الشهب الثاقبه (تلخيص الصوارم المهرقه في رد الصواعق المحرقه)

اشارة

الشهب الثاقبة : تلخيص الصوارم المهرقة في رد الصواعق المحرقة

نويسنده:تستري، نورالله

محقق:آل نور، نعمه

ناشر:مشعر

محل نشر:تهران

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

الإهداء

إلى الباحث عن الحقيقة الناصعة

في استخلاف السماء للفرد الإلهي المتميز عن غيره من الأفراد

في استحقاق الخلافة الحقّة

الخالية من الوضع والتحريف

أهدي هذا الجهد المتواضع

ص: 6

ص: 7

ديباجه

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

لقد كان الحوار بين المذاهب الإسلامية متداولاً بين العلماء المسلمين على مدى التأريخ الإسلامي، وفي هذا المجال يقوم كلّ طرف منهم بطرح أدلّته لإثبات صحّة مذهبه وفرقته، مع تضعيف أدلّة الطرف الآخر، ومن بين الكتب التي أُلّفت في هذا الصدد كتاب (الصواعق المحرقة) لابن حجر الهيتمي؛ ليكون في متناول علماء أهل السنّة، وقد قام العلّامة النحرير القاضي نور الله التستري بنقده تحت عنوان (الصوارم المهرقة) ، وهو من علماء الشيعة الإمامية.

ثمّ قام الأستاذ المحقق العزيز السيد نعمة آل نور بمراجعة مصادره وتوثيقها وفق الكتب المعتبرة عند أهل السنّة، إضافةً إلى تلخيصه بأسلوب متقن.

ولا يسعنا إلّا أن نتقدم بالشكر الجزيل له، آملين من الله تعالى أن يكون هذا الأثر القيّم محطّ اهتمام طلاب العلم والحقيقة.

انه ولي التوفيق

ص: 8

ص: 9

مقدمة المحقق

اشارة

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد. . . .

ارتحل رسول الله الأكرم (ص) إلى خالقه بعد أن أرسى قواعد الحياة الجديدة للبشريّة على هذا الكوكب المضطرب، حيث وضعها في المسار الصحيح الذي أرادته لها السماء.

وما أن ارتحل (ص) حتّى اجتهد بعض ممّن يرى في نفسه الكفاءة في استخلافه، فصيّر الأمر شورى، ومرّت سنون على تلك الشورى، ثم سرعان ما انقلبت إلى مسالة نصّيّةٍ في نفر محدد سلفاً! وهذا السير في عملية الاستخلاف نشأ عنه إرباكٌ في تسيير دفة الحياة.

فظهرت نتوءاتٌ نمت وتعرشت وتجذّرت حتّى أصبح من عسير الأمر التخلّص منها ومن آثارها الّتي أصبحت حقيقةً جرت عليها معائش الناس.

ولا يختلف العقلاء في أنّ النتائج تابعة لمقدماتها، فإن كانت المقدّمة صحيحة سوف تكون النتيجة صحيحة أيضاً، والعكس صحيح.

ولكن يبقى في الذهن موضع للتفكير، وظيفته تعيين الأسس اللازمة لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وهذا الحيّز المفكّر يسأل ويقول: إنّ وجود مساحةٍ مشوّشةٍ في أرضيّة الشريعة من حيث التطبيق لابدّ أن تكون لها بداياتٌ، بمعنى أنّ هناك حالةً من السير غير الصحيح، فهل أنّها ياترى نجمت عن الشورى؟ أم أنّها نشأت من حالة التعيين المباشر اللاحقة لها؟

ص: 10

مع أنّنا نسمع من الخليفة الأوّل قوله المشهور:

«أقيلوني فلست بخيركم» و

«أنّ لي شيطاناً يعتريني» . (1)

ونسمع من الخليفة الثاني قوله المشهور:

«إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً وقى الله المسلمين شرّها» . (2)

ونرى النهاية المرّة والمفجعة والسيئة للخليفة الثالث.

وباختصارٍ شديدٍ، فإنّ هذه المقدمة لو أتيح لها أن تتوسّع لأصبحت سفراً يقف فيه العطشان على موارد الظمآن، بعد تحليل نفوس الخلفاء الثلاثة الأوائل الذين جاؤوا إلى سدّة الحكم بالشورى تارةً وتارةً بالتعيين المباشر، مع حالة الاضطراب النفسي لهم جميعاً، الّتي هي شاهد على عدم الكمال فيهم ومع عدم الكمال فلا يصحّ التصدّي والتصدّر لحكم الناس؛ لقصور الناقص غير المكتمل عن فهم مراد السماء من التشريعات الّتي أنزلت كقوانين لإدارة حياة البشر، وفي التأريخ شواهد مؤيّدة لهذا المدّعى.

إذن لابدّ من استخلاف انسانٍ لكي يتمكن من إبلاغ رسالة السماء للبشرية بعد النبيّ الأكرم (ص) وهو الإمام المعصوم الذي نصّت عليه السماء، وذلك طبقاً لنظرية مذهب الإماميّة الاثني عشرية تحديداً.

ولقد كثر الجدل حول استحقاق الثلاثة مرتبة الخلافة، وبذل لهذا الموضوع الكثير من الجهد والعناء، حتّى تربّعوا على كرسي الخلافة متسلّطين على رقاب الخلق، مع أنّهم يعلمون كلّ العلم بعدم لياقتهم لذلك، لأنّ تعيين خليفة النبي من مختصّات الإله وحده ذي الشأن والتدبير، العارف بالصلاح والفساد، حتّى نقل لنا التأريخ من الشواهد على ألسنتهم اعترافهم بعدم صلاحيتهم لمنصب الاستخلاف، الذي لم يتركه الرسول الأكرم شاغراً، بل شرّع له بأمر السماء من يليق به، ونصّ عليه بالنصّ الجلي حول إمامة أمير المؤمنين علي (ع) ، وقد أبت نفوس ذلك فردّت الأمر الإلهي واستحقّت بذلك الردّ الخروج عن ربقة الدين،


1- عبد الرزاق، الصنعاني، المصنف، ج11، ص336.
2- مسند أحمد، ج1، ص55؛ المصنف، ج5، ص441.

ص: 11

حسب ما ورد في الروايات الشريفة الدالّة على أنّ الرادّ على رسول الله رادٌّ على الله، والرادُّ على الله، فقد خرج عن ربقة الإسلام.

وقد ارتأت مؤسسة الحج في مدينة قم المقدسة أن تقدّم تلخيص كتاب (الصوارم المهرقة) للقاضي نور الله التستري، للردّ على (الصواعق المحرقة) لابن حجر، في حلّةٍ جديدة، فرتبناه بهذه الحلّة ليكون في أيدي القرّاء الكرام الباحثين عن الحقيقة الناصعة دوماً، وقد جاء مؤيّداً بالحجج القاطعة الحاكمة بالحقّ، والمثبتة لأحقيّة أهل البيت عليهم السلام بالخلافة والطاعة والولاية والإتباع، دون غيرهم من سائر العباد في سائر البلاد والأصقاع.

نعمة آل نور

قم المقدسة

1431ه. ق

ص: 12

ص: 13

ردّ الداعي إلى تأليف كتاب الصواعق

قال ابن حجر:

«المقدمة الأولى، اعلم أنّ الحامل الداعي على التأليف في ذلك، وان كنت قاصراً عن حقائق ما هنالك، ما أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع (1)وغيره أنّه (ص) قال: «إذا ظهرت الفتن ]أو قال البدع [ وسبّ أصحابي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفاً ولا عدلاً» . (2)

أقول : اعترافه بالقصور عن حقائق هذه المسألة حقّ، كما سيظهر وليس فيه هضم نفس كما قد يتوهّمه بعض أوليائه، وما ذكره من الحديث فلا يصلح لأن يكون وازعاً لتأليفه؛ لجواز أن يكون المراد من البدع ما ابتدعه البعض في دين ربّ العالمين، والمراد ب- «من سبّ من الأصحاب» هم مولانا أمير المؤمنين (ع) ومن تابعه من المهاجرين والأنصار؛ فإنّ معاوية ومن بعده من فراعنة بني أميّة سبّوهم على منابرهم ثمانين سنة، كما هو المشهور المذكور على السنّة الجمهور.

ردّ حديث «أصحابي كالنجوم»

قال ابن حجر في خطبة كتابه: «الحمد لله الذي خصّ نبيّه محمداً (ص) بأصحاب كالنجوم وأوجب على الكافّة تعظيمهم واعتقاد حقيّة ما كانوا عليه من حقّايق المعارف والعلوم» . (3)


1- مرقاة المفاتيح، شرح المشكاة، ج17، ص3٠2؛ الجامع بين آداب الراوي والسامع، نسخة خطيّة.
2- الصواعق المحرقة، ابن حجر، صص1- 9.
3- المصدر السابق؛ بحار الأنوار، محمدباقر المجلسي، ج23، ص156.

ص: 14

أقول: أشار بقوله (أصحاب كالنجوم) إلى ما رووا من قوله (ص) :

«أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» (1) وفيه بحث سنداً ومتناً، كما يلي:

أوّلاً: عندما قال بعض الفضلاء من أولاد الشافعي: «إنّ حديث أصحابي كالنجوم» أخرجه الدارقطني في الفضائل وابن عبد في العلم من طريقه من حديث جابر وقال هذا إسناد لا يقوم به حجّة؛ لأنّ في طريقه الحارث بن غضين وهو مجهول، ورواه عبد بن حميد في مسنده من رواية عبد الرحيم بن زيد عن أبيه عن المسيّب عن عمر قال البزاز: «منكر لا يصحّ» ، ورواه ابن عدي في الكامل من رواية حمزة بن أبي حمزة النّصيبي عن نافع عن عمر بلفظ «بأيّهم أخذتم» ، بدل قوله «اقتديتم» (2)وإسناده ضعيف لأجل حمزة؛ لأنّه متهم بالكذب. (3)

ورواه البيهقي من حديث ابن عباس وقال: «متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا الباب إسناد» . (4)

وقال ابن حزم: «أنّه مكذوب موضوع باطل» . (5)

وقال الحافظ زين الدين العراقي: «وكان ينبغي للمصنّف أن لا يذكر هذا الحديث بصيغة الجزم لما عرفت حاله عند علماء الفنّ (6)» . (7)

ثانياً: إنّ المخاطبين في متن الحديث بلفظ «اقتديتم» و «اهتديتم» إن كانوا هم الصحابة أو الصحابة مع غيرهم، فلا يستقيم؛ إذ لا مسوّغ للفصيح أن يقول لأصحابه وحدهم أو يقول لهم مع غيرهم: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم؛ وهو ظاهر، وإن كانوا غير


1- الإبانة الكبرى، ابن بطة، ج2، ص22٠.
2- الكامل، ابن عدي، ج2، صص376 و 377.
3- ميزان الاعتدال، ج1، ص6٠6.
4- تخريج أحاديث مختصر المنهاج، زين الدين الحافظ العراقي، رقم55، طبعة حجرية.
5- البحر المحيط، أبوحيان، ج5، ص511.
6- تخريج أحاديث مختصر المنهاج، رقم الحديث 55، حجري.
7- القاري في شرح الشفاء للقاضي عياض، بهامش نسيم الرياض، ج4، صص423 و 424.

ص: 15

الصحابة، فهو خلاف الظاهر؛ إذ الظاهر أن كلّ من خاطبه النبيّ (ص) بهذا الخطاب المتبادر منه، الخطاب الشفاهى كان بمرأى منه (ص) فكان صحابيّاً، ولو سلم ذلك لكان الظاهر إخبار راويه بأنّ الرسول (ص) قال لجميع من أسلم غير الصحابة: «أصحابي كالنجوم. . .» ولمّا لم يكن في روايتكم شيء من هذا التخصيص بطل ادّعاؤكم في ذلك، وأيضاً يلزم على هذا التقدير أنّ كلّ من اقتدى بقول بعض الجهّال، بل الفسّاق من الصحابة أو المنافقين منهم وترك العمل بقول بعض العلماء الصالحين منهم مهتدياً ويلزم أن يكون المقتدى بقتلة عثمان وبالمتخاذلين عن نصرته تابعاً للحقّ مهتدياً، وأن يكون المقتدى بعائشة وطلحة والزبير، الذين بغوا وخرجوا على علي (ع) وقاتلوه مهتدياً، وأن يكون المقتول من الطرفين في الجنّة! ولو أنّ رجلاً اقتدى بمعاوية في صفين فحارب معه إلى نصف النهار ثمّ عاد في نصفه فحارب مع علي (ع) إلى آخر النهار لكان في الحالتين مهتدياً تابعاً للحقّ، والتوالي بأسرها باطلة ضرورة واتفاقاً.

والذي يسدّ باب كون عموم الصحابة كالنجوم، ما قاله الفاضل التفتازانى: «إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث عليه الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب الملك والرياسات والميل إلى اللّذات والشهوات؛ إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ولا كلّ من لقى النبيّ بالخير موسوماً، إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله (ص) ذكروا لها محامل وتأويلات بها يليق وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق؛ صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة سيّما المهاجرين منهم والأنصار المبشرين بالثواب في دار القرار» (1).

ويتوجه على ما ذكره في آخر كلامه من تعليل ذكر العلماء المحامل والتأويلات لما وقع بين

الصحابة بحسن ظنّهم فيه، أنّه بعد العلم بوقوع ما وقع بينهم لا وجه لحسن الظنّ بالكلّ إلّا


1- شرح المقاصد، محمد بن سعد التفتازاني، ج2، صص 3٠6 و 3٠7.

ص: 16

التعصّب فيهم، وأمّا من زعموه كبار الصحابة وعنوا به الثلاثة، فهم أوّل من أسّس أساس الظلم والعدوان بغصب الخلافة عن أهل البيت عليهم السلام والإقدام بكذا وكذا، وإنّما صاروا كباراً باغتصابهم الخلافة، وحكومتهم على الناس بالجلافة، ولهذا قال بعض علماء العامّة: «كلّ زيّنته الخلافة إلّا على بن أبي طالب» .

وروى ابن حجر في ثناء الصحابة والسلف على عليّ (ع) :

«أنّه لمّا دخل علي الكوفة دخل عليه حكيم من العرب فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنْت الخلافة وما زيّنتك ورفعتها وما رفعتك وهى كانت أحوج إليك منك إليها» . (1)

وأمّا ما ذكره من البشارة لهم بالثواب في دار القرار فإن أشار به إلى حديث بشارة العشرة فهو موضوع لا يصحّ إلّا في واحد منهم عليهم السلام، وإن أشار به إلى غيره من الأحاديث فلعلّ بعد ظهور صحّته يكون بشارة الثواب فيه مشروطاً بشروطه، كما روي عن مولانا الرضا (ع) أنّه لما سئل عن صحّة قوله (ص) :

«من قال لا اله إلّا الله وجبت له الجنّة، فقال: نعم بشروطها وأنا من شروطها» (2) أي: من جملة شروطها الاعتقاد بإمامتي ووجوب طاعتي.

والحاصل أنّه لا يتحتّم بمجرّد مصاحبة الرسول (ص) الحكم بالإيمان والعدالة وحسن الظنّ فيهم واستحقاقهم للاقتداء بهم والاستهداء منهم؛ وذلك لأنّه لا ريب في أنّ الصحابي من لقى النبيّ (ص) مؤمناً به ومات على الإسلام، وأنّ الإيمان والعدالة مكتسبان وليسا طبعيين جبليين، فالصحابي كغيره في أنّه لا يثبت إيمانه إلّا بحجّة.

لكن جازف أهل السنّة كلّ المجازفة فحكموا بعدالة كلّ الصحابة، من لابس منهم الفتن، ومن لم يلابس، وقد كان فيهم المقهورون على الإسلام والداخلون على غير بصيرة والشكاكون، كما وقع من فلتات ألسنتهم كثيراً، وكان فيهم شاربوا الخمر وقاتلوا النفس

وسارقوا الرداء، وغيرها من المناكير، بل كان فيهم المنافقون، كما أخبر به الباري جلّ ثناؤه.


1- فيض القدير، المناوي، ج4، ص469؛ ينابيع المودة، ج2، ص4٠7؛ تاريخ اليعقوبي، ج2، ص179، عن صعصعة بن صوحان.
2- الصراط المستقيم، ج2، ص175؛ ثواب الأعمال، الصدوق، باب ثواب من قال لا إله إلا الله بشروطها.

ص: 17

ورواه البخاري في صحيحه وغيره في غيره وكانوا في عهده (ص) ساكنين في مدينته يصحبونه ويجلسون في مجلسه ويخاطبهم ويخاطبونه و يدعون بالصحابة ولم يكونوا بالنفاق معروفين ولا متميزين ظاهراً قال الله سبحانه: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ، (1)بل كان فيهم من يبتغي له الغوائل ويتربّص به الدوائر ويمكر ويسعى في هدم أمره، كما ذكره أبو بكر أحمد البيهقى في كتاب (دلائل النبوّة) حيث أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وذكر الإسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود عن عروة قال: «لمّا رجع رسول الله (ص) من تبوك إلى المدينة حتّى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه فاتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق وأرادوا أن يسلكوه معه فأخبر رسول الله (ص) خبرهم فقال من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم، فأخذ النبيّ (ص) العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلّا النفر الذين أرادوا المكر به فاستعدّوا وتلثمّوا، وأمر رسول الله (ص) حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة أن يسوقها. فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ذكرة القوم من ورائهم قد غشوهم، فغضب رسول الله (ص) وأمر حذيفة أن يردّهم فرجعوا متلثمّين فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنّوا أن مكرهم قد ظهر وأسرعوا حتّى خالطوا الناس وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول الله (ص) ، فلمّا أدركه قال له: اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمّار؛ فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون. فقال النبيّ (ص) : يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط والركب أحداً؟ فقال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان. وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون فقال (ص) : هل علمتما ما شأن الركب وما أرادوا؟ قالا: لا يا رسول الله، قال فأنّهم مكروا ليسيروا معي حتّى إذا أظلمت لي العقبة طرحوني منها، قالا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فنضرب أعناقهم؟ قال (ص) : أكره أن يتحدّث الناس ويقولون إنّ محمداً

قد وضع يده في أصحابه، فسمّاهم لهما، ثمّ قال أكتماهم؟» . (2)


1- سورة محمد:3٠
2- دلائل النبوّة، البيهقي، ج5، صص256 و 257.

ص: 18

وفي كتاب أبان بن عثمان قال الأعمش: «وكانوا اثني عشر، سبعة من قريش» (1)وعلى تقدير ثبوت الإيمان والعدالة يمكن زوالهما كما في بلعم صاحب موسى (ع) حيث قال سبحانه وتعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لعلّهمْ يَتَفَكَّرُونَ (2)، وكان بلعم أوتي علم بعض كتب الله، وقيل يعرف اسم الله الأعظم ثمّ كفر بآيات الله (3)وكما وقع من الطامّة الكبرى في سبعين ألفاً من بني إسرائيل وأولاد الأنبياء الذين كانوا في دين موسى (ع) فارتدوا في حياته بمجرّد غيبته عنهم مدّة قليلة إلى الطور واستضعفوا وصيّه هارون النبيّ (ع) وكادوا يقتلونه ويدفعونه باليد والرجل واقتدوا بالسامري في عبادة العجل، (4)وإذا كان هذا حال هؤلاء النجباء من أولاد الأنبياء الذين لم يدنّسهم سبق الشرك والكفر في حياة نبيّهم ووجود نبيّ آخر ووصيّه فيهم، فما ظنّك بحال جماعة مضى أكثر عمرهم في الكفر والجاهليّة بعد وفاة نبيّهم مع أنّه لم يكن يحصل لهؤلاء عن ذلك العجل الحنيذ جاه أو مال عتيد وكان لمن وافق أبا بكر في غصب خلافة نبيّنا الحميد من طمع الجاه والمال ما ليس عليه مزيد، فعقدوا لواء السلطنة بسيفهم خالد بن الوليد وسدّوا لسان أبي سفيان بتفويض ولاية الشام إلى ولده يزيد ودفعوا فتنة الزبير بما أراد وفوّضوا غيرهم كالمغيرة وأبا عبيدة حكومة صنعاء وزبيد، إلى غير ذلك.

وإذا كان الأمر كذلك فلابدّ من تتبع أحوالهم وأقوالهم في حياة النبيّ (ص) وبعد موته ليعلم من مات منهم على الإيمان والعدالة ومن مات ميتة جاهليّة، مثل أبي بكر الذي ادّعى الإمامة،


1- أعلام الورى، ج1، صص 246و 247؛ بحار الأنوار، ج21، ص248، كلاهما نقلا عن كتاب أبان بن عثمان: وهو أبان بن عثمان الأحمر البصري، من أصحاب الإمام الصادق (ع) والكاظم (ع) وكان كتابه حسناً كبيراً يجمع فيه أخبار ابتداء أمر النبي (ص) برسالته ومبعثه ومغازيه ويوم السقيفة وما جرى بعدها، راجع كتاب النجاشي، 13، ترجمة8، الفهرست للطوسي، 59، ترجمة63.
2- سورة الأعراف: 176.
3- تفسير أبي حاتم الرازي، ج5، ص1617؛ تفسير الثعلبي، ج4، ص3٠4.
4- تفسير مجاهد، ج1، ص4٠٠؛ تفسير الثعلبي، ج1، ص194.

ص: 19

ونصّ الكتاب والحديث المتواتر ودليل العقل ناطق بأنّها حقّ علي (ع) ، ومنع فاطمة عليها السلام إرثها وكتاب الله ناطق بأنّ لها الإرث، وقتاله لبني حنيف الملتزمين بالدين الحنيف، إلى غير ذلك ممّا يخالف الشرع الشريف.

وكذلك عمر الذي ادّعى ما ادعّاه وقال للنبيّ (ص) في مرض موته من الهجر والهذيان ما قال، وفعل ما فعل من منع كتابته (ص) ما يصون الأمّة عن الضلالة، وإقدامه بتخريق الكتاب الذي كتبه أبو بكر لفاطمة عليها السلام في أخذها لفدك، وقوله: «متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالين، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما» ، (1)وإحداثه بدعة الجماعة في التراويح، وتفضيل العرب على العجم في العطايا، إلى غير ذلك من البلايا الّتي لا تحملها المطايا.

وعثمان الذي ولّى أمور المسلمين لمن لا يصلح لها مع ظهور فسقه وفساد حاله ودعائه الحكم بن العاص طريد رسول الله (ص) وإيوائه وإعطائه المال العظيم من بيت مال المسلمين رعاية لقرابته وإعراضاً عن الدين وهتكاً لحرمة سيّد المرسلين! وكذلك إيذائه لأبي ذر وعمار بن ياسر وابن مسعود، وغيرهم من أكابر الصحابة الذين كانوا أسود الغابة.

وغيرهم ممّن هو بهذه المثابة، ومعاوية الطليق الباغي الفاسق الذي مال عن عليّ وسمّ الحسن عليهما السلام وغيّر سنّة النبيّ (ص) في كثير من الأحكام، حتّى أنّه كان يلبس الحرير فقال له ابن عباس رضى الله عنه: إنّ النبيّ (ص) قال:

«أنّه محرم على رجال أمّتي» فقال هواناً: لا أرى به باساً فقال ابن عباس: من عذيري من معاوية بن أبي سفيان أنا أقول له قال رسول الله وهو يقول أنا

لا أرى به باساً» ، (2)إلى غير ذلك من المناكير والأباطيل الصادرة عنهم، الّتي لا يحتملها مقام المقال ويضيق عن ذكرها المجال.

وروى مسلم في صحيحه عن النبي (ص) أنّه قال:

«ليردنّ علىّ الحوض رجال ممّن صاحبني


1- معرفة السنن والآثار، البيهقي، ج11، ص433؛ مسند أحمد، ج4، ص28 في نفس المعنى؛ السنن الكبرى، ج7، ص2٠6.
2- الصواعق المحرقة، ص9.

ص: 20

حتّى إذا رأيتهم ورفعوا إلىّ اختلجوا دوني، فلأقولنّ أي رب أصيحابي أصيحابي! فليقالن لي إنّك لا تدرى ما أحدثوا بعدك» (1) انتهى.

قال النووي في شرح مسلم: «أمّا اختلجوا فمعناه اقتطعوا، وأمّا اصحابي فقد وقع في الروايات مصغّراً مكرراً وفي بعض النسخ أصحابي مكبّراً مكرراً» . (2)

وقال القاضى: «هذا دليل لصحّة تأويل من تأوّل أنّهم أهل الردّة؛ ولهذا قال فيهم سحقاً سحقاً ولا يقول في مذنبي الأمّة بل يشفع لهم ويهتمّ لأمرهم، قال: «وقيل هؤلاء صنفان أحدهما عصاة مرتدون عن الاستقامة لا عن الإسلام وهؤلاء مبدّلون الأعمال الصالحة بالسيئة، والثانى مرتدّون إلى الكفر حقيقة ناكصون على أعقابهم واسم التبديل يشمل الصنفين» (3)انتهى.

وأقول : بل المراد بالمرتدين: المحدثون في دين الله الغاصبون للخلافة والآكلون لمال فدك ظلماً وجوراً على فاطمة عليها السلام، ولهذا قال فيهم في بعض الروايات سحقاً سحقاً؛ فافهم.

وإذا كان الحال بهذا المنوال من الاختلال ووقع الارتداد من الصحابة فلا يجوز الحكم بالإيمان والعدالة لأحد منهم إلا إذا تحقق اتّصافه بهما وموته عليهما، ولا يعلم ذلك إلا بتتبع الأحوال واستقراء الآثار الدالّة على بقاء الإيمان والعدالة أو الزوال.

قال الفاضل التفتازانى في التلويح: «إنّ الجزم بالعدالة يختصّ بمن اشتهر بطول الصحبة

على طريق التتبع والأخذ عن النبيّ (ص) والباقون كسائر الناس فيهم عدول وغير عدول» . (4)

وقال الفقيه الاسنوى الشافعي «إنّ المراد من قول العلماء الصحابة بأسرهم عدول مطلقاً أنّ مجرّد الصحبة شاهد التعديل مغن عن البحث عنهم، فإن ظهر عن أحد منهم ما يفضي إلى التفسيق فليس بعدل، كسارق رداء صفوان ومن ثبت زناؤه؛ ولذا غير بعضهم عبارتهم


1- شرح النووي على صحيح مسلم، ج8، ص8؛ صحيح مسلم، ج7، ص7٠.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- شرح التلويح على التوضيح، ج2، ص459.

ص: 21

بأن قال: «إنّهم عدول إلا من تحققنا قيام المانع فيه وليس المراد من كونهم عدولاً أنّه يلزم اتصافهم بذلك ويستحيل خلافه، فإنّ هذا معنى العصمة المختصّة بالأنبياء:» . انتهى كلامه» . (1)

ومن العجب أنّه زاد بعضهم في المجازفة والمخارفة فحكم بأنّهم كلّهم كانوا مجتهدين وهذا ممّا يقطع من له أدنى عقل بفساده؛ لأنّه كان فيهم الأعراب، ومن أسلم قبل موت النبيّ (ص) بيسير، والأميّون الذين يجهلون أكثر قواعد الأحكام وشرائع الدين فضلاً عن الخوض فيه بالاستدلال، كيف والاجتهاد ملكة لا تحصل إلا بعد فحص كثير وممارسة تامّة بغير خلاف، وإمكان حصول التفقّه والاجتهاد لهم لا يمنعه إلا أنّه لا يقتضي الحكم بذلك؛ لأنّه خلاف العلم الطبيعي، والذي ألجأهم إلى هذا القول الناشئ عن العصبيّة ما قد تحققوه من وقوع الاختلاف والفتن بينهم، وأنّه كان يفسّق ويكفّر بعضهم بعضاً ويضرب بعضهم رقاب بعض، فحاولوا أن يجعلوا لهم طريقاً إلى التخلّص كما جوّزوا الائتمام بكلّ برّ وفاجر؛ ليروجوا أمر الفسّاق الجهّال من خلفائهم وأئمّتهم.

ثالثاً : عندما ذكر شارح الشفاء أيضاً من أنّ للقائل بالمذهب المختار من أنّ قول الصحابي ليس حجّة مطلقاً أن يقول الحديث وكان عامّاً في أشخاص الصحابة، فلا دلالة فيه على عموم الاقتداء بهم في كلّ ما يقتدى فيه، وعند ذلك يمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يروونه

عن النبي (ص) وليس الحمل على غيره بأولى من الحمل عليه، انتهى.

ويؤيّد وجوب ارتكاب التخصيص فيه أنّ ابن حجر استحسن أن يكون المراد بأهل البيت الذين هم أمان في الحديث الذي أسبقنا نقله من علمائهم معلّلاً بأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، ولا ريب في أنّ استحسان التخصيص المذكور في ذلك الحديث يوجب استحسان مثله في هذا الحديث بطريق أولى.


1- اعلم أن للقاضي كلاماً نفيساً وتحقيقاً شافياً يشتمل على تعريف الصحابي وعلى كيفيّة الحكم بايمانه وعدالته وعدمهما وعلى تقسيمه بحسب الردّ والقبول ذكره في المجلس الثالث من كتابه المجالس فإن أردته فارجع إليه.

ص: 22

وما ذكره من التعليل يقتضى وجوب التأويل بذلك كما لا يخفى، وإذا بطل الحمل على العموم بطل استدلالهم بذلك على استحقاق الصحابة الثلاثة وأمثالهم للاقتداء بهم ووضع الخلافة فيهم والاستهداء منهم، فوجب تنزيله على أصحابه (ص) من أهل بيته عليهم السلام؛ لدلالة الآية والرواية والاتّفاق على عدالتهم وطهارتهم، بل على علوّ عصمتهم فوجب الاعتصام بحبلهم المتين والاهتداء بهداهم المبين.

دعوى أحقيّة أبي بكر وعمر بالخلافة والردّ عليها

قال ابن حجر: «فإنّى سئلت قديماً في تأليف كتاب يبيّن حقية خلافة الصديق وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجناب، ثمّ سئلت في إقرائه لكثرة الشيعة والرفضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة أشرف بلاد الإسلام، فأجبت إلى ذلك رجاءاً لهداية بعض من زلّ به قدمه عن واضح المسالك» . (1)

أقول : إنْ أراد بالرفضة الغلاة من الشيعة الذين قالوا بأُلوهيّة علي (ع) أو نبوّته فهم كانوا جماعة قليلة قد حكمت سائر طوائف الشيعة أيضاً بكفرهم، بل بنجاستهم العينية وقد انقرضوا، وإن أراد به الشيعة الإماميّة الذين هم عيون طوائف الشيعة الباحثين في أصل خلافة المشايخ الثلاثة، فليس في تلقّبهم بهذا من شناعة كما يشعر به سياق كلام هذا الشيخ وأصحابه؛ لأنّ مآل هذا الرفض يرجع عند التحقيق إلى رفض الباطل وهو اعتقاد صحّة

خلافة المشايخ الثلاثة، وإنّما الشناعة في أصل تلقّب مخالفيهم بأهل السنّة والجماعة فإنّ هذا اللّقب قد وضع في زمان معاوية وأرادوا بالسنّة سنّة معاوية من سبّ علي (ع) على المنابر ونحوه من الكفر والبدعة، وبالجماعة جماعته، حيث قال: «وكان نزول الحسن عن الخلافة في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين فسمّي هذا العامّ عامّ الجماعة لاجتماع الأمّة على خليفة واحدة» . (2)


1- الصواعق المحرقة، ص9.
2- عمدة القاري، ج13، ص282؛ ابن عبد البر، الاستيعاب، ج1، ص387.

ص: 23

ثمّ لما ظهرت دولة بني العباس ومعاداتهم لبني أميّة وأتباعهم خافوا عن الحمل على ذلك وقالوا مرادنا بالسنّة سنّة النبيّ (ص) وبالجماعة جماعة أصحابه، فقد ظهر أنّهم في الحقيقة أهل السنّة والجماعة لا أهل سنّة النبيّ (ص) وجماعته، ولنعم ما قال صاحب الكشاف فيهم:

لجماعة سمّوا هواهم سنّة

ويؤيّد كون البيتين للزمخشري ما هو مشهور منه ومذكور في ترجمته المطبوعة في آخر (1)


1- ذكرهما الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى: وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ، يعير بهما القائلين بالرؤية، وعبارته قبل البيتين هكذا (ص35٠، ج 1، المطبوع بمصر سنة 13٠7 ، ثمّ تعجّب من المتسمّين بالإسلام، المتسمّين بأهل السنّة والجماعّة، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً؟ ولا يغرنّك تسترهم بالبلكفة فإنّه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدليّة فيهم لجماعة سمّوا الخ وأنت خبير بأنّ صريح عبارته أنّهما من إنشاءات بعض العدليّة ويمكن أن يقال إنّ هذا التعبير خوفاً من متعصبي العامّة وجهّالهم، ولذا قال محبّ الدين الأفندي في كتاب تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات المطبوع في ذيل الجزء الثاني من الكشّاف (ص88 بعد نقل البيتين «البيتان للزمخشري عند قوله تعالى: لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ، موكفة من الأكاف وهو البردعة، والبلكفة قولك بلا كيف يقرر مذهبه في نفي الرؤية ويقدح في أهل السنّة والجماعة الذين يصدقون بأنّ رؤية الله تعالى حقّ ويقولون نرى ربّنا يوم القيامة بلا كيف كما قال النبيّ (ص) : «إنّكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» ، وكان الشافعي عنه يتمسك في إثبات الرؤية بقوله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، قال لمّا حجب الكفّار بالسخط دلّ على أنّ الأولياء يرونه في الرضا وسئل رسول الله (ص) عن رؤية العباد ربهم يوم القيامة فقال منهم من ينظر إلى ربه في السنّة مرّة ومنهم من ينظر إلى ربّه في الشهر مرة ومنهم من ينظر إلى ربّه في الجمعة مرّة ومنهم من ينظر إلى ربّه بكرة وعشية، رزقنا الله تعالى رؤيته في الآخرة كما رزقنا في الدنيا بكرمه معرفته ولقد عورض ما أنشده وأنشأه من الهذيان بأبيات ذكرها السكوني في التمييز وهي: سميت جهلاً صدر أمّة أحمد وذوي البصائر بالحمير المؤكفة ورميتهم عن نبعة سميتها رمى الوليد غداً يمزّق مصحفه وزعمت أن قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا وتستّروا بالبلكفة نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى فهوى الهوى بك في المهاوى المتلفة وجب الخسار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفة أترى الكريم أتى بجهل ما أتى وأتوا شيوخك ما أتوا عن معرفه

ص: 24

الكشاف أيضاً من قوله: (1)

إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به

شبهة إنّ الله اختارني واختار لي أصحاباً. . . . والردّ عليها

قال ابن حجر (2): «وأخرج المحاملى والطبراني والحاكم عن عويم بن ساعدة أنّه (ص) قال:

«إنّ الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً، فمن حفظني فيهم حفظه الله ومن آذانى فيهم آذاه الله» . (3)

أقول : لو صحّ هذا الحديث فالمراد بالوزراء فيه عليّ (ع) والجمع للتعظيم كما قاله المفسّرون فيما نزل في شأنه (ع) من قوله تعالى: إنّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة وَهُمْ رَاكِعُونَ (4)؛ إذ لم يتعدد وزيره (ص) كما هو الأصل، بل كان واحداً وهو علي (ع) عند الشيعة. ولو سلّم أنّ المراد غيره فهو من الأنصار، وعلى هذا يكون


1- الكشاف، الزمخشري، ج 2، ص 573.
2- الصواعق المحرقة، ص10.
3- المعجم الكبير، الطبراني، ج17، ص14٠؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج2، ص99؛ جامع الاحاديث، ج7، ص433.
4- سورة المائدة: 55.

ص: 25

لفظ الأنصار في هذا الحديث بمنزلة عطف تفسير للوزراء فافهم. وكذا الكلام في الأصهار، لظهور أنّ الأصهار على تقدير تسليم كون عثمان صهراً للنبيّ (ص) أيضاً لا يبلغ مرتبة الجمعيّة بالاتفاق.

دعوى خير الناس قرني. . . . والردّ عليها

قال ابن حجر (1): «أخرج الطبراني والحاكم عن جعدة عن هبيرة نقلاً عن النبيّ (ص) :

«خير الناس قرنى الذي أنا فيهم ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم، والآخرون أراذل» (2) ، ونقل مسلم عن أبي هريرة:

«خير أمّتي القرن الذى بعثت فيه ثمّ الذين يلونهم» الحديث. (3)

أقول : بعد غضّ النظر عمّا في السند، لا دلالة لهاذين الحديثين على ما قصده من خيريّة جميع الناس الموجودين في قرن النبيّ (ص) ، حتّى بعض الصحابة الذين حكم عليهم الشيعة بكونهم أشراراً. فإنّ قولنا قريش أفصح العرب وأكرمهم مثلاً، لا يقتضى لغة وعرفاً أن يكون كلّ واحد من آحاده كذلك؛ لظهور وجود الآحاد المتّصفة بأضداد ذلك من العيّ واللؤم فيهم، بل قد أطبقوا على أنّ طائفة تيم - قوم أبي بكر - قاطبة من أراذل قريش، وقد نقلوا النصّ على ذلك عن أبي سفيان وغيره عند البيعة لأبي بكر، على أنّ هذا الحديث معارض لما روي عند بيان وقوع الخلاف في التفضيل بين الصحابة ومن جاء بعدهم من صالحي هذه الأمّة، حيث قال: ذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنّه يوجد فيمن ياتي بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة. واحتجّ على ذلك بخبر عمر، حيث قال: كنت جالساً عند النبيّ (ص) فقال: «أتدرون أي خلق أفضل إيماناً؟» قلنا: الملائكة، قال:

«وحق لهم، بل غيرهم» ، قلنا: الأنبياء، قال: «وحق لهم، بل غيرهم» ثمّ قال (ص) : «أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص12.
2- ابن أبى شيبة، ج6، ص4٠4؛ ابن قانع، ج1، ص154؛ الطبرانى، ج2، ص285؛ الحاكم، ج3، ص211؛ ابن أبى عاصم فى السنّة، ج2، ص629.
3- صحيح مسلم، ج2، ص1963؛ الطبراني، المعجم الكبير، ج18، ص233.

ص: 26

الرجال يؤمنون بى ولم يروني فهم أفضل الخلق إيماناً» (1)، وفي حديثٍ آخر: «مثل أمّتى مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله» . (2)وبخبر «ليدركنّ المسيح أقواماً إنّهم لمثلكم أو خير ثلاثاً» . (3)

وقال صاحب الاستغاثة في بدع الثلاثة: «إنّ مضمون هذا الحديث مخالف لحقائق النظر، خارج عن العدل والحكمة، وذلك لأنّه إن كان خيريّتهم وفضلهم من جهة تقدم خلقهم في الأزمنة المتقدّمة لما بعدها، فقد زعموا أنّ أمّة محمّد (ص) أفضل من الأمم التى مضت قبلها، وأنّ محمداً (ص) أفضل من الأنبياء عليهم السلام الذين قدموه قبل عصره وكان الواجب على طرد هذه العلّة أن تكون كلّ أمة أفضل من التي تأتي بعدها، فلما أوجبوا آخر الأمم أفضل ممّن تقدّمهم وآخر الأنبياء أفضل ممّن تقدّمه كان لا معنى لهذا الخبر في تفضيل القرن الأول على القرن الثاني من هذه الأمّة، بل يجب في النظر والتميز وما يلزم من أحوال ما نقل الينا من سيرة من تقدّم عصرنا هذا أن يكون من تأخّر أفضل ممّن تقدّم منهم، وذلك أنّا وجدنا القرن الذي كان في عصر الرسول والقرن الذى كان بعده والقرن الثالث ممّن كان في عصر الفراعنة والطواغيت من ملوك بني أميّة الذين كانوا يقتلون أهل بيت الرسول، ويسبّون أميرالمؤمنين (ع) ويلعنونه على المنابر، وأهل عصرهم من فقهائهم وحكامهم إلى غير ذلك منهم فهم على ذلك متّبعون وبأفعالهم مقتدون وبإمامتهم قائلون.

دعوى ابن حجر على خيريّة عموم الصحابه

قال ابن حجر: «وكفى فخراً لهم أنّ الله تبارك وتعالى شهد لهم بأنّهم خير الناس حيث قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (4)، فإنّهم أوّل داخل في


1- الحاكم، ج4، ص96؛ الجامع الكبير، ج1، ص68٠، مسند أبي يعلى، ج1، 152.
2- مسند أحمد، ج34، ص424؛ صحيح ابن حبان، ج29، ص482؛ الترمذي، سنن الترمذي، ج11، ص319؛ مسند البزار، ج5، ص121.
3- مصنف ابن أبي شيبة، ج4، ص2٠6.
4- سورة آل عمران: 110.

ص: 27

هذا الخطاب، وكذلك شهد رسول الله (ص) قوله في الحديث المتفق على صحّته «خير القرون قرنى» ، ولا مقام أعظم من مقام قوم ارتضاهم الله عزّ وجل لصحبة نبيّه (ص) ، ونصرته قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (1)وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . (2)فتأمّل ذلك فإنّك تنجو من قبيح ما اختلقته الرافضة عليهم ممّا هم بريؤون منه، فالحذر الحذر من اعتقاد أدنى شائبة من شوائب البغض فيهم معاذ الله لم يختر الله لأكمل أنبيائه إلّا أكمل من عداهم من بقيّة الأمم كما أعلمنا ذلك بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، (3)وممّا يرشدك إلى أنّ ما نسبوه إليهم كذب مختلق عليهم، أنّهم لم ينقلوا شيئاً منه بإسناد عرفت رجاله ولا عدلت نقلته، وإنّما هو من إفكهم وجهلهم وافترائهم على الله سبحانه، فإيّاك أن تدع الصحيح وتتبع السقيم ميلاً إلى الهوى والعصبية ويتلى عليك عن علي وعن أكابر أهل بيته من تعظيم الصحابة، سيّما الشيخان وعثمان وبقيّة العشرة المبشرين بالجنّة ما فيه مقنع لمن ألهم رشده، وكيف يسوغ لمن هو من العترة النبويّة أو من المتمسّكين بحبلهم أن يعدل عمّا تواتر عن إمامهم علي (ع) من قوله

«إنّ خير هذه الأمّة بعد نبيها أبو بكر ثمّ عمر» (4) ، وزعم الرافضة أنّ ذلك تقيّة سيتكرر عليك ردّه وبيان بطلانه وأنّ ذلك أدّى بعض الرافضة إلى أن كفّر عليّاً قال لأنّه أعان الكفار على كفرهم» (5).

أقول : فيه نظر من وجوه:

أوّلاً: لا دلالة في الآية على ما قصده من خيريّة الصحابة المبحوث فيهم كما عرفت ذلك عندما تكلّمنا عن دلالة حديث خير القرون قرني، وعلى ذلك فما ذكره من كون المشايخ


1- سورة الفتح: 29.
2- سورة التوبة: 10٠.
3- سورة آل عمران: 110.
4- الطبراني، المعجم الأوسط، ج7، ص239.
5- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص13 و14.

ص: 28

الثلاثة اَلْاُوَل داخل في هذا الخطاب هو أوّل البحث كما لا يخفى، وأمّا قوله «وكذلك شهد رسول الله. . .» . فقد عرفت أيضاً هنالك كذب دلالته على الشهادة بما قصده والله يشهد أنّ المنافقين لكاذبون.

ثانياً: إنّ قوله «ولا مقام أعظم من مقام قوم ارتضاهم الله لصحبة نبيّه (ص) . . .» . مردود بأنّ الله تعالى ما ارتضاهم لصحبة نبيّه (ص) بل ابتلى نبيّه (ص) بصحبتهم زيادة في ثوابه وتحصيلاً لرفع درجاته ولغيرهما من المصالح والحكم على أنّ صحبة النبيّ (ص) إنّما تنفع كريم الأصل شريف الذات وأمّا الخسيس الدنيء فإنّما تزيده فساداً.

وأمّا الآية المذكورة فصريحة في إرادة غيرهم لمكان وصف الأشدّاء على الكفار والثلاثة كان مدارهم على الفرار وَوَلْى الأدبار، كما حقق في كتب الأحاديث.

وأمّا قوله تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ (1)، فقد بيّنا أيضاً في ضمن الحديث المذكور سابقاً عدم دلالته على مدعاه، على أنّا لا نسلّم كون المشايخ الثلاثة من السابقين الأولين؛ فإنّ السابقين الأولين من المهاجرين هم الذين هاجروا الهجرة الأولى وهي الهجرة إلى رسول الله (ص) في حصاره بمكّة حين حاصرت قريش بني هاشم مع رسول الله (ص) في شعب عبد المطلب أربع سنين، والأمّة مجتمعة على أنّ أبا بكر وعمر لم يكونا معهم في ذلك الموطن، بل لا نسلّم كون أوّلهم من المهاجرين مطلقاً.

ثالثاً: إنّ ما اختلقه من نسبة الاختلاق إلى الشيعة فهم برآء منه؛ لأنّ الشيعة عن آخرهم أجلُّ مكاناً وفضلاً عن إعمال المصادرة والاحتجاج على خصومهم بما رووه من طرق أهل البيت عليهم السلام كما فعل ابن حجر في كتابه هذا من الاحتجاج على الشيعة بالأحاديث المرويّة من طريق أهل نحلته، المتسمّين بأهل السنّة، بل الشيعة التزموا بأن يحتجّوا بما في كتب أهل السنّة عليهم لعلمهم بأنّه أَدعى تلقيه بالقبول، وأوفق رأي الجميع متى رجعوا إلى الأصول، وأنّ ذلك أتمّ في الورود وقيام الحجّة بشهادة الخصم وأوكد وإن تعددت الشهود، فمن أين جاء الافتراء و الاختلاق لو لا أنّه ليس للناصب في الآخرة من خلاق؟ !


1- سورة التوبة: 10٠.

ص: 29

رابعاً: إنّ ما ذكره من أنّ الله تعالى لم يختر لأكمل أنبيائه إلّا أكمل من عداهم من بقيّة

الأمم، نقول في جوابه: نعم لم يختر له إلّا الأكمل، لكن الشأن في إثبات أنّ الثلاثة معدودة في الأكمل، والشيعة من وراء المنع بأسانيد معتبرة متفق عليها مرويّة من طرق أهل البيت عليهم السلام وطرق أهل السنّة.

خامساً: إنّ قوله: «وممّا يرشدك. . .» ليس فيه رشاد ولا إرشاد ولا أرى من تكرر نسبة اختلاقه إلى الشيعة، لم ذكره مبهماً بأنّهم لم ينقلوا شيئاً منه بإسناد عُرف رجاله وعدلت نقلته؟ ! وإذ كان لابدّ من ذكر ذلك حتّى ننظر في صحّة نسبته وفسادها، وإلّا فالإبهام والإجمال دليل الإفك والانحلال؛ على أنا نقول أنّه إن أراد أنّ الشيعة نقلوا ما نقلوا في قدح المشايخ الثلاثة بإسناد لم يعرف أهل السنّة حال الرجال المذكورة فيه، ولم يحكموا بعدالة رجاله، فهذا غير واقع، بل هم لم ينقلوا شيئاً إلزاماً لأهل السنّة إلّا من كتبهم المعتبرة، نعم إذا تنبهوا حينئذ بما في المنقول من كتبهم من الدلالة على الطعن والقدح في أسلافهم احتالوا في ردّه تارة بضعف الراوي، وأخرى بالتأويل، الذي يرفع الأمان عن فهم الكلام وكفى بذلك إلزاماً.

وإن أراد أنّ الشيعة لم يبحثوا عن حال رجال إسناد ذلك المنقول وعدالتهم فذلك لا يهمّهم ولا يقدح في احتجاجهم على أهل السنّة، بل يكفى فيه كون ذلك مسطوراً في الكتب المعتبرة لأهل السنّة كصحاحهم الستّ ومسند ابن حنبل ونحوه من كتب المناقب، الّتي ألّفها أكابرهم ومشاهيرهم.

سادساً: إنّ ما ذكره من بطلان زعم الرافضة أنّ ما يتلى عن علي (ع) وعن أكابر أهل بيته من تعظيم الصحابة المبحوث فيهم واقع تقيّة، مدخول بأنّ نسبة الشيعة إلى القول بكون ذلك على إطلاقه واقعاً على سبيل التقيّة كاذبة، بل ربما يقدحون في بعض الرجال المذكورين في سند ما نقله أهل السنّة عنهم عليهم السلام في مدح من علم عدم استحقاقه للمدح بدلائل أخرى وحمل البعض على التقيّة، فليس بباطل سيّما إذا ما قامت القرينة الحاليّة والمقاليّة على إعمال ذلك، وأيّ قرائن وأسباب وأمارات أظهر ممّا روى عنه (ع) يوم الإكراه على البيعة مخاطباً

ص: 30

للرسول (ص) : «ابْنَ أم إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ، (1)ويردد ذلك ويكرره (2).

