مكانه اهل البيت عليهم السلام في القرآن

اشارة

سرشناسه : معارف ، مجيد، ‫1332 -

عنوان قراردادي : بررسي جايگاه اهل بيت عليهم السلام در قرآن .عربي

عنوان و نام پديدآور : مكانة اهل البيت عليهم السلام في القرآن/ تاليف مجيد معارف؛ ترجمه عبدالرضا شالچيان.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر ‫، 1434 ق. ‫= 1392.

مشخصات ظاهري : ‫ 78 ص. ‫؛16/5×12س م.

شابك : ‫ 10000ريال ‫ : ‫ 978-964-540-444-2

وضعيت فهرست نويسي : فاپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : خاندان نبوت در قرآن

شناسه افزوده : شالچيان، عبدالرضا، ‫1337 - ، مترجم

رده بندي كنگره : ‫BP104 /خ2 ‫ م56043 1392

رده بندي ديويي : ‫ 297/159

شماره كتابشناسي ملي : 3160609

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ديباجه

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين الذين أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً

بيّنَ الرسول الأعظم (ص) وأكّد في أحاديثه الش-ريفة مراراً وتكراراً أنّ السبيل الوحيد لصَون الأمّة الإسلامية من الانحراف والزّيغ هو تمسّك أفرادها بالثّقليْن، ولذلك فهو (ص) لم يَكتف بتفسير الثّقل الأكبر وبيان مقوّماته بل أوضح للمسلمين كافّة خصائص الثّقل الآخر - والمتمثّل بعترته الطاهرة - وعرّف لهم ملامحه وأشارَ إلى فضائل آل بَيته ومناقبهم، فسارع علماء الأمّة إلى تأليف الكُتب وتصنيف الرّسائل ذاكرين فيها فضائل آل البيت (عليهم السلام) وآثارهم القيّمة فازدانت خزانة الكتب الإسلامية

ص: 6

بوجودها على رفوفها.

وفي الصفحات التالية من هذا الكتاب يسعى الباحث الدكتور مجيد معارف إلى تقديم شرح إجمالي عن هذه الفضائل وتلك المناقب في ضوء كتاب الله وسنّة رسوله (ص) ، آملين أن يزرع هذا العمل الألفة والمودة في نفوس المسلمين وقلوبهم تجاه الثقلين: القرآن والعترة الطاهرة.

انه ولي التوفيق

معهد الحج والزيارة

قسم الكلام والمعارف

ص: 7

مقدمة

يفيد حديث الثقلين الذي اتّفق الشيعة والسنّة على تصحيحه: أنّ رسول الله (ص) خلَّف في الأُمّة أمانتين، هما: القرآن وعترته، وأنه علَّق (ص) هداية الأُمّة بالرجوع إليهما (1) . أمّا كون القرآن هُدىً للمتّقين، فممَّا لا يشكّ فيه مسلم؛ لأنّ القرآن هو البيِّنة الخالدة للنبيّ الأكرم (ص) ، والهادي الذي لا يضلّ أبداً.

ولكن مَنْ هم أهل البيت؟ وما هي شؤونهم من الناحية السياسيّة والمعنويّة، بحيث أصبحوا - بناءً على حديث الثقلين - عدل القرآن، وعُلِّقت على إرشاداتهم وعلى قيادتهم


1- قال (ص) : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» .

ص: 8

هداية القرآن؟

نحاول في هذا الكتاب، بالاستفادة من القرآن الكريم والأخبار المعتبرَة، الواردة في شأن نزول الآيات أو توضيحها أن نضع بين يدي القارئ الكريم معلومات حول مصاديق أهل البيت، وأنْ نوضّح بشكل خاصّ رأي القرآن الكريم حول إمامة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) وولده الطاهرين.

ولا تتّضح أهمّية هذه الأبحاث إلّا إذا أخذنا بنظر الاعتبار:

أوّلاً: أنّ الإمامة تُعدّ أهمّ أصل اعتقاديّ.

ثانياً: أنّ أسماء أئمَّة المذهب لم ترِد في القرآن الكريم.

ص: 9

خلفية السؤال حول الأئمة:

يُفهم من بعض الروايات أنّ السؤال عن الإمامة وأسماء الأئمّة (عليهم السلام) كان مطروحاً بين المسلمين في العصور الإسلامية الأولى وفي حياة الأئمّة أنفسهم.

فعلى سبيل المثال، روى الكليني \ في كتابه (الكافي) حديثاً عن أبي بصير، أنّه قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن قول الله عزّوجلّ: أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: 5٩) ، فقال: نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) ، فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يُسمِّ عليّاً وأهل بيته (عليهم السلام) في كتاب الله عزّ وجلّ؟ فقال: قولوا لهم: إنّ رسول الله (ص) نزلت عليه الصلاة ولم يُسمِّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً،

ص: 10

حتّى كان رسول الله (ص) هو الذي فسَّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة، ولم يُسمِّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهم، حتّى كان رسول الله (ص) هو الذي فسَّر ذلك لهم، ونزل الحجّ فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً، حتّى كان رسول الله (ص) هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: 5٩) ، ونزلت في عليّ والحسن والحسين، فقال رسول الله (ص) في عليّ: مَن كنت مولاه، فعليٌّ مولاه.

وقال (ص) : أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإنّي سألت الله عزّ وجلّ أن لا يُفرِّق بينهما حتّى يوردهما عليَّ الحوض، فأعطاني ذلك، وقال: لا تعلّموهم فهم أعلم منكم. وقال: إنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة. فلو سكت رسول الله (ص) ، فلم يبيِّن مَن أهل بيته، لادّعاها آل فلان وآل فلان. (1)

يظهر من هذا الحديث، أنّ الإمام الصادق (ع) ضمَّن إجابته لسؤال أبي بصير الإشارة إلى موضوع مهمّ آخر، وهو: الطبيعة


1- الكافي، ج١، ص٢٨٧.

ص: 11

الإجمالية للقرآن من جهة، ولزوم الرجوع إلى التفسير وسُنّة الرسول (ص) في فهم مجمَلات القرآن من جهة أُخرى.

وهذه - الطبيعة الإجمالية للقرآن - حقيقة يجب أن يُلتفت إليها في كلّ العصور، وليس في عصر النبيّ (ص) والأئمّة (عليهم السلام) فحسب.

ص: 12

ص: 13

الطبيعة الإجمالية للقرآن

القرآن كتابٌ تحدّث في الموضوعات المختلفة: الاعتقاديّة، والأخلاقيّة، والتأريخيّة، و. . . وألْفَت أنظار مخاطبيه إلى مسائل مهمّة. ومن الواضح أنّ حديث القرآن في كثير من المجالات عامّ ومجمَل، فيتطلّب تبييناً وتفسيراً.

ولا يعدّ هذا نقصاً في القرآن أبداً (1) ؛ لأنّ من غير المتوقَّع من كتاب يشتمل على حقائق وأسرار الوجود كافّة، أنْ يعرض موضوعاته كلّها بشكل تفصيليّ. المهمّ هو أن نعي الخطّة الإلهيّة


1- للاطّلاع أكثر على الطبيعة الإجماليّة للقرآن، وفي الوقت نفسه عدم عدّ ذلك نقيصة، لاسيما عن طريق الرجوع إلى العالمين بمعارف القرآن، وهم الرسول (ص) والأئمّة (عليهم السلام) ، راجع: بحار الأنوار، ج ٩٢، ص١٠٠.

ص: 14

المرسومة من أجل تبيين حقائق القرآن الكريم وموضوعاته الإجماليّة. وفحوى هذه الخطة كما يكشفها القرآن نفسه هي:

١- إنّ الله تعالى هو المفسِّر والمبيِّن الأوّل للقرآن.

٢- إنّ النبيّ (ص) هو الواسطة في تبيين القرآن للناس.

بشأن النقطة الأُولى، يقول الله تعالى مخاطباً نبيّه الكريم: إنّ علينا جَمعَه وقرآنه * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة: ١٧ - ١٩) .

ويستفاد من هذه الآية، أنّ الله تعالى، إضافةً إلى إنزاله آيات القرآن على رسوله، يوحي إليه أيضاً حقائق أُخرى، تبيّن موضوعات الآيات؛ ولهذا روي عن الرسول (ص) أنه قال:

«ألا إنّي قد أُوتيت القرآن ومثله معه» (1) .

أمّا بشأن النقطة الثانية، فإنّ الله تعالى يقول: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (النحل:44) .

وكان الرسول (ص) يقوم بتبيين مجملات القرآن بالقول والعمل، فمثلاً في كيفيّة أداء الصلاة، قال لأصحابه:

«صلّوا كما


1- سُنن ابن ماجة، ج١، ص6؛ سُنن أبي داود، ج4، ص٢٠٠.

ص: 15

رأيتموني أُصلّي» (1) ، ففعْل رسول الله (ص) هنا هو بحكم تفسير قول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ .

كما أنّه (ص) قام في موارد أُخرى بتوضيح مجمَلات القرآن من خلال أقواله، ونلاحظ نماذج من ذلك في تفاسير الشيعة والسنّة على سواء.

وهكذا كان (ص) يتناول مع أصحابه بعض حقائق القرآن في المجالات المختلفة، ومنها السياسيّة والاجتماعيّة التي هي مورد بحثنا في هذا الكتاب.


1- صحيح البخاري، ج١، ص١١٧.

ص: 16

ص: 17

المجالات الاجتماعية والسياسية في القرآن الكريم

من جملة الموضوعات التي أولاها القرآن الكريم عناية فائقة: المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة. لقد عرض القرآن في هذا المجال مسائل متنوّعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون والاتّحاد والأخوّة والجهاد والإمامة ومناهضة الظلم والدفاع عن المظلوم و. . . وعرّف المسلمين بالفئات الاجتماعيّة -حسب التقسيم القرآني - كالمؤمنين والمنافقين وأهل الكتاب والمعاندين؛ والخصائص الاجتماعيّة والنفسيّة لكلّ منها. كما أنّ كثيراً من الموضوعات الاجتماعيّة في القرآن تمثِّل ترجمة للتحوّلات السياسيّة في عص-ر الرسالة، بَيْدَ أنّ أسلوب

ص: 18

القرآن في عرض هذه الحوادث، هو طرح الحادثة مع ذكر خصائص الأفراد والاتّجاهات التي كان لها دور في مسير تلك الحادثة من دون أن يتعرّض إلى أسماء أولئك الأشخاص والاتجاهات.

