عنوان و نام پديدآور : الفردوس الاعلي/تاليف محمدالحسين آل كاشف الغطاء؛ و عليه تعليقات نفيسه بقلم محمدعلي القاضي الطباطبائي.
مشخصات نشر : قم: دارانوارالهدي، 1426ق= 1384.
مشخصات ظاهري : 352 ص.
شابك : 964-8812-00-4
يادداشت : عربي.
موضوع : شيعه اماميه -- عقايد -- پرسش ها و پاسخ ها.
موضوع : فقه جعفري -- قرن 14.
موضوع : احاديث احكام.
شناسه افزوده : آل كاشف الغطاء، محمدحسين، 1877 - 1954م.
شناسه افزوده : قاضي طباطبائي، محمدعلي، 1291؟ - 1358.حاشيه نويس.
رده بندي كنگره : BP211/5/آ7ف4 1384
رده بندي ديويي : 297/4172
شماره كتابشناسي ملي : 1047586
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
ص: 7
ص: 8
صورة المؤلف
الإنسان أفكاره و آراؤه لا صورته و أعضاؤه
رسم خطّ المؤلّف
أحسن صورة للإنسان، ما كتب
ص: 9
العلّامة الشهيد آية اللّه السيد محمد علي القاضي الطباطبائي رضوان اللّه عليه
ص: 10
ص: 11
الأرجنتين و آراء العباقرة حول كتاب الفردوس الأعلى
ص: 12
ص: 13
بسم اللّه الرحمن الرحيم
لم يظهر كتاب «الفردوس الأعلى» لشيخنا و أستاذنا الإمام آية اللّه كاشف الغطاء دام ظله من المطبعة- الطبعة الأولى- و يصل إلى بعض الصحف العراقية و غيرها إلّا و نوّهوا به و أعلنوا عنه إيجازا من بعض و تفصيلا من آخرين، و حيث إنّ أحسن من كتب في هذا الموضوع و أدّى بعض حقه، أو كلّ ما هو أهل له عباقرة صحافيّ «المهجر» و أدبائهم اللامعين، و الغيارى على الإسلام و العروبة و العلم و الفضيلة في «بوينس آيرس» من الأرجنتين (1) «أميركا الجنوبية»، كالأستاذ عبد اللطيف الخشن في صحيفته الغراء «العالم العربي»، و الأستاذ الشيخ يوسف كمال في مجلته الزاهرة «الرفيق»، و الأستاذ الفاضل «صارمي» في مجلته الباهرة «المواهب».
و نحن من أجل بيان فضلهم و تقدير معارفهم و سموّ مداركهم، و نفوذ أفكارهم إلى أعماق الفضائل و أسرار العلوم و الحقائق كما يتجلى ذلك من
ص: 14
نفحات ألفاظهم، و رشحات أقلامهم، و بديع أساليبهم، ننشر هنا ما ذكروا، و نذكر ما نشروا، و إننا إذ ننشر نصّ كلماتهم في هذه الطبعة الثانية إنما نريد تخليد فخرهم و تشييد ذكرهم و الاعتراف في صدر الكتاب بمعروفهم و معارفهم، زادهم اللّه كرامة و فضلا و شهامة و نبلا.
و إليك مقال كلّ واحد من تلك الصحف على ترتيب ما وردنا منهم، و من اللّه نستمد التوفيق و نسأل التأييد.
القاضي الطباطبائي
ص: 15
كلمة «العالم العربي» ننقلها عن مجلة «الغري» الغراء عدد 6 السنة الرابعة عشر- النجف الأشرف الفردوس الأعلى في نظر الصحافة الأمريكية صدّر الإمام الأكبر آية اللّه كاشف الغطاء آخر مؤلف له- و ما أكثر مؤلفاته و فيوضاته- و سماه ب «الفردوس الأعلى»، لما فيه من مختلف أزهار العلوم و باقات الفكر و الفلسفة، و لما فيه من حياة الروح و سعادة الفكر، و متعة النفس، و لما فيه من الهداية إلى الإيمان باللّه، و الاعتقاد باليوم الآخر.
و قد جاء هذا الكتاب كسائر مؤلفات الإمام- مفرغة عن بيان ساحر و حقائق علمية ناصعة، و مؤلفة عن حاجة و إلحاح و ضرورة- و انتشر كأخواتها في آفاق العالم و أنحاء البلاد حتى وصل إلى أميركا، و اطلع عليه ذلك العالم الجديد البعيد، فكتب صحفيها البارع عن مدى تأثير الكتاب على ذهنية ذلك العالم، و مدى تأثرهم به.
ص: 16
و نحن نقتطف هذه الكلمة البليغة عن صحيفة «العالم العربي» الصادرة في الأرجنتين نظرا لأهميتها و إيفائها حق الكتاب و حق مؤلفه الإمام حفظه اللّه بقدر المستطاع.
الغري
*** سماحة الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء العراقي النجفي: ربما كان بين علماء المسلمين اليوم أبعدهم صيتا، و أغزرهم علما، و أكثرهم انتاجا فيما إذا توفرت الأسباب.
و بالرغم من السنين الطوال، البالغة السبعة عقود التي ينوء تحتها هذا الفيلسوف الكبير، لا يزال قلمه جمرة تستعر دفاعا عن الدين، و كرامته، و العروبة، و مناوئيها، بل لا يزال الإمام آل كاشف الغطاء يتدفق فلسفة و عبقرية و بحثا و تدقيقا حتى غدا مرجعا دينيا للعرب و العجم من المسلمين.
الفردوس الأعلى لقد أهدانا الإمام الحجة نسخة من مؤلفه الجديد الذي أطلق عليه اسم «الفردوس الأعلى»، و بالرغم من عرفنا في أعمالنا اليومية حتى الأسنان و الأذقان حاولنا أن نكتفي من معدن علّامتنا الأكبر بنهلة، و انكببنا على مطالعة «الفردوس الأعلى»، و لكن النفس المتعطشة إلى كل جديد، المتعشقة لما ينتجه قلم هذا الفيلسوف الكبير، لم يطف علتها بضع صفحات في الكتاب، بل أخذنا
ص: 17
نشفع الكأس بالكأس، و الكوب بالكوب حتى الثمالة، و حتى وصلنا إلى نهاية هذا الكتاب النفيس الذي يصح أن يكون مرجعا للمؤمن و الكافر، للعابد و الجاحد.
إنّ أعظم ما لفت نظرنا في الكتاب، و أعادنا إلى الإسلام الصحيح، و أفرغ قلبنا من نزوات الشك، و سقطات الظن و التقدير، و أبعد عنّا شيطان الوسوسة، المباحث الآتية في الكتاب «غيب و لكنه بلا ريب»، هذا الباب يتعلق بسيرة المعراج، و حديث إحضار آصف عرش بلقيس و غير ذلك، و فسر بعض الآيات القرآنية تفسيرا علميا ينطبق على نظريات عميقة تهدي القارئ إلى ضالته المنشودة عند ما يتعسر عليه معرفة كنه أسرار غوامض الحياة من شتى النواحي، و قد جال قلم المؤلف في تفسير المادة و الروح تفسيرا علميا منقطع النظير ينطبق على أقوال الكثيرين من علماء هذا العصر، حتى الذين لا يؤمنون بخلود الروح، و لا بوجود الخالق.
يقول المؤلف- مدّ اللّه في عمره-:
«... إنّ في الإنسان بدنا برزخيا بين الروح المجردة و البدن المادي، فاعلم أنّ هذا البدن قد تغلب عليه الناحية الروحية، و النزعات العقلية، فيغلب على الجسد المادي و يسخّره لحكمه، و يكون تابعا له، و منقادا لأمره، و قد ينعكس الأمر فتتغلب النواحي المادية، و الشهوات الحسية على الملكات الروحية فتصير الروح مسخرة للمادة، تابعة لها، منقادة لرغباتها و شهواتها، و هنا تصير الروح مادة تهبط إلى الدرك الأسفل، و ظلمات الجهالات، و لكنه أخلد إلى الأرض، و هناك تصير المادة روحا حتى تخف و تلطف، و تنطبع بطابع المجردات، فتسمو إلى الملأ الأعلى في هذه الحياة الدنيا، فضلا عن الحياة
ص: 18
الأخرى».
و قديما قال بعض الشعراء في سوانحهم الشعرية:
خفت و كادت أن تطير بجسمها و كذا الجسوم تخف بالأرواح
و في باب «المعاد الجسماني» للمؤلف براهين تهبط بالرجل الدهري من عالم المادة، الفارغ من جوهر الإيمان، إلى العالم الملموس المحسوس و توقفه على نافذة الحياة التي يرى منها شعاع النور الإلهي.
و في باب «الزكاة و الاشتراكية الصحيحة و التعاون في الإسلام» ما يغني العالم كله عن البحث في كيفية التعاون المشترك بين الفرد و الجماعات، و بين الأسر و العائلات، و قد أفاض العلامة آل كاشف الغطاء بالبحث عن الاشتراكية حتى صورها من أفضل مزايا الإسلام.
و هناك أسئلة و أجوبة تتعلق في أصول الدين و فروعه، و الفروض و الفروع، و قد جاءت بعض فتاوى الحجة الإمام آل كاشف الغطاء موافقة لروح العصر الحالي إذا لم تجئ كلها.
و الذي لفت نظرنا هو أن سماحة المؤلف يستشهد كثيرا بأقوال أبي هريرة، بينما زميله الإمام السيد عبد الحسين آل شرف الدين «صور جبل عامل» قد فنّد جميع أقواله، في مؤلفه المشهور «أبو هريرة»، و جردها من الحقائق و الأسانيد العلمية، التي يصح الأخذ بها و الاعتماد عليها، و نحن لا نحاول بكلمتنا هذه أن نستبق الظروف، و نجعل من ضعفنا في التعرض للبحوث الدينية و العلمية قوة للخوض في معركة من هذه المعارك، بينما يعلم الجميع أن هذه الجريدة لا تهتم
ص: 19
إلّا للقضايا الوطنية البحتة، بقطع النظر عن احترامنا للدين و أربابه، و لعلماء الدين العاملين المخلصين كافة عامة.
فإلى سماحته- سماحة الإمام آل كاشف الغطاء- تحياتنا و تهانينا الحارة بمؤلفه الجديد، طالبين من الجمعيات الإسلامية المنتشرة في هذه الجمهورية و غيرها أن تطلب من هذا الكتاب نسخا للمطالعة و الإهداء، و بذلك تعود هذه الجمعيات- بعد أن غرقت في بحر المادة- إلى الحياة مرة ثانية، فتقف أمام الخالق الديان وقفة المعترف بذنوبه، المقر بعيوبه، و ما في كتاب «الفردوس الأعلى» كفاية لمن يفتّش عن ربه و عن ذنبه معا.
العالم العربي
ص: 20
عن مجلة الرفيق العدد 10- السنة 8 شهر رجب 1372 ه نيسان 1953 م حول كتاب الفردوس الأعلى بقلم: الاستاذ أحمد سليمان الأحمد الأديب البارع الشهير حفظه اللّه
صدر هذا الكتاب النفيس الرائع لمؤلفه الشهير مولانا الإمام الحجة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، صاحب المؤلفات العديدة الفريدة، و التي منها كتاب «الدين و الإسلام» الذي أخذ شهرة واسعة في العالمين الشرق و الغرب معا، فكان برهانا ساطعا للمطلعين.
و الفردوس الأعلى الذي بين أيدينا جامع للشروط و الأحكام العصرية من دينية و مدنية، حاو لكثير من المسائل العلمية و الفقهية لكبار علماء الأمة في مختلف البلدان الشرقية يستفتون الإمام كاشف الغطاء بها و أجوبته الجليلة
ص: 21
الواضحة عليها بما يقنع و يرضي كل سائل مستفيد.
و نحن إذ نشكر لمولانا الحجة آل كاشف الغطاء هديته الثمينة ندعو بطول بقائه و إسعاده لنتمتع ببركته و أدعيته و علمه الغزير، و ليس لنا ما نقول بعد هذه الكلمة التي ننشرها لشاعر شباب العرب الأستاذ أحمد سليمان الأحمد بهذا المؤلف الغزير المادة، و الكثير المنفعة و الفائدة، كما ننشر بختامها بعض الأسئلة الواردة و أجوبتها، و هذه كلمة الأستاذ الأحمد الموفقة وفّقه اللّه و زيد في حياته و رضي عنه.
قلم التحرير
قال سبحانه و تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ.
بهذه الآية الكريمة صدّر الإمام الحجة آية اللّه الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء كتابه الجديد «الفردوس الأعلى»، و حقيق بنا أن نقف أمام ما يكتبه هذا الإمام الجليل، و أن نسترسل معه في آفاقه الفكرية ننهل من معين ينبوعه الفياض، أو نقطف من غرس فردوسه الأعلى.
و حقيق بنا أن نذهب مع هذا العالم الفقيه كل مذهب في أبحاثه و نظراته و نستشف منها حقيقة الدين، هذا الدين الذي يبرأ من فريقين، يدعيه الأول و هو أشد ما يكون منه براءة، هذا الفريق الأول هو حزب الجمود و الخرافات و الأكاذيب و الأضاليل و الانعزال و الكره و التعصب، يعد هذه المجموعة دينا و لا
ص: 22
يقول إلّا بها، فيشوّه حقيقة الدين و يكون هؤلاء القائلون الحجة القوية بنظر الملاحدة الذين يميلون عن الدين و يغالون في التنكر لكل عظيم و جميل و سام فيه.
ذاك الفريق الأول، و هذا الفريق الثاني «الملاحدة» يلتقيان على صعيد واحد، كلاهما شقاء للإنسانية، و كلاهما لطخة عار في جبينها، بل في رأيي و اعتقادي أن الفريق الأول أشد خطرا. و المجتمع الذي تفشو فيه هذه السموم هو مجتمع كتب عليه التأخر.
في كتابة الإمام الحجة كاشف الغطاء و أمثاله من المصلحين العظام ما يزيد إيماننا بالدين و بروحيته و بقداسته، و بأنه الطريقة الوحيدة لإنقاذ العالم من التخبط في حمأة حلوله و شكوكه و ظنونه، و ما أكثر ما يثلج صدورنا- نحن دعاة الإصلاح- أن نرى أحبار أمتنا تنهض للإصلاح الديني فلا تحيد خطوة واحدة عما يؤيده العقل، و عما يرتفع بالإنسان مادة و روحا.
إنّ النقيق المجرم الزري الذي قال بالخرافات و الأوهام هو نفسه النقيق المجرم الزري الذي تهجم على حملة لواء الإسلام و الإيمان، فما ذا يقول الإسلام و الإيمان؟ و يا ليت شعري أي معنى لحركة أو نظرية، و أي قيمة لها إذا كان علم يبرأ منها و يبين أخطاءها ثمّ يعتنقها جاهل أو خمسون جاهلا؟
حدانا إلى هذه العجالة الفكرية ما طلع علينا به علامتنا المرجع الديني الأعلى الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في فردوسه الأعلى، و ما دبّجه قلمه البليغ من روائع الفكر و الالهام، و الحق أنّ مباحث العلامة الأكبر تمتاز بذلك التفكير المجرد، و الإحاطة الشاملة في الموضوع، بل أسارع و أقول: إنّ ما يهتدي إليه من الشرح و التعليل و إنارة السائل لممّا يعز نظيره، و يكاد ينفرد به
ص: 23
الشيخ الحجة من خوالج و خواطر و حقائق و دقائق.
و قد هزّنا بنوع خاص، و ما أكثر قول الإمام الذي يأخذ بمجامع القلوب، و يملك الأفكار و العقول، أقول: لقد هزّنا- بنوع خاص- وصفه لمن يجب أو يجوز الأخذ عنه و تقليده، فيقول: «النظر إلى مقدار انتاجه، و كثرة مؤلفاته، و عظيم خدماته للشرع و الإسلام، و مساعيه في صيانة الحوزة، و الذب عنها».
و ما أروع و أجل تفسيره رضى اللّه عنه لانخساف قمر العقل و انكساف شمس المعرفة، و ما أعظم نصيحته في آخر الجواب: و إن أبيت فطرح تلك الأخبار هو الأصح، و اللّه العالم.
كم في نفس هذا العالم من هدى و علم، و معرفة و إصلاح، و يا حبذا لو تأخذ الأمة بنصائحه و توجيهاته، إذا لعاد لنا عزنا و فوزنا في الدنيا و الآخرة.
و ما ذا أقول في الإمام إلّا ترديد بيت من قصيدة لمولاي الوالد وجهها جوابا لقصيدة أرسلها إليه الإمام الحجة الشيخ محمد الحسين، فقال:
بك ابن الرضى دالت إلى العلم دولة بها خدمت بيض الصفائح أقلاما
و ما ذا أقول في «الفردوس الأعلى» إلّا أن أنقله بكليته للقارئ، و يا حبذا لو عمم في البيوت و لو وعته القلوب التي تبصر.
أحمد سليمان الأحمد
ص: 24
في عالم التأليف بقلم: آل كاشف الغطاء
كلمة مجلة المواهب الفردوس الأعلى بعض أسرار الحج: بحسب هذا المؤلف الجديد «الفردوس الأعلى» أن يكون بقلم الإمام المجتهد الأكبر آية اللّه العلامة سماحة حجة الإسلام الأشهر، الأجل الأفقه الأنور، مولانا الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، متّع اللّه الأنام بإطالة عمره الشريف، فيأتي مطابقا اسمه مسماه، و لفظه معناه، و يجي ء آية في سلامة العقيدة و التفكير، و بلاغة التفسير و التعبير، و في كشف دقائق الفقه و العرفان، و توضيح أسرار العبادات و الزكاة و الحج و الصوم، و وحدة الوجود و المعاد الجسماني و غير ذلك، بأجلى بيان و أقوى برهان، عدا مقدمات حافلة الضرع، جليلة النفع، يحتوي عليها هذا الكتاب العظيم، و على مسائل فقهية فسيحة الأرجاء، متشعبة الطرق، متعددة المقاصد، مسائل يندر جدا في عصرنا هذا- عصر العلوم و الفنون- من بوسعه و طاقته الإجابة عنها بهذا البيان الشافي المبدع، و الأسلوب
ص: 25
الرشيق الممتع، بهذه الحجج البالغة و الأدلة القاطعة، كما تكرم و أجاب عنها صاحب «الفردوس الأعلى» أعلى اللّه كلمته، من طريق العقل الناضج الراجح، و النقل الثابت الصحيح.
و لا غرابة، فأمامنا آل كاشف الغطاء إن هو إلّا في الربيئة من أولئك الرجال الأفذاذ الذين غاصوا بجدهم و اجتهادهم إلى القرار في بحار علوم أهل العصمة آل بيت الرسول، أئمة الهدى و منائر الإيمان و الإسلام عليه و عليهم السلام، فاستخرجوا درر كلمهم من مكامنها، و جواهر معانيهم من معادنها، ثمّ أخذوا يبثونها في النفوس كتابيا شريفا، و سننا نبوية سنية، تصقل الأفهام، و تنير الأذهان، و تهدي إلى سواء السبيل، فما أكبرها نعمة على الناس، و ما أجلها منّة!
بئر معطلة و قصر مشرف مثل لآل محمد مستطرف فالقصر مجدهم الذي لا يرتقى و البئر علمهم الذي لا ينزف
تعطف سماحة الأب الروحي البار سيدنا المؤلف الإمام فشرّفنا- و لسماحته أكمل الشكر- بإهداء نسخة من فردوسه الأعلى، صادرة من مدرسته في النجف الأشرف في 15 ربيع الأول 1372.
و بكلمة الإهداء عليها بقلمه الشريف نراه يتلطف فيرغب إلينا بأن نطالعه بإمعان و روية و استيعاب، ثمّ نفيه بعد ذلك حقه من نقد أو رد.
أما المطالعة بإمعان فسمعا و طاعة لما أمر، و أما النقد و الرد، فإنّ من يطيقهما- بعرفنا- على هذا الكتاب القيم القويم، الذي ما خرج عن كونه تقريرا لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء فإنه يطيق الرد على كتاب اللّه و سنّة نبيه صلّى اللّه عليه و آله، و كلام الموالي أهل البيت المعصومين عليهم السّلام.
ص: 26
و تتشرف «المواهب» بنقل الفصل الآتي «بعض أسرار الحج» من هذا الكتاب الجليل الذي يجدر بكل أديب عربي حق مسلم و غير مسلم أن يطالعه بإمعان و روية ليتبين مقدار فضله و نفعه، و حاجة النفوس الخيرة إليه، و إليك.
انتهى.
عن مجلة المواهب
العدد 9- 10- السنة الثامنة- جمادى الثانية و رجب سنة 1372 ه- ص 14
ص: 27
بسمه تعالى
عرفت اللّه بفسخ العزائم: لما قضت العناية الإلهية، و تقدير العزيز العليم في العام الماضي- أعني سنة (1371 ه)- بالتوفيق و التأييد، و وفقنا في النجف الأشرف لطبع كتاب «الفردوس الأعلى» من تصانيف سماحة شيخنا و أستاذنا الإمام آية اللّه كاشف الغطاء- و هو اليوم من أكبر مراجع الشيعة و مجتهديهم- متّع اللّه الأمة بطول حياته و بقائه، بعد أن بذلنا الجهد في طبعه و نشره باهتمام الشاب النشيط في مطبعته الحيدرية، فبرز هذا الأثر الخالد إلى عالم العلم و الأدب، و ما كان القصد إلّا خدمة الدين و المذهب، و بث العلم و نشر الحقائق، و بعد برهة قليلة من زمن نشره و ارتواء الناس من مناهله العذبة، وقعنا في المضايق المكربة بسبب بعض الحوادث العجيبة، و تصاريف الزمان و الدهر الخوّان، فعزمنا للقفول إلى الأرض التي نشأنا فيها، و في قصدي العود إلى النجف الأشرف- مركز الفقاهة و الثقافة العلمية و النزعات الأدبية- عاجلا من دون تأنّ في ذلك و لا تأخير، فوردنا إلى «تبريز» و وقعنا في الحوادث المزعجة التي تشمئز من سماعها النفوس الطيبة و القلوب النيّرة، فعاقت هذه العوائق بيني و بين تلك الأمنية و الرجوع إلى
ص: 28
الأرض المقدسة، و من جراء ذلك لم أجد بدا إلّا التوقّف و الإقامة حتى تنفرج المضايق، و تنقضي هذه الظروف بعون اللّه تعالى.
و صار من العنايات الربانية في هذه الآونة الأخيرة أن قيّض اللّه تعالى بعض الناشرين للعلوم و الفضائل لطبع هذا الكتاب النفيس و السفر الجليل طبعا ثانيا، بحلّة قشيبة رائعة و طبعة جديدة طامحة، فكتبنا إلى سماحة شيخنا الإمام- دام ظله- في النجف الأشرف، نستدعي الإذن في ذلك، فتفضّل علينا و على روّاد العلم و طلاب الفضيلة بالإجازة لتجديد طبعه، و أمر بإرسال نسخة مصححة بقلمه الشريف و فيها بعض الزيادات و التنقيحات، و أمرني بتوقيعه المبارك بكتابة بعض التعاليق أيضا زيادة على التعليقات التي كتبنا في الطبعة الأولى، و ليس ذلك إلّا من ألطافه الخاصة إلينا، فبادرت لامتثال أوامره شاكرا لألطافه و لإرشاده إلى ضالتي المنشودة و بغيتي المأمولة.
و قد ساعدنا في أمور الطبع و التصحيح و نشر هذا الأثر النفيس بأبهى حلة حضرة العالم الفاضل الأستاذ السيد محمد حسين الطباطبائي (1)، نسأل اللّه تعالى أن يوفّقه و إيانا لأداء أمثال هذه الخدمات الدينية إلى العالم الإسلامي و المجتمع المذهبي، و من اللّه التوفيق و هو المستعان و عليه التكلان.
تبريز- إيران- شوال المكرم 1372 ه- 1953 م
محمد علي القاضي الطباطبائي
ص: 29
كلمة الإمام المجتهد الأكبر آية اللّه كاشف الغطاء المؤلف- أدام اللّه ظله- كمقدمة للكتاب بسم الله الرحمن الرحيم و له الحمد و المجد قال جلّ شأنه في محكم كتابه الكريم: وَ مِنْ آيٰاتِهِ خَلْقُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلٰافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوٰانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِلْعٰالِمِينَ (1).
و كما أنّ الحكمة الأزلية و العناية الكلية قضت اختلاف أفراد البشر و امتياز كل واحد عن الآخر في طوله و شكله و ملامحه و سائر جوارحه، بل و حتى في نبراته و نغمات صوته، فلا تكاد تجد فردين من نوع الإنسان يتساويان في كل المزايا الجسمية و الزوايا العضوية من لون أو لغة أو غيرهما، كل ذلك دليلا على عظيم القدرة و آية على باهر الصنعة، و أنّ سعة المشيئة لا حدّ لها و لا منتهى.
ثمّ و على هذا و مثله جعل اختلافهم في الأفهام و المدارك و الشعور و الميول و الأذواق و الغرائز، و لعل اختلافهم و تباينهم في الأخلاق أكثر من اختلافهم في الخلق حكمة باهرة، و قدرة قاهرة، جلّت و عظمت فوق العظمة
ص: 30
و الإجلال بما لا يتناهى من الكبرياء و الكمال.
و كان من الغرائز و الميول التي أودعها جل شأنه في هذا البدن النحيف، و الجسم الضعيف منذ درج على الأرض أو صار يميز بين الطول و العرض، الميل و الرغبة الملحّة إلى التأليف و الجمع، من كل أصل و فرع، ينضم و تنتظم بها الرغبة المتوقدة إلى التذوق و المشاركة في شتى العلوم و أكثر الفنون.
فما انتهى العقد الأول من أعوامي إلّا و قد شرعت أو كرعت من مناهل علوم العربية و الأدب و مبادي الفقه و أصوله، و أول تأليف برز لي في هذه البرهة كتاب «العبقات العنبرية في طبقات الجعفرية» مجلدان، كله أدب و تأريخ و نوادر، برزت نسخة واحدة منه إلى المبيضة أرسلناها في ذلك العصر إلى عمّ لنا كان في أصفهان كي يمثله للطبع فعاجله الأجل قبل إنجاز العمل، و مات و ماتت تلك النسخة النفيسة معه، و قد علمنا أنها ما نشرت، و لكن لا نعلم أين قبرت، و ليس عندنا منه سوى مسودة الجزء الأول بخطنا قبل ستين سنة، و قد انتهل من مشارع هذه النسخة جملة من أدباء العصر، و نقلوا الكثير من فرائدها إلى مؤلفاتهم مع حفظ أمانة النقل و بدونها.
ثمّ لم تنطو صحيفة العقد الثاني من حياتنا إلّا و نحن منهمكون في طلب دائب و حركة سافرة بالاشتغال في علوم الحكمة و الفلسفة و الكلام عند أساطينها الذين هاجروا إلى النجف الأشرف لتحصيل العلوم الشرعية، عند مراجع الشيعة الأعاظم في أوائل القرن الرابع عشر، مضافا إلى اشتغالنا في علوم البلاغة كالمعاني و البيان و البديع، و الرياضيات من الحساب و الهيئة و أضرابها، بل الفقه و أصوله، و الحضور في حوزة درس الطبقة العليا من الأساطين كالكاظمين صاحب العروة و صاحب الكفاية رضوان اللّه عليهما، فقد لازمت
ص: 31
الحضور عليهما من سنة الثانية عشر هجرية إلى حين وفاة الأول سنة 1337 ه، و الثاني سنة 1329 ه، و على الشيخ الفقيه الهمذاني صاحب مصباح الفقيه، المتوفى سنة 1322 ه، و غير هؤلاء من الأعاظم قدس اللّه أسرارهم، و في حين الوقت الذي أحضر عند هؤلاء الأساتذة الأعلام كانت لي حوزة درس من الأفاضل المهاجرين لطلب العلم، فكنت أكتب ما أتلقاه من أساتذتي في الفقه و أصوله و أحرر ما ألقيه من الدروس على تلاميذي.
و في هذه الآونة و أنا في وسط العقد الثالث ألّفت شرح العروة في مجلدين كبيرين لم يطبع شي ء منها إلى الآن، و مع استفراغ الوسع و بذل الجهود البليغة في علمي الفقه و أصوله و الحديث و التفسير و نحوها، و صرف أكثر ساعات يومي و ليلتي فيها أجد في فؤادي شعلة متوقدة و عطشا ملتهبا يحفزني إلى الانتهال و الاشتغال بالعلوم الإلهية، و المعارف العليا، و الحكمة المتعالية، فكنت أدرس في عين ذلك الوقت كتب صدر المتألّهين قدس اللّه سره (1) من مختصراته
ص: 32
ص: 33
ص: 34
ص: 35
ص: 36
كالمشاعر و العرشية و شرح الهداية، و مطولاته كالأسفار و شرح أصول الكافي، ثمّ ألحّ بي العطش و الظماء إلى التماس جرعة من كتب العرفاء الشامخين كالفصوص و النصوص و الفكوك و كثير من مثنويات ملّا جلال الدين الرومي و الجامي و شمس التبريزي و الشبستري و غيرهم ممن نهج على منهاجهم و عرج في معراجهم، فكنت لا أجد راحة و روحا لروحي من عناء الحياة و متاعب الكفاح إلّا بمزاولة الأدب العربي و التلذذ بمطالعة كتب القوم و الأنس بأشعارهم و معارفهم حتى بلغت من ذلك على مثل ما قيل، كنت أشرب و لا أرتوي فصرت أرتوي و لا أشرب.
و على كل فلا أريد بكلمتي هذه أن أترجم لنفسي شئون حياتي، و كيف انقضت ساعات أيامي و ليلاتي، فإن هذا يحتاج إلى مؤلف ضخم كله عجائب و غرائب و دروس و حوادث و كوارث و عبر، و لعل التاريخ يحتفظ بشي ء منه إن كان لا يستطيع الاحتفاظ بكله.
نعم، جل القصد من هذه الومضة إنارة زاوية واحدة من هذا العمر الحافل بالزوايا و المزايا، و هي ناحية الشغف و الولع بالتأليف و نشر العلوم و الثقافة بشتى
ص: 37
أنواعها، فكان أول تأليف لنا «العبقات» كما أسلفنا، و هو أدب و تأريخ و تراجم، و أول تأليف في الفقه شرح العروى الوثقى، كنا نكتب الشرح ليلا و نلقيه نهارا على حوزة الدرس المؤلفة من أعلام الأفاضل المتجاوز عددهم المائة في مسجد الهندي تارة و في غيره أخرى.
و بعد وفاة أستاذنا الطباطبائي أعلى اللّه مقامه بسنة واحدة رجع إلينا جماعة من المؤمنين من أهالي بغداد و طلبوا منا تعليقا على التبصرة ليكون عملهم عليها، فعلقنا عليها حواشي، و طبعت في هامش الكتاب مع حاشية الأستاذ قدّس سرّه سنة (1338) ه، و في خلال هذا ترجمنا عدة كتب من الفارسية إلى العربية ك «فارسي هيئت» و «حجة السعادة» و «رحلة ناصر خسرو».
و أول تأليف لنا في الحكمة و العقائد «الدين و الإسلام»، و كنا وسمناه «الدعوة الإسلامية إلى مذهب الإمامية»، و شرعنا بطبعه بمطبعة دار السلام في بغداد، و بينا كانت المطبعة تشتغل بطبع الجزء الثاني سنة 1329 هجرية، و كانت بعض نسخ من الجزء الأول الذي نجز طبعه قد انتشر و تداولته الأيدي و إذا بالسلطة تهاجم المطبعة بغتة و تصادر الكتاب بجزئيه و تحمله إلى حيث لا ندري إلى الآن، و كان ذلك بأمر الوالي الشهير في عهد دولة «عبد الحميد و رشاد ناظم باشا»، و بإيعاز المفتي «شيخ سعيد الزهاوي»، فكبدونا بهذه الحركة الجائرة خسائر باهظة مادية و معنوية بعثت فينا روح النشاط و الحماس إلى السعي بطبعه خارج العراق، فصممنا العزيمة على الحج إلى بيت اللّه الحرام من الكاظمية إلى الشام على البغال شهرا كاملا، و منها إلى المدينة المنورة بالقطار، و منها إلى مكة على الجمال، و كتبنا بهذا السفر رحلة بديعة أسميناها «نزهة السمر و نهزة السفر» لا تزال بخطنا، ثمّ أقفلنا بعد الفراغ من أداء المناسك إلى
ص: 38
الشام أيضا، و منها إلى بيروت فصيدا فأنجزنا طبع الجزءين منه، و لطفنا من أسلوبه الثقيل في الطبعة الأولى حتى ساغ مشربه للجميع، ثمّ طبعنا الجزءين من «المراجعات الريحانية» و الجزءين من «التوضيح في الإنجيل و المسيح»، و في خلال هذا واصلنا السعي لنشر عدة كتب مهمة، و أشرفنا على تصحيحها ك «الوساطة» للقاضي الجرجاني، و «معالم الاصابة» في الكاتب و الكتابة، و ديوان السيد الحبوبي و «سحر بابل» و غيرها.
ثمّ عدنا إلى النجف الأشرف سنة 1332 ه أوائل الحرب العامة الأولى، و ألجئونا إلى الإرشاد و الدعوة، و سافرنا للجهاد عدة مرات حتى إذا وضعت الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا و انتقل أستاذنا السيد الإمام الكاظم إلى جوار ربه و تحملنا أعباء وصيته مع الأخ المرحوم أعلى اللّه مقامه الذي اجتهدنا معه في تنقيح تأليف «العروة الوثقى» و طبعها مرتين في حياته، و كانت مرجعية الإمامية في عموم الأقطار قد انتهت إليه رضوان اللّه عليه، و علينا كان يعول في جميع مهماته و لا يضع ثقته عند غيرنا، و إلينا يرجع كل مرافعة تنشر عنده فيحكم بحكمنا و يقضي بقضائنا، و لا تزال وصاياه بخطه عندنا.
و مذ اتسعت دائرة المرجعية إلينا بعد وفاته اضطرّتنا الظروف إلى نشر الرسائل العملية المتنوعة، فأصدرنا عدة رسائل كالوجيزتين الصغرى و الكبرى، فارسية و عربية، و قد طبعت عدة طبعات، و كالسؤال و الجواب العربي الذي طبع تكرارا، و كزاد المقلدين الفارسي الذي تكرر أيضا طبعه في النجف الأشرف و في خراسان، و كحاشية التبصرة و حاشية العروة و فيه أنفس التحقيقات في المدارك الفقهية، و كذلك التعليقات على سفينة النجاة أربع مجلدات، و الأصل مجلدان للأخ المرحوم طبع و نفد في حياته فعلقنا عليه حتى بلغ أربعة أجزاء
ص: 39
و طبعناه ثانيا، و ألّفنا الآيات البينات أربع رسائل مهمة في رد الأموية و البهائية و الوهابية و الطبيعية.
و قبل الحرب العامة الثانية ألّفنا «تحرير المجلة» في خمسة أجزاء، و يعرف قدر هذا الكتاب و عظيم وقعه و علو مقامه من يطالعه إن كان من أهل ذلك.
و أعظم من كل هذا أثرا و أعظم نفعا و أصدق خبرا و خبرا كتاب «أصل الشيعة» الذي ترجم إلى عدة لغات، و طبع اثني عشر مرة، و يتلوه «الأرض و التربة الحسينية» ترجم إلى الفارسية و طبع فارسيا و عربيا، و المترجم لهما هو العالم المتبحر البر التقي الشاهزاده خسرواني أطال اللّه عمره و أجزل أجره، و كان البريد و غيره يوصل إلى مكتبتي- سحابة عمري- كتبا من الأقطار البعيدة و القريبة من العراق و خارجه، تشتمل على أسئلة في مسائل عويصة و مشاكل غامضة في أصول الدين و فروعه، و أسرار التشريع، و الحكمة في الأحكام، مضافا إلى الاستفتاء في الفروع الفقهية و القضايا العملية، فكان الجواب عنها يذهب مع السؤال و لم نحتفظ إلّا بالنزر اليسير مما ذهب، و قد جمعنا من هذا اليسير مجلدا كبيرا وسمناه ب «دائرة المعارف العليا»، يصح أن يعدّ ثروة علمية من أنفس الذخائر، و قد بقي من هذا النوع أوراق مبعثرة في حقايبنا و مجاميعنا فيها الكثير من الخطب و الكلمات و المقالات التي تتعلق بأهل البيت سلام اللّه عليهم، باختلاف المناسبات من أيام شهادتهم و وفياتهم و مواليدهم و أسرار شهادتهم و ما إلى ذلك مما يناط بهم و يعود إليهم، مما نشر بعضه في بعض الصحف و المجلات و ما لم ينشر، و كنت طالما أحدّث نفسي بجمع تلك المتفرقات في كتاب عسى أن يكون كعقد ثمين ينتظم في سلك تلك العقود من
ص: 40
المؤلفات التي وفقنا اللّه جل شأنه لنشرها و لخدمة العلم و الفضيلة و نفع الإنسانية و هداية البشر بها التي تجاوزت الثمانين، و الكثير أو الأكثر منها لم يطبع.
ثمّ رأيت أن أفرد المسائل العلمية و المباحث النظرية في كتاب، و ما يتعلق بالنبي و أهل بيته الطاهرين عليهم السّلام في كتاب آخر ينتفع به أهل المنابر و الخطباء مستقلا على الأكثر، و إن كان هذا المنهل العذب للجميع شرعا سواء، و أجعل هذين المؤلفين أو الثلاثة مسك الختام أو ختامه مسك لحياتي التي أو شكت على الزوال و هي في آخر مراحلها و قد ذرفت على السبعين، و أخذت بعنقي أو أخذت بعنق الثمانين:
قالوا أنينك طول الليل يزعجنا فما الذي تشتكي قلت (الثمانينا)
ثمّ هذه السبعون أو الثمانون مع تفاقم العلل و الأسقام و ضعف الحال و تراكم الأشغال و توالي الإحن و المحن و سوء الزمن و أهل الزمن، هو الذي كان يحول بيني و بين إنجاز تلك الرغبة و جعلها في حيز العمل.
و كنت مدة سنتين أو أكثر على هذا الحال من التسويف و المطال حتى كانت إحدى الليالي الشريفة من شهر رجب العام الغابر و بعد الفراغ سحرا من وظائفه و أنا جالس في مصلاي أنتظر الفجر أخذتني سنة، نقلتني إلى غير العالم الذي أنا فيه، و تمثل لي ملاك بصورة إنسان أو إنسان بهيئة ملك يقول لي: لما ذا و إلى كم تتساهل عن «الفردوس»؟ قلت: سيدي، و ما الفردوس؟ قال: الكتاب الذي عزمت على تأليفه، أما إنه الفردوس لك و لشيعتنا، فأخذتني هزّة أدهشتني، و رجعت بها إلى هذا العالم المحسوس أو المنحوس، و صممت العزيمة من
ص: 41
ساعتي على الشروع في هذا المشروع على أن يكون اسم المجلد الأول «الفردوس العليا أو الأعلى»، و اسم المجلد الثاني الخاص بأهل البيت عليهم السّلام «جنة المأوى»، و مواد هذا الجزء كلها جاهزة، و إن فسح اللّه تعالى في الأجل و وفقنا لأن نعزّزهما بثالث نجعله «شجرة طوبى و سدرة المنتهى»، فتلك زيادة فضل منه تعالى الذي عوّدنا على ألطافه منذ أوجدنا و أسعد جدّنا.
و كان من الألطاف الإلهية و العنايات الغيبية نشر هذا الكتاب الذي وضعناه بين يديك أيها الناظر فيه.
نعم، من أقوى أسباب ظهوره و سطوع نوره تصدي العلامة الشريف، الجامع بين شرفي الحسب و النسب، و طرفي فضيلتي العلم و التقى حجة الإسلام «السيد محمد علي القاضي» التبريزي دامت بركات وجوده، و كانت عرى الولاء بيننا وثيقة، و أمراس التعارف معه بالمراسلات المتوالية متينة، أيام توقفه في بلدة «قم» للتحصيل، ثمّ هاجر هذه البرهة إلى «النجف الأشرف» للتكميل، فتفضل علينا بل على العلم و الفضيلة و تصدى للإشراف على طبع الكتاب و تصحيحه و علق عليه تعاليق نفيسة لامعة لا تقصر فائدتها عن الأصل إن لم تزد عليه، مع أنّ وقته العزيز مستغرق في الدرس و البحث، و لكن من أخلص للّه تعالى في عمله بارك اللّه في وقته و عمره و أمله.
و إذا أراد اللّه شيئا هيّأ أسبابه، و من الأسباب التي هيّأها جل و علا إقدام شاب نجيب لا يزال يدأب في نشر الكتب النافعة على نفقته و في مطبعته، زاد اللّه في توفيقه و كثّر أمثاله.
ص: 42
بقلم: القاضي الطباطبائي
بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه مستحق الحمد، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا محمد و آله الطاهرين، و لا سيما ابن عمه أمير المؤمنين.
و بعد: فهذه المسائل الثمان هي المسائل «القندهارية» التي سألها بعض أهل بلدة قندهار من سماحة شيخنا الإمام العلامة المجتهد الأكبر آية اللّه الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء- متّعنا اللّه بوجوده و نفعنا بعلومه- و كانت تلك الأسئلة مع أجوبتها باللغة الفارسية، و برزت إلى عالم المطبوعات سنة 1339 ه في النجف الأشرف، و كانت الاستضاءة بأنوارها و الاهتداء بشعاع لمعانها مختصة بالأمة الفارسية، و كنا على عادتنا المستمرة نتشرف بالحضور مع جمع من أفاضل أصدقائنا لدى سماحة الإمام للتزود من علومه الجمة، و الاستفادة من أفكاره العلمية، و الارتشاف من نمير حكمته العالية التي تجري من قلبه على لسانه و رشحات أقلامه، فرأينا أنّ بعض المسلمين من أهل البلاد العربية استدعى من سماحة الإمام كشف الغطاء عن حقيقة تلك المسائل التي كشف سماحته منذ سنين الستار عن وجه حقيقتها و ألبسها الحياة العلمية، و محّص حقائقها و أبان المغزى فيها مع دقة نظرياته البديعة في أجوبتها.
ص: 43
بيد أنه لا مجال لسماحته الآن من جراء كثرة المراجعات و رجوع الناس إليه في القضاء و الفتيا و في حوائجهم و احتياجاتهم مع ضعف في مزاجه الشريف في هذه الآونة الأخيرة عن كتابة الأجوبة المفصّلة خصوصا فيما يحتاج إلى فراغ واسع و صرف شطر وافر من أوقاته الشريفة فيه.
و لا غرو أنّ سماحة الإمام اليوم علم من أعلام الدين الشاهقة، و ركن من أركان الأمة الإسلامية، و هو العماد الأكبر في الجامعة الكبرى للشيعة الإمامية، و ليس له فرصة للتصدي بأجوبة السؤالات العلمية على نحو التفصيل و التوضيح.
و أضف إلى ذلك أنه يسدّ فراغا واسعا لا يستهان به في التأليف و التصنيف و قضاء حوائج المؤمنين، و إنجاح مقاصدهم مع نشر العظات و النصائح العلمية و العملية، و الدعوة الإسلامية بالأدلة و البراهين الحقة، و كل ذلك خدمة للشريعة و نصرة للحق و إذاعة للنصيحة، و تفاديا للدين، فله المنّة الكبرى التي يلزم ذكرها و يجب شكرها على كل مسلم حيّ مثقّف و شيعي متيقظ طامح.
