التوسل وصلته بالتوحيد

اشارة

سرشناسه : رجبي ، حسين ، ‫1337 -

عنوان قراردادي : توسل و رابطه آن با توحيد .عربي

عنوان و نام پديدآور : التوسل وصلته بالتوحيد/ تاليف حسين رجبي؛ ترجمه اسعد الكعبي.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر ‫، 1434 ق. ‫ = 1392.

مشخصات ظاهري : ‫ [68] ‫ ص. ‫؛16/5×11/5س م.

شابك : ‫ 7500ريال ‫ : ‫ 978-964-540-416-9

وضعيت فهرست نويسي : فاپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : توسل

موضوع : وهابيه -- دفاعيه ها و رديه ها

شناسه افزوده : كعبي، اسعد، ‫1349 - ، مترجم

رده بندي كنگره : ‫ BP226/6 ‫ /ر3ت9043 1392

رده بندي ديويي : ‫ 297/44

شماره كتابشناسي ملي : 3020678

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

كلمة المعهد

من الأمور البديهية اتّخاذ الواسطة أو الوسيلة عند الب-شر لأجل الحصول على أهداف مادية أو معنوية، وقد أشار المولى تبارك و تعالى في القرآن الكريم إلى أنواع من الوسائط المادية والمعنوية، وبالخصوص المعنوية منها، حيث أمر باتّخاذ الوسيلة إليه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (المائدة:35

ثمّ إنّ أفضل الوسائل لغفران الذنوب، التوسّل بالرسول الأكرم محمّد٩، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (النساء:64)

ولقد توسّل المسلمون على مرِّ التأريخ الإسلامي بذات الله

ص: 6

المقدّسة إلى أن ظهر ابن تيمية الحراني الحنبلي في القرن الثامن، وتبعه محمّد بن عبدالوهاب في القرن الثاني عش-ر، و حرّما التوسّل، وقالا: إنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء معارض للتوحيد، وبَدَءا يهاجمان المسلمين على هذا العمل، ولكن في المقابل عارض المفكرون والمحققون والعلماء المسلمون هذه الفكرة علمياً وثقافياً، فبيّنوا مفهوم ومعنى التوسّل وعدم معارضته للتوحيد.

عزيزي القارئ، هذا الكتيب الماثل بين يديك قام بتدوينه المحقق المحترم والأستاذ الجليل حسين رجبي (زيدعزّه) حول هذا الموضوع باللغة الفارسية، ثمّ قام بتعريبه الأخ الفاضل العزيز أسعد الكعبي (دام توفيقه) .

وأخيراً يتقدّم معهد الحج والزيارة بجزيل الشكر والامتنان للجهود المضنية التي بذلها المؤلّف العزيز والمترجم الفاضل، ولجميع الذين ساهموا في إنجاز هذا الأثر القيّم، راجياً من المولى العلي القدير للجميع قبول الأعمال والتوفيق للطاعة.

إنّه ولي التوفيق

معهد الحج و الزيارة

قسم المعارف والكلام

ص: 7

المقدمة

يتناول هذا الكُتيّب دراسة مفهوم (التوسّل) ، الذي يُعتبر أحد المصطلحات القرآنيّة: (وَ ابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ) (المائدة: 35) ، و قد دُوّن بشكلٍ موجز، وبطريقةٍ استدلاليّةٍ، اعتماداً على القرآن الكريم والأحاديث المعتبرة وآراء فطاحل علماء المسلمين، خاصّةً أهل السُنّة.

لقد حرّرنا هذا البحث المقتضب والأمل يحدونا لأن يكون سبباً لترسيخ المودّة بين أبناء أُمّة محمّدٍ (ص) ، ونرجو أن يقطع الطريق على المتصيِّدين في الماء العكر، الذين لا همَّ لهم سوى خلق الفتن والترويج للخلافات بين أبناء الدين الواحد؛ إذ سوف نتناول فيه الآراء الصحيحة لأتباع كِلا المذهبين، ومن ثَمَّ

ص: 8

سنوضّح ما يشوب التوسّل من ملابساتٍ وما يدور حوله من استفساراتٍ هامّة.

ص: 9

ما هو التوسل؟ وما هي طبيعة الصلة بينه وبين التوحيد؟

اشارة

التوسّل يعني اتّخاذ شيءٍ واسطةً (وسيلةً) للوصول إلى هدفٍ محدّدٍ عادةً ما يسعى الإنسان لتحقيقه.

والوسيلة تارةً تكون حسّ-يّةً وأُخرى تكون معنويّةً، وتارةً تكون إنساناً وأُخرى ليست بإنسانٍ، وتارةً تكون الله تعالى وأُخرى الأعمال الصالحة، مثل: الصلاة والصوم وسائر الأعمال الحسنة، وفي بعض الأحيان تكون الوسيلة بقوّة الإرادة وبإبراز المحبّة والمودّة أو ما شابه ذلك؛ إذ حسب عقيدتنا التوحيديّة، فإنّ البارئ جلّ وعلا قد خلق العالم وأتحفه بشتّى الوسائل والعلل التكوينيّة والتشريعيّة؛ لذلك يكون الاعتقاد بالوسائط للوصول

ص: 10

إلى الهدف جزءاً من هذه العقيدة، ولا ينفكّ عنها قطعاً، كما أنّ إنكار هذه الوسائط مُنافٍ للتوحيد الحقيقي.

فالإنسان الموحّد يعتقد أنّ المؤثّر في العالم وخالقه واحدٌ، وسائر الوسائط وإن كانت مؤثّرةً لكنّها غير مستقلّةٍ، وإنّما اكتسبت تأثيرها من هذا الخالق العظيم، مثل: الارتواء بالماء والشبع بالغذاء والتداوي عند الطبيب. وبالطبع، فإنّ الموحِّد لا يعتقد بالتأثير المستقلّ للوسائط، ولا يعتبرها كائنةً في مصافّ الله تعالى؛ إذ هذا الاعتقاد ينافي التوحيد، وفي نفس الوقت فإنّ إنكار هذه الوسائط وغضّ النظر عنها يتنافى مع التوحيد أيضاً.

تفصيل الموضوع

إنّ أيّ إنسانٍ يواجه شاكل ومصاعب في حياته، ويميل بطبعه إلى البحث عن مأوىً يلجأ إليه للتخلّص من ذلك العبء الذي يثقل كاهله، وذلك من خلال بيان مشاكله ل-مَن لجأ إليه، حيث ستصبح نفسيّته بحالٍ أفضل.

فمن جهةٍ، كلّما تقدم الزمان فإنّ المشاكل الروحية والنفسية والمادّية تزداد على الإنسان، فيزداد عنده الشعور بضرورة اللجوء

ص: 11

للأُمور الروحيّة شيئاً فشيئاً، وهذا الأمر هو الذي جعل للتوسّل مكانةً خاصّةً عند البشر.

وهذا الملجأ بطبيعة الحال يختلف باختلاف عقائد الناس، فأحياناً يكون إنساناً مثلهم، وأحياناً يكون صنماً أو طاغيةً، وأحياناً يلتجِؤون إلى مدبّر الأُمور جلّ شأنه. ومن المؤكّد أنّ العقلاء لا يلتجؤون لأيّ شيءٍ كان، بل يجعلون مَأواهم وملتجأهم مَن بيده زمام الأُمور، فالعقل يُدرك أنّ المخلوق الضعيف الذي لا ينفع نفسه كيف يمكنه أن يحلّ مشاكل الآخرين؟ !

ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ كافّة البش-ر يتمتّعون بنفس القدرة والمستوى، باستثناء الذين أنعم الله تعالى عليهم بقدرةٍ خاصّةٍ، ومنحهم مكانةً رفيعةً امتازوا بها عن سائر البش-ر، فإنّ هؤلاء لم ينالوا هذه الكرامة إلّا بعد خلوص النيّة وكمال العبوديّة، ومن ثمّ صار باستطاعتهم حلّ مشاكل الآخرين المادّية والروحيّة بإذن الله وبفيضٍ منه تعالى. فهؤلاء الأشخاص قد جعلهم الله تعالى واسطةً بينه وبين خلقه؛ إذ إنّه جلّ شأنه تارةً يبعثهم كأنبياء يحملون على عاتقهم مسؤوليّة هداية الناس، فيخرجونهم من

ص: 12

الظلمات إلى النور، بلطفٍ ربّاني ووحيٍ سماويٍّ، وتارةً يجعلهم واسطةً لطلب المغفرة والتقرّب إليه؛ وبالتأكيد فإنّه لا يليق بالتصدّي لهاذين المقامين أيّ شخصٍ كان، بل لا ينالهما إلّا مَن سمَت نفسه وعَلَت همّته، كما قال العزيز الحكيم في قرآنه الكريم: (وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَس-ى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (الإسراء: ٧٩) . فأيّ مقامٍ هو (المقام المحمود) هذا؟

من الواضح أنّ هذا المقام هو مكانةٌ معنويّةٌ رفيعةٌ أساسها القرب من الله تعالى، ولا ينالها أيّ مخلوقٍ كان.

وقال عزّ وجلّ في آيةٍ أُخرى: (وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (الضحى: 5 فالأنبياء والأئمة (ع) لم ينالوا حقّ الشفاعة وحقّ الولاية وحقّ الطاعة، وسائر الحقوق المعنويّة، إلّا بعد أن منحهم الله تعالى المقام السامي عنده، ولولا ذلك لما كان لأحدٍ على الآخر حقٌّ، وعليه فقد اتّخذ الله عزّ وجلّ عدداً من خاصّة خلقه، وجعلهم وسائط لإيصال وحيه وهداية الناس، وبالأخصّ إيصال رسالة التوحيد، التي تُعتبر الدعامة الأساسيّة للدين.

إذن، الاعتقاد بسموِّ مقام النبيّ (ص) والتوسّل بمقامه عند الله لا يتنافى مع عقيدة التوحيد، ولا يتعارض مع كون الله تعالى هو

ص: 13

المرجع وال-مُلتَجأ الحقيقي عند النوائب؛ لأنّ هذا المقام هو نعمةٌ وهبةٌ من الله، وهو (عزّ شأنه) لا يهبه إلّا ل-مَن كان أهلاً له.

