمَلِ بحقيقةِ ما هم أهلُه) . وذلك لأنّه تعالى قادرٌ مختارٌ حكيم لا يعجزه شيء ، فلابدّ له من أن يضع عنهم ثقل العمل وتعبه ويسهّله عليهم ؛ لأنّ المحبوب الحليم _ مع قدرته على جميع مايريد _ يجب عليه التخفيف على المحبّ وإزالة التعب عنه ، خصوصا مايكون بسبب المحبّة ، فحقيقة ماهم عليه من المحبّة سبب لذلك ؛ فعلم أنّ اختصاص وضع الثقل بهم له مرجّح هو فعلهم . قوله عليه السلام : (ووَهَبَ لأهْلِ المعصيةِ القوّةَ على معصيتهم ...) . أي إنّ القوّة التي أهل المعصية يعصون بها هي أيضا من مواهبه تعالى ، فهو تعالى أعطاهم تلك القوّة . (ومنعهم إطاقةَ القبولِ) ، أي لم يضع عنهم ثقل هذا العمل الذي هو القبول ، وإنّما لم يقل : «ومنعهم إطاقة العمل» ، كما قال في الأوّل : «ووضع عنهم ثقل العمل» لأنّ العمل الذي يمكن تحقّقه من أهل المحبّة بالفعل غير متناه ، فلهذا عبّر عنه بالعمل المعرّف ب «ال» الجنسيّة ليفيد العموم ، وأمّا هنا فالذي يمكن تحقّقه فيهم بالفعل هو القبول فقط ، فلهذا خصّه وقال : «ومنعهم إطاقة القبول منه» ، أي من اللّه . فإن قيل : ما الدليل على كون منعهم إطاقةَ القبول منه بمعنى لم يضع عنهم ثقل القبول ؟ لم لا يكون على حقيقته ، فيكون المعنى ولم يعطهم إطاقةَ القبول ، أي لم يمكّنهم منه ؟ قلت : للقرينة اللفظيّة والمعنويّة . أمّا المعنويّة : فهي أنّه لاريب في تكليفهم ، والحكيم كيف يكلّف ويمنع من الفعل . اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ علّة هذا المنع فعلهم وبغضهم ، فليس تكليفا بالمحال ؛ لأنّه يمكنهم ترك البغض ؛ لأنّه لم يمنعهم إيّاه ، بل منعهم إطاقة القبول . وأمّا القرينة اللفظيّة : فقوله عليه السلام : «فوضع (3) عنهم ثقل العمل» ؛ لأنّ هذين الكلامين متقابلين (4) . قوله عليه السلام : «لسَبْقِ علمِه فيهم» _ المعترضُ بين الجملتين : المعطوفة والمعطوف عليها _ دليلٌ على أنّ القوّة التي عصوا بها من مواهبه تعالى ، تقريره : أنّه لاريب في أنّ علمه تعالى فيهم _ أي المتعلّق بجميع أحوالهم _ سابقٌ على فعلهم ، فلو لم يكن هذه القوّة من مواهبه ، لمنعهم عن هذا الفعل ؛ لسبق علمه وشمول قدرته . قوله عليه السلام : (لأنّ عِلْمَه أولى بحقيقةِ التصديق) أي إنّ علمه مستحقّ للتصديق الحقيقيّ الذي لاريب فيه ، ف «أولى» ليس للتفضيل ، بل للدلالة على بلوغ الوصف غايتَه ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص153 ، ح2 .
2- . كذا ، والصحيح : «متعلّقا» .
3- . في الكافي المطبوع : «ووضع» .
4- . كذا ، والصحيح : «متقابلان» .

ص: 655

. .

ص: 656

في حديث علي بن حَنظلة (1) قوله عليه السلام : (يُسلَكُ بالسعيد في طريق الأشقياء ...) . لمّا كان معنى السعيد مَن كتَبه اللّه سعيدا وهو مَن ختم له بالسعادة ، والشقيّ من كتَبه اللّه شقيّا وهو الذي ختم له بالشقاء ، نَبَّهَ عليه السلام على أنّ سلوك طريق الأشقياء إذا وقع بعده التداركُ لما فات لاينافي السعادة ، وكذلك سلوك طريق السعداء إذا وقع بعده تضييع الحسنات _ نعوذ باللّه منه _ لا يخرج عن الشقاء .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص154 ، ح3 .

ص: 657

باب الخير والشرّ
باب الجبر والقَدَر والأمر بين الأمرين

باب الخير والشرّفي حديث معاوية بن وَهْب (1) قوله عليه السلام : (وأجْرَيْتُهُ على يَدَيْ مَن أُريدُه) . هذا صريح في أنّ الإرادة أعمُّ من المحبّة .

باب الجبر والقَدَر والأمر بين الأمرينفي حديث سهل بن زياد (2)قول الشيخ : (عندَ اللّه ِ أحْتَسِبُ عَنائي يا أميرالمؤمنين) . لمّا سأل عن مسيرهم أنّه هل كان بقضاء وقدر ، فأجابه عليه السلام بما حاصله أنّه لم يكن شيء منه إلاّ بقضاء وقدر ، توهّم السائل أنّه مجبور على هذا الفعل ، فلا يكون له في مقابلته أجر ، فقال : «عند اللّه أحْتَسِبُ عَنائي يا أميرالمؤمنين ؟» ، أي عند اللّه أعتدّ بتعبي وعنائي الأجرَ . ولمّا كان بقرينة المقام يدلّ هذا الكلام على التأسّف والتحسّر الناشئ من القطع بعدم ثبوت الأجر على هذا التعب قال له عليه السلام : (مَهْ ياشيخُ) أي اكفف عن هذا الكلام ، أو عن هذا الاعتقاد . ثمّ أخبره مؤكّدا باليمين بعظم ثوابهم على جميع أفعالهم ، وبيّن له المعنى الذي قصده من القضاء والقدر ، ودفع ما توهّمه وذكر ما يترتّب على ذلك التوهّم عن المفاسد ، فقال : (فَوَاللّه ِ ، لقد عَظَّمَ اللّه ُ لكم الأجرَ ...) . قوله عليه السلام : (إنّ اللّه َ تبارك وتعالى كَلَّفَ تخييرا) . أي لم يجبر المكلّف على ما كلّفه به ، بل خيّره وأقدره على الفعل والترك ، ونهاه وحذّره تحذيرا ، وأعطاه على القليل الذي كلّف به كثيرا ، فإذا عصى بعد التخيير وإعطاءِ القدرة على الفعل والترك والتحذير والوعد بالثواب الجزيل فمنه التفريط ، وإذا أطاع فله الفَرَط ؛ لأنّ اللّه تعالى كان قد أعطاه قدرة يمكنه بها عدمُ الفعل (3) . قوله عليه السلام : (ولكانَ المُذنِبُ أولى بالإحسانِ ...) . وذلك لأنّ خلق القبيح في المذنب يشتمل على أذى يستحقّ في مقابلته الإحسانَ ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ؛ لأنّهم قائلين (4) بحصول عقوبة ، فالمحسن أحرى بها ؛ لسلامته من أذى الذنب الذي هو نوع عقوبة ، فتساويا في العقوبة ، تعالى اللّه عن مثل هذا ، وإنّما يلزم (5) من مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمان المجوّزين الظلمَ والقبيح عليه تعالى . وباقي الحديث ظاهر ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص154 ، ح1 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص155 ، ح1 .
3- . في حاشية النسخة هكذا : فظهر من هذا الكلام الشريف أنّه ليس المراد بالقضاء والقدر الفعلَ والخلق ؛ لأنّ مع ذلك ينتفي التخيير وقد أثبته عليه السلام بقوله : «كلّف تخييرا» و«يبطل الثواب والعقاب كما نبّه عليه عليه السلام لقبحه من الحكيم على فعل الغير ، ولا الإلزامَ والوجوبَ ؛ لأنّ بطلان الثواب والعقاب لا يتفرّعان عليه ، فلم يبق إلاّ كون المراد بهما الإحكامَ والتبيين والكتابة في اللوح المحفوظ لحصر معانيهما في هذه الثلاثة كما بيّن في موضعه ؛ واللّه أعلم (منه) .
4- . كذا ، والصحيح : «قائلون» .
5- . أي تساويهما في العقوبة .

ص: 658

في حديث أبيبصير (1) قوله عليه السلام : (ومَنْ زَعَمَ أنّ الخيرَ والشرَّ إليه) . الظاهر أنّ المراد : من زعم أنّ الخير والشرّ أمرهما ومآلهما إليه تعالى ، وليس للعبد قوّة ولا اختيار على الفعل والترك ، بل هو مجبور عليهما ، فقد كَذَب على اللّه ، وعلى هذا المعنى ناسب نقله في هذا الباب ؛ فليتأمّل .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص156 ، ح2 .

