شبهات و ایضاحات حول اصول الفقه للشیعه الامامیه

اشارة

سرشناسه : سبحانی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : شبهات و ایضاحات حول اصول الفقه للشیعة الامامیة/ جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : تهران: مشعر، 1387.

مشخصات ظاهری : 112 ص.

شابک : 8500 ریال 978-964-540-148-9:

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع : اصول فقه شیعه.

رده بندی کنگره : BP159/8/س2ش2 1387

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 1319229

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

المقدّمة

لقد قمنا بزيارة المملكة المغربية في مستهلّ عام 1425 ه، وتعرّفتُ على رجال الفكر و الثقافة في تلك البلاد من خلال إلقاء المحاضرات في غير واحدة من جامعاتها وحول مواضيع مختلفة. وقد دُوّنتْ خاطراتي حول هذه الرحلة في كتاب أسميناه: «الرحلة المغربية» وانتشر.

وممّا يجب ذكره: إنّي قد ألقيت محاضرة حول تطوّر أُصول الفقه عند الإمامية في جامعة القرويين في مدينة «فاس» بتاريخ 4 محرم الحرام 1425 ه، وذكرت فيها

ص: 6

التطوّر الّذي أحدثه علماء الإمامية في علم الأُصول عبر القرون على نحو لا يُرى نظيره في المدارس الأُخرى، وذكرنا نماذج من تقدّم الحركة الأُصولية، وقد أعقبت هذه المحاضرة مناقشات واستفسارات أجبنا عنها حسب ما سمح لنا الوقت بذلك.

و في اليوم الأخير من سفرنا والّذي غادرنا فيه المملكة المغربية زرنا صباحاً مؤسسة «دار الحديث الحسنية» الّتي يديرها الدكتور أحمد الخمليشي، و قد استقبلونا بحفاوة وتكريم، و تعرّفنا هناك على عدد من الأساتذة المحترمين من أصحاب الاختصاصات المتنوّعة، و قد دار الحديث خلال هذه الزيارة في مواضيع عديدة لا يسع المجال لذكرها هنا.

كلّ ذلك كان بفضل ربّنا سبحانه و تعالى حيث التقينا بشخصيات علمية بارزة، و لمسنا منهم حبّ المعرفة و الاطّلاع على مذهب الشيعة الإماميّة

ص: 7

والتقريب بين المسلمين، و الاهتمام بالتبادل الثقافي بين الجمهورية الإسلامية و المملكة المغربية.

*** و قد وقفنا في هذه الأيام على مقال نشر في العدد الثاني من مجلة «الواضحة»، الصادرة عن «دارالحديث الحسنية» في المغرب المؤرخ في 1425 ه- 2004 م. تحت عنوان «أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية»- تقديم وتقويم- بقلم: الدكتور أحمد الريسوني، الأُستاذ في جامعة محمد الخامس في الرباط.

و من حسن الحظ أنّا قد التقينا بصاحب المقال مرّتين:

الأُولى: خلال إلقاء محاضرة في كلّية الآداب والعلوم الإسلامية جامعة محمد الخامس، والّتي كان موضوعها: «الفقه الإسلامي و أدواره التاريخية».

الثانية: كانت خلال الحفل الّذي أُقيم في سفارة

ص: 8

الجمهورية الإسلامية في المغرب لتكريم ضيفها.

و نشكر الله الّذي هيّأ لنا هذه اللقاءات الأخوية.

و قد قرأت المقال و وجدت أنّ المواضيع الّتي تخضع للبحث و النقاش فيه عبارة عمّايلي:

1. تأخّر الشيعة في تدوين علم الأُصول عن السنّة.

2. أدلّة الأحكام عند الشيعة الإمامية، و منها سنّة الأئمة الاثني عشر و الإجماع.

3. الإمامية ترفض الأخذ بالقياس و الاستصلاح لأنّها أدلّة ظنية، و في الوقت نفسه يعملون بالظنّيات كالعمل بأخبار الآحاد.

4. الإمامية يقولون بحجّية الدليل العقلي بينما يرفضون القياس، و هو من بديهيات العقول و أوّلياتها.

5. الإمامية ترفض حجّية المصلحة؟! و لكنّهم يأخذونها بأسماء و أشكال متعدّدة.

هذه هي المحاور الّتي يدور عليها مقال الدكتور و

ص: 9

الّذي استعرض فيها وجهة نظره بعبارات مهذّبة، و نحن نتناول تلك الأُمور بالبحث و المناقشة ضمن فصول، استجابة لما أفاده في مقدّمة مقاله قائلًا:

على أنّني حين أضع هذا المقال في سياق التقريب والسعي نحو التفاهم، فإنّي لاأنفي حتمية النقاش الصريح و النقد الحرّ المتبادل؛ لأنّ التقريب المنشود لا يمكن أن يبنى على المجاملة أو المحاباة، و لكنّه بحاجة إلى تحسين الظن، و تهذيب الخطاب، و تحمّل النقد بحثاً عمّا فيه من حقّ لقبوله، لابحثاً- فقط- عمّا فيه من مداخل لنقضه و تسفيهه.

ص: 10

ص: 11

1: التقدّم في التأسيس أو التدوين

إنّ واقع العلم المنتشر قائم بأمرين:

1. إلقاء الأفكار الّتي تنقدح في أذهان المؤسّسين إلى تلاميذهم.

2. تدوين الأفكار من قبل المؤسّسين أو تلاميذهم الذين اقتبسوا من أضوائهم و استلهموا تلك الأفكار. و ليس علم الأُصول شاذّاً عن هذه القاعدة.

وحيث كانت الغاية من علم الأُصول هو تعليم الفقيه كيفية إقامة الدليل على الحكم الشرعي

ص: 12

واستنطاق الأدلّة الشرعية لاستنباط الحكم الشرعي في الحقول المختلفة، فإنّ أئمة أهل البيت(ع)- لا سيّما الإمامين الباقر و الصادق(ع)- هم السابقون في هذا الميدان، فقد أملَوا على أصحابهم قواعد كلّيّة تتضمّن قواعد أُصولية تارة و قواعد فقهية تارة أُخرى، فربّوا جيلًا كبيراً من الفقهاء في مجال الاجتهاد والاستنباط حفلت معاجم الرجال و التراجم بأسمائهم وآثارهم.

فمن سبَر ما وصل إلينا من آثار الفقهاء في القرن الثاني والثالث ممّن تربّوا في أحضان أهل البيت(ع)، يقف على مدى رقيّهم في سُلّم الاجتهاد، فمن باب المثال انظر إلى ما بقي إلى هذا الوقت من اجتهادات تلاميذ الإمامين الصادقين(ع)، نظير:

1. زرارة بن أعين(المتوفّى عام 150 ه) الّذي يقول في حقّه ابن النديم: زرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً.

ص: 13

2. محمد بن مسلم الثقفي(المتوفّى عام 150 ه(.

3. يونس بن عبد الرحمن(المتوفّى عام 208 ه(.

4. الفضل بن شاذان(المتوفّى عام 260 ه(، مؤلّف كتاب «الإيضاح» المطبوع.

إلى غيرهم من الفقهاء البارزين، الذين تركوا تراثاً فقهياً مستنبطاً من قواعد أُصولية و فقهية على نحو يبهر العقول، وقد ذكر ناشيئاً من فتاواهم و اجتهاداتهم في كتابنا(تاريخ الفقه الإسلامي و أدواره ج 1 ص 195- 202).

و قد كانت اجتهاداتهم و استنباطاتهم على ضوء قواعد تلقّوها عن أئمتهم(ع) و استضاءوا بنور علومهم. وقد جاءت هذه القواعد مبثوثة في ضمن أحاديث موجودة في جوامعنا الحديثية.

و قد قام جماعة من المحدّثين بفصل هذه الروايات وجمعها في مكان واحد، نذكر منهم:

ص: 14

1. فقد جمعها العلّامة المجلسي(1037- 1111 ه(ضمن موسوعته الكبيرة «بحار الأنوار»، في كتاب العقل و العلم. (1) 2. ألّف الشيخ الحرّ العاملي(المتوفّى 1104 ه(كتاباً مستقلًا في هذا المضمار أسماه «الفصول المهمة في أُصول الأئمة» و قد اشتمل على 86 باباً أودع فيها الأحاديث الّتي تتضمّن قواعد أُصولية و فقهية ممّا يبتني عليها الاستنباط.

3. صنّف المحدّث الخبير السيد عبد الله شبّر(المتوفّى 1242 ه(كتاباً أسماه «الأُصول الأصلية والقواعد الشرعية» يحتوي على مئة باب، وقد طبع الكتاب في 340 صفحة.

4. أخيرهم لا آخرهم العلّامة الفقيه السيد محمد هاشم الخوانساري الاصفهاني(المتوفّى 1318 ه(الّذي


1- بحار الأنوار: 2/ 266- 283.

ص: 15

خاض بحار الأحاديث و صرف برهة من عمره في جمع هذا النوع من الروايات المروية عن أهل البيت(ع)(و الّتي تتضمّن الأُصول و القواعد الّتي يبتني عليها الاستنباط) في كتاب سمّاه «أُصول آل الرسول» وأورد فيه خمسة آلاف حديث من هذا النوع، ولو أسقطنا المتكرّر منها لكان في الباقي غنى و كفاية، و هذا يشهد على تقدّم إئمة أهل البيت(ع) في تأسيس الفكرة وهداية الأُمّة إلى تلك القواعد و الأُصول.

هذا، وإنّ كثيراً من أئمة الفقه كانوا سبّاقين في التأسيس لا في التدوين، و إنّما قام بالتدوين تلاميذ منهجهم. و من المعلوم أنّ الفضل للمؤسّس لا للمدوّن.

هذا الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت(80- 150 ه(أحد أئمة المذاهب الأربعة، و مؤسّس الفقه الحنفي قد أسّس مدرسة فقهية توسّعت على يد تلاميذه، و أخصّ بالذكر منهم: تلميذه المعروف محمد بن الحسن

ص: 16

الشيباني(131- 189 ه(، و تلميذه الآخر القاضي أبايوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري(113- 182 ه(، و هذان الفقيهان اتّصلا بأبي حنيفة و انقطعا إليه و تفقّها على يديه و بهما انتشر المذهب، و الفضل للمؤسّس لا للمدّون.

و هذا هو أحمد بن محمد بن حنبل(164- 241 ه(الحافظ الكبير حيث لم يصنّف كتاباً في الفقه يُعدّ أصلًا و مرجعاً، و إنّما جمع أُصوله تلميذ تلميذه «الخلال» من الفتاوى المتشتّتة الموجودة بين أيدي الناس، وجاء من جاء بعده فاستثمرها و بلورها حتى صارت مذهباً من المذاهب.

يقول الشيخ أبوزهرة: إنّ أحمد لم يصنّف كتاباً في الفقه يُعدّ أصلًا يؤخذ منه مذهبه و يُعدّ مرجعه، و لم يكتب إلّا الحديث. (1)


1- ابن حنبل حياته و عصره لأبي زهرة: 168.

ص: 17

و مع هذا فقد صقل تلاميذه مذهبه و ألّفوا موسوعة فقهية كبيرة، كالمغني لابن قدامة ...