لا شك أنّ التوحيد الصادق هو الاعتقاد بأنْ لا ملجأ ولا مأوى إلّا الله تعالى (لا إلهَ إلّا الله) ، ولكن بما أنّه (عزّ وجلّ) مُنزّهٌ عن التجسيم والصفات المادّية، فلا بدّ من وسائط مادّيةٍ تقوم بإرشاد الناس وحلّ مشاكلهم، فلا يمكن أن يتجسّم الله تعالى للناس ويحكم بينهم بشكلٍ مباشرٍ، بل يختار منهم فرداً أو أفراداً ذوي صفاتٍ حميدةٍ وخصالٍ تؤهّلهم لهذا الأمر، ليمنحهم المقام المحمود، ومن ثَمَّ يكونوا خلفاءه في الأرض، ويحكموا بما ألهمهم من خلال الوحي.

ول-مّا كان العبد مكلّفاً بالانصياع والطاعة لهذه الأحكام، فالاعتقاد بحكومة خليفة الله، الذي هو واسطةٌ بينه وبين خالقه، يُعتبر أمراً ضروريّاً لا مناص منه، وهذا هو التوحيد الحقّ، على خلاف ما اعتقده الخوارج، أي: عدم قبول حكم أيّ حاكمٍ سوى الله تعالى؛ مستندين إلى الآية المباركة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (الأنعام:5٧) ؛ إذ قالوا: لا توجد أيّة واسطةٍ في الحكم بين الله وبين خلقه، فعلّق الإمام عليّ (ع) على احتجاجهم الزائف هذا قائلاً:

ص: 14

«كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطلٌ» (1).

واستخدام الخوارج لهذا الشعار - في الحقيقة - ناشئٌ عن فهمٍ خاطئٍ لمعنى الآية الكريمة؛ إذ ليس من شأن الله تعالى أن يتصدّى لمنصب الحكم بشكلٍ مباشرٍ، بل لا بدّ وأن يختار خليفة لائقاً ينوب عنه.

ويمكننا القول: إنّ أوّل انحرافٍ في عقيدة التوحيد عند المسلمين قد ابتُلي به الخوارج؛ لأنّ التوحيد الصحيح يستلزم قبول الوسائط التي نصّبها الله علينا، وليس نفيها.

فقد اعتبر الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم أنّ طاعتَه عبادةٌ، وأنّ اتّباع وإطاعة مَن سواه شركٌ، كما جاء في الآية الكريمة: (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) (مريم: 44) ، ومن الواضح إنّ عبادة الشيطان هنا تعني إطاعته واتّباعه. وعلى العكس من هذا، فإنّه تعالى اعتبر في آيةٍ أُخرى، أنّ إطاعة الرسول (ص) وأُولي الأمر هي طاعة له.

إذن، اعتبر البارئ جلّ وعلا أنّ إطاعة الوسائط هي توحيدٌ صحيحٌ، وعصيانها شركٌ، فقال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 4٠.

ص: 15

أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) . (النساء: 5٩)

فالنتيجة: إنّ كلّ ولايةٍ وطاعةٍ أمرَنا الله بها، تنصبُ في طاعته تعالى وتُعتبر توحيداً صحيحاً دون أدنى شكٍّ، وكلّ طاعةٍ على خلاف طاعة الله تعالى ورسوله وأُولي الأمر تُعتبر شركاً (في الطاعة) . هذه الطاعة سواء أكانت للشيطان، أم لامرئٍ لم يُنصّبه الله تعالى، أم لأهواء النفس، أم لغير ذلك، هي باطلةٌ؛ لذلك فالواسطة، سواء أكانت في الحُكم أم في الولاية، وسواء أكانت في إيصال الرزق، أم في أيّ شيءٍ آخر، إذا كانت بإذنٍ منه تعالى فالاعتقاد بها توحيدٌ، وإلّا فإنّ الاعتقاد بها شركٌ.

ص: 16

ص: 17

الوسائط في عال-َمي التكوين والتشريع

إنّ الوسائط تارةً يكون لها وجودٌ خارجيٌّ في عالم التكوين، وأُخرى تكون في عالم التش-ريع ونقل أحكام الدين والوحي؛ فالملائكة هم وسائطٌ بين الله تعالى وبين عباده في عالمي التكوين والتش-ريع، مثلاً في قبض الأرواح قال تعالى: (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (الأنعام: 61) ، وكذلك هم وسائطٌ في إيصال الرزق للناس.

وكان بعض الأنبياء أيضاً مؤثّرين في عالم التكوين - بإذن الله تعالى - كما هو الحال بالنسبة للنبيّ عيسى (ع) : (وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ ) (آل عمران: 4٩) . فأنبياء الله هم وسائطٌ، مُهمّتهم إيصال الوحي وتعاليم الدين للبش--ر، وإنكار

ص: 18

هذه الوسائط في التكوين والتشريع يُعتبر مخالفاً لما جاء في القرآن الكريم. فالتوحيد الصادق هو أن يقبل الموحِّد كلّ شيءٍ أقرّه دين الله تعالى ويعتبره توحيداً، ويرفض كلّ ما سواه ويعتبره شركاً.

ومن الجدير بالذكر أنّ الاعتقاد بالوسائط، حسب مبادئ التوحيد الصادق، لا يستلزم الشرك مطلقاً؛ لأنّ هذه الوسائط لا تتمتّع باستقلالٍ بذاتها، وكلّ ما لديها هو من الله تعالى؛ إذ لا يُنظر إليها كوجودٍ مستقلٍّ دون مؤثّرٍ، فلو اعتُبرت مستقّلةً في التأثير، لأصبح الاعتقاد بها شركاً، حتّى وإن كانت هذه الواسطة هي النبيّ محمّد (ص) .

وقد نفى أتباع بعض المذاهب أيَّ نوعٍ من الوسائط استناداً لهذه النظرة الأخيرة، واعتبروها شركاً، ولكن حسب ما ذكرنا من تفاصيل، يتّضح أنّ الفهم الذي تمخّض عنه رأي هؤلاء، هو في الحقيقة خاطئٌ ومخالفٌ للقرآن الكريم ولسنّة الرسول (ص) والأئمة (ع) وسيرتهم؛ لأنّ القرآن الكريم خصّ بالش-رك كافّة الذين تركوا عبادة الله قبل الإسلام، واتّخذوا لأنفسهم آلهةً - مثل الأصنام التي صنعوها بأيديهم - وجعلوها وسائط بينهم وبين الله، وقاموا بعبادتها، حيث إنّهم اختاروا وسائط لا نفع لها و

ص: 19

لا ضرر، دون إذنٍ من الله تعالى.

لذا، فإنّ ادّعاء البعض بكون أفعال وعقائد المسلمين، باحترام وإجلال مراقد الرسول وأهل بيته وصحابته وسائر أولياء الله تعالى، شِركاً، أو في بعض الأحيان يُقارنوها مع أفعال مشركي صدر الإسلام، هو ادّعاءٌ باطلٌ، ومقارنتهم هذه لا وجه لها، ولا يقتنع بها أيّ عاقلٍ؛ لأنّ كلّ مسلمٍ لا يعبد أحداً سوى الله تعالى، وإنّما يزور أضرحة أنبياء وأولياء الله حبّاً بهم واحتراماً لهم؛ إذ وهبهم ربّ العالمين مقاماً محموداً ومكانةً رفيعةً، وكرّمهم بالشفاعة لسائر خلقه، فيقصدهم الخلق طلباً لحلّ المشاكل، من خلال وساطتهم إلى الله تعالى.

أفهل يُعتبر طلبُ العباد حلّ مشاكلهم من أشخاصٍ رفعهم الله تعالى مقاماً محموداً وأذِن لهم بذلك، شركاً؟ !

في الحقيقة ليس هناك مسلمٌ يعتقد أنّ هذا الفعل يُنافي التوحيد الخالص، إذ كما أنّ صحابة الرسول (ص) وأتباعه كانوا يجعلونه واسطةً بينهم وبين الله تعالى عندما كان حيّاً، فبعد رحيله يمكن أن نجعله واسطةً أيضاً، وإنكار هذا الأمر لا دليل عليه.

ومن الواضح أنّ الإنسان عندما يريد أن يحصل على منزلةٍ عاليةٍ

ص: 20

وقربٍ من الله تعالى، عليه أن ينال ذلك بواسطة أعماله الصالحة وعقائده الصحيحة، فالأعمال الصالحة تتجلّى في الصلاة والصوم والحجّ وسائر العبادات، التي من شأنها أن تقرّبه إلى خالقه، وكذلك فتوحيده الخالص وتصديقه بنبوّة الرسول (ص) ، ومحبّته لأهل البيت (ع) ، هي أُمورٌ لها تأثيرٌ بالغٌ في تقرّبه إلى الله تعالى.

ومن الأعمال التي لها دَورٌ مشهودٌ في التقرّب إلى الله، المواظبة على الدعاء وطلب المراد منه تعالى، ولا شكَّ فإنّ مجرّد التوسّل بغير الله لا يُعتبر شركاً، بل التوسّل الذي يُعتبر شركاً هو ما كان دون إذنٍ من الله، أو رجاء شخصٍ بموازاته تعالى، والاعتقاد بتأثيره المستقلّ، وإلاّ فإنّ جميع المسلمين يطلبون العون من غير الله تعالى عند الشدائد المادّية والنفسيّة، ولا أحد يستطيع القول: إنّهم مشركون.

رُويَ عن رسول الله (ص) قوله: «مَن أصبح لا يهتمُّ بأُمور المسلمين فليس منهم، ومَن سمع رجلاً ينادي "يا لَلمسلمين" فلم يُجبه فليس بمسلمٍ» (1). أَلا يُعتبر طلب الغوث والمدد من المسلمين


1- اصول الكافي، ج2، ص164.