وممّا روى عنه في الشكاية من غصبهم للخلافة عنه وتقمّصهم إيّاها ما هو مصرّح به في الخطبة الشقشقيّة المشهورة المذكورة في نهج البلاغة وفي قوله (ع) :

«اللّهم إنّي أستعديك على قريش فإنّهم قد قطعوا رحمي وكفوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنت أولى به من غيري وقالوا إلّا أنّ في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تمنعه فاصبر مغموماً أو مت متأسّفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلّا أهل بيتي فظننت بهم عن المنيّة، فأغضيت على القذى وجرّعت ريقي على الشّجى، وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم وآلم للقلب من حزّ الشفار» (3) ، إلى غير ذلك من الكلمات الّتي تواتر معناها، على أنّ هذا الكلام إنّما يحتاج إليه في دفع الشبهة متى لم نبنِ كلامنا على صحّة النصّ على أمير المؤمنين (ع) ، ومتى بنينا الكلام في أسباب الخوف والتقيّة وترك النزاع والإنكار على صحّة النصّ ظهر الأمر ظهوراً يدفع الشبهة عن أصله؛ لأنّه إذا كان هو (ع) المنصوص عليه بالإمامة و المشار إليه بينهم بالخلافة ثمّ رآهم بعد وفاة الرسول (ص) تنازعوا الأمر بينهم تنازع من لم يسمعوا فيه نصّاً ولا أعطوا فيه عهداً ثمّ صاروا إلى إحدى الجهتين بطريق الاختيار وصمّموا على أنّ ذلك هو الواجب الذي لا يعدل عنه ولا حقّ سواه، علم (ع) أنّ ذلك مؤيس من نزوعهم ورجوعهم ومخيف من ناحيتهم، وأنّهم إذا استجازوا إطراح عهد الرسول (ص) فهم بأن يطرحوا إنكار ذاعرة (كذا كان) عليهم ويعرضوا عن وعظه وتذكيره أولى وأحرى، بل ذلك يورث الجزم بأنّ النكير عليهم ودفعهم عمّا اختاروه قد كان مؤدّياً إلى غاية المكروه ونهاية المحذور.

وقد فصّلنا الكلام في كتابنا الموسوم ب- «مصائب النواصب» ، ولنقتصر هنا على ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير عند تفسير قوله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء


1- سورة الأعراف:15٠.
2- المرتضى، الشافي في الإمامة، ج3، ص245.
3- فيض الإسلام، نهج البلاغة، كلام 2٠8.

ص: 31

مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (1) ، حيث قال: «التقيّة إنّما تجوز فيما يتعلّق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلّق بإظهار الدين وأمّا ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة. وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (ع) «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» (2)، ولقوله (ع) «من قتل دون ماله فهو شهيد» (3)، ولأنّ الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالعين سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على الّتيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز تيهنا والله أعلم.

ثمّ قال: قال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتاً قبل دولة الإسلام لأجل ضعف المؤمنين، فأمّا بعد قوة دولة الإسلام فلا. ثمّ قال: وروى عن الحسن: «إنّ التقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أحسن لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان» . (4)ويزيد ذلك وضوحاً ما رواه الحميدى في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة من المتفق عليه وذكره شارح الوقاية من الحنفية في كتاب الحج، وهو أنّ النبيّ (ص) قال لعائشة:

«لولا أنّ لقومك عهداً بالجاهلية» وفي رواية «عهد حديث بالكفر وأخاف أن ينكر قلوبهم، لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت لها بابين باباً شرقيّاً وباباً غربيّاً فبلغت به أساس إبراهيم» الحديث (5)، وإذا كان النبيّ (ص) مع علو شأنه وسطوع برهانه، يتقى القوم الذين هم أعيان الصحابة من سوء


1- سورة آل عمران: 28.
2- مجموعة ورّام، ج1، ص11.
3- من لا يحضره الفقيه، ج4، ص38٠.
4- الرازي، التفسير الكبير، ج8، ص14.
5- وردت هذه العبارة بألفاظ مختلفة: مسند أحمد، ج6، ص239، ما أسند عن عائشة؛ صحيح البخاري، ج2، صص156و 157، كتاب الحج، باب التمتع، ؛ صحيح مسلم، ج4، 97، كتاب الحج، باب نقض الكعبة؛ الجمع بين الصحيحين، ج4، ص32.

ص: 32

تواطؤهم في هدم الكعبة وإصلاح بنائها، فما ظنّك بعده بشأن علي (ع) ومن عداه من أهل

البيت الذين قتلوا آباء هؤلاء وأعمامهم وأقاربهم؟ ! فتدبّر.

سابعاً: إنّ ما ذكره من أن بعض الرافضة كفّروا علياً لأجل إعمال التقيّة، مدفوع بأنّا لانعلم هذا البعض ولا عبرة بكلام المجاهيل سيّما إذا كان دليلهم المذكور على ذلك من أوهن الأدلّة.

ادّعاء ابن حجر أنّ تنصيب الإمام واجب على الأمة

قال ابن حجر: «إعلم أيضاً أنّ الصحابة أجمعوا على أنّ نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوّة واجب، بل جعلوه أهمّ الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله (ص) . واختلافهم في التعيين لا يقدح في الإجماع المذكور ولتلك الأهمية لمّا توفي رسول الله (ص) قام أبو بكر خطيباً كما سيأتي فقال: أيّها الناس من كان يعبد محمداً (ص) فإنّ محمداً (ص) قد مات ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت لابدّ لهذا الأمر ممّن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم فقالوا صدقت ننظر فيه. ثمّ ذلك الوجوب عندنا معشر أهل السنّة والجماعة وعند أكثر المعتزلة بالسمع أي من جهة التواتر والإجماع المذكور، وقال كثير بالعقل ووجه ذلك الوجوب أنّه (ص) أمر بإقامة الحدود وسدّ الثغور وتجهيز الجيوش للجهاد وحفظ بيضة الإسلام، وهي لا تتمّ إلّا بالإمام وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به وكان مقدوراً فهو واجب ولأنّ في نصبه جلب منافع لا تحصى ودفع مضارّ لا تستقصى، وكلّ ما كان كذلك يكون واجباً أمّا الصغرى على ما في شرح المقاصد فتكاد تلحق بالضروريات، بل بالمشاهدات بشهادة ما نراه من الفتن والفساد وانفصام أمور العباد بمجرّد موت الإمام، وإن لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد، وأمّا الكبرى فبالإجماع عندنا وبالضرورة عند من قال بالوجوب عقلاً من المعتزلة كأبي الحسين والجاحظ والخياط والكعبي» . (1)


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص14و 15.

ص: 33

أقول : وفيه بحث من وجوه:

أوّلاً : إن أراد انعقاد الإجماع على أنّ تنصيب الإمام واجب على الأمّة فبطلانه ظاهر؛ لظهور الخلاف من الإماميّة والمعتزلة كما لا يخفى، وأيضاً وجوب تنصيبه على الأمّة يقتضى أنّهم إذا لم يتفقوا لم يحصل انعقاد الإمامة، بل يجب إعادة النظر مرة بعد أخرى وقد لا يثمّر شيء من اتفاقهم لاختلاف الآراء غالباً، وهو يبطل تعليقها على رأي الأمّة وإلا لزم تعذّر تنصيب الإمام أو جواز عمل كلّ فريق، برأيه فيكون منصوب كلّ فريق إماماً عليهم خاصّة، وهذا خلف.

ثانياً: إنّ من اشتغل بذلك عن دفن رسول الله (ص) كان جاهلاً ولا عالماً ولا عادلاً ولا صدّيقاً، والشيعة يستدلّون بهذا الفعل على عصيانه، بل على عدم إيمانه واختياره الدنيا على الآخرة؛ وذلك لأنّهم يذكرون حديثاً وهو: «إنّ من صلّى على مغفور غفر له ذنوبه» (1)، فلو كان أولئك مصدّقين بما جاء به النبيّ (ص) لما أعرضوا عن هذه السعادة الكبرى والمغفرة العظمى، مع أنّ المصلحة والمشورة في أمور الدين والدنيا ما تفوت بيوم أو يومين، فلو كان لهم إيمان ومروءة لصبروا لدفنه والصلاة عليه والتعزية لأهل البيت عليهم السلام وإدخالهم في المشورة، إذ كان النزاع معهم والحاصل أنّهم إنّما اشتغلوا بأمر الخلافة؛ لأنّهم اغتنموا الفرصة بغيبة علي (ع) وأصحابه واشتغالهم بتجهيز النبيّ (ص) وتدفينه وعلموا أنّه لو حضر علي (ع) مجلس اشتغالهم بأمر الخلافة لفات الأمر منهم، وإلّا فلم يكن في تأخير ذلك عن تجهيز النبيّ (ص) مظنّة فوته وعدم استدراكه، بل لو صبروا واشتغلوا مع علي (ع) وسائر بني هاشم بدفن النبيّ (ص) ومصابهم به والحزن له والصلاة عليه المرغّب فيها؛ لكان أولى لاجتماع الناس حينئذ أكثر ممّا كان قبل دفنه، وليت شعرى كيف صار واجباً فوريّاً؟ ! مع أنّه حين أراد النبيّ (ص) أن يكتب في مرض موته كتاباً في هذا الباب اعترض عمر وقال: «حسبنا كتاب الله» . (2)


1- مجمع الزوائد، ج10، ص16٠.
2- فتح الباري، ابن حجر، ج1، ص182؛ شرح ابن بطال، ج15، ص 156.

ص: 34

وأيضاً كيف أوجبوا المسارعة إلى انعقاد الإمامة حفظاً للدين، ولم يسارعوا لنصرة الدين

أيّام أحد وبدر وخيبر وحنين، بل هربوا راجعين بخُفَّي حنين، وقد فرّوا من الزحف يوم الأحزاب وعمرو بن عبدود يناديهم ويطلبهم بالأسماء والألقاب، فصمتوا بأجمعهم عن الجواب، ولم يقم إليه أحد من شهودهم، وكذلك ما أظهروا يوم مرحب (1)ولم تظهر منهم المسابقة والمسارعة في تلك المشاهد لنصرة الدين، فعُلم أنّ مسابقتهم يوم السقيفة إنّما كانت لنيل الرئاسة؛ طلباً للجاه وحبّاً للدنيا وحسداً لآل محمد عليهم السلام، وذلك موجب لخروجهم بالكليّة عن الدين الحنيف.

وقد صدر عن خاتم النبيين (ص) بعد هذا الفتح المبين، حديث في حقّ أمير المؤمنين (ع) يشتمل على فضائل جمّة ومناقب جليلة منها قوله (ص) :

«لولا أن تقول فيك طائفة من أمّتي ما قالت النّصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولاً لاتمرّ بملأ إلّا أخذوا من تراب رجليك» (2) ، وهو مشهور بين الخاصّة والعامّة.


1- يريد بيوم مرحب (يوم خيبر) ، ومرحب اسم بطل معروف من يهود خيبر ويومه معروف ومشهور عند أهل الأخبار والسير وقصة فرار أبي بكر وعمر في هذه الغزوة مذكورة في كتب الخاصّة والعامّة (كمسند أحمد بن حنبل وغيره) واعترف به كلّ مخالف وموافق وعدو وصديق. قال الفاضل المعاصر الدكتور محمد حسنين هيكل في تأريخه المسمّى ب-(حياة محمد (ص) عند ذكره وقائع هذه الغزوة (ص 375، س 24 من الطبعة الثانية) : وتتابعت الأيام، فبعث الرسول أبا بكر براية إلى حصن ناعم كي يفتحه، فقاتل ورجع ولم يكن الحصن قد فتح. وبعث الرسول عمر بن الخطاب في الغداة، فكان حظّه حظَّ أبي بكر. فدعا الرسول إليه في الغداة عليّ بن أبي طالب ثمّ قال له: خذ هذه الراية فامض بها حتّى يفتح الله عليك. ومضى عليّ بالراية، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطاح ترسه، فتناول عليّ باباً كان عند الحصن فتترّس به، فلم يزل في يده و هو يقاتل حتّى فتح الحصن. وقد أجاد ابن أبي الحديد المعتزلي البغدادي في بائيته المعروفة وهي إحدى العلويات السبعة: وما أنس لا أنس الذين تقدّما وفرهما والفرقد علماً حوب وللراية العظمى وقد ذهبا بها ملابس ذلّ فوقها وجلابيب ليكره طعم الموت والموت طالب فكيف يلذّ الموت والموت مطلوب دعا قصب العلياء يملكها امرؤ بغير أفاعيل الدناءة مقضوب يرى أنّ طول الحرب والبؤس راحة وأنّ دوام السلم والخفض تعذيب فللّه عينا من رآه مبارزاً وللحرب كأس بالمنيّة مقطوب
2- الطبري، محمد بن جرير، المسترشد، ج2، ص51.

ص: 35

ثالثاً: إنّ ما نسبه من الخطبة إلى أبي بكر مع ركاكته، من أوضح الموضوعات، أما الأوّل فلظهور سوء الأدب فخطابه للناس بقوله: «من كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات» وهل كان هناك من يعبد محمّداً (ص) وكان يعتقد أنّه (ص) لا يموت؟ اللّهم إلّا أن يقال: قال ذلك ردّاً على ما روي من أنّ عمر قال في ذلك اليوم لمصلحة زوّرها في نفسه: «والله ما مات محمّد وسيعود ويقطع أيدي رجال وأرجلهم بما قالوا أنّه مات» لكن المشهور عندهم أنّه ردّ عليه أبو بكر هناك من ساعته ورجع هو إلى قول أبي بكر، فلم يبق حاجة إلى تكرار الردّ عليه في خطبته البليغة هذه. وأمّا الثاني فلأنّه كيف يصحّ ما فيها من دعاء الناس إلى إجالة آراءهم في ذلك وطلب الناس المهلة عنه للنظر فيه مع ما شحنوا به كتبهم من أنّ بيعتهم لأبي بكر في سقيفة بني ساعده، إنّما وقعت فلتة وبغتة حتّى رووا عن عمر:

«إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً وقى الله شرّها عن المسلمين، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» . (1)

رابعاً: إنّ الوجوب المشار إليه بقوله: «وذلك الوجوب عندنا» ، أعمّ من الوجوب على الله أو على الأمّة، فلا يصحّ إطلاق ذلك الوجوب عندنا معشر أهل السنّة والجماعة، وعند أكثر المعتزلة بالسمع؛ لأنّ ما ذهب إليه أهل السنّة هو الوجوب السمعي على الأمّة، لا الوجوب على الله أيضاً، فالصواب أن يقال إنّ ذلك الوجوب الأعمّ عندنا وعند أكثر المعتزلة على الأمّة بالسمع.

خامساً: إنّ ما ذكره من أنّ أكثر المعتزلة على الوجوب سمعاً، كذب صريح تشهد به عبارة الشرح الجديد للتجريد، حيث قال: «اختلفوا في نصب الإمام بعد انقراض زمان النبوّة هل يجب أم لا؟ وعلى تقدير وجوبه على الله أم علينا؟ عقلاً أم سمعاً فذهب أهل السنّة إلى أنّه واجب علينا سمعاً، وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلاً، وذهبت الإماميّة إلى أنّه واجب على الله تعالى عقلاً» . (2)

سادساً: فلأنّ قوله: وقال كثير بالعقل؛ إن أراد به الوجوب العقلي على الأمّة يلزم اهمال


1- الطبري، المسترشد، ج1، ص146؛ دلائل الإمامة، ج1، ص35.
2- الشرح الجديد للتجريد للعلامة علاء الدين بن محمد القوشجي المتوفي 879 ه.

ص: 36

ذكر القول بوجوبه على الله تعالى عقلاً، وإن أراد به وجوبه على الله تعالى عقلاً يلزم اهمال ذكر القول بوجوبه على الامة عقلاً، فيختل كلامه تحرير محل النزاع كما لا يخفى.

سابعاً: إنّ القول بكون الوجوب في ذلك سمعيّاً غير مسموع؛ لأنّ الوجوب السمعي منحصر في الكتاب والسنّة والإجماع والكلّ مفقود هنا باعتراف الخصم، ومنهم صاحب المواقف حيث قال: «وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة، فاعلم أنّ ذلك الحصول لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحلّ والعقد، إذ لم يقم عليه - أي على هذا الافتقار - دليل من العقل والسمع بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد كاف في ثبوت الإمامة ووجوب إتباع الإمام على أهل الإسلام، وذلك لعلمنا بأنّ الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة من أهل الحلّ والعقد فضلاً إجماع الأمّة من علماء الأنصار ومجتهدي جميع أقطارها. هذا ولم ينكر عليهم أحد وعليه، أي على الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الإمامة انطوت الإعصار بعدهم إلى وقتنا هذا» . (1)

وقد علم من كلامه هذا أنّهم جعلوا عمل الغاصب للخلافة حجّة فيها على الأمّة لظهور أنّ النزاع إنّما هو فيهم وفي عدم استحقاقهم لذلك وإلّا فما الدليل العقلي والنقلي من الكتاب والسنّة على أنّ مجرّد البيعة بل مجرّد بيعة الواحد والاثنين حجّة؟ ! ومن أين ثبت لعمر إمامة أبي بكر حتّى بايعه؟ ! وكيف علم أبو بكر أنّه إمام حتّى ادّعى ذلك، ولعلّ هذا أوّل ما أباح على أهل السنّة، كابن حجر، ارتكاب المصادرة فلم يبق لهم في المسألة إلّا الاعتماد على حسن الظنّ بمن قام ألف دليل على سوء أفعاله وركاكة أقواله.

والملخّص: إنّ تنصيب الإمام واجب على الله تعالى عقلاً كما برهن عليه في موضعه مفصّلاً، وقد أكد على ذلك النبيّ (ص) ونصّ على من هو أهلٌ للإمامة في يوم الغدير وغيره من

المواقف والأزمان، وحيث كان هذا الإيجاب عند أهل البيت عليهم السلام وسائر بني هاشم وأتباعهم


1- شرح المواقف، ج8، ص353.

ص: 37

شائعاً بحيث لم يظنّوا صدور الخلاف لأحد من الأصحاب وظنّوا أنّهم لا ينشغلون بالشجار على خلافة الرسول (ص) عن دفنه.

ثامناً: إنّ ما ذكره في وجه الوجوب على الأمّة سمعاً غير متّجه؛ لأنّه لا يقتضى كون تنصيب الإمام واجباً سمعيّاً على الأمّة، كما ادّعاه لظهور أنّ أمر النبيّ (ص) بإقامة الحدود وسدّ الثغور ونحوهما على جميع أبناء الأمّة، ليس على أن يفعلها كلّ واحد منهم باستقلال، بل بأمر الإمام كما يرشد إليه قوله، وهي لا تتمّ إلّا بالإمام فهذا الأمر راجع إلى بيان ما يجب على معاونة الإمام في الأمور المذكورة لا إلى وجوب أصل الإمامة، فالواجب المطلق في الأمر بما ذكر هو الوجوب المتعلّق بإطاعة الأمّة لا الوجوب المتعلّق بتنصيب الإمام ولا يلزم من سمعيّة الأوّل سمعيّة الثاني، على أنّ لقائل أن يمنع قولهم، فإنّ ما لا يتمّ الواجب به وكان مقدوراً للمكلّف فهو واجبٌ وإنّما تصدق هذه المقدّمة لو امتنع تكليف ما لا يطاق، وهو غير ممتنع عندهم فلم يتمّ هذا الدليل للأشاعرة. وأيضاً الذي يقوم عليه الدليل هو وجوب مقدّمة الواجب، بمعنى كونه ممّا لابدّ منه في تحقق ما هي مقدّمة له لا الوجوب الشرعي الذي قصدوه في هذا المقام.

تاسعاً: إنّ ما ذكره بقوله: «ولأنّ في نصبه جلب منافع لا تحصى ودفع مضار تستقصى. . .» ، مردود بأنّ الضرر المظنون إمّا ديني، وهو تقريب المكلّفين وتبعيدهم وذلك لا يحصل إلّا من إمام مؤيّد من عند الله بالآيات والبيّنات عارف بجزئيّات التكاليف العقليّة والشرعية ممّا لا يعرفها إلّا الراسخون ولا يرضى بحكمه إلّا المتّقون، بخلاف من نصبته الرعية على وفق آرائهم، حيث جوّزوا ترجيح المرجوح وتفضيل المفضول واستأثروا اتّباع الظالم الجاهل الذي لا يعرف شيئاً من ضروريّات الدين، بل لا يهتدي بضروريّات العقل أيضاً لينالوا بوسيلته مرادهم، وأمّا دنيوي كالهرج والمرج والفتن، ولا نزاع لنا في حصول ذلك في الجملة من تنصيب رئيس تختاره طائفة من الناس بينهم لئلّا يختلّ أمر معاشهم، إلّا أن تنصيبه ربما يؤدّي إلى المفاسد الدينيّة كاتّباع العلماء القاصرين لرأيه واعتقاده وتأليفهم

كتباً على طبق مرضاته ووضعهم أحاديث كذلك، فاستمرّ بينهم كابراً عن كابر حتّى شاع في

ص: 38

وقته كما وقع في زمان بني أميّة وبني العباس فقالوا بعد مدّة: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أمّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ . (1)

دعوى جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل

قال ابن حجر: «الإمامة تثبت إِمّا بنصٍّ من الإمام على استخلاف واحد من أهلها وإمّا بعقدها من أهل الحلّ والعقد لمن عقدت له من أهلها كما سيأتي بيان ذلك في الأبواب، وإمّا بغير ذلك كما هو مبين في محله من كتب الفقهاء وغيرهم (2)، واعلم أنّه يجوز نصب المفضول مع وجود من هو أفضل لإجماع العلماء بعد الخلفاء الراشدين على إمامة بعض من قريش مع وجود أفضل منه فيهم ولأنّ عمر جعل الخلافة بين ستة من العشرة منهم عثمان وعلي، وهما أفضل أهل زمانهما. فلو تعيّن الأفضل لعيّن عثمان، دلّ عدم تعيينه أنّه يجوز نصب غير عثمان وعلي مع وجودهما، والمعنى في ذلك أنّ غير الأفضل قد يكون أقدر منه على القيام بمصالح الدين وأعرف بتدبير الملك وأوفق لانتظام حال الرعية وأوثق في اندفاع الفتنة (3)» . (4)

أقول : أوّلاً: التحقيق يثبت أنّ الإمامة لا تثبت إلّا بنصٍّ من النبيّ (ص) أو من الإمام المنصوص على إمامته.

ثانياً: إن أراد بدعوى إجماع العلماء على إمامة المفضول مع وجود الفاضل، فالمنع عليه ظاهر، كيف وسائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى

هذا الزمان على طرف الخلاف.

وإنْ أراد إجماع علماء أهل السنّة، فهو مصادرة ظاهرة لا تقوم حجّة على الخصم الشيعي،


1- سورة الزخرف: 22.
2- قال الرازي ما ملخصه: «إنّ إمامة أبي بكر انعقدت بالبيعة وصحّت بها إمامته، فالبيعة طريق لحصول الإمام بخلاف الاثني عشرية» .
3- قال الباقلاني في التمهيد: «إنّ الإمام إنّما يُنصب لدفع العدو وحماية بيضة الإسلام وسدّ الخلل وإقامة الحدود، واستخراج الحقوق، فإذا خيف بإقامة أفضلهم الهرج والفساد والتغالب وترك الطاعة واختلاف السيوف. . .» .
4- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص15.

ص: 39

كما لا يخفى، وتفصيل الكلام: قد دلّ العقل والنقل على وجوب أن يكون الإمام أكمل وأفضل في جميع أوصاف المحامد، كالعلم والزهد والكرم والشجاعة والعفّة وغير ذلك من الصفات الحميدة والأخلاق المرضيّة. وبالجملة يجب أن يكون أشرفهم نسباً وأعلاهم قدراً وأكملهم خلقاً وخلقاً، كما وجب ذلك في النبيّ (ص) بالنسبة إلى أمّته، وهذا الحكم متفق عليه من أكثر العقلاء، إلّا أنّ أهل السنّة خالفوا في أكثره كالأعلميّة والأشجعيّة والأشرفيّة؛ لأنّ أبا بكر لم يكن كذلك مع أنّ عمر وأبا عبيدة نصّباه إماماً، وكذا عمر لم يكن كذلك وقد نصّبه أبو بكر إماماً، ولم يفطنوا بأنّ هذا الاختيار قد وقع مواضعة ومخادعة من القوم حرصاً على الخلافة وعداوة لإمام الكافّة، كما يكشف عنه قول طلحة حين كتب أبو بكر وصيّته لعمر بالولاية والخلافة بعده، حيث قال مخاطباً لعمر: «وليته أمس وولاك اليوم» (1)، إلى غير ذلك من المكائد والحيل والخدع الّتي استعملوها في غصب الخلافة عن أهلها. وكذلك فريق من المعتزلة منهم عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني قالوا بجواز تقديم المفضول على الفاضل لمصلحة ما، وقالوا إنّ علياً (ع) أفضل من أبي بكر، لكن جاز تقديم أبي بكر عليه لمصلحة، وهذا القول غير مقبول، إذ يقبح من اللطيف الخبير أن يقدّم المفضول المحتاج إلى التكميل على الفاضل الكامل عقلاً ونقلاً، كما في النبوّة ومنشأ شبهتهم في هذا التجويز هو أنّ النبيّ (ص) قدّم عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر، وكذا قدّم أسامة بن زيد عليهما مع أنّهما أفضل من كلّ منهما، والجواب بعد تسليم أفضليتهما والإغماض عن أنّ هذه الأفضليّة إنّما توهّم لهما بعد غصبهما للخلافة أنّهما إنّما قدّما عليهما في أمر الحرب فقط، وقد كانا أعلم منهما فيه قطعاً، كما دلّ عليه الأخيار والآثار. هذا إنْ جعلنا التقديم والتأخير منوطً باختيار الله تعالى، وأمّا إنْ جعلناه منوطاً باختيار الأمّة - كما هو مذهب الجمهور - فهو أيضاً غير مقبول؛ لأنّه يقبح في

العقول أيضاً أن يجعل المفضول المبتدئ في الفقه مقدّماً على ابن عباس رضى الله عنه، وذلك بيّن عند كلّ عاقل لبيب.


1- الطرائف، ج2، ص4٠1.

ص: 40

ومن العجائب أنّ ابن أبي الحديد المعتزلي خالف هنا مقتضي ما أجمع عليه من القول بالحسن والقبح العقليين ونسب هذا التقديم إلى الله عزّ وجل فقال في خطبة شرحه لنهج البلاغة «وقدّم المفضول على الفاضل لمصلحة اقتضاها التكليف» ، (1)وهذا في غاية الغرابة منه؛ لأنّه نسب ما هو قبيح عقلاً إلى الله عزّ وجل، مع أنّه عدلىّ المذهب، فقد خالف مذهبه، ولهذا حمل الشكايات الواردة من علي (ع) عن الصحابة، والتظلّم منهم في الخطبة الموسومة بالشقشقيّة وغيرها على ذلك، ولا يخفى أنّ الحمل على ذلك ممّا لا وجه له سوى التحامل على علي (ع) لأنّ هذا التقديم إنْ كان من الله تعالى، لم يصحّ من علي (ع) الشكاية مطلقاً؛ لأنّها حينئذ تكون ردّاً على الله، والردّ عليه على حدّ الكفر، وإنْ كان من الخلق، فإن كان هذا التقديم لمصلحة المكلّفين وعلم بها جميع الخلق غير علي (ع) ، فقد نسبه (ع) إلى الجهل بما عرفه عامّة الخلق، وإنْ كان لا لمصلحة كان تقديماً بمجرّد التّشهي فلم تكن الشكاية على الوجه الذي توهّمه، فلا وجه لحملها عليه. هذا والعقل والنقل كما أشرنا إليه دالّ على قبح ذلك.

أمّا العقل فظاهر، وأمّا النقل فلأنّ القرآن نصّ على إنكار ذلك، حيث قال تعالى: أَفَمَن يَهْدِي إلى الحقّ أحقّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، (2)وقال تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنّما يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ . (3)

ثمّ أقول يمكن أن يستدلّ على عدم جواز تفضيل المفضول بقول أبي بكر: «أقيلوني فإنّي وليتكم ولست بخيركم وعلىّ فيكم» (4)فاحفظ هذا وتأمّله جيّداً.

ثالثاً: إنّ قوله «والمعنى في ذلك أنّ غير الأفضل قد يكون أقدر منه. . .» فيه أنّه إنْ عنى بالأقدر المذكور فيه أنّه لا يعرف مصالح الدين لكنّه أقدر على إقامتها، فهذا لا يسمن


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج17، ص184.
2- سورة يونس: 35.
3- سورة الزمر: 9.
4- شرح احقاق الحقّ، ج2، ص325؛ غاية المرام، ج5، ص313؛ كنز العمال، ج5، ص636؛ الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص142.

ص: 41

ولايغني من جوع؛ لأنّ إقامة مصالح الدين فرع العلم وهو ظاهر، وإنْ عنى به أنّه أقدر بإقامتها مع العلم من غير احتياج واستناد إلى استعلامها عن غير، فهو خلاف المفروض؛ لأنّ مثل هذا الشخص ليس بمفضول في العلم، بل أقلّ الأمر أن يكون مساوياً لغيره، وأمّا مجرّد معرفة تدبير الملك وانتظام حال الرعية فلا يجدي في الدين؛ لأنّ ذلك التدبير والانتظام يجب أن يكون على الوجه الشرعي الخالي من شوائب الجور والظلم، الذي لا يحصل إلّا ممّن اتّصف بالعلم والعفة والزهد والشجاعة، بل بالعصمة كما سنحققه دون الوجه العرفي السياسي الحاصل من معاوية الباغي ويزيد والوليد الذي استهدف المصحف والحجّاج الظالم والدوانيقي ونحوهم، فإنّهم كانوا يدفعون الفتنة الموهومة على الملك والرعيّة وعلى خصوص سلطنتهم بقتل كلّ متهم، وصلب كلّ عدو مظنون، وإحراق بيوتهم وبيوت أقوامهم وجيرانهم وضرب أعناقهم، إلى غير ذلك من العذاب والتنكيل، بلا ثبوت ذنب منهم شرعاً. نعم ظلم الشيخين كان مختصّاً بأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، ولهذا استقام لهم الأمر بمعونة غيرهم من أعداء أهل البيت، بخلاف عثمان فإنّه لما عمّ ظلمه وظلم عماله على البلاد والعباد اختلّ أمره وآل إلى قتله.

فالجور والفساد ووقوع الخلل في أحكام الدين والعجز عن الإصلاح والتقويم، أشار إليه عبد الله بن الحرّ في قوله (1):

تبيت النشاوى من أميّة نوّماً

وليتأمّل ذو الرأي السديد في أنّ ما وقع في أيّام خلافة يزيد عليه اللّعنة من قتل


1- المناقب، ابن شهرآشوب، ج 2، ص232.

ص: 42

الحسين (ع) وشيعته، أو في قتله لأهل المدينة الطيّبة، وافتضاض ألف بكر من أولاد الصحابة والتابعين الكرام، أو في رمي المناجيق على الكعبة وتخريب بيت الله الحرام، مع أنّا لا نسلّم أنّ الثلاثة كانوا أعرف بحفظ ونظم حال الرعية، ولو كانوا كذلك لما أمّر النبيّ عليهما عمرو بن العاص مرّة وزيد بن حارثة تارةً أسامة بن زيد تارةً أخرى.

وقد اشتهر أنّ أكثر ما استعمله عمر من تدبير فتح العجم ونشر الإسلام في بلادهم إنّما كان بمشورة علي (ع) وأنّه كتب صفحه من قبيل الجفر والتكسير أوجب عقدها على راية أهل الإسلام انتكاس راية العجم، وقد ذكر بعض الجمهور على ما في كتاب الشافي أنّ مقاتلة أبي بكر لأصحاب مسيلمة الكذّاب وأمثالهم المشهورين بين أهل السنّة بأهل الردّة إنّما كان بمشورة علي (ع) .

نعم كان (ع) محترزاً عن استعمال الغدر والمكيدة والحيلة والخديعة الّتي يَعِدُّ العرب مستعملها من الدهاة، وكانوا يصفون معاوية بذلك ويقولون إنّما وقع الاختلال في عسكر علي (ع) ؛ لأنّ معاوية كان صاحب الدهاء دونه، ولمّا سمع (ع) ذلك قال: «لولا الدين لكنت من أدهى العرب» ، (1)فتدبّر.

دعوى أنّ العصمة شرط في الإمامة وبيان معناها

قال ابن حجر: «واشتراط العصمة في الإمام وكونه هاشميّاً وظهور معجزة على يده يعلم

بها صدقه، من خرافات نحو الشيعة وجهالاتهم لما سيأتي بيانه وإيضاحه من حقية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، مع انتفاء ذلك فيهم ومن جهالاتهم أيضاً قولهم أنّ غير المعصوم يسمّى ظالماً فيتناوله قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (2)وليس ما استغفل بالمكيدة


1- نقل السيد الرضي رحمه الله في نهج البلاغة ما يحقق هذا المرام بهذه العبارة (ومن كلام له (ع) : «والله ما معاوية بأدهى منّى، ولكنه يغدر ويفجر؛ ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة وكلّ فجرة كفرة ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة والله. . .» . نهج البلاغة، ج2، ص 18٠، خ2٠٠.
2- سورة البقرة:124.

ص: 43

ولا استغمز بالشديدة (1)، وليس كما زعموا إذ الظالم لغة من يضع الشيء في غير محلّه وشرعاً العاصي وغير المعصوم قد يكون محفوظاً فلا يصدر عنه ذنب أو يصدر عنه ويتوب منه حالاً توبة نصوحاً، فالآية لا تتناوله وإنّما تتناول العاصي على أنّ العهد في الآية كما يحتمل أن يكون المراد به الإمامة العظمى يحتمل أيضاً أن يكون المراد به النبوّة أو الإمامة في الدين أو نحوهما من مراتب الكمال وهذه الجهالة منهم إنّما اخترعوها ليبنوا عليها بطلان خلافة غير علي كرّم الله وجهه، وسيأتي ما يرد عليهم ويبين عنادهم وجهلهم وضلالهم نعوذ بالله من الفتن والمحن» . (2)

أقول: أوّلاً: إنّ الإماميّة الذين ينبغي أن يكون وجه الكلام معهم، إنّما اشترطوا العصمة دون الهاشميّة وإن اتفق كون الأئمّة المعصومين من بني هاشم، ودون إظهار المعجزة، وإنْ صدر عنهم ذلك حسبما ذكره مؤلّف شواهد النبوّة (3)وغيره.

وثانياً إنّ إثبات حقيّة خلافة أبي بكر وعمر مع انتفاء العصمة فيهم إنّما يوجب خرافة من اشترط العصمة في الإمامة لو لم يثبت ذلك ببرهان من العقل والنقل، وإلّا فغاية الأمر تعارض الإثباتين.

على أنّ لنا على ذلك دلائل عقليّة ونقليّة، أما النقليّة فما ذكره ابن حجر بعيد ذلك من قوله تعالى: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (4)، وسنوضّح دلالته على المقصود. وقوله تعالى: كُونُواْ مَعَ

الصَّادِقِينَ (5) ، وغير المعصوم لا يعلم صدقه، فلا يجب الكون معه، فيجب الكون مع المعصوم وهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام، كما نطقت به آية التطهير.

وأمّا العقليّة؛ فلأنّ الإمام قائم مقام النبيّ (ص) وله الولاية العامّة في الدين والدنيا، وينوب


1- الصواعق المحرقة، المقدمة الثالثة.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص16.
3- نور الدين عبد الرحمن بن أحمد الجامي المتوفى 898، شواهد النبوة.
4- سورة البقرة: 124.
5- سورة التوبة: 119.

ص: 44

عنه، فكما أنّه شرط في النبيّ اتفاقاً فكذا في الإمام إلزاماً وبالجملة: فإنّ الأدلّة الدالّة على عصمة النبيّ (ص) دالّة على عصمة الإمام (ع) وهي انتفاء فائدة بعثة النبيّ (ص) لو لم يكن معصوماً؛ لظهور انتفاء فائدة تنصيب الإمام أيضاً على تقدير عدم عصمته، وللزوم التسلسل لو لم يكن الإمام معصوماً، وقد شبّهوا هذا بدليل وجوب انتهاء سلسلة الممكنات على الواجب لئلّا يلزم التسلسل، ولأنّ الأمر بإتباعه أمر مطلق فلو وقع منه معصية لزم أن يكون الله آمراً لنا بفعل المعصية وهو قبيح عقلاً، ولا يفعله الحكيم تعالى لما ثبت من الأدلّة الدالّة على امتناع القبائح منه تعالى ولأنّه لو فعل المنكر، فإن لم يعترض عليه لزم سقوط النهى عن المنكر، وإن أنكر عليه لزم سقوط محلّه عن القلوب، فلا تحصل فائدة من تنصيبه، ولأنّ الإمام حافظ للشرع، بمعنى أنّه مؤيّد له منفّذ لأحكامه بين الناس جميعاً، وكلّ من كان حافظاً للشرع بهذا الوجه لابدّ من عصمته. أمّا الصغرى فلاعتبار عموم الرئاسة في الدنيا والدين في الإمامة كما سبق، وأمّا الكبرى فإنْ كان حافظاً للشرع بالوجه المذكور لا بدّ أن يكون آمناً عند الناس من تغيير شيء من أحكامه بالزيادة والنقصان، وإلّا لم يحصل الوثوق بقوله وفعله فلا يتابعه العباد فيهما فتختل الرئاسة العامّة وتنتفي فائدة الإمامة، ولا يقال إنّ هذا الدليل يقتضى أن تكون العصمة شرطاً في المجتهد أيضاً لأنّه حافظ للشرع فلابدّ أن يكون معصوماً؛ ليؤمن من الزيادة والنقصان وكذا الكلام في الدليل المذكور قبله؛ لأنّه لو فعل المعصية سقط من القلوب وانتفت فائدة الاجتهاد أو سقط حكم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وكلاهما باطل لكنّها ليست بشرط اتفاقاً؛ لأنّا نقول المجتهد ليس حافظاً للشرع بين جميع الناس بل

مظهر له على من قلّده فلا يجب فيه أن يكون آمنا من الزيادة والنقصان على سبيل القطع، بل يكفى حسن الظنّ بصدقه بعد ثبوت الاجتهاد. ولذلك اشترطت العدالة فيه، وبالجملة مرتبة الاجتهاد لكونها دون مرتبة الإمامة تحصل باستجماع شرائطها المشهورة المسطورة في كتب الأصول ويكفي في وجوب العمل بقول المجتهد حسن الظنّ بصدقه المتفرّع على ثبوت عدالته بعد حصول شرائط الاجتهاد، بخلاف مرتبة الإمامة فإنّها رئاسة عامّة بحسب الدين

ص: 45

والدنيا، ومن البيّن أنّها لا تحصل لشخص إلّا بعد أن يكون آمناً من الزيادة والنقصان في أحكام الشرع، وإلّا لاختلّت تلك الرئاسة العامّة وانتفت فائدة الإمامة، كما لا يخفى. ولايبعد أن يقال أيضاً إنّ كلا من جواز الاجتهاد وجواز تقليد المجتهد في أيّام غيبة الإمام من باب الرخصة في أكل لحم الميتة عند المخمصة؛ لئّلا تتعطّل الأحكام الشرعيّة، وإنّما الجائز بحسب أصل الشرع هو الاجتهاد في زمن حضور النبيّ أو الإمام عند كونه في ناحية بعيدة عنهما، يمكنه استعلام ما استبهم من الأحكام بالكتابة إليهما ونحوها، إذ مع حضور النبيّ والإمام المعصومين في الأحوال والأقوال يرجع المجتهدون إليهما في مواضع الاشتباه والإشكال وبإعلام كلّ منهما يتمّ اجتناب الخطأ والضلال، فلا يحتاج إلى اعتبار عصمة المجتهد مع حضور النبيّ (ص) والإمام الذي يمكن الرجوع إليه في تحقيق الأحكام والكشف عن مسائل الحلال والحرام. فإن قيل عمدة ما ذكرتم في عصمة الأنبياء والأئمّة إنّ تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض من بعثة الأنبياء وتنصيب الإمام - أعني قبول أقوالهم وامتثال أوامرهم ونواهيهم - فبيّنوا لنا وجه القدح، إذ طال الكلام في هذه المسألة بين الفريقين، قلت لاشكّ إنّ من يجوز عليه الكبائر والمعاصي فإنّ النفس لا تسكن ولا تطمئن إليه، مثلما تطمئن إلى قول من لا يجوز عليه شيء من ذلك جزماً.

قال الشريف المرتضى: «هذا معنى قولنا إنّ وقوع الكبائر والمعاصي منفّر عن القبول والامتثال، والمرجع فيهما إلى العادات، وليس ذلك ممّا يستخرج بالدليل، ومن رجع إلى العادة علم صدق ما ذكرناه فإنّ الكبائر في باب التنفير لا تنحطّ عن المهاجاة الّتي تدلّ على خسّة

صاحبها، ولا خلاف في أنّها ممتنعة منهم عليهم السلام، فإن قيل أوليس قد جوّز كثير من الناس الكبائر على الأنبياء والأئمّة ومع ذلك لم ينفروا عن قبول أقوالهم وامتثال أوامرهم، وهذا يناقض قولكم إنّ الكبائر منفّرة؟ ! قلنا هذا كلام من لم يعرف معنى التنفير إذ لم نرد به ارتفاع التصديق والامتثال رأساً، بل ما ذكرناه من عدم سكون النفس وحصول الاطمينان، ولا يشكّ عاقل في أنّ النفس حال عدم تجويز الكبائر أقرب منها إلى ذلك عند تجويزها، وقد

ص: 46

يبعد الأمر عند الشيء ولا يرتفع كما يقرب من الشيء ولا يقع عنده الا ترى أن عبوس الداعي إلى طعامه وتضجّره منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفّراً وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسّمه يقرب من الحضور والتناول، وقد يرتفع عنده ذلك لا يقال هذا يقتضى أن لا تقع الكبائر عنهم حال النبوّة والإمامة، وأمّا قبلها فلا لزوال حكمها بالتوبة المسقطة للعقاب والذمّ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير؛ لأنّا نقول أنّا لم نجعل المانع عن ذلك استحقاق العقاب والذمّ فقط بل ولزوم التنفير أيضاً، وذلك حاصل بعد التوبة، ولهذا نجد ذلك من حال الواعظ الداعي إلى الله وقد عهد منه الإقدام على كبائر الذنوب وإن تاب عنها، بخلاف من لم يعهد منه ذلك، والضرورة فارقة بين الرجلين فيما يقتضى القبول والنفور، وكثيراً ما نشاهد أنّ الناس يعيّرون من عهد منه القبائح المتقدّمة، وإن حصلت منه التوبة والنزاهة ويجعلونها نقصاً وعيباً وقدحاً، غاية ما في الباب أنّ الكبائر بعد التوبة أقلّ تنفيراً منها قبل التوبة ولا تخرج بذلك عن كونها منفّرة.

إن قلت: فلم قلتم إنّ الصغائر لا تجوز عليهم مطلقاً ولا تنفير فيها، قلت بل التنفير حاصل فيها أيضاً عند التأمّل؛ لأنّ اطمئنان النفس وسكونها إنّما هو مع الأمن عن ذلك لامع تجويزها، والفرق بأنّ الصغائر لا توجب عقاباً وذمّاً ساقط؛ لأنّ المعتبر التنفير كما ذكرنا مراراً، ألا ترى أنّ كثيراً من المباحات منفّرة، ولا ذمّ ولا عقاب فيها، وكيف لا يكون ذلك موجباً للتنفير مع أنّ الخصم حكم على بعض الاجتهادات البعيدة من الشاهدة بكونه

منفّراً للعوام مع تصريحهم بأنّ المجتهد المخطئ مثاب» . (1)

قال أبو المعالي الجويني في رسالته المعمولة في بيان حقيّة مذهب الشافعي: «قد اتفق للشافعي أصل مقطوع ببطلانه على وجه أجمعت الأمّة شارقة وغاربة أرضاً فأرضاً طولاً وعرضاً على بطلان ذلك الأصل وهو أنّه لم يجز نسخ السنّة بالكتاب ولم يجوز نسخ الكتاب


1- السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، صص 18- 21.

ص: 47

بالسنّة وهذا من أمحل المحالات، والعامّي إذا سمع هذا يستنفر طبعه وينزوى عن تقليده والاقتداء به» (1)، والجواب قلنا هذا الأصل غير مقطوع ببطلانه فإنّه إنّما لم يجوِّزْ نسخ السنّة المتواترة بالكتاب.

ثالثاً: إنّ أحداً من الشيعة، سيّما من الإماميّة، لم يقل بأنّ غير المعصوم يكون ظالماً، كيف وغير المعصوم قد يكون عادلاً في جميع أيّام عمره. نعم قد استدلّوا بالآية الّتي ذكرها على عدم صلاحيّة المشايخ الثلاثة للإمامة بما حاصله: أنّهم كانوا كفّاراً في الأصل وإنّما أسلموا بعد تماديهم في الكفر والضلالة والكافر ظالم بقوله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (2)والظالم لايصلح للإمامة؛ لأنّ إبراهيم (ع) حين طلب الإمامة لذريته وقال وَمِن ذُرِّيَّتِي (3)قال الله تعالى في جوابه: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (4)، يعنى أنّ الإمامة لاتصل منّى ومن جانبي إلى أحد من الموصوفين بالظلم، وأورد عليه الفاضل القوشچى في شرحه على التجريد بأنّ غاية ما تدلّ عليه الآية هو أنّ الظالم في حال الظلم لا ينال عهد الإمامة ولايلزم من ظلم الثلاثة وكفرهم قبل الخلافة أن لا ينالوها حال إسلامهم وعدم اتصافهم بالظلم؛ وفيه نظر ظاهر لأنّ لفظة من في قوله وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي تبعيضية كما هو الظاهر، وحينئذ نقول إنّ سؤال إبراهيم (ع) الإمامة لذريّته لا يشمل الظالمين منهم.

أمّا إنْ كان لبعض ذريته المسلمين العادلين في تمام عمرهم أو لذريته الظالمين في تمام عمرهم أو لذريته المسلمين العادلين في بعض أيّام عمرهم الظالمين في بعضه الآخر، لكن يكون مقصوده (ع) نيلهم لذلك حال إسلامهم وعدالتهم أو الأعمّ من هذا القسم، والقسم الأوّل فعلى الأوّل يلزم عدم مطابقة الجواب للسؤال. وعلى الثاني يلزم طلب الخليل ذلك المنصب الجليل للكافر والظالم حال الكفر والتضليل وهذا ممّا لا يصدر عن أدنى عاقل، وعلى


1- نقل العبارة السيد المرعشي في شرح إحقاق الحقّ، ج2، ص275.
2- سورة البقرة: 254.
3- المصدر السابق: 124.
4- المصدر السابق.

ص: 48

الثالث والرابع يحصل المطلوب، وهو أنّ الإمامة ممّا لاينالها من كان كافراً ظالماً في الجملة وفي بعض أيّام عمره، فظهر أنّ الخرافة والجهالة إنّما صدرت عن ابن حجر الذي نسج أموراً واهية على ما ادّعاه.

رابعاً: إنّ ما ذكره في العلاوة مردود بأن أكثر المفسرين من أهل السنّة حملوا العهد على الإمامة، وهو الظاهر أيضاً من سوق الآية ومدار الاستدلال في النقليات، وعلى هذا ما لم يقم دليل آخر على خلافه يستدعي العدول عنه وإقامة الحجة على شطر من علماء مذهبكم وهو كاف لنا في الالزام، بل يلزم الباقين الخروج عن مقتضاها لقوله (ع) «الكفر ملة واحدة» على أنّه يلزم من اشتراط العصمة والعدالة في النبي (ص) في جميع أيام عمره اشتراطه في الإمام بطريق أولى، لعدم تأييد الإمام بالوحي العاصم عن الخطأ.

خامساً: إنّ ما نسبه إلى الإماميّة من اختراع اشتراط العصمة في الأئمّة معارض بمثله فإنّ لهم أن يقولوا إنّ أهل السنّة إنّما اخترعوا نفى اشتراط عصمة الأئمّة؛ حفظاً لحال مشايخهم الثلاثة الفاقدين للعصمة وادّعاءاً بصحة خلافتهم، والله ولى العصمة.

عرض لخطبة عمر وبيان للطريقة الّتي تمّ بها الاستخلاف

قال ابن حجر: «روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما الذين هما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به، أن عمر خطب الناس مراجعة من الحج فقال في خطبته: قد بلغني أنّ فلاناً منكم يقول لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترنَّ امرؤ أن يقول إنّ بيعة أبي بكر

كانت فلتة إلا وإنّها كذلك إلا أنّ الله وقى شرّها وليس فيكم اليوم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنّه كان من خيرنا حين توفّى رسول الله [ (ص) ] أنّ علياً والزبير ومن معهما تخلّفوا في بيت فاطمة وتخلّفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له: أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نؤمّهم أن نقصدهم حتّى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم، قالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلت والله لنأتينّهم. فانطلقنا حتّى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون وإذا بين

ص: 49

ظهرانيهم رجل مزمّل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: وجع. فلمّا جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وقال: أمّا بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معاشر المهاجرين رهط منّا، وقد رأفت رأفة منكم، أي ذبّ قوم منكم بالاستعلاء والترفّع علينا تريدون أي تخزنونا من أصلها وتخضنونا من الأمر أي تنحونا عنه وتستبدّون به دوننا. فلمّا سكت أردت أن أتكلّم وقد كنت زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر وقد كنت أدارى منه بعض الحدّ وهو كان أحلم منّى وأوقر، فقال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه وكان أعلم منّى والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهة وأفضل حتّى سكت، فقال: أمّا بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم أحد هاذين الرجلين وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها وكان والله إن أقدم فيضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحبّ إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر. فقال قائل من الأنصار: أي جذيلها المحكك وغديقها المرحب منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش وكثر اللفظ وارتفعت الأصوات حتّى خشيت الاختلاف، فقلت ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار. أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أوفق من مبايعة أبي بكر وخشينا أن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا

بعدنا بيعة فإِمّا أن نبايعهم على ما نرضى وإِمّا أن نخالفهم فيكون فساداً» . (1)

أقول : يترتّب عليه أنّه إن أراد إجماع من يعتدّ به من أهل السنة على صحّة ما في الكتابين فهو مصادرة لا يتماشى مع من هو طرف البحث من الشيعة، وإن أراد إجماع من يعتدّ به من الشيعة على صحّة ما فيهما فبطلانه ظاهر؛ لأنّ البخاري ومسلماً وأضرابهما وضّاعون عند الشيعة، بل حكموا بحماقة البخاري وقصور فهمه عن التمييز بين الصحيح والضعيف لأمور شتّى، منها ما صرّح به بعض الجمهور من أنّ البخاري حدّث عن المتّهم في دينه


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص17و 18.

