تقابل الحق و الباطل في القرآن

اشارة

عنوان و نام پديدآور : اتقابل الحق و الباطل في القرآنه/علي جبوري.

مشخصات نشر : قم: زائر، 1389.

مشخصات ظاهري : 250ص.

شماره كتابشناسي ملي : 2835022

پژوهشكدة علوم و معارف قرآني علامۀ طباطبائي

جبوري، علي، 1329 .

978-964-180-137-5

كتابنامه ص[ 249 ] 251 ؛ همچنين بصورت زيرنويس.

1. حق و باطل جنبه هاي قرآني. الف. عنوان.

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

ص: 7

ص: 8

ص: 9

ص: 10

ص: 11

كلمة دار التحقيق

﴿إنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.

القرآن الكريم كتاب الإنسانية، وأعظم معجزة خالدة، إن حارت عقول نوع البشر تجاه المعجزات الفعلية كشق القمر و تسبيح الحصي و شفاء المرضي و إحياء الموتي، ويقرّون بعجزهم ويعترفون بعدم قدرتهم، فاكابر المتفكّرين و العلماء المتضلّعين يعكفون علي عتبة القرآن الذي هو معجزة قوليّة لخاتم الأنبياء  ويعبدون ويخضعون لإلٰه القرآن و يسجدون له: و عبرات الأشواق جارية من قلوبهم وضمائرهم أمام عظمة القرآن، و يترنّمون بقولهم: «الخواص للقولية والعوام للفعلية أطوع».

وجه اعجاز القرآن وإن كان بالنسبة الي الفصاحة والبلاغة ظاهراً، إلّا ان أهمّ وجهة نظر اعجاز القرآن ليس اعجازه العلمي و... البحت، بل القرآن خالق الانسانية، والتربية القرآنيه ربّت شخصية كالام اميرالمومنين الذي هو فخر الكائنات و قطب أولياء الله ورئيسهم، لابدّ وان نفحص اعجاز القرآن في معارفه السّامية، و في معرفة الله و معرفة أسمائه و صفاته تعالي.

ولا يصل كتاب ولن يصل، قطّ في معرفة التوحيد - التي هي الغاية القصوي لآمال اولياء الله - الي مرتبة القرآن، هؤلاء الفلاسفة والمتكلّمون والعرفاء مدي

ص:12

التاريخ جاؤا وكلّهم تغذّوا ويتغذون من فتات مائدة القرآن، وكلّهم خاضعون تجاه القرآن الكريم ويضعون جبهة التواضع والخضوع علي تراب عتبته المقدّسة.

لهذا الغرض دار تحقيق العلّامة الطباطبائي  للعلوم والمعارف القرآنيه – بفضل الله وعنايته وبالإستعانة من حضرة وليّ العصر (عجل الله تعالي فرجه الشريف) وعلي ضوء كرامات السيّدة فاطمة المعصومة  - يهدف مطالبة المحققين والمؤلفين والمترجمين وأصحاب الآراء والنظريّات حول مختلف العلوم والمعارف القرآنية، لأجل الاستفادة من إمكانيّات وقدرات الثورة الجبّارة للجمهورية الاسلامية - يهدف التحقيق والتنقيب في العلوم القرآنية، وإشاعة وتبيين المعارف العالية للقرآن الكريم، وتأليف الكتب والبحث والتنقيب العلمي والتحقيق، وتربية المحقّقين والمدرّسين في الحوزات المختلفة للعلوم القرآنية، بوساطة الروضة المقدّسة للسيّدة فاطمة المعصومة  أسّست في سنة 1388ه_ ش، و جعل التنقيبات والتحقيقات العصرية وجهة النظر وموضع اهتمام كبير.

تأسيس هذه الدار كان من اهداف حضرة آية الله المسعودي الخميني المتولّي المعظّم للرّوضة المقدسة منذ زمن بعيد، وبسعيه وعنايته وجدّه المستمر تمّ انجاز هذا الدار ونحن الآن نغمز بحفاوة وحرارة أيدي المحقّقين الأعزاء للمساهمة في هذا المجال.

من الواجب علينا هنا ان نقدّم من صميم القلب شكرنا الجزيل المتواصل الي مؤلّف هذا الأثر الحاضر الذي سعي في انجازه سعياً بليغاً.

احمد العابدي

ص:13

المقدمة

اشارة

الحمد لله رب العالمين الذي أنزل الكتاب على عبده تبياناً لكل شيء وهدىً وبشرى للمحسنين، وأنزل من القرآن ما هو شفاء وصحة للمؤمنين، وجعله كافياً لمن اعتصم به وشافياً لمن تمسكَ به.

وأحمده وأشكره وأستعين به واستنصره وأتوب إليه، واستغفره في كل وقتٍ وحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معين ولا وزير، واشهد أن محمداً  عبد الله ورسوله سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين وعلى الأئمة الطاهرين وبعد:

قُمت وبالتوكل على الله سبحانه بكتابة هذا البحث تحت عنوان (تقابل الحق والباطل في القرآن).

شعوراً مني بأهمية هذا البحث التي تظهر لما يلي:

أولاً: معرفة الحق والباطل والتمييز بينهما طبق ما جاء في القرآن الكريم للتمسك بالحق وأهله واجتناب الباطل واهله.

حيث نلاحظ هناك مؤامرة وهجمة عالمية، وليست جديدة كما يتصور البعض وإن تطورت الآن وأخذت اشكالاً جديدة، واسلوباً آخر، فهي قديمة تتمثل في الحرب الاعلامية ضد الإسلام، ومبادئه الحقة والتي تشوّه الحقّ وتلبسه لبوس

ص: 14

الباطل، وتلبس الباطل لبوس الحق بتزيين الألفاظ وزخرف العبارات.

ثانياً: ارتباط مسألة الحق بمسألة انتصار الدين الإسلامي وظهوره على جميع الأديان في العالم ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(1). فإن الدين الإسلامي هو دين الحق الذي يستوعب كل مكان ولا يحول بينه وبين تقدمه أيَّ شيء أبداً. وذلك لأنّ الحقَّ هو عين الواقع وأصل الخير والبركة مقابل الباطل الذي هو الوهم والخيال وأصل الشر والفساد – ثم أن الحق يتلائم وينسجم مع فطرة ووجدان الإنسان وكذلك يوافق قوانين الوجود والخلق وسنن التاريخ.

بعكس الباطل الذي يتعارض وفطرة ووجدان الإنسان ولا يتوافق مع قوانين الخلق والوجود وسنن التاريخ، لذا لاثبات له قبال الحق.

وتزداد أهمية معرفة الحق لمعرفة أهله «اعرف الحق تعرف أهله»(2). للتمسك به وأهله ونبذ الباطل وأهله ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾(3).

وتزداد أهمية معرفة الحق يوماً بعد آخر لأنَّ الناس يتدافعون نحو الباطل وأهله ويبتعدون عن الحق وأهله بسبب مغيرات الدنيا من المال والجاه والمقام، ووجود شياطين الإنس والجن يسعون ويبذلون أقصى جهدهم من اجل إضلال الناس وإبعادهم عن طريق الحق – طريق الصراط المستقيم كما اقسم الشيطان: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(4).


1- الصف: ٢٩ ، التوبة: ٣٣.
2- الآمالي: الشيخ المفيد، ص ٤، وآمالي الشيخ الطوسي، ٦٢٦.
3- الرعد: 17.
4- الأعراف: 16.

ص: 15

فهاهم يُضلون الناس ويُبعدونهم عن خط ومنهج أهل البيت  الذين يمثّلون الحق بافضل صورة.

حتّى أدى الأمر إلى استعلاء أهل الباطل «رأيت أهل الباطل قد استعلوا على أهل الحقّ»(1).

وللتعرف على مصاديق الحق كما ذكرها القرآن الكريم نقول: من أصدق مصاديق الحق واجلاها هو الله سبحانه وتعالى – ثم الأنبياء والرسل وأئمة الهدى (أئمة أهل البيت ) – والملائكة والوحي – والكتب السماوية والقرآن والجنّة والنار والوعد والوعيد – كذلك المبدأ والمعاد- وكل مافيه خير وسعادة البشرية فهو حقّ. مقابل مصاديق الباطل وهي:

الأصنام – وعبدة الأصنام- والطواغيت- وشياطين الإنس والجن- وقرناء السوء- اليزيديون- والصهاينة وحكام أمريكا على مدى التاريخ يُمثّلون اكبر الشياطين كما وصفهم الإمام الخميني (قدس) (بالشيطان الأكبر).

وكل من تخلف عن الحق ونصرته فهو شيطان اخرس كما في المثل المعروف.

لذا علينا بالتحصن والحذر من الوقوع في حبائل وشِباك الباطل وذلك بالاستعانة بأهل البيت .

يذكر لنا التاريخ الإسلامي هناك شخصيّات إسلامية لها ماضي إسلامي معروف قد ضلوا طريق الحق وسلكوا طريق الباطل أمثال طلحة والزبير.

وفي كل عصر وزمان هناك طلحة وزبير قد تخلفوا عن الحق وعن الإسلام طلبا للدنيا والرئاسة والمنصب.

لذا نرى الإمام علي  يخاطب كميل مبيناً له أن الأرض مملوؤة بالابالسة ولا ينجو أحدٌ إلا مَن تمسك بأهل البيت.


1- الكافي: 38/8 ن ضمن ح 7.

ص: 16

لقد بعث الله (124000) مأة وأربعة وعشرين ألف نبيّ لإقامة الحق والعدل وإزالة الباطل والظلم، لكن لم يُوفّقوا ولأسباب شتى لإقامة الحق والعدل وإزالة الباطل والظلم.

لكن يبقى إنتظارنا صاحب الأمر والزمان  لإقامة الحق والعدل وإزالة الباطل والظلم.

وأول حق يطلبه هو دمّ جده الحسين  ودم ولده عبد الله الرضيع ، قال رسول الله : «المهدي من ولدي... يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً»(1).

يتضمن هذا البحث الآيات القرآنية الخاصة بالحق بكل مصاديقه والخاصة بالباطل بكل مصاديقه وجعلها في متناول يدي القارئ الكريم وباسلوب سهل وشيّق، بدل من وجودها متفرقة ومتناثرة بين طيّات كتب التفسير أو كتب علوم القرآن.

وقد أحصيتُ ما يقارب (250) مئتين وخمسين آية في موضوع الحق وما يقارب (30) ثلاثين آية في موضوع الباطل مع توضيحاتها. وجدير بالذكر أن قلة الآيات التي تتحدث عن الباطل مقابل التي تتحدث عن الحق يرجع إلى:

كما قلنا: ان الباطل وهم وخيال لا وجود له في الواقع وإنّما وجوده بهذا المقدار لأجل المقارنة بينه وبين الحق الذي هو عين الواقع والحقيقة والذي يميل إليه الإنسان بطبعه ويرفض الباطل.

اضافة إلى ذلك أنّ القرآن الكريم كتاب هداية وتربية للإنسان ﴿إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(2).


1- كمال الدين: ٢٨٧ ، ج ٥، عنه البحار: 72/51،ف ح17، معجم أحاديث المهدي.
2- الإسراء: 9.

ص: 17

فالله سبحانه وتعالى يرغّب الناس نحو الأمور الحسنة والصفات الحميدة كالحق والعدل والصدق واداء الأمانة.

ويبعّدهم عن الباطل والصفات الرذيلة – كالباطل والظلم والكذب وخيانة الأمانة.

يتضمن هذا البحث ما يلي:

تعريف الحق والباطل كما جاء في كتاب مفردات الراغب (كتاب الحاء – وكتاب الباء).

بحث مصاديق الحق بِذكر الآيات القرآنية التي بهذا الخصوص وما يقابلها من الآيات التي تبحث في الباطل والمواضيع التي لها علاقة بهذا الموضوع.

كالصراع بين الحق والباطل – والحق والإمام المهدي  - وحرمة كتمان الحق.- كتمان الحق في الأحاديث- مفاسد كتمان الحق – عدم صمود الباطل أمام الحقّ لا يفوتني أن اذكر أن البدء في كتابة هذا البحث هو قد تزامن مع أيّام عاشوراء الحسين  ذكرى ثورة أبي الأحرار الحسين بن علي  التي مثّلت الحقّ بأعلى وأروع صوره ومصاديقه الثوريّة التي انتصر فيها الدم على السيف التي علّمت احرار العالم كيف يثورون ضد الباطل والظلم معلنين صرخاتهم هيهات منها الذلة كما صرخ بها أبو الأحرار.

اما الباطل والظلم المتثمل بيزيد واتباعه الذين مثّلوا أخسّ وأقبح صور الباطل والانحراف.

لذا نرى هذه الثورة باقية ومتجددة باحسن صورها سنة بعد أخرى وستبقى مشعلاً ينير الطريق لطلاب الحق والعدالة اما يزيد وامثاله الطواغيت ولَّوا وذهبوا إلى مزبلة التاريخ يلاحقهم الذل والعار في الدنيا والآخرة ويلعنهم

ص: 18

التاريخ ويلعنهم اللاعنون ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾(1).

ولابد من تقديم الشكر والامتنان إلى سماحة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور عابدي لاهتمامه بالتحقيق وتشجيعه وتحمل مسؤولية متابعة نشر آثار المحققين اسأل الله تعالى ان يوفقه للمزيد في هذا المجال.

اللهم انصر الحق وأهله واخذل الباطل وأهله إنّك أنت الحق والداعي إلى الحق وناصر الحق إنّك سميع الدعاء.

علي الجبوري

1/ محرم الحرام/ 1431ه_. ق

الموافق 1388


1- الشعراء: 227.

ص: 19

قال تعالى:

﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾.(1)

تعريف الحق والباطل لغةً

الحق: ضد الباطل

يقول الراغب(2): أصل الحق بمعنى المطابقة والموافقة، كمطابقة رِجل الباب في حُقّه (3).لدورانه على استقامة.

والحقُّ يقال على أوجه:

الأول: يُقال لموُجد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقُّ(4)، قال الله تعالى: ﴿وَرُدُّواْ إلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ﴾(5)، وقيل بُعيد ذلك: ﴿فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾(6).


1- الاسراء:81.
2- مفردات الراغب: باب حق، ص 246-248.
3- هي عقب الباب.
4- راجع الأسماء والصفات: ص ٢٦ .
5- يونس: 30.
6- يونس: 32.

ص:20

والثاني: يُقال للموجَد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يُقال: فِعْلُ الله تعالى كلُّه حقّ، نحو قولنا: الموت حق، والبحث حق، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إلاَّ بِالْحَقِّ﴾(1).

وقال في القيامة ﴿وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ﴾(2) و﴿يَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾(3) وقوله عزّ وجلّ: ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾(4)، ﴿وَإنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾(5).

الثالث: في الاعتقاد بالشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، كقولنا: اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنَّة والنار حق، قال الله تعالى: ﴿فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾(6).

والرابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب، وفى الوقت الذي يجب، كقولنا: فعلُك حق، وقولُك حق قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾(7) و﴿حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾(8) وقوله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ﴾(9)، يصح أن يكون المراد به الله تعالى، ويصح أن يراد به الحكم الذي هو


1- يونس:5.
2- يونس: 53.
3- البقرة:146.
4- البقرة:147.
5- البقرة: 149.
6- البقرة:213.
7- يونس: 33.
8- السجدة:13.
9- المؤمنون:71.

ص:21

بحسب مقتضى الحكمة. ويُقال أحققتُ كذا أي: أثبته حقّاً أو حكمتُ بكونه حقّاً، وقوله تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ﴾(1).

أما إحقاق الحق على ضربين:

أحدهما: بإظهار الأدلة والآيات، كما قال تعالى: ﴿وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾(2).

والثاني: بإكمال الشريعة وبثّها في الكافة كقوله تعالى: ﴿وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(3) و﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(4) وقوله: ﴿الحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ﴾(5) إشارة إلى القيامة كما فُسره بقوله ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ﴾(6)، لأنه يحقّ فيه الجزاء، ويستعمل استعمال الواجب واللازم والجائز، نحو ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(7) وقوله تعالى: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلاَّ الْحَقَّ﴾(8)، قيل معناه جدير، وقرئ ﴿حَقِيقٌ عَلَى﴾(9). وقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾(10).

والحقيقة تستعمل تارة في الشيء الذي له ثباتٌ ووجود كقوله  لحارثة: «لكل


1- الأنفال:8.
2- النساء:91.
3- الصف:8.
4- التوبة: 33، الصف:9.
5- الحاقة:1و2.
6- المطففين:6.
7- الروم: 47.
8- الأعراف: 105.
9- وبها قرآن نافع وحده انظرك الاتحاف، ص ٢١٧ .
10- البقرة:228.

ص:22

حقٍ حقيقة، فما حقيقة إيمانِك»؟(1) أي: ما الذي ينبئ عن كون ما تدَّعيه حقّاً؟

وفلانٌ يحمى حقيقته، أي ما يحقّ عليه أن يُحمى. وتارة تستعمل في الاعتقاد كما تقدّم وتارة في العمل وفى القول فيقال: فلان لفعله حقيقة: إذا لم يكن مرائياً فيه، ولقوله حقيقةٌ: إذا لم يكن فيه مُتخرّصاً ومستزيداً، ويستعمل في ضدّه المتجوز والمتوسّع والمتفسَّح، وقيل: الدنيا باطل والآخرة حقيقة، تنبيها على زوال هذه وبقاء تلك، وأما في تعارف الفقهاء والمتكلمين فهي اللفظ المستعمل فيما وُضِع له في أصل اللغة(2).

والحِقُّ من الإبل: ما استحق أن يُحمَل عليه والأنثى حِقة، والجمع حقاق، وأتت الناقة على حقّها(3) أي: على الوقت الذي ضربت فيه من العام الماضي.

أما معنى الحق في القاموس: الحق ضد الباطل، والصدق وهو ثابت وغيره زائل، وفي المجمع: الحق: يعني وضع الشيء في موضعه.

﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾(4).

الباطل

الباطل: نقيض الحق، وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه(5) قال تعالى: ﴿ذَلِكَ


1- عن صالح بن مسمار أن رسول الله 9 قال لحارث بن مالك كيف أنت؟ أو: ما أنت يا حارث؟ قال: مؤمن: قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فاسهرت ليلي واظمأت نهاري، وكأني انظر إلى عرش ربي عزّ وجلّ، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني اسمع عواء أهل الناّر، فقال رسول الله : «مؤمن نوّر الله قلبه». أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص ١٠٦ مرسلاً والبزاز والطبراني، وهو حديث معضل. انظر: الإصابة، 289/1، مجمع الزوائد ،57/1.
2- انظر: شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص ٤٢.
3- انظر: اللسان (حقق)،55/10.
4- الأنفال:8.
5- مفردات الراغب: باب باطل، ص 129-130.

ص: 23

بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾(1).

وقد يُقال ذلك في الاعتبار إلى المقال والفعال، يُقال: بطل بطولاً وبُطلاً وبُطلاناً، وأبطله غيره، قال عزّ وجلّ: ﴿وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(2) وقال تعالى: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾(3).

وبَطُل دمُّهُ: إذا قُتِل ولم يحصل له ثأر ولا ديّة، وقيل للشجاع المتعرض للموت: بطل تصوّراً لبطلان دمه، كما قال الشاعر:

فق_لتُ له_ا: لا تن_كح_يه فإنهلأوَّل بُطلِ أن يلاقى مجمعاً(4)

فيكون فِعلا بمعنى مفعول، أو لأنه يُبطل دم المتعرِّض له بسوء، والأول أقرب.

فقد بَطلَ الرجل بطولةً صار بطلاً، وبُطّل: نسب إلى البطالة، ويُقال: ذهبَ دمُّه بُطلاً أي: هدراً، والابطال يُقال في إفساد الشيء وإزالته، حقّاً كان ذلك الشيء أو باطلاً قال الله تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾(5)، وقد يقال فيمن يقول شيئاً لا حقيقة له، نحو: ﴿وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ أَنتُمْ إلاّ مُبْطِلُونَ﴾(6) وقوله تعالى: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾(7) أي: الذين يبطلون الحق.


1- الحج: 62.
2- الأعراف: 118.
3- آل عمران:71.
4- البيت: لتأبّط شرّاً، وهو في ديوانه، ص ١١٢ ،والاغاني، 218/18، وايضاح الشعر للقاري، ص ٤٤٩، شرح الحماسة، للتبريزي،26/2.
5- الأنفال: 8.
6- الروم: 58.
7- غافر: 78.

ص: 24

ص: 25

القسم الأول: الآيات التي تبيّن أن الله حق و المنكرين لهذا الأمر باطل

اشاره

ص:26

ص:27

بعد التعرف على الحق والباطل نستعرض الآيات التي تتكلم عن الحق الذي هو الله وما يقابلها بالنسبة للباطل المتمثل في - الأصنام وعبدة الأصنام والمشركين وشياطين الإنس والجن والمعاندين من أهل الكتاب-.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾(1).

بعد التوصل إلى أن الله هو الخالق وهو المالك وعلمه وقدرته لا متناهيتين. لذا فالله هو الحق وحده، وكل شيء غيره زائل وباطل ومحدود ومحتاج، وهو والعلي الكبير الذي يسمو على كل شيء ويُجلّ عن كل وصفٍ، هو ذاته المقدسة، فقول الشاعر:

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلٌ وك_لُ نع_ي_مٍ لا مح_ال_ة زائ_ل

ويمكن إيضاح هذا التعبير كما يلي:

إن الحق إشارة إلى الوجود الحقيقي الثابت، وفي هذا العالم فإن الوجود الحقيقي القائم بذاته والثابت المستقر الخالد هو الله فقط، وكل ما عداه لا وجود له بذاته وهو عين البطلان، حيث إنه يستمد وجوده عن طريق الارتباط بذلك الوجود الحقّ الدائم، فإذا انقطع الفيض عنه لحظة فإنه سيُفنى ويُمحى في ظلمات الفناء والعدم، وبهذا فإنه كلّما قوي ارتباط الموجودات الأخرى بوجود الله تعالى فإنها تكتسب بتلك النسبة حقا أكبر.


1- لقمان: 30.

ص: 28

وعلى كلٍّ، وكما قلنا سابقا، فإن هذه الآيات مجموعة من عشر صفات من صفات الله تعالى، وعشرة أسماء من أسمائه، وتشتمل على أدلة قوية - لا يمكن إنكارها - وعلى بطلان كل أنواع الشرك، ولزوم التوحيد في كل مراحل العبودية وفي الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾(1).

في هذه الآية يُبيّن سبحانه أنّه ليس للإنسان إلا قلب واحد، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلا عشق معبود واحد، وعلى هذا فإن أولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعددة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعددة، ليجعلوا كل واحد منها بيتاً لعشق معبودٍ واحدٍ!

من المسلم أن شخصيّة الإنسان السليم شخصية واحدة، وخطه الفكري واحد، ويجب أن يكون واحدا في وحدته واختلاطه بالمجتمع، في الظاهر والباطن، في الداخل والخارج، وفي الفكر والعمل، فإن كل نوع من أنواع النفاق أو ازدواج الشخصيّة أمرٌ مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبيعته. ويسلك طريقا واحداً معيناً في حياته، بأن يتآلف مع فريق واحدٍ، ومجتمع واحدٍ، وإلا فإن التعدد والتشتت والطرق المختلفة والأهداف المتفرقة ستقوده إلى اللاهدفية والانحراف عن المسير التوحيدي الفطري.

ولهذا نرى في حديثٍ عن أمير المؤمنين علي  في تفسير هذه الآية: يقول: «لايجتمع حبنا وحب عدونا في جوف إنسان، إن الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه، فيحب بهذا ويبغض بهذا، فأما محبنا فيخلص الحب لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه، فإن شارك في حبنا حب عدونا فليس منا ولسنا منه»(2).


1- الأحزاب: 4.
2- تفسير علي بن إبراهيم، طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلد ٤، ص 234.

ص: 29

علائم الحق في العالم الكبير والصغير

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(1).

مثل هذه الآية تسمى بالآيات الآفاقية والنفسيّة أثبتت أن القرآن على حقٍّ. وهكذا فإن الخالق العظيم الذي يشهد على كل شيء، شهد أيضا على حقانية القرآن عن طريق القدرة التكوينية التي كُتبت على ناصية جميع الكائنات، على أوراق الشجر، في الأوراد والزهور، وبين طبقات المخ العجيبة، وعلى الاغشية الرقيقة للعين، وفي آفاق السماء وبواطن الأرض، وفي كلّ شيء من الوجود تجد أثراً يدل على الخالق، وشهادة تكوينية على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه (سبحانه وتعالى).

إن هذا هو أحد التفسيرين المعروفين للآية، إذ بناءاً على هذا التفسير فإن الآية بجميعها تتحدث عن قضية التوحيد، وتجلّي آيات الحقّ في الآفاق والأنفس.

أما التفسير الثاني فيذهب إلى قضية إعجاز القرآن، وخلاصته أن الله يريد أن يقول: لقد عرضنا معجزاتنا ودلائلنا المختلفة لا في جزيرة العرب وحسب، وإنما في نواحي العالم المختلفة، وفي هؤلاء المشركين أنفسهم، حتى يعلموا بأن هذا القرآن على حق.

فمن آيات الآفاق ما تمثّل بانتصار الإسلام في ميادين الحرب المختلفة، وفي ميدان المواجهة الفكرية والمنطقية، ثم انتصاره في المناطق التي فتحها وحكم فيها على أفكار الناس.


1- فصّلت:53.

ص: 30

تقابل الحق في عقيدة التوحيد والباطل في عقيدة الشرك

﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1).

تعقيبا على ما جرى بحثه في الآيات السابقة بشأن استدلالات إبراهيم  التوحيدية، تشير هذه الآيات إلى ما دار بين إبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام، الذين بدأوه بالمحاجة ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ﴾.

فردّ عليهم إبراهيم  قائلا: لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد، وتخالفونني فيه وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إلى طريق التوحيد قال: ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ يتضح في هذه الآية بجلاء أن قوم إبراهيم  - المشركين من عبدة الأصنام - كانوا يحاولون جهدهم وبأيِّ ثمن أن يبعدوا إبراهيم  عن عقيدته ويُرجعوه إلى عبادة الأصنام، ولكنّه وبكل شجاعة وجرأة ردّ عليهم بالدلائل المنطقية الواضحة. لا تشير هذه الآيات إلى المنطق الذي توسل به قوم إبراهيم  لحمله على ترك عقيدته، ولكن يبدو من جواب إبراهيم أنّهم قد حذّروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإرعابه وإخافته، لأننا على أثر ذلك نسمع إبراهيم يستهين بتهديدهم ويُؤكّد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوة في إيصال أي أذى إليه ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ...﴾ فما من أحد ولا من شيء بقادر على أن يلحق بي أي ضرر إلا أن يشاء الله: ﴿إلا أَن يَشَاء اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(2).

يظهر من هذه الآية أن إبراهيم  سعى لاتخاذ إجراء وقائي تجاه حوادث


1- الأنعام: 81.
2- هذا أشبه بالاستثناء المنقطع، فقد نفى عن الأصنام كل قدرة على النفع والضرر، وأثبتها لله.

ص: 31

محتملة، فيؤكّد أنّه إذا أصابه في هذا الصراع شيء - فرضاً - فلن يكون لذلك أي علاقة بالأصنام، بل يعود إلى إرادة الله، لأن الصنم الذي لا روح فيه ولا قدرة له على أن ينفع نفسه أو يضرها، لا يتأتى له أن ينفع أو يضر غيره. ويضيف إلى ذلك مبيناً أن ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع بعلمه كل شيء: ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾.

هذه العبارة - في الواقع - دليل على العبارة السابقة التي تقول: إن الأصنام لا قدرة لها على النفع والضرر، لأنّها لا تملك العلم ولا المعرفة اللازمين لمن يريد أن ينفع أو يضرّ، إنّ الله الذي أحاط علمه بكل شيء هو وحده القادر على أن يكون منشأ النفع والضرر فلِمَ إذن أخشى غضب غير الله سبحانه؟!

ثم يحرّك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلا: ﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾.

في الآية التالية ينهج إبراهيم  منطقاً استدلاليّاً آخر، فيقول لعبدة الأصنام: كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليَّ الخوف من تهديدكم، مع أنّي لا أرى في أصنامكم أثراً للعقل والإدراك والشعور والقوة والعلم، أما أنتم فعلى الرغم من إيمانكم بوجود الله وإقراركم له بالعلم والقدرة ويأمركم بعدم عبادة هذه الأصنام لا تخافون غضبه: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾(1).

إننا نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا ينكرون وجود الله خالق السماوات والأرض، ولكنهم كانوا يشركون الأصنام في عبادته ويعتبرونها شفيعة لهم عنده، فكانوا منصفين إذن وقالوا: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.


1- لسلطان: بمعنى التفوق والانتصار، ولما كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والانتصار فقد يوصفان بالسلطان أيضاً .

ص: 32

يستند منطق إبراهيم  هنا إلى منطق العقل القائم على الواقع، إنّكم تهددونني بغضب الأصنام، مع أن تأثيرها وهم من الأوهام، ولكنكم بعدم خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعاً، ونعتقد بوجوب إتّباع أمره تكونون قد تركتم أمراً ثابتاً، وتمسكتم بأمر وهمي فهو لم يصدر إلينا أمراً بعبادة الأصنام.

وفي هذه الآية جواب يُدلي به إبراهيم  على سؤال كان قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي، فقد يسأل المتكلم سؤالا عن لسان المخاطب ثم يبادر إلى الإجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص).

يقول: إن المؤمنين الذين لم يمزجوا إيمانهم بظلم، هم الآمنون وهم المهتدون ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾(1).

ثمة رواية عن أمير المؤمنين علي  تؤيد كون هذه الآية استكمالاً لحوار إبراهيم  مع عبدة الأصنام(2).

بعض المفسّرين يرى أنّ من المحتمل أن تكون هذه الآية بيانا إلهيّاً، وليست مقولة قالها إبراهيم، إلا ما ذكرناه - فضلا عن تأييد الرواية المذكورة له - أكثر انسجاماً مع ترتيب الآيات ووضعها، أما القول بأن هذه الآية لسان حال عبدة الأصنام، وأنّهم قالوها بعد تيقظهم على أثر سماع أدلة إبراهيم: فبعيد الاحتمال ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾(3).

بعد المنطق القاطع والسليم لعبدة الأصنام ودحض حججهم فالتعبيرات المقرونة بالتأكيدات والحاكية عن الحزم التام سبّب أن يرجع عبدة الأصنام إلى أنفسهم قليلاً،


1- الأنعام: 82.
2- تفسير مجمع البيان في تفسير الآية.
3- الأنبياء:55.

ص: 33

ويتوجّهوا إلى التحقق من قول إبراهيم، فأتوا إلى إبراهيم ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ لأن أولئك الذين كانوا قد اعتادوا على عبادة الأصنام، وكانوا يظنّون أنّ ذلك حقيقة حتميّة، ولم يكونوا يصدّقون أن أحداً يخالفها بصورة جديّة، ولذلك سألوا إبراهيم هذا السؤال تعجباً.

إلاّ أن إبراهيم  قد بين بهذه الكلمات القاطعة أن الذي يستحق العبادة هو خالقهم وخالق الأرض وكل الموجودات.

﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ وقوله تعالى على لسان إبراهيم : ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾.

اجتناب مجالس أهل الباطل

بما أن المواضيع التي تتطرق إليها هذه السورة تتناول حال المشركين وعبدة الأصنام، وهما أهل الباطل.

فهاتان الآيتان تبحثان موضوعاً آخراً من المواضيع التي تتعلق بهم، ففي البداية تقول للرسول : ﴿وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(1).(2)

على الرغم من أن الكلام هنا موجه إلى رسول الله ، إلا أنه لا يقتصر عليه وحده، بل هو موجه إلى المسلمين كافة، إنّ فلسفة هذا الحكم واضحة، إذ لو اشترك


1- الأنعام:68.
2- «الخوض» كما يقول الراغب الأصفهاني في (مفرداته) هو الدخول في الماء والمرور فيه، ثم أستعير للورود في أمور أخرى، وأكثر ما ترد في القرآن بشأن الدخول في موضوع باطل لا أساس له.

ص: 34

المسلمون في مجالسهم، لاستمرّ المشركون في خوضهم في آيات الله بالباطل نكاية بالمسلمين واستهزاءً بكلام الله ولكن المسلمين إنْ أصرّوا دون أن يبالوا بهم، فسيكفّون عن ذلك ويُغيّرون الحديث إلى أمور أخرى، لأنّهم كانوا يتقصدون إيذاء رسول الله  والمسلمين.

ثم تخاطب الآية رسول الله مؤكدة أهمية الموضوع: ﴿وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ(1) بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي إذا أنساك الشيطان هذا الأمر وجلستَ مع هؤلاء القوم سهواً، فعليك - حالما تنتبه - أن تنهض فوراً وتترك مجالسة الظالمين.

مراحل الكفر

﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾(2).

إن معظم الخطاب في سورة الأنعام موجه إلى المشركين، والقرآن يستخدم شتّى السبل لإيقاظهم وتوعيتهم، فهذه الآية والآيات الكثيرة التي تليها تواصل هذا الموضوع.

تشير هذه الآية إلى روح العناد واللامبالاة والتكبر عند المشركين تجاه الحق وتجاه آيات الله فتقول: ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾(3).

أي أن أبسط شروط الهداية - وهو البحث والتفصي - غير موجود عندهم، وليس فيهم أي اندفاع لطلب الحقيقة، ولا يحسّون بعطش إليها ليبحثوا عنها.


1- لاتقعد: لا تعني النهي عن مجرد الجلوس مع هؤلاء، بل تعني النهي عن معاشرتهم في جميع حالات الجلوس، والوقوف والمسير.
2- الأنعام: 4و5.
3- كلمة آية، وردت في سياق النفي، فيكون المعنى يعرضون على كل آية ولا يفكّرون فيها.

ص: 35

وهذا دَيدَن المشركين والمعاندين دائماً الوقوف بوجه الحق والحقيقة بدون أي دليل وصمّوا وعموا عن قبول الحقيقة ولم يكلّفوا أنفسهم في البحث عن هذه الحقيقة الناصعة وهذا الينبوع الزلال.

وحتى لو تدفق ينبوع الماء الزلال عند عتبات بيوتهم لأعرضوا عنه ولا نظروا إليه كذلك فهم يُعرضون عن آيات ربهم النازلة لتربيتهم وتكاملهم.

مثل هذه النفسيّة لا يقتصر وجودها على عهود الجاهلية ومشركي العرب، فاليوم أيضاً نجد من بلغ الستين من عمره ومع ذلك لم يجشم نفسه عناء ساعة واحدة من البحث والتحقيق في الله والدين، وإن وقع بيده كتاب أو بحث في هذا الموضوع لم ينظر إليه، وإن تحدث إليه أحد بهذا الشأن لم يصغ إليه، هؤلاء هم الجهلاء المعاندون الغافلون الذين قد يظهرون أحيانا أمام الناس بمظهر العالم المتجبر!

تبيّن الآية نتيجة أعمالهم، وهي: أنّهم عندما رأوا الحقيقة كذبوها، ولو أنّهم دققوا في آيات الله جيدا لرأوا الحقيقة وأدركوها وآمنوا بها: ﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ﴾، ولسوف تصلهم نتيجة هذا التكذيب والسخرية: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾.

في هاتين الآيتين إشارة إلى ثلاث مراحل من الكفر تتزايد في الشدة على التوالي.

المرحلة الأولى: وهي مرحلة الإعراض.

المرحلة الثانية: مرحلة التكذيب.

المرحلة الثالثة: مرحلة الاستهزاء بآيات الله.

يدل هذا على أن الإنسان في كفره لا يتوقف في مرحلة واحدة، بل يزداد باستمرار إنكاراً للحق وعداوة له وابتعادا عن الله.

المقصود من التهديد المذكور في آخر الآية أن أوزار عدم الإيمان ستُحيقُ بهم عاجلاً في الدنيا وآجلاً في والآخرة.

ص: 36

وقوف أهل الباطل والعناد بوجه الحق

﴿وَإذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(1).

لقد قالوا ذلك لشدة تعصبهم وعنادهم، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبداً، وإلا فإنّ أحداً يحتمل حقانية الإسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟

كما ويحتمل أيضاً أنّ شيوخ المشركين وسادتهم يقولون ذلك الكلام لتضليل الناس وليُثبتوا لبسطائهم أنّ رسالة النبي  باطلة تماماً، في حين أنّهم لا يعتقدون بما يقولون. وكأنّهم - أي المشركين - يريدون أن يقولوا للنبي : إنّك تتكلم عن الأنبياء السابقين، وإن الله قد أهلك أعداءهم بحجارة أمطرها عليهم كما هي الحال في شأن قوم لوط فإن كنت صادقاً فيما تقول فأمطر علينا حجارة من السماء!

وقد ورد عن الإمام الصادق  (في مجمع البيان) إنّه لما نصب رسول الله  عليّاً  يوم الغدير فقال: مَن كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي  النعمان بن الحارث الفهري، فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلنا، ثم لم ترضَ حتى نصبت هذا الغلام فقلت: مَن كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمرٌ من عند الله؟ فقال : «والله الذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله». فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله(2).


1- الأنفال: 32.
2- راجع: مجمع البيان، ج ٥، ص 352، وتفسير نور الثقلين، ج ٢، ص 151.

ص: 37

اتمام الحجة على المشركين

﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(1).

الآيتان أعلاه أكملتا الحجة مع دلائل اعجاز القرآن على المشركين والمنكرين، ولكن جماعة منهم امتنعوا عن القبول - لحفظ منافعهم الشخصيّة - بالرغم من وضوح الحق، فالآية هذه تشير إلى مصير هؤلاء فتقول: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ من رزق مادي وشهرة وتلذذ بالنعم ﴿نُوَفِّ إلَيْهِمْ﴾ نتيجة ﴿أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾ في هذه الدنيا ﴿وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ أي لا ينقص من حقوقهم.

هذه الآية تبيّن سنة إلهيّة دائمة، وهي أنَّ الأعمال الإيجابية والمؤثرة لا تضيع نتائجها، مع فارق وهو أنّه إذا كان الهدف الأصلي منها هو الوصول إلى الحياة المادية في هذه الدنيا فإنّ ثمراتها في الدنيا فحسب، وأما إذا كان الهدف هو الله وكسب رضاه فإنَّ تأثيرها ونتائجها ستكون في الدنيا وفي الآخرة أيضا حيث تكون النتائج كثيرة الثمار.

الواقع إن القسم الأول من هذه الأعمال كالبناية المؤقتة والقصيرة العمر، فلا يستفاد منها إلا قليلاً، ثم مصيرها إلى الزوال والفناء.

أما القسم الثاني منها فإنها تشبه البناء المرصوص المحكم الذي يدوم قروناً وينتفع به مدة مديدة.

وهذا من قبيل ما نراه بوضوح على أرض الواقع المعاش، فالعالم الغربي فتح أسراراً كثيرة بعلمه المتواصل والمنُسق، وأصبح متسلطاً على قوى الطبيعة وحصل على مواهب كثيرة لتصديه الدائب لمشاكل الحياة الدنيوية بصبر واستقامة وجد. فلا كلام


1- هود: 15و16.

ص: 38

في نيل العالم الغربي جزاء أعماله وتحقيقه انتصارات مشرقة، ولكن لأنّ هدفه الحياة المادية فحسب فأعماله لا تثمر غير توفر الإمكانات المادية حتى الأعمال التي ظاهرها إنسانية كبناء المستشفيات وإعانة الدول الفقيرة فهي مصيدة لاستعمارهم واستثمارهم للآخرين، فلأنها تحمل هدفا مادياً فقط ومن أجل حفظ المنافع المادية فإنّ أثرها يكون ماديّاً فحسب كذلك الحال بالنسبة لمن يعمل رياء.

فلذلك يقول سبحانه عنهم في الآية التالية: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ﴾ ليزول كل أثر أُخروي لما عملوا في هذه الدنيا ولا ينالون عليه أي ثواب ﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ﴾ وكل ما كان لغير الله سيزول ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ هذا التعبير الطريف يُقال للأعمال التي تبدو في الظاهر مفيدة وإنسانية، إلا أنها في الباطن مقرونة بنية ذميمة وخبيثة!

ملاحظات

من الممكن أن يُتَصور في البداية أن الآيتين محل البحث متعارضتان، فالآية الأولى تقول: إن من كان هدفه الحياة الدنيا فإنه سينال جزاءه فيها كاملا غير منقوص ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ أمّا الآية الثانية فتقول إن أعماله تكون بلا أثر وباطلة:﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.

لكن مع الالتفات إلى أن إحدى الآيتين تشير إلى ما يجري في الدنيا والثانية تشير إلى الدار الآخرة، يتضح الجواب على هذا الإشكال، وهو أنّهم ينالون جزاء أعمالهم في هذه الدنيا، ولكن لا قيمة لهذا العمل حتى لو كان من أهم الأعمال إذ لم يكن له في الآخرة أيّ أثر. لأن هدفهم لم يكن نقيّاً ونيتهم غير خالصة.

2 - في كتاب «الدر المنثور» حديث منقول عن النبي  في تفسير هذه الآيات يُبيّن مفاد هذه الآيات

ص: 39

بجلاء، قال رسول الله : «إذا كان يوم القيامة صارت أمتي على ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصا، وفرقة يعبدون الله رياء. فرقة يعبدون الله يصيبون به الدنيا».

فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا، فيقول: لاجرم لا ينفعُكَ ما جمعت ولا ترجع إليه. انطلقوا به إلى النار. ويقول للذي يعبد الله رياءً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء، فيقول: إنّما كانت عبادتُك التي كنت ترائي بها لا يصعد إليّ منها شيء ولا يَنفعُكَ اليوم، انطلقوا به إلى النار.

ويقول للذي كان يعبد الله خالصا: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ فيقول: بِعزّتِك وجلالك لأنت أعلمُ منّي، كنتُ أعبدُك لوَجهِكَ ولدارك، قال: صدق عبدي، انطلقوا به إلى الجنة(1).

المشركون والمؤامرات الشيطانية

﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(2).

إن المؤامرات الشيطانية التي كان يُحيكها المشركون والكفرة، كانت تشكّل ساحة لامتحان المؤمنين والمتآمرين في آن واحد، إذ تضيف الآية ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ فهم بعيدون عن الحقّ لشدة عداوتهم وعنادهم. وكذلك الهدف من هذا البرنامج:


1- تفسير الميزان، ج ١٠ ، ص ١٨٦ .
2- الحج: 53 و 54.

ص: 40

﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ وطبيعي أن الله لا يترك المؤمنين الواعين المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن الحقّ وحدهم في الطريق الوعر﴿وَإنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.

انتصار الحق وهزيمة الباطل

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾(1).

إن شاهدتم انتصار الحق وهزيمة الباطل، فإنّ ذلك بلطف الله الذي ينجد المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم. إن المؤمنين ينسجمون مع قوانين الوجود العامة، بعكس الكافرين الذين يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين. والله حق وغيره باطل. وجميع البشر والمخلوقات التي ترتبط بشكل ما بالله تعالى هي حق أيضاً. أما غيرها فباطل بمقدار ابتعادها عنه عزّ وجلّ(2).

حقانية الإسلام مقابل باطل المعاندين من أهل الكتاب

﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(3).

كان الكلام في الآيات السابقة لهذه الآية عن وظيفة المسلمين إزاء المشركين، أما الآية فتُبيّن تكليف المسلمين ووظيفتهم إزاء أهل الكتاب.


1- الحج: 62.
2- تقرأوا «الميزان» إن اطلاق الحق على الله والباطل على غيره، لان الحق الذي لم يختلط بباطل أبداً هو الله سبحانه لكنه مستقلاً عن غيره في حقانيّته والآخرون تابعين له.
3- التوبة:29.

ص: 41

فقد جعل الإسلام لأهل الكتاب سلسلة من الأحكام تُعدّ حداً وسطاً بين المسلمين والكفار، لأن أهل الكتاب من حيث اتباعهم لدينهم السماوي لهم شَبه بالمشركين.

ولهذا فإن الإسلام لا يُجيز قتلهم، مع أنّه يُجيز قتل المشركين الذين يقفون بوجه المسلمين، لأن الخطة تقضي بقلع جذور الشرك والوثنية من الكرة الأرضيّة، غير أن الإسلام يسمح بالعيش مع أهل الكتاب في صورة ما لو احترم أهل الكتاب الإسلام، ولم يتآمروا ضده، أو يكون لهم إعلام مضاد. والعلامة الأخرى لموافقتهم على الحياة المشتركة، السلميّة مع المسلمين هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين، بأن يعطوا كل عام إلى الحكومة الإسلامية مبلغاً قليلاً من المال بحدود وشروط معينة.

وفي غير هذه الحال فإنّ الإسلام يصدر أمره بمقاتلتهم، ويوّضح القرآن دليل شدة هذا الحكم في جمل ثلاث في الآية محل البحث: إذ تقول الآية ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾.

لكن كيف لا يؤمن أهل الكتاب - كاليهود والنصارى - بالله وباليوم الآخر، مع أننا نراهم في الظاهر يؤمنون بالله ويقرون بالمعاد أيضاً؟

الجواب: لأن إيمانهم مزيج بالخرافات والأوهام.

أما في مسألة الإيمان بالمبدأ وحقيقة التوحيد، فلأنه:

أولاً: يعتقد طائفة من اليهود أن عزير ابن الله، كما يعتقد المسيحيون عامة بألوهية المسيح والتثليث [ الله والابن وروح القدس ].

وثانياً: كما يشار إليه في الآيات المقبلة، فإنّ كلاً من اليهود والنصارى مشركون في عبادتهم، ويعبدون أحبارهم - عمليّاً - ويطلبون منهم العفو والصفح عن الذنب، وهذا مما يختص به الله، مضافا إلى تحريف الأحكام الإلهية بصورة رسمية.

وأما إيمانهم بالمعاد فإيمان محرّف، لأن المعاد كما يستفاد من كلامهم منحصر بالمعاد الروحاني، فبناء على ذلك فإن إيمانهم بالمبدأ مخدوش، وإيمانهم بالمعاد كذلك.

ص: 42

ثم تشير الآية إلى الصفة الثانية لأهل الكتاب، فتقول: ﴿وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ﴾.

ومن الممكن أن يكون المراد من كلمة «رسوله» نبيّهم موسى أو عيسى ، لأنّهم لم يكونوا أوفياء لأحكام دينهم، وكانوا يرتكبون كثيرا من المحرمات الموجودة في دين موسى أو عيسى، ولا يقتصرون على ذلك فحسب، بل كانوا يحكمون بحليتها أحيانا.

ويمكن أن يكون المراد من «رسوله» نبيّ الإسلام محمد ، أي إنّما أمر المسلمون بمقاتلة اليهود والنصارى وجهادهم إيّاهم، لأنّهم لم يذعنوا لما حرّمه الله على يد نبيّه، وارتكبوا جميع أنواع الذنوب.

وهذا الاحتمال يبدو أقرب للنظر، والشاهد عليه الآية (33) من هذه السورة ذاتها إذ تقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾.

أضف إلى ذلك حين ترد كلمة «رسوله» في القرآن مطلقة فالمراد منها النبي محمد .

غزوة بدر أول مواجهة بين الحقّ المتمثل بالإسلام والباطل المتمثل بالكفر

﴿وَإذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾(1).

تبحث الآيتان عن جوانب مهمة وحساسة في تلك المعركة ليستلهم المسلمون من


1- الأنفال: 7و8.