ص: 21

طلباً من غير الله تعالى؟ ! وهل أنّ الطلب من الميّت شركٌ؟ ! فلماذا يُعتبر الطلب من الميّت شركاً؟ وما هو المعيار في كون الطلب من الميّت شركاً؟ هل أنّه شركٌ لأنّ الإنسان عند فناء جسده المادّي يصبح عاجزاً عن إدراك شيءٍ؟ أو لأنّه اتّخذ واسطةً غير الله تعالى فيكون فعله شركاً؟

من المؤكّد أنّ الإنسان لا يفنى بموته، ولا يوجد مسلمٌ يعتقد بهذا الشيء، بل إنّ صريح القرآن والأحاديث يؤكّد أنّ الإنسان بعد موته يبدأ حياةً جديدةً، ويصبح إدراكه للأُمور أكثر من الأحياء.

فهل يمكن القول: إنّ الأموات لا يسمعون كلامنا؟ ! أفَلا تنصّ الأحاديث التي يرويها المحدّثون - شيعةً وسنّةً - على استحباب السلام على أهل القبور عند زيارتها؛ لأنّ أهلها يسمعون سلامنا؟ ! أَلا نُسلّم على النبيّ (ص) كلّ يومٍ في صلواتنا؟ ! أَلم يُخاطب رسولُ الله (ص) قتلى المشركين في حرب بدرٍ قائلاً: ذوقوا الآن ما كنتم تُنكرون؟ ! أَلم يُجب رسول الله (ص) الذين سألوه هل أنّ الموتى يفهمون؟ قائلاً: نعم، إنّهم يفهمون أفضل منكم؟ ! (1)


1- مجمع الزوائد، ج6، ص٩1، بيروت، دار الكتب العلمية.

ص: 22

أَلم يذكر القرآن الكريم أنّ الشهداء أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون؟ ! فهل يا تُرى أنّ مقام الأنبياء والأئمة عند الله أدنى من مقام الشهداء؟ ! أَلا توصل الملائكة سلامنا إلى النبيّ والأئمة؟ !

في الحقيقة إنّ الموتى، وخاصّةً الأنبياء والأئمة (ع) ، يُدركون الأُمور في عالم البرزخ أكثر من الأحياء، بل إنّهم يُحيطون بها بشكلٍ أوسعَ بلطفٍ وكرامةٍ من الله سبحانه وتعالى.

أَوَ ليس الأنبياء والأولياء في عالم البرزخ يدعون الله تعالى؟ ! أَلا يستطيع الأنبياء والأئمة أن يدعوا لأُمّتهم في عالم البرزخ؟ !

فإنّ كلّ مسلمٍ يؤمن بمنزلة الرسول والأئمة عند الله تعالى، وعنده يقينٌ بالحياة بعد الموت، سوف يكون جوابه: (نعم، إنّهم يستطيعون أن يدعوا لأُمّتهم) . فهل أنّ مناجاة هؤلاء الصلحاء يُعتبر شركاً؟ ! فإذا كانت مناجاتهم وهم أموات شركاً، فمناجاتهم عندما كانوا أحياءً شركٌ أيضاً؛ لأنّ الذين توسّلوا بهم آنذاك قد اتّخذوا غيرَ الله واسطةً لأنفسهم! في الوقت الذي لايدّعي فيه أحدٌ أنّ هذا الفعل شركٌ؛ إذ الش-رك هو التوسّل بحيٍّ أو بغير حيّ بشكلٍ مستقلٍّ وفي موازاة الله تعالى.

إذن، ليس المعيار في الشرك هو الموت أو الحياة، بل المعيار فيه

ص: 23

اتّخاذ الإنسان معبوداً يلتجئ إليه إلى جانب الله تعالى؛ لذا، لا يجوز الاتّكاء على الذوق في تعيين مصداق الش-رك ونسبته إلى شخصٍ أو طائفةٍ ما، بل لا بدّ من الاعتماد على معيارٍ صحيحٍ، وهو الاستناد إلى الآيات والروايات التي لا شكّ فيها ولا خللٍ، وكذلك الأخذ بنظر الاعتبار أعمال المسلمين، التي هي قطعاً تطابق التوحيد وتخالف الشرك.

فإذا ادّعى شخصٌ: أنّ معيار الشرك هو اتّخاذ واسطةٍ، وبما أنّكم جعلتم النبيّ (ص) والأئمة (ع) وسائط، فقد أشركتم.

نقول: إنّ جواب هذا الادّعاء قد تمّ توضيحه فيما سبق، وقلنا: إنّ مجرّد اتّخاذ واسطةٍ ليس بش-ركٍ، فالله تعالى قد جعل الأنبياء وسائط بينه وبين خلقه، لذلك إذا كانت الواسطة بحدّ ذاتها شركاً، فهذا النوع من الشرك قد أمر الله تعالى به، فالوسائط إنّما تكون شركاً عندما تُتَّخذ دون إذنٍ من الله تعالى، ويجعلها العبد آلهةً.

ومن العجيب أنّ البعض يرفضون التوسّل جملةً وتفصيلاً! ولكن ما هو دليلهم على رفض الواسطة بين الله تعالى وبين خلقه؟ ففي النظام الكوني الذي نحن فيه، هل نرى شيئاً غير

ص: 24

الوسائط؟ ! إذ إنّ أصل النظام الكوني مُبتنٍ على الأسباب والمسبّبات؛ أَليس الأنبياء وسائط بين الله وبين عباده؟ ! أَليس ملائكة الحياة والموت هم وسائط بين الله وبين الخلق؟ ! أَليس العوامل الطبيعيّة وغيرها وسائط؟ ! أَليس الطبيب هو واسطة لشفاء المرضى؟ ! أَليس الماء واسطة لرفع العطش، والطعام واسطة لرفع الجوع؟ ! أَليس الشمس واسطة لتزويدنا بالنور، والنار واسطة للإحراق؟ ! وما إلى ذلك الكثير.

إذن، من وجهة نظر الإنسان الموحّد، واستناداً لحقيقة التوحيد الصادق، فإنّ الوسائط ليست إلّا وسائل خلقها الله تعالى، وجعل على عاتق كلّ واحدةٍ منها مهمّةً أو مهمّاتٍ تؤدّيها بإذنه.

والآيات المباركة من قبيل: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن: 1٨) لا تدلّ على إنكار هذه الوسائط البتّة، بل تشير إلى أنّ المؤثّر الوحيد في الكون هو الله تعالى، وليس هناك مؤثر مستقلٌّ حقيقيٌّ غيره. وإن اعتقدت أيّها الإنسان بوجود مؤثّرٍ مستقلٍ غيره تعالى فأنت مشركٌ؛ لأنّ اعتقادك هذا ينافي التوحيد.

فالإنسان الموحّد لا يعتبر الوسائط مستقلّةً، بل يرى أنّ الأثر

ص: 25

الناشئ عنها هو بإذنٍ من الخالق البارئ، كما كان عيسى (ع) يُحيي الموتى، وكما يعالج الطبيب المرضى، وكما يرفع الماء العطش، بإذنٍ منه تعالى.

فالكعبة الم-شرّفة، والحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، وكلّ ما في مكّة، تنال احترام وتقديس المسلمين؛ إذ إنّهم يولّون وجوههم نحو الكعبة في صلواتهم ودعائهم، فمن المؤكّد أنّ معبودهم ليس الحجر والتراب الذي بُني منه بيت الله الحرام، أو المكان الذي يتّجهون نحوه؛ لأنّ هذا المكان وما فيه ليس سوى علاماتٍ وآياتٍ يتّخذوها ذريعةً للتقرّب من الله تعالى، كما هو الحال عندما سجد الملائكة لآدم.

لذلك، عندما يكون الحجر أو المكان علامةً على تقرّب العبد لربّه، وواسطةً لذلك، أَوَليس من الأولى حينها أن يكون رسول هذا الربّ، وموفده إلى عباده، علامةً وواسطةً للتقرّب إليه تعالى؟ !

إذن، فلا ضيرَ من اتّخاذ واسطة، سواء أَكانت إنساناً أم دعاءً أم عملاً، ولا فرق في كون هذا الإنسان حيّاً أو ميّتاً. ولكن إن اعتقد العبد باستقلال هذه الوسائط في التأثير بذاتها، فالأمر

ص: 26

حينها يصبح مختلفاً، ويتحوّل إلى شركٍ. فالاعتقاد بأنّ الله تعالى قد خلقها لقضاء حوائجنا، وأنعم بها علينا، كوسائط نستفيض منها فحسب، لا ينافي التوحيد بوجهٍ، والتوسّل بالقرآن وبأسماء الله وبالصلاة وبالحجّ هو عين التوحيد؛ لأنّه استجابة لأمر الخالق الواحد الأحد، وهذا التوسّل هو السبيل الذي يجب علينا أن نسلكه لنكون موحّدين؛ وبالتالي فالتوسّل بالقرآن الناطق وبأسماء الله في الأرض، أي: محمّد وعليّ وذرّيتهما، الذين هم أطهر عباد الله في الأرض ومرآة العمل الصالح، هو التوحيد الخالص بكلّ معنى الكلمة، وإنكار هذا التوسّل واعتباره باطلاً، هو عين الشرك ونقضٌ للتوحيد، بل إنّه انحرافٌ فكريٌّ وزللٌ عقائديٌ.

ونكرّر ما ذكرناه سابقاً ونقول: إنّ معيار الشرك هو الاعتقاد بمخلوقٍ وتقديسه، باعتباره في مصافّ الله تعالى وموازاته، وإلّا فسوف لا نجد موحّداً على وجه الأرض البتّة، وحتّى الذين يدّعون أنّ الاعتقاد بكلّ واسطةٍ هو شركٌ، سوف يكونون مشركين قطعاً حينها؛ لأنّهم يعتقدون بالوسائط كما أشرنا إليه أعلاه.

ص: 27

من الجدير بالذكر أنّنا نلاحظ اليوم تيّاراً فكريّاً بين أهل السنّة، يتمثّل بأشخاصٍ يُخالفون سيرة العظام من أسلافهم وعلمائهم، حيث يقومون بنش-ر كُتبٍ يتعرّضون فيها للزيارة والتوسّل، بينما الحقيقة هي أنّ علماء أهل السنّة قد وقفوا بوجه أمثال هؤلاء، بل اعتبروا التوسّل أمراً جائزاً ولا ينافي الشرع.