فصار من التوفيقات الربانية لهذا العبد، و من ألطاف سماحة الإمام أن صدر أمره- دام ظله- في هذه الأرض المقدسة «النجف الأشرف» في عامنا هذا 1370 ه بترجمة هذه المسائل و نقلها إلى اللغة العربية- اللغة الدينية الإسلامية- ليعم نفعها للمسلمين عامة، و الشيعة خاصة، فبادرت لذلك امتثالا لأمره، و انقيادا لطاعته، و شاكرا لإرشاده إلى ضالتي المنشودة.
و قد رأيت أن أقدّم و أؤخر في بعض المسائل؛ حرصا على التنسيق مع الاحتفاظ بالأصل الأوّلي، و ما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت و إليه أنيب.
و أنا العبد محمد علي القاضي الطباطبائي
ص: 44
بسمه تعالى
سماحة حجة الإسلام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء دام ظله:
إنّ علماء العامة، بل عموم أهل السنة، ينتقدون الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في قولهم بوجوب غسل مس الميت؛ لأنهم ليسوا بقائلين به، و لا يفعلون هذا الغسل حتى على نحو الاستحباب، و يطالبون الدليل من الإمامية على ذلك، و إن كان العلامة قدّس سرّه (1) قد ذكر دليل المسألة في كتابه تذكرة الفقهاء، فإنا
ص: 45
نستدعي من سماحتكم أن تتفضلوا بدفع ما أوردوه كما هو حقه بقلمكم المبارك، مشفوعا بذكر الدليل من كتبكم إن كان موجودا فيها، فإن تفضلتم بإجابة ملتمسنا يعدّ ذلك من جزيل ألطافكم علينا.
ليس لمسألة غسل مس الأموات في الكتب الفقهية لأهل السنة عين و لا أثر على ما وصل بأيدينا من كتبهم و مصنفاتهم من متونها و مطولاتها و مختصراتها، لا نفيا و لا إثباتا.
و الظاهر أنّ في النجف الأشرف بل في أغلب أنحاء بلاد العراق ليست مكتبة حافلة بالكتب و مصنفات الفريقين من مخطوطها و مطبوعها كجامعة مكتبتنا و اشتمالها على كتب الفقه و الحديث لأهل السنة، و فيها عدة من نفائس
ص: 46
المؤلفات من المهمات و المطولات، و تشتمل على التصانيف القديمة و الحديثة، و فيها الصحاح الستة و شروحها، و الكتب الفقهية من جميع كتب المذاهب الأربعة المعروفة و غيرها، و إني بعد ما ورد عليّ هذا السؤال راجعت كتبهم و تتبعت ما قالوا في مؤلفاتهم في هذا الموضوع، و ليس لي الآن فرصة الاستيعاب و الاستقراء التام في مصنفاتهم، و مع ذلك بذلت الوسع في التتبع في الجملة بحيث يمكن أن يحصل الاطمئنان بما في باقي كتبهم مما لم أرجع إليها، و ما رأيت في كتبهم الفقهية من المتون و الشروح و المختصرات و المطولات لهذه المسألة ذكرا و أثرا أصلا.
و أما كتبهم و جوامعهم الحديثية من الصحاح الستة و غيرها كصحيح البخاري و صحيح مسلم و النسائي و سنن أبي داود السجستاني بعد أن أتعبت النفس في التتبع فيها فما وجدت أيضا أثرا و ذكرا لهذه المسألة فيها، و إني و إن لم ألاحظ صفحاتها صفحة بعد صفحة، و ما فتشتها سطرا بعد سطر، و لكني نظرت بالدقة إلى الأبواب و المظانّ لتلك المسألة فما وجدت شيئا منها في المحل المناسب لها.
نعم، في صحيح الترمذي، و هو من صحاحهم الستة، وجدت ما يناسب هذه المسألة، بل يمكن أن يكون ذلك دليلا لمسألتنا أو رافعا للاستبعاد على الأقل؛ لأنه إما نفس هذه المسألة أو نظير لها، ففي صحيح الترمذي صفحة 185 ج 1 من طبع مصر سنة 1292 ما هذه عبارته:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: من غسله الغسل و من حمله الوضوء يعني الميت، قال: و في الباب عن علي عليه السّلام و عائشة
ص: 47
قال أبو عيسى- يعني الترمذي نفسه- حديث أبي هريرة حديث حسن، و قد روي عن أبي هريرة موقوفا، و قد اختلف أهل العلم في الذي يغسل الميت فقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و غيرهم: إذا غسل ميتا فعليه الغسل، و قال بعضهم: عليه الوضوء، و قال مالك بن أنس: استحب الغسل من غسل الميت، و لا أرى ذلك واجبا، و هكذا قال الشافعي، و قال أحمد: من غسل ميتا أرجو أن لا يجب عليه الغسل، و أما الوضوء فأقل ما قيل فيه، و قال إسحاق: لا بد من الوضوء، قال: و قد روي عن عبد اللّه بن المبارك أنه قال: لا يغتسل و لا يتوضأ من غسّل الميت. انتهى.
و من المعلوم أنّ ظاهر هذه الرواية وجوب الغسل على من غسل ميتا، و جمع من صحابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و من التابعين أفتوا بذلك بنقل الترمذي، و لا سبب أوجب الغسل على الغاسل إلّا مباشرته و مماسته للميت، و هذا ليس من القياس الضروري البطلان في مذهب الإمامية، بل ذلك تنقيح للموضوع، فكأنه قال: مباشرة الميت توجب الغسل، و إن سلمنا أنه قياس فلا يضرنا ذلك أيضا بناء على مذهبهم.
و في كتاب الموطأ روى مالك بن أنس- و هو رئيس مذهب المالكية من المذاهب الأربعة المعروفة- ما هذه عبارته:
قال في صفحة 91 ج 1 من طبع مصر سنة 1280: حدثني عن مالك، عن عبد اللّه بن أبي بكر أنّ أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق حين توفي، ثمّ خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: إني صائمة، و إن هذا يوم شديد البرد، فهل عليّ من غسل؟ فقالوا: لا.
و من تأمّل في هذا الحديث علم أنّ وجوب الغسل على غاسل الميت كان
ص: 48
أمرا مفروغا عنه في صدر الإسلام حتى علمته النساء، و كان من المسلمات حتى عند المخدّرات، و أسماء بنت عميس (1) من مشاهير النساء، و من اللاتي لا يشك في أنها من ذوات الدين و المعرفة، و من اللائي التزمن بيت الوحي و النبوة، و هي أم محمد بن أبي بكر، و بعد وفاة أبي بكر تزوجها مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، و نالت الشرافة و الاحترام بهذا الزواج المقدس، فهي بعد ما غسلت أبا بكر- أشكل عليها الأمر- بأنّ الغسل لا ريب أنه واجب، فهل هو واجب على غاسل الميت حتى في حال الضرورة و شدة البرد؟ فحين ذاك قالوا
ص: 49
لها: إنه ساقط في حال الضرورة، و ليس بواجب في تلك الحالة الصعبة.
و قد فسّر الحديث بهذا المعنى الشارح الزرقاني (1)، و هو من كبار علماء أهل السنة في شرحه الكبير على كتاب الموطأ صفحة 5 ج 2، و قال: و المعنى أن الغسل ليس بواجب عليك؛ لأنك معذورة بسبب الصوم و البرد، و بسط القول في اختلاف علماء أهل السنة في هذه المسألة، فنقل عن مالك صاحب المذهب و جمع آخر من علماء الشافعية و غيرهم القول بالوجوب، و دليلهم على ذلك هي رواية أبي هريرة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: من غسل ميتا فليغتسل، و الأمر ظاهر في الوجوب.
و على أي حال، إنّ مسألة وجوب الغسل على الغاسل إما هي نفس مسألة المسّ أو نظيرها، و ذلك كاف لرفع الاستبعاد؛ و لذا ذكر العلامة أعلى اللّه مقامه هذه المسألة- أعني مسألة الغسل على الغاسل- في مسألة الغسل.
ثمّ إنّ في أغلب تلك الكتب التي أوعزنا إليها نقل القول بالاستحباب عن أبي حنيفة و غيره، و نقل القول بالوجوب عن آخرين.
إذا فعليه يمكن أن يقال: إنّ القول بوجوب غسل المس في الجملة فضلا عن القول بالاستحباب موجود عندهم، و الأحاديث الدالة على الوجوب موجودة في الكتب المعتبرة لديهم، و وردت أحاديث في ذلك من طرقهم، و ليس فرق كبير بين تغسيل الميت و بين مسّه.
و قد اتّفق لي نظير هذا السؤال من بعض المعاصرين من علماء أهل السنة
ص: 50
في بلاد الشام، و ذلك في السنة التي عزمنا فيها على سفر الحج و التشرّف لزيارة بيت اللّه الحرام زاده اللّه تعالى شرفا، سنة 1330 ه، أي قبل أربعين سنة، و اتفق ملاقاتي فيها مع جمع من علماء أهل السنة، فجرى الكلام بيننا و بينهم و انجرّ الحديث- و الحديث ذو شجون- إلى المذاكرة في مسائل متفرقة.
و منها أنهم قالوا: إنّ للإمامية فتاوى عجيبة في الأحكام الشرعية، بحيث تنافي ضرورة العقل، مثل أنهم يرون وجوب الغسل على من مسّ ميتا آدميا، مع أنّ النوع الإنساني، و على الأخص المسلمين منهم، من أطهر الحيوانات و أشرف الموجودات، فكيف يوجب مس بدنه بعد الموت الغسل، مع أنهم يكتفون في مس ميتة الكلب و هو أنجس الحيوانات و أخس جميع الموجودات بغسل اليد فقط؟ و هذا الأمر من الفساد بحيث لا يحتاج إلى بيان حتى صار سببا لطعن اليهود و النصارى في دين الإسلام.
و لم أكن قبل ذلك مسبوقا بهذا السؤال و الاعتراض حتى أكون مستحضرا للجواب، غير أنّ روحانية الشرع المقدس، و كون الحق يعلو و لا يعلى عليه، ألهماني بعد دقيقة من التأمّل أن قلت: إنّ ضرورة العقل تقضي بما قالته الإمامية في هذه المسألة، فتعجبوا من كلامي و استغربوا مقالي.
فقلت لهم: استمعوا حتى أكشف لكم الحقائق الراهنة ليتبين لكم اللبّ و المغزى في هذه المسألة، فقد اعترفتم أنّ النوع الإنساني إنما هو أشرف الموجودات و أكمل المخلوقات كما هو من الضروريات و البديهيات.
و سرّ ذلك على الإجمال هو أنّ الإنسان إنما هو في آخر قوس النزول و مبدأ قوس الصعود، بمعنى أن وجوده المفاض تنزل من المراتب الشامخة و العقول و النفوس الكاملة و الأملاك و الأفلاك العالية حتى ورد إلى مرتبة
ص: 51
الأجسام العنصرية، و وصل نهايتها و هي مرتبة الهيولى الأولى (1) التي تلازم
ص: 52
ص: 53
الصورة، ثمّ إلى مرتبة النطفة، و لكنه في هذه الحال حامل لجميع تلك الصفات الكمالية التي مرّ بها في سيره و حركته في تلك المراتب على نحو الاستعداد، و هذا آخر قوس النزول، و من هذه المرتبة ينهض للترقي و الصعود، فيترقّى من مرتبة الجسم المعدني إلى الجسم النامي النباتي، ثمّ إلى مرتبة الجسم الحيواني، ثمّ الإنساني، و هكذا إلى أن يصل إلى مرتبة العقول «القادسة» و الأنوار
ص: 54
الشامخة، منه المبدأ و إليه المنتهى كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ.
و إلى هذا المعنى أشار سيد الموحدين و غاية العارفين بقوله: «و فيك انطوى العالم الأكبر».
فإذا من هنا يعلم أنّ الإنسان خلاصة الكائنات و زبدة الممكنات، و نتيجة العوالم، و لا بدّ أن تكون روحه من ألطف الأرواح، و جسمه من ألطف جميع الأجسام، و حين انفصال هذه الروح من بدنه و قطعها علائقها من جسمه التي بها حياة البدن، و صحته قائمة بها يفسد البدن و الدم لا محالة، و بفسادهما تفسد البخارات السارية و الدسوم المنتشرة في البدن لانفصال تلك الروح المحافظة لجميع شئون البدن و مواده.
و من الممكن أن يقال حينئذ: إنّ في تلك الأبخرة و الدسوم جواهر في غاية الدقة و اللطافة، و جراثيم في نهاية الدقة و النفوذ التي يعبّر عنها في لسان الفلسفة الطبيعية الجديدة «ميكروبات»، و هذه الجواهر اللطيفة الفاسدة هي في الحقيقة جواهر الموت، بناء على ما هو التحقيق من أنّ الموت و الحياة أمران وجوديان لا أنهما وجود و عدم، كما يدل على ذلك قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (1).
و هذه الجواهر الشفافة من غاية لطافتها و النفوذ الموجود فيها إذا مسّها بعض أعضاء الإنسان الحيّ نفذت حالا في جميع مسامات بدنه من دون أدنى تأخير في البين، و تسري إلى دمه، و يصير هذا سببا لابتلائه بأنواع الأمراض الجسمانية أو النفسانية من الأخلاق الرذيلة و الملكات القبيحة و الصفات
ص: 55
الخبيثة، و الحق سبحانه و تعالى بمقتضى رأفته و رحمته على عباده و حسب حكمته البالغة و عطوفته الشاملة في حق عبيده شرّع جميع التكاليف في حقهم لجهة من المصالح الموجودة فيها، و الحكم الدنيوية و الأخروية الكامنة فيها، و هو جلّ شأنه يعلم بعلمه الأزلي أنّ القالع لتلك الجواهر الخبيثة و المواد الفاسدة، و القامع لها من أساسها، سواء من بدن الميت أو الإنسان الحي المباشر لبدن الميت، و اللامس له، ليس إلّا الماء؛ و لذا ورد في بعض الأخبار بهذا المضمون:
«ما خلق اللّه لعباده نعمة أعظم من الماء».
و نقل أنّ الأطباء استكشفوا في الطب الجديد أنّ في باطن دماغ الإنسان و سطح أسنانه جراثيم «ميكروبات» أصغر من الذر لاصقة بها، و لا يقلعها إلّا الماء، و من هنا يعلم الحكمة في أمر الشارع المقدس باستحباب المضمضة و الاستنشاق عند كل غسل و وضوء.
فقال لي أحد الحاضرين في أثناء هذه المحاورة و المحادثة: إنا نرى بالعيان و نشاهد بالوجدان أن أناسا يباشرون الموتى و لا يغتسلون و لا يبالون بذلك أصلا.
فقلت: له: إنّ من سبر و استقرأ الحكم و المصالح الشرعية يعلم أنّ ملاحظة شئون صحة النفس و حفظها من الأخلاق الرذيلة، و صونها من الصفات الخبيثة، و تخليتها من تلك الصفات، و تحليتها بالأخلاق الروحانية و الأوصاف الإنسانية عند الشارع المقدس أهم و أعظم بمراتب من ملاحظة الصحة الجسمانية، و رعاية صلاح البدن، و استقامة المزاج، و لعل مصالح أغلب المحرمات و الواجبات و سائر الأحكام و الآداب و السنن التي أتانا بها الدين الإسلامي، و أرشدنا إليها الشرع المحمدي صلّى اللّه عليه و آله، إنما هي من هذا القبيل، و لعل الأشخاص
ص: 56
الذين يشربون الخمر، و يأكلون لحم الخنزير، و يرتكبون المعاصي، و يتوغلون في الملاهي يصير بدنهم قويا سمينا، و لكنّ الأمراض الأخلاقية النفسانية كقساوة القلب و مسلوبية الغيرة و زوال الحمية و أمثالها تعرض لنفوسهم، بحيث تحطهم من المرتبة الإنسانية إلى أخسّ مراتب الحيوانات، فتظهر منهم أفعال السباع، و أوصاف البهائم أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلّٰا كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (1)، و قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجٰارَةِ.
و خلاصة المقال أنّ الإنسان بحسب تلك المراتب من اللطافة و الصفاء، و في أي مرتبة كان من المراتب و المقامات يحصل بموته أثر في جسمه بحيث ينتقل و يسري ذلك الأثر إلى الجسم الآخر المباشر له و المماس ببدنه، و يوجب المضرّة العظيمة و المفسدة المهمة، إما المضرّة الجسمية أو الروحية النفسية، أو كليهما، و اللازم في نظر الشارع دفعها و يجب رفعها، و لا يمكن ذلك في نظره أيضا إلّا بغسل جميع البدن لعلة سراية ذلك الأثر لمعظم البدن، بخلاف ميتة الكلب و أمثاله، فإنّ الكثافات التي في روحه و بدنه ليست بمرتبة تسري و تنفذ في مسامات بدن الإنسان بمجرد مماسته لميتته، و لا يتجاوز من سطح ظاهر بدن المباشر إلى باطنه، و لذلك يجب غسل الموضع الملاقي فقط.
و يؤيد هذا الاعتبار، و يقرّب هذا البيان و التقرير، الخصوصيات و القيود التي اعتبرها الشارع في هذا الحكم، أعني وجوب غسل المس، فإنه أوجب ذلك بعد البرد و قبل التغسيل؛ لأنّ قبل برودة البدن لا يصل الفساد المترتب على المس إلى تلك المرتبة الموجبة لغسل البدن بأجمعه بواسطة بقاء أشعة الحياة في البدن، و عدم زوالها بتمامها، و أما بعد التغسيل فمن جهة أنّ الجواهر أو الأبخرة
ص: 57
أو ميكروبات- بأي لسان شئت فعبّر- تصير بتغسيل الميت الذي بالغ الشارع فيه و حرّض الناس عليه، و أوجبه بمزج السدر و الكافور مع الماء ثلاث دفعات، و في أحاديث أهل السنة اعتبار خمس دفعات، مضمحلة و متلاشية و تزول تلك المواد و جراثيم الفساد، و عند ذلك فلا مضرة في المس أصلا.
و ليعلم أنا بهذه الاعتبارات و المناسبات لا نقدر على جعل حكم أو إنشاء أحكام واقعية، و لكن بعد أن جاء الحكم من قبل الشارع بدليل معتبر يكون واجب الاتباع، و حينئذ يمكن التعليل و بيان الحكم و المصالح و لو احتمالا بهذه الاعتبارات و لو لرفع الاستبعاد و كسر سورة الأشخاص المدعين بأنّ هذا حكم مخالف لضرورة العقل، مع أن بعد بيان تلك الشواهد و التقريبات يمكن للإنسان الجزم بحكمة هذا الحكم، و أنها عبارة عن هذه الاعتبارات و الجهات التي ذكرنا، أو ما يقرب منها.
و حقا أقول: إنّه كلما ازداد الإنسان رقيا في عقله، و تقدما في معرفته، و كان عميق الفكر، و حاد النظر، رأى دلائل باهرة، و شاهد معاجز واضحة للعترة الطاهرة عليهم السّلام، و لمذهب الإمامية ما يعبر عنه بمعجزات العلم، و هذه المعجزة من أسمى مراتب المعاجز و أوضحها و أعلاها، بل أجلى ألف مرة من معجزة شقّ القمر، و تسبيح الحصى و حنين الجذع، و ما نحن فيه من جملة تلك المعجزات العلمية.
و إنا و إن أسهبنا في الجواب و لكن المقام كان يقتضي ذلك، بل أزيد من هذا، و اختصرنا المقال بالنسبة إلى المقام، فصلوات اللّه و سلامه عليهم، و له الحمد و المنّة على ما منّ به علينا من معرفتهم و التمسك بولايتهم و الاقتباس من أنوارهم، و السلام على كافة إخواننا المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته.
في: 9- ج 2- 1339 ه
ص: 58
إلى سماحة الإمام حجة الإسلام أدام اللّه ظلكم العالي:
هل يوجد دليل على استحباب أو جواز لطم الصدور في عزاء أبي عبد اللّه الحسين أرواحنا فداه، أو لا؟ فإنّ بعض من ليسوا من أهل نحلتنا ينكرون الجواز، و بعض آخر يقولون إنا نستكشف الجواز من لطم الفاطميات. فتفضلوا ببيان الجواب و لو على نحو الإجمال.
مسألة لطم الصدور و نحو ذلك من الكيفيات المتداولة في هذه الأزمنة، كالضرب بالسلاسل و السيوف و أمثال ذلك، إن أردنا أن نتكلم فيها على حسب ما تقتضيه القواعد الفقهية و الصناعة المقررة لاستنباط الأحكام الشرعية فلا تساعدنا إلّا على الحرمة، و لا يمكننا إلّا الفتوى بالمنع و التحريم؛ فإنه لا مخصص للعمومات الأولية و القواعد الكلية من حرمة الإضرار و إيذاء النفس و إلقائها في التهلكة، و لا دليل لنا يخرجها عنها في المقام، و لكن الذي ينبغي أن يقال بالقول الصريح: إنّ من قطعيات المذهب الإمامي، و من مسلّمات هذه الفرقة الحقة الاثنا عشرية، أنّ فاجعة الطف و الواقعة الحسينية الكبرى واقعة عظيمة، و نهضة دينية عجيبة، و الحسين عليه السّلام رحمة اللّه الواسعة، و باب نجاة الأمة، و وسيلة الوسائل، و الشفيع الذي لا يرد، و باب الرحمة الذي لا يسد (1)
ص: 59
و إني أقول: إنّ حق الأمر و حقيقة هذه المسألة إنما هو عند اللّه جل و علا، و لكن هذه الأعمال و الأفعال إن صدرت من المكلف بطريق العشق الحسيني و المحبة و الوله لأبي عبد اللّه على نحو الحقيقة و الطريقة المستقيمة، و انبعثت من احتراق الفؤاد و اشتعال النيران، نيران الأحزان في الأكباد بمصاب هذا المظلوم ريحانة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، المصاب بتلك الرزية، بحيث تكون خالية و مبرأة من جميع الشوائب و التظاهرات و الأغراض النفسانية، فلا يبعد أن يكون جائزا، بل يكون حينئذ من القربات و أجلّ العبادات.
و على هذا يحمل ما صدر من الأعمال و نظائر هذه الأفعال من أهل بيت العصمة و الطهارة عليهم السّلام، مثل ما نقل عن العقيلة الكبرى، و الصديقة الصغرى
ص: 60
زينب سلام اللّه عليها من «أنها نطحت جبينها بمقدّم المحمل حتى سال الدم من تحت قناعها» (1). و مثل ما ورد في زيارة الناحية المقدسة في وصف مخدّرات
ص: 61
أهل البيت سلام اللّه عليهم «للشعور ناشرات و للخدود لاطمات»، و لكن هذا المعنى الذي أشرنا إليه لا يتيسّر لكل أحد، و ليس شرعة لكل وارد، و لا مطمع لكل طامع، و لا يحصل بمحض الادعاء و التخيل؛ فإنّه مرتبة عالية و محل رفيع و مقام شامخ منيع، و أغلب الأشخاص الذين يرتكبون هذه الأمور و الكيفيات لا يأتون بها إلّا من باب التظاهر و المراءات و التحامل و المداجاة.
مع أنّ هذا المعنى بغير القصد الصحيح و النية الصادقة لا يخلو من إشكال، بل حرام، و حرمته تتضاعف لبعض الجهات و العوارض الحالية و الطواري
ص: 62
المقامية، و أحسن الأعمال و أنزهها في ذكرى الحسين السبط صلوات اللّه عليه هو النياحة و الندبة و البكاء لريحانة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و المظلوم الموتور، و السلام عليه و الزيارة له، و اللعن على أعدائه، و التبرّي من ظالميه و المشاركين في دمه و قاتليه، و الراضين بقتله، صلوات اللّه عليه و على آبائه الطاهرين، و أولاده الميامين المنتجبين.
حضرة المجتهد الأكبر متّعنا اللّه و المؤمنين بطول بقائكم:
هل يكفي في زيارة عاشوراء قراءة كل من السلام و اللعن مرة واحدة بدلا عن مائة مرة، كما يرى ذلك العلامة الميرزا حسين النوري قدّس سرّه (1)، أم لا؟
فالمرجو من سماحتكم أن تتفضلوا ببيان الجواب مشفوعا بالدليل.
لا بدّ و أن يعلم أنّ أكثر المستحبات المركبة غير ارتباطية، بمعنى أنّ ثواب بعض أجزائها و صحّتها غير موقوفة على صحة و ثواب الباقي، بل كثير منها من باب المستحب في المستحب، كما أن القنوت في الصلاة مستحب، و دعاء الفرج أيضا في القنوت مستحب آخر.
فإن قلنا: إنّ زيارة عاشوراء من هذا القبيل، فيمكن الاكتفاء بلعن واحد و سلام واحد، و لكن هذا المعنى من مساق الأدلة و الأخبار بعيد في الغاية، بل
ص: 63
زيارة عاشوراء نظير صلاة جعفر الطيار، و التسبيحات الأربع المعتبرة فيها بعدد ستين و ثلاثمائة تسبيحة على الترتيب المعروف، فإن نقص عدد واحد منها في هذه الصلاة المخصوصة التي لها آثارها الخاصة فكأنه لم يأت المكلف بتلك الصلاة.
و هكذا في زيارة عاشوراء الواردة برواية سيف بن عميرة، و رواية صفوان الجمال، بالكيفيات المعهودة و الآثار المخصوصة، فإن تركت تكبيرة واحدة من تكبيراتها فضلا عن اللعن و السلام كل واحد منهما مائة مرة يكون هذا العمل باطلا، نعم لا يحرم المكلف ثواب مطلق زيارة سيد الشهداء سلام اللّه عليه، بل يحسب من زائريه بلا شك.
و يمكن لنا استفادة مطلب آخر من هذه الأخبار، و هو أنّ الزائر إن كان له شغل أو عذر و لا سيما الشغل الذي هو مستحب مؤكّد عند الشارع المقدس مثل عيادة المؤمن و تشييع جنازته، أو قضاء حوائج إخوانه في الدين و نظائر ذلك فيمكن له أن يكتفي بلعن واحد و سلام واحد، بمعنى أنّ له الشروع باللعن و إتمامه و لو حال المشي في الطريق أو في مجلس آخر؛ فإنّ الأمر إذا دار بين فوات الأجزاء أو الشرائط فمراعاة الإتيان بالأجزاء أولى و أهم.
و الظاهر أنّ شيخ مشايخنا المحقق الأنصاري قدّس سرّه (1) تعرّض لهذا المطلب في فرائده في رسالة أصل البراءة، و يمكن أن نتوسّع في هذا المعنى حتى بالنسبة
ص: 64
إلى الصلوات المستحبة كصلاة جعفر و غيرها، بمعنى أنه إن عرض شغل مهم للمكلف أمكن له أن يصلي تلك الصلاة حيثما أراد أربع ركعات متعارفة بنيّة صلاة جعفر و بقصدها، و بعد إتمامها يسبّح ستّين و ثلاثمائة تسبيحة (1)، فإن لم يتكلم في الأثناء كان أحسن و أولى.
و أما في زيارة عاشوراء فإن اكتفى بلعن واحد و سلام واحد فينبغي إتمام العمل حتى السجدة الأخيرة، و بعد ذلك يتمّ اللعن و السلام مائة مرة إلى آخر العمل، و هذا النحو أيضا أحسن و أولى البتة، و اللّه العالم.
ظاهر الآية الشريفة في القرآن الكريم: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ (2) يدلّ على أنّ الغسل من الأصابع إلى المرافق، فما وجه العكس، أي الغسل من المرافق إلى رءوس الأصابع؟ تفضلوا ببيانه زاد اللّه تعالى في علومكم.
ص: 65
المتحصّل و المستفاد من هذه الآية الشريفة هو أنه لا بدّ من غسل الوجه و الأيدي، و مسح الرأس و الأرجل في الوضوء، و لما كان عند الشارع المقدّس يكفي في خصوص الرأس مسمّى المسح بمقدار من مقدّم الرأس، كما يدل على ذلك دخول باء التبعيض في قوله تعالى: بِرُؤُسِكُمْ ليفيد هذا المعنى، و أما باقي الأعضاء فلما كان غسلها أو مسحها بأجمعها مما لا بد منه فلم يدخل الباء عليها، و لكن لا بد من بيان حدودها:
أما حدود الوجه فهي معلومة، و لا يطلق عند العرف على المعاني المختلفة، فإنّ المعلوم عند عموم الناس أنّ الوجه هو ما يواجه به في مجلس التخاطب، و يشاهد حين التقابل، و حدّه منتهى شعر الرأس من طرف الجبين إلى آخر الذقن.
و أما الأيدي و الأرجل فلما كانت حدودهما مشتبهة و لها إطلاقات كثيرة عند العرف، فتارة يراد من اليد عندهم خصوص الكف التي هي عبارة عن الأصابع إلى الزند، و تارة أخرى تطلق إلى المرفق، و ثالثة إلى الكتف، كان من اللازم تعيين المراد من اليد، و أنه أي معنى أراد سبحانه من هذه المعاني، فقال تبارك و تعالى: إِلَى الْمَرٰافِقِ، و هكذا الحال في الأرجل حيث كان لها إطلاقات كثيرة، فقال تعالى: إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فيعلم من ذلك أنّ هاتين الكلمتين في الآية الشريفة إنما هما لبيان غاية المغسول و الممسوح، و بيان حدودهما لا لبيان غاية الغسل و المسح.
و الحق أنّ الغسل و المسح في الآية الشريفة مطلقان من حيث النكس
ص: 66
و غير النكس، أما بطلان الوضوء بالنكس فهو مستفاد من الأخبار لا من الآية.
و ما ذكرناه في المقام هو تحقيق أنيق في فهم المراد من الآية الشريفة، و اللّه الموفق، و به المستعان.
إلى سماحة حجة الإسلام- أدام اللّه بركاته-:
هل يلزمنا اجتناب أهل السنة و الجماعة، مع العلم بأنهم يباشرون أهل الكتاب و المشركين بالرطوبة حتى في الأكل و الشرب، و أنهم قائلون بطهارة الدم و المني، أو لا يلزم ذلك؟ و هل يجوز أكل الدم المتخلف في رقبة الحيوان إذا طبخ، أو لا، من جهة استصحاب النجاسة؟ تفضلوا ببيان الدليل في المسألة، لا زلتم مرجعا للعلم و الدين.
اعلم أنّ كل من يشهد الشهادتين يحكم عليه شرعا بالطهارة، غير الغلاة و النواصب و الخوارج، فأهل السنة من حيث الذات في أنفسهم طاهرون ببركة الشهادتين، و أما من حيث نجاستهم العرضية بسبب ملاقاة إحدى النجاسات فلا بد من اعتبارهم متنجسين، و لا فرق في هذه الجهة بين الخاصة و العامة، و عموم المسلمين الذين هم محكومون بالطهارة، بل و جميع الأشياء التي يحكم بكونها طاهرة بالذات لا يحكم بنجاستها باحتمال التنجس، و قاعدة الطهارة حاكمة، و ليس لنا أن نخرج من هذا الأصل إلّا بالعلم اليقيني الوجداني، أو ما يقوم مقام العلم شرعا كالبيّنة أو خبر العدل الواحد على القول به في
ص: 67
الموضوعات، و أما الاعتماد على العلم العادي في هذه الموارد فمشكل.
و بناء على هذا ففي كل مقام و مورد جاء احتمال الطهارة و لو كان في غاية الضعف فلا بد من البناء على الطهارة، و هذه القاعدة المباركة حاكمة، و من المعلوم أنّ الطهارة في نظر الشارع المقدس مبنيّة على التوسعة، و أما أمر النجاسة و التنجس فهو مبني على الضيق و عدم التوسّع يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (1)، بل الغالب أنّ هذه الخيالات و التوهمات تنجرّ إلى الوساوس و المخاطر و هي الطامّة الكبرى المفسدة للدين و الدنيا.
فعلى هذا فإن رأيت بعينك أنّ العامي باشر الدم أو المني و لم يجتنب منهما، أو أنه باشر الكافر و لم يتباعد عنه ففي ذاك المجلس اجتنب عنه، و كذا إن علمت أنه في الأمس أو في مجلس قبل هذا المجلس باشر الكافر لزم الاجتناب أيضا، و ليست الغيبة في هذا المقام مطهرة؛ فإنّه يشترط فيها العلم بالنجاسة و هو ليس بقائل بنجاسة هذه الأمور المذكورة، ففي هذا الفرض يجري استصحاب النجاسة، و أما إذا علمت أنّ المباشرة إنما وقعت في وقت من الأوقات و لكن لم يعلم أنّها في أي وقت وقعت بالخصوص، ففي هذه الصورة لا يجري الاستصحاب، بل تجري قاعدة الطهارة.
فصارت النتيجة أن في كل مورد تزاحم احتمال الطهارة مع احتمال النجاسة فاحتمال الطهارة مقدّم عليه عند الشارع المقدس، و لو كان احتمال النجاسة أقوى عند العرف و العادة، أو من قرائن الأحوال، إلّا أن يجري أصل، أو تقوم بيّنة، و مع عدمهما و عدم كون المقام موردا لهما يبنى على الطهارة، و هذا المقام من الموارد التي يحسن الاحتياط فيها، و لكن في غير موارد العسر
ص: 68
و الحرج.
و أما الدم المتخلّف في الرقبة أو في مطلق الذبيحة من الحيوان الطاهر بعد قذف القدر المتعارف منه فهو من الخبائث، و أكله مستقلا حرام و لو كان بعد الطبخ، و أما تبعا للّحم فيجوز أكله؛ فإنه ليس له في نظر العرف وجود مستقل، فلا يكون موردا للاستصحاب، و اللّه العالم.
إلى سماحة حجة الإسلام- متعنا اللّه تعالى بطول بقائه-:
هل يعتبر في سهم الإمام عليه السّلام، و كذا في سائر الحقوق الشرعية إذن مطلق الحاكم الشرعي، أو هو مختص بكون المقلّد مأذونا من مجتهده و مقلّده، كما يعتقد ذلك بعض العوام، و في اعتقادهم أنه ورد في هذا الباب نصّ خاص؟
لا يكفي في ذلك إذن مطلق الحاكم الشرعي الجامع للشرائط، بل لا بدّ من إذن الأعلم، و الإذن المخصوص من مجتهده و مقلّده ليس بلازم، و لم يرد نصّ خاص في هذا الباب، و لكن لما كان خصوص سهم الإمام- أرواحنا فداه- من بين سائر الحقوق مبنيا على الاحتياط التام و الشديد فالأحوط على نحو التأكيد، بل لا ينبغي تركه، هو الرجوع إلى المجتهد الذي قلّده في الأحكام الشرعية إن كان أعلم، و إلّا فعلى القول بجواز الرجوع إلى غير الأعلم يلزم الرجوع في خصوص أخذ الإذن أو التسليم إلى الأعلم، و الأحوط هو الرجوع إليهما، و إن كان الأقوى كفاية الأعلم.
ص: 69
و الحاصل: أنّ سهم الإمام- صلوات اللّه عليه- عندي أمر مهمّ (1)، و موضوع صعب في الغاية، و صرفه في الموارد التي يحصل للمجتهد القطع برضاء الإمام عليه السّلام فيها مقام متعذّر أو متعسّر، بل ردّه لكل مجتهد أيضا مشكل
ص: 70
غاية الإشكال، بل لا بد من الرجوع إلى الأعلم، و اللّه أعلم.
إلى سماحة شيخنا الحجة- أطال اللّه بقاه-:
ما المراد من العقول العشرة؟ و ما هي تلك العقول؟ نرجو من ألطافكم أن تتفضلوا ببيان الجواب على نحو التصريح و التوضيح.
اعلم أولا أنّ المراد من العقول هي الموجودات المقدسة و الجواهر الخالصة، المنزهة من شوب المادة و المادي و الجسم و الجسماني، و معروف أنّ العقل هو الجوهر المجرد في ذاته و في فعله، و اتفق الحكماء بالأدلة و البراهين المحكمة، كقاعدة إمكان الأشرف و غيرها: أنّ العقول أول الموجودات، و مبدأ الصوادر، و وسائط الفيض.
و ذهب المشّاءون- و هم طائفة من الحكماء و رئيسهم المعلم الأول أرسطو (1)- إلى حصر العقول الكلية في العشرة، و ليس المراد الكلي المفهومي،
ص: 71
بل الكلي الوجودي، و يسمّونه على اصطلاح الحكماء بربّ النوع.
و بيان ذلك إجمالا: هو أنّ بحكم القاعدة المبرهنة في محلها و هي أنّ «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد» لا بد و أن يكون الصادر الأول من الواحد البسيط من جميع الجهات هو الواحد، و لما كان الحق سبحانه واحدا من جميع الجهات، و بسيطا من كل الحيثيات، فلا بد و أن يكون الصادر الأول من ذاته الأحدية العقل الأول، و الأحاديث الشريفة عند الفريقين متواترة، و في كتاب «الكافي» و غيره من الجوامع الحديثية مروية من أنّ أول ما خلق اللّه العقل فقال له: أقبل ... الخ (1).
ص: 72
و هذا العقل الأول عبارة عن مرتبة العقل المحمدي صلّى اللّه عليه و آله، و لهذه الجهة قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أول ما خلق اللّه نوري، فلا تنافي بين هذين الحديثين، و هذا العقل الأول هو الذي يعبّر عنه في لسان الشرع المقدس بالعبارات المختلفة، فهو العقل الأول، و الحقيقة المحمدية، و نور محمد و آله، و رحمته التي وسعت كل شي ء، و أمثال ذلك، و هذا العقل و إن كان واحدا و لم يصدر إلّا عن الواحد لكن لما كان ممكنا و معلولا و حادثا و متعدد الجهات و الحيثيات اعتبر فيه ثلاث جهات:
الأولى: من حيث نسبته إلى علته يعني وجوبه الغيري.
و الثانية: من حيث ذاته و وجوده يعني وجوده الإمكاني.
و الثالثة: من حيث ماهيته و حقيقته يعني ماهيته الإمكانية.
فتحصل فيه ثلاثة معان و جهات: وجوب، و وجود، و ماهية، و بعبارة أخرى: نور، و ظلّ، و ظلمة.
فمن حيث تعقّله أو تعلقه بمبدئه صدر منه العقل الثاني، و نال فيض الوجود، و من حيث تعقّله لوجود ذاته خلق نفس الفلك الأعلى، و من حيث تعقله لماهيته و حدّه و إمكانه- و هذه الثلاثة عبارة عن معنى واحد- خلق جسم الفلك الأعلى.
و هكذا الكلام في العقل الثاني، و تلك الجهات و الحيثيات الثلاثة فيه أيضا موجودة، فمن الجهة الأولى صدر العقل الثالث، و من الثانية خلقت النفس
ص: 73
الفلكية للفلك الثاني، و من الجهة الثالثة خلق جسم الفلك الثاني، و هكذا، فهلم جرا إلى العقل العاشر و هو آخر العقول، و يقال له: العقل الفعال، و هو من جهة بعده عن مبدئه الأصلي و علته الأولى ظهر فيه الضعف، و من جهة أنه لما لم يكن فيه صلاحية الفيض لم يصدر عنه عقل أيضا، و لكن بوجوده الإمكاني أفيضت هيولى العوالم العنصرية من فلك القمر و ما هو في ضمنه، و بوجوبه الغيري و وجوده أفيضت النفوس و الصور على تلك الهيولى، و لهذا قال بعض الحكماء:
إنه فوّض للعقل الفعال ربوبية عالم العناصر، فصدر من كل واحد من تلك العقول عقل واحد و فلك واحد و نفس فلكية حتى تمّت العقول العشرة و الأفلاك التسعة الحية، بمعنى أن لها نفسا مدركة عالمة.
و بعض كلمات أرباب العصمة و الطهارة- سلام اللّه عليهم- دالة على حياة الأفلاك بهذا المعنى، فمن تأمّل في دعاء رؤية الهلال (1) من أدعية زبور آل محمد صلّى اللّه عليه و آله- أعني الصحيفة السجادية- ظهر له هذا المطلب غاية الظهور و الوضوح.
و ليعلم أنّ الحكماء شرحوا هذه القضايا و نظموا هذه البيانات و نضدوها كنضد الدرر، و لكن لم يذهبوا- معاذ اللّه- إلى أنّ العقل الأول خالق للعقل الثاني و الفلك الأول حتى يقال في حقهم إنهم يجعلون شريكا للحق جل و علا في الخلق و الإيجاد، حاشاهم أن يقولوا هذا، و لم يتفوّه أحد منهم بهذه المقالة الفاسدة و الكلمة الفاضحة، كيف و جميع طوائف الحكماء اتّفقوا على أنه «لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه»، بل مرادهم أنّ كل عقل بالنسبة إلى الآخر واسطة للفيض و معدّ للوجود له، بمعنى أنّ الحق- جل و علا- يفيض الوجود إلى العقل
ص: 74
الأول ابتداء، و إلى العقل الثاني و الفلك الأول ثانيا و بالواسطة، كما أنكم تقولون في محاوراتكم: إنّ من الأب و الأم خلق الولد، و الوالد علة لوجود الولد، و ليس المراد- و العياذ باللّه- أنّ الوالد خالق للولد أو مفيض الوجود للولد، بل لا خالق و لا موجد إلّا اللّه تبارك و تعالى، و لكنّ الشخص الذي هو عبارة عن زيد بن عمرو و هند، لا يكون موجودا بهذه الخصوصيات إلّا بعد وجود عمرو و هند.
و هكذا العقل الثاني وجود واحد في مرتبة خاصة لا يكون موجودا بهذه المرتبة من الخصوصية إلّا بعد العقل الأول، فالعقل الأول له نحو إعداد لوجود العقل الثاني، كمعدّية وجود الآباء و الأجداد في وجودي و وجودك.
و بناء على مذهب المشائين الذي ذكرنا خلاصته، العقول الكلية عندهم إنما تكون طولية و ليست هناك عقول عرضية كلية، و العقول الكلية الطولية عندهم محصورة في العشرة، و أما العقول الجزئية فهي غير متناهية، و ليس على هذا الحصر برهان، و البيان الذي ذكروه و التقريب الذي صدعوا به لا يفيد الحصر؛ فإنّ المرتبة النازلة حيثيات و جهات متضاعفة من جهة تعدد الواسطة و الوسائط.
و لذا ينبغي الإفصاح بأنّ الحق في هذه المسألة هو مذهب الإشراقيين من الحكماء، فإنهم ذهبوا إلى أنّ العقول الكلية الطولية و العرضية- فضلا عن العقول الجزئية- غير متناهية، و هذا موضوع واسع الأطراف، و مسألة في غاية الإحكام و المتانة، و أقرب إلى الشرع المقدس، و ألصق بكلمات أصحاب الوحي و التنزيل، و أليق بعظمة الحق سبحانه، و عدم تناهي قدرته و هي أسماؤه التي ملأت أركان كل شي ء، و في دعاء مولانا الحجة المنتظر- عجّل اللّه تعالى فرجه- في أيام شهر رجب و أوله: «اللهم إني أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به
ص: 75
ولاة أمرك» إلى آخره (1) إشارات و رموز تحتها معادن و كنوز و دلالات لتلك المباني و المعاني.
و شرح هذه المطالب و المذاهب، و تنسيق تلك الحقائق و الرقائق يحتاج إلى إفراد رسالة مستقلة في التأليف و الترصيف، و لا فسحة في المقام، و لا وسعة لتلك التحقيقات الطويلة الذيل:
شرح اين هجران و اين خون جگر اين زمان بگذار تا وقت ديگر
و له الحمد و المنة أولا و آخرا، و به المستعان و عليه التكلان.
المرجو من سماحة حجة الإسلام- أدام اللّه تعالى ظله- أن يتفضل ببيان المراد في قولهم: «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد».