وبعبارة أُخرى: إنّ القرآن لا يهتمّ بذكر أسماء الأشخاص وتعريف أبطال الحوادث بقدر اهتمامه بتعريف الحوادث الاجتماعيّة نفسها، كنماذج يمكن أن تتكرَّر ويكون لها شخوص وأبطال آخرون، حتّى أنّه لم يرد في القرآن الكريم سوى أسماء قلائل من المعاصرين للنبيّ (ص) ، منهم: أبولهب، وكان في مورد ذمّ وتعريض.

أمّا لِمَ لم يجرِ في القرآن الكريم ذكر لمعاصري النبيّ (ص) إلّا بنحو مبهم ومجمل، فإنّ وراء ذلك - بلا شكّ - أسباباً لعلّ من أهمِّها كونه يمثِّل هدفاً تربويّاً للقرآن، وكذلك من أجل المحافظة على خلوده وعدم تخصيص آياته بفرد خاصّ وعصر بعينه؛ وهذا ما أشار إليه الإمام الباقر (ع) في قوله:

«ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم، ثُمَّ مات أُولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكلّ قوم آية

ص: 19

يتلونها وهم منها من خير أو شرّ» . (1)

إلا أنّ علماء الإسلام ولاسيّما المفسِّري-ن لم يغفلوا أبداً عن التحرّي لمعرفة الأشخاص والمناسبات التي نزلت فيها الآية أو الآيات؛ لض-رورة التعرّف الأفضل على التأريخ الإسلامي، وكذلك معرفة الأفراد والعناصر الذين عايشوا مسيرة التحوّلات المتعلّقة بعصر نزول القرآن.

لقد أسّس العلماء علمين في هذا الخصوص تعود جذور كلّ منهما إلى النقل والروايات التأريخيّة؛ يسمّى الأوّل منهما: علم «مبهمات القرآن» (2) ، ومهمّته التعريف بالأفراد والشخصيّات التي تضمرها القصص والإخبارات القرآنيّة عن الماضي، وكذلك الحوادث الواقعة في عصر نزول القرآن. أمّا العلم الآخر فهو: علم «أسباب النزول» ، الذي يبحث عن الخلفيّات والأسباب التي كانت وراء نزول الآية أو الآيات. ولا شكّ أن التوفّر على مبهمات القرآن ومعرفة أسباب نزول الآيات يعدّ أمراً ضرورياً لمن يريد معرفة جزئيّات وتفاصيل الوقائع التأريخيّة، التي تناولها القرآن الكريم.


1- تفسير العيّاشي، ج١، ص٢١.
2- الإتقان، النوع ٧٠.

ص: 20

ص: 21

أهمية «سبب النزول» في فهم الآيات التأريخية

يرى المتخصّصون في علوم القرآن أنّ الآيات القرآنيّة تنقسم من حيث ارتباطها بظروف عصر النزول إلى قسمين، هما:

أ - الآيات التي نزلت عقيب طرح سؤال أو وقوع حادثة مّا.

ب - الآيات التي نزلت ابتداءً لهداية الناس، ولم يكن لسؤال أو حادثة مّا دخلٌ في نزولها.

ولا يخفى أنّ ظهور علم باسم «أسباب النزول» سببه وجود آيات الطائفة الأُولى، وأنّ في القرآن آيات عديدة كان وقوع الحوادث سبباً لنزولها.

ص: 22

ومن ثَمَّ فإنّ هذه الآيات يمكن أن تكون دليلاً جيّداً في شرح تلك الحوادث، وكذلك معرفة الأفراد والفئات الاجتماعيّة التي عاصرتها، كما أنّ معرفة تلك الحوادث يمكن أن تشكِّل أرضيّة أفضل لفهم مضمون تلك الآيات، وأن تخرجها من حيِّز الرمزيّة والإبهام وطرح المسائل الافتراضيّة.

على سبيل المثال: بالرجوع إلى سبب نزول سورة الكوثر، يتبيّن لنا أنّ شخصاً في مكّة يسمَّى (العاص بن وائل) كان يُعيِّر الرسول ويستهزئ به، ويسمِّيه الأبتر - أي مقطوع النسل - لأنّه (ص) لم يبقَ له ولد ذَكَر على قيد الحياة.

فإذا أدركنا سبب النزول هذا؛ استطعنا أن نعتبر «فاطمة الزهراء (س) » مصداق الكوثر في الآية الكريمة؛ إذ حسب القاعدة: لا يمكن أن تكون الآيات في صدر هذه السورة القصيرة وذيلها غير متناسبة ولا منسجمة مع بعضها.

وهكذا بالرجوع إلى سبب نزول كثير من الآيات الأُخرى أيضاً، يمكن أن نحصل على معرفة خاصّة ببعض شخصيّات وأحداث صدر الإسلام، وكذلك الاصطفافات التي كانت موجودة في ذلك المجتمع.

ص: 23

لا يخفى أنّ بين آيات الطائفة الثانية كذلك، آيات كثيرة وردت في ذيلها روايات عن النبيّ (ص) أو الأئمّة (عليهم السلام) يتعرّف القارئ من خلالها على المقصود بتلك الآيات من حيث انطباقها على بعض الأفراد أو الأحداث، وإن لم يُذكر لها سبب نزول خاصّ؛ فمثلاً بعد نزول آية التطهير دعا رسول الله (ص) عليّاً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، وتوجّه إلى الله تعالى بالدّعاء لهم، فأفهم الجميع أن لا مصداق لأهل البيت المشمولين بآية التطهير سواهم.

ولأهميّة علم سبب النزول في الفهم الصحيح للقرآن الكريم، يقول الإمام علي (ع) في مقام تعريف نفسه:

«سلوني، فوالله لاتسألوني عن شيء إلّا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليلٍ نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل» (1) . ويقول في حديث مشابه:

«والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيمَ أُنزلت، وأين أُنزلت» (2) .

في الوقت الذي يحظى سبب النزول بكلّ هذه الأهمّية، فإنّه


1- الإتقان، ج4، ص٢٣٣.
2- المصدر نفسه.

ص: 24

ليس موضوعاً اجتهاديّاً مصحوباً بالحدس والظنّ، بل إنّ معرفة مبهمات القرآن والتوصّل إلى سبب نزول الآيات لا يت-يسّر - كما قيل - إلّا عن طريق الرجوع إلى النقل التأريخي المُعتمَد والروايات الصحيحة؛ لأنَّ الوضع والتحريف وجدا طريقهما إلى هذا المجال أيضاً، وأدّيا إلى ظهور مناقب وفضائل مزيَّفة لأشخاص وفئات في التأريخ الإسلامي. ومع ذلك استطاع المحقِّقون إضاءة بعض الحقائق المتعلّقة بتأريخ الإسلام بالاستفادة من الأحاديث الواردة عن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، أو روايات أسباب النزول الصحيحة المنقولة عن الصحابة الذين شهدوا بأنفسهم نزول الآيات.

وينبغي القول إنَّ أهمّ القضايا التأريخيّة في هذا المجال هي معرفة مكانة ومنزلة أهل البيت (عليهم السلام) .

ص: 25

مكانة أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن

لا شكّ بوجود آيات كثيرة في القرآن الكريم تشير إلى شخصيّة أهل البيت (عليهم السلام) ومنزلتهم، كما أنَّ هناك آيات عديدة نزلت في أعدائهم ومخالفيهم. لكنّ مقاصد هذه الآيات - كما قلنا- لا تتَّضح إلّا بالرجوع إلى الروايات الصحيحة التي وردت في سبب نزولها، أو ملاحظة التوضيح والتفسير الوارد عن المعصومين (عليهم السلام) في بيان مفهومها.

وبعبارة أُخرى: أن يُنظر إلى حقائق هذه الآيات في ظلّ التأريخ الصحيح.

وفق هذا المبنى تكون الآيات المعنيَّة بإمامة عليّ (ع) ووصايته، أو التي تُثبت مقامات وكمالات أهل البيت (عليهم السلام) فوق حدّ

ص: 26

الإحصاء، وكما رُوي عن الإمام الباقر (ع) :

«القرآن نزل أثلاثاً: ثلث فينا وفي أحبّائنا، وثلث في عدوّنا. . .» (1) .

مثلاً: جاء في التفاسير، في ذيل الآية (6٨) من سورة المائدة المعروفة بآية الولاية، أنّ هذه الآية نزلت بعد أنْ تصدَّق عليّ (ع) بخاتمه وهو في حال الصلاة (2) .

وجاء في ذيل الآية (61) من سورة آل عمران، المعروفة بآية المباهلة، أنَّ النبيّ (ص) باهل نصارى نجران بعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، ولم يكن معه أحد سواهم. (3)

وهكذا آيات كثيرة أُخرى، إذا عرف الباحث تفسيرها أو سبب نزولها، أدرك المكانة السياسيّة والمعنويّة لأهل البيت (عليهم السلام) ؛ ومن ثمّ فبدل الزعم: أنَّ اسم الإمام عليّ (ع) ، وكذلك أسماء أولاده (عليهم السلام) ، كان موجوداً في القرآن الكريم، وأنَّه تمَّ حذفه نتيجة التحريف، نحن نعتقد أنّ الرجوع إلى التوضيحات أو أسباب النزول الموجودة في كثير من الآيات تبيِّن لنا جيّداً مكانة ومنزلة


1- تفسير العيّاشي، ج١، ص٢١.
2- انظر الكشّاف، ج١، ص64٩.
3- انظر مجمع البيان، ج٢، ص٧6٢.

ص: 27

أهل البيت النبويّ الطاهر وعلى رأسهم الإمام علي (ع) ، إلّا أنْ يريد الشخص دراسة القرآن من دون الاكتراث بالروايات المعتبرة والحوادث التأريخيّة الصحيحة، وهذا بنفسه يعدُّ إحياءً للشعار المضلِّل «حسبُنا كتاب الله» .

نتعرّض في هذه الدراسة إلى بحث الآيات التي يكشف سبب نزولها عن فضيلةٍ لأهل البيت (عليهم السلام) ، أو أنّها - مع الالتفات إلى الروايات المعتبرة بعد النزول - لا تنطبق إلّا على عليٍّ وأهل بيته (عليهم السلام) .

١- التضحية الكبرى إبَّان الهجرة

قال تعالى: وَمِن النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (البقرة: ٢٠٧) .

نزلت هذه الآية بمناسبة حادثة ليلة المبيت، وهي الليلة التي بات فيها الإمام عليّ (ع) في فراش النبيّ (ص) ، ليتسنّى له الهجرة هادئ البال من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة.

يرى المفسِّرون الشيعة، استناداً إلى الروايات المنقولة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، أو تص-ريحات بعض الصحابة أنَّ نزول الآية أعلاه في حقّ عليّ (ع) هو من المسلَّمات.