ص: 659

في حديث الحسن بن عليّ الوشّاء (1) قوله عليه السلام : (اللّه ُ أعَزُّ مِن ذلكَ) . لمّا كان معنى التفويض تركَ الاختيار إلى الغير بالكلّيّة من دون إعانة وهداية وإرشاد ، وذلك إنّما يكون عند العجز عن القيام بحقّ جميع الأشياء ، قال عليه السلام : «اللّه أعزّ من ذلك» ، أي إنّ عزّته من أكمل أفراد العزّة ، كما بيّن مرارا في مثل هذا . ثمّ لمّا توهّم السائل أنّ المتفرّع على مثل هذا الكلام أنّ اللّه تعالى جبر على جميع الأشياء ، فيكون قد جبر على المعاصي ، قال : (فجَبَرَهم على المعاصي ؟) . فأجابه عليه السلام بقوله : (اللّه ُ أعْدَلُ من ذلك (2) ، وأحكم من ذلك) أي لوكان الأمر كذلك ، كان منافيا للعدل والحكمة ، واللّه تبارك وتعالى عدل حكيم . بيان الأوّل : أنّه يثيب على الطاعة ويعاقب على المعصية ، وليس من العدل العقوبة على ما لا قدرة لفاعله على تركه . وبيان الثاني : أنّ الحكيم هو الذي أفعاله محكمة متقنة ، فهو منزّه عن العبث ، فلوكان المخلوق مجبورا على الطاعة والمعصية ، لم تبق فائدة في تكليفه وابتلائه واختباره ، فيكون عبثا والحكيم منزّه عنه ؛ فظهر من هذا الكلام أنّه لم يفوّض الأمر إليهم بالكلّيّة بحيث لا يمنع الضرر عمّن تعلّقت إرادته بالمنع عنه بسبب عمله الذي استحقّ به ذلك ؛ لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح المنافي للّطف ، وبحيث لايهدي لذلك ، بل هو تعالى مع إعطائنا الاختيار والقوّة على الفعل والترك قادرٌ مختارٌ يَفعل مايشاء ويحكم مايريد ، لا رادّ لحكمه ولا مانع لقضائه . قوله عليه السلام : (قال اللّه عزّ وجلّ ...) . بيانٌ واستدلالٌ على أنّ القوّة التي يعمل بها الخير والقوّة التي يعمل بها الشرّ من اللّه ، وأنّ العبد ليس مجبورا . وقد تقدّم هذا الحديث في باب المشيئة والإرادة باختلاف ما لا يضرّ بالمعنى .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص157 ، ح3 .
2- . في الكافي المطبوع : - «من ذلك» .

ص: 660

في حديث يونس بن عبدالرحمن (1) قوله عليه السلام : (يا يونس ، ليس هكذا ، لا يكونُ إلاّ ماشاءَ اللّه ُ وأرادَ وقَدَّرَ وقَضى ...) . أي ليس الأمر على ظاهر هذا الكلام كيف مافُهم ، بل ينبغي أوّلاً فهم معاني مفرداته ثمّ الإقرار به . ثمّ بيّن عليه السلام له المعنى ، فقال : (تَعلَمُ ما المشيئةُ ؟) . ففسّر المشيئة بالذكر الأوّل ، أي التذكّر الأوّل ، ولا يخفى كون تذكّره تعالى ليس كتذكّرنا ، ثمّ فسّر الإرادة بالعزيمة ، وهي العزم على فعل الشيء ، فظهر تقدّم المشيئة على الإرادة . قوله عليه السلام : (وإقامةُ العَيْنِ) تفسيرٌ للإبرام ؛ لأنّ إحكام الشيء لا يتحقّق من دون إقامة عينه . قول السائل : (فَتَحْتَ لي شيئا كُنْتُ عنه في غَفْلَةٍ) . هذا الكلام يدلّ على أنّه كان غافلاً عند التكلّم بهذه الكلمات عن معانيها ، فلهذا نبّهه الإمام عليه السلام ، فقد وقع التنبيه قبل التصريح .ونظير هذا عنهم عليهم السلام كثير .

في حديث إبراهيم بن عُمَر اليَماني (2) قوله عليه السلام : (فما أمَرَهم به مِنْ شيءٍ ...) . أي بعد الإقرار بأنّ اللّه تعالى خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه من طاعة ومعصية وغيرهما ، وأنّه تعالى أرسل الرسل وأمر ونهى ، فلابدّ من الإقرار بأنّ كلّ شيء أمرهم بفعله أو تركه فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، أي إلى ترك الأمر أعمَّ من أن يكون بفعل أو بكفّ ؛ لأنّه لولا ذلك كان الأمر والنهي عنه [لغوا] ، والحكيم منزّه عنه ، فعلى هذا لا يكونون آخذين بما أمر به سواء كان بفعل أو بكفّ ، ولا تاركين كذلك إلاّ بإذن اللّه وإرادته ؛ لأنّ سببه جعل السبيل لهم فلو لم يأذن ، أي لم يُرِد ، أي لو أراد خلافه ، لما جعل لهم إليه سبيلاً ، ولمنعهم عن فعل ما نهى عنه ، فلم يحتج إلى الأمر والنهي ، مع أنّ البديهة قاضية بالاحتياج ، فكلّ شيء بإذنه .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص157 ، ح4 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص158 ، ح5 .

ص: 661

في حديث أبيطالب القمّي (1) قوله عليه السلام : (لُطْفٌ مِن رَبِّك بين ذلك) . لمّا سأله السائل عن فعله تعالى بالنسبة إلى المكلّفين : أنّه هل خيَّرهم على المعاصي أو فوّض الأمر إليهم ؟ الدالّ بإطلاقه على الإطلاق ، أجابه عليه السلام بأنّه ليس (2) شيئا منهما . ثمّ لمّا سأله السائل بقوله : (فماذا ؟) أي إذا لم يكن جبرا ولا تفويضا فأيّ شيء هو ؟ أجابه عليه السلام بقوله : (لُطْفٌ من ربّك) ، أي هو لطف من ربّك . ولاريب في أنّه لوكان جبرا لكان منافيا للّطف ، وكذا لوكان تفويضا مطلقا ؛ لأنّ اللطف يقتضي هدايةَ من أراد الوصول إلى فعل المأمور به والمرغّب فيه وتهيئة أسبابه ، والإعراضَ عمّن رغب عمّا أُمر به وفيما نهي عنه . ثمّ لمّا كان هذا ربّما كان خفيّا بالنسبة إلى بادئ الرأي ، نَبَّهَ عليه السلام عليه ، فقال : (بين ذلك) ، أي هو يعني اللطف شيء بين الجبر والتفويض ؛ واللّه أعلم .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص159 ، ح8 .
2- . أي ليس الأمر شيئا منهما .

ص: 662

في حديث يونس بن عبدالرحمن (1) قوله عليه السلام : (نعم ، أوسَعُ ممّا بينَ السماء إلى الأرضِ (2) ) . لا شكّ في أنّ كلّ شيء بين الجبر والتفويض الذي هو فعله تعالى لطفٌ ، وألطافه تبارك وتعالى لا تُحصى ، فلهذا كنى عليه السلام عنه بقوله «أوسع ممّا بين السماء إلى الأرض» . ولا تخفى المناسبة بين السؤال والجواب ؛ لأنّ السائل كنى عنه بالمنزلة وكون الكناية أبلغَ من الصريح ، فلابدّ من كون الجواب به ، ولا ريب في كونه أبلغَ من السؤال ؛ لدلالته على المطلوب وكون ألطافه تعالى لا تحصى ؛ فليتأمّل .

في حديث أحمد بن محمّد بن أبينصر (3) قوله عليه السلام : (قال اللّه عزّوجلّ ...) . قد مرّ هذا الكلام الشريف مرويّا عن الرضا عليه السلام أيضا وشَرْحه . (4)

في حديث محمّد بن يحيى (5) قوله عليه السلام : (مَثَلُ ذلك) أي مَثَل التفويض وعدمه (رجلٌ رأيتَه على معصيةٍ فنهيتَه فلم يَنْتَهِ ، فَتَرَكْتَه ، ففَعَلَ تلك المعصيةَ) ، فلا ريب في أنّك لم تفوّض الأمر إليه ؛ لأنّك نهيته . وأيضا لاريب في أنّك لم تجبره ؛ لأنّ الفرض أنّك تركته ، ولوكنت جبرته كنت منعته وألزمته على عدم الفعل ، (فليس حيثُ لم يَقْبَلْ منك وتركتَه (6) كنتَ أنت الذي أمرتَه بالمعصية) ، أي إنّ معصيته كانت بإرادتك ؛ لأنّك لولم تردّها كنت جبرته ، فقد اجتمع النهي والأمر الذي هو عبارة عن إرادة الفعل ، أعني التخلية بينه وبين فعله ، وهذا لا يسمّى جبرا ولا تفويضا ، فهو الأمر بين أمرين . وحاصل المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه لوكان اللّه تعالى فوّض الأمر إلى العباد ، لم يأمرهم ولم ينههم ، ولا ريب في قبح مثل هذا ، فهو غير لائق بجنابه تعالى ؛ لأنّ الترك وعدم النهي عن المنكر مع القدرة في قوّة الأمر بالمنكر .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص159 ، ح9 .
2- . في الكافي المطبوع : «والأرض» بدل «إلى الأرض» .
3- . الكافي ، ج1 ، ص159 ، ح12 .
4- . راجع شرح الحديث 6 من باب المشية والإرادة .
5- . الكافي ، ج1 ، ص160 ، ح13 .
6- . كذا في بعض نسخ الكافي ، وفي اكثر نسخ الكافي والمطبوع : «فتركته» .