و أمّا مسألة التدوين فهي و إن كانت أمراً مهماً قابلًا للتقدير لكن لا نخوض فيها، على الرغم من وجود تآليف في أُصول الفقه للشيعة الإمامية يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني و أوائل القرن الثالث الهجري:

و من سبر تاريخ الحديث والفقه ودور الأئمة الاثني عشر و خاصّة الباقر و الصادق(ع) في حفظ سنة النبي(ص) وتوعية الناس، يقف على أنّ حضور مجالسهم كان واسعاً جداً، فكان يحضر فيها فئات مختلفة من طوائف المسلمين، و كانت خطاباتهم موجّهة إلى عامّة الحاضرين ... فإنّ الفوارق الّتي نشاهدها اليوم بين السنّة والشيعة لم تكن في عصر الإمامين(ع) على حدّ تصدّ غير شيعتهم عن الاختلاف إلى

ص: 18

مجالسهم ومحاضراتهم، فقد كان يشهد حلقات دروسهم فريق من التابعين وتابعي التابعين، من غير فرق بين من يعتقد بإمامتهم و قيادتهم أو من يرى أنّهم مراجع للعقائد و الأحكام.

هذا هو التاريخ يحكي عن أنّ حلقة درس الإمام الصادق كانت تضمّ عدداً كبيراً من رجال العلم، وهان نحن نذكر فيما يلي أسماء البارزين منهم:

1. النعمان بن ثابت(المتوفّى 150 ه(صاحب المذهب الفقهي المعروف. يقول محمود شكري الآلوسي في كتابه «مختصر التحفة الاثني عشرية»: هذا أبو حنيفة 2 و هو من بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنتان لهلك النعمان، يريد السنتين اللتين صحب فيهما- لأخذ العلم- الإمام جعفر الصادق(ع). (1)


1- مختصر التحفة: ص 8 طبع عام 1301 ه.

ص: 19

يقول أبو زهرة: وأبو حنيفة كان يروي عن الصادق [) ع)] كثيراً، واقرأ كتاب الآثار لأبي يوسف، و الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني فإنّك واجد فيهما رواية عن جعفر بن محمد في مواضع ليست قليلة. (1) 2. مالك بن أنس(المتوفّى 179 ه(و كانت له صلة تامّة بالإمام الصادق(ع)، و روى الحديث عنه، و اشتهر قوله: مارأت عين أفضل من جعفر بن محمد.

3. سفيان الثوري(المتوفّى 161 ه(من رؤساء المذهب و حملة الحديث و كان له اختصاص بالإمام الصادق(ع)، وقد روى عنه الحديث، كما روى كثيراً من آدابه و أخلاقه و مواعظه.

4. سفيان بن عيينة(المتوفّى 198 ه(وهو من رؤساء المذاهب البائدة.

5. شعبة بن الحجّاج(المتوفّى 160 ه(، خرّج له


1- الإمام الصادق: 38

ص: 20

أصحاب الصحاح و السنن.

6. فضيل بن عياض(المتوفّى 187 ه(، أحد أئمة الهدى و السنّة. خرّج له البخاري.

7. حاتم بن إسماعيل(المتوفّى 180 ه(خرّج له البخاري و مسلم، أخذ عن الصادق(ع)، و أخذ عنه خلق كثير.

8. حفص بن غياث(المتوفّى 194 ه(روى عن الصادق(ع)، و روى عنه أحمد و غيره.

9. إبراهيم بن محمد أبوإسحاق المدني(المتوفّى 191 ه(روى عن الصادق.

10. عبدالملك بن جريج القرشي(المتوفّى 149 ه(.

هذه عشرة كاملة، و من أراد أن يقف على حملة علمه و تلامذة منهجه من السنّة، فعليه بكتاب «الإمام الصادق و المذاهب الأربعة» لأسد حيدر ج 1 ص 400- 421.

ص: 21

هذه نبذة ممّن استناروا بنور الصادق(ع) الوهّاج، و انتهلوا من نميره العذب، و تلقّوا عنه الفقه و الحديث، كما تلقّا هما عنه غيرهم من شيعته.

ص: 22

2: أدلّة الأحكام عند الإمامية

اشارة

اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ منابع الفقه و مصادره لاتتجاوز الأربعة، و هي:

1. الكتاب.

2. السنّة.

3. الإجماع.

4. العقل

وما سواها إمّا ليست من مصادر التشريع، أو ترجع إليها.

ص: 23

هذا هو فقيه القرن السادس محمد بن إدريس الحلي(543- 598 ه(يذكر الأدلّة الأربعة في ديباجة كتابه(السرائر) و يُحدّد موضع كلّ منها، و يقول: فإنّ الحق لا يعدو أربع طرق: إمّا كتاب الله سبحانه، أو سنّة رسوله(ص) المتواترة المتّفق عليها( (1)، أو الإجماع، أو دليل العقل؛ فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسّك بدليل العقل فيها، فإنّها مبقاة عليه و موكولة إليه، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه، فيجب الاعتماد عليها و التمسّك بها (2).


1- اشتراط التواتر نظرية خاصّة لقليل من علماء الإمامية، فالجمهور منهم يعملون بخبر العدل أيضاً
2- السرائر: 1/ 46.

ص: 24

تقسيم الأدلّة إلى اجتهادية وأُصول عملية

تقسيم الأدلّة إلى اجتهادية و أُصول عملية من خصائص الفقه الشيعي، و أمّا الفرق بينهما فهو كالتالي:

انّه لو كان الملاك في اعتبار حُجّة شي ء حجّة على الحكم الشرعي هو كونه أمارة للواقع و طريقاً إليه عند المعتبر فهو دليل اجتهادي كالأدلّة الأربعة؛ فإنّ الملاك في حجّيتها هو ما ذكرنا، فإنّ كلًّا من الكتاب و السنّة حتّى الخبر الواحد منها طريق إلى الواقع و

ص: 25

كاشف عنه إما كشفاً تاماً كما إذا أفاد القطع، أو كشفاً غير تام كما في خبر العدل، و على كلّ تقدير فالملاك لاعتباره حجّة هو كاشفيته عن الواقع.

وأمّا إذا كان الملاك بيان الوظيفة و وضع حلول عملية للمكلّفين عند قصور يد المجتهد عن الواقع فهو أصل عملي، فالملاك لاعتبار هذا القسم من الأدلّة هو رفع التحيّر و إراءة الوظيفة عند اليأس من العثور على دليل موصل للواقع، و لذلك أُخذ في لسان حجّيتهم الجهل بالواقع و عدم توفّر طريق في متناوله. وهذه الأُصول العامّة الّتي تجري في عامّة أبواب الفقه لا تتجاوز الأربعة، وهي:

1. أصالة البراءة.

2. أصالة الاشتغال.

3. أصالة التخيير.

4. أصالة الاستصحاب.

5.

ص: 26

و لكلّ منها مجرى خاص:

أمّا الأُولى: فمجراها هو الشكّ في التكليف، فإذا كان المجتهد شاكّاً في أصل الوجب أو الحرمة، و تفحّص عن مظانّ الأدّلة و لم يقف على دليل و حجّة على الحكم الشرعي، فوظيفته الحكم بالبراءة عن التكليف. كما إذا شكّ مثلًا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلًا أو ما أشبهه ذلك، والأصل له رصيد قطعي و هو:

أ: قول الرسول(ص): «رفع عن أُمّتي تسعة ... و ما لا يعلمون».

ب: حكم العقل بقبح عقاب الحكيم دون بيان واصل.

وأمّا الثانية: فمجراها فيما إذا علم بالحكم الشرعي ولكن تردّد الواجب أو الحرام بين أمرين، فيجب عليه الجمع بين الاحتمالين بالإتيان بهما عند

ص: 27

تردّد الواجب، والاجتناب عنهما عند تردّد الحرام.

مثلًا إذا علم بفوت صلاة مردّدة بين المغرب والعشاء يجب عليه الإتيان بهما، أو إذا علم نجاسة أحد الإناءين من غير تعيين يجب الاجتناب عن كليهما.

و أمّا الثالثة: إذا دار حكم الشي ء بين الوجوب و الحرمة و لم يقف على دليل شرعي يوصله إلى الواقع، فالوظيفة العمليّة هي التخيير.

و أمّا الرابعة: و هو ما إذا علم بوجوب شي ء أو بطهارته لكن شك في بقاء الحكم أوبقاء الموضوع و تفحّص ولم يقف على بقائه أو زواله، فالمرجع هو الأخذ بالحالة السابقة أخذاً بقول الإمام الصادق(ع) «لا ينقض اليقين بالشك».

هذه هي الأُصول العملية الأربعة الّتي استنبطها المجتهدون من الكتاب و السنّة، و ليس لها دور إلّا عند

ص: 28

فقد النص على الحكم الشرعي، ولكلّ مجرى خاصّ، «وليس الملاك في اعتبارها كونها كاشفة عن الواقع»، بل كونها مرجعاً للوظيفة الفعلية.

ص: 29

تقسيم الأُصول إلى محرز و غير محرز

إنّ الأُصول العملية تنقسم إلى: أُصول محرزة. و أُصول غير محرزة.

والمراد من الإحراز، هو إحراز الواقع و الكشف عنه؛ و ذلك لأنّ بعض الأُصول فيه جهة كشف عن الواقع كشفاً ضعيفاً، لكن العقلاء لا يعتبرون في معاملاتهم و سياساتهم كونه حجّة لهذه الجهة، بل الملاك لاعتباره هو تسهيل الأمر في الحياة ووضع حلول عملية في ظرف الجهل و الشكّ، كما أنّ الشارع

ص: 30

الّذي أمضاه و اعتبره حجّة في الفقه، لم يعتبره لهذه الغاية حتى يكون أمارة عقلانية كخبر الثقة.

ومثّلوا لذلك بالأُصول العملية الثلاثة:

1. الاستصحاب.

2. قاعدة اليد.

3. قاعدة التجاوز.

فالأوّل منها أصل عام يجري في عامّة أبواب الفقه، بخلاف الأخيرين فإنّهما خاصان ببعض الأبواب. وما سوى ذلك أصل غير محرّز كأصالة البراءة والاشتغال والتخيير.

هذه هي أدلّة الأحكام عند الشيعة الإمامية، فهلُمَ معي ندرس ما ذكره الأُستاذ حول أدلّة الأحكام عند الشيعة لنرى فيه مواقع الخطأ و الالتباس على ضوء الدراسة الصحيحة لأُصول الفقه عند الإمامية.

ص: 31

1. مسلك الشيعة مسلك الغزالي

يقول الأُستاذ: جعلت الشيعة أدلّة الأحكام المعتمدة أربعة: الكتاب و السنّة والإجماع والعقل، ثم قال: ولا يخفى على الدارس أنّ هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلّة (1).

يلاحظ عليه: لا نظنّ أنّ الأُستاذ يتّهم الشيعة بمتابعتهم الغزالي في حجّية الكتاب والسنّة والإجماع، فإنّ المسلمين قاطبة يقولون بذلك. وإنّما مظنّة التهمة قولهم بحجّية العقل.