ص: 28

فمثلاً روى العيّاشي في تفسيره عن الإمام الباقر (ع) ، «أنَّ هذه الآية وَمِن النَّاسِ مَنْ يَشْ-رِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ نزلت في عليّ بن أبي طالب (ع) ، حين همَّ كفّار قريش بقتل النبيّ (ص) ، فبات عليّ (ع) في فراشه يفتديه بنفسه» (1) .

وروى الطبرسي أيضاً عن ابن عبّاس أنَّ هذه الآية نزلت بعد خروج النبيّ (ص) من مكّة ومبيت عليّ (ع) في فراش النبيّ الأكرم (2) .

وأيَّد كثير من علماء السنّة أيضاً نزول آية ليلة المبيت في حقّ علي (ع) ؛ فقد نقل ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي -من علماء القرن الثالث الهجري - قوله: «روى جميع الم-فسِّرين أنَّ قوله تعالى: وَمِن النَّاسِ مَنْ يَشْ-رِي. . . نزلت بمناسبة مبيت الإمام علي (ع) في فراش النبيّ (ص) ليلة المبيت» (3) .

يرى الإسكافي كذلك أنَّ آية ليلة المبيت لها تناسب خاصّ مع


1- انظر تفسير العيّاشي، ج١، ص٢٠؛ تفسير الصافي، ج١، ص٢4١؛ نور الثقلين، ج١، ص٢٠4؛ وبحار الأنوار، ج٣6، صص4٠- 5٠.
2- مجمع البيان، ج١، ص5٣5.
3- شرح نهج البلاغة، ج١٣، ص٢6٢؛ وكذلك انظر: مفاتيح الغيب، ج5، ص٢٣5؛ روح المعاني، ج٢، ص٩٧.

ص: 29

قوله تعالى في الآية الثلاثين من سورة الأنفال: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، حيث كتب يقول: «أُنزلت ليلة الهجرة، ومكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش، ومكر الله تعالى هو منام علي (ع) على الفراش» (1) .

ويضيف ابن أبي الحديد، نقلاً عن الإسكافي، ما يلي: «قد ثبت بالتواتر حديث الفراش، فلا فرق بينه وبين ما ذُكر في نصّ الكتاب، ولا يجحده إلّا مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة» (2) .

وبسبب هذه الفضيلة الاستثنائيّة للإمام علي (ع) ، صمّم معاوية لاحقاً أن يدفع أربعمائة ألف درهم إلى سمرة بن جندب، ليدَّعي أنّ الآية نزلت في ابن ملجم (3) ، وأذعن سمرة لطلب معاوية، ولكن بسبب بُعد الفاصلة الزمنيّة بين نزول الآية واستشهاد الإمام علي (ع) ، لم يُضلَّل أحد برواية سمرة، إلّا بعض السُذَّج والجهلَة.


1- شرح نهج البلاغة، ج١٣، ص٢6٢.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه، ج4، ص٧٣.

ص: 30

٢- أهل البيت: في يوم المباهلة

قال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِن الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (آل عمران: 61) .

والضمير في كلمة (فيه) في الآية المباركة يعود على السيّد المسيح (ع) ، أمّا المباهلة في الاصطلاح الديني، فتعني التلاعن، وهو: أن يجتمع الطرفان المختلفان في قضيّة ما - وبعد أن لا يقتنع أيّ منهما بأدلّة الطرف الآخر - في مكان يعيِّنانه، يت-ضرّعان ويبتهلان إلى الله تعالى بأن يفضح الكاذب.

أمّا قصّة المباهلة التي حدثت في صدر الإسلام، فهي كالتالي:

في السنة العاشرة للهجرة، أقبل وفدٌ من نصارى نجران إلى المدينة والتقوا النبيّ (ص) وحاوروه. في هذا اللِّقاء طرح زعماء النصارى، القائلون بأُلوهيّة المسيح (ع) ، ولادة المسيح من غير أب، فنزل في جوابهم قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ

ص: 31

تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ . (آل عمران: 5٩ - 6٠)

ورغم هذه الإجابة الصريحة لم يقتنع النصارى، فنزلت آية المباهلة. ودعاهم النبيّ إليها بأمر الله تعالى. واتّفق الطرفان أن يحضرا في مكان ما في اليوم التالي، وحضر النبيّ (ص) في ذلك اليوم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، وعندما رأى النصارى النبيّ (ص) ومَن معه، تيقَّنوا الهلاك لو باهلوهم، ولذلك اقترح عليهم كبيرهم أن ينصرفوا عن المباهلة، ورجَّحوا المصالحة مع النبيّ (ص) بإعطاء الجزية.

النكتة المهمّة في قضيّة المباهلة هي أنَّ الإمام عليّاً - طبقاً لآية المباهلة - مصداق لنفس النبيّ (ص) ، وأنَّ الحسن والحسين (عليهما السلام) هما مصداق لأبنائه (ص) ، ولهذا كان الأئمّة (عليهم السلام) في محاجَجاتهم مع مخالفيهم بعد ذلك، يسمُّون أنفسهم أبناء رسول الله (ص) ؛ استناداً لآية المباهلة، ويفخرون على الآخرين بذلك.

وقصّة المباهلة بالبيان الذي تقدّم، تعدّ من الحوادث القطعيّة والمتواترة في تأريخ الإسلام، التي لم يشكّك في أصل وقوعها أحد، ولا ادّعى أحد ادّعاءً آخر بشأن مَن باهل بهم النبيّ (ص) .

ص: 32

وهذه الواقعة سجّلتها تفاسير الشيعة والسنّة، وكثير من كتب الحديث لدى الفريقين (1) .

٣- أُولو الأمر من منظار القرآن

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (النساء: 5٩) .

في هذه الآية الشريفة، وبعد الحديث عن إطاعة الله تعالى والرسول (ص) ، جرى الحديث عن إطاعة المؤمنين لأُولي الأمر، وهي إطاعة مُطلَقة غير مقيَّدة ولا مشروطة.

أمّا مَن هم «أُولو الأمر» ؟ فقد وقع الخلاف بين الم-فسِّرين، واختلفت كلمات أهل السنَّة في تعيين مصداق أُولي الأمر؛ فاحتملوا الخلفاء الأربعة، والحاكمين السياسيِّين، والقادة


1- انظر على سبيل المثال: مجمع البيان، ج١، ص٧6٢؛ تفسير الكشّاف، ج١، ص٣6٩؛ تفسير القرآن العظيم، ج١، ص٣٧٩؛ وصحيح مسلم، ج4، ص١٨٧١.

ص: 33

العسكريِّين، وعلماء الدِّين، والقضاة، و. . . (1) ، في حين إنَّ عقيدة مُفسِّري الشيعة واحدة، وهي أنّ أيّاً من المصاديق المذكورة في تفسير أُولي الأمر ليس صحيحاً. ودليلهم على ذلك أنّ وجوب إطاعة أُولي الأمر قد اقترنت في الآية الكريمة بوجوب إطاعة الله ورسوله بشكل مُطلَق، وأنّه لا مصداق لهم سوى الأئمّة المعصومين من أهل بيت النبيّ (ص) . يقول الطبرسي، بعد بيانه الاختلاف الموجود بين مفسِّري العامّة في تعيين أُولي الأمر:

«وأمّا أصحابنا، فإنهَّم رووا عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أنّ أُولي الأمر هم الأئمّة من آل محمّد؛ أوجب الله طاعتهم بالإطلاق، كما أوجب طاعته وطاعة رسوله، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبتت عصمته، وعُلم أنّ باطنه كظاهره، وأُمن منه الغلط والأمْر بالقبيح؛ وليس ذلك بحاصل في الأُمراء، ولا العلماء سواهم. جلّ الله عن أن يأمر بطاعة مَن يعصيه، أو بالانقياد للمختلفين في القول والفعل؛ لأنّه محال أن يطاع


1- انظر على سبيل المثال: جامع البيان، ج5، ص٩5؛ الكشّاف، ج١، ص5٢4؛ روح المعاني، ج4، ص٩6؛ تفسير المراغي، ج٢، ص٧٣؛ معالم التنزيل، ج١، ص445؛ وتفسير القرآن العظيم، ج١، ص5٢٩.

ص: 34

المختلفون، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه» (1) .

الفخر الرازي، من علماء المدرسة السُنّية، يعتقد بأنّ وجود العصمة هو لازم الإطاعة المطلَقة لأُولي الأمر، إلّا أنّه في النتيجة التي انتهى إليها في تشخيص المصداق، لم يُصبْ الحقيقة (2) .

إنّ روايات الشيعة - كما مرّ - تعيِّن بوضوح مصداق أُولي الأمر.

فعلى سبيل المثال: روى الشيخ الكليني في كتابه الحديثي «الكافي» عن أبي بصير، أنّه قال: «سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزّوجلّ: أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: 5٩) ؟ فقال:

نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) ، فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يُسمِّ عليّاً وأهل بيته (عليهم السلام) في كتاب الله عزّ وجلّ؟ فقال:

قولوا لهم: إنّ رسول الله (ص)

نزلت عليه الصلاة ولم يُسمِّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتّى كان رسول الله (ص)

هو الذي فسَّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يُسمِّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهم، حتّى كان رسول الله (ص)

هو الذي ف-سَّر ذلك لهم، ونزل الحجّ فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً، حتّى كان رسول الله (ص)

هو


1- مجمع البيان، ج٣، ص١٠٠.
2- مفاتيح الغيب، ج١٠، ص١44.

ص: 35

الذي فسَّر ذلك لهم، ونزلت أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: 5٩)

، ونزلت في عليٍّ والحسن والحسين، فقال رسول الله (ص)

في عليّ: مَن كنت مولاه، فعليٌّ مولاه.

وقال (ص) :

أُوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإنّي سألت الله عزّ وجل أنْ لا يُفرّق بينهما حتّى يوردهما على الحوض، فأعطاني ذلك، وقال: لا تعلِّموهم فهم أعلم منكم. وقال: إنّهم لن يُخرجوكم من باب هدى، ولن يُدخلوكم في باب ضلالة. فلو سكت رسول الله (ص)

فلم يبيّن مَن أهل بيته، لادّعاها آل فلان وآل فلان» (1) .

4- كمال الدِّين في ظلِّ الولاية

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِيناً (المائدة: 3) .

لقد نزلت هذه الآية بفترة قليلة بعد حادثة الغدير، والمقارنة


1- الكافي، ج١، ص٢٨٧؛ انظر أيضاً: تفسير العيّاشي، ج١، ص٢٧٣؛ نور الثقلين، ج١، صص4٩٧ - 5٠٧؛ وتفسير الصافي، ج١، صص46٢ - 465.