هذه القاعدة الجليلة هي من مهمّات المسائل الحكمية و أمهاتها، و إن ناقش فيها بعض الحكماء و الأكابر من المتقدمين و المتأخرين.
ص: 76
و لكن حقا أقول: إنّ التوحيد الحق لحضرة الحق جل و علا و ما يليق بوحدانية ذاته المقدسة الأحدية، بل أصل وجوب الوجود للواجب تعالى شأنه لا يتم إلّا بهذه القاعدة.
و بيان ذلك على سبيل الإجمال و الاختصار: أن حضرة الحق سبحانه لا بد أن يكون أحديّ الذات، أحديّ الصفات، فإنه إن لم يكن كذلك يلزم التركيب، و التركيب ملازم للإمكان، و الإمكان يطارد الوجوب و لا يجتمع معه، فلو كانت فيه حيثيتان متباينتان لكان مركبا، و لو كان مركبا لكان ممكنا، و لو كان ممكنا لم يكن واجبا، و هذا خلف.
و هنا قاعدة أخرى يطابقها البرهان، و يساعدها الوجدان، و هي: أنّ بين كل علة و معلول لا بد أن تكون سنخية و مناسبة، بمعنى أن تكون بينهما جهة و حيثية و بتلك الجهة و الحيثية يصدر هذا المعلول من تلك العلة، فإن لم يكن بينهما السنخية و الاقتضاء الخاص يلزم أن يؤثر كل شي ء في كل شي ء، و معروف أنه لو لا السنخية بين العلة و المعلول لزم تأثير كل شي ء في كل شي ء، فإن صحّت هاتان القاعدتان و أذعنّا بتصديقهما فنقول حينئذ: إن صدر شيئان متباينان من جميع الجهات و الحيثيات من واحد بسيط من جميع الجهات و الحيثيات بحيث لا يتعقل فيه حيثية دون أخرى و جهة دون جهة يلزم إما بطلان القاعدة الأولى أو الثانية؛ لأن هذين المعلولين المتباينين إن صدرا من حيثيتين متباينتين لزم التركيب في العلة، و انقلب الواجب ممكنا، و إن صدر المعلولان المتباينان من تلك العلة البسيطة التي ليست فيها حيثيات متغايرة و جهات متعددة أصلا و أبدا فلا بد حينئذ من صدور إحدى الحيثيتين الذاتيتين، بمعنى أنّ تمام ذات العلة البسيطة تقتضي و تستدعي وجود ذلك المعلول،
ص: 77
و حينئذ فإما أن لا يصدر منه معلول آخر فيثبت المطلوب من أن الواحد لم يصدر عنه إلّا واحد، و إما أن يصدر عنه معلول آخر فيلزم عدم السنخية و الاقتضاء الخاص بين العلة و المعلول، بمعنى أنه يلزم صدور المباين عنه مباينه، و هذا مستحيل بضرورة العقل.
فملخّص البرهان على صحة هذه القاعدة: أنه إن صدر من واحد غير الواحد يلزم إما التركيب في ذات الواجب فيكون ممكنا، و إما عدم السنخية بين العلة و المعلول، و كلاهما باطلان بضرورة العقل، فصح أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد.
و هذا البرهان بهذا النحو من البيان و السهولة و الاختصار لم أقف عليه في محلّ، و البراهين التي ذكرها القوم فيها تطويلات و تفصيلات لا يفهم منها شي ء إلّا بعد ألف ليت و لعل.
و لا بدّ و أن يعلم أني لا أستحسن أن يسأل مني نظائر هذه الأسئلة؛ فإنه مضافا إلى أن هذه المعاني لا يتحملها خصوص أذهان العوام و لا ينتفع منها أغلب الأنام، أنّ أذهان أكثر الطلاب و الناشئة المنتمين للعلم أيضا لا تتحملها و لا تسعها، و لا يصلون إلى لباب نكات معانيها و أسرار دقائق مطاويها.
و يمكنني أن أدّعي أني لم أراجع أمثال هذه المطالب و المسائل منذ خمس عشرة سنة، بل انحصر عملي و اشتغالي بفقه آل محمد صلّى اللّه عليه و آله، فإن عرض لي صدفة أمثال هذه الأسئلة و البحوث و المطالب أفصح عنه و أكتب من بقايا تلك المكنونات المغروسة في الضمير، و ما اختمر من تلك المطالب في الفكر من دون تجديد مراجعة حتى إلى المختصرات فضلا عن المطولات، و أغلب المطالب الحكمية و البحوث القيمة التي لها نفع في أصول الدين و تبتني عليها
ص: 78
العقائد الحقة أوردناها بأحسن بيان و أوفى برهان في كتابنا «الدين و الإسلام»، فإن رجع إليه أهل الفضل و أولي النجدة و الكمال وجدوا في ذلك السفر الجليل فلسفة وثيقة، و كنوزا من العلوم الجمّة، و فيه ضالتهم المنشودة، و ما الثقة إلّا باللّه، و ما المستعان إلّا به.
إني بعد ما أقمت البرهان على صحة قاعدة «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد» خلج ببالي و خطر في ضميري أنه من الممكن أن يقع في ذهن بعض الناس في زمرة الخواطر و الأوهام أنه يلزم على هذا أن تصدر هذه الممكنات و الموجودات- التي لا تعد و لا تحصى- من غير الحق جل شأنه، فلا بد حينئذ إما من الالتزام- و العياذ باللّه- بالشريك للحق سبحانه في الخلق و الإيجاد، و إما القول ببطلان القاعدة المذكورة.
و دفع هذا التوهم: بأنه مع القول بأنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد، نقول أيضا: إنّ جميع الموجودات و الكائنات- من عالم النفوس و الأملاك و الأفلاك و العناصر جزئية و كلية بكافتها من أولها إلى آخرها- صادرة عن حضرة الحق جل جلاله، و قد أشرنا فيما سبق بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه، و هذه الكثرة ليست منافية للوحدة، بل الكثرة مؤكدة للوحدة وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلّٰا وٰاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، و لكن لمسألة صدور الكثرة عن الوحدة و ربط الحادث بالقديم مباحث مفصّلة و مسائل متنوعة و هي من معظم المسائل الحكمية، و صنّف الحكماء في خصوصها كتبا و رسائل مستقلة، و هي تبتني على مقدمات كثيرة، و لا يسع المقام لذكر واحد منها فضلا عن جميعها، و لكن نشير إجمالا إلى
ص: 79
محصّلها:
و نتيجة تلك المقدمات: هي أنّ الصادر الواحد الذي نعبر عنه بالنفس الرحماني، و الرحمة التي وسعت كلّ شي ء، و الحق المخلوق به، هو هذا الواحد الجامع لجميع الوجودات، و الموجودات كلها ما هي إلّا واحد صدر من واحد، و لكن مع وحدته و تمام بساطته محيط و مستوعب لجميع الموجودات من العقل العلوي إلى العالم السفلي، و من العقل المجرّد إلى الهيولى العنصري، و الكثرات الواقعة في البين كلها عرضية و موجودة بالتبع، و منتزعة من الحدود و الاعتبارات للوجود، فالوجود للوجود، و العدم للعدم، و كل شي ء يرجع إلى أصله، و كل شي ء هالك إلّا وجهه، و وجه وجود الواجب وجودات إمكانية معلولة، و وجه العدم ماهيات اعتبارية كما قلنا في ما سبق إنه نور و ظل و ظلمة.
فالواحد لم يصدر عنه إلّا الواحد، و لكن في هذا الوجه الواحد كل الكثرات، و لا خالق و لا موجد إلّا اللّه، و لا حول و لا قوة إلّا باللّه، و جميع الموجودات باتحادها صارت موجودة بنحو جامع للكثرة و حافظ للوحدة، و ليس التوحيد الكامل إلّا بأن ترى الوحدة في الكثرة، و الكثرة في الوحدة:
همه عالم صداى نغمۀ اوست كه شنيد اين چنين صداى دراز
و هذا الوجود الممتد الساري و المستوعب الذي أشرق على ظلمات الماهيات و هياكل الممكنات هو الواحد الجامع للكثرات، و هو وجه الواحد الأحد الباقي ببقائه، الدائم بدوامه، و إنما الفناء و التغيرات للحدود و الاعدام و الوجود يستحيل أن يقبل ضده:
ص: 80
قرنها بر قرنها رفت اى همام و اين معانى برقرار و بر دوام شد مبدّل آب اين جو چند بار عكس ماه و عكس اختر برقرار
فيا أيها الاخوان، هذه المطالب و الحقائق الشامخة، و المباحث السامية، ليست وليدة الأهواء و الميول، و إن فرض أنها من ميول النفس و هواها، فقد كفى هذا، و ما كان يخطر في مخيلتي ذكرها بهذا المقدار أيضا، و لكن اندفعت بحكم ضميري، و جرى على قلمي، و محطّ نظري، و عمدة قصدي إنما هو التنبيه على أنه إياك و سوء الظن في حق الحكماء الشامخين، و العلماء الراسخين، خصوصا بحكمائنا الإسلاميين، و إياك و المبادرة إلى التفسيق مثل بعض الناس ممن لا يفهم مرادهم، و لا يصل إلى مغزى مقاصدهم و مطالبهم فيتسرع إلى التجوال في ساحة الطعن و الإيراد مع الذهول و الغفلة عن المراد.
و حقا أقول: إنّ الرشادة و الكمال و العبقرية و المهارة إنما هو في فهم كلمات العلماء و الأكابر، و فهم بحوثهم النظرية و مطالبهم العلمية من حيث المراد مع التعمق و تحصيل الاستعداد لا التشنيع و الإيراد، فإنّ ذلك من دأب القاصرين، و عادة الجاهلين.
و اعلموا- بالقطع و اليقين- أنّ أغلب مطالب الحكماء بل جميعها مأخوذة من كلمات أرباب الوحي و أمناء العصمة سلام اللّه عليهم، و قد بيّن جميع هذه المطالب مولانا سيد العارفين و الموحّدين أمير المؤمنين عليه السّلام في طي خطبه المباركة، و تضاعيف كلماته الشريفة التي جمعها سيدنا الشريف الرضي رضوان
ص: 81
اللّه عليه (1) في كتاب «نهج البلاغة» و غيره، و في كلماته التي أنشأها عليه السّلام في ضمن أدعيته المباركة، و لكن أين من يفهم هذه الحقائق و الدقائق، و تلك النكات و الرقائق.
و الظاهر بل اليقين أن أقوى المساعدات و أعد الأسباب و الموجبات للوصول إلى مقاصد أمناء الوحي و كلمات الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام إنما هو في فهم كلمات الحكماء المتشرعين.
و كان من السابقين الأولين من أولياء الدين أناس أدركوا فيض حضورهم، و وصلوا إلى السعادة، و نالوا الشرافة و الكرامة، كسلمان المحمدي الفارسي، و أبي ذر الغفاري، و أضرابهم من الملازمين لبيت النبوة، و الواصلين ببركة ملازمتهم لمعادن العلم و خزّان الحكمة إلى مرتبة صاروا بها في غنى عن الصناعات العلمية و القواعد الرسمية، و وصلوا إلى النتيجة من أقرب الطرق و أسهلها، و أكمل السبل و أشرفها.
فمن أراد الخوض في تلك المطالب الحكمية، و الغوص في بحار المباحث العلمية فاللازم له أخذها و تعلّمها من أساتذة الفن و أكبار الصناعة، و التلمّذ لديهم و التعلم منهم مدة طويلة و سنين عديدة كما هو الشأن في تعلم كل علم و صناعة، و لا يكتفى بمحض المطالعة و مجرد النظر في كتب القوم و مؤلفات الحكماء كما هو دأب بعض الناس و ديدن كثير من الأشخاص من دون أن يتلمذ
ص: 82
عند أستاذ، و إلّا فلا محيص له إلّا أن يضل عن الطريق، و لا محالة يقع في إحدى المفسدتين، و يتورّط في إحدى المهلكتين: إما الوقوع بنفسه في الكفر، أو تكفير قوم بغير حق.
و قد رأيت في خلال هذه الأيام رسالة خطية ألّفها أحد الأعاظم من العلماء المعاصرين و قد توفى في هذه السنة، و كان موضوع تلك الرسالة إبطال هذه القاعدة، أعني «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد»، و أورد فيها بزعمه إيرادات كثيرة على الحكماء، فطالعتها برهة و قرأتها مدة فرأيت أنّ هذا الرجل الجليل تحمّل المشقات الكادحة و أتعب نفسه في إيراد المناقشات و الطعون و الإيرادات، و ليته تحمل تلك المشقات و الرياضات و لا أقل من صرف بعض تلك المشاق في فهم كلمات الحكماء و تفهّم مرادهم من هذه القاعدة، و لم يقع في ورطة الإيراد و الإشكال، و قلت لتلميذ هذا الرجل الجليل- و قد كنت رأيت تلك الرسالة المؤلفة عنده-: الأحسن أن لا تنشروا هذه الرسالة و احفظوا كرامة أستاذكم.
و ما الفضل إلّا باللّه، يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم.
و اتفق الفراغ من تعريبها في اليوم الثامن و العشرين من جمادى الأولى سنة (1370) ه في النجف الأشرف، على من حلّ فيها آلاف الصلاة و السلام و التحف.
القاضي الطباطبائي
ص: 83
بسم الله الرحمن الرحيم النجف الأشرف 18 ربيع الأول 1366 ه:
هذه أيضا أجوبة المسائل التي سألنا بها ذلك العالم العلّامة الحبر الشريف ثقة الإسلام السيد محمد علي القاضي التبريزي، أيده اللّه تعالى، و قد أرسلها من قم دار هجرته الأولى.
بسم الله الرحمن الرحيم المرجو من سماحة الإمام العلامة الشهير آية اللّه شيخنا الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء المحترم- أدام اللّه تعالى ظله العالي- أن يتفضل علينا ببيان أجوبة هذه الأسئلة، لا زال وجوده الشريف مرجعا للعلم و الدين.
محمد علي القاضي الطباطبائي- قم-
قوله تعالى في سورة الجمعة المباركة: وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً قُلْ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجٰارَةِ وَ اللّٰهُ خَيْرُ
ص: 84
الرّٰازِقِينَ (1)، بيّنوا لنا النكتة في تقديم التجارة على اللهو في صدر الآية و تأخيرها عنه في ذيلها.
النكتة في تقديم التجارة على اللهو و تأخيرها في التنزيل في آية الجمعة واضحة و بديهة؛ فإنّ التجارة لما كانت عملا عقلائيا و هي أشرف من اللهو طبعا ناسب أن يكون الترقي منها إلى اللهو في الجملة الأولى، فكأنه تعالى يقول: إذا رأوا تجارة بل ما هو أخس من التجارة و هو اللهو تركوا الصلاة و اشتغلوا باللهو، أما في الجملة الثانية فالمناسبة تقتضي العكس، فكأنه تعالى يقول: ما عند اللّه خير من اللهو بل خير من التجارة التي هي أشرف من اللهو، و هذه من نكات بلاغة القرآن المجيد.
و في الآية سؤال آخر و هو: ما وجه إفراد الضمير في قوله تعالى: انْفَضُّوا إِلَيْهٰا، مع أنّ المقام يقتضي أن يقال: انفضوا إليهما؟ و يخطر على بالي أنّ المفسّرين يجعلونه من باب الحذف و التقدير، و إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه، و مثله في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ (2)، و حقها أن يقال: و لا ينفقونهما، و الوجه المتقدم في هذه الآية مقبول في الجملة، يعني حذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
أما في آية الجمعة فغير مستحسن كما لا يخفى، بعد أدنى تأمل، و الذي أراه في الآيتين و أمثالهما عدم الحاجة إلى التقدير، بل المراد بالضمير
ص: 85
المذكورات وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا أي إلى المذكورات، و هكذا في الثانية، و لعل نظائره في القرآن الكريم و غيره غير عزيز.
قوله تعالى في سورة الأحزاب: وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظٰاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ مِنْ صَيٰاصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (1)، لم يعبّر سبحانه في الجملتين المتعاطفتين بنسق واحد، لم يقل جلّ و علا: «فريقا تقتلون و فريقا تأسرون»، و لا بالعكس، فما النكتة في ذلك.
و لعل السر في التغيير هو المحافظة على الرويّ، فإنّ آيات سورة الأحزاب من أولها إلى آخرها رويها الألف، مضافا إلى احتمال الإشارة إلى أنّ الأسر كالقتل لا فرق و لا فاصل بينهما، فاتصالهما في الألفاظ يشير إلى اتصالهما في المعنى.
السموات التي نطق بها القرآن الكريم، ما حقيقتها في الديانة المقدسة؟
و تطبيقها مع الأفلاك التي تقول بها الهيئة القديمة، و كذا تطبيقها مع الهيئة الجديدة لا تطمئن به النفس، و أيضا أيّ دليل دلّ صريحا من الكتاب و السنة على كون
ص: 86
العرش و الكرسي شيئا جسمانيا؟ المرجو من لطفكم العميم أن تكشفوا لنا الغطاء عن هذه المعضلة.
ظاهر القرآن العزيز أنّ السموات أجسام و أجرام مبدأها دخان ثُمَّ اسْتَوىٰ إِلَى السَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ (1)، و لعله كناية عن الغاز أو الأثير أو ما أشبه ذلك من العناصر اللطيفة الشفافة السائلة ثمّ تماسكت و جمدت كما تشير إليه بعض خطب أمير المؤمنين عليه السّلام في النهج و غيره.
و هذا قريب إلى ما تصوره الهيئة القديمة من الأفلاك السبعة بل التسعة من فلك الأفلاك إلى فلك القمر، و أنّ كل واحد منهما جسم أثيري مستدير لا يقبل الخرق و الالتئام، و الكوكب يعني زحل و المشتري و المريخ و أخواتها، كل واحد منها مركوز في ثخن فلكه، و فرضوا لبعضها حوائل و موائل و جوزهرات إلى تمام ما هو مبسوط في الهيئة القديمة من الحدسيات و نحوها مما اضطرّهم إلى فرضه حركات تلك الكواكب السبعة، و لا سيما الخمسة المتحيّرة منها ذوات الرجوع و الإقامة و الاستقامة.
نعم، ما هو الظاهر من الشرع في السموات و الكواكب لا ينطبق على الهيئة الحديثة بل هي قديمة أيضا، فإنها مبنية على الفضاء الغير المتناهي، و كل كوكب يتحرك في ذلك الفضاء في مدار مخصوص، و يرتسم من حركته فلك أي دائرة لا ينفك سيره عليها، و فرضوا شموسا، و لكل شمس نظام من أقمار و كواكب و أراضي تدور حول شمسها، أحدها بل أصغرها نظامنا الشمسي، و ليس في
ص: 87
إنكارهم للسماوات بالمعنى الظاهر من الشرع دعوى اليقين بعدمها، بل بمعنى أن علمهم و بحثهم لم يوصلهم إليها، و هي- أي هذه الطريقة- أسلم و أبسط من الأولى، و الاعتبار و الآثار تدل عليها، و لم يحتاجوا إلّا إلى فرض الأثير المائي لذلك الفضاء لنقل النور من كوكب إلى آخر، و قد اكتشفوا بآلاتهم الرصدية سيارات أخرى كثيرة غير السبعة المشهورة مما لا مجال لذكرها في هذا المقام.
و أما العرش و الكرسي فليس في الشرع- كتابا و سنة- ما يدل صريحا على جسمانيتهما سوى بعض إشارات طفيفة مثل قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ (1)، و قوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ (2)، و هي مصروفة عن هذا الظاهر قطعا.
و أما السنة فالأخبار كما في السماء و العالم من البحار و غيره مختلفة أشد الاختلاف، و فيها ما يشعر بأنهما جسمان، و أكثرها صريح في عدم الجسمية، و أنهما من مقولة العلم و القدرة و الملك و صفات الذات المقدسة.
و بالجملة، فإمعان النظر في الأخبار و كلمات العلماء و المفسرين لا يزيد إلّا الحيرة و الارتباك، و الذي أراه في هذا الموضوع الدقيق و السر العميق و البحث المغلف بسرائر الغيب و حجب الخفاء أنّ المراد بالكرسي هو الفضاء المحيط بعالم الأجسام كلها من السموات و الأرضين و الكواكب و الأفلاك و الشموس، فإنّ هذه العوالم الجسمانية بالقطع و الضرورة لها فضاء يحويها و يحيط بها، سواء كان ذاك الفضاء متناهيا، بناء على تناهي الأبعاد، أو غير متناه أي مجهول النهاية، بناء على صحة عدم تناهي معلولات العلة الغير المتناهية،
ص: 88
و هذا الفضاء المحيط بعوالم الأجسام هو الكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ، و هو المعبّر عنه أيضا بلسان الشرع ب «عالم الملك»، تبارك الذي بيده الملك، ثمّ تحمل هذا الفضاء و كل ما فيه القوة المدبرة المتصرفة فيه، و ليست هي من الأجسام بل نسبتها إلى الأجسام نسبة الروح إلى الجسم، و هذه هي «العرش» الذي يحيط بالكرسي، و يحمله و يدبّره و يصرّفه و يتصرّف فيه.
و تقوم تلك القوة بثمانية أركان، كل واحد متكفل بجهة من التدبير، فتحمل ذلك العرش المحيط بالكرسي و ما فيه و هي حملة العرش وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمٰانِيَةٌ، و لعل هذه الثمانية هي الصفات الثمانية: العلم، و القدرة، و الحياة، و الوجود، و الإرادة، و السمع، و البصر، و الإدراك، فهي بالنظر إلى نسبتها إلى تدبير الأجسام و السماء و الأرض و ما فيهما «العرش الأولى»، و بالنظر إلى نسبتها إلى الذات المقدسة و أنها صفات تلك الذات «العرش الأعلى»، و الملائكة الكروبيين، و العرش الأعلى و الأدنى هو عالم الملكوت.
ثمّ فوق القوة المدبرة للأجسام عالم العقول و المجردات و الملائكة الروحانيين، و هذا هو عالم الجبروت، ثمّ يحيط بهذا العالم و يدبّره و يتصل به عالم الأسماء و الصفات و الإشراقات و التجليات، و هو عالم اللاهوت، فانتظمت العوالم الأربعة هكذا: عالم اللاهوت، ثمّ عالم الجبروت، ثمّ عالم الملكوت و هو العرش، ثمّ عالم الملك و هو الكرسي، أعني الأجسام و الجسمانيات.
أما أهل الهيئة القديمة من علماء المسلمين فقد جعلوا فلك الثوابت هو الكرسي، و الفلك التاسع الأطلس هو العرش.
و مهما كان الواقع فإنّ كل هذه العوالم أشعة تلك الذات المقدسة الأحدية، و مضافة إليها إضافة إشراقية لا مقولية، و سارية تلك الحقيقة سريان العلة في
ص: 89
المعلول.
جمالك في كل الحقائق سائر و ليس له إلّا جلالك ساتر
إلى آخر الأبيات.
و هذا البيان في توجيه العرش و الكرسي و تطبيقه على العوالم الكونية من متفرداتنا، و لنا هنا مباحث دقيقة و أسرار عميقة لا يتسع لها الوقت و لا المجال، و للّه الحمد و المنّة على كل حال.
الدعاء الموسوم بدعاء الصباح المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، هل هو مرويّ مسندا عنه عليه السّلام، أو وجد بخطه الشريف بحيث تطمئن به النفس أم لا؟
و قد نقل العلامة المولى إسماعيل الخاجوئي رحمه اللّه (1) في شرحه عليه عن بعض الأصحاب أنه وجده بأسانيد صحيحة و روايات صريحة متصلة إليه عليه السّلام، بعد أن صرّح هو نفسه أولا بعدم وجدان سند صحيح إليه، و قال ما لفظه: «و نحن و إن لم نجده بسند صحيح متصل إلى ذلك الجناب المستطاب، لكن نقل بعض الأصحاب أنه وجده بأسانيد صحيحة و روايات صريحة متصلة إليه عليه السّلام»، فتفضلوا ببيان ما تحقق عندكم في ذلك، فكم من تحقيقات جليلة أنيقة جرت بقلم آية اللّه العلامة- أدام اللّه أيامه- حتى عمّ نفعها العالم الإسلامي.
ص: 90
لا يخفى على أحد أنّ لكل طائفة من أرباب الفنون و العلوم، بل لكل أمة، بل لكل بلد، أسلوبا خاصا من البيان و لهجة متميزة عن غيرها، فلهجة اليزدي غير لهجة الاصفهاني، و نغمة الاصفهاني غير نغمة الطهراني و الخراساني، و الكل فارسي إيراني.
و للأئمة- سلام اللّه عليهم- أسلوب خاص في الثناء على اللّه، و الحمد للّه، و الضراعة له، و المسألة منه، يعرف ذلك من مارس أحاديثهم، و آنس بكلامهم، و خاض في بحار أدعيتهم، و من حصلت له تلك الملكة و ذلك الأنس لا يشك في أنّ هذا الدعاء صادر منهم، و هو أشبه ما يكون بأدعية الأمير عليه السّلام، مثل دعاء كميل و غيره، فإنّ لكل إمام لهجة خاصة و أسلوبا خاصا على تقاربها و تشابهها جميعا.
و هذا الدعاء في أعلى مراتب الفصاحة و البلاغة و المتانة و القوة مع تمام الرغبة و الخضوع و الاستعارات العجيبة، أنظر إلى أول فقرة منه «يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه»، و اعجب لبلاغتها و بديع استعاراتها.
و إذا اتهجت إلى قوله: «يا من دلّ على ذاته بذاته»، تقطع بأنها من كلماتهم- سلام اللّه عليهم- مثل قول زين العابدين عليه السّلام: «بك عرفتك، و أنت دللتني عليك».
و بالجملة: فما أجود ما قال بعض علمائنا الأعلام: إننا كثيرا ما نصحح الأسانيد بالمتون، فلا يضرّ بهذا الدعاء الجليل ضعف سنده مع قوة متنه، فقد دلّ على ذاته بذاته، سبوح، لها منها عليها شواهد.
ص: 91
على القول بوجوب تقليد الأعلم، هل يتعين بالشياع في زماننا هذا مع شيوع بعض الأغراض الفاسدة من الأغراض السياسية (1) و غيرها، أو لا بد من
ص: 92
قيام البيّنة؟ و إذا تعارضتا فأيتهما مقدّمة؟
ذكرنا في تعاليقنا على كتاب «سفينة النجاة» (الجزء الأول صفحة 28- 61 ط. نجف) ما هو المعيار و الميزان الصحيح الذي لا ميل فيه و لا حيف.
و خلاصة ذلك: أن طريقة الإمامية في تعيين من له أحقية المرجعية من زمن الشيخ المفيد إلى زمن الشيخ الأنصاري- رضوان اللّه عليهما- هي النظر إلى مقدار انتاجه و كثرة مؤلفاته و عظيم خدماته للشرع و الإسلام، و مساعيه في صيانة الحوزة، و الذبّ عنها، لا ببذل المال و كثرة الدعايات الناشئة من المطامع و الأغراض، أعاذنا اللّه و عصمنا من كلّ سوء و شين إن شاء اللّه.
ص: 93
عموم الولاية للفقيه في زمن الغيبة ثابت أم لا؟ أفيدونا ما هو المحقق عندكم في ذلك.
الولاية على الغير نفسا، أو مالا، أو أيّ شأن من الشئون لها ثلاث مراتب، بل أربعة:
الأولى: ولاية اللّه جل شأنه على عباده، و هو المالك لهم و لما يملكون بالملك الحقيقي الذاتي لا الجعلي العرضي هُنٰالِكَ الْوَلٰايَةُ لِلّٰهِ، و هذه الولاية بدرجتها «الثانية» جعلا و ذاتا لرسول اللّه و الأئمة سلام اللّه عليهم النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (1) أي فضلا عن الكافرين، و هذه الآية واسعة مطلقة بتمام السعة و الإطلاق بحيث لو أنّ النبي أو الإمام طلّق زوجة رجل طلقت رغما عليه، فضلا عن المال و غيره.
المرتبة الثانية: ولاية الفقيه المجتهد النائب عن الإمام، و هي طبعا أضيق من الأولى، و المستفاد من مجموع الأدلة أنّ له الولاية على الشئون العامة و ما يحتاج إليه نظام الهيئة الاجتماعية المشار إليه بقولهم عليهم السّلام: «مجاري الأمور بأيدي العلماء، و العلماء ورثة الأنبياء»، و أمثالها، و هي المعبّر عنها في لسان المتشرعة بالأمور الحسبية، مثل التصرف بأموال القاصرين الذين لا ولي لهم،
ص: 94
و الأوقاف التي لا متولي عليها، و تجهيز الأموات الذين لا ولي لهم، و أخذ إرث من لا وارث له، و طلاق زوجة من لا ينفق على زوجته و لا يطلقها، أو الغائب غيبة منقطعة و كثيرة من أمثال ذلك مما لا بد منه و عدم إمكان تعطيله للزوم العسر و الحرج، و لعل من هذا الباب إقامة الحدود مع الإمكان، و أمن الضرر.
و بالجملة: فالعقل و النقل يدل على ولاية الفقيه الجامع على مثل هذه الشئون فإنها للإمام المعصوم أولا، ثمّ للفقيه المجتهد ثانيا بالنيابة المجعولة بقوله عليه السّلام: «و هو حجتي عليكم، و أنا حجة اللّه عليكم»، و من هنا يتضح جواب السؤال الآتي.
المرتبة الثالثة بل الرابعة (1): ولاية عدول المؤمنين عند تعذر الفقيه المجتهد، و هي في أمور خاصة، ضابطتها ما تقضي الضرورة به مثل دفن الموتى و الإنفاق على الصغير من ماله، و أمثال ذلك، و هي أضيق من ولاية الفقيه طبعا، فإنها تختص بما لا يمكن تعطيله، و ولاية الفقيه تعمّ كل ما فيه المصلحة.
ما الدليل على لزوم إعطاء سهم الإمام عليه السّلام من الخمس إلى المجتهد؟
و على تقدير لزوم الإعطاء له ما الدليل على لزوم إعطاء كل شخص للمجتهد الذي قلّده في الأحكام الفرعية؟ و أي مورد يكون قدرا متيقنا من محل مصرفه و يكون الصرف فيه موافقا للاحتياط؟ تفضلوا علينا ببيان مختاركم في هذه المسألة.
ص: 95
أما الدليل على لزوم إعطاء سهم الإمام عليه السّلام للمجتهد فإنه يكفي في ذلك كون المجتهد هو الوكيل العام للإمام، فهو مال لغائب يجب دفعه إلى وكيله، و لا أقل من أنه هو القدر المتيقن لبراءة الذمة، فيجب، و أما دفعه إلى خصوص المقلد فالواجب أن يدفعه إلى الأعلم، فكما يجب تقليد الأعلم كذلك يجب دفع الحق إليه، و قد عرفت من هو الأعلم الذي يجب تقليده و دفع الحق إليه و لا تبرأ ذمة المكلف بدون ذلك، أما اليوم فقد صار مال الإمام- سلام اللّه عليه- كمال الكافر الحربي ينهبه كل من استولى عليه، فلا حول و لا قوة إلّا باللّه.
الموضوعات العرفية في نظر المجتهد إذا خالف نظر المقلد هل يجب عليه اتباع المجتهد؟ و كذا الموضوعات الخارجية إذا ثبت حكم عند المجتهد و المقلد لا يعتقد ذلك الحكم، فهل يجب على المقلد تنفيذ هذا الحكم أم لا؟
الموضوعات العرفية لا تقليد فيها، فإذا اعتقد المقلد أنّ هذا المائع ماء و قال المجتهد هو خمر، لا يجب عليه اتباع المجتهد، نعم في بعض الموارد يكون كشهادة العدل الواحد، و كذلك الموضوعات الخارجية من حيث نفس الموضوع، أما من حيث الحكم فإن كان شرعيا وجب على المقلد اتباعه، و إلّا فلا تقليد في غير الأحكام الشرعية، و قد ذكرنا مفصلا هذه المباحث في باب
ص: 96
الاجتهاد و التقليد من السفينة، فلا حاجة إلى الإعادة.
الجلود التي تباع في سوق المسلمين، و معلوم أنها مجلوبة من بلاد الكفّار، و لكنّ البائع مسلم، فهل هي محكومة بالطهارة و يجوز الصلاة فيها، أم لا؟
تفضلوا علينا ببيان مختاركم في حكم المسألة مع الإشارة إلى دليله.
الجلود إذا أخذها من يد المسلم، أو من سوق المسلمين و هو يعلم بأنّها مجلوبة من بلاد الكفار إن احتمل أنها من صنع المسلمين و لو في بلد الكفر أمكن البناء على طهارتها و تذكيتها، و إن لم يحتمل ذلك و علم أنها من صنع الكفار فهي محكومة بأنها ميتة، و لا يجوز الصلاة فيها، و لا استعمالها في مشروط بالطهارة، و ذلك لأنّ شرط جواز الاستعمال التذكية و هي أمر وجودي، و الأصل عدمه عند الشك فيه.
لو وقع التنازع بين الزوجين في دوام العقد و انقطاعه، فمن يقدّم قوله منهما؟ أفيدونا مع الإشارة إلى الدليل.
التحقيق أنّ الدوام و الانقطاع صنفان من حقيقة واحدة، و لكنّ الأصل هو الدوام بمعنى أنه مع الشك يبنى على الدوام لأصالة الإطلاق؛ لأنّ الانقطاع قيد
ص: 97
و الأصل عدمه.
و بالجملة: فالقول قول مدعي الدوام حتى يثبت خلافه.
أنه قد تعارف بين الأعاجم عقد الأخوة بين اثنين و وضعوا له صيغة تداولوها و نقلها المحدث المعاصر القمي رحمه اللّه (1) في مفاتيح الجنان أخذا عن شيخه في المستدرك، و قال: ينبغي إيجادها في يوم عيد الغدير، و هي: أن يقول الأكبر سنا بعد أن وضع يده اليمنى على يد أخيه المؤمن: «آخيتك في اللّه، و صافيتك في اللّه، و صافحتك في اللّه، و عاهدت اللّه و ملائكته و كتبه و رسله و أنبياءه و الأئمة المعصومين عليهم السّلام على أني إن كنت من أهل الجنة و الشفاعة و أذن لي بأن أدخل الجنة لا أدخلها إلّا و أنت معي»، فيقول الآخر: «قبلت و أسقطت عنك جميع حقوق الأخوة ما خلا الشفاعة و الدعاء و الزيارة»، و أثبتها بعض من صنّف في صيغ العقود في كتابه، و لكن قال بعض الأجلة قدّس سرّه من مشايخنا الذين عاصرناهم: «إنّ إيجاد العقد المذكور بقصد الشرعية تشريع محرّم»، فما هذه الأخوة؟ و أي دليل دل على شرعية إيجاد هذا العقد؟ و كيف يمكن إسقاط الحقوق الثابتة بأصل الشرع؟
فالمرجو من سماحة الإمام- دام ظله- كشف الغطاء عن وجه الحقيقة في هذه المسألة.
ص: 98
الذي دفع المتشرعين إلى تفشي هذه الأعمال و شيوع استعمالها، هو اشتهار قاعدة التسامح بالسنن، و أنّ من بلغه ثواب على عمل فعمله كان له ذلك الثواب و إن لم يكن الأمر كما بلغه.
و من هذا الباب ما شاع من الختومات مثل ختم الواقعة، و ختم أمّن يجيب المضطر، و هكذا في جميع الأعمال التي لم يرد بها نص خاصّ معتبر، بل و في بعضها ليس فيها خبر لا ضعيف و لا قوي، فكل هذه الأمور بما أنها لا تخرج عن كونها ذكرا، أو دعاء، أو عملا مستحسنا عقلا، و لا نص على المنع منه فلا مانع من العمل به برجاء المحبوبية، أو المصلحة الواقعية، أما الإتيان به مع قصد الورود فهو مشكل لدخوله في عنوان التشريع الحرام.
أما إسقاط الحقوق الثابتة شرعا فلا مانع منه مثل حق الزيارة و العيادة، بل و حق الغيبة و الجوار و أمثالها من الحقوق الوجوبية أو الإيجابية.
و الحاصل: لا أهمية في البحث عن الدليل الخاص على رجحان هذه الأعمال أو جوازها بعد اندراجها في العمومات و أنّ الأعمال بالنيات و لكل امرئ ما نوى، و ما على المحسنين من سبيل، و على اللّه قصد السبيل.
و بالجملة: فرجاء الواقع له نصيب من الحق و الواقع، و قصد الخير من خير القصد، و اللّه ولي التوفيق و به المستعان.
ص: 99
هل البيّنة حجة من البلد في ثبوت الهلال فيما إذا لم يكن في السماء علة أم لا؟ كما تأمل في حجيتها من البلد بعض المعاصرين من الأعلام في حواشيه على العروة الوثقى، أفيدونا مع بيان الدليل.
في السؤال نوع إجمال، و لكن الضابطة الكلية أنّ أدلة حجية البينة مطلقة غير مقيدة بعدم الاستبعاد، و عدم الريب فيها بعد تحقق موضوعها، إلّا أن يعلم اشتباهها أو خطأها، و لا فرق بين كونها من البلد أو خارج البلد، بعيدة أو قريبة، كما أنها حجة عند كل من شهدت عنده و لا حاجة إلى حكم الحاكم، كالشياع، نعم الأحوط التوقف على حكمه لأنه أعرف بموازين البينات.
ما يقول فقيه الشيعة في هذه المسألة الشرعية: أنه قد تعارف بين الناس و لا سيما الإيرانيين أن الرجل يعطي إلى ابنته حين إرسالها إلى بيت زوجها أموالا من أثاث البيت و غيرها، يسمونها «جهيزية»، ثمّ بعد وفاة الرجل يدعي ورثته أن تلك الأموال داخلة في جملة ما تركه الميت، و لا بد من تقسيمها على ما فرضه اللّه تعالى كسائر أمواله، و الحال أنه لم يعلم أنّ الرجل بأي عنوان أعطاها تلك الأموال، فهل هو بعنوان الهبة أو غيرها، أو أعطاها بعنوان كونها أمانة في يدها؟ فهل الإعطاء ظاهر في الملكية و لا تدخل في تركة الميت، أو
ص: 100
الظاهر كونها أمانة في يدها ما لم يعلم أحد النواقل الشرعية؟ و بأي الطرفين يتوجه القسم؟ أفيدونا حكم المسألة مشروحا مع بيان الدليل و الاستدلال على مختاركم تفصيلا، أدام اللّه تعالى ظلكم العالي على رءوس الأنام.
لا يخفى أن للأعمال ظهورا كظهور الأقوال، و ظهورها أيضا حجة كظهور الألفاظ، و لا شك أن إعطاء الأثاثية من الآباء للبنات ظاهر في التمليك، و الهبة المجانية، مضافا إلى الغلبة و المتعارف، و ما سمعنا في العراق أو إيران أنّ الورثة أخذوا ما أعطاه الأب لابنته و قسّموه ميراثا، و الغلبة في مثل هذه الأمور حجة، و لكن يخطر على بالي أنّ الميرزا القمي- أعلى اللّه مقامه (1)- في جامع الشتات جعل القول قول الورثة، و على البنت الإثبات، و لعل مدركه الاستصحاب، و قد عرفت أنه مقطوع و مرفوع بالأمارتين الاجتهاديتين، ظهور الإعطاء في التمليك مع الغلبة، و على البنت يتوجه القسم بأنها ما سمعت من أبيها أنّ ما دفعه لها عارية أو أمانة.
ص: 101
في حدّ السرقة عند اجتماع الشرائط تقطع الأصابع الأربع من يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، و يترك له العقب، و قد علل الإمام عليه السّلام قطع الأصابع من اليد: بأنّ المساجد للّه تعالى، و ورد في رواياتنا أنّ ما كان للّه لا يقطع، فكيف يأتي هذا التعليل في قطع الرجل اليسرى، أ ليس رأس الإبهام من جملة المساجد على المشهور، فلم يقطع من مفصل القدم؟ تفضلوا ببيان حل الإشكال.
لا يبعد أن السرّ في ذلك نظير من جنى جناية عليها حدّ خارج الحرم، ثمّ التجأ إلى الحرم لا يقام عليه الحد حتى يخرج رعاية لحرمة الحرم، أما لو جنى في الحرم أقيم عليه الحد و لو في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، و إلى مثله يومئ قوله عز شأنه: وَ مَنْ عٰادَ فَيَنْتَقِمُ اللّٰهُ مِنْهُ (1)، و منه أيضا قضية فداء اليد بخمسمائة دينار و قطعها بربع دينار، و هو الاعتراض الذي اعترضه الحكيم المعري (2) بقوله المشهور:
ص: 102
يد بخمس مئين عسجد فديت ما بالها قطعت في ربع دينار (1)
و الأجوبة التي أجابوا بها و أجادوا، فبين قائل:
هاتيك مظلومة غالى بقيمتها و تلك ظالمة هانت على الباري
و بين قائل:
عزّ الأمانة أغلاها و أرخصها ذل الخيانة فانظر حكمة الباري
و حيث إنّ السارق في أول مرة له بعض العذر لذا روعي في حقه حرمة المساجد، فلم يحكم بقطعها، بل أبقاها الشارع له رأفة به، ثمّ لما تجرّأ و عاد إلى السرقة ثانيا و بعد إقامة الحد أيضا قد هتك هو حرمة مساجده، بل هتك حرمة اللّه في مساجده التي هي للّه فقوبل بمثل عمله، أي أن عمله و عوده إلى الجريمة كان قاسيا فناسب أن يكون جزاؤه أيضا قاسيا، و لعل هذا من أسرار أحكام
ص: 103
الشارع و بدائع حكمته، و يكاد العارف يقطع به بعد التأمل فيه، و اللّه العالم (1).
محمد الحسين آل كاشف الغطاء حرره في مدرسته العلمية بالنجف الأشرف
ص: 104
و وردت منه أيضا أيده اللّه هذه السؤالات:
رجل هاشمي علوي يملك ما لا يتّجر به أو ضيعة يستغلها و لا يفي ربح المال أو الضيعة بقوت سنته، فهل يجوز له أخذ العائز من الخمس أو لا؟ كما أنّ العامي الذي حاله هذه يأخذ العائز من الزكاة، فهل فرق بين الخمس و الزكاة في هذه المسألة أو لا؟ أو النصوص واردة في الزكاة، و قياس الخمس عليها فيما نحن فيه من القياس الذي لا يقول به الإمامية، أفيدونا أدام اللّه تعالى ظلكم العالي.
نعم، يجوز للهاشمي أن يأخذ تتمة نفقته من الخمس حيث تكون له ضيعة أو رأس مال لا يفي ربحه بنفقته و نفقة عياله، كما يجوز للعامي أن يأخذ ذلك من الزكاة، و ليس هو من القياس في شي ء، بل من باب تحقق الموضوع فيتبعه الحكم، و الأحكام تتبع الموضوعات، و أخبار الزكاة كصحيحة معاوية بن وهب و نظائرها تحقق موضوع الفقير الشرعي، و الخمس للفقير من السادة كما أنّ الزكاة للفقير من العوام، و الظاهر أنّ المسألة متفق عليها كما في الزكاة، و اللّه العالم.
ص: 105
رجل تزوّج صغيرة بالعقد الدائم، ثمّ ارتكب الحرام و أدخل بها، و لما بلغت طلقها بدون الدخول فهل يجب لها العدة أو لا؟ و هل لها المطالبة بتمام المهر أو بنصفه؟
نعم يجب عليها العدة، و لها المطالبة بتمام المهر؛ لأنّ المدار على مطلق الدخول و المس، و أخبار أنّ الصغيرة لا عدة عليها ناظرة بل ظاهرة في غير المدخول بها دلالة اقتضائية، مضافا إلى موافقة الاحتياط، و حرمة الدخول قبل البلوغ تكليفية فقط، كالوطئ في الحيض ليس له أثر وضعي أصلا، و اللّه العالم.