ص: 43

هذه الآيات الحقائق التي مرت بهم في الماضي القريب، ويجعلوها أمام أعينهم للعبرة والاتعاظ.

ولإيضاح الآيتين محل البحث والآيات التالية، من المناسب أن نلقي الضوء على ما جرى في هذه المعركة الحاسمة، وكيف كانت هذه المواجهة المسلحة الأولى وهذا الجهاد الإسلامي بِوجه العدو اللدود؟ لتتجلى لنا دقائق الأمور ولطائف ما أشارت إليه الآيات الكريمة في شأن معركة بدر الكبرى. أمر النبي  أصحابه أن يتعبؤا ويتهيؤا لمواجهة قافلة أبي سفيان التجارية المهمة القادمة من الشام إلى المدينة ومصادرة أموالها لتوجيه ضربة اقتصادية نحو العدو وتعقبها ضربة عسكرية قاصمة.

وكان للنبي  وأصحابه الحق في مثل هذه الحملة أو الهجوم، لأنه،

أولا: عندما هاجر المسلمون من مكّة نحو المدينة استولى أهل مكة على كثير من أموالهم، ونزلت بهم خسارة كبيرة. فكان لهم الحق أن يجبروا مثل هذه الخسارة.

فكانت هذه المعركة أول مواجهة مسلحة بين المسلمين وعدوّهم من قريش، وانتهت بالنصر الساحق للمسلمين على عدوّهم.

بعد ذكر وبشكل مختصر جداً معركة بدر نعود ثانية إلى تفسير الآيتين مورد البحث:

في الآية الأولى – محل البحث - إشارة إلى وعد الله بالنصر في معركة بدر إجمالاً، إذ تقول الآية: ﴿وَإذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾.

لكنكم لخوفكم من الخسائر واخطار وبلايا الحرب لم تكونوا راغبين فيها ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾.

وقد جاء في بعض الروايات الإسلامية أن النبي  قال لهم: «إحدى الطائفتين لكم، إما العير وإما النفير».

وكلمة العير تعني القافلة، والنفير يعني الجيش.

ص: 44

إلا نرى انه - وكما يلاحظ في الآية الكريمة-، أن التعبير جاء بذات الشوكة مكان الجيش والنفير، وبغير ذات الشوكة مكان القافلة أو العير.

وهذا التعبير – يحمل- في نفسه معنى لطيفاً، لأن الشوكة ترمز إلى القدرة وتعني الشدة، وأصلها مأخوذ من الشوك، ثم استعملت هذه الكلمة «الشوكة» في نصول الرماح، ثم أطلق هذا الاستعمال توسعا على كل نوع من الأسلحة، ولما كان السلاح يمثل القوة والقدرة، والشدة فقد عُبِّر عنه بالشوكة.

فهناك من المسلمين مَن لا يرغب في الحرب ويرغب في المنافع المادية وابتغاء الراحة في حين أن الحرب أثبتت بعد تمامها أن الصلاح يكمن في تحطيم قوى العدو العسكرية، لتكون الطريق راحبة لانتصارات كبيرة لاحقة ولهذا فإن الآية تُعقب بالقول ﴿وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾(1).

الجهاد حق وتجارة لا نظير لها

﴿إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(2).

في هذه الآية قد بيّن الله المقام الرفيع للجهاد والمجاهدين المؤمنين مع ذكر مثال رائع.

لقد عرّف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذا المثال بأنّه مشتر والمؤمنين بأنهم بائعون، وقال: ﴿إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾.


1- الأنفال: 7.
2- التوبة:111.

ص: 45

ولما كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية، وهي عبارة عن: المشتري، والبائع، والمتاع، والثمن، وسند ووثائق المعاملة، فقد أشار الله سبحانه إلى كل هذه الأركان، فجعل نفسه مشترياً، والمؤمنين بائعين، وأموالهم وأنفسهم (المبيع) والبضاعة، والجنة ثمناً لهذه المعاملة. غاية ما في الأمر أنه بين طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف، فقال: ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ وفي الواقع يد الله سبحانه حاضرة في ميدان الجهاد لتقبل هذه البضاعة.

سواء كانت روحاً أم مالاً يُبذل في أمر الجهاد. ثم يشير بعد ذلك إلى سند المعاملة الثابت، والذي يشكل الركن الخامس فيها، فقال: ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾.

إذا أمعنا النظر في قوله: ﴿فِي سَبيل اللهِ﴾ يتضح جليّاً أن الله تعالى يشتري الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة، والحرية والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد. ثمَّ، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة، تضيف الآية: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ﴾ أي أن ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلاً، إلا أنه مضمون، ولا وجود لأخطار النسيئة، لأن الله تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفى من الكل بعهده، فلا هو ينسى وعده والعياذ بالله وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشك في وفائه بعهده، وأدائه الثمن في رأس الموعد المقرر والأروع من كل شيء أنه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته، ويتمنّى لهم أن تكون صفقة وفيرة الربح، تماما كما هو المتعارف بين التجّار، فيقول عزّ وجلّ: ﴿فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

وقد جاء نظير هذا المبحث بعبارات أخرى، ففي الآيتين (10) و(11) من سورة الصف يقول الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

ص: 46

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

حقانية الجهاد والدفاع

﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(1).

تقول الآية: إنّ الله تعالى أذن لمن يتعرض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد، وذلك بسبب أنهم ظُلِموا: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.

إن وعد الله بالنصر جاء مقرونا ب_«قدرة الله». وهذا قد يكون إشارة إلى القدرة الإلهية التي تُنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن الإسلام، لا أن يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة الله تعالى لهم، أو بتعبير آخر: عليكم بالجدّ والعمل بكل ما تستطيعون من قدرة، وعندها تستحقّون النصر بإخلاصكم ينجدكم الله سبحانه وينصركم على أعدائه، وهذا ما حدث للرسول  في جميع حروبه التي كانت تتكلل بالنصر.

ثم توضح هذه الآيات للمظلومين - الذين أُذن لهم بالدفاع عن أنفسهم - بواعث هذا الدفاع، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وذنبهم الوحيد أنهم موحدون: ﴿إلاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ ومن البديهي أن توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنبا يبيح للمشركين إخراج


1- الحج: 39 و 40.

ص: 47

المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكة إلى المدينة، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل: لقد أذنبنا عندما خدمناك، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير شرّاً.

الله أعلم بمصالح العباد

﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾(1).

في هاتين الآيتين محل البحث يقول الله سبحانه لأولئك: هذه ليست أول مرة تكرهون شيئا مع أنّه فيه صلاحكم كما كان الأمر في أساس غزوة بدر وكانوا غير راضين بادئ الأمر، إلا أنّهم رأوا كيف تمت هذه المعركة لصالح الإسلام والمسلمين.

فإذن لا ينبغي أن تقوّم أحكام الله بالنظرات الضيقة المحدودة، بل ينبغي الانصياع والتسليم لها ليستفاد من نتائجها النهائية.

تقول الآية الأولى من الآيتين محل البحث: إنّ عدم رضا بعض المسلمين في شأن تقسيم الغنائم يشبه عملية إخراجك من مكة وعدم رضى بعض المؤمنين بذلك: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾.

والتعبير بالحق إشارة إلى أن أمر الخروج كان طبقاً لوحي الإلهي والدستور السماوي، وكانت نتيجته الوصول إلى الحق واستقرار المجتمع الإسلامي، إلا أنَّ هؤلاء الأفراد لا يرون إلا ظواهر الأمور، ولهذا: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾.

إلا أن الحوادث التالية كشفت لهم عن خطئهم في حساباتهم، وأن خوفهم وقلقهم دونما أساس، وأن هذه المعركة (معركة بدر) حققت للمسلمين انتصارات


1- الأنفال: 5و6.

ص: 48

مشرقة، فمع رؤية مثل هذه النتائج علام يجادلون في الحق وتمتد ألسنتهم بالاعتراض؟! والتعبير ب_﴿فَريقاً مِّن المؤمِنِينَ﴾ يكشف ضمنا - أولاً - أن هذا التشاجر أو المحاورة لم تكن عن نفاق أو عدم إيمان، بل عن ضعف الإيمان وعدم امتلاك النظرة الثاقبة في المسائل الإسلامية. وثانياُ: إن الذين جادلوا في شأن الغنائم كانوا قلة وفريقا من المؤمنين، غير أن بقيتهم وغالبيتهم أذعنوا لأمر رسول الله واستجابوا له.

الصراع بين الحق المتمثل بالتقوى والباطل المتمثل بالحسد

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(1).

لقد تناولت هذه الآية قصة ولَدَي آدم  وكيف قتل أحدهما أخاه الآخر، ولعلَّ وجه الصلة بين هذه الآية والآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء والصاق التهم بمريم ، هو غريزة «الحسد» التي كانت دائماً أساساً للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذرهم الله في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة، التي تؤدي أحياناً إلى أن يَعمد أخ إلى قتل أخاه! والآية تقول في هذا المجال لنبي الله  أن يتلو على قومه قصة ولَدي آدم : ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾.

ولعل استخدام كلمة «بالحق» في هذه الآية للإشارة إلى أن القصة المذكورة قد أصبغت لها خرافات مختلفة، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدم .


1- المائدة: 27.

ص: 49

ولا شك أن كلمة «آدم» الواردة في الآية، تشير إلى «آدم» أبي البشرية الحاضرة، وإن ما ذهب إليه البعض مع أنّها إشارة إلى شخص من بني إسرائيل اسمه «آدم» لا أساس له من الواقع، لأن هذه الكلمة استخدمت مراراً في القرآن للدلالة على اسم أبي البشرية، فلو صحّ الافتراض الأخير لوجب أن تشتمل الآية - أو الآيات - التي بعدها على قرينة تصرف الاسم عن مسماه الحقيقي الأول، ولا يمكن لآية ﴿مِنْ أجْلِ ذَلِكَ...﴾ أنْ تكون قرينة على الافتراض المذكور.

وتواصل الآية سرد القصة فتقول: ﴿إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ...﴾.

وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يهدد الأخ - الذي لم يتقبل الله القربان منه - أخاه بالقتل ويقسم أنه قاتله لا محالة، كما جاء في قوله تعالى في الآية: ﴿قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ﴾.

أما الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيراً إلى أن عدم قبول القربان منه إنما نتج عن علة في عمله، وأنه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان، مؤكداً أنّ الله يتقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية: ﴿قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.

وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله، فإنّه - أي الأخ الذي تقبل الله منه القربان - لن يمد يده ليقتل أخاه، فهو يخاف الله ويخشاه، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإثم حيث تقول الآية: ﴿لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.

انظر في هذا المقطع من الآية إلى الصراع بين الحق المتمثل في الاخ الذي قُبل منه القربان والباطل المتمثل في الاخ الذي لم يتقبل منه القربان.

والفرق بين منطق الحق ومنطق الباطل حيث اضاف هذا الاخ الصالح – مخاطباً اخاه الذي أراد أن يقتله – أنّه لا يريد ان يتحمل آثام الآخرين، قائلاً له: ﴿إنّي أُرِيدُ

ص: 50

أَن تَبُوءَ(1) بِإثْمِي وَإثْمِكَ﴾.

(أي لأنّك إن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضاً، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك، ولما كنت لا تمتلك عملاً صالحاً للتعويض به، فما عليك إلا أن تتحمل إثمي أيضا).

كما تقول الآية: ﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظّالِمِينَ﴾.

نقاط مهمة يجب الانتباه لها

1 - أن القرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية - ولا في آيات أخرى - أي اسم لأبناء آدم :

لكن الروايات الإسلامية تدل على أن ولدي آدم المذكورين في هذه الآية كان اسم أحدهما «هابيل» والآخر «قابيل» وقد ورد في سفر التكوين من التوراة في الباب الرابع أن ولدي آدم المذكورين اسمهما «قائن» و«هابيل».

وقد ذكر المفسر المعروف «أبو الفتوح الرازي» أن هذين الاسمين قد وردا بألفاظٍ مختلفة، فالاسم الأول جاء فيه «هابيل» و «هابل» و«هابن»، أما الاسم الثاني فجاء فيه «قابيل» و «قائن» و «قايل» و «قاين» وعلى أي حال فان الاختلاف بين الروايات الإسلامية ونص التوراة بخصوص اسم «قابيل» نابع عن الاختلاف اللغوي، ولا يشكل أمراً مهماً في المجال. والاختلاف اللغوي أمر شائع وبالأخص في مجال الأسماء - فمثلا كلمة «إبراهيم» الواردة في القرآن قد وردت في التوراة على شكل «أبراهام»، القرآن الكريم لم يذكر مطلقاً «هابيل» و «قابيل» بل فقط في الروايات الإسلامية(2).


1- إنّ كلمة تبوأ مشتقة من المصدر «بواء» أي «العودة».
2- قد كتب العلامة الفقيه الشيخ (محمّد جواد البلاغي) رسالة في هذا المجال سمّاها ب(الأكاذيب الأعاجيب) جمع فيها أكاذيب من نمط الكذبة التي جاء ذكرها أعلاه.

ص: 51

2- إنّ المعروف عن «القربان» هو أنّه كل شيء يحصل به التقرب إلى الله، لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئاً عن ماهية القربان الذي قدمه ولدا آدم ، بينما نقلت الروايات الإسلامية - والتوراة في سفر التكوين، الباب الرابع - أن «هابيل» كان يمتلك ماشية فاختار أفضل أغنامه ومنتوجاتها للقربان المذكور، وأن «قابيل» الذي كان صاحب زرع، قد اختار لقربانه أردأ الأنواع من زرعه.

3 - لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عُرف به ابنا آدم قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عند الله - والذي ورد في هذا المجال هو ما نقلته بعض الروايات الإسلامية من أن هذين الشخصين كانا قد وضعا قربانهما على قمة جبل، فنزلت صاعقة فأحرقت قربان «هابيل» دلالة على قبوله، وبقي قربان «قابيل» على حاله لم يمسه شيء، وكانت لهذه العلامة سابقة معروفة في ذلك المجتمع.

لكن بعض المفسرين يعتقدون أن قبول ورفض القربانين إنّما أُعلنا عن طريق الوحي لآدم ، وما كان سبب ذلك غير أن هابيل كان إنساناً ذا سريرة نقية يحب التضحية والعفو في سبيل الله فتقبل الله لذلك قربانه، بينما كان قابيل رجلاً ملوث القلب حسوداً معانداً فرفض الله قربانه، والآيات التالية توضح حقيقة ما جُبلت عليه نفسا هذين الأخوين من خيرٍ وشرٍ.

4 - يستنتج من هذه الآيات - بصورة جلية - أن مصدر أُولى النزاعات والجرائم في العالم الإنساني هو «الحسد» ويُدلنا هذا الموضوع على خطورة هذه الرذيلة الأخلاقية وأثرها العجيب في الأحداث الاجتماعية.

5- إنّ الله سبحانه وتعالى دائماً وأبداً مع الحق المتمثل في التضحية والعفو والأخلاق الحميدة وضد الباطل المتمثل في العناد والكبرياء والحسد والأخلاق الرذيلة ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(1).


1- المائدة: 30.

ص: 52

وتواصل هذه الآية بقية الواقعة التي حصلت لابني آدم ، فتبيّن الآية الأولى أن نفس قابيل هي التي دفعته لارتكاب جريمة قتل أخيه فقتله حيث تقول: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾.

ونظراً لان كلمة «طوع» تأتي في الأصل من «الطاعة» لذلك يُستدل من هذه العبارة على أن قلب «قابيل» بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الانتقام من أخيه «هابيل».

ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويدا رويدا على مشاعره الرادعة فطوّعت ضميره الحي وكبلته بقيودها واعدّته لقتل أخيه، وتدل عبارة «طوعت» مع قصرها على جميع المعاني التي ذكرناها لأن عملية التطوّع كما نعلم لا تتم في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.

وتشير الآية - في آخرها - إلى نتيجة عمل «قابيل» فتقول ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فأي ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذاباً سيلازمه إلى يوم القيامة، ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار الأبدي.

ثم تشير الآية الكريمة ﴿يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي...﴾(1).

فهل كان ندمه على جريمته، خوفاً من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإنسان - عادة - من قلق واستياء بعد ارتكاب كل عمل قبيح؟


1- المائدة: 31.

ص: 53

مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى «قابيل» فذلك لا يعني أنّه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإنسان المذنب تكرار الذنب، خوفاً من الله واستقباحاً للذنب، ولم يُشر القرآن الكريم إلى صدور مثل هذه التوبة عن «قابيل».

وفي حديث عن النبي  قوله: «لا تُقتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنّه كان أول من سنّ القتل»(1).

الدعوة إلى التقوى

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾(2).

في هذه الآية دعوة إلى التقوى لتكون التقوى مقدمة للاتحاد والتآخي. وفي الحقيقة أن الدعوة إلى الاتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والاعتقادية، دعوة قليلة الأثر، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرة، ولهذا يُركز الاهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الاختلاف، وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى، ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾.

يبقى ان نعرف أنه قد وقع كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من قوله تعالى ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ ولكن مما لا شك فيه أن «حق التقوى» يٌعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنه يشمل اجتناب كل إثم ومعصية، وكل تجاوز وعدوانٍ، وانحرافٍ عن الحقّ.


1- مسند احمد بن حنبل كما جاء في تفسير القرآن «في ظلال القرآن» ج ٢، ص703 ، في تفسير الآية.
2- آل عمران: 102.

ص: 54

ولذا نُقل عن الرسول الأكرم  كما في تفسير الدرّ المنثور، وعن الإمام جعفر الصادق  كما في تفسير العيّاشي ومعاني الأخبار - في تفسير قوله ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أنّهما قالا: «أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر».

ومن البديهي أن القيام بهذا الأمر كغيره من الأوامر الإلهيّة، يرتبط بمدى قدرة الإنسان واستطاعته ولهذا لا تنافي بين هذه الآية التي تطلب حق التقوى وأسمى درجاته والآية 16 من سورة التغابن التي تقول: ﴿فَاتّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فالكلام حول المنافاة بين الآيتين وادعاء نسخ إحداهما بالأخرى مما لا أساس له مطلقا، ولا داعي له أبداً.

المؤمنون أنصار الحق والكافرون أنصار الباطل

﴿وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمّدٍ وَهُوَ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُوا اتّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنّ الّذِينَ آمَنُوا اتّبَعُوا الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾(1).

هذه الآية وصف لوضع المؤمنين الذين يقفون في الصف المقابل للكافرين الذين وردت صفاتهم في الآية السابقة، فتقول: ﴿وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمّدٍ وَهُوَ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾(2).

إنّ ذكر الإيمان بما نزل على نبي الإسلام  بعد ذكر الإيمان بصورة مطلقة، تأكيد على تعليمات هذا النبي العظيم ومناهجه، وهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وتبيان لحقيقة أن الإيمان بالله سبحانه لا يتم أبداً بدون الإيمان بما نُزل على النبي .


1- محمّد، 2و3 .
2- اعتبر جماعة من المفسّرين جملة (وهو الحق من ربهم) جملة معترضة.

ص: 55

ويحتمل أيضا أن تكون الجملة الأولى إشارة إلى الإيمان بالله تعالى، ولها جانب عقائدي، وهذه الجملة إشارة إلى الإيمان بمحتوى الإسلام وتعليمات النبي ، ولها جانب عقائدي.

وبتعبير آخر، فإنّ الإيمان بالله سبحانه لا يكفي وحده، بل يجب أن يؤمنوا بما نزل على النبي ، وأن يكون لهم إيمان بالقرآن، وإيمان بالجهاد، وإيمان بالصلاة والصوم، وإيمان بالقيم الأخلاقية التي نزلت عليه. ذلك الإيمان الذي يكون مبدأ للحركة، وتأكيدا على العمل الصالح.

ومما يستحق الانتباه أنّ الآية تقول بعد ذكر هذه الجملة: ﴿وَهُوَ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ﴾ وهي تعني أنّ إيمانهم لم يكن تقليدا، أو أنّه لم يقم على دليل وحجة، بل آمنوا بعد أن رأوا الحق.

وعبارة ﴿مِن رَّبِّهمْ﴾ تأكيداً على حقيقة أن الحقَّ يأتي دائماً من قبل الله سبحانه، فهو يصدر منه، ويعود إليه.

والجدير بالذكر أن الآية تبيّن ثوابين للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، في مقابل العقابين اللّذَين ذُكرا للكفار الصادين عن سبيل الله: أولهما: التكفير عن السيئات التي لا يخلو منها أي إنسان غير معصوم، والثاني: إصلاح البال.

لقد جاء (البال) بمعان مختلفة، فجاء بمعنى الحال، العمل، القلب، وعلى قول الراغب: بمعنى الحالات العظيمة الأهمية، وبناءً على هذا فإن إصلاح البال يعني تنظيم كل شؤون الحياة والأمور المصيرية، وهو يشمل - طبعاً - الفوز في الدنيا، والنجاة في الآخرة، على عكس المصير الذي يلاقيه الكفار، إذ لا يصلون إلى ثمرة جهودهم ومساعيهم، ولا نصيب لهم إلا الهزيمة والخسران بحكم: ﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾.

يمكن القول بأنَّ غفران ذنوبهم نتيجة إيمانهم، وأن إصلاح بالهم نتيجة أعمالهم الصالحة.

ص: 56

إنّ للمؤمنين هدوءاً فكرياً واطمئناناً روحياً من جهة، وتوفيقاً ونجاحاً في برامجهم العملية من جهة ثانية، فإن لإصلاح البال إطاراً واسعاً يشمل الجميع، وأي نعمة أعظم من أن تكون للإنسان روح هادئة، وقلب مطمئن، وبرامج مفيدة بناءة.

وبينت الآية الأخيرة العلة الأساسية لهذا الانتصار وتلك الهزيمة من خلال مقارنة مختصرة بليغة، فقالت: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ﴾.

وهنا يكمن سر المسألة بأن خطي الإيمان والكفر يتفرعان عن خطّي الحق والباطل. فالحق يعني الحقائق العينية، وأسماها ذات الله المقدسة، وتليها الحقائق المتعلقة بحياة الإنسان، والقوانين الحاكمة في علاقته بالله تعالى، وفي علاقته بالآخرين.

والباطل يعني الظنون، والأوهام، والمكائد والخدع، والأساطير والخرافات، والأفعال الجوفاء التي لا هدف من ورائها، وكل نوع من الانحراف عن القوانين الحاكمة في عالم الوجود.

نعم، إنّ المؤمنين يتبعون الحقّ وينصرونه، والكفّار يتبعون الباطل ويؤازرونه، وهنا يكمن سر انتصار هؤلاء، وهزيمة أولئك.

يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾(1).

وفسر البعض « الباطل » بالشيطان، وآخرون بالعبثية، لكن كما قلنا، فإنّ للباطل معنىً واسعاً يشمل هذين التفسيرين وغيرهما.

وتضيف الآية في النهاية: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ أي: كما أنّه سبحانه قد بيّن الخطوط العامة لحياة المؤمنين والكفار، وعقائدهم وبرامجهم العملية ونتائج أعمالهم في هذه الآيات، فإنه يوضح مصير حياتهم وعواقب أعمالهم.


1- ص: 27.

ص: 57

يقول الراغب في مفرداته: المثل عبارة عن قول يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة يُبيّن أحدهما الآخر.

والظاهر أن المراد في هذه الآية هو المعنى الثاني، أي إن الله سبحانه يصف حال الناس هكذا، كما مثل الجنة في الآية (15) من سورة محمد : ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾.

وعلى أية حال، فالذي يستفاد من هذه الآية جيداً، أنّنا كلما اقتربنا من الحق اقتربنا من الإيمان، وسنكون أبعد عن حقيقة الإيمان وأقرب إلى الكفر بتلك النسبة التي تميل بها أعمالنا نحو الباطل، فإن أساسي الإيمان والكفر هما الحق والباطل.

حرمة دماء البشر

﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالحَقِّ﴾(1).

إنّ احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في كل الشرائع السماوية وقوانين البشر، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع من الذنوب الكبيرة، إلا أن الإسلام أعطى أهميّة استثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر من يقتل إنساناً فكأنّما قتل الناس جميعاً، كما في الآية (32) من سورة المائدة ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾.

بل نستفيد من بعض الآيات القرآنية أن جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في النار، وأن هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإيمان، ولا يمكن أن يخرجوا من هذه الدنيا مؤمنين: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾(2)، وحتى في الإسلام فإن الذين يشهرون السلاح بوجه الناس ينطبق عليهم


1- الإسراء: 33.
2- النساء:93.

ص: 58

عنوان «المحارب» وهذا الصنف له عقوبات شديدة مفصلة في المصنفات الفقهيّة.

فالإسلام يحاسب على أقلّ أذى ممكن أن يلحقه الإنسان بالآخرين، فكيف بقضيّة القتل وإراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول - باطمئنان -: إننا لا نرى أيَّ شريعة غير الإسلام أعطت هذه الحرمة الاستثنائية لدم الإنسان، بالطبع هناك حالات ينتفي معها احترام دم الإنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إنزال العقوبة به، لذلك فإن الآية بعد أن أثبتت حرمة الدم كأصل، تشير للاستثناء بالقول: ﴿إلاَّ بِالحَقِّ﴾.

وفي حديث معروف عن الرسول  نقرأ: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(1). أما القاتل فتكون نهايته معلومة بالقصاص، الذي يؤمن استمرار الحياة واستقرارها، أما الزاني المحصن، فإنّ قتله في قبال واحدٍ من أعظم الذنوب قباحة، وهو يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة.

وأما قتل المرتد فيمنع الفوضى والإخلال في المجتمع الإسلامي والإخلال بنظامه.

الله هو الحق وتنزيهه من الظلم الذي هو الباطل

﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾(2).

هذه الآية إشارة إلى ما تعرضت الآيات السابقة له حول الإيمان والكفر، والاتحاد، والاختلاف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآثارها وعواقبها، إذ تقول: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾.


1- صحيح البخاري ومسلم، نقلاً عن تفسير في ظلال القرآن، ج ٥،ص 323.
2- آل عمران: 108.

ص: 59

فكل هذه الآيات تحذيرات عن تلك العواقب السيئة التي تترتب على أفعال الناس أنفسهم: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾ وإنّما هي آثار سيئة يجنيها الناس بأيديهم.

ويدلُّ على ذلك أنّ الله لا يحتاج إلى ظلم أحد، كيف وهو القوي المالك لكل شيء وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: ﴿وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾(1).

فالآية - في الحقيقة - تشتمل على دليلين على عدم صدور الظلم منه سبحانه:

الأول: إن الله مالك الوجود كله فله ما في السماوات وما في الأرض، فلا معنى للظلم ولا موجب له عنده، وإنما يظلم الآخرين ويعتدي عليهم مَن يفقد شيئاً، وإلى هذا يشير المقطع الأول من الآية وهو قوله تعالى: ﴿وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾.

الثاني: إن الظلمَ يمكن صدوره ممن تقع الأمور دون إرادته ورضاه، أما مَن ترجع إليه الأمور جميعاً، وليس لأحد أن يعمل شيئاً بدون إذنه فلا يمكن صدور الظلم منه، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: ﴿وَإلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾.

انتصار الحق على الباطل

﴿إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(2).

هذه الآية تبيّن أنّ الظالمين الذين يظلمون الناس ينتظرهم عقابان عقاب في الدنيا وآخر في الآخرة.


1- آل عمران: 109.
2- الشورى:42.

ص: 60

يقول بعض المفسرين حول الاختلاف بين جملة ﴿يَظْلِمُونَ النَّاسَ﴾ وجملة ﴿وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أن الجملة الأولى إشارة إلى موضوع (الظلم) والثانية إلى (التكبّر)(1).

البعض الآخر اعتبرَ الأولى إشارة إلى (الظلم) والثانية إشارة إلى الوقوف بوجه الحكومة الإسلامية.

«بغى» تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شيء ما، ولكن كثيرا ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الآخرين، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق، لذا فإن للظلم مفهوما خاصاً وللبغي مفهوماً عاماً يشمل أيَّ تعدٍ أو تجاوز للحقوق الإلهيّة.

عبارة (بغير الحق) تأكيد لهذا المعنى، وعلى هذا الأساس فإن الجملة الثانية من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص. وقال تعالى: ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾(2).

بعد ذكر الظلم الذي هو الباطل جاءت هذه الآية تؤكّد حتميّة انتصار الحق وجاء الأمل بالنصر النهائي والذي يعتبر بحد ذاته عاملاً للتوفيق في الأعمال، إذ خاطبت الآية الرسول  بِوعد الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾(3) لأن طبيعة الباطل الفناء والدمار: ﴿إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾. فللباطل جولة، إلا أنه لا يدوم والعاقبة تكون لانتصار الحق واصحابه وانصاره.


1- تفسير (الكشاف) و(روح المعاني) و(روح البيان) نهاية الآيات التي نبحثها.
2- الإسراء:81.
3- (زهق) من مادة «زهوق» بمعنى الاضمحلال والهلاك والابادة، (زهوق على وزن قبول) صيغة مبالغة وهي تعني الشيء الذي تمت ابادته بالكامل.

ص: 61

الحق في التوحيد والباطل في الشرك

﴿بَلْ مَتّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتّى جَاءهُمُ الْحَقّ وَرَسُولٌ مّبِينٌ * وَلَمّا جَاءهُمُ الْحَقّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإنّا بِهِ كَافِرُونَ﴾(1).

هذه الآية جواب عن سؤال في الحقيقة، وهو: في مثل هذه حالات مشركي مكة لِمَ لا يعذب الله مشركي مكة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة: (فانتقمنا منهم)؟

فتقول الآية مجيبة: ﴿بَلْ مَتّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتّى جَاءهُمُ الْحَقّ وَرَسُولٌ مّبِينٌ﴾.

فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنية، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد، بل أمهلناهم لإتمام الحجة عليهم حتى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا النبيّ العظيم محمد  بهدايتهم.

وبتعبير آخر، فإن جملة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ في الآية السابقة توحي بأن الهدف من مساعي إبراهيم  الحثيثة كان رجوع كل ذريّته إلى خط التوحيد، في حين أن العرب كانت تدّعي أنّها من ذرية إبراهيم  ورغم ذلك لم ترجع، إلا أن الله سبحانه أمهلهم مع ذلك حتى يأتي النبي العظيم بالكتاب الجديد ليوقظ هؤلاء من نومهم، وبالفعل فقد استيقظت جماعة عظيمة منهم.

إلا أنّ العجيب أنّه: ﴿وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾.

نعم. لقد عدوا القرآن المجيد سحراً، والنبي الأكرم  ساحراً، وإذا لم يرجعوا عمّا قالوا فإن عذاب الله سيحيط بهم ويأخذهم من حيث لا يشعرون.


1- الزخرف: 29 و 30.

ص: 62

الشفاعة حق والأوثان باطل

﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(1)

لا زال الحديث في هذه الآيات _ وهي آخر آيات سورة الزخرف _ حول إبطال عقيدة الشرك وتفنيدها، وعاقبة المشركين المُرّة، وهي توضح بطلان عقيدتهم بدلائل أُخرى. تقول الآية الأولى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ﴾ فلا تقام الشفاعة عند الله إلاّ بإذنه، ولم يأذن الله الحكيم بها لهذه الأحجار والأخشاب التي لا قيمة لها، والفاقدة للعقل والشعور والإدراك مطلقاً.

لكن لما كانت الملائكة وأمثالها من بين آلهة هؤلاء، فقد استثنوا في ذيل الآية، فقالت: ﴿إلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ وهم الذين أسلموا لوحدانية الله سبحانه في جميع المراحل، وأذعنوا لها. نعم، هؤلاء هم الذين يشفعون بإذن الله تعالى.

ولكن ليس الأمر كما تتوهمون أنّهم يشفعون لأي كان، حتى وإن كان وثنياً ومشركاً ومنحرفاً عن طريق التوحيد وضالاً عن الصراط المستقيم، بل ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جيداً لمن يشفعون.

وعلى هذا فإنّهم يقطعون الأمل من شفاعة الملائكة لسببين:

الأوّل: أنّها كانت بنفسها تقرّ بوحدانية الله وتشهد بها، ولذلك حصلت على إذن الشفاعة.

والآخر: أنهم يعرفون جيداً من له أهلية الشفاعة ومستحقها، واعتبر البعض جملة ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ مكملة لجملة ﴿إلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾.

وعلى هذا يصبح معنى الآية: إن الذين يشهدون بالتوحيد ويعلمون حقيقته هم الذين يملكون حق الشفاعة فقط. إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب. وعلى أية حال،


1- الزخرف:86.

ص: 63

فإنّ هذه الآية تبيّن الشرط الأساس الذي ينبغي توفره في الشفعاء عند الله تعالى، وهم الشاهدون بالحق، والعالمون به على الدوام والمحيطون بروح التوحيد جيداً، أو هم كذلك عالمون بأحوال المشفوع لهم وأوضاعهم.

العلم حق والظن باطل

﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إن يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾(1).

في الآيات التي سبقت هذه الآية تحكي أن المشركين وعبدة الأصنام يسمّون الملائكة تسمية الأناث وينسبون هذه الملائكة بأنها بنات الله، فيرد عليهم سبحانه وتعالى بالدلائل العقليّة والقرآنية على أنه ليس لله من ولد، وليس الملائكة اُناثاً، ولا هم بنات الله كذلك!

وإنّ مثل هذا الكلام لا معنى له. وإنّ هذه الأسماء لا مسميات لها، وبتعبير آخر إنّها لا تعدو حدود التسمية ولا واقع لها أبداً.

ثمّ يتناول القرآن واحداً من الأدلّة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول معقّباً: ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إن يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾..

فالإنسان الهادف والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية، ولا ينسب أيّة نسبة لأحد دونما دليل... فالتعويل على الظنّ والتصوّر إنّما هو من عمل الشيطان أو من يتّصف بالشيطانيّة... وقبول الخرافات والأشياء الموهومة دليل الانحراف وعدم العقل!

وواضح أنّ كلمة «الظنّ» لها معنيان مختلفان، فتارةً تطلق هذه الكلمة على الأوهام التي لا أساس لها، وطبقاً لتعبير الآيات آنفة الذكر تعني الخرافات والأوهام وما تهوى الأنفس... والمراد من هذه الكلمة في الآية هو هذا المعنى ذاته.


1- النجم: 28.

ص: 64

المعنى الآخر، الظنّ المعقول وهو ما يخطر في الذهن، ويكون مطابقاً للواقع غالباً، وعليه يكون مبنى العمل في اليوم _ مرةً أو أكثر _ كشهادة الشهود في المحكمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك، فلو أعرضنا عن مثل هذه الاُمور وعوّلنا على اليقين القطعي لاضطربت الحياة واختلّ نظامها. ولا شكّ أنّ هذا القسم من الظنّ غير داخل في هذه الآيات، وهناك شواهد كثيرة في الآيات ذاتها على ذلك... وفي الحقيقة أنّ القسم الثاني نوع من العلم العرفي لا الظنّ، فبناءً على هذا لا يصحّ الاستدلال بالآية ﴿إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ وأمثالها على نفي حجيّة الظنّ بشكل مطلق.

وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة.. وهي أنّ الظنّ في اصطلاح الفقهاء والأصوليين معناه «الاعتقاد الراجح»، إلاّ أنّه في اللغة أوسع مفهوماً، فيشمل حتّى الوهم والاحتمالات الضعيفة. ثمّ ينهض هوى النفس فيزيّن ذلك الاحتمال، ويهمل الاحتمال الآخر الذي هو أقوى من هذا الاحتمال، ويصير الاحتمال الضعيف اعتقاداً راسخاً مع أنّه لا أساس له أبداً.

ومن أجل أن يبيّن القرآن أنّ هؤلاء الجماعة ليسوا أهلا للاستدلال والمنطق الصحيح، وقد ألهاهم حبّ الدنيا عن ذكر الله وجرّهم إلى الوحل في خرافاتهم وأوهامهم يضيف قائلا: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾.

والمراد من (ذكرنا) في اعتقاد أغلب المفسّرين هو «القرآن»، وقد يُفسّر بأنّه الدلائل المنطقية والعقلية التي توصل الإنسان إلى الله، كما احتملوا أن يكون المراد هو ذكر الله الذي يقابل الغفلة عند الإنسان. إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا التعبير ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كلّ توجّه نحو الله، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن، أو عن طريق العقل، أو عن طريق السنّة، أو تذكّر القيامة وما إلى ذلك!

ص: 65

التحذير من مودة أعداء الحقّ أعداء الله وأعداء المسلمين

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾(1).

هذه الآية نزلت في (حاطب بن أبي بلتعة) وقصته معروفة كيف أعطى كتاباً إلى مشركي قريش في مكة يخبرهم بأنّ الرسول يَعدُ العدة لفتح مكة فليتخذوا حذرهم وكان هذا الكتاب قد اعطاه إلى «سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام» وقد ارسل النبي  علياً وعمار وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وابا مرثد ليدركوها في روضة خاخ فأدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فنحوّها وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً، فهمّوا بالرجوع، فقال علي : والله ما كذّبنا ولا كُذّبنا، وسلّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلاّ والله لأضربنّ عنقكِ. فلمّا رأت جدّ علي  أخرجته من ذؤابتها، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله ، فأرسل إلى حاطب بن أبي بلتعة واعتذر لرسول الله  وحَلَف له أنّه لم يخنه وقال لرسول الله أنه عِلَم ان الله سينزل بهم باسه فما يغني عنهم كتابه شيئاً فأراد عمر ضرب عنقه لكن رسول الله  عفا عنه.

وقال لعمر وما يدريك يا عمر لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فغفر لهم فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

وكيفية العلاقة التي يجب أن تتحكّم بين المسلمين من جهة، والمشركين وأعداء الله


1- الممتحنة: 1.

ص: 66

من جهة اُخرى، والتأكيد على إلغاء وتجنّب أي ولاء مع أعداء الله(1).

علمنا ممّا تقدّم أنّ هذه الآية تحذر المسلمين من تكرار مثل هذه التصرّفات مستقبلا وتنهاهم عنها.

يقول سبحانه في البداية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾ مؤكّداً أنّ أعداء الله وحدهم هم الذين يضمرون العداء للمؤمنين والحقد عليهم، ومع هذا التصوّر فكيف تمدّون يد الصداقة والودّ لهم؟

ويضيف تعالى: ﴿تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ﴾(2).

إنّهم يخالفونكم في العقيدة، كما أنّهم شنّوا عليكم الحرب عمليّاً، ويعتبرون إيمانكم بالله _ الذي هو أكبر فخر لكم وأعظم قداسة تجلّلكم _ غاية الجرم وأعظم الذنب، ولهذا السبب قاموا بإخراجكم من دياركم وشتّتوكم من بلادكم... ومع هذه الأعمال التي مارسوها معكم، هل من المناسب إظهار المودّة لهم، والسعي لإنقاذهم من يد العدالة والجزاء الإلهي على يد المقاتلين المسلمين المقتدرين. ثمّ يضيف القرآن الكريم موضّحاً: ﴿إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي﴾(3) فلا تعقدوا معهم أواصر الولاء والودّ.


1- مجمع البيان، ج ٩، ص ٢٦٩ ، بتلخيص مختصر، كما نقل هذا في سبب النزول: البخاري في صحيحه، ج ٩ ،ص ١٨٥، والفخر الرازي، وورد كذلك في تفسير روح المعاني، وروح البيان، وفي الظلال، والقرطبي، والمراغي، وفي تفاسير اُخرى باختلاف.
2- جملة: (تلقون إليهم بالمودّة) قالوا: إنّها حال من ضمير (لا تتّخذوا) كما قيل: إنّها جملة استئنافية (الكشّاف، ج ٤، ص ٥١)
3- يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الجملة الشرطية لها جزاء محذوف يستفاد من الجملة السابقة تقديره: (وإن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي لا تتولّوا أعدائي).

ص: 67

فإذا كنتم ممّن تدّعون حبّ الله حقّاً، وهاجرتم من دياركم لأجله سبحانه وترغبون في الجهاد في سبيله طلباً لرضاه تعالى، فإنّ هذه الأهداف العظيمة لا يناسبها إظهار الولاء لأعداء الله سبحانه.

ثمّ يضيف عزّ وجلّ للمزيد من الإيضاح فيقول: ﴿تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ﴾(1) (2). بل انهم يسعون عن طريق المكر والخديعة ان يصوّروا لكم الأشياء والواقع على غير صورته الحقيقية، ويصلون عن هذا الطريق إلى مقاصدهم، وإلا فلو كان هدفهم هو إرضاء المؤمنين الحقيقيين عنهم، فإنّ إرضاء الله ورسوله أهم من إرضاء المؤمنين، غير أنا نرى أنّهم بأعمالهم هذه قد أسخطوا الله ورسوله، ولذا عقبت الآية فقالت: ﴿وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾.

ممّا يلفت النظر أن الجملة المذكورة لما كانت تتحدث عن الله ورسوله، فعلى القاعدة النحوية ينبغي أن يكون الضمير في «يرضوه» ضمير التثنية غير أن المستعمل هنا هو ضمير المفرد، وهذا الاستعمال والتعبير يشير إلى أن رضا النّبي  من رضا الله. بل أنّه لا يرتضي من الأعمال إلاّ ما يرتضيه الله سبحانه، في الحقيقة هذا التعبير يشير إلى حقيقة (توحيد الأفعال)، لأنّ النّبي  لا يملك استقلالية العمل في مقابل الله، بل إن غضبه ورضاه وكل أعماله تنتهي إلى الله، فكل شيء من أجل الله وفي سبيله.

روي أنّ رجلا في زمن النّبي  قال ضمن كلامه: من أطاع الله ورسوله فقد فاز، ومن عصاهما فقد غوى. فلما سمع النّبي  كلامه غضب _ حيث أن الرجل ذكر الله ورسوله بضمير التثنية فكأنّه جعل الله ورسوله في درجة واحدة _ وقال: «بئس


1- الجملة أعلاه جملة استئنافية.
2- التعبير هنا ب (ما أخفيتم) عوض (ما أسررتم) جاء تأكيداً للمبالغة، لأنّ الإخفاء مرحلة أعمق من السرّ (تفسير الفخر الرازي).

ص: 68

الخطيب أنت، هلا قلت: ومن عصى الله ورسوله»(1).

وفي الآية الثّانية نرى أنّ القرآن يُهدد المنافقين تهديداً شديداً، فقال: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا﴾(2).

وفي نهاية الآية نجد تهديداً شديداً لمن يجانب السبيل الذي أمر به الله سبحانه بقوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾.

فمن جهة انحراف عن معرفة الله تعالى بظنّهِ أن الله لا يعلم ولا يرى ما يصنع، وكذلك انحراف عن طريق الايمان والاخلاص والتقوى، حينما يعقد الولاء وتقام أواصر المودّة مع أعداء الله، وبالاضافة إلى ذلك فإنه وجّه ضربة قاصمة إلى حياته حينما أفشى أسرار المسلمين إلى الأعداء، ويمثّل ذلك أقبح الأعمال وأردأ الممارسات حينما يسقط الشخص المؤمن بهذا الوحل ويقوم بمثل هذه الأعمال المنحرفة بَعد بلوغه مرتبة الإيمان والقداسة.

المباحات حق والمحرمات باطل

﴿قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(3).

لقد شاهدنا مراراً أنّ القرآن الكريم كلما تحدّث عن أمر مباح أو لازم، تحدث فوراً عن ما يقابله، من الأُمور القبيحة والمحرمات، ليكمِّل كل واحد منهما الآخر.

وهنا أيضاً تحدّث _ عقيب السماح بالتمتع والاستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال _ عن المحرمات على نحو العموم، ثمّ أشار بصورة خاصّة إلى


1- تفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآية.
2- التوبة:63.
3- الأعراف:33.

ص: 69

عدة نقاط مهمّة. ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال: يا أيّها النّبي ﴿قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾.

و «الفواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح والسوء جميع الذنوب، ولعلّ التأكيد على هذا المطلب (ما ظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا أُتي به سرّاً، ويحرّمونه إذا كان ظاهراً مكشوفاً. ثمّ عمّم الموضوع، وأشار إلى جميع الذنوب وقال «والإثم» أي كل إثم.

والإثمّ في الأصل يعني كل عمل مضرّ، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن.

ومرّة أُخرى يشير بصورة خاصّة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام، فيقول: ﴿وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أي كل نوع من أنواع الظلم، والتجاوز على حقوق الآخرين، ومن الواضح أنّ وصف «البغي» في الآية المبحوث عنها ب_«غير الحق» من قبيل التوضيح والتأكيد على معنى «البغي».

تغيير القبلة حق والمعاندون باطل

﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1)

هذه الآية تأمر النبي  وتقول: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾... من أية مدينة، وأية ديار ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.

ولمزيد من التأكيد تقول الآية: ﴿وَإنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾.


1- البقرة: 149.

ص: 70

وتنتهي الآية بتهديد المتآمرين والمعاندين: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾. هذه التأكيدات المتوالية في الآية وفي الآية التالية تبيّن أن مسألة تغيير القبلة كانت صعبة وثقيلة على مجموعة من المسلمين حديثي العهد بالإسلام، كما كانت ذريعة بيد أعداء الإسلام اللجوجين لبثّ سمومهم. مثل هذه الحالة تتطلب دائماً موقفاً قاطعاً حاسماً ينهي كل شك وريبة، من هنا توالت التأكيدات القرآنية القارعة لتبعث العزم واليقين في نفوس الأتباع، وتعمق اليأس والخيبة بين الأعداء، وهذا أُسلوب اتبعه القرآن في مواقف عديدة.

فالآية تشير إلى ثلاثة أمور هامّة:

1 _ إلجام المعارضين _ تقول الآية: ﴿لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾.

قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم والحجج، فاليهود يعترضون قائلين: إن النّبي الموعود يصلي إلى قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد ، والمشركون يعترضون على النّبي قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملّة إبراهيم .

وهؤلاء لا يستقيمون على طريق، حتّى اتجهتم صوب بيت المقدس للصلاة اتهموكم بالذيلية وعدم الأصالة، وحينما عدلتهم إلى الكعبة وصفوكم بعدم الثبات هؤلاء المفترون ظالمون حقاً، ظالمون لأنفسهم، ظالمون مَن يقطعون عليه طريق الهداية.

2 _ حين وصف الآية هؤلاء المعاندين أنهم ظالمون، فقد يُثبت هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾.

وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلا عاماً أساسياً من أصول التربية التوحيدية الإسلامية، هو عدم الخوف من أي شيء سوى الله.

وإذا ترسخ هذا المبدأ التربوي في نفوس الجماعة المسلمة فلن تفشل ولن تنهزم قط.

ص: 71

أما المتظاهرون بالإسلام فهم يخافون من «الشرق» تارة، ومن «الغرب» تارة اُخرى، ومن «المنافقين الداخليين» ومن «الأعداء الخارجيين» ومن كل شيء سوى الله. وهؤلاء دائماً أذلاء ضعفاء مهزومون.

3 _ وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: ﴿وَلإتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.

فتغيير القبلة كان في الواقع نوعاً من التربية والتكامل والنعمة للمسلمين كي يتعرفوا على الانضباط الإسلامي ويتخلصوا من التقليد والتعصب، فالله سبحانه أمر المسلمين في البداية أن يصلوا تجاه بيت المقدس كي تنعزل صفوف المسلمين عن صفوف المشركين الذين كانوا يقدسون الكعبة. وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية صدر الأمر بالصلاة نحو الكعبة.... نحو أقدم بيت توحيدي، وبذلك تحقق اجتياز مرحلة من مراحل تكامل المجتمع الإسلامي.

﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾(1).

هذه الآية تخاطب الكافرين والمجرمين وتذكر جانباً من أنواع العذاب الجسمي والروحي الذي سينال هؤلاء جزاء كل التمتع الباطل، واتّباع الشهوات الأعمى وعبادة الهوى والاستكبار والفسق والفجور وتذيقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الاعمال وهنا لابد من ذكر بعض النقاط المهمة.

أولاً: التعبير ب_«عذاب الهون» بمثابة ردّ فعل لاستكبار هؤلاء في الأرض، لأنّ العقوبة الإلهية تتناسب تماماً مع نوع الذنب والمعصية، فأُولئك الذين تكبّروا على خلق


1- الأحقاف: 20.

ص: 72

الله، بل وحتى على أنبيائه، ولم يخضعوا لأيّ تشريع إلهي، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

ثانياً: لقد ذُكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم، الأوّل: الاستكبار، والثّاني: الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث الأنبياء والقيامة، والثّاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين(1).

ثالثاً: إنّ التعبير ب_«غير الحق» لا يعني أنّ الاستكبار نوعان: حق، وغير حق، بل إنّ هذه التعابير تُقال عادةً للتأكيد، ونظائرها كثير.

جاء في حديث أنّ عمر أتى يوماً رسول الله  في مشربة أُم إبراهيم _ وهو موضع قرب المدينة _ وكان مضطجعاً على حصير من الخوص، وجزء من بدنه الشريف على التراب، وكانت تحت رأسه وسادة من ليف النخل، فسلّم وجلس، وقال: أنت نبيّ الله وأفضل خلقه، هذا كسرى وقيصر ينامان على أسرة الذهب وفرش الديباج وأنت على هذا الحال؟ فقال : «أُولئك قوم عجلت طيّباتهم وهي وشيكة الإنقطاع، وإنّما أخرت لنا طيباتنا»(2).

وصف دقيق لمنظر الحق والباطل

﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾(3).


1- تفسير الميزان، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٢٤.
2- مجمع البيان، ج ٩، ص 88.
3- الرعد:17.

ص: 73

يستند القرآن الكريم – الذي يعتبر كتاب هداية وتربية - في طريقته إلى الوقائع العينيّة لتقريب المفاهيم الصعبة إلى أذهان الناس، وهنا _ أيضاً _ لأجل أن يُجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك، والإيمان والكفر، الحقّ والباطل، يضرب مثلا واضحاً جدّاً لذلك... يقول أوّلا: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء﴾ الماء عماد الحياة وأصل النمو والحركة، ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كلّ ما يقف أمامها، وفي هذه الأثناء يظهر الزَّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم: ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا﴾. «الرابي» من «الربو» بمعنى العالي أو الطافي، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل: وليس ظهور الزبد منحصراً بهطول الأمطار، بل ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ﴾ أي الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزينة منها أو صناعة الوسائل اللازمة في الحياة. بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتّى للفلزات وللمتاع، يستنتج القرآن الكريم ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾، ثمّ يتطرّق إلى شرحه فيقول: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾.

فأمّا الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاءً ويصير باطلا متلاشياً، وأمّا الماء الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض أو ينفذ إلى الأعماق وتتكوّن منه العيون والآبار تروي العطاش، وتروي الأشجار لتُثمر، والأزهار لتتفتّح، وتمنح لكلّ شيء الحياة.

وفي آخر الآية _ للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال _ يقول سبحانه تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾.

ص: 74

أصحاب الكهف رمز الحق

﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾(1).

تشير الآيات القرآنية _ وما هو ثابت في التأريخ _ إلى أنَّ أصحاب الكهف كانوا يعيشون في بيئة فاسدة وزمان شاعت فيه عبادة الأصنام والكفر، وكانت هناك حكومة ظالمة تحتمي مظاهر الشرك والكفر والانحراف.

مجموعة أهل الكهف _ الذين كانوا على مستوى من العقل والصدق _ أحسّوا بالفساد وقرّروا القيام ضدَّ هذا المجتمع، وفي حال عدم تمكنهم مِن المواجهة والتغيير فإنّهم سيهجرون هذا المجتمع والمحيط الفاسد ويلتزموا جانب الحق قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.

مِن الدروس التي نستفيدها مِن قصّة أصحاب الكهف أنَّ مقياس قيمة البشر ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة، بل عندما يكون المسير في سبيل الله يتساوى الوزير والراعي، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمّة وتعطي للرّسول  هذا الأمر: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾(2) إنَّ استخدام تعبير (الغداة والعشي) إشارة إلى أنّهم كانوا دائماً وأبداً يذكرون الله.

وأما استخدام تعبير ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ هو إشارة إلى حقيقة أنّ رسول الله  كانَ قد تعرَّض إلى ضغط الأعداء المستكبرين والمشركين حتى يُبعد عنهُ مجموع المؤمنين الفقراء الحفاة الأطهار.

لذلك جاءه الأمر الإلهي بالصبر والاستقامة أمام هذا الضغط المتزايد وأن لا يستسلم له.


1- الكهف: 13.
2- الكهف: 28.

ص: 75

أمّا استخدام مصطلح ﴿يُريدُونَ وَجْهَهُ﴾ فهو دليل على إخلاصهم وإشارة إلى أنّهم يعبدون الله لذاته لا طمعاً بالجنة ولا خوفاً مِن الجحيم وعذابه بل يعبدون الله لأجل ذاته المُنزَّهة، وهذا أعلى مرتبة في الطاعة والعبودية والحبّ والإيمان بالله تعالى.

فأهل الكهف مؤمنون حقيقيون إلاَّ أنّهم فقراء، ولهم قلوب مملوءة بحبّ الله، يذكرونه باستمرار ويسعون إليه.

أما الأغنياء المستكبرون الغافلون عن ذكر الله، والذين لا يتبعون سوى هواهم، وخارجون عن حدَّ الاعتدال في كل أُمورهم ويُفرّطون ويُسرِفون.

ولما للموضوع أعلاه مِن الأهمية بمكان- بحيث أنَّ القرآن يقول للرّسول  _ بصراحة _ في الآية ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾(1).

ليس الأكثرية دائماً معياراً للحق

﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾(2).

في هذه الآية إشارة إلى حقيقة رأينا نظيرها في القرآن الكريم، وهذه الحقيقة هي تحري القرآن للحق، واحترامه لمكانة الأقليات الدينية الصالحة، يعني أنّه لم يكن ليصف جميع بني إسرائيل بأسرهم بالفساد والإفساد، وبأنّ هذا العرق القومي برمته ضالّ متمرد من دون استثناء، بل اعترف بأنّ منهم أقلية صالحة غير موافقة على أعمال الأكثرية، وأولى القرآن الكريم اهتماماً خاصاً بهؤلاء فيقول: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.

إنَّ هذه الآية قد تشير إلى فريق صغير لم يسلّموا للسامريّ ودعوته، وكانوا يدافعون عن دين موسى دائماً وأبداً، أو إلى الفرق والطوائف الصالحة الأُخرى التي


1- الكهف: 29.
2- الأعراف: 159.

ص: 76

جاءت بعد موسى . ولكن هذا المعنى يبدو غير منسجم مع ظاهر الآية، لأن «يهدون» و«يعدلون» وهو على الأقل يحكي عن زمان الحال، يعني عصر نزول القرآن، ويُثبت وجود مثل هذا الفريق في ذلك الزمان.

وعلى كل حال هذه الطائفة الصغيرة التي تمثل الحق مقابل الاكثرية الذين يمثلون الباطل ويتمسّكون به فرأي وعقيدة الأكثرية ليست هي المعيار دائماً وانّما الحق هو المعيار وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ بأنّ أصحاب الحقّ قليلون واصحاب الباطل كثيرون وسيرة الأئمة الأطهار حافلة بهكذا امر والقرآن الكريم يصرّح بقوله تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾(1).

وكذلك يمكن أن يكون ناظراً إلى الأقلية اليهودية الذين كانوا يعيشون في عصر رسول الله  والذين اعتنقوا الإسلام تدريجاً وبعد مطالعة دعوة النّبي ومحتوى رسالته، وانضموا إلى صفوف المسلمين الصادقين. وهذا التّفسير ينسجم أكثر مع ظاهر الفعلين المضارعين المستعملين فيها.

الله حق والأصنام باطل

﴿فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلاَلُ﴾(2).

وبعد أن عرضت الآيات السابقة لهذه الآية، نماذج من آثار عظيمة وتدبير الله سبحانه في السماء والأرض وايقظت وجدان وعقل المخالفين ودعوتهم للحكم في أمر الخالق، واعترف هؤلاء بذلك، خاطبتهم الآية التالية بلهجة قاطعة وقالت: ﴿فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ لا الأصنام، ولا سائر الموجودات التي جعلتموها شريكة للباري عزَّ وجلّ، والتي تسجدون أمامها وتعظمونها.


1- المؤمنون.
2- يونس:32.

ص: 77

كيف يمكن أن يكون هؤلاء أهلاً للعبودية في حين أنّهم ليسوا فقط غير قادرين على المشاركة في خلق العالم وتدبيره فحسب، بل منغمسين في الفقر والاحتياج من الرأس حتى أخمص القدم.

ثمّ تنتهي إلى ذكر النتيجة: ﴿فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ وأَنّى تولوا وجوهكم عن عبادة الله وأنتم تعلمون ألاّ خالق ولا معبود حقّاً سواه؟ إنّ هذه الآية في الواقع تطرح طريقاً منطقيّاً واضحاً لمعرفة الباطل وتركه، وهو أن يخطو الإنسان أوّلا في سبيل معرفة الحق بآليات الوجدان والعقل، فإذا عرف الحق فإنّ كل ما خالفه باطل وضلال، ويجب أن يُضرب عرض الحائط.

وتقول آخر آية في بيان العلة في عدم اتباع هؤلاء للحق رغم وضوح الأمر وظهور الحق: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(1) وفي الواقع فإنّ هذه خاصية الأعمال السيئة المستمرة لهؤلاء بحيث تُظلم قلوبهم وتلوث أرواحهم إلى درجة لايرون معها الحق رغم وضوحه وتجلّيه، ويسلكون نتيجة لذلك طريق الضلال.

دعاء الله حق ودعاء الأصنام باطل

﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء﴾(2).

الآية تشير إلى مطلبين:

الأول: قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ فهو يستجيب لدعواتنا، وهو عالم بدعاء العباد وقادرٌ على قضاء حوائجهم، ولهذا السبب يكون دعاؤنا إيّاه وطلبنا منه حقّاً، وليس باطلا.


1- كاف التشبيه في في (كذلك) هنا إِشارة إلِى المطلب الذي ذكر في آخر جملة من الآية السابقة، ومعنى الآية هكذا: كما أنّه ليس بعد الحق إلا الضلال، كذلك حقّت كلمة ربّك.
2- الرعد: 14.

ص: 78

ولكن دعاء الأصنام باطل ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء﴾ نعم هكذا في دعوة الباطل ليست أكثر من وهم، لأنّ ما يقولونه من علم وقدرة الأصنام ما هو إلاّ أوهام وخيال، أو ليس الحقّ هو عين الواقع وأصل الخير والبركة؟ والباطل هو الوهم وأصل الشرّ والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيّاً ورائعاً يقول: ﴿إلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَلِغِهِ﴾ فهل يستطيع أحدٌ أن يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر إلاّ من إنسان مجنون.

وتحتمل الآية تفسيراً آخر، فهي تُشَبّه المشركين كمن بسط كفّه في الماء ليتجمع فوقها الماء، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئاً منه لأنّ الماء يتسرّب من بين أصابع الكفّ المفتوحة.

وهناك تفسير ثالث وهو أنّ المشركين _ لحلّ مشاكلهم _ كانوا يلجأون إلى الأصنام، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده، هل يُحفظ الماء في يد؟! وهناك مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له: هو كقابض الماء باليد، ويقول الشاعر:

فأصبحت في_ما كان بيني وبينهامن الودّ مثل القابض الماء باليد

لكنّنا نعتقد أنّ التّفسير الأوّل أوضح!

ولاية الله حق

﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾(1).

ان جميع النعم والآلاء منه تعالى، وأنَّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته، وأنَّهُ بدون الاعتماد على لُطفه لا يمكن إنجاز عمل: ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾.


1- الكهف: 44.

ص: 79

إذن، لو أراد الإنسان أن يحب أحداً ويعتمد على شيء ما، أو يأمل بهديّة مِن شخص ما، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محطَ أنظاره، وموقع آماله، ومِن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

في المقابل نرى:

1- مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة، فإنّها غير مُطمئْنَة وغير ثابتة، فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تُبيد البساتين والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة مِن عمر الإنسان، وتحيلها إلى تل مِن تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.

إنَّ زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفوّارة التي هي الأصل في هذه الحياة، بالشكل الذي لا يمكن معهُ ترميمها أبداً.

2- إنَّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان بغرض الإفادة من إمكاناته المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر مِن الغدر والخيانة بحيث أنّهم يتخلّون عنهُ في نفس اللحظة التي تزول فيها إمكاناته المادية ويتركونهُ وحيداً لهمومه: ﴿وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا﴾.

هذا النوع مِن الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا لهُ نماذج تُبرهن على أنَّ الإنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده، وان ما دون الله كله باطل وفاني.

ولما كانت ولاية أمير المؤمنين علي  بموجب ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ...﴾ قبساً من ولاية الله ورسوله والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك، فإنّ هذه الآية من خلال نظرة واسعة تشمل الجميع، وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن ينحصر معنى الآية في هذا فقط، بل إنّ هذا التّفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي.

لذلك نجد في حديث آخر عن الإمام الصّادق  أنّه جعل هذه الآية تشمل

ص: 80

الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان(1).

الآية التّالية فيها إشارة إجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء في لسان إبراهيم: فتقول: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قومه...﴾(2).

صحيح أنّ تلك الاستدلالات كانت منطقية توصّل إليها إبراهيم بقوّة العقل والإلهام الفطري غير أن قوة العقل والإلهام الفطري من الله، لذلك فإنّ الله ينسبها إلى نفسه ويوقعها في القلوب المستعدة كقلب إبراهيم .

ومن الجدير بالملاحظة أنّ «تلك» اسم إشارة للبعيد، غير أنّها تستعمل أحياناً للقريب للدلالة على أهمية المشار إليه وعلو مقامه، مثل ذلك ما جاء في أوّل سورة البقرة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.

ثمّ تقول الآية: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء﴾(3) ولكيلا يُخامر بعضهم الشك في أنّ الله يحابي في إعطاء الدرجات لمن يشاء، تقول: إن الله متّصف بالحكمة وبالعلم، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك: ﴿إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾.

﴿قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾(4).

تتحدّث هذه الآية – وهي آخر آية من سورة الأنبياء- عن غفلة الناس الجهّال، فتقول حكاية عن النّبي  في عبارة تشبه اللعن، وتعكس معاناته  من كلّ هذا الغرور والغفلة، وتقول: إنّ النّبي  بعد مشاهدة كلّ هذا الإعراض ﴿قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ﴾(5) وفي الجملة الثّانية يُوجّه الخطاب إلى المخالفين ويقول: ﴿وَرَبُّنَا


1- تفسير البرهان، ج ١، ص 538.
2- الأنعام: 83.
3- انظر المجلد الثالث، تفسير الآية ( ١٤٥ ) من سورة النساء لمعرفة الفرق بين «الدرجه» و «الدرك».
4- الأنبياء:112.
5- لاشك أنّ حكم الله سبحانه بالحقّ دائماً، وعلى هذا فإنّ ذكر كلمة (بالحقّ ) هنا له صبغة التوضيح.

ص: 81

الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.

إنّه في الحقيقة يُنبّه هؤلاء بكلمة (ربّنا) إلى هذه الحقيقة، وهي أنّنا جميعاً مربوبون ومخلوقون، وهو ربّنا وخالقنا جميعاً.

والتعبير ب_ «الرحمن»، والذي يشير إلى الرحمة العامّة، يعيد إلى أسماع هؤلاء أنّ الرحمة الإلهية قد عمّت كلّ وجودنا، فلماذا لا تفكّروا لحظة في خالق كلّ هذه النعمة والرحمة؟

وتعبير ﴿الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ يحذّر هؤلاء بأن لا تظنّوا أنّا وحيدون أمام جمعكم وكثرته، ولا تتصوّروا أنّ كلّ اتهاماتكم وأكاذيبكم، سواء كانت على ذات الله المقدّسة، أو علينا، ستبقى بدون جواب وجزاء، كلاّ مطلقاً، فإنّه تعالى سندنا ومعتمدنا جميعاً، وهو قادر على أن يدافع عن عباده المؤمنين أمام كلّ أشكال الكذب والإفتراء والاتهام.

أشارت الآيات السابقة _ بشكل عابر _ إلى التناقض بين التمسّك بالحقّ وبين الأهواء النفسيّة، وهي إشارة ذات مدلول كبير، حيث تقول: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ وتفسير هذه المسألة ليس صعباً للأسباب الآتية:

ألف _ لا شكّ في أنّ أهواء الناس متفاوتة، وقد ينقض بعضها بعضاً، حتّى بالنسبة لشخص واحد فقد تتناقض أهواؤه.

ولو استسلم الحقّ لهذه الأهواء لنتج عن ذلك الفساد وعمّت الفوضى. لماذا؟ لأنّ كلّ فرد له صنم ومعبود، فلو حكمت هذه الآلهة الكثيرة والمتضادّة هذا العالم المترامي الأطراف، لظهر الفساد وتعمّ الفوضى من جرّاء ذلك، وهذا لا يخفى على أحد.

ب _ إنّ أهواء الناس مع قطع النظر عن تناقضها، فهي تميل نحو الفساد والشرّ ولو سادت الوجود والمجتمع البشري، فالنتيجة لا تكون سوى الفساد والشرّ.

ص: 82

ج _ إنّ الميول والأهواء ذات بُعدٍ واحد، ولا تنظر إلى الاُمور إلاّ من زاوية واحدة وتغفل عن بقيّة الأبعاد، ومن المعلوم أنّ أحد العوامل المهمّة في الفساد والخراب هو المنهج ذو البُعد الواحد الذي يغفل عن الأبعاد الاُخرى.

والآية محلّ البحث تُشبه من بعض جوانبها ما ورد في الآية الثّانية والعشرين من سورة الأنبياء ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾.

وبديهي أنّ الحقّ كالصراط المستقيم واحد لا نظير له، بينما الأهواء النفسية متعدّدة كأوثان المشركين. فأيّهما نتّبع الحقّ أم الهوى؟ أنتّبع الهوى الذي هو مصدر الفساد في السّماء والأرض وفي جميع الموجودات، أم الحقّ الذي هو رمز الوحدة والتوحيد والنظام والانسجام؟ الجواب في غاية الوضوح والإشراق.

﴿وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾(1).

هذه الآية تبينّن عبادة المنافقين للدنيا وتفضح شركهم حيث أنهم إذا دعوا إلى حق لهم فيه نفع دُنيوي سارعوا إليه وبكل خضوع وتلسيم.

فلا يقنعون بحكم من الله ورسوله  إلاّ ما يحقق مصالحهم، فهم عبيد لها، وعلى الرغم من ادعائهم الإيمان، فهم مشركون حقّاً.

تكبّر فرعون وأعوانه أعماه وأصمه عن الحق

بعد كل ممارسات فرعون الباطلة قبال الحق المتمثل في دعوة موسى  إلى الله يتحدث القرآن الكريم عن استكبار فرعون وعلوّه ومن معه، وعدم اذعانهم لمسألتي «المبدأ والمعاد» بحيث كان فرعون يرتكب ما يشاء من جرائم وجنايات بسبب انكار هذين الاصلين فيقول: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾(2).


1- النور: 49.
2- القصص: 39.

ص: 83

هذا الإنسان الضعيف الذي لا يستطيع أن يبعد عن نفسه بعوضةً، وربّما قتله ميكروب لا يُرى بالعين المجرّدة كيف يمكن له أن يدعي العظمة والألوهيّة!؟

ورد في الحديث القدسي أنّ الله سبحانه يقول: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النّار»(1).

ومن البديهي أنّ الله لا يحتاج إلى أوصاف كهذه... ولكن حالة الطغيان والعدوان تستولي الإنسان حينما ينسى نفسه، وتملأ ريح الكبر والغرور فكره!

رد القرآن على المشركين باسلوب آخر

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذّبَ بِالْحَقّ لَمّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ﴾(2).

وفي الآيات _ محل البحث _ يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ أي أرض مكّة المكرمة.

في حين أن العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكّة، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات، إلاّ أن هذه الأرض باقية على أمنها ﴿وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾.

فالله المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز «من الفتن» وحَرَم مكّة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر. كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافُ الناس الضعاف قبال قدرة الله العظيمة جلّ وعلا؟ ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ﴾.


1- تفسير روح المعاني، التّفسير الكبير، للفخر الرازي، تفسير الميزان وتفاسير أخر ذيل الآية مورد البحث.
2- العنكبوت: 67و68.

ص: 84

ملخص الكلام، أنّ الله القادر على أن يجعل في أرض مضطربة في وسط جماعة من الناس أنصاف وحشيين منطقة صغيرة آمنة، فكيف لا يقدر على حفظ جماعة المؤمنين القلائل بين جماعات كثيرة من الكفار.

وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن الى هذه النتيجة في الآية التالية ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذّبَ بِالْحَقّ لَمّا جَاءهُ﴾.

لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شيء أحق بالعبادة وأحرى بها من الله، لكنّكم كذبتم على الله، وصنعتم له شركاء بأيديكم، وتدعون أن هذا هو منهج إلهي.

ذريعة للفرار من الحق

﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾(1).

تتحدّث هذه الآية عن معاذير أولئك، وتشير إلى أنّهم _ بعد إرسال الرسل _ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية، واستمروا على طريق الانحراف، فتقول الآية: ﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾.

فلِمَ لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولِمَ لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولِمَ لِمَ... الخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج، ويقول: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ أي موسى وهارون، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق ﴿وَقَالُوا إنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾.

والتعبير ب_«سحران» بدلاً عن «ساحران» لشدة التأكيد، لأنّ العرب حين تريد


1- القصص: 48.

ص: 85

التأكيد على شخص في خصلة ما تقول: هو العدل عينه، أو بعينه، أو السحر وهكذا. كما يرد هذا الاحتمال إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسى  وهما عصاه ويده البيضاء.

وإذا قيل: ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة، فهذه الأُمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟

فالجواب على ذلك واضح... وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمراً جديداً فجميعهم من نسيج واحد، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماماً، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.

ومن جهة أُخرى، فإنّ القرآن الذي أنزلناه عليكم فيه دلائل الحق لائحة واضحة، إلاّ أنّكم لم تكترثوا به، وألقيتموه وراء ظهوركم ظهريّاً! فهل يتصور ظلمٌ أشدّ من هذا؟! لقد ظلمتم أنفسكم وظلمتم الناس جميعاً، لأنّ الشرك ظلم عظيم.

وبتعبير آخر: هل الظلم بمعناه الوسيع إلاّ الانحراف وإخراج الشيء عن محلّه الجدير به، وهل يرى أسوأ من أن يَعُدّ الإنسان حفنة من الأحجار المصنوعة التي لا قيمة لها أو الخشب المصنوع شركاء للخالق سبحانه الذي إضافة إلى ذلك فإنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الاجتماعية، وفي الواقع إن المظالم الأُخرى تسترفد منه، عبادة الهوى، عبادة المقام، عبادة الدنيا، كل منها نوع من الشرك.

ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾.

من الجدير ذكره أنّ في القرآن الكريم 15 مورداً عبّر فيها القرآن عن بعض الأفراد بأنّهم الأظلم، وجميع هذه الموارد بدأت بجملة استفهامية ﴿وَمَنْ أظْلَمُ﴾ طبعاً الإستفهام هنا استنكاري.

ص: 86

وأخيراً يذكر لنا القرآن الكريم بالرغم من أن المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى الله، من قبيل مشكلة معرفة الحق، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا يرحمون، ومشكلة الانحرافات الاحتمالية، لكن هنا حقيقة ثابتة، وهي أن الله يمنحكم القوّة والاطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم، تقول الآية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(1).

﴿ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾(2).

تشير هذه الآية إلى علة مصائب هذه المجموعة، حيث يقول تعالى كانوا يفرحون بمعارضة الأنبياء وقتل المؤمنين والتضييق على المحرومين، وكانوا يشعرون بالعظمة عند ارتكاب الذنوب وركوب المعاصي. واليوم عليهم أن يتحملوا ضريبة كلّ ذلك الفرح والغفلة والغرور من خلال هذه النيران والسلاسل والسعير. «تفرحون» من «فَرَح» وتعني السرور والابتهاج. وقد يكون الفرح ممدوحاً ومطلوباً في بعض الأحيان، كما تفيد الآيتان (4) و(5) من سورة «الروم» في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ﴾.

وفي بعض الأحيان يكون الفرح مذموماً وباطلا، كما ورد في قصة قارون، الآية (76) من سورة «القصص» حيث نقرأ قوله تعالى: ﴿إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾.

طبعاً ان الفرح في الآية مورد البحث هو كما تبيّن القرائن من النوع الثّاني المذموم والباطل.


1- العنكبوت: 69.
2- غافر:75.

ص: 87

«تمرحون» مشتقّة من «مرح» على وزن «فرح» وهي كما يقول اللغويون والمفسرون، تأتي بمعنى شدة الفرح، وقال آخرون: إنّها تعني الفرح بسبب بعض القضايا الباطلة في حين ذهبت جماعة ثالثة إلى اعتبارها حالة من الفرح المتزامن مع نوع من الطرب والاستفادة من النعم الإلهية في طريق الباطل.

والظاهر أنّ هذه المعاني جميعاً تعود إلى موضوع واحد، ذلك أنّ شدّة الفرح والإفراط فيه يشمل جميع المواضيع والحالات السابقة. وفي نفس الوقت فهو يتزامن مع أنواع الذنوب والآثام والفساد والشهوة.

أساس الانحراف بالنسبة للمشركين

﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(1).

هذه الآية تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم، وتقول: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفاً للاوثان!!

نعم، فمصدر الشرك هو عدم معرفة الباريء عزّ وجلّ بصورة صحيحة، فالذي يعلم:

أوّلا: أنّ الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي.

وثانياً: أنّه خالق كلّ الموجودات التي تحتاج إليه في كلّ لحظة من لحظات وجودها.

وثالثاً: أنّه يُدبر الكون ويحل كلّ عقد المشاكل، وأنّ الأرزاق بيده، وحتى الشفاعة إنّما تتمّ بإذنه وأمره، فما معنى توجه من يعلم بكلّ هذه الحقائق إلى غير ذلك.


1- الزمر: 67.

ص: 88

وأساساً فإنّ وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال، لأنّه من غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات.

ثمّ يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة، وذلك لبيان عظمة وقدرة الباريء عزّ وجلّ، إذ يقول كلام الله المجيد: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾.

«القبضة»: الشيء الذي يقبض عليه بجميع الكف، تستخدم _ عادة _ للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام، مثلما نقول في الاصطلاحات اليومية الدارجة: إن المدينة الفلانية هي بيدي، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي.

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾(1). الآية تأمر رسول الله ، بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو أن يدعوهم بالأدلة الجلية إلى الرجوع عن السير في هذا الطريق: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾(2).

إنّ غلو النصارى معروف، إلاّ أنّ غلو اليهود، الذي يشملهم تعبير ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ قد يكون إشارة إلى ما كانوا يقولونه عن العُزير وقد اعتبروه ابن الله، ولما كان الغلو ينشأ _ أكثر ما ينشأ _ عن إتباع الضالين أهواءهم، لذلك يقول الله سبحانه: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾.

وفي هذا إشارة أيضاً إلى ما انعكس في التّأريخ المسيحي، إذ أنّ موضوع التثليث في أمر المسيح  أمرٌ متأخر عن القرون الأولى للمسيحية، لكن ادخل بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام عندما اعتنقوا المسيحيّة شيئاً من دينهم السابق كالتثليث والشرك.


1- المائدة: 77.
2- «لاتغلو» من مادة «الغلو» وهي بمعنى تجاوز الحدّ، إِلاّ أنّها تستعمل للإِشارة تجاوز الحدّ بالنسبة لمقام شخص من الأشخاص ومنزلته.

ص: 89

ففي الآية الثلاثين من سورة التوبة وبعد ذكر غلو اليهود والنصارى في مسألة العزير والمسيح  يقول سبحانه ﴿يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾. وقد وردت كلمة «ضلوا» في هذه الآية مرّتين بالنسبة للكفار الذين اقتبس منهم أهل الكتاب الغلو، ولعل هذا التكرار من باب التوكيد، إذ أنّهم كانوا قبل ذلك من الضّالين، ثمّ لمّا أضلّوا الآخرين بدعاواهم وقعوا في ضلال آخر، ومن يسعى لتضليل الآخرين يكون أضلّ منهم في الواقع، لأنّه يكون قد استهلك قواه لدفع نفسه ودفع الآخرين إلى طريق التعاسة ولحمل آثام الآخرين أيضاً على كاهله، وهل يرتضي المرء السائر على الطريق المستقيم أن يضيف إلى آثامه آثام غيره أيضاً؟.

تقول الآية: ﴿وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1).

ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكايةً، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح ، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصاً شبيهاً بعيسى المسيح، وإلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ...﴾.

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح  كانوا _ هم أنفسهم _ في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن، تقول الآية: ﴿وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّبَاعَ الظّنّ...﴾.

قد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم


1- النساء: 157و158.

ص: 90

أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح  حيث اعتبره جميع المسيحيين ابناً لله، ورفض البعض الآخر _ كاليهود _ كونه نبّياً، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.

وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح  حيث قال البعض بأنّه قتل، وقال آخرون بأنّه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.

أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح ، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخص غيره...؟!

ويأتي القرآن ليُؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبداً، بل رفعه الله إليه، والله هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء، تقول الآية: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيح  لم يقتل ولم يصلب، بل اشتبه الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه، وهم لم يقتلوه أبداً!

توبيخ اليهود على أعمالهم الباطلة

﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾(1).

ذكر المفسرون أنّ هذه الآية نزلت ردّاً على مقالة اليهود وتوبيخاً لهم: فعن ابن عباس أنّه قال: كتب رسول الله  كتاباً إلى يهود «بني قينقاع» دعاهم فيه لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله «والمراد منه الإنفاق في سبيل الله وإنما عبر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدراً «أكبر» فدخل رسول النّبي إلى


1- آل عمران: 181.

ص: 91

بيت المدارس (حيث يتلقى اليهود دروساً في دينهم) وسلم كتاب النّبي  إلى «فنحاص» وهو من كبار أحبار اليهود فلمّا قرأه قال مستهزءاً: لو كان ما تقولونه حقاً فإن الله إذن لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنياً لما استقرض منّا (وهو يشير إلى قوله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾(1) هذا مضافاً إلى أن «محمّداً» يعتقد أنّ الله نهاكم عن أكل الرّبا، وهو يعدكم أن يُضاعف لكم إذا انفقتم أضعافاً مضاعفة، وهو يشير إلى قوله تعالى: ﴿يُرْبي الصَّدقَاتِ﴾(2).

ولكنّ «فنحاص» أنكر أنّه قال شيئاً من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه(3). تقول الآية الأُولى ﴿لّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الّذِينَ قَالُواْ إنّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾.

أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أنْ يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإن الله قد سمعها ويسمعها حرفاً بحرف فلا مجال لإنكارها، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جداً أو الأصوات العالية جداً: ﴿لّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الّذِينَ قَالُواْ إنّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾.

إذن فلا فائدة ولا جدوى في الإنكار، ثمّ يقول سبحانه: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾ أي أنّ ما قالوه لم نسمعه فحسب، بل سنكتبه جميعه.

نماذج من ممارسات اليهود العدوانية والباطلة

﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلاً﴾(4)


1- الحديد: 11.
2- البقرة: 276.
3- أسباب النزول للواقدي، ص ٩٩ وتفسير روح البيان في تفسير هذه الآية.
4- النساء:155.

ص: 92

تشير هذه الآيات إلى نماذج أُخرى من انتهاكات بني إسرائيل وممارساتهم العدوانية التي واجهوا بها أنبياء الله.

فهي تُبيّن قيام اليهود بنقض العهود، وإلى ارتداد بعضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم للأنبياء، بحيث استوجبوا غضب الله والحرمان من رحمته وحرمانهم من قسم من نعم الله الطاهرة.

فقد أنكر هؤلاء آيات الله وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتّبعوا بذلك سبيل الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ، بل تمادوا في غيّهم، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء الله، إيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والابتعاد عن طريق الحق.

لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء بغير حق وقولهم ﴿قُلُوبُنا غُلْفٌ...﴾.

وهنا يؤكّد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقاً، بحيث لا ينفذ إليها أي حقّ، وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إلاّ القليل منهم.

وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتاناً عظيماً، هي أُمّ لأحد أنبياء الله الكبار، وذلك لأنّها حملت به بإذن الله دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾(1).


1- النساء: 156.

ص: 93

وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله .

حجج أخرى لليهود

﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْتَأْتِينَآ ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَبَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الاَْيَتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ * إنَّآ أَرْسَلْنَكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَبِ الْجَحِيمِ﴾(1).

بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة، تتحدث الآية عن حجج مجموعة اُخرى من المعاندين ويبدو أنهم المشركون العرب فتقول: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾.

هؤلاء الجاهلون _ أو الذين لا يعلمون _ بتعبير الآية، طرحوا طلبين بعيدين عن المنطق، طلبوا:

1 _ أن يكلمهم الله: ﴿لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ﴾.

2 _ أن تنزل عليهم آية: ﴿أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾.

والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلا: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الاْيَاتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ﴾.

لو أن هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على رسول الله  دلالة واضحة بينة على صدق أقواله، فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم الله مباشرة؟!

مثل هذا الطلب لا يمكن أن يتحقق، لأن تحققه _ إضافة إلى عدم ضرورته _


1- البقرة: 118و119.

ص: 94

مخالف لحكمة الباري سبحانه، لما يلي:

أوّلا: إثبات صدق الأنبياء للناس كافة أمر ممكن عن طريق الآيات التي تنزل عليهم.

ثانياً: لا يمكن للآيات والمعاجز أن تنزل على أي فرد من الأفراد، فذلك يتطلب نوعاً من اللياقة والاستعداد والطّهارة الرّوحية.

وبعد أن ذمّ القرآن الفئة المذكورة من اليهود والنصارى، أشاد بأُولئك الذين آمنوا من أهل الكتاب وانضموا تحت راية الرسالة الخاتمة ﴿أَلَّذِينَ اتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ أي: بالتفكر والتدبر ثم العمل به ﴿أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي يؤمنون بالرّسول الكريم  ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

هؤلاء كانوا قد تلوا كتابهم السماوي حقّاً، وكان ذلك سبب هدايتهم، فهم قرأوا فيه بشارات ظهور النّبيّ الموعود، وقرأوا صفاته المنطبقة مع صفات نبيّ الإسلام فآمنوا به، والله مدحهم وأشاد بهم.

عبر القرآن عن الفئة المهتدية من أهل الكتاب بأنهم ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾، وهو تعبير عميق يرسم لنا سبيلا واضحاً تجاه القرآن الكريم والكتب السماوية، فالنّاس أمام الآيات الإلهية على أقسام:

قسم يُكرّسون اهتمامهم على أداء الألفاظ بشكل صحيح وعلى قواعد التجويد، ويشغل ذهنهم دوماً الوقف والوصل والإدغام والغنّة في التلاوة، ولا يهتمون إطلاقاً بمحتوى القرآن فما بالك بالعمل به! وهؤلاء بالتعبير القرآني ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾(1).

وقسم يتجاوز إطار الألفاظ، ويتعمق في المعاني، ويدقّق في الموضوعات القرآنية، ولكن لا يعمل بما يفهم!


1- الجمعة:5.

ص: 95

وقسم ثالث، وهو المؤمنون حقّاً، يقرأون القرآن باعتباره كتاب عمل، ومنهجاً كاملاً للحياة، ويعتبرون قراءة الألفاظ والتفكير في المعاني وإدراك مفاهيم الآيات الكريمة مقدمة للعمل، ولذلك تصحُ في نفوسهم روح جديدة للأعمال الصالحة، وهذه هي التلاوة الحقّة.

أبناء اليهود مثل أسلافهم

﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الاَْدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيهِمْ مِّيثَقُ الْكِتَبِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ إنَّا لاَ نُضِيعُ أجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾(1).

في الآيات السابقة دار الحديث حول أسلاف اليهود، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.

وفي البداية يقول تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الاَْدْنَى﴾. إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا، ولكنّهم رغم ذلك فُتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه، واستبدلوا الحق بمنافعهم الباطلة.

و«خَلْف» على وزن «حَرْف» يأتي غالباً في الأولاد غير الصالحين _ كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين، في حين أنّ «الخَلَف» على وزن «شَرَف» يأتي بمعنى الولد الصالح.

ثمّ يضيف قائلاً: وعندما وقعوا بين مفترق طريقين: بين ضغط الوجدان من جهة، والرغبات والمنافع المادية من جهة أُخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة


1- الأعراف: 169.

ص: 96

وقالوا: لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواءً من حلال أو حرام، والله سيرحمنا ويغفر لنا:﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾.

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية، ولكن هذه الندامة _ كما يقول القرآن الكريم _ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم، ولهذا يقول تعالى: ﴿وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾.

تقابل الحقّ الذي هو الله والباطل الذي هو غلو أهل الكتاب

﴿يَأَهْلَ الْكِتَبِ لاَ تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَهَآ إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَأَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلَثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إنَّمَا اللهُ إلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِى الْسَّمَوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا﴾(1).

تتطرق هذه الآية إلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحيّة، وهذا الانحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث. فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم، وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق، حيث تقول: ﴿يَأَهْلَ الْكِتَبِ لاَ تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الْحَقَّ...﴾.

لقد كانت قضية الغلو في حق القادة السابقين إحدى أخطر منابع الانحراف في الأديان السماوية، فالإنسان بما أنّه يميل إلى ذاته يندفع بهذا الميل إلى إظهار زعمائه وقادته بصورة أكبر ممّا هم عليه، لكي يضفي على نفسه الأهمية والعظمة من خلال هؤلاء القادة، وقد يدفع الإنسان التصور الواهي بأن الإيمان هو المبالغة والغلو في احترام وتعظيم القادة _ إلى الوقوع في متاهات هذا النوع من الانحراف الرهيب.


1- النساء: 171.

ص: 97

والغلو في أصله ينطوي على عيب كبير يفسد العنصر الأساسي للدين _ الذي هو عبادة الله وتوحيده _.

ولهذا السبب فقد عامل الإسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة، إذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشدُّ كفراً من الآخرين.

بعد ذلك تشير الآية الكريمة إلى عدّة نقاط، يُعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلاً على بطلان قضية التثليث، وعدم صحة اُلوهية المسيح ، وهذه النقاط هي:

1 _ لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح  بمريم  ﴿إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾، وإشارة البنوة _ هذه الواردة في ستة عشر مكاناً من القرآن الكريم _ إنّما تؤكّد أنّ المسيح  هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن اُمّه، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم  كما يولد أفراد البشر من بطون اُمهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر اُمّه، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن _ وحالة المسيح  هذه _ أن يكون إلهاً أزلياً أبدياً، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟!

وعبارة الحصر «إنّما» الواردة في الآية تحصر بنوة المسيح  بمريم  وتؤكّد على أنّه وإنّ لم يكن له والدٌ، فليس معنى ذلك أن أباه هو الله، بل هو فقط ابن مريم .

إنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيح  لم يكن له وجود خلال القرون الاُولى من المسيحية، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وامثالهم من عبدة الأصنام المسيحية أدخلوا فيها شيئاً من دينهم السابق، كالتثليث والشرك، والثالوث الهندي (الإيمان بالآلهة الثلاثة: برهما، وفيشنو، وسيغا)، كان تاريخياً أسبق من التثليث المسيحي الذي لا شك أنّه انعكاس لذاك.

ص: 98

2 _ تؤكّد الآية الكريمة أنّ المسيح  هو رسول الله ومبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى، وإن هذه المنزلة _ أي منزلة النّبوة _ لا تتناسب ومقام الألوهية.

والجدير بالذكر هو أنّ معظم كلام المسيح  الوارد قسم منه في الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر، إنّما يؤكّد نبوته وبعثته لهداية الناس، وليس فيه دلالة على ادعائه الألوهية والربوبية.

3 _ تبيّن الآية أن عيسى المسيح  هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم  إشارة إلى كون المسيح مخلوقاً بشرياً، إذ أن الكلمات مخلوقة من قبل الله، كما أنّ الموجودات في الكون من مخلوقاته عزَّ وجلّ، فكما أن الكلمات تبيّن مكنونات أنفسنا _ نحن البشر _ وتدل على صفاتنا وأخلاقياتنا، فإنّ مخلوقات الكون تحكي صفات خالقها وجماله وتدل على جلاله وعظمته.

وعلى هذا الأساس فقد وردت عبارة «كلمة» في عدد من العبارات القرآنية، لتشمل جميع مخلوقات الله، كما في الآية (109) من سورة الكهف والآية (29) من سورة لقمان، وبديهي أنّ الكلمات الإلهية تتفاوت بعضها مع البعض في المنزلة والأهمية وعيسى  يعتبر إحدى كلمات الله البارزة الأهمية، لكونه ولد من غير أب، إضافة إلى كونه يتمتع بمقام الرسالة الإلهية.

4 _ تشير الآية إلى أنّ عيسى المسيح  هو روح مخلوقة من قبل الله، حيث تقول (وروح منه) وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم _ أو بعبارة أُخرى خلق البشر أجمعين _ في القرآن الكريم، إنما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامّة، وفي المسيح  وسائر الأنبياء بصورة خاصّة.

وعلى الرغم من أنّ البعض أساء الاستفادة من هذه العبارة وفسّرها بأنّ المسيح  هو جزء من الله سبحانه وتعالى، مستنداً إلى عبارة «منه» ولكن الواضح في مثل هذه الحالات أن كلمة «من» ليست للتبعيض، بل تدل على مصدر ومنشأ

ص: 99

وأصل وجود الشيء وهناك طرفة تاريخية تذكر أنّه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني، دخل يوماً في نقاش مع «علي بن الحسين الواقدي» وهو أحد المفكرين الإسلاميين في ذلك العصر، فقال له هذا الطبيب: «توجد في كتابكم السماوي آية تبيّن أنّ المسيح هو جزء من الله...» وتلا هذا النصراني الآية موضوع البحث، فرد عليه «الواقدي» مباشرة تالياً هذه الآية: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾(1) وأضاف مبيّناً أنّ كلمة «من» لو كانت تفيد التبعيض، لاقتضى ذلك أن تكون جميع موجودات السماء والأرض _ بناء على هذه الآية _ جزءاً من الله، فلما سمع الطبيب النصراني كلام الواقدي أسلم في الحال، وسر إسلامه هارون الرشيد فكافأ الواقدي بجائزة مناسبة(2).

إنّ ما يثير العجب _ إضافة إلى ما ذكر _ هو أنّ المسيحيين يرون ولادة المسيح من أُمّ دون أب دليلاً على الوهيته، وهم ينسون في هذا المجال أن آدم كان قد ولد من غير أب، ولا أُم، ولم ير أحد هذه الخصيصة الموجودة في آدم دليلاً على ربوبيته.

بعد ذلك تؤكّد الآية على ضرورة الإيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه، ونبذ عقيدة التثليث، مبشرة المؤمنين بأنّهم إن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيراً لهم حيث قالت الآية: ﴿فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ...﴾.

حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم القيامة، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده، لكن هناك عوامل وأسباباً تؤثر في مسار هذه الدنيا وتقدمها نحو أهدافها، لذلك قد يغفل الإنسان أحياناً عن وجود الله وراء هذه الأسباب والعوامل، وأمّا في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع الأسباب


1- الجاثية: ١٣.
2- تفسير المنار، ج ٦، ص ٨٤.

ص: 100

والعوامل، فإنّ حكومة الله ومالكيته تكونان أجلى وأوضح من أي وقت سابق، كما جاء في آية أُخرى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(1).

حقانية المسيح  وبطلان شرك أتباعه

﴿وَإذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾(2).

هذه الآيات تشير إلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة، بدليل أنّنا بعد بضع آيات نقرأ: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ ولا شك أنّه يوم القيامة.

ثمّ أنّ جملة ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ دليل آخر على أنّ الحوار قد جرى بعد عهد نبوة المسيح ، والفعل «قال» لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه، لأنّ القرآن مليء بذكر أُمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن الماضي، وهو إشارة إلى أنّ وقوعه حتمي، أي أنّ مجيئه فى المستقبل على درجة من الثبوت والحتمية بحيث أنّه يبدو وكأنّه قد وقع فعلا، فيستعمل له صيغة الماضي. على كل حال تقول الآية الاُولى: ﴿وَإذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ﴾.

لا ريب أنّ المسيح  لم يقل شيئاً كهذا، بل دعا إلى التوحيد وعبادة الله،أنّ القصد من هذا الاستفهام هو استنطاقه أمام أُمّته وبيان إدانتها.

فيجيب المسيح  بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال:

1 _ يُنزّه الله عن كل شرك وشبهة: ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾.


1- غافر: ١٦.
2- المائدة: ١١٦.

ص: 101

2 _ ثمّ يقول: ﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله، فهو لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب، بل ينفي أن يكون له حقّ في قول مثل هذا القول وهذا منتهى التوحيد.

3 _ ثمّ يستند إلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيداً لبراءته فيقول: ﴿إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾(1).

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالان:

1 _ هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنّهم اتّخذوا من (مريم) معبودة؟ أم أنّهم إنّما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة: (الإله الأب) و(الإله الابن) و(روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإله الأب) و(الإله الابن) وهو ليس (مريم).

للإجابة على هذا السؤال نقول: صحيح أنّ المسيحيين لم يؤلّهوا مريم، ولكنّهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة، كالوثنيين الذين لم يكونوا يعتبرون الأصنام آلهة، ولكنّهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.

يقول أحد المفسّرين: إنّ المسيحيين على إختلاف فرقهم، وإن لم يطلقوا كلمة (إله) أو معبود على مريم، واعتبروها أم الإله لا غير، فهم في الواقع يقدمون لها طقوس الدعاء والعبادة، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه، ثمّ يضيف قائلاً: قبل مدّة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة من مجلة (المشرق) المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوص التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن السيدة مريم، منها تصريح بأنّ كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).

وفي العدد الرّابع عشر من السنة الخامسة من المجلة نفسها مقال بقلم (الأب


1- اطلاق كلمة (نفس) على الله لا تعني الروح، فمن معاني النفس الذات.

ص: 102

انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أصول عبادة مريم حتى في العهد القديم، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية مريم(1).