ص: 36

بين هذه الآية وبين مؤدَّى آية التبليغ تشهد بهذه الحقيقة؛ لأنَّ في آية التبليغ جرى الحديث عن تبليغ رسالة الله تعالى وأمره، وحذَّر من أنَّه بعدم هذا التبليغ يظلّ الدِّين ناقصاً، وأنَّ عدم التبليغ يعدل عدم تبليغ الرسالة كلِّها، وتحدَّثت الآية عن إكمال الدِّين وإتمام النعمة الإلهيّة؛ ومن ثمَّ فبين هذين الموضوعين علاقة دقيقة لا تخفى على المتدبِّر.

فمفسِّرو الشيعة بشكل عامّ وكذلك عدَّة من مف-سّري السنّة أقرّوا هذه العلاقة وصرّحوا بها في كتبهم. فعلى سبيل المثال يقول الطبرسي:

«والمروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) أنَّه إنمّا أُنزل بعد أن نصّب النبي (ص) عليّاً (ع) للأنام، يوم غدير خمّ منصرفه عن حجّة الوداع، قالا:

وهو آخر فريضة أنزلها الله تعالى، ثُمَّ لم يُنزل بعدها فريضة. . .

. . . عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول الله (ص) لمّا نزلت هذه الآية قال:

الله أكبر على إكمال الدِّين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي، وقال: مَن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهم وال مَن والاه، وعاد مَن عاده، وانص-ر مَن نص-ره،

ص: 37

واخذل مَن خذله» (1) .

يرى أغلب أهل السنّة أنّ آية الإكمال نزلت في حجّة الوداع وفي يوم عرفة، وأنّ نزولها كان بعد بيان مسائل، من قبيل: تبليغ آخر أحكام الحلال والحرام.

وبعبارة أُخرى: إكمال دائرة التش-ريع، وتحرير بيت الله من مظاهر الشرك وعبادة الأصنام، وبالتالي قطع نفوذ المش-ركين من هناك، وبعد أن أدّى رسول الله (ص) والمسلمون مناسك الحجّ، وبسبب هذه الأُمور يئس الكفّار من النص-ر مستقبلاً على المسلمين (2) .

ولكن ثمّة أسباب تدفع للقول إنَّ الاحتمالات المذكورة حول نزول آية الإكمال غير صحيحة، ومن جملة تلك الأسباب:

١ - إنّ كثيراً من علماء السنّة سلّموا بالعلاقة بين آية الإكمال


1- مجمع البيان، ج٣، ص ٢46؛ وانظر أيضاً: تفسير العيّاشي، ج ١، ص٣٢١؛ تفسير التبيان، ج٣، ص4٣5؛ الميزان، ج5، صص٢٧٨ - ٢٨٣ و ٢٢٩ - ٣١٠؛ والغدير، ج٢، صص١١5 - ١٣٧.
2- انظر على سبيل المثال: جامع البيان، ج6، ص٨٠؛ فتح القدير، ج٢، ص٩؛ وتفسير المراغي، ج6، ص54.

ص: 38

وحادثة غدير خمّ، أو ذكروها - في الأقلّ - كأحد الاحتمالات في كتبهم؛ بحيث ذكر العلاّمة الأميني ستّة عشر مصدراً من مصادر أهل السنّة في هذا الإطار (1) .

٢ - إنّ أكثر الموارد المذكورة كمصاديق لإكمال الدِّين في تفاسير أهل السنّة - ومنها أحكام حلِّية اللّحوم، وبيان ما أحلّ الله وما حرّم، وتشريع الحجّ، وتحرير البيت الحرام من مظاهر الشرك وعبادة الأصنام، و. . . - إمّا أنّها لا تحظى بتلك الأهمّية التي تجعلها ترقى إلى مستوى إكمال الدِّين، أو أنّها من الموارد المتحقّقة أعواماً قبل نزول آية الإكمال.

٣ - تتحدّث الآية عن إكمال الدِّين، وهذا الموضوع يرتبط باليأس التامّ للكفّار من المسلمين، ولا معنى ليأس الكفّار إلّا قطع نفوذهم وسلطتهم على المسلمين، وهذا الموضوع إنّما يمكن حصوله بعد وضوح وضع القيادة في الأُمّة الإسلاميّة، لاسيما بعد رحيل النبيّ (ص) .


1- الغدير، ج٢، صص١١6 - ١٢5؛ وكذلك: المراجعات، ص١٨٨ ملحق 6٢٧ آية الإكمال.

ص: 39

4 - يقول كثير من المفسّرين: إنّ النبيّ (ص) لم يعش بعد نزول آية الإكمال أكثر من ٨١ يوماً (1) ، فلو عرفنا أنّ وفاة الرسول (ص) ، طبقاً لبعض الروايات كان في الثاني عش-ر من ربيع الأوّل (2) ، نستنتج أنّ آية الإكمال نزلت في الثامن عشر من ذي الحجّة.

5 - عدَّ أكثر مف-سِّري الشيعة، لاسيّما العلاّمة الطباطبائي، نزول آية الإكمال تحقيقاً للوعد الإلهي المذكور في الآية 55 من سورة النور، ومن المعلوم أنّ هذه الآية تتحدّث عن استخلاف المؤمنين على الأرض، واستقرار الدِّين الإلهي، مقروناً بالأمن للصالحين، والذي تُعدّ إمامة عليّ (ع) للمؤمنين بمثابة مقدّمة لحكومةٍ كهذه (3) .

6 - سمَّى الإمام الباقر (ع) ولاية عليّ آخر فريضة نزلت (4) ، وصرّحت روايات أُخرى أنّ الإسلام بُني على خمس: الصلاة


1- مفاتيح الغيب، ج٣، ص6٣6؛ روح المعاني، ج4، ص٩١؛ تفسير المنار، ج6، ص١١6.
2- الكافي، ج٢، ص٣٢4.
3- الميزان، ج5، ص٢٨٣؛ التفسير الأمثل (تفسير نمونه) ، ج4، ص٢6٨.
4- تفسير العيّاشي، ج١، ص٣٢١.

ص: 40

والزكاة والحجّ والصيام والولاية (1) ، وفي هذه الروايات جميعاً تمَّ التأكيد على أنَّ الولاية هي الأولى والأفضل من بين سائر الفرائض.

5- وليّ المؤمنين

إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (المائدة:55) .

تُعرف هذه الآية بآية الولاية، وقد ورد في سبب نزولها، في التفاسير الشيعيّة والسنّية، أنَّ فقيراً دخل المسجد النبويّ وسأل الحاضرين، ولكنّ أحداً لم يلتفت إليه، وكان الإمام عليّ (ع) في حال الركوع، فأشار إلى الفقير وأفهمه أن يأخذ خاتمه، فنزل قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ. . . (2) .

وقد صرّحت بعض الروايات أنَّ الإمام (ع) كان يصلِّي


1- الكافي، ج٢، ص١٨.
2- التبيان، ج٣، ص55٩ و ج١، ص٣55؛ تفسير القرآن العظيم، ج٢، ص٧4؛ الكشّاف، ج١، ص64٩؛ معالم التنزيل، ج٢، ص4٩ وكذلك بحارالأنوار، ج٣5، صص١٨٣ - ٢٠6.

ص: 41

النافلة (1) .

ورُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: وكان النبيّ (ص) يتوضّأ ويتهيّأ للصلاة، إذ نزل عليه قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ. . . ، فدخل المسجد وسأل عمَّن قام بهذا الإنفاق، وتبيّن أنّه لم يكن سوى عليّ (ع) (2) .

إنّ آية الولاية هي من أهمّ الأدلّة التي يستند إليها الشيعة لإثبات أنّ الإمام، بلا فصل بعد النبيّ (ص) ، هو الإمام عليّ (ع) . فشروع الآية بكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر، وذكر ولاية المؤمنين - الذين يُؤتون الزكاة وهم راكعون - في طول ولاية الله تعالى، وانحصار مصداقها في عليّ (ع) ؛ طبقاً للروايات المعتبرة لدى الشيعة والسنّة، وأخيراً مفهوم الولاية في الآية والتي ليست سوى الإمامة والقيادة، هذه كلّها قرائن على إمامة عليّ (ع) بعد النبيّ (ص) .

يقول الشيخ الطوسي في تفسير هذه الآية:

«واعلم أنَّ هذه الآية من الأدلّة الواضحة على إمامة


1- تفسير العيّاشي، ج١، ص٣55 عن عمّار بن ياسر.
2- بحارالأنوار، ج٣5، ص٢٠٠.

ص: 42

أميرالمؤمنين (ع) بعد النبي بلا فصل. ووجه الدلالة فيها أنّه قد ثبت أنّ الولي في الآية بمعنى الأولى والأحقّ، وثبت أيضاً أنّ المعنيّ بقوله والذين آمنوا. . أميرالمؤمنين (ع) ، فإذا ثبت هذان الأصلان، دلّ على إمامته» (1) .

لقد طُرحت بعض الأسئلة حول آية الولاية، منها: كيف يشتغل عليّ (ع) في الصلاة بغير مناجاة ربِّه؟

ينبغي القول في الإجابة: إنَّ حضور السائل في المسجد وطلبه المساعدة من الناس بصورة متكرِّرة، من الطبيعي أن يجذب انتباه أيّ شخص، خاصّة إذا عرفنا أنَّ الإمام (ع) كان آنذاك يصلِّي النافلة، والإحسان ليس بأقلّ أجراً من الصلوات المستحبّة.

السؤال الآخر هو هل يصدق على التصدّق بالخاتم عنوان الزكاة؟

ينبغي القول في الجواب: إنّ كثيراً من آيات القرآن لم تستعمل فيها الزكاة بمفهومها الش-رعي والاصطلاحي الرائج الآن، بل وردت هذه الكلمة في القرآن تعبيراً عن أيِّ نوع من الإنفاق


1- التبيان، ج٣، ص55٩؛ وانظر أيضاً إلى استدلال العلاّمة المجلسي في بحارالأنوار، ج٣5، صص٢٠٣ - ٢٠6.

ص: 43

والإحسان في سبيل الله تعالى، أمّا الزكاة بالمعنى الشرع-ي الخاصّ، فقد جُعل في السنة التاسعة للهجرة، والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تشهد على هذا (1) .

ومن ثمَّ فتعبير الزكاة الوارد في قوله تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، المقصود منه إحسان علي (ع) للفقير.

السؤال التالي يدور حول ألفاظ الجمع الواردة في الآية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ آية الولاية نزلت خصّيصاً في عليّ (ع) ؟

لقد تناول المفسّرون هذه المسألة ومنهم الزمخش-ري حيث يقول: «فإنْ قلت: كيف صحَّ أنْ يكون لعليّ رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً؛ ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه» (2) .