ص: 663

باب الاستطاعة

باب الاستطاعةفي حديث عليّ بن أسباط (1) قوله عليه السلام : (يَستَطيعُ العبدُ بعد أربعِ خِصالٍ ...) . لمّا سأله السائل عن الاستطاعة ، أي عن أنّ العبد هل له استطاعة ؟ أجابه عليه السلام بما حاصله أنّ استطاعته موقوفة على أربع خصال ، أي لابدّ وأن يكون تلك الأربعة موجَدة ومحقَّقة حتّى يستطيع ، فاستطاعته ليست استطاعة تامّة ؛ لأنّ أسبابها ليست من فعله . ثمّ لمّا كان قوله عليه السلام : (لسبب وارد) _ وفي بعض النسخ : «بسبب وإرادة» _ معناه خفيّا ، سأله السائل تفسيرَه ، فقال عليه السلام : (أن يكونَ العبدُ مُخلَّى السَّرْبِ) أي غير ممنوع ومحجوبٍ عليه . والسرب : الطريق . (صحيحَ الجسمِ ، سليمَ الجوارح ، يُريدُ أنْ يَزْنِيَ ، فلا يَجِدُ امرأةً) فحينئذٍ ليس له شيء من الاستطاعة ، (ثمّ يَجِدُها ، فإمّا أن يعصمَ) ، بالبناء للمفعول ، أي فإمّا أن يعصمه اللّه .وإنّما حذف الفاعل ؛ لكونه معلوما ، (فيَمْتَنِعَ) ، أي فتكون العصمة سببا لامتناعه من الزنى ، (كما امْتَنَعَ يوسفُ عليه السلام ) ، وهذا التشبيه للامتناع الذي سببه العصمة ، لا لتشبيه قصّة يوسف عليه السلام بأصل المثال ؛ لأنّه معصوم لم يُرِد الزنى (أو يُخَلِّيَ بينه وبين إرادته فيَزْني) فمن أسباب الزنى حينئذٍ عدم العصمة ، وهو سبب وارد من اللّه ، وأيضا هو إرادة من اللّه بالمعنى الأخصّ ؛ لأنّ عدم إرادة العصمة إرادة ؛ لعدم العصمة التي هي من أسباب الزنى . وفي قوله عليه السلام : (فيسمّى زانيا) تنبيه على أنّ استطاعته ليست استطاعة تامّة ، حتّى يختصّ الفعل به وبإرادته ، فيلزم غلبة إرادته إرادةَ اللّه ، بل لمّا تعلّقت إرادة اللّه بالتخلية بينه وبين إرادته صار مستطيعا ، ففعل فسمّي زانيا ؛ لأنّه في هذا الوقت صار مستطيعا بما هُيّئ له من الأسباب وخلّي بينه وبينها . ثمّ بيّن عليه السلام أنّ إطاعته اللّه سبحانه حين عصمه ليست بإكراه منه تعالى حتّى لا يستحقّ بها الثواب ، وأنّ عصيانه ومخالفته الأمرَ ليس سببها غلبةَ إراته إرادةَ اللّه ، بل السبب التخلية بينه وبين إرادته ، كما نبّه عليه السلام عليه ، فقال : (ولم يُطِعِ اللّه بإكراهٍ ، ولم يَعْصِهِ بغَلَبَةٍ) . ولا يخفى أنّ علّة العصمة والهداية ما سبق من العبد من الطاعة ومحبّة عدم المخالفة ؛ لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص160 ، ح1 .

ص: 664

في حديث عليّ بن الحَكَم (1)قوله عليه السلام : للبصري : (أتَستطيعُ أن تَعْمَلَ ما لم يكن (2) ...) . حاصله : أنّ استطاعة العبد ليست استطاعة مستقلّة ؛ لأنّها مختصّة ببعض الأزمان والأفعال ، فعلم أنّها بتمكين اللّه تعالى بخَلْقه الأسباب والآلات ، ولا يلزم التفويض ولا الجبر كما بيّنه عليه السلام ، فعلم أنّه ليس مستطيعا على الإطلاق ، وأنّ المستطيع على الإطلاق جميع الأزمان والأفعال بالنسبة إليه متساوية ، فلا يوصف بعجز ؛ فليتأمّل .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص161 ، ح2 .
2- . في الكافي المطبوع : «ما لم يُكَوَّنْ» .

ص: 665

باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة

في حديث حمزة بن حُمران (1)قول الراوي (أو كما قالَ) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّه عليه السلام قال : (هذا دينُ اللّه ِ [الذي] أنا عليه وآبائي) أو قال : هذا دين اللّه ، «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يكلّف العباد ...» .

باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة[في حديث ابن الطيّار (2) ] قوله عليه السلام : (إنّ اللّه َ احتجَّ على الناسِ بما آتاهم وعَرَّفَهم) . أي إنّ اللّه عزّ وجلّ جعل الحجّة على الناس ما آتاهم من القوى والنعم التي يعجز عنها من سواه ، فهو دليل على معرفته وما عرّفهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب من أوامره ونواهيه ، فليس لهم التجاوز إلى العمل برأيهم واجتهادهم . وأيضا فيه تنبيه على أنّ تمكينهم وإعطاءهم القوّة العامّة على فعل المأمور به والمنهيّ عنه لا يصير سببا لإسقاط الاحتجاج عليهم ؛ لأنّه تعالى جعل لهم من أنفسهم دليلاً على وحدانيّته ، وعرّفهم ما يحبّ ويكره بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فمن فرط فإنّما فرط بنفسه ، ومن وعى فلها .

في حديث محمّد بن حَكيم (3)قوله عليه السلام : حين سأله السائل بقوله : (المعرفةُ من صُنْع مَن هي؟ ) : (مِن صُنْعِ اللّه ، ليس للعباد فيها صُنْعٌ) . أي ما ينبغي أن يعرف هو ما علمه اللّه فيجب الأخذ به والاقتصار عليه وعدم تعدّيه . ويؤيّد هذا المعنى ما في حديث عبدالأعلى الآتي . ويحتمل أن يكون المراد بالمعرفة قبولَ التعليم ؛ وذلك لأنّه إذا كان العبد محبّا للّه مريدا معرفة ما علم ، فإنّ اللّه يهديه ويوفّقه للمعرفة ، لكن لا يلائمه بحسب الظاهر قولُه «ليس للعباد فيها صنع» ؛ لأنّ مقدّماتها من صنع العبد في الجملة ، إلاّ أن يقال : إنّه نفى الصنع الكائن فيها لا في مقدّماتها وما تتوقّف عليه .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص162 ، ح4 .
2- . الكافي ، ج1 ص162 ، ح1 .
3- . الكافي ، ج1 ، ص163 ، ح2 .

ص: 666

في حديث حمزة بن محمّد الطيّار (1) قوله عليه السلام : (حتّى يُعَرِّفَهم ما يُرضيه وما يُسخِطُه) . بيانٌ لقوله تعالى « حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ » (2) ؛ لأنّه إذا بيّن لهم جميع ما يسخطه ، علم أنّ غيره يرضيه ؛ لأنّه لولم يكن كذلك لم يكن بيّن لهم جميع ما يسخطه . قوله عليه السلام : (بَيَّنَ لها ما يَأتي وما تَتْرُكُ) . يعني أنّ المراد بإلهام التقوى بيان ما يجب فعله والإتيان به ، وبإلهام الفجور بيان ما يجب الكفّ عنه وتركه ، فقد ذكر اللازم وأراد الملزوم . وأيضا قوله عليه السلام في تفسير قوله تعالى : « إِنَّا هَدَيْنَ_اهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا » (3) : (عَرَّفْناه إمّا آخِذا وإمّا تارِكا (4) ) . فقد بيّن أنّ معنى «هديناه» عرّفناه ، وأنّ المراد بشاكر أو كفور ملزومهما ؛ لأنّ لازم الأخذ الشكر ؛ لأنّه سبب لاستحقاق جزيل النعم ، فهو نعمة ينبغي الشكر عليها ، ولازم الترك كفران هذه النعمة التي أنعم بها اللّه تعالى ، وهي الهداية وتعريف ما يحبّ ويكره ومنع تحقّقها وظهورها .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص163 ، ح3 .
2- . التوبة (9) : 115 .
3- . الإنسان (76) : 3 .
4- . في الكافي المطبوع : «إمّا آخذٌ وإمّا تاركٌ» .