فنقول: هناك فرق واضح بين المسلكين: الإمامي والغزّالي؛ فإنّ الأوّل يعتمد على التحسين والتقبيح العقليين، والغزّالي تبعاً لإمام مذهبه يرفض ذلك ويقول: إنّ لله عزَّوجلَّ إيلام الخلق وتعذيبهم من غير


1- الصفحة: 86 من المجلة المذكورة.

ص: 32

جرم سابق، لأنّه متصرّف في ملكه ... (1).

والعقل الّذي هو مصدر التشريع عند الإمامية أو كاشف عن التشريع الإلهي- على الأصح- هو العقل المعتمد على حكمين ينبعان من صميم العقل.

1. التحسين والتقبيح العقليان.

2. الملازمات العقلية.

وأين الغزّالي ومنهاج أُستاذه عن القول بهما؟!

وتضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت(ع) على حجّية العقل قبل أن يولد الغزالي بقرون، قال الإمام الصادق(ع): «حجّة الله على العباد النبي، و الحجّة فيما بين العباد وبين الله، العقل» (2).

و قال الامام موسى بن جعفر(ع)(المتوفّى: 183 ه(مخاطباً هشام بن الحكم: «يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، و حجّة باطنة؛ فأمّا الظاهرة


1- قواعد العقائد للغزّالي: 60 و 204
2- الكليني: الكافي: 1/ 25، كتاب العقل و الجهل، الحديث 22.

ص: 33

فالرسل و الأنبياء و الأئمة، و أمّا الباطنة فالعقول» (1).

إنّ إئمة أهل البيت(ع) أعطوا للعقل أهمية كبيرة، فهذا هو الإمام الباقر(ع) يقول: «إنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه- إلى أن قال:- و عزّتي و جلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملتك إلّا في مَن أُحب، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى، وإيّاك أُعاقب وإيّاك أُثيب» (2).

فكان المترقّب من الأُستاذ المحترم أن لا يقضي في الموضوع إلّا بعد الإحاطة بأُصول الشيعة الإماميّة.

2. تقييم تعريفه للأدلّة الاجتهادية و الأُصولية العملية

قد تعرّفت على ما هو الفرق بين الأدلّة الاجتهادية و الأُصولية العملية، و على تقسيم الأُصول إلى أصل


1- الكافي: 1/ 16، كتاب العقل و الجهل، الحديث 12
2- الكافي: 1/ 10، كتاب العقل و الجهل، الحديث 1.

ص: 34

محرز و غير محرز.

وللأُستاذ كلام في هذا الصدد نأتي به:

الف- الأدلّة الأربعة المعتمدة المشارإليها آنفاً تسمّى الأدلّة المحرزة- الكتاب، السنّة، العقل، و الإجماع- و يقابلها الأُصول العملية باعتبارها تعطي حلولًا عملية للمكلّفين حين يتعذّر عليهم إحراز الحكم الشرعي من دليله.

يلاحظ عليه: أنّه أصاب في التفريق بين الأدلة الأربعة و الأُصول العملية إلّا أنّ وصفَ الأدلّة الأربعة بالأدلّة المحرزة، خلاف المصطلح و إنّما يوصف بها بعض الأُصول، فمنها أصل محرز و منها غير محرز. كما تقدّم في كلامنا، و إنّما توصف الأدلّة الأربعة، بالأدلّة الاجتهادية.

ب. ويدخل ضمن هذه الأُصول العملية جملة قواعد: أهمها قاعدة الاحتياط، انطلاقاً من أنّ

ص: 35

الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف و أنّ لله في كلّ نازلة حكماً يتعيّن الالتزام به، وقاعدة البراءة الأصلية، انطلاقاً من أنّ الأصل براءة الذمّة من التكليف، قاعدة الاستصحاب الّتي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان انطلاقاً من أنّ اليقين لا يرتفع بالشكّ (1).

يلاحظ عليه: أنّ قاعدة الاحتياط تنطلق من العلم القطعي بنفس التكليف في الواقعة بلا تردّد فيه، و الجهل بالموضوع، كما إذا علم بفوت إحدى الصلاتين المغرب أو العشاء، فيجب عليه قضاؤهما، و ما ذكره من المنطلق يعني أنّ «الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف» له لاصلة له بقاعدة الاحتياط، بل أساسه هو العلم بالتكليف و الجهل في المتعلّق.

والعجب انّه عندما يفسّر قاعدة الاحتياط عند


1- مجلة الواضحة: 87 بتلخيص.

ص: 36

الإمامية، يقول: الأصل شغل الذمّة بالتكليف.

وعندما يفسّر قاعدة البراءة عندهم بقوله: الأصل براءة الذمّة من التكليف، وهذا هو نفس التناقض، فلو كان الأصل هو الاشتغال فما معنى كون الأصل هو البراءة؟!

وهذا يكشف عن أنّ الأُستاذ لم يكن ملمّاً بأُصول الفقه عند الإمامية حيث ارتكب في بيانها التناقض.

كما أنّ ما ذكره: «أنّ لله في كلّ نازلة حكماً يتعيّن الالتزام به» وجعله منطلقاً للاحتياط عجيب جداً؛ لأنّ العلم بأنّ لله في كلّ نازلة حكماً لا يسبب الاحتياط؛ إذ من المحتمل أن يكون حكم الله في المورد هو الإباحة أو الكراهة، أو الاستحباب.

ص: 37

3: هلّ سنّة وراء سنّة النبي (ص)

اشارة

هلّ سنّة وراء سنّة النبي(ص)

السنّة هي المصدر الثاني للعقيدة و الشريعة، سواء أم كانت منقولة باللفظ و المعنى، أم كانت منقولة بالمعنى فقط، إذا كان الناقل ضابطاً في النقل.

وقد خصّ الله بها المسلمين دون سائر الأُمم حيث إنّهم اهتموا بنقل ما أُثر عن النبي(ص) من قول وفعل وتقرير، وبذلك صارت السنّة من مصادر التشريع الإسلامي.

وقد أكّد أئمة أهل البيت(ع) على أنّ السنّة

ص: 38

الشريفةهي المصدر الرئيسي بعد الكتاب، و أنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد بيّنه سبحانه في الذكر الحكيم أو ورد في سنّة نبيه(ص).

قال الإمام الباقر(ع): «إنّ الله تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله، و جعل لكلّ شي ء حدّاً، و جعل عليه دليلًا يدلّ عليه، و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً» (1).

و قال الإمام الصادق(ع): «ما مِنْ شي ءٍ إلا وفيه كتاب أو سنّة» (2).

وروى سماعة عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم(ع)، قال: قلت له: أكلّ شي ء في كتاب الله و سنّة نبيه، أو تقولون فيه؟ قال: «بل كلّ شي ء في كتاب الله و سنّة نبيه» (3).


1- الكليني: الكافي: 1/ 59، باب الرد إلى الكتاب و السنة، الحديث 2، 4
2- الكليني: الكافي: 1/ 59، باب الرد إلى الكتاب و السنة، الحديث 2، 4
3- الكافي: 1/ 62، باب الرد إلى الكتاب و السنة، الحديث 10.

ص: 39

وروى أُسامة، قال: كنت عند أبي عبدالله(ع) و عنده رجل من المغيرية (1)، فسأله عن شي ء من السنن؟

فقال: «ما من شي ء يحتاج إليه ولد آدم إلّا و قد خرجت فيه سنّة من الله و من رسوله، و لولا ذلك، ما احتجّ علينا بما احتجّ؟»

فقال المغيري: و بما احتجّ؟ فقال أبو عبدالله(ع): «قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً (2). فلولم يكمل سنّته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس، ما احتجّ به» (3).

وروى أبو حمزة، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله(ص) في خطبته في حجّة الوداع: «أيّها الناس انّي لم أدع شيئاً يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد نبّأتكم به، ألا و أنّ روح القدس


1- هم أصحاب المغيرة بن سعيد، الذي تبرّأمنه الإمام الصادق 7
2- المائدة: 3
3- المجلسي البحار: 2/ 168 ح 3.

ص: 40

قد نفث في روعي و أخبرني ألا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوالله عزَّوجلَّ واجملوا في الطلب ولايحملنكم استبطاء شي ء من الرزق أن تطلبوه في معصية الله عزَّوجلَّ فانه لاينال ما عند الله جلّ اسمه إلًا بطاعته» (1).

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمّة أهل البيت(ع) من التأكيد على السنّة و الركون إليها.


1- الكافي للكليني: 5/ 83، كتاب المعيشة.

ص: 41

أئمة أهل البيت (ع) حفَظَة سنن الرسول (ص)

أئمة أهل البيت(ع)

حفَظَة سنن الرسول(ص)

كان النبي الأكرم(ص) يقوم بأُمور و مهام لها صلة بالجوانب المعنوية- بالإضافة إلى إدارة دفّة الحكم- وهي:

1. تبيين الأحكام الشرعية و الإجابة عن الحوادث المستجدَّة الّتي لم يجد المسلمون حكمها لا في الكتاب العزيز و لا في السنّة الشريفة.

2. تفسير القرآن الكريم و تبيين مجملاته و تقييد مطلقاته و تخصيص عموماته.

ص: 42

3. الردّ على الشبهات و التشكيكات الّتي يطلقها أعداء الإسلام من اليهود و النصارى بعد الهجرة.

ومن المعلوم أنّ من يقوم بهذه المسؤوليات، سوف يُورث فقده فراغاً هائلًا في نفس هذه المجالات، و من الخطأ أن نتّهم النبي(ص)- و العياذ بالله- أنّه قد ارتحل من دون أن يفكّر في مل ءِ تلك الثغرات المعنوية الحاصلة برحيله ...

فإذا رجعنا إلى أحاديث النبي(ص) نقف على أنّه قد سدّ هذه الثغرات باستخلاف مَنْ جعلهم قرناء الكتاب وأعداله، وأناط هداية الأُمّة بالتمسّك بهما، و نذكر نماذج من كلماته(ص) في هذا المجال:

1. روى ابن الأثير الجزري في «جامع الأُصول» عن جابربن عبدالله، قال:

رأيت رسول الله(ص) في حجّة الوداع يوم عرفة و هو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «إنّي

ص: 43

تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (1).

2. و أخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم، قال:

قام رسول الله(ص) يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خماً بين مكة و المدينة، و حمدالله و أثنى عليه و وعظ و ذكر، ثمّ قال: أمّا بعد: ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما: كتاب الله فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به فحثّ على كتاب الله و رغّب فيه.

ثمّ قال: وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي (2).


1- جامع الأُصول: 1/ 424
2- صحيح مسلم: 2/ 325.

ص: 44

3. أخرج الترمذي في صحيحه عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: رأيت رسول الله(ص) في حجّة يوم عرفة على ناقته القصواء يخطب فسمعته، يقول: يا أيّها الناس، إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله و عترتي (1).

4. أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله(ص): إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود إلى السماء و الأرض، و عترتي أهل بيتي، و انّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (2).

و هذا الحديث، المعروف بحديث الثقلين رواه عن النبي أكثر من ثلاثين صحابياً، و دوّنه ما يربو على ثلاثمائة عالم في كتبهم في مختلف العلوم و الفنون، وفي


1- سنن الترمذي: 5/ 662، باب مناقب أهل بيت النبي 6
2- مسند أحمد: 3/ 14.