ولكي تتّضح الصورة لك عزيزي القارئ بشكلٍ أفضل، نوثّق المسألة ببعض أقوال علماء أهل السنّة، فيتبيّن حينها تضادّ آرائهم مع ما يدّعيه المشكّكون، ونترك الحكم لك، قال تعالى في كتابه الكريم: (. . . فَبَشِّ-رْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر:1٧و1٨) .

ص: 28

ص: 29

التوسل من وجهة نظر مفكّري الشيعة والسنة

اشارة

وجهة نظر علماء الشيعة بالنسبة للتوسّل واضحةٌ؛ إذ إنّهم يجوّزون ذلك دون خلافٍ، بشرط أن يكون التوحيد خالصاً من كلّ شائبةٍ، ولا ينسب فيه العبد للمُتوَسَّل به تأثيراً مستقلاً عن الله تعالى. وعلماء إِخواننا السنّة على هذا الرأي أيضاً، بالرغم من أنّ صانعي الفِتن والمصفّقين للخلافات بين المسلمين - خاصّةً الوهّابيّين - قد جنّدوا كافّة طاقاتهم ليجعلوا ما اتّفق عليه الفريقان أمراً مُختَلَفاً فيه. ومن أجل أن تتّضح هذه الحقائق، سوف نسلّط الضوء على مجموعةٍ من آراء علماء أهل السنّة

فيما يلي.

ص: 30

آراء علماء قريتي ديوبند وبريلة الهنديّتين

ينقسم مسلمو شبه القارّة الهنديّة عقائديّاً إلى فرقتين أساسيّتين، وكلاهما من أتباع المذهب الحنفي، وهما:

1- الفرقة الديوبنديّة.

2- الفرقة البريلويّة.

سُمّيت الفرقة الثّانية بهذا الاسم نسبةً إلى قرية (بريلة) في الهند، وقد أسّسها وتزعّمها المولى (أحمد رضا خان) ، وأُطلق على أتباعها اسم (البريلويّين) .

وأمّا الفرقة الأُولى فقد سُمّيت بهذا الاسم نسبةً إلى قرية (ديوبند) في الهند أيضاً، حيث تأسّست فيها (دار العلوم الإسلاميّة) ، وأُطلق على أتباعها اسم (الديوبنديّين) .

كانت هاتان الفرقتان في بادئ الأمر متقاربتين إلى حدٍّ ما، ولكن بمرور الزمان نشأت بينهما اختلافاتٌ عقائديّةٌ عديدةٌ، وتفاقمت للحدّ الذي وصل فيه الحال اليوم إلى أنّ الديوبنديّين يعتبرون البريلويّين مش-ركين، والبريلويّون بدروهم يعتبرون الديوبنديّين وهّابيّين، إذ تدور بينهم نقاشات محتدمة.

وأمّا بالنسبة لانتشار الفرقة الديوبنديّة، فيجدر بنا القول: إنّ

ص: 31

أغلب علماء أهل السنّة في باكستان والهند وإيران هم من أتباع هذه الفرقة.

ونشير هنا إلى بعض عقائد البريلويّين، مثل: الاعتقاد بعلم الغيب، كون رسول الله (ص) هو مفتاح الغيب، كونه (ص) حاضراً وشاهداً، كونه (ص) نوراً، طلب الفيض من أولياء الله الصالحين، الطواف بقبور أولياء الله الصالحين، وغير ذلك.

بعد انتشار الفكر الوهّابي في بلاد الحجاز، امتدّ نفوذ الوهّابيّين إلى بعض البلدان الإسلاميّة، ومن ضمنها شبه القارّة الهنديّة. فعندما أُسقط حكم الأشراف وأُخرجوا من الحرمين - بمساندةٍ من العثمانيّين والوهّابيّين - كتب أحمد رضا خان رسالةً إلى علماء الحرمين - آنذاك - ليُطلعهم فيها على أنّ الديوبنديّين في الحقيقة وهّابيّون، حيث ذكر فيها سبعين مؤاخذةً عليهم، وأفتى بكفرهم.

وردّاً على هذه الرسالة، بعث الديوبنديّون إلى علماء الحرمين رسالةً اعتبروا فيها كلام أحمد رضا خان افتراءً، وادّعَوا أنّهم من أتباع مذهب الشيخ الأعظم ومن مقلّديه، وليسوا بوهّابيّين، وأجابوا على ستة وعشرين سؤالاً عقائديّاً، فأيّد علماء الحرمين

ص: 32

هذه الرسالة. وقد طُبعت هذه الرسالة تحت عنوان (المهنَّد على المفنِّد) .

ويُعتبر كتاب (المهنَّد على المفنِّد) من أفضل الكتابات العقائديّة عند أهل السنّة؛ إذ يُبيّن آراءهم ومعتقداتهم بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ. فالجدل والنزاع الذي حصل بين هاتين الفرقتين، قد كان سبباً لأن يقوم كلٌّ منهما ببيان وجهات نظره العقائديّة والبراءة علناً من الفكر الوهّابي. ويمكن الاطّلاع على تفاصيل آراء وعقائد هاتين الفرقتين في هذا الكتاب ل-مَن أراد المزيد، كما أنّ أحد علماء السنّة في مدينة (جابهار) ترجم هذا الكتاب إلى اللّغة الفارسيّة.

مُقتطفات من كتاب المهنَّد على المفنِّد

جواباً على السؤال الذي يقول: هل يجوز التوسّل برسول الله (ص) بعد وفاته عند الدّعاء؟ جاء في هذا الكتاب ما يلي:

عندنا وعند مشايخنا، يجوز التوسّل في الدعوات بالأنبياء والصالحين من الأولياء والشهداء والصِّدّيقين، في حياتهم

ص: 33

وبعد وفاتهم، بأنْ يقول في دعائه: اللّهُم إنّي أتوسّل إليك بفلان أنْ تُجيب دعوَتي، وتقضي حاجتي، إلى غير ذلك. كما صرّح به شيخنا ومولانا الشاه محمّد إسحاق الدهلوي، وبيّنه في فتاواه شيخنا ومولانا رشيد أحمد الكنكوهي. . . . وهذا الرأي قد ذُكر في بعض الروايات أيضاً.

ولا نرى بأساً من أن نُشير إلى بعض عقائد أهل السنّة، التي تمّ بيانها بشكلٍ واضحٍ في هذا الكتاب، كما يلي:

1- تُعتبر زيارة قبر رسول الله (ص) من أعظم درجات التقرّب إلى الله تعالى، وأكثر الأعمال ثواباً، للدرجة التي يمكن القول: إنّها قريبة من الواجب؛ لذلك فإنّ مَن قصد المدينة المنوّرة لزيارة قبر رسول الله (ص) دون أيّ دافعٍ آخر، يستحقّ شفاعته (صلوات الله عليه) ، فقد قال الرسول (ص) في حقّه: «مَن جاءني زائراً ليس له حاجةٌ إلّا زيارتي، كان حقّاً عَلَيَّ أنْ أكونَ له شفيعاً يومَ القيامة» . (1)


1- أخرجه الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن البغدادي، المتوفى بمصر سنة 353هفي كتابه (السُنن الصِّحاح) ؛ المعجم الكبير، ج12، ص225، ح1314٩؛ مجمع الزوائد، ج4، ص2؛ الصلات والبشر، ص142؛ الدرّ المنثور، ج1، ص56٩؛ كنز العمّال، ج12، ص256 ح34٩2٨.

ص: 34

2- إنّ الأرض التي تحتضن جسد رسول الله (ص) هي الأفضل على الإطلاق، حتّى أنّها أفضل من العرش والكرسي.

3- يجوز للعبد أن يقف أمام قبر الرسول (ص) ويقول: يا رسول الله، اشفع لي. أو يقول: أتوسّل بك لأموت مسلماً.

4- روى أبو هريرة عن رسول الله (ص) قوله: إنّ النبيّ عيسى (ع) ينزل من السماء، ويؤدّي مناسك الحجّ، ويأتي قبري ويسلّم عليَّ وأنا أردّ السلام عليه. ومن الطبيعي أنّه لا يمكن ردّ السلام إلّا عندما يسمعه ال-مُجيب، فيُجيب عليه.

5- جميع الأنبياء أحياء في قبورهم بأجسادهم المادّية كما كانوا في عالم الدنيا، ويقومون بأداء عباداتهم كالصلاة والصيام؛ لذلك قال البعض بعدم جواز تقسيم تركاتهم، وبعدم صحّة الزواج من نسائهم بعد موتهم.

ويرى علماء ومشايخ أهل السنّة أفضلية الوقوف أمام وجه رسول الله (ص) المبارك عند الزيارة والدعاء.

6- نُقل عن فطاحل علماء الديوبنديّة أنّ رسول الله٩ حيٌّ في قبره، وهو يسمع السلام عن قربٍ وعن بُعدٍ، إذ تنقل له الملائكة سلام مَن كان بعيداً عنه، وكذلك فإنّ أعمال أُمّته تُعرض عليه

ص: 35

بواسطة الملائكة.

وما نسمعه اليوم من كون السلام والصلاة على روح النبيّ (ص) لا يصل إليه، هو خلاف إجماع الأُمّة. (1)

أقوال بعض علماء السُنّة

قال نور الدين السمهودي:

إنّ طلب العون والشفاعة من النبيّ، أو التوسّل إلى الله بجاه النبيّ وشخصه جائزٌ، قبل أنْ يولد وبعد ولادته ووفاته، وفي عالم البرزخ وفي يوم القيامة. (2)

قال الدكتور عبد الملك السعدي:

إذا قلت: اللّهم إنّي توسّلتُ إليكَ بجاهِ فلان، لنبيٍّ أو صالحٍ، فهذا أيضاً ممّا ينبغي أن لا يحصلَ بجوازه خلافٌ؛ لأنّ الجاهَ ليس له ذات ال-مُتوسَّل به، بل مكانتُه ومرتبتُه عند الله، وهي حصيلة الأعمال الصالحة؛ لأنّ الله تعالى قال عن موسى (عليه الصلاة والسلام) : (وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) (الأحزاب: 6٩) .