أنه قد تعارف بين الناس أنهم إذا وجدوا جسد ميت من العلماء و غيرهم بعد سنين من دفنه طريا لم يتغير يعدون ذلك من الكرامات له، و يحسبون أن ذلك من علائم السعادة، فما وجه هذا الاعتقاد؟ هل له دليل و مستند مستفاد من أخبار أهل البيت عليهم السّلام، خزان علم اللّه و حفظة وحيه، أو لا؟ مع أنا نشاهد بالوجدان و العيان ظهور جسد بعض الفساق، بل و من هو أسوأ حالا منهم أيضا بعد أعوام كثيرة من موته طريا لم يتغير، اكشفوا لنا الغطاء عن هذه المعضلة، لا زلتم مرجعا في أحكام الدين، و كهفا للمسلمين.
ص: 106
يخطر على بالي أنّ في أحد الكتب، من إرشاد الديلمي، أو معالم الزلفى، أو الأنوار النعمانية: أنّ الأنبياء و الأئمة سلام اللّه عليهم، بل و العلماء، لا تبلى أجسادهم، و هذه القضية شائعة عند عوام الشيعة، بل و بعض الخواص، و لعله بلغكم ما يقال: من أنّ أحد الأمراء أراد نبش قبر الإمام موسى بن جعفر- سلام اللّه عليهما- ليتحقق هذه القضية، فقيل له: إنّ الشيعة يعتقدون ذلك في علمائهم أيضا، فنبش قبر الكليني (1)، أو المفيد (2) رضوان اللّه عليهما، فوجده بحاله لم يتغير، و مثلها للشاه إسماعيل الصفوي (3) مع الحر سلام اللّه عليه، و مثل هذه
ص: 107
الأشياء لا ينبغي الجزم بتصديقها و لا تكذيبها، بل «فذروه في سنبله»، و قاعدة الشيخ الرئيس (1) «كل ما قرع سمعك» إلى آخرها (2).
ص: 108
أما في الأدلة الشرعية من الكتاب و السنة فلا أتخطر دليلا في ذلك معتبرا يعتمد عليه، نعم في خواص بعض الأعمال المستحبة كغسل الجمعة ربما يوجد أنّ من خواصها حفظ الجسد من البلا، و على فرضه فلا بد أن يكون المراد إلى مدة ما و إلّا فكل شي ء فان و لا يبقى إلّا وجهه الكريم، و بقاء الأجسام و تلاشيها ببطء أو سرعة يختلف باختلاف استعدادها، و التربة التي يدفن فيها، و رب جسد يبقى مائة سنة و آخر إلى جنبه تلاشى بخمسين سنة، و لله البقاء، و منه البدء وحده، و إليه المعاد.
حرره الفقير محمد الحسين آل كاشف الغطاء في مدرسته العلمية بالنجف الأشرف ربيع الثاني- 1368 ه
ص: 109
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه، و الصلاة على رسوله و على آله.
و بعد: فهذه مسائل سألتها من حضرة الأستاذ العلامة الأكبر و المصلح الأعظم، فيلسوف الإسلام آية اللّه في الأنام، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء مدّ ظله.
القول بالنشوء و الارتقاء و أدوار الأرض الجيولوجية موافق لمذهب الإسلام أم مخالف؟ و ما الدليل على الوفاق، أو الخلاف؟
الإسلام عقيدة و عمل، يعني تهذيب للروح و تكميل للقوة العاقلة، و لا علاقة له بالعلوم الطبيعية و خواص المادة، و المهمة التي جاءت بها الأديان و نزلت بها الكتب هي معالجة النفوس من الأمراض الخبيثة التي هي السبب الوحيد فيما يقع في الحياة الاجتماعية من الشرور، و سفك الدماء، كالحسد، و الحرص، و الطمع، و الشهوة، و نظائرها، و تبديلها بأضدادها الموجبة للصحة و الاستقامة و تعديل القوتين الغضبية و الشهوية.
هذه هي مهمة الشرائع و الأديان، و أساس كل ذلك هو رسوخ الاعتقاد
ص: 110
بالمبدإ المقدس و الصانع و الدينونة بأنّ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
نعم القرآن العزيز مثله الأعلى و مهمته الأولى هي الدعوة إلى اللّه، و تقوية الاعتقاد بالمبدإ و المعاد، و نشر الفضيلة، و قمع الرذيلة، و لكن بما أنه كتاب الأبد و سفر الخلود، و المعجزة الباقية، تعرّض تلويحا مرة و تصريحا أخرى، و بين التصريح و التلويح ثالثة إلى فلسفة التكوين و بدء الخليقة، و بعض أسرار الطبيعة، و لا يبعد أن يكون أمثال قوله تعالى: خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ (1)، ثمّ فصلها في سورة «فصلت» بقوله تعالى: بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَ جَعَلَ فِيهٰا رَوٰاسِيَ ... وَ قَدَّرَ فِيهٰا أَقْوٰاتَهٰا فِي أَرْبَعَةِ أَيّٰامٍ إلى قوله:
فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ (2)، و قوله عز شأنه: خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ (3).
نعم، لا يبعد أن يكون عز شأنه أشار بهذه الآيات إلى أدوار الأرض، و طبقاتها و مبادي تكوينها من الغاز ثمّ البخار ثمّ الجليد ثمّ التراب و هكذا، وفق ما اهتدى إليه العلم الحديث، و ما سيكشفه البحث و التنقيب في المستقبل، فإن كان المراد بهذه الآيات تلك المعاني و المقاصد فذاك، و إلّا فلا يقدح بكرامة القرآن العظيم خلوّه من ذلك؛ فإنّه مسوق لغير هذه الغاية، نعم هو مسوق لتلك المقاصد الشريفة، و الغايات المقدسة التي لو أخذ الناس بها لأصبحت الدنيا جنة من جنان الفردوس التي وعد اللّه بها عباده المتقين، فليس في القرآن الكريم
ص: 111
نص صريح بتلك الأمور حتى نقول: إنها توافق الإسلام أو تخالف.
هل القرآن دالّ على كون آدم أبا البشر، و أول خليقة من هذا النوع أم لا؟
و على فرض كون آدم أول مخلوق من النوع الإنساني فكيف التناسل بين أولاده؟
جميع الآيات الكريمة في هذا الموضوع صريحة في أنّ آدم خلق من تراب، و تكون بالخلق الفجائي، و أنّ ينبوع الحياة الأزلي نفخ فيه نسمة الحياة، و هو حيّ مستحدث من جماد، بل الحق الصراح عند أرباب الفلسفة العالية أنّ الروح في سائر الأجسام الحية هي جسمانية الحدوث روحانية البقاء، فآدم الذي نوّه عنه القرآن الكريم هو الأب الأعلى لهذا النوع الموجود على هذه البسيطة، و كلهم من نسله، و لكن ليس في القرآن و لا الأحاديث ما يدل على أنه الأول من هذا النوع، بل في الكتاب و الحديث ما يدل على خلاف ذلك.
ففي تفسير قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (1)، وردت عدة أخبار عن الصادقين- سلام اللّه عليهم- مضمونها، أو نصها تقريبا: «تحسبون أنه ليس غير آدمكم هذا، بلى أن اللّه سبحانه خلق ألف ألف آدم، و ألف ألف عالم قبل هذا، و يخلق بعد انقراض هذا العالم و دخول أهل الجنة جنتهم، و أهل الجحيم جحيمهم ألف ألف آدم، و ألف ألف عالم»، و تجد معظم هذه الأخبار في كتاب
ص: 112
«الخصال» للصدوق أعلى اللّه مقامه.
و صريح هذه الأخبار أن هناك ما لا يحصى من الآدميين و العوالم، و هو الموافق لعدم تناهي قدرته تعالى، و أنّ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ، و أن فيضه ما زال و لا يزال و لا ينقطع في حال من الأحوال وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا.
أما كيفية التناسل في بدء هذا الدور- أعني دور آدمنا هذا الذي نحن من نسله- فلها حسب ما ورد في بعض الآثار و الأخبار طريقتان:
الأولى: و لعلها الأصح: أنّ حوّاء كانت تلد توأما، كل بطن ذكر و أنثى، فكان يزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر، و هكذا.
و الإشكال أنه كيف يزوج الأخت من أخيها و لو من بطن آخر، و أنه لا يخرج عن كونه زنا و بذات المحارم؟ مدفوع بأنّ الزنا ليس إلّا مخالفة القوانين المشروعة، و النواميس المقررة من المشرّع الحكيم، و حيث إنّ في بدء الخليقة لا يمكن التناسل إلّا بهذا الوضع أجازه الشرع في وقته لوجود المقتضي و عدم المانع.
ثمّ لما تكثر النسل، و مسّت الحاجة إلى حفظ الأنساب و تميّز الأسر و الأرحام، و حفظ النظام العائلي، و حصل المانع من تزوّج الأخ بأخته و أمثال ذلك مما تضيع فيه العائلة و تهد دعائم الأسر، و لا يتميز الأخ من الابن، و الأخت من البنت؛ لذلك وضع الشارع قوانين للزواج يصون النسل عن الاختلاط و الامتزاج، و هذا المحذور لم يكن في بدء الخليقة يوم كانت أسرة آدم و حوّاء نفرا معدودا.
الطريقة الثانية: ما في بعض الأخبار من أنّ اللّه- جل شأنه- أنزل
ص: 113
حوريتين، فتزوّجهما ولد آدم، فكان النسل منهما، و لعل المراد من الحوريتين امرأتين بقيتا من السلائل البشرية المتقدمة على آدمنا هذا.
و على كل حال، فلا يلزم الزنا، و لا مخالفة حرمة نكاح المحارم.
ذكر علماء الهيئة أن سبب الخسوف هو حيلولة الأرض بين القمر و الشمس، و سبب الكسوف هو حيلولة القمر بين الأرض و الشمس، و بهذا يعلم المنجمون وقت الخسوف، و الكسوف، فحينئذ أيّ ربط بين ما ذكروه و بين ما في بعض الأخبار بأنّ سببهما كثرة الذنوب، و هاتان من علامة غضب اللّه، فكيف يعلم المنجمون وقت غضب اللّه؟ فلو فرضنا عدم وجود إنسان في الدنيا لا يكون خسوف و لا كسوف؟
ما ذكره علماء الهيئة في سببهما كاد يكون محسوسا، أو كالمحسوس، أما ما ورد في الأخبار من أن سببهما كثرة الذنوب فهو مضافا إلى ضعفها المانع عن جواز التعويل عليها، و معارضة بعض الأحاديث النبوية لها الواردة في الخسوف المقارن لموت إبراهيم ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اعتقاد الناس أنّ ذلك لموت إبراهيم فردعهم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و خطب قائلا: إنّ الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه لا يخسفان لموت أحد و لا لحياة أحد ... الخ، يمكن تأويلها و حملها على إرادة المعنى الكنائي: و هي أنّ كثرة الذنوب هي التي تطمس نور شمس الهداية و تذهب بنور أقمار العقول، فالذنوب هي التي ينخسف بها قمر العقل، و ينكسف شمس المعرفة، فلا يبقى للعقل و لا للمعارف أثر، كما ينكسف الشمس بحيلولة
ص: 114
القمر، و القمر بحيلولة الأرض، و هذا معنى حسن و مقبول عند ذوي العقول، و إن أبيت فطرح تلك الأخبار هو الأصح، و اللّه العالم.
ما معنى المعاد الجسماني، هل يعود عين البدن الدنيوي أو غيره؟ فلو كان عين البدن الدنيوي فما معنى قوله تعالى: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (1)؟
معنى المعاد الجسماني كما في بعض الأخبار: أنك لو رأيته لقلت هذا هو فلان بعينه، و كما أنك لو رأيت شخصا في الدنيا و هو صحيح سليم الأعضاء ثمّ رأيته بعد عشر سنين مثلا مقطوع الاصبع، أو اليد، أو قد ذهبت عينه، أو أذنه، تقول هو فلان بعينه، و لا يقدح في شخصيته فقدان يده أو عينه، فكذلك في الآخرة لا يقدح في وحدته، و تشخصه كونه كان في الدنيا بصيرا و يحشر في الآخرة أعمى، و هذا العمى هو العمى الحقيقي الذي كان له في الدنيا، و هو عمى البصيرة، و حيث إنّ الدار الآخرة هي الدار التي تبلى فيها السرائر و تظهر الحقائق، فلا محيص من أن يحشر الكافر و الفاسق أعمى، و يعرف أهل المحشر أنّ هذا هو الذي كان أعمى في الدنيا حقيقة و إن كان بصيرا صورة قد حشره اللّه بصورته الحقيقية في الآخرة التي هي دار الحق و الحقيقة.
و يؤيده قوله تعالى: كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيٰاتُنٰا فَنَسِيتَهٰا وَ كَذٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسىٰ،
ص: 115
فتدبره جيدا و اغتنمه فإنك لا تجده في شي ء من كتب التفاسير و لا غيرها، و المنّة للّه وحده، و عسى أن يأتي البحث عن المعاد الجسماني مفصلا.
ولد الزنا هل له نجاة في الآخرة أم لا؟ و فرض كونه من الهالكين خلاف مقتضى العدل؛ لأنّ الذنب على أبويه.
ولد الزنا حسب قواعد العدلية المطابقة للموازين العقلية و الأدلة القطعية من أنه لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ، و لا يعاقب شخص بجريمة غيره، فحاله إذا حال سائر المكلفين، إن اختار الطاعة و عمل الخير فهو من أهل الجنة و النعيم، و إن اختار المعصية و عمل الشر كان من أهل الجحيم، و كل ما في الأخبار مما ينافي هذا فلا بد من تأويلها، و حملها على ما لا ينافي تلك القاعدة المحكمة، و خبث نطفته و شقاوة أبيه ليسا بحيث يسلبان منه القدرة و الاختيار على الطاعة و المعصية، فهذه الأخبار كأخبار الطينة و السعادة و الشقاوة، مثل أنه تعالى قبض قبضة من طينة البشر و قال: هذه للنار، و لا أبالي، و قبض أخرى و قال: هذه للجنة، و لا أبالي، و أمثال قوله تعالى: طَبَعَ اللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ (1)، و أَضَلَّهُ اللّٰهُ عَلىٰ عِلْمٍ (2)، و هي كثيرة في القرآن العزيز، مما يدل بظاهره أن الإغواء و الإضلال و الطبع و الشقاء هو من اللّه قهرا و جبرا على العباد، و ليس ذلك هو المراد قطعا، و لا مجال لبسط الكلام في هذا المقام بأكثر من هذا.
ص: 116
ظاهر القرآن، أو الدليل العقلي يساعد كون نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله خاتم الأنبياء- بالكسر- أم لا؟
نعم، ظاهر القرآن في قوله تعالى: وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ (1)، على القراءتين- الفتح و الكسر- «اسم فاعل، و اسم مفعول»، هو أنه صلوات اللّه عليه و آله قد ختمت به النبوة.
و أما الدليل العقلي فهو واضح لمن تدبّر نواميس هذه الشريعة و أحكامها، و أنها بلغت الغاية في الإحاطة بمصالح البشر و النظام الاجتماعي الذي لا تتصور العقول أرقى منه و أكمل، فلا بدّ أن تكون هي الغاية و الخاتمة، كما قال جل شأنه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (2)، و إذا كمل الشي ء فقد تمّ و انتهى، و لا مجال لجعل غيره؛ إذ المجعول إما مثله أو أنقص فهو قبيح، و أما الإكمال فهو حاصل في هذه الشريعة، و اللّه العالم.
في الحديث أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لما فتح مكة و دخل الكعبة و كسر الأصنام، كان صنم في موضع مرتفع، فقال علي عليه السّلام: يا رسول اللّه، أنا أحملك لتكسر هذا
ص: 117
الصنم، فقال رسول اللّه: أنت لا تطيق حمل النبوة، ما معنى هذا الحديث، و الحال أنّ النبي يركب الدواب؟
نعم، فرق بين حمل الدواب للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و حمل أمير المؤمنين عليه السّلام له؛ إذ من المعلوم الضروري أنّ البدن سواء في الحيوان، أو الإنسان، هو الذي يحمل الأثقال، و ينهض نهضة الأبطال، و لكن إنما ينهض البدن بحملها بقوة الروح و عزيمة الهمة و الشعور.
ضرورة أنّ الجبل الشامخ لا يقوى على حمل طائر، بل لا يقدر على حمل ذبابة، بل الطائر و الذبابة تحمل نفسها عليه، فإنّ الإنسان بقدر عزمه و همّته و شعوره يحمل الأثقال، و لما كان مثل أمير المؤمنين عليه السّلام، يعرف عظمة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يقدر هيبة النبوة، و يدرك معنى تلك المرتبة و الوظيفة الإلهية، فلا ريب أنّ قوة البشرية مهما كانت عظيمة فهي تتصاغر أمام تلك العظمة و تندك لدى إشراق لمعات تلك الهيبة؛ لأنّ تقديرها على مقدار إدراكها و الشعور بها.
أما الحيوان و سائر أفراد الإنسان فلا يدرك من النبي صلّى اللّه عليه و آله و لا يعرف من حقيقته إلّا جسده الظاهري و هيكله المادي، و معلوم أنه خفيف الطبع لطيف الجسد، يقوى على حمله من هذه الجهة كل أحد، و لكن أمير المؤمنين عليه السّلام و جبرئيل يعرفان من فضله ما يعجزهما عن حمله، فتدبّر و اغتنم، و باللّه التوفيق.
ما هي فلسفة الاضحية في منى؟ نرى كثرة الحجاج، و عدم المصرف
ص: 118
للحوم ذبائحهم في منى، فلو فرضنا الحجاج مائة ألف فلا يقل كل واحد غالبا عن ذبيحتين، في الأضحية و الكفارة، تصير مائتي ألف ذبيحة، فيذبح و لا مصرف لها، و لا أحد يأخذ، فيطرح على الأرض و يفسد الهواء و يتولد الأمراض، و في هذا الزمان يقولون يجمعها ابن سعود في بئر و يطرح عليها التراب، فأي فائدة فيها، اجتماعية و انفرادية؟ فلو عيّن الشارع الإسلامي على كل أحد من الحجاج بدل الهدي مقدارا معينا من النقود فيجمع للصرف في مصالح العامة للمسلمين، أ ليس أحسن؟
قضية الذبائح و القرابين، و تقديمها للآلهة بكثرة، شعيرة من الشعائر القديمة في أكثر الأديان، حتى عند المشركين و عبدة الأوثان، فضلا عن الديانات الثلاث المشهورة.
و حيث إنّ الشريعة الإسلامية جعلت الكعبة قبلة للمسلمين و إليها حجّهم و موقع الكعبة هو الحجاز، و هي أرض- كما يعلم كل أحد- قاحلة و حرة سوداء، لا يعيش فيها ضرع و لا زرع، و أهل الحجاز على الغالب فقراء بالفقر المدقع الذي كان يدفعهم إلى استطابة أكل الحشرات و الوحوش من الضب، و اليربوع، و الأرانب و نحوها، بل ربما يضطرون في بعض السنوات إلى أكل الدم الممتزج بالصوف، بل ما هو أسوأ من ذلك، فقضت الحكمة الإلهية الإرفاق بأهل تلك البلاد و التوسعة عليهم.
و من يتجوّل في القبائل الحجازية و ينظر شحوب تلك الشعوب، و غبرة وجوههم، و رثّ ملابسهم، و جشوبة طعامهم، يعرف سعة الرحمة الإلهية،
ص: 119
و الشفقة الربوبية في فرض هذا النسك.
و من يراجع الآيات الكريمة الواردة في هذا الموضوع يعرف جليا أنّ الحكمة و الغرض من هذا الحكم هو التوسعة على الفقراء و الهلكى الذين هم أكثر أهل الحجاز، و إشباع نهمهم و سد فورتهم، يقول جل شأنه: فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْبٰائِسَ (1)، ثمّ يقول: فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْقٰانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ (2).
فقول السائل: إنه لا مصرف لها، غير صحيح، و كل أحد يعلم أنّ جمعا كبيرا من أعراب تلك النواحي يجتمعون و يتقاسمون تلك الذبائح فيما بينهم، و يتناهبون تلك الأغنام انتهاب الغنائم، و إن بقي فضلة منها فهي من التوابع القهرية، و الغالب أنّ الخير الكثير ليستتبع الشر اليسير، و هذا أيضا لا يعود إلى نقص في التشريع؛ فإنّ قبائل الحجاز لو اجتمع نصفهم فضلا عن كلهم لما كان يقع سهم كل واحد منهم شاة واحدة من تلك الأضاحي الكثيرة؛ لأنهم يبلغون على أقل تقدير أكثر من مليونين، و نصفهم على أقل فرض فقراء، فلو اجتمعوا في صحراء منى و عرفات، و هي قريبة منهم، أو أرسلوا وكيلا، أو وكلاء يحملون إليهم حصصهم لكان سهم كل عشرة شاة واحدة، و لكن هم المقصرون في الانتفاع بما فرضه اللّه لهم على حدّ قول شاعر الفرس:
«گر گدا كاهل بود تقصير صاحب خانه چيست»
أما تعين مقدار من النقود بدلها فهو خلاف غرض الشارع الذي يحب إطعام الطعام، و بذل الزاد لإشباع الجائع، و دفع كضّة النهم، و القرم، فإنّه قد يمر
ص: 120
على البدوي في الصحراء الشهر أو الشهرين لا يذوق فيها طعم اللحوم، و لا يشمّ قتار الدسوم، على أنّ الشارع ببركة ما أوجب على أغنياء المسلمين في الحج إلى تلك المشاعر و الشعائر، و ما ينفقون فيها من الأموال الطائلة قد صبّ عليهم البركة صبّا، و ملأ جيوبهم بالنقود، فأوجب الأضاحي تكميلا لغاية، و اتساعا في المنفعة، و استقصاء في الأخذ بأسباب الجود، و عموم الكرم.
و لعل هذا هو السر أو بعض المصالح و الحكمة التي نظرت إليها العناية العليا و الرعاية الأزلية حتى صارت القرابين و الأضاحي من النواميس المقدسة في أكثر الشرائع و الأديان، و حثت على الإكثار منها، و لأن كان هذا بالغا مرتبة الرجحان في سائر الأقطار و البلدان فهو للحجاز، و لا سيّما البيت الحرام، و هو بواد غير ذي زرع، و لا سبد، و لا لبد، ينبغي بل يلزم أن يكون بحد الوجوب، و هكذا كان الأمر من لدن حكيم عليم.
نعم، يلزم على أولياء الأمور في تلك المشاعر التنظيم و العناية بما يستوجب الانتفاع بتلك الذبائح، و دفع مضارها، أو بيع ما لا يمكن الانتفاع منه إلّا بالاحتفاظ به بعمل و تدبير كجلودها و أصوافها، فيلزم إصلاحه أولا ثمّ بيعه و توزيع ثمنه على الفقراء، أو المصالح العامة بإجازة حاكم الشرع، أو الحاكم العادل.
كيف يمكن التوفيق بين قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا حِسٰابَهُمْ (1)، و قوله عليه الصلاة و السلام في زيارة الجامعة المشهورة: «و حسابهم عليكم»؟
ص: 121
هذا سهل واضح، و ما أكثر التوسع في لغة العرب، و أنواع الكنايات و المجاز فنقول: بنى الأمير المدينة، و نقول: بنى العمّال المدينة. الأول تسبيبا و إشرافا، و الثاني مباشرة و عملا، و اللّه سبحانه هو الذي يأمر أنبياءه و أوصياءهم بمحاسبة الخلق، فيكون حسابهم عليه أمرا و إشرافا و إحاطة و الأنبياء محاسبون معاشرة، و ولاية، و يصحّ نسبة الحساب من هذه الحيثيات إلى اللّه جل شأنه من جهة، و إلى الأئمة عليهم السّلام من جهة أخرى.
ما الحكمة في تعدد أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله؟
أننا لو أردنا أن نكتب مؤلفا خاصا في الحكم، و المصالح التي اشتملت عليه هذه الشرعة النبوية و السياسة المحمدية لكان يلزمنا القيام بأكبر مؤلّف، و قد لا نحيط بسائر الجهات منها.
نعم، نعلم على الجملة أنّ اقترانه بكل واحدة من تلك الزوجات كانت المصلحة في تلك الظروف المعينة تقتضي وجوبه الحتمي، و للمجموع أعني لمجموع التعدد إجمالا حكم و مصالح أيضا توجبه و تلزم به، و لا يسعنا إيضاح تلك المصالح جميعا، و لكن نشير إلى واحدة منها إشارة إجمالية، و هي:
أنه- سلام اللّه عليه- أراد أن يضرب المثل الأعلى و البرهان الأتم الأجلى
ص: 122
لنفسه الملكوتية و مقدار رزانتها، و قوة استقامتها و عدلها، و عدالتها، و كل أحد يعلم كيف تتلاعب النساء بأهواء نفوس الرجال، و تتصرّف فيها حسب ما تشاء، كما يعلم كل أحد ما بين النساء و الزوجات من التنافس، و الغيرة، و إعمال الدسائس و المكائد فيما بينهن، و اضطراب حبل النظام العائلي و القلق الداخلي، و هذه الذات المقدسة الغريبة في جميع أطوارها، ضربت المثل الأعلى في ضبط النفس، و إقامة العدل بين زوجاته المتعددات، و عدم الانحراف عن محجة العدل و الإنصاف بينهن قيد شعرة، مع جمعه لهنّ في منزل واحد، و اختلافهن في السن و الجمال، و سائر الجهات التي تستهوي النفوس.
و نحن نجد في الكثير الغالب أنّ الرجل الصلب القوي قد يعجز عن إرضاء زوجتين و إقامة ميزان العدل بينهن على أتم حدوده و مقاييسه، و لا بد أن ترجح إحدى الكفّتين عنده و لو قليلا، مهما بالغ في التحفظ و الكتمان، فكيف بمن يحسن معاشرة تسع نساء، أو أكثر في منزل واحد، فيرضي الجميع، و يعدل بين الكل، و يخضعن له جميعا، و هن «حبائل الشيطان»، و لا يرضيهن في الغالب كل ما في الكون من ثروة و سلطان، حتى أنّ إحدى زوجاته و هي سودة بنت زمعة (1) لما أراد النبي طلاقها و هبت لعائشة ليلتها، و لم ترض أن يطلّقها، و قالت:
ص: 123
ص: 124
أريد أن أحشر في أزواجك، و كانت بيئته و قلة ذات يده، و جشوبة عيشه، و خشونة أزيائه، كلها تستدعي على الدوام بينهن حدوث الشغب، و تقطع حبل الراحة بمقاريض التعب، و لكنه- على ذكره السلام- لم يحدث شي ء واحد من ذلك في بيته مدة عمره بينهنّ، سوى واقعة واحدة هي في غاية البساطة، بل هي من أعلام النبوة و دلائل الوحي و الرسالة.
و إحدى قضايا الإعجاز، و هي قضية مارية القبطية (1) التي نزلت فيها
ص: 125
أوائل سورة التحريم، و في قضية الزوجتين اللتين أودعهما النبي صلّى اللّه عليه و آله سرا فأظهرتاه.
و المرأة مهما كانت رخوة العنان ضعيفة الكتمان و لكن أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يصهرهنّ في بوتقة الامتحان حتى يظهر الذهب الخالص من المزيف.
و على كل حال، فقد أظهر اللّه جل شأنه لنبيه في تعدد الزوجات معجزتين:
الأولى: في داخليته و عدله المستمر بينهن أكثر من عشر سنين.
ص: 126
و الثانية: و هي أكبر آية و أعظم إعجازا، و أسطع برهانا، ذاك أنّ من يستقرئ سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله بعد هجرته من وطنه البيت الحرام إلى مصيره الأخير- يثرب- يجده في هذه السنوات الأخيرة من عمره الشريف كالرجل الفارغ البال من أثقال العيال، يجده كالوادع الآمن و الهادئ المطمئن، كأنه لا علاقة له بشي ء من النساء، و لا واحدة، فضلا عن المتعدد، فهو قائد جيش، و مشرع أحكام، و إمام محراب، و قاضي خصومات، و عاقد رايات، و مؤسس شريعة، و عابد منقطع إلى التهجد و العبادة، و لقد كان يصلي حتى و رمت قدماه، فكيف مع ذلك كله استطاع إدارة تسع نساء أو أكثر مع شدة الغيرة و التنافس بينهن؟ و كيف لم يقسمن فكره و يشغلن باله عن تلك الأعمال الجبارة و العزيمة القهّارة؟ فهل هذه إلّا معجزة بذاتها، و القدرة الإلهية بأجلى مظاهرها؟
و هل تريد لتعدد الزوجات أعظم من هذه الحكمة، و أبلغ من هذه الفائدة؟
و لعل هذه واحدة من ألف، و إشراقة من شمس، و إلّا فالمسألة كما ذكرنا تستحق أن تفرد بالتآليف لكثرة ما فيها من السياسات و الحكم.
ما وجه القسم بالتين، و الزيتون؟ و ما سبب امتيازهما بين المخلوقات؟
و ما تفسيرها؟
جرت سنة اللّه العظيم في كتابه: أنّ يقسم بمخلوقاته، العظيمة البركة، العميمة الفائدة، كالشمس و القمر، و النون و القلم، و الرياح الذاريات و المرسلات، كما يقسم بالقرآن الذي هو شمس الهداية الحقيقية، و هداية
ص: 127
الأرواح، و النفوس و العقول، بل بما دون ذلك كالصبح و الليل، و الجواري الخنّس، و الكواكب الكنّس، و أمثال ذلك مما هو كثير في الكتاب الكريم.
و حيث إنّ التين و الزيتون من الأطعمة العظيمة الخير و البركة؛ فإنّ التين فاكهة و حلوى، رطبة نافع، و جافة أنفع، و هو غذاء و دواء، و طعام و إدام، و فيه منافع كثيرة، و مثله الزيتون و لعله أشرف و ألطف، و أعظم بركة و نفعا، باعتبار دهنه الذي لا تعد و لا تحصى منافعه و خيراته و خواصه و آثاره، و هو مع أنه من أحسن الإدام، و الصبغ للآكلين، فيه منافع عظيمة و خواص بليغة في المعالجات، فلهذا حسن القسم بهما لعظيم فائدتهما.
هذا كله بناء على أنّ المراد بهما تلك الثمرتان، أو الشجرتان المباركتان، و من الجائز القريب، بل لعله الأقرب أن المراد بالتين جبل يكثر فيه شجرة التين من جبال القدس و حبرون (1) الذي تجلى عليه الجليل لإبراهيم الخليل عليه السّلام، و الزيتون جبل الزيتا الذي تجلى الرب فيه لإسرائيل يعقوب أبي الأسباط، و للمسيح فيه مواقف كثيرة، و يشهد له عطف طور سينين عليهما، و هو الجبل الذي تجلى فيه الجليل لكليمه موسى عليه السّلام، ثمّ عطف عليهما البلد الأمين، و فيه جبل حراء الذي تجلى فيه الحق لحبيبه محمد صلوات اللّه عليه و آله، فهذه
ص: 128
الجبال الأربع هي مظاهر الأنوار الإلهية، و التجليات الربوبية على الأرواح النبوية و الهياكل البشرية، و لا شي ء أحق منها للحق بأن يقسم بها من مخلوقاته، و اللّه أعلم و أحكم بأسرار كلماته و سائر آياته.
لأيّ علة منع لبس خاتم الذهب وزر الذهب للرجال؟
حق السؤال أن يكون هكذا: لما ذا منع الدين الإسلامي من لبس الرجال الحرير و الذهب؟
و الجواب: أنّ الدين الإسلامي يريد من الرجال الخشونة و الصلابة، و أن يكونوا أشداء و أقوياء، و لما كان في الحرير و الذهب من النعومة و الطراوة و الميعان و اللمعان ما ليس في غيرهما، حرّمهما على الرجال لعلمه تعالى- و لعله من المشاهد المحسوس- أنّ الزينة بمثل هذه الأشياء يوجب التأنث و التخنث و سفالة الهمة، و الميل و الانقياد إلى الشهوات البهيمية، و يسقط همّة الرجل فيها عن السمو إلى نيل المعالي و عظائم الفتوح و عزائم الروح، و لا يقاس هذا بلبس الأحجار الكريمة، و الجواهر الثمينة؛ فإنها توجب العزّة و الكرامة و السمو و علو الهمة، و أين هذا من نعومة الحرير و لمعان الذهب التي تلائم ربّات الحجال، و يجب أن تترفع عنها الرجال حتى لو لم يحرّمهما الشارع.
فللّه شريعة الإسلام ما أعظمها و أجلّها، و لله هذه الأمة المسلمة ما أضعفها و أجهلها، و الحكم لله، و لا حول و لا قوة إلّا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب.
ص: 129
مسألة مهمة و هي مسألة الفرق بين الحقوق و الأحكام (1)
الحق نحو سلطنة، و السلطنة عبارة عن القاهرية و التسلط، و لها مراتب كثيرة، أعلاها و أجلها هو سلطنة الحق تعالى شأنه و قهّاريته على مخلوقاته، و هو حق لا يتغير و لا يتبدّل، و لا ينتقل بحال أبدا، و يستحيل سقوطه بوجه من الوجوه، و هو ذاتي متأصل، و إليه ترجع سائر الحقوق بل الحقوق كلها له جلّ شأنه، و بسلطنته خلق الخلق و ثبت الحق، فحق الخالقية و الإيجاد و الجعل و التكوين حق ذاتي غير مجعول، و هو ثابت له تعالى في تمام الأحوال، و له آثار كثيرة لا تعد و لا تحصى.
و من آثاره شكره و حمده و عبادته و إطاعته و تسبيحه و تقديسه، و القيام بما أمر به، و الانتهاء عما نهى عنه، و هذه السلطنة العظمى كما أشير إليه لا تنالها يد الجعل، و هي من خصائصه عز شأنه، و لا توجد في غيره، و أقرب المراتب إلى هذه المرتبة من الحقوق حق النبوة، ثمّ حق الولاية، ثمّ حق العلماء و المعلم و الأب و الابن، و حق الجوار و الصحبة و أمثالها، و جميع هذه الحقوق ترجع إلى حقه تعالى في المعنى باعتبار صدور الكل منه، و رجوع الكل إليه. و لكل واحد من هذه الحقوق آثار كثيرة يترتب عليها.
ص: 130
ثمّ إنّ أمهات الحقوق بعد حقه تعالى تنحصر في ثلاثة أقسام؛ لأنّ السلطنة الثابتة للإنسان إما أن تكون على إنسان آخر، كسلطنة النبوة و الولاية، و غيرهما من الحقوق متنزلة إلى أضعف المراتب كحق الصاحب و الجليس، و إما أن تكون تلك السلطنة على الأعيان الخارجية غير الإنسان، و إما على النسب و الإفاضات.
و إن شئت قلت: إنّ الحق نحو سلطنة إنسان على غيره مطلقا، من إنسان أو أعيان أو عقد أو إضافة أو نسبة.
أما الأول فقد يكون منشؤه أفعال خارجية و أمور حقيقية، كالهداية و الإرشاد و التعليم، فإنّ هداية النبي صلّى اللّه عليه و آله و إرشاده إليه تعالى صار سببا و منشأ لحقه صلّى اللّه عليه و آله على العباد، و هكذا الولي و العالم و المعلم إلى آخر المراتب و أضعفها، و في مقابل هذه الهداية و الإرشاد لا بدّ من الشكر، و الامتنان و الانقياد و الإطاعة.
و هذا النحو من الحق لا يتبدل و لا يتحول و لا ينتقل و لا يقبل الإسقاط، و لا المعاوضة؛ لأنّ منشؤه لا يقبل شيئا مما ذكر؛ بداهة أنّ الفعل الخارجي بعد وقوعه على وجه مخصوص لا يتغير عما وقع عليه.
و قد يكون منشأ الحق أمورا اعتبارية، و جهات إضافية مما ليس لها ما بإزاء في الخارج، نعم لها منشأ انتزاع محقق، لا كأنياب الأغوال، و ذلك مثل حق المولى على عبده، و الزوج على زوجته، فإنّ حق المالك و الزوج نشأ من الملكية و الزوجية، و هما من المعقولات الثانوية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج، و لكنهما منتزعان من أمر خارجي، و هو العقد الخاص الصادر من أهله في محله باعتبار الشرع، أو العرف، و ليس هو من الأمور الوهمية، بل الأمور
ص: 131
الواقعية بحسب منشأ انتزاعها.
و هذا النحو من الحقوق لا يقبل النقل و الإسقاط و المعاوضة ابتداء كالأولى، نعم يمكن رفع الحق بتوسط رفع منشأ انتزاعه، أو حلّه، و هذه هي السلطنة على تلك النسب و الإضافات من حيث وضعها و رفعها.
و أما سلطنة الإنسان على الأعيان من مال و غيره فقد يكون السبب فيه، و العلة، أمرا اختياريا من تجارة أو إجارة أو صناعة أو زراعة أو حيازة و نحو ذلك، و قد يكون أمرا غير اختياري، كالإرث و الدية و نحوهما، و من هذا القبيل تملك الفقراء و المساكين و السادات للحقوق. و تلك الأسباب بقسميها قد توجب السلطنة المطلقة، أي الملكية العامة، و قد توجب سلطنة مقيدة محدودة، و هي الحقوق الخاصة، كحق الرهن و الخيار و الحجر و نحوها، كما أن حق الراهن مثلا و سلطنته على العين المرهونة ما زالت و لا انتقلت بشراشرها و جميع شئونها، بل له استرجاعها و لو ببيعها، فكذلك حق المرتهن، فإنه حق و سلطنة مقيدة بعدم أداء الدين، و الاستيلاء على الاستيفاء.
و هذه الحقوق كلها- بأنحائها المختلفة و اعتباراتها الملحوظة- قابلة للنقل و الانتقال و الإسقاط و المعاوضة، و يتحقق فيها عنوان الغصبية؛ لأنها أجمع حقوق مالية و أمور اعتبارية جعلية، فهي تتبع مقدار جعلها، و تدور مدار اعتبارها، فإنها أحكام وضعية تستتبع أحكاما تكليفية، فمن غصب عينا أو منفعة للغير أو ما فيه حق له، كحق الرهن أو الخيار أو نحو ذلك، فصلى فيه، تكون صلاته باطلة، و هو ضامن له لو تلف.
بالجملة: فتلك الحقوق هي عبارة عن أحكام وضعية تستتبع أحكاما تكليفية من حرمة أو وجوب، و قد ينعكس الأمر فيكون الحكم التكليفي منشأ
ص: 132
لانتزاع حكم وضعي، بمعنى أن الحكم التكليفي المتعلق بموضوع خاص ينتزع منه صورة حق و سلطنة، و لا سلطنة هناك و لا حق واقعا، بل كلها أحكام تكليفية صرفة، كما في المعابد و المساجد المحترمة، و كالشوارع العامة، و الأسواق المشتركة بين سائر العناصر و الطبقات، فإنّ جميع المشتركات العامة سواء كانت مشتركة بين عامة البشر كالطرق و الشوارق و الأسواق و أمثالها، أو بين نوع خاص منهم، مثل مكة المشرّفة و منى، أو على صنف مخصوص، كالحضرات و المدارس و أمثالها، محكومة بأنّ من سبق إلى مكان من هذه المواضع فهو أحق به، و معنى هذا الحق أنه لا يجوز لغيره دفعه عنه و مزاحمته فيه، فيرجع هذا الحق إلى حكم تكليفي صرف، و هو جواز الانتفاع به، و الجلوس فيه، أو المرور لكل إنسان، أو لكل مسلم، و هكذا، و حرمة مزاحمة الغير له، فليس هنا سوى أحكام تكليفية متبادلة ينتزع منها حق لمن له الحكم، و يكون منشأ انتزاع ذلك الحق من الحكمين المتضايفين بين من يجوز له الجلوس و الانتفاع، و من يحرم عليه المزاحمة، و ليس الحق هنا كما هو في سائر المقامات من كونه نحو سلطنة على الغير مقيدة أو مطلقة تستتبع تلك السلطنة أحكاما وضعية و تكليفية لمن له السلطنة و عليه و لغيره و لغيره و عليه.
و إذا كانت العين التي هي متعلق السلطنة لها مالية أو ترجع إلى مال كان من آثارها حرمة غصبها، و لزوم ضمانها، و بطلان كل تصرف فيها بدون رخصة صاحب الحق و السلطنة المعبر عنها بالمالك.
و من هنا ظهر أنّ المساجد و المدارس و ما على شاكلتها لا يعقل تحقق الغصب فيه أصلا:
أما المساجد فقد اخترنا زوال ماليتها كلية، و جعلها محررة كما في تحرير
ص: 133
العبد الذي تزول ماليته بعتقه و تحريره، و كذلك المعابد و المشاهد و المشاعر، و بعد ارتفاع المالية عنها لا يعقل تحقق الغصب فيها، كما لا يعقل تعلق السلطنة لأحد بها، فلو دفع إنسان آخر كان قد سبق إلى مكان فيها لم يغصب منه مالا، و لا دفعه عن حق مالي له في المسجد أو المشهد، نعم فعل حراما، و لكن لو صلى الدافع في مكان المدفوع له لم تبطل صلاته؛ لأنهما سواء من حيث الاستحقاق و جواز الانتفاع.
و أما الأسواق و الشوارع فهي و إن لم تزل عن المالية بالكلية كما في المساجد، و لكنها ما دامت متصفة بذلك العنوان الخاص- أعني عنوان المرور و السوقية- فليس لأحد سلطنة خاصة به دون غيره على شي ء منها، بل الجميع فيها شرع سواء، يجوز لكل واحد منهم الانتفاع بها على النحو الخاص، و لا يجوز للاحق مزاحمة السابق، و لكن لو زاحمه لم يكن أخذ منه حقا ماليا يجب ضمانه و دفع بدله، بل يكون فعل حراما، و خالف تكليفا شرعيا.
و الحاصل: أنه لم يغتصب منه عينا أو منفعة مملوكتين، أو عينا ذات حق مالي كحق الرهن و الحجر و نحوهما.
و أما الأعيان الموقوفة فهي على قسمين:
موقوفات عامة ليس الغرض منها سوى إباحة نفس الانتفاع، و حبس العين، و وقوفها عن الانتقال، و سائر التصرفات، و لا ملكية هنا، و لا مالية أصلا.
و موقوفات خاصة، الغرض منها تمليك المنفعة و حبس العين، فالمنافع هنا باقية ملحوظة للواقف كما هي باقية في نظر العرف و الشرع، بخلافها في القسم الأول، فإنها قد ألغيت في نظر الواقف، فلا العين و لا المنافع مملوكة، و إنما أباح المالك الانتفاع فقط، كما في المدارس العلمية و الخانات في طرق
ص: 134
المسافرين و أشباهها، فإنّ الواقف لم يملكهم المنفعة، و لذا لا يقدرون و لا يسوغ لهم نقلها و هبتها و بيعها، بخلافها في النوع الثاني، و ليس هو في الحقيقة حق بل صورة حق، و إنما هو حكم محض، يعني جواز انتفاعه بمنافع العين الموقوفة، كجواز انتفاعه بالطرق و الشوارع و المشتركات العامة، و إنما ينتزع صورة ذلك الحق من حكمين: جواز الانتفاع لمن سبق إلى مكان منه، و حرمة مزاحمة الغير، فالمنافع مسبلة و الانتفاع مباح.