ص: 45

جميع الأعصار والقرون، فهو حديث صحيح متواتر بين المسلمين، وقد عيّن النبي(ص) ببركة هذا الحديث من يسدّ هذه الثغرات ويكون المرجع العلمي بعد رحيله، وليس هو إلّا أهل بيته.

وبهذا يتبيّن أنّ العترة(ع) عيبة علم الرسول و خزنة سننه و حفظة كَلِمه، تعلّموها بعناية من الله تبارك و تعالى كما تعلّم صاحب موسى بفضل من الله دون أن يدرس عند أحد، و لذلك تمنّى موسى(ع) أن يعلّمه ممّا عُلّم.

قال سبحانه حاكياً عن لسان نبيه موسى(ع): قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (1).

وعلى ضوء ذلك فليس لأئمة أهل البيت(ع) سنّة ولا تشريع، وما أُثِرَ عنهم من قول و فعل أو تقرير


1- الكهف: 66.

ص: 46

فإنّما يعتبر، لكونهم حفظة سنن النبي(ص)، فلايصدرون ولا يحكمونَ إلّا بسنّته.

فلو قيل: إنّ قول الإمام(ع) أو فعله أو تقريره سنّة إنّما يراد به أنّهم تراجم سنّة النبي(ص) وأقواله وأفعاله.

فما قاله العلّامة الشيخ المظفر 1 من أنّ المعصوم من آل البيت(ع) يجري قوله مجرى قول النبي(ص) من كونه حجة على العباد، إنّما يريد ذلك وما أحسَن قوله «يجري مجرى قول النبي(ص)»، فلوكان أئمة أهل البيت(ع) هم أصحاب سنن في عرض سنّة النبي(ص) فلماذا قال «يجري قولهم مجرى قول النبي(ص)»؟!

هذه عقيدة الإمامية من أوّلهم إلى آخرهم؛ فالتشريع لله سبحانه فقط، والنبي الأكرم(ص) هو المبلّغ عن الله سبحانه في ما شرّعه، وأئمة أهل البيت خلفاء رسول الله وحفَظَة سنَنه وتراجمُ كَلِمه، والمبلّغون عنه السنن حتى يجسّدوا إكمال الدين في

ص: 47

مجالي العقيدة والشريعة.

وحين قال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1) فإنّما هو لأجل نصب علي(ع) أوّل أئمة أهل البيت(ع) للخلافة لكي يقوم بنفس المسؤوليات الّتي كان النبي(ص) قائماً بها طيلة أيّام رسالته، و يملأ الثغرات الّتي أعقبتها رحلته(ص) غير أنّه(ص) نبي يوحى إليه، وهذا وصي حافظ لسننه.


1- المائدة: 3.

ص: 48

سنّة الصحابة في مقابل سنّة النبّي (ص)

سنّة الصحابة في مقابل سنّة النبّي(ص)

لقد تبيّن لنا أنّ الأُستاذ قد عجب من وجود سنّة لأهل البيت(ع)، وقد فسّرنا معنى ذلك عند الإماميّة، وقلنا بأنّه ليس للأئمة سنّة سوى ما سنّه النبيّ(ص)، ولكن أُلفت نظره إلى أنّ أهل السنّة قد قالوا بوجود سنن أُخرى بعد سنّة النبيّ(ص)، وإليك مايشير إلى ذلك:

1. الحديث المعروف عندهم: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسّكوابها وعضّواعليها بالنواجذ».

ص: 49

يقول ابن قيم الجوزية في تفسير الحديث: فقد قرن سنّة خلفائه بسنّته، وأمر باتّباعها كما أمر باتباع سنّته، وهذا يتناوله ما أفتوا به وسنّوه للأُمّة وإن لم يتقدّم للنبيّ(ص) فيه شي ء، و إلّا كان ذلك سنّة (1). فالرواية تدلّ على أن للصحابة سنة كسنة النبي(ص)، فعندهم سنةُ أبي بكر و سنةُ عمر وسنة عثمان وسنةُ علي(ع).

2. روى السيوطي قال حاجب بن خليفة: شهدت عمر بن عبدالعزيز يخطب وهو خليفة فقال في خطبته: على أنّ ما سنّ رسول الله(ص) وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (2) أبعد هذه النصوص يصحّ للأُستاذ أن يستغرب من وجود سنّة لأئمة أهل البيت(ع): أعلام الهدى ومصابيح الدجى وقرناء الكتاب، وثاني الثقلين ...

ولولا مخافة التطويل لبسطنا القول في ذلك.


1- إعلام الموقعين: 4/ 140
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 160.

ص: 50

طُرق علم الأئمة بالسنّة

قد أشرنا إلى أنّه ليس لأئمة أهل البيت(ع) سنّة خاصّة، بل هم حفظة سنن النبي(ص)، ولسائل أن يسأل: ما هي طرقهم إلى سنن النبي(ص) وأكثرهم لم يعاصروه ولم يسمعوها عنه مباشرة. ومن المعلوم أنّ النبي(ص) قد عاصره الإمام علي و الإمامان الحسن و الحسين(ع)، فقط؟

و الإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن عرف أحاديث الشيعة وأنس بجوامعهم، فإنّ لهم(ع) طرقاً إلى سنن النبي(ص) نأتي ببعضها:

ص: 51

الأوّل: السماع عن رسول الله(ص)

إنّ الأئمة(ع) يروون أحاديث رسول الله(ص) سماعاً منه بلا واسطة أو بواسطة آبائهم، ولذلك ترى في كثير من الروايات أنّ الإمام الصادق(ع) يقول: حدّثني أبي عن زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي عن علي أمير المؤمنين عن الرسول الأكرم(ص). و هذا النمط من الروايات كثير في أحاديثهم.

فأئمة أهل البيت(ع) رووا أحاديث كثيرة عن رسول الله(ص) عن هذا الطريق دون أن يعتمدوا على الأحبار و الرهبان أو على مجاهيل أو شخصيات متسترة بالنفاق.

الثاني: كتاب علي(ع)

كان لعلي(ع) كتاب خاص بإملاء رسول الله(ص)، وقد حفظته العترة الطاهرة(ع)، و صدرت عنه في

ص: 52

مواضع كثيرة، و نُقِلتْ نصوصه في موضوعات مختلفة، وقد بثّ الحرّالعاملي في موسوعته الحديثية، بعضَ أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات، ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

وإليك شذرات من أقوال الأئمة بشأن هذا الكتاب الّذي كانوا يتوارثونه وينقلون عنه ويستدلّون به:

قال الإمام الحسن المجتبي(ع): «إنّ العلم فينا ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره، ومنه لا يحدث شي ءإلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلّا وهو عندنا مكتوب، بإملاء رسول الله و خطّ علي بيده» (1).

وقال أبو جعفر الباقر(ع) لأحد أصحابه- حمُران بن أعين- وهو يشير إلى بيت كبير: «يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ علي(ع) و إملاء رسول الله(ص)، لو وُلّينا الناس لحكمنا بما أنزل


1- الاحتجاج: 2/ 6؛ بحار الأنوار: 89/ 47.

ص: 53

الله، لم نعدُ ما في هذه الصحيفة».

وقال(ع) أيضاً لبعض أصحابه: يا جابر إنّا لو كنّا نحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله(ص)».

وقال الإمام الصادق(ع) عندما سئل عن الجامعة: «فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلّا فيها حتّى أرش الخدش».

وقال الإمام الصادق(ع) في تعريف كتاب علي(ع): «فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله(ص) من فَلقِ فيِه، وخط علي بن أبي طالب(ع) بيده، فيه ولله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، حتّى أنّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة». (1) ويقول سليمان بن خالد: سمعت أبا عبدالله(ع)


1- قد جمع العلّامة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتاب علي في موسوعته بحارالأنوار: 26/ 18- 66 تحت عنوان، باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب، الحديث 12، 1، 10، 20.

ص: 54

يقول: «إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، إملاء رسول الله(ص)؟ وخطّ عليّ(ع) بيده، ما من حلال ولاحرام إلّا وهو فيها حتّى أرش الخدش».

وقد كان علي(ع) أعلم الناس بسنّة الرسول(ص) وكيف لا يكون كذلك، وهو القائل: «كنت إذا سألت رسول الله(ص) أعطاني، وإذا سكت ابتدأني». (1) الثالث: انّهم محدَّثون

لأجل إيقاف القارئ على المحدَّث في الإسلام و مفهومه نذكر شيئاً في توضيحه.

«المحدَّث» مَن تكلّمه الملائكة بلا نبوّة و رؤية صورة، أو يُلهم له و يُلقى في روعه شي ء من العلم على وجه الإلهام و المكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.


1- المستدرك: 3/ 125.

ص: 55

فالمحدَّث بهذا المعنى ممّا اتفقت الأُمّة الإسلامية عليه، بيد أنّ الخلاف في مصاديقه، فالسنّة ترى عمربن الخطاب من المحدَّثين، والشيعة ترى علياً و أولاده الأئمة منهم.

أخرج البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة قال: قال النبي(ص): لقد كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء؛ فإن يكن من أُمّتي منهم فعمر (1).

وقد أفاض شرّاح صحيح البخاري الكلامَ حول المحدَّث (2).

و للمحدِّثين من أهل السنّة كلمات حول المحدَّث نأتي بملخّصها:

يقول القسطلاني حول الحديث: يجري على


1- صحيح البخاري: 4/ 200، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، دار الفكر، بيروت
2- لاحظ: إرشاد الساري، شرح صحيح البخاري للقسطلاني: 6/ 99.

ص: 56

ألسنتهم الصواب من غير نبوة (1).

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي(ص): قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد ب- «محدَّثون» فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: يصيبون إذا ظنّوا، فكأنّهم حُدّثوا بشي ء فظنّوه، وقيل: تكلّمهم الملائكة. وجاء في رواية مكلّمون (2).

وقال الحافظ محب الدين الطبرسي في «الرياض»، ومعنى «محدَّثون»- والله أعلم- أن يُلْهَمُوا الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره و تحدّثهم الملائكة لا


1- ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 5/ 431
2- شرح صحيح مسلم للنووي: 15/ 166، دارالكتاب العربي، بيروت.

ص: 57

لوحي، و إنّما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة (1).

وحصيلة الكلام: انّه لا وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء، أو معدودين من المرسلين، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (2) ولم يكن المصاحب نبيّاً، بل كان وليّاً من أولياءالله سبحانه وتعالى بلغ من العلم والمعرفة مكانةً، دعت موسى- وهو نبيّ مبعوث بشريعة- إلى القول: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (3).

و يصف سبحانه وتعالى جليس سليمان- آصف بن برخيا- بقوله: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ


1- الرياض النضرة: 1/ 199
2- الكهف: 65
3- الكهف: 66.

ص: 58

أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي (1).

و هذا الجليس لم يكن نبيّاً، ولكن كان عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات، بل كان علماً إلهياً أُفيض عليه لصفاء قلبه وروحه، و لأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي (2).