إنَّ كلام الزمخشري صحيح لا غبار عليه، ولكن لم يحدِّثنا التأريخ أنَّ أحداً بعد الإمام أقدم على هذا العمل، أي: تصدّق وهو في حال الركوع.


1- التوبة: ١٠٣؛ وانظر الكافي، ج٣، ص4٩٧.
2- الكشّاف، ج١، ص64٩.

ص: 44

6- إبلاغ آخر رسالة، تكميل الرسالة

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة: 6٧) .

هذه الآية تُعرف بآية التبليغ أو الإبلاغ؛ لقوله تعالى فيها: بَلِّغْ مَا أُنزِلَ. . . . لقد صرّح مفسّرو الشيعة، وكثير من مف-سِّري السنّة أنَّ آية التبليغ نزلت في حجّة الوداع على رسول الله (ص) ، وبنزول هذه الآية عيَّن النبيّ (ص) عليّاً (ع) خليفةً له (1) .

فحسب ما أورده أكثر هؤلاء الم-فسّرين: أنّه بعد عودة النبيّ (ص) من حجّة الوداع - والتي وقعت في آخر سنة من حياته المباركة - هبط عليه ملاك الوحي جبرائيل، في منطقة تسمّى غدير خمّ، وأنزل عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ


1- انظر على سبيل المثال: تفسير القمّي، ج١، ص١٧١؛ تفسير العيّاشي، ج١، صص٣6٠ - ٣6٢؛ التبيان، ج٣، ص5٨٨؛ مجمع البيان، ج٣، ص٣44؛ الصافي، ج٢، صص5١ - ٧١؛ مفاتيح الغيب، ج١٢، ص5٠؛ غرائب القرآن، ج٢، ص6١6؛ الدرّ المنثور، ج٢، ص٢5٩؛ روح المعاني، ج6، ص١٩5.

ص: 45

رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . وبنزول هذه الآية أمر رسول الله (ص) المسلمين بالتوقّف، وبعد إقامة صلاة الظهر خطب فيهم خطبةً ذكر فيها هوان الدُّنيا وقُرب رحيله (ص) منها، ثُمَّ تلا عليهم حديث الثقلين وأوصاهم بحفظ حقوق أهل البيت (عليهم السلام) ، وأخذ بعدها بيد علي (ع) ، بحيث يراه الجميع، وسألهم:

«أيّها الناس، مَن أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: «الله ورسوله أعلم» ، فقال (ص) :

«إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأولى بهم من أنفسهم، ألا ومَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه» ، وكرّر (ص) هذه العبارة ثلاثاً، وقيل أربعاً، ثُمَ ّ رفع يديه للدعاء وقال:

«اللَّهُمَّ والِ مَن والاه، وعادِ من عاداه، وانص-ر مَن نص-ره، واخذُل مَن خذله» . وحينئذٍ تقدّمت الجموع زرافات زرافات وبايعوه بإمرة المؤمنين وهنَّؤوه على هذا المنصب (1) .

اتّضح ممّا تقدّم أنّ مفاد مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ. . ليس سوى إعلان ولاية علي (ع) ، وأنّ هذا الموضوع قد ذكَّر به الوحيُ غيرُ القرآني


1- الغدير، ج١، صص٢٩ - ٣4؛ سيرة المصطفى، ص6٩٣؛ تفسير العيّاشي، ج١، ص٣6٠.

ص: 46

الرسولَ الكريم (ص) ، فقد روى العيّاشي عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله الأنصاري قالا: «أمر الله محمّداً أن يُنصِّب عليّاً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوّف رسول الله (ص) أن يقولوا حابى ابن عمِّه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم» (1) .

لذا، فآية التبليغ أهمّ دليل على إثبات الإمامة المباشرة للإمام علي (ع) في القرآن بما لا يبقي مجالاً للشكّ لدى طلاّب الحقيقة.

ولكن مع هذا كلّه سعى بعض م-فسِّري السنّة - وعبر تحليلات - لصرف آية التبليغ عن مفهومها الأصلي والرسالة التي تحملها، فمثلاً قال بعضهم: إنَّ آية التبليغ نزلت في مكّة، وكلَّفت النبيّ (ص) بأن يبلِّغ حقائق الإسلام إلى الكفّار والمش-ركين دون أيّ تردّد (2) .

هذا، مع أنّ هؤلاء الم-فسّرين يعلمون أنّ سورة المائدة من


1- تفسير العيّاشي، ج١، ص٣6٠؛ وكذلك: مجمع البيان، ج٣، ص٣44، عن الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل.
2- انظر: الكشّاف، ج١، ص65٩؛ المنار، ج6، ص46٧.

ص: 47

السور المدنيّة التي نزلت أُخريات حياة الرسول الكريم (ص) ، وأنّ القول بمدنيّة آية التبليغ يحظى بشهرة كبيرة في تفاسير أهل السنّة (1) .

وقال بعض آخر منهم: إنَّ آية التبليغ نزلت في المدينة، بيْدَ أنّ الهدف من نزولها حثُّ الرسول على إبلاغ حقائق الوحي إلى اليهود والنصارى (2) .

ولا أدري كيف يستقيم هذا القول، مع أنّنا نعلم أنَّ اليهود هُزموا وكُس-رت شوكتهم في المعارك التي خاضها المسلمون ضدّهم في غزوات بني قريظة وخيبر. . ، وأنَّ النصارى كانوا ضعفاء في الجزيرة العربيّة وفاقدي القدرة على مواجهة المسلمين منذ بداية الدعوة، وأنّ أقص-ى مواجهتهم للمسلمين تجلَّت في قضيّة المباهلة التي انسحبوا منها أيضاً ولم تتمّ (3) .


1- تفسير القرآن العظيم، ج٢، ص٨١؛ البحر المحيط، ج4، ص٣٢١؛ مفاتيح الغيب، ج١٢، ص5٠.
2- مفاتيح الغيب، ج١٢، ص5٠؛ البحر المحيط، ج4، ص٣٢١؛ التحرير والتنوير، ج6، ص٢55.
3- انظر: الآية: 6١ في سورة آل عمران.

ص: 48

ومن ثمَّ فإنّ النبيّ (ص) لم يكن في أواخر سنّي عمره الش-ريف يشعر بقلق من جهة اليهود أو النصارى، ليُطمئنه الوحي ويخبره بأنّ الله عاصمه منهم إذا بلّغ ما كُلِّف بتبليغه.

أمّا أهمّ تشكيك أوردوه في المقام، فيعود إلى تفسير كلمة «المولى» ، إذ يرى جمع من مف-سّري السنّة أنّ المقصود بالمولى في حديث

«مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» ، هو المحُبّ والناصر وليس الحاكم والأولى بالتصرّف. فمثلاً، يرى صاحب تفسير المنار أنّه «ليس لحديث غدير خم أيّة دلالة على الإمامة أو الخلافة؛ لأنّ هذا اللفظ لم يرد في القرآن بهذا المعنى، بل المراد من الولاية في حديث الغدير معنيَي النص-رة والمودّة الواردين في القرآن الكريم» (1) .

وينبغي القول في نقد هذا الرأي أنّ «المولى» مشترَك لفظي قابل للحمل على معانٍ متعدِّدة، بيْدَ أنّ القرائن الموجودة في حديث الغدير هي التي تعيِّن المفهوم الحقيقي والمراد من كلمة «المولى» في الحديث الشريف، وبعضها كالتالي:

١ - نزول آية التبليغ قبل قيام النبيّ (ص) بتقديم علي (ع)


1- انظر: المنار، ج6، ص465.

ص: 49

للمسلمين بصفته وليّاً بعده، لاسيّما بعد البيان القرآني المشدّد: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ .

٢ - أمْر النبيّ (ص) المسلمين بالتوقّف في منطقة غدير خمّ.

٣ - خطابة الرسول (ص) في غدير خمّ وإعداده (ص) الأرضيّة لطرح موضوع ولايته (ع) أوّلاً، والإيصاء بحقوق أهل البيت ثانياً.

4 - نزول آية الإكمال بعد هذه الواقعة.

5 - احتجاج الإمام علي (ع) بواقعة الغدير لإثبات أولويَّته على الآخرين.

6 - بقاء ذكر الغدير حيّاً في التأريخ الإسلامي، وتعظيم المسلمين له بصفته عيداً كبيراً من الأعياد الإسلاميّة (1) .

٧- مُنادي البراءة من المشركين

وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِىءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (التوبة:3) .

شرح وتوضيح: لا يخفى أنَّ سورة التوبة نزلت دون بسملة ليتجلَّى فيها الغضب الإلهي من المشركين، والآيات الع-شر الأُولى


1- انظر المصادر والتفصيل في الغدير، ج٢، صص٨٨ - ١١4.

ص: 50

في السورة بشكل خاصّ تكشف عن هذه الحقيقة، وتُظهر بصراحة براءة الله ورسوله من المشركين. فبعد نزول هذه الآيات دعا النبيّ (ص) أبا بكر وأرسله إلى مكّة لكي يتلوها على جمع المش-ركين، ولم يكن أبو بكر قد ابتعد عن المدينة كثيراً، وإذا بجبرائيل ينزل على النبيّ (ص) ويقول له:

«إنَّه لن يؤدِّي عنك إلّا أنت أو رجلٌ منك» ، فبعث النبيّ (ص) عليّاً (ع) خلف أبي بكر وأمره أن يأخذ منه الآيات ويتوجَّه بها إلى مكّة. وعاد أبو بكر إلى المدينة وسأل النبيّ (ص) عن السبب، وتلقّى الجواب بأنَّ ذلك كان بأمر من الله تعالى (1) . وهذا الموضوع بالنحو الذي شرحناه يقبله أكثر مفسّري أهل السنّة (2) .

وقد ذكر هؤلاء الأعلام في تفاسيرهم أنّ عليّاً (ع) ، بعد أن حضر في جمع المش-ركين تلا عليهم الآيات الأُولى من سورة التوبة، وأنّه - أيضاً - أخبرهم بالمهلة التي وضعها الله


1- انظر: بحارالأنوار، ج٣5، صص٢٨٩ - ٣١٢، في نزول سورة براءة.
2- على سبيل المثال انظر: تفسير القرآن العظيم، ج٢، ص٣46؛ مفاتيح الغيب، ج١5، ص٣١٨؛ فتح القدير، ج٢، ص٣٣4؛ روح المعاني، ج١٠، ص44.