و الحاصل: أنّ الوقف الذي هو عبارة عن تحبيس الأصل، تارة يكون قصد الواقف مجرد انتفاع المسلمين، كوقف القرآن على الحرم الشريف، و وقف المشاهد و المعابد، و المعابر كالخانات و التكايا، و هذا هو الوقف العام، و قد يكون قصده تمليك المنفعة لطائفة مخصوصة أو أفراد متعاقبة مع بقاء العين، و وقوفها عن الجري و الحركة، و هذا هو الوقف الخاص الذي يجري على المنفعة فيه جميع آثار الملكية و النواقل. بخلاف القسم الأول الذي لا يجري فيه شي ء من خواص الملك و آثاره، الكاشف ذلك عن عدم الملكية أصلا، و إنما هو حكم محض، نعم الولاية العامة فيه للإمام أو نائبه، و الخاصة للمتولي الخاص إن كان.
و أما الثالث، و هو السلطنة على النسب و الإضافات كعقد العقود و حلها، فحيث إنّ حقيقة أمرها و واقع لبّها ترجع إلى شئون السلطنة على العين، فإنّ من شئون السلطنة على الدار و الدابة مثلا هو نقلها بالعقد اللازم الذي لا خيار فيه أو بيع خياري يمكنه حله، و هكذا سائر العقود، لازمة أو جائزة، و جميع تلك العقود إن كان متعلقها مالا فهي مالية، و الحقوق المتعلقة بها حقوق مالية، كالخيار و الرهن و الحجر كلها أيضا تقبل بحسب طباعها و أصل وضعها للنقل و المصالحة و الإسقاط و المعاوضة إلّا أن يمنع الدليل الخاص عن شي ء من ذلك.
ص: 135
و أما ما لا يتعلق بالمال، كحقوق الولايات و الوصايات و أكثر حقوق الزوجية فإنّها بحسب الأصل و القاعدة لا تقبل شيئا من ذلك، و هي في الحقيقة سلطنة خاصة، و سلطنة مقيدة.
و الخلاصة: أنّ الحق إن كان جل الغرض منه استيفاء أو استعادة أو استفادة مال للإنسان فذاك حق مالي، تجري عليه جميع تلك الأحكام. و إن كان جل الغرض منه شئون أخرى لا ترجع إلى استفادة مال لنفس صاحب الحق، بل الغرض السلطنة على حفظ مال الغير أو توفيره، و سائر التقلبات و التصرفات فيه أو نحو مخصوص من التصرفات، أو غير ذلك من الشئون التي لا ترجع إلى جر مال لصاحب الحق، فمقتضى القاعدة في القسم الأول هو جريان الإسقاط و النقل و المعاوضة فيه إلّا ما خرج، و تقتضي القاعدة في القسم الثاني عدم جريان شي ء من ذلك إلّا ما خرج أيضا.
و هنا قسم ثالث من الحقوق، و هو ما اشتمل على كلا الجهتين- أعني جهة المالية و جهات أخرى- و ذلك كعقود الأنكحة التي يقال إنها برزخ بين العبادات و المعاملات، فمن حيث المهر تكون جهة مالية، و من حيث إنّ الغرض المهم من عقد الزواج هو حفظ النظام و تواصل النسل و صلاح البيت و العائلة، فهو عقد غير مالي، و حيث إنّ هذه الجهة أقوى من الأولى، بل لا أثر للأولى في جنب الثانية أصلا، و لذا ربما يصح بدون المهر، و لذلك صارت عقود الأنكحة عقود غير مالية، و أكثر الحقوق فيها حقوق لا تقبل النقل و لا الإسقاط، و لا المعاوضة إلّا ما خرج و قام عليه الدليل بخصوصه.
فالضابطة الكلية في المقام: أنّ الحق الذي علم أن عمدة الغرض منه هو المال فالأصل فيه قبول المعاوضة و النقل و الإسقاط، و ما علم بأنّ عمدة الغرض
ص: 136
منه غير ذلك فالأصل فيه عدم قبوله لشي ء من ذلك، و مع الشك في ماليته و عدمها، و قبوله لتلك الأحكام و عدم قبوله، فالمرجع إلى الأصل، أي أصالة عدم ترتب الأثر في كل مقام بحسبه، و لا وجه للرجوع إلى عمومات العقود، مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، و «الصلح جائز بين المسلمين»، و أمثال ذلك؛ لأنّه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
و من جميع ما مرّ عليك ظهر لك أنّ الصلاة في ملك الغير عينا أو منفعة أو حقا من غير رضاه باطلة بالضرورة؛ لأنها حرام، و الحرام لا يكون مقرّبا.
و الكاشف عن الرضا: إما القول مع العلم الصريح، أو شاهد الحال، أو الفحوى؛ بداهة أنّ الرضا حال من أحوال النفس التي لا تحسّ إلّا بواسطة كاشف يكشف عنها، أو أمارة تدل عليها، كسائر أوصاف النفس القائمة بها من الحزن و الفرح و الانقباض و الانبساط، و كالملكات مثل الشجاعة و الجبن التي لا تعرف إلّا بكواشفها.
و الكاشف عن الرضا إما القول الصريح، و هو أقواها و أدلها، أو شاهد الحال، مثل من يفتح بابه و يتلقى الداخلين عليه بالبشر و البشاشة، أو الفحوى، و هي الأولوية، مثل أن يأذن لغير العبد أو الولد من جهة المولى و الوالد، فيكشف ذلك عن إذنه لهما بطريق أولى.
و اعتبار تحقق الرضا بأحد هذه الكواشف على سبيل منع الخلو في صحة التصرف بمال الغير و حرمته بدونه مما لا كلام فيه.
نعم، يظهر من كلمات أكثر العلماء جواز الصلاة و المكث في الأراضي الواسعة، و الوضوء و الشرب من الأنهار الكبيرة.
و قد استمرّت السيرة المستمرة الشائعة على تلك التصرفات من دون
ص: 137
حاجة إلى إحراز رضا المالك أو إذنه، بل تجد عامة المسلمين يصلون و يمرون في تلك الأراضي التي يعلمون بأنّ لها مالكا مخصوصا، و يتوضئون و يشربون من تلك الأنهار و لا يخطر ببال أحدهم رضا المالك و عدمه، و إذا خطر ببال أحدهم لا يعتني و لا يتوقف عن أكثر أنحاء التصرفات، كالنزول و التظليل و ضرب الخيام إلى غير ذلك، و قد اختلفت كلمات الأعلام في مدرك ذلك، و وجه صحته مع قضاء تلك القاعدة المحكمة شرعا و عقلا بحرمته، و فساد العبادة معه.
فعن صاحب المستند (1) على ما يخطر ببالي أنه قال: بأنّ القدر المتيقن
ص: 138
من أدلة حرمة الغصب هو ما إذا علم بمنع المالك و عدم رضاه، أما مع الشك و احتمال الرضا فلا دليل على الحرمة، و هو كما ترى، فإنّ الأدلة كلها ظاهرة بل صريحة في خلاف مدعاه، و أنّ الجواز معلق و مشروط بالرضا الذي لا يحرز إلّا بالعلم أو الظن المعتبر، مثل قوله: «لا يحل مال امرء إلّا بطيب نفسه»، لا تعليق الحرمة بالمنع و عدم الرضا، مضافا إلى استلزامه الهرج و المرج و فساد نظام العالم؛ لاستلزامه جواز تصرف كل أحد في مال غيره إلّا أن يمنعه أو إلى أن يمنعه، على أنّ قبحه عقلا كاف في حرمته شرعا، بناء على الملازمة.
و أضعف منه ما قد يقال من كفاية الرضا التقديري الحاصل في مثل تلك الموارد غالبا، و قد عرفت قريبا أنّ الرضا و طيب النفس حال من الأحوال النفسانية، و ما لم يكن حاصلا و محققا لا يصير وصفا حقيقيا.
و الحاصل: أنّ مقتضى حكم العقل، و ظاهر الأدلة الشرعية، هو اعتبار وجود الرضا و الطيب من المالك في جواز التصرف في ماله، فلا يجوز التصرف بمقتضى الحصر إلّا بعد طيب النفس، و الرضا التقديري ليس برضا حقيقة بالحمل الشائع، و إنما الرضا هو تلك الصفة الخاصة التي تقوم بالنفس، و لا تحصل إلّا بعد مقدمات كثيرة، و تصورات متعاقبة، مضافا إلى استلزامه اختلال النظام أيضا؛ فإنّ كل فقير مضطر حينئذ يجوز له التصرف في مال غيره مع عدم رضاه فعلا باعتقاد أنه لو اطّلع على شدة فقره لرضي و طابت نفسه، بل يمكن تسرية ذلك حتى مع المنع الفعلي، و هو كما ترى.
ص: 139
و قد يقال: إنّ الوجه في ذلك هو العسر و الحرج، و أنت خبير بأنّ الحرج إنما يؤثر في ارتفاع الأحكام الإلهية، أي ما يتعلق بحقوق اللّه تعالى، و لا يوجب العسر و الحرج استباحة أموال الناس بغير رضا منهم.
نعم، ورد في خصوص الأكل في المخمصة جواز تناول ما يتوقف حفظ النفس المحترمة عليه، و لكن مع ضمانه بالمثل أو القيمة، كما ربّما يستشعر ذلك من الآية الشريفة، و الذي يخطر لنا في وجه صحة ذلك أحد أمرين:
الأول: أنّ حقيقة الغصب هو التصرف في مال الغير، و تحقق عنوان التصرف موكول إلى نظر العرف، و هو يختلف باختلاف المقامات و الأشخاص و الأزمان، و الأعيان التي يقع التصرف فيها، و الأعمال التي يتحقق التصرف بها، فربّ عمل يعد تصرّفا و إن كان قليلا، و ربّ عمل لا يعد تصرّفا و إن كان كثيرا، فمثل الاستضاءة بضوء الغير، و الاستظلال بظل أشجاره أو داره لا يعدّ تصرّفا و إن عظم الانتفاع به، و وضع اليد و القدم على بساط الغير أو فراشه يعدّ تصرّفا و إن لم تكن فيه منفعة. فالاستطراق و المرور في الأراضي الشاسعة، و الوضوء و الشرب من الأنهار الكبيرة لا يعدّ تصرفا؛ فإن تصرف كل شي ء بحسبه، و التصرف في الأراضي الواسعة إنما يكون بمثل البناء أو الغرس أو الزرع بها أو نحو ذلك.
و التصرف في النهر الكبير أن يسقي منه، أو يشق نهرا صغيرا في أثنائه، و حيث لا يعدّ تصرفا لا يكون غصبا، و لا سيما و أنّ جميع الأدلة الدالة على حرمة الغصب مرجعها إلى حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير بغير رضاه، فإذا زال التصرف زال موضوع القبح و الحرمة.
الثاني: أنه لا يبعد كون أصل الملكية المجعولة من المالك الحقيقي في مثل
ص: 140
هذه الموارد ضعيفة؛ لضعف سببها و هو الإمضاء المنتزع من وجوب الوفاء، فكأنّ مالكها ليس له السلطنة التامة هنا كسلطنته على سائر أمواله و أملاكه، نعم له السلطنة على جميع التصرفات و التقلبات إلّا منع المارة من النزول و المرور و نحو ذلك.
و معلوم أنّ السلطنة أمر مجعول يتبع دليل جعله سعة و ضيقا، و شدة و ضعفا، و الملكية من الأمور القابلة للشدة و الضعف، و السعة و الضيق، بالضرورة، و تكون السيرة المستمرة على وقوع تلك التصرفات من غير إذن المالك هو الدليل الكاشف عن ضعف تلك الملكية المستلزم لعدم اعتبار رضاه و إذنه في جواز التصرف في هذا النحو من أمواله، بل يمكن على الوجهين أن يقال بجواز التصرف حتى مع منعه الصريح، و إن كان الاحتياط يقتضي خلافه، و لكنه قويّ، و اللّه العالم.
أما الموقوفات و المسبلات كالمدرسة و الخان و التكايا و الحسينيات و ما أشبهها فنقول: إن نحو الوقف من جهة الواقف لا يخلو من ثلاثة أقسام:
الأول: المحررات، و هي على أقسام: فمنها ما جعل مشعرا أو معبدا، و منها ما جعل وقفا عاما أو خاصا، و منها ما خصص محفلا أو محشدا إلى غير ذلك من الجهات المقصودة للواقفين، و يجمعها جميعا قصد بقاء العين و تسبيل المنفعة على نوع البشر، أو صنف خاص منهم تجمعهم وحدة دين أو مذهب أو عنصر أو غير ذلك، و يشترك الجميع في سلب المالية عن العين و المنفعة و تحريرها، و عدم تمليك المنفعة لأحد، و إنما فائدة الوقف و الغرض منه إباحة تلك الأعيان لطائفة من الناس أو لعامتهم.
و حيث إنّ المنفعة غير مملوكة لأحد بل هو تسبيل و إباحة فلا يعتبر فيها
ص: 141
الإذن و الرضا، بل يكفي ذلك الإذن العام و الرضا الأول بانتفاع كل واحد من لحظه بالعنوان و أباح له الانتفاع.
نعم، من كان خارجا عنه يحرم عليه الانتفاع لعدم شمول إذن المالك له.
و هذا القسم هو الذي أشرنا إليه من عدم تحقق الغصب فيه؛ لعدم بقاء ماليته، و عدم تملك المنفعة لأحد.
الثاني: ما يكون الغرض فيه تمليك المنفعة لأفراد مخصوصة تندرج تحت عنوان خاص، كأولاده أو المشتغلين أو الفقراء و نحو ذلك، و حال هذا القسم حال الملك الخاص في توقف التصرف على إذن المالك أو الموقوف عليه الخاص، فإنّ العين و إن لم تنتقل عن ملك الواقف على الأصح عندنا، و لكن المنافع مملوكة تماما للموقوف عليهم، و هي مضمونة على الغاصب، و تجري عليه جميع أحكام الملك.
و الحاصل: أنّ القسم الأول إباحة الانتفاع، و الثاني تمليك المنفعة، و الفرق بينهما واضح؛ ضرورة أن الموقوف عليه في الأول لا يملك شيئا، و ليس له أن يبيع المنفعة، و لا أن يهبها، و لا يصالح عليها، بخلافه في الثاني.
الثالث: ما يكون برزخا بينهما، فتكون المالية في المنفعة محفوظة، و لكن الملكية لأحد غير ملحوظة، و تلك كالأعيان الموقوفة على المساجد و المدارس كالبساتين و الدكاكين و نحوها، فإن المنفعة محفوظة تباع و تؤجر و تملك، و لكن ليس للمالية الناتجة منها مالك مخصوص كما في الوقف الخاص الذي يملك الموقوف عليه منافعها بتمام معنى الملكية، و جميع آثارها، أما هنا فالموقوف عليهم عاما كان كالمسلمين بالنسبة إلى المساجد و الأعيان الموقوفة عليها للضياء و الخادم و الفرش، أو خاصا كالمشتغلين بالنسبة إلى المدارس و الأموال
ص: 142
الموقوفة للضياء و الماء أيضا، فإنّ الجميع يملكون الانتفاع لا المنفعة، و قد عرفت أنّ ملكية الانتفاع راجعة إلى إباحة الانتفاع و لا ملكية هنا حقيقة.
نعم، مالية المنفعة هنا محفوظة بيد المتولي يبيعها و يؤجرها و ينفقها في تلك الجهات لينتفع بها الموقوف عليهم، و ليست هنا كالمنفعة في القسم الأول التي أسقط الواقف ماليتها عن الاعتبار و أباحها للموقوف عليهم، و حيث إنّ المالية محفوظة و زمامها بيد المتولي فلا بدّ من الإذن، و يتحقق فيها الغصب بالنسبة إلى نفس الأعيان الموقوفة و منافعها، أما بالنسبة إلى مصرفها من الضياء و نحوه فلا يتحقق الغصب بالانتفاع به بدون غصب العين أو المنفعة.
أما الانتفاع فلا يتجه به الغصب و إن حرم مطلقا، أو مع مزاحمة الموقوف عليهم.
و قد استبان لك من كل ما ذكرنا الفرق بين الحق و الحكم، و أنّ الأول نوع سلطنة تستتبع أثرا وضعيا، أو تكليفيا يقبل الإسقاط و المعاوضة غالبا، بخلاف الحكم فإنه خطاب يتضمن الاقتضاء أو التخيير، لا يقبل الإسقاط و لا المعاوضة، فمثل الطلاق و الرجعة فيه حكم لا يقبل شيئا منهما، بعكس النفقة للزوجة فإنها تقبل الإسقاط، كما تقبل المعاوضة.
ص: 143
بسم اللّه الرحمن الرحيم
و له الحمد و به المستعان، و صلى اللّه على محمد و آله الطاهرين
في بيان حقيقة البيع و الملك و الملكية (1)
الملك و الملكية نسبة و إضافة خاصة بين الإنسان و عين مميزة من الأعيان، إما في الذمة، أو في الخارج، أو منفعة عين كذلك، و لا وجود لها إلّا بوجود منشأ انتزاعها، و لا تحقق لها إلّا بتحقق اعتبارها عند العرف و العقلاء، و ليس لها ما بحذاء في الخارج، فليست من المحمولات بالضميمة بل من خوارج المحمول، و من المعقولات الثانوية باصطلاح الحكيم لا المنطقي، فالعروض ذهني و الاتصاف خارجي، كالأبوة و البنوة، لا كالكلية للإنسان، و هي إما مقولة مستقلة أو من مقولة الإضافة.
و على كل حال، فإنما تتحقق عند العقلاء بتحقق منشأ انتزاعها، و هي أمور خارجية تعتبر كأسباب لها عرفا و شرعا، و تلك إما قهرية كالإرث و النذر و نحوها، أو اختيارية و هي إما بفعل الإنسان فقط مباشرة أو تسبيبا، كالحيازة و نحوها، أو بفعله المنوط بغيره و هي عقود المعاملات، و هي إما معاوضات
ص: 144
حقيقية ليس المقصود بالأصالة منها إلّا المال، و هي خمسة: كالبيع و الإجارة و الصلح و الهبة المعوضة و القرض، أو يكون مقصودا بالتبع، فيكون شبه المعاوضات، كعقود النكاح دواما أو انقطاعا.
و الأصل في تمليك الأعيان بالعوض هو البيع، كما أن الأصل في تمليك المنافع بالعوض هو الإجارة، و سيأتي قريبا إن شاء اللّه الإشارة إلى بيان معنى الأصل في ذلك.
و حيث إنّ البيع باعتبار أسبابه و غاياته و أحكامه و ذات حقيقته متعدد الجهات و الحيثيات متكثر الاعتبارات و ليس له على التحقيق عند الشرع و لا المتشرعة حقيقة خاصة، بل هو باق على حقيقته العرفية، لذلك اختلفت عبارات اللغويين و الفقهاء في التعبير عنه بمرادفه و شرح اسمه، و الإشارة إلى بعض خواصه، و لم يكن مرادهم بيان الحد الشارح للحقيقة و الماهية.
فبالنظر إلى ما يحصل به من تبادل المالين قيل إنه مبادلة مال بمال، و بالنظر إلى ما يترتب عليه من النقل و الانتقال قيل إنه نقل العين و انتقالها بعوض، و بالنظر إلى أنه لا يتحقق إلّا باللفظ الخاص قيل إنه هو اللفظ الدال على النقل، و بلحاظ لزوم القبول في تحققه خارجا قيل إنه الإيجاب و القبول الدالان على النقل، و بلحاظ لزوم قصد الإنشاء في حصوله قيل إنه إنشاء تمليك العين بمال، و هكذا كل نظر إلى جهة من الجهات، و لازم من اللوازم و إن كان لازما أعمّ فعبر به، و الكل و إن أصابوا بالنظر إلى الجهة التي أشاروا إليها و لكن حيث إنّ جميع تلك الجهات و إن أشارت إلى الحقيقة من وجه، و لكنها لا تفي بتمام الحقيقة من كل وجه، و لا يتميز البيع به عن اخوته من العقود المملكة، كالإجارة و الصلح و الهبة المعوضة و القرض، لذلك كثر النقض و الإبرام في تلك التعاريف،
ص: 145
و بيان الخلل في تلك العبارات نظرا لكون حقيقة البيع و مفهومه لا يرادف مفهوم المبادلة، و لا يساوي مفهوم النقل و الانتقال و التمليك، و لا إنشاء التمليك.
و يشهد لذلك الاتفاق ظاهرا على أنه لو قال: بادلت أو نقلت أو ملكت لا يكون بيعا، فمفهوم البيع إذا مغاير لكل تلك المفاهيم، مضافا إلى صدق أكثر تلك العبارات على غير البيع من عقود المعاوضات، كالصلح و الهبة المعوضة و غيرها، و لم نجد في كلماتهم على كثرتها من عبّر عن ذات حقيقة البيع و جوهر معناه الذي يمتاز به عن كافة ما يشاركه في النقل و التمليك من عقود المعاوضات.
فنقول و باللّه التوفيق: لا ريب أن للأعيان الخارجية في نظر العرف و العقلاء جهتين: تارة من حيث شخصيتها و وجودها الخارجي، و بما هي دار أو عقار أو بستان أو غير ذلك، و أخرى من حيث ماليتها الناشئة من وفور الانتفاع بها، و كثرة فوائدها الباعثة على توفر الرغبات فيها و كثرة الطلب لها، و مزيد العناية بها، و على مقدار ما في العين من المنفعة و الرغبة تزداد ماليتها و تنقص.
و مالية كل عين هي قوامها و قيمتها الكامنة فيها، فالعين تلحظ تارة بشخصها، و أخرى بقيمتها و ماليتها، فإذا احتاج صاحب العين إلى المال انبعث في نفسه العزم على بذلها و إبدالها بالمال، و لكن لا بمطلق المال، بل بماليته الكامنة فيها، و قيمتها المقومة لها بنظر العرف، و لذا يتحرى البائع قيمته الواقعية، و أن لا يقع فيها غبن و لا نقص، و كذلك المشتري يتحرى أن لا يبذل أزيد من قيمتها، فتمليك شخصية العين بماليتها و قيمتها الواقعية الكامنة فيها هو حقيقة البيع، و بها يمتاز عن سائر العقود سوى الإجارة، فإنها أيضا تمليك المنفعة بماليتها و قيمتها الواقعية، و تمتاز عن البيع بأنها لنقل المنافع، و البيع لنقل الأعيان.
ص: 146
و أما الصلح فهو عقد وضع في الأصل للتسالم و قطع الخصومة.
و الاتفاق على تمليك عين أو منفعة أو إسقاط حق أو دين أمر تبعي، و لو اشتمل على عوض، فلا يلزم أن يكون مالية تلك العين أو المنفعة محفوظة كما في البيع، و لذا يصح الصلح على ما يساوي الألف بواحد أو أقل، كقطعة نبات أو نحوها، فيصح صلحا و لا يصح بيعا.
و في الحقيقة أن العوض في الصلح ليس عوض عن العين المصالح عليها، بل عوضا عن الرضا التام على تمليك العين.
و مثله الكلام في الهبة المعوّضة، فإنّ المعاوضة بين الهبتين لا بين الموهوبين؛ ضرورة أنّ المجانية و كون الموهوب بلا عوض مأخوذ في حقيقة الهبة و ماهيتها، و لكن لا مانع من أن يهبه العين مجانا، و يشترط في ضمن العقد أن يهبه الموهوب له عينا أخرى بقيمتها، أو أقل أو أكثر، فإذا لم يف كان له الرجوع في هبته.
و أما الدين فهو و إن كان تمليك العين لكونها إحدى المصاديق أو بمثلها من سائر المصاديق، فليس حقيقة من باب المعاوضات أصلا و إن استلزم المعاوضة ضمنا و ضمانا.
فالخاصة اللازمة للبيع التي لا توجد في غيره، و الكاشفة عن تمام حقيقته، هي كونه تمليكا للعين من الغير بماليتها منه، و هذا المعنى له ثلاثة أنحاء من التحقق:
الأول: في مقام التصور و الفكر و الإرادة، و هو كمعنى خبري.
و الثاني: تحققه في مقام الإنشاء قولا أو فعلا، حيث يقول: بعت داري من
ص: 147
فلان.
و الثالث: تحققه خارجا و حصول البيع الذي يترتب عليه آثاره واقعا شرعا و عرفا، و ذلك إذا تعقبه القبول مع سائر الشرائط.
فإن نظرنا إلى مقامه في المرتبة الأولى قلنا: هو تمليك العين بماليتها، و إذا نظرنا إليه في المرتبة الثانية قلنا: إنشاء تمليك العين بماليتها، و إذا نظرنا إلى المرتبة الثالثة، قلنا: إنشاء تمليكها بماليتها من الغير مع قبوله.
و بهذا تعرف أنّ كل واحد من الفقهاء نظر إلى مرتبة فعبّر بما يناسبها، وفاتهم الإشارة إلى أنّ العوض ليس هو مطلق المال، بل ماليتها الخاصة الكامنة فيها المقومة لها، التي تعتبر في العرف قيمة لها، فكأنّ صاحب السلعة إذا أخذ قيمتها قد استرد سلعته، و لكن من حيث ماليتها، و باذل المال قد استرده و لكن في ضمن عين تلك السلعة.
و هذا المعنى ارتكازي في النفوس، موجود في أذهان المتبايعين إجمالا، و مغفول عنه تفصيلا، و لذا لو تبين الغبن و الزيادة و النقيصة في الثمن أو المثمن كان للمغبون الفسخ؛ لأنه لم يصل إليه تمام مالية العين، أو دفع المشتري زائدا عليها، فلم يصل إليه في العين تمام ما دفع من المال.
ثمّ إنّ تلك المراتب التي ذكرناها للبيع ليست معان متباينة، و مفاهيم متغايرة، بل هو معنى واحد، و تلك أنحاء تحققاته و أطوار تشخّصه، فإذا قيل:
«البيع و الشراء» فهي مرتبة وجوده المفهومي التصوري، و إذا قال البائع في مقام الإيجاب: بعت، فهي مرتبة وجوده الإنشائي، و إذا قيل: «أحل اللّه البيع و حرّم الربا» فهي إشارة إلى مرتبة وجوده الخارجي بحسب مصاديقه الشخصية.
و أما استعماله في الانتقال فهو من قبيل استعمال لفظ السبب في المسبب،
ص: 148
فإنّ التمليك سبب للانتقال، و عليه يحمل تعريف المبسوط و من تبعه، و تعريف الشي ء بذكر أثر من آثاره ليس بغريب. فكأنهم أرادوا أنّ البيع الذي هو التمليك ما يكون مؤثّرا للانتقال نظرا إلى مرتبة وجوده الحقيقي الذي ترتبت عليه آثاره الخارجية، أي ما هو بيع بالحمل الشائع الصناعي، لا ما هو بيع بحسب المفهوم و الماهية و بالحمل الذاتي، و هذا أحسن من توجيهه بإرادة التبعية، فإنه من البعد بمكان.
و أما استعماله في العقد، بمعنى الإيجاب و القبول كما هو الشائع في لسان الفقهاء، حيث يجعلونه عقدا من العقود في مقابل الصلح و الإجارة و نحوها مما يقابل الإيقاعات، فهو أيضا توسع في الاستعمال، و من علاقة السببية أيضا، كما صرح به الشهيد الثاني (1)، فإنّ الإيجاب بالضرورة سبب للتمليك الحقيقي فيستعمل اللفظ الموضوع للتمليك في سببه و هو الإيجاب و القبول.
و قول شيخنا المرتضى قدّس سرّه: و الظاهر أنّ المسبب هو الأثر الحاصل في نظر الشارع؛ لأنه المسبب عن العقد ... الخ، مشيرا: إلى أنّ مسبب العقد و أثره النقل الشرعي لا التمليك و النقل الحاصل بإيجاب البائع فإنّه غير موقوف على القبول، فاستعمال لفظ البيع الموضوع لتمليك الموجب و نقله من الإيجاب و القبول، أي العقد، استعمال بلا علاقة؛ لأنه لا سببية بين العقد و التمليك الإنشائي، و إنما السببية بين العقد و بين النقل الشرعي الذي لا دخل له بالبيع، غريب جدا،
ص: 149
و منشؤه الذهول عن المرتبة الحقيقية للبيع، و وجوده الخارجي الذي هو التمليك الحقيقي في نظر العرف و العقل، و ليس للشارع سوى الإمضاء و عدمه، و الحكم بالإلزام أو عدم اللزوم.
و بالجملة: فكون التمليك الحقيقي الذي يترتب عليه أثره و هو الانتقال، و تبدل الملكية ثمنا و مثمنا، مسببا عن العقد- أي الإيجاب و القبول- مما لا يمكن إنكاره، و هو ضروري لكل أحد، و لا ينافيه أنّ النقل الإنشائي أثر حاصل بإيجاب الموجب فقط، بل هو مؤيد لما ذكرناه: فإنّ النقل الصوري الإنشائي أثر الإيجاب فقط، و النقل الحقيقي أثرهما معا.
هذا كله مع قطع النظر عن الشارع الذي ليس له سوى الأمر بوجوب الوفاء و الالتزام بما التزما به، أو عدم وجوب الوفاء الراجع إلى مخالفة العرف في الأسباب لتلك الملكية الحقيقية، أو اعتبار بعض الشروط في السبب و هو العقد، لا إلى الاختلاف في حقيقة البيع، أو أنّ العقد ليس مسببا للملكية كما يظهر منه قدّس سرّه، فتدبره جيدا.
و من هنا ظهر الوجه أيضا في استعماله في الإيجاب بشرط تعقبه بالقبول، و الفرق بينه و بين سابقه اعتباري، و هما بالنتيجة سواء، و هو أيضا بعلاقته السببية كما سبق بيانه.
و لا مانع من أن يكون قول المخبر «بعت» مستعملا في الإيجاب المتعقب بالقبول؛ إذ لا ثمرة في الإيجاب المجرد، و قرينة المقام قرينة التجوز باستعمال اللفظ في المقيد لا أنّ القيد مستفاد من الخارج.
و قوله: «نعم تحقق شرط للانتقال في الخارج لا في نظر الناقل ... الخ»، ففيه:
ص: 150
أولا: أنّ الحال في نظر الناقل و نظر غيره سواء في المقام، فإنّ النقل الإنشائي بالإيجاب وحده حاصل في نظر الناقل و في نظر غيره، و النقل الحقيقي غير حاصل به في نظر الناقل و في نظر غيره أيضا؛ إذ لا يعقل أن الناقل يرى حصول النقل الحقيقي بإيجابه فقط، كيف، و هو بإيجابه قد ملك العين، و تملك الثمن، و هو في تمليكه المثمن أصيل، و في تملك الثمن الذي هو ملك المشتري كفضولي يحتاج إلى إجازة المشتري، و إجازته قبوله و رضاه بجملة عمل البائع تمليكا و تملكا، و لذا قلنا فيما سبق: إنّ البيع بتمامه من عمل البائع، و لكن لا يتحقق في الخارج، و لا تحصل ثمرته بنظر العرف و العقل، إلّا بقبول المشتري.
و ثانيا: أنّ الأثر و إن كان لا ينفك عن التأثير، كما أفاده قدّس سرّه، و لكن أثر كل مرتبة لا ينفك عن التأثير في تلك المرتبة لا في مرتبة أخرى، فتأثيره مرتبة الإنشاء لا ينفك عن أثرها و هو التمليك الإنشائي لا التمليك الحقيقي الذي هو أثر الإيجاب و القبول معا.
و ثالثا: أنّ قياس البيع و ما يساويه معنى على الوجوب و الإيجاب قياس مع الفارق، فإنّ الوجوب و الإيجاب من المعاني الإيقاعية الاستقلالية التي يكفي في تحققها صرف إنشائها من طرف واحد، و لا تحتاج إلى إنشاءين، بل يكفيها إنشاء واحد، و الطلب الإيجابي من العالي و السافل و المساوي كله من سنخ واحد، و هو في الجميع يستلزم تحقق الوجوب من الموجب، غايته أنّ العقل يلزم بوجوب الامتثال إن كان من العالي؛ تحرزا من العقاب، دون الأخيرين؛ للأمن من العقاب فيهما، و هذا أمر خارج عن حقيقة الوجوب.
أما البيع فهو من المعاني الارتباطية التي لا تتحقق حقائقها بصرف
ص: 151
إنشائها، و لا يكفي فيها الإنشاء من واحد، و ما أبعد التفاوت بين العقود و الإيقاعات، فالبيع و أخواته من قبيل الأبوة و البنوة، غايته أنه إضافة و اعتبار ينتزع من عمل إنشائي، بخلاف الأبوة فإنها إضافة تنتزع من أمر خارجي غير الإنشاء.
أما الإيجاب و الوجوب فهما من قبيل العتاق و الطلاق التي تنتزع من إنشائها من الفاعل القابل في المحل القابل، و البيع يحتاج إلى فاعل و قابل في المحل القابل، فلو تخيل التراب حنطة و قال: بعتك منّا من هذه الحنطة، و قال المشتري: قبلت، لم يقع التمليك الحقيقي، و إن حصل الإيجاب و القبول، و التمليك الصوري و النقل الإنشائي اللغوي، فالإيجاب و القبول في المحل القابل عرفا و عقلا مستلزم للتمليك الحقيقي و النقل الواقعي، كالكسر و الانكسار لا ينفك أحدهما عن الآخر أبدا، لا ذهنا و لا خارجا.
نعم، الكسر و الانكسار من الأمور الخارجية التي ليس لها مرتبة إنشاء كالبيع، فهما يشابهان العقد و أثره- أعني النقل الحقيقي- من جهة، و يختلفان عنه من جهة، و كذا الأبوة و البنوة.
و الخلاصة: أنّ البيع الحقيقي لا ينفك أبدا عن العقد في المحل القابل في نظر الناقل و غير الناقل.
نعم، قد يقع في الاعتبار الغير الصحيح تحقق التملك الحقيقي بدون قبول المالك، كما يتملك أرباب النهب و الغصب أموال المغصوبين و المنهوبين بمجرد الاستيلاء، و هذا- مع أنه ليس بيعا حتى عند الغاصب- خارج عما نحن فيه من الاعتبارات الصحيحة.
و مما ذكرنا- من توضيح حقيقة البيع- ظهر لك أنه مختص بحسب طباعه
ص: 152
و جوهر معناه بنقل الأعيان، لا أنه اصطلاح من الفقهاء فقط، كما يظهر منه قدّس سرّه في أول البحث، كيف، و قد صرّح بعده بقليل أنه ليس له حقيقة شرعية و لا متشرعية، بل هو باق على معناه العرفي.
و لا يخفى أن البيع المبحوث عن معناه في المقام ما هو عمل البائع، لا ما هو عملهما معا، غايته أن عمل البائع و تمليكه العين و تملكه الثمن لا يكون حقيقيا عند العقلاء، بل و في نظره، إلّا بالقبول، أما المبادلة بين المالين فهي من عمله فقط، و المشتري قد أمضى تلك المبادلة و رضي بها، فما أورده بعض أساتيذنا في حاشيته- من أن المبادلة من عمل البائع و المشتري، و البيع المقصود بالتعريف هو عمل البائع- غير سديد.
و حيث عرفت اختصاص المعوض في البيع بالأعيان، و أن إطلاقه على تمليك المنافع في كلمات بعضهم و بعض الأخبار، كخبر إسحاق بن عمار في بيع سكنى الدار التي لا يعلم صاحبها، و خبر أبي مريم، و السكوني في المدبّر يبيع خدمته و لا يبيع رقبته، كل ذلك توسع في الاستعمال، و ضرب من المجاز.
أما استعمال الإجارة في نقل بعض الأعيان كإجارة الشجرة لتمليك الثمرة، و الشاة و المرضعة للصوف و اللبن و نحوها، فهو على الحقيقة؛ لأنّ الثمرة و اللبن يعد منفعة للشجرة و الشاة، حيث يقع عقد الإجارة عليها، لا على نفس الثمرة و اللبن فيستقلان باللحاظ.
فاعلم أنهم قد اتفقوا ظاهرا على عدم اختصاص العوض بالأعيان، و أنه لا إشكال في كونه منفعة، سواء كانت محققة قبل المعاوضة، أو يتحقق اعتبارها بنفس المعاوضة، كعمل الحرّ لو قلنا بأن منافعه ليست بمال قبل المعاوضة كما هو الظاهر، و عبارة المصباح لا يظهر منها اعتبار تقدم المالية، و كما لا يعتبر في
ص: 153
المعوض أن تكون ماليته قبل المعاوضة كما في بيع الكلي في الذمة، فكذا في العوض حيث يكون منفعة.
و أما الحقوق فهي على ثلاثة أقسام:
منها: ما يقبل الإسقاط و الانتقال، و يعاوض بالأموال، كحق الخيار و التحجير، فلا ينبغي الإشكال في صحة جعله عوضا؛ إذ كل ما يقابل بالمال فهو مال بالضرورة.
و منها: ما لا يقبل شيئا من ذلك، كحق الولاية على اليتيم و نحوه، و لا إشكال في عدم صحة التعويض به.
و منها: ما يقبل الإسقاط دون الانتقال، فإن كان يقابل بالمال كحق الشفعة لو دفع المشتري مالا إلى الشريك ليسقط حق شفعته، فلا مانع من جعله عوضا في البيع، و إلّا فلا يصحّ؛ لعدم ماليته حينئذ.
نعم، جعل جدّنا كاشف الغطاء قدّس سرّه (1)- في شرحه على القواعد- الوجه
ص: 154
في عدم صلاحية الحق لجعله ثمنا و لا مثمنا، ضعف الملكية، و عدم تبادره من الملك، و لكنه على إطلاقه محل نظر.
و الحق أنّ المدار في الحق على المالية، فمتى تحققت صح جعله عوضا، و إلّا فلا.
أما ما أفاده شيخنا المرتضى قدّس سرّه بقوله: «و أما الحقوق الأخر كحق الشفعة و حق الخيار- إلى قوله-: و السر أنّ الحق سلطنة فعلية لا يعقل قيام طرفيها
ص: 155
بشخص واحد ... الخ» فتوضيح مراده: أنّ ما لا يقبل الانتقال من الحقوق لا يصح جعله عوضا في البيع؛ ضرورة أنّ البيع تمليك الغير عوضا و معوضا، فإذا كان الحق لا يمكن نقله إلى الغير فكيف يكون عوضا و يملك للغير، و التمليك لا يتحقق بدون النقل، فحيث لا نقل لا تمليك، فلا بيع.
فإن قيل: لا يتوقف البيع دائما على النقل و التمليك فإنّ الكلي يصح بيعه على من هو عليه اتفاقا، مع أنّ التمليك و النقل فيه غير معقول.
لأنا نقول: لا مانع من كونه تمليكا أثره السقوط، و لذا جعل الشهيد (1) الإبراء بين الإسقاط و التمليك، فإنه ظاهر في أنّ الكلي يمكن أن يملك لمن هو عليه.
فإن قيل: فليكن جعل الحق عوضا أيضا تمليكا لمن هو عليه، و يكون أثره سقوط الحق كما في الدين، فيصح لمن له حق الشفعة مثلا أن يجعله عوضا للمشتري الذي عليه الحق- حق الشفعة- و يكون أثره السقوط.
لأنا نقول: فرق بين الحق و الملك، فيعقل أن يكون مالكا لما في ذمته فيسقط، و لا يعقل أن يتسلط على نفسه.
ص: 156
و السر أنّ الحق سلطنة لمن له الحق على من عليه الحق، فهو موقوف على طرفين، و لا يعقل قيامهما بشخص واحد، بخلاف الملك فإنه لا يحتاج إلى من عليه الملك بل هو نسبة بين المالك و المملوك، فيصحّ أن يملك ما في ذمته، و لا يلزم اتحاد المالك و المملوك عليه المستحيل، و لعله يشير قدّس سرّه إلى أنّ انتقال الحق إلى من هو عليه من قبيل انتقال العرض، و هو مستحيل، بخلاف انتقال الملك إلى من هو عليه، فإنه من قبيل تبدل العرض و هو ممكن.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح مراده، و تنقيحه، و لكنه واضح الضعف من وجوه.
و حل هذه العقدة بحيث ينكشف مواضع الخلل فيما أفاده قدّس سرّه: أنّ الملك كما لا يحتاج إلى من يملك عليه أحيانا، كما في ملك الأعيان و المنافع، كذلك الحق قد لا يحتاج إلى من عليه الحق، كحق التحجير و حق الخيار و أمثالها، و كما أنّ الحق قد يحتاج إلى من عليه الحق كحق القصاص و حق الجناية و حق الشفعة في وجه، فكذلك الملك كملك الكلي في الذمة و نحوه، و كما يصح لحاظ الملك بين المالك و المملوك يصح لحاظ الحق نسبة بين الحق و بين من له الحق، و كما يصح لحاظ سلطنة بين من له الحق على من هو عليه، فلا يعقل اتحاد طرفيها في شخص واحد، فكذا يصح لحاظ الملك سلطنة فعلية لمن له ملك على من هو عليه، فلا يعقل اتحادهما.
و منشأ التوهم أخذ الحق بالمعنى المفعولي، و أخذ الملك بالمعنى المصدري، و لو أخذا بنسبة واحدة لم يكن فرق بينهما بالضرورة. كيف، و لو لم يؤخذ المملوك عليه في بيع الكلي لم يكن هناك مال و لا مملوك أصلا حتى يصح بيعه و ماليته و باعتبار ذمة المملوك عليه و إلزامه تحقق الكلي، فقوام
ص: 157
المملوك هنا إنما هو بالمملوك عليه لا المالك، فلو اشترى ما في ذمته لزم قيام الطرفين- المالك و المملوك عليه- بشخص واحد، و لزومه أيضا أظهر من لزومه في الحق.
و يندفع كل هذه الأوهام بأنّ المصحح في المقامين هو اختلاف الحيثية و الاعتبار، فباعتبار السبب الأول كان عليه الحق و مملوكا عليه، و باعتبار السبب الثاني صار له الحق و مالكا، و يكون أثر ذلك السقوط فيهما معا حقا أو ملكا، فتدبره جيدا.
و الحق ما ذكرناه أولا من أنّ الحق إن كان يقابل بالمال و يمكن سقوطه أو انتقاله صح جعله عوضا، و إلّا فلا.
و هل البيع و غيره من أسماء المعاملات موضوع للصحيح أو الأعم؟
فاعلم أولا: أنّ هذا من المباحث المستحدثة من زمن الشهيدين و ما بعدهما، و لم يكن له عند المتقدمين عنوان و لا أثر. و في الحقيقة أن هذا البحث ساقط من أصله، و باطل من ذاته.
و بيان ذلك: أنّ من المعلوم أن عامة أسماء الأجناس سواء كانت معانيها من الحقائق الخارجية العينية كالإنسان و الشجر و نحوهما، أو من المعاني الجعلية الاعتبارية كالبيع و الإجارة و الزوجية و الملكية و نحوهما إنما هي موضوعة للماهيات و المفاهيم الكلية، و الماهية من حيث هي ليست إلّا هي، و يستحيل أن تتصف بصحة أو فساد؛ ضرورة أنّ الصحة عبارة عن كون الشي ء بحيث يترتب عليه الأثر المطلوب منه، و فساده عبارة عن عدم ترتب ذلك الأثر عليه، و الماهية من حيث هي لا يعقل أن يترتب عليها أثر من الآثار، و إنما الأثر للوجود، فالإحراق لا يترتب على ماهية النار، و إنما يترتب على وجودها
ص: 158
و مصاديقها، و هكذا كل ماهية واقعية أو اعتبارية.