1- كتاب المهنَّد على المفنِّد.
2- وفاء الوفاء، ج4، ص13٧2.

ص: 36

قال القسطلاني: حريٌّ بزائر رسول الله أن يُكثر من الزيارة والدعاء والتض-رّع والاستغاثة، وطلب الشفاعة والتوسّل بذات رسول الله (ص) المقدّسة. (1)

ويقول الزرقاني في شرح هذا الكلام: «يجب التوسّل بالنبيّ؛ لأنّ التوسّل به يُزيل جبالاً من الذنوب» .

وقال ابن الحاج أبو عبيد الله العبدري المالكي:

فإنْ كانَ الميِّتُ ال-مُزارُ مِمَّن تُرجى بَركتُهُ، فَيُتوَسَّلُ إلى الله تعالى بهِ، وكَذلك يَتوسَّلُ الزَّائرُ بِمَنْ يَراهُ الميِّتُ مِمَّنْ تُرجى بَركتُهُ إلَى النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بل يبدأ بالتَّوسُّلِ إلى الله تعالى بالنبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ هو العُمدَة في التَّوسُّلِ. (2)

قال الحسن بن عليّ السقّاف الشافعي:

إنّ التوسّل والاستغاثة وطلب الشفاعة من سيّد الخلق محمّد النبيّ ونور الظلمات، من المستحبّات التي أُكّد عليها بشدّة، خاصّةً عند الضيق. وكانت سيرة العلماء العاملين والأولياء المتهجّدين وكبار المحدّثين وأئمة السلف على هذا.


1- البدعة في مفهومها الإسلامي، ص45.
2- المدخل، ج1، ص254.

ص: 37

كما أنّ النوويّ ذكر استحباب التوسّل في بعض كتبه. (1)

ودوّن الغماري في مقدّمة كتابه ما يلي: «إنّ استحباب التوسّل في المذهب الشافعي والمذاهب الأُخرى (الحنبليّة والحنفيّة والمالكيّة) هو مقبولٌ» . (2)

كما نقل ابن حجر المكّي بيتين من أشعار الشافعي التي يتوسّل فيها بأهل بيت النبيّ (ع) :

آلُ النبيّ ذريعتي

وذكر زيني دحلان: مَن تتبّع أذكار السلف وأدعيتهم وأورادهم، يجد فيها الكثير من التوسّل بالذوات المقدّسة، ولم يعترض عليهم أحدٌ، إلى أن جاء المنكرون (الوهّابيّون) .

وإذا أردنا جمع نماذج من التوسّل، فيجب علينا أن نؤلّف


1- حاشية الإيضاح على المناسك، ص45٠ و 4٩٨؛ شرح المهذّب (المجموع) ، ج٨، ص2٧4؛ شرح الأذكار، باب أذكار الحجّ، ص3٠٧.
2- الغماري، مقدّمة إرغام المبتدع الغبيّ بجواز التوسّل بالنبيّ.

ص: 38

كتاباً عظيماً. (1)

وقال العلاّمة الأميني في التوسّل:

وأمّا الاستغاثة والنداء والانقطاع وما أشار إليها، فلا تعدو أن تكون توسّلاً بهم إلى المولى سبحانه، واتّخاذهم وسائل إلى نجاح طلباتهم عنده جلّت عظمتُه؛ لقربهم منه، وزلفتهم إليه، ومكانتهم عنده؛ لأنّهم عبادٌ مكرمون، لا لأنَّ لذواتهم القدسيّة دخلاً في إنجاح المقاصد أوّلاً وبالذّات، لكنّهم مجاري الفيض وحلقات الوصل، ووسائطٌ بين المولى وعبيده [كما هو الشأن في كلّ متقرّب من عظيمٍ يُتوسّل به إليه]، وهذا حكمٌ عامٌّ للأولياء والصالحين جميعاً، وإنْ كانوا متفاوتين في مراحل القرب، كلّ هذا مع العقيدة الثابتة بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله سبحانه، ولا تقع في المشاهد المقدّسة كلّها من وفود الزائرين إلّا ما ذكرناه من التوسّل، فأين هذه من مضادة التوحيد؟ ! . (2)


1- زيني دحلان، الدرر السنيّة، ص31.
2- الغدير، ج3، ص4٠3.

ص: 39

التوسل بالنبي (ص) في حياته البرزخية

إنّ عقيدة المسلمين تجوّز بل ترجّح التوسّل بالنبيّ وهو في حياته البرزخيّة. ولكنّ الوهّابيّين يخالفون هذه العقيدة، ويدّعون حرمة وعدم جواز ذلك!

لقد استند الوهّابيّون في رأيهم هذا، ومعظم آرائهم الأُخرى، على أفكار ابن تيميّة، الذي يُعتبر من أبرز المخالفين للتوسّل، فهو يقول في التوسّل:

طلب الدعاء من الغير، حياًّ كان أو ميّتاً، وإنْ قلتَ: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءَه أعظم ممّا يجيبه إذا دعوته، فهذا هو القسم الثّاني، وهو أن لا تطلب منه الفعل ولا تدعوه، ولكن تطلب أن يدعو لك كما تقول للحيّ: ادع لي، وكما كان الصحابة

ص: 40

رضوان الله عليهم يطلبون من النبيّ (ص) الدعاء، فهذا مشروع في الحيّ كما تقدّم، وأمّا الميّت من الأنبياء والصالحين وغيرهم، فلم يُشرَّع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا: اسأل لنا ربَّك، ولم يفعل هذا أحدٌ من الصّحابة والتّابعين، ولا أمر به أحدٌ من الأئمة، ولا ورد فيه حديثٍ. (1)

في الحقيقة أنّ ما وضّحناه سابقاً يبيّن بطلان هذا الرأي وعدم صوابه؛ إذ إنّ الروايات وحتّى الآيات تشير إلى جواز التوسّل وصحّته بعد الموت، وكنّا قد ذكرنا بعض الأقوال في هذا المضمار، وسنشير هنا إلى بعض الآيات والروايات:

1- قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً. (النساء: 64)

2- ذكر الله تعالى في كتابه الكريم كيف توسّل أبناء يعقوب بأبيهم لكي يستغفر لهم بسبب ما ارتكبوه من إثمٍ، إذ قال: قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) (يوسف: ٩٧) . فقد خاطب أُخوة يوسف أباهم ب- (يا) النداء، لذلك فإنّ رأي مَن يقول بعدم


1- زيارة القبور، صص24 - 25.

ص: 41

جواز دعاء غير الله، هو كلامٌ مردودٌ.

إضافةً لذلك، فقد جعلوا أباهم واسطةً بينهم وبين الله عزّ وجلّ، ولو كان اتّخاذ الواسطة ممنوعاً، لتوجّب على النبيّ يعقوب (ع) أن يردعهم عن فعل ذلك، وأن يطلب منهم دعاء الله وطلب المغفرة منه دون واسطة؛ كما يفعله اليوم بعض الوهّابيّين ومَن تأثّر بأفكارهم!

قد يدّعي البعض أنّ هذه الآية تدلّ على جواز التوسّل في زمان رسولنا الكريم (ص) دون زماننا، ولكنّ هذا الادّعاء عارٍ عن الصحّة؛ إذ لا دليل عليه؛ لأنّه يمكن أن يسري إلى جميع الآيات، حتّى تلك التي تشمل الأحكام والعقائد، أي: أنّ محتواها حسب هذا الرأي سيكون مرتبطاً بعهد الرسول فحسب، ولا يمكن تعميمه لسائر العهود، والحقيقة أنّه لا يمكن لأحدٍ ادّعاء هذا الأمر مطلقاً.

إضافةً إلى ذلك، فما هو الدليل الذي يمكن الاعتماد عليه لإثبات هذا ال-مُدّعى؟ فيا تُرى، هل توجد لدينا آيات أو روايات تشير إلى جواز التوسّل بالحيّ وعدم جوازه بالميّت؟ وهل أنّ معيار الشرك والتوحيد يكمن في جواز التوسّل وعدمه؟ أو أنّ

ص: 42

معيارهما هو كون ال-مُتَوسَل به حيّاً أو ميّتاً؟ فإذا كان هذا هو المعيار الحقيقي، سيكون التوسّل بالحيّ في جميع الأحوال صحيحاً ولا شائبة فيه، حتّى إذا اعتُبِر هذا الحيّ مستقلاً وفي مصافّ الله تعالى، في الوقت الذي لا يؤمن أيّ مسلمٍ بهذه العقيدة الباطلة، بل يعتبرها جميع المسلمين أنّها شركٌ صريح.

علاوة على هذا فبعد إتمام الاستدلال وبيان القصد، سوف يكون بالإمكان تعميم صحّة التوسّل حتّى بعد وفاة ال-مُتوَسَّل بهم؛ إذ إنّ الإنسان في كلّ زمانٍ وفي جميع الأحوال يمكن أن يرتكب المعاصي، لذا فهو يحتاج إلى وسيلةٍ يجعلها واسطةً لطلب المغفرة من الله عزّ وجلّ.

ومن هذا ال-مُنطَلق، فإنّ الصحابة كانوا يسألون الرسول (ص) بعد وفاته أن يستغفر الله لهم، تمسّكاً بفحوى هذه الآية المباركة. وهذا الأمر من شأنه أن يُثبت لنا حقيقة الحياة البرزخيّة، والصلة الموجودة بينها وبين الحياة الدنيا.