ص: 51

للمش-ركين، وهي أربعة أشهر فقط، يستطيعون خلالها التحرّك بحرّية في المسجد الحرام. ولا يخفى مدى خطورة القيام بمثل هذه المهمّة وتبليغ رسالة كهذه وبصورة علنيّة.

ما يحظى بالأهمّية في هذه القضيّة هي القدرة على إنجاز مهمّة كهذه، مهمّة لا يؤدّيها إلّا النبيّ (ص) أو رجل منه، كما أشارت الرواية.

ولكي تتّضح حقيقة هذه العبارة: «رجلٌ منك» ، ينبغي القول في مقام التوضيح: إنَّ أحلافاً كانت تُعقد عادة بين الأفراد والقبائل العربيّة في العهد الجاهلي يُنشئ كلٌّ منها حقوقاً والتزامات على طرفَي الحلف. فلو أنّ شخصاً خاطب آخر بهذه الجملة مثلاً «أنت منّي وأنا منك» ، فهو في الحقيقة إنّما يعلن عن اتّصاله الروحي والمعنوي بذلك المخاطَب، ويلتزم الحليفان بناءً على هذه العبارة، بأنْ يقوم كلّ منهما بنص-رة الآخر إذا تعرّض للخطر، وأن لا يتخلّى عن كلّ أنواع التضحية والإيثار في سبيله.

وكما نعلم فإنّ تعهّداً من هذا القبيل كان يحكم علاقة علي (ع) بالنبيّ (ص) ، ولذلك نرى عليّاً (ع) يبيت في فراش الرسول (ص) ليلة الهجرة ويحميه بنفسه من كيد قريش، ومن هذا المنطلق أيضاً نرى

ص: 52

الإمام (ع) في جميع الحروب التي خاضها مع النبيّ (ص) هدفه الأساسي الدفاع عن النبيّ (ص) لا يغفل عنه أبداً، كما نرى النبيّ (ص) يختار عليّاً من بين جميع أصحابه وأنصاره أخاً له، ولا يدع فرصةً إلّا ويُعلن خلالها عن حقوق عليّ وأفضليّته.

ولقد بلغ الاتّحاد الروحي بينهما (عليهما السلام) حدّاً عبّرت عنه آية المباهلة بأنَّ عليّاً (ع) نفس رسول الله (ص) ، ومن ثمَّ جاء الخطاب من الله تعالى في تبليغ البراءة أنّه

«لن يؤدِّي عنك إلّا أنت أو رجلٌ منك» ، وحين بعث الرسول (ص) عليّاً لإنجاز هذه المهمّة بدلاً من أبي بكر الذي كان قد خرج بها وهو في الطريق، فإنّما كشف للأُمّة عن الشخص الجدير بأن يحلّ محلّه ويؤدِّي عنه في غيابه (1) .

٨- رائد ميادين الإيمان والجهاد

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (التوبة: ١٩) .


1- لمزيد من الاطّلاع انظر: يادنامه، (الكتاب التذكاري) العلاّمة الأميني، مقالة «حسينٌ منّي وأنا من حسين» للأُستاذ محمّد باقر البهبودي.

ص: 53

تُعرف هذه الآية بآية السقاية أو المفاخرة، أمّا شأن نزولها الذي نقله مفسِّرو الشيعة وأغلب م-فسّري السنّة فهو كالتالي: «بينما شيبة والعباس يتفاخران، إذ مرَّ بهما علي بن أبي طالب فقال:

في ماذا تفاخران؟ فقال العباس: يا علي لقد أُوتيت من الفضل ما لم يُؤتَ أحد. فقال:

وما أُوتيت يا عباس؟ قال: أوتيت سقاية الحاج. فقال:

ما تقول أنت يا شيبة؟ قال: أُوتيت ما لم يُؤت أحد. فقال:

وما أعطيت؟ قال: أعطيت عمارة المسجد الحرام. فقال لهما عليّ:

استحييت لكما يا شيخان فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا. فقالا: وما أوتيت يا علي؟ قال:

ضربت خر اطيمكما بالسيف حت

ّى آمنتما بالله ورسوله.

فقام العباس مغضباً يجرّ ذيله حتّى دخل على رسول الله (ص) ، فقال له النبي:

ما وراءك يا عباس؟ فقال: ألا ترى ما يستقبلني به هذا الصبيّ؟ قال:

ومَن ذلك؟ قال: عليّ بن أبي طالب. فقال النبي:

ادعوا لي عليّاً. فدُعي فقال له:

يا علي ما الذي حملك على ما استقبلت به عمّك؟ فقال: يا رسول الله صدمته بالحقّ أن غلظت له آنفاً، فمَن شاء فليغضب ومَن شاء فليرض.

إذ نزل جبرائيل فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرئك السلام

ص: 54

ويقول: اتلُ عليهم هذه الآية: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، وعقّب بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (التوبة: ٢٠) ، فقال العباس: «إنّا قد رضينا» ثلاث مرّات» (1) .

وفي رواية أُخرى أنَّ عليّاً (ع) بعد أن شاهد تفاخرهما قال:

«لا أدري ما تقولان، لقد صلَّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد» (2) .

٩- تعيين الوَصيّ في بداية الدعوة

وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (الشعراء: ٢١4) .

يقول المؤرِّخون: إنَّ دعوة النبيّ (ص) بدأت سرّية واستمرّت


1- مجمع البيان، ج5، ص٢٣، نقلاً عن شواهد التنزيل؛ وانظر أيضاً: تفسير القرآن، ج٢، ص٢4١؛ أسباب النزول، الواحدي، ذيل الآية ١٩ من سورة التوبة.
2- المصدر نفسه.

ص: 55

كذلك لمدّة ثلاث سنوات، وبعد نزول هذه الآية المباركة أُمر (ص) أن يُعلن عن دعوته وأن يبدأ بعشيرته، فدعاهم إلى ضيافته، وبعد عدّة جلسات فاتحهم بدعوته ودعاهم للإيمان.

هكذا يروي الطبري، كبير مؤرِّخي السنّة، قصّة هذه الدعوة، نقلاً عن الإمام علي (ع) ، الذي شهد بنفسه وقائعها؛ فيقول:

«قال: لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) ، و وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ

، دعاني رسول الله (ص) فقال لي: يا علي، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقتُ بذلك ذرعا، ً وعرفت أنّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليه حتّى جاءني جبريل فقال: يا محمّد، إنّك إلّا تفعل ما تُؤمَر به يعذّبك ربّك. فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رحل شاة واملأ لنا عسّاً من لبن، ثُمَّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتّى أُكلّمهم وأُبلّغهم ما أُمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثُمَّ دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه، أبوطالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه، دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته، تناول رسول الله (ص) حذية من اللحم فشقّها بأسنانه، ثُمَّ ألقاها في نواحي الصفحة، ثُمَّ قال: خذوا بسم الله. فأكل القوم حتّى ما لهم بش-يء حاجة، وما أرى إلّا موضع

ص: 56

أيديهم. وأيم الله الذي نفس عليّ بيده، وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم. ثُمّ قال: اسقِ القوم، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه حتّى رووا منه جميعاً. وأيم الله، إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلمّا أراد رسول الله (ص) أن يكلّمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لشدّ ما سحركم صاحبكم. فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله (ص) . فقال: الغدُ يا علي، إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن أكلّمهم، فعدّ لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثُمَّ اجمعهم إليَّ، قال: ففعلت، ثُمَّ جمعتهم، ثُمَّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتّى ما لهم بش-يء حاجة. ثُمَّ قال: اسقهم. فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً، ثُمَّ تكلّم رسول الله (ص) ، فقال: يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يوازرني على هذا الأمر؛ على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم. قال: فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت - وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً -: أنا يا نبيّ الله، أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي ثُمَّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي

ص: 57

وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتُطيع» (1) .

وهذه الحادثة من الحوادث المشهورة، وقد رُوِيت في كتب السنّة بصيغ مختلفة، فقد روى الطبريّ في تأريخه: «أنّ رجلاً قال لعلي [(ع) ]: يا أميرالمؤمنين، بمَ ورثت ابن عمّك دون عمّك؟ فقال علي: هاؤم ثلاث مرّات، حتّى اشرأبّ الناس ونش-روا آذانهم، ثُمَّ قال:

جمع رسول الله (ص)

-أو دعا رسول الله - بني عبدالمطلب منهم رهطه، كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدَّاً من طعام، فأكلوا حتّى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمسّ. قال: ثُمَّ دعا بغمر فشربوا حتّى رووا وبقي الش-راب كأنّه لم يمسّ ولم يشربوا. قال: ثُمَّ قال: يا بني عبدالمطلب، إنّي بُعثت إليكم بخاصّة وإلى الناس بعامّة وقد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم، فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي فلم يقم إليه أحد. فقمت إليه وكنت أصغر القوم. قال: فقال: اجلس. قال: ثُمَّ قال ثلاث مرّات، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس، حتّى كان في الثالثة،


1- تأريخ الطبري، ج٢، ص٣٢١؛ وكذلك مجمع البيان، ج٧، ص٣٢٢.

ص: 58

فضرب بيده على يدي. قال: فبذلك ورثت ابن عمّي دون عمّي» (1) .

بالتأمّل في الرواية التي نقلها الطبري، يمكن أن نستخلص نتيجتين مهمّتين؛ هما:

١ - إنّ أقرباء الرسول (ص) تصوّروا الموضوع حدثاً عابراً ولم يحسبوا أنّه سيُكتب له الخلود والبقاء؛ لأنّهم لو كانوا يتوقّعون نجاح الدعوة وانتشارها، لكان من المحتمل جدّاً أن يؤمن كثيرٌ منهم بالنبيّ (ص) ولو من باب النظرة المستقبليّة وحفظ المصالح القوميّة والقبليّة.

٢ - عناية الله تعالى ورسوله (ص) منذ بداية الدعوة ببيان مكانة الإمام علي (ع) ، بصفته أخاً للنبيّ (ص) ووصيّه وخليفته؛ ولهذا اقترنت الدعوة إلى الإسلام نفسه مع تعريف الإمام علي (ع) بصفة الخليفة المستقبلي للنبيّ (ص) .

١٠ - عصمة أهل البيت: في القرآن

إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (الأحزاب: ٣3) .


1- تأريخ الطبري، ج٢، ص٣٢٢.

ص: 59

مفهوم هذه الآية يُثبت - بلا شكّ - العصمة لأهل البيت (عليهم السلام) ؛ لكون المقصود ب-- «الرجس» في الآية هو الرجس الفكري والروحي، وليس الرجس الجسمي والظاهري؛ لأنّ تعلُّق الإرادة الإلهيّة - وعلى سبيل الحص-ر - بالتطهير من الرجس، لايعقل أن يكون المقصود منه التطهير من الرجس المادّي الميسور لكلّ أحد.