ص: 667

في حديث حمزة بن محمّد الطيّار (1)قوله عليه السلام في تفسير قوله عزّ وجلّ : « وَ هَدَيْنَ_اهُ النَّجْدَيْنِ » (2) : (نَجْدَ الخيرِ ونجد (3) الشرِّ) . «النجد» : الطريق الواضح المرتفع ، وقد فسّر عليه السلام الهداية في الحديث السابق بالتعريف ، وفي آخَرَ بالتبيين ، وهما يناسبان المقام ، لا الإيصال ؛ لأنّ الإيصال إلى الشيء لا يسمّى هداية ، بل إضلالاً .

في حديث عبدالأعلى (4)قوله عليه السلام في جواب السائل : (لا ، عَلَى اللّه ِ البيانُ) . أي إنّ اللّه تعالى لم يخلق فيها أداة ينالون بها معرفة ما أمر به وما نهى عنه من غير احتياج إلى بيان ، بل لابدّ في تحصيلهم المعرفةَ من بيانه تعالى لهم إيّاها . ثمّ لمّا كان قوله عليه السلام : «على اللّه البيان» يدلّ على العموم ، أي على اللّه أن يبيّن لكلّ أحد ، ولا ريب في أنّ العقول والأفهام تختلف في معرفة ما بيّن ، فبعضها لها قوّة على فهم الجميع ، وبعضها على البعض ، قال عليه السلام : « لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا » (5) ، أي إلاّ ما تمكّنت وقدرت على فهمه والقيام به . وقوله عليه السلام : « لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَآ ءَاتَ_اهَا » (6) أي لم يكلّف بما لم يبيّن ؛ لأنّه مع عدم خلق أداة تحصل بها المعرفة من دون بيان وعدم البيان ، لو كلّف بالمعرفة لزم تكليف ما لا يطاق ، « ولاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا » . وفي هذا الحديث دلالة على نفي القبح والحسن العقليين . وما نعلمه _ من الحسن والقبح الذي لا دليل لنا عليه ظاهرا _ إن كان مطابقا للواقع ، فلبيانٍ شاع واشتهر ، لا لكونه منّا ؛ فليتأمّل . باب حُجَج اللّه على خَلْقه

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص163 ، ح4 .
2- . البلد (90) : 10 .
3- . كذا في قليل من نسخ الكافي ، وفي كثير من نسخه والمطبوع : - «نجد» .
4- . الكافي ، ج1 ، ص163 ، ح5 .
5- . البقرة (2) : 286 .
6- . الطلاق (65) : 7 .

ص: 668

باب حُجَج اللّه علي خلقه

في حديث بريد بن معاوية (1) قوله عليه السلام : (ليس للّه ِ عَزَّ وجَلَّ على خَلْقه أن يَعْرِفوا) . المعنى _ واللّه أعلم _ أنّ اللّه لم يوجب على خلقه المعرفة من دون أن يعرّفهم ويبيّن لهم ، لكن إذا عرّفهم فله عليهم القبول ، فالذي أوجب عليهم هو قبول المعرفة لا المعرفة ، (وللخَلْقِ على اللّه ِ أنْ يُعَرِّفَهُمْ) ويأمر لهم ونهاهم ليحصل لهم معرفة ما يرضيه فيأتون به ، وما لا يرضيه فينتهون عنه .

في حديث حمزة بن الطيّار (2) (ثمّ أرْسَلَ إليهم رسلاً ...) أي ثمّ أملى عليَّ هذا الكلام وهو «أرسل إليهم رسولاً ...» بعد إملائه «إنّ من قولنا : إنّ اللّه يحتجّ ...» . وهذا الكلام بيان لما قبله ، أي إنّما يكون المكلّف مكلّفا بعد التعريف بالأمر والنهي الذي أخبرت به الرسل ، وإيتاء القوّة على فعله ، فمع عدم القدرة على المأمور به لا حرج في تركه ، فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله نام عن الصلاة ، فقال اللّه تعالى : (أنا أنمتك (3) وأنا أُوقظك ، فإذا قُمْتَ فَصَلِّ ليَعْلَموا) ، أي علّة إنامتي إيّاك حصول العلم لهم بأنّه (إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون) ، لا علّة الصلاة ؛ فليتأمّل . وقوله عليه السلام : (ليس كما يقولون) يحتمل أن يكون من كلامه تعالى ، أو من كلامه عليه السلام فيكون كلاما مستأنفا بيانا لفساد قولهم «إذا نام عنها هلك» ، اللازم من اعتقاد كون النوم فعلاً اختياريّا لدلالة الكلام المتقدّم صريحا على خلافه . قوله عليه السلام : (ولا أقولُ : إنّهم ما شاؤوا صَنَعوا) . أي لا أقول : إنّ صنيعهم مقصور على ما شاؤوا ، أي لا أعنى بقولي : «لم تجد أحدا في ضيق» أن ما يصنعه منحصر في مشيئته ، بل لابدّ وأن يكون للّه المشيئة فيه أيضا ، ف «ما» موصول مفعول «صنعوا» مقدّم عليه ، فلهذا أفاد الحصر ؛ لأنّه تقديم ما حقّه التأخير . ثمّ لمّا بيّن أنّه ليس أحد منهم في ضيق ، وبيّن أنّه ليس المراد به الانحصارَ في مشيئتهم ، أوهم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فقال : (إنّ اللّه َ يَهدي ويُضلُّ) أي إنّ اللّه تعالى لم يفوّض الأمر إليهم مطلقا ، بل يهدي من أحبّه إلى مايحبّ والداعي فعل العبد ، ويضلّ من أبغضه ، أي يمنعه الهداية ، وكفى بها ضلالاً مع طغيان الإنسان ومعاداة الشيطان . ثمّ نبّه عليه السلام على أنّهم لم يؤمروا بشيء إلاّ وهم قادرون على ما هو أشقّ منه ، فقال : (وما أُمِروا إلاّ بدون سَعَتِهم) . ثمّ لمّا كانت الأوامر عامّة جميع الناس ، وكان ربّما يمكن أن يقال : إنّ الجميع ليسوا قادرين على الجميع ، نَبَّهَ عليه السلام على أنّ المعنى أنّها عامّة جميع من يقدر على الإتيان بها ، لا مطلقا ، فالعاجز غير مأمور في حال عجزه وإنّ الناس لا خير فيهم ، أي لا علم لهم بما قال اللّه تعالى ، فلهذا يذهب عليهم [ ...] هذه الأشياء . ثمّ تلا عليه السلام قوله تعالى : « لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ » (4) ، ثمّ أخبر أنّ الأمر موضوع عن هؤلاء ، وليس شاملاً لهم ، فهو تعالى لم يأمر إلاّ القادر على القيام بما أُمر به .

.


1- . الكافي ، ج1 ، ص164 ، ح1 .
2- . الكافي ، ج1 ، ص164 ، ح4 .
3- . كذا في بعض نسخ الكافي و شرح المازندراني ومرآة العقول ، وفي بعض نسخ أُخرى للكافي والمطبوع : «أُنيمك» .
4- . التوبة (9) : 91 .

ص: 669

. .

ص: 670

باب الهداية أنّها من اللّه عزّوجلّ

باب الهداية أنّها من اللّه عزّ وجلّحديث ثابت بن (1) سعيد (2)قد تقدّم ما يدلّ على أنّ اللّه سبحانه يحبّ من يحبّه ويهديه إلى ما يحبّ ، ويبغض من يبغضه ويمنعه الهداية ، ويتركه على ما يختاره ، ولا شكّ أنّ من منع هدايته تعالى يضلّ ضلالاً مبينا ، فسبب الضلال منع الهداية ، فهو علّة للضلال ، فظهر أنّه لا يلزم ترجيح غيرِ المرجّح من مدلول هذا الحديث وأمثاله ؛ فليتأمّل . هذا آخر ما مَنَّ اللّه به ممّا أظنّه من جواهر كنوز كتاب التوحيد من كتاب الكافي ، تأليف الشيخ الجليل السعيد أبيجعفر محمّد بن يعقوب الكليني ، قدّس اللّه روحه . أسأل اللّه التوفيق والهداية لما يحبّ ويرضى ، وكتبه في سنة 1058 ، مؤلّفه «عليّ بن زين الدين الثاني بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي» ، حامدا مصلّيا مسلما .

.


1- . كذا في بعض نسخ الكافي والمطبوع ، وفي بعض آخر من النسخ : «ثابت بن أبيسعيد» . والصواب «ثابت أبيسعيد» ، فقد روى البرقي الخبر في المحاسن ، ج1 ، ص200 ، ح34 ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن أبيإسماعيل السرّاج ، عن ابن مسكان ، عن ثابت أبيسعيد . ورواه الكليني أيضا في الكافي ، ج2 ، ص213 ، ح2 _ مع اختلاف يسير _ بسنده عن أبيإسماعيل السرّاج ، عن ابن مسكان ، عن ثابت أبيسعيد . ثمّ إنّ الظاهر أنّ ثابتا هذا ، هو ثابت بن عبداللّه أبوسعيد البجلي . راجع : رجال الطوسي ، ص129 ، الرقم1308 ، وص174 ، الرقم2049 . وأمّا ثابت بن سعيد ، أو ثابت بن أبيسعيد فلم نجد لهما ذكرا في كتب الرجال .
2- . الكافي ، ج1 ، ص165 ، ح1 .