2 _ السؤال الثّاني: كيف يتحدث المسيح  عن مشركي أُمّته بعبارات يُشم منها رائحة الشفاعة لهم فيقول: (وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم) أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران؟

في الجواب نقول: لو كان قصد عيسى  هو الشفاعة لهم لكان عليه أن يقول: (فإنك أنت الغفور الرحيم) لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان مقام الشفاعة، ولكنّنا نراه يقول ﴿فَإنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ من هذا يتّضح أنّه لم يكن في مقام الشفاعة لهم، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل الأمر كلّه إلى الله، إن شاء عفا، وإن شاء عاقب، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إلى حكمة.

النصارى أقرب إلى الحق من اليهود المشركين

على الرغم من انحرافاتهم كان النصارى على مستوى أرفع بكثير من مستوى اليهود: «ورهباناً» وكثير منهم كانوا يخضعون للحق، ولم يتكبّروا، في حين كان معظم اليهود يرون أنّهم عنصر أرفع، فرفضوا قبول الإسلام الذي هو (دين الحق) الذي لم يأت على يد عنصر يهودي: ﴿وإنَّهُمْ لا يَسْتَكْبرُونَ﴾.

ثمّ إنّ نفراً منهم كانوا إذا استمعوا لآيات من القرآن تنحدر دموعهم مثل مَن صحب جعفر من الأحباش لأنّهم يعرفون الحقّ إذا سمعوه: ﴿وَإذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ﴾(2).


1- تفسير المنار، ج ٧، ص ٢٦٣.
2- المائدة: ٨٣.

ص: 103

فكانوا ينادون بكل صراحة وشجاعة، و ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.

لقد كان تأثرهم بالآيات القرآنية من الشدة بحيث أنّهم كانوا يقولون: ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾(1).

سبق أن قلنا إنّ هذه المقارنة كانت بين اليهود والنصارى المعاصرين لرسول الله ، فاليهود _ وإن كانوا من أصحاب الكتب السماوية _ بلغت شدّة تعلقهم بالمادة وحبّهم لها أن انخرطوا في سلك المشركين الذين لم يكن يربطهم بهم أي وجه شبه مشترك، مع أن اليهود في البداية كانوا من المبشرين بمجيء الإسلام ولم تكن قد دخلتهم انحرافات كالتثليث والغلو اللذين كانا عند المسيحيين، غير أن حبّهم للدنيا حبّ عبادة قد أبعدهم عن الحقّ، بينما معاصروهم المسيحيون لم يكونوا على هذه الشاكلة.

إلاّ أنّ التاريخ القديم والمعاصر يقول لنا: (أنّ المسيحيين في القرون التي أعقبت ذلك قد ارتكبوا بحق الإسلام والمسلمين جرائم لا تقل عمّا فعله اليهود في هذا المجال).

إنّ الحروب الصليبية الطّويلة والدّموية في القرون الماضية، والاستفزازات الكثيرة التي يقوم بها الاستعمار ضد الإسلام والمسلمين اليوم غير خافية على أحدٍ، لذلك ليس لنا أن نأخذ الآيات المذكورة مأخذ قانون عام بالنسبة لجميع المسيحيين، بل إنّ الآية: ﴿وَإذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ...﴾ وما بعدها دليل على أنّها نزلت بحق جمع من المسيحيين الذين كانوا يعاصرون رسول الله .


1- المائدة: ٨٤.

ص: 104

نفي ألوهيّة المسيح 

﴿إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنّ مِّنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(1).

هذه الآية تورد استدلالاً قصيراً وواضحاً في الردّ على مسيحيّي نجران بشأن الوهية المسيح : إنّ ولادة المسيح من غير أب لا يمكن أن تكون دليلاً على أنّه ابن الله أو أنّه الله بعينه، لأنّ هذه الولادة قد جرت لآدم بصورة أعجب فهو قد ولد من غير أب ولا أُم. وعليه، فكما أنّ خلق آدم من تراب لا يستدعي التعجّب، لأنّ الله قادر على كلّ شيء، ولأن «فعله» و «إرادته» متناسقان فإذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون، كذلك ولادة عيسى من أُمّ وبغير أب، ليست مستحيلة.

وأساساً، فإن الميسور والمعسور يتحقّقان بالنسبة لمن كانت قدرته محدودة كما في المخلوقات، أمّا من كانت قدرته مطلقة فلا مفهوم للصعب والسهل بالنسبة له. فخلق ورقة واحدة تتساوى بالنسبة له مع خلق غابة من آلاف الكيلومترات، وخلق ذرة واحدة كخلق المنظومة الشمسية لديه.

﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنّ مِّنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.

هذه الآية تؤكّد الموضوع وتقول: إنّ ما أنزلنا عليك بشأن المسيح أمرٌ حقيقيٌ من الله ولا يعتوره الشكّ، فلا تتردّد في قبوله.

في تفسير ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ للمفسّرين رأيان: الرأي الأول يقول: إنّ الجملة مبتدأ وخبر، وبذلك يكون المعنى: الحقّ دائماً من ربّك، وذلك لأنّ الحقّ هو الحقيقة، والحقيقة هو الوجود، وكلّ وجود ناشىء من وجوده. لذلك فكلّ باطل عدم، والعدم غريب على ذاته.


1- آل عمران: 59و60.

ص: 105

الرأي الثاني يقول: إنّ الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره «تلك الأخبار». أي تلك الأخبار التي أنزلناها عليك حقائق من الله. وكلّ من التفسيرين ينسجم مع الآية.

الخلق على أساس الحق

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾(1).

بعد ما بحثنا عن الباطل وأنّه كالرماد المتناثر إذا اشتدّت به الريح، نبحث في هذه الآية عن الحقّ واستقراره. يقول الله تعالى مخاطباً النّبي  باعتباره الاُسوة لكلّ دعاة الحقّ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ﴾.

«الحقّ» كما يقول الراغب في مفرداته «المطابقة والتنسيق» وله استعمالات أُخرى: فتارةً يستعمل الحقّ في العمل الصادر وفقاً للحكمة والنظام كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إلاَّ بِالْحَقِّ﴾(2).

وتارةً يطلق على الشخص الذي قام بهذا العمل المحكم، كما نطلقها على الله عزّ وجلّ ﴿فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾(3).

وتارةً أُخرى يطلق على الاعتقاد الذي يطابق الواقع كما في قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾(4).

ومرّةً يقال للقول والعمل الذي يتحقّق في الوقت المناسب كما في قوله تعالى:


1- إبراهيم: 16.
2- يونس: 5.
3- يونس:32.
4- البقرة:213.

ص: 106

﴿حقّ القول منّي لأملئنّ جهنّم﴾(1).

وعلى أيّة الحال فمقابل «الحقّ» الباطل والضلال واللعب وأمثالهما.

لكنّ الآية التي نحن بصددها تشير إلى المعنى الأوّل، وهو إنشاء عالم الخلق. حيث توضّح السّماء والأرض أنّ في الهدف من خلقها الحكمة والنظام والحساب. فالله تعالى ليس محتاجاً في خلقها ولا ناقصاً لكي يسدّ نقصه بها، بل هو الغني عن كلّ شيء، وهذا العالم الواسع دار لنمو المخلوقات وتكاملها.

﴿مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(2).

بعد أن عرض القرآن مثالاً على ضعف وبطلان غير الله وضرب الذبابة مثلاً قرّر حقيقة مهمّة، وهي﴿مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾.

فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة بالله تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له، تعالى عمّا يفعلون علوّاً كبيراً، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة الله لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم. وتقول الآية في النهاية: ﴿إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.

أجل، إنّ الله قادر على كلّ شيء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو اجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.

المصير المؤلم لقوم ثمود

﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(3).


1- السجدة: 13.
2- الحج: 74.
3- المؤمنون:41.

ص: 107

وعندما طغى عناد الكفّار، وزالت آخر قطرة من الحياء منهم، فتجاسروا على الله، وأنكروا رسالته إليهم، وأنكروا معاجز أنبيائه بكلّ صلافة، وبعد اتمام حجّة الله عليهم، بواسطة نبيهم جاءهم العذاب يقول تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾ حيث نزلت عليهم صاعقة الموت برعبها الهائل ودمارها الماحق، وقلبت مساكنهم ونثرتها حطاماً، وكانت سريعة خاطفة إلى درجة لم تسمح لهم بالفرار، فدفنوا في منازلهم كما بيّنت الآية الكريمة: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾ أي جعلناهم كهشيم النبات يحمله السيل ﴿فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.

رابطة الدين أسمى من رابطة النسب

﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلىِ وَاءِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمْ الْحَكِمِينَ﴾(1).

في الآيات المتقدمة أنّ ابن نوح لم يسمع نصيحة والده وموعظته، ولم يترك لجاجته وحماقته حتى النفس الأخير، فكانت نهايته الغرق في أمواج الطوفان. وهذه الآيات _ محل البحث _ تتحدث عن قسم آخر من هذه القصّة، وهو أنّه حين رأى نوحٌ ابنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوّة وتذكر وعد الله في نجاة أهله فالتفت إلى ساحة الله منادياً ﴿رَبِّ إنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلىِ وَاءِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمْ الْحَكِمِينَ﴾.

وهذا الوعد هو ما أشارت إليه الآية (40) من هذه السورة حيث يقول سبحانه: ﴿حَتَّى إذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾.

فقد تصوّر نوح أن قوله تعالى: ﴿إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ خاص بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان، ولذلك خاطب نوح ربّ العزّة بهذا الكلام.


1- هود: 45.

ص: 108

ولكنّه سمع الجواب مباشرة... جواب يهزّه هزاً كما أنّه يكشف عن حقيقة كبيرة.. حقيقة أنّ الرّباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة.. ﴿قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾.

فهو فرد غير لائق، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين. ﴿فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.

﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(1).

في هذه الآية في البداية ردٌّ على تهديد إبليس في إغواء كلّ بني آدم عدا المخلصين منهم _ فيجيبه الباريء عزّ وجلّ بالقول: ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ أقسم بالحقّ، ولا أقول إلاّ الحقّ ﴿لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.

فما ورد في بداية السورة إلى هنا حقّ، والذي ورد بشأن أحوال الأنبياء الكبار في هذه السورة بسبب حروبهم وجهادهم حقّ، والحديث في هذه السورة عن القيامة والعذاب الأليم الذي سينزل بالطغاة والنعم التي سيغدقها الباريء عزّ وجلّ على أهل الجنّة حقّ، ونهاية السورة حقّ، والله سبحانه يقسم بالحقّ ويقول الحقّ بأنّه سيملأ جهنّم بالشيطان وأتباعه، وذلك جواب قاطع على كلام إبليس بشأن إغوائه بني الإنسان، وبهذا وضّح الباريء عزّ وجلّ تكليف الجميع، على أيّة حال، فإنّ هاتين الجملتين تشتملان على الكثير من التأكيد، فتؤكّدان مرتين على مسألة (الحقّ) وتقسمان بها، وعبارة (لأملأنّ) رافقتها نون التوكيد الثقيلة و (أجمعين) تأكيد مجدّد على كلّ ذلك، لكي لا يبقى لأحد أدنى شكّ وترديد بهذا الشأن، إذ لا سبيل لنجاة الشيطان وأتباعه، والاستمرار بالسير على خطاه يؤدّي إلى جهنّم.


1- ص: 84و85.

ص: 109

القسم الثاني: الآيات التي تبحث في حقانية الأنبياء و الرسل والكتب السماوية و الملائكة و من يعارض ذلك باطل

اشاره

ص: 110

بعد الانتهاء من استعراض الآيات التي تتحدث عن الله باعتباره أصدق مصاديق الحق وأجلى معاييره.

والان نستعرض الآيات التي تتحدث عن الأنبياء والرسل والكتب السماوية باعتبارهم حق ومعانديهم ومنكريهم باطل.

العصبية القومية لدى اليهود

﴿وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللهِ مِن قَبْلُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(1).

يشير القرآن مرّة اُخرى إلى عصبية اليهود القومية فهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن، بل إنهم يدورون حول محور العنصرية والمصلحية، فيجرأون على رفض الدعوة التي جاءت تصديقاً لما معهم في التوراة ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ﴾.

ويكشف القرآن زيف ادعائهم مرة اُخرى حين يقول لهم: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله مِنْ قَبْلُ إن كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ﴾ هؤلاء يدّعون أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، فهل التوراة تبيح لهم قتل الأنبياء؟!

وهذا الذي يقوله بنو إسرائيل: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ ينطلق من روح ذاتية


1- البقرة: 91.

ص: 111

فردية أو فئوية، وهي تخالف روح التوحيد. فالتوحيد يستهدف القضاءَ على كل المحاور الذاتية في حركة الإنسان ومواقفه، وتكريس نشاطات الفرد حول محور العبودية لله لا غير.

بعبارة اُخرى، لو كان الإنصياع للأوامر الإلهية متوقفاً على نزولها عليهم، فهو الشرك لا الإيمان، وهو الكفر لا الإسلام، ومثل هذا الإنصياع ليس بدليل على الإيمان قط.

ردّ القرآن على تخرصات المجرمين

﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾(1).

هناك ذرائع كثيرة يتذرع بها المجرمون المعاندون ومنها لو أنزل هذا القرآن على رسول الله  جملة واحدة (يعني دفعة واحدة) يقولون أليس هذا القرآن جميعه من قبل الله!؟ أليس من الأفضل أن ينزل جميع محتوى هذا الكتاب دفعة واحدة حتى يقف الناس على عظمته أكثر؟ ولماذا تتنزل هذه الآيات تدريجياً وعلى فواصل زمنية مختلفة؟

وقد يأخذ هذا الإشكال في كيفية نزول القرآن مأخذه من الأفراد السطحيين، خاصّة إذا كانوا من الممتحلين للأعذار بأن هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس ومصدر كل حياة المسلمين، ومحور كل قوانينهم السياسية و الاجتماعية والحقوقية والعبادية، لماذا لم ينزل كاملا ودفعة واحدة على نبيّ الإسلام ، حتى يقرأه أتباعه من البداية إلى النهاية فيطلعون على محتواه. واساساً فقد كان الأفضل للنبي  أيضاً أن يكون ذا اطلاع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة، كيما يجيب الناس فوراً على كل ما يسألونه ويريدون منه.


1- الفرقان: 33.

ص: 112

ولكن القرآن في تتمة نفس هذه الآية يجيبهم: و﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾. وقد غفل اُولئك السطحيون عن هذه الحقيقة، فلا شك أن نزول القرآن التدريجي له ارتباط وثيق بتثبيت قلب النّبي  والمؤمنين.

ثمّ للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾. أي أنّهم لا يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لاضعاف دعوتك ومقابلتها، إلاّ آتيناك بكلام حقّ يقمع كلماتهم الجوفاء وأدلتهم الخاوية بأحسن بيان وأفضل تفسير.

القرآن حقّ ومنطق التعصب الأعمى باطل

﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * مَا نُنَزّلُ الْمَلائِكَةَ إلاّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إذًا مّنظَرِينَ﴾(1).

تبتدىء الآيات بتبيان موقف العداء الأعمى والتعصب الأصم للقرآن الحكيم والنّبي الأكرم  من قبل الكفار، فتقول: ﴿وقالوا يا أيّها الذي نزّل عليه الذكر إنّك لمجنون﴾.

ومن خلال كلامهم يظهر بجلاء مدى وقاحتهم وسوء الأدب الذي امتازوا به حين مخاطبتهم للنّبي ، فتارة يقولون: ﴿يا أيّها الذي﴾، وأُخرى: ﴿نُزّل عليه الذكر﴾ بصيغة الهزؤ والإنكار لآيات الله سبحانه، وثالثة: يستعملون أدوات التوكيد «إن» ولام التوكيد ليتّهموا أشرف خلق الله بالجنون!

نعم، الخصم المريض الجاهل حينما يقابل حكيماً لا نظير له، فأوّل ما يرميه بالجنون، لأنّه ينطلق من جهله الذي لا يستوعب الحكمة والمعقول، فيرى كل ما فوق تصوره القاصر غير معقول، ويوصم خصمه بالجنون!


1- الحجر: 6-8.

ص: 113

إنّهم لم يكتفوا بنسبة الجنون إلى النّبي ، بل تحججوا قائلين: ﴿لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين﴾.

فيجيبهم الباري جل شأنه: ﴿ما ننزل الملائكة إلاّ بالحقّ وما كانوا إذاً منظرين﴾. فلو ثمّ إنزال الملائكة وشاهدوا الحقيقة بأعينهم ثمّ لم يؤمنوا بها فسوف يحيق بهم، العذاب الإلهي دون إمهال.

وللمفسّرين وجوهاً متباينة في تفسير ﴿ما ننزل الملائكة إلاّ بالحق﴾:

1 _ يرى البعض، أن أمر تنزيل الملائكة لا يتعلق بما يتقوله القائلون تحججاً، بل هو إعجاز رباني لإظهار الحق وإحقاقه.

وبعبارة أُخرى، فالإعجاز ليس أمراً ترفيهياً يناغي تصورات الأخرين بقدر ما هو حجة إلهية لإثبات الحق وإماطة الباطل.

وقد أشبعت هذه الحقيقة بما فيه الكفاية لمن يرى النّور نوراً والظلام ظلاماً من خلال ما أوصله نبي الإسلام  عن طريق القرآن والمعاجز الأُخرى.

2 _ المقصود من كلمة «الحق» هو العقاب الدنيوي بالبلاء المهلك، وبعبارة أُخرى ﴿عذاب الإستئصال﴾.

أيْ... في حال عدم إيمان الكفار المعاندين بعد نزول الملائكة على ضوء اقتراحهم فهم هالكون قطعاً.

وبهذا تكون جملة ﴿وما كانوا إذاً منظرين﴾ مؤكّدة لهذا المعنى، وأمّا على التّفسير الأوّل فإنّها تتناول موضوعاً جديداً.

3 _ وقيل المراد بالحق في الآية الموت، إي أنّ الملائكة لا تنزل إلاّ لقبض الأرواح.

ولكنّ هذا المعنى بعيد جدّاً أمام ما يحفل به القرآن من ذكر نزول الملائكة في قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام ومعركة بدر...الخ.

4 _ وقيل المراد بالحق الشهادة ﴿المشاهدة﴾.

ص: 114

أيْ مادام الإنسان يعيش في عالم الدنيا فهو عاجز عن رؤية ما وراء هذا العالم حيث هناك تسبح الملائكة بحمد ربّها، لأنّ الحجب المادية قد أفسدت رؤيته ولا يتسنى له ذلك إلاّ بعد الرحيل إلى العالم الآخر.

حقانية الرسول  والقرآن

﴿فَتَوَكّلْ عَلَى اللهِ إنّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ * إنّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَاء إذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ﴾(1).

إنّ هذا الكلام اضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن، وهو تهديد لبني إسرائيل، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النّبي وتسرية عنه، لذا فالآية التالية تقول: ﴿فتوكل على الله﴾.

توكل على الله العزيز الذي لا يغلب، والعليم بكل شيء.. توكل على الله الذي أنزل القرآن على عظمته فجعله عندك، فتوكل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين، لأنّه يرعاك و﴿إنّك على الحق المبين﴾.

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: إذا كان القرآن حقّاً مبيناً فلماذا خالفوه؟ فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال، فتقول: إذا كان أُولئك لا يذعنون للحق المبين، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين، فلا مجال للعجب.. ل_﴿إنّك لا تسمع الموتى﴾(2).

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه، أمّا إحياء الموتى _ أو موتى الأحياء _ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب، فلا ترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فإنهم صمّ لا يسمعون فلا يمكنهم أن


1- النمل: 79-80.
2- قال جماعة من المفسّرين: إن هذه الجملة والجمل الأُخر التي تليها بمثابة الدليل على لزوم توكل النبّي على الله وعدم يأسه... مع أن الظاهر أنهّا جواب على سؤال يثار في شأن القرآن وكونه هو «الحق المبين».

ص: 115

يسمعوا صوتك، وخاصة إذا اداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك ﴿ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا وَلّوا مدبرين﴾.

ولعلّهم لو كانوا عندك وكنت تصرخ فيهم لبلغت بعض أمواج صوتك إلى مسامعهم، إلاّ أنّهم مع صممهم يبتعدون عنك.

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم، ولو ببعض العلامات، إلاّ أنّهم عميٌ.

وظيفة الرسل التبشير والإنذار

﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا﴾(1)

من أجل طمأنة الرّسول  في مقابل صلافة وعناد أمثال هؤلاء، تقول الآية: ﴿وما نرسل المرسلين إلاَّ مُبشرين ومُنذرين﴾.

ثمّ تقول الآية: إنَّ هذه القضية ليست جديدة، بل إنَّ مِن واقع هؤلاء الأشخاص المعارضة والاستهزاء بآيات الله: ﴿ويُجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً﴾(2).

وهذه الآية تشبه الآيات (42 _ 45) مِن سورة الحج التي تقول: ﴿وإن يكذبوك فقد كذَّبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود...﴾.

ويحتمل في تفسير الآية أنَّ الله تبارك وتعالى يريد أن يقول: إنَّ عمل الأنبياء لايقوم على الإجبار والإكراه، بل إنَّ مسؤوليتهم التبشير والإنذار، والقرار النهائي مرتبط


1- الكهف: 56.
2- (يدحضوا) مُشتقة مِن (إدِحاض) بمعنى الإِبطال والإِزالة، وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة (دحض) بمعنى الاِ نزلاق.

ص: 116

بنفس الناس كي يُفكروا بعواقب الكفر والإيمان معاً، وحتى يؤمنوا عن تصميم وإرادة وبيِّنة، لا أن يلجأوا إلى الإيمان الاضطراري عند نزول العذاب الإلهي.

لكن، مع الأسف أن يُساء استخدم حرية الاختيار هذه والتي هي وسيلة لتكامل الإنسان ورقيِّه، عندما يقوم أنصار الباطل بالجدال في مقابل أنصار الحق، إذ يُريدون القضاء على الحق عن طريق الاستهزاء أو المغالطة. ولكن هناك قلوباً مستعدة لقبول الحق دوماً والتسليم له، وإنَّ هذا الصراع بين الحق والباطل كان وسيبقى على مدى الحياة.

ثم تشير الآية الكريمة إلى الوضع المشابه الذي واجهه الرسل والأنبياء قبل رسول الله  كي تكون في هذه الذكرى مواساة أكثر للرسول الكريم، حيث واجه الأنبياء السابقون مثل هذه المشاكل، إلاّ أنّهم استمروا في طريقهم و احتفظوا بمسارهم المستقيم.

يقول تعالى: ﴿ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك﴾(1).

لقد واجه كلّ منهم ما تواجهه أنت اليوم، فصبروا وكان حليفهم النصر والغلبة على الظالمين.

ومن جهة ثانية كان الجميع يطلبون من الرسل الإتيان بالمعجزة، ومشركوا مكّة لم يشذوا عن غيرهم في طلب المعاجز من رسول الله  لذلك يخاطب الله تعالى رسوله الكريم  بقوله: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاّ بإذن الله﴾.

إنّ جميع المعاجز هي من عند الله وبيده، وبذلك فهي لا تخضع إلى أمزجة الكفار والمشركين، بل إنّ رسول الله  لا ينبغي له الاستسلام أمام «معجزاتهم المقترحة»


1- غافر: 78.

ص: 117

بل ما يكون من المعجزة ضرورياً لهداية الناس وإحقاق الحق يظهره الله على أيدي الأنبياء.

ثم تهدّد الآية من كان يقول: لماذا لا يشملنا العذاب الإلهي إذا كان هذا الرّسول صادقاً؟ فتقول الآية: ﴿فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون﴾.

في ذلك اليوم المهول تغلق أبواب التوبة، ولا تنفع الآهات والصرخات، ويخسر أهل الباطل صفقتهم، ويشملهم العذاب الإلهي الأليم، إذاً فلماذا كلّ هذا الإصرار على مجيء ذلك اليوم؟

﴿إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾(1).

الآية التالية تخاطب النّبي ، وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول: ﴿إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾.

فمسؤولية الرّسول بيان الأحكام الإلهية، وتقديم المعاجز، وتوضيح الحقائق، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه مسؤوليتك أيّها الرّسول، وأما الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فأنت غير مسؤول عنها: ﴿وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾.

مرَّ علينا أن القرآن يصف الحجج الواهية التي يطرحها المعاصرون لصاحب الرسالة الخاتمة، بأنها شبيهة بتلك التي كان يتذرع بها المنحرفون من الأمم السابقة، فقلوبهم متشابهة.

القرآن يشير بهذا التقريع واللوم إلى أنّ مرور الزمن ينبغي أن يكون عاملا على زيادة وعي الأجيال البشرية، وعلى تفهّم هذه الأجيال اللاحقة أكثر من السابقة لتعاليم الأنبياء، لكن مرور الزمن لا يرفع مستوى المنحرفين، بل يبقى خط الانحراف واحداً متشابهاً على مرّ الأجيال وكأنّها متعلقة بالآف الأعوام السالفة.


1- البقرة: 119.

ص: 118

هناك أصلان تربويان:

«البشارة» و«الإنذار» أو «التشجيع» و«التهديد» من أهم الأصول اللازمة للتربية وللحركة الاجتماعية. ينبغي أن يلقي الفرد تشجيعاً على أعماله الصالحة، وتوبيخاً على أعماله الطالحة، كي يواصل مسيره الأول، ويرتدع عن ارتياد المسير الثاني.

والتعادل ضروري بين هذين الجانبين، فلو تجاوز التشجيع حدّه لأدّى إلى التجرؤ والغفلة، ولو تعدّى التخويف حدّه لبعث على اليأس والقنوط وانطفاء شعلة الشوق والتحرك في النفوس.

«التشجيع» وحده لا يكفي لدفع الفرد والمجتمع على طريق التكامل، لأن الإنسان سوف يكون مطمئناً من عدم الخطر في حالة ارتكاب المعاصي.

على سبيل المثال، نرى ارتكاب المعاصي بين النصارى الحاليين أمراً عادياً، لأنهم يعتقدون بالفداء، أي بأن السيد المسيح  قد ضحى بنفسه لغفران ذنوب أتباعه، أو لاعتقادهم بأن أحبارهم قادرون أن يغفروا لهم ذنوبهم بسبل شتى، منها منحهم صكوك الغفران. أو يبيعون لهم الجنّة مثل هؤلاء القوم يسمحون لأنفسهم إرتكاب الذنوب بسهولة.

﴿فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِىَ بِآيَة إلاَّ بِإذْنِ اللهِ فَإذَا جَآءَ أَمْرُ اللهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾(1).

بعد سلسلة البحوث السابقة عن جدال الكافرين وغرورهم وتكذيبهم الآيات الإلهية والدلائل النبوية، تأتي هاتان الآيتان لمواساة النّبي الأكرم وتأمرانه بالصبر والاستقامة في مواجهة المشاكل والصعاب.


1- غافر: 177-178.

ص: 119

يأتي الأمر أوّلا في قوله تعالى: ﴿فاصبر إنّ وعد الله حق﴾.

إن وعده بالنصر حق، ووعده بمعاقبة المستكبرين المغرورين حق، وكلاهما سيتحققان، على أعداء الحق أن لا يظنّوا بأنّهم يستطيعون الهروب من العذاب الإلهي بسبب تأخر عقابهم، لذلك تضيف الآية:﴿فإمّا نُرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون﴾.

إنّ مسؤوليتك هي التبليغ البليغ وإتمام الحجة على الجميع، حتى تتنور القلوب اليقظة ببلاغك، ولا يبقى للمعاندين عذر!

عليك أن تهتم بإنجاز مهمتك ولا تنتظر تحقق الوعيد عاجلا بإنزال العقاب على هذه الفئة الضالة.

والكلام يتضمّن تهديداً إلى تلك الفئة لكي يعلموا أنّ العذاب لا بدّ مصيبهم، ونازل بساحتهم، فكما نال بعضهم العقاب الذي يستحقونه في هذه الدنيا في «بدر» و غيرها، فهناك أيضاً يوم القيامة والعذاب المنتظر.

﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإن يَشَإ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَتِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(1).

هذه الآيات تعتبر استمراراً للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها.

فهي تقول: إن هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي، بل: ﴿أم يقولون افترى على الله كذباً﴾ وهذا الاعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين: ﴿فإن يشأ الله يختم على قلبك﴾ ويجردك من قابلية إظهار هذه الآيات.

وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر إشارة إلى الاستدلال المنطقي المعروف، وهو أنّه إذا ادعى شخص النبوة، وجاء بالآيات البينات والمعاجز، وشمله النصر الإلهي، فلو


1- الشورى: 54.

ص: 120

كذب على الخالق فإن الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته، كما ورد في الآيات (44) إلى (46) من سورة الحاقة: ﴿ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين﴾.

نلاحظ أيضاً أن إحدى التهم التي نسبها الكفار والمشركون إلى الرّسول هي أنّه يعتبر أجر الرسالة في مودّة أهل بيته وأنّه يكذب على الخالق في هذا الأمر: (هذا طبقاً للآيات السابقة) إلاّ أن هذه الآية نفت هذه التهمة عنه .

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع: ﴿ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته﴾.

فهذه هي مسؤولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقاً لحكمته، وإلاّ فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أن من الاخطاء الكبيرة أن يتصور البعض قيام الرّسول  بهذا العمل مُخفياً ذلك عن علم الخالق: ﴿إنّه عليم بذات الصدور﴾.

﴿نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لّلنّاسِ﴾(1).

هذه الآية تخاطب نبي الإسلام وتقول: إنّ الله تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحقّ والحقيقة، وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة ﴿التوراة والأنجيل﴾ التي بشّرت به(2).

وبعد إتمام الحجّة بنزول الآيات الكريمة من الله تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة، ولذلك تقول الآية محلّ


1- آل عمران: 3 و4 .
2- انظر: التفسير الأمثل، الجزء الأول ص ١٤٦ في تفسير الآية ٤٠ من سورة البقرة، شرح (مصدّقاً لما بين يديه)

ص: 121

البحث بعد ذكر حقّانيّة الرسول الأكرم والقرآن المجيد: ﴿إنّ الذين كفروا بآيات الله لهم عذابٌ شديد﴾.

ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة الله تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية ﴿والله عزيز ذو إنتقام﴾(1).

هنا لابدّ من ملاحظة ما يلي:

1 _ أصل ﴿الحقّ﴾ المطابقة والموافقة، لذلك يقال لما يطابق الواقع «الحق». كما أنّ وصف الله بالحقّ ناشيء من كون ذاته القدسية أعظم واقع غير قابل للإنكار.

وبعبارة أُخرى «الحق» هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.

والباء في «الحق» في هذه الآية للمصاحبة،أي يا أيّها النبيّ لقد أنزل الله عليك القرآن مصحوباً بدلائل الحقّ.

2 _ «التوراة» لفظة عبرية تعني «الشريعة والقانون»، وأُطلقت على الكتاب الذي أنزل الله على موسى بن عمران . وقد تطلق أيضاً على مجموعة كتب العهد القديم أو أسفاره الخمسة.

حقانية القرآن وتصديقه الكتب السماوية التي سبقته

﴿وَأَنزَلْنَآ إلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَتِ إلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(2).


1- ذكر بعض المفسّرين أن «ذو» لها معناً أقوى من «صاحب» ولذلك لا نجد في صفات الله أنها تذكر معنى كلمة صاحب بل تذكر دائماً مع كلمة «ذو» البحر المحيط: ج ٢ ص ٣٧٩.
2- المائدة: 48.

ص: 122

تشير هذه الآية إلى موقع القرآن وحقانيته بعد ذكر الكتب السماوية في الآيات قبلها التي نزلت على الأنبياء السابقين.

وكلمة «مهيمن» تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف اشرافاً كاملا، ويكمل تلك الكتب، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية: ﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه...﴾.

فالقرآن بالإضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة، اشتمل _ أيضاً _ على دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظاً وصائناً لها.

إنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادىء والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإنسان والسمو به إلى مراتب الكمال المعنوي والمادي، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإنسان، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإنسان إلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإنساني، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطوراً، والإتيان بعبارة: ﴿مهيمناً عليه﴾ بعد جملة ﴿مصدقاً لما بين يديه﴾ يدل على هذه الحقيقة، أي أنّ القرآن في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة، يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.

الاختيار حق والإجبار باطل

﴿قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل﴾(1).


1- يونس: 108.

ص: 123

هذه الآية تضمّنت موعظة ونصيحة لعامّة الناس، فتقول أوّلا، وكقانون عام: ﴿قل يا أيّها الناس قد جاءكم الحق من ربّكم﴾ هذه التعليمات، وهذا الكتاب السماوي، وهذا الدين، وهذا النّبي كلها حق، والأدلّة على كونها حقّاً واضحة، وبملاحظة هذه الحقيقة: ﴿فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنّما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل﴾.

أي إنّي لست مأموراً بإجباركم على قبول الحق، لأن الإجبار على قبول الإيمان لا معنى له، ولا أستطيع إذا لم تقبلوا الحق ولم تؤمنوا أن أدفع عنكم العذاب الإلهي، بل إنّ واجبي ومسؤوليتي هي الدعوة والإبلاغ والإرشاد والهداية والقيادة، أمّا الباقي فيتعلق بكم، وعليكم انتخاب طريقكم.

إنّ هذه الآية إضافة إلى أنّها تؤكّد مرّة أُخرى مسألة الإختيار وحرية الإرادة، فإنّها دليل على أن قبول الحق سيعود بالنفع على الإنسان نفسه بالدرجة الأُولى، كما أن مخالفته ستكون في ضرره.

إنّ توجيهات القادة الإلهيين والكتب السماوية ما هي في الواقع إلاّ دروس لتربية وتكامل البشر، فلا يزيد الإلتزام بها شيئاً على عظمة الله، ولا تنقص مخالفتها من جلاله شيئاً.

﴿إنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَآ أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل﴾(1).

بعد ذكر دلائل التوحيد، و بيان مصير المشركين والموحدين، تبيّن الآية الأُولى -اعلاه - حقيقة مفادها أن قبول ما جاء في كتاب الله أو عدم قبوله إنّما يعود بالفائدة أو الضرر عليكم، وإن كان رسول الله  يصرّ عليكم في هذا المجال، فإنّه لم يكن


1- الزمر: 4.

ص: 124

يبتغي جني الأرباح من وراء ذلك، و إنّما كان يؤدي واجباً إلهياً، ﴿إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحقّ﴾(1).

وتضيف الآية ﴿فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنّما يضل عليها﴾ على أية حال، فإنّك لست مكلفاً بإدخال الحق إلى قلوبهم بالإجبار، وإنّما عليك إبلاغهم وإنذارهم فقط ﴿وما أنت عليهم بوكيل﴾.

هذه القاعدة بأنّ كلّ من اتبع طريق الحق عاد بالربح على نفسه، ومن اتبع سبيل الضلال عاد بالخسارة على نفسه، تكررت عدّة مرات في آيات القرآن الكريم، كما أنّها تأكيد على حقيقة أنّ الله غير محتاج لإيمان عباده ولا يخاف من كفرهم،وكذلك رسوله، وإنّه لم يدع عباده إلى عبادته كي يجني من وراء ذلك الأرباح، وإنّما ليجود على عباده.

وقوله تعالى: ﴿وما أنت عليهم بوكيل﴾ التي وردت فيها كلمة (وكيل) بمعنى الشخص المكلف بهداية الضالين وجعلهم يؤمنون بالله _ وردت عدّة مرات في آيات القرآن، وبنفس التعبير أو ما يشابهه، والغرض من تكرارها هو بيان أنّ الرّسول الأكرم  ليس مسؤولاً عن إيمان الناس، بل الأمر الإلهي دون أن يظهر أي تقصير أو عجز.

النبيّ المرسل يحمل شريعة الحق والعدالة

﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْجَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَأَمِنُوا خَيْراً لَّكُمْ وَإن تَكْفُرُوا فَإنَّ للهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾(2).

لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر


1- «بالحق»: من الممكن أن تكون حالا ل (كتاب) أو للفاعل في (أنزلناه)، مع أنّ المعنى الأوّل أنسب، و لذا فإنّ مفهوم الآية يكون: (إنا أنزلنا عليك القرآن مترافقاً بالحق).
2- النساء: 170.

ص: 125

الإيمان، أمّا الآية الأخيرة فهي تدعو إلى الإيمان وتبيّن نتيجة هذا الإيمان، وتستخدم في ترغيب الناس إلى هذا الهدف السامي عبارات واصطلاحات تثير عند الأفراد الرغبة والاندفاع نحو الإيمان.

وهذه الآية تشير في البداية إلى أنّ النّبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر الناس ظهوره، والذي أشارت إليه الكتب السماوية السابقة، وهو يحمل إليهم شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال: ﴿يا أيّها الناس قد جاءكم الرّسول بالحق﴾.

ثمّ تردف الآية بأنّ هذا النّبي قد جاء إلى الناس من الله الذي تعهد تربية الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية، وهي عبارة: ﴿من ربّكم﴾.

وبعد ذلك تؤكّد الآية _ على أنّ إيمان الأفراد إنّما تعود فائدته ويعود نفعه عليهم أنفسهم، أي أن الإنسان إذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإيمان قبل أن يخدم به غيره تقول الآية: ﴿فآمنوا خيراً لكم﴾.

كما تؤكّد الآية في النهاية على أن من يتخذ الكفر سبيلاً لنفسه فلن يضرّ الله بعمله هذا أبداً، لأن الله يملك كل ما في السماوات وما في الأرض، فهو بهذا لا يحتاج إلى أي شيء من الآخرين، وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام الله وأوامره كلّها لمصلحة البشر، لأنّها نابعة من حكمة الله وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس، ومنافعهم الخيّرة، فتقول الآية: ﴿وكان الله عليماً حكيماً﴾.

فهل يحق للبشر بعد هذا البيان أن يتركوا طريق الإيمان ويتبعوا سبيل الكفر؟

﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إنّا كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(1).

ثمّ يأتيهم الخطاب من قبل الله مرّة أُخرى، فيقول مؤكّداً: ﴿هذا كتابنا ينطق


1- الجاثية: 29.

ص: 126

عليكم بالحق﴾ فقد كنتم تفعلون كلّ ما يحلو لكم، ولم تكونوا تصدِّقون مطلقاً أنّ كلّ أعمالكم هذه تسجل في مكان ما، ولكن ﴿إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾.

«نستنسخ» من مادة «استنساخ»، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ، وهو إزالة الشيء بشيء آخر، فيقال مثلاً: نسخت الشمس الظل. ثمّ استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.

وهنا يبدو سؤال، وهو: إذا كان الله سبحانه قد أمر باستنساخ أعمال ابن آدم، ذلك يستلزم أن يكون هناك كتاب قبل النسخ تكتب فيه تلك الأعمال؟ ولذلك فإنّ البعض يعتقد أنّ صحائف أعمال كلّ البشر قد كتبت في اللوح المحفوظ، والملائكة الموكلون بحفظ أعمال الإنسان يستنسخونها من ذلك اللوح المحفوظ.

إلاّ أنّ هذا المعنى لا يتلاءم كثيراً مع الآية مورد البحث، بل الملائم أحد معنيين هما: إمّا أن يكون الاستنساخ هنا بمعنى أصل الكتابة _ كما قاله بعض المفسّرين _، أو أنّ نفس أعمال الإنسان كالكتاب التكويني تنسخ عنه الملائكة الحفظة وتصوره، ولذلك فقد ورد في آيات أُخر من القرآن الكريم التعبير بالكتابة بدل الاستنساخ، كما نقرأ ذلك في الآية (12) من سورة يس: ﴿إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم﴾(1).

عشّاق الحقّ

﴿وَبِالْحَقّ ِ أَنْزَلْنهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنكَ إلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾(2).


1- ورد في رواية عن أمير المؤمنين علي: «إن لله ملائكة ينزلون كلّ يوم يكتبون فيه أعمال بني آدم». ويقول الشيخ الطوسي في التبيان في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذه الرواية: ومعنى نستنسخ نستكتب الحفظة ما يستحقونه من ثواب وعقاب.
2- الإسراء: 105.

ص: 127

مرّة أُخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويُجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات: ﴿وبالحق أنزلناه﴾، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة ﴿وبالحق نزل﴾، ثمّ تقول: ﴿وما أرسلناك إلاَّ مُبشراً ونذيراً﴾ إذ ليسَ لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

لقد ذكر المفسّرون آراء مُختلفة في الفرق بين الجملة الأُولى: ﴿وبالحق أنزلناه﴾ والجملة الثّانية: ﴿وبالحق نزل﴾ مِنها:

1 _ المراد مِن الجملة الأُولى: إنّنا قَدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنَّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق، لذا فإنَّ التعبير الأوّل يُشير إلى التقدير، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1).

2 _ الجملة الأُولى تشير إلى أنَّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق، أمّا التعبير الثّاني فانَّهُ يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضاً(2).

3 _ الرأي الثّالث يرى أنَّ الجملة الأُولى تقول: إنّنا نزَّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول: إنَّ الرّسول  لم يتدخل في الحق ولم يتصرف بهِ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح مِن هذه التّفاسير، وهو أنَّ الإنسان قد يبدأ في بعضِ الأحيان بعمل ما، ولكنّه لا يستطيع اتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب مِن ضعفه، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء، فإنَّهُ يبدأ بداية صحيحة.


1- راجع تفسير القرطبي، ج ٦، ص 3955.
2- في ظلال القرآن، في تفسير الآية.

ص: 128

القرآن وطلاب الحقّ

﴿إنَّآ أَنْزَلْنَآ إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ﴾(1).

هذه الآية تتحدث:

أولاً عن نزول القرآن المجيد.

ثانياً: تُبيّن محتوى وأهداف القرآن.

ومن الطبيعي أنّ كلّ كتاب تتمّ معرفته من خلال مؤلفه أو منزله، وعندما ندرك أنّ هذا الكتاب السماوي الكبير مستلهم من علم الله القادر والحكيم، الذي لا يقف أمام قدرته المطلقة شيء، ولا يخفى على علمه المطلق أمر، لأيقنّا بلا عناء أن محتوياته حقّ وكلّها حكمة ونور وهداية.

ثم تعرض محتويات هذا الكتاب السماوي وأهدافه ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق﴾.

لا يوجد فيه غير الحقّ، ولهذا السبب يتبعه طلاب الحقّ، والباحثون عن الحقيقة مشغولون بالبحث في محتوياته. من هنا، ولكون هدف نزول القرآن يتحدد في إعطاء الدين الخالص للبشرية، فإنّ آخر الآية يقول: ﴿فاعبد الله مخلصاً له الدين﴾.

قد يكون المراد هنا من كلمة (دين) هو عبادة الله، لأنّ الجملة التي وردت قبلها ﴿فاعبد الله﴾ فيها أمر بالعبادة، ولذا فإنّ العبارة التي تليها ﴿مخلصاً له الدين﴾ تبيّن شروط صحة العبادة والتي تتمثل في الإخلاص وفي الشرك والرياء.

وهنا معنيان تبينهما الآية هما:

الأوّل: هو أنّ البارىء عزّ وجلّ لا يقبل سوى الدين الخالص، والاستسلام الكامل له من دون أيّ قيد أو شرط، ولا يقبل أي عمل فيه رياء أو شرك، أو خلط


1- الزمر: 2.

ص: 129

للقوانين الإلهية بغيرها من القوانين الوضعية.

الثّاني: هو أنّ الدين والشريعة الخالصة يجب أخذها من الله فقط، لأن أفكار الإنسان ناقصة وممزوجة بالأخطاء والأوهام.

﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل﴾(1).

هذه الآية: تخبر رسول الله  أنّ قومه _ أي قريش وأهل مكّة _ لم يصدّقوا ما يقول مع أنّه صدق وحق وتؤكّده الأدلة العقلية المختلفة والفطرية: ﴿وكذب به قومك وهو الحق﴾(2).

ثمّ يصدر الأمر إلى رسول الله : ﴿قل لست عليكم بوكيل﴾ أي إنّما أنا رسول ولست أضمن قبولكم.

في الآيات الكثيرة المشابهة لهذه الآية (كالآيات 107 _ الأنعام، 108 _ يونس، 41 _ الزمر، 6 _ الشورى) يتبيّن أنّ المقصود من «وكيل» في هذه المواضع هو المسؤول عن الهداية العملية للأفراد والضامن لهم _ لذلك فإنّ رسول الله  يقول لهم في هذه الآية: إنّ الأمر يعود إليكم، فأنتم الذين يجب أن تتخذوا القرار النهائي في قبول الحقيقة أو ردّها، فما أنا إلاّ رسول أُبلغ رسالة الله.

وفي الآية التّالية القصيرة ذات المعنى العميق تحذير لهم، ودعوة إلى اختيار الطريق الصحيح، ﴿ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون﴾ أي أنّ كل خبر أخبركم به الرّسول  في هذه الدنيا أو في الآخرة مُوضَع ومُقَرّ، وسوف يتحقق في موعده المقرر، وعندئذٍ ستعرفون ذلك.


1- الأنعام: 66.
2- الضمير في «به» يرجعه بعضهم إِلى القرآن، ويرجعه آخرون إلِى العذاب الذي ورد في الآيات السابقة، ولكنّ الظاهر إنّه يرجع إلِى كل هذه وإلى تعاليم الرّسول التي كذبوا بها.

ص: 130

مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ ﴿الحقّ﴾ يعني كلّ ما ينطبق مع الواقع وينسجم معه، فإنّ هذا التعبير دليل على إثبات أنّ هذا الكتاب السماوي نازل من الله تعالى، لأنّنا كلّما دقّقنا النظر في هذا الكتاب السماوي وجدناه أكثر انسجاماً مع الواقع.

فليس فيه تناقض، أو كذب أو خرافة، بل فمبادئه ومعارفه تنسجم مع منطق العقل. قصصه وتواريخه منزّهة عن الأساطير والخرافات، وقوانينه تتساوق مع احتياجات البشر، فتلك الحقّانية دليل واضح على أنّه نازل من الله سبحانه وتعالى.

ولأجل توضيح موقع القرآن الكريم ورد التعبير عنه ب_«النور» و«البرهان» و«الفرقان» و «الذكر» و «الموعظة» و «الهدى»، وكلّ واحدة منها تشير إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده، بينما كلمة ﴿الحقّ﴾ تشمل جميع تلك البركات.

وبناءً على ذلك، فإنّ حقّانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثاً مطابقاً للمصالح والواقعيات من جهة، كما أنّ العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع الواقع من جهة اُخرى، ومن جهة ثالثة فإنّه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على أساس الحكمة، والله ذاته تعالى الذي هو الحقّ يتجلّى في ذلك الكتاب العظيم، والعقل يصدق ويؤمن ما هو حقّ.

﴿فَإن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(1).

لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والأُمم السابقة، وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النّبي  في صحة ذلك، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال، وليسألوهم عن ذلك، لأنّ كثيراً من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء.


1- يونس: 34.

ص: 131

إلاّ أنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء، خاطب النّبي  فقال: ﴿فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك﴾ ليثبت عن هذا الطريق بأنّه ﴿لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين﴾.

ويحتمل أيضاً أنّ الآية أعلاه تطرح بحثاً جديداً ومستقلا في صدق دعوة النّبي ، وتُعلِمَ المخالفين أنّهم إن كانوا في شك من أحقيته فليسألوا أهل الكتاب عن علاماته التي نزلت في الكتب السابقة كالتّوراة والإنجيل.