ص: 50

كعبّادبن يعقوب الرواجى، واحتجّ بحديث من اشتهر عنه النصب والبغض لعلىّ (ع) كمحمد بن زياد الابهاني وحريز بن عثمان الرحبى واتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديث أبي معاوية وعبيد الله بن موسى، وقد اشتهر عنهما الغلو ومنها ما ذكره فقهاء الحنفية في بحث الرضاع من كافيهم وكفايتهم من بلادته وقصور إدراكه عن فهم معاني الأخبار والفتوى بما يضحك منه الصبيان، حتّى أجمع علماء بخارى على إخراجه منها وطرده بأسوأ حال، ومن هذا حاله كيف يعتمد على نقله وكيف يقال إنّ كتابه أصحّ الكتب بعد كتاب الله تعالى؟ ! على أنّ الكرماني شارح البخاري (1)قد روى في أوائل شرحه ما يدلّ على أنّ صحيح البخاري لم يتمّ في أيّام حياته، بل كان كثير من مواضعه مبيضاً وكان على حواشيه ملحقات وعلى أوساطه قطعات استصعبوا الاهتداء إلى مواضع ربطها، وإنّما رتّبه بعض تلامذته البخاريين على حسب ما وصل إليه فهمهم. ومن البين أنّه لو بقى البخاري بعد ذلك مدّة لجاز أن يرجع عن الحكم بصحّة بعض ما أودع فيه وتصرّف فيه بالزيادة والنقصان، فكيف يعتمد بمثل هذا الأبتر الواهي، الذي قد لعب به جماعة من نواصب بخارى وفسّاقها في تحقيق الكلام الإلهى سيما الأوامر والنواهي؟ !

وكذا الكلام في مسلم كما فصّلناه في شرح كتاب كشف الحقّ ونهج الصدق، (2)ولو سلّم صحّة نقلهما ذلك عن عمر فالكلام مع عمر وأنّه هو الذي عقد البيعة لأبي بكر ظلماً وجوراً على أهل البيت عليهم السلام ولعلمه بأنّ أبا بكر يجعل الخلافة فيه بعده. قال طلحة: وليته أمس وولاك اليوم. فكيف يسمع كلامه في كيفيّة خلافة أبي بكر مع ما اشتمل عليه من الأكاذيب الظاهرة، وناهيك في ذلك ما قال ابن أبي الحديد المعتزلي (3)من مصححي خلافة الثلاثة: «إنّ عمر هو الذي وطّأ الأمر لأبي بكر وقام فيه حتّى وقع في صدر المقداد وكسر سيف الزبير، وكان قد


1- شمس الدين الكرماني، الدراري في شرح صحيح البخاري، ج1، ص9.
2- إحقاق الحقّ الأصل، 195.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص174، طرف من أخبار عمر بين الخطاب؛ وانظر ج2، صص49 - 51، حديث السقيفة.

ص: 51

أشهر سيفه عليهم؛ ولهذا أنّ أبا بكر لمّا صعد المنبر قام اثنا عشر رجلاً ستّة من المهاجرين وستة من الأنصار، فأنكروا على أبي بكر في فعله وقيامه مقام رسول الله (ص) ، ورووا أحاديث في حقّ على (ع) ووجوب خلافته لما سمعوا من النص عليه من رسول الله (ص) حتّى إنّ أبا بكر أُفحم على المنبر ولم يرد جواباً، فقام عمر وقال: يا لكع، إذا كنت لا تستطيع أن تردّ جواباً فلم أقمت نفسك هذا المقام؟ ! وأنزله من المنبر وجاؤوا في الأسبوع الثاني ومع معاذ بن جبل مائة رجل ومع خالد بن الوليد كذلك شاهرى سيوفهم حتّى دخلوا المسجد، وعلي (ع) جالس في نفر من أصحابه، فقال عمر: والله يا أصحاب علي لئن ذهب رجل منكم يتكلّم بالذي تكلّم به أمس لنأخذنَّ الذي فيه عيناه، فقام سلمان الفارسي وقال: سمعت رسول الله (ص) قال: بينما حبيبي وقرّة عيني جالس في مسجدي إذ وثب عليه طائفة من كلاب أهل النار يريدون قتله ولا شكّ أنّكم هم؛ فأومأ إليه عمر بالسيف فجذبه علي حتّى جلد به الأرض، وقال: يا ابن صهّاك الحبشيّة، أبأسيافكم تهددوننا، وبجمعكم تكاثروننا؟ ! والله لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدّم لأريتكم أيّنا أقلّ عدداً وأضعف ناصراً وقال لأصحابه تفرّقوا» ، (1)فأحسن تأمّله وهل هذا إلا مصادرة؟ !

دعوى أنّ النبيّ (ص) أمر أبابكر أن يؤمّ الناس. . . والردّ عليها

قال ابن حجر (2): «وأخرج النسائي وأبو يعلى والحاكم وصححه عن ابن مسعود 2 أنّه قال: لمّا قبض رسول الله (ص) قالت الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر بن الخطاب فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أنّ رسول الله (ص) قد أمر أبا بكر أن يؤمّ الناس؟ ! وأيّكم تطيب نفسه أن يتقدّم أبا بكر؟ ! فقال الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدّم أبا بكر» . (3)

أقول فيه:


1- ابن جبير (جبر) ، نهج الإيمان، صص585 و 586؛ الصراط القويم، ج2، صص82 و 83.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص18.
3- النسائي، السنن الكبرى، ج1، ص279 و ج3، ص264.

ص: 52

أوّلاً: إنّ رواية الحاكم لهذا الحديث عن ابن مسعود كاذبة، بل هي ممّا رواه الحسن البصري عن عائشة وقال إنّه نصّ خفيٌّ على إمامة أبي بكر والحسن البصري ممّن قدح فيه الشيعة والشافعية؛ حيث نقل عنه ابن المعالى الجويني أنّه قال فيه كلام، وأمّا عائشة فمع ظهور عداوتها لأمير المؤمنين (ع) فهي متهمة في خصوص هذه الرواية؛ لما فيها من جرّ نفع لها ولأبيها. وبالجملة فإنّ الشيعة لا يعتقدون بأنّ النبيّ (ص) أمر بذلك، وإنّما أمَرَت به عائشة فقالت للمؤذّن: مرّ أبا بكر فليصلّ بالناس؛ فظنّ أنّ النبيّ (ص) أمرها بذلك، ولمّا تفطّن النبيّ (ص) بذلك خرج متّكئاً على علي (ع) وفضل بن العباس، فنحّى أبا بكر عن المحراب وصلّى بالناس، (1)والأنصار أعلم من أن يصدّقوا بهذا الحديث، الذي لا دلالة له على مطلوب أولياء أبي بكر، وقد صرّح بذلك ابن أبي الحديد المعتزلي في قصيدته الكبيرة المشهورة حيث قال في مدح علي (ع) تعريضاً بأبي بكر:

ولا كان معزولاً غداة براءة ولا في صلوة أم فيها مؤخّراً (2)

وأهل السنّة يؤيدون خروج النبيّ (ص) على الوجه المذكور، لكنّهم يقولون إنّه صلّى خلف

أبي بكر، وقد صرّح بذلك الشارح الجديد للتجريد حيث قال: «واستخلفه في الصلاة في مرضه وصلّى خلفه» . (3)

وفيه أنّ النبيّ (ص) لو عجز عن الصلاة فكيف خرج وصلّى خلفه؟ ! ولو لم يعجز فلم استخلفه؟ ! اللّهم إلّا أن يقال إنّها للدلالة على خلافته كما توهّمه بعضهم، وفساد هذه الدلالة ظاهر جدّاً لأنّ الإمامة الصغرى بمعزل عن الإمامة الكبرى بدليل أنّها تجوز خلف قريش وغيرهم بالاتّفاق، والإمامة الكبرى لا تصحّ في غير قريش على قول أهل السنّة، بل عندهم أنّه يجوز الصلاة خلف كلّ مفضول، بل كلّ برٍّ وفاجرٍ، فكيف تقاس الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة، وممّا ساقه الشريف الجرجاني عليهم أنّه قال في شرحه للمواقف وأمّا ما رواه


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج1، ص2٠1.
2- أورد هذه الأبيات ابن شهر آشوب في المناقب، ج1، ص392، عن ابن أبي الحديد.
3- ابن أبي الحديد، الروضة المختارة، ص108.

ص: 53

البخاري بإسناده إلى عروة عن أبيه عن عائشة: «إنّ النبيّ (ص) أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس في مرضه فكان يصلّي بهم. قال عروة فوجد رسول الله (ص) في نفسه خفة فخرج إلى المحراب فكان أبو بكر يصلّي بصلاة رسول الله (ص) والناس يصلّون بصلاة أبي بكر أي بتكبيرة فهو إنّما كان في وقت آخر» . (1)

وفيه تأمّل: على أنّ الاستخلاف لا يقتضي الدوام إذ الفعل لا دلالة له على التكرار والدوام، إن ثبتت خلافته بالفعل وإن ثبتت بالقول فكذا، كيف وقد جرت العادة بالابقاء مدّة الغيبة والانعزال عند مجيء المستخلف، وأيضاً ذلك معارض بأنّه (ص) استخلف علياً (ع) في غزوة تبوك في المدينة وما عزله. وإذا كان خليفة على المدينة كان خليفة في سائر وظائف الإمامة؛ لأنّه لا قائل بالفصل، ولأنّ الاستخلاف على المدينة أقرب إلى الإمامة الكبرى لأنّه متضمّن لأمور الدين والدنيا بخلاف الاستخلاف في الصلاة وهو ظاهر.

دعوى أنّ النبيّ (ص) لا يوصف بأنّه من المهاجرين

قال ابن حجر (2): «وأخرج ابن سعد والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أّنّهم لمّا اجتمعوا بالسقيفة بدار سعد بن عبادة وفيهم أبوبكر وعمر قام خطباء الأنصار فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين إنّ رسول (ص) كان إذا استعمل الرجل منكم يقرن معه رجلاً منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منّا ومنكم، فتتابعت خطباؤهم على ذلك. فقام زيد بن ثابت فقال: أتعلمون أنّ رسول (ص) كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين ونحن كنا أنصاره؟ ! ثمَّ أخذ بيد أبي بكر فقال: هذا صاحبكم، فبايعه عمر ثمَّ بايعه المهاجرون والأنصار، وصعد أبو بكر المنبر ونظر في وجوه القوم فلم ير الزبير فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عمّة رسول الله (ص) وحواريه، أردت أن تشقّ عصا المسلمين؟ ! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله (ص) . فقام فبايعه ثمَّ نظر في وجوه القوم فلم ير علياً، فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن


1- البخاري، صحيح البخاري، ج1، صص165و 166، باب أهل العلم والفضل أحقّ بالإمامة.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص19.

ص: 54

عم رسول الله (ص) وختنه على بنته، أردت أن تشقّ عصا المسلمين؟ ! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله (ص) ، فقام فبايعه» . (1)

أقول : بعد غضّ النظر عن عدم صلاحية الحديث للاحتجاج به على الخصم، فقول زيد إنّ النبيّ (ص) كان من المهاجرين باطل؛ لأنّ المهاجر الشرعي من هاجر إلى الرسول (ص) ، والأنصار أنصاره فلا معنى لوصف الرسول (ص) بالمهاجر ولا وصف أبي بكر به؛ لأنّه لم يهاجر إلى النبيّ (ص) بل كان معه في الفرار من مكّة إلى المدينة. ولو سلّم كون المجيء مع رسول الله9 هجرة إليه في الجملة، فلا نسلم بتحقّق باقي شرائط الهجرة الشرعيّة في أبي بكر كالإيمان والعدالة؛ فإنّهما شرط في تحقق الهجرة والنصرة الشرعيتين ولو لم يشترط ذلك لزم أن يكون مؤلّفة القلوب الذين هاجروا إليه من بلادهم لنصرته مهاجرين وأنصاراً شرعاً، وبطلانه ظاهر وقد روى مؤلّف المشكاة في أوائل كتاب الإيمان ما يؤّيد هذا المعنى، حيث قال عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله (ص) المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. . .» ، (2)ولو

سلّم به، فأيّ ملازمة بين كون رسول الله9 من المهاجرين وكون خليفته أيضاً من المهاجرين، مع أنّه معارض بدعوى أنّ رسول الله (ص) كان من بني هاشم فكان خليفته من بني هاشم، وبأنّ الرسول (ص) من أولاد عبد المطلب فكان خليفة منهم، بل هاذان اكثر قياساً من قياس زيد، وكيف نجعل هذا الكلام الواهي من زيد بن ثابت أو من الواضع عليه حجّة ثابتة على الخصم، وبذلك يستدلّ على وضع الباقي وأنّه لا يصلحه طبيب ولا راق.

دعوى عدم قبول العامّة حديث أنس فضلاً عن الشيعة

قال ابن حجر (3): «وروى ابن اسحاق عن الزهري عن انس أنّه لمّا بويع يوم السقيفة جلس من الغد على المنبر، فقام عمر فتكلّم قبله فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: إنّ الله قد جمع


1- المستدرك على الصحيحين، الحاكم؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج8، ص143و ج11، ص 249.
2- صحيح البخارى، ج5، ص2379؛ مسند احمد، ج15، ص169؛ مسند الحميدي، ج2، ص212؛ المعجم الصغير، الطبراني، ج1، ص28٠.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص19.

ص: 55

أمركم على خيركم صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه فبايع الناس أبا بكر البيعة العامّة بعد بيعة السقيفة، ثمَّ تكلّم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: أمّا بعد أيّها الناس فانّي قد وليتكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني. . .» . (1)

أقول : حديث الزهري وأنس عند الشيعة مستحدث موضوع، وقد ذكر الزندويسي الحنفي في كتاب الروضة: أنّ أبا حنيفة طعن في أنس، وذكر أبو المعالي الجويني الشافعي أيضاً في رسالته المعمولة في بيان أحقيّة مذهب الشافعي أنّ أبا حنيفة طعن في أنس ولم يعمل بحديثه وحديث ابن عمر وأبي هريرة وأضرابهم قط، فالشيعة في ذلك أعذر، ثمَّ لا يخفى أنّ الإمام الذي احتمل صدور الإساءة عن نفسه واحتياجه فيها إلى تقويم غيره له لا يصلح للإمامة الكبرى عند من لم يكابر عقله، وحمل ذلك على هضم النفس تعسّف صريح.

عدم دلالة حديث أحمد على بيعة سعد لأبي بكر

قال ابن حجر (2): «وأخرج أحمد أنّ أبا بكر لمّا خطب بهم يوم السقيفة لم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله (ص) في شأنهم إلا ذكره وقال: لقد علمتم أنّ رسول الله (ص) قال لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار» ، (3)ولقد علمت يا سعد أنّ رسول الله (ص) قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر فبرّ الناس تبع لبرّهم، وفاجرهم لفاجرهم. فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء» . (4)ويؤخذ منه ضعف ما حكاه ابن عبد البر أن سعداً أبى أن يبايع أبا بكر حتّى لقي الله تعالى» .

أقول : بعد تسليم صحّة ما أخرجه أحمد، لا دلالة فيه على بيعة سعد2 لأبي بكر، بل الظاهر من كلامه أنّ كلا من قريش والأنصار صنف على حياله من أصحاب رسول الله (ص)


1- جامع الأحاديث، ج25، ص211.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص2٠.
3- مسند أحمد، ج1، ص21 و ج18، ص484.
4- مسند أحمد، ج 1، ص 5؛ كنزالعمال، ج 5، ص 638.

ص: 56

لا طاعة لأحدهما على الآخر كما لا طاعة لأحدهما على الآخر كما لا طاعة لأمراء السلطان على وزرائه وبالعكس، وأين هذا من الدلالة على البيعة، بل الذي ذكره أبو بكر عن النبيّ (ص) في شأن الأنصار يدلّ على أن بيعة أبي بكر إذا لم يسلكه سعد مع كونه سيّد الأنصار وسلك غيره يكون باطلاً، وبهذا يظهر أنّ حكم هذا الشيخ الجاهل بضعف ما حكاه ابن عبد البرّ ضعيف، بل أجوف معتل.

رد دعوى الكراهة للخلافة من أبي بكر

قال ابن حجر (1): «وفي رواية لابن سعد عن أبي بكر أنّه قال في خطبة: أمّا بعد فإنّي وليت هذا الأمر وأنا له كاره ووالله لوددت أنّ بعضكم كفانيه، ألا وأنّكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل ما عمل رسول الله (ص) لم أقم به، كان رسول (ص) عبداً أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا وإنّما أنا بشر ولست بخير من أحدكم فراعوني فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني وإذا

رأيتموني زغت فقوموني، واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني فإذا رأيتموني عصيت فاجتنبوني» . (2)

أقول : لو كان كارهاً للخلافة لما سارع مع عمر إلى سقيفة بني ساعدة لاستجلابها ولما رضي بانتزاعها عن أهلها وهو علي (ع) ولمّا سكت عن وقوع أصحابه على صدر المقداد وكسرهم سيف الزبير عند قولهم نحن لا نرضى بخلافة أبي بكر، ولصبر على فراغ أهل البيت عن دفن النبيّ (ص) ؛ لأنّ النصّ أو الظاهر كان فيهم، وأمّا إظهاره لوداده أن يكفيه غيره فهو أكذب من الأول وكان صادقاً في ذلك لما ارتكبه من أول الأمر ولسلّمه إلى من علمه متعيّنٌ له أو طرحه حتّى يلتقطه الراغبون المشتاقون له، كعمر وطلحة والزبير وعثمان وسعد بن أبي وقاص وأمثالهم، مع أنّ قوله لست بخير من أحدكم يدلّ دلالة واضحة على اعترافه بمفضوليته عن الكلّ فلا يصلح للإمامة. والجواب بأنّ هذا إنّما وقع على سبيل التواضع،


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص2٠.
2- مصنف عبد الرزاق، ج11، ص336، في هذا المعنى.

ص: 57

كقول النبيّ (ص) :

«لا تفضّلوني على يونس بن متى» . وأنّه لا خلاف في كونه (ص) أفضل الأنبياء من يونس ومن هو أعظم منه، كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؛ وما ذلك إلا كرم وتواضع منه عليه أفضل الصلاة والسلام مدفوع بأنّ قياس ذلك على نهي النبيّ (ص) ، قياسٌ مع الفارق إذ الإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الإخبار؛ ولهذا قالت الإماميّة، كثّرهم الله تعالى، لا يخلو قول أبي بكر من أحد قسمين: إمّا أن يكون صدقاً أو كذباً، فعلى الأول لا يصلح للإمامة لكونه مفضولاً، وعلى الثاني الكذب؛ فالتواضع ههنا لا ينفع المجيب كما لا يخفى على اللبيب، وأيضاً ما تضمّنه آخر كلامه من التماس التقويم عن رعيته والاعتراف بأنّ له شيطاناً يعتريه دليل واضح على عدم صلوحه للإمامة، فالحديث حجّة على ابن حجر لا له.

ماذا يعني استفهام أبي قحافة: «هل رضي بذلك بنو عبد مناف»

قال ابن حجر (1): «وأخرج الحاكم أنّ أبا قحافة لما سمع بولاية ابنه قال: هل رضي بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا واضع لما رفعت، ولا رافع لما وضعت» . (2)

أقول : في هذا الحديث شهادة من أبي قحافة على أنّ ابنه أبا بكر كان قبل الخلافة وضيعاً مهيناً وأنّه لم يكن صالحاً للخلافة، وهذه شهادة لا يعتريها جرح كما لا يخفى، فالحديث حجّة على الناصبة. ولعمري أنّه مع ظهور دلالته على ما ذكرناه كيف لم يتنبه له هذا الشيخ وأورده زعماً منه أنّه من دلائل فضيلة أبي بكر، فتأمّل فإنّ الفكر فيه طويل.

ردّ دعوى إجماع الأمّة على خلافة أبي بكر

قال ابن حجر: «الفصل الثاني في بيان انعقاد الإجماع على ولايته: قد علم ممّا قدّمناه أنّ الصحابة (رضوان الله عليهم) أجمعوا على ذلك، وأنّ ما حكي عن تخلّف سعد بن عبادة عن البيعة مردود، وممّا يصرّح بذلك أيضاً ما أخرجه الحاكم وصحّحه عن ابن مسعود، قال: ما


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص21.
2- المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ج11، ص445، بدل بنو مناف فيه بنو مخزوم.

ص: 58

رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء، وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلف أبو بكر، فانظر إلى ما صحّ عن ابن مسعود وهو من أكابر الصحابة وفقهائهم ومتقدّميهم من حكاية الإجماع من الصحابة جميعاً على خلافة أبي بكر ولذلك كان هو الأحقّ بالخلافة عند جميع أهل السنّة والجماعة في كلّ عصر منّا إلى الصحابة، وكذلك كان هو أحقّ بالخلافة عند جميع المعتزلة، وأكثر الفرق وإجماعهم على خلافته قاض بإجماعهم على أنّه أهل لها مع أنّه من الظهور بحيث لا يخفى فلا يقال إنّها واقعة يحتمل أنّها لم تبلغ بعضهم ولو بلغت الكلّ لربّما اظهر بعضهم خلافاً، على أنّ هذا إنّما يتوهم أن لو لم يصحّ عن بعض الصحابة المشاهدين لذلك الأمر من أوّله إلى آخره حكاية الإجماع وأمّا بعد أن صحّ عن مثل ابن مسعود حكاية إجماعهم كلّهم فلا يتوهّم ذلك أصلاً سيما وعلي ممّن

حكى الإجماع عنه أنّه لمّا قدم البصرة سئل عن مسيره هل هو بإشارة من النبيّ (ص) فذكر مبايعته هو وبقيّة الصحابة لأبي بكر وأنّه لم يتخلّف منهم اثنان» . (1)

أقول : قد بيّنا بأنّهم لم يشترطوا في عقد البيعة لأبي بكر اجتماع من في المدينة من أهل الحلّ والعقد أنّ ردّه على ما حكي من تخلّف سعد بن عبادة مردود بأنّ المتخلّف أبداً كان سعد وأولاده وخواصّ أصحابه وإلى ستّة أشهر عليّ (ع) وسائر بني هاشم ومواليهم، وأمّا حكم الحاكم بصحّة نقل الإجماع عن ابن مسعود فلا حكم له عندنا، وكذا حكم الوسائط الّتي بينه وبين ابن مسعود من الوضاعين لنصرة مذهب أهل السنّة، كإمامهم نعيم بن حماد الخزاعى كما ذكره عبد العظيم المنذرى الشافعي في خاتمة كتاب الترغيب والترهيب على أنّ ما روى الحاكم عن ابن مسعود رضى الله عنه إنّما هو مجرّد ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيّئاً فهو عند الله سيء، وأمّا قوله وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلف أبو بكر. . . فقد اكتفى ذلك المستدلّ بذلك القدر من كلام ابن مسعود على صحّة خلافة أبي بكر لزعمه أنّه ممّا رآه الصحابة قاطبة، فلا يلزم منه تصحيح ابن مسعود لانعقاد الإجماع على خلافة


1- ابن حجر، الصواعق، ص21.

ص: 59

أبي بكر، وأيضاً إن أراد بالمسلمين الكلّ فلا نسلم إطباق آراء الكلّ على خلافة أبي بكر، وإن أراد البعض فقد رأى كلّ في صاحبه حسناً مثل ما رآه الشيعة في علي (ع) وغيرهم في غيره، فمن أين ثبت بذلك الخلافة التي رآها الكلّ؟ ! إن قيل يلزم من ذلك تخطئة أصحاب محمّد (ص) من المهاجرين والأنصار قلت اللازم تخطئة بعضهم كما عرفت، ولا استبعاد فيه لوقوع أشدّ من ذلك في أصحاب موسى (ع) من بني إسرائيل حيث استضعفوا وصيّه هارون وكادوا يقتلونه فارتدّوا وتابعوا السامري في عبادة العجل، وقد تواتر عن النبيّ (ص) أنّه قال: يقع في أمتي كلّ ما وقع في الأمم السابقة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة، ولو سلّم فالإمامة عندهم ليست بنصّ من الله ولا سنّة من النبيّ (ص) فاجتماع بعضهم عليه لا يسمّى إجماعاً عند الكلّ، بل غايته أن يكون كعدولهم عن أكل المنّ والسلوى إلى أكل الفوم والبصل. وأمّا ما

رواه من إجماع أهل السنّة في سائر الأعصار على أحقيّة أبي بكر بالخلافة فلا رواج له في سوق الخصم، وكذا إجماع المعتزلة على ذلك على أنّ المعتزلة لم يقولوا بالأحقيّة، بل هم مجتمعون على أحقيّة علي (ع) من سائر الصحابة بذلك، لكنّهم صحّحوا خلافة المفضول عنه (ع) ؛ لتجويزهم تفضيل المفضول، كما مرّ بيانه مع دفعه سابقاً، وأمّا قوله فلا يقال: إنّها واقعة يحتمل أنّها لم تبلغ بعضهم. . . . فمدفوع بما نقلناه سابقاً عن صاحب المواقف من عدم انعقاد الإجماع على خلافة أبي بكر في أوائل الأمر، بل مطلقاً.

وأمّا دعوى حصول الإجماع عن الباقي بعد طول الأزمنة فهو من قبيل الرجم بالغيب والرمي في الظلام، ولو كان المدّعي ابن مسعود، وأين علم ابن مسعود إتمام الإجماع على ذلك من علماء الأنصار ومجتهدي أقطارها، مع حكم جماعة من العلماء كالنظام وفخر الدين الرازي في المعالم على عدم إمكان العلم بذلك؟ ! كما حقق في الأصول وأيضاً اشترط الأكثر أن لا يتخلّف أحد من المجمعين إلى انقراض الكلّ كما ذكر في الأصول أيضاً، ولا ريب في أنّ العلم بهذا اشدّ امتناعاً من الأول، وأيضاً قد اختلفوا في أنّ الإجماع هل هو بنفسه حجّة أو لابدّ فيه من سند هو الدليل والحجّة حقيقة؟ والسند الذي لهم في ذلك ما مرّ من قياس استحقاق إمامة

ص: 60

الصلاة الموضوعة على أبي بكر على استحقاق الإمامة الكبرى، وقد عرفت ما فيه من أنّ إثبات شرعية القياس دونه خرط القتاد، ولهم فيه أيضاً خلاف واختلاف وعلماء أهل البيت عليهم السلام والظاهريّة ينكرون حجيته، ولهم على ذلك أدلّة عقليّة ونقليّة لا يسع المقام ذكرها، ولغيرهم أيضاً في شروطه اختلاف كثير وعلى تقدير ثبوته الملحق بالمحال إنّما يكون في موضع يتحقق هناك علّة في الأصل يستوي فيها الفرع مع الأصل ولا ظهور للعلّة ههنا، بل الفرق ظاهر بجواز الصلاة عندهم خلف كلّ فاسق فاجر ولأنّ أمر إمامة الصلاة أمر واحد لا يحتاج فيه إلى علم كثير أو شجاعة وتدبير وغيرها والإمامة الكبرى خلافة وحكومة في جميع أمور الدين والدنيا ويحتاج فيها إلى العلوم والشرائط الكثيرة التي لا يوجد واحد منها في أبي بكر فلا يصحّ قياس هذا على ذاك على أنّ الأصل غير ثابت عند الشيعة، وأمّا ما رواه عن مولانا أمير

المؤمنين (ع) في ذلك فآثار الوضع عليه لائحة، إذ لا معنى لأن يجاب عند السؤال عنه (ع) من كون مسيرة بإشارة من النبيّ (ص) بذكر مبايعته هو وبقيّة الأصحاب لأبي بكر فتدبّر.

إثبات كون بيعة أبي بكر فلتة ولم يكن فيها إجماع ولا مشورة

قال ابن حجر: «ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخّر علي والزبير والعباس وطلحة مدّة لأمور، منها إنّهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد، ومنها إنّهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مرّ عن الأولين من طرق بأنّهم أخّروا عن المشورة مع أنّ لهم فيها حقاً لا للقدح في خلافة الصديق، هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى المشورة التامّة ولهذا مرّ عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة لكن وقى الله شرّها» . (1)

أقول :

أولاً: إنّ عدم القدح مقدوح كيف والإجماع اتفاق جميع أهل الحلّ والعقد فإذا تخلّف البعض لا ينعقد الإجماع.


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص22.

ص: 61

ثانياً: إنّ ما ذكره في وجه عدم القدح أولا من أنّهم رأوا أن الأمر تمّ بمن تيسر حضوره من أهل الحلّ والعقد غير متجه، بل هو رأي فاسد لا دليل عليه من العقل والنقل.

ثالثاً: إنّ ما ذكره من أنّهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا الخ، مردود بما مرّ من أن بيعتهم في ثاني الحال لم يكن عن طيب النفس والرضا والتسليم، وعلى تقدير التسليم يلزم أن تكون خلافته قبل ذلك واقعة على غير سبيل وكفى به منقصة، وأمّا ما ذكره كذباً وافتداءاً من اعتذارهم بأنّهم أخّروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقّاً، مردودٌ بأنّ المشورة لم تقع في بيعة أبي بكر أصلاً كما يذكره ابن حجر متصلاً بذلك من قوله، وعن عمر بسند صحيح أنّ تلك البيعة كانت فلتة؛ فكيف يتوقّعون إدخالهم في المشورة دون سائر المهاجرين والأنصار حتّى يعتذروا للتأخير بذلك العذر الواهي؟ ! بل لا معنى لتأخّرهم عن المشورة أصلاً وليس لهم

فيها حقٌّ قطعاً.

ردّ دعوى تجديد علي (ع) بيعته لأبي بكر

قال ابن حجر: «لكن جمع بعضهم بين الخبر المار عن عائشة الدال على تأخّر بيعة علي (ع) إلى موت فاطمة، وبين الخبر الذي مرّ عن أبي سعيد من أنّ علياً والزبير بايعا من أول الأمر بأنّ علياً بايع أولاً ثمَّ انقطع عن أبي بكر لمّا وقع بينه وبين فاطمة ما وقع في مخلفة رسول الله (ص) ، ثمَّ بعد موتها بايعه مبايعة أخرى فتوهّم من ذلك بعض من لا يعرف باطن الأمر أنّ تخلّفه إنّما هو لعدم رضاه ببيعته فأطلق ذلك من أطلق ومن ثمَّ اظهر على مبايعته لأبي بكر ثانياً بعد موتها على المنبر لإزالة هذه الشبهة» . (1)

أقول : قال في الفصل الخامس: إنّ أبا بكر أرسل إليهم بعد ذلك، يعني إلى علي والعباس والزبير والمقداد فجاؤوا، فقال للصحابة: هذا علي ولا بيعة لي على عنقه وهو بالخيار في أمره ألا فإنّكم بالخيار جميعاً في بيعتكم إيّاى، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من بايعه، إلخ.


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص24.

ص: 62

وأيضاً لا وجه لتجديد البيعة الواقعة على رؤوس الأشهاد لأجل انقطاع المبايع وعزلته في بيته لبعض الأغراض من غير إظهاره لمن بايعه ليخلعه وينكر عليه وإلا لوجب تجديد بيعة كلّ من سافر عن أبي بكر مثلاً بعد البيعة إلى مدّة ثمَّ رجع إليه، وهل هذا إلا أضحوكة يتلهّى بها الصبيان؟ ! كما أنّ فساد تقييد ذلك التجديد بوقوعه على المنبر ممّا يكاد يبصره العميان.

دعوى أن من قال إنّ علياً أحقّ بالخلافة فقد خَطأ الأولان

قال ابن حجر (1): «وحكى النووي بأسانيد صحيحة عن سفيان الثوري: «إنّ من قال إنّ عليّاً كان أحقّ بالولاية فقد خطّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين وما أراه يرفع له عمل إلى

السماء» . (2)

أقول : تخطأة أبي بكر وعمر وأتباعهما في كثير من الوقائع والأمور، هي من المسلّمات؛ لافتقارهم إلى العصمة المانعة عن الوقوع في الزلل والخطأ، وهو أمر لا تصحّ معه الأهلية لتولّي أمر الإمامة الصغرى فضلاً عن الكبرى.

دعوى أنّ من حاربهم أبو بكر هم من أهل الردّة

قال ابن حجر: «أمّا النّصوص القرآنية فمنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (3)، وأخرج البيهقى عن الحسن البصري أنّه قال: هو والله أبو بكر لمّا ارتدّت العرب جاهدهم هو وأصحابه حتّى ردهم إلى الإسلام» . (4)

أقول : ليس أحد ممّن حاربهم أبو بكر وأصحابه من أهل الردّة، كما ذكره ابن حزم في


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص24، باب بيان انعقاد الإجماع.
2- حلية الأولياء، ج1، ص31؛ سنن أبي داود، ج4، ص337، ح46132 في نفس المعنى.
3- سورة المائدة: 54.
4- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص25.

ص: 63

مسألة أحكام المرتدّين من كتابه الموسوم بالمحلّى(1)، حيث قال: إنّ المتسمّين بأهل الردّة قسمان، قسم لم يؤمن قط كأصحاب مسيلمة وسجاح، فهؤلاء حربيون لم يسلموا قط لا يختلف أحد في أنّه يقبل توبتهم وإسلامهم، والثاني قوم أسلموا ولم يكفروا بعد إسلامهم لكن منعوا الزكاة من أن يدفعوها إلى أبي بكر، فعلى هذا قوتلوا، ولم يختلف الحنفيون والشافعيون في أنّ هؤلاء ليس لهم حكم المرتد أصلاً وهم قد خالفوا فعل أبي بكر فيهم ولا نسميهم أهل الردّة ودليل ما قلناه شعر الحطيئة المشهور الذي يقول فيه:

أطعنا رسول الله ما كان بيننا

بل قال صاحب الفتوح عند ذكر بني حنيف وبني كندة: إنّ منشأ مخالفة طوائف العرب الذين منعوا أبا بكر في أيّام خلافته من الزكاة حتّى سماهم بأهل الردّة وقاتلهم عليه (2)، إنّما كان اعتقادهم حقيّة خلافة أهل البيت عليهم السلام وقد جهم في خلافة أبي بكر، فقد روى بعض المتقدّمين أنّه لما بويع لأبي بكر دخل مالك بن نويرة سيّد بنى حنيف رضى الله عنه المدينة لينظر من قام بالأمر بعد النبيّ (ص) وكان يوم الجمعة، فلمّا دخل المسجد وصعد أبو بكر ليخطب على منبر رسول الله (ص) ، فلمّا نظر إليه قال: هذا أخو تيم؟ قالوا: نعم، قال: فما فعل وصيّ رسول الله (ص) الذي أمرني رسول الله (ص) بإتباعه وموالاته؟ ! فقال له المغيرة بن شعبة: إنّك غبت وشهدنا والأمر يحدث بعد الأمر، فقال مالك: بالله ما حدث شيء ولكنكم خنتم الله في رسوله. ثمّ تقدم إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر لم رقيت منبر رسول الله (ص) ووصىّ رسول الله جالس؟ ! فقال أبو بكر: أخرجوا الأعرابي البوّال على عقبيه من المسجد. فقام إليه عمر وخالد وقنفذ فلم يزالوا يلكزونه في ظهره حتّى أخرجوه من المسجد كرهاً بعد إهانة


1- ابن حزم، المحلّى، ج11، صص188- 193، المسألة رقم2195.
2- البلاذري، فتوح البلدان، ج1، صص113- 118، باب خبر ردة العرب في خلافة أبي بكر.

ص: 64

وضرب، فركب مالك راحلته وهو يقول:

أطعنا رسول الله ما كان بيننا

قال الراوى فلمّا توطأ الأمر لأبي بكر بعث خالد بن الوليد في جيش وقال: علمت ما قال ابن نويرة في المسجد على رؤوس الأشهاد وما أنشده من شعره، ولسنا نأمن من أن ينفتق علينا منه فتق لا يلتئم والرأي أن تخدعه وتقتله وتقتل كلّ من يبارزك دونه وتسبى حريمهم؛

اتهاماً لهم بأنّهم قد ارتدّوا ومنعوا الزكاة (1)، فسار خالد وجرى من فعله ما اشتهر من الغلبة والغدر، الذي يضيق باستماعه الصدر. على أنّه روى عن الإمام الباقر (ع) وابن عباس وعمّار (رضي الله عنهما) : «إنّ هذه الآية قد وردت في شأن الناكثين من أصحاب الجمل الذين جاهدهم علي (ع)» ، بل الظاهر أنّ المراد من الآية ما هو أعمّ من ذلك بأن يكون خطاباً لكافة المؤمنين في حياة الرسول (ص) وإعلاماً منه تعالى أنّ منهم من يرتد بعد وفاته بالتساهل على وصيّته وإنكارهم للنصّ عليه وذلك هو ما يقوله جمهور أصحابنا من أنّ دافعي النصّ كفرة والارتداد هو قطع الإسلام بما يوجب الكفر، فيكون ذلك شاملاً لأصحاب الجمل وغيرهم وهو قول علي (ع) يوم الجمل: «ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم» (2)، ذلك حقّ وصدق فإنّ منكري إمامته من المتقدّمين لم يقع بينه وبينهم قتال، بل أوّل قتال وقع له بعد وفاة الرسول (ص) هو حرب الجمل، ولذلك قال ما قال ومهما أمكن حمل الكلام على عمومه كان أولى، ويدلّ على أنّ الارتداد بإنكار النصّ والقيام على مخالفة أمير المؤمنين (ع) ذكر أوصافه (ع) في متن الآية بقوله: يحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (3)فهو كقوله (ص)


1- ابن شاذان القمي، الفضائل، صص75و 76، خبر مالك بن نويرة، المكتبة الحيدرية، عنه في البحار، ج3٠، صص343 - 345.
2- الحلبي، تقريب المعارف، ص378.
3- سورة المائدة: 54.

ص: 65

له يوم خبير:

«لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه ورسوله كراراً غير فرار» (1) ، فإنّ الوصف بمحبته لله ومحبّة الله له وصف مجمع عليه في علي (ع) مختلف فيه في أبي بكر. ثمّ قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ (2)، ومعلوم بلا خلاف حالة أمير المؤمنين (ع) في الخشوع والتواضع عند غضبه وإيذائه، فهو ما رُئى قط طائشاً ولا مستطيراً في حال من الأحوال، ومعلوم حال أبي بكر وعمر في هذا المجال.

أمّا الأوّل: إنّ أبابكر اعترف طوعاً بأنّ له شيطاناً يعتريه عند غضبه. (3)

وأمّا الثاني: كان معروفاً بالحدًة والعجلة، مشهوراً بالفظاظة والغلظة.

وأمّا النّصرة على الكفار فإنّما تكون بقتالهم وجهادهم والانتصاف منهم، وهذه حال لم يسبق أمير المؤمنين (ع) إليها سابق، ولا لحقّه فيها لاحق، ثمّ قال تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ (4)، وهذا وصف أمير المؤمنين (ع) مستحقّ له بالإجماع، وهو منتف عن أبي بكر وصاحبه بالإجماع؛ لأنّه لا قتيل لهما في الإسلام ولا جهاد بين يدي الرسول (ص) ، وكذا قوله تعالى: وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ (5)، فإنّ الخوف من لومة اللائم إنّما كان يتوهّم في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين الذين كان أكثرهم من أصحاب سيّد الأنام ومتظاهرين بالإسلام.

وأمّا قتال من زعموا أنّه ارتدّ من العرب في زمان أبي بكر فلم يكن فيه توهّم، حتّى يوصف فاعله بعدم خوفه من ذلك، وبهذا التفسير والتقرير سقط استدلاله بالآية على خلافة أبي بكر وهو ظاهر جدّاً، ويزيده سقوطاً أنّ فخر الدين الرازي قال عند تفسير هذه الآية: «إنّ هذه الآية من أدلّ الدلائل على فساد مذهب الإماميّة، لأنّ الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر لو كانوا أنكروا نصّاً جليّاً على إمامة علي (ع) لكان كلّهم مرتدين ولجاء الله بقوم يحاربهم ويردّهم


1- المغربي، شرح الأخبار، ج1، ص3٠2.
2- سورة المائدة:54.
3- الصنعاني، عبد الرزاق، المصنّف، ج11، ص336؛ البيهقي، كنز العمال، ج5، صص589 و 59٠.
4- سورة المائدة: 54.
5- المصدر السابق.

ص: 66

إلى الحقّ؛ ولمّا لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضدّ فإنّ الشيعة مقهورون أبداً حصل الجزم بعدم النصّ» . (1)

وأجاب عنه العلامة النيشابوري الشافعي في تفسيره بقوله: «ولناصر مذهب الشيعة أن يقول ما يدريك أنّه تعالى لا يجيء بقوم يحاربهم، ولعلّ المراد بخروج المهدي هو ذلك فإنّ

محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل» . (2)

وإذ عرفت ممّا ذكرناه وما لم نذكره من القرائن والآثار في شأن القوم الذين وصفهم الله تعالى بالصفة الّتي اشتقّ منها اسم نبيّه (ص) فدعاه بنبيّه، فقد اطلّعت على حقيقة النسبة الّتي بين النبيّ والولي، وظهر لك أنّ إنكار الإمامة كإنكار النبوّة وإنكار النبوّة كإنكار ألوهيّة الله تعالى، فعُلم أنّ معرفة الإمام والاعتراف بحقّه شرط الإيمان؛ رغماً لأنف من يتأنّف عن ذلك، ولولا ذلك لم يحكم الله سبحانه وتعالى على منكرٍ بالارتداد، إذ محصل معنى الآية هو وعيدٌ لمن أنكرها، وارتدّ بذلك عن دين الإسلام قوم يعرفون صاحبها ويعترفون بحقّه يحبّهم الله ويحبّونه لمحبتهم إيّاه والقيام بمودّته والبراءة من أعدائه.

دعوى أنّ أبا بكر أعلم الصحابة والردّ عليها

قال ابن حجر: «قال النووي في تهذيبه: واستدلّ أصحابنا على عظيم علم الصديق بقوله في الحديث الثابت في الصحيحين: «والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله (ص) لقاتلتهم على منعه» . (3)واستدلّ الشيخ أبوإسحاق بهذا وغيره في طبقاته على أنّ أبا بكر أعلم الصحابة لأنّهم كلّهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلّا هو، ثمّ ظهر لهم بمباحثته لهم أنّ قوله هو الصواب فرجعوا إليه» . (4)


1- الرازي، التفسير الكبير، ج12، ص2٠، في تفسير الآية 54 من سورة المائدة.
2- تفسير النيسابوري، غرائب القرآن، ج3، ص177، في تفسير الآية 54 من سورة المائدة.
3- السنن الكبرى، البيهقي، ج8، ص176؛ صحيح ابن حبان، ج1، ص426.
4- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص26.

ص: 67

أقول : قد بيّنا سابقاً نقلاً عن ابن حزم أنّ من منع أبا بكر عن أداء الزكاة إليه لم يكونوا مرتدين حقيقة باتّفاق العلماء، وأنّهم لم يمنعوا الزكاة مستحلين في الدين، بل منعوها عن أبي بكر؛ لاعتقادهم عدم استحقاقه للخلافة، فحكمه بقتالهم يكون جهلاً لا علماً، وبشكلٍ عامٍّ: إنْ أراد بذلك العلم الذي كان يستدعيه انتظام خلافته وحصول مصلحته بالانتقام منهم، فهو مسلّم ولكنّه لا يجدي نفعاً، وإنْ أراد العلم المطابق لحكم الله تعالى ورسوله فهو

ممنوع، كيف وقد روى صاحب الفتوح ما سيعترف به ابن حجر عند تقرير شبهة من أنّ عمر أنكر على ذلك وخاطب خالد بن الوليد الذي ارتكب ذلك بقوله: «يا عدو الله» وأراد أن يقتصّ منه بقتله لمالك بن نويرة سيّد بني حنيف، فنصحه أبو بكر وقال له لا تلم خالداً فإنّه سيف الله، وإنّما فعل ما فعل بأمري وكانت المصلحة فيه، فلم يتكلّم عمر في ذلك مدّة خلافة أبي بكر حتّى وصلت الخلافة إليه، فهرب عنه خالد إلى الشام، وجمع عمر من بقى من قوم مالك وأخذ ما كان من نسائهم وذراريهم عند المسلمين وسلّمهم إليهم. فإن كان حكم أبي بكر علماً فقد كان منع عمر جهلاً، وإن كان بالعكس فالعكس، فليختر أولياؤهما من هاذين الأمرين الذين لا ثالث لهما ما شاؤوا.

ويدلّ على ما ذكرناه من أنّهم لم يجحدوا أصل الزكاة؛ بأنّه لا يعقل من مالك وأصحابه ذلك مع القيام على الصلاة فأنّهما جميعاً في قرن واحد؛ لأنّ العلم الضروري حاصل للكلّ بأنّهما على دينه (ص) وشريعته على حدّ واحد، وهل نسبة مالك إلى الردّة إلّا قدح في الأصول، ونقض في الدين، من أنّ الزكاة معلومة ضرورة من دينه (ص) ، وقد روى جميع أهل النقل أنّ أبا بكر وصّى الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذنوا ويقيموا، فإن أذّن القوم بأذانهم وأقاموا، كفّوا عنهم فإن لم يفعلوا أعادوا عليهم، فجعل إمارة الإسلام والبراءة من الردّة الأذان والإقامة. وقصّة مالك معروفة عند من تأمّلها من النقل؛ لأنّه كان على صدقات قومه والياً من قبل رسول الله (ص) فلمّا بلغته وفاة النبيّ (ص) أمسك عن أخذ الصدقات من قومه، وقال لهم: تربّصوا بها حتّى يقوم قائم بعد النبيّ (ص) وننظر ما يكون من أمره. وقد صرّح بذلك في بعض أشعاره المشهورة المذكورة في كتاب الكافي وغيره، وروى بعضهم أنّه أخذ الصدقات وفرّقها

ص: 68

على فقراء قومه والله أعلم، وإذ قد علم أنّ ما ذكره ابن حجر من تصويب جميع الصحابة بقتالهم كذب صريح ارتكبه؛ ترويجاً لحال أبي بكر وسدّاً لباب الطعن القديم المشهور في ذلك عليه، ومن أين يثبت العلم لمن لا يعلم من القرآن الذي عرضوه على رسول الله (ص) مراراً معنى الأب والكلالة وغيرهما، ممّا فصل في كتب الجمهور؟ ! فلا تغفل.

دعوى استخلاف أبي بكر والردّ عليها

قال ابن حجر: «ومن تلك الآيات أيضاً قوله تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (1)، قال ابن كثير: «هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق» . (2)

أقول : لا انطباق له بما قصده أصلاً، إذ لم يتحقق إلى يومنا هذا تبديل الخوف بالأمن في أكثر الأقطار، ولا انتفاء الشرك بالكلية، كما يدلّ عليه قوله تعالى: لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (3)، وإنّما تنطبق الآية على خلافة المهدي المنتظر (ع) ؛ لما دلّ عليه الحديث المتواتر المتفق عليه في شأنه من أنّه عند ظهوره يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

دعوى أنّ النبيّ (ص) نصّ على خلافة أبي بكر والردّ عليها

قال ابن حجر: «إعلم أنّهم اختلفوا في ذلك، ومن تأمّل الأحاديث الّتى قدّمناها علم من أكثرها أنّه نصّ عليها نصباً ظاهراً، وعلى ذلك جماعة من المحدثين وهو الحقّ، وقال جمهور أهل السنّة والمعتزلة والخوارج: «لم ينصّ على أحد» . (4)

أقول : قد تأمّلنا الأحاديث الّتي قدّمها ورددنا عليها بأنّها بعد التسليم بصحّتها لا دلالة


1- سورة النور: 55.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص28.
3- سورة النور: 55.
4- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 36.