نعم، لما كانت الماهية الاعتبارية لا وجود لها في الخارج إلّا بوجود منشأ انتزاعها، و ليس منشأ انتزاعها سوى الأسباب التي اعتبرها العقلاء محققة لها، فالصحة و الفساد إنما تعرض على أسبابها أولا و بالذات، و تعرضها ثانيا و بالعرض.
و الخلاصة: أنّ البيع مثلا بمعنى تمليك العين بعوض لا يعقل أن يتصف بصحة أو فساد، نعم السبب فيه و هو العقد إن كان بحيث يترتب عليه أثره و هو التمليك كان صحيحا، و إلّا كان فاسدا، و هكذا سائر المعاملات إنما تكون صحتها و فسادها باعتبار أسبابها، كما أن العبادات من الصلاة و الصوم و الحج و نحوها إنما تتصف بالصحة و الفساد باعتبار وجودها و بالنظر إلى مصاديقها، فإن كان جامعا لما اعتبر فيه من أجزاء و شرائط بحيث يترتب عليه الأثر كان صحيحا، و إلّا كان فاسدا.
و إذا اتّضح أن الماهيات و المعاني لا تتصف بصحة أو فساد، و أن أسماء العبادات و المعاملات لتلك المفاهيم، و الصحة متأخرة عنها رتبة، ظهر لك سقوط النزاع من أصله في أنّ تلك الأسماء موضوعة للصحيح أو الأعم، و أنّ مبحث الصحيح و الأعم من الأبحاث التي هي- مضافا إلى عدم الفائدة و الثمرة فيها- غير معقولة في نفسها. و فساد ما ذكروه من الثمرات لهذا النزاع أوضح من أن تحتاج إلى بيان.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ إطلاق البيع في مقام الإخبار ينصرف إلى وجود البيع الصحيح، أي السبب الجامع لشرائط التأثير، أما في مقام الإنشاء فالصحة و الفساد ينتزعان منه بلحاظ متأخر لا أنّ الإنشاء يتعلق بالصحيح كما يتعلق
ص: 159
الفاسد كما لا يخفى على المتدبر.
أما وجه تمسك العلماء قديما و حديثا بعمومات المعاملات مثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ فهو بالنظر إلى أنّ البيع بمعنى التمليك لمّا كان غير فعل اختياري إلّا بالواسطة كسائر الأفعال التوليدية فلا تتعلق الحلية و غيرها من الأحكام به إلّا بواسطة سببه، فيكون مفاد الآية: حلية أسباب التمليك، و يدل بإطلاقه على حلية كل ما هو سبب للتمليك عند العرف.
و المراد بالحلية في مثل هذه الموارد الإمضاء و التقرير، يعني أنّ اللّه أنفذ و قرر أسباب البيع التي هي أسباب عند العرف، و أمضى سببيتها وضعا، و حلية التصرفات في المبيع تكليفا تابعة لتلك الحلية الوضعية و منتزعة منها، لا أنها هي المقصودة بالأصالة و المدلول عليها بالجملة بحيث يكون المراد من البيع المبيع، و تكون حليته باعتبار حلية التصرفات، فيستلزم خلاف الأصل من وجهين:
الحذف و المجاز، و لا يلزم شي ء من ذلك على ما ذكرناه؛ ضرورة أنّ تعلق الأحكام بالأعيان و الأفعال التوليدية و إرادة أسبابها شائع لا يعد من المجاز أصلا؛ لعدم العناية و التكلف فيه بالضرورة، فحلية البيع، و حرمة الربا، و وجوب الوفاء بالعقود، لا يفهم منها إلّا إرادة نفوذ العقود العرفية، و وجوب الالتزام بها على ما هي عليه عند العرف، و مضيّ سببية كل ما هو سبب عند العرف للبيع و نحوه، و عدم سببية الربا للملكية و إن كان سببا عند العرف فليس للشارع في العقد و البيع و الربا اصطلاح خاص، أو حقيقة شرعية، و إنما له الإمضاء و التقرير أو عدمه لا غير، فكل عقد و كل سبب للبيع بمقتضى هذه الإطلاقات نافذ إلّا ما قام الدليل على بطلانه.
ص: 160
و من هنا ظهر لك أن المعاطاة بعد تسالمهم على كونها بيعا عرفا، و صحيحة شرعا، و أنها ليست بيعا فاسدا، و لم ينسب احتمال ذلك إلّا إلى العلامة قدّس سرّه في النهاية، و قد ثبت رجوعه عنه، كما أنه لا خلاف أيضا في أنّ قصد المتعاطيين هو التمليك، و حينئذ فتشمله عمومات أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و أمثالها، و لكن اتفق الأكثر على الظاهر، بل الجميع على ما يقال، أنها تفيد الإباحة لا التمليك، و بهذا اعضلت المسألة، و تضاربت الأصول و القواعد، و اضطربت فيها مذاهب العلماء، فبين قائل بالإباحة عامة أو خاصة، و بين قائل بالتمليك جائزا أو لازما.
كما أنّ المتأخرين اختلفوا في تحرير محل النزاع عند المتقدمين، فبين قائل إنه فيما إذا قصد المتعاطيان التمليك، و بين قائل- كصاحب الجواهر (1)- إنه فيما إذا قصد الإباحة.
انتهى ما وجد بخطه، دامت إفاضاته.
ص: 161
بسم اللّه الرحمن الرحيم
هذه تقريرات درس شيخنا الإمام العلامة المرجع الديني الأكبر، آية اللّه كاشف الغطاء، أدام اللّه علينا أيام إفاداته بقلم: بعض الفضلاء من تلاميذه أيده اللّه تعالى لا تجوز الصلاة في المكان المغصوب عينا أو منفعة فيما إذا كان ملكا طلقا، و هذا مما لا إشكال فيه، و إن أمكن القول بجواز الصلاة في كل مكان مملوك أو غيره، رضي صاحبه أو لا؛ لأنّ حق الصلاة للّه المالك الحقيقي مقدم على حق المالك الصوري المجازي، كما لعله يشير إليه في الحديث: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، أينما أدركتني الصلاة صليت» و غيره، و اللّه العالم.
نعم، لا إشكال على المشهور في بطلان الصلاة في المكان المغصوب، و إنما الإشكال فيما لو وقعت في حق الغير من غير رضاه، و أنها هل هي صحيحة مطلقا، أو باطلة كذلك، أو يفصل بين الحقوق المالية التي تقبل الإسقاط و المعاوضة و النقل، و بين الحقوق الغير المالية التي هي عكس الحقوق المالية، و قد يشتبه الأمر و لا يفرق بينهما في بعض الحقوق التي يقبل بعضها دون البعض الآخر.
و تنقيح المقام بحيث يرتفع به غواشي الأوهام يحتاج إلى بيان الفرق بين الحقوق و الأحكام، ثمّ ملاحظة أنّ الحقوق التي وقعت فيها الصلاة بغير إذن
ص: 162
صاحبها هل تكون مما يصدق عليه التصرف العرفي. و بعبارة أخرى: الصلاة فيها موجبة للتصرف المحرم أم لا؟
فنقول: إنّ الحق نحو سلطنة، و السلطنة عبارة عن القاهرية و التسلط، و لها مراتب كثيرة، أعلاها و أجلها هو سلطنة الحق تعالى شأنه و قهاريته على مخلوقاته، و هو من أعظم الحقوق، و لا يتبدل و لا يتغير بحال أبدا، و هو ذاتي متأصل، و إليه ترجع سائر الحقوق، بل الحقوق كلها له جل شأنه، و بسلطنته خلق الخلق.
و الحاصل: أنّ حق الخالقية حق ذاتي غير مجعول، و هو ثابت له تعالى في تمام الأحوال، و له آثار كثيرة لا تعد و لا تحصى، و من آثاره شكره و حمده و عبادته و إطاعته و تسبيحه و تقديسه و القيام بما أمر به و الانتهاء عما نهى عنه، و هذه السلطنة العظيمة سلطنة لا تنالها يد الجعل، و لا توجد في غيره تعالى.
ثمّ بعد التنزل عن هذه المرتبة هو حق النبوة، ثمّ حق الولاية، ثمّ حق العلماء و المدرس و الأب و الابن، و حق الجار على جاره، و جميع هذه الحقوق ترجع إلى حقه تعالى في المعنى، و لكل واحد من هذه الحقوق آثار كثيرة تترتب عليها.
ثمّ إنّ أمهات الحقوق- غير حقه تعالى- على ثلاثة أقسام؛ لأنّ السلطنة الخاصة الثابتة للإنسان إما أن تكون على إنسان آخر كسلطنة النبوة و الولاية و غيرهما من الحقوق إلى أضعف مراتبها، و هو حق مرشد الأعمى و هاديه إلى منزله، أو رافع الحجر عن طريق الآخر، و إما أن تكون على الأعيان، و إما على النسب و الإضافات.
و إن شئت قلت: إنّ الحق نحو سلطنة إنسان على غيره، من إنسان، أو
ص: 163
أعيان، أو عقد و إضافة و نسبة.
أما الأول فقد يكون منشؤه أفعال خارجية و أمور حقيقة كالهداية و الإرشاد و التعليم و رفع الحجر و غير ذلك من الأفعال الخارجية الجوارحية، فإنّ هداية النبي صلّى اللّه عليه و آله و إرشاده إليه تعالى صار سببا و منشئا لحقه صلّى اللّه عليه و آله على العباد، و هكذا الولي عليه السّلام، و العالم و المعلم إلى آخر مراتبه و أضعفها، و في مقابل هذه الهداية و الإرشاد لا بد من التشكر و الامتنان و العمل بما يأمره و ينهاه، و كذا بالنسبة إلى غيره صلّى اللّه عليه و آله، و هذا النحو من الحق أثره أنه لا يتبدل أبدا، فلا يقبل الإسقاط و لا المعاوضة و لا النقل؛ لأنّ منشؤه أمر لا يقبل شيئا مما ذكر؛ بداهة كونه أفعالا خارجية لا يمكن عودها بعد وقوعها.
و قد يكون منشؤه أمورا إضافية و اعتبارات صرفة ليس لها ما بإزاء في الخارج، و لكنه مما له منشأ انتزاع محقق فيه، لا كأنياب الأغوال، مثل حق المولى و الزوج على عبده و زوجته، فحق المالك و الزوج نشأ من الملكية و الزوجية اللتين هما من المعقولات الثانوية ليس لهما ما بإزاء في الخارج، و لكنهما انتزعتا من العقد الخاص الذي صدر عن أهله في محله.
و بالجملة: الحقوق المنتزعة عن المعقولات الثانوية الحاصلة بعد التقابل بينها و بين طرفها التي ليست من الأمور الوهمية، بل من الأمور الواقعية و لها منشأ انتزاع في الخارج، و هذا النحو من الحقوق أيضا لا تقبل النقل و الإسقاط و المعاوضة أبدا، كالحقوق الأولى، نعم يمكن رفع الأمور المذكورة بتوسط حلّ منشأ انتزاعها و هو من المعقولات الثانوية، كالملكية و الزوجية، و حل ذاك المنشأ لا يمكن أولا و بالذات أيضا بل يحتاج في حلّه إلى حل منشأ انتزاعه و هو العقد الصادر عن أهله في محله، و حق الزوجية و الملكية مثلا لا يتبدل و لا
ص: 164
يتغير إلّا بتبدل ذاك العقد و انحلاله الموجب لانحلال الزوجية و الملكية المستلزم لانحلال هذا الحق، هذا بخلاف الحقوق الأولى، فإنّ منشأ انتزاعها هو الأمور الحقيقية و الأفعال الخارجية التي ليس لها استقرار و ثبات في الخارج حتى يمكن حلّها، و من هذا القبيل حق الإنسان على نفسه، فإنه من أهمّ الحقوق و أجلها، و هو أيضا لا يقبل النقل و الإسقاط و المعاوضة أصلا، كحق الإنسان على الإنسان، و هو مسلط على نفسه، و مختار في حركاته و سكناته، إلّا أن يستلزم المعصية و التجرّي على المولى الحقيقي.
و أما الثاني، و هو سلطنة الإنسان على الأعيان و الأموال، فقد يكون السبب و العلة في حصول تلك الأموال هو الأمور الاختيارية من تجارة و ولاية و إجارة و صناعة، و قد يكون السبب فيه هو الأمور الغير الاختيارية كما في الإرث و البذل، و منه تملك الفقراء و المساكين الزكاة، و السادات المحترمين الخمس، بل أخذ الزوجة النفقة من زوجها، و تملكها لها، بخلاف إنفاق الوالد على أولاده فإنهم لا يملكونه أبدا.
و على كلا التقديرين إما تكون الأموال ملكا مطلقا له بحيث يملكها بجميع أنحائها و اعتبارياتها، و إما لا يكون ملكا طلقا، بل ملكا محدودا و مضيقا، و من هذا القبيل حق الرهن و التحجير و الخيار، فإنّ حق الراهن مثلا و سلطنته ما زالت عن ماله بشراشرها، بل له أخذه و لو ببيع المرهون، فإن هذا الحق و السلطنة من شئون السلطنة المطلقة و حدودها.
و بالجملة: الحق يتبع الملك في الإطلاق و التحديد، فالمالك إن كان محدودا فالسلطنة محدودة، و إن كان مطلقا فالسلطنة أيضا كذلك، و هذا النحو من الحقوق كلها و بأنحائها المختلفة و اعتباراتها الملحوظة قابلة للنقل
ص: 165
و الانتقال، و الإسقاط و المعاوضة، و من هذا القبيل حق الخيار أيضا، و يتحقق فيها عنوان الغصبية فيمن غصب ملك إنسان أو منفعته و لو لم يكونا طلقا، بل مضيقا محدودا، فصلى فيه تكون صلاته باطلة، هذا.
و قد تنتزع من الحكم التكليفي المتعلق على موضوع خاص لا يصلح للملكية صورة حق و هو ليس بحق واقعا، بل و هو حكم تكليفي محض، كما في المعابد و المساجد المحترمة، و البقاع المتبركة، و كالشوارع العامة كالطرق و سوق المسلمين.
و بالجملة: المشتركات العامة بأنحائها سواء كانت مشتركة بين الناس و العناصر و الطبقات كلها كالطرق و الأسواق، أو مختصة بنوع خاص و عناصر مخصوصة، مثل مكة المشرفة و المشعر الحرام و منى و المساجد، أو على صنف كالحرم الشريف و المدارس العلمية، و من سبق إلى مكان في هذه الأمكنة المباركة و زاحمه آخر و أخرجه من مكانه و صلى فيه لا تكون صلاته باطلة، و إن فعل حراما؛ لأنّ الغرض من وضع هذه الأمكنة ليس إلّا استيفاء الانتفاع، و جواز السكنى، و التوقف لأجل العبادة، أما المساجد فقد ألغى الشارع المالية فيها و حررها، بل و كذا غيرها من المشتركات العامة، فإنّ الغرض من بنائها و وضعها ليس إلّا انتفاع الأناسي بطبقاتهم و باختلاف عناصرهم لا تملكهم العين و لا المنفعة، بل لهم جواز الانتفاع و لغيرهم حرمة المزاحمة لما استمر عليها السيرة القطعية من ذم العقلاء كل من زاحم آخرا و أخرجه من مكانه، مضافا إلى ورود أخبار كثيرة من أنّ أسواق المسلمين كمساجدهم.
و الحاصل: بعد القول بأنّ الغرض منها ليس إلّا الانتفاع و جواز الدخول و التوقف و الخروج لا التملك العيني و لا المنفعتي، لا معنى للغصبية أبدا؛ لأنه
ص: 166
عبارة عن التصرف بمال الغير من دون إذنه، و إذا انتفى المالية القائمة بالتمليك العيني أو المنفعتي فقد انتفى موضوع الغصبية و عنوانها.
و أما الموقوفات العامة فعلى قسمين: بعضها كالمشتركات العامة ليس الغرض منها إلّا انتفاع المسلمين على طبقاتهم المتشتتة، و بعضها ليس كذلك، بل الغرض منه هو تمليك المنافع، كالوقف الخاص، بل هو وقف خاص، و لا ينافيه كثرة الموقوف عليهم.
و الحاصل: الوقف الذي هو عبارة عن تحبيس المال تارة يكون قصد الواقف مجرد انتفاع المسلمين كوقف القرآن على الحرم الشريف، و كوقف البساتين لانتفاع المسلمين من ثمراتها، لا فيما إذا وقفها لأن يتملكوا منافعها، فهذا القسم من الوقف هو الوقف العام و إن لم يجر عليه اصطلاح القوم، و قد يكون قصده هو تملكهم المنافع كما في كثير من الموقوفات، فهذا القسم هو الوقف الخاص بالدقة، و أما الاصطلاح فلا مشاحة فيه، و الغرض هو عدم تحقق الغصبية في القسم الأول لو دفع بعضهم بعضا و أزاله عن مكانه؛ لعدم المالية التي تحقق عنوان الغصبية، و تحققه في القسم الثاني؛ لأن المنفعة مال فمن غصبها و صلى فيها بطلت صلاته بلا إشكال.
و أما الثالث و هو سلطنة الإنسان على النسب و العقود و الإضافات فقد علم حكمها مما قدمناه من القسمين الأولين؛ لأنها إن رجعت إلى السلطنة المالية و حقوقها فيكون كالقسم الثاني من قبولها النقل و الإسقاط و المعاوضة كما في جميع السلطنات المتعلقة بالعقود، لازمة كانت أو جائزة، و سواء جعلت السلطنة لكلا الطرفين أو لأحدهما، فإنّ في العقود الجائزة لكل من الطرفين سلطنة على حلّ النسبة و إن لم ترجع إليها، بل كانت السلطنة على أمر غير مالي
ص: 167
كما في الوكالة و الكفالة، فيكون كالقسم الأول في عدم قبولها النقل و الإسقاط و المعاوضة؛ لأنها على هذا الفرض ليست إلّا مجرد حكم و هو مجعول شرعي لا يقبل شيئا مما ذكر.
بقي في المقام شي ء جامع لكلتا الصفتين و هو عقود الأنكحة بأنحائها فإنها برزخ بين المعاملات و العبادات كما صرّح به بعض الأساطين من حيث إنها سلطنة إنسان على ما يرجع بالآخرة على المال فيقتضي أن تقبل كلا من الأمور المذكورة، و من حيث إنها سلطنة إنسان على إنسان لا على الأموال فيقتضي عدمه.
و بعبارة أخرى: من حيث إنّ الغرض منها ليس إلّا أخذ المال الذي هو عبارة عن المهر فيقتضي دخولها في المعاملات، و السلطنة الحاصلة فيها تكون راجعة إلى سلطنة مالية، و من حيث إنها ليست من جنس المعاملات بل مباينة لها كل التباين فيقتضي عدم قبولها لشي ء مما ذكر لكونها سلطنة الإنسان على مثله، و التدبر في ملاك الأنكحة يقتضي هذا الوجه، بل المتعين هو هذا الوجه، و الجهة المالية تبعة محضة، و لذا تصح بلا مهر يعتد به، بل بقراءة القرآن، و الغرض منها هو حفظ نظام العالم و رفع نقصانية المرء و دينه؛ لأن الرجل بلا زوجة فاقد لأحد طرفيه؛ و لذا قال الشارع: من تزوج فقد أحرز نصف دينه، و هذا لا ينافي خروج بعض الأفراد لعارض و لعلة خارجية.
و كيف ما كان، فإنّ فذلكة المقام و خلاصة ما تلوناه من المرام هو أنّ الحقوق و السلطنة إن تعلقت على المال و لو بوسائط كانت الصلاة فيه بدون إذن مالكه باطلة؛ لتحقق عنوان الغصبية كما في الخيار إن قلنا إن السلطنة تعلقت على فك النسبة لا على استرجاع المال، و إن تعلقت على نسب و عقود غير
ص: 168
راجعة إلى المال فلا تجي ء فيه قضية الغصبية أصلا؛ لعدم تحقق عنوانها، و إن شك فيهما، أي في كون متعلق الحق مالا أو غير مال، فربما يقال بالرجوع إلى العمومات الدالة على صحة البيوع و المصالحة، و لكنه غير صحيح؛ لكونه تمسكا بها في الشبهات المصداقية كما لا يخفى.
و الحق هو الرجوع إلى الاستصحاب في كل مورد بالنسبة إلى إثبات آثارها، ففي الشك في قبول الإسقاط و عدمه يستصحب عدمه فلا تجري فيه آثاره، و كذا بالنسبة إلى المعاوضة و النقل.
هذا إجمال الكلام في هذا المقام، و لتوضيحه و بسطه مقام آخر.
ثمّ إننا حيث قلنا إنّ الصلاة في ملك الغير من غير إذنه باطلة لا تصحّ أبدا، بل تحتاج إلى رضا مالكه الكاشف عنه الإذن أو شاهد الحال و الفحوى.
و بيان ذلك: أنّ الرضا حال من حالات النفس، و طور من أطوارها، و هو ليس إلّا مثل سائر أوصاف النفس القائمة بها، و الظاهر المتبادر منه هو الرضا الفعلي، و أما التقديري فيأتي بيانه، و له كواشف ثلاثة على المشهور: الإذن الصريح الذي هو أعلى الكواشف و أجلّها، و شاهد الحال، و إذن الفحوى الذي هو عبارة عن الأولوية القطعية، و لكنها غير منحصرة فيها؛ لإمكان الكشف عنه بغيرها.
و بالجملة: بعد أن قلنا إن الرافع للغصبية و الظلم هو الرضا- و هو من حالات النفس، فلا يمكن الاطلاع عليها إلّا بمئونة الأمارة و الكواشف- ظهر لك أنّ الكاشف مقدمة صرفة، فلا مانع من تعدده أصلا.
ص: 169
إذا عرفت ذلك (1) فاعلم أنه وقع الخلاف بين الأكابر و الأعلام في توجيه صحة العبادة و التصرف في الأراضي المتسعة و البعيدة المسافة، و الأنهار الكبيرة، حيث استمرت السيرة القطعية على التصرف فيها بلا احتياج إلى الإذن من مالكها، بل و لا يخطر ببال أحد الاستيذان للصلاة و الوضوء و الشرب فيها، و كذا في غيرها من أنحاء التصرفات مثل التظليل و غيره.
و الصحة في الجملة مما لا ريب فيه أبدا، و إنما الكلام في وجهها و مناطها، و قد اختلفت كلمات الأصحاب و اضطربت في وجهها، و يظهر من المستند أن الوجه فيها هو قصور شمول أدلة الغصب على مثل تلك الموارد مثل قوله: «لا يحل مال امرئ إلّا بطيب نفسه»، حيث قصرها على صورة المنع، أي العلم بمنع المالك أو الظن المعتبر على منعه، و أما في غير هذين الموردين فمشكوك الشمول و العموم، و أنت خبير بفساده و أنه مستلزم للهرج و المرج في نظام العالم؛ لأنه مستلزم لجواز التصرف في مال الغير فيما إذا احتمل رضاء مالكه أو تساوى الاحتمالان عنده.
و أضعف من هذا ما يقال من أنّ الملاك في الجواز في الأراضي و الأنهار هو الإذن التقديري، و كما يكفي الفعلي منه و كذلك يكفي التقديري؛ لأن قوله:
«لا يحل مال امرئ إلّا بطيب نفسه» أعم من طيب النفس الفعلي أو التقديري؛ لأنه يستلزم جواز التصرف في مال الغير و أخذ أمواله لكل من هو محتاج في الواقع على نحو يعلم بأنّ صاحب المال لو اطلع على احتياجه و فقره لرضي بتصرفه في ماله و أخذه منه، و قد تمسك بعضهم بالعسر و الحرج، و مع أنه مختص بالأحكام الإلهية لا يثبت المدعى؛ لكونه أخص منه.
ص: 170
و الذي ينبغي أن يقال في وجه صحة ذلك هو أحد أمرين: إما القول بعدم تحقق عنوان التصرف العرفي، أو بعدم تحقق عنوان المالية.
أما الأول فلما أشرنا إليه من أنّ الغصب هو التصرف في مال الغير عرفا بحيث يعدّ في العرف تصرفا، فالتصرف في هذه الأراضي و الأنهار لا يعد تصرفا في العرف لتوسعة المتصرف فيه، و أما الثاني فلأنّ الأراضي بأنحائها المختلفة و بأقسامها المتشتتة كانت لمالك الملوك، و إنما ملكها العباد بالعرض، مثل الحيازة و غيرها، فيمكن القول بأنّ اللّه تبارك و تعالى- الذي هو مالك الملوك الحقيقي- لما أباح الأراضي المتسعة و الأنهار الكبيرة لعباده ما أذن لهم بالمزاحمة في التصرفات الغير المعتدة بها، بل أباحها من هذه الحيثية و الجهة لنوع عباده، و كذا الإمام عليه السّلام في الأراضي الراجعة إليه من قبل مالكها الأوّلي، و هو اللّه تعالى، فإنّ الأئمة عليهم السّلام أباحوها لشيعتهم لأجل انتفاعهم من الأنكحة و العبادة و غيرها.
و كيف ما كان فإنّ اعتبار الرضا المستكشف بالإذن الصريح و غيره في هذه الأراضي و الأنهار ساقط للسيرة المستمرة.
و هل يعتبر الرضا في الموقوفات كالأموال و الأعيان أم لا؟ الحق التفصيل؛ لأن الموقوفات باعتبار تغير حكمها على ثلاثة أقسام- و أما بالاعتبارات التي لا دخل لها في تغيير حكمها، مثل كونها عاما أو خاصا و غيرهما فلا فائدة للبحث عنها من هذه الجهة-:
أحدها: هو أنّ الغرض منها هو سلب المالية بكليتها و جعلها محررا، كما في البيت العتيق و المشاهد المقدسة التي جعلها اللّه تعالى في أصل خلقتها محررة، و كالمساجد التي بناها العباد، فهذا القسم منها مما لا إشكال في عدم
ص: 171
مدخلية إذن المالك و لا الموقوف عليهم أبدا لعدم لحاظ المالية، و لا الملكية هنا أصلا.
و ثانيها: هو كون الغرض منها منفعة الموقوف عليهم مع تحبيس عين المال و توقيفه كما في الموقوفات التي تعلق غرض الواقف فيها بهذا النحو، و هذا القسم من الموقوفات لا بدّ في التصرف فيها من إذن المالك أو المتولي أو الحاكم الشرعي، و لا فرق فيه بين كون الموقوف عليهم هو خصوص الآحاد و الأشخاص، أو هو عموم الأناسي كالقسم الأول، و هذا القسم نظير الدار المستأجرة.
و ثالثها: هو تحبيس العين و توقيفها و إلغاء المنفعة، و ملاحظة الانتفاع للأفراد المعينة و الأشخاص المخصوصة.
و بالجملة: الغرض منه هو انتفاع نوع واحد كالمدارس العلمية مثلا، فإنّ الغرض من وقفها هو انتفاع الطلاب بالسكنى فيها لطلب العلم بحيث لو زاحمهم غيرهم لا يجوز له ذلك أبدا، و بالنسبة إلى الانتفاعات الغير المزاحمة لحقهم فهي داخلة في القسم الأول من أنها محررة و مسبّلة لم تلاحظ فيها سلطنة المالك أصلا؛ لإلغائه الانتفاعات بأسرها.
و الحاصل: المدار في تغير الحكم هو قصود الواقفين من تحبيسهم العين و تمليكهم المنفعة أو إباحتهم الانتفاع فقط و إلغاء جهة المالية بالكلية لا خصوصية الموقوف عليهم، و عموميتهم، و من هنا ظهر وجه التصرف في مياه الحياض الواقعة في المدارس و غيرها لغير الموقوف عليهم من الأناسي، فإنّه يتبع قصد الواقف، إن علم به من الخارج أو حصل الظن المعتبر فيعمل على طبقه و إلّا الأصل هو عدم جواز التصرف من غير إحراز الإذن من مالكها أو متولّيها
ص: 172
أو ممن له الإذن.
و ظهر مما ذكرنا: أنّ التصرف في مال الغير من دون رضاء مالكه حرام، و الصلاة فيه باطلة، إلّا في الأراضي المتسعة و الأنهار العظيمة و الموقوفات التي حررت و سبلت لعموم الأناسي أو نوع و صنف منهم، بل و كذا في بعض الموقوفات الخاصة كالمقابر الموقوفة لأشخاص معينة لكي يدفنوا فيها، فإنّ حلية التصرف فيها بما لا ينافي جهة الوقفية مما لا ريب فيه، و ليس وجهه إلّا تسبيل المالك الانتفاعات الغير المزاحمة لجهة الوقفية و تحريره لها بالنسبة إلى عموم أفراد البشر.
ثمّ الرضاء المعتبر الذي يتوقف عليه التصرف هو الرضا الفعلي المستكشف عنه بالإذن الصريح، أو بشاهد الحال، أو شاهد الفحوى، و قد أشرنا إلى كل منها في تضاعيف كلامنا، و اعتبار هذا الرضا و كفايته في دفع القبح و قطعه العذر في التصرف في أموال الغير مما لا إشكال فيه، و إنما الكلام في الرضا التقديري و الفرضي بحيث لو علمه لرضي به، و ربما يقال بكفايته تعويلا على أخبار لا تدل على المطلوب، بل و لا صدرت لبيان الأحكام الإلهية أبدا، بل إنما صدرت لبيان مراتب الكمال و الفضيلة من الأخوة الواقعة بين المسلمين، و أنّ المسلم الذي يدعي الأخوة لا بد بأن يرضى لإدخال أخيه يده إلى جيبه و كيسه و عدم دفعه لها، و لو سلم فهذه الأخبار أدلّ على الرضا الفعلي من التقديري، فتأمل.
و استدل أيضا بالسيرة القطعية بحيث يكتفي جميع أفراد البشر بالرضا التقديري في تصرفاتهم و عليه نظام معيشتهم.
أقول: الرضا التقديري يتصور على وجوه:
ص: 173
أحدها: هو ما لم يجامع المنع و لا الرضا الفعليين، و هذا هو القدر المتيقن منه في المقام.
ثانيها: هو ما يجامع المنع الفعلي، فهذا يتصور على نحوين: لأنه تارة يمنعه لذاته جهلا بصفاته مثل أن تقول: لا تدخل إلى داري بحيث جعل المتعلق هو الذات جهلا بأنه محبة أو فيه أوصاف حسنة بحيث لو علم بها لما منعه، و أخرى يمنعه لذاته جهلا بذاته، كمن تخيل أن زيدا يحبه، و عمرا يبغضه فمنعه.
و ثالثها: يجامع المنع الفعلي مع دخوله تحت عنوان من له الرضا الفعلي، فالأحكام تختلف حسب اختلافه، فيمكن القول في الأول بالمنع و عدم كفاية الرضا المقارن له، كما يمكن القول بالجواز في الآخرين، فإن حصل الشك فيرجع إلى الأصول العملية لا إلى الأدلة الدالّة على عدم جواز التصرف في مال الغير إلّا بعد إحراز إذن صاحبه؛ لكونه تمسكا بها في الشبهة المصداقية، و الجاري من الأصول هو استصحاب عدم الرضا و حرمة التصرف، فهو يجري بكلا قسميه حكما و موضوعا.
و ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ الصلاة في مال الغير من غير رضاه باطلة لا تسقط الأمر أصلا، بل في جميع العبادات بحيث لو تحقق عنوان التصرف في مال الغير لبطلت، و هذا المعنى لا يتفاوت بين العبادات أبدا، و كذا بين أنحاء الصلاة، يومية أو ليلية، فرضية أو نفلية، بجميع أقسامها و أنواعها، و لم يخالف فيه أحد، و لم نستثن منه إلّا موردين:
أحدهما: ما استثناه بعض العامة و هو صلاة العيدين و الجمعة و الجنازة؛ معللا بأنه لو بطلت صلاة المأمومين للزم سقوط الواجب من أصله، و زعم بعضهم أنّ المسألة داخلة تحت تعارض الأهم و المهم، و يمكن تصحيحه
ص: 174
بتخصيصه على ما لو جهل الإمام الغصبية، أو صلى في مكان مباح و المأمومين صلوا في المكان الغصبي ائتماما له.
و كيف كان، لا يتم هذا القول بالنسبة إلى صلاة الجنازة لسقوط الوجوب بصلاة الإمام فقط، فلا يحتاج معه إلى المأمومين.
و كيف كان (1).
و المورد الثاني: هو صلاة النوافل، ذكره كاشف اللثام (2) نقلا عن المحقق (3) نظرا إلى أنّ الحركات الكونية غير مضرّة فيها؛ لعدم كونها من شروطها و لا من مقوماتها، بخلاف الفرائض فإنّ الحركات الخاصة المتحدة مع الغصب خارجا شرط فيها، كالوقوف و الطمأنينة و الركوع و السجود إلى غير ذلك من أجزاء الصلاة، فالمعتبر في النوافل هو القراءة من حيث هي، و التصرف في الهواء مقدمة لها، و من هنا يمكن القول بالصحة فيما لو صلى صلاة الاختيار؛ لأن الركوع و السجود و القيام لم تكن معتبرة و لا مأمورا بها، و لا أخذت شرطا فيها حتى يقال بأنها تفسد بفساد شرطها، هذا غاية ما يوجه به هذا الكلام.
ص: 175
و لكن بعد الإحاطة بما قدمناه لا يبقى مجال لهذا الكلام أصلا؛ لأن المناط و الملاك على ما قدمناه تفصيلا في حرمة الغصب هو صدق عنوان التصرف العرفي، و متى تحقق هذا العنوان في نظرهم يكون موجبا لبطلان الصلاة مطلقا، و معه لا مجال للتلفيقات أصلا.
من دخل ملك الغير بإذن صاحبه ثمّ منعه و هو يريد الصلاة، أو بعد أن دخل فيها، و المسألة ذات صور أربعة: لأنّ المنع من المالك إما يصدر قبل الشروع في الصلاة، أو بعده، و على كلا التقديرين الوقت إما موسع، أو مضيّق.
و الصورة الواحدة منها و هو ما لو صدر المنع منه قبل الشروع فيها مع سعة الوقت متفق على أنه يجب عليه الخروج، و يصلي في المكان المباح، بل و كذا فيما لو شرع بها و الوقت واسع فإنه يجب القطع و الخروج، غاية ما يقال عليه هو حرمة القطع مع الشروع فيها على وجه صحيح، و لكنه غير مفيد؛ لأن الأدلة الدالة على حرمة القطع غير شاملة لأمثال هذه المقامات؛ لكونها ضعيفة و قاصرة؛ و لذا يجوز قطعها بعروض أدنى مرجع كقتل حية، و فوت أمر من الأمور اللازمة و لو عادة.
و أما الصورة الثالثة و هو ما لو صدر المنع منه و الوقت مضيق، و هو غير متلبس بها، فالمشهور بل الإجماع فيها هو وجوب الخروج و الإتيان بها خارجا؛ جمعا بين حق اللّه تعالى و حق العباد، فيصلي خروجا مقتصرا على واجباتها.
و قد أورد عليها صاحب الجواهر قدّس سرّه بما مفاده و هو: أنّ حق اللّه تعالى
ص: 176
لتقدمه و أسبقيته مقدم على حق الناس، فالصلاة فيه مع الضيق صحيحة و لو منعه فيه و لم يرض بوقوفه؛ لأنّ الأمر بالصلاة سابق على منعه فلا يؤثر شيئا. هذا ملخص مرامه.
و الأولى نقل عبارته بلفظها، قال فيه بعد تأييد القول المشهور و هو لزوم الإتيان بها و هو خارج، لكن عن ابن سعيد (1) أنه نسب صحة هذه الصلاة إلى القول مشعرا بنوع توقف فيها، و مثله العلامة الطباطبائي (2) في منظومته، و لعله لعدم ما يدل على صحتها، بل قد يدعى وجود الدليل على العدم باعتبار معلومية اعتبار الاستقرار و الركوع و السجود و نحو ذلك، و لم يعلم سقوطه هنا، و الأمر بالخروج بعد الإذن في الكون و ضيق الوقت و تحقق الخطاب بالصلاة غير مجد، فهو كما لو أذن له في الصلاة و قد شرع فيها و كان الوقت ضيقا، مما ستعرف عدم الإشكال في إتمام صلاته، فالمتجه حينئذ عدم الالتفات إلى أمره بعد فرض كونه عند ضيق الوقت الذي هو محل الأمر بصلاة المختار المرجح على أمر المالك بسبق التعلق، فلا جهة للجمع بينهما بما سمعت، بل يصلي صلاة المختار مقتصرا فيها على الواجب، مبادرا في أدائها على حسب التمكن، لكن لم أجد قائلا بذلك، بل و لا أحدا احتمله ممن تعرض للمسألة. انتهى ما هو المهم من كلامه
ص: 177
رفع مقامه.
و أنت خبير بفساد هذه المقالة من وجوه:
أولا: أنها مخالفة للقاعدة المسلمة عند الكل و هو أنه لو وقع التزاحم و التعارض بين ما له بدل و بين ما ليس له بدل، لا بدّ من ترجيح ما ليس له البدل، و تقديمه على ما له البدل؛ لكونه أخذا بهما في الواقع، و جمعا بينهما، و هو مهما أمكن أولى من الطرح.
و ثانيا: يمنع التعارض و التزاحم؛ لأن أدلة السلطنة حاكمة و واردة على الأدلة الدالة على اعتبار صلاة المختار، و رافعة لموضوعها؛ بداهة أنّ أدلة السلطنة تجعله معذورا غير مختار، و ليت شعري كيف يمكن تقدم حقه تعالى على حق العباد؟ و هل هو إلّا الالتزام لتقيد أدلة السلطنة، و هو مخالف للقاعدة المعروفة؛ ضرورة عدم قابلية تقيد السلطنة الثابتة للعباد أبدا، بخلاف الأدلة الدالة على اعتبار الأجزاء و الشرائط.
و ثالثا: أنّ قياسه بما أذن له و قد شرع فيها، و نفي الإشكال فيه مما لا وجه له أصلا؛ لما يأتي من أنّ الأقوى فيه أيضا هو الاتيان بها خارجا.
و رابعا: لا يحصل الفرق حينئذ بين ضيق الوقت وسعته، فافهم.
الصورة الرابعة: ما لو تضيق الوقت و هو قد شرع فيها، و المشهور هنا أيضا هو الخروج مصليا صلاة المضطر، مبادرا في أدائها على حسب التمكن، و ربما يقال هنا: بالاتمام و المضي فيها؛ استنادا إلى أمور:
أحدها: هو تعارض أدلة السلطنة و أدلة الأجزاء و الشرائط، و بعد التساقط يرجع إلى أصالة الصحة.
ص: 178
و ثانيها: هو التمسك بالاستصحاب بعد تعارضهما و تساقطهما.
ثالثها: هو قياسه على الميت المدفون في أرض الغير بإذنه، فإن نفوذ أمره بإخراجه مستلزم لهتك حرمة الميت، و هو مخالف للكلّ و لم يقل به أحد.
رابعها: هو التمسك بقوله عليه السّلام: «إنّ الصلاة على ما افتتحت».
خامسها: أنه أمر بالمنكر، فلا ينفذ في حقه.
و غير ذلك من الوجوه المذكورة، و أنت خبير بفسادها كلها، و عدم نهوضها حجة له.
أما الأول فلما عرفت بما لا مزيد عليه من أنه لا تعارض بين أدلة السلطنة و بين أدلة الأجزاء و الشرائط أبدا، و أن أدلة السلطنة رافعة لموضوعها، على أنه فاسد في أصله كما حققناه تفصيلا.
و من هنا ظهر فساد القول بالرجوع إلى أصالة الصحة كما في الأمر الأول، أو إلى الاستصحاب كما في الأمر الثاني.
و أما الثالث- و هو قياسه بالميت- فهو غريب؛ لأن الميت بعد دفنه في الأرض بوجه شرعي يكون ذا حق بحيث يكون إعمال السلطنة إضرارا لحقه و هتكا لحرمته، فإنّ حرمة الأموات أزيد من حرمة الأحياء.
و بالجملة: هو قياس مع الفارق.
و أما الرابع فهو- كما ترى- غير ناظر إلى موارد قطع الصلاة و عدمه أبدا، بل هو مسوق لبيان جواز العدول و عدمه.
و أما الخامس فهو أول الكلام؛ لأنّ منكريته غير محرزة، و من هنا ظهر فساد القول به من جهة حرمة القطع؛ لأنه مصادرة محضة.
ص: 179
و الحق هو ما ذهب إليه المشهور من الإتيان بها خارجا و إن شرع بها.
ثمّ اعلم أنه قد ظهر مما ذكرنا أنّ إباحة المكان من الشروط العقلية التي لم يقم دليل لفظي على اعتبارها أبدا، كالطهارة و الحدث و الاستدبار و غيرها من الشروط الشرعية المعتبرة بجعل الشارع و اعتباره، فشرطيتها حينئذ منتزعة من التكليف المنجز النفسي المستقل، و هو حرمة الغصب، فلو لم يتنجز ذلك التكليف لجهل أو لسهو أو لاضطرار أو لإجبار مثلا، لم تتحقق تلك الشرطية أصلا، و من هنا ظهر الحال في صلاة المحبوس في المكان المغصوب، فإن صلاته صحيحة فيه كصلاته في المكان المباح؛ و ذلك لعدم تنجز التكليف المنتزع عنه شرطية الإباحة لاضطراره و لإجباره فيه، و النهي عنها تكليف بما لا يطاق.
و بالجملة: فالأدلة العقلية و النقلية قاضية بصحة صلاته، و كذا سائر تصرفاته العادية التي قضت الحاجة و الضرورة إليها بحسب عادة البشر؛ لأن إجباره في الكون غير مقيد بشي ء آخر، و هو مجبور في ذات الكون لا في الكون المخصوص، فحينئذ لا يفرق الحال بين قيامه و قعوده، و سائر حركاته العادية، نعم لا بد أن لا يتصرف أزيد من التصرفات العادية.
و من هنا ظهر فساد ما ذهب إليه بعض الأعلام من أنه لا يجوز له أن يتصرف أزيد من الكيفية التي كان عليها من أول الدخول إلى المكان المحبوس فيه، إن قائما فقائم، و إن جالسا فجالس، بل ترقى و قال: لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا.
و لقد أجاد صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال فيه بعد نقل هذا القول و لم يتفطن أنّ البقاء على الكون الأول تصرف أيضا لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف، كما أنه لم يتفطن أنه عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشد ما عامله
ص: 180
الظالم، بل حبسه حبسا ما حبسه أحد لأحد. اللهمّ إلّا أن يكون في يوم القيامة مثله، خصوصا و قد صرّح بعض هؤلاء أنه ليس له حركة أجفان عيونه زائدا على ما يحتاج إليه، و لا حركة يده، أو بعض أعضائه كذلك، بل ينبغي أن تخص الحاجة في التي تتوقف عليها حياته و نحوها مما ترجح على حرمة التصرف في مال الغير، و كل ذلك ناش عن عدم التأمل في أول الأمر، و الأنفة عن الرجوع بعد ذلك، أعاذ اللّه الفقه من أمثال هذه الخرافات.
أقول: ثمّ استغرب دعواهم أنّ الفقهاء على ذلك، و استشهد بأقوال العلماء و شدد النكير و الغرابة على هؤلاء، فراجع.