ص: 671

. .

ص: 672

. .

ص: 673

. .

ص: 674

. .

ص: 675

. .

ص: 676

. .

ص: 677

. .

ص: 678

. .

ص: 679

. .

ص: 680

. .

ص: 681

. .

ص: 682

. .

ص: 683

. .

ص: 684

. .

ص: 685

. .

ص: 686

. .

ص: 687

. .

ص: 688

. .

ص: 689

. .

ص: 690

. .

ص: 691

. .

ص: 692

. .

ص: 693

. .

ص: 694

. .

ص: 695

فهرس مصادر التحقيق

.

.

ص: 696

. .

ص: 697

فهرس مصادر التحقيق1 . القرآن الكريم . 2 . الاحتجاج على أهل اللجاج ؛ لأبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي (م 620 ه) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة الجواد _ بيروت . 3 . أحكام القرآن ؛ لأبي بكر أحمد بن عليّ الرازي الجصّاص (م 370 ه) ، تحقيق : منشورات دار الكتب العلميّة _ بيروت ، الطبعة الاولى 1415 ه . 4 . الاختصاص ؛ لأبي عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ه) ، تحقيق : عليّ أكبر الغفّاري ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الاُولى 1413 ه . 5 . اختيار مصباح السالكين (شرح الوسيط لنهج البلاغة) ؛ لكمال الدين ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني (م 689 ه) ، تحقيق : الدكتور محمّد هادي الأميني ، مجمع البحوث الإسلاميّة التابعة لحضرة الرضويّة _ مشهد ، الطبعة الاولى 1408 ه . 6 . اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي) ؛ لأبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي (م 460 ه) ، تحقيق : حسن المصطفوي ، منشورات مكتبة المشهد 1408 ه . 7 . الأربعون حديثاً ؛ لمحمّد بن الحسين العاملي المعروف بالشيخ البهائي (م 1031 ه) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة دار الثقلين _ بيروت . 8 . الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد ؛ لأبي عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ه) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت _ قم ، الطبعة الاُولى 1413 ه . 9 . إرشاد القلوب ؛ لأبي محمّد الحسن بن أبي الحسن الديلمي (م 841 ه) ، منشورات الشريف الرضي _ قم ، الطبعة الاُولى 1412 ه . 10 . اُصول الفقه ؛ للشيخ محمّد رضا المظفّر (م 1382 ه) ، تحقيق و نشر : مركز البحوث و التحقيقات الإسلاميّة _ قم ، الطبعة الرابعة 1370 ه . 11 . إعلام الورى بأعلام الهدى ؛ لأبي عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي (م 548 ه) ، تحقيق ونشر : دار الكتب الإسلاميّة _ طهران ، الطبعة الثالثة . 12 . الإقبال بالأعمال الحسنة ؛ للسيّد رضي الدين أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس (م 664 ه) ، تحقيق ونشر : دار الكتب الإسلاميّة _ طهران ، الطبعة الثانية 1367 ه . 13 . الألفين في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي المعروف بعلّامة الحلّي (م 726 ه) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة دار الهجرة _ قم ، الطبعة الثانية 1409 ه . 14 . الأمالي للسيّد المرتضى ؛ لأبي القاسم عليّ بن الطاهر أبي أحمد الحسين المعروف بالسيّد المرتضى (م 436 ه) ، تحقيق : سيّد محمّد بدر الدين النعساني ، منشورات مكتبة المرعشى (ره) ، الطبعة الاُولى 1325 ه . 15 . الأمالي للصدوق ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، مكتبة الإسلاميّة _ طهران ، الطبعة الرابعة 1362 ش . 16 . الأمالي للطوسي ؛ لأبي جعفر محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (م 460 ه) ، تحقيق : مؤسسة دار الثقافة _ قم ، الطبعة الاُولى 1414 ه . 17 . الأمالي للمفيد ؛ لأبى عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ه) ، مؤسسة النشر الإسلامي _ قم ، الطبعة الثانية 1404 ه . 18 . الإيضاح ؛ لفضل بن شاذان الأزدي النيشابوري (م 260 ه) ، تحقيق : سيّد جلال الدين الحسيني . 19 . إيمان أبي طالب عليه السلام ؛ لسيّد شمس الدين فخار بن معدّ الموسوي (القرن السادس) ، منشورات سيّد الشهداء عليه السلام _ قم ، الطبعة الثانية 1410 ه . 20 . بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار ؛ للعلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقيّ المجلسي (م 1110 ه) ، مؤسّسة الوفاء _ بيروت ، 1404 ه . 21 . البرهان في علوم القرآن ؛ لبدر الدين محمّد بن عبداللّه الزركشي (م 794 ه) ، تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربيّة _ القاهرة ، الطبعة الاُولى 1376 ه . 22 . بشارة المصطفى لشيعة المرتضى ؛ لأبي جعفر محمّد بن محمّد بن عليّ الطبري (م 553 ه) ، المطبعة الحيدريّة _ النجف الأشرف ، الطبعة الثانية 1383 ه . 23 . بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد صلى الله عليه و آله ؛ لأبي جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار القمّي (القرن الثالث) ، تحقيق : محسن كوچه باغي ، الطبعة الثانية 1404 ه . 24 . بلاغات النساء ؛ لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المعروف بابن طيفور (م 280 ه) ، منشورات الشريف الرضي _ قم . 25 . البلد الأمين و الدرع الحصين ؛ للشيخ تقي الدين إبراهيم بن عليّ العاملي الكفعمي (م 905 ه) ، الطبعة الحجريّة 1382ه . 26 . تاج العروس من جواهر القاموس ؛ لمحمّد بن مرتضى الحسيني الزبيدي الحنفي (م 1205 ه) ، منشورات مكتبة الحياة _ بيروت . 27 . تاريخ مدينة دمشق ؛ لأبي القاسم عليّ بن الحسن بن هبة اللّه المعروف بابن عساكر الدمشقي (م 571 ه) ، تحقيق : عليّ الشيري ، منشورات دارالفكر _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1415 ه . 28 . تاريخ الطبري (تاريخ الاُمم والملوك) ؛ لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري (م 310 ه ) ، تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف _ مصر . 29 . تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة ؛ للسيّد شرف الدين عليّ الحسينيّ الأسترآبادي (م 940 ه) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الاُولى 1409 ه . 30 . التبيان في تفسير القرآن ؛ لأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي المعروف بالشيخ الطوسي (م 460 ه) ، تحقيق : أحمد حبيب قصير العاملي ، مكتبة الأعلام الإسلامي ، الطبعة الاُولى 1409 ه . 31 . تحرير الأحكام ؛ لأبي منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي المعروف بالعلاّمة الحلّي (م 726 ه) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت _ قم ، الطبعة الحجريّة . 32 . تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه و آله ؛ لأبي محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين الحرّاني المعروف بابن شعبة (م 381 ه) ، تحقيق : عليّ أكبر الغفّاري ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الثانية 1404 ه . 33 . تصحيح الإعتقاد ؛ لأبى عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ه) ، تحقيق و نشر : المؤتمر العالمي بمناسبة ذكرى ألفيّة الشيخ المفيد _ قم ، الطبعة الاُولى 1413 ه . 34 . تصنيف غرر الحكم و درر الكلم ؛ لعبد الواحد بن محمّد التميميّ الآمدي (م 550 ه) ، تحقيق و نشر : مركز الإحياء و التحقيق للعلوم الإسلاميّة _ قم ، الطبعة الاُولى 1366 ش . 35 . التعليقة على كتاب الكافي ؛ للسيّد محمّد الباقر الحسينيّ المشتهر بالمير داماد (م 1041 ه) ، تحقيق : السيّد مهدي رجائي ، مطبعة الخيّام _ قم . 36 . تفسير الثعالبي (الجواهر الحسان في تفسير القرآن) ؛ لأبي زيد عبد الرحمن بن محمّد بن مخلوف الثعالبي المالكي (م 875ه) ، مطبعة دار الإحياء لتراث الإسلامي، الطبعة الاُولى 1418ه . 37 . تفسير الصافي ؛ للمولى محسن الفيض الكاشاني (م 1091 ه) ، منشورات مكتبة االصدر _ طهران¨ ، الطبعة الثانية 1416 ه . 38 . تفسير العيّاشي ؛ لأبي النضر محمّد بن مسعود السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي (م 320 ه) ، تحقيق : السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي ، المكتبة العلميّة _ طهران ، الطبعة الاُولى 1380 ه . 39 . تفسير غريب القرآن ؛ للشيخ فخر الدين الطريحي (م 1085 ه) ، تحقيق : محمّد كاظم الطريحي ، منشورات الزاهدي _ قم . 40 . تفسير فرات الكوفي ؛ لأبي القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي (م 352 ه) ، تحقيق : محمّد الكاظم ، المطبعة التابعة لوزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي _ إيران ، الطبعة الاُولى 1410 ه . 