ص: 69

لها على مقصوده، وعموماً فإنّ الأحاديث الّتي زعم دلالتها على التنصيص في شأن أبي بكر إنّما هي من مفتريات الحشويّة من أهل الحديث المبيحين للكذب، وهم بعد وضع تلك الأحاديث قالوا بوجود النصّ في أبي بكر، وهذا لا ينافي إنكار جمهور أهل السنّة والمعتزلة بوجود النصّ عليه في زمان النبيّ (ص) ، مع غضّ النظر عن جرأتهم على تخطئة جمهور أهل

السنّة في إنكار وجود النصّ، بل على خرق إجماعهم على الإنكار كما ذكره النووي في شرح صحيح مسلم (1): نقول لو كان هناك نصّ لكان أبو بكر أعلم به، ولقال أطيعونى مستدلاً به، ولما قال الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، ولما توقّف علي (ع) في البيعة إلى ستّة أشهر، ولما قال أبو بكر: وددت أنّى سألت رسول الله (ص) عن هذا الأمر وكنّا لا ننازعه أهله، ولما قال العباس لعلي (ع) امدد يدك أبايعك حتّى يقول الناس بايع عمّ رسول الله (ص) ابن عمّه، ولم يختلف فيك اثنان، ولما قال أبو سفيان يا بنى عبد مناف أرضيتم أن يلى عليكم تيم؟ والله لأملأنّ الوادي خيلاً ورجلاً، ولما سلّ الزبير بن العوام سيفه قائلاً: أنا لا أرضى بخلافة أبي بكر، ولما قال عمر لأبي عبيدة: ابسط يدك أبايعك، ولما قال أبو بكر: بايعوا عمر أو أباعبيدة، إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في صحاح أحاديثهم ومعتبرات سيرهم وتواريخهم.

الإشارة إلى وجود النصوص الدالة على خلافة علي (ع)

قال ابن حجر: «فلزم من ذلك بطلان ما نقله الشيعة وغيرهم من الأكاذيب وسوّدوا به أوراقهم من نحو خبر

«أنت الخليفة بعدى» (2) ، وخبر

«سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين» (3) ، وغير ذلك ممّا يأتي، إذ لا وجود لما نقلوه فضلاً عن اشتهاره. كيف وما نقلوه لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها، إذ لم يصل علمه لأئمّة الحديث المسابرين على التنقيب عنه كما اتّصل كثير ممّا ضعفوه وكيف يجوز في العادة أن ينفرد هؤلاء بعلم صحّة تلك الأحاديث. (4)


1- النووي، شرح صحيح مسلم، ج15، صص 154و 155، باب فضائل أبي بكر- كتاب فضائل الصحابة.
2- التفتازاني، شرح المقاصد في علم الكلام، ج2، ص283.
3- بحار الانوار، ج109، ص2٠.
4- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص38.

ص: 70

أقول : إنّ الشيعة يدّعون التواتر المعنوي في بعض ما حكم ابن حجر بعدم وجوده، وساعدهم فيها جمع كثير من نقاد محدثي أهل السنّة كالحاكم، وابن جرير الطبري، وابن الأثير الجزري، وكفى به حجّة، وأيضاً من شرائط حصول العلم التواتري لسامع الخبر أن

لايكون السامع ممّن سبق إلى اعتقاد نفى مخبره بشبهة أو تقليد وألف بالباطل، وأكثر أهل السنّة أشدّ تورطاً في تقليد الآباء واقتداءاً آثارهم، فكيف ما شهد به فخر الدين الرازي في تفسير الفاتحة من سعى بني أميّة في محو آثار أهل البيت عليهم السلام، وما أخرجه الجزري في جامع الأصول عن سعيد بن جبير أنّه قال: «كنت مع ابن عباس بعرفات فقال: مالي لا أسمع الناس يلبّون؟ قلت يخافون من معاوية، فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال: لبيك اللّهم لبيك، فإنّهم قد تركوا السنّة على بغض علي (ع) وذوي القربى» . (1)

وما رواه ابن حجر من الأحاديث الواردة في بغض أهل البيت، كفاطمة وولديها، حيث قال عند ذكر الآثار المترتبة على قتل الحسين (ع) : وحكى عن الزهري أنّه قدم الشام يريد الغزو، فدخل على عبد الملك بن مروان فاخبره أنّه يوم قتل حسين بن علي (ع) لم يرفع حجر من بيت المقدس إلّا وتحته دم، ثمّ قال له: لم يبق من يعرف هذا غيري وغيرك فلا تخبر به، قال فما أخبرت به إلّا بعده. (2)

وأمّا ما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة مع إقراره بصحّة خلافة أبي بكر وعمر بقوله: وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنّه استولى بنو أميّة على بلدان الإسلام في شرق الأرض وغربها واجتهدوا بكلّ حيلة في إطفاء نوره والتخويف عليه ووضع المعائب والمثالب ولعنوه على جميع المنابر وتوعّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً حتّى حظروا أن يسمّى أحد باسمه! فما زاده ذلك إلّا رفعةً وسمواً،


1- ابن الأثير، جامع الأصول، ج3، ص1558، ح1558.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، الفصل الثالث، الأحاديث الواردة في بغض أهل البيت.

ص: 71

وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عرفه، وكلّما كتم تضوّع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة. (1)

ولا يخفى أنّ مراده بقوله «ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله» ، أنّه لم يمكن ذلك لجميع الأعداء كما يدلّ عليه قوله آخراً: «إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة» ، وقال صاحب الفتوح في فتح من أوّل كتابه «إنّ ههنا أخباراً أخر لم نذكرها لئلا يجعلها الشيعة متمسكاً لهم» ، وكم مثل هذه في بطون الكتب؟ ! فتأمّل وأنصف.

إنكار ابن حجر وجود النص القطعي على إمامة علي (ع)

قال ابن حجر: «نعم روى آحادٌ خبر:

«أنت منّى بمنزلة هارون من موسى» (2) ، وخبر:

«من كنت مولاه فعلىّ مولاه» (3) ، وسيأتى الجواب عنهما واضحاً مبسوطاً، وأنّه لا دلالة لواحد منهما على خلافة عليّ، لا نصّاً ولا إشارةً، وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ وهو باطل لعصمتهم من أن يجتمعوا على ضلالة، فإجماعهم على خلاف ما زعمه أولئك المبتدعة الجهّال قاطع بأنّ ما توهموه من هاذين الحديثين غير مراد أن لو فرض احتمالهما لما قالوه فكيف وهما لا يحتملانه كما يأتي. فظهر أنّ ما سوّدوا به أوراقهم من تلك الأحاديث لا يدلّ لما زعموه واحتمال أنّ ثمّ نصّاً غير ما زعموه يعلمه علي [ (ع) ] أ و أحد من المهاجرين أو الأنصار باطل أيضاً وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة حين تكلّموا في الخلافة أو فيما بعده لوجوب إيراده حينئذ وقولهم: «ترك علي [ (ع) ] إيراده مع علمه به للتقية» باطل إذ لا خوف يتوهّمه من له أدنى مسكة وإحاطة بعلم أحوالهم في مجرّد ذكره لهم ومنازعته في الإمامة به، كيف وقد نازع من هو أضعف منه وأقلّ شوكة ومنعة من غير أن يقيم دليلاً على ما يقوله؟ ! ومع ذلك فلم يؤذ بكلمة فضلاً عن أن يقتل. فبان بطلان هذه التقيّة المشؤومة عليهم سيّما وعلىّ [ (ع) ] قد


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، صص16و 17، القول في نسب أمير المؤمنين.
2- دلائل الإمامة، ج1، ص92؛ تفسير الآلوسي، ج9، ص39٠.
3- شرح الأخبار، القاضي المغربي، ج1، ص99.

ص: 72

علم بواقعة الحباب وبعدم إيذائه بقول أو بفعل مع أنّ دعواه لا دليل عليها ومع ضعفه وضعف قومه بالنسبة لعليّ [ (ع) ] وقومه وأيضاً فيمتنع عادة من مثلهم أنّه يذكره لهم ولا

يرجعون إليه، كيف وهم أطوع لله وأعمل بالوقوف عند حدوده وأبعد عن إتباع حظوظ النفس لعصمتهم السابقة وللخبر الصحيح: «خير القرون قرنى ثمّ الذين يلونهم» (1)، وأيضاً ففيهم العشرة المبشّرون بالجنّة ومنهم أبو عبيدة أمين هذه الأمّة كما صحّ من طرق؛ فلا يتوهّم فيهم وهم بهذه الأوصاف الجليلة أنّهم يتركون العمل بما يرويه لهم من يقبل روايته بلا دليل أرجح يعوّلون عليه» . (2)

أقول : شهرة الحديث الأوّل وبلوغه حدّ التواتر، لا ينكره إلّا المعاند المكابر، وأمّا الحديث الثاني فقد أثبت محمد بن جرير الطبري وابن الأثير الجزري (3)في رسالته الموسومة بأسنى المطالب تواتره من طرق كثيرة، وأمّا ما استدلّ به هنا على عدم دلالة الحديثين على خلافة علي (ع) بقوله «وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ. . .» فالخطأ فيه ظاهر كيف ودلالة الحديثين ليست ممّا ينبغي باستلزامهما لبعض المحذورات؟ ! نعم ربما يستدل بالمعنى المفاد من اللّفظ الدالّ على الملزوم غير مراد وأين لزوم ما ذكره من نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ؟ ! إذ قد سبق الإمام علي (ع) أبا بكر باعتراف المحققين من أهل السنّة، فاللازم إنّما هو نسبة جماعة من الصحابة لأجل غصب الخلافة من أهل البيت إلى الخطأ وبطلانه غير مسلّم، بل هو دالّ على المطلوب، وبما قررناه ظهر ضعف قوله: «فإجماعهم. . .» .

وأمّا قوله: «احتمال أنّ ثمّ نصّاً غير ما زعموه. . .» ففيه أن لا محتمل كما يدلّ عليه مسند ابن حنبل ومناقب الخوارزمي ومناقب ابن المغازلى وغير ذلك، وأمّا استدلاله على بطلان هذا الاحتمال بقوله: «وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة. . .» فباطل؛ لأنّ علياً (ع) وسائر بني هاشم ومواليهم وتابعيهم من المهاجرين استدلّوا به على ذلك، وأمّا الأنصار فقد مرّ أنّ أبا بكر


1- ابن حجر، فتح الباري، ج7، ص5؛ إعانة الطالبين، ج4، ص333.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص39.
3- الجزري، أسنى المطالب، ص48.

ص: 73

وأباعبيدة وسالماً مولى حذيفة، أوقعوا في قلوب الأنصار وغيرهم ممّن سمع النصّ في شأن علي (ع) ، وشبّهوا الأمر على الناس وعلى الأنصار فيه أنّه (ع) ترك الخلافة وقعد في قعر بيته حزناً على النبيّ (ص) ، فلهذا لم يورده أحد من الطائفتين، وأمّا من عداهما من قريش كبني أميّة وبني مخزوم وبني مغيرة فأعانوهم على خذلان علي (ع) بأخذ حقّه منه انتقاماً لثارات الجاهليّة كما مرّ.

وأمّا استبعاده ترك علي (ع) لإيراد النصّ تقيّة، فقد احتجّ عليهم بالنّص ولم يلتفتوا، وجواز التقيّة كانت موجودة هناك ولا بأس أن نوضّح ذلك هنا ونقول: لا يخفى على من تتبع كتب الجمهور في الأحاديث والسير عدم تساوى متابعيه وأنصاره (ع) في أيّام خلافته، ومحاربته الناكثين والقاسطين والمارقين وفقدانه لذلك في أيّام خلافة الثلاثة، واختياره للسكوت عن طلب حقّه حينئذ والمنازعة والمقاتلة معهم، فقد نقل عن أمير المؤمنين (ع) : أنّه ذات يوم من أيّام واقعة الصفين ركب مع عسكر كثير ولمّا نظر إلى كثرتهم قال لأصحابه: «كنت أنتظر هذه الكثرة ولها لزمت الصبر» .

وقد روى من طريق الجمهور أيضاً أنّه قال حين أفضى الأمر إليه وقد سألوه بما نقضي يا أمير المؤمنين؟ فقال (ع) :

«اقضوا بما كنتم تقضون حتّى يكون الناس جماعة واحدة أو أموت كما مات أصحابي» (1) ، فدلّ على أنّه قد أخّر القضاء بمذهبه في كثير من الأحكام؛ خوف الاختلاف عليه وانتظر الاجتماع من أهل الخلاف أو وجود المصلحة، ويؤيّد ذلك ما ذكره ابن حجر في مواضع متعدّدة من كتابه ممّا يشعر بعداوة الناس وحسدهم لعلي (ع) وإظهارهم لذلك في حياة النبيّ (ص) وبعد وفاته، منها ما ذكره من أنّ بني تيم (ظاهراً) وبني عدي كانوا أعداء بني هاشم في الجاهليّة.

ومنها ما ذكره في ثناء الصحابة: ما نفّر الناس عن علي إلّا أنّه لا يبالى بأحد، وفي موضع


1- صحيح البخاري، ج4، ص2٠9؛ مسند ابن الجعد، ص181؛ البيهقي، كنز العمال، ج13، ص129؛ ابن زهرة، غنية النزوع، ص316 الهامش.

ص: 74

آخر عن السلفي في الطيوريات: إنّ علياً (ع) كان كثير الأعداء، (1)ومنها ما ذكره في فضائل أهل البيت عليهم السلام عند ذكره قوله تعالى: أم يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ (2)حيث روى عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال في هذه الآية: «نحن الناس والله» ، (3)ومنها ما ذكره: «إنّ علياً (ع) شكا إلى رسول الله (ص) عن حسد الناس إيّاه» ، ومنها ما ذكره أيضاً في قوله تعالى: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (4)حيث قال: وصحّ أنّ العباس شكا إلى رسول الله (ص) ما يلقون من قريش من تعبيسهم في وجوههم وقطعهم حديثهم عند لقائهم فغضب (ص) غضباً شديداً حتّى احمرّ وجهه ودرّ عرق بين عينيه، وقال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّ الله ورسوله. وفي رواية صحيحة أيضاً قال:

«ما بال أقوام فإذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم، والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّهم لله ولقرابتهم منّى» ، (5)ومنها ما ذكره أيضاً: إنّهم رغّبوا بريدة على إسقاط علي [ (ع) ] عن عين النبيّ (ص) حيث قال «وكذلك وقع لبريدة أنّه كان مع علي [ (ع) ] في اليمن فقدم مغاضباً عليه فأراد شكايته بجارية أخذها من الخمس فقيل: له أخبره ليسقط على من عينه (ص) ورسول الله (ص) يسمع من وراء الباب فخرج مغضباً فقال:

«ما بال أقوام يتنقصون عليّاً؟ ! من نقص عليّاً فقد نقصني، ومن فارق عليّاً فقد فارقني، إنّ عليّاً منّى وأنا منه، خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. يا بريدة أما علمت أنّ لعليّ أكثر من الجارية الّتى أخذ؟ !» (6)

فليتأمّل الناظر المنصف أنّ الصحابة الذين رغّبوا بريدة على النبيّ (ص) بما تمنّوا أن يسقط


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص374.
2- سورة النساء: 54.
3- العمدة، ابن البطريق، ص355.
4- سورة الشورى: 23.
5- القندوزي، ينابيع المودة، ج1، ص15؛ ابن ماجه، سنن ابن ماجة، ج1، ص5٠؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج4، ص75؛ البيهقي، كنز العمال، ج12، ص102.
6- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص498.

ص: 75

علي (ع) من عينه (ص) وكانوا جالسين من وراء باب النبيّ (ص) بحيث يسمعه هو (ص) وأصحابه ذلك اليوم.

إبطال دعوى أهليّة أبي بكر للاجتهاد

قال ابن حجر: «وزعموا أنّه أحرق من قال أنا مسلم وقطع يد السارق اليسرى وتوقّف في ميراث الجدّة، حتّى روي له أنّ لها السدس وأنّ ذلك قادح في خلافته وجوابها بطلان زعمهم قدح ذلك في خلافته وبيانه أنّ ذلك لا يقدح إلّا إذا ثبت أنّه ليس فيه أهليّة للاجتهاد. وليس كذلك بل هو من أكابر المجتهدين، بل هو أعلم الصحابة على الإطلاق للأدلّة الواضحة على ذلك منها ما أخرجه البخاري وغيره أنّ عمر في صلح الحديبية سأل رسول الله (ص) عن ذلك الصلح وقال: «علام نعطى الدنية في ديننا؟» (1)فأجابه النبيّ (ص) ثمّ ذهب إلى أبي بكر فسأله عمّا سال عن النبيّ (ص) من غير أن يعلم بجواب النبيّ (ص) فأجابه بمثل ذلك سواء بسواء، ومنها ما أخرجه أبو القاسم البغوي وأبو بكر الشافعي في فوائده وابن عساكر عن عائشة قالت: «لمّا توفي رسول الله (ص) اشرأبّ النفاق، أي رفع رأسه، وارتدت العرب وانحازت الأنصار فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها، أي فتتها، فما اختلفوا في لفظة إلا طار أبي بعبائها وفصلها؛ قالوا أين ندفن رسول الله (ص) فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً فقال أبو بكر: سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من نبي يقبض إلّا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه، واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً فقال: أبو بكر سمعت رسول الله (ص) يقول: إنّا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة. (2)

قال ابن زنجويه: وهذه سنّة تفرّد بها الصديق من بين المهاجرين والأنصار ورجعوا إليه

فيها. وأمّا خبر «أتاني جبرئيل فقال: إنّ الله يأمرك أن تستشير أبا بكر» (3)وخبر «إنّ الله يكره


1- الجمع بين الصحيحين، البخاري، ج1، ص268.
2- الطوائف، ص271؛ جامع الأحاديث، ج25، ص213.
3- الجامع الكبير، ج1، ص6٠6؛ الفوائد، ج2، ص183؛ جامع الأحاديث، ج1، ص2٠5.

ص: 76

يخطئ أبو بكر» (1)سنده صحيح، وخبر «لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره» (2)وخبر «أنّه وعمر كانا يفتيان الناس في زمن النبيّ (ص)» . وعن تهذيب النووي أنّ أصحابنا استدلّوا على عظيم علمه بقوله: لأقاتلنَّ من فرّق من بين الصلاة والزكاة. . . وأنّ الشيخ أباإسحاق استدلّ به على أنّه أعلم الصحابة لأنّهم كلّهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلّا هو ثمّ ظهر لهم بمباحثته لهم أنّ قوله هو الصواب» . (3)

أقول : عدم القدح في أبي بكر على تقدير ثبوت أهليته للاجتهاد مقدوح من وجوه:

أوّلاً: لا يجوز الاجتهاد على الإمام إذ بالاجتهاد لا يحصل الجزم بأنّ ما يقوله من عند الله تعالى.

ثانياً: إنّ المجتهد قد يخطئ، فحينئذ يجوز على الإمام الخطأ، وذلك ينافي الإمامة لاشتراط العصمة فيها كما برهنا عليه سابقاً.

ثالثاً: قد أشرنا فيما مضى إلى أنّ من شرائط الإمامة العلم بجميع أحكام الدين، وأنّ ذلك شرط واجب، وإلّا لانتفت فائدة نصبه، بل العصمة تستلزم هذا العلم، فمن ظهر منه نقصان في هذا العلم لا يجوز أن يكون إماماً، وقد ظهر عن أبي بكر في مسائل كثيرة الاعترافُ على نفسه بأنّه لا يعرف الحكم، وقد بيّن أصحابنا رضوان الله عليهم الفرق بين الأمير والحاكم وبين الإمام، من حيث أنّ ولاية الإمام عامّة، وولاية من عداه خاصّة، وبيّنوا أنّ الحاكم والأمير يجب أن يكونا عالمين بالحكم في جميع ما أسند إليهما، وأن لا يذهب عليهما شيء من ذلك، إلّا أنّه لمّا كانت ولايتهما خاصّة لم يجب أن يكونا عالمين بجميع أحكام الدين، والإمام

بخلاف ذلك لأنّ ولايته عامّة كنبوّة النبيّ (ص) ، ومن كمال النقص واللؤم أن يقوم أحد مقام النبيّ (ص) وهو لا يعلم المسائل الضروريّة التي يحتاج إليها الناس.


1- الطبراني، المعجم الأوسط، ج9، ص149.
2- المسند الجامع، ج2٠، ص108؛ اتحاف الخيرةالمهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري، ج7، ص59؛ سنن الترمذي، ج13، ص272.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص44.

ص: 77

رابعاً: يتوجه عليه معارضة بالمثل من أنّه لا يثبت اجتهاد أبي بكر إلّا إذا ثبت أنّ ما صدر عنه من أمثال الأحكام المذكورة القادحة ضرورة في كلّ إنسان عاقل له نصيب من معرفة الأحكام الشرعيّة يمكن أن يصدر ممّن له أهليّة الاجتهاد، وإذا كان إثبات ذلك محالاً أو ملحقاً بالتشكيك في الضروريات كان ذلك قادحاً في خلافته.

وأمّا أوّل ما ذكره من الأدلّة الّتي زعم وضوح دلالتها على أهليّة أبي بكر للاجتهاد فمدخول بأنّ جواب أبي بكر عن ذلك من غير أن يعلم جواب النبيّ (ص) قبله غير مسلّم، وإنْ كان ذلك الجواب ممّا يظهر للعاقل المشاهد بخصوصيّات تلك الواقعة بأدنى تأمّل، فغاية ما يلزم من ذلك قصور فهم عمر لا كمال عقل أبي بكر.

وأمّا الثاني منها فمردود بأنّ الاختلاف في موضع الدفن غير واقع، كيف وقد صحّ اتفاقاً أنّه مع أصحابه قد اشتغلوا بالخلافة عن دفن النبيّ (ص) ، بل النبيّ (ص) أوصى بذلك إلى أهل بيته في أيّام حياته كما نقله غير هذا الراوي؟ ! ولو سلّم فلا اجتهاد في نقل خبر وصيّة النبيّ (ص) بشيء كدفنه مثلاً، وكما لا يخفى مع أنّ قول أبي بكر «سمعت النبيّ (ص) يقول: ما من نبىّ. . .» دعوى لا برهان له بها سوى دعوى سماعه لذلك.

وأمّا ما ذكره من وقوع الاختلاف في ميراثه فغير واقع أيضاً، غاية الأمر أنّه لما أخذ فدك من فاطمة عليها السلام وادّعت النحلة فيها ثمّ الميراث تنزّلاً افترى أبوبكر لدفع دعواها عليها السلام فقالت له: «أترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً» .

ثمّ لا يخفى ما في عبارته من البعد عن كلام المحصلّين فإنّه ذكر أوّلاً الخلاف في موضع دفن النبيّ (ص) ثمّ الخلاف في ميراثه (ص) ثمّ قال متّصلاً بهذا: قال بعضهم وهذا أوّل اختلاف وقع بين الصحابة، فقال بعضهم ندفنه بمكّة إلى آخره وأمّا ما ذكره من خبر نزول جبرئيل (ع)

على النبيّ (ص) بأمر الله تعالى له أن يستشير أبا بكر ففيه أنّه على فرض صحّته فإنّما كان لتأليف قلبه، وإلّا فالنبي (ص) إنّما كان يعمل بالوحي الإلهي كما نطق به القرآن الكريم وكان غنيّاً عن مشاورتهم وتعليمهم كما لا يخفى.

ص: 78

دعوى ابن حجر أنّ أبا بكر كان يقضي بالكمال الأسنى

قال ابن حجر: «فثبت بجميع ما قررناه أنّه من أكابر المجتهدين، بل أكبرهم على الإطلاق وإذا ثبت أنّه مجتهد فلا عتب عليه في التحريق لأنّ ذلك الرجل كان زنديقاً وفي قبول توبته خلاف، وأمّا النهى عن التحريق فيحتمل أنّه لم يبلغه، ويحتمل أنّه بلغه وتأوله على غير نحو الزنديق، وكم من أدلّة تبلغ المجتهدين ويؤّولونها لما قام عندهم، لا ينكره ذلك إلّا جاهل بالشريعة وحامليها. وأمّا قطعه يسار السارق فيحتمل أنّه خطأٌ من الجلّاد، ويحتمل أنّه لسرقة ثانية ومن أين علم أنّها للسرقة الأولى، وأنّه قال للجلّاد اقطع يساره؟ ! وعلى التنزّل فالآية شاملة لما فعله، فيحتمل أنّه كان يرى بقاءها على إطلاقها وأنّ قطعه (ص) اليمنى في الأولى ليس على التحتّم، بل الإمام مخيّر في ذلك وعلى فرض إجماع في المسألة فيحتمل أنّهم أجمعوا على ذلك بعده. وأمّا توقفه في مسألة الجدّة إلى أن بلغه الخبر فينبغي سياق حديثه فإن فيه أبلغ الردّ على المعترضين. أخرج أصحاب السنن الأربعة ومالك عن قبيصة قال: جاءت الجدّة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال مالك في كتاب الله وما علمت لك في سنة نبي الله (ص) شيئاً فارجعي حتّى أسال الناس؛ فسال الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله (ص) أعطاها السدس. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلم فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر. فتأمّل هذا السياق تجده قاضياً بالكمال الأسمى لأبي بكر فإنّه نظر أوّلاً في القرآن وفي محفوظاته من السنّة فلم يجد لها شيئاً ثمّ استشار المسلمين ليستخرج ما عندهم من شيء حفظوه فأخرج له المغيرة وابن مسلم ما حفظاه فقضى به وطلبه انضمام آخر إلى المغيرة احتياط فقط، إذ الرواية لا يشترط فيها تعدد على أنّه غير بدع من

المجتهد أن يبحث عن مدارك الأحكام» . (1)

أقول : قد عرفت بما قررناه من بطلان جميع ما قرره نفي ذلك الثبوت، وأمّا ما ذكره من أنّ «النهى عن التحريق فيحتمل أنّه لم يبلغه» فهو مخالف لما ادّعاه سابقاً من كمال علم أبي بكر.


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص46.

ص: 79

وأمّا الاحتمال الذي ادّعاه على نحو غير الزنديق من غير قرينة ظاهرة مقتضية لذلك التأويل الممقوت فهو غير صحيحٍ، ولو جاز أمثال هذا التأويل العليل لارتفع الأمان عن دلالة القرآن المبين وسنن سيّد المرسلين، وخرجا عن كونهما دليلاً للمحقّين وحجّة على المبطلين.

وأمّا قوله «إنّ قطعه يسار السارق فيحتمل أنّه خطاء من الجلاد» فوجه الخطأ فيه ظاهر، فإنّ قطع يد ذلك السارق لم يكن في خلاء بحيث يكون الجلاد منفرداً، بل كان في ملأ مشاهد القوم من الصحابة وغيرهم فإذا كان من غلط الجلاد فلم لم يفهمه أحد من الحاضرين؟ ! والعقل يحكم باستحالة تواطؤ الجميع على الغلط.

وأمّا قوله «فمن أين علم أنّها للسرقة الأولى، وأنّه قال للجلاد اقطع يساره» ففيه أنّ من قدح في أبي بكر بتلك الرواية إنّما قدح لوجدانه إيّاها في كتب الحديث والسير مشتملة على تلك الخصوصيّات، فعلم أنّ قوله «من أين علم» على أنّ هذه التخطئة قد توجهت من الصحابة المعاصرين الشاهدين لحكمه الفاسد، فلو كانت للسرقة الأولى لما نسبوه إلى الخطأ لا يقال: يحتمل أن يكون ذلك لعدم علمهم أنّه في المرتبة الثانية لأنّا نقول لو كان كذلك لأعلمهم بذلك وسلم عن التخطئة.

وأمّا قوله «وعلى التنزل فالآية شاملة لما فعله. . .» فنازل جدّاً لأنّ الشمول قد خصّ بفعل النبيّ (ص) على رؤوس الأشهاد فالغفلة عن ذلك لا تليق بحال من قام مقامه (ص) وكذا الكلام في قوله «إنّ قطع النبيّ (ص) اليمنى في الأولى ليس على التحتم» لما تقرر في الأصول من أنّ فعل النبيّ (ص) ما لم يعلم وجهه محمول على الوجوب.

وأمّا قوله «وعلى فرض إجماع في المسألة» فمدخول بظهور قطعيّة هذا الإجماع ظهوراً لاينكره إلّا ابن حجر الذي فرض على نفسه إصلاح معايب أبي بكر، على أنّه لو جاز انعقاد هذا الإجماع بعد فعل أبي بكر لجاز أن يقال في الإجماع الذي ادّعاه هذا الشيخ مراراً في خلافة أبي بكر إنّما انعقد بعد غصبه الخلافة كما وقع نظيره لمعاوية ولعلّه لا يرضى بذلك؛ فتأمّل.

وأمّا ما اعترف به من توقّف أبي بكر في مسألة الجدّة والسؤال فيها من الناس، فهو كاف

ص: 80

في ظهور نقصه وقصوره، وأين دنوّ من لم يقف على المسألة حتّى سأل من علو من قال مستوياً على عرش التحقيق «سلونى عمّا دون العرش، وسلوني قبل أن تفقدوني؟ !»

وأمّا قوله «فإنّه نظر أوّلاً في القرآن ومحفوظاته. . .» ففيه نظر؛ لأنّه لو كان دأبه في الأحكام الشرعيّة رعاية الاحتياط بالتأمّل والتوقّف والمشاورة، فلم لم يتأمّل في أمر الخلافة إلى فراغ أهل البيت وسائر بني هاشم من دفن النبيّ (ص) حتّى يشاورهم؟ بل سارع في ذلك وأخذ البيعة من الناس وقد أفصح عنها عمر بقوله: «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرّها عن المسلمين» . (1)

وأمّا ما ذكره في آخر كلامه من أنّ «طلبه انضمام آخر إلى المغيرة احتياط فقط» ، فهو مع أنّه لا يقدح في مقصودنا لكنّه ليس بمتعيّن أن يكون منظوراً لأبي بكر، لجواز أن يكون قصده في اعتقاده بفسق المغيرة. فقد روى الجمهور مستفيضاً أنّه شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب ولقّن الرابع، وهو زياد بن أبيه حتّى تلجلج في الشهادة فدفع عنه الحدّ، ومع ذلك فالمغيرة روى شطراً من أحاديث أهل السنّة فلا تغفل عنه ودقق في سيرته.

ردّ دعوى عدم استلزام قتل مالك بن نويرة الذم

قال ابن حجر: «الخامسة زعموا أنّ عمر ذمّه والمذموم من مثل عمر لا يصلح للخلافة. وجوابها أنّ هذا من كذبهم وافترائهم أيضاً، ولم يقع من عمر ذمّ له قط وإنّما الواقع منه في

حقّه غاية الثناء عليه واعتقاد أنّه أكمل الصحابة علماً ورأياً وشجاعة كما يعلم ممّا قدمناه عنه في قصّة المبايعة وغيرها، على أنّ إمامة عمر إنّما هي بعهد أبي بكر إليه فلو قدح فيه لكان قادحاً في نفسه وإمامته. وأمّا إنكاره على أبي بكر كونه لم يقتل خالد بن الوليد لقتله مالك بن نويرة وهو مسلم ولتزوّجه امرأته من ليلته ودخل بها، فلا يستلزم ذمّاً له ولا إلحاق نقص به لأنّ ذلك هو من إنكار بعض المجتهدين على بعض في الفروع الاجتهادية، وهذا كان شأن


1- مسند أحمد، ج1، ص55؛ صحيح ابن حبان، ج2، ص159؛ الجاحظ، العثمانية، ص196؛ شرح إحقاق الحقّ، ج2، ص348.

ص: 81

السلف وكانوا لا يرون فيه نقصاً وإنّما يرونه غاية الكمال، على أنّ الحقّ عدم قتل خالد لأنّ مالكاً ارتدّ وردّ على قومه صدقاتهم لما بلغه وفاة رسول الله (ص) كما فعل أهل الردّة، وقد اعترف أخو مالك لعمر بذلك وتزوّجه امرأته لعلّه لانقضاء عدّتها بالوضع عقب موته، أو يحتمل أنّها كانت محبوسة عنده بعد انقضاء عدّتها عن الأزواج على عادة الجاهليّة. وعلى كلّ حال فخالد أتقى لله من أن يظنّ به مثل هذه الرذالة الّتي لا تصدر من أدنى المؤمنين فكيف بسيف الله المسلول على أعدائه؟ ! فالحقّ ما فعله أبو بكر لا ما اعترض به عليه عمر (رضي الله عنهما) ويؤيّد ذلك أنّ عمر لمّا أفضت الخلافة إليه لم يتعرّض لخالد ولم يعاتبه في هذا الأمر قط؛ فعلم أنّه ظهر له حقية ما فعله أبو بكر» . (1)

أقول : أمّا ما ذكره بأنّ «إمامة عمر إنّما هي بعهد أبي بكر إليه. . .» ففيه أنّنا نعلم بأنّ المقدمة المذكورة تقتضي كفّ عمر عن القدح فيه، لكن الله تعالى قد أنساه تلك المقدمة في بعض الأحيان وأجرى الحق على لسانه بذكر بعض القوادح التي نقلها الثقات من أرباب السير والتواريخ ليكون حجّة لأهل الحقّ على أهل الباطل.

وأمّا ما ذكره من أنّ «إنكاره على أبي بكر في عدم قتله خالد بن الوليد لقتله مالك بن نويرة لا يستلزم ذمّاً له. . .» مرفوضٌ لأنّ الذمّ كلّ الذمّ إنّما هو في إهماله إجراء حكم الشرع في شأن خالد، لكن لمّا كان صدور الذمّ عليه من مثل عمر أشدّ عند أوليائه من المتسمّين بأهل السنّة فقد خصّه الشيعة بالذكر، فقوله «لا يستلزم ذمّاً له» كما ترى واضح للعيان شاهد على

البطلان.

وأمّا ما ذكره من اجتهاده في ذلك فهو من قبيل اجتهاد أبي جهل وأمثاله في مقاتلة النبيّ (ص) ، واجتهاد معاوية في محاربة أمير المؤمنين (ع) ، والقائل بمثل ذلك لا يليق بالجواب.

وأمّا ما ذكره من «أنّ الحقّ أنّ مالكاً ارتدّ وردّ على قومه. . .» فقد عرفت بطلانه بما نقلناه


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص47 و 48.

ص: 82

سابقاً من كلام ابن حزم وغيره عند الحديث عن ما ذكره ابن حجر في النّصوص السمعيّة الّتي زعم دلالتها على خلافة أبي بكر، فتذكّر.

وأمّا ما احتمله من تزوّج خالد لامرأة مالك بعد انقضاء عدّتها بالوضع عقب موته، فمردود بأنّ عدّة امرأة المسلم لا تنقضي بما ذكره، وقد بيّنا أنّ مالكاً لم يرتد قطعاً، وأمّا احتمال «أنّها كانت محبوسة عنده. . .» فمع ابتنائه أيضاً على ارتداد مالك مردود، بأنّه كيف يليق بشأن عمر مع ما رووا فيه «أنّه لو كان نبىّ بعد نبيّنا (ص) لكان هو عمر» أن ينكر على أبي بكر ذلك الإنكار المنقول، ويحرّضه على قتل خالد سيف الله المسلول، من غير علم بحال القاتل والمقتول.

وأمّا ما ذكره من أنّ «خالداً أتقى لله من أن يظنّ به مثل هذه الرذالة. . .» فهو مجرّد حسن ظنّ ليس في محلّه، ولو سلّم فأوّل من يرد عليه هذا الاعتراض هو عمر، حيث أساء الظنّ بخالد وهمّ بقتله، وأمّا تسمية خالد بسيف الله فوقعت من أبي بكر لإعانته له في غصب الخلافة أوّلاً، وقتل مالك الذي أوقع الخلل في خلافته ثانياً، فانكشف الأمر، وظهر أنّه لا كرامة في ذلك الاسم والمسمّى.

وأمّا قوله «فالحق ما فعله أبو بكر لا ما اعترض عليه» ففيه أنّ هذا اعتراف منه ببطلان لأي عمر في ذلك الاعتراض وهو يكفي للقدح فيهما.

وأمّا ما ذكره من التأييد، فضعفه ظاهر من أنّه لما أفضت الخلافة إلى عمر هرب خالد إلى الشام واسترجع عمر بقيّة ما كان في أيدي الناس من أسارى بني حنيف من النساء

والذراري، وسلّمهم إلى أزواجهم وآبائهم من بقيّة سيف أبي بكر، فتدّبر.

قول عمر «كانت بيعة أبي بكر فلتة» انتقاص لخلافة أبي بكر

قال ابن حجر: «زعموا أنّ قول عمر: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة لكن وقى الله شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه؛ قادح في حقيتها، وجوابها أنّ هذه من غباواتهم وجهالاتهم، إذ لا دلالة في ذلك لما زعموه؛ لأنّ معناه أنّ الإقدام على مثل ذلك من غير مشورة الغير وحصول

ص: 83

الاتفاق منه مظنّة الفتنة، فلا يقدمنّ أحد على ذلك على أنّى أقدمت عليه، فسلّمت على خلاف العادة ببركة صحّة النيّة وخوف الفتنة لو حصل توانٍ في هذا الأمر» . (1)

أقول : حاصل احتجاج الشيعة بذلك أنّ ضمير ( شرّها ) في قول عمر راجع إلى البيعة، فيلزم توصيف بيعة أبي بكر بالشرّ، وهذا إزدراء بجلالة قدره عندهم وكذا في لفظ (الفلتة) استحقارٌ لها، ففي ما ذكره عمر غاية المذمّة إذ لا مذمّة فوق الوصف بالشرّ. ولقد أنطقه الله بالحقّ حيث اعترف في بيان المعنى بعدم حصول الاتفاق على خلافة أبي بكر، وبهذا ظهر أنّ الغبي هو من لا يضع الأمور في نصابها الصحيح.

استدلال ابن حجر على أنّ أبا بكر كان مصيباً في منع فدك

قال ابن حجر:

«زعموا أنّه ظالم لفاطمة [ عليها السلام ] بمنعه إيّاها من مخلف أبيها وأنّه لا دليل له في الخبر الذي رواه «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» (2) لأنّ فيه احتجاجاً بخبر الواحد مع معارضته لأية المواريث، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين. وزعموا أيضاً أنّ فاطمة [ عليها السلام ] معصومة بنصِّ: إنّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (3)، وخبر «فاطمة بضعة منّى» ، (4)وهو معصوم فتكون معصومة، وحينئذ فيلزم

صدق دعواها الإرث. وجوابها أمّا عن الأوّل، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محلّ الخلاف وإنّما حكم بما سمعه من رسول الله (ص) وهو عنده قطعي فساوى آية المواريث في قطعيّة المتن. وأمّا حمله على ما فهمه منه، فلانتفاء الاحتمالات الّتي يمكن تطرّقها إليه عنه بقرينة الحال فصار عنده دليلاً قطعيّاً مخصصّاً لعموم تلك الآيات. وأمّا عن الثاني، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت [ عليهم السلام ] ولسن بمعصومات اتفاقاً فكذلك بقيّة أهل البيت. وأمّا «بضعة منّى» فمجاز قطعاً فلم يستلزم عصمتها وأيضاً فلا يلزم مساواة


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص48.
2- ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج3، ص37٠.
3- سورة الأحزاب: 33.
4- السرخسي، المبسوط، ج3٠، ص288.

ص: 84

البعض للجملة في جميع الأحكام، بل الظاهر أنّ المراد أنّها كبضعة منّى فيما يرجع للحنو والشفقة. ودعواها أنّه (ص) نحلها فدكاً، لم تات عليها إلّا بعلي وأم أيمن فلم يكمل نصاب البيّنة على أنّ في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافاً بين العلماء وعدم حكمه بشاهد ويمين، أمّا لعلّه لكونه ممّن لا يراه ككثيرين من العلماء، أو أنّها لم تطلب الحلف مع من شهد لها وزعمهم أنّ الحسن والحسين وأمّ كلثوم شهدوا لها باطل على أنّ شهادة الفرع والصغير غير مقبولة، وسيأتى عن الإمام زيد بن على بن الحسين رضي الله عنهم أنّه صوّب ما فعله أبو بكر وقال: لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به. وعن أخيه الباقر أنّه قيل له: أَظلَمَكُم الشيخان من حقّكم شيئاّ؟ فقال: لا ومنزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ما ظلمانا من حقّنا ما يزن حبّة خردلة. وأخرج الدارقطني أنّه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر، كان يكره أن يخالفهما. وأمّا عذر فاطمة في طلبها مع روايته لها الحديث فيحتمل أنّه لكونها رأت أنّ خبر الواحد لا يخصّص القرآن كما قيل به؛ فاتّضح عذره في المنع وعذرها في الطلب فلا يشكل عليك ذلك وتأمّله فإنّه مهم (1).

أقول : فيه نظر من وجوه كما يلي:

أوّلاً: يتوجه على جوابه عن الأوّل أنّ الخبر الذي رواه أبو بكر في ذلك أولى بأن يكون محلّ الخلاف لأنّه متهم في روايته بعداوته لأهل البيت وجرّ النفع لنفسه؛ لما روى الشيخ جلال

الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء من أنّ فدكاً كانت بعد ذلك حبوة أبي بكر وعمر، ثمّ اقتطعها مروان، وأنّ عمر بن عبد العزيز قد ردّ فدكاً إلى بني هاشم وروي أنّه ردّها إلى أولاد فاطمة رضي الله عنها. (2)

وفى هذا دلالة على اتهام أبي بكر عند عمر بن عبد العزيز أيضاً كما وقع التصريح به في الروايات الأخرى على أنّ تخصيص الكتاب بغير الحديث المتواتر والمشهور ممّا خالف فيه جمع كثير، ومنهم أبو حنيفة كما ذكر في شروح منهاج البيضاوي، والمنصف المتأمّل يجزم بأنّه


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص48 و 49.
2- السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 215.

ص: 85

لا وجه لأن يكون مثل هذا الخبر موجوداً ولم يسمعه غير أبي بكر حتّى نساء النبيّ (ص) وعلي وفاطمة عليهما السلام مع أنّهم كانوا مداومين في ملازمة النبيّ (ص) . وعموماً كيف يبين رسول الله (ص) هذا الحكم بغير ذريته ويخفيه عمّن يرثه ولا يوصي إليهم بذلك حتّى يقعوا في ادّعاء الباطل والتماس الحرام على أنّه صلوات الله وسلامه عليه كان مأموراً خصوصاً في محكم الكتاب بإنذار عشيرته الأقربين؟ ! وقد أخرج في جامع الأصول حديث شهر بن حوشب عن الترمذي وأبي داود أنّ النبيّ (ص) قال:

«إنّ الرجل والمرأة ليعملان بطاعة الله تعالى ستين سنة ثمّ يحضرهما الموت فيضاران في الوصيّة فيجب لهما النار» ، فأيّ ضرر أعظم من أن يكون النبيّ (ص) كتم ذلك عن وصيه وورثته وأودعه أجنبيّاً لا فائدة له فيه ظاهراً؟ ! وحاشاه من ذلك، إذ هو رحيم رؤوف بالأباعد، فضلاً عن الأقارب. لا يقال كفى تعريفاً وإعلاماً بذلك الخبر الذي ذكره النبيّ (ص) لأبي بكر من كبار أصحابه لأنّنا نقول: الكفاية ممنوعة لأنّ أبا بكر إنّما غلب على فاطمة عليها السلام بذلك الخبر من حيث أنّه صار خليفةً وقاضياً وادّعى أنّ علمه قد حصل بذلك من الخبر المذكور وعلم القاضي كافٍ في إجراء الحكم، ومن البيّن أنّه لو لم يتفق سوء اختيار القوم على خلافة أبي بكر وكان الخليفة غيره، لما كان لذلك الخبر الواحد حجيّة عنده في إثبات كون تركة النبيّ (ص) صدقة. أمّا عند الخليفة على تقدير كونه غير أبي بكر فلأنّ شهادة الواحد مردودة فضلاً عن روايته في مقام الشهادة، وأمّا عند المدعية أعني فاطمة عليها السلام فقد ظهر

من أنّها قد أنكرت ذلك وغضبت على أبي بكر في حكمه بما ذكر، ولا مجال لأن يقال إنّ النبيّ (ص) لما عيّن أبا بكر للخلافة لم يحتج إلى إظهار ذلك لغيره لأنّ هذا خلاف ما عليه جمهور أهل السنّة من عدم النصّ والتعيين لأحد كما مرّ، على أنّه يجوز أن يكون الحديث الذي تفرّد به أبو بكر من قبيل (الغرانيق العلى) الذي جوّز أهل السنّة اعتماداً عليه إلقاء الشيطان له على لسان النبيّ (ص) وكيف يستبعد إلقاء مثل ذلك له مع ما روى عن أبي بكر من أنّه قال: «إنّ لي شيطاناً يعتريني. . .» (1)وأمّا قوله: «وإنّما حكم بما سمع من رسول الله (ص)» ففيه أنّ دعوى سماعه منه غير مسموع لما سمعت من اتهامه سابقاً.


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج3، ص212.

ص: 86

وأمّا ما ذكره من قوله «وأمّا حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات. . .» ففيه أنّ ذلك وهمٌ لا فهمٌ، وانتفاء الاحتمالات غير ثابت لاحتمال أن يكون قوله صدقة في الحديث الحادث تمييزاً، ويكون معنى الحديث أنّ ما تركناه على وجه الصدقة لا يورثه أحد، وقد وهم الراوي وهو أبو بكر في ذلك لاحتمال أنّ النبيّ (ص) قد وقف على لفظ صدقة فظنه أبو بكر موقوفاً على الرفع بالخبريّة لا على النّصب بكونه تمييزاً، والتمييز إنّما هو شأن أهل الخبرة والاستبصار.

ثانياً: فلأنّه يتوجّه على ما ذكره في الجواب عن الثاني «إنّ من أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت. . .» أنّنا قد راجعنا ما ذكره هناك فلم نجد فيه إلّا ما يجديه من ذكره أحاديث موضوعة وأقاويل مصنوعة زعم معارضتها لما ذكره أيضاً من الأحاديث الصحيحة باتّفاق المسلمين الدالّة على خروج الأزواج، فلنضرب عن نقلها هنا صفحاً، ولنذكر من الاحتجاج فنقول: قد اتفق المفسرون من الشيعة والسنّة على ذلك وهذا الاتفاق حجّة متحققة بموافقة بعض المفسرين من أهل السنّة مع الشيعة فضلاً عن أكثرهم، كما اعترف به ابن حجر من أنّ ما ذهب إليه بعض من الطائفة حجّة على الكل سيّما إذا وافقهم فيه غيرهم، وأيضاً قد انعقد الإجماع على ذلك قبل ظهور المخالف من أتباع بني أميّة المعادين لأهل البيت؛ والمخالف الحادث لا يقدح خلافه في انعقاد الإجماع السابق وأيضاً والذي يدلّ

على ذلك أنّ من روى خلاف ذلك من المفسرين كانوا متأخرين عن قدماء المفسرين والمحدثين كالثعلبي وأحمد بن حنبل، والظاهر منشأ وَهْمِ المتأخّرين ذكر آية التطهير متّصلةً بما قبلها من الآية الّتي وقع فيها النداء على نساء النبيّ (ص) والخطاب معهنّ.

وفيه أنّ رعاية هذه المقارنة والمناسبة إنّما تجب إذا لم يمنع عنها مانع ومن البين أن تذكير ضمير عنكم و يطهركم وبعض الدلائل والقرائن الأخرى الخارجة، مانع عن ذلك منها ما روى ابن حجر من أنّه (ع) لما نزلت آية المباهلة جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وجلّلهم بكساء فدكي فقال:

«هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» ، ومنها ما رواه أيضاً في الباب الحادي عشر، حيث قال في مسلم عن زيد بن أرقم أنّه (ص) قال:

«أذكركم الله في أهل بيتي» ، قلنا لزيد: من أهل بيته نسائه؟ قال: «لا وأيم الله، إنّ المرأة تكون

ص: 87

مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده» . (1)وهو مذكور في جامع الأصول (2)أيضاً، ولا يخفى أنّه يفهم من قول زيد إنّ إطلاق أهل البيت ليس على الحقيقة اللّغوية، بل على الحقيقة الشرعيّة، ويمكن أن يكون مراده أنّ الذي يليق أن يراد في أمثال الحديث المذكور من أهل البيت أهله وعصبته الذين لا يزول نسبتهم عنه أصلاً دون الأزواج، وعلى التقديرين فهو مؤيّد لمطلوبنا، وذكر سيّد المحدثين جمال الملّة والدين عطاء الله الحسيني في كتاب تحفة الأحباء خمسة أحاديث، اثنان منها وهما المسندان إلى أم سلمة رضي الله عنها نصّ صريح في الباب لأنّ أحدهما - وهو الذي نقله في جامع الترمذي وذكر أنّ الحاكم حكم بصحته -قد اشتمل على أنّه لمّا قال النبيّ (ص) عند إدخال علي وفاطمة وسبطيه تحت الكساء ما قال، قالت أم سلمة رضي الله عنها:

«يا رسول الله ألست من أهل بيتك؟ قال إنّك على خير أو إلى خير» . (3)

والآخر وهو الحديث الذي نقله عن كتاب المصابيح في بيان شأن النزول لأبي العباس أحمد ابن الحسن المفسّر الضرير الاسفرايني قد تضمن أنّه (ص) لمّا أدخل علياً وفاطمة وسبطيه تحت الكساء قال:

«اللّهم هؤلاء أهل بيتي وأطهار عترتي وأطايب أرومتي من لحمى ودمى، إليك لا إلى النار أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» ، وكرر هذا الدعاء ثلاثاً قالت أم سلمة رضي الله عنها قلت: يا رسول الله (ص) وأنا معهم. قال:

«إنّك إلى خير وأنت من خير أزواجي» . (4)

ثمّ قال السيد قدس سره فقد تحقق من هذه الأحاديث أنّ الآية إنّما نزلت في شأن الخمسة المذكورين عليهم السلام ولهذا يقال لهم (آل العباء) ولله درّ من قال من أهل الكمال:

على الله في كلّ الأمور توكلي


1- المعجم الكبير، الطبراني، ج4٠، صص 1873 و 24٠8.
2- ابن الأثير، جامع الأصول، ج9، حديث 68٠7.
3- الترمذي، سنن الترمذي، ج5، صص36٠ و 361؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج3، صص146و 147، باب مناقب أهل البيت عليهم السلام.
4- تفسير الثعلبي، ج8، ص42؛ الواحدي، أسباب النزول، ص239.