ثمّ اعلم أنّ الشرط المستقل النفسي في المكان هو إباحته فقط، أما الشروط التي ذكرها السيد قدّس سرّه (1) في العروة من اشتراط كونه في المكان القار، و أن لا يكون في معرض التلف، و أن لا يكون معرضا لعدم إمكان الاتمام و التزلزل في البقاء إلى آخر الصلاة، و غير ذلك من الأمور التي جعلها من شروط المكان، فليس على ما ينبغي؛ بداهة عدم كون شي ء منها من شروط المكان، فإطلاق الشرط على بعضها لا يخلو من تأمل، بل هي واجبات أو محرمات نفسية مقارنة للصلاة لا يوجب فقدها فسادا في الصلاة، و بعضها يرجع إلى شرط آخر كشرط كونه قارا، بل بعضها راجع إلى شروط أصل الصلاة، و بعضها الآخر غير راجع إلى الشرطية أبدا، فالبطلان في المكان الغير القار إنما هو لأجل الإخلال بالطمأنينة التي شرط فيها و في معرض التلف؛ لكونه إلقاء النفس على
ص: 181
التهلكة، و لا دخل له بالصلاة أصلا، بل هو حرام في جميع الأحوال.
و الحاصل: كل من كان له أدنى تأمّل يعلم بأنّ الأمور المذكورة ليست من شروط المكان بشي ء، بل بعضها مستلزم للاخلال ببعض شروط أصل الصلاة، فتبطل به، و بعضها غير راجع إلى الشرطية أصلا، فلا وجه لبطلانها به، مثل اشتراط عدم كونه في معرض عدم إمكان الاتمام فإنه لا وجه لبطلانها به فيما إذا صدر عنه النية، و مع عدمه يرجع إلى الإخلال بها، فمعه تكون الصلاة باطلة؛ للاخلال بها لا له.
نعم، قد وقع الخلاف في الشرط السابع من الشروط المذكورة في العروة، و هو اشتراط عدم كونه مقدما على قبر معصوم، بل و لا مساويا على قول، كما في العروة، و لو قلنا بشرطية هذا الشرط مستقلا فإنما هو للنص الوارد في المقام، بخلاف سائر الشروط المذكورة فيها، فحينئذ ينبغي أن ينظر في الأخبار الواردة في المقام لكي يتضح الحال من أنّ قبور الأئمة عليهم السّلام من حيث هي علة للحكم و مناط له، أو لكون الصلاة أمامهم موجبة لهتك حرمتهم سلام اللّه عليهم.
فنقول- قبل ذكر الأخبار-: إنّ المشهور بين القدماء هو الكراهة، و لم ينقل الحرمة من أحد إلى زمن والد الشيخ البهائي قدّس سرّه (1)، و هو و من تأخر عنه ذهبوا إلى الحرمة، حتى صارت في هذا العصر مشهورة.
و كيف كان لا بدّ من الرجوع إلى الأدلة و النظر في مداليلها لكي يعلم الغرض منها، و أنها مفيدة للحرمة، أو للكراهة. و على الأول هل تكون الحرمة
ص: 182
تكليفية أو يعمّها و الوضعية؟ فينبغي البحث في المقامين:
المقام الأول: في الحرمة و عدمها تكليفا، فاعلم أنّ الأخبار الواردة في المقام على طوائف: منها ما يدل على حرمة الصلاة بين المقابر مطلقا، و منها ما ينفي البأس عنها كذلك فيها، فتجمع بينهما بحمل الأول على الكراهة، و هذا مما لا إشكال فيه.
و طائفة تدل على حرمة جعل قبور الأئمة عليهم السّلام بخصوصها مسجدا و قبلة، و في مقابلها أخبار كثيرة متواترة تدل على أفضلية الصلاة عند قبورهم عليهم السّلام، و أن ركعة من الصلاة عندهم يقابل كذا و كذا، كما في زيارة مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السّلام، و سيد الشهداء، و أئمة البقيع و الكاظمية و العسكريين و المشهد الرضوي، سلام اللّه عليهم أجمعين.
و ربما يقال بالتنافي بين الأخبار الدالة على عدم جواز جعل قبورهم و قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله مسجدا و قبلة، و بين الأخبار المجوّزة، و لكنه واضح الفساد؛ لأن المراد من جعل قبورهم قبلة و مسجدا هو اتخاذها قبلة و كعبة للعبادة، كالكعبة زادها اللّه شرفا، كما هو ظاهر، و طائفة منها تدل على حرمة جعل قبورهم في الخلف، بل و في اليمين و اليسار في حال الصلاة.
منها: مكاتبة الحميري التي ذكرها في الاحتجاج و التهذيب، و وقع الخلاف بين النسختين، و لذا توهّم بعضهم بأنها روايتان، و الحق أنها رواية واحدة لاستبعاد سؤال الحميري عن حكم الشي ء الواحد بسؤالين مع ما هو عليه من العلم و الفضل و المعرفة، و كان من وكلاء الحجة- عجل اللّه فرجه- في الغيبة الصغرى.
و المروي في التهذيب قال: كتبت إلى الفقيه عليه السّلام أسأله عن الرجل يزور
ص: 183
قبور الأئمة عليهم السّلام هل يجوز أن يصلي على القبر أم لا؟ و هل يجوز لمن صلى عند قبورهم أن يقوم وراء القبر و يجعل القبر قبلة و يقوم عند رجليه؟ و هل يجوز أن يتقدم القبر و يصلي و يجعله خلفه؟ فأجاب، و قرأت التوقيع، و منه نسخت: أما السجود على القبر فلا يجوز في نافلة و لا فريضة، و لا زيارة، بل يضع خده الأيمن على القبر. و أما الصلاة فإنها خلفه، و يجعله الامام، و لا يجوز أن يصلي بين يديه؛ لأن الإمام لا يتقدم، و يصلي عن يمينه و شماله.
و رواها الطبرسي (1) في الاحتجاج بهذا المتن إلّا أنه قال في آخرها: و لا يجوز أن يصلي بين يديه و لا عن يمينه و لا شماله؛ لأن الإمام لا يتقدم، و لا يساوى.
و الظاهر بل المقطوع به- بعد أدنى تأمل- وحدة الرواية؛ إذ من المستبعد
ص: 184
أن يكون الحميري قد سأل الإمام عليه السّلام مرتين، و أجابه عليه السّلام بجوابين مختلفين.
و القائلون بالكراهة لم يعتبروا هذه الرواية؛ نظرا إلى ضعف سنده، و معارضة نسخة الشيخ رحمه اللّه مع نسخة الطبرسي رحمه اللّه.
و يؤيد التعبير فيها بالفقيه، و المراد به في عرف الرواة خصوص أبي الحسن موسى عليه السّلام، و الحميري ليس من أصحابه، و لكن لا يكاد يتم شي ء منها.
أما الأول و هو ضعف السند، لكونها مرسلة؛ فلأن ظاهر الشيخ في الفهرست كون الواسطة بينه و بين الراوي جماعة ثقات.
و أما الثاني فلما قد ثبت في محله أنّ الرواية المشتملة على أحكام متعددة لو تعارضت في خصوص بعضها لما سقطت عن الاعتبار بالكلية، و في الجهات الأخرى و الأحكام الباقية.
و أما الثالث و هو التعبير بالفقيه فإنه قد يعبر به عن غيره عليه السّلام من الأئمة للتقية و طلب الستر الذي هو في الحجة- عجل اللّه فرجه- أشد و أقوى. و يؤيد أن المراد به هو الحجة عليه السّلام التصريح به في الاحتجاج.
و من هنا ظهر أنّ الأقوى هو ترجيح رواية التهذيب لو سلمنا التعارض، فلا ينافيه إرساله لها، و التعبير عن الحجة عليه السّلام بالفقيه كما عرفت.
و كيف كان فلا ريب في اعتبار هذه المكاتبة و صحة الاعتماد عليها، و لا سيما مع اعتضادها بجملة من الأخبار كخبر هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل، قال: أتاه رجل فقال: يا ابن رسول اللّه، هل يزار والدك؟ قال:
نعم، و يصلى عنده، و لا يتقدم عليه.
و مفادها على الظاهر عدم جواز الصلاة مع التقدم على القبر، و لكن الشأن
ص: 185
في تنقيح مفادها و مواردها، فإن قوله عليه السّلام: يجعله الإمام- إلى قوله- لأن الإمام لا يتقدم عليه، محتمل لوجهين:
الأول: أن يكون المراد: يجعله الإمام أي يجعل القبر بمنزلة من فيه، فكما أنّ نفس الإمام لا يتقدم عليه فكذلك قبره الشريف.
الثاني: أن يكون المراد: يجعله بمنزلة إمام الجماعة، فكما لا تجوز الصلاة جماعة مع التقدم على الإمام فكذلك لا تجوز الصلاة هنا مقدما على القبر، فيكون الغرض مجرد تشبيه القبر بإمام الجماعة في عدم التقدم عليه.
و الأول أنسب بالمقام و المورد و هو قبر الإمام المعصوم، و لكن يبعده أنّ المناسب حينئذ عدم جواز التقدم عليه في سائر الأحوال، في صلاة أو غيرها، و ليس الحال في القبر بل و لا في نفس الإمام عليه السّلام كذلك، اللهمّ إلّا مع الاستخفاف فإنه حرام مطلقا، لكنه خارج عن محل الكلام.
و يبعد الثاني أنه يكون التعليل حينئذ بمنزلة التأكيد بل التكرار لقوله عليه السّلام:
يصلي خلفه، بل لا يظهر للتعليل وجه مناسبة حينئذ بعد تعذر أن يراد أنه يجعله كإمام الجماعة في الائتمام و التابعية.
و الأظهر عندي إرادة الوجه الأول؛ لأنه أنسب بالمقام و أقرب إلى عموم الشبه، و يكون الغرض من التشبيه إشارة في تأكيد الحكم إلى مناسبة لطيفة، و هي أنه كما أنّ الإمام عليه السّلام لو كان حاضرا حيا لا تعذر أن تصلي و تدعه خلفك، فكذلك قبره، فالملحوظ في الحكم و محط النظر في التشبيه و التنزيل هو خصوص حال الصلاة، و أما سائر الأحوال فغير ملحوظة، كانت كذلك أو لا تكون، و أما حمله على إمام الجماعة فبعيد جدا، و لا يظهر من العبارة أصلا.
ثمّ إنّ الكلام يقع في أنّ النهي هل هو الكراهة أو التحريم، و التحريم هل
ص: 186
هو تكليفي أو وضعي؟
ظاهر المشهور حمله على الكراهة، بل في الحدائق: أني لم أقف على من قال بالتحريم عملا بظاهر الصحيحة المذكورة، يعني مكاتبة الحميري، شوى شيخنا البهائي طاب ثراه (1)، ثمّ اقتفاه جمع ممن تأخر عنه، منهم شيخنا المجلسي رحمه اللّه (2)، و هو الأقرب عندي؛ إذ لا معارض للخبر المذكور، بل في الأخبار ما يؤيده، مثل حديث هشام بن سالم المتقدم. انتهى.
أقول: قد عرفت أنّ المشهور بين القدماء هو الكراهة؛ نظرا إلى ضعف المكاتبة، و عدم نهوضها حجة للحرمة، فيحمل على الكراهة لأجل التسامح في أدلتها، و لكنه قد ظهر لك حقيقة الحال و أنها صحيحة معتبرة لا يجوز أن يرفع اليد عنها للأمور المذكورة.
فإذا، فالأقوى هو الحرمة من حيث التكليف، و أما حرمته الوضعية فربما يقال بها نظرا إلى أنّ النهي في الخبر وقع عن الصلاة، و النهي في العبادة يقتضي الفساد، فيكون التحريم وضعيا، بل يمكن دعوى صراحة قوله- لا يجوز أن
ص: 187
يصلي بين يديه ... الخ- فيه.
و يؤيده أنّ الأصل في النواهي الواردة في العبادات أنها ظاهرة في الغيرية و الشرطية، لا في النفسية، و لكن الأستاذ- مد ظله- مع قوله به كان مصرا على ظهور الأخبار في النفسية، و أنها وقعت عنها بحسب الظاهر، و لكن المراد به و هو حرمة التقدم فيها لكونه هتكا لشأنه، كيف يجعل وجه اللّه خلفه و يصلي أمامه؟
و اختصاصها بها لكونها مقام القرب و الإطاعة، فتأمل.
الشرط العاشر من شروط المكان- على ما ذكره في العروة- أن لا يصلي الرجل و المرأة في مكان واحد، بحيث تكون المرأة مقدمة على الرجل، أو مساوية له، إلّا مع الحائل، إلى آخر ما ذكره فيها.
أقول: و اعلم أنّ الأخبار في هذه المسألة كثيرة، و اختلافها هو منشأ اختلاف الأصحاب، فبين قائل بالحرمة و هو المشهور بين المتقدمين إلّا مع الحائل أو فصل عشرة أذرع، و بين قائل بالكراهة و هو الأشهر عند المتأخرين، و عن الجعفي (1) المنع، إلّا مع الفصل بقدر عظم الذراع.
و كيف كان فلا بد من سرد الأخبار أولا.
فنقول: هي على طوائف أربع: مطلقة في الجواز، و مطلقة في المنع، و مفصلة بين وجود الفاصل فيجوز و بين عدمه فلا، فالفاصل في بعضها عشرة فأكثر، و في بعضها شبر و ما يقاربه، و الأولى بين صريحة في الكراهة أو ظاهرة فيها، و بين مطلقة في عدم البأس، و الأقوى هو الكراهة؛ وفاقا للمتأخرين، لأنّ
ص: 188
أخبار الجواز صريحة فيه و نص في عدم البأس، بحيث لا تقبل التخصيص، و لا تتحمل التصرف فيها بنحو من أنحائه، بخلاف أخبار الحرمة فإنها بين ظاهرة فيها و بين ظاهرة في الكراهة، فيرفع اليد عن ظهورها لنصوصية تلك الأخبار المجوزة، فالمراد بالنهي فيها هو النهي التنزيهي.
و يؤيده اختلاف الأخبار في تعيين مقدار الفاصل، فإن اختلاف الأخبار في المقادير يكشف عن كراهيتها، و مراتبها تختلف شدة و ضعفا، كما في تعيين الوقت و منزوحات البئر.
و يؤيده و وجاهة حمل نصوص المنع على الكراهة التي هي من مراتبه بخلاف ما إذا قلنا بالحرمة، فإنه يقتضي طرح الأخبار الدالة على الجواز صريحا.
ثمّ اعلم أنّ المتبادر من الأوامر و النواهي الواردة في العبادات هو الشرطية و الغيرية، و كونها مسوقة لبيان التكليف الغيري، فالنهي عن الصلاة بحذاء امرأة تصلي ظاهر في المانعية و الشرطية مطلقا و لو في حال الغفلة و عدم الالتفات، اللهم إلّا أن يقال بالمعذورية فيه لحديث الرفع، و حديث «لا تعاد»، كما هو كذلك.
و ينبغي التنبيه على أمور:
منها: أن هذا الحكم غير مختص بالرجال، بل يعمه و الامرأة، كما هو ظاهر كلمات الأصحاب، و جملة من الأخبار، كما هو ظاهر صحيحة محمد بن مسلم، و رواية أبي بصير، و إن كانت هذه الأخبار بحسب الظاهر مسوقة لبيان حكم كل منهما.
و منها: لو اقترن الصلاتان بطلتا جميعا، و لو تعاقبا اختص المنع باللاحقة
ص: 189
دون السابقة؛ و ذلك أن المدار على تحقق عنوان القضية المذكورة في الخبر و هي قوله: لا يصلي الرجل و بحياله امرأة تصلي، و متى تحققت هذه القضية، و حيثما وجدت، لصارت موجبة للمنع.
فإن قلت: كيف يصدق هذا العنوان على صلاته مع أنها منهية، و النهي في العبادة يقتضي الفساد، و هو بعد تعلق النهي غير قادر على إتيانها؟
قلت: و المدار على الصلاة الغير الملحوظة في ضمن النهي و هو قادر عليها لو لا هذا النهي، فيكون مفاده: لا يصلي الرجل صلاة صحيحة لو لا هذا النهي، و من هنا ظهر وجه بطلان صلاتهما فيما لو اقترنا؛ لأنه يصدق على كل منهما:
صلى على حيال الآخر صلاة صحيحة لو لا النهي.
فإن قلت: يلزم على هذا بطلان صلاة السابق منهما أيضا؛ بداهة صدق هذا العنوان في حقه، فإنه صلى بحيال الآخر و لو استمرارا، و هو صلى بحيال من يصلي صلاة صحيحة لو لا النهي.
قلت: و الظاهر من هذه القضايا هو حرمة الشروع فيها و الإيجاد في الخارج ابتداء لا مطلقا، فعلى هذا يكون مفاد القضية: لا يصلي الرجل- أي لا يشرع فيها- و بحياله امرأة مصلية، و هذا العنوان يصدق على كل منهما فيما لو اقترنا، و لذا تكون صلاتهما باطلة، بخلاف فيما لو تعاقبا فإنه لا يصدق على السابق أصلا، بخلاف اللاحق منهما فإنه يصدق عليه كما لا يخفى.
و من هنا ظهر وجه الصحة فيما لو حصلت اللاحقة لا عن عمد، فإن صلاتها صحيحة للغفلة، و كذا صلاة السابقة على ما حققنا؛ لأنه ما شرع فيها و بحياله امرأة مصلية، بل كان مصليا و شرع فيها من غير عذر أصلا، و لو عممنا الابتداء أو الاستمرار لكان مشكلا كما لا يخفى، و منه ظهر عدم الحاجة إلى
ص: 190
الجواب عنه بمنع شمول الأدلة على هذا المورد.
و منها: حكم الخنثى، فيجب عليها الاجتناب دون غيرها، كما في اللباس، و القول بأنّ الأدلة غير شاملة عليها مجازفة؛ لأنها مسوقة لبيان أحكام الموضوعات الواقعية، و المفروض أنها إما داخلة في الذكور أو الإناث بحسب الواقع و نفس الأمر، كما لا يخفى.
ثمّ إذا قلنا بالكراهة- كما هو المختار- فالأمر بالنسبة إلى الفواصل سهل، و أما إذا قلنا بالحرمة- كما عليه المشهور- فتزول إذا كان بينهما حائل بلا خلاف؛ للأخبار المستفيضة الدالة على المضي فيها فيما إذا كان بينهما حائل.
نعم، وقع الخلاف في الجملة في اعتبار الحائل على نحو يكون مانعا عن المشاهدة و عدمه، و الأقوى هو عدمه؛ لصحيحة علي بن جعفر عليه السّلام المروية عن كتاب مسائله، عن أخيه موسى عليه السّلام، قال: سألته عن الرجل هل يصلح أن يصلي في مسجد حيطانه كوى (1) كله، قبلته و جانباه، و امرأة تصلي بحياله يراها و لا تراه، قال عليه السّلام: لا بأس.
و خبره الآخر المروي عن قرب الإسناد عن أخيه موسى عليه السّلام المتضمن لنفي البأس فيما إذا كان بينهما حائط قصير أو طويل.
فإن هذين الخبرين صريحان في عدم اعتبار الحائل المانع عن
ص: 191
المشاهدة، و بهما تقيد الأخبار المطلقة.
و يؤيده الأخبار الدالة على نفي البأس فيما إذا كان بينهما شبر أو ذراع، بناء على أن المراد به ما كان ارتفاعه عن الأرض بهذا المقدار.
و الحاصل: لا ريب في عدم اعتبار الفاصل المانع، كما لا ريب في أنّ المتبادر من الحائل هو الحائل الجسماني، فلو حصل الفصل بينهما لظلمة أو لعدم الإبصار لا يكفي، فضلا عن تغميض عينه، على أنّ القياس كما ترى من العلة المستنبطة، كما ذكره في الجواهر، و كذا تزول الحرمة فيما إذا كان بينهما مقدار عشرة أذرع، كما يدل عليه جملة من الأخبار، مضافا إلى كونه مما لا خلاف فيه.
نعم، يقع الكلام في أنّ المدار في ارتفاع الحرمة هو هذا المقدار، أو يكفي و لو كان مقدار عظم ذراع، أو شبر كما يدل عليهما جملة منها؟
و الضابط هو ملاحظة الأخبار إن أمكن الجمع بينها بحيث لم يكن الأخبار الدالة على الأزيد منافيا للأخبار الدالة على الأقل لا منطوقا و لا مفهوما، فيؤخذ بكل منهما، كما في الواجبات التخييرية، و إلّا فيرفع اليد عن الظهور بنصوصية الأخرى، و إن تساويا فالمدار إما على الطرح و الرجوع إلى الأصل الأوّلي، أو القول بالتخيير بملاحظة الأخبار العلاجية المانعة عن الرجوع إليه بعد التساوي، هذا كله فيما إذا لم يكن المرجح لأحدها فيؤخذ به، و لعل الأخذ بمقدار الزائد هنا هو الموافق للاحتياط؛ و لذا أخذ الفقهاء به، و اللّه العالم.
ثمّ هذا كله فيما إذا تحاذى كل منهما بحسب المكان و لا يتقدم أحدهما على الآخر في موقفهما، أو موضع سجودهما فيعتبر المحاذاة بين الموقفين في حال القيام، و بين مسجده و موقفها عند السجود، و لو كان بينهما بمقدار العشرة
ص: 192
في حال القيام فتباعدا حال السجود بحيث حصل الفصل بينهما من هذه الحالة أيضا بهذا المقدار أجزأهما، فلو كان أحدهما على بناء أو نحوه مرتفع عن طول قامة الأخرى فهو خارج عن منصرف الأدلة، فيرجع فيه إلى الأصل المقرر عند الشك في المانعية و الشرطية.
نعم، يمكن القول بالصدق يمينا و يسارا، يعني صدق الصلاة عن يمينه و يساره و لو لم يتحاذى بحسب المكان.
و بالجملة: و إن كان يصدق مفردات القضية من اليمين و اليسار و الحذاء؛ بداهة انتزاع تلك المفاهيم عند تقابل الجسمين بأي نحو كان، و لكن العمدة و المدار هو على صدق القضية بعد التركيب بحيث يصدق مفاد قوله عليه السّلام: لا يصلي الرجل بحيال امرأة تصلي، في نظر العرف، فلو وقعا في مكان لا يمكن التباعد و لا التقدم يصلي الرجل أولا ثمّ تصلي المرأة، كما تدل عليه صحيحة محمد بن مسلم، و رواية أبي بصير، و الظاهر أنه على سبيل الأولوية و الفضل من باب تقدم من له الفضل على غيره؛ إذ من المستبعد كون تأخيرها لها واجبا شرطيا أو شرعيا تعبديا، كما يشهد لذلك صحيحة ابن أبي يعفور، إلّا أن يتقدم هي أو أنت، و من هنا ظهر أنه لو ضاق الوقت لا يسقط الصلاة عنهما بل يصليان معا، و لا وجه للقول بالعزيمة أصلا.
ثمّ هل يعمّ الحكم على الصبيان و البنات، أم لا؟ فربما يقال: نعم؛ لورود لفظ البنت في بعض الأخبار، و لكنه ضعيف؛ لعدم إحراز كونها مصلية، فالمدار فيه على الصدق و عدمه.
الشرط الثاني من شروط المكان: هو اعتبار طهارته، و الكلام فيه يقع في مقامين:
ص: 193
المقام الأول: هل يشترط الطهارة في ما عدا موضع الجبهة مما يصلى عليه، أم لا؟ و قد حكي عن أبي الصلاح (1) أنه اعتبر طهارة موضع المساجد السبعة، و عن السيد المرتضى قدّس سرّه (2) أنه اعتبر طهارة مكان المصلي.
و يستدل على قول أبي الصلاح بالنبوي صلّى اللّه عليه و آله: «جنبوا مساجدكم النجاسة»، و هذا كما ترى ظاهر في الأماكن المعدة للصلاة، المسماة بالمسجد، و على فرض العموم لا يعلم منه العموم، غايته هو موضع الجباه كما لا يخفى.
و كذا مفهوم صحيحة ابن محبوب عن الرضا عليه السّلام أنه كتب إليه عليه السّلام يسأله عن الجص يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى، يجصص به المسجد، أ يسجد عليه؟ فكتب إليه: أن الماء و النار قد طهراه، و هذا كما ترى لو سلم المفهوم لا تدل أزيد من الطهارة في الجملة.
و أما القول المحكي عن السيد قدّس سرّه فاستدل له بالنهي عن الصلاة في المجزرة، و هي مواطن النجاسة، فهو أيضا كسابقه، مضافا إلى احتمال النهي التنزيهي في هذه الموارد غالبا.
و استدل أيضا بموثقة ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الشاذكونة (3)
ص: 194
يصيبها الاحتلام أ يصلى عليه؟ قال: لا.
و موثقة عمار الدالة على عدم جواز الصلاة في موضع القذر ما دام لم تكن الشمس جففته و إن يبس بغير الشمس أيضا لا يجوز الصلاة فيه.
و لكن هذين الموثقتين متعارضتان بالصحاح المستفيضة المعمول بها عند الأصحاب، و الترجيح يكون بها؛ لكونها أكثر عددا، و أوضح دلالة، و أقوى سندا، فلا بد من الأخذ لها و التصرف في ظهور الموثقتين بحملهما على الكراهة؛ لأن استعمال النهي فيها في غاية الكثرة، و هذا مما لا إشكال فيه، و إنما الكلام في المكان النجس بالنجاسة المسرية، فالمشهور بل الإجماع على بطلان الصلاة فيه؛ لطائفتين من الأخبار:
الطائفة الأولى: هي الأخبار الدالة على اعتبار الطهارة في الثوب و البدن فيها، فمع السراية يفقد ذاك الشرط كما لا يخفى.
و الطائفة الثانية: هي مفاهيم المطلقات، الدالة بمنطوقها على جواز الصلاة في النجس اليابس؛ و لدعوى الإجماع و الاتفاق، و هذا لا كلام فيه على الظاهر، و إنما الكلام في أنّ هذا الشرط من شروط المكان من حيث هو هو، أو اعتباره لكونه مستلزما لفقدان الشرط الآخر و هو الطهارة، و الظاهر من كلامهم هو الثاني، و الأخبار منصرفة إلى هذا لأجل الأنس و الارتكاز من الخارج، فأنس
ص: 195
الذهن بأنّ الطهارة شرط فيها و ارتكازه فيه مانع عن إطلاق الأدلة و صالح لأن يكون بيانا. و يشهد على ذلك تعبيرهم بالنجاسة المسرية، فحينئذ لو صلى في النجس المسري لكن بمقدار يعفى عنه فيها، أو في دم القروح و الجروح، أو صلى فيه و لكن ما سرت إلى لباسه و بدنه، فالصلاة فيه صحيحة، بخلاف ما إذا قلنا إنه شرط في المكان مستقلا فإنها تكون باطلة مطلقا سواء سرت أم لا، و سواء كان النجس مما يعفى عنه أم لا، و إليه ذهب فخر المحققين (1).
و يؤيده بأن قضية تأنس الذهن لا يوجب الانصراف أبدا؛ لأنه مستلزم لتطبيق الأدلة بما فيه لا استخراج حكم من الأدلة بل الأدلة مطلقة فلا استبعاد من أن يكون للمكان النجس بالنجاسة المسرية خصوصية مانعة عنها، فحينئذ فما ذهب إليه فخر المحققين رحمه اللّه لا يخلو عن قوة.
و يؤيده أنه كيف يمكن توجه سؤال كبراء الأصحاب عن حكم طهارة اللباس و البدن بعد علمهم به أولا، و لو لم يكن فيه خصوصية زائدة لما وقع التأكيد فيه عن الأئمة عليهم السّلام، و الصحابة، و التشديد بهذه المثابة.
و أما المقام الثاني: و هو اشتراط طهارة موضع الجبهة، فهو إجماعي على الظاهر، و لا ينافيه جواز السجود على النجس اليابس بالشمس عند بعضهم، فإنه من الممكن تخصيص المورد المخصوص بالأدلة الخارجية، فتحمل الأخبار الدالة على طهارة ما جففته الشمس على جواز السجود عليه، و القول بأنه لا يكشف عن الطهارة بل يمكن أن يبقى على النجاسة و مع ذلك كان السجود عليه جائزا، كما ادعى جماعة من الأصحاب، غير مناف للإجماع المدعى أصلا، فإنّ
ص: 196
المطلوب هو إثبات الموجبة الجزئية، فلا ينافيه السلب كذلك.
و ربما يستدل على طهارته بمفهوم صحيحة ابن محبوب المتقدمة، فإن قوله عليه السّلام بعد الجواب بأنّ الماء و النار قد طهراه، و تعليله هذا كاشف عن اعتبار الطهارة كما لا يخفى، و لكنه في غاية الضعف؛ لأن الصحيحة في غاية الإجمال من وجوه لا يخفى، فالاعتماد بمثل مفهوم هذه الصحيحة أو بغيرها من المطلقات المحمولة عليه لا يخلو من عدم المبالاة و الجسارة في الحكم؛ بداهة أنّ الحمل إنما يصح إذا كان أصل الحكم محرزا قبله، فظهر أنّ المسألة كأنها أخذت عن الأئمة عليهم السّلام يدا بيد حتى وصلت إلى زماننا هذا، و هي غير منصوصة بخصوصها.
هذا، و ينبغي التنبيه على أمور:
الأول: لو كان موضع السجدة بمقدار ما يعتبر فيها طاهرا و الباقي نجسا، فهل يصح السجود عليه أم لا؟ وجهان؛ نظرا إلى أنّ المسألة لما كانت غير منصوصة بل المدار فيها الإجماع الذي هو من الأدلة اللبية فلزم الاكتفاء فيها على القدر المتيقن، و هو الطهارة في الجملة، و نظرا إلى أن عبائر الفقهاء التي كالنص في المقام لما كانت ظاهرة في الاستيعاب بحسب الفهم العرفي فيشترط طهارة الجميع؛ لأن المتبادر من طهارة الشي ء هو طهارة جميعه بحيث لو كان جزء من أجزائه نجسا لما صدق الطهارة عليه أصلا، أ لا ترى أنه لا يقال- لمن صلى في لباس كان خيطه نجسا فضلا عن طرفه- إنه صلى في لباس طاهر؟
هذا بخلاف طرف النجاسة فإنه لو تحقق طبيعة النجاسة في الخارج و لو كانت الطهارة غالبة عليها لصدق وصف النجاسة، فيقال- لمن صلى في لباس خيطه نجس-: إنه صلى في لباس نجس، كما لا يخفى.
ص: 197
إن قلت: فعلى هذا يلزم بطلان الصلاة فيما إذا وقعت السجدة على الأرض و المعادن و لو كانت الأرض بمقدار ما يعتبر في السجود عليه، مع أن الصحة و عدم البطلان وفاقي، و ما ذهب إليه أحد.
قلنا: الفرق بين الطهارة و غيرها ظاهر؛ لأن الأول من شروط موضع السجدة، و غيرها شروط في أصل السجدة بماهيتها، و فرق واضح بين أن يقال:
يشترط فيما يقع عليه السجود الطهارة، و بين أن يقال: يشترط في السجدة أن لا تقع إلّا على الأرض أو ما ينبت فيها، بحيث ينافي تحقق النجاسة في الأول و لو كانت قليلة، و لا ينافي وقوعها عليها مع المعادن و غيرها من الأجزاء الغير الجائزة عليها السجود وحدها، كما لا يخفى لمن له أدنى تأمّل.
الثاني: لو انحصر مكان السجدة في النجس، هل يسجد عليه، أو ينتقل إلى بدله و هو الإيماء؛ لأن انتفاء الشرط موجب لانتفاء المشروط؟ و الأقوى هو الأول؛ لأن المستفاد من سبر مجموع الأخبار هو انتقاض هذه القاعدة في باب الصلاة، إلّا في قضية الحدث؛ لأن انتفاء الطهارة بكلا قسميه موجب لانتفاء الصلاة على الأقوى.
و بالجملة: انتفاء وصف الشرط لا يستلزم انتفاء أصل الشرط بماهيته، أ لا ترى غير العالم بالفاتحة على نحو ما اعتبره الشارع يقرأ حسب مقدوره منها، لا أنها تكون ساقطة في حقه من أصلها.
الثالث: لو صلى في المكان النجس سهوا ثمّ علم به بعد الصلاة، و المسألة مبنية على كيفية اعتبار شرطية طهارة المكان من أنها شرط واقعي أو ذكري، اللهم إلّا أن يقال إنّ الأدلة الثانوية موجبة لصحتها و عدم إعادتها، و إن كان مقتضى القاعدة الأولية هو الشرط الواقعي كما مر التنبيه عليه غير مرّة.
ص: 198
الشرط الثالث: أن يكون ما يسجد عليه الإنسان أرضا، أو ما أنبتت الأرض، إلّا إذا كان مأكولا أو ملبوسا، و الدليل على ذلك كله هو الأخبار المستفيضة.
منها: صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال له: أخبرني عما يجوز السجود عليه، و عما لا يجوز، قال عليه السّلام: السجود لا يجوز إلّا على الأرض و على ما أنبتته الأرض، إلّا ما أكل و لبس.
و خبر الصدوق قدّس سرّه (1) في العلل مثله بزيادة: فقلت له: جعلت فداك، ما العلة في ذلك؟ قال عليه السّلام: لأنّ السجود خضوع للّه عز و جل، فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل و يلبس؛ لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده في عبادة للّه عز و جل، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها، و السجود على الأرض أفضل؛ لأنه أبلغ في التواضع و الخضوع للّه عز و جل.
و خبر الأعمش المروي عن الخصال عن الصادق عليه السّلام في شرايع الدين، قال: لا يسجد إلّا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلّا المأكول و القطن و الكتان.
و عن الفضل أبي العباس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا يسجد إلّا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلّا القطن و الكتان.
و صحيحة حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: السجود على ما
ص: 199
أنبتت الأرض إلّا ما أكل و لبس.
إلى كثير من أمثال هذه الأخبار مما هو صريح في عدم جواز السجود إلّا على الأرض، أو النبات الخارج منه الغير المأكول و الملبوس.
و الظاهر أنّ المسألة إجماعية، بل هو من ضروريات المذهب، و إنما الإشكال في بعض المصاديق و المحققات الخارجية التي وقع الاشتباه في خروجه عن الأرضية.
فنقول: إن المراد من الأرض هو كل ما صدق عليه اسمها في العرف، متصلة كانت أم منفصلة، و القول بأن المنفصلة منها لا يصدق عليها الأرض كما ترى، و لا سيما بعد ورود الأخبار الخاصة الدالة بأنّ الأئمة عليهم السّلام كانوا يسجدون عليها متصلة و منفصلة، و كالأخبار الدالة على أفضلية السجود على طين قبر الحسين عليه السّلام، و القول بأنّ التربة الحسينية إنما خرجت بالنص كما ترى.
و كيف كان، لا إشكال في السجود على الأرض المنفصلة ما دام يصدق عليها اسمها مع بقائها على حقيقتها و عدم انقلابها إلى حقيقة أخرى، و إنما الكلام في جملة من الموارد التي يشك في تحقق هذا المعنى، و أما الأشياء الغير الصادقة عليها اسم الأرضية كالمعادن بأنحائها المختلفة التي لا شك في انقلابها عن حقيقة الأرضية فهو مما لا ريب في عدم جواز السجود عليها، لا لكونها معادنا بل لعدم كونها أرضا في نظر العرف، فالتعليل في بعض الأشياء- بأنه معدن لا يجوز السجود عليه- ليس على ما ينبغي.
و بالجملة: و من الموارد المشكوكة هو الجص و الخزف و النورة و الآجر مما هو معلوم الأرضية، و أما الذين يقولون بأنها أرض لا شك في صدقها عليها فلا نزاع إن كانت دعواهم مطابقة للواقع.
ص: 200
و كيف كان، ربما يقال بجواز السجود على تلك الأشياء لأمور:
منها: منع الانقلاب و خروجها عن حقيقة الأرض لأجل بعض التغيرات و هي ليست إلّا مثل ما كانت قبل أن يوقد عليها النار.
و منها: التمسك باستصحاب الأرضية بداهة و لا أقل من الشك في الانقلاب و عدمه فيستصحب الأرضية المتيقنة.
و منها: دعوى دلالة صحيحة حسن بن محبوب على ذلك، حيث اقتصر الإمام عليه السّلام فيها على جواب طهارة الجص، و كأنّ جواز السجود عليه كان مفروغا عنه، و إنما المانع كان هو النجاسة، فأجابه عليه السّلام بأنّ الماء و النار قد طهراه.
و منها: الأخبار الدالة على جواز التيمم بها، فإنّ المسألة من واد واحد، و لا ينافي ما ذكرنا خبر عمرو بن سعيد الدال على عدم جواز السجود على الصاروج و منعه عنه؛ لأن الصاروج ليس هو النورة، بل مركب منها و من الرماد، فيحتمل أن يكون منعه عليه السّلام للرماد لما نهي عن التيمم عليه في بعض الأخبار معللا بأنه يخرج من الشجر و ليس يخرج من الأرض، هذا.
و ربما يقال بخروجها عن حقيقة الأرض، كما يكشف عنه اختلاف الآثار و تبدلت حقيقة الأرضية إلى الحقيقة الثانوية، و يشهد لذلك اتفاقهم على خروج الرماد عن حقيقتها، و عن حقيقة إنباتها، مع أنه إحراق كإحراق الجص و النورة، و التمسك بالصحيحة غير جائز لما قلنا من أنها مجملة من وجوه، و الملازمة بين السجود و التيمم غير ثابتة، و الأخبار الدالة على جواز التيمم بهما محتملة فيما إذا كان المراد من الجص و النورة هو قبل الإحراق لا بعده، و من هنا ظهر فساد التمسك بالاستصحاب لتبدل الموضوع كما لا يخفى.
ص: 201
و بالجملة: بعد القول بأنّ الأرضية شرط في صحة السجود فلا بد من إحرازها، و الاحتياط في موارد الاشتباه لما نثبت في محله أنّ الشك في مصاديق الشروط و محققاتها موجب للاحتياط، هذا بخلاف الشك في مصاديق الموانع.
و أما البلور و الزجاج و الرماد فلا إشكال في عدم جواز السجود على شي ء منها، و هو على الظاهر موضع وفاق، سواء كان من الأرض و أجزائها المحضة، أم من غيرها من حجارة أو حصى، أو غيرهما من ملح أو غيره؛ لعدم صدق عنوان الأرضية على شي ء منها، فهذه الأشياء في نظر العرف صارت حقائق مباينة لحقيقة الأرض، بل لا يخطر ببالهم أنها من الأرض أو غيرها.
و يشهد لما ذكرنا صحيحة محمد بن الحسين قال: بعض أصحابنا كتب إلى أبي الحسن الماضي عليه السّلام يسأله عن الصلاة على الزجاج، قال: فلما نفذ كتابي إليه تفكرت و قلت: هو مما أنبتت الأرض، و ما كان لي أن أسأل عنه، قال: فكتب إليّ: لا تصلّ على الزجاج، و إن حدثتك نفسك بأنه مما أنبتت الأرض، و لكنه من الملح و الرمل و هما ممسوخان (1)، و المراد من مسخهما هو صيرورتهما زجاجا
ص: 202
ص: 203
لا كونهما في الأصل من الممسوخات كما يوهمه ظاهر العبارة، و من هنا حكم بعضهم بمنع جواز السجود على الرمل، و لكنه بعيد جدا، كيف و هو أرض! و الإجماع قائم على خلافه مع بعض النصوص.
و مما ذكرنا ظهر حال كل ما هو خارج عن حقيقة الأرضية بحيث لا يصدق عليه بحسب العرف، و لا يعد من الأرض و لا من نباتها؛ لأن الأدلة- كما عرفت جملة منها- صريحة في الجواز على العنوانين، و المنع عن غيرهما من العناوين المغايرة لهما، اللهم إلّا أن يقوم دليل خاص في الموارد الخاصة
ص: 204
فيقتصر عليه لا غير، كما في القرطاس و القير، و لكن أخبار جواز القير معارضة بما هو أقوى منها، و هي غير معمول بها عند الأصحاب، فحملها على التقية أو الاضطرار حذرا من الطرح أولى من حمل النهي في تلك الأخبار على الكراهة بعد إعراض الأصحاب عنها.
و بالجملة: إعراض الأصحاب قرينة على وجوب التصرف في أخبار الجواز، مع مخالفتها لعمومات الباب الدالة على حصر السجود في العنوانين، و لكنه علل في بعض أخبار الجواز بأنه من نبات الأرض، و لكنه غير موافق لما هو متراءى من أنظار العرف.
ثمّ المراد من المأكول و الملبوس هل هو المأكول و الملبوس الفعلي، أو يعمه و الشأني الاقتضائي؟ و على كلا التقديرين هل المراد هو المأكول و الملبوس بحسب النوع، أو يعمه و الصنف و الأفراد؟ ثمّ الشي ء المأكول أو الملبوس عند قوم هل يحرم عليهم، أو على جميع المكلفين؟ وجوه.
و أما المأكول و الملبوس من غير عادة كما في حال الاضطرار فهو غير مشمول للأخبار قطعا.
و الظاهر بل المقطوع به هو أنّ المراد من المأكول المنهي عن السجود عليه ليس هو خصوص المأكول بالفعل، بل يعمه و الشأني، فكل ما أعد لأكل الإنسان من الحنطة و الشعير و أشباههما مما هو غير مأكول بالفعل بحسب العادة، بل يحتاج إلى العلاج فلا يجوز السجود عليه قبل نضجها و قبل انفصال قشرها و إن كان القشر مما لا يؤكل، كالجوز و اللوز، و السر في ذلك أنّ القشر غير ملحوظ في حيال اللب باللحاظ الاستقلالي، فالسجود على القشر سجود على اللباب؛ لأنه مندكّ فيها كما لا يخفى. نعم بعد الانفصال لا مانع من السجود عليه؛ لعدم
ص: 205
دخوله تحت الأدلة و هي منصرفة عنه.
و قد حكي عن العلامة قدّس سرّه في التذكرة و المنتهى: أنه جوّز السجود على الحنطة و الشعير قبل الطحن معللا بكونهما غير مأكولين، و أنّ القشر حائل بين المأكول و الجبهة، و لكن لا يخفى ضعفه؛ لما عرفت من اندكاك القشور في اللباب بحيث لا وجود لها عند العرف وراء وجود اللباب، بل إطلاق جملة من الأدلة شامل لها، مثل ما في خبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال عليه السّلام: لا بأس بالصلاة على البواري و الخصفة و كل نبات إلّا الثمرة. و في صحيحة زرارة:
و لا شي ء من ثمار الأرض.
و قد يتوهم التنافي بين هذه الأخبار الظاهرة في العموم لما يؤكل من الأثمار و ما لا يؤكل، و بين الأخبار المتقدمة الدالة على منع السجود على المأكول لا غيره من الأثمار، و قد يدعى عدم التنافي بين استثناء الثمرة و استثناء المأكول؛ لأنّ النسبة بينهما العموم المطلق، فتخص الثمرة بالمأكول منها، و على هذا لا حاجة إلى دعوى انصراف المأكول إلى النبات المتعارف.
قال الأستاذ- مد ظلّه- في كتابه في هذا المقام ما لفظه: و أجاب أستاذنا الفقيه عنه: بأنّ التنافي في أمثال هذه الموارد ينشأ من قبل الحصر المستفاد من الاستثناء لا من الاستثناءين.
و بيانه: أنّ في المقام طائفتين من الأخبار: الأولى ما وقع فيها استثناء ما أكل و لبس مما أنبتت الأرض، و الثانية ما اشتمل على استثناء مطلق الثمرة، و كل منها بحسب ما فيها من الاستثناء ينحل إلى عقدين: إيجابي و سلبي، أما العقد الإيجابي و هو عمدة ما سيق له الكلام، فمن الأولى أنه يجوز السجود على ما عدا المأكول و الملبوس مما أنبتته الأرض مطلق الثمرة كانت أم غيرها، و من
ص: 206
الثانية أنه يجوز السجود على ما عدا الثمرة منه مطلقا، و العقد السلبي من الأولى أنه لا يجوز السجود على المأكول و الملبوس مما أنبتته الأرض، و من الثانية أنه لا يجوز السجود على الثمرة.