ثُمَّ إنّ الآية الكريمة تتحدّث عن إعمال إرادة الله في حقّ جمع خاصّ سمُّوا أهل البيت، والبحث المهمّ في الآية ينصبّ على تعيين مصاديق أهل البيت، ولم يكونوا زمن نزول الآية سوى عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) .

قد يتصوّر البعض أنَّ عبارة «أهل البيت» تشمل «نساء النبيّ (ص) » ، ايضاً؛ لأنَّ الآيات التي سبقت، وكذلك التي تلت آية التطهير تحدّثت عن نساء النبيّ (ص) ، ومن ثَمَّ فهنّ يشتركن مع سائر مصاديق الآية والشؤون التي تثبتها لهم كالعصمة.

إلّا أنّ هذا التصوّر غير صحيح إطلاقاً؛ لأسباب، منها: الروايات الواردة في كتب أهل السنّة وعن بعض نساء النبيّ (ص) أنّ الآية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين فقط.

ص: 60

عن عطاء بن يسار، عن أُمّ سلمة (رضي الله عنها) أنّها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ، فأرسل رسول الله [(ص) ] إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين (رضوان الله عليهم أجمعين) فقال:

اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي. قالت أُمّ سلمة: يا رسول الله، ما أنا من أهل البيت؟ ! قال:

«إنّك إلى خير، وهؤلاء أهل بيتي، اللّهمّ أهلي أحقّ» .

قال الحاكم النيسابوري: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يُخرجه» (1) .

وروى الترمذي رواية أُخرى عن أنس بن مالك، أنّه قال: «إنّ النبيّ [(ص) ] كان يمرّ ببيت فاطمة ستّة أشهر، إذا خرج إلى الفجر، فيقول:

الصلاة يا أهل البيت، إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (2) .

وكان النبيّ (ص) يريد بهذا التكرار أن يُعلم الجميع أنْ ليس لأهل البيت مصاديق سوى عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) .


1- المستدرك، ج ٢، ص 4١6.
2- سنن الترمذي، ج5، ص٣١؛ كنز العمّال، ج١٣، ص646؛ مسند أحمد، ج٣، ص٢5٩.

ص: 61

١١ - أجر الرسالة

قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (الشورى: ٢3) .

نوضّح المقصود بالآية عبر سؤالين نطرحهما أوّلاً:

الأوّل: هل كان الأنبياء (عليهم السلام) يطلبون الأجر على الجهود المضنية التي يبذلونها لهداية البشر؟

الثاني: على فرض طلب الأنبياء الأجر، فهل البش-ر قادرون على تقديم أجر الرسالة؟

بالعودة إلى القرآن الكريم يظهر أنّ الإجابة عن السؤالين كليهما بالنفي؛ ففي سورة الشعراء حُكي عن خمسة من الأنبياء قولهم: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) .

ويظهر من هذه الآية بجلاء ليس فقط أنّ الأنبياء (عليهم السلام) لم يطلبوا الأجر لاسيّما المادّي، وإنّما أيضاً أنّ الناس ليسوا قادرين على تعويضهم على أتعابهم في تبليغ الرسالة.


1- الشعراء: ١٠٩ عن لسان نوح٧، ١٢٧ عن لسان هود٧، ١45 عن لسان صالح٧، ١64 عن لسان لوط٧، ١٨٠ عن لسان شعيب٧.

ص: 62

في آية أُخرى يقول تعالى عن لسان نبيّه محمّد (ص) : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (الفرقان: 5٧) .

ولم ترد في القرآن الكريم سوى آية واحدة تدعو الناس لإعطاء الأجر لنبيّهم وهي الآية (٢3) في سورة الشورى، وليس هذا الأجر إلّا المودّة في القربى؛ قال تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى .

ولكن مَن مصداق القربى في آية الشورى؟

زعم البعض كابن كثير أنّ كلمة «القربى» في الآية تنطبق على قريش (1) ، ونقلوا عن ابن عبّاس ما يؤيّد دعواهم وقالوا: لم تكن في قريش قبيلة ليس لها قرابة مع النبيّ (ص) . أمّا ابن كثير نفسه فقد عدّ «القربى» في الآية مصدراً وقال في تفسيرها: «أي: قل يا محمّد لهؤلاء المشركين من كفّار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالاً تعطونيه، وإنمّا أطلب منكم أن تكفّوا شرّكم عنّي، وتذروني أُبلّغ رسالات ربّي، إنْ لم تنصروني فلا تؤذوني؛ بما


1- تفسير القرآن العظيم، ج4، ص١٢١.

ص: 63

بيني وبينكم من القرابة» (1) .

فيما رأى مفسّرون آخرون كالزمخش-ري والفخر الرازي أنّ معنى «القربى» قرابة النبيّ (ص) ، وأنّ مصداقها: عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) .

قال الزمخش-ري في تفسيره: «روي أنّها لما نزلت قيل: يا رسول الله مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما. ويدلّ عليه ما روي عن علي2: شكوت إلى رسول الله (ص) حسد الناس لي فقال:

أما ترضى أن تكون رابع أربعة أوّل مَن يدخل الجنّة، أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذريّتنا خلف أزواجنا. وعن النبي (ص) : حرّمت الجنّة على مَن ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي.

وقال رسول الله (ص) : مَن مات على حبِّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّد مات تائباً، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّد بشَّ-ره ملك الموت


1- تفسير القرآن العظيم، ج4، ص١٢١.

ص: 64

بالجنّة ثُمَّ مُنكَر ونكير، ألا ومَن مات على حبّ آل محمّد يُزفّ إلى الجنّة كما تُزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومَن مات على حبِّ آل محمّد فُتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا ومَن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حبّ آل محمّد مات على السُنَّة والجماعة، ألا ومَن مات على بُغض آل محمد، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومَن مات على بغض آل محمّد مات كافراً، ألا ومَن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنة» . (1)

وقال الفخر الرازي بعد ذكر ما تقدّم: «هذا هو الذي رواه صاحب الكشّاف، وأنا أقول: آل محمد (ص) هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ مَن كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله (ص) أشدّ التعلقات. وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل.

وأيضاً اختلف الناس في الآل، فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم أُمّته. فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأُمّة الذين


1- الكشّاف، ج4، ص٢٢١.

ص: 65

قبلوا دعوته، فهم أيضاً آل، فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل، وأمّا غيرهم، فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه» .

واستدلّ بدليلين آخرين في المقام فقال:

أوّلاً: «لا شك أنّ النبي (ص) كان يحب فاطمة (س) ، قال (ص) :

«فاطمة بضعة منّي، يُؤذيني ما يُؤذيها» ، وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله (ص) أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك، وجب على كلّ الأُمّة مثله؛ لقوله تعالى: وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (الأعراف: ١5٨) ، ولقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (النور: 63) ، ولقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (آل عمران: ٣1) ، ولقوله سبحانه: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب: 21) .

ثانياً: إنَّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، وهو قوله:

اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، وارحم محمّداً وآل محمّد ، وهذا التعظيم لم يوجد في حقِّ غير الآل، فكلّ ذلك يدلّ على أن حبّ آل محمّد واجب» (1) .


1- مفاتيح الغيب، ج٢٧، ص١66.

ص: 66

١٢ - المَنقبة الخاصّة في الإنفاق الخاصّ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المجادلة: ١2) .

هذه الآية تُعرف بآية النجوى، ويرى أغلب المفسّرين الشيعة والسنّة أنّها نزلت في الأغنياء؛ وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيّ (ص) فيكثرون مناجاته وربّما تأذّى فقراء المؤمنين، فأمر الله سبحانه بالصدقة عند المناجاة، فلمّا رأوا ذلك، انتهوا عن مناجاته (1) .

النكتة المهمّة في آية النجوى أنّ الشخص الوحيد الذي عمل بها هو أميرالمؤمنين علي (ع) . وهو نفسه القائل - كما أورده الطبري -:

«إنَّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ. . .

. كان لي دينار فبعته بعش-رة دراهم، فكلّما أردت أن أُناجي رسول الله (ص) قدَّمتُ درهماً. فنسختها الآية الأُخرى أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ .

فبي خفَّف الله عن هذه الأمّة، ولم ين-زل في أحد


1- مجمع البيان، ج٩، ص٢5٢؛ مفاتيح الغيب، ج٢٩، ص٢٧١؛ جامع البيان، ج٢٨، ص١5.

ص: 67

قبلي، ولم ينزل في أحد بعدي» (1) .

فحسب هذا الحديث يكون العمل بآية النجوى من الفضائل والمناقب الخاصّة بالإمام علي (ع) والتي لم يش-ركه فيها أحد، ولم تكن هذه المنقبة خافية على سائر الصحابة منذ نزول الآية، فقد روى أكثر مفسّري أهل السنّة عن عبدالله بن عمر قوله: «وكان لعليّ بن أبي طالب [(ع) ] ثلاث، لو كانت لي واحدة منهنّ، لكانت أحبّ إليّ من حُمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى» (2) .

ومع هذا نرى أنّ طائفة من متعصّبي السنّة حاولوا أن يقلّلوا من قيمة هذه الفضيلة؛ فمثلاً ادّعى بعضهم أنّ كبار الصحابة لم يُقدموا على هذا العمل (تقديم الصدقة) ؛ لأنّهم لم يروا حاجة لذلك، أو لم تكن لديهم الفرصة الكافية، أو خافوا أن يكون هذا سبباً لتألّم الفقراء الذين لا يستطيعون القيام بمثله، ومن ثَمَّ فهذا


1- انظر: تفسير الطبري، ج٢٨، ص١5؛ وكذلك: الدّر المنثور، ج6، ص١٨5؛ معالم التنزيل، ج٧، ص٢4؛ فتح القدير، ج5، ص١٩١.
2- أسد الغابة، ج4، ص٢6؛ مجمع البيان، ج٩، ص٢5٢؛ معالم التنزيل، ج٧، ص44.

ص: 68

الأمر لم يوجب فضيلة لعليّ ولا سلبها عن غيره! (1) .

ولكن يبدو أنّ هؤلاء المتعصّبين أعماهم تعصّبهم عن النظر إلى الآية الثانية التي أعقبت هذه الآية حيث يلوم الله الصحابة ويعنّفهم بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَات (2) ، ثُمَّ يدعوهم إلى التوبة، وهذا يدلِّل على أنّ تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول (ص) كان أمراً محموداً وإلّا لما احتاج تركه إلى التوبيخ والتوبة. . .(3) .