ص: 88

فإن قيل: ما ذكر من الأحاديث معارضة بما روي من أنّ أم سلمة قالت لرسول الله (ص) : ألست من أهل البيت؟ فقال: «بلى إن شاء الله» قلنا لا نسلّم بصحّة سندها ولو سلم بذلك، نقول: إنّها في هذه الرواية في معرض التهمة بجر نفع لنفسها فلا يسمع قولها وحدها كذلك نقول: إنّ كونها من أهل البيت قد علّق فيها بمشية الله تعالى، فلا تكون من أهل البيت جزماً مع أنّها لو كانت منهنَّ لما سألته.

وأيضاً أهل بيت الرجل في العرف هم قرابته من عترته لا أزواجه، بدليل سبق الفهم إلى ذلك وهو السابق إلى فهم أهل كلّ عصر والمتداول في أشعارهم وأخبارهم فما من احد يذكر أهل بيت النبيّ (ص) في شعر أو غيره إلّا وهو يريد مَن ذكرناه لا أزواجه. ولعلّ مناقشة الجمهور في هذا المقام إنّما نشأت من حملهم البيت في الآية والحديث على البيت المبنى من الطين والخشب المشتمل على الحجرات الّتي كان يسكنها النبيّ (ص) مع أهل بيته وأزواجه، إذ لو أريد بالبيت ذلك لاحتمل فهمه من الآية والرواية، لكن الظاهر أن المراد بأهل البيت على طبق قولهم أهل الله وأهل القرآن، أهل بيت النبوّة؛ ولا ريب في أن هذا منوط بحصول كمال

الأهلية والاستعداد المستعقب للتنصيص والتعيين من الله ورسوله على المتصف به. ولهذا احتاجت أم سلمة رضي الله عنها إلى السؤال عن أهليتها للدخول فيهم كما مرّ.

وفوق ما ذكرناه كلام، وهو أنّه لا يبعد أن يكون اختلاف أسلوب آية التطهير لما قبلها على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبيّ وأهل بيته عليهم السلام على معنى أن تأديب الأزواج وترغيبهن إلى الصلاح والسداد من توابع إذهاب الرجس والدنس عن أهل البيت عليهم السلام، فحاصل نظم الآية على هذا أنّ الله تعالى رغّب أزواج النبيّ (ص) إلى العفة والصلاح بأنّه إنّما أراد في الأزل أن يجعلكم معصومين يا أهل البيت واللائق أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفاً صالحاً كما قال تعالى: وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ على أنّه قد وقع اختلافٌ كثيرٌ في ترتيب المصاحف حتّى اصطلح الناس على مصحف واحد، والاختلاف إنّما هو في الترتيب ألبته لأنّ القرآن متواتر كما لا يخفى.

ثمّ أقول: يمكن أن يستدلّ على خروج الأزواج بأنّ الإرادة المدلول عليها في الآية بقوله

ص: 89

تعالى: يُرِيدُ اللهُ ، إمّا أن تكون إرادة محضة لم يتبعها الفعل، أو إرادة وقع الفعل عندها، والأول باطل؛ لأنّ ذلك لا تخصيص فيه بأهل البيت، بل هو عامّ في جميع المكلّفين، ولا مدح في الإرادة المجرّدة، واجتمعت الأمّة على أنّ الآية فيها تفضيل لأهل البيت وإبانة لهم عن سواهم، فثبت الوجه الثاني، وفي ثبوته ما يقتضي عصمة من عُني بالآية، وأنّ شيئاً من القبائح لا يجوز أن يقع منهم. ولا شكّ في عدم القطع بعصمة الأزواج، والآية موجبة للعصمة؛ فثبت أنّها فيمن عداهنَّ من آل الكساء؛ لبطلان تعلّقها بغيرهم. وأمّا ما ذكره هنا من أنّ «بضعة منّى» مجاز، فهب أن يكون كذلك لكنّه يجب حمل المجاز على المعنى الأقرب إلى المعنى الحقيقي كما تقرر في الأصول، وهو هنا ترتّب الأحكام التي تترتب على النبيّ (ص) ومنها العصمة والطهارة.

ولو أعرضنا عن ذلك، نقول: إنّ الاستدلال على عصمتها عليها السلام إنّما وقع من الشيعة بمجموع الحديث، وتقريره أنّ النبيّ (ص) قال في حقّها عليها السلام:

«فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد

آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» ، (1)وفي رواية

«من أغضبها فقد أغضبني» ، (2)وفي رواية أخرى

«يريبني ما رابها» ، (3)وأمثالها كثيرة؛ فلو فرض عدم عصمتها لجاز عليها صدور معصية موجبة للحدّ أو التعزير، ولا ريب في إيذائها حينئذ بذلك، وهو منهيٌّ عنه لما عرفت من أنّ إيذاءها إيذاء الله تعالى ورسوله، فلو لم تكن معصومة للزم جواز إيذائها بالحدّ والتعزير؛ فلزم أن يكون إيذاؤها عليها السلام منهيّاً عنه وجائزاً في نفس الحين، وهذا خلف. فسقط جميع ما نسجه في نفي دلالة الحديث على عصمتها عليها السلام. وبعبارة أخرى نقول: لا شكّ في أنّ هذه الأحاديث جاءت في باب مناقبها وفضلها عليها السلام و (من) و (ما) من ألفاظ العموم كما تقرر في الأصول، فلو كانت تغضب وتتأذى بالباطل كما احتمله الناصبة في مقام التأويل، لما جاز من النبيّ (ص) أن يغضب لغضبها، ولو أمكن صدور الباطل منها لما ساغ من النبيّ (ص) إطلاق لفظ الغضب،


1- عوالي اللئالئ، ج4، ص93؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص273.
2- المغربي، شرح الأخبار، ج3، ص31؛ صحيح البخاري، ج4، ص210، كتاب الفضائل - باب مناقب المهاجرين.
3- صحيح مسلم، ج7، ص141.

ص: 90

بل كان يجب أن يقيده وعلى هذا لم يبق لها مزية على غيرها إذ يجب عليه أن يغضب لكلّ مسلم، بل ولكلّ كتابي إذا اغضب بغير حقّ؛ فلم يبق إلّا أنّ غضبها مطلقاً يغضبه (ص) ، وذلك دليل على عصمتها عليها السلام وأنّها لا يصدر عنها غضب إلّا وهو حقّ، وكذلك القول في حقّ بعلها (ع) لأنّ النبيّ (ص) دعا له على القطع في قوله:

«اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» (1) ، ومثله إخبار النبيّ (ص) على القطع وهو قوله:

«يدور الحقّ معه حيثما دار» ، (2)وقوله: «علي مع الحقّ؛ والحقّ مع علي» (3)، وقوله:

«من اقتدى بعلي، فقد اهتدى» ، (4)كما ذكره فخر الدين الرازي في تفسير الفاتحة وكذلك آية التطهير تدلّ على عصمة

أهل البيت جميعهم كما أوضحناها سابقاً.

وأمّا ما ذكره من «أنّ دعواها أنّه نحلها فدكاً لم تات عليها إلّا بعلىّ وأمّ أيمن فلم يكمل نصاب البيّنة. . .» فمردودٌ بأنّ الحكم بالشاهد واليمين قد دلّ عليه الخبر وليس نسخاً لمقتضى الآية كما توهّم، أمّا أوّلاً فلأنّ الآية دلّت على الحكم بالشاهدين أو الشاهد والمرأتين، وأنّ شهادتهما حجّة، وليس فيها ما يدلّ على امتناع الحكم بحجة أخرى إلّا بالنظر إلى المفهوم ولاحجّة فيه، فرفع الحكم الذي دلّ عليه المفهوم ليس بنسخ فجاز الحكم بما دلّ عليه الخبر.

وأمّا ثانياً فلأنّ قوله تعالى: وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ ، (البقره: 282 تخيير بين استشهاد رجلين أو رجل وامرأتين والحكم بالشاهد واليمين زيادة في التخيير وهي ليست نسخاً. ومن قال إنّ الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخاً لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ، وقد علم


1- مسند أحمد، ج1، صص118 و 119، باب ما أسند عن علي؛ سنن ابن ماجة، ج1، ص116.
2- سنن الترمذي، ج5، ص297؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج3، صص124و 125؛ الأميني، الغدير، ج9، ص362 و ج3، ص177.
3- تاريخ بغداد، ج14، ص322؛ تاريخ مدينة دمشق، ج42، ص449؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج18، ص72؛ المغربي، شرح الأخبار، ج2، ص6٠.
4- ابن شهر آشوب، المناقب، ج2، ص217؛ نور الإفهام في علم الكلام، ج2، ص8٠.

ص: 91

بهذا أنّ الحكم بقصور شهادة الرجل والمرأة عن نصاب الشهادة شيء توهمه بعض الجمهور من مفهوم الآية أو اختلفوه تعمداً لهدم ما هو الحقّ في المسألة مع أنّ أكثر الجمهور يقول بموافقتنا من تكميل البيّنة باليمين، بل قال شارح الينابيع (1): إنّ ثبوت المال بشاهد ويمين مذهب الخلفاء الأربعة، فمذهب أبي بكر حجّة عليه في قضيّة فاطمة عليها السلام وعلى تقدير وقوع الاختلاف في المسألة هل يكون وجه لوقوع قرعة رأي أبي بكر على الطرف الذي أوجب تضييع حقّ أهل البيت عليهم السلام واخذ ضياعهم وعقارهم إلا قصد إضرارهم والاهتمام في فقرهم وافتقارهم وتفريق مواليهم وأنصارهم؟ ! كيف لا وهم الذين يقولون: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا . (المنافقون: 7

وأيضاً يعارض ذلك ما رواه البخاري من حديث جابر «إنّ أبا بكر لما جاءه مال البحرين صبّه على نطع وقال: من له على رسول الله (ص) دين من له عليه (ص) عدّه؟ فقال جابر: «وعدني

رسول الله بكذا وكذا، فحثا له أبو بكر حثوات في حجره» ، (2)فكيف استجاز إعطاء مال المسلمين هنا من غير بيّنة ولم يجوِّز إعطاء حقّ فاطمة عليها السلام مع البيّنة؟ ! مع أنّه لم يقل أحد أنّه عرف صدق جابر؛ لأنّه سمعه من النبيّ (ص) . وأيضاً فقد رووا في صحاحهم كالبخاري:

«لاينبغي للحاكم أن يحكم بعلمه لموضع التهمة» ، (3)وأيّ تهمة أوضح ممّا قررناه من معاداة القوم لعليّ وفاطمة عليهما السلام، ويدلّ عليه تصفّح أخبارهم وتتبع آثارهم.

ثمّ أقول: حاصل كلام الشيعة في هذا المقام أنّ فدكاً كانت ممّا أنحله النبيّ (ص) لفاطمة عليها السلام، وصرفه إليها في أيّام حياته. ويوم مات رسول الله (ص) كان ذلك في يدها وتصرّفها عليها السلام، ولما تقمّص أبو بكر الخلافة أرسل إلى فدك وأخرج وكيل فاطمة عليها السلام وغصبه منها، فنازعته في ذلك ولمّا طلب منها عليها السلام البيّنة على النحلة، قال له على (ع) :

«حكمت فينا بخلاف ما حكم الله ورسوله في جميع المسلمين، فإنّك طلبت البيّنة من فاطمة على شيء هو في يدها، وذلك قول


1- السرخسي، المبسوط، ج16، ص118، كتاب الشهادات، باب الاستحلاف.
2- صحيح البخاري، ج3، ص58، كتاب الإجارة، باب الكفالة في القرض.
3- المصدر السابق، ص113، كتاب الأحكام، باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه.

ص: 92

رسول الله (ص)

«البيّنة على المدعى واليمين على من أنكر» . (1)وأمّا شهادة علي (ع) وأمّ أيمن رضي الله عنها فإنّما وقعت على وجه التبرّع وعلى جهة الاستظهار.

وأمّا قوله: «أنّ في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافاً بين العلماء» .

فأقول فيه: إنّه لو سلّم الخلاف فهل لاختيار أبي بكر للطرف المخالف لدعوى فاطمة عليها السلام سوى ما ذكرناه من الضرر والإضرار؟ ! على أنّنا قد بيّنا عصمة فاطمة عليها السلام بالآية والرواية والمدّعي إنّما افتقر إلى الشهود إذا ارتفع العصمة عنه وحيث جاز ادّعاه باطلاً استظهر بالشهود على قوله لئلا يطمع كثير من الناس في أموال غيرهم وجحد الحقوق الواجبة عليهم، وإذ كانت العصمة مغنية عن الشهادة وجب القطع على قول فاطمة عليها السلام وعلى ظلم مانعها وطالب البيّنة عليها. ويشهد على صحّة ما ذكرناه أنّ النبيّ (ص) استشهد على قوله في بيعه لناقة الأعرابي فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال له النبيّ (ص) : «من أين علمت يا خزيمة أنّ

هذه الناقة لي؟ أشهدت ابتياعي لها؟» فقال: لا، ولكنّي علمت أنّها لك من حيث علمت صدقك وعصمتك. فأجاز النبيّ (ص) شهادته بشهادة رجلين وحكم بقوله: فلو لا أنّ العصمة دليل الصدق وتغني عن الشهادة لما صوّب النبيّ (ص) شهادة خزيمة على ما لم يره ولم يحضره باستدلاله عليه بدليل صدقه وعصمته. وبمثل هذا قال مالك بن أنس على ما نقل عنه ابن حزم من أنّه إذا هلكت الوديعة وادّعى من أودعت عنده ردّها إلى المودع فلا يمين عليه إذا كان ثقة. (2)

وإذا وجب قبول قول فاطمة عليها السلام بدلائل صدقها وعصمتها واستغنت عن الشهود لها، ثبت أنّ الذي منعها حقّها واوجب عليها الشهود على صحّة قولها قد جار في حكمه وظلم في فعله وآذى الله تعالى ورسول الله (ص) بإيذاء فاطمة عليها السلام، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً . (3)


1- البيهقي، السنن الكبرى، ج8، ص123، كتاب القسامة؛ الصنعاني، عبد الرزاق، المصنف، ج8، ص273.
2- ابن حزم، المحلّى، ج8، ص277.
3- سورة الأحزاب: 57.

ص: 93

وأمّا ما ذكره من «زعمهم أنّ الحسن والحسين شهدا باطلاً» فمجرّد دعوى لا يعجز أحد عن الحكم ببطلانها، وما ذكره من «أنّ شهادة الفرع والصغير باطلة» مردود بأنّه كيف خفي على أمير المؤمنين (ع) باب مدينة العلم أنّ شهادتهما غير مقبولة للفرعيّة أو للصغر؟ ! ولو كان عالماً كيف أقامهما شاهدين؟ ! على أنّ عدم شهادة الفرع، إنّما ذهب إليه مستنداً بعمل أبي بكر فلا حجّة فيه.

وبعد الّتيا والّتي نقول: أين ذهب شرع الإحسان والتكرّم؟ ! ولم لم يعامل أبو بكر فاطمة عليها السلام في فدك ما عامل النبيّ (ص) زينب في التماسها عن المسلمين في أيّام عسرتهم، أن يردّوا إليها المال العظيم الذي بعثته لفداء زوجها أبي العاص حين أسر يوم بدر؟ ! كما فصّل ابن أبي الحديد ذلك في شرح نهج البلاغة. وعموماً لو استنزل أبو بكر المسلمين عن فدك واستوهبها عنهم كما استوهب رسول الله (ص) المسلمين عن فداء أبي العاص بأن قال:

«هذه

بنت نبيكم (ص) تطلب هذه النخلات افتطيبون عنها نفساً؟» أكانوا منعوها ذلك؟ ! وحيث لم يتأسّوا بالنبيّ (ص) في شرع الإحسان والتكرّم، فأقلّ ما يستحقونه هو اللعن، بمعنى البعد عن مرتبة الأبرار.

فإن قلت: يتوجّه على ما ذكره ابن أبي الحديد إنّما نمنع إمكان استيهاب أبي بكر فدكاً من المسلمين على قياس ما أمكن للنبيّ (ص) استيهاب ما بعثته زينب لأجل فداء أبي العاص؛ لأنّ المال الذي بعثته كان مشتركاً بين جمع محصور من المسلمين، وهم غزاة يوم بدر فأمكن الاستيهاب منهم، بخلاف فدك فإنّه كان صدقة مشتركة بين سائر المسلمين غير المحصورين. قلت: لو سلّم كثرة المشاركين في فدك فنقول: من البيّن أنّها على تقدير كونها صدقة، لكنّها لم تكن صدقة واجبة محرمة على أهل البيت عليهم السلام بل إنّما كانت صدقةً مستحبّةً مباحةً لهم أيضاً والصدقة المستحبة ممّا يجوز للإمام تخصيصها ببعض الناس كما رُوي من سيرة الثلاثة، سيّما عثمان من أنّه أعطى الحكم بن أبي العاص - طريد رسول الله (ص) - ثلث مال أفريقية، وقيل ثلاثين ألفاً. فلو كان أبو بكر في مقام التكرّم مع أهل بيت سيّد الأنام عليهم السلام، لخصّ فدكاً بفاطمة عليها السلام ولما جوّز إيذاءها المستعقب للطعن عليه والملامة.

ص: 94

والذي يدلّ على استحباب تلك الصدقة أنّ من جملة تركة النبيّ (ص) السيف والدرع والعمامة والبغلة، فلو كانت تركة النبيّ (ص) صدقةً واجبةً لكان كلّ ذلك داخلاً في التركة معدوداً من الصدقة الواجبة حراماً على أمير المؤمنين، فكيف جاز لهم ترك ذلك عنده؟ !

وكيف استحلّ أمير المؤمنين (ع) التصرّف في ذلك مع علمه بأنّه ممّا حرمه الله عليه؟ ! وأيضاً يدلّ عليه ما رواه ابن حجر من أنّ العباس رافع علياً إلى أبي بكر في مطالبته بالميراث من رسول الله (ص) من الدرع والبغلة والسيف والعمامة، وزعم أنّه عمّ رسول الله (ص) وأنّه أولى بتركة الرسول (ص) من ابن العمّ، فحكم أبو بكر بها لعلي (ع) .

وكذا يدلّ عليه ما مرّ روايته عن جلال الدين السيوطي الشافعي في (تأريخ الخلفاء) من أنّ فدكاً كانت بعد ذلك حبوة أبي بكر وعمر، ثمّ اقتطعها مروان وأنّ عمر بن عبد العزيز قد ردّ فدكاً إلى بني هاشم، وروى: إلى أولاد فاطمة.

وأنت خبير بأنّ جعل أبي بكر وعمر فدكاً حبوة لأنفسهما دون سائر المسلمين، يدلّ على أنّهما لو أرادا إعطاءها لفاطمة عليها السلام لما نازعهما أحد من المسلمين، ولما توجّه إليهما حرج في الدنيا والدين، لكن غلبتهم العصبيّة وملكتهم الحميّة الجاهليّة، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ . (الشعراء: 227

وأمّا ما نقله عن مولانا زين العابدين (ع) فظاهر أنّه افتراء، مع أنّ احتمال وقوعه تقيةً قائمٌ، ويدلّ عليه أنّه (ع) قد سلك في هذا المقال مسلك الابهام والإجمال حيث قال:

«لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به» ، ولم يقل كنت خليفة أو إماماً، فما ذكره (ع) بمنزلة قولنا: لوكنت في مكان الشيطان، وما هو فيه من الطغيان، لفعلت مثل ما يفعله من الشرور والعصيان. وحينئذٍ ليس في كلامه (ع) ما يدلّ على تصويب حكم أبي بكر.

وكذا الكلام فيما رواه عن الباقر (ع) ؛ لأنّه سُئل عن ظلم الشيخين ولم يقل (ع) في مقام الجواب أنّهما «ما ظلمانا» بل قال «ما ظلمنا» والظاهر أنّه يكون الضمير المستتر في «ظلمنا» راجعاً إلى ما هو الأقرب أعني «منزل الفرقان» وهو حقّ لا ريب فيه. هذا إن قرئ لفظ «ظلمنا» بصيغة الماضي المعلوم، وإن قرئ بصيغة المجهول فجاز حمل ضمير الجمع فيه على

ص: 95

نفسه (ع) ومن معه من أولاده وأصحابه، ومن البيّن أنّ أبا بكر وعمر لم يظلماه (ع) حقّه وإنّما ظلما حقّ جدّته وجدّه عليهما السلام.

وأمّا ما ذكره ممّا أخرجه الدارقطني، فهو أوهن من القطن المنفوش، لجواز أنّه (ع) أراد بقوله «وكان يكره أن يخالفهما» أنّه كان يكره ذلك لكراهة من كان هناك من أوليائهما المستصوبين لأعمالهما، وقد مرّ أنّه (ع) لم يكن يقدر على تغيير كثير من بدعهما لأجل ذلك، وأمّا ما ذكره من «أنّ فاطمة عليها السلام إنّما طلبت الميراث مع الرواية المذكورة؛ لاحتمال أنّها رأت الخبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به» ففيه أنّه لا مسوّغ لهذا الاحتمال؛ لأنّها عليها السلام حكمت ببطلان هذا الحديث من أصله ونسبته إلى الفرية، فالاشكال باقٍ بحاله، تأمله فإنّه من أهمّ المهمّات، ولو سلم بناء ما قالته فاطمة عليها السلام من أنّها رأت أنّ الخبر الواحد لا يخصص القرآن،

فهو رأيٌ قويٌّ لا يمكن لأبي بكر وأوليائه إتمام الكلام في إبطاله ولو عضّوا بالنواجذ؛ لأنّ الخبر الواحد إذا كان مخالفاً لكتاب الله تعالى يكون مردوداً لقوله (ص) في الحديث المتفق عليه بين الفريقين:

«إذا روى عنى حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن وافقه فاقبلوه، وإلا فردوه» .

إن قيل: لو صحّ هذا الخبر لما خصص الكتاب بالخبر المتواتر أيضاً، واللازم باطل.

قلنا: المراد بالحديث الواجب عرضه على الكتاب هو ما لم يقطع بأنّه حديثه (ص) كما دلّ عليه سياق الكلام، والمتواتر ليس كذلك كما لا يخفى.

دعوى عموم منع أبي بكر جميع أزواج النبيّ (ص) من الثمن

قال ابن حجر: «وتأمّل أيضاً أنّ أبا بكر منع أزواج النبيّ (ص) من ثمنهن أيضاً، فلم يخصّ المنع بفاطمة والعباس، ولو كان مداره على المحاباة لكان أولى من حاباه ولده؛ فلمّا لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئاً، علمنا على الحقّ المرّ الذي لا يخشى فيه لومة لائم» . (1)


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص51.

ص: 96

أقول : تأمّلنا فوجدنا أنّ تركة النبيّ (ص) ما عدا فدك على فرض كونها ميراثاً لا نحلة، لم تكن شيئاّ يعتدّ به، ولم يكن منها إلى كلّ من النساء إلى ما هو أقلّ من القليل كما لا يخفى على العالم بأخباره وأحواله (ص) ، ولما احتال أبو بكر في أخذ فدك من فاطمة عليها السلام بالحديث المذكور، ولم يعط بنته عائشة وسائر الأزواج من ثمن ميراث النبيّ (ص) ؛ تحرزاً عن تطرّق التناقض في قوله وفعله. وعموماً لم يكن في إيصاله الثمن القليل من تركة النبيّ (ص) إلى عائشة محبّة بالنسبة إليها، سيّما وقد أمكن له تلافيها عن حبوه فدك بأضعاف ذلك، فأحسن تأمله.

دعوى أن حجرات زوجات النبيّ (ص) ملكهن، والشيخان دفنا في حجرة عائشة بإذنها لكونها ملكها

قال ابن حجر: «لا يقال: أقرّ أبو بكر أمّهات المؤمنين في حُجُرهنَّ وكان يتعيّن صرفها للفقراء كما فعل في فدك، وكيف استجاز هو وعمر أن يدفنا معه (ص) مع قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ، ولم دفع لعليّ (ع) بغله وسيفه، وهو لايحلّ له الصدقة ولم كان أبو بكر وعمر يعطيان عائشة في كلّ سنة عشرة آلاف درهم؟ ! فهل هذا إلّا محاباة؟ ! إذ هو فاضل عن نفقتها المرتبة في تركة رسول الله (ص) من فدك وغيره، لأنّا نقول: الجواب عن الأول أنّ الحجر ملكهنّ أو اختصاصهنّ بدليل وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ، أو يحتمل أنّه قسّمها بينهنّ في حياته فلم يجز اخراجهنّ منها كما لم يخرج فاطمة من حجرتها. أو أنّه رأى الصلاح في اقرارها بأيديهنّ كيد فاطمة في حجرتها، ولأنّهنّ في حكم المعتدات لبقاء تحريمهنّ؛ ولهذا قال (ص)

«ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عيالي فهو صدقة» ، (1)فاستثناء نفقتهنّ صريح فيما قلناه، وعن الثاني أنّه كان حجرة عائشة ملكها واختصاصها ولم يدفنا فيها إلا بإذنها؛ ولهذا استاذنها عمر في ذلك ثم أوصى أن تستأذن بعد موته خوفاً أنّها لم تأذن أولاً إلا حياءاً منه،


1- أخرجه مالك، ج2، ص993؛ وأحمد، ج2، ص242؛ والبخارى، ج3، ص102٠؛ ومسلم، ج3، ص1382؛ وأبو داود، ج3، ص144؛ وأخرجه أيضًا: أبو عوانة، ج4، ص253؛ وابن حبان، ج14، ص58٠؛ والبيهقى، ج6، ص3٠2؛ وفي الجميع (مؤنة عاملي) .

ص: 97

وأيضاً فالرأي في الحجر كما كان له (ص) في حياته يكون لخليفته بعده. فيحتمل أنّهما أرادا ذلك لمصلحة رأياها، أو أنّه أذن لهما في حياته، أو أشار إليه، كما في قضية بئر أريس ووضع أحجار مسجد قبا وغيرهما، وقد أشار إليه أيضاً بكونهما أقرب الناس مكاناً له (ص) وأكثر ملازمة، وقد أوصى الحسن رضى الله عنه أن يدفن معهم فمنعه من ذلك مروان وغيره، فما أجابوا عنه كان جوابنا. وعن الثالث أنّه لم يدفع ذلك لعلي ميراثاً ولا صدقة لما مرّ، بل بطريق الوصية منه (ص) على ما ورد، وعلى فرض عدم الوصية فيحتمل أنّه دفعهما إليه عارية أو نحوها؛ ليستعين بهما في الجهاد ولتميزه على غيره بالشجاعة العظمى أوثر بذلك. وعن الرابع أنّ برّ أمّهات المؤمنين واجب على كل أحد، والإمام بذلك أولى على أنّه إنّما يتوجه أن لو خصّا عائشة وحفصة بذلك، بل

أعطياه لكل منهنّ وعلى أنّ علياً رضى الله عنه كان يفعله فإن توجه إليهما به عتب توجه إليه، وعلى أنّ علياً رضى الله عنه لم يكن معتقداً أنّه (ص) يورث وأنّ الشيخين ظلماه، وأنّه لمّا ولى صار مخلف رسول الله (ص) من الأرضين وغيرها بيده لم يغير شياً ممّا فعلاه، ولم يقسم لبنى العباس ولا لأمهات المؤمنين منها شيئاً، ولا لأولاده من فاطمة (رضى الله عنها) نصيبهم ممّا ورثته، فدلّ ذلك دلالةً قطعيةً على أنّ اعتقاده موافق لاعتقادهما كبقيّة الصحابة» . (1)

أقول : جميع ما ذكره في الجواب، خارج عن الصواب، وذلك لما يلي:

أمّا ما ذكره في الجواب عن الأوّل، فإنّنا نقول كيف لم يقم احتمال ملكية فدك في حقّ فاطمة عليها السلام عند ادعائها للنحلة كما سبق وقام هنا على وجه لم يقع حاجة إلى الفحص عنه أصلاً؟ ! مع أنّ احتمال ملكيّة الأزواج لبيوتهن ممّا أبطله إنشاد ابن عباس رضى الله عنه على عائشة حين مجيئها راكبة على بغلة لمنع أن يطاف بجنازة الحسن (ع) في حجرة النبيّ (ص) .

تجملت تبغلت وان عشت تفيلت لك التسع من الثمن وللكل تملكت (2)


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة.
2- في المناقب لابن شهر آشوب، ج 2، ص175، 1317 عند ذكر وفاة الحسن (ع) «قال ابن عباس فأقبلت عائشة في أربعين راكباً على بغل مرحّل وهي تقول: مالي ولكم؟ تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبّ؟ فقال ابن عباس بعد كلام: «تجملت وتبغلت ولو عشت تفيلت» .

ص: 98

وأمّا ما ذكره في قوله من احتمال الاختصاص، فليس فيه رجاء الخلاص؛ لأنّه إن أراد به الاختصاص التمليكي فهو الاحتمال الأول، وإن أراد به الاختصاص الارتباطي بالسكنى فيه ونحوها، فلا يفيد.

وقوله تعالى وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ لا يدلّ على الاختصاص التمليكي، وإلا لزم أن كلّ من قال لزوجاته مثلاً: قرن في بيوتكن. أن يكون ذلك صيغة تمليك لهنَّ، ولم يقل به أحد، بل ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الزوجة لا ترث من بيت الزوج لأدلّة مذكورة في كتب الفقه، وكذا ما ذكره من احتمال التقسيم سقيم؛ لأنّه إن أراد به ما هو على وجه التمليك فيرجع إلى الاحتمال الأوّل أيضاً وإن أراد به ما لم يكن على ذلك الوجه فلا يفيد أصلاً.

وأمّا ما ذكره من «إنّهنّ في حكم المعتدات لبقاء تحريمه» ، ففيه:

أنّ بقاء المعتدّات في بيوت الأزواج إنّما يجب في عدّة الطلاق الرجعي دون عدّة الوفاة ونحوها، فإنّ المعتدة الغير الرجعية لا تستحقّ عندنا وعند فقهاء أهل السنّة سكنى ولا نفقة، وأيضاً لا نسلّم بأنّ ما في حكم الشيء هو حكمه بحكم شيءٍ آخر، بل الحكم بذلك تحكُّمٌ على أنّ أكثر علمائنا ذهبوا إلى أنّ الزوجة إذا لم يكن لها ولد من الزوج المتوفّى لا ترث عن رقبة الأرض شيئاً وتعطى حصتها من قيمة الآلات والأبنية والشجر، وذهب بعضهم إلى أنّها إنّما تمنع من الدور والمساكن، وقيل ترث من قيمة الأرض لا من العين وعلى التقادير الثلاثة يدخل بيت المتوفّى من حين موته في ملك من عدا تلك الزوجة من الورّاث، فاعتدادها فيها يكون غير جائز عندنا بدون إذن الوارث.

وأمّا ما استدلّ على كونهنّ في حكم المعتدّات بقوله (ص) «ما تركت بعد نفقة نسائي. . .» ففيه:

إنّ النفقة والمؤنة لا تشمل البيت كما لا يخفى، فلا دلالة له على مدّعاه أصلاً.

وأمّا ما أجاب به عن الثاني من «أنّه كانت حجرة عائشة ملكها واختصاصها ولم يدفنا فيها إلّا بإذنها. . .» فمدفوع بما مرّ من عدم ثبوت الملكيّة وعدم جدوى الاختصاص، فإذنها لايجدي لها ولا لهما.

ص: 99

وأمّا ما زعمه من النقض بوصية الحسن (ع) أن يدفن معهم، فجوابنا عنه ظاهر، لأنّه (ع) ما أوصى إلّا أن يطاف بجنازته حول قبر النبيّ (ص) تجديداً للعهد له، فزعمت عائشة عند حمل جنازته (ع) إلى الروضة النبويّة، على مشرِّفها الصلاة والسلام والتحية، أنّهم يريدون دفنه عنده (ص) ، فركبت على البغلة مع مروان وجماعة من أتباعه للمدافعة، حتّى جرى بينها وبين ابن عباس رضى الله عنه ما نقلناه سابقاً، وآل الأمر إلى أن رموا جنازة الإمام الحسن (ع) بالسهام، ووصلت النّصال إلى بدنه الشريف (ع) .

وأمّا ما أجاب به عن الثالث بأنّه «لم يدفع ذلك لعلي [ (ع) ] ميراثاً ولا صدقة لما مرّ بل

بطريق الوصيّة منه (ص)» ، فمدفوع بأنّ المروي أنّ النزاع بينهما إنّما كان على وجه طلب الميراث، فإنّه لو كانت هناك وصيّة لما اتجه النزاع منهما، بخلاف الإرث فإنّه لما كان في أولوية العمّ من الأب فقط كالعباس، ومن ابن العمّ من الأب والأمّ معاً كعلي (ع) خلاف، اتجه نزاع علي والعباس ظاهراً والرجوع إلى أبي بكر وإيقاعهما لأبي بكر في ورطة حكمه ما يناقض حكمه سابقاً بأنّ الأنبياء لا يورثون، حيث حكم هنا بأولوية عليّ على العباس لما ذكر في فقه الفرائض من أنّ المتقرّب بالسببين أولى من المتقرّب بسبب واحد. وما يقال: إنّ أولويّة علي (ع) بالسيف والدرع والبغلة إنّما كانت لكونه أشجع وأقوى، ونصرة لدين الإسلام بها إنّما يتمّ في السيف والدرع دون البغلة، ولو سلّم فلا أقلّ من أن يصلح العباس للدرّاعة الّتي كانت من جملة المتنازع فيها أيضاً.

ثمّ من أين سمع أبو بكر وصيّة النبيّ (ص) فيها ولم يسمعه علي (ع) والعباس رضى الله عنه؟ ! فهل هذا إلّا ترويج المدعى بالظنّ والتخمين؟ ! وأمّا احتمال العارية فهو عار عن المعقول، وما ذكره في توجيهه ليس بوجيه.

وأمّا قوله «ولتميزه بالشجاعة العظمى. . .» فهو مناف لما تكلفه سابقاً من إثبات أشجعية أبي بكر فتذكر.

وأمّا ما أجاب به عن الرابع من «أنّ بر أمّهات المؤمنين واجب» فلا برّ فيه. ومن العجيب أنّ برّ أمّهات المؤمنين واجب وبرّ فاطمة البتول وفلذة كبد الرسول في قضيّة فدك لم يكن

ص: 100

واجباً؟ ! وهل هذا القول مع ذلك الفعل إلّا عناد وبغض لسيد الأبرار وآله الطاهرين الأخيار.

وأمّا ما ذكره في العلاوة الأولى من «أنّه لم يخص عائشة وحفصة بذلك» ، ففيه أنّه وإن لم يخصهما في أصل العطية لكن خصّهما بالزيادة، وإنّما أعطى غيرهما قليلاً تقليلاً لملامة الناس إيّاه.

وأمّا ما ذكره في العلاوة الثانية من «أنّ علياً [ (ع) ] كان يفعله» ففيه ما مرّ من أنّ الخلافة ما

وصلت إليه (ع) إلّا بالاسم دون المعنى. وقد كان (ع) معارضاً منازعاً منغصّاً طول أيّام ولايته، وكيف يأمن في ولايته الخلاف على المتقدّمين عليه؟ ! وجلُّ من بايعه وجمهورهم شيعة أعدائه، ومن يرى أنّهم مضوا على أعدل الأمور وأفضلها، وأنّ غاية أمر من بعدهم أن يتبع آثارهم ويقتفي طرائقهم.

وأمّا ما ذكره من «أنّ علياً رضى عنه الله لم يكن معتقداً أنّه يورث وأنّ الشيخين ظلماه» فيعارضه مرافعته (ع) مع العباس إلى أبي بكر في طلب ميراث النبيّ (ص) كما رواه هذا الشيخ الناسي في كتابه هذا، وما رواه مسلم في صحيحه: «قال عمر للعباس وعلي: فلمّا توفى رسول الله (ص) قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله (ص) فجئتما أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال: أبو بكر قال رسول الله (ص) «لا نورث ما تركناه صدقة» فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، والله يعلم أنّه لصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقّ؛ ثمّ توفى أبو بكر فقلت: أنا ولي رسول الله (ص) وولي أبي بكر فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً والله يعلم أنّى لصادق بارٌّ تابع للحقّ فوليتهما، ثمّ جئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فقلتما ادفعاها إلينا. (1)وهو صريح في اعتراف عمر باعتقادهما بإرث النبيّ (ص) وعدم اعتقادهما بخلافة عمر، بل بخلافة أبي بكر أيضاً لتوقّفها عليها ثمّ في هذا الحديث من سوء الأدب بالنسبة إلى النبيّ (ص) والعباس ما لا يخفى على المتأمّل.


1- صحيح مسلم، ج5، ص152، كتاب الجهاد، باب حكم الفيء.

ص: 101

وأمّا ما ذكره من «أنّه [ (ع) ] لم يغيّر شيئاً ممّا فعلاه. . .» فقد كان من قبيل إعماله للتقية فيه، وقد قال أصحابنا في وجه تركه (ع) فدكاً لمّا ولى الناس وجوهاً منها؛ رعاية التقية لما مرّ من أنّه (ع) لمّا رأى اعتقاد الجمهور بحسن سيرة الشيخين وأنّهما كانا على الحقّ، لم يتمكن من الإقدام على ما يدلّ على فساد إمامتهما لما في ذلك من الشهادة بالظلم والجور منهما، وأنّهما كانا غير مستحقين لمقامهما، وكيف يتمكّن من نقض أحكامهم وتغيير سننهم وإظهار خلافهم

على الجماعة التي يظنّون أنّهم كانوا مصيبين في جميع ما فعلوه وتركوه، وأنّ إمامته مبنية على إمامتهم فإن فسدت فسدت إمامته، وقد روي أنّه (ع) نهاهم عن الجماعة في صلوة التراويح التى أبدعها عمر فامتنعوا ورفعوا أصواتهم قائلين «واعمراه، واعمراه» حتى تركهم في خوضهم يلعبون.

ومنها ما رواه شيخنا الأجل ابن بابويه (رضوان الله عليه) في أوائل كتاب العلل مرفوعاً إلى الصادق (ع) قال الراوي: سألته لأىّ علّة ترك عليّ (ع) فدكاً لما ولي الناس؟ قال:

«للاقتداء برسول الله (ص) لمّا فتح مكّة وقد باع عقيل بن أبي طالب داره فقيل له: يا رسول الله ألا ترجع إلى دارك؟ فقال: هل ترك عقيل لنا داراً. . إنّا أهل بيت لا نسترجع شيئاً أخذ منّا ظلماً» (1) ، فكذلك لم يسترجع فدكاً لمّا ولي.

ومنها ما رواه باسناده إلى موسى بن جعفر عليهما السلام قال الراوي سألته عن اميرالمؤمنين (ع) لم لم يسترجع فدكاً لمّا ولي النّاس؟ فقال:

«لأنّا أهل بيت لا تأخذ حقوقنا ممّن ظلمنا إلّا هو ونحن أولياء المؤمنين أنما نَحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممّن ظلمهم و لا نأخذ لانفُسنا. (2)

شبهة أنّ المراد من النص التفصيلي المصرح بخلافة علي (ع) مرجعه إلى حجة الوداع

قال ابن حجر: «زعموا أن من النصّ التفصيلي المصرّح بخلافة علي [ (ع) ] قوله يوم غدير خم موضع بالجحفة مرجعه من حجّة الوداع بعد أن جمع الصحابة وكرر عليهم

«ألست أولى


1- علل الشرايع، ج1، ص155.
2- المصدر السابق.

ص: 102

بكم من أنفسكم» (1) ، ثلاثاً وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف ثمّ رفع يد على [ (ع) ] وقال:

«من كنت مولاه فعلى مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من

ابغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحقّ معه حيثما دار» ، (2)قالوا: فمعنى المولى الأولى، أي فلعليّ عليهم من الولاء ما له (ص) عليهم منه بدليل قوله «ألست أولى بكم» لا الناصر، وإلّا لما احتاج إلى جمعهم كذلك مع الدعاء له؛ لأنّ ذلك يعرفه كلّ أحد، قالوا: «ولا يكون هذا الدعاء إلّا لإمام معصوم مفترض الطاعة، قالوا فهذا نصٌ ّ صريحٌ صحيحٌ على خلافته» . (3)

للجواب عن هذه الشبهة نحتاج إلى مقدمة، وهي بيان الحديث ومخرجيه، وبيان أنّه حديث صحيح، وقد أخرجه جماعة، كالترمذي والنسائي وأحمد، وطرقه كثيرة جدّاً، ومن ثمّ رواه ستّة عشر صحابيّاً؛ وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ (ص) ثلاثون صحابيّاً وشهدوا به لعليّ لما نُوزع أيّام خلافته كما مرّ، وكثير من أسانيده صحاح وحسان ولا التفات لمن قدح في صحّته، ولا لمن ردّه بأنّ عليّاً كان باليمن لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحجّ مع النبيّ (ص) وقول بعضهم «إنّ زيادة اللّهم وال من والاه. . . موضوعة» مردود، فقد ورد ذلك من طرق صحّح الذهبي كثيراً منها. وعموماً فما زعموه مردود من وجوه نتلوها عليك وإن طالت وذلك لمسيس الحاجة إليها فاحذر أن تسأَمها وتغفل عن تأمّلها. أحدها أنّ الشيعة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلّ به على الإمامة، وقد علم نفيه لما مرّ من الخلاف في صحّة هذا الحديث، بل الطاعنون في صحّته جماعة من أئمّة الحديث وعدوله المرجوع إليهم فيه كأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهما، فهذا الحديث مع كونه آحاداً مختلفاً في صحّته؛ فكيف ساغ لهم أن يخالفوا ما اتفقوا عليه من اشتراط التواتر في أحاديث الإمامة ويحتجّون بذلك؟ ! وما هذا إلّا تناقض قبيح وتحكّم لا يعتضد بشيء من أسباب الترجيح.


1- الطبراني، المعجم الكبير، ج5، ص185؛ الأميني، الغدير، ج1، ص8.
2- القاضي المغربي، شرح الأخبار، ج1، ص99.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص52.

ص: 103

أقول : من الواضح أنّه لا يعتبر في تواتر الخبر والاحتجاج بتواتره كونه متواتراً عند جميع الناس، كما زعمه ابن حجر، بل يعتبر كونه متواتراً في الجملة، وإلّا فيشكل بالكتاب العزيز

فإنّه ليس بمتواتر عند الكلّ، ومن جميع الطرق اتفاقاً، فلا يلزم مناقضة الشيعة لأنفسهم في استدلالهم بذلك لإثبات الإمامة، فإنّهم يدّعون تواتره من طرقهم ومن بعض طرق أهل السنّة. فقد ذكر الشيخ عماد الدين ابن كثير الشامي الشافعي في تأريخه عند ذكر أحوال محمد ابن جرير الطبري الشافعي: إنّي رأيت كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلّدين ضخمين، وكتاباً جمع فيه طرق حديث الطير (1)، ونقل عن أبي المعالي الجوينى أنّه كان يتعجّب ويقول شاهدت مجلّداً ببغداد في يد صحّاف فيه روايات هذا الخبر مكتوباً عليه (المجلّدة الثامنة والعشرون من طرق «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» ويتلوه المجلّدة التاسعة والعشرون) (2)، ورواه ابن عقدة من الزيديّة في مائة وخمسة طرق، وأثبت الشيخ ابن الجزري الشافعي في رسالته الموسومة ب-( أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب) تواتر هذا الحديث من طرق كثيرة ونسب منكره إلى الجهل والعصبية. وعموماً قد بلغ هذا الخبر في التواتر والاشتهار إلى حدّ لا يوازى به خبر من الإخبار، وتلقّاه محققوا الأمّة بالقبول والاعتبار، فلا يردّه إلّا معاند جاحد، أو من لا اطلاع له على كتب الأحاديث والآثار، فاتّضح بطلان ما مهّده من المقدّمة وما بناه عليها من الوجه الذي لا يبيض وجهه عند الأخيار.

ثمّ أقول: إنّ في روايته لحديث الغدير خصوصاً من طريق استدلّ به الشيعة إهمالاً وإخلالاً لا يخفى؛ لأنّ مضمون الحديث على الوجه المتّفق عليه بين الطريق المنقول لقدماء العامّة وبعض طرق أصحابنا هو أنّه لما نزل حين رجوع النبيّ (ص) عن حجّة الوداع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أنزل إِلَيْكَ مِن رَّبكَ (3)، نزل النبيّ (ص) بغدير خمٍّ وقت الظهر الذي لم يكن نزول المسافر فيه متعارفاً في يوم شديد الحرّ حتّى إنّ الرجل كان يضع رداءه تحت


1- البداية والنهاية، ج11، ص167، حوادث سنة 310ه.
2- الصراط المستقيم، ج1، ص12؛ ابن جبير (جبر) ، نهج الإيمان، ص134.
3- سورة المائدة: 67.

ص: 104

قدميه من شدّة الحرّ، فأمر النبيّ (ص) بجمع الرحال وصعد عليها خطيباً بالناس ذاكراً في

خطبته أنّ الله تعالى أنزل عليه: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ؛ (1)لدنوّ لقاء ربه وأنّه يبلّغ ما أمره الله بتبليغه وتوعده إنْ لم يبلغه ووعده بالعصمة من الناس، ثمّ أخذ بيد علي (ع) وقال في جملة كلامه:

«ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه كيف دار» ، فلم ينصرف الناس حتّى نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، فقال النبيّ (ص) :

«الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضي الله تعالى برسالتي وبولاية عليّ بعدى» . (2)

ولا يخفى على من له شائبة من الإنصاف أنّ مخاطبة الله تعالى للنبيّ (ص) في آخر عمره ووداعه للدنيا بعد تبليغه الإسلام والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد وغيرها من أحكام الدين بقوله: وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (3)، ونزول النبيّ (ص) في زمان ومكان لا يتعارف فيهما النزول، وصعوده على منبر من الرحال؛ وقوله في حقّ أمير المؤمنين (ع) «من كنت مولاه فعلى مولاه» ، ودعاؤه له على الوجه المذكور ليس إلّا لأمر عظيم الشأن جليل القدر كنصبه للإمامة لا لمجرّد إظهار محبّته ونصرته ونظائرهما، سيّما مع قوله: «ألست أولى بكم من أنفسكم» ، ومع وقوع هذه الصورة بعد نزول الآية السابقة ونزول الآية اللاحقة بعدها لا بدّ أن يكون المراد من المولى المتولّي المتصرّف في أمور المسلمين لا الناصر والمحبِّ، ولا غيرهما من معاني المولى التي سيذكرها ابن حجر تقليداً لأصحابه في تجويز حمل الحديث عليها فكان المعنى على ما أوضحناه أنّ علياً (ع) هو الأولى بالتصرّف في حقوق الناس والتدبير لأمورهم بعدي، ولا معنى للإمامة إلّا هذا فتأمّل.


1- سورة المائدة: 67.
2- جامع الأخبار، ج3، ص14
3- سورة المائدة: 67.

ص: 105

قول عمر «أصبحت مولاي. . .» يدل على ولاية علي (ع)

قال ابن حجر: «لو سلّمنا أنّه أولى، لكن لا نسلّم أنّ المراد أنّه الأولى بالإمامة بل بالإتباع والقرب منه، فهو كقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه (1)، ولا قاطع بل ولاظاهر على نفى هذا الاحتمال، بل هو الواقع إذ هو الذي فهمه أبو بكر وعمر وناهيك بهما من الحديث، فأنّهما لما سمعاه قالا له: أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، أخرجه الدارقطني، وأخرج أيضاً أنّه قيل لعمر إنّك تصنع بعلىّ شيئاً لا تصنعه بأحد من أصحاب النبيّ (ص) ، فقال: إنّه مولاي» . (2)

أقول : هذا المنع ساقط جدّاً؛ لأنّ إرادة الأولى بأتباع النبيّ (ص) والقرب منه في هذه الآية ممّا يأبى عنه تقييد الأولى فيها بالأنفس؛ وذلك لأنّه لا معنى للأولويّة من الناس بنفس الناس إلّا الأولويّة في التصرّف، فقياس ما نحن فيه على قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه ، (3)قياس مع الفارق وهو باطل اتفاقاً، وأمّا ما ترقّى عنه بقوله:

«بل هو الواقع إذ هو الذي فهمه أبو بكر وعمر. . .» فهو بالإضراب والإعراض عنه أولى، إذ الظاهر أنّ هذا الفهم إنّما وقع من أوليائهما نيابةً عنهما، كذلك وقع إثباتهم لشجاعة أبي بكر بنيابة خالد بن الوليد له كما ذكره ابن حجر سابقاً، وإلّا فالمتواتر المشهور عند الجمهور المذكور في مسند أحمد بن حنبل مرفوعاً بسنده إلى البراء بن عازب أنّ عمر قال في ذلك اليوم تهنئةً للإمام علي (ع) على الولاية:

بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة، (4) ويؤيّده ما نقل هذا الشيخ بعيد ذلك من إخراج بعضهم أنّ عمر قال: «إنّ علياً مولاي» ؛ فتدبّر على أنّ فيما رواه عن أبي بكر وعمر من «أنّهما قالا له أمسيت. . .» دليل على علوّ شأنه وسموّ مكانته بالنسبة إلى جميع المؤمنين والمؤمنات، وهذا أيضاً دليل على إمامته إنْ لم يتشبث الناصبي بجواز تفضيل المفضول.