41 . تفسير القرآن العظيم ؛ لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشيّ الدمشقي (م 774 ه) ، مطبعة دار المعرفة _ بيروت ، 1412 ه . 42 . تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ؛ لأبي الحسن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمّي (م 307 ه) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة دار الكتاب _ قم ، الطبعة الثالثة 1404 ه . 43 . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام ؛ تحقيق ونشر : مدرسة الإمام المهدي _ قم ، الطبعة الاُولى 1409 ه . 44 . تفسير نور الثقلين ؛ للشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي (م 1112 ه) ، تحقيق : السيّد هاشم الرسولي المحلّاتي ، مؤسّسة إسماعيليان _ قم ، الطبعة الرابعة 1412 ه . 45 . التمحيص ؛ لأبي علي محمّد بن همام بن سهيل الإسكافي (م 336 ه) ، تحقيق ونشر : مدرسة الإمام المهدي(عج) _ قم ، الطبعة الاُولى 1404 ه . 46 . تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام) ؛ لأبي الحسين ورّام بن أبي فراس (م 605 ه) ، مكتبة الفقيه _ قم . 47 . تنوير الحوالك (شرح على موطأ مالك) ؛ لجلال الدين أبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (م 911 ه) ، تحقيق : عبد العزيز الخالدي ، دار الكتب العلميّة _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1418 ه . 48 . التوحيد ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الثانية 1398 ه . 49 . تهذيب الأحكام في شرح المقنعة ؛ لأبي جعفر محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (م 460 ه) ، تحقيق : سيّد حسن الموسوى ، منشورات دار الكتب الإسلاميّة _ طهران ، الطبعة الرابعة 1365 ه . 50 . تهذيب الكمال في أسماء الرجال ؛ ليونس بن عبد الرحمن المزّي (م 742 ه) ، تحقيق : الدكتور بشّار عوّاد معروف ، مؤسّسة الرسالة _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1409 ه . 51 . الثاقب في المناقب ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن حمزة الطوسي (م 560 ه) ، تحقيق : رضا علوان ، مؤسّسة أنصاريان _ قم ، الطبعة الثانية 1412 ه . 52 . ثواب الأعمال و عقاب الأعمال ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، منشورات الشريف الرضي _ قم ، الطبعة الثانية 1364 ش . 53 . جامع الأخبار أو معارج اليقين في اُصول الدين ؛ لمحمّد بن محمّد بن حيدر الشعيري السبزواري (القرن السابع) ، تحقيق ونشر : مطبعة الحيدريّة _ النجف الأشرف 1385 ه . 54 . جامع البيان عن تأويل آي القرآن ؛ لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري (م 310 ه) ، تحقيق : صدقي جميل العطّار ، منشورات دار الفكر _ بيروت ، 1415 ه . 55 . جامع الرواة ؛ للمولى محمّد بن عليّ الأردبيلي الغروي الحائري (م 1101 ه) ، مكتبة المحمّدي _ قم . 56 . الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) ؛ لأبي عبداللّه محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي (م 671 ه) ، مؤسّسة التاريخ العربي _ بيروت ، 1405 ه . 57 . حاشية ردّ المختار ؛ لابن العابدين (م 1232 ه) ، منشورات دار الفكر _ بيروت ، 1415 ه . 58 . الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ؛ للشيخ يوسف البحراني المعروف بمحقّق البحراني (م 1186 ه) ، تحقيق : محمّد تقيّ الإيرواني ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، 1405 ه . 59 . الخرائج والجرائح ؛ لأبي الحسين سعيد بن عبداللّه الراوندي المعروف بقطب الدين الراوندي (م 573 ه) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة الإمام المهدي(عج) _ قم ، الطبعة الاُولى 1409 ه . 60 . خصائص الأئمّة عليهم السلام : (خصائص أميرالمؤمنين عليه السلام ) ؛ لأبي الحسن الشريف الرضي محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي (م 406 ه) ، تحقيق : محمّد هادي الأميني ، مجمع البحوث الإسلاميّة التابع للحضرة الرضويّة المقدّسة _ مشهد 1406 ه . 61 . الخصال ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، تحقيق : عليّ أكبر الغفّاري ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الثانية 1403 ه . 62 . الخلاف ؛ لأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي المعروف بالشيخ الطائفة (م 460 ه) ، تحقيق : سيّد عليّ الخراساني ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الأُولى 1417 ه . 63 . الدرّ المنثور في التفسير المأثور ؛ لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (م 911 ه) ، منشورات دار المعرفة ، الطبعة الاُولى 1365 ه . 64 . دعائم الإسلام و ذكر الحلال و الحرام و القضايا و الأحكام ؛ لأبي حنيفة النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيّون التميمي المغربي (م 363 ه) ، تحقيق : آصف بن عليّ أصغر فيضي ، دار المعارف _ مصر ، الطبعة الثانية 1385 ه . 65 . الدعوات ؛ لأبي الحسين سعيد بن عبداللّه بن الحسين الراوندي المعروف بقطب الدين الراوندي (م 573 ه) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة الإمام المهدي (عج) _ قم ، الطبعة الاُولى 1407 ه . 66 . الدلائل الإمامة ؛ لأبي جعفر محمّد بن جرير بن رستم الطبري (القرن الخامس) ، منشورات مطبعة الحيدريّة _ النجف الأشرف 1383 ه . 67 . رسالة حول حديث نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ؛ لأبى عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ه) ، تحقيق و نشر : المؤتمر العالمي بمناسبة ذكرى ألفيّة الشيخ المفيد _ قم ، الطبعة الاُولى 1413 ه . 68 . الروضة البهيّة في طرق الشفيعيّة ؛ لمحمّد شفيع بن عليّ أكبر جاپلقي بروجردي ، الطبعة الحجريّة . 69 . روضة الواعظين و بصيرة المتّعظين ؛ لمحمّد بن الحسن بن عليّ بن أحمد بن عليّ الفتّال النيسابوري (م 508 ه) ، منشورات الشريف الرضي _ قم . 70 . زاد المسير في علم التفسير ؛ لأبى الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد الجوزيّ (م 597 ه) ، تحقيق : محمّد بن عبد الرحمن عبد اللّه ، منشورات دار الفكر _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1407 ه . 71 . الزهد ؛ لأبي محمّد حسين بن سعيد بن الحمّاد بن مهران الأهوازي (القرن الثالث) ، تحقيق : ميرزا غلامرضا عرفانيان ، الطبع من سيّد أبو الفضل حسينيان ، الطبعة الثانية 1402ه . 72 . السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى ؛ لأبي جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (م 598 ه) ، تحقيق ونشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الثانية 1410 ه . 73 . سعد السعود للنفوس ؛ للسيّد رضي الدين أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس (م 664 ه) ، منشورات دار الذخائر _ قم . 74 . سماء المقال في علم الرجال ؛ لأبى الهدى الكلباسي (م 1356 ه) ، تحقيق : السيّد محمّد الحسيني ، مؤسّسة وليّ العصر عليه السلام للدراسات الإسلاميّة _ قم ، الطبعة الاُولى 1419 ه . 75 . سنن ابن ماجة ؛ لأبي عبداللّه محمّد بن يزيد بن ماجة القزويني (م 275 ه) ، تحقيق : محمّد فؤاد عبد الباقي ، منشورات دار الفكر _ بيروت . 76 . سنن أبي داود ؛ لأبي داود سليمان بن أشعث السجستاني الأزدي (م 275 ه) ، تحقيق : سعيد محمّد اللحام ، منشورات دار الفكر _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1410 ه . 77 . سنن الترمذي (الجامع الصحيح) ؛ لأبي عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي (م 297 ه) ، تحقيق : عبد الوهّاب عبد اللطيف ، منشورات دار الفكر _ بيروت 1403 ه . 78 . السنن الكبرى ؛ لأبي بكر أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي (م 458 ه) ، منشورات دار الفكر _ بيروت . 79 . السنن الكبرى ؛ لأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (م 303 ه) ، تحقيق : عبد الغفّار سليمان البنداري ، دار الكتب العلميّة _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1411 ه . 80 . سنن النسائي ؛ لأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (م 303 ه) ، دار الجيل _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1407 ه . 81 . سير أعلام النبلاء ؛ لأبي عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (م 748 ه) ، تحقيق : شُعيب الأرنؤوط ، مؤسّسة الرسالة _ بيروت ، الطبعة التاسعة 1413 ه . 