يذكُر البيهقي وابن أبي شيبة ما يلي:

أصاب الناسَ قحطٌ في زمن عمر، فجاء الصحابي بلال بن الحرث إلى قبر النبيّ (ص) ، فقال: يا رسول الله، استسقِ

ص: 43

لأُمّتك، فإنّهم قد هلكوا. فأتى رسولُ الله الرجلَ في المنام، فقال له: إنّكم مسقيّون. (1)

وقال الإمام عليّ (ع) :

إنّ رجلاً دخل المدينة بعد وفاة رسول الله٩ بثلاثة أيّامٍ ورمى بنفسه على قبره ومسح بالتراب على رأسه، وقال: يا رسول الله، إنّك قلت عن الله ونحن سمعنا قولك وأطعناه، ومن قولك الآية التي نزلت عليك: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) (النساء: 64) ؛ فقد ظلمت نفس-ي وجئتك تستغفر لي. فجاءه نداء من داخل القبر: قد غُفِر لك. (2)

أدلّة على جواز التوسّل

إضافةً لما ذكرنا من أدلّةٍ على صحّة التوسّل، فلا نرى بأساً من أن نذكر أدلّةً أُخرى تؤيّد ذلك:


1- زيني دحلان، الدّرر السنية، ص 1٨.
2- الروض الفائق، ص 3٨٠؛ وفاء الوفاء، ج 4، ص 13٩٩؛ المواهب اللدنيّة، ج 4، ص5٨3؛ صالح الأخوان، ص 54٠؛ مشارق الأنوار، ج1، ص 121.

ص: 44

1- كتب العلاّمة السمهودي:

بعد أن دفن رسول الله (ص) فاطمة بنت أسد، قال: الله الذي يُحيي ويُميت. . . اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد، ووسّع عليها مدخلها، بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي. (1)فقد دعا رسول الله (ص) لهذه السيّدة العفيفة لأنّها كانت رؤوفةً به في أيّام طفولته، فردّ لها الجميل باحترامٍ وتقديرٍ، ونزّلها منزلة أُمّه.

2- نقل محدّثا أهل السنّة المعروفان (الترمذي وابن ماجة) عن عثمان بن حُنيف قوله:

إنَّ رجُلاً ضَرِيرَ البصَرِ أتى النبيَّ (ص) ، فقالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يُعافِيَني.

قَالَ (ص) : إنْ شِئْتَ دَعَوتُ، وإنْ شِئتَ صَبَرتَ، فَهُوَ خَيرٌ لكَ.

قالَ: فَادعُهُ.

فأمَرَهُ أنْ يتوضَّأ فيُحْسِنَ وضُوءَهُ، ويدعُوَ بهذا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ محمَّدٍ نبيَّ الرَّحمةِ، إنِّي توجَّهتُ بكَ إلى ربِّي في حاجتي هذه لتُقض-َى لي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ. (2)


1- وفاء الوفاء، ج 3، ص ٨٨٩.
2- سنن الترمذي، كتاب الدعوات، الباب 11٨؛ سنن ابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة والسنّة، الباب 1٨٩.

ص: 45

نستلهم من هذه الرواية أنّ التوسّل برسول الله (ص) وطلب العون منه ليس مشروعاً فحسب، بل مستحبٌّ، ولا يختصّ في زمان حياته.

ولو كان التوسّل غير جائزٍ، لما سمح به صلوات الله عليه، ولنهى عنه، ولرُبّما اعترض على هذا الرجل الضرير وقال له: لماذا جئتني؟ ! اذهب وادعُ ربّك دون أن تجعلني واسطةً في دعائك؛ لأنّك إن طلبت من غير الله شيئاً، فأنت مشركٌ!

ولكنّ الحقيقة أنّ النبيّ (ص) لم ينهر الرجل عن التوسّل به أبداً، بل علّمه كيفيّة التوسّل، ودون شكٍّ فإنّ هذا التوسّل الوارد عن النبيّ (ص) - لسان الغيب ومعلّم الشريعة - جائزٌ بعد وفاته أيضاً؛ إذ لا دليل على عدم جوازه سوى التعصّب، والجهل بحقيقة التوحيد الخالص.

3- روى الطبراني في المعجم الكبير حديثاً صحيح السند عن عثمان بن حُنيف، وهو:

إنّ رجلاً كان يختلفُ إلى عثمان بن عفّان في حاجةٍ له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظُر في حاجته، فلقيَ ابنَ حُنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حُنيف: ائت الميضأة

ص: 46

فتوضّأ، ثُمّ ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين، ثُمّ قُل: «اللّهم إنّي أسألُك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّدٍ (ص) ، نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقض-ي لي حاجتي» ، وتذكُر حاجتَك. ورُح حتّى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثُمّ أتى باب عثمان بن عفّان، فجاء البوّاب حتّى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: [ما] حاجتك؟ فذكر حاجته، وقضاها له، ثُمّ قال له: ما ذكرتَ حاجتك حتّى كان الساعةُ، وقال: ما كانت لك من حاجةٍ فاذكرها، ثُمَّ إنّ الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان ابن حُنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتّى كلّمتَه فِيَّ.

فقال عثمان بن حُنيف: واللهِ ما كلّمتُه، ولكنّي شهدتُ رسولَ الله (ص) ، وأتاه ضريرٌ فشكا إليه ذهاب بص-ره، فقال له النبيّ (ص) : فتصبر، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائدٌ وقد شُقَّ علَيَّ، فقال النبيّ (ص) : ائت الميضأة فتوضأ، ثُمّ صلّ ركعتين، ثُمّ ادع بهذه الدعوات. قال ابن حُنيف: فو الله، ما تفرّقنا

ص: 47

وطال بنا الحديث، حتّى دخل علينا الرجل كأن لم يكن به ضرٌّ قطٌّ.

نقل هذا الحديث جمعٌ غفيرٌ من علماء أهل السنّة، من بينهم: الحاكم النيسابوري (1)، ابن عبد البرّ (2)، أبو نعيم الاصفهاني (3)، الذهبي (4)، الحافظ الهيثمي (5)، المتّقي الهندي (6)وغيرهم.

4- روى الحاكم النيسابوري في المستدرك:

ل-مّا اقترف آدم الخطيئة، قال: يا ربِّ، أسألُك بحقِّ محمّدٍ لما غفرتَ لي.

فقال الله: يا آدم، وكيف عرفتَ محمّداً ولم أخلقه؟

قال: يا ربِّ، لأنّكَ ل-مّا خلقتني بيدك، ونفخت فِيَّ مِن روحِك، رفعتُ رأسي، فرأيتُ على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلّا الله،


1- المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 1٠٨.
2- الإصابة، ج 4، ص 3٨2.
3- حلية الأولياء، ج 3، ص 121.
4- سِيَر أعلام النُبلاء، ج 2، ص 11٨، رقم ٧.
5- مجمع الزوائد، ج ٩، ص 256.
6- كنز العمّال، ج 13، ص 636، ج ٨، ص 3٧6.

ص: 48

محمّدٌ رسولُ الله، فعلمتُ أنّك لم تضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك.

فقال الله: صدقتَ يا آدم، إنّه لأحبّ الخلق إليّ. ادعني بحقّه، فقد غفرتُ لك، ولولا محمّد ما خلقتك. (1)

5- روى أحمد بن حنبل أنّ مسروقاً قال لعائشة:

أُقسم عليك بصاحب هذا القبر إلّا ما أخبرتني بما قاله رسول الله عن الخوارج، فقالت عائشة: سمعت رسول الله يقول: «إنّهم شرّ الخلقِ والخليقةِ، يقتلُهم خيرُ الخلقِ والخليقةِ، وأقربُهم عندَ اللهِ وسيلةً» . (2)

6- نقل الدارمي في سُنَنهِ عن أبي الجوزاء، أوس بن عبد الله، ما يلي:

قُحِطَ أَهْلُ المَدينةِ قَحطاً شديداً، فَشَكَوا إلى عائِشةَ، فقالتْ: انظُرُوا قبْرَ النبيِّ (ص) ، فَاجْعَلُوا مِنْهُ كِوىً إلى السَّماءِ، حتَّى لا يكونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ، قال: فَفَعَلُوا؛ فَمُطِرْنَا مَطَراً


1- المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 615.
2- مسند أحمد، ج 1، ص 14٠.

ص: 49

حتَّى نَبَتَ العُشْبُ، وَسَمِنَتِ الإِبِلُ حتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ، فَسُمِّيَ عَامَ الْفَتْقِ. (1)

بما أنّ (سعيد بن زيد) هو أحد رجال هذا الحديث، فإنّه لا يتّفق مع عقيدة (الألباني) ؛ لذلك حاول تضعيفه، بينما نلاحظ أنّ سعيد هذا يُعتبر من رجال (صحيح مسلم) الموثّقين، كما وثّقه يحيى بن معين، كذلك وثّقه البخاري وابن سعد والعجلي وأبو زرعة وأبو جعفر الدارمي، وعددٌ كبيرٌ من علماء أهل السنّة. (2)

٧- ذكر القسطلاني أنّ رجلاً وقف قرب قبر رسول الله (ص) وقال:

إلهي، قد أمرتنا بعتق العبيد، وهذا حبيبُك وأنا عبدُك، فأسألُك بحقّ نبيّك أن تعتقني من نار جهنّم، فجاءه هاتفٌ: يا رجل، لماذا طلبت العتق من جهنّم لنفسك فقط ولم تطلبه لجميع المؤمنين؟ ! اذهب فقد عُتِقت. (3)


1- سنن الدارمي، ج 1، ص 43.
2- تهذيب التهذيب، ج 4، ص 2٩.
3- المواهب اللدنيّة، القسطلاني، ج 4، ص 5٨4.

ص: 50

ص: 51

المنع من التوسل، بدعةٌ أُموية

نقل الحاكم النيسابوري بإسناده عن داود بن أبي صالح أنّه قال:

أقبلَ مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر - قبر رسول الله -، فأخذَ برقبته، وقال: أتدري ما تصنع؟ !

قال: نعم.

فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري.

فقال: جئتُ رسولَ الله (ص) ولم آتِ الحجرَ، سمعتُ رسولَ الله (ص) يقول: لا تبكوا على الدّين إذا وليه أهلُه، ولكن ابكوا عليه إذا وليَهُ غيرُ أهلِه. (1)


1- المستدرك على الصحيحين، ج4، ص56٠، الحديث ٨5٧1؛ شفاء السقام، ص152؛ وفاء الوفاء، ج4، صص1353 و14٠4؛ مجمع الزوائد، ج4، ص2.