1- سورة آل عمران: 68.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص56.
3- سورة آل عمران: 68.
4- مسند أحمد، ج4، ص281، وفيه: أصبحت وأمسيت.

ص: 106

إنكار ابن حجر وجود النصّ الجلي على إمامة علي (ع)

قال ابن حجر: «ما المانع من قوله (ص) في خطبته السابقة يوم الغدير هذا الخليفة بعدى فعدوله إلى ما سبق من قوله من كنت مولاه. . . ظاهر في عدم إرادة ذلك، بل ورد بسند رواته مقبولون كما قاله الذهبي وله طرق عن علي رضى الله عنه قال: قيل له يا رسول الله من يؤمّ بعدك؟ فقال: «إن تؤمّروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، وان تؤمَّروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وان تؤمروا علياً - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم» . ورواه البزار بسند رجاله ثقات أيضاً، كما قال البيهقى: فهو يدلّ على أن أمر الإمامة موكول إلى من يؤمّره المسلمون بالبيعة وعلى عدم النصّ بها لعلي. وقد أخرج جمع، كالبزار بسند حسن والإمام أحمد وغيرهما بسند قوى، كما قاله الذهبي عن على رضى الله عنه أنّهم لما قالوا: استخلف علينا، قال: «لا ولكن أترككم كما ترككم رسول الله (ص)» ، وأخرج البزار أيضاً ورجاله رجال الصحيح: «ما استخلف رسول الله فاستخلف عليكم» ، وأخرجه الدارقطني أيضاً وفي بعض طرقه زيادة: «دخلنا على رسول الله (ص) فقلنا يا رسول الله استخلف علينا، قال: «لا أن يعلم الله فيكم خيراً يولّ عليكم خيركم» ، قال على (كرم الله وجهه) : «فعلم الله فينا خيراً فولّى علينا أبا بكر» فقد ثبت بذلك أنّه صرّح بأنّ النبيّ (ص) لم يستخلف، وأخرج الدارقطني عن أبي حنيفة أنّه لمّا قدم المدينة سأل أبا جعفر الباقر عن أبي بكر وعمر فترحّم عليهما، فقال له أبو حنيفة: أنّهم يقولون عندنا بالعراق إنّك تتبرأ منهما؟ ! فقال: «معاذ الله كذبوا وربّ الكعبة» . ثمّ ذكر لأبي حنيفة تزويج على بنته أم كلثوم بنت فاطمة من عمر وأنّه لو لم يكن لها أهلاً ما زوجه إيّاها، فقال له أبو حنيفة: لو كتبت إليهم. فقال: «لا يطيعوني بالكتب» . وتزويجه إيّاها يقطع ببطلان ما زعمه الرافضة، وإلا لكان قد تعاطي تزويج بنته من كافر على زعمهم الفاسد» . (1)

أقول : ما ذكره أوّلاً من

«أنّه ما المانع للنبيّ (ص) في خطبته السابقة من التصريح بقوله هذا


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص58.

ص: 107

الخليفة بعدى» مردود بجريان مثله في حقّ البارئ سبحانه، فلينازع مع الله تعالى في أنّه لم فعل ما يوجب حيرة المؤمنين؟ ! وقال على سبيل الإطلاق والإجمال أقيموا الصلاة من غير تصريح بعدد الفريضة وعدد السنّة، ولا بتعيين الوقت ولم ينزل آيةً لبيان عدد ركعاتها وكيفية أدائها في السفر والحضر، بل قال مبهماً أقيموا الصلاة ليتحير أمّة محمد (ص) ثمّ قال: بذلك الأسلوب وآتوا الزكاة من غير تعيين النّصاب فأوقع الاختلاف بين الفقهاء وأحوجهم في استنباط فروعها إلى الرؤى والاجتهاد فأدّى ذلك إلى تحقق ثلاث وسبعين فرقةً وقولاً في أمّة محمد (ص) وكذا الكلام في باقي أركان الشريعة، فإذا جاز مثل هذا الإجمال والإبهام فيما ذكر لئلا تكون بعثة محمد (ص) عبثاً، ويحصل بعده الفرق بين الجاهل والعالم، فلو عدل النبيّ (ص) أو الباري سبحانه في تعيين الإمام عن التصريح بالخلافة والإمامة إلى التصريح بما يراد فهما من أولوية التصرف، كان جائزاً بطريق أولى؛ لأنّ مسألة الإمامة عندنا عقليّة لما ارتكز في عقل العقلاء من أنّه يجب بعد النبيّ الخاتم (ص) وجود إمام لا يجوز عليه الخطأ للأدلّة الّتى كشف كتاب التجريد عنها الغطاء، فتدبّر.

وأمّا ما نقله عن الذهبي، فأول ما فيه أنّه لم يرض بمجرّد الكذب حتّى رفعه إلى علي (ع) ؛ على أنّ في المنقول من قوله (ص) :

«وإن تؤمّروا علياً ولا أراكم فاعلين» دلالة صريحة على علمه (ص) بأنّ القوم ينحرفون بعد وفاته عن علي (ع) ولا يرضون بإمامته، ويؤيّد ذلك ما رواه ابن المغازلى الشافعي في كتاب المناقب بإسناده قال:

«قال رسول (ص) لعلى بن أبي طالب (ع) : «إنّ الأمّة ستغدر بك» . (1)

وما رواه موسى بن مردويه الحافظ من الجمهور بإسناده إلى ابن عباس أنّه قال: خرجت أنا والنبيّ (ص) فرأينا حديقة فقال علي [ (ع) ]:

«ما أحسن هذه يا رسول الله؟ !» فقال (ص) : «حديقتك في الجنّة أحسن منها» ، ثمّ مررنا بحديقة فقال علي [ (ع) ]: «ما أحسن هذه يا رسول

الله (ص) ؟ !» ، قال حتّى مررنا بسبع حدايق فقال رسول الله (ص) لعلي [ (ع) ]:

«حدائقك في الجنّة


1- البخاري، التاريخ الكبير، ج2، ص174؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج3، ص14٠؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج11، ص216.

ص: 108

أحسن منها» ، ثمّ ضرب على رأسه ولحيته وبكى حتّى علا بكاؤه فقال علي [ (ع) ]:

«ما يبكيك يا رسول الله؟» ، قال (ص) : «ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتّى يفقدوني» . (1)

وكذا ما رواه هذا الشيخ في الباب الثاني فيما جاء عن أكابر أهل البيت في الثناء على الشيخين ممّا يدلّ على أنّ بني تميم وبني عدي كانا أعداء بني هاشم في الجاهليّة، وما ذكر في أوّل الخاتمة التي عقدها لبيان ما أخبر به (ص) ممّا حصل على آله من البلاء والقتل من قوله (ص) :

«إنّ أهل بيتي سيلقون بعدي من أمّتي قتلاً وتشريداً وأنّ أشدّ قوم لنا بغضاً بنو أميّة وبنو المغيرة وبنو مخزوم» . (2)

وفي رواية:

«إنّ أهل بيتي سيلقون بعدى بلاءاً وتشريداً وطرداً، وما ذكره في أواخر ذكر فضائل أهل البيت: ، من أنّه صحّ عن العباس شكايته إلى رسول الله (ص) ما يلقون من قريش من تعبيسهم وجوههم وقطعهم حديثهم عند لقائهم فغضب (ص) غضباً شديداً حتّى احمرّ وجهه ودر عرق بين عينيه» ، (3)وغير ذلك من الأخبار والآثار، وقد روى الخواجة ملا الاصفهانى الشافعي أنّه لم يكن بطن من بطون قريش إلّا وكان لهم على أمير المؤمنين (ع) دعوى دم أراقه في سبيل الله، والضغائن كانت في صدورهم.

وأمّا ما نقله عن الدارقطني عن أبي حنيفة، فهو إجمال ما فصّله الدميري الشافعي في كتاب حياة الحيوان وغيره في غيره وقد ذكر الدميري.

وأما ما ذكره من أنه (ع) ذكر لأبي حنيفة تزويج على (ع) بنته. . . فرواية الدميري خالية عنه، مع أنّ ذلك إنّما وقع تقيةً، كما تدلّ عليه، مضافاً إلى ما روي من طريقنا كصاحب الاستيعاب

من علماء الجمهور عند ذكر أم كلثوم: «إنّ عمر بن الخطاب خطب إلى علي [ (ع) ] ابنته أم كلثوم فذكر له صغرها فقيل له ردّك فعاوده فقال: علي [ (ع) ]:

«ابعث بها إليك فإن رضيت فهى


1- ابن أبي شيبة، المصنف، ج7، ص5٠2، باب فضائل علي (ع) ؛ الطبراني، المعجم الكبير، ج11، ص61؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج3، ص139.
2- الغدير، الأميني، ج8، ص25٠؛ مستدرك الحاكم، ج4، ص2487؛ ابن ماجة، سنن أبن ماجة، ج2، ص1366.
3- مسند أحمد، ج1، ص2٠8، حديث العباس وج4، ص165 حديث أبي عبد المطلب؛ ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج4، ص122؛ ابن حجر، الصواعق المحرقة، 496.

ص: 109

امرأتك» ، فأرسل بها فكشف عن إلية ساقها فقالت: لو لا أنّك أمير المؤمنين للطمت عينك.

وما روى ابن حجر من أنّ علياً (ع) لما أبى عن انكاح ابنته لعمر واستعذر بصغرها لم يكن يقبل منه ذلك العذر حتى ألجأه إلى أن يريها إيّاه فأرسلها إليه، فلمّا رآها عمر أخذ بها وضمّها إليه وقبلها، ثمّ اعتذر عن جانب عمر فيما فعله من الضمّ والتقبيل قبل وقوع العقد والتحليل بأنّها لصغرها لم تبلغ حدّاً تشتهي حتى يحرم ذلك ولو لا صغرها لما بعث بها أبوها؛ انتهى.

وإنّي لأقسم بالله على أنّ ألف ضربة على جسده (ع) واضعافه على جسد أولاده أهون عليه من أن يرسل ابنته الكريمة إلى رجل أجنبي قبل عقدها إيّاه ليريها فيأخذها ذلك الرجل ويضمّها إليه ويقبّلها ويكشف عن ساقها، وهل يرضى بذلك من له أدنى غيرة من عوامّ المسلمين لو لا علمه بأنّ الامتناع عن ذلك يؤدي إلى الوقوع فيما هو أعظم ضرراً من هذا ومن هلاك نفسه وأولاده أيضاً، وهو خوف ثوران الفتنة بين المسلمين وارتداد الخلق وافناء الدين؛ فسلّم (ص) وصبر واحتسب كما أمره رسول الله (ص) . فأنزل ابنته في ذلك منزلة آسية امرأة فرعون إذ الله يصف قولها: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (1)، ولعمري إنّ الذي كان قد ارتكبه فرعون في بني اسرائيل من قتل أولادهم واستباحة حريمهم في طلب موسى وما ادّعاه لنفسه من الربوبية، أعظم من تغلبه على آسية امرأته وتزويجه، وهى امرأة مؤمنة من أهل الجنة بشهادة الله تعالى بذلك، وكذلك سبيل الرجل مع أم كلثوم كسبيل فرعون مع آسية؛ لأنّ الذي ادّعاه لنفسه ولصاحبه من الإمامة ظلماً وتعدياً وخلافاً على الله ورسوله بدفع الإمام الذي ندبه الله ورسوله لها واستيلائه على أمور المسلمين، وحكمه في أموالهم وفروجهم ودمائهم بخلاف أحكام الله وأحكام رسوله أعظم عند الله من اغتصابه لألف فرج من نساء مؤمنات، دون فرج واحد،

كيف ومن البيّن أنّ اغتصاب الفرج المذكور والخبر فيه بعض من فروع غصبهم لمنصب الإمامة، وبيعتهم لأبي بكر فلتة لظهور أنّهم لو تركوا الإمامة لعلي (ع) وصار مستقلاً فيها،


1- سورة التحريم: 11.

ص: 110

لم يجترئوا على تكليفه بانكاح ابنته إيّاهم، ولم يقدروا على غصب فدك وغيرهما من المفاسد المشهورة، كبغي الناكثين والقاسطين، وخروج المارقين، وسمّ الحسن، وقتل الحسين عليهما السلام كما أشار إليه دعبل بن علي الخزاعي في قصيدته التائية المشهورة، حيث قال:

وما سهلت تلك المذاهب فيهم على الناس إلا بيعة الفلتات

فكيف لا يكون غصب الإمامة مع كونه مفوّتاً لنظام الكل أعظم من فوات واحد من المصالح الجزئية؟ ! وعموماً فإنّ عناية الأنبياء والأوصياء بمصالح الدين هي فوق اهتمامهم بمصالح النفس، كما صرّح به الفاضل النيشابوري الشافعي عند تفسير قوله تعالى في سورة يونس على نبينا وآله وعليه السلام رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (1)، حيث قال: لما قدّموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقالوا نَجِّنا وفي ذلك دليل على أنّ عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح انفسهم، وهكذا يجب أن تكون عقيدة كلّ مسلم موفق، انتهى.

وأمّا ما ذكره في آخر كلامه من لزوم تعاطي تزويج بنته من كافر، فمردود بأنّه إن أراد لزوم تزويجها ممّن هو كافر في الظاهر فبطلان اللازم ممنوع، وإن أراد من الكافر الحقيقي، فهو مسلم. وليس بناء الحكم الشرعي عليه، ولنذكر لتوضيح ذلك ما أفاده السيد المرتضى في كتاب (تنزيه الأنبياء) حيث قال: «فأمّا انكاحه (ع) فقد ذكرنا في كتاب الشافي الجواب عن هذا الباب مشروحاً وبيّنا أنّه (ع) ما أجاب عمر إلى انكاح بنته إلا بعد توعّد وتهدد ومراجعة ومنازعة وكلام طويل مأثور أشفق معه من سوء الحال وظهور ما لا يزال يخفيه منها، وأنّ العباس رضى الله عنه لمّا رأى أنّ الأمر يفضي إلى الوحشة ووقوع الفتنة سأله (ع) ردّ أمرها عليه ففعل

وزوّجها منه، وما يجري على هذا الوجه معلوم أنّه على غير اختيار ولا إيثار، وبيّنا في الكتاب الذي ذكرناه أنّه لا يمتنع أن يبيح الشرع أن يناكح بالإكراه ممّن لا يجوز مناكحته مع الاختيار ولا سيما إذا كان المنكح مظهراً للاسلام والتمسّك بسائر الشريعة، وبيّنا ان العقل لا يمتنع من


1- سورة يونس: 86.

ص: 111

مناكحة أنواع الكفار على سائر كفرهم وإنّما المرجع فيما يحل من ذلك أو يحرم إلى الشريعة وفعل أمير المؤمنين (ع) أقوى حجة من أحكام الشرع، وبيّنا الجواب عن الزامهم لنا بأنّه لو اكره على نكاح اليهود والنصارى لكان يجوز ذلك، وفرقنا بين الامرين بأن قلنا إن كان السؤال عمّا في العقل فلا فرق بين الامرين، وإن كان عمّا في الشرع فالاجماع يحظر أن ينكح اليهودي على كل حال. وما أجمعوا على حظر نكاح من ظاهره الاسلام وهو على نوع من القبح يكفر به إذا اضطررنا إلى ذلك وأكرهنا عليه، فإذا قالوا فما الفرق بين كفر اليهود وكفر من ذكرتم، قلنا لهم أيّ فرق بين كفر اليهودية في جواز نكاحها عندكم وكفر الوثنية؟ !» انتهى. (1)

وهو كاف شاف إن شاء الله وههنا تفاصيل مذكورة في كتابنا الموسوم بمصائب النواصب فليرجع إليه من أراد، والله الموفق للسداد.

إنكار ابن حجر عصمة الإمام علي (ع)

قال ابن حجر: «وقولهم: هذا الدعاء وهو قوله (ص) : «اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه» ، لا يكون إلّا لإمام معصوم، دعوى لا دليل عليها إذ يجوز الدعاء بذلك لأدنى المؤمنين فضلاً عن أخصّائهم شرعاً وعقلاً؛ فلا يستلزم كونه إماماً معصوماً. وأخرج أبو ذرّ الهروي أنّ رسول الله (ص) قال: «عمر معي وانا مع عمر، والحقّ بعدى مع عمر حيث كان» ، ولا قيل بدلالته على إمامة عمر عقب وفاة النبيّ (ص) ولا على عصمته. ثمّ إن أرادوا بالعصمة ما ثبت للأنبياء قطعاً فباطل أو الحفظ فهذا يجوز لدون عليّ من المؤمنين، ودعواهم وجوب عصمة الإمام مبنى على تحكيمهم العقل، وهو ما بني عليه باطل؛ لأمور بيّنها القاضي أبو بكر

الباقلانى في كتابه في الإمامة أتم بيان وأوفى تحرير» . (2)

أقول : لا يخفى على من له أدني معرفة بأساليب الكلام ومقتضيات الحال والمقام، أنّ هذا الدعاء لا يليق إلّا بمن كان له أولياء ويحتاج إلى النّصرة ويحذّر من الخاذل ولا يكون هذا


1- تنزيه الانبياء، ص 278.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص6٠ و 61.

ص: 112

الإنسان إلّا سلطان أو إمام. نعم، لا يستلزم ذلك الدعاء كون الإمام معصوماً، لكن التقييد بالمعصوم هنا إنّما هو من إضافات هذا الشيخ المخطئ، ولا يستدعي دعوى اختصاص الدعاء المذكور بالإمام اتصافه بالعصمة وإن كان الإمام عند الشيعة يجب أن يكون متّصفاً بالعصمة في الواقع؛ فافهم.

وأمّا ما أخرجه أبو ذرّ الهروي الخارجي، فاللائح عليه وضعه في مقابل ما روى في شأن علي (ع) في الحديث المتفق عليه المشهور، وهو:

«على مع الحقّ والحقّ مع على، يدور الحقّ معه كيفما دار» (1)فلظهور وضعه لم يلتفتوا إلى دلالته على إمامة عمر.

وأمّا ما ذكره من «الترديد في عصمة الإمام» فمردود بأنّنا قد بيّنا سابقاً أنّ الإمامة نيابة عن النبيّ في أمور الدين والدنيا فيعتبر فيها ما اعتبر في النبوّة، بل الإمام أحوج إلى ذلك لأنّ النبيّ مؤيد بالوحي بخلاف الإمام. وقد ذكرنا هناك من الحجج العقليّة والنقلية ما يفيد القطع، فما زعمه هذا الباطل من البطلان باطل قطعاً، وكذا ما زعمه من بناء دعوى وجوب عصمة الإمام على تحكيم العقل، فإنّ ما قدمناه من الأدلّة براهين عقليّة قطعيّة لا أبتناء لشيء منها على تحكيم العقل في الحسن والقبح؛ على أنّ تحكيم العقل فيهما مع موافقة جمهور المعتزلة والماتريديّة الحنفيّة فيه قد أقيمت عليه براهين عقليّة لا يمكن لمن تفرّد بالخلاف فيه من الأشاعرة القدح فيها ولو عضّوا بأسفانهم الحجر، وقد فصّلنا الكلام في ذلك في شرحنا لكتاب كشف الحقّ فليرجع إليه.

شبهة أنّ النص التفصيلي في الإمامة مختص عند الاستخلاف على المدينة والردّ عليها

قال ابن حجر: «زعموا أن من النصّ التفصيلي على إمامة على قوله (ص) له لمّا خرج إلى تبوك واستخلف على المدينة:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي» (2)قالوا


1- ابن جبرئيل القمي، الفضائل، ص145؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، ج7، ص235؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج14، ص322، وفيهما: «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» بدل «يدور معه. . .» ؛ الأمين، أعيان الشيعة، ج3، ص381.
2- صحيح مسلم، ج7، ص12٠.

ص: 113

ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوّة ثابتة لعلي من النبيّ (ص) وإلا لما صحّ الاستثناء، وممّا ثبت لهارون من موسى استحقاقه الخلافة عنه لو عاش بعده إذ كان خليفته في حياته فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان لنقص فيه. وهو غير جائز على الأنبياء، وأيضاً فمن جملة منازله منه أنّه كان شريكاً له في الرسالة ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقى بعده، فوجب ثبوت ذلك لعلي إلّا أن الشركة في الرسالة ممتنعة في حقّ علي فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمّة بعد النبيّ (ص) عملاً بالدليل بأقصى ما يمكن. وجوابها أنّ الحديث إن كان غير صحيح كما يقوله الآمدي فظاهر وإن كان صحيحاً كما يقوله أئمّة الحديث، والمعول في ذلك ليس إلّا عليهم كيف وهو في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وهم لا يرونه حجّة في الإمامة، وعلى التنزّل فلا عموم له في المنازل بل المراد ما دلّ عليه ظاهر الحديث أنّ علياً خليفة عن النبيّ (ص) مدّة غيبته بتبوك كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدّة غيبته عنهم للمناجاة وقوله: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ (1)لا عموم له حتّى يقتضى الخلافة عنه في كلّ زمن حياته وزمن موته؛ بل المتبادر منه ما مرّ أنّه خليفة مدّة غيبته فقط. وحينئذ فعدم شموله لما بعد وفاة موسى (ع) إنّما هو لقصور اللّفظ عنه لا لعزله كما لو صرّح باستخلافه في زمن معين، ولو سلمنا تناوله لما بعد الموت وأنّ عدم بقاء خلافته بعده عزل له لم يستلزم نقصاً يلحقه، بل إنّما يستلزم كمالاً له أيّ كمال لأنّه يصير بعده مستقلاً بالرسالة والتصرّف من الله تعالى، وذلك أعلى من كونه خليفةً وشريكاً في الرسالة. سلمنا أن

الحديث يعم المنازل كلّها، لكنّه عامّ مخصوص إذ من منازل هارون كونه أخا نبيّ والعامّ المخصوص غير حجّة في الباقي أو حجّة ضعيفة على الخلاف فيه ثمّ نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى (ع) لو فرض إنّما هو للنبوّة لا للخلافة عنه وقد نفيت النبوّة هنا لاستحالة كون علىّ نبياً، فيلزم نفى مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر فعلم ممّا تقرر أنّه ليس المراد من الحديث مع كونه آحاداً لا يقاوم الإجماع إلّا إثبات بعض المنازل الكائنة لهارون من موسى وسياق


1- سورة الأعراف: 142.

ص: 114

الحديث وسببه يبيّنان ذلك البعض لما مرّ أنّه إنّما قاله لعليّ حين استخلفه فقال علي كما في الصحيح: «أتخلفنى في النساء والصبيان؟ !» كأنّه استنقص تركه وراءه فقال له: «إلا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ !» يعنى حيث استخلفه عند توجهه إلى الطور إذ قال له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ (1)، وأيضاً فاستخلافه على المدينة لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كلّ معاصريه افتراضاً ولا ندباً، بل كونه أهلاً لها في الجملة؛ وبه نقول وقد استخلف (ص) في مرار أخرى غير علىّ كابن أم مكتوم ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنّه أولى بالخلافة بعده» . (2)

أقول : يظهر من تفرّد الآمدي من بين جميع المتسمّين بأهل السنّة ومحدّثيهم بنفي صحّة الحديث أنّه لما ظهر عليه قوة دلالة هذا الحديث على إمامة علي (ع) التجأ إلى القدح في صحّته كما هو دأب قومه، وإنّما لم يوافقه غيره من المتأخرين في ذلك لما رأوه من غاية الشناعة في إنكار صحّة ما ملأ به المتقدمون كتبهم، ولعمري لو تفطّن متقدّموهم لذلك لأخفوه ولم يكثروا من ذكره كما هي عادتهم في جحد الحقّ والشهادة بالباطل كما تشهد به مؤلفاتهم، إذ كلّ ما ندعيه فيه شواهد من كتبهم نصوص أئمتهم ممّا لا يقدرون على إنكاره في خيار كتبهم عن خيار مصنفيهم وقد أوضحنا ذلك في هذا التعليق بعون وليّ التوفيق، ولتوجه الشناعة ترى المتأخرين منهم قد عدلوا عن القدح في صحّة سنده، بل ذهبوا إلى القدح في دلالة متنه

بالتأويل والتخصيص الذي هو أشنع من الأوّل كما أتى به ابن حجر، ولا يخفى أنّه يظهر ممّا فعله الآمدي أنّه لا يبالي بما في الصحيحين ولا يعتقد بصحّة ما فيهما من الأحاديث كلّاً أو بعضاً، فأحفظ هذا.

وأمّا ما ذكره من «أنّ الشيعة لا يرون أخبار الآحاد حجّة في الإمامة» فهب أن يكون كذلك لكنّهم جعلوا الاحتجاج بها إلزامياً لأهل السنّة، فلا يلزم أن يكون جميع دلائلهم على هذا المطلب تحقيقياً.


1- سورة الأعراف: 142.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص61 و 62.

ص: 115

وأمّا ما ذكره بعده التنزّل فهو أنزل ممّا تنزل منه لأنّ ما أتى به فيه من إنكار العموم منع للمقدمة المستدل عليها، حيث استدلّ الخصم على العموم بما نقله من قولهم، وإلا لما صحّ الاستثناء فافهم.

وقوله «بل المراد. . .» مردود بأنّ الكلام في الدلالة لا في الإرادة، وأنّى له إثبات المراد وكيف يبقى بعد ظهور دلالة اللّفظ على عموم المنازل دلالة ظاهرة للفظ الحديث على ما ذكره من التخصيص المخالف للأصل والظاهر؟ !

وأمّا ما ذكره من «أنّ قول موسى (ع) : اخلفني في قومي لا عموم له. . .» ففيه أنّه إن لم يكن له عموم بحسب الصيغة لكنّه يفيد العموم بحسب العرف كما في قولنا: «اللّهم وفقنا لما تحب وترضى» فكما أنّ العرف يفهم هنا العموم لا طلب التوفيق في وقت دون وقت، فكذا فيما نحن فيه؛ ويفهم من ذلك أنّ المطلوب الخلافة الثابتة مدّة حياة الخليفة لا الخلافة المستعقبة للعزل، ولأنّ الغرض من ذلك الاستخلاف هو مراعاة مصالح الرعيّة؛ وذلك بعد الموت أهمّ إذ مراعاتها وقت الغلبة ممكنة للمستخلف، وأمّا بعد الموت فغير ممكنة، وبالجملة لا خفاء في كون ذلك ظاهراً في العموم؛ وبناء الدليل على الظاهر والعدول عنه من غير ضرورة غير جائز. وأمّا تخصيص الخلافة بوقت معين فمن الظاهر أنّه خلاف الظاهر فكيف يدعى كونه متبادراً.

وأمّا ما ذكره من «أنّ عدم الشمول لما بعد الوفاة إنّما هو لقصور اللّفظ» فإنّما نشأ عن قصور فهمه، وإلا فاللفظ قد خيط على قدِّ المعنى سواءٌ بسواءٍ كما عرفت.

وأمّا ما ذكره من «أنّ عزل هارون عن الخلافة بعد موسى (ع) كمال له لأنّه يوجب

استقلاله في الرسالة وأنّ ذلك أعلى من كونه خليفة له وشريكاً في رسالته» فمردودٌ بأنّه لو سلم أنّه كان شريكاً له في النبوّة والرسالة، فلا يلزم استقلاله فيها بعد وفاة موسى (ع) ، إذ الشركة لا تقتضي استقلال التصرف في حصة الشريك بعد وفاته لجواز ضم آخر إليه بدله؛ على أنّه إذا كان هارون شريكاً لموسى في النبوّة غير مستقل فيها كما هو صريح عبارته فيلزم منه أن يكون موسى (ع) أيضاً كذلك، ولم يقل أحد بأنّهما عليهما السلام كانا نبياً واحداً مستقلاً، وهو ظاهر. وأيضاً لو صحّ ذلك لما تميز عن هارون بكونه من أولي العزم دونه، ولما نسب نزول

ص: 116

التوراة إليه وحده، ولما نسب بنو إسرائيل إلى كونهم أمته وحده، فظهر أن المراد بقوله: أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (1)المشاركة في دعوة فرعون ونحوه من الأمور، وكذا المراد باستخلافه بهارون كونه خليفة فيما يختص بموسى (ع) من أحكام نبوته، بل الظاهر أنّه لا معنى لعدم الاستقلال في النبوّة سواءٌ كان النبيّ مبعوثاً إلى نفسه أو إلى غيره أيضاً، فتأمّل.

وأمّا ما ذكره من «أنّ العامّ المخصوص غير حجّة في الباقي أو حجّة ضعيفة» ، فضعيف جدّاً لأنّ المحققين من أئمّة الأصول متّفقون على كونه حجّة في الباقي، والمخالف شاذٌّ لايعتدّ به، لكنَّ هذا الشيخ الجاهل قلب الأمر في نسبة القوة والضعف إلى المذهبين؛ ترويجاً لما هو في صدده هنا وإلا فقد تراه في غيره من المطالب على خلاف ذلك كما يشهد به كتب أصحابه من الشافعية في الأصول.

وأمّا ما ذكره من «أنّ نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض إنّما هو للنبوّة لاللخلافة» ، فهو مجرّد دعوى لا دليل عليه أصلاً؛ ولم لا يجوز أن يكون بالأمرين معاً؟ ! ففي لوازم نبوة نفسه بها وفي إجراء أحكام نبوة موسى (ع) بالخلافة عنه، ويؤيد هذا ما رواه محمد الشهرستاني الأشعري عند بيان أحوال اليهود في كتاب (الملل والنحل) ، حيث قال: إنّ الأمر كان مشتركاً بين موسى وبين أخيه هارون عليهما السلام إذ قال: أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي فكان هو الوصيّ، فلمّا مات هارون في حياته انتقلت الوصاية إلى يوشع وديعة، ليوصلها إلى شبير وشبر قراراً؛

وذلك لأنّ الوصيّة والإمامة بعضها مستقرٌّ وبعضها مستودعٌ، وهو نصّ في أنّ المراد بالمنزلة في حديث المنزلة هو الوصاية والخلافة.

وأمّا ما ذكره بقوله «فعلم بما تقرر أنّه ليس المراد» إلخ، فهو مردود بما علمت من عدم تقرر ما ذكره بل كان ذلك كالرقم على الماء والنقش في الهواء.

وأمّا ما ذكره من «أن الحديث مع كونه آحاداً لا يقاوم الإجماع» ، ففيه ما قد بيّنا سابقاً من بطلان انعقاد الإجماع على خلافة أبي بكر وأنّه لغايةٌ وهنةٌ، ربما يقاومه ما هو أوهن من بيت العنكبوت، فضلاً عن الخبر الواصل إلى حدّ التواتر في الصحّة والثبوت.


1- سورة الأعراف: 142.

ص: 117

وأمّا ما استدلّ به على مطلوبه من دلالة السياق بمعونة الدليل المنفصل من موضوعات البخاري ومعونة تفسيره للآية بما شاء، فلا يخفى وهنه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا التفسير البارد الفاسد الذي هو إمّا زلّة عالمٍ فاضلٍ أو افتراء كاذبٍ فاسقٍ، ونحمده تعالى على السلامة من ذلك.

وأمّا ما ذكره في آخر كلامه من أنّ «وأيضاً فاستخلافه على المدينة لا يستلزم. . .» ، فمقدوح بأنّ الإجماع من الأمّة حاصل على أنّ هؤلاء لا حظّ لهم بعد الرسول (ص) في إمامة ولا فرض طاعة، وذلك دليل ظاهر على ثبوت عزلهم وأيضاً الفرق ظاهر؛ لأنّه (ص) عزل ابن أم مكتوم بتولية علي (ع) ولم يعزل عندما عرف أنّه آخر غزواته، ولو عرف أنّ غيره يقوم مقامه في الحروب وكشف الكروب لاستخلفه في جميع غزواته، ولو عرف (ص) بوقوع قتال في تبوك ما تركه في المدينة كما قال ابن الجوزي حين قيل له: هل جرى في تبوك قتال؟ قال: قعدت الحرب الشجاع فمن يقاتل؟ ! ولو لم يكن في هذه المنقبة الشريفة إلّا عزل الغير وتوليته لكفاه شرفاً ونبلاً، وأصحابنا - كثّرهم الله - لم يستدلّوا بمجرّد الاستخلاف بجميع الأمور للإجماع على هذا، وعدم القائل بالفرق، وهذا أقوى من استدلالهم بإمامة أبي بكر في الصلاة على تقدير صدقها كما لا يخفى على أنا لو أعرضنا عن دلالة الحديث على الخلافة نصّاً، فنقول لا يشكّ عاقل أنّ منزلة هارون من موسى أعظم من منزلة غيره من أصحاب موسى (ع) فكذا منزلة علي (ع) ، فهي أعظم وأقوى من منزلة غيره من أصحاب النبيّ (ص) فيكون أولى

بالإمامة من غيره بعده؛ وممّا يؤيّد ذلك ما أخرجه صاحب جامع الأصول في صحيح النسائي عن علي (ع) أنّه قال: «كانت لي منزلة من رسول الله (ص) لم تكن لأحد من الخلائق» .

دعوى عدم صحّة النصوص التفصيلية في الإمامة

قال ابن حجر: «زعموا أيضاً أن من النّصوص التفصيلية الدالّة على خلافة علي قوله (ص) لعلي:

«أنت أخي ووصيي، وخليفتي وقاضي ديني» (1)، أي بكسر الدال وقوله: «أنت سيّد


1- شرح إحقاق الحقّ، ج2٠، ص236.

ص: 118

المسلمين وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين» ، (1)وقوله (ص) : «سلّموا على عليّ بإمرة الناس» . (2)أنّ هذه الأحاديث كذب باطلة موضوعة مفتراة عليه (ص) لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ . ولم يقل أحد من أئمّة الحديث أن شيئاً من هذه الأكاذيب بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها، بل كلّهم مجتمعون على أنّها محض كذب وافتراء؛ فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبة على الله ورسوله وعلى أئمّة الإسلام ومصابيح الظلام أنّ هذه الأحاديث صحّت عندهم، قلنا لهم هذا محال في العادة؛ إذ كيف تتفرّدون بعلم صحّة تلك مع أنّكم لم تتصفوا قط برواية ولا صحبة محدّث، ويجهل ذلك مهرة الحديث وسباقة الذين أفنوا أعمارهم في الأسفار البعيدة لتحصيله وبذلوا جهدهم في طلبه وفي السعي إلى كلّ من ظنّوا عنده شيئاً منه حتّى جمعوا الأحاديث ونقبوا، عنها وعلموا صحيحها من سقيمها ودوّنوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير. وكيف والأحاديث الموضوعة جاوزت مئات الألوف وهم مع ذلك يعرفون واضع كلّ حديث منها وسبب وضعه الحامل لواضعه على الكذب والافتراء على نبيّه (ص) ، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنّا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحة الدالّة صريحاً على خلافة أبي بكر كخبر:

«اقتدوا بالذين من بعدى» (3) وغيره من الأخبار الناصّة على خلافته

الّتى قدّمتها مستوفاة في الفصل الثالث، قالوا هذا خبر واحد فلا يغنى فيما يطلب فيه اليقين وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النصّ على خلافة عليّ أتوا إمّا بأخبار لا تدلّ بزعمهم كخبر: «من كنت مولاه» وخبر «أنت منى بمنزلة هرون من موسى» (4)، مع أنّها آحاد وأمّا بأخبار باطلة كاذبة متيقنة البطلان واضحة الوضع والبهتان لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة الّتي هي أدنى مراتب الآحاد، فتأمّل في هذا التناقض الصريح والجهل القبيح. لكنهم لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحقّ يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم


1- شرح احقاق الحقّ، ج4، ص11.
2- السيرة الحلبية، ج3، ص338.
3- مسند أحمد، ج5، ص382.
4- الترمذي، ج5، ص641.

ص: 119

الفاسد وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنّه كذب موضوع مختلق ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنّه آحاد وإن اتفق أولئك على صحّته وتواتر روايته تحكماً وعناداً وزيغاً عن الحقّ؛ فقاتلهم الله ما أجهلهم واحمقهم» . (1)

أقول : أمّا الحديث الأوّل فهو مذكور في مسند أحمد بن حنبل من عدّة طرق بألفاظ متقاربة، (2)وكذا رواه الثعالبي في تفسيره (3)وابن المغازلى (4)في كتاب (المناقب) بأدنى تغيير، فنسبة الشيعة في رواية ذلك إلى الافتراء والارتياب، كما أتى به ابن حجر في الجواب إنّما نشأ من العجز والاضطراب عنده في كيفيّة التعامل مع ما ورد منقولاً عن الجميع بوتيرة واحدة.

وأمّا الحديث الثاني والثالث، فهما من المتواترات في الطبقة الأولى كافة، وإنّما انقطع تواتره في أواخر تلك الطبقة سيّما بنو أميّة وأتباعهم، المنحرفون عن النّصوص عليه، المانعون لظهور نقلها على الكافة، فصار الخوف منهم موجباً لكتمان جمهور الطبقة الثانية الموجودين في حاقّ زمان ملكهم بذلك وبقى بين الشيعة بحاله مستسرين في نقله طائفة بعد طائفة.

إن قيل: كيف يجوز على العدد الكثير وعلى من تتواتر به الأخبار من جماعة أهل السنّة أن

يكتموا خبراً تحتاج إليه الأمّة أشدّ الاحتياج، وهو في الأمر العظيم الخطير الشريف الرفيع وقد توعّدوا على كتمانه ووعدوا على إذعانه لبعض ما ذكرتم من الأسباب الفاسدة والأغراض الكاسدة، ولو جاز هذا عليهم لجاز عليهم تعمّد الكذب فيما شاهدوا وعاينوا، وما الفرق بين الكتمان والكذب؟ !

قلنا: نحن لا نجيز وقوع الكتمان من العدد الكثير إلّا بعد أن يتغير حالهم ويحتال عليهم محتال في إدخال شبهة عليهم يزيلهم بها عن دينهم، فإذا تغيّرت الحال وعملت الشبهة وزال القوم عن الدين أمكن أن يعرضوا عمّا قد سمعوه وعاينوه، فإذا اعرضوا أمكن وقوع الكتمان


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص62و 63.
2- مسند أحمد، ج1، صص 84 و 119 و152 و ج4، صص281 و372 و ج5، صص347 و 366.
3- ثمار القلوب، ص511.
4- ابن المغازلي، المناقب، ص19.

ص: 120

على الأيّام وتطاولها وما يعرض فيها من غلبة سلطان جائر يقصد الذين يدينون دين الحقّ فيقتلهم ويشرّدهم ويخوّفهم حتّى يسكت العلماء ويتخذ الناس رؤساء جهّالاً فسّاقاً كمعاوية ويزيد، فيَضِلون ويُضِلّون، والدليل على صحّة ما ادعيناه أنّنا وجدنا من أمّة موسى (ع) ما تغيّرت حالهم وتمكّنت الشبهة في قلوبهم أعرضوا عمّا كانوا سمعوه ووعوه من قول موسى (ع) وارتّد الذي لا مثل له ولم يلتفتوا مع ما في عقولهم من أنّ الصانع لا نسبة لصنعه إلى صنعة السامري إلى ما كان يذكرهم به هارون (ع) وهمّوا بقتله وقالوا: قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (1)، هذا عند ما قال لهم هارون: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إنّما فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أمري (2)، وبين وقوع الكتمان على هذه الجهة وبين وقوع الكذب فرقٌ واضحٌ، وهو أنّ الكتمان إذا وقع على هذه الجهة وقع شبهةً يمكن معها أن يتوهّم القوم أنّهم على صواب ما، والكذب لا يمكن وقوعه من هذه الجهة. ألا ترى أنّه يمكن للمحتالين من الرؤساء أن يقولوا للقوم الذين سمعوا خبراً أنّ معنى هذا الكلام وغرض المخاطب لكم به لم يكن ما سبق إلى قلوبكم وقد غلطتم وأخطأتم، ونحن

أعلم بمراده ومقصوده، وإن أنتم لا تقبلوا منّا أفسدتم الإسلام، فعند ذلك يتمكن الشيطان وينجوا الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ولا يمكن للرؤساء أن يقولوا لهم تعالوا حتّى نتخرّص خبراً نصنعه ونذيعه؛ لأنّهم إذا قالوا ذلك كشفوا عمّا تخفيه صدورهم وظهر أمرهم للعامّة وتبيّن نفاقهم، فصحّ بما قررنا أنّ الكتمان يجوز وقوعه على وجه لا يجوز وقوع الكذب معه، وعموماً يجوز أن يكون السبب في انقطاع تواتر الخبر أو كتمانه دخول الشبهة لهم في نسخه بما رووه من قوله (ص)

«الأئمة من قريش» ، (3)أو أن يكون لترك عمل الصحابة بالنّص ترجيحاً لرأيهم، كما وقع عن عمر، حيث قال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وأنا أنهى


1- سورة طه:91.
2- سورة طه:9٠.
3- صحيح مسلم، ج6، ص129.

ص: 121

عنهما وأعاقب عليهما» (1)، وكما قال أبو حنيفة في مقابل نصّ النبيّ (ص) على مشروعيّة القرعة في بعض المشتبهات ومشروعيّة إشعار الهدى في الحجّ: «أنّ القرعة قمار والإشعار مثله» (2)، أو لطمعهم في ترك النقل التقرب إلى ملوك بني أميّة ومن قبلهم ومن بعدهم من الملوك الذين سلكوا مسلكهم في بغض أهل البيت عليهم السلام أو كما قاله النيشابوري الشافعي في تفسير سورة (طه) من أنّ الدليل قد يكون في غاية الظهور، ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفيت على آدم (ع) عداوة إبليس وأنّه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع عن السجود له، فكيف قبل وسوسته لولا كتاب من الله سبق، وإذ يعلم من هذا أنّ مجرّد ظهور أدلّة الشيعة على الإمامة ونحوها من مطالبهم في نفس الأمر لا يوجب عدم خفائها على أهل السنّة وكذا بالعكس.

وبعبارة أخرى، لا وجه لأن يقال لو كان الأمر كما عليه الشيعة لما جاز على خلق كثير من علماء أهل السنّة، مثلاً أن لا يتفطنوا بمدلول ذلك الدليل ولا يهتدوا به إلى الحقّ، فلابدّ لكلّ من الفريقين من البحث عن أدلّة الآخر، بل المباحثة والمناظرة معه حتّى يتقرّر له الدليل

ويتّضح السبيل. وكلّ من رام الحقّ بدون ذلك فهو في ضلالٍ ولعلّه كما قال النيشابوري قد سبق كتاب من الله في أن لا ينال أهل السنّة مدلول دليل أهل الحقّ على إثبات الحقّ، فتأمّل.

وأمّا ما ذكره من «أنّه كيف ينفرد الشيعة بعلم صحّة تلك مع أنّهم لم يتصفوا قط برواية ولا صحبة محدّث ويجهل ذلك مهرة الحديث. . .» ، ففيه أنّه إن أراد أنّهم لم يتّصفوا برواية وصحبة لمحدّث من أهل السنّة، وعلى تقدير تسليمه فإنّ وجهه ظاهر لحصول المعاندة بينهم على وجه يتّقي الشيعة منهم، وإن أراد روايتهم من أكابر شيعتهم وصحبتهم مع المحدّثين منهم أنفسهم، فلهم بحمد الله تعالى أكابر فضلاء محدثون علماء، وقد دونوا في الحديث النبوي والإمامي من نفائس الكتب ما يزيد على الأصول الستة لأهل السنّة، ومن تلك


1- أصول السرخسي، ج2، ص6.
2- تاريخ بغداد، ج7، ص64؛ تاريخ مدينة دمشق، ج51، ص38٠؛ شرح إحقاق الحقّ، ج7، ص399 الهامش.

ص: 122

الكتب الجامع المسمى ب-(الكافي) لمحمد بن يعقوب الكليني الرازي، وكتابا (التهذيب) و (الاستبصار) للشيخ أبي جعفر الطوسي، وكتابا (مدينة العلم) و (من لا يحضره الفقيه) لابن بابويه، وغير ذلك، ولكن أهل السنّة لا يلتفتون إلى تفاصيل أحاديث الشيعة ومؤلفاتهم الكلاميّة والأصوليّة والفروعيّة؛ حذراً من أن يظهر عليهم ويلزمهم ترك تقليد الآباء المنهي عنه في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من كلّ جانب.

وأيضاً فالشيعة وإن لم يتصفوا برواية وصحبة محدّث من أهل السنّة، فقد اتّصفوا برواية أهل السنّة منهم وصحبتهم إيّاهم، كما يرشد إليه ما صرّحوا به من أنّ سبعة من مشايخ البخاري كانوا من محدّثي الشيعة، منهم عبيد الله بن موسى وأبي معاوية، وذكر الذهبي في أوّل كتابه الموسوم ب-(ميزان الاعتدال في أحوال الرجال) ، أبان بن تغلب رحمه الله، وقال إنّه شيعي صلب، لكنّه لما كان صدوقاً فصدقه لنا وبدعته له، وقد وثّقه أحمد بن حنبل وابن معين، وقال ابن عدي: إنّه كان غالياً في التشيع، ثمّ قال: فإن قيل كيف يحكم بثقة المبتدع مع أنّ العدالة الّتى هي ضدّ البدعة مأخوذ في تعريف الثقة؟ ! قلنا الغلو في التشيع والتشيع بلا غلو كان كثيراً في التابعين مع أنّهم كانوا متحلّين بحلية التديّن والورع والصدق،

فلو ردت أحاديثهم مع كثرتها لضاع كثير من الآثار النبويّة وهذه مفسدة ظاهرة. (1)

ومن محدّثي الشيعة الذين روى عنه جماعه من محدثي أهل السنّة، الحافظ أبو العباس أحمدبن محمد بن سعيد السبيعى الهمداني الكوفي الملقّب بابن عقدة، وقد ذكره الذهبي في ميزانه، واليافعي وابن كثير الشامي في تاريخهما، وقالوا: أبو العباس كوفي شيعي، وهو أحد من أركان الحديث والحفاظ الكبار وكان قد سمع أحاديث كثيرة وسافر في طلب الحديث أسفاراً عديدة، واستفاد من خلق كثير واستمع منه الطبراني والدارقطني والجعامى وابن عدى وابن مظفر وابن شاهين، وكان آية من آيات الله تعالى في الحفظ حتّى قال الدارقطني: إنّ أهل بغداد أجمعوا على أنّه لم يظهر من زمان ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة من يكون ابلغ منه في حفظ الحديث.


1- ميزان الاعتدال، ج1، ص5.

ص: 123

وأيضاً قال الدارقطني: سمعت منه أنّه قال قد ضبطت ثلاثمائة ألف حديث من أحاديث أهل البيت وبني هاشم وحفظت مائة ألف حديث بأسانيدها، ونقل الذهبي عن عبدالغني بن سعيد أنّه قال: سمعت عن الدارقطني أنّه قال إنّ ابن عقدة يعلم ما عند الناس ولا يعلم الناس ما عنده. (1)

وقال الثلاثة: إنّ ابن عقدة كان يقعد في جامع البرايا من كوفة ويذكر مثالب الشيخين عند الناس فلهذا تركوا بعض أحاديثه وإلا فلا كلام في صدقه. (2)

وأمّا ما ذكره من «أنّ محدثي أهل السنّة دوّنوا الأحاديث في كتبهم على غاية من الاستيعاب» ، فهو كذبٌ صريحٌ ظاهرٌ على أصحابه أيضاً لأنّهم صرّحوا بأنّ كتاب البخاري مشتمل على أربعة آلاف حديث بعد إسقاط المكررات، وقد نقل عنه أنّه كان يحفظ مئة ألف حديث، وقس على هذا مسلماً وغيره، جمعاً وحفظاً، مع تداخل أكثر أحاديث جوامعهم.

وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: إنّ البخاري ومسلماً لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صحّح عنهما تصريحهما بأنّهما لم يستوعباه وأنّهما قصدا جمع جملة من الصحيح كما

يقصد المصنّف في الفقه جمع جملة من مسائله لا أنّه يحصر جميع مسائله (3)، هذا مع ما سمعت منّا سابقاً من القدح التفصيلي في الكتابين، فتذكر.

وأعجب من كلّ ما ذكر تعجّبه من الشيعة في نفيهم لصحّة شطر من أحاديث أهل السنّة، كيف ودعوى صحّة تلك الأحاديث أوّل المسألة ومصادرة على المطلوب، خصوصاً في دعوى صحّة خبر «اقتدوا بالذين من بعدى» ؟ ! ، ولقد أحسن حيث حذف ذكر أبي بكر وعمر هنا، فافهم.

وأمّا ما ذكره من «أنّ الشيعة يقولون في مقابلة استدلال أهل السنّة بتلك الأحاديث أنّها أخبار آحاد. . .» ، فهو افتراء عليهم، بل هم لا يسلّمون صحّتها من أوّل الأمر.


1- ميزان الاعتدال، ج1، صص136و 137، حكى هذه الأقوال عن الجميع.
2- ابن حجر، لسان الميزان، ج1، ص264.
3- النووي، مقدمة شرح صحيح مسلم، ج1، ص24، تقسيم مسلم للأحاديث.