ونقل سبب آخر للنزول في بعض التفاسير(1) يؤيد هذا المعنى، وهو أن جمعاً من كفار قريش كانوا يقولون: إنّ هذا القرآن لم ينزل من الله، بل إنّ الشيطان يلقيه على محمّد!! وقد سبب هذا الكلام أن يقع عدّة أشخاص في وادي الشك والتردد.

فأجابهم بهذه الآية.

غفلة المشركين عن نزول القرآن

﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(2).

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن، دفعهم للاعتقاد بأنّ أقوال النّبي  تحمل بين ثناياها التناقض أو الإفتراء على الله عزّ وجلّ!

وإلاّ لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلاّ به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات


1- تفسير أبي الفتوح الرازي، الجزء ٦، ص ٢٢٧ ذيل الآية.
2- النحل: 102.

ص: 132

العملية والواقعية، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أُخرى لا يتم دفعة واحدة، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل انتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أوَ ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلاّ أنْ نقول: ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع، وللتأكيد عليه تأمر النّبي  أنْ: ﴿قل نزّله روح القدس من ربك بالحق﴾.

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين»، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزَّل بأمر الله تعالى على النّبي الأكرم  سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية الرّبانية له.

اعتراف الجن بحقانية القرآن

﴿قَالُواْ يَقَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إلَى الْحَقِّ وَإلَى طَرِيق مُسْتَقِيم﴾(1).

تبيّن الآية اعلاه كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم، تلك الدعوة المتناسقة الدقيقة، الوجيزة والعميقة المعنى: ﴿قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى﴾.


1- الأحقاف: 30.

ص: 133

ومن صفاته أنّا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في محتواها، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب: ﴿مصدقاً لما بين يديه﴾.

وصفته الأُخرى أنّه: ﴿يهدي إلى الحق﴾ بحيث أنّ كلّ من يستند إلى عقله وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.

وآخر صفة أنّه يهدي إلى الرشد: ﴿والى طريق مستقيم﴾.

إنّ التفاوت بين الدعوة إلى الحق والى الصراط المستقيم، يكمن ظاهراً في أنّ الأوّل إشارة إلى العقائد الحقة، والثّاني إلى البرامج العملية المستقيمة الصحيحة.

وجملة: ﴿أنزل من بعد موسى﴾ وجملة: ﴿مصدقاً لما بين يديه﴾ تؤيدان أنّ هذه الطائفة كانوا مؤمنين بالكتب السماوية السابقة، وخاصة كتاب موسى ، وكانوا يبحثون عن الحق.

وإذا رأينا أنّ الكلام لم يرد عن كتاب عيسى الذي أنزل بعد موسى ، فليس ذلك بسبب ما روي عن ابن عباس من أنّ الجن لم يكونوا مطلعين على نزول الإنجيل مطلقاً، إذ أنّ الجن كانوا مطلعين على أخبار السماوات وعالمين بها، فكيف يمكن أن يغفلوا عن أخبار الأرض إلى هذا الحد؟ بل بسبب أنّ التوراة كانت هي الكتاب الأساسي، فحتى المسيحيون كانوا قد أخذوا ويأخذون أحكام شريعتهم عنها.

من هم الشهود؟

﴿وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة شَهِيداً فَقُلْنا هَاتُوا بُرْهَنَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ للهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾(1).

هذه الآية تقول أيّها المشركون الضالون:

ستنكشف المسائل وتتجلى الأُمور لا تبقى خافية ويُعلم حينئذٍ الحق ويبطل عمل


1- القصص: 75.

ص: 134

المشركون والضالون ﴿فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ للهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.

هؤلاء الشهود الذين ذكرتهم الآية اعلاه هم الأنبياء بقرينة الآيات الأُخرى في القرآن، إذ أن كل نبي شاهد على أمته، ونبيّ الإسلام  الذي هو خاتم الأنبياء شهيد على جميع الأنبياء والأُمم، كما نقرأ ذلك في الآية)41) من سورة النساء ﴿فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً﴾.

فعلى هذا، ينعقد يوم القيامة مجلس كبير بحضور الأنبياء، ويؤتى بالمشركين المعاندين عمي القلوب، وهناك يعرفون الفاجعة العظمى للشرك، وحقانية الله، وضلال الأصنام... بجلاء.

ومن الطريف أن القرآن يعبر ب_ ﴿ضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ أي إن تصوراتهم واعتقاداتهم في الأصنام تمحى عنهم يوم القيامة، لأنّ عرصة القيامة عرصة الحق، ولا مكان للباطل هناك، فالباطل يضل هناك ويمحى من الوجود.

فإذا كان الباطل يغطي وجهه هنا (في هذا العالم) بستار من الحق ليخدع الناس أيّاماً، فهناك تنكشف الحجب ولا يبقى سوى الحق.

نقرأ في رواية عن الإمام الباقر  في تفسير ﴿ونزعنا من كل أمّة شهيداً﴾ قوله: «ومن هذه الأُمة إمامها»(1).

حقانيّة الرسول  مقابل بطلان المشركين والمعاندين

﴿إنَّآ أَرْسَلْنَكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإن مِّنْ أُمَّة إلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾(2).

توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفراداً كالأموات والُعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة


1- تفسير الميزان، ج ١٦ ، ص 20.
2- فاطر: 34.

ص: 135

الرّسول  بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيراً.

أوّلا: تقول الآية الكريمة: ﴿إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير﴾. فيكفيك من أداء وظيفتك أن لا تقصّر فيها، وأوصل نداءك إلى مسامعهم، وبشّرهم بثواب الله، وأنذرهم عقابه، سواء استجابوا أو لم يستجيبوا.

الملفت للنظر أنّه تعالى قال في آخر آية من الآيات السابقة مخاطباً الرّسول الأكرم ﴿إن أنت إلاّ نذير﴾ إشارة إلى أنّ الرّسول  لا يقوم بهذا العمل من عند نفسه، وإنّما هو مأمور من قبل الله تعالى.

وإذا كانت الآية السابقة قد ركّزت على الإنذار فقط، فلأنّ الحديث كان حول الجاهلين المعاندين الذين هم كالأموات المقبورين الذين لا يتقبّلون أي حديث، أمّا هذه الآية فإنّها توضّح بشكل كامل، وظيفة الأنبياء الثنائية الهدف «البشارة» و «الإنذار»، مؤكّدة في آخرها من جديد على «الإنذار» لأنّ الإنذار هو القسم الأساس من دعوة الأنبياء في قبال المشركين والظلمة.

﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهْدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مُوْعِدُهُ فَلاَتَكُ فِى مِرْيَة مِّنْهُ إنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(1).

هناك أقوال كثيرة _ في تفسير هذه الآية _ بين المفسّرين.

1 _ في بداية الآية يقول الحق سبحانه:

﴿أفمن كان على بينة من ربّه ويتلوه شاهد منه﴾ أي من الله تعالى ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة...﴾. أي التوراة التي تويّد صدقه وعظمته، مثل هذا الشخص هل يستوي ومن لا يتمتع بهذه الخصال والدلائل البينة.


1- هود: 17.

ص: 136

هذا الشخص هو النّبي ، «البيّنة» ودليله الواضح هو القرآن المجيد، والشاهد المصدق بنبوّتهِ كلّ مؤمن حق أمثال علي ، ومن قَبلُ وردتْ صفاته وعلائمه في التوراة، فعلى هذا ثبتت دعوته عن طرق ثلاثة حقّة واضحة.

الأوّل: القرآن الكريم الذي هو بيّنة ودليل واضح في يده.

الثّاني: الكتب السماوية التي سبقت نبوّته وأشارت إلى صفاته بدقّة، وأتباع هذه الكتب السماوية في عصر النّبي كانوا يعرفونه حقاً، ولهذا السبب كانوا ينتظرونه.

الثّالث: أتباعه وأنصاره المؤمنون المضحّون الذين كانوا يبيّنون دعوته ويتحدثون عنه، لأن واحداً من علائم حقانيّة مذهب ما هو إخلاص اتباعه وتضحيتهم ودرايتهم وإيمانهم وعقلهم، إذ أن كلّ مذهب يُعرف بأتباعه وأنصاره.

ومع وجود هذه الدلائل الحيّة، هل يمكن أن يقاس مع غيره من المدعين، أم هل ينبغي التردّد في صدق دعوته؟!.

ثمّ يشير بعد هذا الكلام إلى طلاب الحقّ والباحثين عن الحقيقة، يدعوهم إلى الإيمان دعوة ضمنية فيقول: ﴿أُولئك يؤمنون به﴾ أي النّبي الذي لديه هذه الدلائل الواضحة.

ثمّ يعقب بعد ذلك ببيان عاقبة المنكرين ومصيرهم بقوله تعالى: ﴿ومن يكفر به من الأحزاب فالنّار موعده﴾.

وفي ختام الآية _ كما هي الحال في كثير من آيات القرآن _ يوجه الخطاب إلى النّبي  ويبيّن درساً عاماً لجميع الناس، ويقول: بعدَ هذا كلّه من وجود الشاهد والبيّنة والمصدق بدعوتك، فلا تتردد في الطريق ذاته ﴿فلا تك في مرية منه﴾ لأنّه من قبل الله سبحانه ﴿إنّه الحقّ من ربّك﴾ ولكن كثيراً من الناس ونتيجةً لجهلهم وأنانيتهم لا يؤمنون ﴿ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾.

2 _ التّفسير الثّاني لهذه الآية هو أنّ هدفها الأصل بيان حال المؤمنين الصادقين

ص: 137

الذين يؤمنون بالنّبي  مع وجود الدلائل الواضحة والشواهد على صدق دعوة النّبي  وما جاء في الكتب السماوية السابقة في شأنه، فأُولئك هم المؤمنون، واستناداً إلى هذه الدلائل جميعاً يؤمنون به ، فعلى هذا يكون المقصود من قوله: ﴿أفمن كان على بيّنة من ربّه﴾ جميع الذين لديهم دلائل مقنعة، حيث سارعوا إلى الإيمان بالقرآن ومن جاء به، وليس المقصود بكلمة «مَن» في الآية هو النّبي.

وعلى كل حال، فالآية تشير إلى امتيازات الإسلام والمسلمين الصادقين واستنادهم إلى الدلائل المحكمة في اختيار مذهبهم هذا.. وفي قبال ذلك تذكر ما يصير إليه المنكرون والمستكبرون من مآل مشؤوم أيضاً.

ما المقصود «بالشاهد» في الآية؟!

قال بعض المفسّرين: إن المقصود بالشاهد هو جبرئيل أمين وحي الله، ومنهم من فسّره بالنّبي ، ومنهم من قال: إنّ معناه لسان النّبي  في حالة فهم معنى «يتلو» من التلاوة أي القراءة، لا بمعنى التلّو الذي معناه مجيء شخص بعد آخر.

ولكن كثيراً من كبار المفسّرين فسروا «شاهد» بالإمام علي ، ففي روايات كثيرة وصلتنا عن الأئمّة المعصومين، وفي بعض كتب تفسير أهل السنة _ أيضاً _ هناك تأكيد على أنّ المقصود من «الشاهد» في الآية هو الإمام علي  أوّل من آمن بالنّبي والقرآن الكريم، وكان معه في جميع المراحل ولم يقصر لحظةً في التضحية دونه وحمايته إلى آخر نفس(1).

وفي حديث منقول عن الإمام علي  أنّه قال: «ما من رجل من قريش إلاّ وقد أنزل فيه آية أو آيتان من كتاب الله، فقال له رجل من القوم: وماذا أنزل فيك يا أمير


1- راجع تفسير البرهان، ونور الثقلين، والقرطبي، ومجمع البيان، وسائر التفاسير.

ص: 138

المؤمنين؟ فقال: أما تقراً الآية التي في هود ﴿أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه﴾ محمّد  على بيّنة من ربّه وكنت أنا الشاهد»(1).

أما المقصود من قوله: ﴿فلا تك في مرية منه﴾؟

هناك احتمالان في من هو المخاطب بهذه الآية:

الاحتمال الأوّل: النّبي  نفسه، أي: يا رسول الله لا تتردد في حقانيّة القرآن وشريعة الإسلام أقلّ تردد!

الاحتمال الثّاني: إنّه المخاطب بهذه الآية كل مكلّف عاقل، أي «فلا تك أيّها المكلف العاقل في مرية وتردد». وهذا وارد إذا لم يكن المقصود بالآية ﴿أفمن كان على بيّنة من ربّه﴾ هو النّبي ، بل جميع المؤمنين الصادقين.

والتّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية.

﴿وَكُلاًَّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(2).

هنا كلمة «كُلاًَّ» إشارة الى تنوع القصص، وكل نوع منها يشير إلى اتّخاذ جبهة «قبال الأنبياء» ونوع من الانحرافات ونوع من العقاب، وهذا التنوّع يلقي أشعة نيرة على أبعاد حياة الناس.

«تثبيت قلب النّبي»  وتقوية إرادته _ التي يشار إليها في هذه الآية _ أمر طبيعي، لأنّ معارضة الأعداء اللجوجين الشديدة والقاسية _ رضينا أم أبينا _ تؤثر على قلب النّبي  لأنّه إنسان وبشر أيضاً. ولكن من أجل ان لا ينفذ اليأس الى قلب النّبي المطهّر وتضعف إرادته الفولاذية من هذه المعارضة والمخالفات والمثبطات، فإنّ


1- تفسير البرهان، ج ٢، ص ٢١٣ ، ونور الثقلين، ج ٢، ص ٣٤٦ .
2- هود: 120.

ص: 139

الله يقص عليه قصص الأنبياء وما واجهوه، ومقاومتهم قبال أممهم المعاندين، وانتصارهم الواحد تلو الآخر ليقوي قلب النّبي والمؤمنين الذين يلتّفون حوله يوماً بعد يوم.

ثمّ تشير الآية إلى النتيجة الكبرى الثّانية فتقول الآيات: ﴿وجآءك في هذه الحق﴾.

أمّا ثالث الآثار ورابعها اللذان يستلفتان النظر هما ﴿موعظة وذكرى للمؤمنين﴾.

الطريف هنا أنّ صاحب المنار يقول في تفسير الآية معقباً: إنّ الإيجاز والإختصار في هذه الآية المعجزة في غاية ما يُتصور، حتى كأنّ جميع المعاجز السالفة قد جُمعت في الآية نفسها وبيّنت فوائدها جميعاً بعدّة جمل قصيرة.

وعلى أية حال، فإنّ هذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى أنّه لا ينبغي أن نعدّ قصص القرآن ملهاة أو يستفاد منها لإشغال السامعين، بل هي مجموعة من أحسن الدروس الحياتية في جميع المجالات، وطريق رحب لجميع الناس في الحاضر والمستقبل.

ما الكتاب المبين

﴿تِلْكَ ءَايَتُ الكِتَبِ الْمُبِينَ * نَتْلُوا عَلَيكَ مِن نَّبَإ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْم يُؤمِنُونَ﴾(1).

الحديث في هاتين الآيتين عن عظمة القرآن، إذ يقول: ﴿تلك آيات الكتاب المبين﴾، وبالرغم من أن ﴿الكتاب المبين﴾ جاء بمعنى اللوح المحفوظ كما قد ورد في الآية (61) من سورة يونس ﴿ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين﴾ والآية السادسة من سورة هود ﴿كلّ في كتاب مبين﴾ ولكنّه جاء بمعنى القرآن في الآية محل البحث بقرينة ذكر «الآيات» وكذلك جملة ﴿نتلوا عليك﴾ الواردة في الآية التي


1- القصص: 2-3.

ص: 140

بعدها... وقد وصف القرآن هنا بكونه «مبين» وكما يستفاد من اللغة فإنّ كلمة «مبين» تستعمل في المعنيين «اللازم والمتعدي»، فهو واضح في نفسه وموضّح لغيره، والقرآن المجيد بمحتواه المشرق يميّز الحق عن الباطل، ويبيّن الطريق الواضح من الطريق المعوّج(1).

والقرآن بعد ذكر هذه المقدّمة القصيرة يحكى قصّة «فرعون» و «موسى» فيقول: ﴿نتلوا عليك من نبأ موسى و فرعون بالحقّ لقوم يؤمنون﴾.

والتعبير ب_ «من» التي هي للتبعيض إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة، وهي أن ما ورد _ هنا في القرآن _ من هذه القصّة ذات الأحداث الكبيرة يتناسب وما تقتضيه الضرورة فحسب.

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة وأُسطورة، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب.. فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية.

والتعبير ب_﴿لقوم يؤمنون﴾ هو تأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عَدَداً وَعُدَداً، وأن المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافاً بحسب الظاهر، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق، فكل شيء عند الله سهل يسير!..

أُولوا الألباب وحقانية القرآن

﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ﴾(2).


1- والتعبير ب «تلك» المستعملة للإشارة للبعيد لبيان عظمة هذه الآيات أيضاً ...
2- الرعد: 19-20.

ص: 141

بعد ذكر استفهام إنكاري: ﴿أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى﴾.

وهذا وصف رائع، فهو لم يقل: أفمن يعلم أنّ هذا القرآن على الحقّ كمن لا يعلم؟ بل قال: كمن هو أعمى؟ وهذه إشارة لطيفة إلى أنّه من المحال أن لا يعلم أحد بهذه الحقيقة إلاّ أن يكون أعمى القلب، فكيف يمكن لإنسان يمتلك عيناً سليمة ولا يرى نور الشمس، وهذا القرآن كالشمس. ولذلك يجيء في نهاية الآية قوله تعالى: ﴿إنّما يتذكّر اُولو الألباب﴾.

«الألباب» جمع لُب بمعنى جوهر الشيء، ويقابل اُولي الألباب اُولو الجهل والعمى.

إنّ هذه الآية _ وكما يذهب إليه بعض المفسّرين _ تحثّ الناس على طلب العلم ومحاربة الجهل، لأنّها تعدّ الفرد الفاقد للعلم كمن هو أعمى. ثمّ بيّن سيرة اُولي الألباب من خلال ذكر صفاتهم الحميدة، وأوّل ما أشار القرآن إليه وفاؤهم بالعهد وعدم نقضهم له ﴿والذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾.

إنّ «عهد الله» له معنى واسع، ويشمل العهود الفطرية التي عاهدوا بها ربّهم كالفطرة على التوحيد وحبّ الحقّ والعدالة، والمواثيق العقليّة التي يدركها الإنسان من خلال التفكير والتعقّل لعالم الوجود، والمبدأ والمعاد، وتشمل كذلك العهود الشرعيّة، وهي ما عاهدوا الرّسول  عليه من الطاعة للأوامر الإلهيّة وترك المعاصي والذنوب.

حقانية الرسول  وبطلان أعذار المنكرين

﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم

ص: 142

مُّعْرِضُونَ﴾(1).

هنا تعرض هذه الآيات اعذار الكفار واستكبارهم ازاء رسول الله . ففي هذه المرحلة يرمون الرسول  بالجنون، فبعد اعترافهم بأنّك لست مجهولاً بالنسبة لهم، إلاّ أنّهم يشكّكون في سلامة عقلك وينسبونك إلى الجنون، لأنّ ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم، فلذلك اتّخذوا هذا دليلا على جنونك.

يقول القرآن المجيد في نفي هذه الحجّة: ﴿بل جاءهم بالحقّ﴾ وكلامه شاهدٌ على هذه الحقيقة، ويضيف ﴿وأكثرهم للحقّ كارهون﴾.

أجل، إنّ كلمات الرّسول راشدة حكيمة، إلاّ أنّهم ينكرونها لعدم انسجامها مع أهوائهم النفسيّة. فألصقوا به تهمة الجنون! في الوقت الذي لا ضرورة في توافق الحقّ مع رغبات الناس ﴿ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ﴾.

لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس، مضافاً إلى أنّها تميل إلى الشرّ والفساد غالباً، ولو اتّبعتها قوانين الوجود لعمّت الفوضى في الكون ولفسد العالم.

وتأكيداً لذلك تقول الآية: ﴿بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون﴾(2) أي منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجّه إلى الله، وسبب لرفعتهم وشرفهم، إلاّ أنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يُضيء لهم درب السعادة والشرف.

﴿بَلْ أَتَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَإنَّهُمْ لَكَذِبُونَ﴾(3).

في هذه الآية الكريمة يوجّه اللوم لمنكري حقيقة وحقانية الرسول  ويقول


1- المؤمنون: 70-71.
2- يمكن أن تفسّر عبارة «ذكرهم» بمعنى تذكّرهم وتوقظهم، ويمكن أن تفسّر بمعنى شرفهم وحيثيّتهم في المجتمع البشري.
3- المؤمنون: 90.

ص: 143

لهم لماذا تفرّون من الخضوع للحقيقة؟ ولماذا تتّهمون النّبي الأكرم بالسحر وقلوبكم تعترف بهذه الحقائق؟!

وأخيراً يقول القرآن في عبارة مختصرة ذات دلالة كبيرة بأنّه ليس سحراً ولا شعوذة ولا شيء آخر: ﴿بل أتيناهم بالحقّ وإنّهم لكاذبون﴾.

لقد بيّن الله الحقائق للناس بإرساله الأنبياء والرسل إليهم ولكنّهم عصوا أمره، ولم يستجيبوا له فيما يحييهم من عبادته وإقامة أحكامه الهادية لكلّ خير، المنقذة من كلّ شرّ.

والجدير بالاهتمام هو أنّه سبحانه وتعالى في الآيات التي سبقت هذه الآية ذكر أسئلة وجهها للكفار والمعاندين ويجيب عليها في آخر كل آية نذكر صورة الحاجة منها فبعد السؤال الأوّل وإجابته جاءت عبارة: ﴿أفلا تذكرون﴾.

وبعد السؤال الثّاني وإجابته جاءت عبارة ﴿أفلا تتّقون﴾.

وبعد السؤال الثّالث وإجابته جاءت عبارة ﴿فأنّى تسحرون﴾.

وهذه عبارات تنبيه شديدة للكفّار واستنكار لما هم عليه من باطل بشكل متدرّج ومرحلة بعد أُخرى، وهو اُسلوب متعارف ينسجم مع الأساليب المعروفة في التعليم والتربية المنطقيّة. فإذا احتاج المربّي إلى إدانة شخص، يبدأ أوّلا بتنبيهه بلطف، ثمّ بحزم، وبعد ذلك يعنّفه!

عظمة القرآن وتهمة المشركين والمنافقين

﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا آتَهُم مِّن نَّذِير مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾(1).


1- السجدة: 3.

ص: 144

تشير هذه التهمة التي طالما وجهها المشركون والمنافقون إلى هذا الكتاب السماوي العظيم حيث قالوا: إنّ هذا الكتاب من تأليف محمّد. وقد ادّعى كذباً بأنّه من الله: ﴿أم يقولون افتراه﴾ فيقول جواباً على ادّعاء هؤلاء الزائف: ﴿بل هو الحقّ من ربّك﴾ وأدلّة أحقّيته واضحة وبيّنة فيه من خلال آياته.

ثمّ يتطرّق إلى الهدف من نزوله، فيقول: ﴿لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك﴾.

فبالرغم من أنّ دعوة النّبي الأكرم  مبشّرة ومنذرة، وأنّه بشير قبل أن يكون نذيراً، إلاّ أنّه يجب التأكيد على الإنذار أكثر مع القوم الضالّين المعاندين.

وجملة ﴿لعلّهم يهتدون﴾ إشارة إلى أنّ القرآن يهيّء أرضية الهداية، إلاّ أنّ التصميم وإتّخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.

وهنا يطرح سؤالان:

1 _ من هم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم أي نذير قبل النّبي ؟

2 _ ألم يقل القرآن الكريم: ﴿وإنْ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير﴾.

قال جمع من المفسّرين في جواب السؤال الأوّل: المراد قبيلة قريش التي لم يكن لها نذير قبل نبيّ الإسلام.

وقال البعض الآخر: المراد مرحلة الفترة والفاصلة الزمنية بين نبوّة عيسى وظهور نبي الإسلام .

إلاّ أنّ أيّاً من هذين الجوابين لا يبدو صحيحاً، لأنّ الأرض لا تبقى خالية من حجّة الله مطلقاً، وفي كلّ عصر وزمان لابدّ من وجود نبي أو وصي نبيّ لإتمام الحجّة.

بناءً على هذا، يبدو أنّ المراد من «النذير» هنا النّبي الكبير الذي يوضّح ويبيّن دعوته مقرونة بالمعجزات وفي محيط واسع.

وفي الإجابة عن السؤال الثّاني ينبغي أن يقال: إنّ معنى جملة: ﴿وإنْ من اُمّة إلاّ

ص: 145

خلا فيها نذير﴾ هو أنّ كلّ اُمّة كان لها نذير، إلاّ أنّه لا يلزم حضوره بنفسه في كلّ مكان، بل يكفي أن يصل صوت دعوة أنبياء الله العظام بواسطة أوصيائهم إلى أسماع كلّ البشر في العالم.

وهذا يشبه قولنا: إنّ كلّ اُمّة كان لها نبي من اُولي العزم، ولها كتاب سماوي، وقد وصل كتابه السماوي وصوته عن طريق وكلائه وأوصيائه لكلّ تلك الاُمّة على طول التاريخ.

وعد الله حق

﴿فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالإبْكَارِ﴾(1).

هذه الآية تنطوي على وصايا وتعليمات مهمّة للرسول  وهي في واقعها تعليمات عامة للجميع، بالرغم من أنّ المخاطب بها هو شخص الرّسول الكريم .

يقول تعالى: ﴿فاصبر إن وعد الله حق﴾.

عليك أن تصبر على عناد القوم ولجاجة الأعداء.

عليك أن تصبر حيال جهل بعض الأصدقاء والمعارف، وتتحمل أحياناً أذاهم وتخاذلهم.

وعليك أيضاً أن تصبر إزاء العواطف النفسية.

إنّ سرّ انتصارك في جميع الأُمور يقوم على أساس الصبر والاستقامة.

ثم اعلم أنّ وعد الله بنصرك وأمتك لا يمكن التخلف عنه، وإيمانك _ وإيمانهم _ بحقانية الوعد الإلهي يجعلك مطمئناً ومستقيماً في عملك، فتهون الصعاب عليك وعلى المؤمنين.


1- غافر:55.

ص: 146

لقد أمر الله تعالى رسوله مرّات عديدة بالصبر، والأمر بالصبر جاء مطلقاً في بعض الموارد، كما في الآية التي بصددها، وجاء مقيداً في موارد اُخرى ويختص بأمر معين، كما في الآيتين (39_40) من سورة «ق»: ﴿فاصبر على ما يقولون﴾. وكذلك يخاطبه تعالى في الآية (28) من سورة الكهف بقوله تعالى: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً﴾.

إنّ جميع انتصارات الرّسول  والمسلمين الأوائل إنّما تمّت بفضل الصبر والاستقامة واليوم لابدّ أن نسير على خطى رسول الله ونصبر كما صبر الرّسول وأصحابه إذ لولاه لما حالفنا النصر مقابل أعدائنا الألداء.

الأمرين المهمين والبشارة الكبرى للنبي 

﴿فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ﴾(1).

هذه الآية تأمر النّبي  أمرين مهمين، وتبشره بشارةً كبرى، لتحثه على مواصلة الوقوف والتصدي للمشركين والجاهلين والسفهاء بالاستقامة والصبر.

تقول أوّلاً: اذا كان الأمر كذلك، فعليك بالصبر والاستقامة امام الحوادث المختلفة، وفي مقابل انواع الأذى والبهتان والمصاعب ﴿فاصبر﴾.

لأنّ الصبر والاستقامة هما مفتاح النصر الأصيل.

وليكون النّبي  أكثر اطمئناناً، فإنّ الآية تضيف ﴿إن وعد الله حق﴾ فقد وعدك والمؤمنين بالنصر، والاستخلاف في الأرض، وغلبة الإسلام على الكفر، والنور على الظلمة، والعلم على الجهل. وسوف يُلبس هذا الوعد ثوب العمل!.

وكلمة «الوعد» هنا إشارة إلى الوعود المكررة التي وعدها القرآن في انتصار


1- الروم: 6.

ص: 147

المؤمنين، ومن ضمنها الآية (47) من هذه السورة ﴿وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين﴾.

والآية (51) من سورة غافر ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الإشهاد!﴾.

وتقول الآية (56) من سورة المائدة أيضاً ﴿فإنّ حزب الله هم الغالبون﴾.

وتأمر ثانياً بضبط الأعصاب والهدوء وعدم الانحراف في المواجهة الشديدة والمتتابعة، حيث تقول الآية: ﴿ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون﴾.

إنّ مسؤوليتك أن تتحمل كل شيء، وأن يتسع صدرك وخلقك لجميع الناس فهذا هو الجدير بقائد وزعيم لأمثال هؤلاء.

يرى العلماء دعوة الرسول  حقّاً

﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إلَى صِرَطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾(1).

هذه الآية تتحدّث عن العلماء والمفكّرين الذين صدّقوا بآيات الله وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها.

فسّر بعض المفسّرين عبارة ﴿الذين اُوتوا العلم﴾، بتلك المجموعة من علماء أهل الكتاب الذين يتّخذون موقف الخضوع والإقرار للحقّ عند مشاهدة آثار حقّانية القرآن الكريم.

وليس هناك مانع من اعتبار علماء أهل الكتاب أحد مصاديق الآية، ولكن تحديدها بهم يفتقد إلى الدليل، بل مع الالتفات إلى الفعل المضارع (يرى) وسعة مفهوم «الذين اُوتوا العلم» يتّضح شمول الآية لكلّ العلماء والمفكّرين في كلّ عصر وزمان ومكان.


1- سبأ: 6.

ص: 148

وإذا فُسّرت بكونها إشارة إلى «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام»، كما في تفسير علي بن إبراهيم، فإنّ ذلك توضيح وإشارة إلى أتمّ وأكمل مصاديق الآية.

نعم، فأي عالم موضوعي وغير متعصّب إذا تأمّل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي، وتدبّر في معارفه العميقة، وأحكامه المتينة، ونصائحه الحكيمة، ومواعظه المؤثّرة في الوجدان إلى قصصه التأريخية المشعّة بالعِبرة، وبحوثه العلمية الإعجازية، فسيعلم بأنّها جميعاً دليل على حقّانية هذه الآيات.

﴿وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَتُنَا بَيِّنَت قَالُوا مَا هَذَا إلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إلاَّ إفْكٌ مُّفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾(1).

تعود هذه الآيات لتُكمل البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المشركين الكفّار وأقوالهم يوم القيامة، فتتحدّث حول وضع هؤلاء في الدنيا ومواقفهم عند سماعهم القرآن حتّى يتّضح أنّ مصيرهم الاُخروي المشؤوم إنّما هو نتاج تلك المواقف الخاطئة التي اتّخذوها إزاء آيات الله في الدنيا.

تقول الآية الكريمة الاُولى: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قالوا ما هذا إلاّ رجل يريد أن يصدّكم عمّا كان يعبد آباؤكم﴾.

فهذا أوّل ردّ فعل لهم إزاء «الآيات البيّنات» وهو السعي إلى تحريك حسّ العصبية في هؤلاء القوم المتعصّبين.

خاصّة مع ملاحظة استخدامهم تعبير «آباؤكم» بدل «آباؤنا»، يفهم منه أنّهم يريدون القول لقومهم بأنّ تراث الأجداد في خطر، وإنّ عليكم النهوض والتصدّي


1- سبأ: 43.

ص: 149

لهذا الرجل عن العبث بذلك الميراث.

ثمّ تعبير ﴿ما هذا إلاّ رجل﴾ إنّما يقصد به تحقير النّبي  من جهتين الاُولى كلمة «هذا» والثّانية «رجل» بهيأة النكرة، مع العلم بأنّهم يعرفون النّبي  جيّداً، ويعلمون بأنّ له ماضياً مشرقاً.

من الجدير بالملاحظة أيضاً أنّ القرآن وصف «الآيات» ب_ «البيّنات»، أي أنّها تحمل دلائل حقّانيتها معها، وما هو قابل للمعاينة لا يحتاج إلى توضيح أو بيان.

ثمّ توضّح الآية مقولتهم الثّانية التي قصدوا بها إبطال دعوة النّبي  فتقول: ﴿وقالوا ما هذا إلاّ إفك مفترى﴾.

«إفك» كما ذكرنا سابقاً بمعنى كلّ مصروف عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهابّ «مؤتفكة»، وأي صرف عن الحقّ في الاعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح. ولكن كما قال البعض، فإنّ «الإفك» يطلق على الأكاذيب الكبيرة.

وكان يكفي استخدامهم لكلمة «الإفك» في إتّهام الرّسول  بالكذب، لكنّهم أرادوا تأكيد ذلك المعنى باستخدامهم لكلمة «مفترى»، دون أن يكون لهم أدنى دليل على ذلك الإدّعاء.

وأخيراً، كان الاتّهام الثالث الذي ألصقوه بالرّسول  هو (السحر) كما نرى ذلك في آخر هذه الآية ﴿وقال الذين كفروا للحقّ لمّا جاءهم إنّ هذا إلاّ سحر مبين﴾.

محرِّفون آيات الحق

﴿لا يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد﴾(1).


1- فصلت: 42.

ص: 150

إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلب عليه، منطقه عظيم واستدلاله قوي، وتعبيره بليغ منسجم وعميق، تعليماته جذرية، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الاحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.

ثم تذكر الآية صفة اُخرى مهمّة حول عظمة القرآن وحيويته، فيقول تعالى: ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ لأنّه: ﴿تنزيل من حكيم حميد﴾.

أفعال الله عزوجل لا تكون إلاّ وفق الحكمة وفي غاية الكمال. لذا فهو أهل للحمد، لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول قوله تعالى: ﴿لا يأتيه الباطل...﴾ إلاّ أن أشملها هو أنّ أي باطل لا يأتيه، من أي طريق كان، ومهما كان الأُسلوب، وهذا يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه، ولا ينقض بشيء من العلوم، أو بحقائق الكتب السابقة، ولا يعارض كذلك بالاكتشافات العلمية المستقبلية.

لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل.

لا يوجد أي تعارض في معارفه وقوانينه ووصاياه وأخباره،، ولا يكون ذلك في المستقبل أيضاً.

لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة، ولن يطاله ذلك مستقبلا.

إنّ هذه الآية تعبير آخر لمضمون الآية (9) من سورة «الحجر» حيث قوله تعالى: ﴿إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون﴾.

آيات الله وحقانية القرآن والوحي

﴿تِلْكَ آيَتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيث بَعْدَ اللهِ وَآيَتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾(1).


1- الجاثية: 6.

ص: 151

تشير هذه الاية إجمالاً للبحوث الماضية، وتبياناً لعظمة آيات القرآن وأهميتها: ﴿تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق﴾.

هل أنّ كلمة «تلك» إشارة إلى آيات القرآن، أم إلى آيات الله والعلامات الدالة عليه في الآفاق والأنفس، والتي مرّت الإشارة إليها في الآيات السابقة؟

كلٌّ محتمل، إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ المراد الآيات القرآنية بقرينة التعبير بالتلاوة، غاية مافي الأمر أنّ هذه الآيات القرآنية آيات الله سبحانه في كلّ عالم الوجود، وعلى هذا فيمكن الجمع بين التّفسيرين.

وعلى أية حال، فإنّ (التلاوة) من مادة (تلو) أي الإتيان بالكلام بعد الكلام متعاقباً، وبناء على هذا فإنّ تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية متعاقبة.

والتعبير بالحق إشارة إلى محتوى هذه الآيات، وهو أيضاً إشارة إلى كون نبوّة النّبي  والوحي الإلهي حقّاً. وبعبارة أُخرى، فإنّ هذه الآيات بليغة معبرة تضمنت في طياتها الاستدلال على حقانيتها وحقانية من جاء بها.

وحقّاً إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شيء سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب الآية: ﴿فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون﴾.

وعلى قول «الطبرسي» في مجمع البيان، فإنّ الحديث إشارة إلى قصص الأقوام الماضين، وأحداثهم التي تبعث على الاعتبار بهم، في حين أنّ الآيات تقال للدلائل التي تميز الحق من الباطل والصحيح من السقيم، وآيات القرآن المجيد تتحدث عن الإثنين معاً.

حقّاً إنّ للقرآن الكريم محتوى عميقاً من ناحية الاستدلال والبراهين على التوحيد، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى الله سبحانه حتى القلوب التي لها أدنى استعداد _ أو أرضية صالحة _، وتدعو كلّ مرتبط بالحق الى الطهارة والتقوى، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته بعد ذلك.

ص: 152

المباهلة دليل قاطع على أحقيّة نبي الإسلام

﴿فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَ نِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(1).

إن قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أُسلوباً يبيّن صدق النبيّ وإيمانه بشكل قاطع. إذ كيف يمكن لمن لا يؤمن كلّ الإيمان بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه ان يتقدّموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب، وأن يروا سرعة ما يحلّ بالكاذب من عقاب؟! لاشكّ أنّ دخول هذا الميدان خطر جدّاً، لأن المبتهل إذا لم يجد استجابة لدعائه ولم يظهر أيّ أثر لعقاب الله على معارضيه، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة المبتهل. فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدرك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يكون مطمئناً إلى أنّ النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إنّ دعوة رسول الله  إلى المباهلة تعتبر واحداً من الأدلّة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها، بصرف النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.

تقول الروايات الإسلامية: عند عرض هذا الاقتراح للمباهلة، طلب ممثّلو مسيحيّي نجران من رسول الله أن يمهلهم بعض الوقت ليتبادلوا الرأي مع شيوخهم. فكان لهم ما أرادوا. وكانت نتيجة مشاورتهم _ التي تعتمد على ناحية نفسية _ هي أنّهم أمروا رجالهم بالدخول في المباهلة دون خوف إذا رأوا محمّداً قد حضر في كثير من الناس ووسط جلبة وضوضاء، إذ أنّ هذا يعني أنّه بهذا يريد بثّ الرعب والخوف في النفوس وليس في أمره حقيقة. أمّا إذا رأوه قادماً في بضعة أنفار من أهله وصغار أطفاله إلى الموعد، فليعلموا أنّه نبيّ الله حقّاً، وليتجنّبوا مباهلته.


1- آل عمران: ٦١.

ص: 153

ولما حضر المسيحيّون إلى المكان المعيّن، ثمّ رأوا أنّ رسول الله  أقبل يحمل الحسين على يد ويمسك الحسن باليد الأُخرى ومن خلفه علي وفاطمة، وهو يطلب منهم أن يؤمّنوا على دعائه عند المباهلة. وإذ رأى المسيحيّون هذا المشهد استولى عليهم الفزع، ورفضوا الدخول في المباهلة، وقبلوا التعامل معه بشروط أهل الذمّة.

﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إنْ أَجْرِىَ إلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ * قُلْ إنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّمُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾(1).

إنّ الله تعالى أمر رسوله الكريم  في هذه السلسلة من الآيات الكريمة أن يخاطب هؤلاء الضالّين ويقطع عليهم طريق الإعتذار من كلّ جانب.

حيث في مطلع هذه الآيات، يتحدّث القرآن في عدم مطالبة الرّسول  بأي أجر مقابل تبليغ الرسالة. تقول الآية الاُولى: ﴿قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن أجري إلاّ على الله﴾.

وذلك إشارة إلى أنّ العاقل حينما يتصرّف أي تصرّف يجب أن يكون لتصرفه باعث، فحينما يثبت لكم بأنّ لدي عقل كامل، وترون بأن ليس لي هدف مادّي، فيجب أن تعلموا بأنّ هناك دافعاً ومحرّكاً إلهياً ومعنوياً هو الذي دفعني إلى ذلك التصرّف أو العمل.

كذلك فقد ورد هذا المعنى بصراحة أيضاً في الآية (46) من سورة القلم ﴿أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون﴾.

أمّا ما هو تفسير جملة (فهو لكم)؟ فهناك تفسيران:

الأوّل: أنّ الجملة كناية عن عدم المطالبة بأي أجر كما لو قلت «كلّ ما أردته منك


1- سبأ: 47-49.

ص: 154

فهو لك» كناية عن أنّك لا تريد شيئاً مطلقاً. والدليل على ذلك هو الجملة التالية والتي تقول: ﴿إن أجري إلاّ على الله﴾.

الثاني: إنّكم إن لاحظتم أنّي في بعض ما أخبرتكم به عن الله سبحانه وتعالى، قلت لكم: ﴿لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى﴾(1)، فهذا أيضاً يعود نفعه إليكم، لأنّ مودّة ذي القربى ترتبط بمفهوم (الإمامة والولاية) و «استمرار خطّ النبوّة، الذي هو ضروري لإدامة هدايتكم.

الدليل على هذا القول هو ما ورد في أسباب النّزول الذي نقله بعضهم هنا، ففي تفسير روح البيان، ورد أنّه عند نزول الآية ﴿قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى﴾ قال رسول الله  لمشركي مكّة: «لا تؤذوا ذوي قرباي» وهم قبلوا بهذا الطلب، ولكن عندما نال الرّسول الأكرم  من أصنامهم، قالوا: إنّ محمّداً لم ينصفنا، فهو من جانب يدعونا لعدم التعرّض لذوي قرباه بالأذى، ولكنّه من جانب آخر يمسّ أربابنا بالأذى، وهنا نزلت الآية موضوع بحثنا ﴿قل ما سألتكم من أجر فهو لكم﴾. فما أردته منكم بهذا الخصوص هو بنفعكم، سواء آذيتموهم أو لم تؤذوهم.

ثمّ تختم الآية بالقول: ﴿وهو على كلّ شيء شهيد﴾. فإن كنت اُريد أجري من الله وحده فلأنّه وحده عالم بكلّ أعمالي ومطّلع على نواياي. علاوةً على أنّه هو سبحانه وتعالى شاهد صدقي وحقّانية دعوتي، لأنّه هو سبحانه سخّر لي كلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات، والحقّ أنّه سبحانه وتعالى نعم الشاهد، فهو الذي قد أحاط بكلّ شيء علماً وهو أفضل من يستطيع الأداء، ولا يصدر عنه إلاّ الحقّ وهو خير الشاهدين. وهو الله سبحانه وتعالى.


1- الشورى: 23.

ص: 155

وبالالتفات إلى ما قيل حول حقّانية دعوة الرّسول الأكرم ، تضيف الآية التي بعدها قائلة أنّ القرآن واقع غير قابل للإنكار لأنّه ملقى من الله سبحانه وتعالى على قلب الرّسول : ﴿قل إنّ ربّي يقذف بالحقّ علاّم الغيوب﴾.

كلمة «يقذف» من مادّة (قذف) وهو الرمي البعيد، وثمّة تفسيرات متعدّدة لهذه الآية، يمكن جمعها مع بعضها البعض.

أوّلا: المقصود ب_ «يقذف بالحقّ» هو الكتب السماوية والوحي الإلهي على قلوب الأنبياء والمرسلين، ولأنّه سبحانه وتعالى هو علاّم الغيوب، فهو يعلم بالقلوب المهيّأة، فينتخبها ويقذف الوحي فيها حتّى ينفذ إلى أعماقها.

وعلى ذلك فالمعنى شبيه بما ورد في الحديث المعروف «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء». والتعبير ب_ «علاّم الغيوب» يؤيّد هذا المعنى.

حقانية القرآن وعناد اليهود

﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَر مِّن شَىْء قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَبَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾(1).

روي عن ابن عباس أنّ جمعاً من اليهود قالوا لرسول الله : يا محمّد أحقاً أنزل الله عليك كتاباً؟ فقال: نعم، فقالوا: قسماً بالله إنّه لم ينزل عليك كتاباً من السماء(2).

لإتضاح الحقيقة يجب أن نتعرف أوّلاً على تفسير الآية الإجمالي، ثمّ نبحث عمن تتحدث عنه الآية، وعمّا تستهدفه.


1- الأنعام: 91.
2- تفاسير مجمع البيان وأبي الفتوح الرازي والمنار في تفسير الآية.

ص: 156

في البداية تقول الآية: إنّهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد: ﴿وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء﴾.

فيأمر الله رسوله أن ﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس﴾.

ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم: ﴿تجعلونه في قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً﴾.

إنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي أُموراً كثيرة لم تكونوا أنتم ولا أباؤكم تعلمون عنها شيئاً: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾.

وفي ختام الآية يؤمر النّبي  أن يذكر الله وأن يترك أُولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم: ﴿قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون﴾.

تقابل الحق في شعيب والباطل في قومه

﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّْنا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْء عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَتِحِينَ﴾(1).

إن هذه الجملة هي توضيح للآية السابقة المجملة، ومفهوم هذه الجملة هو: نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء، وسمعنا الأمر الإلهي في التوحيد بأُذن القلب، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك _ والحال هذه _ نكون حينئذ قد افترينا على الله عن وعي وشعور، ومن المسلم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.


1- الأعراف: 89.

ص: 157

ثمّ يضيف شعيب قائلا: ﴿وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله﴾.

ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله، ولا نعصيه قيد شعرة، فعودتنا غير ممكنة إلاّ إذا أمر الله بذلك.

ثمّ يضيف من دون إبطاء: إنّ الله يأمر بمثل هذا، لأنّ الله يعلم بكل شيء ويحط علماً بجميع الأُمور ﴿وسع ربّنا كل شيء علماً﴾ وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلاّ من كان علمه محدوداً، واشتبه ثمّ ندم على أمره، أمّا الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأُمور علماً فيستحيل أن يعيد النظر.

ثمّ لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم، وأنّه ثابت في موقفه، قال: ﴿على الله توكلنا﴾.

وأخيراً لأجل أن يثبت حسن نيّته، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول: ﴿ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين﴾.

أي: يا ربّ أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء، وافتح علينا أبواب رحمتك، فأنت خير الفاتحين.

والفتح كما روي عن ابن عباس بعدما سمع امرأة تقول لزوجها: أفاتحك عند القاضي، ﴿لأن القاضي يفتح العقدة في مشكلة الطرفين﴾(1).

في حين أنّ أحداً من النّبيين لم يكن وثنياً حتى قبل زمان النّبوة، وإنّ عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف، هذا مضافاً إلى أنّ هذا الخطاب لم يكن موجهاً إلى شعيب وحده، بل يشمل المؤمنين من أتباعه _ أيضاً _ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.


1- تفسير منهج الصادقين، تفسير الآية.

ص: 158

على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا، بل كانت هناك تهديدات أُخرى موجودة في محلِّها.

وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية، إذ قال لهم: وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك: ﴿قال أو لو كنّا كارهين﴾(1)؟

وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم: هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا، وتكرهوننا على أن نعتنق ديناً ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافاً إلى أنّه ما جدوى عقيدة مفروضة، ودين جبريّ؟!

وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله: ﴿قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها﴾.

إن هذه الجملة في الحقيقة توضيح للجملة السابقة المجملة، ومفهوم هذه الجملة هو: نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء، وسمعنا الأمر الإلهي في التوحيد بأُذن القلب، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك _ والحال هذه _ نكون حينئذ قد افترينا على الله عن وعي وشعور، ومن المسلم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.

ثمّ يضيف شعيب قائلا: ﴿وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله﴾.

ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله، ولا نعصيه قيد شعرة، فعودتنا غير ممكنة إلاّ إذا أمر الله بذلك.