والإمام علي والأئمة من بعده، الذين أُنيطت بهم الهداية في حديث الثقلين، ليسوا بأقلّ من مصاحب موسى(ع)، أو جليس سليمان، فأيّ مانع من أن يقفوا على سنن النبي(ص) عن طريق الإشراقات الإلهية؟!


1- النمل: 40
2- الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 2/ 365- 366.

ص: 59

الرابع: الاستنباط من الكتاب و السنّة

هذا هو الطريق الرابع، فقد كانوا(ع) يستدلّون على الأحكام الإلهية بالكتاب والسنّة بوعي متميز يُبهر العقول و يُورث الحيرة، ولو لا خشية الإطالة في المقام لنقلنا نماذج كثيرة من ذلك، ونكتفي هنا بانموذج واحد وهو: قُدِّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يُضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكّل إلى الإمام علي الهادي(ع) (1) يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب: يُضرب حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة، فكتب(ع): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا


1- الإمام العاشر وهو علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق:.

ص: 60

سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (1) فأمر به المتوكّل فضرب حتى مات. (2) إنّ الإمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه الّتي لا تتجاوز ثلاثمئة آية، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته، لا يلتفت إليه إلّا من نزل القرآن في بيته، وليس هذا الحديث غريباً في مورده، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه(ع).

هذه إلمامة عابرة في بيان طرق أهل البيت(ع) إلى النبي(ص).


1- غافر: 84- 85
2- مناقب آل أبي طالب: 4/ 405.

ص: 61

فما روي عن الإمام موسى بن جعفر(ع) حول علمهم بالسنّة فانّما هو ناظر إلى ما سبق ذكره.

سُئل الإمام موسى بن جعفر(ع): أكلّ شي ء في كتاب الله وسنّة نبيه، أو تقولون فيه؟ فقال: «لا بل كلّ شي ء في كتاب الله وسنّة نبيه». (1) فالإمام يريد بالسنّة ما ذكرنا(مصادرها وطرقها) لا خصوص السنّة الموجودة في أفواه الناس وعلى ألسنتهم، وإن كان ربّما يلتقي علمهم بالسنن بما رواه الناس عن النبي(ص) في بعض المواضيع.

هذه الرواية العابرة توقفنا على مدى ما تلقّاه الأئمة(ع) من سنن النبي، أفبعد هذا يصح أن نعتمد على ما رواه البخاري عن أبي جحيفة الّذي قال: قلت لعلي: عندكم كتاب؟ قال لا إلّا كتاب الله، أو فهم أُعطيه رجُل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت:


1- الكافي: 1/ 62، باب الرد إلى الكتاب والسنّة، الحديث 10.

ص: 62

فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل و فكاك الأسير، و لا يُقتل مسلم بكافر. (1) كيف لا يكون عند علي(ع) كتاب يجمع فيه سنن النبي(ص) و هؤلاء هم أبناء علي(ع) ينقلون عنه ويعتمدون عليه؟!

والعجب ماورد في هذه الروايه من أنّ الصحيفة الّتي كان يحتفظ بها علي لم تشتمل إلّا على جمل محدودة، فلولم يكن عند علي وأبنائه المعصومين إلّا ما جاء في هذه الرواية، فمن أين هذه العلوم الموروثة عنه وعن أبنائه الصادقين الّتي بهرت العقول؟!

كيف لا يكون عند علي(ع) سوى ما في هذه الصحيفة أو ما في ألسن الناس مع أنّ المسلّم عند الفريقين أنّ علياً كانت عنده علوم وأسرار لم تكن عند غيره، وكان الصحابة يرجعون إليه في المشاكل


1- صحيح البخاري: 1/ 64 باب كتابة العلم، الحديث 52.

ص: 63

والمسائل العويصة، فهذا عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء كانوا يرجعون إليه ويسألونه، كيف لا وهو باب مدينة علم النبي(ص).

وقد قام زميلنا الجليل المغفور له الشيخ علي الأحمدي (1). بجمع ما ورد في كتاب علي(ع) ممّا هو مبثوث في الجوامع الحديثية ورتّبه على 26 باباً، وما جمعه إنّما هو غيض من فيض وقليل من كثير ممّا كان في الأصل.


1- مكاتيب الرسول: 2/ 135- 313.

ص: 64

4: تقييم الإجماع عند الإماميّة

اشارة

عدّ الأُصوليون الإجماع من أحد الأدلّة الشرعية، غير أنّهم اختلفوا في ملاك الحجيّة فالمحقّقون من السنّة قالوا: إنّ الإجماع يجب أن يكون مستنداً إلى دليل شرعي قطعي أو ظنّي كالخبر الواحد والمصالح المرسلة والقياس والاستحسان.

فلوكان المستند دليلًا قطعياً من قرآن أو سنّة متواترة، يَكون الإجماع مؤيداً معاضداًله (1)؛ ولو كان


1- لا يذهب عليك أنّه إذا كان في المورد دليل قرآني أو سنّة متواترة، فلاحاجة للتأييد والتعضيد، والأولى أن نخص مورده بما إذا لم يكن في مورده إلّا دليل ظنّي.

ص: 65

المستند دليلًا ظنياً، فير تقي الحكم بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين. ومثله إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة، فالاتفاق على حكم شرعي- استناداً إلى ذلك الدليل- يجعله حكماً شرعياً قطعياً إلهياً و إن لم ينزل به الوحي (1).

وعلى ضوء ذلك فالإجماع عند أهل السنّة من مصادر التشريع في عرض الكتاب والسنّة، لكن بشرط أن يكون الحكم مستنداً إلى دليل ظني، فعندئذٍ يجعله إجماع العلماء حكماً قطعياً.

وأمّا عند الشيعة فالإجماع بما هو هوليس من مصادر التشريع، وإنّما يكشف عن وجود الدليل، فالاتّفاق مهما كان واسعاً، لا يؤثر في جعل الحكم، شرعياً إلهيّاً وانّما المؤثر في ذلك المجال، نزول الوحي به فقط.


1- الوجيز في أُصول الفقه لوهبة الزحيلي: 49.

ص: 66

نعم للإجماع دور في كشف الدليل الأعم من القطعي والظنيّ، وقد اختلفوا في كيفية كشفه إلى أقوال يجمعها أمران:

1. استكشاف الدليل بالملازمة العادية بين فتوي المجمعين وقول الإمام(ع).

2. استكشاف الإجماع موافقةَ الإمام(ع) لكونه من جملة المجمعين.

أمّا الثاني فمشروط بشرطين:

الف: أن يكون الإمام ظاهراً لا غائباً.

ب: أن تتوفّر الحرية في الفتوى، ويكون للإمام حرية تامة في إظهار رأيه، ومثل ذلك لم يتّفق في عصر الحضور إلّا في فترة قليلة، وهي الّتي عاصرها الإمامان الصادقان: الباقر والصادق(ع).

وبسبب عدم توفرّ هذين الشرطين(كون الامام ظاهراً لاغائباً، و توفر الحرية في الافتاء) في عصر

ص: 67

الأئمة لم يحتج بالإجماع إلا القليل من العلماء.

نعم يمكن الاعتماد على الإجماع من وجه آخر، وهو أن اجماع المجمعين في القرون المتمادية يكشف عن وجود الدليل على الحكم عند المجمعين، و استكشاف ذلك يتمّ بأحد الطريقين التاليين:

أ: تراكم الظنون مورث لليقين بالحكم الشرعي، لأنّ فتوى كلّ فقيه و إن كانت تفيد الظن، إلّا أنّها تعزّز بفتوى فقيه ثانٍ فثالث، إلى أن يحصل للإنسان من إفتاء جماعة على حكم القطع بالصحة؛ إذ من البعيد أن يتطرّق البطلان إلى فتوى هؤلاء الجماعة.

ب: الإجماع كاشف عن دليل معتبر.

إنّ حجيّة الإجماع ليس لأجل إفادته القطع بالحكم، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا، وهذا هو الّذي اعتمد عليه صاحب «الفصول»، وعدّة من المتأخّرين.

ص: 68

قال صاحب الفصول: سنكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان (1).


1- الفصول في علم الأُصول للشيخ محمد حسين الحائري.

ص: 69

قراءة صاحب المقال للاجماع عند الشيعة

إنّ الدكتور أحمد الريسوني «حفظه الله» بعد أن ذكر أنّ الإجماع عند الشيعة ليس حجة بما هو هو، وإنّما ملاك حجّيته كشفه عن الدليل، حاول أن يطبق نظرية أهل السنّة على نظرية الشيعة. فقال:

وهذا القول في حقيقة الإجماع وحقيقة حجّيته ليس بغريب على أُصوليّ السنّة، فهو بعض ما يتضمّنه قولهم: «الإجماع لابدّ فيه من مستند»، ثم ذكر كلام إمام الحرمين و الشريف التلمساني (1).


1- الصفحة: 91 من المجلة المذكورة.

ص: 70

وما استنتجهُ من التوفيق بين النظريتين عمل مشكور عليه، إلّا أنّنا نشير إلى أنّهما لَيْستا متّحدتين بالشكل الّذي ذكره الأُستاذ، و إنّما هما متّحدتان في شي ء و مختلفتان في شي ء آخر.

1. تشتركان في أنّ إجماع المجمعين لابدّ أن يكون على أساس دليل، ولا يصح إفتاؤهم بلا دليل.

2. و تختلفان في أنّ للإجماع- عند أهل السنّة- دوراً في إضفاء المشروعية على الحكم المجمع عليه، بحيث يجعله حكماً- كسائر الأحكام الواردة في الكتاب والسنّة- سواء أصح المستند الظني في الواقع أم لم يصح، وكأنّ الاتفاق عملية كيمياوية تقلب النحاس ذهباً؛ إمّا مطلقاً وفي عامّة الموارد، أو فيما إذا كان مستند الإجماع مثل القياس والمصالح والمفاسد العامّة، و هذا ليس شيئاً خفياً على من له إلمام بأُصول الفقه لدى السنّة، وقد وقفت على كلام الفقيه المعاصر

ص: 71

«وهبة الزحيلي» حتى أنّ الكاتب صرّح بذلك في مقاله الّذي يقول فيه:

«وقد يكون إجماعهم ناشئاً عن قياس ظنّي في أصله، ولكن الإجماع على الحكم أضفى عليه صواباً و يقيناً (1) لا يحتمل الشك.

وقد يكون الإجماع منعقداً عن نظر استصلاحي سديد، ومن خلال الإجماع عليه تأكّدت موافقته القطعية للشرع و للمصالح الّتي اعتبرها.

هذا الّذي عليه السنّة، و أمّا الشيعة فهم عن بكرة أبيهم لايقيمون للإجماع دوراً سوى الكشف عن الدليل:

القطعي أو الظنّي، وليس له دور في إضفاء الصواب على الدليل و المشروعية على الحكم- لو فرض عدم صحته- فلذلك ليس الإجماع بما هو هو، من مصادر التشريع.


1- أمّا اليقين فنعم، و أمّا الصواب فلا، فيما إذا كان غير صحيح.

ص: 72

نقد الإجماع الدخولي

قد عرفت أنّ ملاك حجّية الإجماع هو كشفه عن الدليل بأحد الوجهين التاليين:

أ: كشفه عن دخول الإمام في المجمعين.