82 . شرح ابن عقيل ؛ لبهاء الدين بن عبداللّه بن عقيل العقيليّ الهمداني (م 769 ه) ، تحقيق : محمّد محيي الدين عبد الحميد . 83 . شرح اُصول الكافي ؛ للمولى محمّد صالح المازندراني (م 1081 ه) تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، المكتبة الإسلاميّة ، طهران ، 1387 ق . 84 . شرح نهج البلاغة ؛ لعزّ الدين عبد الحميد بن محمّد بن أبي الحديد المعتزلي المعروف بابن أبي الحديد (م 656 ه) ، تحقيق : محمّد أبوالفضل إبراهيم ، دارإحياء الكتب العربيّة _ بيروت . 85 . شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت عليهم السلام ؛ لأبي القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه بن أحمد القرشي المعروف بابن حذاء (م 458 ه) ، تحقيق : محمّد باقر المحمودي ، مؤسّسة الطبع و النشر التابعة لوزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي _ إيران ، الطبعة الاُولى 1411 ه . 86 . الصحاح ؛ لأبي نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 398 ه) ، تحقيق : أحمد بن عبد الغفور عطّار ، دار العلم للملايين _ بيروت ، الطبعة الرابعة 1410 ه . 87 . صحيح البخاري ؛ لأبي عبداللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (م 256 ه) ، منشورات دار الفكر _ بيروت . 88 . الصراط المستقيم إلى مستحقّى التقديم ؛ لأبي محمّد عليّ بن يونس النباطي البياضي (م 877 ه) ، تحقيق و نشر : مطبعة الحيدريّة _ النجف الأشرف ، الطبعة الاُولى 1384 ه . 89 . صفات الشيعة ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، منشورات أعلمي _ طهران . 90 . عدّة الداعي و نجاح الساعي ؛ لأبي العبّاس جمال الدين أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي (م 841 ه) ، تصحيح : أحمد الموحّدي ، دار الكتاب الإسلامي _ قم ، الطبعة الاُولى 1407 ه . 91 . علل الشرائع ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، مكتبة الداوري _ قم . 92 . العمدة (عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار) ؛ ليحيى بن حسن بن الحسين الأسدي الحلّي المعروف بابن بطريق (م 600 ه) ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، 1407 ه . 93 . عوالي اللآلي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة ؛ لأبي جفر محمّد بن عليّ بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م 940 ه) ، تحقيق : مجتبى العراقي ، مطبعة سيّد الشهداء عليه السلام _ قم ، الطبعة الاُولى 1405 ه . 94 . عون المعبود ؛ لأبي الطيّب محمّد شمس الدين العظيم آبادي (م 1329 ه) ، دار الكتب العلميّة _ بيروت ، الطبعة الثانية 1415 ه . 95 . عيون أخبار الرضا ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، تحقيق : السيّد مهدي الحسيني اللاجوردي ، منشورات جهان _ قم 1378 ه . 96 . الغدير في الكتاب و السنّة و الأدب ؛ للشيخ عبد الحسين أحمد الأميني (م 1392 ه) ، دار الكتاب العربي _ بيروت 1379 ه . 97 . الغيبة ؛ لأبي عبداللّه محمّد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني (م 350 ه) ، تحقيق : عليّ أكبر الغفّاري ، مكتبة الصدوق _ طهران ، الطبعة الاُولى 1397 ه . 98 . فتح الباري (شرح صحيح البخاري) ؛ لأبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني (م 852 ه) ، تحقيق و نشر : دار المعرفة للطباعة و النشر _ بيروت ، الطبعة الثانية . 99 . فتح القدير (الجامع بين فنّي الرواية و الدراية من علم التفسير) ؛ لمحمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني (م 1250 ه) ، تحقيق و نشر : مطبعة عالم الكتب . 100 . الفصول في الاصول ؛ لأبي بكر أحمد بن عليّ الرازي الجصّاص (م 370 ه) ، تحقيق : عجيل جاسم ، مطبعة التراث الإسلامي ، الطبعة الاُولى 1405 ه . 101 . الفصول المختارة من العيون والمحاسن ؛ لأبي القاسم عليّ بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى و علم الهدى (م 436 ه) ، تحقيق و نشر : المؤتمر العالمي بمناسبة ذكرى ألفيّة الشيخ المفيد _ قم ، الطبعة الاُولى 1413 ه . 102 . فلاح السائل و نجاح المسائل ؛ للسيّد رضي الدين أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس (م 664 ه) ، مركز الإحياء و التحقيق للعلوم الإسلاميّة _ قم . 103 . قصص الأنبياء عليهم السلام ؛ لأبي الحسين سعيد بن عبداللّه المعروف بقطب الدين الراوندي (م 573 ه) ، تحقيق : غلام رضا عرفانيان ، مجمع البحوث الإسلاميّة التابع لمؤسسة الآستانة الرضويّة _ مشهد ، الطبعة الاُولى 1409 ه . 104 . القواعد و الفوائد ؛ لأبي عبداللّه محمّد بن مكّيّ العاملي المعروف بشهيد الأوّل (م 786 ه) ، تحقيق : السيّد عبد الهادي الحكيم ، منشورات مكتبة المفيد _ قم . 105 . قوانين الاُصول (= القوانين المحكمة) ؛ للمحقّق الفقيه ميرزا أبو القاسم القمّي (م 1231 ه) ، الطبعة الحجريّة . 106 . الكافي ؛ لأبي جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329 ه) ، تحقيق : عليّ أكبر الغفّاري ، دار الكتب الإسلاميّة _ طهران ، الطبعة الرابعة 1365 ش . 107 . كتاب الصمت و آداب اللسان ؛ لعبد اللّه بن محمّد بن عبيد بن أبيس الدنيا المعروف بابن أبي الدنيا (م 281 ه) ، تحقيق : أبو إسحاق الحويني ، دار الكتاب العربي _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1410 ه . 108 . كشف الغمّة في معرفة الأئمّة عليهم السلام ؛ لأبي الحسن عليّ بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي (م 687 ه) ، تصحيح : السيّد هاشم الرسوليّ المحلاّتي ، منشورات مكتبة بني هاشمي _ تبريز 1381 ه . 109 . كشف اللثام عن كتاب قواعد الأحكام ؛ لبهاء الدين محمّد بن الحسن بن محمّد الإصفهاني المعروف بالفاضل الهندي (م 1137 ه) ، تحقيق و نشر : مكتبة المرعشي _ قم 1405 ه . 110 . كشف اليقين في فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام ؛ لحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي المعروف بالعلاّمة الحلّي (م 726 ه) ، تحقيق : حسين الدرقاهي ، المطبعة التابعة لوزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي _ إيران ، الطبعة الاُولى 1411 ه . 111 . كفاية الأثر في النصّ على الأئمّة الإثني عشر عليهم السلام ؛ لأبي القاسم عليّ بن محمّد بن عليّ الخزّاز القمّي (القرن الرابع) ، تحقيق : السيّد عبد اللطيف الحسيني الكوه كمري ، منشورات بيدار _ قم 1401 ه . 112 . كمال الدين و تمام النعمة ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، تحقيق : عليّ أكبر الغفّاري ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الاُولى 1405 ه . 113 . لباب النقول في أسباب النزول ؛ لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (م 911 ه) ، تصحيح : أحمد عبد الشافي ، منشورات دار الكتب العلميّة _ بيروت . 114 . لسان العرب ؛ لأبي الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور المصري (م 711 ه) ، منشورات دار المصادر _ بيروت 1410 ه . 115 . لواقع الأنوار القدسيّة في بيان العهود المحمّديّة ؛ لعبد الوهّاب الشعراني (م 973 ه) ، تحقيق و نشر : مطبعة البابي الحلبي و أولاده ، الطبعة الثانية 1392 ه . 116 . مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده عليهم السلام من طريق العامّة (فضائل ابن شاذان) ؛ لأبي الحسن محمّد بن أحمد بن عليّ القمّي المعروف بابن شاذان (القرن الرابع) ،تحقيق و نشر : مؤسّسة الإمام المهدي (عج) _ قم ، الطبعة الاُولى 1407 ه . 117 . المبسوط في فقه الإماميّة ؛ لأبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي المعروف بالشيخ الطائفة (م 460 ه) ، تصحيح : سيّد محمّد تقيّ الكشفي ، المكتبة الرضويّة 1387 ه . 118 . متشابه القرآن و مختلفه ؛ لأبي جعفر رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني (م 588 ه) ، منشورات بيدار _ قم 1328 ه . 119 . المجازات النبويّة ؛ لأبي الحسن محمّد بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف الرضي (م 406 ه) ، تحقيق وشرح : طه محمّد الزيني ، مكتبة بصيرتي _ قم . 120 . مجمع البحرين ؛ للشيخ فخر الدين الطريحي (م 1085 ه) ، تحقيق : سيّد أحمد الحسيني ، منشورات مكتبة الثقافة الإسلاميّة ، الطبعة الثانية 1408 ه . 121 . مجمع البيان في تفسير القرآن ؛ لأمين الإسلام أبي عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي (م 560 ه) تحقيق و نشر : مؤسّسة الأعلمي _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1415 ه . 