1- إنّ في هذه الجملة حذفاً وتقديراً، فالكلام في الأصل على هذه الصورة «أتردوننا في ملتكم ولو كنّا كارهين».

ص: 159

المواجهة بين الحق المتمثل بموسى  وبين الباطل المتمثل بفرعون

﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَن لاّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلاّ الْحَقّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيّنَةٍ مّن رّبّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسْرَائِيلَ﴾(1).

إنّ تعبير موسى هذا، كان يمثل جرس إنذار وناقوس خطر بالنسبة لفرعون. هذا مضافاً إلى أن عبارة موسى ﴿إنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ﴾ كانت - في الحقيقة - نوعاً من إعلان الحرب والمواجهة على جميع تشكيلات فرعون، لأنّ هذا التعبير يُثبت أن فرعون ونظراءه من أدعياء الربوبية يكذبون جميعاً في ادعائهم، وأنّ ربَّ العالمين هو الله فقط، لا فرعون ولا غيره من البشر.

وفي الآية اللاحقة نَقرأ أن موسى عقيب دعوى الرسالة من جانب الله قال: فالآن إذ أنَا رسول رب العالمين ينبغي ألا أقول عن الله إلا الحق، لأن المرسل من قبل الله المنزه عن جميع العيوب لا يمكن أن يكون كاذبا ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَن لاّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلاّ الْحَقّ﴾.

ثم لأجل توثيق دعواه للنبوة، أضاف: أنا لا أدعي ما أدّعيه من دون دليل، بل إنّ معي أدلة واضحة من جانب الله ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِبَيّنَةٍ مّن رّبّكُمْ﴾ فإذا كان الأمر هكذا ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسْرَائِيلَ﴾.

وكان هذا في الحقيقة قسماً من رسالة موسى بن عمران الذي حرّر بني إسرائيل من قبضة الاستعمار الفرعوني، ووضع عنهم إصرهم وأغلال العبودية التي كانت تكبل أيديهم وأرجلهم، لأن بني إسرائيل كانوا في ذلك الزمان عبيداً أذلاء بأيدي القبطيين (أهالي مصر) فكانوا يستفيدون منهم في القيام بالأعمال السافلة والصعبة والثقيلة.


1- الأعراف: 104 و 105.

ص: 160

ويستفاد من هذه الآيات - وكذا الآيات القرآنية الأخرى بوضوح وجلاء أنّ موسى كان مكلفاً بدعوة فرعون وغيره من سكان أرض مصر إلى دينه، يعني أن رسالته لم تكن منحصرة في بني إسرائيل.

فقال فرعون بمجرد سماع هذه العبارة - (أي قوله: قد جئتكم ببينة) - هات الآية التي معك من جانب الله إن كنت صادقاً ﴿قَالَ إن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.

وبهذه العبارة اتخذ فرعون - ضمن إظهار التشكيك في صدق موسى - هيئة الطالب للحق المتحري للحقيقة ظاهراً، كما يفعل أيّ متحر للحقيقة باحث عن الحق.

ومن دون تأخير أخرج موسى معجزتيه العظميتين التي كانت إحداهما مظهر «الخوف» والأخرى مظهر «الأمل» وكانتا تكملان مقام إنذاره ومقام تبشيره، وألقى في البداية عصاه: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾.

والتعبير ب_«المبين» إشارة إلى أن تلك العصا التي تبدلت إلى ثعبان حقاً، ولم يكن سحراً وشعبذة وما شاكل ذلك، على العكس من فعل السحرة لأنّه يقول في شأنهم: إنّهم مارسوا الشعبذة والسحر، وعملوا ما تصوره الناس حيّاتٍ تتحرك، وما هي بحيّات حقيقة وواقعاً.

إن ذكر هذه النقطة أمر ضروري، وهي أننا نقرأ في الآية (10) من سورة النمل، والآية (31) من سورة القصص، أن العصا تحركت كالجان، و «الجان» هي الحيات الصغيرة السريعة السير، وإنّ هذا التعبير لا ينسجم مع عبارة «ثعبان» التي تعني الحية العظيمة ظاهراً.

ولكن مع الالتفات إلى أنّ تينك الآيتين ترتبطان ببداية بعثة موسى ، والآية المبحوث عنها ترتبط بحين مواجهة موسى لفرعون، تنحل المشكلة، وكأن الله أراد أن يُوقف موسى على هذه المعجزة العظيمة تدريجاً فهي تظهر في البداية أصغر، وفي الموقف اللاحق تظهر أعظم.

ص: 161

انتصار الحق على الباطل في النهاية

﴿وَجَاء السّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إنّ لَنَا لأَجْرًا إن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرّبِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إمّا أَن تُلْقِيَ وَإمّا أَن نّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(1).

في هذه الآية التي جرى الحديث حول المواجهة بين النبي موسى ، وبين السحرة، وما آل إليه أمرهم في هذه المواجهة، وفي البداية تقول الآية: إن السحرة بادروا إلى فرعون بدعوته، وكان أول ما دار بينهم وبين فرعون هو: هل لنا من أجر إذا غلبنا العدو ﴿وَجَاء السّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إنّ لَنَا لأَجْرًا إن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾؟!

وكلمة «الأجر» وإن كانت تعني أي نوعٍ من أنواع الثواب، ولكن نظراً إلى ورودها هنا في صورة «النكرة في هذه الموارد إنما تكون لتعظيم الموضوع وإبراز أهميته بسبب إخفاء ماهيته ونوعيته» لهذا يكون الأجر هنا بمعنى الأجر المهم والعظيم وبخاصة أنّه لم يكن ثمة نزاع في أصل استحقاقهم للأجر والمثوبة، فوعدهم فرعون - فوراً - وعداً جيدا وقال: إنّكم لن تحصلوا على الأجر السخي فقط، بل ستكونون من المقربين عندي ﴿قَالَ نَعَمْ وَإَنّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرّبِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾(2). في هذه الآية قال موسى  لهؤلاء: إن النصر والغلب لنا في هذه المبارزة حتماً، لأنّ الله سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع، ومعجزات انبيائه القاهرة ويفضح ويخزي المفسدين واهل الباطل وإن كره المجرمون ذلك.


1- الأعراف: 113، 118.
2- يونس: 82.

ص: 162

ثم حُدّدَ موعد معين لمواجهة السحرة لموسى، وكما جاء في سورة (طه) و (الشعراء) ودُعي جميع الناس لمشاهدة هذا النزال، وهذا يدل على أن فرعون كان مؤمنا بانتصاره على موسى .

وكان كل الناس مؤيديهم وكان السحرة في غرور خاص وكبرياء وكان موسى بمنتهى الثقة والاطمئنان فحصل ما حصل وانتصر الحق المتمثل بموسى وانهزم الباطل المتمثل بفرعون واسلم السحرة لرب موسى  اما الدروس المستخلصة من هذه القصة (قصة موسى وفرعون) هي:

أولاً: ان الله سبحانه وتعالى عندما يبعث نبياً أو رسولاً يمدّه بمعجزة مألوفة عند المجتمع الذي بُعث فيه من جنس الأمور التي يستخدمونها فالسحر كان آنذاك رائجاً في المجتمع الفرعوني والحبال والعصي تظهر وكأنها حيّات في أعين الناس كذلك معجزة عصا موسى انقلبت ثعبان وحصل ما حصل.

2- إنّ أنبياء الله ورسله لديهم التوكل على الله باعلى درجاته مقابل التوكل على القوة البشرية الضعيفة قبال قوة الله فموسى  كان متوكلاً على الله في أقصى درجات التوكل بينما السحرة وفرعون متوكلين على قوة السحر والشعبذة التي هي سلاحهم.

3- إن اصحاب الحق والدعاة إليه دائماً بسطاء ومتواضعين كما هو الحال بالنسبة لموسى اما دعاة الباطل واصحابه دائماً مستكبرين ومغرورين كما هو الحال بالنسبة لفرعون وسحرته.

4- دعاة الحق وأصحاب الرسالة لا يتعاملون بالأمور المادية وانما أداء الوظيفة والتكليف الشرعي كما هو الحال بالنسبة لموسى .

اما أصحاب الباطل والدعاة إليه يتعاملون بالأمور المادية والمنافع الشخصية ﴿قَالْواْ إنّ لَنَا لأَجْرًا إن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾.

ص: 163

عودة موسى إلى حضن أمِّه

﴿فَرَدَدْنَهُ إلى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(1).

وتم كل شيء بأمر الله، وهنا ينقدح سؤال مهم وهو: هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أُمّه لترضعه وتأتي به كل حين _ أو كل يوم _ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليلٌ قوي لأيٍّ من الاحتمالين، إلاّ أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضاً، وهو: هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة، أم أنّه حافظ على علاقته بأُمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم: أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته، وتربى موسى عندهما، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسى  بعد بعثته ﴿ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين﴾(2)؟! تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىر بقي مع كمال الاحترام في قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ، إلاّ أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة


1- القصص: 13.
2- الشعراء: 18.

ص: 164

أنّه صمّم على قتله، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط، فواجه النزاع بنفسه.

﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾(1).

تتحدث هذه الآية عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون، وأوّل تلك المراحل هي مرحلة الإنكار والتكذيب والافتراء واتهامهما بسوء النية، وابطال سنن الأجداد، والإخلال بالنظام الإجتماعي، كما يقول القرآن: ﴿فلمّا جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين﴾.

إنّ جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة، ومعجزاته الباهرة من جهة أُخرى، وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة، دفعت الفراعنة إلى التفكير في حل لهذه المسألة، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر، فأعلنوا أنّه ساحر وأنّ عمله سحر ليس إلاّ، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم، خاصّة نبي الإسلام .

إلاّ أنّ موسى  نهض للدفاع عن نفسه، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء وأبطل تهمتهم، ففي البداية: ﴿قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا﴾.

صحيح أنّ لكلّ من السحر والمعجزة نفوذاً وتأثيراً، وأن من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على ادراكات الناس ونفسياتهم، إلاّ أن السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماماً عن المعجزة التي هي حق، إذا لايمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة، فإنّ أعمال السحرة تفتقد الى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة، وتعرض بشكل واسع وغير محدود. إضافة إلى


1- يونس: 76-77.

ص: 165

أنّه: ﴿ولا يفلح الساحرون﴾ وهذا التعبير دليل آخر على امتياز عمل الأنبياء عن السحر. ففي الدليل السابق أثبت اختلاف السحر والمعجزة ووجه وهدف الإثنين وافتراق أحدهما عن الآخر، أمّا هنا فإنّ الدليل يستعين لإثبات المطلب باختلاف حالات السحرة وأصحاب المعاجز.

﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُواْ اقْتُلُواْ أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَفِرِينَ إلاَّ فِى ظَلَل﴾(1).

هذه الآية تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النّبي موسى  وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر _ كأُسلوب طاغوتي _ على الفترة التي سبقت ولادة موسى  فحسب، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى ، فالآية (129) من سورة الأعراف تؤيد هذا الرأي، حيث تحكي على لسان بني إسرائيل قولهم لموسى : ﴿أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا﴾.

لقد صدر هذا القول عن بني إسرائيل بعد أن قام فرعون بقتل أبناء المؤمنين منهم بدعوة موسى .

وفي كلّ الأحوال، يعبّر هذا الأُسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الطاقات الفعّالة، وترك غير الفاعلين للإفادة منهم في خدمة النظام.

لقد كان «بنو إسرائيل» قبل موسى  عبيداً للفراعنة، لذلك لم يكن من العجيب أن تبادر سلطات فرعون بعد بعثة موسى  وشيوع دعوته إلى اعتماد الخطة المعادية في قتل الأبناء واستحياء النساء، بهدف الانتقام والإبادة الشديدة لبني إسرائيل كي تتعطل فيهم عوامل الصمود والمقاومة.


1- غافر: 25.

ص: 166

ولكن ما هي نتيجة كلّ هذا الكيد؟

القرآن يجيب: ﴿وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال﴾.

أعمالهم سهام تطلق في ظلام الجهل و الضلال فلا تصيب سوى الحجارة! لقد قضى الله تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله، وأن يزهق الباطل وأنصاره.

لقد اشتد الصراع بين موسى  وأصحابه من جانب، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. قرّر فرعون قتل موسى  لكن إرادة ومشيئة الله حالت دون إرادة ومشيئة فرعون فانتصر الحق واندحر الباطل.

إذا كانت هذه الآية قد نزلت في المدينة وكان اليهود هم المعنيين بها، يكون المعنى أنّ جمعاً من اليهود كانوا ينكرون نزول كتاب سماوي على الأنبياء.

ولكن هل يمكن أن ينكر اليهود _ اتباع التّوراة _ نزول كتاب سماوي؟ نعم، لو أمعنا النظر في العهد الجديد (الأنجيل) والعهد القديم (التّوراة والكتب الملحقة بها) نجد أنّ كل هذه الكتب تفتقر إلى المسحة السماوية، أي أنّها ليست خطاباً موجهاً من الله إلى البشر، بل إنّها مقولات وردت على ألسنة تلامذة موسى والمسيح  وأتباعهما على شكل سرد لحوادث تاريخية وسير، والظاهر أنّ اليهود والمسيحيين اليوم لا ينكرون ذلك، إذ أنّ حكاية موت موسى وعيسى وحوادث كثيرة أُخرى وقعت بعدهما وردت في هذه الكتب، لا باعتبارها تنبؤات عن المستقبل، بل سرداً لحوادث ماضية، فهل يمكن لكتب مثل هذه أن تكون قد نزلت على موسى وعيسى؟!

كل ما في الأمر أنّ المسيحيين واليهود يعتقدون أنّ هذه الكتب قد كتبت بأيدي أُناس عندهم أخبار عن الوحي، فاعتبروها كتباً مقدسة خالية من الخطأ ويمكن الاعتماد عليها.

أمّا إذا كانت الآية كسائر آيات هذه السّورة تخصّ المشركين، فيكون المعنى أنّهم أنكروا نزول أي كتاب سماوي لانكار ونفي دعوة النّبي ، ولكن الله يبيّن لهم

ص: 167

منطقياً أنّهم لا يستطيعون إنكار ذلك كلياً بالنظر لنزول التّوراة على موسى، وأنّ المشركين _ وإن لم يدينوا بدين اليهود _ كانوا يعتبرون الأنبياء السابقين وإبراهيم _ وموسى أيضاً على أقوى احتمال _ أنبياء في عصورهم وأقاليمهم، لذلك فهم عند ظهور نبي الإسلام  لجأوا إلى أهل الكتاب يبحثون عندهم في كتبهم عن إمارات ودلائل تتنبأ بظهور هذا النّبي.

حقانية النبي عيسى  وبطلان شك المشككين

﴿ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهَ يَمْتَرُونَ﴾(1).

بعد تجسيد القرآن الكريم في الآيات السابقة حادثة ولادة المسيح  بصورة حية وواضحة جدّاً، انتقل إلى نفي الخرافات وكلمات الشرك التي قالوها في شأن عيسى، فيقول: ﴿ذلك عيسى بن مريم﴾ خاصّة وأنّه يؤكّد على كونه «ابن مريم» ليكون ذلك مقدمة لنفي بنوته لله سبحانه.

ثمّ يضيف: ﴿قول الحق الذي فيه يمترون﴾(2) وهذه العبارة في الحقيقة تأكيد على صحة جميع ما ذكرته الآيات السابقة في حق عيسى  ولا يوجد أدنى ريب في ذلك.

أمّا ما يذكره القرآن من أنّ هؤلاء في شك وتردد من هذه المسألة، فربّما كان إشارة إلى أنصار وأعداء المسيح ، وبتعبير آخر: إشارة إلى اليهود والنصارى، فمن جهة شككت جماعة ضالة بطهارة أُمّه وعفتها، ومن جهة أُخرى شك قوم في كونه إنساناً،


1- مريم: 34.
2- لقد بحث المفسّرون في تركيب هذه الجملة كثيراً، إِلاّ أن أصحها على ما يبدو، من الناحية الأدبية، وبملاحظة الآيات السابقة، هو أنّ «قول الحق» مفعول لفعل محذوف، و (الذي فيه يمترون) صفة له، وكان التقدير هكذا: أقول قو الحق الذي فيه يمترون.

ص: 168

حتى أنّ هذه الفئة قد انقسمت إلى مذاهب متعددة، فالبعض اعتقد بصراحة أنّه ابن الله _ الابن الروحي والجسمي الحقيقي لا المجازي! _ ومن ثمّ نشأت مسألة التثليث والأقانيم الثلاثة.

والبعض اعتبر مسألة التثليث غير مفهومة وواضحة من الناحية العقلية، واعتقدوا بوجوب قبولها تعبداً، والبعض الآخر تخبط بكلام لا أساس له في سبيل توجيه المسألة منطقياً. والخلاصة: فإنّ هؤلاء جميعاً لما لم يروا الحقيقة _ أو أنّهم لم يطلبوها ولم يريدوها _ سلكوا طريق الخرافات والأساطير!

داود وحكم الحقّ

﴿إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ﴾(1). رغم أنّ داود  كان محاطاً بأعداد كبيرة من الجند والحرس، إلاّ أنّ طرفي النزاع تمكّنا _ من طريق غير مألوف _ تسوّر جدران المحراب، والظهور أمام داود  فجأةً، ففزع عند رؤيتهما، إذ دخلا عليه بدون استئذان ومن دون إعلام مسبق، وظنّ داود  أنّهم يكنّون له السوء، ﴿إذ دخلوا على داود ففزع منهم﴾.

إلاّ أنّهما عمدا بسرعة إلى تطييب نفسه وإسكان روعه، وقالا له: لا تخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر ﴿قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض﴾.

فاحكم الآن بيننا ولا تتحيّز في حكمك وأرشدنا إلى الطريق الصحيح ﴿فاحكم بيننا بالحقّ ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط﴾.

«تشطط» مشتقّة من (شطط) على وزن (فقط)، وتعني البعيد جدّاً، ولكون الظلم


1- ص: 22.

ص: 169

والطغيان يبعدان الإنسان كثيراً عن الحقّ، فكلمة (شطط) تعني الابتعاد عن الحقّ، كما تطلق على الكلام البعيد عن الحقيقة.

من المسلّم به أنّ قلق وروع «داود» قلّ بعض الشيء عندما وضّح الأخوان هدف مجيئهما إليه، ولكن بقي هناك سؤال واحد في ذهنه هو، إذا كنتما لا تكنّان السوء، فما هو الهدف من ميجئكما إليّ عن طريق غير مألوف؟

ولذلك تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داود، وقال: هذا أخي، يمتلك (99) نعجة، وأنا لا أمتلك إلاّ نعجة واحدة، وإنّه يصرّ عليّ أن أعطيه نعجتي ليضمّها إلى بقيّة نعاجه، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ ﴿إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب﴾.

يقول العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان (وأكثر المفسّرين تبعاً للروايات إنّ هؤلاء الخصم الداخلين على داود  كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه، وستعرف حال الروايات لكن خصوصيات القصّة كتسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه، وكذا تنبّهه بأنّه إنّما كان فتنة من الله له وليس واقعة عادية، وقوله تعالى بعد: ﴿فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتبع الهوى﴾ الظاهر في أنّ الله إبتلاه بما ابتلي لينبّهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس، كلّ ذلك يؤيّد كونهم من الملائكة وقد تمثّلوا في صورة رجال من الإنس.

﴿والمقصود من التمثّل هو عدم وجود هؤلاء الأشخاص واقعاً وفي الخارج، بل أنّ ذلك إنعكس في ذهن داود وفي إدراكه﴾.

ثم خاطبه الله بلهجة حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني، شارحة له وظائفه ومسؤولياته الجسيمة بعد أن وضحت مقامه الرفيع، إذ تقول: ﴿يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم القيامة﴾.

ص: 170

وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة الله هي ظهور حكومة تحكّم بالحقّ، ومن هذه الجملة يمكن القول أنّ حكومة الحقّ تنشأ _ فقط _ عن خلافة الله، وأنّها النتيجة المباشرة لها.

ثم ان جملة ﴿ولا تتبع الهوى﴾ تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل، ألا وهو اتّباع هوى النفس.

نعم، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان، ويباعد بينه وبين العدالة.

لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول: ﴿فيضلّك عن سبيل الله﴾.

ص: 171

القسم الثالث: الآيات التي تبحث في حقانية المبدأ والمعاد والجنة والنار والحساب والعقاب مقابل بطلان المنكرين

اشاره

ص: 172

ص: 173

هنا نذكر الآيات التي تبيّن حقانية المعاد:

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّت تَجْرِى مِن تَحتِهَا الاَْنهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقَّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾(1).

تبين هذه الآية الكريمة مقابل أولئك أصحاب الباطل المتمثل في الشيطان في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة، من جنأت وبساتين وأنهار تجري فيها، حيث تقول الآية ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّت تَجْرِى مِن تَحتِهَا الاَْنهَارُ﴾.

إنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبداً، تؤكّد هذه بعبارة ﴿خالدين فيها أبداً﴾.

وإنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة، حيت تقول الآية: ﴿وعد الله حقّاً﴾.

وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع _ أبداً _ أن يكون أصدق قولا من الله العزيز القدير في وعوده وفي كلامه، كما تقول الآية: ﴿ومن أصدق من الله قيلا﴾.

وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إمّا عن العجز وإمّا الجهل والحاجة، والله سبحانه وتعالى منزه عن هذه الصفات السلبية، فهو قوي قدير عالم بجميع الامور غنيّ عن الجميع والجميع فقير إليه سبحانه، لذلك فهو في وعوده وعهوده لا يتخلف في ذلك قيد انملة كما هو الحال بالنسبة للمخلوقين.


1- النساء: 122.

ص: 174

حقانية المعاد

﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾(1).

هذه الآية دليل على ما جاء في الآية السابقة، وعلى ضرورة التسليم لله وإتّباع رسوله، لذلك تقول: ﴿هو الذي خلق السموات والأرض بالحق﴾.

إنّ مبدأ عالم الوجود هو وحده الجدير بالعبادة، وهو وحده الذي يجب الخضوع والتسليم له، لأنّه خلق الأشياء لمقاصد حقّة.

المقصود من (الحق) في الآية هو الأهداف والنتائج والمنافع والحكم، أي أنّ كل مخلوق قد خلق لهدف وغاية ومصلحة، وهذه الآيه تشبه الموضوع الذي تتناوله الآية (77) من سورة ص التي جاء فيها: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً﴾.

ثمّ يقول: إنّه فضلا عن كونه مبدع عالم الوجود، فان يوم القيامة أيضاً يقوم بأمره، وإذا ما أصدر أمره بقيام ذلك اليوم فإنّه يتحقق فوراً: ﴿ويوم يقول كن فيكون﴾(2).

يحتمل بعضهم أنّ هذه العبارة تشير إلى مبدأ الخلق وإيجاد عالم الوجود، حيث خلق كل شيء بأمر الله، ولكن بالنظر لأنّ الفعل «يقول» مضارع، وهناك قبل هذه الآية إشارة إلى أصل الخلق، وكذلك بالرجوع إلى الآيات التّالية، يمكن القول بأنّ هذه العبارة تخص البعث ويوم القيامة.

سبق في تفسير الآية (117) من سورة البقرة في المجلد الأوّل أن قلنا إنّ ﴿كن فيكون﴾ لا تعني إصدار أمر لفظي لشيء أن يكون فيكون، بل تعني إنّه إذا شاء خلق


1- الأنعام: 73.
2- اختلف المفسّرون في متعلق الظرف «يوم»، فبعض يعلقه بجملة «خلق»وبعض يعلقه بجملة «اذكروا» المحذوفة، ولكن لا يستبعد أن يكون متعلقاً بجملة «يكون» فيصبح المعنى: يكون يوم القيامة يوم يقول له كن.

ص: 175

شيء، فإنّ إرادته تتحقق دون حاجة الى وجود أي عامل آخر، فإذا شاء أن يتحقق الشيء فهو يتحقق فوراً. وإذا شاء أن يتحقق تدريجياً فإنّ خطّة تحققه التدريجي تبدأ.

ثمّ يضيف: أنّ ما يقوله الله هو الحق، أي أنّه مثلما كان مبدأ الخلق ذا أهداف ونتائج ومصالح، كذلك سيكون يوم القيامة: ﴿قوله الحق﴾.

وفي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في صور ويبعث الناس يوم القيامة، يكون الحكم والملك لله: ﴿وله الملك يوم ينفخ في الصور﴾.

إنّ حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم القيامة، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده، لكن هناك عوامل وأسباباً تؤثر في مسار هذه الدنيا وتقدمها نحو أهدافها، لذلك قد يغفل الإنسان أحياناً عن وجود الله وراء هذه الأسباب والعوامل، أمّا في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع الأسباب والعوامل، فإنّ حكومة الله ومالكيته تكونان أجلى وأوضح من أي وقت سابق، كما جاء في آية أُخرى: ﴿لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾(1).

أما فيما يتعلق بماهية «الصور» وكيف ينفخ فيه إسرافيل فتموت الأحياء، ثمّ يعيد النفخ في الصور فيعود الجميع إلى الحياة ويبدأ يوم القيامة.

وفي ختام الآية إشارة إلى ثلاث من صفات الله تعالى، فهو: ﴿عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير﴾.

ترد هذه الصفات غالباً في الآيات التي تخص يوم القيامة، أي أنّه بمقتضى صفة العلم المطلق عالم بأعمال عباده، وبمقتضى قدرته وحكمته يجازي كلا بما يستحقه.

هناك تبلو كلُّ نفس ما أسلفت، وردّوا إلى الله مولاهم الحق، وضل عنهم ما كانوا يفترون»(2).


1- غافر: 16.
2- يونس: 30.

ص: 176

وفي ذلك اليوم سيرجع الجميع إلى الله مولاهم الحقيقي، ومحكمة المحشر تبيّن أن الحكم لايتم إلاّ بأمره ﴿وردوا إلى الله مولاهم الحق﴾.

وأخيراً فإنّ جميع هذه الأصنام والمعبودات المختلقة التي جعلها هؤلاء شريكة لله كذباً ستفنى وتمحى: ﴿وضل عنهم ماكانوا يفترون﴾ فإنّ القيامة ساحة ظهور كل الأسرار الخفية للعباد، ولا تبقى أية حقيقة إلاّ وتُظهر نفسها. ومن الطبيعي أنّ هناك مواقف ومقامات لا تحتاج إلى سؤال أو جدال وبحث، بل إنّ الحال يحكي عن كل شيء، ولا حاجة للمقال.

الكافرون على أعتاب القيامة

﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإذَا هِىَ شَخِصَةٌ أَبْصَرُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَة مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَلِمِينَ﴾(1).

تتحدث الآية اعلاه بصراحة عن نهاية العالم وقيام البعث والقيامة فتقول مباشرة ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإذَا هِىَ شَخِصَةٌ أَبْصَرُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لانّ الرعب يسيطر على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقّف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.

في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور، فيرتفع صوتهم: ﴿ياويلنا قد كنّا في غفلة من هذا﴾. ولمّا كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم، فإنّهم يقولون بصراحة: ﴿بل كنّا ظالمين﴾.

كيف يمكن عادةً مع وجود كلّ هؤلاء الأنبياء، والكتب السماوية، وكلّ هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.


1- الأنبياء: 97.

ص: 177

تتحدّث هذه الآية – وهي آخر آية من سورة الأنبياء- عن غفلة الناس الجهّال، فتقول حكاية عن النّبي  في عبارة تشبه اللعن، وتعكس معاناته  من كلّ هذا الغرور والغفلة، وتقول: إنّ النّبي  بعد مشاهدة كلّ هذا الإعراض ﴿قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ﴾(1) وفي الجملة الثّانية يُوجّه الخطاب إلى المخالفين ويقول: ﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.

إنّه في الحقيقة يُنبّه هؤلاء بكلمة ﴿ربّنا﴾ إلى هذه الحقيقة، وهي أنّنا جميعاً مربوبون ومخلوقون، وهو ربّنا وخالقنا جميعاً.

حوار بين أصحاب الجنة وأصحاب النار

﴿وَنَادَى أَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَبَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهلْ وَجَدتُم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقَّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالمِينَ﴾(2).

بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار، أشار هنا إلى حوار هذين الفريفين في ذلك العالم، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.

فيقول أوّلا: ﴿ونادى أصحابُ الجنّة أصحابَ النّار أن قد وجدنا ما وَعَدَنا ربُّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً﴾.

فيجيبهم أهل النّار قائلين: نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة (قالوا: نعم).

ويجب الالتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضياً، إلاّ أنّه هنا يعطي معنى المضارع، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم، حيث يذكر الحوادث التي تقع فى


1- لاشك أنّ حكم الله سبحانه بالحقّ دائماً، وعلى هذا فإنّ ذكر كلمة (بالحقّ ) هنا له صبغة التوضيح.
2- الاعراف: 44.

ص: 178

المستقبل حتماً بصيغة الفعل الماضي، وهذا يعدّ نوعاً من التأكيد، يعني أنّ المستقبل واضح جدّاً، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.

على أنّ التعبير ب_ «نادى» الذي يكون عادةً للمسافة البعيدة، يصوّر بُعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو: وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟

وجواب هذا السؤال معلوم، لأنّ السؤال ليس دائماً للحصول على المزيد من المعلومات، بل قد يتّخذ أحياناً صفة العتاب والتوبيخ والملامة، وهو هنا من هذا القبيل. و هذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عندما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة، والملامات المزعجة، فلابدّ _ في الآخرة _ أن ينالوا عقاباً من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة، منها ما في آخر سورة المطففين.

ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع: أن لعنة الله على الظالمين ﴿فأذّنَ مُؤَذِّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين﴾.

ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله: ﴿الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون﴾(1).

ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أُخرى أنّ جميع الانحرافات والمفاسد قد إجتمعت في مفهوم «الظلم» وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب، والآثام، وخصوصاً الضالون المضِلُّون.


1- الاعراف: 45.

ص: 179

من هو المؤذِّن والمنادي؟

مَن هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟

لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين علي .

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني _ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن «محمّد بن الحنفية» عن علي  أنّه قال: «أنا ذلك المؤذّن».

وهكذا روى بسنده عن «ابن عباس» أنّ لعلّي  أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس، منها «المؤذّن» في قول الله تعالى: ﴿فأذن مؤذنُ بينهم﴾ فهو الذي ينادي بين الفريفين أهل الجنّة وأهل النّار، ويقول: «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي»(1).

ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة، منها ما رواه الصّدوق (رحمه الله) بسنده عن الإمام الباقر  أنّ أميرالمؤمنين  خطب بالكوفة متصرفه في النهروان، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه، فقام خطيباً (إلى أن قال): «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة، قال الله عزّ وجلّ ﴿فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين﴾ أنا ذلك المؤذن، وقال: ﴿وأذان من الله ورسوله﴾ أنا ذلك الأذان»(2).

ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أميرالمؤمنين علي  مؤذناً ومنادياً في ذلك الوقت هو:


1- مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.
2- تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة ١٧.

ص: 180

أوّلاً: لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبي  في الدنيا أيضاً، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأُولى من سورة البراءة على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج، تلك الآيات التي تبدأ بقوله: ﴿وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله﴾(1).

ثانياً: إنّ موقف الإمام علي  طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم، والنضال ضد الظالمين، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.

أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.

فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق، لم يبق أي مجال لإستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار، بأمر من الله والنّبي  هو على .

من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعلي  فضيلة، إذ يقول: ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأدين إليه كرم الله وجهه معنىً يعدُّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح(2).

إذ يجب أن نقول له: كما أنّ النيابة عن رسول الله  في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائله ، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمراراً لنفس ذلك البرنامج فضيلة ظاهرة له أيضاً.


1- التوبة: 3.
2- تفسير المنار، ج ٨، ص ٤٢٦.

ص: 181

العهد الإلهي الحق

﴿قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِّنْ رَّبِّى فَإذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقَّاً﴾(1).

لقد كان عمل ذي القرنين عظيماً ومهماً، وكانَ لهُ وفقاً لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى بهِ أو يمنّ به، إلاَّ أنَّهُ قال بأدب كامل: ﴿قال هذا رحمة مِن ربّي﴾ لأنَّ أخلاقهُ كانت أخلاقاً إلهية.

إنَّهُ أراد أن يقول: إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة، فإنَّ كل ذلك إنما كانَ مِن قبل الخالق جلَّ وعلا، وإذا كُنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثِّر فذلك أيضاً مِن الخالق جلَّ وعلا.

وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإنَّ ذلك مِن بركة ورحمة الخالق الواسعة.

أراد ذو القرنين أن يقول: إنّني لا أملك شيئاً مِن عندي كي أفتخر به، ولم أعمل عملا مهماً كي أَمُنّ على عباد الله.

ثمّ استطرد قائلاً: لا تظنوا أنَّ هذا السد سيكون أبدياً وخالداً: ﴿فإذا جاء وعد ربّي جعلهُ دكاء * وكان وعد ربّي حقّاً﴾.

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطِّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

لكن بعض المفسّرين اعتبر الوعد الإلهي إشارة إلى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنىً لسد غير قابل للإختراق والعبور، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع. ولكن هذا التّفسير بعيد حسب الظاهر.


1- الكهف: 98.

ص: 182

هدفية الدنيا وحقانيتها

﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾(1).

تقول هذه الآية بلهجة قاطعة من أجل إبطال أوهام الجاهلين الذين يظنّون عدم هدفيّة الدنيا، بل هي للهو واللعب فقط: إنّ هذا العالم مجموعة من الحقّ والواقع، ولم يقم أساسه على الباطل ﴿بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾. وتقول في النهاية: ﴿ولكم الويل ممّا تصفون﴾ وتتحدّثون عن عدم هدفية الخلق.

أي إنّنا نجعل الأدلّة العقليّة والاستدلالات الواضحة والمعجزات البيّنة إلى جانب ظنون وأوهام اللاهدفيين، لتتبخّر وتتلاشى هذه الأوهام في نظر العلماء وأصحاب الفكر والرأي.

إنّ أدلّة معرفة الله واضحة، وأدلّة وجود المعاد بيّنة، وبراهين أحقّية الأنبياء جليّة، والحقّ يمكن تمييزه عن الباطل تماماً إذا لم يكن الشخص من المعاندين.

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ جملة «نقذف» من مادّة (قذف) بمعنى الإلقاء، وخاصّةً الإلقاء من طريق بعيد، ولمّا كان للقذف من بعيد سرعة وقوّة أكثر، فإنّ هذا التعبير يبيّن قدرة إنتصار الحقّ على الباطل. وكلمة «على» أيضاً مؤيّدة لهذا المعنى.

وجملة «يدمغه» على قول الراغب كسر «الجمجمة والدماغ»، وتعتبر أكثر نقطة في بدن الإنسان حساسّية، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحقّ غلبة واضحة قاطعة.

والتعبير ب_(إذا) توحي بأنّا حتّى في الموارد التي لا يُنتظر ولا يُتوقّع إنتصار الحقّ فيها، فإنّنا سنجري هذه السنّة. والتعبير ب_ «زاهق» والذي يعني الشيء المضمحل، تأكيد على هذا المقصود.

وأمّا أنّ جملتي (نقذف) و(يدمغ) قد جاءتا بصيغة الفعل المضارع، فهو دليل على استمرار هذه السنّة.


1- الأنبياء: 18.

ص: 183

الهدف من الخلق

في الوقت الذي لا يعترف المادّيون بهدف للخلق، لأنّهم يعتقدون أنّ الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي التي إبتدأت الخلق، ولهذا فإنّهم يؤيّدون اللغوية وعدم الفائدة في مجموعة الوجود، فإنّ الفلاسفة الإلهيين وإتباع الأديان جميعاً يعتقدون بوجود هدف سام للمخلوقات، لأنّ المبدىء للخلق قادر وحكيم وعالم، فمن المستحيل أن يقوم بعمل لا فائدة فيه.

وهنا ينقدح هذا السؤال: ما هو الهدف؟

يتّضح من هذا التحليل أنّ الخلق ليس عبثاً من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ الهدف من الخلق لا يعود إلى الخالق. وهنا يمكن أن نصل ببساطة إلى نتيجة، وهي: أنّ الهدف، حتماً وبلا شكّ، أمرٌ يرتبط بنا.

ومع ملاحظة هذه المقدّمة يمكن التوصّل إلى أنّ هدف الخلقة هو تكاملنا وارتقاؤنا ولا شيء سواه.

وبتعبير آخر فإنّ عالم الوجود بمثابة مدرسة لتكاملنا في مجال العلم.

ودار حضانة لتربية وتهذيب نفوسنا.

ومتجر لكسب الموارد المعنوية، وأرض زراعية غنيّة صالحة لإنتاج أنواع المحصولات الإنسانية.

أجل «الدنيا مزرعة الآخرة.. الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها»(1).


1- نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم ١٣١.

ص: 184

دليل هدفية الخلق

بعد ان ذكر سبحانه وتعالى عدم عبثيّة الخلق ذكر دليلاً رصيناً يؤيد ذلك، أضافت الآية ﴿فتعالى الله الملك الحقّ لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم﴾.

فإنّ الذي يقوم بعمل تافه _ في الواقع _ هو الجاهل غير الواعي أو الضعيف غير القادر، أو من هو بالذات تافه خاو.

أمّا «الله» الذي جمع الكمال في صفاته.

وهو «الملك» الذي يملك جميع الكائنات ويحكم عليها وهو «الحقّ» الذي لا يصدر منه غير الحقّ، فكيف يخلق الوجود عبثاً بلا غاية.

ولو توهّم أحد الأشخاص بأنّه يمكن أن يوجد من يمنعه من الوصول إلى هدفه، فإنّ عبارة ﴿لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم﴾ تنفي ذلك وتؤكّد ربوبيّته ومفهومها أنّ هذا المالك مصلح وهادف في خلقه للعالم.

وباختصار نقول: إنّه إضافة إلى ذكر كلمة «الله» التي هي إشارة إلى صفاته الكمالية في ذاته، ذكرت الآية أربع صفات بشكل صريح: مالكية وحاكمية الله، ثمّ حقّانيّة وجوده، وكذلك عدم وجود شريك له، وأخيراً مقام ربوبيّته. وهذا كلّه دليل على أنّه تعالى لا يقوم بعمل عبثاً، كما أنّه لم يخلق البشر عبثاً.

كلمة «العرش» كما أشرنا سابقاً، هي إشارة إلى أنّ عالم الوجود كلّه خاضع لحكم الله ﴿لأنّ العرش في اللغة يعني السرير ذي الأرجل العالية والخاصّ بالحكّام، وهذه كناية عن حكم الله المطلق﴾. وللإطلاع أوسع على معنى العرش في القرآن المجيد يراجع التّفسير الأمثل تفسير الآية 54 من سورة الأعراف.

ص: 185

الموت حق

﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْر مَّرِيج﴾(1).

في هذه الآية الكريمة ردّ الله سبحانه وتعالى على الذين جحدوا الحق المتمثل بالموت مع علمهم به، وإلا فإنه لا غُبار على الحق، وكما صرح القرآن الكريم في موارد كثيرة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مراراً في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشكّ والتردّد!

لذا فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفاً: ﴿فهم في أمر مريج﴾! فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائماً في تناقض في القول وحيرة في العمل واضطراب في السلوك.

فتارةً يتّهمون النّبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أو كاهن.

وتارةً يعبّرون عن كلماته بأنّها «أساطير الأوّلين».

وتارةً يقولون بأنّه يعلّمه بشر.

وتارةً يقولون عنه بأنّه ساحر لنفوذ كلماته في القلوب.

وتارةً يقولون بأنّنا نستطيع أن نأتي بمثله.

وهذه الكلمات المتفرّقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحقّ، إلاّ أنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبداً.

وكلمة «مريج» مشتقّة من مرج _ على زنة حرج _ ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعدّدة بأنّها «مرج» أو «مرتع».

حقيقة الموت قوله تعالى: ﴿وجاءت سكرة الموت بالحقّ﴾.


1- ق: 5.

ص: 186

يتصوّر أغلب الناس أنّ الموت أمر عدمي ومعناه الفناء، إلاّ أنّ هذه النظرة لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدلائل العقلية ولا توافقها أبداً.

فالموت في نظر القرآن أمر وجودي، وهو انتقال وعبور من عالم إلى آخر، ولذلك عُبّر عن الموت في كثير من الآيات ب_ «تُوفّي» ويعني تسلّم الروح واستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.

والتعبير في الآيات المتقدّمة ﴿وجاءت سكرة الموت بالحقّ﴾(1) هو إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق: ﴿الذي خلق الموت والحياة﴾(2).

وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلامية، ففي رواية أنّ الإمام علي بن الحسين سئل: ما الموت؟ فقال : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكّ قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطىء المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب»(3).

ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين، إذ نقرأ في الآية (99) من سورة الحجر ﴿واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين﴾. وفي الآية (47) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضاً.

كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لابدّ أن يَطرق بابه، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيراً.


1- ق: 19.
2- تبارك: 2.
3- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص ٢٨٩.

ص: 187

والالتفات _ إلى حقيقة الموت _ يُعدّ إنذاراً لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له!

الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال: إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره، فأمر عمر به فحُبس، فبلغ ذلك علياً فقال: يا عمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال: ولِمَ؟ فقال علي: إنّه _ يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة ﴿إنّما أموالكم وأولادكم فتنة﴾ ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ ﴿وجاءت سكرة الموت بالحقّ﴾ ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر: لولا علي لهلك عمر(1).

﴿يَوْمَئِذ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبينُ﴾(2).

المراد بالدين الجزاء كما في قوله تعالى ﴿مالك يوم الدين﴾(3)، وتوفية الشيء بذله تاماً كاملاً، والمعنى يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحقّ ايتاءً كاملاً ويعلمون أن الله هو الحق المبين.

هذا بالنظر إلى اتصال الآية بما قبلها ووقوعها في سياق ما تقدمها، واما بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن ان يراد بالدين ما يرادف الملة وهو سنة الحياة، وهو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للإنسان، ويكون أكثر مناسبة لقوله: ﴿ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين﴾.

والاية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله فإن قوله ﴿ويعلمون أن الله هو الحق المبين﴾ ينبئ أن الله تعالى هو الحق لا مسترة عليه بوجهٍ من الوجوه ولا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربّما


1- تفسير روح البيان، ج ٩، ص ١١٨.
2- النور:25.
3- الحمد: 4.

ص: 188

يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر عنه بالعلم، وهذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق المبين.

والى مثله يشير قوله تعالى: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءَك فبصرك اليوم حديد﴾(1).

علائم يوم القيامة

حتى أُولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال، يخرجون أيضاً من دائرة الملك، فتكون الحاكمية من كلّ النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصّة، وبهذا ﴿وكان يوماً على الكافرين عسيراً﴾.

نعم، في ذلك اليوم تزول القوى الكاذبة تماماً، وتكون الحاكمية لله خاصّة، فتتداعى قلاع الكافرين، وتزول قوى الجبابرة والطواغيت، وإن كانوا جميعاً في هذا العالم _ أيضاً _ لا شيء أمام إرادته تبارك وتعالى. واذا كان لهم في هذه الدنيا بهرجة، فبأي ملاذ يلوذون من الجزاء الإلهي في يوم القيامة، يوم انكشاف الحقائق وزوال المجازات والخيالات والأوهام، ولهذا سيكون ذلك اليوم يوماً بالغ الصعوبة عليهم، في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهلا يسيراً وهيناً جدّاً.

في حديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله  ﴿في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة﴾ فقلت: ما أطول هذا اليوم!؟ فقال النّبي  «والذي نفسي بيده إنّه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخفَّ عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا»(2).

والتأمل الدقيق في سائر آيات القرآن يكشف عن دلائل صعوبة ذلك اليوم على


1- ق: 22.
2- تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن»، ج ١٣ ، ص ٢٣ ; ج ٧، ص 4739.

ص: 189

الكافرين، ذلك أنّنا نقرأ من جهة ﴿و تقطعت بهم الأسباب﴾(1).

و من جهة أخرى ﴿ما أغنى عنه ماله وما كسب﴾(2).

حقانية المعاد والعذاب الإلهي

﴿وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إى وَرَبَّى إنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْس ظَلَمَتْ مَا فِى الأرْضَ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَلاَ إنَّ للهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(3).

الآية الأُولى تقول: إنّ هؤلاء يسألونك بتعجب واستفهام عن حقيقة هذا الوعيد بالعذاب الإلهي في هذا العالم والعالم الآخر: ﴿ويستنبئونك أحق هو﴾ ومن المعلوم أنّ «الحق» هنا ليس في مقابل الباطل، بل المراد منه هو: هل إنّ لهذه العقوبة حقيقة وواقعاً وأنّها ستتحقق؟ لأنّ الحق والتحقق مشتقان من مادة واحدة، ومن البديهي أنّ الحق في مقابل الباطل بهذا المعنى الواسع سيشمل كل واقع موجود، وستكون النقطة المقابلة له كل معدوم وباطل.

ويأمر الله سبحانه نبيّه أن يجيبهم على هذا السؤال بما أوتي من التأكيد: ﴿قل أي وربّي إنّه لحق﴾ وإذا ظننتم أنّكم تستطيعون أن تفلتوا من قبضة العقاب الإلهي فانتم على خطأ كبير: ﴿وما أنتم بمعجزين﴾.

الواقع إنّ هذه الجملة مع الجملة السابقة من قبيل بيان المقتضي والمانع، ففي الجملة الأُولى يقول: إن عذاب المجرمين امر واقعي، ويضيف في الجملة الثّانية أن أية


1- البقرة: 166.
2- تبت: 2.
3- يونس: 53-56.

ص: 190

قدرة لا تستطيع أن تقف أمامه، تماماً كالآيات (8) _ (9) من سورة الطور: ﴿إنّ عذاب ربّك لواقع ما له من دافع﴾.

إنّ التأكيدات التي تلاحظ في الآية تستحق الإنتباه، فمن جهة القسم، ومن جهة أُخرى إنّ ولام التأكيد، ومن جهة ثالثة جملة ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ وكل هذه توكّد على أنّ العقاب الإلهي حتمي عند ارتكاب الكبائر.

أقصر الأدلة على المعاد

﴿فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَلَةُ إنَّهُمُ اًتَّخَذُوا الشَّيطِينَ أؤْلِيَآءَ مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُهْتَدُونَ﴾(1).

لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيراً، ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمراً صعباً وعسيراً بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة، إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحياناً من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم، بل وحتى (والعياذ بالله) دليلا على الجنون ويقولون: ﴿افترى على الله كذباً أم به جنّة﴾(2).

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم، هو مسألة المعاد الجسماني، لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها تراباً، و تبعثر ذراتها بفعل الرياح والاعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض. أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب. وأمواج البحار، ومن بين ثنايا ذرات الهواء، ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أُخرى.


1- الأعراف: 30.
2- سبأ: 8.

ص: 191

إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطيء، والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال، إذ تقول: أُنظروا إلى بداية الخلق، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السُّحب، ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة، أو خضروات مختلفة جُمعت من مختلف نقاط الأرض.

وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأُولى تجتمع تلك الذرّات ثانية، وتتواصل و تترابط ويتشكل الجسم الأوّل، فلو كان هذا الأمر محالا فلماذا وقع في مبدأ الخلقة.

إذاً «كما بدأكم» الله «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.