أمّا فلسفة عمل الإمام بآية النجوى، فهي لأنّ الإمام (ع) كانت له مكانة خاصّة عند رسول الله (ص) ، وأنّه بسبب هذه المكانة حضر عند النبيّ (ص) ونهل من فيض علومه؛ وكما قال هو (ع) :

«كنتُ إذا سألت رسول الله أعطاني، وإذا سكتُّ ابتدأني» (4) .

فبسبب هذه المكانة الخاصّة التي امتاز بها الإمام علي (ع) عند النبيّ (ص) ، لم يحدث انقطاع في اللِّقاء بينهما بنزول آية النجوى،


1- مفاتيح الغيب، ج٢٩، ص٢٧٢.
2- المجادلة: ١٣.
3- البيان، ص ٢٧٩؛ التفسير الأمثل، ج٢٣، ص45٣.
4- سنن الترمذي، ج5، صص5٩5 و 5٩٨.

ص: 69

وبادر الإمام (ع) للعمل بما تأمر به الآية؛ شوقاً للقاء حبيبه المصطفى (ص) .

١٣ - عظمة الإيثار

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (الإنسان:٧ - ٨) .

تتحدّث الآيات (5 - ٢2) من سورة الإنسان عن تعظيم طائفة من أبرار الأُمّة تصفهم بأنّهم يوفون النذر، وأنّهم يقدّمون طعامهم للمسكين واليتيم والأسير، رغم حبّهم له وحاجتهم إليه.

ثمّة أسئلة في مجال هذه الآيات تُثار لدى كلّ متتبّع، منها:

١- مَن هم هؤلاء الأبرار؟ وماذا يقول التأريخ الصحيح والروايات المعتبرة في هذا الخصوص؟

٢ - ما هو النذر الذي نذره هؤلاء الأبرار؟ وكيف وفوا به؟

٣ - أين ومتى تحقّق هذا النذر؟ وعمَّ تتحدّث هذه الآيات، أعن قضيّة خارجيّة أم حادثة فرضيّة وخياليّة؟

عندما نرجع إلى التأريخ للحصول على الإجابة عن هذه التساؤلات، نرى:

ص: 70

- أنَّ هؤلاء الأبرار ليسوا سوى علي وفاطمة والحسنين وخادمتهم فضّة.

- أنَّ موضوع النذر هو صيام ثلاثة أيّام إثر مرض الحسنين (عليهما السلام) ، وأنَّ النبيّ (ص) هو الذي أشار عليهم بهذا النذر.

- وبعد أن شُفي الحسنان (عليهما السلام) تحمّل أُولئك الأبرار مشقّة صيام هذه الأيّام الثلاثة.

- وأنَّ هذا النذر حصل في المدينة المنوّرة وفي أُخريات حياة الرسول (ص) .

- وأنَّه في غروب اليوم الأوّل من هذه الأيّام طرق عليهم الباب سائل مسكين، ولم يكن لديهم سوى الطعام البسيط الذي أعدّوه لإفطارهم فقدّموه له وأفطروا بالماء فقط. وفي اليوم الثاني طرق الباب يتيم فآثروه بطعامهم. وفي اليوم الثالث طرق الباب أسير وتكرّر منهم الإيثار نفسه، فخلّد الله تعالى هذه الواقعة وأنزل فيهم الآيات إِنَّ الأبْرَارَ يَشْ-رَبُونَ. . . ، وليس كما يزعم البعض أنَّ القصّة فرضيّة وخياليّة (1) .


1- كالقرطبي في جامع الأحكام وأبي حيّان التوحيدي في البحر المحيط.

ص: 71

وقد ذكر هذا الموضوع أغلب مف-سّري السنّة (1) ، كما استدلّ أعلام الشيعة كالشيخ الطبرسي (2) والعلاّمة المجلس-ي (3) والعلاّمة الأميني (4) والعلاّمة الطباطبائي (5) بأدلَّة محكمة على صحّة هذه الواقعة.

١4 - خير البريّة

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (البيّنة:٧) .

إنَّ مصداق «خير البريّة» حسب الروايات الملحوظة في كتب الشيعة وكثير من تفاسير أهل السنّة هم عليّ وشيعته. وقد عرَّفهم رسول الله (ص) بنفسه عند نزول الآية.


1- انظر على سبيل المثال: الكشّاف، ج4، ص6٧٠؛ مفاتيح الغيب، ج٣، ص٢44؛ فتح القدير، ج5، ص٣4٩؛ أنوار التنزيل، ج٢، ص55٢.
2- مجمع البيان، ج١٠، صص6١١ - 6١4.
3- بحارالأنوار، ج٣5، ص٢٣٧، تحت عنوان: في نزول سورة (هل أتى) .
4- الغدير، ج5، صص١٨٩ و ٢٨4.
5- الميزان، ج٢٠، صص٣6٣ - ٣٧٠.

ص: 72

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال: «كنّا عند النبي (ص) ، فأقبل علي، فقال النبي (ص) :

والذي نفسي بيده إنَّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ

. فكان أصحاب النبي (ص) إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البريّة» (1) .

وقد نُقلت الروايات المتعلّقة بآية خير البريّة، وانطباقها على عليٍّ وشيعته عن كثير من الصحابة، منهم: ابن عبّاس وحذيفة وعائشة، ويتّضح من التحقيق فيها: أنَّ عليّاً كان خير الخلق بعد النبيّ ممَّن عاصروه، وأنّ أحداً لم يصل إلى منزلته من الفضل والتقوى و. . . كما يتّضح أنّ تعبير الشيعة وإطلاقه على أتباع الإمام عليّ (ع) إنَّما وُضع لأوّل مرّة من قِبل النبيّ (ص) ، ثُمَّ شاعَ تدريجيّاً وصار علماً على كلّ الذين شايعوا عليّاً واتّبعوا نهجه وآمنوا بإمامته التي نصّبه فيها ونصّ عليها النبيّ (ص) بأمرٍ من الله تعالى في يوم الغدير.


1- انظر: فتح القدير، ج5، ص4٧٧؛ الدّر المنثور، ج6، ص٣٧٩؛ الغدير، ج٢، ص5٧؛ الميزان، ج٢٠، ص٧5٨؛ المراجعات، ص٩6، وكذلك بعض قسم التعليقات، ص6٢ رقم: ١١١.

ص: 73

١5 - كوثر الرسالة والعقب المبارك

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ (الكوثر: ١ - 3) .

قال الطبرسي في شأن نزول الآية: «نزلت السورة في العاص ابن وائل السهمي؛ وذلك أنّه رأى رسول الله (ص) يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، وتحدّثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلمّا دخل العاص قالوا: مَن الذي كنت تتحدّث معه؟ قال: ذلك الأبتر. وكان قد توفِّي قبل ذلك عبدالله بن رسول الله (ص) ، وهو من خديجة. وكانوا يسمُّون مَن ليس له ابن أبتر»(1) .

وذكر ذلك أكثر مفسّري الشيعة والسنّة في كتبهم، وإنْ كان ثَمَّة اختلاف كبير في تفسير الكوثر، فلا شكّ في أنّ للكوثر بمعنى الخير الكثير مصاديق كثيرة، ومنها: القرآن والعلم الكثير ونهرٌ في الجنّة والنبوّة والذرّيّة ومقام الشفاعة، و. . . إذ يمكن أنْ يعدّ كلّ منها مصداقاً للكوثر.


1- مجمع البيان، ج١٠، ص٨٣6.

ص: 74

بيْدَ أنّه يمكن القول، مع الالتفات إلى شأن النزول، - حيث إنَّ المشركين شنؤوا النبيّ (ص) بسبب وفاة أولاده الذكور ووصفوه بالأبتر - إنّ الله تعالى ردَّ هذه النسبة إلى الذين وصفوه بها، وعدّ ما أعطى نبيّه هو الكوثر والخير الكثير، وأمر نبيّه (ص) أن يصلّي لله تعالى، ويقدِّم له القربان شكراً على هذه النعمة العظيمة، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ الفعل الماضي (أعطيناك) يحكي أمراً متحقِّقاً؛ فإنّ سورة الكوثر المباركة تتضمّن إخبارَين غيبيَّين هما:

١- إنّ الله تعالى أعطى نبيّه خيراً كثيراً وذرّية مباركة، بحيث لا يكون أبتر وعديم الذرّية.

٢ - إنّ شانئ النبيّ (ص) هو الأبتر وعديم الذرّية.

وكلا الوعدين الإلهيّين - كما هو معلوم - قد تحقّق، وأنّ ذرّية النبيّ (ص) ، عن طريق ابنته الزهراء (س) ، قد انتشرت في كلّ أرجاء المعمورة، أمّا أعداؤه وشانئوه، فإمّا أنّه لم يبقَ لنسلهم أثر، أو أنّهم مجهولون غير معروفين.

لقد ذكر الفخر الرازي - من مفسّري السنّة - احتمالات كثيرة في مصداق الكوثر، ثُمَّ قوّى أحدها، وكتب - نقلاً عن السدي -: «كانت قريش يقولون لم---َن مات الذكور من أولاده بتر، فلمّا

ص: 75

مات ابنه القاسم وعبدالله بمكّة، وإبراهيم بالمدينة؛ قالوا بتر، فليس له مَن يقوم مقامه، ثُمَّ إنّه تعالى بيَّن أنّ عدوه هو الموصوف بهذه الصفة، فإنّا نرى أنّ نسل أولئك الكفرة قد انقطع، ونسله (عليه الصلاة والسلام) كل يوم يزداد وينمو، وهكذا يكون إلى قيام القيامة» (1) .

في الختام. . لا يسعنا إلّا أن نذكِّر أنَّ في القرآن الكريم آيات أُخرى كثيرة، يرشدنا شأن نزولها، أنَّ مصداقها هُم أهل بيت النبيّ (ص) ، ولكن حيث توخّينا رعاية الإيجاز والاختصار في هذا الكتاب، اكتفينا بذكر خمسة عشر مورداً، وبوسع الراغبين بالمزيد مراجعة التفاسير الروائيّة، أو الكتب التخصّصيّة التي عُنيت بجميع الآيات النازلة في أهل البيت (عليهم السلام) (2) .


1- مفاتيح الغيب، ج٣٢، ص١٣٣.
2- ينظر على سبيل المثال: تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، السيّد شرف الدِّين النجفي (من علماء القرن العاشر) ؛ و بررسي شخصيّت أهل بيت: به روش قرآن به قرآن (دراسة شخصيّة أهل البيت في القرآن وفق منهج تفسير القرآن بالقرآن) ، للدكتور ولي الله نقي پور.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.