ص: 124

وأمّا استدلالهم بالخبر الواحد الثابت عند أهل السنّة المذكور في بعض كتبهم عليهم فإنّما وقع إلزاماً ولا تناقض في ذلك وإنّما التناقض عند ابن حجر، الذي لم يفهم معنى التناقض كما لم يفهم بطلان المصادرة فتأمل.

توجيه ابن حجر قول أبي بكر «أقيلوني أقيلوني»

قال ابن حجر: «زعموا أنّه لو كان أهلاً للخلافة لما قال لهم «أقيلوني أقيلوني» ، لأنّ الإنسان لا يستقيل من الشيء إلّا إذا لم يكن أهلاً له وجوابها منع الحصر فيما علّلوا به فهو من مفترياتهم، وكم وقع للسلف والخلف التورّع عن أمورهم لها أهل وزيادة بل لا تكمل حقيقة الورع والزهد إلّا بالإعراض عمّا تأهّل له المعرض، وأمّا مع عدم التأهّل فالإعراض واجب لا زهد، ثمّ سببه هنا أنّه إمّا خشي من وقوع عجز ما منه عن استيفاء الأمور على وجهها الذي يليق بكماله له، أو أنّه قصد بذلك استبانة ما عندهم وأنّه هل فيهم من يودّ عزله فأبرز ذلك كذلك فرآهم جميعهم لا يودّون ذلك أو أنّه خشي من لعنته (ص) لإمام قوم وهم له كارهون، فاستعلم أنّه هل فيهم أحد يكرهه أو لا والحاصل أنّ زعمهم أنّ ذلك يدلّ على عدم الأهليّة

غاية في الجهالة والغباوة والحمق» . (1)

أقول : الرواية المشهورة أنّ أبا بكر قال عند امتناع علي (ع) عن بيعته وبعد أن ادّعى الخلافة لنفسه محتجّاً عليه بما احتجّ هو به على الأنصار وغيرهم

«أقيلوني أقيلوني فإنّي لست بخيركم وعلىّ فيكم» ، (2)ولا ريب في أنّ شيئاً من الوجوه الّتي تكلّف إبداءها في تأويل هذه الإقالة ممّا لا يتماشى مع الواقع ولا يصلح جواباً، وإن ارتكب متكلّف إرجاع بعض وجوهه إلى ما ذكره الشارح الجديد للتجريد من أنّه قصد بما ذكر التواضع وهضم النفس في الدين.

والحقيقة أنّ هضم النفس في أمر الدين هو عملٌ غير موجّهٍ، كيف ولا يبقى حينئذٍ وثوقٌ


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص63.
2- شرح إحقاق الحقّ، ج2، ص325؛ غاية المرام، ج5، ص313؛ كنز العمال، ج5، ص636؛ الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص142.

ص: 125

بكلامه لعدم العلم بقصده، بل نقول لا يعقل ممّن أعطاه الله تعالى ورسوله (ص) الإمامة والخلافة في أمور المسلمين بحسب الدين والدنيا أن يقول لهم دعوا قبولي للإمامة لأنّى لست بخيركم، وغيري خير منّي موجود فيكم، لأنّ ذلك يصير كذباً على الله ورسوله.

والقول المذكور إنّما وقع منه عند إنكار علي (ع) لإمامته وتعريض الناس عليه بعدم لياقته بذلك مع وجود علي (ع) ، فلو كان غرضه هضم النفس لما خصّ الخيريّة بعلي (ع) بل قال أقيلوني، فإنّ كلّ واحد منكم خير منّي كما قال عمر:

«كلّ الناس افقه من عمر حتّى المخدرات في البيوت» (1)، مع أنّ هذا أيضاً في الحقيقة اعتراف بالواقع، فافهم.

ردّ دعوى نزول سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى في أبي بكر

قال ابن حجر في ذكر فضائل أبي بكر الواردة فيه وحده، «وفيها آيات وأحاديث أمّا الآيات فالأولى قوله تعالى: سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى * وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى * وَ لَسَوْفَ يَرْضى (2). قال ابن الجوزي: أجمعوا على أنّها نزلت في أبي بكر، ففيها التصريح بأنّه أتقى من سائر الأمّة والأتقى هو الأكرم عندالله، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ (3)، والأكرم عند الله هو الأفضل، فنتج أنّه أفضل من بقيّة الأمّة، ولا يمكن حملها على عليٍّ؛ خلافاً لما افتراه البعض؛ لأنّ قوله تعالى: وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ، يصرفه عن حمله على عليّ؛ لأنّ النبيّ ربّاه فله عليه نعمة أي نعمة تجزى، فإذا خرج علي تعيّن أبي بكر؛ للإجماع على أنّ ذلك الأتقى هو أحدهما، وأخرج ابن حاتم والطبراني أنّ أبا بكر أعتق سبعة كلّهم يعذب في الله، فأنزل الله قوله: سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي إلى آخر السورة» . (4)


1- الغدير، الأمينى، ج6، ص98؛ السرخسي، المبسوط، ج1، ص153، كتاب الاستحسان وفيه النساء المخدرات؛ الرازي، تفسير الرازي، ج10، ص13؛ ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج1، ص478؛ السيوطي، الدر المنثور، ج2، ص133.
2- سورة الليل: 17- 2٠.
3- سورة الحجرات: 13.
4- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص81.

ص: 126

أقول : فيه نظر من وجوه:

أوّلاً: لا نسلّم بصحّة الرواية في شأن أبي بكر، فضلاً عن الإجماع عليه، والسند ما ذكره بعضهم أنّها نزلت في حقّ أبي الدحداح، وقد روى أبو الحسن على بن أحمد الواحدى في تفسيره الموسوم ب-(أسباب النزول) ، بإسناده المرفوع إلى عكرمة وابن عباس: إنّ رجلاً في عهد رسول الله (ص) كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير وصاحب النخلة يصعد ليأخذ منها التمر، فربما سقطت تمرة فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرجل من نخلته حتّى يأخذ التمر من أيديهم فإن وجدها في في أحدهم أدخل إصبعه في فيه. فشكا الفقير إلى النبيّ (ص) ممّا يلقى من صاحب النخلة، فقال النبيّ (ص) : «اذهب» ، ولقي النبيّ (ص) صاحب النخلة وقال: «أعطني نخلتك المائلة الّتي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنّة» ، فقال الرجل للنبيّ (ص) : إنّ لي نخلاً كثيراً وما فيها نخلة أعجب إلى تمرة، فكيف أعطيك ثمّ ذهب الرجل في شغله، فقال رجل كان يسمع كلام النبيّ (ص) : أتعطيني ما أعطيت أعني النخلة الّتي في الجنّة إن أنا أخذتها، فقال النبيّ (ص) : «نعم» ، فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه، فقال:

تعرف أنّ محمداً أعطاني نخلة في الجنّة، فقلت له: يعجبني تمرها وأنّ لي نخلاً كثيراً وما فيه كلّه نخلة أعجب إلى تمراً منها؟ فقال الرجل لصاحب النخلة: أتريد بيعها؟ قال: لا إلّا أن أعطي ما لا أظنّه. قال: فما مناك؟ قال: أربعون نخلة، فقال الرجل لصاحب النخلة: لقد جئت بعظيم؟ تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟ ثمّ قال الرجل أنا أعطيك أربعين نخلة، فقال صاحب النخلة اشهد لي إن كنت صادقاً، فمرّ الرجل: على أناس ودعاهم وأشهد لصاحب النخلة: ثمّ ذهب إلى النبيّ (ص) وقال: يا رسول الله (ص) إنّ النخلة صارت في ملكي، فهي لك، فذهب رسول الله (ص) إلى الفقير وقال له: النخلة لك ولعيالك فأنزل الله تعالى: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى » . (1)

وعن عطاء أنّه قال: اسم الرجل أبو الدحداح، فأمّا من أعطى واتقى هو أبو الدحداح وأمّا من بخل واستغنى صاحب النخلة وهو سمرة حبيب.


1- الواحدي، أسباب النزول، ص3٠٠.

ص: 127

وقوله: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (1)المراد به صاحب النخلة وقوله: سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (2)، هو أبو الدحداح، ولا يخفى أنّ مع وجود هذه الرواية وادّعاء نزول قوله تعالى في أبي بكر، ثمّ حصر نزوله فيه يكون باطلاً، مع ما لا يخفى من شدّة ارتباط هذه الرواية بنصّ الآية، بخلاف ما رُوي أنّها نزلت في شأن أبي بكر حين اشترى جماعة يؤذيهم المشركون، فاعتقهم في الله تعالى، إذ لا يقال لمن يؤذي عبده أنّه بخيل ولا أنّه كذب وتولى، فتدبّر.

ثانياً: يرد على استدلالهم بهذه الآية ما أورده كثير منهم، كصاحب المواقف وغيره، على استدلالنا بحديث الطير حيث قالوا إنّه لا يدلّ على أنّ علياً (ع) أحبّ الخلق مطلقاً، بل يمكن أن يكون أحبّ الخلق بالنظر إلى شيء، إذ يصحّ الاستفسار بأن يقال أحبّ خلقك في كلّ شيء أو في بعض الأشياء على غيره، والزيادة لا في كلّ شيء، بل جاز أن يكون غيره أزيد ثواباً منه في شيء آخر؛ وذلك أنّ للمعارض أن يقول: إنّ هذه الآية لا تدلّ على أنّ أبا بكر أتقى الخلق

مطلقاً لجواز الترديد والاستفسار بأنّه أتقى الكلّ أو البعض، ومن كلّ وجه أو من بعض الوجوه كما ذكرتم في حديث الطير حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة.

ثالثاً: لا نسلّم أنّ معنى قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ (3)ما فهمه القائل، بل المراد به كما صرّح به بعض المفسرين: «إنّ أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية» . (4)

رابعاً: إن أريد بالأتقى من كان أتقى من جميع المؤمنين عند نزول الآية، فينحصر في النبيّ (ص) وإن ارتكب التخصيص، وإن أريد به كان أتقى من بعض المؤمنين، فلا يلزم منه أفضليّة أبي بكر وكرامته على غيره مطلقاً، فضلاً عن افضليّته على علي (ع) لوجهين:

الأوّل: إنّنا لا نسلّم حينئذ أنّ علياً (ع) داخل في ذلك البعض حتّى يكون أبو بكر أفضل منه.

الثاني: إنّ الأكرم عند الله هو الذي يكون أتقى جميع المؤمنين، كما قال الله تعالى: إِنَّ


1- سورة الليل: 15- 16.
2- سورة الليل: 17.
3- سورة الحجرات: 13.
4- كمال الدين وتمام النعمة، ج5، ص371، حكاه عن علي بن ابراهيم.

ص: 128

أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ، لا الأتقى من بعض المؤمنين، وعموماً إذا تطرّق التخصيص في الأتقى سقط الاستدلال بظاهر المقال.

خامساً: لا نسلّم برواية الشيعة ذلك في شأن علي (ع) ، بل إنّما ذكروا ذلك على سبيل الاحتمال في مقام البحث والجدال، ولهذا لا يوجد في تفاسيرهم المتداولة عن هذه الرواية عين ولا أثر، وإنّما احتملوا ذلك لمناسبة قوله تعالى وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (1)في حقّ على (ع) اتفاقاً؛ لقوله تعالى هنا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (2)ومناسبة ما ورد في حقّه (ع) أيضاً من قوله: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (3)ولقوله: وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى . (4)

سادساً: إن كان المراد بقوله تعالى: وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (5)أن لا يكون عنده نعمة يُكافَأ عليها أعمّ من أن يكون ذلك الأحد من الذين آتاهم شيئاً أم لا، فلا نسلّم أنّ أبا بكر كان بهذه المثابة إذ الظاهر أنّه لا يوجد شخص لا يكون لأحد في حقّه نعمة من طعامّ أو شراب ونحوهما، مع أنّ النبيّ (ص) لم يسلم من ذلك؛ لكونه في حجر تربية عمّه أبي طالب (ع) ومع أنّ النبيّ (ص) كان يحرّض أصحابه على التحبّب والاتحاد وأكل بعضهم من بيوت بعض، والقول بأنّ مثل ذلك ليس نعمة تجزى مكابرة ظاهرة وغاية الأمر أن يكون جزاؤه أقلّ، وإن كان المراد به أن لا يكون عنده لأحد من الذين آتاهم النعمة نعمة تجزى كما هو الظاهر. ويدلّ عليه سياق الآية أي لم يفعل الأتقى ما يفعل من إيتاء المال وإنفاقه في سبيل الله إلّا ابتغاء وجه ربه الأعلى، فلا نسلّم أنّه لا يجوز أن يكون المراد به علياً (ع) خصوصاً مع قيام القرائن والمناسبات الّتي مرّ ذكرها.

سابعاً: إنّ استدلاله على صرف حمله عن علىٍّ (ع) بقوله: «إنّ النبيّ (ص) ربّاه. . .» مردودٌ بأنّه


1- سورة المائدة: 55.
2- سورة الليل: 17
3- سورة الإنسان: 9.
4- سورة الليل: 2٠.
5- سورة الليل: 19.

ص: 129

مرّ بنا، أنّه ليس المقصود في الآية نفي مجرّد نعمة النبيّ (ص) عن ذلك الأتقى، بل نفى نعمة كلّ واحد من الناس، وكما أنّ علياً (ع) كان في حجر تربية النبيّ (ص) كان أبو بكر في حجر تربية أبيه وأمّه، والفرق بين التربيتين تحكّم صرف لا يقول به إلّا المكابر.

ثامناً: إنّ أقلّ الأمر أنّ عند أبي بكر نعمة هداية النبيّ (ص) فكيف ينفى عنه نعمة الكل حتّى النبيّ (ص) ؟ ! وما توهّمه رئيس المشككين فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير من أنّ نعمة الهداية لا تجزي مستدلاً عليه بقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً (1)معارض بل مخصّص بقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ، (2)ويدلّ على أنّ المراد من الأجر المنفي في مثل هذه الآية هو المال لا مطلق الأجر، كما في قوله تعالى في سورة هود حكاية عن نوح (ع) : وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ، والضمير في (عليه) راجع إلى ما

سبق من قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ . (3)

تاسعاً: إنّ قوله في آخر كلامه «للإجماع على أن ذلك الأتقى هو احدهما لا غير» يناقض ظاهر قوله أوّلاً «أجمعوا على أنّها نزلت في أبي بكر» ؛ لأنّ الإجماع على الواحد المعين غير الإجماع على المردد بين الاثنين كما لا يخفى، ولنعم ما قيل: «لا حافظة لكذوب» فأحفظ هذا ودقّق به متأمّلاً.

ردّ دعوى فضيلة الكينونة في الغار

قال ابن حجر: «أجمع المسلمون على أنّ المراد بالصاحب في قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها (4)أبو بكر، ومن ثمّ من أنكر صحبته كفر إجماعاً، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنّ الضمير في فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ لأبي بكر ولا ينافيه وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ ؛ إرجاعاً للضمير في كلّ إلى ما يليق به،


1- سورة الانعام: 9٠.
2- سورة الشوري: 23.
3- سورة هود: 29.
4- سورة التوبة:4٠.

ص: 130

وجلالة ابن عباس قاضية بأنّه لولا علم في ذلك نصّاً؛ لما حمل الآية عليه مع مخالفة ظاهرها له» . (1)

أقول : الاستدلال بهذه الآية على فضيلة أبي بكر إمّا من حيث مجرّد كونه مع النبيّ (ص) في الغار، وإمّا من حيث وصفه بكونه ثاني اثنين للنبيّ (ص) فيه كما ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره، أو من حيث تسميته صاحباً للنبيّ (ص) ولا دلالة لشيء منها على ذلك.

أمّا الأوّل: فلأنّه شاهد عليه بالنقص، لا بالفضيلة ولا بالاعتبار؛ لأنّ النبيّ (ص) لم يأخذه معه للأنس به كما توهموه؛ لأنّ الله تعالى قد آنسه بالملائكة ووحيه، وتصحيح اعتقاده، أنّه تعالى يُنجز له جميع ما وعده، وإنّما أخذه لأنّه لقيه في طريقه فخاف أن يظهر أمره من جهته فأخذه معه احتياطاً في كتمان سرّه، ولمّا دخل معه (ص) في الغار في حرز حريز ومكان مصون، بحيث يؤمن الله تعالى على نبيّه (ص) مع ما ظهر له من تعشيش الطائر ونسج العنكبوت على

بابه، لم يثق مع هذه الأمور بالسلامة ولا صدّق بالآية، وأظهر الحزن والمخافة حتّى غلبه بكاؤه، وتزايد قلقه واضطرابه، وابتلى النبيّ (ص) في تلك الحال بمماشاته واضطرّ إلى مداراته، ونهاه عن الحزن وزجره، ونهى النبيّ (ص) وزجره، فلا سبيل إلى صرفه إلى المجاز بغير دليل، وقد ظهر من جزعه وبكائه ما يكون في مثله فساد الحال في الاختفاء، فهو إنّما نهى عن استلزامه ما وقع منه، ولو سكن نفسه إلى ما وعد الله تعالى ونبيه (ص) وصدّقه فيما أخبره به من نجاته، لم يحزن حيث يجب أن يكون آمنه ولا انزعج قلبه في الموضع الذي يقتضى سكوته فتدبّر.

وأمّا الثاني: فلأنّ قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ بيان حال للرسول (ص) باعتبار دخوله الغار ثانياً ودخول أبي بكر أوّلاً، كما نقل في السير، وعلى التقديرين لا فضيلة فيه لأبي بكر؛ لأنّه إخبار عن عدد ونحن نعلم ضرورة أنّ مؤمناً وآخر اثنان، كما نعلم أنّ مؤمناً ومثله اثنان، فليس في الاستدلال بذكر هذا العدد طائل يعتمد عليه وكذا الاستدلال بما يلزمه من اجتماع أبي بكر مع النبيّ (ص) في ذلك المكان؛ لأنّ المكان يجتمع فيه المؤمنون وغيرهم، وأيضاً فإنّ مسجد


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص82.

ص: 131

رسول الله (ص) أشرف من الغار وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار وفي ذلك قوله تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ . (1)

وأيضاً فإنّ سفينة نوح قد جمعت النبيّ (ع) والبهيمة، فاستدلالهم بالآية على أنّ أبا بكر كان ثاني رسول الله (ص) في الغار ثمّ التخطّي عنه إلى كونه ثانياً له في الشرف والفضل، كما فعله فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، وعموماً لفظ ثانِيَ اثْنَيْنِ في الآية لا يستلزم كون أبي بكر ثاني اثنين للنبيّ (ص) في الشرف؛ لما عرفت من أنّه كان متقدماً في دخول الغار والحصول فيه والنبيّ (ص) تأخّر عنه في الدخول.

وأمّا التفاوت بحسب الشرف والرتبة فلم يستعمل في الآية، ولا هو لازم منها، وإلا لزم أن يكون المعنى على ما أوضحناه أنّ النبيّ (ص) مؤخّر عن أبي بكر في الشرف والفضل، وهذا

كفر صريح كما لا يخفى. فاتضح أنّ استعمالهم لتلك العبارة في شأن أبي بكر وتداولها في مدحه على رؤوس منابرهم إنّما هو حيلة منهم في إيهامهم للعوام أنّ صريح عبارة الآية نازلة في شأن أبي بكر وأنّه ثانِيَ اثْنَيْنِ بالنسبة إلى النبيّ (ص) في جميع الأمور.

وأمّا الثالث: فلأنّ الصاحب المذكور في متن ما نقله من الإجماع على تقدير صحّة النقل، أعمّ من الصاحب اللّغوي والاصطلاحي كالمذكور في أصل الآية، وحينئذ لا فضيلة فيه لأبي بكر، إذ لا مانع من أن يكون صاحب النبيّ (ص) بالمعنى كافراً أو فاسقاً، كيف وقد سمّى الله تعالى في محكم كتابه أيضاً الكافر صاحباً لهم كما في قوله تعالى عن لسان يوسف (ع) : يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ . (2)

وقد صرّح القاضي البيضاوي في تفسيره وغيره بأنّ المراد يا صاحبيّ فى السجن، وحينئذ تسمية أبي بكر بالصاحب لا تدلّ على إسلامه وسلامته، فضلاً عن أن تدلّ على فضله، فأيّ فضيلة في آية الغار يفتخر فيها لأبي بكر؟ ! ولقد ظهر بما قررناه أنّه إنّما يلزم من الإجماع المذكور بعد صحّته تكفير من أنكر صحبة أبي بكر مطلقاً لا صحبته بالمعنى الاصطلاحي المتنازع فيه.


1- سورة المعارج: 36- 37.
2- سورة يوسف: 39.

ص: 132

وأمّا ما أخرجه ابن أبي حاتك عن ابن عباس فالمنافاة فيه ظاهرة، ولو وافق فيه ابن عباس جميع من في الدنيا، وإنّما يندفع لو لم يكن نزول السكينة على النبيّ (ص) لا يعاقبه، ولا ريب في أنّ ارتكاب انفكاك الضمير بلا قرينة ظاهرة لا يليق بفصيح الكلام فضلاً عن أفصح الكلام.

وأمّا ما ذكره من «أنّ جلالة ابن عباس قاضية بأنّه لولا علم. . .» فمدفوع بأنّه لا كلام في جلالة ابن عباس رضى الله عنه، لكن الكلام في رداءة الراوي عنه، المتهم بإباحته للوضع على أفضل من ابن عباس؛ لنصرة مذهبه كابن أبي حاتم أو غيره، من الوسائط المذكورة في الإسناد.

وقد أفاد بعض أجلّة مشايخنا أنّ الله سبحانه لم ينزل السكينة على نبيّه (ص) في موطن كان معه أحد من أهل الإيمان إلّا عمّهم بنزول السكينة وشملهم بذلك، كما في قوله تعالى: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ *

ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، (1)ولمّا لم يكن مع النبيّ (ص) في الغار إلّا أبو بكر، أفرد الله سبحانه نبيّه (ص) بالسكينة وأيّده بجنود لم تروها، فلو كان الرجل مؤمناً يجري مجرى المؤمنين في عموم السكينة لهم، ولولا أنّه أحدث بحزنه في الغار منكراً لأجله توجه النهي إليه عن استدامته؛ لما حرمه الله تعالى من السكينة ما تفضّل به على غيره من المؤمنين الذين كانوا مع رسول الله (ص) في المواطن على ما جاء في القرآن، ونطق به محكم الذكر بالبيان، وهذا واضح لمن تأمله.

ردّ دعوى أنّ المقصود بقوله تعالى: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، بقول عليٍّ (ع) هو أبو بكر

قال ابن حجر: «وأخرج البزار وابن عساكر أنّ علياً قال في تفسير: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (2)، الذي جاء بالحقّ هو محمد (ص) ، والذي صدّق به أبو بكر، قال ابن عساكر: هكذا الرواية بالحقّ ولعلّها قراءة لعلىّ» . (3)


1- سورة التوبه: 25.
2- سورة الزمر: 33.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص82.

ص: 133

أقول: قد نقل صاحب كشف الغمّة عن الحافظ أبي بكر موسى بن مردويه بإسناده أنّ الذي جاء بالصدق محمد (ص) وصدّق به علي بن أبي طالب (ع) ، وأمّا نزول ذلك في شأن أبي بكر فهو شيء قد تفرّد به فخر الدين الرازي، وبمجرّد ملاحظة مناسبة التصديق المذكور في الآية؛ لما وضع أولياء أبي بكر من لقب الصدّيق عليه، وهذا دأب الرازي في تفسير كثير من الآيات كما لا يخفى على المتتبع البصير.

ويدلّ على عدم ورود الرواية في شأن أبي بكر وعلى وصول الرواية الدالّة على أنّ المراد بالآية هو عليّ (ع) .

قال الرازي: إنّ هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق واجمعوا على أنّ الأسبق الأفضل إمّا

أبو بكر وإمّا علىّ، لكن هذا اللّفظ على أبي بكر أولى؛ لأنّ علياً رضى الله عنه كان في وقت البعثة صغيراً فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت، ومعلوم أنّ إقدامه على التصديق لا يفيد لمزيد قوّة وشوكة في الإسلام، فكان حمل هذا اللّفظ على أبي بكر أولى. (1)

ووجه دلالته على الأمرين بل على ما ذكرناه من أنّه بني على مجرّد المناسبة أنّه لو كانت هناك رواية في شأن أبي بكر لذكرها، ولما احتاج إلى تكلّف الاستدلال المذكور ولا إلى ذكر علي (ع) فيه، ولو على سبيل الاحتمال.

على أنّ الاستدلال المذكور كسائر تشكيكاته ظاهر البطلان لأنّ درجة النبوّة أعلى مرتبة في الإسلام وإذا جازت نبوّة الصبيّ كانت صحّة إيمانه أجوز، وقد قال تعالى في شأن يحيى (ع) : وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (2)وقال حكاية عن عيسى (ع) في صباه: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (3)وقال في شأن يوسف (ع) في حال صباه وعند إلقائه في غيابت الجب: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (4)، وقال سبحانه تعالى:


1- الرازي، التفسير الكبير، ج2، ص279، بيان المراد من الذي جاء بالصدق.
2- سورة مريم: 12.
3- سورة مريم: 3٠.
4- سورة يوسف: 15.

ص: 134

فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً (1) وكان عمره عندما جعل نبيّاً إحدى عشرة سنة، وإذا جاز أن يكون الصبيّ صاحب نبوّةٍ ووحي، جاز أن يكون صاحب إيمانٍ بطريق أولى، وأيضاً كما لا يقال لمن وُلد مؤمناً في فطرة الإسلام أنّه آمن؛ لأنّه وُلد عليه فكذا في علي (ع) ؛ لأنّه وُلد في حضرة الرسول (ص) ولم يعبد صنماً قط، لكنّ أبا بكر قد عبد الأصنام أكثر من أربعين سنة، فكان عليه الإتيان بالإيمان بعد ما لم يكن مؤمناً، وأيضاً فعند أصحابنا أنّ علياً (ع) حين آمن بالنبي (ص) كان عمره خمس عشرة سنة وقيل أربع عشرة، والروايتان جاءتا أيضاً عن طريق الخصم. ذكر ذلك شارح الطوالع عن أصحابه في شرحه والعاقولي في شرحه للمصابيح أنّه قال: روى الحسن البصري أنّ عمره كان خمس عشرة سنة عند إسلامه. (2)

وأمّا شارح الطوالع فروى أربع عشرة سنة وهذا ما جاء في صحيح البخاري قد تجاوز البلوغ لأنّ أوّل نقل عن المغيرة أنّه قال: احتلمت وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، وأيضاً فقد رُوي أنّ النبيّ (ص) دعاه إلى الإسلام وهو (ص) لا يدعو إلى الإسلام إلّا من يصحّ منه ذلك، كما قاله المأمون حين ناظر أبا العتاهية. وأيضاً قد صحّ واشتهر أنّه (ع) كتب إلى معاوية أبياتاً، من جملتها قوله (ع) :

سبقتكم إلى الإسلام طرّاً غلاماً ما بلغت أوان حلمي

ولم ينكر عليه معاوية مع عداوته وتعنّته، فكيف يزيد عليه الرازي وهو من جماعته في ذلك، وأيضاً مرجع الإسلام إلى التصديق بما جاء به النبيّ (ص) وأنّه رسول الله، وذلك من التكاليف العقليّة ومعلوم أنّ التكليف بالعقليّات إنّما يتوقّف على كمال العقل، وإن كان الرجل ابن خمس سنين أو خمسين سنة، وعلي (ع) قد كان كاملاً عقله حين أسلم؛ والبلوغ إنّما هو شرط في التكاليف الشرعيّة الفرعيّة، على أنّه لا يمتنع أن يكون من خصائصه صحّة إسلامه حال الصبى والصغر، كما كان ابنه الحسن (ع) يطالع اللّوح المحفوظ في حال رضاعه كما شهد به الشيخ ابن حجر العسقلاني شارح البخاري في شرح حديث وضع الحسن في


1- سورة الأنبياء: 79.
2- حكاه عنهم علي بن يونس العاملي في الصراط المستقيم، ج1، ص33٠.

ص: 135

رضاعه تمرة من تمرات الصدقة في فيه سهواً، وإشارة النبيّ (ص) إليه برميها عن فيه قائلاً: «كخ كخ» واعتراضه بقوله: «أمّا علمت أنّ الصدقة حرام علينا؟ !» (1)

وعموماً يجوز اختصاصه (ع) بمزيد فضيلة في الخلقة أوجبت حصول البلوغ الشرعي قبل العدد.

وأمّا ما ذكره الرازي من أنّه «لمّا كان لتصديق أبي بكر مزيد قوّة للإسلام كان حمل هذا اللّفظ عليه أولى» ، فمع قطع النظر عمّا ذكرناه وعن أنّ مثل هذا المزيد والزيادة قد حصل أيضاً بتصديق غير أبي بكر، كحمزة رضى الله عنه ورؤساء الأنصار ومن شاكلتهم معارض بما روى

جلال الدين السيوطي الشافعي في كتاب (الوجيز) عن عباد بن عبدالله أنّه قال سمعت علياً يقول: «أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصدّيق الأكبر لا يقولها بعدى إلّا كاذب» . (2)

وهذا الحديث أخرجه النسائي وصححه الحاكم على شرط البخاري ومسلم، كذا في تذكرة الموضوعات، وبما قاله الرازي المذكور نفسه في تفسير قوله تعالى: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ، (3)أنّه روى عن رسول الله (ص) أنّه قال: «الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون الذي قال: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ، والثالث عليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم» . (4)

ووجه المعارضة ظاهر؛ إذ في كلّ الحديثين وقع التعبير عنه (ع) بالصديق الأكبر، أمّا الحديث الأوّل فظاهر جدّاً، وأمّا الثاني فللتصريح فيه بأنّه أفضل الصديقين الثلاثة فيكون أكبر وأكمل، وحمل اللّفظ على الفرد الأكمل المتبادر إلى الفهم عرفاً أولى وأجدر، على أنّ ما وقع في الحديث الثاني من حصر الصديقين في الثلاثة ينفي كون أبي بكر من الصديقين أصلاً ورأساً فضلاً عن أن يكون مراداً من لفظ الآية. والله وليّ الصدق والتصديق، وبيده أعنّة التحقيق وأزمّة التوفيق.


1- فتح الباري، ج3، ص28٠، باب ما يذكر من الصدقة للنبي (ص) .
2- النسائي، الخصائص، ص46؛ ابن عبد البر، الاستيعاب، ج3، ص1098.
3- سورة غافر: 28.
4- كشف الغمّة، ج1، ص88؛ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج42، ص43.

ص: 136

ردّ دعوى أنّ الله أمرني أن استشير أبا بكر وعمر

قال ابن حجر: «قوله تعالى: شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (1)أخرج الحاكم عن ابن عباس أنّها نزلت في أبي بكر وعمر. ويؤيّده الخبر الآتي: «إنّ الله أمرني أن أستشير أبا بكر وعمر» . (2)

أقول : بعد التسليم بصحّة الخبر، فلا دلالة في الآية على فضل أبي بكر وصاحبه عمر؛ لجواز أن يكون ذلك الأمر لتأليف قلوبهم وتطييب خواطرهم، لا للحاجة إلى رأيهم، فغاية ما

يلزم منها أن يكونا من مؤلّفة القلوب، كما أنّ الله تعالى أعلم النبيّ (ص) أن في أمّته، بل في صحابته الملازمين له من أهل النفاق، فقد قال تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ ، (3)وقال جلّ اسمه: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (4)، وقال تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (5)، وَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ، (6)وقال جلّت عظمته: وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (7)، وقال عزّ قائلاً: وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ (8)، وقال جلّ ذكره: وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً . (9)

ثمّ قال تبارك وتعالى بعد أن نبّأ عنهم في الجملة: وَ لَوْ نَشاءُ لِأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ


1- سورة آل عمران: 159.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص82.
3- سورة التوبة: 101.
4- سورة التوبة: 127.
5- سورة التوبة: 96.
6- سورة التوبة: 56.
7- سورة المنافقون: 4.
8- سورة التوبة: 54.
9- سورة النساء: 142.

ص: 137

لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، (1)ثمّ أمّره بمشورتهم ليصل بما يظهر منهم إلى باطنهم فإنّ الناصح يبدي نصيحته في مشورته، والغاشّ المنافق يظهر ذلك في مقالته، فاستشارهم (ص) لذلك؛ ولأنّ الله تعالى جعل مشورتهم الطريق له إلى معرفتهم، الا ترى أنّهم لما أشاروا عليه ببدر في الأسرى، فصدرت مشورتهم عن نيّات مشوبة في نصيحتهم، فكشف الله تعالى ذلك، وذمّهم عليه وأبان مكرهم فيه، فقال جلّ وعلا قائلاً: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، (2)فوجه التوبيخ إليهم والتعنيف على رأيهم وأبان لرسوله (ص) عن حالهم، فعلم أنّ المشورة بهم لم تكن للفقر إلى آرائهم، وإنّما كانت لما ذكرناه من استبطان نواياهم.

ردّ دعوى نزول قوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ في أبي بكر وعمر

قال ابن حجر (3): «أخرج الطبراني عن عمر، وابن عباس أنّ قوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ، (4)أنّها نزلت فيهما» . (5)

أقول : إخراج الطبراني وحده من دون مشاركة واحد من فريق الخصم معه خارج عن الاعتبار، كما سبق التصريح به والإشعار، مع أنّ صاحب كشف الغمّة (6)نقل رواية نزولها في شأن علي (ع) عن عزّ الدين عبد الرزاق المحدّث الحنبلي، وعن الحافظ أبي بكر بن مردويه، بإسناده إلى أسماء بنت عميس وهي مذكورة في تفسير أبي يوسف


1- سورة محمد: 3٠.
2- سورة الأنفال: 67- 68.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص82.
4- سورة التحريم: 4.
5- المعجم الاوسط، الطبراني، ج2، ص331.
6- كشف الغمّة، ج1، صص321 و 322، باب نزول القرآن في شأن علي (ع) .

ص: 138

يعقوب بن سفيان النسوي (1)بإسناده إلى ابن عباس، ورواها السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن ابن عباس، ورواها الثعلبي (2)في تفسيره بإسنادين، إلى غير ذلك. كما أنّ حمل لفظ صالح مفرداً على رجلين اثنين مخالف للوضع والاستعمال لأنّه موضوع للمفرد وقد استعمل في الجمع للتعظيم، وأمّا استعماله في اثنين فقط فلم نجده في كلام

الفصحاء.

وأمّا قول الرازي هنا: يجوز أن يراد بلفظ صالح مفرداً الواحد والاثنان والجمع مستنداً إلى ما قاله أبو على الفارسي من أنّه قد جاء فعيل مفرداً يراد به الكثرة كقوله تعالى: وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ، (3)(4)فضعفه ظاهر؛ لأنّ قياس فاعل على فعيل بلا سند يقيّد به غير مسموع، ولو سلم فحميم إنّما أريد به الكثرة الشاملة للاثنين فما فوقهما بقرينة تنكيره الذي قد يكون للتكثير، وربما يتعيّن فيه بمعاونة الحال والمقام، ولا تنكير فيما نحن فيه فيكون قياس صالح في ذلك على حميم قياساً مع الفارق، كما لا يخفى، والذي شجّع الطبراني على وضع هذا الخبر مناسبة نزول ما في الآية من العتاب في شأن عائشة وحفصة وأنّ أبا بكر وعمر أبواهما، وذهب كما قال غيره من أتباعه إلى أنّ مراد الآية أنّهما كانا ينصحان بنتيهما بترك الأفعال الّتى تكون للضرّات. وليس الأمر كما زعموه، بل الوجه في التعبير هنا بصالح المؤمنين عن علي (ع) ما رُوي من أنّ النبيّ (ص) فوّض ولاية طلاق نسائه إلى علي (ع) ولهذا رُوي أنّه لما بقيت عائشة على عنادها بعد انقضاء حرب الجمل أيضاً، وامتنعت عن أمر علي (ع) في مضيها إلى المدينة المشرفة، وكونها في بيتها الذي أسكنها الله تعالى ورسوله (ص) فيه أرسل (ع) ابن عباس رضى الله عنه إليها مهدداً لها بأنّك لو لم تنته عن العناد والخلاف لطلّقتك بما أنت، فلا يبقى لك رجاء شفاعة أصلاً فسكتت وارتحلت في الحال.


1- ابن شهر آشوب، المناقب، ج2، ص274.
2- تفسير الثعلبي، ج9، ص348.
3- سورة المعارج: 10.
4- الرازي، التفسير الكبير، ج3٠، صص44و 45.

ص: 139

ردّ دعوى الشراكة في الخير مع رسول الله (ص)

قال ابن حجر: «الآية في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (1)أخرج عبد بن حميد عن مجاهد لما نزل: إِنَّ اللهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً ، قال أبو بكر: يا رسول الله ما أنزل الله

عليك خيراً إلّا أشركنا فيه فنزل: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ .» (2)

أقول : ظاهر الآية عموم صلواته تعالى ورحمته لسائر عباده، وأنّ غاية ذلك في الكلّ إخراجهم من الظلمة إلى النور، لكن الكلام في أنّ هذه الغاية والمصلحة والغرض هل حصلت في شأن أبي بكر من الفاتحة إلى الخاتمة أو لا؟ مع أنّ الخصم من وراء المنع على أصل الإخراج فتدبر.

ردّ دعوى استحقاق عظيم المنقبة لأبي بكر

قال ابن حجر: «قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (3)، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنّ ذلك جميعه نزل في أبي بكر، ومن تأمّل ذلك وجد فيه من عظيم المنقبة له والمنّة ما لم يوجد نظيره لأحد من الصحابة» . (4)


1- سورة الأحزاب: 43.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص82.
3- سورة الأحقاف: 15- 16.
4- ابن حجر، الصواعق المحرقة، 82.

ص: 140

أقول: الكلام في صحّة رواية هذا الخبر أيضاً كسوابقه، ولا دلالة لشيء من عبارات الآية على شيء من الأوصاف والألقاب لأبي بكر، ولعلّه زعم أنّ مناسبة قوله تعالى وبلغ أربعين سنة لما صححه جماعة لبعض المصالح من أنّ عمر أبي بكر كان عند إسلامه أربعين سنة، مع أنّ الخلاف في ذلك بالزيادة عليه مشهور، وأيضاً لم يكن ما تضمنته الآية من قوله تعالى رَبِّ أَوْزِعْنِي ، نازلة عند إسلام أبي بكر، فكيف تلاها أبو بكر وقال عند بلوغه أربعين سنة: رَبِّ أَوْزِعْنِي . . . الآية؟ ! وهذا واضح الوضع في الخبر كما لا يخفى.

ردّ دعوى نزع الغلّ من الصدور

قال ابن حجر: «قوله تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (1)نزلت في أبي بكر وعمر» . (2)

أقول : قد مرّ في مسند أحمد بن حنبل أنّها نزلت في علي (ع) .

ردّ دعوى نزول قوله تعالى وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى في أبي بكر

قال ابن حجر: «قوله تعالى: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)، نزلت كما في البخاري وغيره عن عائشة، في أبي بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح، لكونه كان من جملة من رمى عائشة بالإفك الذي تولّى الله سبحانه براءتها منه بالآيات الّتي أنزلها في شأنها، ولمّا نزلت قال أبو بكر: بلى والله يا ربنا أنا لنحبّ أن تغفر لنا، وعادله بما كان يصنع أي ينفق عليه. وفى رواية البخاري عنها أيضاً في حديث الإفك الطويل


1- سورة النور: 22.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 82.
3- سورة النور: 22.

ص: 141

وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ. . . . فلمّا أنزل الله هذا في براءتي، قال أبوبكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال في عائشة ما قال، فأنزل الله: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ ، وذكرت الآية السابقة ثمّ قالت: قال أبو بكر: بلى والله إنّى لأحبّ أن يغفر الله لي، فأرجع إلى مسطح النفقة الّتي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. (1)وقد علم من حديث الإفك المشار إليه أنّ من نسب عائشة إلى الزنا كان كافراً وقد صرّح بذلك أئمتنا وغيرهم؛ لأنّ في ذلك تكذيب النّصوص القرآنيّة ومكذّبها كافر بإجماع المسلمين وبه يعلم القطع بكفر كثير من غلاة الرافضة؛ لأنّهم ينسبونها إلى ذلك» . (2)

أقول: فيه نظر من وجوه:

أوّلاً: إنّ ما رواه عن البخاري في شأن النزول معارض لما قال غيره من أهل السنّة من أنّها نزلت في جمع من الصحابة حلفوا أن لا يصدّقوا من تكلّم لشيء من الإفك ولا يواسوهم ويؤيّدهم لفظ (أولوا) بصيغة الجمع، وعلى تقدير أنّه ورد في قصّة مسطح، ومنع أبي بكر الصدقة عنه، لم لا يجوز أن يكون نزولها في شأن مسطح أصالة، وفى أبي بكر بالعرض، وما الذي جعل القضيّة منعكسة مع ظهور أنّ المقصود الأصلي من الآية المواساة مع مسطح، وسدّ خلّته، والردّ على من خالف ذلك كما لا يخفى.

ثانياً: على التقادير لا دلالة للآية على مدح أبي بكر، ولعلّهم توهموا هذا من الوصف العنواني في لفظي الفضل والسعة، وجهلوا أنّ مثل هذا الوصف قد يعرض للكافر السخي الذي له فضل حاجة وغنى وسعة، بل قد يجتمع مع الذمّ فيقال إنّ بعض القوم مع كونهم من أولي الفضل والسعة يبخلون بما آتاهم الله تعالى، ويقال إنّ أبا بكر المتموّل عند أهل السنّة وأضرابه من أصحاب النبيّ (ص) قد بخلوا عند نزول آية النجوى عن تقديم صدقه بين يدي النبيّ (ص) حتّى نسخت الآية، فافهم.


1- مسند أحمد، ج52، ص101؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج10، ص36؛ المعجم الكبير، ج23، ص5٠.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص83.

ص: 142

ومن العجب أنّ فخر الدين الرازي (1)قال في تفسيره لهذه الآية: أوّلاً إنّ المراد من قوله تعالى: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ ، لا يقصّروا في أن يحسنوا. فحمل الفضل على الإحسان والإعطاء، ثمّ نسي ذلك بعد سطور وأصرّ في أنّ المراد بالفضل زيادة الثواب أو العلم، مع أنّ

الفضل بهاذين المعنيين لا يظهر لهما وجه هنا، إذ كثير من أهل الفضل بمعنى زيادة الثواب أو العلم لا يقدرون على إنفاق الرحم وصلتهم، بل على أقلّ من ذلك وهو ظاهر.

ثالثاً: أنّنا نترقّى عن ذلك ونقول بل الآية قادحة في أبي بكر لاشتمالها على نهيه تعالى عمّا أتى به أبو بكر من الحلف على أن لا ينفق مسطحاً ومن معه، كما رُوي في شأن النزول فدلّت الآية على معصية أبي بكر، وما أجاب به الرازي في هذا المقام: إنّ النهى لا يدلّ على وقوعه إذ قال الله تعالى لمحمد (ص) : وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ ، ولا يدلّ ذلك على أنّه (ص) أطاعهم. . . مدخول بأنّ مجرّد النهى وإن لم يدلّ على ذلك إلّا أنّ ما رواه هذا المجيب هنا من شأن النزول صريح في الوقوع، حيث قال: لمّا نزلت آية الإفك قال أبو بكر لمسطح وقرابته: قوموا فلستم منّي ولست منكم، ولا يدخلنَّ علىّ أحد منكم، فقال أنشدكم مسطح الله والإسلام وأنشدكم القرابة والرحم أن لا يخرجنا إلى أحد فما كان لنا في أوّل الأمر من ذنب فلم يقبل عذره، وقال: «انطلقوا أيّها القوم فخرجوا لا يدرون أين يتوجهون من الأرض. . .» (2)، فإنّه صريح في ترك النفقة، بل مطلق المواساة معهم ولو في يوم، والإنكار مكابرة، على أنّ المنع عن الحلف الواقع قطعاً كافٍ في ثبوت المعصية كما لا يخفى، وحمل النهي على التنزّه عن ترك الأولى كما ارتكبه من ضيق الخناق مردود، بأنّ الأصل في النهي التحريم وحمله على التنزيه من ترك الأولى في شأن الأنبياء عليهم السلام إنّما ارتكبه العلماء بمعاونة قيام دليل عصمتهم، وإذ لا عصمة لأبي بكر اتفاقاً يكون الحمل فيه محالاً، تأمّل.

رابعاً: إنّ ما ذكره ابن حجر في التنبيه أفكٌ محضٌ على غلاة الشيعة الذين يحكم الإماميّة الاثني عشريّة من الشيعة بكفرهم وكونهم نجس العين كسائر الكفار فكيف على الإماميّة كما


1- الرازي، التفسير الكبير، ج23، صص187 و 188.
2- المصدر السابق، ص19٠.

ص: 143

يشعر به إطلاق كلامه وإن وقع منه التصريح سابقاً بالفرق بين الغلاة من الشيعة والشيعة الإماميّة، وأنّ الرافضة هم الغلاة دون الإماميّة، ولعلّه أطلق في العبارة تنفيراً للعوام عن مذهب الشيعة الإماميّة الإعلام وترويجاً لمذهبه المبتني على الأوهام.

ردّ دعوى استثناء أبي بكر من المعابة في قوله تعالى إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ

قال ابن حجر: «قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ الآية (1)، أخرج ابن عساكر، عن ابن عيينة قال: عاتب الله المسلمين كلّهم في رسول الله (ص) إلّا أبا بكر وحده فإنّه خرج من المعاتبة ثمّ قرأ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ » . (2)

أقول : قد مرّ الكلام عند ذكر استدلاله بتمام هذه الآية على فضيلة أبي بكر، وأمّا ما ذكره هنا «من إخراج ابن عساكر أنّه تعالى عاتب المسلمين كلّهم في رسول الله إلّا أبا بكر وحده» فمردودٌ بأنّ هذا لم يعلم معنى الآية أصلاً، فإنّ مرافقة النبيّ (ص) في الفرار عما لا يطاق إلى الغار لا يسمى نصرة له لغةً ولا عرفاً وإنّما تتحقق نصرة أبي بكر له (ص) لو حصلت في مكة بالغلبة على الكفار، كما أنّ الحصر المستفاد من قوله «إلّا أبا بكر وحده» ممنوع؛ كيف وقد رُوي أنّه (ص) قد اتخذ عند الفرار إلى الغار ثمّ منه إلى المدينة عبد الله بن أرقط خادماً، وعامر بن فهيرة مع شركه دليلاً، فقد نصره مشرك ومسلم آخر غير أبي بكر، فكيف يستقيم الحصر؟ !

دعوى أنّ أفضل هذه الأمّة بعد نبيها أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ علي ثمّ نسكت، والردّ عليها

قال ابن حجر: «وأخرج (3)أيضاً عن أبي هريرة كنا معشر أصحاب رسول الله ونحن متوافرون نقول: أفضل هذه الأمّة بعد نبيها أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ علي ثمّ نسكت» (4)،


1- سورة التوبة: 4٠.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، 83 و 84.
3- يعني به ابن عساكر ومن أراده فليراجع ص 4٠ من نسخة الصواعق المطبوعة سنة 1312 بمصر.
4- مسند أحمد، ج9، ص434؛ اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، ج7، ص63.

ص: 144

والترمذي عن جابر أنّ عمر قال لأبي بكر: «يا خير الناس بعد رسول الله (ص) ، فقال أبو بكر. أمّا أنّك إن قلت ذلك فلقد سمعته يقول: «ما طلعت الشمس على خير من عمر» . (1)ومر أنّه

تواتر عن علي: «خير هذه الأمّة بعد نبيها أبو بكر وعمر» . وأنّه قال: «لا يفضّلني أحد على أبي بكر وعمر لجلدته حدّ المفتري» . أخرجه ابن عساكر. (2)

أقول : الكلام في كذب أبي هريرة واتهامه بالوضع مفروغ عنه. وأمّا ما في رواية الترمذي «من قول عمر لأبي بكر: يا خير الناس، وشهادة أبي بكر لعمر بأنّ النبيّ (ص) قال له مثل ذلك» ، فهو من قبيل استشهاد ابن آوى بذنبه وبالعكس، فإن كلا منهما من ذوي الأذناب المعدودين في «أنّ شر الدواب» ، وأمّا الحديث المفترى على علي (ع) من أنّه قال: «لا يفضّلني أحد على أبي بكر وعمر إلّا جلدته حد المفتري» ، فهو لنا لا علينا فتذكر.

ردّ دعوى إنقاق أبي بكر على النبيّ (ص)

قال ابن حجر (3):

«أخرج الترمذي عن أبي هريرة أنّ رسول (ص) قال: «ما لأحد عندنا يد إلّا وقد كافيتاه بها ما خلا أبا بكر فإنّ له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر» . (4)

أقول : نظير هذه الرواية ما سيرويه بعد ذلك عن ابن عساكر عن عائشة وعروة أنّ أبا بكر أسلم يوم أسلم وله أربعون ألف دينار (وفي لفظ) أربعون ألف درهم، أنفقها على رسول الله (ص) ويتوجه عليه العجب في روايتهم الإنفاق لرجل قد عرف مذ كان بالفقر وسوء الحال، ومن اطّلع على النقل والآثار وأشرف على السير والأخبار، لم يخف عليه فقر أبي بكر وصعلكته وحاجته ومسكنته وضيق معيشته وضعف حيلته، وأنّه كان في الجاهليّة معلماً وفي الإسلام خياطاً كما ذكره البخاري في صحيحه، وكان أبوه سيء الحال، يكابد فقراً مهلكاً


1- المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ج10، ص3٠3.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص84.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 87.
4- مسند الصحابة على الكتب التسعة، ج6، ص79.