ب: كشفه عن وجود الدليل والحجة.

أمّا القسم الأوّل فقد عرفت اختصاصه بعصر الحضور، لكن بشرط أن تسود الحرية عامّة أهل الفتوى في البلد الّذي يقيم فيه المعصوم، كالمدينة المنورة كما كان ذلك في بعض الأعصار أيّام نشوب الصراع بين الأمويين و العباسيين.

ص: 73

فلو وصل إلينا أنّ كلّ من يؤخذ عنه الفتوى في المدينة أفتوا على حكم من الأحكام ولم يشذّ منهم أحد، نستكشفُ اتّفاق الإمام الباقر والصادق(ع) معهم؛ لأنّ لسان الإجماع هو كلّ من يؤخذ عنه الفتوى، وهما من أبرز مَنْ يؤخذ منهم الفتوى.

وعلى ضوء ذلك نقف على مدى صحة رأي الأُستاذ حول الإجماع الدخولي. قال:

«ولست أدري كيف استساغ علماء الإمامية و أذكياؤهم هذا التناقض الواضح، إذ يعتبرون الإجماع كاشفاً عن قول المعصوم، ثم يشترطون دخول هذا المعصوم؟ و إذا دخل المعصوم في الإجماع- بحيث كان قوله معروفاً و ثابتاً- فأيّ كشف بقي للإجماع أن يقوم به؟ ثم إذا كان قول المعصوم حجة في ذاته فأيّ حاجة وأيّ قيمة للإجماع مع ثبوت قول المعصوم؟(الصفحة 93).

ص: 74

ويلاحظ عليه: أنّه تصوّر أنّ الإجماع الدخولي عبارة عن معرفتنا بدخول الإمام شخصياً ضمن المجمعين، فرتّب عليه ما رتّب، حيث قال: «فعند ذلك أيّ كشف بقى للإجماع أن يقوم به».

وبعبارة أُخرى: تصوّر أنّ الإجماع الدخولي عبارة عن رؤية الإمام شخصياً بين المجمعين، أو سماع صوته منهم، أو ثبوت تواجده بين المجمعين بخبر قطعي، فعند ذلك قال: «فأيّ دور يبقى للإجماع بعد معرفة الإمام».

ولكن خفي عليه واقع هذا القسم من الإجماع، فالمراد به ما إذا ثبت بخبر قطعي، أنّ علماء المدينة وكلّ من يؤخذ عنه الفتوى، اتّفقوا على حكم من الأحكام الشرعية وكان أهل البيت يتمتّعون بالحرية لإظهار رأيهم وإبداء ما عندهم، فعند ذلك نستكشف دخول الإمام المعصوم في المجمعين وتواجده فيهم على نحو لولا هذا الإجماع والاتّفاق بالنحو الّذي عرفت لم

ص: 75

يكن لدينا طريق لمعرفة قول الإمام، و عندئذٍ يكون للإجماع دور الكشف عن دخولهم فيهم.

وبذلك تقف على ما هو المقصود للمحقّق حيث قال: «فلو خلت المئة من علمائنا من قوله، لما كان حجّة ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة».

إنّ الممعن في كلامه من أوّله إلى آخره يقف على أنّ الغاية من هذا المقال، هو التركيز على أنّ حجّية الإجماع لأجل وجود الإمام في المجمعين إمّا دخولًا، أو كشفاً عن دليل وصل إلى يد المجمعين عنهم(ع)، فجاء قوله كمثال يبيّن مقصده.

ص: 76

5: خبرالواحد والقياس ظنّيان فلماذا التفريق بينهما؟

اشارة

قد عجب بالدكتور أحمد الريسوني من تفريق الإماميّة بين خبر الواحد والقياس في الحجيّة قائلًا بأنّهما ظنّيان، فلماذا فرّقت الإماميّة بينهما وقالوا بحجية الأوّل دون الثاني؟ وقد أطال الكلام في ذلك، وما ذكرناه لبّ إشكاله، ولإيضاح المقام نقدّم أُموراً:

الأمر الأوّل: اتّفقت الأُمّة الإسلامية على أنّ البدعة أمر محرّم كتاباً و سنّة وإجماعاً و عقلًا، و هي عبارة عن إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين، هذا من جانب.

ص: 77

و من جانب آخر أنّ الاعتماد على الظنّ- الّذي لم يقم على حجّيته دليل قطعي من الشارع- و الإفتاء على وفقه والالتزام بأنّ مؤدّاه حكم الله تعالى في حقّه و حقّ غيره، هو نفس البدعة ومن مصاديقها، فبضمّ الثاني إلى الأوّل يتشكّل قياس منطقي يُنتج حرمة العمل بالظنّ الّذي لم يقم الدليل القطعي على حجّيته، فتكون صورة القياس كالتالي:

العمل بالظنّ الّذي لم يقم على حجّيته دليل شرعي بدعة في الدين.

البدعة في الدين حرام بالاتّفاق.

فتكون النتيجة:

العمل بالظنّ الّذي لم يقم على حجّيته دليل شرعي حرام بالاتّفاق.

وعلى ضوء هذا تقول الإمامية بأنّ الضابطة الكلّية في العمل بكلّ مالم يقم دليل على حجّيته، سواء أكان

ص: 78

مفيداً للظنّ أم لا هي المنع؛ لكونه تشريعاً قولياً، وبدعة فعلية وعملية، وتقوّلًا على الله بغير علم.

نعم لَو قام الدليل القطعي على حجّية ظنّ مثلًا في مورد أو موارد يؤخذ بهذا الظنّ بحكم الشرع؛ لأنّه يكون العمل عندئذٍ بإذن الشارع وأمره، فيخرج عن الضابطة الكلّية: «العمل بالظنّ الّذي لم يقم دليل شرعي على حجيته، بدعة».

الأمر الثاني: ذهب جمهور الإمامية إلى خروج عدّة من الظنون عن الضابطة خروجاً عن الموضوع(لم يقم دليل شرعي على حجيته) لا خروجاً عن الحكم، وهي الظنون الّتي قام الدليل على حجّيتها، ولأجل ذلك توصف بالظنون العلمية، أي إنّها ظنون ولكن دلّ الدليل العلمي على جواز العمل بها، وهي عبارة عن:

1. خبر الواحد إذا أخبر عن حسٍّ.

2. حجّية الظواهر على القول بأنّها ظنّية الدلالة.

ص: 79

3. الإجماع المنقول- بخبر الواحد- في مقابل الإجماع المحصّل- إذا كشف نقل الإجماع عن وجود دليل معتبر عن المجمعين إلى غير ذلك.

هذا هو رأي جمهور الإمامية، نعم قد خالف في حجية خبر الواحد قليل من المتقدّمين كالسيد المرتضى و القاضي ابن البرّاج وأمين الإسلام الطبرسي وابن إدريس الحلّي رضي الله عنهم.

ثمّ إنّ القائلين بالحجية ألّفوا في ذلك المجال كتباً و رسائل أجابوا فيها عن شبهات النافين، شأن كلّ مسألة نظرية لا تخلو من مخالف.

هذا إجمال الكلام حول حجّية خبر الواحد الّذي عليه بناء العقلاء، وعليه تدور رحى حياتهم و معاشهم بالشروط المذكورة في محلّها.

و أمّا القياس فقد رفضه علماء الإمامية عن بكرة أبيهم إذا كان مستنبطَ العلّة، لأجل أنّ القياس مفيد

ص: 80

للظنّ، و الضابطة الكلّية في الظنّ حرمة العمل به ما لم يقم دليل على حجّيته.

ثم إنّهم استثنوا من حرمة العمل بالقياس موارد أبرزها مايلي:

1. إذا كانت العلّة منصوصة من جانب الشرع؛ كأن يقول الخمر حرام لكونه مسكراً، فيحكم بحرمة كلّ مسكر.

قالوا: إنّ ذلك في الحقيقة ليس عملًا بالقياس، و إنّما هو عمل بالسنّة، أي عموم العلّة كما لا يخفى.

2. القياس الأولويّ، فإذا قال الشارع: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (1) يفهم منه حرمة الشتم والضرب بطريق أولى؛ لحصول القطع والعلم بالحكم.

ثم إنّ رفض الإمامية العمل بالقياس في مجال مستنبط العلّة، لأجل أنّ استخراج علّة الحكم بالسبر


1- الاسراء: 23.

ص: 81

والتقسيم مظنّة للاشتباه، وذلك بالبيان التالي:

أوّلًا: نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معلّلًا عندالله بعلّة أُخرى غير ما ظنّه القائس، مثل كونه صغيراً أو قاصر العقل، في قوله: «لا يُزوّج البكرَ الصغيرَ إلّا وليّها» حيث ألحق بها أصحاب القياس الثّيبَ الصغيرة، بل المجنونةَ والمعتوهةَ، وذلك بتخريج المناط وأنّه هو قصور العقل وليس للبكارة مدخلية في الحكم، فهل يمكن ادّعاء القطع بذلك، وقد قال سبحانه: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (1)؟!

إنّ الإنسان لم يزل في عالم الحسّ تنكشف له أخطاؤه، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة، فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة عن العقل إلّا في موارد جزئية كالإسكار في الخمر، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر، أو إيراث المرض في النهي


1- الإسراء: 85.

ص: 82

عن النجاسات؟ و أمّا ما يرجع إلى العبادات و المعاملات خصوصاً فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية و إن كان يظنّ شيئاً.

قال ابن حزم: «وإن كانت العلّة غير منصوص عليها، فمن أيّ طريق تُعرف ولم يوجد من الشارع نصّ يبيّن طريق تعرّفها؟ وتركُ هذا من غير دليل يعرّف العلّة ينتهي إلى أحد أمرين: إمّا أنّ القياس ليس أصلًا معتبراً، و إمّا أنّه أصل عند الله معتبر ولكن أصل لا بيان له، وذلك يؤدي إلى التلبيس، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فلم يبق إلّا نفي القياس».

ثانياً: لو افترضنا أنّ القائس أصاب في أصل التعليل، ولكن من أين يُعلم أنّها تمام العلّة، و لعلّها جزءَ العلّة وهناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع ولم يصل القائس إليه؟

ص: 83

ثالثاً: احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبياً إلى العلّة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.

رابعاً: احتمال أن يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم وقد غفل عنها القائس.

ولأجل وجود هذه الاحتمالات الّتي لا تنفكّ عن ذهن القائس، رفضت الإماميّة العملَ بالقياس إذا كان مستنبطَ العلّة.

ص: 84

التفريق بين الظنّيين لماذا؟

إنّ الدكتور أحمد الريسوني- حفظه الله- قد أخذ على علماء الإمامية بموارد، قائلًا: إنّهم يقولون بعدم حجّية الظنّ ومع ذلك يعملون به في الموارد التالية:

1. الخبر الواحد.

2. الظواهر.

3. المرجّحات الظنّية عند التعارض.

4. الأُصول العمليّة.