ص: 52

إنّ ما ذُكر سابقاً، ليس سوى جانبٍ من الآيات والروايات، ومُقتضبٍ من أقوال بعض فطاحل علماء أهل السنّة فيما يخصّ (التوسّل) ، إذ إنّها حُججٌ على أتباع جميع المذاهب الإسلاميّة، وأدلّةٌ بيّنةٌ على جواز التوسّل، وإنْ تنصّل البعض من هذه الحقائق الدامغة ورفضوها عناداً.

وممّا لا ريب فيه أنّ الشارع المقدّس لو كان قد صرّح بعدم جواز التوسّل بالميّت بنصٍّ شرعيٍّ، لالتزمنا بحكمه، ولم نتجرّأ على مخالفته، ولكنّ الواقع خلاف ذلك؛ إذ إنّ الشارع لم ينهَ عنه مطلقاً، بل إنّه قد جوّزه كما مرّ.

لو تصوّرنا أنّ الذين أنكروا التوسّل بأرواح الأنبياء والأئمة (ع) ، واقفون أمام الله تعالى في يوم الحساب، وقد سألهم عن دليلهم الذي اعتمدوا عليه من الآيات والروايات فيما ادّعَوه، فهل باستطاعتهم الجواب؟ !

إذن من الضروري أن نجعل القرآن الكريم والسنّة النبويّة وآراء فطاحل العلماء معايير نستند عليها، في معرفة صحّة أو سقم عقيدةٍ ما، وفي نفس الوقت، فإنّ الذين لا إلمام دقيق لديهم

ص: 53

بهذه الأُمور، لا يجدر بهم أن يخوضوا غمار هذه الأبحاث الدقيقة؛ لأنّ الانحراف فيها ذو نتائج سلبيّةٍ لا تُحمد عُقباها، ويتوجّب على الباحثين من أهل السنّة أن لا يخلطوا بين معتقدات بعض المذاهب، وبين معتقدات الآخرين وآرائهم الفقهيّة، كما يتوجّب على علماء أهل السنّة ومفكّريهم، المطّلعين على المباني الحقيقيّة لمذهبهم، أن لا يسمحوا للّذين لا اطّلاع لهم ولا معرفة دقيقة بمبادئ المذهب، أن يتدخّلوا في القضايا الدينيّة الهامّة، فقد قال الفقيه الحنفي (ابن عابدين) : لا يمكن لعالمٍ مفكّرٍ أو مجتهدٍ أن يكفّر مسلماً.

ص: 54

ص: 55

أسئلة تنتظر الرد من منكري التوسل

اشارة

إذا كنتم تعتقدون أنّ التوسّل فعلٌ غير شرعيٍّ، أو بدعةٌ أو شركٌ، فيجب عليكم حينها أن تُقرّوا بما يلي، وتجيبوا على الأسئلة التالية:

1- أن تعتبروا الكثير من الرعيل الأوّل لعلماء أهل السنّة، الذين أرسَوا دعائم المذهب، بأنّهم مش-ركين؛ كونهم جوّزوا التوسّل، فهل تُقرّون بذلك؟ !

2- أن تعتبروا الصحابة الذين كانوا يتوسّلون بالرسول (ص) مش-ركين! أَوَلم يتوسّل أبو أيّوب الأنصاري بقبر الرسول (ص) ؟ ! أَوَلم يتوسّل عمر بن الخطّاب بعمّ الرسول (ص) ؟ !

3- إذا كان التوسّل شركاً، لماذا جاء في القرآن الكريم أنّ أبناء

ص: 56

يعقوب توسّلوا بأبيهم، وجعلوه واسطةً ليغفر الله ذنوبَهم؟ ! إذن، حسب رأيكم، فإنّ القرآن قد أمر ب- (الشرك) - والعياذ بالله -!

4- إذا كان التوسّل شركاً، لماذا لم ينهَر رسولُ الله (ص) المذنبين الذين كانوا يتوسّلون به؟ ! ولماذا لم يطلب منهم أن يتوسّلوا بالله تعالى مباشرةً دون اللجوء إليه؟ !

5- إذا كان التوسّل شركاً، لماذا التجأَ الصحابي بلال بن الحرث إلى مرقد رسول الله (ص) وطلب منه الاستسقاء، ولم يدع الله دون الاعتماد على الرسول (ص) ؟ !

6- إذا كان التوسّل غير جائزٍ، لماذا أقسم رسول الله (ص) على ربّ العالمين بحقّ أنبيائه السابقين، وبحقّ نبوّته، أن يغفر لفاطمة بنت أسد عندما دفنها؟ !

٧- إذا كان التوسّل بدعةً، لماذا سمح رسول الله (ص) للرجل الض-ريرَ بالتوسّل به كي يُبصرَ؟ ! فالحقيقة - وكما تعلمون - أنّ رسول الله (ص) لم يردعه، بل علّمه دعاءً يتوسّل فيه بذاته الطاهرة، ويطلب شفاعته من الله تعالى، كما مرّ سابقاً.

٨- إذا كان التوسّل شركاً، لماذا توسّل أبو البشر آدم (ع) بنبيّنا الكريم قبل خلقته، طلباً لمغفرة الله؟ !

ص: 57

٩- إذا كان التوسّل غير جائزٍ، لماذا طلبت عائشة من الناس أن يتوجّهوا لمرقد رسول الله (ص) ويتوسّلوا به، عندما جاؤوها يشكون من القحط الذي حلّ بهم؟ !

1٠- إذا كان التوسّل شركاً، لماذا توسّل بعض عظماء علماء أهل السنّة بمرقد الإمام الرضا (ع) ؟ ! كابن حبّان الذي قال: عندما تنتابني مشكلة، أتوجّه إلى مرقد الإمام الرضا (ع) ، وأدعو الله أن يرفعها عنّي، وكلّ ما فعلت ذلك، قُضيَت حاجتي. (1)

11- إذا كان التوسّل شركاً، فكيف يجوّزه فطاحل علماء المذاهب الإسلاميّة ويوصون به؟ ! كما أسلفنا في هذا البحث.

12- إذا كان مجرّد التوسّل وطلب العون من غير الله تعالى شركاً، فهل بإمكاننا أن نجد موحّداً على وجه البسيطة؟ ! فكلّ إنسانٍ في هذا العالَم له حاجات لا يستطيع نيلها بنفسه، إذ إنّه يحتاج إلى غيره للحصول عليها، وبالتأكيد فإنّ طلب العون من غير الله تعالى والتوسّل به في هذه الحالة لا يُعتبر شركاً؛ لكن حسب رأيكم هو شركٌ!


1- الثقات، ج٨، ص45٧، حيدر آباد، مؤسسة الكتب الثقافية.

ص: 58

13- إذا كان التوسّل واتّخاذ واسطةٍ شركاً، فلا يوجد فيه فرقٌ بين الحيّ والميّت، لأنّ المعيار في التوحيد والش-رك هو الاعتقاد بكون المتوسَّل به ذا تأثيرٍ مستقلٍّ أو غير مستقلٍّ، بالنسبة لله تعالى، ولا عبرة بكونه حيّاً أو ميّتاً، فهل لديكم رأيٌ في هذا المجال؟ ! فمن وجهة نظر التوحيد الخالص، أنّ الإنسان لا يَفنى بعد الموت، بل على العكس من ذلك، فهو في الحياة البرزخيّة يكون أكثر إدراكاً للحقائق.

يقول الإمام الغزالي: «مَن كان يُقصد لطلب المدد في حياته، فبالإمكان طلب المدد منه بعد وفاته» .

14- إذا كنتم تعتبرون إجلال وتقديس مراقد الأنبياء والأئمة (ع) ، والتعبير عن المحبّة لهم شركاً وعبادةً لغير الله تعالى، فحينها يكون إجلال وتقديس الوالدين، والأُستاذ، ومَن لهم حقٌّ في رقابنا، شركاً كذلك! أَليس هذا ما يترتّب على رأيكم؟ !

قال تعالى في كتابه الحكيم: (وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) . (الإسراء:24) إذن، يتّضح لنا أنّ الإجلال والتقديس للآخرين ليس بشركٍ، ولا يوجد مسلمٌ يؤمن بهذا الرأي؛ لأنّه لو كان شركاً، لمَا أمر به عزّ وجلّ.

ص: 59

15- إذا كان التوسّل غير جائزٍ، لماذا توسّل الإمام الشافعي بأهل البيت (ع) ؟ !

16- إذا كان التوسّل شركاً، لماذا توسّل الإمام الشافعي بقبر أبي حنيفة؟ !

ذكر ابن حجر أنّ الإمام الشافعي عندما كان في بغداد، كان يقصد ضريح أبي حنيفة ويزوره، ثُمّ يتوسّل به لقضاء حوائجه. (1)

1٧- هل يا تُرى أنّ عدم العلم بكيفيّة التوسّل يكون وازعاً لإنكاره ونقضه جملةً وتفصيلاً؟ !

فالتوسّل في الحقيقة على عدّة أقسامٍ:

أ - نتوسّل بالله تعالى بحقّ أنبيائه وأوليائه الصالحين أن يُعيننا.

ب - نتوسّل بالأنبياء وبالأولياء الصالحين أن يُعينوننا بفضل مكانتهم وقُربهم من الله جلّ شأنه.

ج - نتوسّل بالأنبياء وبالأولياء الصالحين أن يحلّوا مشاكلنا.

أمّا بالنسبة للفقرتين الأُولى والثّانية، فلا يوجد أدنى شكٍّ في مطابقتهما للتوحيد وعدم التعارض معه، ومَن يُنكرهما إمّا


1- شواهد الحقّ، ص 24.

ص: 60

مُغرضٌ، وإمّا جاهلٌ.

وأمّا بالنسبة للفقرة الثّالثة، ففيها وجهان:

الأوّل: إن اعتقد المتوسِّل أنّ الأنبياء والأولياء الصالحين مستقلّون بالتأثير إلى جانب الله تعالى، فهو قطعاً شركٌ ومنهيٌّ عنه.