ص: 145

ومعيشة ضنكاً؛ لكسبه أكثر عمره من صيد القماري والدباسي، لا يقدر على غيره، فلمّا عمى وعجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد الله بن جذعان، أحد رؤساء مكّة فنصبه ينادي على

مائدته كلّ يوم لإحضار الأضياف، وجعل له على ذلك ما يقوّته من الطعامّ، فمن أين كان لأبي بكر هذا المال، وهذه حاله وحال أبيه في الفقر والاختلال؟ ! قال البكري المصري في سيره: «قيل: إنّه لما بلغ النبيّ (ص) سنة ثلاث عشرة من عام الفيل خرج مع أبي طالب إلى الشام فأقبل سبعة من الروم يقصدون قتله (ص) ، فاستقبلهم بحيراء ونبههم على أنّه رسول من الله تعالى، «فبايعوه وأقاموا معه، وردّه أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالاً» .

وفيه وهمان:

الوهم الأوّل: بايعوه على أيّ شيء؟ !

الوهم الثاني: أبو بكر لم يكن حاضراً، ولا كان في حال من يملك، ولا ملك بلالاً، إلّا بعد ذلك بنحو ثلاثين عاماً، وأيضاً قد صحّ عندهم أنّه لما نزلت آية النجوى لم يعمل بها من الصحابة سوى علي (ع) ، حيث بخل أبو بكر بدرهم أو درهمين يقدمها بين يدي نجوى النبيّ (ص) .

والنظر إلى وجهه الكريم وما يفيده خطابه القويم مقدار عشرة ليال، كما نقله ابن المرتضى من أهل السنّة في تفسيره، والزمخشري الحنفي في الكشاف (1)، حتّى ينزل آية أخرى ما نصب على ذلك محال أن ينفق مثلاً ذلك المال الذي رووه لأحد، ومن عجيب مناقضتهم ما رووه بقولهم عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه في تفسير قوله تعالى: وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى ، قال ابن عباس: أغناه بأن جعل دعوته مستجابة، فلو شاء أن يصيّر الجبال ذهباً لصارت بإذن الله تعالى، فمن يكون كذلك كيف يحتاج إلى مال أبي بكر؟ ! وكيف يقال نقض تفسيراتهم لهذه الآية أنّ أبا بكر أغناه؟ ! وأيضاً يتوجه أنّ من أنفق المال العظيم على رجل، محال أن لا يعرف موطنه، وحيث أنفقه ولسنا نعرف أنّ لرسول الله (ص) موطناً غير مكّة والمدينة، فإن زعموا أنّ أبا بكر أنفق هذا المال بمكّة قبل الهجرة، قيل لهم علام أنفق هذا المال؟ وفيم صرفه؟ ! وهل كان لرسول الله (ص) بمكّة من الحشم والعيال ما أنفق عليهم هذا المال كلّه من زمان إسلام


1- الزمخشري، الكشّاف، ج4، ص76.

ص: 146

أبي بكر إلى وقت الهجرة؟ ! فهذا من أبين المحال.

وإن قالوا: إنّ رسول الله (ص) جهز الجيوش في مكّة بذلك المال، فقد أظهروا فضائحهم؛ لأنّه

بإجماع الأمّة لم يشهر سيفاً بمكّة ولم يأمر به، ولا أطلق لأصحابه محاربة أحد من المشركين بها، وإنّما كان أسلم معه إذ ذاك أربعون رجلاً، فلمّا اشتدّ عليهم الأذى من قريش وشكوا ذلك إلى رسول الله (ص) ولّى عليهم جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه، وأخرجهم معه إلى أرض النجاشي ملك الحبشة، فكانوا هناك إلى أن هاجر رسول الله (ص) وفتح كثيراً من فتوحه فقدموا عليه بعد سنين من الهجرة. ولقد كان رسول الله (ص) بشهادة الخاصّ والعامّ أغنى قريش بعد تزويجه بخديجة، وكانت خديجة باقية إلى سنة الهجرة، ولا يحتاج مع مالها إلى مال غيرها، حتّى لقد كان من استظهاره بذلك عن أبي طالب (ع) أن ضمّ علي بن أبي طالب (ع) إلى نفسه؛ تخفيفاً بذلك عن أبي طالب في المؤنة، وما وجدنا في شيء من الأخبار أنّ رسول الله (ص) بعد تزويجه بخديجة (رضي الله عنها) احتاج إلى أحد من الناس فإنّ أهل الأثر مجمعون على أنّ خديجة كانت أيسر قريش، وأكثرهم مالاً وتجارة. وأمّا بعد الهجرة إلى المدينة فقد علم أهل الأثر أنّ أبا بكر ورد المدينة وهو محتاج إلى مواساة الأنصار في المال والدار، وفتح الله تعالى على رسوله عن قريب من غنائم الكفار وبلدانهم، ما كان بذلك أغنى العرب، على أنّ أبا إسحاق من أكابر محدثي أهل السنّة قد روى ما يكذّب ذلك، حيث روى أنّ النبيّ (ص) لم يركب ناقة حتّى قام بدفع ثمنها من ماله، فمن لم يستحلّ ركوب ناقة غيره من غير إعطاء ثمنها، فكيف يستحلّ غيرها؟ ! ويؤيّده ما سيرويه ابن حجر عن البخاري «من أنّه لم يأخذ الراحلة من أبي بكر إلّا بالثمّن» فتفطّن.

ردّ دعوى مجرد الكون في الغار شرفاً

قال ابن حجر (1): «أخرج الشيخان وأحمد والترمذي عن أبي بكر، أنّ رسول الله (ص) قال له بالغار:

«يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» . (2)


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص87.
2- أخرجه أحمد، ج1، ص4، والبخارى، ج3، ص1337، ومسلم، ج4، ص1854، والترمذى، ج5، ص278، وقال: حسن صحيح غريب، وابن أبى شيبة، ج6، ص 348، وعبد بن حميد، ص3٠، وأبو يعلى، ج1، ص68.

ص: 147

أقول : إنّ وجه التهمة فيه ظاهر؛ لأنّ الراوي عن النبيّ (ص) هو أبو بكر فلعلّه أراد بوضع

ذلك أن يخبر لنفسه نفعاً وشرفاً.

ولو سلمنا صحّته فلا نفع فيه ولا شرف يختصّ بأبي بكر؛ لأنّ كونهما اثنين الله ثالثهما ليس أعظم من كون الله رابعاً لكلّ ثلاثة في قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ (1)، وهذا عامّ في حقّ كلّ مؤمن وكافر وكون المصاحبة موجبة لتشريفه معارض بما مرّ من قوله تعالى للكافرين: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ (2)، وكما احتمل أن يقال أنّه استصحبه في هذا السفر لأجل الشفقة، احتمل أن يكون ذلك لأجل أنّه خاف أن يدلّ الكفار عليه، أو يوقفهم على إسراره لو تركه.

وأجاب فخر الدين الرازي في تفسيره عن هذا بقوله: «كون الله رابعاً لكلّ ثلاثة مشترك وكونه ثاني اثنين الله ثالثهما تشريف زائد اختصّ الله أبا بكر به. على أنّ المعية هنالك بالعلم والتدبير وهنا بالصحبة والموافقة فأين إحداهما من الأخرى؟ والصحبة في قوله: لَهُ صاحِبُهُ ، مقرونة بما يقتضي الإهانة والإذلال وهو قوله: أَ كَفَرْتَ ، وفي الآية مقرونة بما يوجب التعظيم والإجلال وهو قوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ، والعجب أنّ الشيعة إذا حلفوا قالوا وحقّ خمسة سادسهم جبرائيل، واستنكروا أن يقال: وحق اثنين الله ثالثهما» . (3)

أقول : وفيه نظر أمّا:

أوّلاً: فلأنّ ما ذكره «من أن يكون الله رابعاً لكلّ ثلاثة أمر مشترك، وكونه ثاني اثنين تشريف زائد اختص الله تعالى أبا بكر به» ، مردود بأنّ كونه ثاني اثنين إنّما يكون شرفاً وفضيلة له، لو كان ثانياً مطلقاً، لكنّه قد قيّد كونه ثانياً بكونه في الغار وهذا الشرف كان حاصلاً للحيّة الّتي لسعت أبا بكر في الغار.

ثانياً: فلأنّ ما ذكره في العلاوة كاد أن يكون كفراً بالله ورسوله لدلالته على أنّ معية


1- سورة المجادلة: 7.
2- سورة الكهف: 37.
3- تفسير مفاتيح الغيب، ج16، ص52.

ص: 148

النبيّ (ص) بالصحبة والمرافقة أعظم وأشرف من معيّة الله تعالى له بالعلم والتدبير. على أنّا لا نسلّم أنّ معيّة أبي بكر بالنسبة إلى النبيّ كان بالصحبة الاصطلاحيّة والمرافقة المعنويّة.

ثالثاً: إنّ ما ذكره من أنّ الصحبة في قوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ مقرونٌ بما يقتضي الإهانة. . . مدفوع بأنّ الكلام في دلالة لفظ الصحبة والقرينة على تقدير تسليم وجودها لا يجدي في ذلك، بل اللازم من استعمال الصحبة في مقام الإهانة، أن لا يكون للفظ الصحبة دلالة على التعظيم أصلاً، ولو سلم فنقول إنّ ما ذكره كلام على السند الأخصّ؛ لأنّ هنا آية أخرى تدلّ على أنّ يوسف (ع) قال لكافرين كانا معه في السجن: صاحبيّ، من غير أن يكون مقروناً بإهانة وإذلال، وهو قوله تعالى حكاية عنه على نبيّنا وآله وعليه السلام: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ . (1)

رابعاً: إنّ تعجبه من الشيعة في حلفهم بما ذكر من أعجب الأعجب، لأنّهم اعتقدوا أنّ الخمسة الّتي سادسهم جبرائيل يكون الله تعالى ثاني كلّ منهم وثالث كلّ اثنين منهم وهكذا، فلذلك استغنوا عن الحلف بذلك المركب الوضعي الوهمي، الذي لا نسبة لأحد جزئيه وهو أبو بكر إلى الله تعالى، بل والى رسوله أيضاً.

وأيضاً فلا حقّ لأبي بكر من نظر الشيعة حتّى يتجه لهم الحلف بحق اثنين أحدهما أبوبكر، بل هو عندهم ممّن أضاع حقّ الله تعالى وحق نبيّه وأهل بيته عليه وعليهم السلام كما سبق فيه الكلام، وكأنّ من يتوقع صدور هذا القسم من القسم عن الشيعة لم يسمع القصة الّتى ذكرها غوث الحكماء الأمير غياث الدين منصور الشيرازي رحمه الله في شرح الهياكل، حيث قال: إنّ رجلاً جباناً ضعيفاً يدعى بعثمان أخذ حيّة عظيمة أضعفها البرد فأسقطت قواها فكان يلعب بها حتّى أشرقت عليها الشمس فانتعشت واشتدّت وعضّت، فهرب الصاحب منها، فلمّا فارقها صادف شيعيّاً كان بينهما عداوة قديمة وأخبره عن حاله وقال له خذ لي هذه الحيّة بحقّ عثمان، فقال الشيعي: انظروا أيّ رجل، يزاول أيّ صنعة؟ ! ثمّ يأمر أيّ شخص إلى أيّ عمل بأىّ قسم.


1- سورة يوسف: 39.

ص: 149

ردّ دعوى المنّة بالتزويج والإنفاق

قال ابن حجر: «أخرج الترمذي عن على رضى الله عنه أنّ رسول الله (ص) قال:

«رحم الله أبا بكر زوّجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً من ماله وما نفعني مال في الإسلام ما نفعني مال أبي بكر» . (1)وقوله:

«وحملني إلى دار الهجرة» قد ينافيه حديث البخاري أنّه لم يأخذ الراحلة من أبي بكر إلّا بالثمّن إلّا أن يجمع بأنّ أخذها أوّلاً بالثمّن ثمّ أبرأ أبو بكر ذمّته» . (2)

أقول : يدلّ على وضعه مع غضّ النظر عن خصوصيّة الترمذي الراوي ومقرره، ما ذكره من منافاته لحديث البخاري.

وقوله: «زوّجني ابنته» فإنّه لا يظهر المنّة في مثل هذا إلّا الرجل المهان والخسيس، الذي تكرّم به الرجل المطاع الشريف بتزويج ابنته منه، ومن البيّن انعكاس الأمر فيما نحن فيه فإنّ رذالة قوم أبي بكر ومهانة نفسه بشهادة أبي سفيان عليه بذلك، وكونه خيّاطاً في الإسلام ومعلّماً للصبيان في الجاهليّة.

وأمّا نبيّنا (ص) فهو هو، وهو الذي خطب له أبو طالب رضى الله عنه عند نكاحه بخديجة (رضي الله عنها) ومن شاهده من قريش بقوله:

«الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذريّة إسماعيل وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كلّ شيء وجعلنا الحكام على الناس في بلدنا الذي نحن فيه، ثمّ ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لا يوزن برجل من قريش إلّا رجح، ولا يقاس بأحد منهم إلّا عظم عنه. . .» . (3)

كما أنّ إعتاق أبي بكر لبلال من ماله لا يصلح لأن يصير منّة على رسول الله (ص) ، وكم من عبد لله أعتقه غير أبي بكر من المهاجرين والأنصار في زمانه (ص) ، مع احتمال أن يكون إعتاقه

لبلال في كفارة قسم أو صوم أو ظهار ونحو ذلك، فلا منّة له في ذلك على الله تعالى ولا على


1- أخرجه الترمذى، ج5، ص633؛ ابن عساكر، ج39، ص71؛ الحاكم، ج3، ص76؛ البزار، ج3، ص51؛ أبو يعلى، ج1، ص418.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص88.
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص2٠؛ السيرة الحلبية، ج1، ص139؛ تاريخ الخميس، ج1، ص264؛ المواهب اللدنية، ج1، ص139؛ أعلام الورى، الطبرسي، ص139.

ص: 150

رسوله (ص) ؛ لأنّ الإعتاق أمر شخصي ولا يُحمّل الغير منّته. وأنّ نفعه بمال أبي بكر ممّا قد أبطلناه سابقاً بما حاصله أنّه لم يكن ذا مال لا في الجاهليّة ولا في الإسلام، وكان الترمذي الراوي، وابن حجر قد تفرّدا بوضع هذه الرواية.

ردّ دعوى اقتران اسم أبي بكر مع اسم النبيّ (ص)

قال ابن حجر: «وأخرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) :

«عرج بى إلى السماء فما مررت بسماء إلّا وجدت فيها اسمى محمد رسول الله وأبو بكر الصديق خلفي» (1)، وورد هذا الحديث أيضاً من رواية ابن عباس وابن عمر، وأنس، وأبي سعيد، وأبي الدرداء وأسانيدها كلّها ضعيفة لكنّها ترتقي بمجموعها إلى درجة الحسن» . (2)

أقول : هذا الحديث مع كونه أوّل رواية أبي هريرة وعبارته ركيكة وغير مفهومه، فهو غير محصل، فلا يصدر عن الفصيح؛ وكيف ينقش في السماوات الّتي هي الإجرام الشريفة اسم أبي بكر في أزل الآزال، مع سبق كفره على زمان الحال، ولقد أنطقه الله بالحقّ حيث قال: إنّ أسانيدها كلّها ضعيفة؟ !

وأمّا ما ذكره بقوله «لكن ترتقي بمجموعها إلى درجة الحسن» فإنّما يصحّ لو لم يكن الضعف بالغاً إلى درجة الوضع مع أنّ أمارات الوضع عليه ظاهرة لفظاً ومعنى وإسناداً كما عرفت.

ثمّ الظاهر أنّهم وضعوا هذا في مقابل الحديث المتّفق عليه الذي ذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء عن قوله (ص) :

«أنّه مكتوب على العرش: محمد رسول الله، أيدته بعلي» ، وأين هنا من ذاك ونعم ما قال بعض أهل الإدراك:

اسم على العرش مكتوب كما نقلوا من يستطع له محواً وترقينا (3)


1- كنزالعمال، ج 11، ص 549.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص91.
3- من قصيدة للقاضي نظام الدين محمد الاصفهاني.

ص: 151

ردّ دعوى الرضا عن الرب وعدمه

قال ابن حجر: «وأخرج البغوي وابن عساكر عن ابن عمر قال كنت عند النبيّ (ص) وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال فنزل عليه جبرائيل فقال:

«يا محمد مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال؟ !» فقال: «يا جبرائيل أنفق ماله على قبل الفتح» ، قال: فإنّ الله يقرؤه السلام ويقول قل له: أراض أنت عنّى في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال: أبو بكر أسخط على ربّي؟ أنا عن ربّى راض، أنا عن ربّى راض، أنا عن ربّى راض» . (1)وسنده غريب ضعيف!» (2)

أقول : هذا من غرائب موضوعاتهم، وذلك من وجوه:

أوّلاً: لأنّه أوّل راويه ابن عمر الذي سمعت منّا القدح فيه سابقاً وأنّ أبا حنيفة لم يعمل بحديثه أبداً.

ثانياً: لأنّه بعد هجرة النبيّ (ص) إلى المدينة وقبل فتح مكة، فتح الله تعالى عليه وعلى أصحابه من غنائم الكفار وبلدانهم ما أزال فقرهم، فكان لبس أبي بكر للعباء المبتذل المذكور للزرق والتلبيس، لا للفقر. فلا وجه لسؤال الحكيم الخبير وجه فقره إلى لبس تلك العباءة عنه.

ثالثاً: لأنّ ما نسبه إلى النبيّ (ص) من قوله «أنفق ماله على قبل الفتح» ورد بما ذكرنا سابقاً من اتفاق أهل الأثر على أنّ أبا بكر ورد المدينة وهو محتاج إلى مواساة الأنصار، في المال والدار، فمن أين حصل له المال الذي أنفقه على سيّد الأبرار؟ !

وممّا نقلناه عن البكري المصري من أنّ أبا بكر لم يكن في زمان سافر فيه النبيّ (ص) مع

أبي طالب رضى الله عنه إلى الشام بحال من يملك، ولا ملك بلالاً إلّا بعد ثلاثين سنة، فافهم.

رابعاً: فلأنّه لا يعقل ما تضمنه الحديث من سؤال الله تعالى عن رضى عبده عنه، ولو فرضنا أنّ العبد قال لربِّه: إنّى لست براض عنك، فماذا سيكون الجواب؟ !


1- كنز العمال، ج36، ص36٠؛ حلية الأولياء، أبو نعيم، ج7، ص105.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص92 و 93.

ص: 152

ردّ دعوى عدم شرب أبي بكر للخمر

قال ابن حجر: «وأخرج ابن عساكر أنّه قيل لأبي بكر في مجمع من الصحابة: هل شربت الخمر في الجاهليّة؟ فقال: أعوذ بالله، فقيل له لم؟ قال: وكنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فبلغ ذلك رسول الله (ص) فقال: «صدق أبو بكر، صدق أبو بكر» . (1)ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص93.

(2)وهو مرسل غريب سنداً ومتناً» . (3)

أقول : ومع غضّ النظر عن الغرابة والإرسال يكذبه ما رواه هذا الشيخ الكذوب الذي لاحافظة له عن ابن عساكر أيضاً متصلاً في الذكر لهذه الرواية من قول عائشة:

ولقد ترك أبوبكر وعثمان شرب الخمر في الجاهليّة. فظهر أنّ الحديث موضوع للعصبية الجاهليّة.

ردّ دعوى عدم قول الشعر من أبي بكر

قال ابن حجر (4): «وأخرج ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة قالت: والله ما قال أبوبكر شعراً قطّ في الجاهليّة والإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهليّة» . (5)

أقول : إنّ عدم قوله للشعر إنّما كان لعدم قدرته على نظمه، لا لترفعه عن النسبة إلى

الشعر، كما هو شأن النبيّ (ص) وإلّا فليس مطلق الشعر ممّا يستحبّ لغير النبيّ (ص) الترفع عنه، ولو كان كذلك لما اجتمع لأمير المؤمنين (ع) ديوان من الشعر وكيف يتأتّى أن يقال مطلق الشعر قبيح؟ ! مع ما ورد من كلامه (ص) :

«إنّ من الشعر لحكمة» . (6)


1- معرفة الصحابة، أبو نعيم، ج1، ص1
2- 6؛ كنز العمال، ج12، ص 487، ح 35598؛ تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج3٠، ص333؛ ابن جرير، الرياض النضرة، ج2، ص146.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص93.
4- المصدر السابق.
5- معرفة الصحابة، أبو نعيم، ج1، ص123.
6- السنن الصغرى، ج3، ص3٠4.

ص: 153

ردّ دعوى رؤية أبي بكر لدلائل النبوّة

قال ابن حجر: «أخرج أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس أنّ رسول الله (ص) قال:

«ما كلمت أحداً في الإسلام إلّا أبي على، وراجعني الكلام إلّا ابن أبي قحافة فإنّى لم أكلمه في شيء إلّا قبله واستقام عليه» ، (1)وفي رواية لابن إسحاق: «ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلّا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلّا أبا بكر ما عتم أيّ تلبث عنه حين ذكرته وما تردد فيه» ، (2)قال البيهقى: وهذا لأنّه كان يرى دلائل نبوّة رسول الله (ص) ويسمع آثاره قبل دعوته، فحين دعاه كان سبق له فيه تفكر ونظر فأسلم في الحال» . (3)

أقول : إنّما أسلم أو استسلم أبو بكر طمعاً في جاه النبيّ (ص) وسيطرته، حيث وجد الأخبار عن ذلك لدى بعض الرهبان وأحبار أهل الكتاب، فلسبق هذا الوجدان والطمع استسلم ولم يتردد بين يدي النبيّ (ص) .

ردّ دعوى «ألست أحقّ الناس بها؟ !» أي: بالخلافة

قال ابن حجر: «وأخرج الترمذي وابن حبان في صحيحه عن أبي بكر أنّه قال:

«ألست أحقّ الناس بها؟ ! - أي بالخلافة - ألست أوّل من أسلم؟ ! . . .» (4)، والطبراني في الكبير

وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس: أيّ الناس كان أوّل إسلاماً؟ قال: أبو بكر ألم تسمع قول حسان:

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة

والثاني التالي المحمود مشهد هو أول الناس منهم، صدّق الرسل ومن ثمّ ذهب خلائق


1- جامع الأحاديث، السيوطي، ج19، ص83؛ الديلمي، ج4، ص73.
2- دلائل النبوة، البيهقي، ج2، ص43.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، صص93 و 94.
4- سنن الترمذي، ج13، ص265؛ مسند البزار، ج1، ص19.

ص: 154

من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى أنّه أوّل الناس إسلاماً، بل ادّعى بعضهم عليه الإجماع، وجمع بين هذا وغيره من الأحاديث المنافية له بأنّه أوّل الرجال إسلاماً، وخديجة أوّل في النساء، وعلى أوّل الصبيان، وزيد أوّل الموالى، وبلال أوّل الأرقّاء، وخالف في ذلك ابن كثير فقال: إنّ الظاهر أنّ أهل بيته آمنوا قبل كلّ أحد، زوجته خديجة، ومولاه زيد، وزوجته أم أيمن، وعلىّ وورقة، ويؤيّده ما صحّ عن سعد بن أبي وقاص أنّه أسلم قبله أكثر من خمسة قال: ولكن كان خيرنا إسلاماً» . (1)

أقول : إنّ قول أبي بكر «ألست أحقّ الناس بها؟ ! أي: بالخلافة» مجرّد دعوى ولهذا لم يجب عنه أحد من السامعين لها هناك بالنفي ولا الإثبات.

وأمّا ما نقله عن الطبراني، فجميع رجال أسناده عندنا مطعونون، سيّما عامر الشعبي الذي تخلّف عن الحسين (ع) وخرج مع عبد الرحمن بن محمد الأشعث وقال له الحجاج: أنت المعين علينا؟ فقال: نعم، ما كنا ببررة أتقياء ولا فجرة أقوياء. وهو الذي دخل بيت المال فسرق في خفّه مائة درهم. (2)

وأمّا ما ذكره من قول حسّان ففيه: إنّه قد انحرف كغيره بعد وفاة النبيّ (ص) عن أهل البيت عليهم السلام وأظهر عداوته لعلي (ع) في مواضع شتى، منها أنّه لما عزل علي (ع) قيساً عن حكومة مصر وخرج قيس من مصر ووصل إلى المدينة متوجهاً إلى زيارة علي (ع) واللّحوق به في حرب صفين، دخل عليه حسان وبالغ في دلالته إلى الانحراف عن علي (ع) واللّحوق مع

معاوية، حتّى أنكر عليه قيس رضى الله عنه ذلك فشتمه وأخرجه من مجلسه. وقد روى شيخنا المفيد قدس سره في كتاب (الإرشاد) أنّه لما أنشد حسان في غدير خم قصيدته المشهورة المتضمّنة لما وقع في ذلك اليوم من نصب علي (ع) بالخلافة والولاية بعد النبيّ (ص) ، قال له الرسول (ص) :

«لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» (3)، وإنّما اشترط رسول الله (ص) في الدعاء له لعلمه بعاقبة أمر حسان في الخلاف، ولو علم سلامته في المستقبل من الأحوال لدعا له على الإطلاق، ومثل


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص94.
2- الطبري، المسترشد، صص182و 183.
3- الأميني، الغدير، ج2، ص34.

ص: 155

ذلك ما اشترط الله في مدح أزواج النبيّ (ص) ولم يمدحهن من غير اشتراط؛ لعلمه تعالى بأنّ منهنَّ من تتغيّر بعد الحال عن الصلاح الذي تستحقّ عليه المدح والإكرام فقال: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ (1)، ولم يجعلهن في ذلك حسب ما جعل أهل بيت النبيّ (ص) في محل الإكرام والمدح، حيث يقول في إيثارهم المسكين واليتيم والأسير على أنفسهم مع الخصاصة الّتي كانت بهم وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ، إلى قوله تعالى: وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (2)، فقطع لهم بالجزاء ولم يشرط لهم كما اشترط لغيرهم باختلاف الأحوال على ما بيّناه.

وأمّا ما ادّعاه من تقدّم إسلام أبي بكر مستنداً إلى الأخبار الموضوعة تارةً، والى نقل بعضهم للإجماع في ذلك أخرى، ثمّ تكلّف الجمع بما لا يمكن جمعه، فإعماله الحيلة واختراع الوسيلة ووضع الكذب لنصرة مذهب القبيلة عليها ظاهر، والحقّ تأخّر إسلامه كما نقله عن ابن كثير وصحّحه عن سعد بن أبي وقاص ويؤيّده ما ذكره ابن الأثير في كتاب (أسد الغابة في معرفة الصحابة) عن ضمرة بن ربيعة أنّه قال: كان إسلام أبي بكر مسبباً عن إسلام خالد بن سعيد الأموي، وذكر في هذا قصّةً طويلةً. (3)

ردّ دعوى الفضائل المشتركة

قال ابن حجر (4): «في ذكر فضائل أبي بكر الواردة فيه مع ضميمة غيره كعمر وعثمان وعلي وغيرهم إليه أخرج الحاكم في (الكنى) ، وابن عدى في (الكامل) ، والخطيب في (تأريخه) ، عن أبي هريرة أنّ رسول (ص) قال:

«أبو بكر وعمر خير الأولين والآخرين، وخير أهل السموات وخير أهل الأرض إلّا النبيّين والمرسلين» . (5)


1- سورة الأحزاب: 32.
2- سورة الإنسان: 8 - 12.
3- أسد الغابة، ج2، صص82 و 83، ترجمة خالد بن سعيد؛ ابن الأثير، البداية والنهاية، ج3، صص44 و 45.
4- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص95.
5- الجامع الكبير، ج1، ص5٠6؛ ابن عدى، ج2، ص18٠، جبرون بن واقد؛ والخطيب، ج5، ص252، وابن عساكر، ج3٠، ص182، وأقره الحافظ فى اللسان، ج2، ص94، كلاهما فى ترجمة جبرون بن واقد.

ص: 156

أقول : هذا الحديث موضوع في مقابلة ما رُوي من قوله (ص) :

«محمد وعلى خير البشر، ومن أبي فقد كفر» ، (1)وقد كفى مؤنة القدح فيه ودفع ما يعرض فيه العامّي من الحيرة، كونه أوّل راويه أبا هريرة.

ردّ دعوى: اقتدوا بالّذين من بعدى أبي بكر وعمر

قال ابن حجر (2): «أخرج الطبراني، عن أبي الدرداء «اقتدوا باللذين من بعدى، أبي بكر وعمر فإنّهما حبل الله الممدود، من تمسّك بهما فقد تمسّك بالعروة الوثقى لا انفصام لها» وله طرق مرّت في أحاديث الخلافة» . (3)

أقول : قد سبق منّا الكلام عن مقدّمة هذا الحديث فيما ذكره ابن حجر من أحاديث الخلافة، وأمّا الزيادة المذكورة هنا فقد وضعوها في مقابل ما روى أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي سعيد الخدرى عندما قال: قال رسول الله (ص) :

«إنّى قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى، الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتى، ألا وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىَّ الحوض» . (4)

وكذلك ما رواه الزمخشري باسناده أنّ رسول الله (ص) قال:

«فاطمة مهجة قلبي، وابناها

ثمّرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمّة من ولدها أمناء ربّى، وحبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم بهم نجا ومن تخلّف عنهم هوى» . (5)

ردّ دعوى ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض

قال ابن حجر (6): «وأخرج الترمذي عن أبي سعيد أن النبيّ (ص) قال:

«ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض، فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبرئيل


1- تاريخ مدينة دمشق، ج42، ص372؛ ابن الأثير، البداية والنهاية، ج12، ص78.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص95.
3- مسند الشاميين، ج2، ص57.
4- مسند أحمد، ج3، ص26، ما أسند عن أبي سعيد الخدري.
5- محمود بن عمر الزمخشري، المناقب، ص213.
6- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص95.

ص: 157

وميكائيل، وأمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» . (1)

أقول : إنّ الوزارة في اللّغة تستعمل بمعنى المعونة، ومعونة رسول الله (ص) لا تكون إلّا من جهتين لا ثالث لهما:

أولاً: المعونة في التأدية والإبلاغ إلى الناس من دين الله عزّ وجل الذي جاء به من عنده، كما قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً ، (2)فكان هارون مبلّغاً مع موسى مؤديّاً معه رسالات الله تعالى معيناً له على دين الله تعالى.

ثانياً: المعونة بمجاهدة الكفار ومحاربتهم.

ولم يكن أبو بكر مُعيناً للنبيّ (ص) بشيء من هاذين الوجهين وهو ظاهر، ولا نعرف في معونة الرسول وجهاً ثالثاً؛ وذلك أنّ في الوزارة لسائر الناس ما يكون معه الرؤى والمشاورة والتدبير، وقد قدّمنا الإشارة إلى أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يظنّ هذا برسول الله (ص) ؛ لأنّ الرسل لا يستعملون آراءهم وتدبيرهم دون تدبير الله وأمره، وإنّما هم يصيّرونه عن أمر الله ونهيه وتدبيره في وجوه متصرّفاتهم من حرب إلى سلم ومن تقديم إلى تأخير، إلى غير ذلك. ومن

كان الله مدبّره ومختاراً له في متصرّفاته، كان مستغنياً عن مشاورة رعيته وتدبيرهم، وهذا ما لا يجوز أن نظنّه دونهم في نبيّ ولا رسول ولا حجّة لله يحتج بها على عباده.

وأيضاً يكذّب ما ذكره من أنّ لكلّ نبي وزيرين من أهل الأرض، أنّ موسى (ع) مع كونه نبيّاً من أولي العزم، لم يسمع أحد أنّ له غير هارون (ع) وزيراً، فظهر أنّ في الخبر وضعاً وتزويراً.

ردّ دعوى: هاذان سيدا كهول أهل الجنّة من الأولين والآخرين

قال ابن حجر (3): «وأخرج أحمد والترمذي عن علي وابن ماجه عنه أيضاً وعن أبي جحيفة وأبو يعلى في مسنده وأيضاً في المختار عن أنس، والطبراني في المعجم الأوسط عن جابر وعن


1- المستدرك على الصحيحين، ج7، ص175؛ المسند الجامع، ج6، 197.
2- سورة الفرقان: 35.
3- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص96.

ص: 158

أبي سعيد أنّ رسول الله (ص) قال:

«هاذان سيدا كهول أهل الجنّة من الأولين والآخرين إلّا النبيين والمرسلين» ، يعنى أبا بكر وعمر» . (1)

أقول : لعلّ ابن حجر إنّما بالغ في ذكر الكثرة من رجال هذا الحديث، وتعدد طرقهم فيه؛ إظهاراً لفضله وكثرة تتبعه على المحدثين من أصحابه، وإلّا فلا يخفى على أحد أنّ ذلك لا ينجع في الاحتجاج؛ لأنّه يوجب زيادة التهمة لا الظنّ بالصحّة وهو ظاهر، على أنّهم كما قال صاحب كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة رووا حديثاً آخر أبطلوا به هذا الحديث، وذلك أنّهم رووا بإجماع منهم ومن غيرهم أنّ الرسول (ص) قال:

«أهل الجنّة يدخلون الجنّة جرداً مرداً مكحّلين» ، (2)فإذا كانوا كذلك فلا كهول هناك ليكونا سيِّدَيْهم، ولو كان هناك أيضاً كهول كما زعموا، فهل كانت إمامة أبي بكر وعمر ورئاستهما على الكهول دون الشباب والمشايخ، أم كانت على الجميع؟ !

فإن قالوا: إنّها كانت على الكهول دون غيرهم فقد بان الخلل. وإن قالوا: بل كانت على

جميعهم، قيل لهم: فالسيّد في كلام العرب هو الرئيس، وليست الرئاسة أجلّ من الإمامة، فإذا كانا إمامين على الكهول وغيرهم فهما رئيسان على جميعهم، وإذا كانا رئيسين على الجميع فهما سيّدا الجميع، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة في قول الرسول (ص) :

«هما سيّدا كهول أهل الجنّة» ، ولعمري لو كان ذلك منه صحيحاً لبخسهما حقّهما؛ إذ قال: هما سيّدا كهول أهل الجنّة.

وقد يقال: معنى قوله

«هما سيّدا كهول أهل الجنّة» أنّهما سيّدا الكهول الذين يدخلون الجنّة، ولا يلزم منه كون بعض أهل الجنّة كهولاً حين كونهم في الجنّة، وأقول يرد عليه مع ما مرّ في كلام صاحب الاستغاثة من لزوم نقص إمامتهم وقصرها على الكهول، وقوع التعارض بينه وبين ما روى الجمهور في صحاح أحاديثهم أيضاً أنّ النبيّ (ص) قال:

«الحسن


1- المعجم الاوسط ج10، ص138؛
2- الاستغاثة، أبو القاسم الكوفي، ج2، ص38؛ مسند أحمد، ج2، ص295، ما أسند عن أبي هريرة وج5، ص243؛ سنن الترمذي، ج4، ص88؛ ابن أبي شيبة، المصنّف، ج8، ص75، كتاب 33.

ص: 159

والحسين سيدا شباب أهل الجنّة» (1)، وذلك لأنّ أسلوب الحديثين وسوقهما بعد تكلّف التقدير المذكور يقتضي وجود مناسبة في الموضعين، أعني لسيد الكهول مع الكهول في الكهول، ولسيد الشباب مع الشباب في الشباب، ولم يكن الحسن والحسين عليهما السلام شابين عند الوفاة حتّى يقال: هما سيّدا الشباب الذين يدخلون الجنّة وأبو بكر وعمر سيّدا الكهول الذين يدخلون الجنّة! فيلزم التعارض قطعاً.

وقال العاقولي في شرحه للمصابيح في تفسير حديث السبطين: إنّه لم يرد به سنّ الشباب لأنّهما عليهم السلام ماتا وقد كهلا، بل ما يفعله الشباب من المروءة كما يقال: فلان فتى وإن كان شيخاً إذا كان ذا مروءة وفتوة، فعلى هذا التفسير المجمع عليه يكونان هما سيّدي الشباب والكهول وسيّدي أبي بكر وعمر، أن كان لهما فتوة ومروءة، وفيه تكذيب صريح لحديث «سيّدا كهول أهل الجنّة» ، فتدبّر.

بطلان دعوى الملازمة في صحّة الاستخلاف

قال ابن حجر: «أنّا لا نحتاج إلى قيام البرهان على حقيّة خلافة عمر؛ لما هو معلوم عند كلّ ذي عقل وفهم أنّه يلزم من حقيّة خلافة أبي بكر حقيّة خلافة عمر، فكيف وقد قام الإجماع ونصوص الكتاب والسنّة على حقيّة خلافة أبي بكر؟ !» . (2)

أقول : لقد أبطلنا بتوفيق الله تعالى جميع ما ذكره في حقية خلافة أبي بكر من الأدلّة القاصرة والتحكّمات الناشئة عن المصادرة، وأثبتنا بطلان خلافته بتشييد أركان دلائل الشيعة على غصبه لها، فقد كفانا ذلك مؤنة الكلام في إبطال خلافة عمر وتضييع الوقت فيه؛ لأنّ بطلان الأوّل يستلزم بطلان الثاني، وكذا الكلام في خلافة عثمان، والله المستعان في كلّ الأمور.


1- مسند أحمد، ج3، ص62، ما اسند عن أبي سعيد، و ج5، ص391، حديث حذيفة؛ سنن ابن ماجة، ج1، ص44؛ سنن الترمذي، ج5، ص321؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج3، ص167؛ النووي، شرح مسلم، ج16، ص41؛ ابن أبي شيبة، المصنّف، ج7، ص512.
2- ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص109.

ص: 160

ص: 161

المصادر

* القرآن الكريم

1. الإبانة الكبرى عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي، تحقيق: د. عثمان عبد الله آدم الأثيوبي، الطبعة الثانية، الرياض، دارالراية، 1418ه. ق.

2. جامع الأصول من أحاديث الرسول، أبوالسعادات (ابن الأثير) .

3. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري.

4. الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، ترجمة: محمد باقر الخرسان، مؤسسة دار النعمان.

5. إحقاق الحقّ الأصل، مكتبة السيد المرعشي.

6. احقاق الحق و ازهاق الباطل، نور الله التستري، تحقيق وتقديم: شهاب الدين المرعشي النجفي، مطبعة المرعشي، بلا تأريخ نشر.

7. أحمد بن علي بن المثنى الموصلي أبو يعلى، مسند أبي يعلى الموصلي، الطبعة الأولى، بيروت، منشورات محمد علي بيضون، 1418ه. ق.

8. أسباب النزول، المدْيني الواحدي، مؤسسة الحلبي وشركاه.

9. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، دار الجيل.

10. أسد الغابة في معرفة الصحابة، علي بن أبي الكرم الشيباني المعروف بابن الأثير، دار الكتاب العربي.

ص: 162

11. أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب، محمد بن درويش بن محمد الجزري، دار الكتب العلمية.

12. أصول السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل أبو بكر السرخسي.

13. أعلامُ الورى بأعلام الهدى، الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق وإصدار: مؤسسة آل البيت دارإحياء التراث، الطبعة الأولى، قم المقدسة، 1417ه. ق.

14. أعلام الورى، الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسسة الوفاء.

15. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسي، الطبعة الثانية، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1983م.

16. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل ابن كثير، تحقيق: علي شيري، الطبعة الأولى، بيروت، نشر دار إحياء التراث، 14٠8ه. ق.

17. البداية والنهاية، اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء (ابن الأثير) ، بيروت، مكتبة المعارف.

18. تاريخ الخلفاء، عبد الرحمن بن ابي بكر السيوطي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، الطبعة الأولى، مصر، مطبعة السعادة، 1371ه. ق.

19. التأريخ الكبير، الحافظ أبي عبد الله إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري، بيروت، دارالفكر.

2٠. تاريخ اليعقوبي، محمّد بن يعقوب اليعقوبي، الطبعة الثانية، بيروت، دار الفكر، 14٠3ه. ق.

21. تأريخ بغداد أو مدينة السلام، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، بيروت، دار الكتاب العربي.

22. تأريخ بغداد، أحمد بن علي أبو بكر الخطيب البغدادي، بيروت، دار الكتب العلمية.

23. تاريخ دمشق، ابن عساكر الشافعي، تحقيق: علي شيري، بيروت، دار الفكر، 1415ه. ق.

24. تخريج أحاديث مختصر المنهاج، الحافظ العراقي زين الدين، طبعة حجرية.

ص: 163

25. تخريج أحاديث مختصر المنهاج، الحافظ العراقي.

26. تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1422ه. ق.

27. تفسير الثعلبي، الثعلبي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1422ه. ق.

28. تفسير الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي، بيروت داراحياء التراث العربي، 142٠.

29. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي، بيروت، دار الفكر، 14٠1ه. ق.

3٠. تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ابن كثير) ، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، الطبعة الثانية، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1999م.

31. التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي، بيروت، دار الفكر، 1995م.

32. تفسير مجاهد، إسلام آباد، مجمع البحوث الإسلامية.

33. تنزيه الأنبياء، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى، دار الأضواء.

34. ثواب الأعمال، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه الصدوق، قم، 1368ه. ش.

35. الجامع الصغير، جلال الدين السيوطي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر، 14٠1ه. ق.

36. الجامع بين آداب الراوي والسامع، نسخة خطيّة.

37. الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم، محمد بن فتوح الحميدي، تحقيق: د. علي حسين البواب، الطبعة الثانية، بيروت، دار ابن حزم، 2٠٠2م.

38. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الاصبهاني، طبعة مصر.

39. خصائص أمير المؤمنين (ع) ، عبد الرحمن أحمد النسائي، تحقيق: محمّد هادي الأميني، نشر مكتبة نينوى الحديثة.

ص: 164

4٠. الدّر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر، 1414ه. ق.

41. الدراري في شرح صحيح البخاري، شمس الدين الكرماني، دار الفكر.

42. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود أبو الفضل الآلوسي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

43. الروضة المختارة، ابن أبي الحديد، مؤسسة الأعلمي.

44. الرياض النضرة، ابن جرير المحب الطبري.

45. سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، حقق نصوصه، ورقم كتبه، وأبوابه، وأحاديثه، وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

46. سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق: محمد عبد الرحمن محمد، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر، 14٠3ه. ق.

47. السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي، بيروت، دار الفكر.

48. السيرة الحلبية، علي بن برهان الحلبي، بيروت، المكتبة الإسلامية.

49. الشافي في الإمامة، المرتضى، مؤسسة اسماعيليان.

5٠. الشرح الجديد للتجريد، العلامة علاء الدين بن محمّد القوشجي.

51. شرح الشفاء، القاري، بهامش نسيم الرياض، دار الفكر.

52. شرح صحيح مسلم، أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، بيروت، دار الكتاب العربي، 14٠7ه. ق.

53. شرح المواقف، علي بن محمد الجرجاني، مصر، مطبعة السعادة، الاولى، 1325.

54. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقيق: محمد إبراهيم، نشر دار إحياء الكتب العربية.

55. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، علاء الدين بن علي بن حبان، الطبعة الثانية، 1414ه. ق.

56. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، بيروت، نشر دار الفكر، 1414ه. ق.

ص: 165

57. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، بيروت، دار الفكر.

58. الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الله التركي وكامل محمد الخراط، الطبعة الأولى، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1997م.

59. الطبقات الكبرى، ابن سعد، محمد بن سعد الهاشمي البصري، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1410ه. ق.

6٠. الطبقات الكبرى، ابن سعد، محمد بن منيع أبو عبدالله البصري الزهري، المحقق: إحسان عباس، الطبعة الأولى، بيروت، دار صادر، 1968م.

61. العثمانية، الجاحظ، مصر، دار الكتاب العربي.

62. عمدة القاري شرح صحيح البخاري، الحنفي بدر الدين العيني، دار إحياء التراث العربي.

63. عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، الحافظ يحيى بن الحسن الاسدي الحلي بن بطريق، قم المشرفة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 14٠7ه. ق.

64. غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، بيروت، المكتب الإسلامي، 14٠5ه. ق.

65. غاية المقصد في زوائد المسند، علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، مكتبة صيد الفوائد.

66. الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، عبد الحسين أحمد الأميني النجفي، الطبعة الأولى، قم المقدسة، تحقيق ونشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1416ه. ق.

67. غنية النزوع، ابن زهرة، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، بإشراف: سماحة العلامة جعفر السبحاني، الطبعة الأولى، قم المقدسة، مؤسسة الإمام الصادق (ع) مطبعة اعتماد، 1417ه. ق.

68. فتح الباري في شرح صحيح البخاري، شهاب الدين بن حجر العسقلاني، الطبعة

ص: 166

69. الفوائد، عبد الرحمن بن عمرو النصري المشهور بأبي زرعة الدمشقي، تحقيق: رجب بن عبد المقصود، الكويت، مكتبة الإمام الذهبي، 2٠٠3م.

7٠. فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، الطبعة الأولى، مصر، المكتبة التجارية الكبرى، 1356ه. ق.

71. الكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي الجرجاني، تحقيق: يحيى مختار غزاوي، الطبعة الثالثة، بيروت، دار الفكر، 1988م.

72. كتاب سليم بن قيس، تحقيق: محمّد باقر الأنصاري، قم.

73. الكشاف، محمد بن عمر الزمخشري، الطبعة الثانية، قم المقدسة، مؤسسة البلاغ، 1415ه. ق.

74. كشف الغمّة في معرفة الأئمة، العلامة أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي، بيروت، دار الكتاب الإسلامي، 14٠1ه. ق.

75. كمال الدين وتمام النعمة، محمد بن علي بن بابويه قمي، قم المقدسة، مؤسسة جامعة المدرسين.

76. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علي بن حسام الدين المتقي الهندي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1989م.

77. لسان الميزان، شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي.

78. المبسوط، شمس الدين السرخسي، ترجمة: جمع من الأفاضل، بيروت، دار المعرفة، 14٠6ه. ق.

79. مجمع الزوائد، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، بيروت، دار الفكر، 1412ه. ق.

8٠. مجموعة ورام، ورام بن أبى فراس، قم المقدسة، انتشارات مكتبة الفقيه.

81. المحلى، علي بن سعيد بن حزم، بيروت، دار الفكر.

82. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي القاري، تحقيق: جمال عيتاني، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 2٠٠1م.

ص: 167

83. المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، بيروت، دار المعرفة.

84. المستدرك على الصحيحين، النيسابوري الحاكم، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 199٠م.

85. المسترشد، محمد بن جرير الطبري، مؤسسة الثقافة الإسلامية لكوشانبور.

86. مسند ابن الجعد، ابن الجعد علي بن عبيد أبو الحسن الجوهري البغدادي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية مؤسسة نادر، 1410 - 199٠م.

87. مسند أبي عوانه، أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني، بيروت، نشر دار المعرفة.

88. مسند ابي يعلى، ابو يعلى احمد بن علي بن المثنى الموصلي، الطبعة الأولى، بيروت، منشورات محمد علي بيضون، دارالكتب العلمية، 1418ه.

89. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، الطبعة الأولى، القاهرة، دار الحديث، 1995م.

9٠. مسند البزّار، البزار، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله مؤسسة علوم القرآن، الطبعة الأولى، بيروت، مكتبة العلوم والحكم، 14٠9ه. ق.

91. مسند الحميدي، أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله القرشي الأسدي الحميدي المكي، موقع وزارة الأوقاف المصرية.

92. مسند الشاميين، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، الطبعة الأولى، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1984م.

93. المصنّف في الأحاديث والآثار، أبو بكر عبد الله محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: كمال يوسف حوت، الطبعة الثانية، الرياض، نشر مكتبة الرشيد.

94. المصنف، أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى، نشر المجلس العلمي، 14٠3ه. ق.

95. المصنّف، عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: محمد سعيد اللحام، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر، 14٠9ه. ق.

ص: 168

96. المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، تحقيق: إبراهيم الحسيني، مؤسسة دار الحرمين.

97. المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، الطبعة الثانية، الموصل، مكتبة العلوم والحكم، 1983م.

98. من لا يحضره الفقيه، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه الصدوق، قم المقدسة، جماعة المدرسين، 14٠4ه. ق.

99. مناقب آل أبي طالب، مشير الدين محمّد بن شهر آشوب، النجف الأشرف، نشر المطبعة الحيدريّة، 1376ه. ق.

10٠. المناقب، ابن المغازلي، طبعة طهران.

101. الموطأ، مالك بن أنس المالكي، تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، نشر دار إحياء التراث العربي، 14٠6ه. ق.

102. ميزان الاعتدال، محمّد بن أحمد الذهبي، تحقيق: علي محمّد البجاوي، الطبعة الأولى، بيروت، دار المعرفة، 1382ه. ق.

103. نهج الإيمان، علي بن يوسف بن جبير (جبر) ، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني، الطبعة الأولى، مشهد المقدسة، نشر مجتمع الإمام الهادي (ع) ، 1418ه. ق.

104. ينابيع المودة، سليمان بن الشيخ إبراهيم الحُسيني البلخي القندوزي الحنفي، الطبعة الأولى، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1418ه. ق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.