وإليك دراسة هذه الموارد من رؤية الدكتور وما يمكن القول حولها، ونذكر كلامه ضمن مقاطع قال:

ص: 85

1. إنّ الإمامية إذ يرفضون الأخذ بالقياس والاستصلاح باعتبار أنّ إفادتهما ظنّية، فإنّهم يقبلون الظنّيات في كثير من أُصولهم وقواعدهم، في مقدّمها أخذهم بأخبار الآحاد؛ فإنّهم يُسلّمون بكون أخبار الآحاد لاتسلم من الظنّية والاحتمال، وأذن الشرع استثناءً في اعتبارها. ويكون الإجماع لديهم على حجّيتها (1).

أقول: هذا ملخّص كلامه، والقارئ الكريم- بعد الاطّلاع على ماذكرنا من الأُمور- يقف على الفرق الواضح عندهم بين خبر الواحد العدل، والقياس، فإنّ الأخذ بالأوّل ليس بملاك إفادته الظنّ، بل لأجل قيام الدليل الشرعي على حجّيته، ولو كان الدليل قائماً على حجّية القياس لأخذوا به.

وبعبارة أُخرى: إنّ خبر الواحد ممّا قام الدليل


1- الصفحة 94 من المجلة.

ص: 86

القطعي على حجّيته فصار ظنّاً علمياً، أي ظنّاً بالذات ولكن ذو رصيد علمي، بخلاف القياس؛ إذ لم يرد عندهم دليل يثبت حجّيته لولم نقل بقيام الدليل على خلافه.

ولأجل أن يقف الأُستاذ الكريم على الفوارق بين خبر الواحد والقياس نقترح عليه مراجعة كتابنا المعنون: «أُصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه».

2. ومن المواطن الّتي أخذوافيها بالظنّيات أيضاً قولهم بحجية الظواهر، أي إنّهم يعتمدون اعتماداً أساسياً على ما يفهم من ظواهر النصوص، والظواهر كما هو معلوم لا تكاد تسلّم من الظنّية والاحتمال (1).

أقول: إنّ العمل بالظواهر ممّا أطبق العقلاء على العمل به، ولا نجد بينهم من ينكر حجّية الظواهر، فإنّ رحى الحياة في المجتمع الإنساني تدور عليها، وليس


1- الصفحة 95 من المجلة

ص: 87

كلّ كلام، نصّاً في مدلوله.

إنّ النبي الأكرم(ص) وأئمة أهل البيت(ع) وأصحابهم يعلّمون الناس بظواهر كلماتهم، والمستمعون يتلقّونها حجّة شرعية دون أن يناقشوا في حجّية الظواهر.

فأين الظواهر من القياس الظنّي الّذي تضاربت فيه الآراء وأنكر حجيتَه أئمةُ أهل البيت ولفيف من الصحابة والتابعين، أضف إلى ذلك قيام الدليل عى حجّية الظواهر دون القياس، فهذا هو الفارق بينهما.

3. إنّ الترجيحات- عند تعارض الخبرين- كلّها أو معظمها ترجيحات ظنّية تعليلية وتقريبية، فقد جرى ديدنهم على ترجيح ماظهر أنّه الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي الحقيقي، وهذا كما لا يخفى ليس إحرازاً للحكم الشرعي بالضرورة، وإنّما هو ظنّي وتقريب (1).


1- المجلة: ص 96

ص: 88

أقول: هذا هو المورد الثالث الّذي أثار تعجّب الأُستاذ من التفريق بينه و بين القياس والاستحسان وأمثالهما حيث أخذوا بالمرجّحات الظنّية ورفضوا القياس والاستحسان.

ولكن الإجابة عنه واضحة، وهي قيام الحجّة على لزوم الترجيح بالمرجّحات، وقد تضافرت الأخبار الّتي ثبتت حجّيتها على لزوم الترجيح بالمرجّحات المنصوصة كموافقة الكتاب وموافقة السنّة وموافقة المشهور وغيرها.

نعم، هناك مَن يستنبط من هذا الروايات لزوم الترجيح بكلّ مرجّح و إن لم يكن منصوصاً كالشيخ الأنصاري في فرائده، ومنهم من لا يقبل ذلك، وعلى كلّ تقدير فالفارق بين العمل بالمرجّحات والقياس والاستحسان وجود الدليل على لزوم الترجيح بهاوعدمه في القياس والاستحسان.

ص: 89

ولو أنّ صاحب المقال أحاط بأُصول الفقه عند الإمامية لما أثار عجبَه هذا التفريقُ، بل وجّه اهتمامه إلى التركيز على موضوع آخر وهو طرح القياس على صعيد البحث على ضوء دراسة أدلّة المثبتين والنافين دون أن يربط العمل بالقياس بالعمل بخبر الواحد والظواهر.

4. و ممّا أخذه الأُستاذ على الإمامية هو العمل بالأُصول العملية، أعني: البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب، فقد قال: إنّ ما يسمّونه أُصولًا عملية هي قواعد توصل إلى الظنّ و الرجحان، ومع ذلك أجازوا بل أوصوا بالعمل بها عند عدم الدليل الصريح (1).

أقول: أظنّ أنّ القارئ في غني عن تكرار الجواب؛ فإنّ الإشكال في الجميع واحد والجواب مثله، وهو أنّ


1- الصفحة 96 من المجلة.

ص: 90

الفارق وجود الدليل على حجّية الأُصول، سواء أكانت مفيدة للظنّ أم لا، ومن درس الأُصول العملية في الكتب الأُصولية للشيعة الإمامية يقف على أنّهم يستدلّون عليها بطرق مختلفة من الكتاب والسنّة و الإجماع والعقل. فكيف يقاس ذلك بالقياس الّذي تواتر النهي عن العمل به عن أئمة أهل البيت(ع)، وهذا هوقول الإمام الصادق(ع) لأبان بن تغلب: «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين» (1).


1- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.

ص: 91

استدلاله على حجية القياس عن طريق العقل

إنّ الأُستاذ الفاضل يستدلّ على حجّية القياس عن طريق العقل قائلًا: إنّ الإمامية وبخاصّة متأخّريهم يجعلون من الأدلّة الشرعية «الدليل العقلي»، بينما هم يرفضون القياس وهو من بديهيات العقول وأوّلياتها، يقوم على قاعدة لا ينكرها عقل ولاعاقل، وهي «أنّ ما ثبت لشي ء ثبت لمثله»، وهذا هو العدل الّذي قامت به الأرض والسماوات وجاءت به الكتب والرسالات.

أقول: لا شكّ أنّ العقل أحد الحجج الشرعية، وذلك في مجالات خاصة، ممّا للعقل إليها سبيل، و نمثّل

ص: 92

لذلك بنموذجين:

الأوّل: إذا استقلّ العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه، و تجرّد في قضائه عن كلّ شي ء إلّا النظر إلى نفس الفعل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع، وهذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلابيان، وحسنه معه، فيستكشف منه أنّ الشرع كذلك.

الثاني: أذا أمر المولى بشي ء و استقلّ العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدّمته أو وجوب الشي ء و حرمة ضدّه، أو امتناع اجتماع الأمر و النهي على شي ء واحد بعنوانين، أو جوازه إلى غير ذلك من أنواع الملازمات، فيكشف حكم العقل عن حكم الشرع.

ففي هذين الموردين وما يشبههما يكون العقل قاطعاً بالحسن والقبح أو الملازمة بين الوجوبين أو

ص: 93

الحرمتين، وعند ذلك نستكشف من خلال كونه سبحانه حكيماً لا يبعث الحكم الشرعي للحسن والقبح، أو للمقدّمة وضدّ الواجب.

وأمّا القياس فهو ليس دليلًا عقلياً قطعيّاً، وإنّما هو دليل ظنّي بشهادة أنّه لو كان دليلًا قطعياً لما اختلف فيه اثنان كما لم يختلفوا في حجية خبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن المفيدةللعلم.

فإنّ إطلاق الدليل العقلي على القياس على وجه الإطلاق غير صحيح، بل يجب أن يقال الدليل العقلي الظنّي؛ لأنّ الدليل العقلي- عند الإطلاق- ينصرف إلى الدليل العقلي المفيد للعلم.

ص: 94

الخلط بين المماثل والمشابه

والّذي أُلفت نظر الأُستاذ إليه هو أنّ القياس ليس من باب المماثلة، بل من باب المشابهة، وكم هو الفرق بين التماثل والتشابه، فما ذكره من أنّ «ما ثبت لشي ء ثبت لمثله» راجع إلى المتماثلين، والفرق بينهما واضح؛ وذلك لأنّ التماثل عبارة عن دخول شيئين تحت نوع واحد وطبيعة واحدة، فالتجربة في عدّة من مصاديق طبيعة واحدة تفيد العلم بأنّ النتيجة لطبيعة الشي ء لا لأفراد خاصة، ولذلك يقولون: إنّ التجربة تفيد العلم، وذلك بالبيان التالي:

ص: 95

إذا أجرينا- مثلًا- تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة كالحديد، تحت ظروف معيّنة من الضغط الجوي والجاذبية والارتفاع عن سطح البحر وغيرها مع اتّحادها جميعاً في التركيب، فوَجَدْنا أنّها تتمدّد مقداراً معيّناً ولنسمّه(س)، عند درجة خاصة من الحرارة ولنسمّها(ح). ثمّ كررنا هذه التجربة على هذه الجزئيات في مراحل مختلفة في أمكنة متعدّدة وتحت ظروف متغايرة، ووجدنا النتيجة صادقة تماماً: يتمدّد الحديد بمقدار(س) عند درجة(ح). فهنا نستكشف أنّ التمدّد بهذا المقدار المعيّن معلول لتلك الدرجة الخاصة من الحرارة فقط، دون غيرها من العوامل. فعندئذٍ يقال: «ما ثبت لشي ء ثبت لمثله» أو حكم الأمثال فيما يجوز وما لايجوز واحد.

وأمّا التشابه فهو عبارة عن وقوع فردين مختلفي الطبيعة تحت صفه واحدة توجب التشابه بينهما، وهذا

ص: 96

كالخمر والفقاع فإنّهما نوعان وبينهما تشابه في الإسكار، فلو أثبتت التجربة أنّ للخمر أثراً خاصاً، لا يمكن القول بثبوته للفقاع والنبيذ، بل لّابد من التماس الدليل على المشاركة وراء المشابهة.

وأوضح من ذلك مسألة الاستقراء، فإنّ ما نشاهده من الحيوانات البرية و البحرية أنواع مختلفة، فلو رأينا هذا الحيوان البري وذلك الحيوان البحري كلّ يحرك فكّه الأسفل عند المضغ ربّما نحكم- بلاجزم- بذلك على سائر الحيوانات من دون أن تكون بينها وحدة نوعية أو تماثل في الحقيقة، والدافع إلى ذلك التعدّي في الحكم هو التشابه والاشتراك الموجود بين أنواع الجنس الواحد رغم اختلافها في الفصول والأشكال، ولكن لا يمكن الجزم بالحكم والنتيجة على وجهها الكلّي؛ لإمكان اختلاف أفراد نوعين مختلفين في الحكم.

ص: 97

وبذلك يعلم أنّ القياس عبارة عن تعميم حكم مشابه إلى مشابه لا حكم مماثل إلى مماثل، ومن المعلوم أنّ تعميم الحكم من طبيعة إلى طبيعة أمر مشكل لايصار إليه إلّا إذا كان هناك تأييد من جانب العرف لإلغاء الخصوصية، وإلّا يكون التعميم عملًا بلادليل.