122 . المحاسن ؛ لأبي جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (م 280 ه) ، دار الكتب الإسلاميّة _ قم ، الطبعة الثانية 1371 ه . 123 . المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء ؛ لمولى محسن الفيض الكاشاني (م 1091 ه) ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم 1383 ه . 124 . المحصول في علم اُصول الفقه ؛ لفخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606 ه) ، تحقيق : طه جابر بن فياض ، مؤسّسة الرسالة _ بيروت ، الطبعة الثانية 1412 ه . 125 . مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ؛ لحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي المعروف بالعلاّمة الحلّي (م 726 ه) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الاُولى 1412 ه . 126 . المراجعات ؛ للسيّد عبد الحسين الموسوي (م 1377 ه) ، تحقيق : حسين الراضي ، منشورات جمعيّة الإسلاميّة ، الطبعة الثانية 1402 ه . 127 . مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ؛ للعلاّمه محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (م 1111 ه) ، تحقيق : السيّد جعفر الحسيني ، دار الكتب الإسلاميّة _ طهران ، الطبعة الاُولى 1369 ه . 128 . المسائل العكبريّة ؛ لأبى عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ه) ، تحقيق و نشر : المؤتمر العالمي بمناسبة ذكرى ألفيّة الشيخ المفيد _ قم ، الطبعة الاُولى 1413 ه . 129 . مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل ؛ لميرزا حسين النوري الطبرسي (م 1320 ه) ، مؤسّسة آل البيت _ قم ، الطبعة الاُولى 1407 ه . 130 . المستصفى في علم الاُصول ؛ لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزالي (م 505 ه) ، دار الكتب العلميّة _ بيروت 1417 ه . 131 . مسكّن الفؤاد عند فقد الأحبّة و الأولاد ؛ للشيخ زين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي المعروف بالشهيد الثاني (م 966 ه) ، منشورات مكتبة بصيرتي _ قم . 132 . المسند لأحمد بن حنبل ؛ لأحمد بن محمّد بن حنبل الشيباني (م 241 ه) ، منشورات دار صادر _ بيروت . 133 . المصباح (جنّة الأمان الواقية و جنّة الإيمان الباقية) ؛ للشيخ تقي الدين إبراهيم بن عليّ بن الحسن العاملي الكفعمي (م 900 ه) ، منشورات الشريف الرضي _ قم ، الطبعة الثانية 1405 ه . 134 . مصباح الاُصول (تقرير بحث العلّامة أبيالقاسم الخوئي) ؛ بقلم : السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني ، منشورات مكتبة الداوري _ قم ، الطبعة الخامسة 1417 ه . 135 . مصباح المتهجّد ؛ لأبي جعفر محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (م 460 ه) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة فقه الشيعة _ بيروت ، الطبعة الاُولى 1411 ه . 136 . معالم الدين و ملاذ المجتهدين ؛ للشيخ جمال الدين الحسن نجل الشهيد الثاني (م 1011 ه) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم . 137 . معاني الأخبار ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، تحقيق : عليّ أكبر الغفّاري ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الاُولى 1361 ه ش . 138 . معاني القرآن ؛ لأبي جعفر النحّاس (م 338 ه) ، تحقيق : الشيخ محمّد عليّ الصابوني ، منشورات جامعة اُمّ القرى _ مملكة العربيّة السعوديّة ، الطبعة الاُولى 1409 ه . 139 . معجم رجال الحديث و تفصيل طبقات الرواة ؛ للسيّد أبي القاسم الموسوي الخوئي (م 1413 ه) ، الطبعة الخامسة 1413 ه . 140 . معدن الجواهر و رياضة الخواطر ؛ لأبي الفتح محمّد بن عليّ الكراجكي (م 449 ه) ، تحقيق : أحمد الحسينى ، المكتبة المرتضويّة _ طهران ، الطبعة الثانية 1394 ش . 141 . معرفة علوم الحديث ؛ لأبي عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحافظ النيسابوري (م 405 ه) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة الطبعة الرابعة 1400 ه . 142 . المغرّب في ترتيب المعرّب ؛ لأبي الفتح ناصر بن عبد السيّد بن عليّ المطرزي (م 616 ه) ، دار الكتاب العربي _ بيروت . 143 . مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ؛ لأبي محمّد عبد اللّه جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن هشام المصري الأنصاري المعروف بابن هشام (م 761 ه) ، تحقيق : محمّد محيي الدين عبد الحميد ، المطبعة المدني _ القاهرة 1405 ه . 144 . مفردات في ألفاظ القرآن (= مفردات الراغب) ؛ لأبي القاسم الحسين بن محمّد الراغب الإصفهاني (م 502 ه) ، مؤسّسة نشر الكتاب ، الطبعة الاُولى 1404 ه . 145 . المناقب ؛ لموفّق بن أحمد بن محمّد المكّي الخوارزمي (م 568 ه) ، تحقيق : الشيخ مالك المحمودي ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الثانية 1411 ه . 146 . مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهر آشوب) ؛ لأبي جعفر رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني (م 588 ه) ، تحقيق : السيّد هاشم الرسوليّ المحلاّتي ، منشورات العلّامة _ قم . 147 . من لا يحضره الفقيه ؛ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه) ، تحقيق : عليّ أكبر الغفّاري ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الثالثة 1413 ه . 148 . المؤمن (ابتلاء المؤمن) ؛ لحسين بن سعيد الكوفى الأهوازي (القرن الثالث) ، تحقيق ونشر : مدرسة الإمام المهدى (عج) _ قم ، الطبعة الاُولى 1404 ه . 149 . المهذّب البارع في شرح المختصر النافع ؛ لجمال الدين أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي (م 841 ه) ، تحقيق : الشيخ مجتبى العراقي ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الثالثة 1407 ه . 150 . مهج الدعوات و منهج العبادات ؛ لأبي القاسم بن موسى الحلّي المعروف بابن طاووس (م 664 ه) ، منشورات دار الذخائر _ قم ، الطبعة الاُولى 1411 ه . 151 . الميزان في تفسير القرآن ؛ للعلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي (م 1402 ه) ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم . 152 . نصب الراية لأحاديث الهداية ؛ لجمال الدين أبي محمّد عبداللّه بن يوسف الحنفي الزيلعي (م 762 ه) ، تحقيق : أيمن صالح شعباني ، مطبعة دار الحديث _ القاهره ، الطبعة الاُولى 1415 ه . 153 . نقد الرجال ؛ للسيّد مصطفى بن الحسين الحسيني التفرشي (القرن الحادي عشر) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة آل البيت ، الطبعة الاُولى 1418 ه . 154 . نوادر المعجزات في مناقب الأئمّة الهداة عليهم السلام ؛ لمحمّد بن جرير بن رستم الطبري (القرن الرابع) ، تحقيق و نشر : مدرسة الإمام المهدى (عج) _ قم ، الطبعة الاُولى 1410 ه . 155 . نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين ؛ للسيّد نعمة اللّه الموسويّ الجزائري (م 1112 ه) ، تحقيق : السيّد الرجائي ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين _ قم ، الطبعة الاُولى 1417 ه . 156 . النهاية في غريب الحديث والأثر ؛ لأبي السعادات مبارك بن مبارك الجزري المعروف بابن الأثير (م 606 ه) ، تحقيق : طاهر أحمد الزاوي ، مؤسّسة إسماعيليان _ قم ، الطبعة الرابعة 1364 ش . 157 . نهج البلاغة ؛ ما اختاره أبو الحسن الشريف الرضي محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (م 406 ه) ، تحقيق : صبحي صالح ، منشورات دار الهجرة _ قم . 158 . نهج الحقّ و كشف الصدق ؛ لأبي منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي المعروف بالعلاّمة الحلّي (م 726 ه) ، مؤسّسة دار الهجرة _ قم ، الطبعة الاُولى 1407 ه . 159 . نيل الأوطار من أحاديث سيّد الأخبار ؛ لمحمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني (م 1255 ه) ، منشورات دار الجليل _ بيروت . 160 . ينابيع المودّة لذوي القربى ؛ لسليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي (م 1294 ه) ، تحقيق : سيّد عليّ جمال أشرف الحسيني ، مطبعة الاُسوة _ طهران ، الطبعة الاُولى 1416 ه .

.

ص: 698

. .

ص: 699

. .

ص: 700

. .

ص: 701

. .

ص: 702

. .

ص: 703

. .

ص: 704

. .

ص: 705

. .

ص: 706

. .

ص: 707

. .

ص: 708

. .

ص: 709

فهرس المطالب

.

.

ص: 710

. .

ص: 711

فهرس المطالب .

ص: 712

. .

ص: 713

. .

ص: 714

. .

ص: 715

. .

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.