في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول: ﴿فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضّلالة﴾.

ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقاً أو يضلّ فريقاً من دون سبب، أضاف في الجملة ما يلي: ﴿أنّهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله﴾ أي إنّ الضالين هم الذين اختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله، فضلوا.

والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وانحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقون ﴿ويحسبون أنّهم مهتدون﴾.

ص: 192

إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية، وكان انغماسهم في الفساد، والضلال والانحراف، والوثنية، كبيراً إلى درجة أنّه انقلبت حاسة تمييزهم رأساً على عقب، فحسبوا القبيح حسناً، والضلالات هداية، وفي هذه الحالة أُغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ﴾(1).

1 _ إنّ ما استعرضته الآيات الخاصّة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات، من أجل أن تعلموا أنّ الله تعالى حقّ ﴿ذلك بأنّ الله هو الحقّ﴾ وبما أنّه هو الحقّ، فالنظام الذي خلقه حقّ أيضاً، لهذا لا يمكن أن يكون هذا الخلق دون هدف، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنى في مورد آخر: ﴿وما خلقنا السّماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا﴾.

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثاً، وأنّ لها هدفاً، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتماً.

2 _ إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا ﴿وأنّه يحيي الموتى﴾. إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل، ويمنح الحياة للأرض الميتة، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى، فهل يمكن التردّد في قبول فكرة المعاد مع وجود كلّ هذه التشكيلات الحيّة الدائمة للخالق جلّ وعلا في هذا العالم؟

3 _ الهدف الآخر هو أن نعلم ﴿وأنّه على كلّ شيء قدير﴾ ولا يستحيل على قدرته شيء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة؟ ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة؟ ويلبسها كلّ يوم لباساً جديداً من الحياة! ويجعل الأرض الجافّة


1- الحج: 6.

ص: 193

العديمة الروح خضراء زاهيةً تعلوها بهجة الحياة؟! أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4 _ إنّ كلّ هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر، ستحلّ بلا شكّ فيها ﴿وإن الساعة آتية لا ريب فيها﴾.

5 _ ثمّ إنّ كلّ هذا مقدّمة لنتيجة أخيرة هي ﴿وأنّ الله يبعث من في القبور﴾.

﴿مَا خَلَقْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(1).

إن كون هذا الخلق حقاً يوجب أن يكون هناك هدفاً عقلائياً، وذلك الهدف لا يتحقق إلاّ بوجود عالم آخر. إضافة إلى أنّ كونه حقاً يقضي بأنّ لا يتساوى المحسنون والمسيئون، ولما كنا نرى كل واحد من هاتين الفئتين قلّما يرى جزاء عمله في هذه الدنيا، فلا بد من وجود عالم آخر يجري فيه الحساب والثواب والعقاب، ليتلقى كل إنسان جزاء عمله، خيراً أم شراً.

وخلاصة القول، فإنّ الحق في هذه الآية إشارة إلى الهدفية في الخلق، واختبار البشر وقانون التكامل، وكذلك تنفيذ أصول العدالة: ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ لأنهم لا يعملون الفكر في التوصل إلى الحقائق، وإلاّ فإنّ أدلة المبدأ والمعاد واضحة بينة.

تحقق الوعد الإلهي في المعاد

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقَّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾(2).


1- الدخان: 39.
2- النحل: 38-39.

ص: 194

تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختّصت ببحث مسألة المعاد، بعد الكثرة الكاثرة التي اختّصت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارةً تكون بشكل استدلالات منطقية، واُخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق _ كالاستدلالات المنطقية _ ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

في القسم الأوّل، أي الاستدلالات المنطقية، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيراً على موضوع إمكانية المعاد، إذ أنّ منكري المعاد غالباً ما يتوهّمون استحالته، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اُخرى.

ففي هذا القسم، يلج القرآن الكريم طرقاً متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارةً يجسّد للإنسان النشأة الاُولى، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية: ﴿كما بدأكم تعودون﴾(1).

وتارةً يجسّد حياة وموت النبات، وبعثه الذي نراه باُمّ أعيننا كلّ عام، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماماً كالنبات: ﴿ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً وأنبتنا به جنّات وحب الحصيد... وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج﴾(2).


1- الأعراف: 29.
2- ق: 9-11.

ص: 195

وأخيراً فإنّ القرآن تارةً يدلّل على البعث بالنوم الطويل _ النوم الذي هو قرين الموت وأخوه، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب _ كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول: ﴿وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنّ وعد الله حقّ وأنّ الساعة لا ريب فيها﴾(1).

خلاصة القول، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

وعلى قول البعض: فإنّ ألفاً ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتاباً ضخماً.

لهذا السبب فإنّ استدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموماً تدور حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» علاوةً على أنّ القرآن الكريم يذكر مراراً وتكراراً بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾(2).

جاءت هذه الآيات لتبيان مسألة حكاية عن لسان مبلغي الجن. هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الأولى عن مسألة التوحيد، وعظمة القرآن المجيد، وإثبات نبوة نبي الإسلام ، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الأصول الاعتقادية الثلاثة.


1- الكهف: 21.
2- الأحقاف: 34.

ص: 196

وتجسّد الآية التالية مشهداً من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد، فتقول: ﴿ويوم يعرض الذين كفروا على النّار﴾.

أجل، فمرّة تُعرض النّار على الكافرين، وأخرى يعرضون الكافرين على النّار، ولكل من العرضين هدف.

وعندما يَعرِضون الكافرين على النّار، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم: ﴿أليس هذا بالحق﴾؟ وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة الله العادلة، وثوابه وعقابه، وتقولون: ما هذا إلاّ أساطير الأولين؟

غير أنّ أُولئك الذين لا حيلة لهم: ﴿قالوا بلى وربّنا﴾ فهنا يقول الله سبحانه، أو ملائكة العذاب: ﴿قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون﴾.

وبهذا فإنّهم يرون كلّ الحقائق بأُم أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الإعتراف الذي لن ينفعهم، وسوف لن تكون نتيجته إلاّ الهم والحسرة، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.

الجدال في الحق والباطل

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَب مُّنِير * ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنَذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّم لِّلْعَبِيدِ﴾(1).

تتحدّث هذه الآيات أيضاً عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاوياً لا أساس له، في البداية يقول القرآن المجيد: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾.


1- الحج: 8-10.

ص: 197

وعبارة ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم﴾ هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة، -الآية (3) من سورة الحج ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كلّ شيطان مريد﴾- وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأُولى إشارة إلى مجموعة من الناس، والثّانية إلى مجموعة أُخرى. وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين، في وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(1).

وعبارة ﴿ليضلّ عن سبيله﴾ تبيّن هدف هذه المجموعة، ألا وهو تضليل الآخرين، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة ﴿يتّبع كلّ شيطان مريد﴾ في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.

ولكن ما الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ «العلم» إشارة إلى الاستدلال العقلي. و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الربّانيين. و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماوية، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي». وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقاً لدراسات العلماء، ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمراً إذا استند إلى أحد الأدلّة: العقل، أو الكتاب، أو السنّة.

القيامة حقّ والشيطان وأتباعه باطل

﴿وَقَالَ الشَّيْطَنُ لَمَّا قُضِىَ الاَْمْرُ إنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَن إلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ إنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(2).


1- تفسير الميزان، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآيات موضع البحث.
2- إبراهيم: 22.

ص: 198

يشير القرآن الكريم إلى موقف آخر من مواقف القيامة والعقاب النفسي للجبّارين والمذنبين وأتباعهم الشياطين، حيث يقول تعالى: ﴿وقال الشيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم﴾ وبهذا الترتيب فالشيطان وجميع المستكبرين الذين هم قادة طرق الضلال، أصبحوا يلومون ويوبّخون تابعيهم البؤساء.

ثمّ يضيف ﴿وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي﴾ويستمرّ في القول ﴿فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴾.

أنتم فعلتم فاللعنة عليكم!!

وعلى كلّ حال فلا أنا أستطيع إنقاذكم من العذاب ولا أنتم تستطيعون إنقاذي: ﴿ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي﴾ والآن اُعلمكم بأنّي أتبرّأ من شرككم وإطاعتكم لي ﴿إنّي كفرت بما أشركتمون من قبل﴾ فقد فهمت الآن أنّ الشرك في الطاعة أدّى إلى شقائي وشقائكم، وهذه التعاسة ليس لها طريق للنجاة، واعلموا ﴿إنّ الظالمين لهم عذاب أليم﴾.

ومن الطّريف أنّ هذه المواجهة غير منحصرة بالشيطان وأتباعه، بل إنّ جميع أئمّة الضلالة في هذا العالم لهم نفس البرنامج أيضاً، يأخذون بأيدي أتباعهم ﴿بموافقتهم طبعاً﴾ ويذهبون بهم إلى أمواج العذاب والبلاء، وحينما يرون الأوضاع سيّئة يتركونهم وشأنهم حتّى إنّهم يلومونهم ويوبّخونهم في خسران الدنيا والآخرة.

﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ﴾(1).

هذه الآية توضيح أهم البرامج البشرية، فتقول الآية الكريمة: ﴿إنّ وعد الله حقّ﴾ فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنّة والنار كلّها وعود


1- فاطر: 5.

ص: 199

إلهية لا يمكن أن يُخلفها الله تعالى.

ومع الإنتباه إلى هذه الوعود الحقّة: ﴿فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغَرور﴾ فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا، ولا يخدعكم الشيطان بعفو الله ورحمته..

أجل، إنّ عوامل الإثارة، وزخارف الدنيا وزبارجها، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهيّة العظيمة، وكذلك فإنّ شياطين الجنّ والإنس دائمة السعي بوساوسها وإغرائها وبمختلف وسائل الخداع والإحتيال، وهي أيضاً تريد إلفات إهتمامكم إليها، وإلهائكم عن التفكير في ذلك اليوم الموعود، فإن تمكّنت أضاليلهم وخدعهم منكم، فقد ضاعت عليكم حياتكم بأكملها، وكانت سعادتكم وآمالكم نقشاً على الماء، فالحذر الحذر!!

إنّ تكرار التنبيه للناس لكي لا يغتّروا بوساوس الشياطين أو بزخارف الدنيا _ في الحقيقة _ إشارة إلى أنّ للذنوب طريقين للولوج إلى النفس الإنسانية:

1 _ مظاهر الدنيا الخدّاعة، كالجاه والمقام والمال والكبرياء وأنواع الشهوات.

2 _ الإغترار بعفو الله وكرمه، وهنا فإنّ الشيطان يزيّن الدنيا في نظر الإنسان ويصوّرها له متاعاً مباحاً وجذّاباً ومحبّباً وقيّماً من جهة.

ومن جهة اُخرى فإنّه كلّما أراد الإنسان أن يتذكّر الآخرة ومحكمة العدل الإلهي ومقاومة الجاذبية الشديدة للدنيا وخِدعها، فانّه يغريه بعفو الله ورحمته، فيدفعه بالنتيجة إلى التسويف والطغيان وارتكاب الذنوب.

ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة، فيقول: ﴿ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله﴾ إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم إهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني» مشتقّة من «ثني» بمعنى التواء و «عطف» تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب، أي الإعراض عن الشيء وعدم الاهتمام به.

ص: 200

ويمكن أن تكون عبارة «ليُضلّ» هدف هذا الإعراض، أي إنّهم ﴿قادة الضلال﴾ يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس. ويمكن أن تكون نتيجة لذلك. أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الإهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة: ﴿له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق﴾.

العبرة في ضرب الأمثال

﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَآنُواْ يَعْلَمُونَ *.. وَتِلْكَ الاَْمْثَلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَلِمُونَ * خَلَقَ اللهُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ إنَّ فِى ذلِكَ لاَيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾(1).

كم هو بديع هذا المثال وطريف، وكم هو بليغ ودقيق هذا التشبيه!...

تأمّلوا بدقّة... إنّ كل حيوان _ وكل حشرة _ له بيت أو وكر وما أشبه ذلك، لكن ليس في هذه البيوت بيت أوهن من بيت العنكبوت!

والجدير بالذكر، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل، هو نفسه من عجائب الخلق، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر.،

فخيوط العنكبوت «مصنوعة» ومنسوجة من مائع لزج، هذا المائع مستقر في حفر دقيقة وصغيرة كرأس الإبرة تحت بطن العنكبوت، ولهذا المائع خصوصية أو تركيب خاص هو أنّه متى ما لامس الهواء جمد وتصلّب.

والعنكبوت تخرج هذا المائع بواسطة آليات خاصة وتصنع خيوطها منه.

يقال: إن كلّ عنكبوت يمكن لها أن تصنع من هذا المائع القليل جدّاً ما مقداره خمسمائة متر من خيطها المفتول!


1- العنكبوت: 41،43،44.

ص: 201

ومع الالتفات إلى أن العناكب ليست نوعاً واحداً، بل _ كما يدعي بعض العلماء _ عرف منها حتى الآن عشرون ألف نوع، وكل نوع له خصوصياته التي تبين عظمة الخالق وقدرته في خلق هذا الموجود الصغير بوضوح وجلاء.

التعبير ب_«الاولياء» جمع ولي مكان التعبير بالأصنام، ربّما كان إشارة ضمنية إلى هذه اللطيفة، وهي أنّه ليس الحكم مختصاً بالأصنام والآلهة المزعومة، بل حتى الأئمة والقادة الأرضيين مشمولون بهذا الحكم أيضاً.

الله غير محتاج إلى مخلوقاته

﴿خَلَقَ السَّمَوَاتَ وَ الاََرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لإجَل مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّرُ﴾(1).

لاجل إثبات حقيقة أنّ الله لا يحتاج إلى مخلوقاته، ولبيان دلائل توحيده وعظمته، يقول الباريء عزّ وجلّ: ﴿خلق السموات والأرض بالحق﴾.

كون تلك الأُمور حقّاً دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها، وذلك لتكامل المخلوقات وفي مقدمتها الإنسان، ثمّ لا تنتهي عند البعث.

بعد عرض هذا الخلق الكبير، تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب، والتغيرات التي تطرأ بحسابات دقيقة، والأَنظمة الدقيقة أيضاً التي تحكم أُولئك، إذ يقول القرآن المجيد: ﴿يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل﴾.

وعلى أية حال، فإنّ القرآن المجيد يبيّن ظاهرة الليل والنهار و(النور) و(الظلمات) في عدّة آيات مختلفة، كلّ واحدة منها تشير إلى نقطة معينة، وتنظر إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة، فأحياناً يقول: ﴿يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل﴾(2).


1- الزمر: 5.
2- فاطر: 13.

ص: 202

الحديث _ هنا _ يتطرق لتوغّل الليل في النهار وتوغل النهار في الليل التي تتمّ بصورة بطيئة وهادئة، و أحياناً اُخرى يقول: ﴿يغشى الليل النهار﴾(1)، وهنا تمّ تشبيه الليل بستائر مظلمة تنزل على ضياء النهار وتحجبه.

ثمّ تنتقل إلى جانب آخر، ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسير لشؤون هذا العالم، قال تعالى: ﴿و سخر الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمى﴾.

فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها، أو التي تتحرك مع بقية الكواكب الأخرى من المجموعة الشمسية أدنى خلل، فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدّاً.

واحدة من علامات الحق والباطل

﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ قُلْ اللهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ فَأَنَّئ تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِى إلىَ الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى إلىَ الْحَقِّ أحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لايَهِدِّى إلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلاَّ ظَنَّاً إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئَاً إنَّ اللهَ عَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾(2).

تعقب هذه الآيات أيضاً الاستدلالات المرتبطة بالمبدأ والمعاد، وتأمر الآية الأُولى النّبي  أنّ ﴿قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثمّ يعيده﴾ ثمّ تضيف: ﴿قل الله يبدؤا الخلق ثمّ يعيده فأنى تؤفكون﴾ ولماذا تصرفون وجوهكم عن الحق وتتجهون نحو الضلال؟

وهنا سؤلان:

الأوّل: إنّ مشركي العرب غالباً لا يعتقدون بالمعاد، خاصّة بالصورة التي يذكرها


1- الأعراف: 54.
2- يونس: 34-36.

ص: 203

القرآن، وإذا كان هذا حالهم فكيف يطلب القرآن منهم الاعتراف به؟

الثّاني: في الآية السابقة كان الكلام عن اعتراف المشركين وإقرارهم، إلاّ أنّ هذه الآية تأمر النّبي أن يقرّ هو بهذه الحقيقة، فلماذا هذا الإختلاف في التعبير؟

إلاّ أنّ الانتباه إلى مسأله يوضح جواب كلا السؤالين، وهي: إنّ المشركين بالرغم من عدم اعتقادهم بالمعاد الجسماني، إلاّ أنّ ذلك القدر الذي آمنوا به من أن بداية الخلق كانت من الله كاف لتقبل المعاد والاعتقاد به، لأنّ كل من عمل عملا في البداية قادر على إعادته، وبناءً على هذا فإنّ الاعتقاد بالمبداً إذا ما اقترن بشيء من الدقة كاف لإثبات المعاد. ومن هنا يتّضح لماذا أقر النّبي بهذه الحقيقة بدلا من المشركين، فإنّه بالرغم من كون الإيمان بالمعاد من لوازم الإيمان بالمبدأ، إلاّ أنّ هؤلاء لما لم يتوجهوا إلى هذه الملازمة، اختلف طراز التعبير وأقر النّبي مكانهم.

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوتِ وَالأَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إلاَّ بِالْحَقِّ وَإنَّ السَّاعَةَ لأََتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾(1).

القرآن الكريم في هذه الآية يُبيّن مسألة التوحيد والمعاد، لأنّ سبب ضلال الإنسان إلى عدم اعتناقه عقيدة صحيحة، ولعدم ارتباطه بمسألة المبدأ والمعاد، فيشير إليهما معاً في آية واحدة ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحق﴾.

فنظامها محسوب ومحكم وهو حق، وكذا هدف خلقها حقٌّ.

فيكون هذا النظام البديع والخلق الدقيق المنظم دليلا واضحاً على الخالق العالم القادر جلَّ وعلا، وهو حق أيضاً، بل هو حقيقة الحق، وكل حق بما هو متصل بوجوده المطلق فهو حق، وكل شيء لا يرتبط به سبحانه فهو باطل.. وهذا ما يخصّ التوحيد أمّا في المعاد فيقول: ﴿وإنّ الساعة لآتية﴾.. وإنْ تأخرت فإنّها آتية بالنتيجة.


1- الحجر: 85.

ص: 204

ولا يبعد أن تكون الفقرة الأُولى بمنزلة الدال على الفقرة الثّانية، لأنّ هذا العالم إنّما يكون حقاً عندما يكون لهذه الأيّام الدنيوية المليئة بالآلام والمتاعب هدف عال يبرر خلق هذا الوجود الكبير _ فليست الدنيا لنحياها وتنتهي _ ولهذا فمسألة خلق السماوات والأرض وما بينهما حقّ يدل على وجود يوم القيامة والحساب، وإلاّ لكان الخلق عبثاً وليس حقّاً-.

وبعد ذلك.. يأمر الله تعالى نبيّه الكريم  أنْ يقابل عناد قومه وجهلهم وتعصبهم وعداءهم بالمحبّة والعفو وغض النظر عن الذنوب، والصفح عنهم بالصفح الجميل، أيْ غير مصحوب بملامة ﴿فاصفح الصفح الجميل﴾.

﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(1)

في هذه الآية اللاحقة تكميلاً- لمبحث المعاد _ يشير تعالى إلى قضية «وزن الأعمال» الذي جاء ذكره في السور القرآنية الأُخرى مثل ما جاء في سورة «المؤمنون» في الآية (102 و103) وسورة القارعة الآية (6 و8).

فيقول أوّلاً: إنّ وزن الأعمال يوم القيامة أمر واقع لا ريب فيه: ﴿والوزن يومئذ الحق﴾.

ما هو ميزان الأعمال يوم القيامة؟

لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين والمتكلمين حول كيفية وزن الأعمال يوم القيامة، وحيث أنّ البعض تصور أن وزن الأعمال وميزانها في يوم القيامة يشبه الوزن والميزان المتعارف في هذه الحياة، ومن جانب آخر لم يكن للأعمال البشرية وزن، وخفة وثقل يمكن أن يُعرَف بالميزان، لهذا لابدّ من حلّ هذه المشكلة عن طريق فكرة تجسم الأعمال، أو عن طريق أن الأشخاص أنفسهم يوزنون بدل أعمالهم في ذلك اليوم.


1- الأعراف:

ص: 205

حتى أنّه روي عن «عبيد بن عمير» أنه قال: «يؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يزن جناح بعوضة» إشارة إلى أن أُولئك الأشخاص كانوا في الظاهر أصحاب شخصيات كبيرة، وأمّا في الباطن فلم يكونوا بشيء(1).

ولكن لو تركنا مسألة المقارنة والمقايسة بين الحياة في ذلك العالم والحياة في هذا العالم، وعلمنا بأن كل شيء في تلك الحياة يختلف عمّا عليه في حياتنا هذه، تماماً مثلما تختلف أوضاع الفترة الجنينية عن أوضاع الحياة الدنيا، وعلمنا _ أيضاً _ أنّه ليس من الصحيح أن نبحث _ في فهم معاني الألفاظ _ عن المصاديق الحاضرة والمعينة دائماً، بل لابدّ أن ندرس المفاهيم من حيث النتائج، اتضحت وانحلت مشكلة «وزن الأعمال في يوم القيامة».

وتوضيح الأمر هو: أننا لو كنا نتلفظ فيما مضى من الزمن بلفظ المصباح كان يتبادر إلى ذهننا صورة وعاء خاص فيه شيء من الزيت، ونصب فيه فتيل من القطن. وربّما أيضاً تصوَّرنا زجاجة وضعت على النّار لتحفظها من الإنطفاء بسبب الرياح، على حين يتبادر من لفظ المصباح إلى ذهننا اليوم جهاز خاص لا مكان فيه للزيت، ولا للفتيل أمّا ما يجمع بين مصباح الامس ومصباح اليوم، هو الهدف من المصباح والنتيجة المتوخاة أو المتحصلة منه، يعني الأداة التي تزيل الظلمة.

والأمر في قضيّة «الميزان» على هذا الغرار، بل وفي هذه الحياة ذاتها نرى كيف أن الموازين تطوّرت مع مرور الزمن تطوراً كبيراً، حتى أنه بات يُطلق لفظ الميزان على وسائل التوزين الأُخرى، مثل مقياس الحرارة، ومقياس سرعة الهواء وامثال ذلك.

إذن، فالمسلّم هو أن أعمال الإنسان توزن في يوم القيامة بأداة خاصّة لا بواسطة موازين مثل موازين الدنيا، ويمكن أن تكون تلك الأداة نفس وجود الأنبياء والأئمّة


1- رويت هذه الرواية من عبيد بن عمير في تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الطبري» وظاهر العبارة يوحي بأن الكلام هو لعبيد وليس لرسول الله .

ص: 206

والصالحين، وهذا ما يستفاد _ أيضاً _ من الأحاديث المروية عن أهل البيت .

ففي بحار الأنوار ورد عن الإمام الصادق  في تفسير قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ المَوازينَ القسط﴾ أنه قال: «والموازين الأنبياء، والأوصياء، ومن الخلق من يَدخُل الجنّة بغير حساب»(1).

وجاء في رواية أُخرى: إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته  هم الموازين(2).

ونقرأ في إحدى زيارات الإمام أميرالمؤمنين المطلقة: السلام على ميزان الأعمال.

وفي الحقيقة أن الرجال والنساء النموذجيين في العالم هم مقاييس لتقييم أعمال العباد، فكل من شابههم كان له وزن بمقدار مشابهته لهم، ومن بعد عنهم كان خفيف الوزن، أو فاقد الوزن من الأساس.

بل إنّ أولياء الله في هذا العالم هم أيضاً مقاييس للوزن والتقييم، ولكن حيث أنّ أكثر الحقائق في هذا العالم تبقى خلف حجب الإبهام والغموض. تبرز في يوم القيامة بمقتضى قوله تعالى: ﴿وبرزوا لله الواحد القهار﴾(3) وتنكشف هذه الحقائق وتنجلي للعيان.

ومن هنا يتّضح لماذا جاء لفظ الميزان في الآية بصيغة الجمع: «الموازين» لأنّ أولياء الله الذين يوزَن بهم الأعمال متعددون.

ثمّ إن هناك احتمالا آخر أيضاً، وهو أن كل واحد منهم كان متميزاً في صفة معينة، وعلى هذا يكون كل واحد منهم ميزاناً للتقييم في إحدى الصفات والأعمال البشرية، وحيث أن أعمال البشر وصفاتهم مختلفة، لهذا يجب أن تكون المعايير والمقاييس متعددة.


1- بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، ج ٧، ص ٢٥٢ و ٢٥١.
2- المصدر السابق.
3- إبراهيم: 48.

ص: 207

ومن هنا أيضاً يتّضح أنّ ما جاء في بعض الرّوايات والأخبار، مثل ما ورد عن الإمام الصادق  حيث سألوه: ما معنى الميزان؟ قال: «العدل» لا ينافي ما ذكرناه، لأنّ أولياء الله، والرجال والنساء النموذجيين في هذا العالم هم مظاهر للعدل من حيث الفكر، والعدل من حيث العقيدة، والعدل من حيث الصفات والأعمال (تأملوا)(1).

ثمّ إنه تعالى يقول في المقطع الآخر من الآية: ﴿فمن ثقلت موازينُه فأُولئك همُ الصالحون، ومن خفّت موازينه فأُولئك الذِين خَسروا أنفسَهم بِما كانوا بآياتنا يَظلمون﴾.

إنّ من البديهي أنّ المراد من الخفّة والثقل في الموازين ليس هو خفة وثقل نفس الميزان، بل قيمة ووزن الأشياء التي توزن بواسطة تلك الموازين، وتُقاس بتلك المقاييس.

ثمّ إنّ في التعبير بجملة «خسروا أنفسهم» إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي أن هؤلاء قد أصيبوا بأكبر الخسارات، لأنّ الإنسان قد يخسر ماله، أو منصبه، ولكنّه قد يخسر أصل وجوده من دون أن يحصل على شيء في مقابل ذلك، وتلك هي الخسارة الكبرى، والضرر الأعظم.

إنّ في التعبير ب_«كانوا بآياتنا يظلمون» في آخر الآية إشارة إلى أن مثل هؤلاء لم يظلموا أنفسهم فحسب، بل ظلموا _ كذا _ البرامج الإلهية الهادية، لأنّ هذه البرامج كان ينبغي أن تكون سبلا للهداية ووسائل للنجاة، ولو أنّ أحداً تجاهلها، ولم يكترث بها، فلم يحصل منها هذا الأثر، كان ظالماً لها.

وقد جاء في بعض الرّوايات والأخبار أنّ المراد من الآيات هنا هم أئمّة الهدى ، على أن هذا النمط من التّفسير _ كما أسلفنا مراراً _ لا يعني حصر مفهوم الآية فيهم، بل هم المصاديق الأتمّ والأظهر للآيات الإلهية.


1- تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص 5.

ص: 208

ص: 209

القسم الرابع: بحوث أخرى في الحق والباطل

اشاره

ص: 210

ص: 211

الحقّ نور والباطل ظلمة

﴿وَ أَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَبُ وَجِاْىءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾(1).

هذه الآية تبدأ بالجملة: ﴿وأشرقت الأرض بنور ربّها﴾. وقد اختلف المفسّرون في معنى إشراق الأرض بنور ربها، إذ ذكروا تفسيرات عديدة، اخترنا ثلاثاً منها:

1 _ قالت مجموعة: إنّ المراد من نور الرب هما الحق والعدالة، الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم، حيث قال العلامة المجلسي في بحارالأنوار: «أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة، لأن نور الأرض بالعدل»(2).

2 _ البعض الآخر يعتقد أنّه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر، يخلقه الله في ذلك اليوم خاصة.

3 _ أمّا المفسّر الكبير العلاّمة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف صاحب تفسير الميزان فقد قال: إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هو ما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين. وقد استدل العلاّمة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية (22)


1- الزمر: 69.
2- روح المعاني و روح البيان ذيل الآية اعلاه.

ص: 212

من سورة (ق) ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾. وهذا الإشراق _ وإن كان عاماً لكل شيء يسعه النور _ لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذ من الشأن خصها بالبيان.

وهذه التفاسير لا تتعارض فيما بينها، ويمكن القول بصحتها جميعاً، مع أن التّفسيرين الأوّل والثّالث أنسب من غيرهما. ولا شك تتعلق الآية بيوم القيامة، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار  تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه،

ونقل (المفضل بن عمر) عن الإمام الصادق  «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة»(1).

بعدئذ ولزيادة التأكيد يضيف سبحانه وتعالى: ﴿قل جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد﴾(2). وعليه فلن يكون للباطل أي دور مقابل الحقّ، لا خطّة اُولى جديدة، ولا خطّة معادة، إذ أنّ خطط الباطل نقش على الماء، ولهذا السبب فلم يتمكّن الباطل من طمس نور الحقّ ومحو أثره من القلوب.

مع أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مصاديق «الحقّ» و «الباطل» في هذه الآية في حدود معيّنة، لكن الواضح أنّ مفهوم الإثنين واسع وشامل جدّاً، القرآن، الوحي الإلهيى، تعليمات الإسلام، جميعها مصاديق لمفهوم «الحقّ». والشرك والكفر، والضلال، والظلم والذنوب، ووساوس الشيطان، والبدع الطاغوتية كلّها تندرج


1- بحار الأنوار، مجلد ٥٢ ، ص ٣٣ ، المجلسي، وارشاد المفيد، وتفسير الصافي، ونور الثقلين.
2- (يبدىء) من مادّة «بدء» بمعنى الإيجاد الإبتدائي، و (يعيد): من مادّة (عود) بمعنى التكرار، الباطل: فاعل، والمفعول محذوف، والتقدير «ما يبدىء الباطل شيئاً وما يعيد شيئاً».

ص: 213

تحت معنى «الباطل»، وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية شبيهة بالآية (81) من سورة الإسراء، ﴿وقل جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً﴾.

وقد ورد أنّ ابن مسعود قال: دخل رسول الله  مكّة وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنماً فجعل يطعنها بعود في يديه ويقول: «جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً _ جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد»(1).

وهنا يثار السؤال الآتي، وهو أنّ الآية أعلاه تقول: إنّه بظهور الحقّ، يمحق الباطل، ويفقد كلّ خلاّقيته، والحال أنّنا نرى أنّ الباطل له جولات وصيت إلى الآن، ويسيطر على مناطق كثيرة في العالم؟

وللإجابة على هذا السؤال، يجب الالتفات إلى ما يلي:

أوّلاً: إنّه بظهور الحقّ وإشراقه. فإنّ الباطل _ والذي هو الشرك والنفاق والكفر وكلّ ما ينبع عنها _ يفقد بريقه، وإذا استمرّ وجوده فبالقوّة والظلم والضغط، وإلاّ فإنّ النقاب قد اُزيل عن وجهه، وظهرت صورته القبيحة لمن يطلب الحقّ، وهذا هو المقصود من مجيء الحقّ ومحو الباطل.

ثانياً: لأجل تحقّق حكومة الحقّ وزوال حكومة الباطل في العالم، فإضافة إلى الإمكانيات التي يضعها الله في خدمة عباده، هناك شرائط اُخرى مرتبطة بالعباد أنفسهم، والتي أهمّها «القيام بترتيب المقدّمات للاستفادة من تلك الإمكانات الإلهية». وبتعبير آخر، فإنّ إنتصار الحقّ على الباطل ليس فقط في المناحي العقائدية والمنطقية وفي الأهداف، بل في المناحي الإجرائية على أساسين، «فاعلية الفاعل» و «قابلية القابل» وإذا لم يصل الحقّ إلى النصر على الباطل في المرحلة العملية نتيجة عدم تحقّق (القابلية) فليس ذلك دليلا على عدم إنتصاره.


1- مجمع البيان، مجلّد ٨، صفحة 397.

ص: 214

ولنضرب لذلك مثلا قرآنياً، فالآية الكريمة تقول: ﴿ادعوني أستجب﴾(1)، ولكن المعلوم لدينا بأنّ استجابة الدعاء ليست بدون قيد أو شرط، فإن تحقّقت شرائط الدعاء فهو مستجاب قطعاً، وفي غير هذه الحالة ينبغي عدم إنتظار الاستجابة.

السنة الإلهية على أساس الحق

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إلى قَوْمِهمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(2).

هذه الآية تشير إلى أن الله ارسل الأنبياء والرسل إلى أقوامهم وزودهم بالمعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل، ولم يستجب آخرون لها رغم النصائح ﴿فانتقمنا من الذين أجرموا﴾ ونصرنا المؤمنين ﴿وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين﴾.

والتعبير ب_ «كان» التي تدل على أن هذه السنة لها جذر عميق، والتعبير ب_ «حقّاً» وبعده التعبير ب_ «علينا» هو بنفسه مبين للحق ومشعر به، جميع هذه الألفاظ تأكيدات متتابعة في هذا المجال وتقديم «حقاً علينا» على «نصر المؤمنين» الذي يدل على الحصر، هو تأكيد آخر. وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى «إن نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عملياً دون الحاجة إلى نصر من الآخرين».

وهذه الجملة _ ضمناً _ فيها تسلية وطمأنة لقلوب المسلمين، الذين كانوا حينئذ في مكّة تحت ضغوط الأعداء واضطهادهم وكان الأعداء أكثر عَدَداً وعُدَداً.

وأساساً فإنّ أعداء الله طالما كانوا غرقى في الآثام والذنوب، فإنّ ذلك بنفسه أحد عوامل انتصار المؤمنين، لأنّ الذنب سيدمرهم آخر الأمر ويهيء وسائل هلاكهم


1- المؤمن: 60.
2- الروم: 47.

ص: 215

بأيديهم، ويرسل عليهم نقمة الله.

﴿وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاَتِ قَالَ يَقَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَالَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾(1).

يتناول القرآن الكريم قصة لوط وقومه وقسماً آخر من حياة هؤلاء المنحرفين الضالين ليُتابع بيان الهدف الأصلي ألا وهو سعادة المجتمع الإنساني ونجاته باسره. يبين القرآن في هذا الصدد...

أولاً:.. أنّه لما جاءت رسلنا لوطاً طار هلعاً وضاق بهم ذرعاً وأحاط به الهمّ من كل جانب ﴿ولما جاءت رسلنا لوطاً سيىء بهم وضاق بهم ذرعاً﴾.

وقد ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ لوطاً كان في مزرعَته حيث فوجىء بعدد من الشباب الوسيمين الصِباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النّزول عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في مدينته الملوّثة بالانحراف الجنسي من جهة أُخرى، كل ذلك أوجب له الهم...

ومرّت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره، وتحدث مع نفسه ﴿وقال هذا يوم عصيب﴾.

لاحتمال الفضيحة والتورط في مشاكل عويصة كلمة (سيء) مشتقّة من ساء، ومعناها عدم الإرتياح وسوء الحال، و«الذرع» تعني «القلب» على قول، وقال آخرون: معناها «الخُلق» فعلى هذا يكون معنى (ضاق بهم ذرعاً) أنّ قلبه أصيب بتأثر شديد لهؤلاء الأضياف غير المدعوين في مثل هذه الظروف الصعبة.

ولكن بحسب ما ينقله «الفخر الرازي» في تفسيره عن «الأزهري» أنّ الذرع في هذه الموارد يعنى «الطاقة» وفي الأصل معناه الفاصلة بين اذرع البعير أثناء سيره.


1- هود: 79.

ص: 216

الارتداد عن الإسلام باطل

﴿كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إيَمانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(1).

في هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثمّ رفضوه وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص «مرتد».

تقول الآية: ﴿كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرسول حقّ وجاءهم البيّنات﴾.

فالآية تقول: إنّ الله لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الإهتداء، لماذا؟ لأن هؤلاء قد عرفوا النبيّ بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهيّة: ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾.

المراد من «البينات» في هذه الآية القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرم ، والمراد من «الظالم» هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى. ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سبباً في إضلال الآخرين. ثمّ تضيف الآية:

﴿أُولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾.

عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحقّ بعد معرفتهم له، كما هو مبيّن في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.

هؤلاء الأشخاص يكونون في الواقع غارقين في الفساد والإثم إلى درجة أنّهم يُصبحون مورد استنكار كل عاقل هادف في العالم، من البشر كان أم من الملائكة.


1- آل عمران: 86.

ص: 217

الحقُ يعلو ولا يُعلى عليه

﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدتُّنَ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَشَ لِلهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾(1).

يجب أن تقلنَ الحقّ.. هل ارتكب يوسف خطيئة أو ذنباً؟

فتيقّظ فجأةً الوجدان النائم في نفوسهنّ، وأجبنه جميعاً بكلام واحد _ متّفق على طهارته و ﴿قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء﴾.

أمّا امرأة العزيز التي كانت حاضرة أيضاً، وكانت تصغي بدقّة إلى حديث الملك ونسوة مصر، فلم تجد في نفسها القدرة على السكوت، ودون أن تُسأل أحسّت بأنّ الوقت قد حان لأنّ تنزّه يوسف وأن تعوّض عن تبكيت وجدانها وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقّه، وخاصّة أنّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته إلى الملك، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها وكان كلامه عامّاً ومغلقاً تحت عنوان «نسوة مصر».

فكأنّما حدث إنفجار في داخلها فجأةً وصرخت و ﴿قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصادقين﴾.

ثمّ واصلت امرأة العزيز كلامها ﴿ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب﴾ لأنّي عرفت بعد هذه المدّة الطويلة وما عندي من التجارب ﴿أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين﴾.

في الحقيقة ﴿بناءً على أنّ الجملة المتقدّمة لإمرأة العزيز كما يقتضيه ظاهر العبارة﴾ فانّها ومن أجل إعترافها الصريح بنزاهة يوسف وما أخطأته في حقّه، تقيم دليلين:


1- يوسف: 51.

ص: 218

الأوّل: إنّ وجدانها، ويحتمل بقايا علاقتها بيوسف، لا تسمح لها أن تستر الحقّ أكثر من هذا، وأن تخون هذا الشاب الطاهر في غيابه.

الثّاني: إنّ من مشاهدة الدروس المليئة بالعبر على مرور الزمن تجلّت لها هذه الحقيقة، وهي أنّ الله يرعى الصالحين ولا يوفّق الخائنين في مرادهم أبداً.

علائم معرفة الحق والباطل

يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحقّ والباطل _ إذا أشكل عليه الأمر _ إلى علائم وأمثال حتّى يتعرّف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد بيّن القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه.

ألف:_ الحقّ مفيد ونافع دائماً، كالماء الصافي الذي هو أصل الحياة. أمّا الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآناً أو يسقي أشجاراً، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن أن يستفاد منه للزينة أو للإستعمالات الحياتية الأُخرى، وإذا إستخدمت لغرض فيكون استخدامها رديئاً ولا يؤخذ بنظر الاعتبار.. كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.

باء:_ الباطل هو المستكبر والمرفّه كثير الصوت، كثير الأقوال لكنّه فارغ من المحتوى، أمّا الحقّ فمتواضع قليل الصوت، وكبير المعنى، وثقيل الوزن(1).

جيم _ الحقّ يعتمد على ذاته دائماً، أمّا الباطل فيستمدّ اعتباره من الحقّ ويسعى للتلبّس به، كما أنّ ﴿الكذب يتلبّس بضياء الصدق﴾ ولو فقد الكلام الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع إلى شعاعه الخاطف


1- يقول الإمام علي في وصفه أصحابه يوم الجمل «وقد أرعدوا وأبرقوا ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد حتّى نوقع ولا نسيل حتّى نمطر».

ص: 219

واعتباره المؤقّت الذي سرقه من الحقّ، أمّا الحقّ فهو مستند إلى نفسه واعتباره منه.

لذلك كان أهل الباطل دائماً يتلبّسون بالحق ويتظاهرون به وقد نهى القرآن عن ذلك فقال سبحانه: ﴿ولا تلبسوا الحق بالباطل﴾(1).

النهي عن خلط الحق بالباطل

﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُم تَعْلَمُونَ﴾(2).

في هذه الآية ينهى الله سبحانه عن خلط الحق بالباطل كما ينهى عن كتمان الحق: ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

فكتمان الحق، مثل خلط الحق بالباطل ذنب وجريمة، والآية تقول لهم: قولوا الحق ولو على أنفسكم، ولا تشوهوا وجه الحقيقة بخلطها بالباطل وإن تعرضت مصالحكم الآنية للخطر.

روح الدين التسليم للحقّ

«الدِين» في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على «الطاعة» والإنقياد للأوامر، و «الدين» في الإصطلاح: مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والاجتماعية.

«الإسلام» يعني التسليم، وهو هنا التسليم لله. وعلى ذلك، فإنّ معنى ﴿إنّ الدِين عند الله الإسلام﴾: إنّ الدين الحقيقي عند الله هو التسليم لأوامره وللحقيقة. في الواقع لم تكن روح الدين في كلّ الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.


1- البقرة: 42.
2- البقرة: 42.

ص: 220

وإنّما أطلق اسم «الإسلام» على الدِين الذي جاء به الرسول الأكرم لأنّه أرفع الأديان.

وقد أوضح الإمام علي  هذا المعنى في بيان عميق فقال: «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل»(1).

والخلاصة إنّ لكلّ دين سماوي دلائله الواضحة التي لا تترك إبهاماً أمام الباحث عن الحقيقة. فالنبيّ الأكرم  مثلاً _ بالإضافة إلى أنّ المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكّد صدقه _ وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى، ولذلك بشّر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره، ولكنّهم بعد أن بُعث رأوا مصالحهم في خطر، فأنكروا كلّ ذلك، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.

صراع الحق والباطل مستمر

المثال الذي ضربهُ لنا القرآن الكريم في تجسيم الحقّ والباطل ليس مثالا محدوداً في زمان ومكان معينين، فهذا المنظر يراه الناس في جميع مناطق العالم المختلفة، وهذا يبيّن أنّ عمل الحقّ والباطل ليس مؤقتاً وآنياً. وجريان الماء العذب والمالح مستمر إلى نفخ الصور، إلاّ إذا تحوّل المجتمع إلى مجتمع مثالي (كمجتمع عصر الظهور وقيام الإمام المهدي  فعنده ينتهي هذا الصراع، وينتصر الحقّ ويطوي بساط الباطل، وتدخل البشرية مرحلة جديدة من تاريخها، وإلى أن نصل إلى هذه المرحلة فالصراع مستمر بين الحقّ والباطل، ويجب أن نحدّد موقفنا في هذا الصراع.


1- نهج البلاغة: قصار الكلمات، ١٢٠ ، اُصول الكافي: ج ٢ ص ٤٥ مع تفاوت يسير.

ص: 221

الذين استجابوا لدعوة الحقّ

بعدما كشفت الآيات السابقة عن وجهي الحقّ والباطل من خلال مثال واضح وبليغ، أشارت هذه الآية إلى مصير الذين إستجابوا لربّهم والذين لم يستجيبوا لهذه الدعوة واتّجهوا صوب الباطل. تقول أوّلا: ﴿للذين إستجابوا لربّهم الحسنى﴾.

«الحسنى» في معناها الواسع تشمل كلّ خير وسعادة، بدءاً من الخصال الحسنة والفضائل الأخلاقية إلى الحياة الاجتماعية الطاهرة والنصر على الأعداء وجنّة الخلد.

ثمّ تضيف الآية ﴿والذين لم يستجيبوا له لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به﴾.

وعلى أثر هذا الشقاء (عدم قبول ما في الأرض مقابل نجاتهم) يشير القرآن الكريم إلى شقاء آخر ﴿أُولئك لهم سوء الحساب﴾.

الباطل له أشكال مختلفة

﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاَْرْضِ﴾(1).

إنّ واحدة من خصائص الباطل هي أنّه يُغيّر لباسه من حين لآخر، حتّى إذا عرفوه بلباسه يستطيع أن يخفي وجهه بلباس آخر، وفي الآية أعلاه إشارة لطيفة لهذه المسألة، حيث تقول: لا يظهر الزبد في الماء فقط، بل يظهر حتّى في الأفران المخصوصة لصهر الفلزات بشكل ولباس آخر، وبعبارة أُخرى فإنّ الحقّ والباطل موجودان في كلّ مكان كما يظهر الزبد في السوائل بالشكل المناسب لها. وعلى هذا يجب أن لا نُخدع بتنوّع الوجوه وأن نعرف أوجه الباطل ونطرحه جانباً.


1- الرعد: 17.

ص: 222

كيف يطرد الحقّ الباطل؟

«الجفاء» بمعنى الإلقاء والإخراج، ولهذا نكتة لطيفة وهي أنّ الباطل يصل إلى درجة لا يمكن فيها أن يحفظ نفسه، وفي هذه اللحظة يُلقى خارج المجتمع، وهذه العملية تتمّ في حالة هيجان الحقّ، فعند غليان الحقّ يظهر الزبد ويطفو على سطح ماء القدر ويُقذف إلى الخارج، وهذا دليل على أنّ الحقّ يجب أن يكون في حالة هيجان وغليان دائماً لكي يُبعد الباطل عنه.

الباطل مدينٌ للحقّ ببقائه

كما قلنا في تفسير الآية، فلو لم يكن الماء لما وجد الزبد، ولا يمكن له أن يستمر، كما أنّه لولا وجود الحقّ فانّ الباطل لا معنى له ولو لم يكن هناك أشخاص صادقون لما وقع أحد تحت تأثير الأفراد الخونة ولما صدّق بمكرهم، فالشعاع الكاذب للباطل مدين في بقائه لنور الحقّ.

حرمة كتمان الحق

﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَابَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ﴾(1).

سبب نزول هذه الآية:

روى جلال الدين السيوطي عن ابن عباس، أن عدداً من المسلمين أمثال «معاذ بن جبل» و«سعد بن معاذ» و«خارجة بن زيد» سألوا أحبار اليهود عن مسائل في التوراة قد ترتبط بظهور النّبي الخاتم ، فأبى الأحبار أن يجيبوا وكتموا ما عندهم


1- البقرة: 159.

ص: 223

من علم(1).

الآية _ وإن خاطبت كما في أسباب النّزول، علماء اليهود _ غير محدودة بمخاطبيها، بل تبين حكماً عاماً بشأن كاتمي الحق.

وأية خيانة للعالم أكبر من محاولة العلماء كتمان آيات الله المودعة عندهم من أجل مصالحهم الشخصية ولتضليل النّاس.

وعبارة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ إشارة إلى أن هؤلاء الأفراد يصادرون في الواقع جهود الأنبياء وتضحيات أولياء الله الصالحين، وهو ذنب عظيم.

والفعل (يلعن) تكرر في الآية للتأكيد، واستعمل بصيغة المضارع لبيان استمرار اللعن، ومن هنا فإنّ لعنة الله ولعنة اللاعنين تلاحق هؤلاء الكاتمين لآيات الله باستمرار، وذلك أقسى صور العقاب.

«البينات» و«الهدى» لهما معنى واسع يشمل كل وسائل الهداية والتوعية والإيقاظ وإنقاذ النّاس.