الثّاني: إن اعتقد المتوسِّل أنّ الله تعالى قد كرّم أنبياءه وأولياءه الصالحين بمنزلةٍ رفيعةٍ، وأذِن لهم بالشفاعة وقضاء حوائج الناس، فلا يختلف هذا الأمر عن الفقرتين ألف وباء، ولا يتعارض مع التوحيد بوجهٍ.

إذن، التوسّل - وكما أسلفنا - يكون باطلاً في حالةٍ واحدةٍ، وهي الاعتقاد باستقلال المتوسَّل به بالتأثير. ولكن يا ترُى، هل من الصحيح أن ننفي كلّ أشكال التوسّل ونبطلها، من أجل بطلان قسمٍ واحدٍ، ونعتبره شركاً دون مبرّرٍ مُعتبرٍ؟ ! وهل أنّ مجرّد عدم العلم بحقيقة التوسّل، يصحّ أن يكون سبباً لنقض أمرٍ روحيٍّ يحتلّ مكانةً مرموقةً بين عقائد المسلمين، وخاصّةً الشباب الذين هم بأمسّ الحاجة للأُمور الروحيّة والمعنويّة، التي من شأنها أن تصونهم من الانجرار وراء الانحرافات التي تُهدّد

ص: 61

مجتمعاتنا قاطبةً؟ !

1٨- لقد صرّح رسول الله (ص) أنّ «الأعمال بالنيّاتِ» (1). فهل يا تُرى باستطاعة شخص أن يحمل عمل مسلمٍ على الكفر لمجرّد عدم علمه بنيّته؟ ! أَلم يوصينا ديننا بحمل عمل المسلم على الصحّة؟ ! أو أنّ رأيكم خلاف هذا؟ !

1٩- إذا كان التوسّل والاستعانة بغير الله تعالى شركاً أو بدعةً، لماذا لم يرفض النبيّ موسى (ع) طلب قومه عندما توسّلوا به وجعلوه واسطةً بينهم وبين الله؟ ! فلو كان التوسّل شركاً، لقال لهم موسى (ع) لقد أشركتم في طلبكم هذا! فقد قال تعالى في كتابه الحكيم: (وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) . (الأعراف: 134)

إذن، يتّضح لنا أنّ طلبهم من نبيّ الله لا يتعارض مع التوحيد، ولا يُستَشمّ منه الشرك مطلقاً؛ لأنّ نبيّهم جاءهم بعهدٍ من ربّه القدير، مُتمثّلٍ برسالة التوحيد التي جعلته نبيّاً ووليّاً من


1- صحيح بخاري، ج1، ص2.

ص: 62

الصالحين، فتوسّلوا به لرفع الكَرب والبلاء عنهم. وهذا بالفعل ما طلبه بنو إسرائيل منه، إذ توسّلوا به، وجعلوه واسطةً بينهم وبين الله لكي يُستجاب دعاؤهم بفضله ومنزلته.

لذلك، إنْ حلّ بلاءٌ بشخصٍ ما، فلا يمكن لأحدٍ أن يُزيله عنه سوى الله تعالى، أو مَن عهد له بنبوّةٍ أو ولايةٍ خصّه بها.

2٠- إذا كان التوسّل والاستغاثة بغير الله تعالى شركاً، لماذا كان أتباع موسى (ع) يتوسّلون به دائماً عندما تحلّ بهم النوائب؟ ! فقد كان النبيّ موسى (ع) يتمتّع بقدرةٍ عظيمةٍ وشجاعةٍ خصّه الله تعالى بها، لذلك عندما رأى رجلاً من أنصاره يتشاجر مع عدوّه، لم يتردّد في نصرته عندما استغاث به، وأعانه، حتّى أنّه قتل عدوّه، حيث ذُكرت هذه القصّة في القرآن الكريم: (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَض-ى عَلَيْهِ) . (القصص: 15)

21- يدّعي الوهّابيّون أنّ خاتم الأنبياء (ص) لا يسمع كلامنا بعد وفاته!

إذا كان الحال حقّاً كما يدّعون، فلماذا تُسلّمون عليه بعد التشهّد في كلّ صلاة، وتقولون: (السّلامُ عليكَ أيّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه) ؟ !

ص: 63

22- إذا كان الأموات لا يسمعون كلامنا، فما فائدة السلام عليهم، حسب ما ذكرت الروايات؟ ! فقد ذكر مسلم في صحيحه: أنّ رسول الله (ص) طلب من عائشة أن تستغفر لأهل البقيع، وتقول: «السلامُ على أهلِ الديارِ من المؤمنينَ والمسلمينَ، ويرحمُ اللهُ المستقدمينَ منَّا والمستأخرينَ، وإنّا إن شاءَ اللهُ بكُم للاحقونَ» . (1)

23- إنّكم عندما تُصرّون على أنّ الميّت لا يسمع شيئاً بعد الموت، ألا تُخالفون صريح الروايات التي جاءت في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث؟ ! فمن هذه الروايات أنّ الرسول (ص) قال: «إنّ الميّت يسمع خفقَ النعال» . (2)

24- إذا كان الأموات لا يسمعون شيئاً، لماذا خاطب رسول الله (ص) قتلى المشركين في موقعة (بدر) ؟ ! قائلاً: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ !

قَالَ مُوسَى: قَالَ نَافِعٌ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا


1- صحيح مسلم، ج 2، ص 66٩، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها.
2- صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الميّت يسمع خفق النعال.

ص: 64

رَسُولَ الله، تُنَادِي نَاساً أَمْوَاتاً؟ ! قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص) : مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا قُلْتُ مِنْهُمْ. (1)

فهل يا تُرى أنّ المشركين يسمعون كلام الأحياء بعد الموت، ورسول الله (ص) لا يسمع كلام أُمّته؟ !

25- يقول الوهّابيّون: إنّ بناء القبور والأضرحة والقبب بدعةٌ وحرامٌ؛ لذلك يجب تخريبها! إذن، لماذا لا يُخرّبون قبّة وضريح النبيّ (ص) في المدينة المنوّرة؟ !

26- إذا كان بناء القبّة والضريح بدعةٌ وحرامٌ، لماذا شُيّدت أضرحةٌ وقببٌ لعلماء أهل السنّة، من أمثال أبي حنيفة والشافعي؟ ! فهل يا تُرى أنّ جميع علماء أهل السنّة، الذين تعاقبوا على مرّ التاريخ ولم يُخرّبوا هذه الأضرحة، هم من أهل البدعة والمحرّمات؟ ! ومَن الذي شيّد تلك الأضرحة؟ أَليس أهل السنّة أنفسهم قاموا بذلك؟ ! فعلى أيّ دليلٍ استندوا عندما بنَوا تلك القبور؟ !

2٧- إذا كان معيار الشرك هو مجرّد طلب العون من غير الله


1- صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل.

ص: 65

تعالى، فهل حينها يتوجّب علينا أن نجتنب كافّة الأسباب الظاهريّة في العالم؟ ! فقد قال تعالى في كتابه الكريم: (أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) . (الواقعة: 63 و 64) فعلى رأيكم يكون الزارع هو الله عزّ وجلّ؛ لذلك يتوجّب على الناس أن لا يحرثوا الأرض، ولا يسقوها، ولا يُعيروها أيّة أهميّة؛ لأنّ الخالق قد سلب القدرة على الزراعة منهم واختصّها لنفسه! لكنّ الحقيقة هي أنّه تعالى منح خلقَه أسباباً ووسائل يعتمدون عليها في حياتهم.

لذلك فنحن نقول: إنّ اتّخاذ الأسباب التي جعلها الله تعالى وسيلةً في الحياة الدنيا لنيل المقاصد، لا يخالف التوحيد ولا يتنافى معه مطلقاً. وكذلك فإنّ عباده الصالحين قد خصّهم عزّ شأنه بكرامةٍ، وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه، ومكانتهم هذه تقتض-ي أن يكونوا مقاصد لطلب المراد وطلب العون؛ لأنّ القدرة التي منحها لهم بارئهم، هي أعظم من قدرة الأسباب الظاهريّة في عالم الوجود، واستخدامهم لهذه القدرة لا يُنافي التوحيد بوجهٍ، بل مكمّل له.

2٨- لو فرضنا أنّ شخصاً قصد النبيّ عيسى (ع) وخاطبه: يا

ص: 66

مَن تدّعي مقام النبوّة، احيي هذا الميّت، أو اجعل من هذا الطين كائناً حيّاً، أو اجعل هذا الضرير مُبصراً، فهل أنّ هذا الشخص قد أشرك بربّه بسبب طلبه هذا؟ ! وقد قال تعالى في سورة آل عمران: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) . (آل عمران: 4٩)

فالحقيقة أنّ أنبياء الله تعالى وأولياءه الصالحين يتمتّعون بقدرةٍ أفاضها ربّ العرش العظيم عليهم، حيث يفتقر لها سائر عباد الله؛ لذلك فإنّهم بلا ريب مصدر الفيض القدسي، وحُجَج الله علينا. وبما أنّ التوسّل بالأسباب الظاهريّة التي سخّرها تعالى للبشر - وسائل العيش - لا يُعتبر شركاً، كذلك فإنّ التوسّل وطلب المدد والعون من مصادر فيض قدرته عزّ وجلّ - أنبيائه وأوليائه - ليس بشركٍ أبداً.

إنّ ما ذكرنا من استفساراتٍ وأسئلةٍ ليست سوى غيضٍ من فيضٍ، وهناك الكثير من الأسئلة التي يمكن أن نستوحيها من الروايات والتاريخ، ونطرحها على منكري التوسّل، إلّا أنّنا نكتفي بهذا القدر. ومن الجدير بالذكر أنّ معظم الأسئلة التي طرحناها مستوحاة من الروايات والمصادر الأساسيّة التي يعتمد عليها الوهّابيّون، وقد ذكرنا الكثير منها في متن هذا الكتيّب، وأشرنا إلى مصادرها في الهامش.

وفي الختام نرجو من الله الهادي أن يلتفت منكرو التوسّل إلى ما غفلوا عنه، بعد أن يطالعوا هذا الكُتيّب بدقّة وحياديّة، وأن يجعلوا الإنصاف نُصب أعينهم.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.