مثلًا دلّ الكتاب العزيز على أنّ السارق والسارقة تقطع إيديهما، والحكم على عنوان السارق، فهل يلحق به النبّاش الّذي ينبش القبر لأخذ الأكفان؟ فإنّ التسوية بين العنوانين أمر مشكل، يقول السرخسي:

«لا يجوز استعمال القياس في إلحاق النبّاش بالسارق في حكم القطع؛ لأنّ القطع بالنصّ واجب على السارق» (1).

والحاصل: أنّ هناك فرقاً واضحاً بين فردين من


1- أُصول السرخسي: 2/ 157

ص: 98

طبيعة واحدة، فيصحّ تعميم حكم الفرد إلى الفرد الآخر لغاية اشتراكهما في النوعية، وأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد، لكن بشرط أن يثبت أنّ الحكم من لوازم الطبيعة لاالخصوصيات الفردية.

وأمّا المتشابهان فهما فردان من طبيعتين- كالإنسان والفرس- يجمعهما التشابه والتضاهي في شي ء من الأشياء، فهل يصحّ تعميم حكم نوع إلى نوع آخر؟ كلّا، إلّا إذا دلّ الدّليل على أنّ الوحدة الجنسية سبب الحكم و مناطه وملاكه التام (1)، كما دلّ الدّليل في أنّ سبب الحرمة في الخمر هو الإسكار، وإلّافلا يصحّ إسراء حكم من طبيعة إلى طبيعة أُخرى بمجرّد التشابه بينهما، أو الاشتراك في عرض من الأعراض.


1- أُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 108- 110.

ص: 99

6: الدليل العقلي وحجيّة المصلحة

قد تعرّفت على أنّ العقل أحد مصادر التشريع أو- بالأحرى- أحد المصادر لكشف الحكم الشرعي. ومجال الحكم العقلي- غالباً- أحد الأُمور التالية:

1. التحسين والتقبيح العقليان.

2. أبواب الملازمات من قبيل الملازمة بين وجوب الشي ء ومقدّمته وحرمة ضدّه، والملازمة بين النهي عن العبادة أو المعاملة وفسادها، إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى باب الملازمة.

3. أبواب التزاحم أي تزاحم المصالح الّتي لابدّ من

ص: 100

أخذها كإنقاذ الغريقين مع العجز عن إنقاذ كليهما، أو تزاحم المصالح والمفاسد كتترّس العدو بالمسلمين؛ فإنّ للعقل دوراً فيها، وله ضوابط لتقديم إحدى المصلحتين على الأُخرى أو تقديم المصلحة على المفسدة أو بالعكس، وهي مذكورة بالتفصيل في مظانّها.

ولا غبار على حجّية العقل في هذه الموارد، إنّما الكلام في حجّية المصلحة وعدّها من مصادر التشريع فيما لانصّ فيه. فقد ذهب عدّة من فقهاء السنّة إلى حجّية المصلحة، و سمّاها المالكية بالمصالح المرسلة والغزّالي بالاستصلاح، وحاصل دليلهم على حجّية المصلحة وكونها من مصادر التشريع كالتالي:

إنّ مصالح الناس تتجدّد ولا تتناهى، فلولم تشرّع الأحكام لما يتجدّد من صالح الناس ولما يقتضيه تطورهم واقتصر التشريع على المصالح الّتي اعتبرها الشارع فقط، لعطّلت كثيرمن مصالح الناس في مختلف

ص: 101

الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطوّرات الناس و مصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس (1).

وحاصل هذا الوجه ادَّعاء وجود النقص في التشريع الإسلامي لو اقتصر في مقام الاستنباط على الكتاب والسنّة؛ لأنّ حاجات المجتمع إلى قوانين جديدة لازالت تتزايد كلّ يوم، فإذا لم تكن هناك تشريعات تتلاءم مع هذه الحاجات لم تتحقّق مقاصد الشريعة.

ثم إنّ السبب لجعلهم المصالح مصادر للتشريع هو الأُمور التالية:

1. إهمال العقل وعدم عدّه من مصادر التشريع في مجال التحسين والتقبيح العقليين.

2. إقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع


1- علم أُصول الفقه، لعبد الوهاب الخلّاف: 94

ص: 102

إقفالًا سياسياً، فقد صار ذلك سبباً لوقف الدراسات الفقهية منذ قرون، وفي ظلّ ذلك توهّم المتأخّرون وجود النقص في التشريع الإسلامي وعدم كفايته لتحقيق مقاصد الشريعة، فلجأوا إلى عدّ المصالح المرسلة من مصادره. وبذلك وجهّوا قول من يعتقد بحجية المصالح المرسلة من أئمةالمذاهب.

3. عدم دراسة عناوين الأحكام الأوّلية والثانوية، كأدلّة الضّرر والحرج والاضطرار والنسيان، فإنّ هذه العناوين وما يشابهها تُحلّ أكثر المشاكل الّتي كان علماء السنّة يواجهونها، من دون حاجة لعدّ الاستصلاح من مصادر التشريع.

4. عدم الاعتراف بصلاحيات الفقيه الجامع للشرائط بوضع أحكام ولائية كافية في جلب المصلحة ودفع المفسدة، وتكون أحكاماً مؤقّتة مادام الملاك موجوداً.

ص: 103

والفرق بين الأحكام الواقعية والولائية هو أنّ الطائفة الأُولى أحكام شرعية جاء بها النبي(ص) لتبقى خالدة إلى يوم القيامة، وأمّا الطائفة الثانية فإنّما هي أحكام مؤقّتة أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي على ضوء سائر القوانين لرفع المشاكل المتعلّقة بحياة المجتمع الإسلامي.

ثم إنّهم مثّلوا للمصالح المرسلة بأمثلة، نذكر منها ما يلي:

1. جمع القرآن الكريم في مصحف بعد رحيل النبيّ(ص).

2. قتال مانعي الزكاة.

3. وقف تنفيذ حكم السرقة في عام المجاعة.

4. إنشاء الدواوين.

5. سكّ النقود.

6. فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما

ص: 104

لابدّمنه، لتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد وغير ذلك.

7. سجن المتهم كي لايفرّ.

8. حجر المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس.

ثمّ إنّ بعض المغالين ربّما يتجاوز فيمثّل بأُمور لا تُبرّرها أدلّة التشريع الواقعي كتنفيذ الطلاق ثلاثاً، مع أنّ الحكم الشرعي هوكونه طلاقاً واحداً في عصر النبيّ(ص) وبرهة بعد رحيله، وهذا من باب تقديم المصلحة على النص.

ثم إنّ للإمامية في العمل بالمصالح مذهباً وسطاً أوضحناه في كتابنا (1). وليست الإماميّة ممّن ترفضه بتاتاً كما تصوّره الأُستاذ أو تقبّله في عامَّة الصور.

هذا إجمال الكلام في المصالح المرسلة، و التفصيل مع


1- لاحظ أُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه للكاتب.

ص: 105

ما لها وما فيها يُطلب من محلّه.

إذا عرفت ذلك فهلمّ معي نقرأ ما ذكره الدكتور الرّسيوني حول هذا الموضوع، قال:

«أمّا حجية المصلحة، فإنّهم و إن كانوا ينكرونها بالاسم إلّا أنّهم يأخذون بها بأسماء وأشكال متعدّدة:

فتارة تدخل تحت اسم «الدليل العقلي» حيث يدرجون ضمنه- مثلًا- اعتبار «الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضارّ الحرمة» وهذا عين اعتبار المصلحة. كما أنّ من القواعد المعتبرة عندهم ضمن دليل العقل قاعدة «وجوب مقدّمة الواجب» وهي المعّبر عنها ب- «ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب» ذلك أنّ معظم المصالح المرسلة هي من قبيل «مالا يتم الواجب إلّا به» فهي مقدّمات أو وسائل لواجبات أُخرى، ومثلها قاعدة «كلّ ما هو ضدّ الواجب فهو غير جائز» فهذا ما يعّبر عنه بدرء المفاسد. وأُخرى

ص: 106

يدخلون العمل بالمصلحة من باب ما يسمّى عندهم السيرة العقلائية. وبناء العقلاء، وهو في الوقت نفسه من المصالح المرسلة» (1).

وحاصل كلامه: إنّه تدخل تحت حجّية المصلحة القواعد التالية:

1. وجوب مقدّمة الواجب

2. حرمة ضدّ الواجب.

3. حجّية بناء العقلاء وسيرتهم.

4. الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضارّ الحرمة.

فهي نفس العمل بالمصلحة مع أنّهم يدخلونها تحت «الدليل العقلي».

يلاحظ عليه: أنّ اشتمال هذه القواعد على المصالح و درء المفاسد غير كون المصلحة سبباً لتشريعها ومبدأً


1- الصفحة: 97 من المجلة المشار اليها.

ص: 107

لتقنينها؛ فإنّ الدليل على وجوب مقدّمة الواجب أو حرمة ضدّ الواجب حكم العقل بالملازمة بين الإرادتين، فمن حاول الوقوف على السطح، لا محيص له من إرادة نصب السلّم، أو ركوب المصعد.

فاشتمال المقدّمة على المصلحة أو اشتمال الضدّ على المفسدة أمر جانبي لا مدخلية له في الحكم بالوجوب و الحرمة.

وأمّا حجّية بناء العقلاء، فإنّ أساسها كونه بمرأى و مسمع من الشارع وهو إمضاؤه، لهذا لو كان غير مرضيّ عنده لما سكت عن النهي عنه؛ لقبح السكوت عمّا يوجب إغراء الأُمّة، ولولا إمضاؤه لما صحّ الاعتماد عليه في الفقه، كما هو الحال في السِّير الّتي رفضها الشارع كبيع الخمر والكلب والخنزير و التملّك بالمقارنة.

وبه يظهر حكم القاعدة الرابعة، فإنّ الحكم بجلب

ص: 108

المنفعة أو درء المفسدة هو العقل الحصيف، لا قاعدة المصالح المرسلة، و إن كان في الجلب والدرء مصلحة، وبالجملة: الأُمر الجانبية ليست أساساً لحكم العقل في مورد هذه القواعد.

نحن نفترض أنّ لهذه المسائل طابعاً عقلياً كما أنّ لها طابعاً استصلاحياً، فلو كان الوصول إليها من دليل العقل أمراً غير صحيح فليكن الوصول إليها عن طريق الاستصلاح مثله، فلماذا يوجّه اللوم إلى الفريق الأوّل دون الثاني؟ أوليس هذا المورد من مصاديق المثل السائر: «رمتني بدائها وانسلت»؟

*** هذه بعض الملاحظات على كلام الأُستاذ، حفظه الله و نفعنا بعلومه. وبقيت في كلامه أُمورأُخرى يظهر النظر فيها من بعض ما ذكرنا.

وفي الختام ندعوله ولعامّة الاخوان في المملكة

ص: 109

المغربية والأساتذة والطلاب في دار الحديث الحسنية بدوام التوفيق والسداد.

والسلام عليكم ورحمةالله وبركاته

جعفرالسبحاني

قم المقدسة- إيران

غرّة ربيع الأوّل 1426 ه

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.