مفاسد كتمان الحق

كتمان الحقائق من المسائل التي عانت منها المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ، وكان لها دوماً آثار سيئة عميقة استمرت قروناً واعصاراً. ويتحمل تبعة هذه المساويء دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك الحقائق ويكتمونها.

لعل القرآن لم يهدد ويذمّ فئة كما هدّد وذم هذه الفئة الكاتمة للحقائق. ولم لا؟ فإن عمل هؤلاء يجرّ أجيالا متعاقبة إلى طريق الضلال والفساد، كما أن نشر الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح.


1- لباب النقول في أسباب النزّول، ص ٢.

ص: 224

البشرية تميل للحقائق بفطرتها، وكتمان الحقائق عنها يعني صدّ البشرية عن طريق تكاملها الفطري المرسوم لها.

لو أن علماء اليهود والنصارى أعلنوا ما عندهم من حقائق بشأن النّبي الخاتم ، ونشروا ما جاء في العهدين من بشائر حول رسول الإسلام، لانضوى أهل الكتاب تحت راية الإسلام، ولأصبحوا مع المسلمين أمة واحدة.

كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النّبوة والبشائر بالنّبي الخاتم ، بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع النّاس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.

السكوت في مواضع يجب فيها البيان قد يكون من مصاديق كتمان الحق، وذلك يكون في موارد يحتاج النّاس فيها بشدّة إلى فهم الحقائق ويستطيع العلماء فيها أن يلبّوا هذه الحاجة.

إن القرآن لا يتحدث عن كتمان الحقائق فحسب، بل يتحدث في مواضع اُخرى عن تبيين الحقائق أيضاً، وهذا يرد على أولئك الذين يلتزمون جانب الصمت أمام الانحرافات بحجّة عدم وجود سائل يطرح عليهم سؤالا بشأن تلك الانحرافات.

يقول سبحانه: ﴿وَإذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾(1).

جدير بالذكر أن إلهاءَ النّاس بالمسائل الفرعية، لصرف أنظارهم عن المسائل الأسياسية الحياتية نوع من كتمان الحقائق. إذا لم يشمله فرضاً تعبير «كتمان الحقائق» فهو مشمول حتماً بملاك وفلسفة كتمان الحق.


1- آل عمران: 187.

ص: 225

كتمان الحق في الأحاديث

حملت الأحاديث بشدّة أيضاً على كاتمي الحق، فروي عن رسول الله قال: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ فَكَتَمَ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَام مِنْ نَار»(1).

ونعيد هنا القول أن ابتلاء الناس بمسألة والحاجة الى بيانها يحل محل السّؤال. وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب.

وسُئل الإمام أمير المؤمنين :

«مَنْ شَرُّ خَلقِ اللهِ بَعدَ إبلِيسَ وَفِرعَونَ؟ قَالَ: العُلَمَاءُ إذا فَسَدوا، هُم المُظهِرُونَ لِلأبَاطِيلِ، الكَاتِمُونَ للحَقَائِقِ، وَفِيهِم قَالَ اللهُ عزّ وجلّ: ﴿اُولئك يَلعَنهُم اللهُ ويَلعَنُهُم اللاعِنُونَ﴾(2).

الدعوة إلى الحق ومكافحة الفساد

﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تُكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(3).

هاتان الآيتان تأمران «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» اللذين هما _ في الحقيقة _ بمثابة غطاء وقائي إجتماعي لحماية الجماعة وصيانتها، إذ تقول ﴿ولتكن منكم اُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾.

لأن فقدان «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» يفسح المجال للعوامل المعادية للوحدة الاجتماعية بأن تنخرها من الداخل، وتأتي على كلّ جذورها كما تفعل


1- مجمع البيان، في تفسير الآية.
2- الاحتجاج للطبرسي، نقلاً عن نور الثقلين، ج ٢، ص ١٣٩.
3- آل عمران: 104-105.

ص: 226

الأرضة، وأن تمزق وحدة الأُمة وتفرق جمعها، ولهذا فلابدّ من مراقبة مستمرة ورعاية دائمة لهذه الوحدة، ولا يتم ذلك إلاَّ بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وهذه الآية تتضمن دستوراً أكيداً للأمة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين دائماً، وأن تكون أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر أبداً لأن فلاحها رهن بذلك: ﴿وأولئك هم المفلحون﴾.

يبقى أن نعرف أن «الأُمة» مأخوذة لغة من «الأُم» وهو كلّ ما انضم إليه الأشياء الاُخرى، أو كلّ شيء ضم إليه سائر ما يليه، والأُمة كلّ جماعة يجمعهم أمر جامع إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد لهذا لا تطلق لفظة الأُمة على الأفراد المتفرقين، والأشخاص الذين لا يربطهم رباط واحدٌ.

سؤال:

وهنا يُطرح سؤال وهو: أن الظاهر من جملة «منكم أمة» هو جماعة من المسلمين لا كافة المسلمين، وبهذا لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عامّاً، بل وظيفة دينية تختص بفريق من المسلمين، وإن كان إنتخاب هذا الفريق الخاصّ من مسؤولية المسلمين جميعاً.

وبعبارة أُخرى أن جملة «منكم أمة» ظاهرة في أن هذين الأمرين، واجبان كفائيان لا عينيان.

في حين أن آيات اُخرى تفيد بأنهما عامان غير خاصين بجماعة دون اُخرى، كما في آية لاحقة وهي قوله سبحانه ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾.

أو ما جاء في سورة «العصر»: ﴿إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر﴾ فإن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر في هذه الآيات وما شابهها عامة غير خاصّة.

ص: 227

والجواب:

إن الإمعان في مجموعة هذه الآيات يوضح لنا الجواب، فإنه يستفاد منها أن «للأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» مرحلتان: «المرحلة الفردية» التي يجب على كلّ واحد القيام بها بمفرده، إذ يجب عليه أن يراقب تصرفات الآخرين، و«المرحلة الجماعية» وهي التي تعتبر من مسؤولية الأُمة بما هي أُمة، حيث يجب عليها أن تقوم بمعالجة كلّ الإعوجاجات والانحرافات الاجتماعية، وتضع حدّاً لها، بالتعاون بين أفرادها وأعضائها كافة.

ويعتبر القسم الأول من وظيفة الأفراد، فرداً فرداً، وحيث إن إمكانات الفرد وقدراته محدودة، ولذلك فإن إطار هذا القسم يتحدد بمقدار هذه الإمكانات. فهنا واجب عيني.

وأمّا القسم الثاني فإنه يعتبر واجباً كفائياً، وحيث إنه من واجب الأُمة بما هي أُمة فإن حدوده يتسع ولهذا يكون من واجبات الحكومة الإسلامية.

إن وجود هذين النوعين من مكافحة الفساد، والدعوة إلى الحقّ يعتبران _ بحقّ _ من أهم التعاليم التي تتوج القوانين الإسلامية، كما ويكشف عن سياسة تقسيم الواجبات والوظائف وتوزيع الأدوار في الدولة الإسلامية، وعن لزوم تأسيس «فريق المراقبة» للنظارة على الأوضاع الاجتماعية والمؤسسات المختلفة في النظام الإسلامي.

وقد جرت العادة فيما سبق بوجود أجهزة خاصّة تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى الإجتماعي في البلاد الإسلامية، وقد كانت تسمى هذه الأجهزة تارة باسم «دائرة الحسبة» ويسمى موظفوها بالمحتسبين، وتارة باسم الآمرين بالمعروف، وقد كانت هذه الأجهزة بسبب موظفيها تقوم بمكافحة كلّ فساد في المجتمع، أو كل فساد وظلم في أجهزة الدولة، إلى جانب ما تقوم به من تشجيع الناس على الخير والحثّ على المعروف.

ص: 228

ومع وجود مثل هذه الجماعة بما لها من القوة الواسعة لا يوجد أي تناف بين شمول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها وعلى الفرد بما له من القدرة المحدودة.

تلازم الحق والوظيفة

﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُواْ إصْلاحاً...﴾(1).

هنا يشير القرآن الكريم إلى أصل أساس، وهو أنه كلّما كانت هناك وظيفة ومسؤوليّة كان هناك حقّ إلى جانبها، يعني أنّ الوظيفة والحقّ لاينفصلان أبداً، فمثلاً أنّ على الوالدين وظائف بالنّسبة للأولاد، وهذه الوظائف تسبّب إيجاد حقوق في عهدة الأولاد، أو أنّ القاضي موظّف في تحقيق العدالة في المجتمع ما أمكنه ذلك، وفي مقابل هذه الوظيفة والمسؤوليّة له حقوق كثيرة في عهدة الآخرين، وهكذا بالنّسبة إلى الأنبياء  وأقوامهم.

وفي الآية مورد البحث إشارة إلى هذه الحقيقة حيث تقول إنّ النساء لهنّ من الحقوق بمقدار ما عليهنّ من الواجبات والوظائف، وهذا التّساوي بين الحقوق والواجبات يسهّل عمليّاً إجراء العدالة في حقّهن، وكذلك يثبت عكس هذا المطلب أيضاً فمن جُعل له حقّاً ففي مقابله عليه واجبات ومسؤوليّات لابدّ من أدائها، ولذلك لانجد أحداً له حقّ من الحقوق في أحد الموارد وليست في ذمتّه وظيفة ومسؤوليّة.


1- البقرة: 228.

ص: 229

عانت المرأة خلال العصور التاريخيّة المختلفة ألواناً من الظلم والإضطهاد والتعسّف، ويشكّل هذا التاريخ المؤلم المرّ جزءً هامّاً من الدراسات الاجتماعية بشكل عامّ يمكن تقسيم تاريخ حياة المرأة إلى مرحلتين:

المرحلة الاُولى: مرحلة ما قبل التاريخ، وليس لنا معلومات صحيحة عن وضع المرأة في هذه المرحلة.

المرحلة الثانية: مرحلة التاريخ، والمرأة كانت خلالها في كثير من المجتمعات شخصيّة غير مستقلة في جميع الحقوق الإقتصادية والسياسية والاجتماعية، واستمرّ هذا الوضع في قسم من المجتمعات حتّى القرون الأخيرة.

دينُ حق ومعبود واحد

تتناول الآية موضوع البحث نفي الشرك – باعتباره أمراً باطلاً- تعقيباً لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع، ويبتدأ ب_: ﴿وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنّما هو إله واحد فإيّاي فارهبون﴾(1).

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أيْ: يجب الخوف من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناماً متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها:

1 _ إنّ الآية نفت عبادة اثنين، فكيف بالأكثر؟!


1- النحل: 51.

ص: 230

وبعبارة أُخرى: إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر، وأيُّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لابدّ له أن يمر بالإثنين.

2 _ كل ما يُعبد من دون الله جمع في واحد، فتقول الآية: أن لا تعبدوها مع الله، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 _ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين:

الأوّل: خالق العالم، أيْ الله عزّ وجلّ وكانوا يؤمنون به.

الثّاني: الأصنام، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله، واعتبروها كذلك منبعاً للخير والبركة والنعمة.

4 _ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطيء، إلاّ إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الالهة!

لابد من قلوبٍ مهيأة.. لقبول الحقِّ

لاحظوا المُزارع والفلاّح الذي ينثر البذور، فقد تقع بعض هذه البذور على الأحجار، ومن الواضح أنّ ما يقع على الأحجار والصخور لا ينمو!

وبعض هذه البذور يقع على طبقة رقيقة من التراب الذي يغطّي الصخر، فتثبت هذه البذور وتمدّ جذورها، إلاّ أنّ المكان حيث كان حرجاً لا يساعد على إمتداد الجذور (لكون الأرض صخرية) فما أسرع من أن تجفّ البراعم وتموت الجذور.

ويقع قسم من البذور على أرض ذات تراب صالحة، إلاّ أنّ نبات الشوك والعلف تنمو إلى جانبها، فحتّى لو أورقت تلك البذور إلاّ أنّها ما أسرع أن تغلبها الأشواك وتلتفّ عليها فتموت.

وأحسن هذه البذور حظّاً تلك البذور التي تستقرّ في تربة صالحة ولا تعوقها

ص: 231

نباتات اُخرى.. فلا يمضي زمن حتّى تنبت وتنمو وتورق وتستوي على سوقها وتعطي ثمارها.

فكلمات الحقّ التي تخرج من أفواه الأنبياء ورسل الله وخلفائهم المعصومين كهذه البذور، فالقلوب الصخرية لا تتقبّل هذه الكلمات من الأساس، والقلوب الضعيفة تتقبّلها مؤقتاً ثمّ تعرض عنها، وهناك قلوب مهيّأة للقبول، لكن الأهواء والصفات الرذيلة والشهوات نابتة فيها، وهذه الاُمور تبطل تأثير تلك الكلمات الحقّة.

القلوب _ الوحيدة _ التي تتقبّل كلمات هؤلاء الأئمّة العظام وتنمو فيها وتثمر هي القلوب التي تطلب الحقّ ويحكم عليها البحث عن الحقّ! وخالية من الصفات السلبية والدوافع الدنيوية أيضاً.. وتلك هي قلوب المؤمنين... ﴿فذكّر إنّ الذكرى تنفع المؤمنين﴾.

أشارت الآيات السابقة _ بشكل عابر _ إلى التناقض بين التمسّك بالحقّ وبين الأهواء النفسيّة، وهي إشارة ذات مدلول كبير، حيث تقول: ﴿ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ﴾. وتفسير هذه المسألة ليس صعباً للأسباب الآتية:

الف _ لا شكّ في أنّ أهواء الناس متفاوتة، وقد ينقض بعضها بعضاً، حتّى بالنسبة لشخص واحد فقد تتناقض أهواؤه.

ولو إستسلم الحقّ لهذه الأهواء لنتج عن ذلك الفساد وعمّت الفوضى. لماذا؟

لأنّ كلّ فرد له صنم ومعبود، فلو حكمت هذه الآلهة الكثيرة والمتضادّة هذا العالم المترامي الأطراف، لظهر الفساد وتعمّ الفوضى من جرّاء ذلك، وهذا لا يخفى على أحد.

ب _ إنّ أهواء الناس مع قطع النظر عن تناقضها، فهي تميل نحو الفساد والشرّ ولو سادت الوجود والمجتمع البشري، فالنتيجة لا تكون سوى الفساد والشرّ.

ص: 232

ج _ إنّ الميول والأهواء ذات بعد واحد، ولا تنظر إلى الاُمور إلاّ من زاوية واحدة وتغفل عن بقيّة الأبعاد، ومن المعلوم أنّ أحد العوامل المهمّة في الفساد والخراب هو المنهج ذو البعد الواحد الذي يغفل عن الأبعاد الاُخرى.

والآية محلّ البحث تشبه من بعض جوانبها ما ورد في الآية الثّانية والعشرين من سورة الأنبياء ﴿لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا﴾.

وبديهي أنّ الحقّ كالصراط المستقيم واحد لا نظير له، بينما الأهواء النفسية متعدّدة كأوثان المشركين. فأيّما نتّبع الحقّ أم الهوى؟ أنتّبع الهوى الذي هو مصدر الفساد في السّماء والأرض وفي جميع الموجودات، أم الحقّ الذي هو رمز الوحدة والتوحيد والنظام والانسجام؟ الجواب في غاية الوضوح والإشراق.

الفناء نهاية الباطل

﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقً وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْق وَاجْعَلَ لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطناً نَّصِيراً * وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبطِلُ إنَّ الْبطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾(1).

هناك أمور تتطرق إليها الآية الكريمة أعلاه وهي:

أولاً: العوامل الثّلاثة للإنتصار.

في ميادين الصراع بين الحق والباطل يكون جيش الباطل _ عادةً _ ذا عدّة وعدد أكثر، إلاَّ أن جيش الحق _ بالرغم مِن قلّة أفراده ووسائله الظاهرية _ يحصل على انتصارات عظيمة. ويمكن مشاهدة نماذج مِن ذلك في غزوات بدر والأحزاب وحنين، وفي عصرنا الحاضر يمكن مُشاهدة ذلك في الثورات المُنتصرة للأُمم المستضعفة في مقابل الدول المستكبرة.


1- الإسراء: 80 و 81.

ص: 233

وهذا الأمر يكون سبب تحلّي أنصار الحق بقوّة معنوية خاصّة بحيث تصنع مِن (الإنسان) أُمَّة.

وفي الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى ثلاثة عوامل للإنتصار، العوامل التي ابتعد عنها مسلمو اليوم، ولهذا السبب نرى هزائمهم المتكرِّرة في مقابل الأعداء والمستكبرين.

فعوامل الانتصار الثلاثة كما جاءت في الآية هي:

الصدق والإخلاص والأمانة.

الآية الأخيرة من الآيات _ محل البحث _ في نهاية المطاف تزف البُشرى للمسلمين باستيعاب الإسلام العالم بأسره، وتكمل ما أشارت إليه _ آنفاً _ أن أعداء الإسلام لن يفلحوا في محاولاتهم ومناوآتهم بوجه الإسلام أبداً، وتقول بصراحة: ﴿هو الذي أرسَل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون﴾(1).

والمقصود من الهدى هو الدلائل الواضحة، والبراهين اللائحة الجليّة التي وُجِدَتْ في الدين الإسلامي.

وأمّا المراد من دين الحق، فهو هذا الدين الذي أصوله حقّة وفروعه حقّة أيضاً، وكل ما فيه من تاريخ وبراهين ونتائج حق، ولا شك أن الدين الذي محتواه حق، ودلائله وبراهينه حقّة، وتأريخه حق جلي، لابدّ أن يظهر على جميع الأديان.

وبمرور الزمان وتقدم العلم وسهولة الإرتباطات، فإن الواقع سيكشف وجهه ويطلعه من وراء سُدُلِ الإعلام المضللة، وستزول كل العقبات والموانع والسدود التي وضعت في طريق انتشار الإسلام.

وهكذا فإنّ دين الحق سيستوعب كل مكان، ولا يحول بينه وبين تقدمه شيء أبداً، لأنّ الحركات المضادة للإسلام حركات مخالفة لسير التأريخ وسنن الخلق.


1- التوبة: 33.

ص: 234

المراد «الهدى ودين الحقّ»

هذا التعبير الوارد في الآية محل البحث: ﴿أرسل رسوله بالهدى ودين الحق﴾ بمثابة الدليل على انتصار الإسلام وظهوره على جميع الأديان، لأنّه لمّا كان محتوى دعوة النّبي الهداية، والعقل يدل على ذلك في كل موطن، ولما كانت أصوله وفروعه موافقة للحق، ومع الحق، وتسير في مسيرالحق، ولأجل الحق. فهذا الدين سينتصر على جميع الأديان طبعاً.

وقد جاء عن أحد علماء الهند أنّه سيّر فكره في مطالعة مختلف الأديان فترة من الزمن، وانتهى أمره إلى اختيار الدين الإسلامي من بين جميع أديان العالم، ثمّ نشر كتاباً بالإنجليزية اسمه «لِمَ أسلمتُ؟» وبيّن فيه مزايا الدين الإسلامي على غيره من الأديان.

ومن أهم المسائل التي أثارت انتباهه _ كما يقول _ أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي له تأريخ ثابت محفوظ ويتعجّبُ كيف اختارت أوربا لها ديناً ترى إنَّ من جاء به أجَلّ من الإنسان وتعدّه ربّها، مع أن هذا الدين ليس له تاريخ دقيق(1).

إنّ مطالعة آراء الذين اعتنقوا الإسلام ديناً جديداً وعزفوا عن دينهم السابق، تكشف أنّهم كانوا في منتهى البساطة والغفلة والتضليل، بينما دلتّهم أصول الإسلام وفروعه ذات الأدلّة المحكمة إلى الدين الإلهي البعيد عن الخرافات كلّها، والذي يتجلى فيه نور الحق والهداية.

انتصار المنطق أم إنتصار القوّة؟

هناك كلام بين المفسّرين في كيفية ظهور الدين الإسلامي على سائر الأديان، وهذا الظهور أو الإنتصار في أيّ شكل هو؟


1- المنار، ج ١٠ ، ص 389.

ص: 235

قال بعض المفسّرين: هذا الإنتصار انتصار منطقي استدلالي فحسب، ويقولون بأن هذا الموضوع حاصل فعلا، لأنّ الإسلام من حيث منطقهِ ودلائله لا يقاس به دين آخر.

غير أنّ التحقيق في موارد استعمال مادة «الإظهار» في قوله تعالى: ﴿ليُظهره على الدين كله﴾ يكشف أنّ هذه المادة غالباً ما تستعمل في القدرة الظاهرية والغلبة المادية، كما جاء في قصّة أصحاب الكهف: ﴿إنّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم﴾(1) وكما نقرأ في شأن المشركين ﴿كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّة﴾(2).

فمن البديهي أنّ الغلبة في مثل هذه الموارد ليست غلبة منطقية، بل هي غلبة عينية وفعلية، وعلى كل حال فمن الأفضل والأكثر صحة أن نعتقد بأنّ هذا الظهور والغلب ظهور مطلق _ من جميع الجوانب _ لأنّه ينسجم ومفهوم الآية التي هي مطلقة من جميع الجهات أيضاً، فيكون المعنى أنّه سيأتي يوم ينتصر فيه الإسلام انتصاراً منطقياً وانتصاراً ظاهرياً، في امتداد سيطرته ونفوذه المطلق، وحكومته العامّة على جميع الأديان، وسيجعل جميع الأديان تحت شعاعه.

إنّ الآية _ محل البحث _ عينها وبالألفاظ ذاتها، وردت في سورة الصف، كما وردت في أُخريات سورة الفتح باختلاف بسيط.

والآية تخبر عن حدث مُهِمّ كبير استدعت أهميته هذه أن تتكرر الآية في القرآن، وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية هو استيعابُ الإسلام للعالم بأسرهِ.

وبالرغم من أن بعض المفسّرين فسر الإنتصار _ في الآية محل البحث _ انتصاراً في منطقة معينة ومحدودة، وقد حدث ذلك فعلا في عصر النّبي  أو ما بعده من العصور للإسلام والمسلمين، إلاّ أنّه مع ملاحظة أن الآية مطلقة لا قيد فيها لا شرط،


1- الكهف: 20.
2- التوبة: 8.

ص: 236

فلا دليل على تحديد المعنى، فمفهوم الآية انتصار الإسلام كليّاً _ ومن جميع الجهات _ على جميع الأديان، ومعنى هذا الكلام أنّ الإسلام سيُهيمن على الكرة الأرضية عامّة، وسينتصر على جميع العالم.

ولا شك أن هذا الأمر لم يتحقّق في الوقت الحاضر، لكنّنا ندري أن هذا وعد من قبل الله حتمي وأنّه سيتحقق تدريجاً، فسرعة انتشار الإسلام وتقدمه في العالم، والاعتراف الرسمي به من قبل الدول الأوروبية المختلفة ونفوذه السريع في أفريقياو أمريكا، وإعلان كثير من العلماء والمفكرين اعتناقهم الإسلام، كل ذلك يشير إلى أنّ الإسلام أخذ باستيعاب العالم.

إلاّ أنّه طبقاً للرّوايات المختلفة الواردة في المصادر الإسلامية، فإنّ هذا الموضوع إنّما يتحقق عند ظهور المهدي  فيجعل الإسلام عالمياً.

روايات حول ثورة المهدي 

هنا نذكر بعض الروايات التي تشير إلى انتصار الحق بظهور الإمام المهدي أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.

ففي رواية عن الإمام الباقر  في تفسير مجمع البيان في تفسير ذيل الآية ﴿إن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ «هم أصحاب المهدي في آخر الزمان».

وجاء في تفسير القمّي في ذيل هذه الآية: ﴿إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ قال: «القائم وأصحابه».

لا يخفى أنّ معنى هذه الرّوايات ليس الحصر، بل هو بيان مصداق عال وواضح، وقلنا مراراً: إنّ هذه التفاسير لا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقاً، وبناءً على هذا ففي كلّ زمان، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فإنّهم سينتصرون عاقبة الأمر، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.

وإضافة إلى الرّوايات الواردة آنفاً في تفسير هذه الآية، فقد رويت روايات كثيرة

ص: 237

جدّاً (بلغت حدّ التواتر) عن الرّسول  وأئمّة أهل البيت ، وعن طريق السنّة والشيعة، في شأن المهدي ، وكلّها تدلّ على أنّ حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين، وإنّ رجلا من أهل بيت النّبي  يقوم فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً.

ومن جملة الرّوايات الحديث المعروف عن النّبي ، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلامية: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلا (صالحاً) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً».

وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع إختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنّة(1).

ينقل العلامة الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) الآية محل البحث عن الإمام الباقر  أنّه قال: «إنّ ذلك يكون عند خروج المهدي، فلا يبقى أحدٌ إلاّ أقرّ بمحمّد ».

كما ورد في التّفسير ذاته عن النّبىّ  أنّه قال: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا بر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام».

كما أن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه روى عن الإمام الصادق  في تفسير هذه الآية _ في كتابه إكمال الدين _ أنّه قال: «والله ما نزل تأويلها بعدُ،ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم»(2).

نكتفي بهذا القدر من الروايات وإن كانت كثيرة جداً في هذا المجال.

لكن نذكر هذه القضية.

فقبل بضعة أعوام وجّه شخص من كينيا _ يدعى أبا محمّد _ سؤالا إلى رابطة العالم الإسلامي في شأن المهدي المنتظر «عجّل الله فرجه الشّريف».


1- راجع منتخب الأثر و(نور الأبصار).
2- نورالثقلين، ج ٢، ص 211.

ص: 238

فأجابه مدير الرّابطة، محمّد صالح القزاز، بردٍّ يتضمّن تصريحاً بأنّ ابن تيميّة يؤمن بالاحاديث الواردة في شأن المهديّ أيضاً، وقد كتب هذه الرسالة خمسة علماء معروفين من أهل الحجاز جواباً على سؤال أبي محمّد الكيني.

وقد ورد في هذه الرسالة بعد ذكر اسم المهدي  ومحل ظهوره «مكّة» مايلي:

«عند ظهوره يكون العالم مليئاً بالفساد والكفر والجور، فيملأ الله به «المهدي» العالم عدلا كما ملىء ظلماً وجوراً، وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين أخبر عندهم النّبي  في كتب الصحاح.

وهنا بعض الروايات الشريفة التي تؤكد ان حكومة المهدي هي حكومة الحق المنتظرة.

1- سأل بعضهم الإمام الصّادق : ما تقول في رجلٍ موالٍ للأئمّة  وينتظر ظهور حكومة الحق، ثمّ يموت وهو على هذه الحال؟!

فقال الإمام الصادق : هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه. ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: هو كمن كان مع رسول الله (1).

2- كما ورد في روايات متعددة أن انتظار مثل هذه الحكومة الحقة من أفضل العبادات، وهذا المضمون ورد في بعض أحاديث النّبي  وكلام الإمام أمير المؤمنين علي .

فقد ورد عن النّبي  أنّه قال: «أفضل أعمال أُمّتي إنتظار الفرج من الله عزّ وجلّ»(2).

وقال  في حديث آخر: «أفضل العبادة انتظار الفرج»(3).


1- محاسن البرقي، طبقاً لما ورد في البحار، الطبعة القديمة، ج ١٣ ، ص 136.
2- الكافي، حسب ما جاء في البحار، ص 136-137.
3- المصدر السابق.

ص: 239

نتيجة البحث

بعد الانتهاء من بحث في الحقّ والباطل نتوصل إلى النتيجة التالية:

إنّ الصراع بين الحق والباطل موجود منذ أن خلق الله الإنسان، قال عزّ وجلّ: ﴿يا آدمُ إنّ هذا عدوٌ لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنّة فتشقى﴾(1). ومنذ تلك اللحظة ابتلى الإنسان بكيد الشيطان، وصراعه معه، وما زال الشيطان يكيد لآدم حتّى هبط لهذه الدنيا، وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض، يقول الله عزّ وجلّ ﴿بعضكم لبعض عدوّ...﴾(2)، وبعد هبوط آدم وحواء إلى الأرض، ظلت أجيال من الناس على الهدى قرون طويلة يتوارثون الهدى والايمان عن أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام كما جاء في تفسير قول الله عزّ وجلّ في سورة البقرة: ﴿كان الناس امّةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين...﴾(3)، قال ابن عباس: «كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» وهكذا جاء في قراءة ابن مسعود واُبي بن كعب ﴿كان الناس امةً واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين


1- طه: 113.
2- البقرة: 36.
3- البقرة: 213.

ص: 240

ومنذرين﴾ وهذا أحد الاوجه في تفسير الآية، وبناءً عليه نستطيع أن نقول: ان الأجيال التالية لآدم ظلت وفية للحق وللتوحيد الذي تلقته عن أدم  حتّى أثر فيهم هذا الشيطان، فانحرفوا عن التوحيد، واندرست معالمه، فاحتاج الأمر إلى بعثة نبي يجدد الإسلام والتوحيد فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

وبعد بعثة هؤلاء الرسل  صارت الخصومة بين الرسل وأتباعهم، وبين أعداء الرسل من الشيطاين وأتباعهم، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً من المجرمين...﴾(1) فما من نبي يُبعث إلا ويتصدى له أعداء من المجرمين، ويضعون العراقيل في طريقه ويعترضون عليه بمختلف الوسائل، ويقول الله عزّ وجلّ: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً شياطين الإنس والجن يوصي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربُّكَ ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولِتَصْغىٰ إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وليقترفوا ما هم مقترفون﴾(2).

وبعد بعثة النبيّ الخاتم  انحصرت الخصومة بين أتباع النبي  وبين أعداءه، فالنبي كان له أعداء كثيرون من المجرمين، ومن الأكابر ﴿كذلك جَعَلْنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون﴾(3)، وما أبو جهل، وعتبة، وأبو لهب، وشيبة، وغيرهم إلا أمثلة ونماذج لأعداء الرسل .

ثم الذين يحاربون دعوته  عبر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وبالمقابل بعد وفاة النبي  أولياءه: هم العلماء الذين ورثوا هَديهِ، وتراثه، يقول : (إنّ العلماء ورثة الأنبياء) رواه، أبو داود والترمذي، وابن ماجة، والدارمي، واحمد، وبيّن الله عزّ وجلّ أن هذه الأمة سيوجد فيها من يحمل الرسالة،


1- الفرقان: 3.
2- الأنعام: 112-113.
3- الأنعام: 123.

ص: 241

فكلما جاء جيل قيّض الله تعالى منهم من يحمل الراية. ويقيم الحجة على أهل هذا العصر، ولهذا يقول عزّ وجلّ في محكم التنزيل: ﴿وممن خلقنا أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون﴾(1) والاسم الخاص الذي ميّز الرسول  به هؤلاء هو: الطائفة المنصورة، قال : «لا تزال طائفة من أمّتي منصورين لا يضرّهم من خذلهم حتّى تقوم الساعة» رواه الترمذي، وابن ماجة، واحمد، يهدون بالحق وبه يعدلون.

ويقابلهم اعداء الرسل يُحاربونهم ويضعون في طريقهم الأذى والشوك، فلا يضرُّنهم إلا بالتعب، والجهد ﴿لن يضرُّكم إلا أذىً وان يقاتلوكم يولوكُم الأدبار ثم لا يُنصرون﴾(2).

وهنا نُريد أن نُلقي الضوء على بعض المسائل المهمة التي وردت في شأن الخصومة بين الحق والباطل في الأيات والأحاديث:

المسألة الأولى: وهي مهمة للمسلم في هذا العصر: حركة الصراع بين الحق والباطل وفيها ملاحظات:

الملاحظة الأولى: هي الرابطة الوثيقة التي يتناصر بها اعداء الرسل: يقول تبارك وتعالى: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً شياطين الإنس والجن﴾ كل هؤلاء مصنفون في اعداء الأنبياء، ثم قال تعالى: ﴿يُوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً﴾(3).

ويقول عزّ وجلّ: ﴿المنافقون والمنافقات بعضُهم من بعضٍ﴾(4) وقوله جلّ وعلا: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض﴾(5)،


1- الأعراف: 181.
2- آل عمران: 111.
3- الأنعام: 112.
4- التوبة: 67.
5- المائدة: 51.

ص: 242

فأعداء الرُسل اعداء الإسلام يتناصرون بمقتضى العداوة وقد يكون بينهم من الخلاف، والصراع الشيء الكثير لكنهم حيث يواجهون الإسلام يكونون صفاً واحداً... فاليهود والنصارى مثلاً: بينهم عبر التاريخ خصومات طويلة، ومع ذلك يقول الله عزّ وجلّ: ﴿بعضهم أولياء بعض...﴾(1) يعني في حرب الإسلام: ومواجهته ينسون خصومتهم الداخلية، والفرعية، ويوحدون الوجهة ضد الإسلام وأهله وهذا أمر ملحوظ في ولاية اعداء الرسل بعضهم لبعضٍ. وهذا يوجب على حملة الإسلام أنّه لابد ان يكونوا أولياء بعضهم لبعضٍ أيضاً، وهناك فرق أساسي: بين ولاية الكافرين، وولاية المؤمنين: فولاية الكافرين مبناها على التعصب والهوى؛ لذلك يقول جلّ وعلا: ﴿المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض...﴾(2)، وكلمة من يقابلها في الآية الأخرى: ﴿المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾(3)، وبادي الرأي قد يخيل للإنسان أن كلمة: (من) هنا أبلغ، فكي عبر عزّ وجلّ عن علاقة المنافقين بأنّ بعضهم من بعض وأما علاقة المؤمنين بعضهم أولياء بعض؟

والجواب أن جملة بعضهم من بعض توحي بوحدة الاهداف والصفات والأعمال، ولكنّها تشير ضمناً إلى أنّهم يفتقدون إلى روح المودة والولاية بعضهم لبعض، بل إنّهم إذا شعروا في أي وقت بأن منافعهم ومصالحهم الشخصية قد تعرضت للخطر فلا مانع لديهم من خيانة حتّى أصدقائهم فضلاً عن الغرباء، بعكس المؤمنين أن ولاية بعضهم ثابتة وحقيقة لا تتأثر بالمصالح الشخصيّة.

الملاحظة الثانية:

ملاحظة التلبيس الذي يحدثه أعداء الرسل:


1- المائدة: 51.
2- التوبة: 67.
3- التوبة: 71.

ص: 243

لاحظ قوله تعالى: ﴿شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زُخرف القول غروراً...﴾(1) إذن هناك مؤامرة عالمية، ليست جديدة كما يتصور البعض... وقد تطورت الآن، وأخذت شكلاً جديداً، واسلوباً جديداً، وبعداً جديداً، لكنها قديمة، وهي الحرب الاعلامية ضد الإسلام، وحملته، وحملة السنة، والتي تشوه الحق وتلبسه لبوس الباطل، وتلبس الباطل لبوس الحق بتزيين الألفاظ وزخرف العبارات، وزخرف القول، لذلك يقول القائل: في زخرف القول تزيين لباطله والحقّ يعتريه سوء تعبير.

فالآية توضح الجهد الذي يبذله أهل الباطل في تزيين باطلهم، وفي تشويه الحق ﴿يوحي بعضه إلى بعض زخرف القول غروراً...﴾(2)، ولذلك نجد الحملة الاعلامية العالمية اليوم ضد الإسلام، فتسمى: بالأصوليين مثلاً، أو المتشددين، أو المتطرفين... وغير ذلك من العبارات التي تبثها وكالات الاعلام العالمية، وتتناقلها حتّى الإذاعات والصحافة في البلاد الإسلامية على أنّها عبارات دارجة، ويصبح هؤلاء: أصوليون، ومتشدّدون، ومتطرّفون.. إلى غير ذلك من العبارات التي يلبسون بها على الحق بالباطل.

مثال آخر: قضية الادب والشعر وغير ذلك من الوسائل المهمة في كثير من البلاد الإسلامية اصبحت وسائل للهدم والتخريب، وتهييج الغريزة والجنس والاثارة، إضافة ألوان كثير من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، وأعداد هائلة من الدواوين الشعرية التي تسير في اتجاه زخرفة الباطل وتلبسه بالحق، وهذا يؤكد أن الكلمة من أخطر ميادين الصراع بين الأنبياء واعداءهم فكلمة الحق لها وقع كبير، وبالمقابلة كلمة الباطل لها تأثير كبير، وأهل الباطل يعملون على زخرفة باطلهم بالعبارات الرنانة،


1- الانعام: 112.
2- الانعام: 112.

ص: 244

والكلمات المعسولة، والذين ينخدعون بهذه الأشياء هم من قال الله فيهم: ﴿ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون﴾(1)، إذن لا تُروج هذه الأشياء إلا إذا كان هناك خواء روحي وعقلي، فتُصبح الشعوب مستعدة لتلقي هذا الزخرف من القول، ولو كان عند الناس وعي ما تأثروا بهذا الباطل.

وهذا مما يؤكد على أنّه لا بد لحَمَلة رسالة الإسلام أن يستفيدوا من أجهزة الاعلام مقروءة، أو مسموعة أو مرئية في الدعوة إلى الحق وحمايته، ونشره وبناء الفضيلة والاخلاق، ولابد أن يستفيدوا من الوسائل الأدبية: كالقصة والمقالة، والقصيدة في الوصول إلى كافة الناس من جميع الطبقات وإيصال الحق اليهم.

لأن الحق لابد ان يصل لكل أُذن بقدر المستطاع، والله تبارك وتعالى قد بيّن الصراع في ناحية الكلمة، فقال: ﴿ضرب الله مثلاً كلمةً طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربّها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة، اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار﴾(2).

فالكلمة الطيبة تقارع الكلمة الخبيثة، ولابد أن تُقال في كل ميدان، وبكل وسيلة حتّى تفعل هذه الكلمة الطيّبة فعلها.

الملاحظة الثالثة:

هي ثبات الحق ورسوخه وانتصاره وطيشان الباطل وزواله: وهذا ظاهر بيّن يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبيٍّ عَدوّاً من المجرمين وكفى بربِّك هادياً ونصيراً﴾(3).


1- الانعام: 113.
2- إبراهيم: 24-26.
3- الفرقان: 31.

ص: 245

وجملة ﴿كفى بربك هادياً ونصيراً﴾ اشارة إلى أن الله تعالى ينصر المهتدين، ويؤيدهم، ويحفظهم. وقال تعالى ﴿وكذلك جعلنا لكلِّ نبيّ عدواً شياطين الإنس والجن﴾ ثم عقّب ذلك بقوله تعالى: ﴿وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلماته...﴾(1) أي صدق في الإخبار، وعدل في الأحكام، وفي الآية الثالثة قال جلّ وعلا: ﴿ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلُها ثابت وفرعها في السماء﴾(2)، ولما ذكر الكلمة الخبيثة قال: ﴿اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار﴾(3).

والطائفة التي تحمل الحق سماها الرسول : الطائفة المنصورة، اشارة إلى أن النصر حليفهم في النهاية، طال الزمن أو قصر ولما قال عزّ وجلّ: ﴿الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت...﴾(4)، وهذا نموذج من الخصومة بين الحق والباطل، والخصومة، قد تكون فكرية، وقد تكون في ميدان القتال ثم عقّب بقوله سبحانه: ﴿فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشطان كان ضعيفاً﴾(5).

لذلك نقطع بأنّه: إذا وُجدت معركة حقيقة بين الحق والباطل، ووجد للحق حماته الذين يدافعون عنه وهم موجودون لا محالة كما أخبر رسول الله  فان العاقبة ستكون للحق وأهله.

قال ورقة بن نوفل للنبي  أول ما بُعث: «ليتني أكونُ حيّاً إذ يخرجوك قومك فقال رسول الله  أمُخرجيَّ هم قال: نعم لم يأت رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودِيَ وإن يُدركني يومَك أنصرك نصراً موزراً» رواه البخاري ومسلم، وأحمد، وهذا الذي


1- الأنعام: 115.
2- إبراهيم: 26.
3- إبراهيم: 26.
4- النساء: 76.
5- النساء: 76.

ص: 246

حدث فعلاً حيث أُخرج النبي  فخرج حزيناً فلما وصل إلى الحزورة، وهو بقلب حزين دمعت عيناه  وقال يخاطب مكة: «والله إنّك لخير أرض الله وأحبُّ ارض الله إلى الله ولولا أنّي أُخرجتُ منك ما خرجت» رواه الترمذي، وابن ماجة، والدارمي، واحمد. فالطريق شاق وطويل ويحتاج إلى جهاد دائم وحملة رسالة الإسلام، والله تعالى يؤيد هذا الجهاد ولذلك قال: ﴿وترجون من الله ما لا يرجون﴾(1)، ويبارك فيه ولو كان قليلاً المهم أن يبذل الإنسان ما يستطيع.

المسالة الثانية والأخيرة وهي ميدان الصراع بين الحق والباطل:

فالصراع بين الحقِّ والباطل له ميدانان.

الميدان الأول: هو ميدان النفس البشرية، فالإنسان قابل للهدى والضلال: ﴿ونفسٍ وما سوّاها * فألهما فجورها وتقواها﴾(2)

و﴿إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً﴾(3)، فالإنسان حين يكون خيّراً لا يعني أنّ عناصر الشرّ زالت منه بالكلية بل النفس الآمرة بالسوء موجودة، وكيد الشيطان موجود ولذلك قد يخطئ المستقيم، أو يضل، أو ينحرف عن هذا الطريق أو يتركه حيناً ثم يعود إليه وبالمقابل الإنسان المنحرف والضال لا يعني أنّه أصبح شيطاناً رجيماً، فقد يستقيم ويهتدي للخير بل وحتى حين يكون مصراً على الشرّ الذي هو فيه لا تظن أبداً أنّه لا تثور في نفسه نوازع الخير...

فقد ذُكر أناس قضوا زماناً في ميادين الشرّ والفساد: أن قلوبهم أحياناً تغلي بمراجل الهم والندم والحزن والرغبة في الإقلاع.

والمؤمن قد يعصي ولكنه لا يمكن ان يفرح بهذه المعصية ويطمئن إليها بل لابد ان


1- النساء: 104.
2- الشمس: 7-8.
3- الإنسان: 3.

ص: 247

يوجد في قلبه ندم على هذه المعصية، ولذلك يقول تبارك وتعالى في صفة المؤمنين: ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أوْ ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولَمْ يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾(1)، وقال النبي : «إنّ للشيطان لَمَّة بابنِ آدم وللملك لَمَّة فأما لَمَّة الشيطان فايعاد بالشر وتكذيب بالحقِّ وأما لَمَّة الملِك فايعاد بالخير وتصديق بالحق» رواه الترمذي. والإنسان الطيب لا يخلو من وجود شيء من الشرّ يحتاج إلى مدافعة وازالة ومقاومة ولذلك لابد من مجاهدة النفس.

وبالمقابل الإنسان الشرير لا يوجد فيه ما يدعو لليأس منه، أو اعتقاد أنّه لا خير فيه، رب كلمة توافق قلباً فتدخل فيه، وتغيره رأساً على عقب.

فأما اليأس من النفس فإنه من مداخل الشيطان العظيمة على النفس...

الميدان الثاني:

هو صراع عبر المجتمع، فالجهاد في ميدان النفس لا ينتهي، لكن الذين يجاهدون أنفسهم؛ منهم: من ينجح في هذا الجهاد فيكون من أهل الخير، ودعاة الإسلام، ومنهم من يفشل في هذا الجهاد، ولا يجاهد أصلاً، فيكون من أهل الشرّ الذين عرفوا الحقَّ ورفضوه، أو لم يعرفوه أصلاً، وهنا يوجد الصراع بين هؤلاء وهؤلاء في الميدان الكبير، ميدان المجتمع وهذا هو المبدأ الأخير للمعركة بين الحق والباطل، وبين الشيطان وبين الرسل وأتباعهم، ولذلك حرص الإسلام على تحصين المجتمعات من عوامل الفساد، حتّى لو وجد فساد على مستوى فردي، فالإسلام حريص على أنّه لا ينتشر بحيث يُلِّوث البيئة.

علي الجبوري

16 بهمن / 1388ش.

المصادف 20 صفر / 1430ه_


1- آل عمران: 135.

ص: 248

ص: 249

المصادر

القرآن الكريم.

1.أسباب النزول، الواقدي.

2.الاحتجاج، الطبرسي، تعليق وملاحظات: السيد محمد باقر الخرسان، سنة الطبع: 1386 – 1966م، الناشر: دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف.

3.الإرشاد، محمّد بن محمّد النعمان المفيد. تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، الطبعة: الثانية 1414 - 1993 م، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

4.الإصابة، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الطبعة: الأولى، 1415، الناشر: دار الكتب العلمية. بيروت.

5.الأكاذيب الأعاجيب للعلامة الفقيد الشيخ محمّد جواد البلاغي.

6.البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد الحسيني البحراني، الطبعة الثانية، قم، دار الكتب العلمية، 1393ه .

7.التوراة – سفر التكوين- الباب الرابع.

8.الزهد ابن المبارك.

9.الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الطبعة: الخامسة، 1363 ش، الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران.

10.المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، تصحيح وتعليق: السيد جلال الدين الحسيني، سنة الطبع: 1370 - 1330 ش، الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران.

ص:250

11.بحار الأنوار. المجلسي، الطبعة: الثانية المصححة، 1403 - 1983 م، الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت – لبنان.

12.تفسير أبي الفتوح الرازي، الطبعة الثالثة.

13.تفسير اسمى هابيل وقابيل، أبو الفتوح الرازي.

14.تفسير الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي.

15.تفسير البحر المحيط، أبي حيان الأندلسي، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، الطبعة: الأولى، 1422 - 2001م، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت.

16.تفسير الصافي، الطبعة: الثانية، رمضان 1416 - 1374 ش، الناشر: مكتبة الصدر – طهران.

17.تفسير القرطبي، تحقيق: تصحيح: أحمد عبد العليم البردوني، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان.

18.تفسير المنار.

19.تفسير الميزان، محمّد حسين الطباطبائي، الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة.

20.تفسير روح البيان.

21.تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لما ورد في نور الثقلين.

22.تفسير في ظلال القرآن، سيد قطب.

23.تفسير مجمع البيان، الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، الطبعة: الأولى، 1415 - 1995 م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت – لبنان.

24.تفسير منهج الصادقين.

25.تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، تصحيح وتعليق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، الطبعة: الرابعة، 1412 - 1370 ش، الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع – قم.

26.شرح تنقيح الفصول للقرافي.

ص: 251

27.صحيح البخاري، سنة الطبع: 1401 - 1981 م، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

28.عيون أخبار الرضا طبقاً لرواية تفسير نور الثقلين.

29.لباب النقول في اسباب النزول.

30.لسان العرب، ابن منظور، سنة الطبع: محرم 1405، الناشر: نشر أدب الحوزة - قم – ايران.

31.معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، سنة الطبع: 1379 - 1338 ش، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

32.مجلة (المشرق) المسيحية العدد التاسع والعدد الرابع عشر السنة الخامسة.

33.مجمع الزوائد. الهيثمي، سنة الطبع: 1408 - 1988 م، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت – لبنان.

34.مسند أحمد بن حنبل، الناشر: دار صادر - بيروت – لبنان.

35.مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهانى، الطبعة: الثانية، 1404، الناشر: دفتر نشر الكتاب.

36.منتخب الأثر.

37.نهج البلاغة، وهو ما جمعه السيد الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  طبعة جديدة مصححة ومنقحة، الطبعة: الأولى، 1412 - 1370 ش، الناشر: دار الذخائر - قم – ايران.

38.نور الأبصار.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.