و من الواضح أنه لا منافاة بين الإيجابين و لا بين السلبين، و إنما التنافي بين العقد الإيجابي من الأولى و السلبي من الثانية، بناء على كون الثمرة أعم مطلقا من المأكول كما هو المفروض، فلا بد في رفع التنافي إما من رفع اليد عن ظاهر الحصر و ارتكاب تخصيص آخر في المستثنى منه زائدا على التخصيص الذي تضمنه الكلام، أو تقييد الثمرة بما إذا كانت مأكولة، و لا شبهة أن الثاني أولى، كما أنا إن قلنا بأنّ المأكول أيضا أعم من وجه من الثمرة لصدقه على الخس و أشباهه مما لا يعد في العرف ثمرة، لتحقق التنافي بين العقد الاثباتي من الثانية حيث تدل على جواز السجود على ما عدا الثمرة مطلقا، و العقد السلبي من الأولى، فلا بد في مقام الجمع إما من تقييد المأكول الذي نهي عن السجود عليه بما إذا كان ثمرة، أو التصرف في ظاهر ما دل على انحصار ما هو الخارج عن عموم ما أنبتته الأرض بالثمرة إما بارتكاب التخصيص في المستثنى منه بالنسبة إلى ما عدا الثمرة من المأكول، أو التوسع في الثمرة بحملها على إرادة مطلق المأكول و تخصيصها بالذكر للجري مجرى الغالب، و لكن يبعد الأول- أي تقيد المأكول بكونه ثمرة- إطلاق فتاوى الأصحاب المعتضد بظاهر صحيحة هشام المشتملة على التعليل القاضي بإناطة المنع بالمأكولية لا بكونه ثمرة كما لا يخفى. انتهى ما نقله الأستاذ- مد ظله العالي- عن شيخه الفقيه الهمذاني قدّس سرّه (1).
ص: 207
و مما قدمنا ظهر لك أنّ المدار في جواز السجود و عدمه هو تحقق عنوان الأرضية، و ما أنبتته الأرض غير المأكول و الملبوس على النحو المتقدم.
و من هنا ظهر الحال في القطن و الكتان لأنهما و إن كانا من نبات الأرض إلّا أنهما ملبوسان بل الأغلب في نوع الألبسة هو القطن و الكتان، فلذا يقال: إن قدر المتيقن من عنوان الملبوس المستثنى من جواز السجود هو الكتان و القطن، مضافا إلى الأخبار الدالة على عدم جواز السجود عليهما، و وقوع التعليل في بعض الأشياء التي منع الشارع عن السجود عليها بأنه من القطن أو الكتان فلا يعارضها ظهور بعض الأخبار في جواز السجود عليها، و لو سلّم فالترجيح لأخبار المنع لكونها أقوى دلالة و أكثر عددا، فلا بد من حمل أخبار المنع على مورد الضرورة أو التقية، و لا ينافيه وقوع السؤال في بعضها مقيدا بلا تقية و لا ضرورة، بداهة عدم لزوم بيان الحكم الواقعي على الإمام عليه السّلام في مقام التقية، بل وقوع السؤال على النحو المذكور يؤكد حملها على التقية كما لا يخفى.
و الحاصل: الأخبار الحاصرة جواز السجود على الأرض أو ما أنبتته الأرض غير المأكول و الملبوس حجة في الموارد كلها، و لا يرفع اليد عنها إلّا بالدليل المعتبر الغير المعارض، و أما الأخبار المعارضة بمثلها فلا يصلح للتقيد و رفع اليد عنها أبدا، و لا سيّما إذا كانت غير معمول بها و معرض عنها لدى الأصحاب.
و أما القرطاس فقد اتفقت كلمة الأصحاب في الجملة على جواز السجود
ص: 208
عليه؛ للأخبار الصريحة في الجواز، و لا وجه لرفع اليد عنها بعد ما كانت غير معارضة، و لا مجملة، كما لا وجه لحملها على حال الضرورة بعد أن كانت ظاهرة في العموم، و كذا الخدشة فيه من جهة اشتماله على أجزاء النورة أو أخذه من الكتان و الإبريسم؛ بداهة صيرورته حقيقة على حدة، و الأجزاء المادية مندكة فيه و غير ملحوظة أبدا، بل و لا يخطر على بال العرف و لا يرونه إلّا موضوعا من الموضوعات الخارجية، و حقيقة من الموجودات الإمكانية.
ص: 209
المقدمة السادسة:
مشروعيتهما في الجملة من الضروريات، بل كاد أن يكون منكرهما منكرا لضرورة المذهب، بل ضرورة الإسلام، و هذا مما لا ريب فيه أبدا، و إنما الكلام في كيفية مشروعيتهما و اعتبارهما في الصلاة، فنقول:
إنّ الأقوال في المسألة خمسة:
أحدها: هو اعتبارهما في الجماعة دون غيرها.
ثانيها: هو اعتبار هما للرجال مطلقا دون النساء.
ثالثها: هو اعتبار هما في الغداة و المغرب لا غير.
رابعها: عدم اعتبارهما مطلقا.
خامسها: هو التفصيل بين الأذان و الإقامة.
فالقول بالاستحباب في الأول مطلقا، و بالوجوب في الثاني كذلك، و إلى هذا ذهب جمع من المحققين و منهم أستاذنا الأعظم كاشف الغطاء- مد ظله العالي- نظرا إلى ظهور جملة من الأخبار في الوجوب، بل و في بعضها: لا صلاة إلّا بالأذان و الإقامة، غايته يرفع اليد عنه بالنسبة إلى الأذان لقيام الدليل الخارجي، فمقتضى الجمع بين الأخبار بالنسبة إليه هو حمل الأخبار الظاهرة
ص: 210
في الوجوب على الاستحباب بنصوصية بعض الأخبار الدالة على عدم اعتباره.
و أما الإقامة فحيث لم يقم دليل معتبر على ما ينافي ظواهر الأخبار فلا وجه لرفع اليد عنها بالنسبة إليها، نعم غاية ما يقال في المقام أمور:
أحدها: منع ظهور الأخبار في الوجوب؛ و ذلك لأنّ الأخبار الصادرة في الباب على طوائف بحسب التركيب و الأسلوب:
منها: ما فيه مادة الإجزاء، و أنّ الإقامة مجزية عن الأذان، و هو الأكثر و العمدة في الباب، و غاية مفاد تلك الأخبار هو إجزاء الإقامة وحدها عن التكليف الثابت في المقام، و أما التكليف الثابت هل هو وجوب أو استحباب فغير ناظرة إليه أصلا؛ لأنّ الإجزاء يستعمل في المندوبات كاستعماله في الواجبات بلا تجوّز و لا تكلف أبدا.
و منها: ما يدل على لزوم الإقامة في الصلاة على صيغ مختلفة، مثل قوله عليه السّلام: لا صلاة إلّا بالأذان و الإقامة، أو أنه لا بد من الإقامة و أنه لا يسقط بحال، و غير ذلك من الأخبار، و هذه الأخبار كما ترى لا تدل على أزيد من اللزوم المطلق، و النفي راجع إلى الكمال، كما هو غالب موارد استعماله.
و ثانيها: أن القول بالوجوب في الإقامة و الاستحباب في الأذان خرق للإجماع المركب، هذا عمدة اتكال المانعين كما يظهر من ملاحظة كلماتهم.
ثالثها: هو ظهور بعض الأخبار في الاستحباب كما في صحيح زرارة أو خبره: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل نسي الأذان و الإقامة حتى دخل في الصلاة، قال عليه السّلام: فليمض في صلاته، و إنما الأذان سنّة، بناء على ظهور السنة في الاستحباب و إرادة الأعم من الأذان لكي يطابق السؤال.
ص: 211
و يؤيد ذلك اختلاف الأخبار في ترتب الثواب و الأجر على من أذّن و أقام، و أنه يصلي خلفه صفان من الملائكة.
رابعها: هو قيام الشهرة على القول بالاستحباب فيهما مطلقا، و هي أقوى قرينة على عدم ظهور تلك الأخبار في الوجوب، أو أنها تكشف عن القرينة الدالة على الاستحباب، و إلّا لما صار جلّ الأصحاب إليه مع كون هذه الأخبار بمسمع منهم و مرأى.
هذا زبدة ما يقال في المقام و خلاصته، و لكنه لا يكاد يتم شي ء منها:
أما الأول، فلأنّ التراكيب المأخوذة فيها مادة الإجزاء و أساليبها على نحو لو ألقيت إلى العرف لا يفهمون منها إلّا وجوب التكليف الذي أقل ما يجزيه هو الإقامة، و ما ذكر في المقام إنما هو تطبيق الدليل على ما ارتكز في الذهن من ذهاب الأكثر إلى الاستحباب لا أخذ الحكم منه، و إلّا لو خلي الذهن عن هذا الارتكاز لما فهم منها إلّا الوجوب.
و أما الثاني، فهو على اللزوم و الحتم أدلّ؛ لأنّ المركب الذي هو مفاد كان الناقصة ظاهرة في اللزوم و الأبدية، و بعبارة أخرى ظاهر في لزوم شي ء في شي ء بحسب العرف؛ بداهة أنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد، و لا صلاة إلّا بإقامة، و نحو ذلك من التراكيب المشتملة على اللاء المركب، هو لزوم وقوع صلاة جار المسجد في المسجد، و لزوم الاتيان بالإقامة معها، و أنه لا بد منه، إلّا أن يأتي دليل آخر يستوجب رفع اليد عن هذا الظهور.
ص: 212
بسم اللّه الرحمن الرحيم
و الحمد للّه رب العالمين، و صلوات اللّه على محمد و آله الطاهرين.
الكلام في قسمة الدين، تارة يقع في قسمة المديونين ما عليهم من الديون، و أخرى في قسمة الدائنين ما لهم من الديون.
أما الأول، فكورثة الميت الذي تعلق حق الغرماء في تركته، فللورثة أن يقتسموا الديون، فيتقبل كل واحد منهم دين غريم من الغرماء، فإن رضي الغرماء أجمع بذلك صحت القسمة و برأت ذمة الميت، و انتقلت الديون إلى ذمم الورثة، فلو خاس بعض الورثة بحق صاحبه لم يكن له الرجوع على باقي الورثة و لا الغرماء و لا التركة؛ لأن الحق لكل واحد منهم و قد رضي و التزم بانتقاله و تحويله إلى ذمة الغير، فليس له إلّا مطالبة تلك الذمة بحقه.
أما صحة القسمة فلا إشكال فيها لدخولها في عمومات القسمة، كما أن لزومها كذلك.
و أما الثاني، أعني قسمة أرباب الدين فهي أيضا تقع على وجهين؛ لأنّ الدين المشترك إما في ذمة واحدة، او في ذمم متعددة سواء كان الدين المشترك المشاع عوض مال مشاع أيضا، كما لو كانت دار مشاعة بين جماعة فباعوها من واحد أو جماعة، أو لم يكن كذلك، كما لو باع رجلان صفقة واحدة هذا داره و ذاك عقاره بمائة دينار، فتكون المائة مشاعة بينهما بالنسبة و إن لم يكن العوض مشاعا.
ص: 213
و كيف كان فالكلام يقع تارة في الديون المتعددة على ذمة واحدة، و أخرى في المتعلقة بذمم متعددة.
أما الثاني فالمشهور بينهم عدم الصحة، و خالف في ذلك ابن إدريس و جماعة من المتأخرين كالمحقق الاردبيلي قدّس سرّه (1) و غيره.
و يظهر من صاحب الجواهر رحمه اللّه أن مقتضى الأصل عدم الصحة، و كأنه ناظر إلى أصالة بقاء المال على إشاعته و اشتراكه، بناء على ما هو الحق من تحقق الإشاعة و الاشتراك بما في الذمة، و لكنك خبير بانقطاع الأصل بشمول أدلة القسمة للمقام، و عدم المانع، فلو كان مائة لشخصين في ذمة زيد و مثلها لهما في ذمة عمرو، ثمّ اقتسما ذينك المائتين المشاعتين فعيّنا حق أحدهما بما في ذمة زيد، و الآخر بما في ذمة عمرو، كانت قسمة صحيحة، و تمييزا للحقين و تعيينا لأحدهما من الآخر.
و الظاهر أنه لا كلام لهم في أنّ مقتضى الأصل و القاعدة صحة القسمة في هذا الفرض- أعني صورة الذمم المتعددة- و إنما المانع عندهم في صحتها إطلاق الأخبار المانعة بزعمهم، و سيأتي الكلام عليها.
نعم قد يشكل الحال في صورة تعدد الديون على الذمة الواحدة، و ذلك كالمثال المتقدم فيما لو باع زيد داره و عمرو عقاره صفقة واحدة من خالد بمائة مثلا، فالمائة في الفرض و إن كانت مشاعة بينهما في الذمة، و مقتضى إشاعتها أنّ
ص: 214
كل مقدار يستوفيه أحدهما منها، فهو لهما، و كل ما هلك و توى فهو عليهما، فهما بمنزلة الدائن الواحد، و قبض أحدهما النصف نصف قبض، لا قبض النصف، و لكن ذلك لا يمنع قبوله للقسمة و صحتها لو اتفقا عليها بأن يعيّنا حق كل واحد منهما فيما يقبضه، فإن قبضا معا فكل واحد قبض حقه، و إن قبض أحدهما تعيّن الباقي للآخر، فدعوى عدم إمكان القسمة لعدم إمكان التعيين مما لا وجه لها، و هذا القدر كاف في صحة القسمة بلا ريب، فإنه تعيين للحق، رافع لتلك الإشاعة و الاشتراك حقيقة، فإذا عينه المالك- أعني كل واحد من الشريكين- تعيّن، فإن المال الكلي الثابت في الذمة لهما، و لهما التصرف فيه كيف شاءا، سواء رضي من عليه الحق أم لا، و إن كان له اختيار تعيين الكلي في أي مصداق أراد.
و بالجملة: فلا مجال للتأمل في صحة القسمة و إمكانها، و شمول عموماتها لهذا النوع، بل و لزومها بعد تحققها فيكون لكل منهما ما يقبضه، و لا يشاركه الآخر فيه، و لو قبض أحدهما و تعذر قبض الآخر بحيث عدّ كالتالف كان من نصيبه فقط، بل يمكن القول بصحة قبض أحدهما نصيبه من ذلك المشاع حتى مع عدم القسمة، فلو عمد أحد الشريكين و قبض نصف المال ممن عليه الحق و لكن بقصد أنه قبض حقه و تمام حصته لا بقصد الحصة المشتركة من المال المشترك صح، و كان المقبوض له بتمامه و لو مع عدم إذن شريكه، بل و لو مع عدم رضاه، كما يظهر من ابن إدريس (1) من أنّ لأحد الشريكين أن يقبض حقه، كما له أن يهبه أو يبرئ الغريم منه، أو يصالح عليه، فلو شاركه في المقبوض لكان في هذه الصور كلها يشارك من لم يهب و لم يبرئ فيما يستوفيه ... الخ؛ لأن هذه
ص: 215
التصرفات كلها لا تنافي الإشاعة؛ ضرورة جواز الصلح على المشاع و هبته و نحو ذلك، بل لأن الدين المشترك و لو على ذمة واحدة في نظر العرف و بناء العقلاء كدينين مستقلين في ذمة واحدة، أو ذمم متعددة، فهو كما لو كان لزيد مال في ذمة بكر و لعمرو مال مستقل في ذمته فلكل منها أن يستوفيه مستقلا غير منوط أحدهما بالآخر، هذا ما يقتضيه الأصل و القاعدة في جميع تلك الصور.
و أما الأخبار التي قد يتوهم منها دلالتها على مقالة المشهور من عدم الصحة، فليس في شي ء منها ما يدل على المنع في محل الفرض- أعني قسمة الدين- إذ ليس في شي ء منها التصريح بلفظ الدين عدا موثق ابن سنان، و هو لا يصلح وحده لإثبات مثل هذا الحكم المخالف للأصل و للقاعدة كما عرفت.
و أما بقية الأخبار فالظاهر منها إرادة قسمة المال الحاضر و الغائب من الأعيان المشتركة، و من المعلوم عدم صحة قسمة الأعيان الغائبة مع جهالتها.
و يحتمل أن يراد به قسمة الدين و لكن لا على نحو القسمة الشرعية، بل على نحو التفويض و التخويل من غير جبر و لا تعديل، أو تحمل على أنه قد جعل التاوي لأحدهما بعد العلم بتوائه عادة.
و يحتمل بعيدا أن يراد وجوب أن يردّ أحدهما على الآخر شيئا مما استوفاه تعبدا و جبرا لا استحقاقا، و لكن ينافيه قوله ما يذهب بماله.
و كيف كان فالوجوه المحتملة فيها كثيرة تصادم ظهورها في إرادة قسمة الدين إن لم نقل بظهورها في غيره، و ليس الصريح سوى خبر واحد يقصر عن إثبات حكم مثل هذا مصادم للقواعد المتقنة و الأصول المحكمة.
و أما الشهرة فمعلومة الحال، و يكفي فيها أنهم تخيلوا دلالة الأخبار على
ص: 216
المنع، أو تخيل شيخ من الأكبار ذلك ثمّ اتباع الباقين له كالشيخ الطوسي قدّس سرّه (1) حتى صار مشهورا، فالحكم بالصحة في جميع الصور هو المطابق للقاعدة، مضافا إلى أنّ في بعض الأخبار ما يدل على الصحة أيضا، كخبر علي بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام المروي عن قرب الإسناد: سألته عن رجلين اشتركا في سلم، أ يصلح لهما أن يقتسما قبل أن يقبضا؟ قال: لا بأس (2).
و حمله المشهور على إرادة بيان الجواز، و أنت خبير بأنّ لازم قولهم- بعدم إمكان التعيين، فلا يمكن القسمة- عدم الجواز أصلا، و طرح الخبر، فلا محيص عن الالتزام بالإمكان و الجواز و الصحة، بل و اللزوم، هذا.
و قد أفرط بعضهم فقال: بعدم جواز الصلح عليه، بأن يصالح من عليه الحق على حصته و يقبض حقه منه، بدعوى إطلاق النصوص في المنع تارة، و بكون القسمة نوعا من الصلح أو قريبة منه فمع ظهور النصوص في عدم قسمة الدين قد يستفاد منه عدمها و لو بالصلح أيضا، و لكن الجميع كما ترى.
هذا جميعا خلاصة ما أفاده شيخنا الأعظم آية اللّه- أدام اللّه ظله- في الدرس، نسأله تعالى دوام أيام إفاداته.
ص: 217
و ما تشتمل عليه من جلب المنافع و دفع المضار بقلمه الشريف
ذكرنا في آخر المجلد الأول من تعاليقنا على «السفينة» جملة من أسرار الطهارة أعني الطهارة المائية، و لم نتعرض لبدلها، و هو الطهارة الترابية؛ لأن الذي يظهر من الأخبار أنّ الغرض منها محض التعبد و إطاعة الأمر، و لكن يمكن أن يكون فيها مضافا إلى ذلك فائدة للمحدث في إزالة الحدث و لو بالنسبة إلى تخفيفه و إزالة مرتبة منه.
و قد حققنا في بعض مؤلفاتنا أنّ الحدث الحاصل من الأسباب المعروفة أقرب تمثل له هو الظلمة الحاصلة في البيت، فهو ظلام و انقباض و كدر يحصل في البدن، و الطهارة كنور يطرد ذلك الظلام، و يزيل ذلك الكدر، و يبدله بالصفاء، و لعل إلى هذا يشير ما في بعض الأخبار من أنّ تجديد الوضوء نور على نور، و كما أنّ النور له مراتب، و يقبل الشدة و الضعف، فكذا الظلمة و ما يشبهها من الحدث.
و هذا واضح جلي، فإنّ حدث الحيض و الجنابة أشد من حدث المس
ص: 218
و الاستحاضة فضلا عن الأحداث الصغرى كالنوم و البول، و كما أنّ الأحداث تختلف في مراتبها ضعفا و شدة فكذا روافعها- أعني النور الحاصل- أيضا يختلف قوة و ضعفا، فالغسل هو الرافع الأعظم و الأعلى، و الوضوء هو الأصغر و الأدنى، و يجوز أن يكون مس التراب و الأرض و هي «أمنا الحنون» كما في بعض الأخبار، و هي التي نشأنا منها و إليها نعود كما ألمعنا إلى لمحة من هذا في رسالتنا «الأرض و التربة الحسينية»، و التي تختلف أيضا في الشرف و القداسة كأرض الكعبة و التربة الحسينية، و أرض المساجد المعظمة، و مراقد الأئمة و العلماء التي يحرم تنجيسها، و هتك حرماتها، حرمة مؤكدة، و لا سيما تربة الحسين عليه السّلام، و هي تربة الشفاء و تربة السجود، و تربة الدفن كي تنجي من عذاب البرزخ، و قد أشرنا إلى نبذة من خواصها و أسرار عظمتها في تلك الرسالة، و إنما الغرض هنا أنه ليس من الغريب جدا أن يكون لمس الأرض أو التراب و مسح الجبين و اليدين خصوصية في الحدث لا لرفع كله، بل لرفع مرتبة منه، و لذا اخترنا في أبحاثنا الفقهية أنّ التيمم رافع لا مبيح، كما لعله المشهور، غايته أنه رافع لمقدار منه، و ليس وجود الماء أو التمكن من استعماله ناقض للتيمم كما قد يتوهم، بل التمكن من استعماله مستوجب للطهارة المائية لإزالة ما بقي من الحدث، يعني إزالة الحدث بجميع مراتبه، و رفع الظلمة بكل طبقاتها.
و بهذا تنحل عقدة الإشكال الذي يصدم القول بالرافعية، و من تدبر فيما تخرجه الأرض و التراب من الفواكه و الحبوب و الخضروات يندهش عقله لما يحتوي هذا التراب من العناصر و الأواصر و المواد، و ما فيها من الأجزاء ذات القوة و الاستعداد و العتاد لمنافع العباد، فسبحان المبدع الحكيم، و لأحكامه و حكمته الانقياد و التسليم.
ص: 219
و حيث إنّ ما كتبناه من أسرار الطهارة و الصلاة في ذلك الجزء و إن كان من النزر اليسير و لكنه على قلّته كثير و خطير، و من أراد معرفة عظمة التشريع الإسلامي في كافة أحكامه فلينظر فيه فإنه يجد فيه ما يكفيه إن شاء اللّه.
و لكن تكملة لتلك المباحث نعيد النظر في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللّٰهِ أَكْبَرُ (1)، فإنا ذكرناها طردا و لم نقف عندها و لو قليلا، و تداركا لذلك نقول: إنّ علماء التفسير و أهل الذكر، و إن ذكروا في تفسيرها وجوها، و حملوها على معان شتى، و لكن الذي اطمأن إليه و أعتمد عليه أنّ المراد- و اللّه أعلم- أنّ الصلاة التي هي ذكر و دعاء و توجيه إلى المبدأ الأعلى و استحضار عظمته و كبريائه في كل تكبير استحضارا يستوجب أقصى مراتب الخضوع و الخشوع في السجود و الركوع، و بالضرورة أنّ مثل هذه الصلاة تنهى العبد عن ارتكاب أي معصية، كبيرة أو صغيرة، بل كل الذنوب كبائر بالنظر إلى مخالفة ذلك الكبير، و لا شك أنها تصدّه و تمنعه عن ارتكاب الفحشاء و المنكر، و ذكر اللّه و تصور عظمته و عظيم نعمه على العبد أكبر من أن يجتمع مع الفحشاء و المنكر، فالصلاة أكبر من أن تجتمع مع المعصية، و العبد إذا ذكر اللّه فصلى، و لكن ذكر اللّه له بالرحمة و التوفيق في اجتناب المنكر أكبر من ذكره للّه، فذكره للّه يمنعه عن المنكر، و هذا كبير، و لكن ذكر اللّه له أكبر.
و قد جمعت الآية على وجازتها كلتا الجهتين و أعلى الناحيتين، و ذكر اللّه أكبر، فأنعم النظر فيه و تدبر، و لذا فإني لا أزال أدعو الشبان بل و غيرهم ممن يتقاذفهم تيار من الشهوات في الغمرات و يرمي بهم على غرة من غمرة إلى غمرة، أنصحهم أنهم مهما انجرفوا في شهواتهم و معاصيهم، و لكن عليهم أن
ص: 220
يلتزموا بإقامة الصلاة و لو بأقل مراتبها، فإنهم إذا التزموا بها لا شك أنها تجرهم إلى خير، و تختم لهم بالحسنى، و إذا ضيّعوها ضاعوا و ضاع عنهم كل خير، فإنها الحبل الذي يوصل العبد بربه، و بتركها ينقطع الحبل المتين، و هنالك الخسران المبين في الدنيا و الآخرة، و لا حول و لا قوة.
ص: 221
و التعاون في الإسلام لما قضت العناية الأزلية، و الحكمة البليغة لبقاء هذا النوع- البشر- أن يكونوا مختلفين غير متساوين في القوى و الملكات و الأفهام و الذكاء كاختلافهم في الأخلاق و الصفات، و الخلق و الهيئات، و كاختلافهم في الغنى و الفقر، و السعادة و الشقاء، و لو كانوا جميعا في رتبة واحدة من الذكاء و الفقر و الغنى و السعادة و العناء لهلكوا جميعا.
و إلى هذا أشار الإمام الجواد عليه السّلام في كلمة موجزة، من أبلغ الكلمات القصار، حيث يقول: «لو تساويتم لهلكتم»، و هذا جلي واضح لا حاجة إلى إيضاحه.
و لكن لازم هذا الاختلاف الواسع و التباين الشاسع لحفظ بقاء النوع هو التعاون مع رعاية التوازن، و التعاون ضرورة من ضرورات الحياة، و هو في الجملة غريزة و طبيعة قضت به حاجة بعضهم إلى بعض، و تبادل المنفعة و تكافؤ المصالح، و به يتم النظام، و تحفظ الهيئة الاجتماعية، و هذا التعاون الذي تدفع إليه الحاجة و تدعو له الضرورة هو في غنى عن الحث و البعث إليه، و إنما الذي يحتاج إلى التشريع و البعث إليه هو التعاون بلا عوض، و عمل الخير و الإحسان، و صنع المعروف لوجه اللّه، و في سبيل اللّه، لجميع عباد اللّه، للفقير و الغني، و العاجز و القوي، للمؤمن و الكافر، و هذه الفضيلة هي فضيلة الجود
ص: 222
و السخاء التي يقابلها رذيلة الشح و البخل، فالكرم عطاء بلا عوض، و بذل من دون نظر إلى الاستحقاق و عدمه، و البخل المنع حتى مع الاستحقاق، و الأولى هي بمرتبتها العليا هي صفة الحق جل شأنه، و الأمثل فالأمثل من الأنبياء و المرسلين، و الأوصياء و الصديقين، و لعلها في بعض البشر من الغرائز و المواهب لا تحصل بالطلب و الكسب كصفاء اللؤلؤة و إشراق الشمس و فيض الينابيع، و مثلها رذيلة البخل، قد تكون طبيعة في بعض البشر و غريزة.
و هناك أوساط و نفوس ساذجة ليس في جبلتها هذا و لا ذاك، فيؤثر فيها المحيط و التربية، و الأقران، فضيلة أو رذيلة، و ما من شريعة من الشرائع، و لا دين من الأديان، و لا كتاب من الكتب قد حث و بعث و بالغ في الدعوة إلى الإحسان و المعروف و بذل المال في سبيل الخير مجانا و لوجه اللّه تعالى كشريعة الإسلام و كتابها المجيد، و قلّما تجد سورة من سور القرآن لم يتكرر فيها طلب الإنفاق و الوعد بالأجر العظيم له.
خذ أول سورة بعد الفاتحة و هي أوسع سورة بعد الفاتحة، و هي أوسع سورة تضمنت التشريع الإسلامي و عامة فرائضه من الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج و النكاح و الرضاع و الطلاق و المعاملات و الديون و الرهن و القصاص و الديات و غير ذلك، افتتح الباري جل شأنه هذه السورة بالإنفاق، و قرنه بالإيمان باللّه، و بأهم دعائم الإسلام و هي الصلاة فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ (1)، ثمّ قال جل شأنه فيها بعد جملة آيات: وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ... وَ آتَى الْمٰالَ عَلىٰ حُبِّهِ ذَوِي
ص: 223
الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينَ (1).
ثمّ قال بعد فصول طويلة، و بيان أحكام كثيرة: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لٰا بَيْعٌ فِيهِ وَ لٰا خُلَّةٌ وَ لٰا شَفٰاعَةٌ (2)، و لم يكتف بهذا كله في هذه السورة المباركة حتى أفاض في فضل الإنفاق و أجره العظيم، و أنه يعود بأضعافه المضاعفة و جاء بأبلغ الأمثال، و أبدع المقال، فندب إلى البذل و الإحسان، و حرمة الربا الذي فيه قطع سبيل المعروف، و أكل المال بالباطل، و جعل من يصرّ على استعماله محاربا للّه العظيم، و اللّه محارب له، كل ذلك في ضمن أكثر من ثلاثة عشر آية مطولة، بدأها عزّ شأنه بقوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (3) إلى قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ سِرًّا وَ عَلٰانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ (4).
ثمّ بعدها أربعة عشر في فضل الإنفاق ألحقها بتحريم الربا، و فظاعة شأنه، و تهويل جريمته، و بيان جملة من أحكامه فقال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ (5)، و هذا تصوير بديع لحال
ص: 224
المرابين، و عظيم جشعهم، و حرصهم على جمع المال و ادخاره و توفيره، فهو كالذي فيه مس من الجنون يذهب و يجي ء و يقوم و يقعد و يأخذ و يعطي، فهو في حركة دائبة، و عمل متواصل لا يقرّ له قرار، و لا يستريح من التفكير و التوفير و الادخار في ليل و لا نهار، و إذا اعترضه معترض قال مبررا عمله: إنما البيع مثل الربا، و البيع حلال، فالربا مثله، و هو قياس فاسد، و يعرف فساده من القاعدة الشرعية المباركة «الغنم بالغرم» (1)، فكل معاملة فيها غنم بلا غرم فهي أكل مال
ص: 225
بالباطل، و البيع غنم بغرم، و مبادلة مال بمال، بخلاف الربا فإنه للآخذ غنم بلا غرم، و للدافع غرم بلا غنم، فإذا أعطى العشرة باثنتي عشر من جنس واحد، فقد أخذ اثنين بلا عوض، فهو أكل مال بالباطل، و لذا اختص الربا بالمتجانسين، أي أن يكون العوضان من جنس واحد، و يكون من المكيل و الموزون؛ إذ المعاملة بالمعدود، و المشاهدة نادرة، و النادر ملحق بالعدم، و مدار المعاملات في العالم على الكيل و الوزن، مضافا إلى جهات أخرى.
و ما أبدع و أروع تعقيب آيات الحث على الإنفاق إحسانا و كرما بآيات تحريم الربا، فإنّ ذلك فضل و إحسان، و هذا جور و عدوان.
و هذه الفصول في آخر هذه السورة التي هي أطول أو أفضل سور القرآن من حيث بيان النواميس الإسلامية، محبوكة كالسرد الوضين، فإنه عزّ شأنه ذكر فضل الإنفاق في سبيل اللّه و العطاء المجاني، و ربط به حرمة الربا، و هو الأخذ العدواني، ثمّ أردفه بالدين و الرهن و أحكامهما، و الأمر بإنظار المعسر
ص: 226
وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ (1).
أنظر و اعجب لهذه الرحمة الواسعة، و هذا التشريع الرفيع، و هل يبقى لك شك في أنّ هذا القرآن من الوحي المعجز و الذكر المبين، نزل به الروح الأمين من رب العالمين؟ و هل تجد شيئا من هذه الأساليب في شي ء من التوراة و الإنجيل و الزبور و غيرها، و هي أكبر حجما، و أكثر ألفاظا و رقما؟
أ رأيت كيف تنازل العظيم من أوج عظمته إلى مخلوقه العاجز الضعيف فصار يستقرضه و يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (2)؟
ثمّ لم يكتف بهذا كله في الدعوة إلى التعاون و تعاطف البشر بعضهم على بعض بالإحسان و المعروف، نعم لم يكتف بما ندب إليه من المعروف على سبيل الندب و الاستحباب و إن كان واجبا أخلاقيا، نعم لم يكتف بذلك العموم و الإطلاق في الترغيب إلى الإنفاق و الإحسان لكل ذي روح حتى البهائم و الهوام، بل و حتى الكلب العقور، فإذا رأيت كلبا يلهث من العطش استحب لك في الشريعة الإسلامية أن تسقيه الماء «فإنّ لكل كبد حرى أجر» كما في الحديث.
أما الرفق بالحيوان و الحمولة و الدواب فقد عنيت الآداب الإسلامية برعايتها و الرحمة لها عناية بالغة، و في الحديث ما مضمونه: إذا وصلت المنزل فابدأ بسقي دابتك و علفها و راحتها قبل نفسك، و لا تتخذوا ظهور دوابكم منابر، و لا تحملوا عليها فوق طاقتها، و لا تجهدوها، و لا تضربوا وجوهها، إلى كثير من
ص: 227
أمثال ذلك مما لا مجال لإحصائه في هذا البيان.
أما الفقراء و الضعفاء و العجزة فلم يكتف لهم الشارع المقدس و رحمته الواسعة بهذه العمومات و المطلقات، بل جعل لهم مزيد عناية تخصّهم، و فرض لهم في أموال الأغنياء نصيبا مفروضا، و صيرهم شركاء لهم فيما بأيديهم، و لكن من دون إجحاف و اعتساف بأموالهم، بل قال الشارع الأقدس في كتابه المقدس: يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (1) يعني الزائد من المال على حاجته حسب شأنه في سنة أو سنوات، و قال المبلغ عنه من فضول أموال أغنيائكم ترد على فقرائكم، و في الحديث، ما مؤداه: لما علم اللّه أن نسبة الفقراء من الأغنياء العشر فرض لهم العشر من أموالهم، و ما جاع فقير إلّا بما منعه الغني من حقه.
نعم، فرض للفقراء الحق على الأغنياء، و لكن جعل السلطنة للأغنياء و أعطاهم الحرية الواسعة و الاختيار العام فيما يدفعون من نقود أو عروض و لأيّ فقير يدفعون، و بأي وقت يشاءون، و الفقير و إن صار شريكا و لكن لا سلطة له على الأخذ، و إنما سلطة الدفع و التعيين لرب المال، و عدلت الشريعة الإسلامية هذه القضية حذرا من تفشّي داء الكسل، و الاتكال في النفوس، و ترك الناس السعي و العمل و تغلب البطالة و الكسالة على المجتمع، فخص ذلك الحق بالفقير الذي لا يستطيع العمل لعذر من الأعذار، أو كان عمله لا يفي بمئونة عياله، ثمّ حث الناس على الكسب و السعي في توفير المال، و أوجبه لتحصيل الرزق له و للعيال، كما أوجب للعمال دفع حقوقهم موفرة من أرباب الأموال و عدم بخس ما يستحقونه من الأجر، و أن يدفع للعامل أجرته فورا قبل أن يجف عرقه.
ص: 228
و هذه هي الاشتراكية الصحيحة العادلة السمحاء التي وقعت وسطا بين إفراط الاشتراكية الحمراء، و تفريط الرأسمالية القاسية السوداء، فلم تسلب الغني حرّيته فيما بيده و ما استحصله بجهده كما تسلبه الشيوعية الظالمة التي تسلب بعسفها و ظلمها أفضل نعم اللّه على العبد و هو الحرية، و لا سلبت العامل ما يستحقه بعمله من الأجرة، و لم تبخس حقه كالرأسمالية وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (1).
أنظر سعة نظر التشريع الإسلامي و عنايته بسد الحاجة و تدارك مواضع الضعف في الأمة فيما فرض من الزكاة و تعيين مصرفها و مستحقيها، فجعل الفقراء و المساكين في الدرجة الأولى، ثمّ للعاملين في جبايتها، ثمّ للمدينين الذين لا يستطيعون وفاء دينهم، ثمّ الأسراء و العبيد و عتقهم، ثمّ أبناء السبيل المنقطعين في الغربة، و المؤلفة قلوبهم، و في سبيل اللّه أي المصالح العامة، كبناء القناطر و المدارس و المعاهد و المعابد و تعبيد الطرق و أمثال ذلك، فرض اللّه للفقراء العاجزين عن تحصيل ما يمونهم و عيالهم لنقص في أبدانهم من مرض و نحوه أو عدم مواتاة الحظ لهم، إن صحّ أن شيئا يسمى الحظ له شي ء من التأثير في المقادير.
نعم، فرض اللّه الزكاة و قرنها بالصلاة اهتماما بها في زهاء عشرين آية متفرقة أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ، أربع منها في سورة البقرة (2)، ثمّ تكررت في عامة سور الطوال، و المفصل و القصار، و آخرها في سورة «البيّنة» آخر القرآن
ص: 229
وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (1)، و في الجميع قدمت الصلاة على الزكاة إلّا في آية واحدة قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى* وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰى (2)؛ لنكتة معلومة، و لكن في الحديث ما يشير إلى أنه تعالى ربط الزكاة بالصلاة؛ للدلالة على أنّ من لا زكاة له لا صلاة له، يعني أن من وجبت عليه زكاة في أمواله و لم يدفعها لمستحقيها لم تقبل صلاته، و إن أتى بها على أصح وجوهها.
و من سعة رحمته و عنايته بخلقه جعلها في أهم الأشياء و أعمها، و ألزمها في حياة البشر و مقومات العيش، و هي الأجناس التسعة: النقدان، و الغلات الأربع، و الأنعام الثلاثة، و هو عزّ شأنه و إن فرض فيها النزر اليسير، و هو العشر و نصفه أو ربعه، و لكن الحاصل من مجموعه الشي ء الكثير.
و ليست فوائد هذا التشريع و هذه الاشتراكية العادلة الحرة مقصورة على الناحية المادية فقط، بل فيها من الفوائد الاجتماعية و التأليف بين الطبقات، و تعاطف الناس بعضهم على بعض، و قطع دابر الفساد و الشغب فيما بينهم ما هو أوسع و أنفع، و أجل و أجمع، فإنّ فيه غرس بذور المحبة بين الغني و الفقير، فالغني يدفع و ينفع الفقير باليسير من ماله عن طيب خاطره؛ أداء لواجبه؛ و رغبة بطلبه المثوبة من ربه، و الفقير يأخذ من غير مهانة و لا ذلة؛ لأنه أخذ الحق الواجب له من مالكه و خالقه.
ثمّ أردف الزكاة بالخمس؛ توفيرا لحق الفقراء، و تكريما للعترة الطاهرة عن تلك الفضول التي هي صدقات، و نوع من الاستجداء، ثمّ رعاية شبه الجزاء
ص: 230
و الأجر لجدهم الأعظم فيما تحمل من عناء التبليغ و أعباء أداء الرسالة.
و بعد ذلك الحث على الإنفاق عموما، و تشريع الزكاة و الخمس خصوصا، هل قنعت و استكفت سعة تلك الرحمة و بليغ هاتيك الحكمة؟
هل اكتفت للفقراء و العناية بهم بكل ذلك؟ كلا، بل فتحت في التشريع الإسلامي باب «الكفارات»، و هو باب واسع يدخل في أكثر العبادات و غير العبادات من المحرمات و غير المحرمات، فقد مشت و فشت فريضة هذه الضريبة حتى في الصلاة، و تكثرت في الصوم و الاعتكاف و الحج و الإيلاء و الظهار و النذر و اليمين و قتل الخطأ، بل و العمد و غير ذلك مما يجد المتتبع في أكثر أبواب الفقه، و هو إطعام للفقراء تارة، و كسوة أخرى، و عتق ثالثة.
جمعت الشريعة الإسلامية بسعة رحمتها و عظيم حكمتها بين رعاية الفضل و العدل، و أقامت قواعد الاقتصاد و الاعتدال في بذل الأموال و لمّا ندبت و بالغت في الحث على الإنفاق في سبيل اللّه، و تدرجت فيه إلى أبعد غاية الإنفاق من فاضل المال و حواشيه أولا، لا من صلبه، ثمّ المواساة و المشاطرة من صميمه ثانيا وَ الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (1)، ثمّ الإيثار على النفس ثالثا وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ (2).
و هذا أقصى ما يتصور من السخاء و الكرم و الردع عن رذيلة البخل و الشح، و حذرا من أن تطغى هذه العاطفة فتجحف بالمال و تضر بالأهل و العيال، و يضطرب بها حبل المعيشة و العائلة. تداركت الشريعة ذلك و عدلت هذا العمل
ص: 231
على المال، و قالت: لا صدقة و ذو رحم محتاج، بل سبق ذلك كتاب اللّه المجيد، فإنه جلّت عظمته لما بالغ في دعوة الناس عموما، و المسلمين خصوصا إلى البذل و الإحسان و إنفاق المال على الفقراء و المساكين فيما يزيد على سبعين آية بأساليب مختلفة، و تراكيب عجيبة توجه الكتاب الكريم إلى تعديل ذلك، فأمر بالاقتصاد و التدبير و الاعتدال و مجانبة التبذير، فقال جل و علا: وَ آتِ ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لٰا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ الشَّيٰاطِينِ وَ كٰانَ الشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (1)، بل زاد فقال: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا (2)، أي لا تسرفوا في العطاء، بل أوضح ذلك في سورة الإسراء و سورة الفرقان، فقال في الأولى: وَ لٰا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لٰا تَبْسُطْهٰا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (3)، و في الثانية: الَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً (4)، إلى كثير من أمثالها.
و من هنا كانت الشريعة الإسلامية شريعة العدل و الفصل وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (5)، لا تدعو إلى فضيلة إلّا و تقرنها بالاعتدال و العقل و التوسط «و خير الأمور أوسطها».
فلله شريعة الإسلام المقدسة ما أوسعها و أجمعها و أمنعها و أنفعها.
أ فلا قائل يقول لهذا الشباب الطائش المخدوع بتلك الشيوعية الحمراء،
ص: 232
و البلشفية السوداء؟ أ تطلبون اشتراكية أعلى و أصح من هذه الاشتراكية المنظمة العادلة التي توسع على الفقراء و المحاويج ما يرفع حاجتهم، و يحفظ لأرباب الأموال و الأغنياء مكانتهم و حرّيتهم، و لا تضايقهم و لا ترهقهم و لا تحرم العاملين ثمرة أتعابهم، و لا تجعلهم كآلة ميكانيكية، أو كالبهائم ليس لها إلّا علفها و معلفها؟
نعم، إنك لا تهدي من أحببت و لكن اللّه يهدي من يشاء، بل الشيطان سوّل لهم و أملى لهم، و لعل العناية تدركهم فتردهم إلى صوب الصواب، و المنهج القويم، إن شاء اللّه تعالى (1).
ص: 233
بسم اللّه الرحمن الرحيم
و له الحمد، و صلى اللّه على محمد و آله
يشترط في وجوبها أمور:
الأول: البلوغ: و هو و العقل من الشرائط العامة في كل تكليف، مضافا إلى المعتبرة المستفيضة المشتملة على أنه لا زكاة في مال الطفل، أو لا زكاة على مال الطفل، و لا زكاة في مال اليتيم، و أمثال هذه التراكيب الظاهرة أو الصريحة في نفي الوجوب وضعا كنفيه عن غير البالغ تكليفا، و هذه أخص مما دل على تعلق الزكاة و حق الفقير فيما بلغ النصاب من غير اختصاص بالبالغ، مثل قولهم عليهم السّلام: «فيما سقت السماء العشر، و في كل أربعين شاة شاة» على أنّ الإطلاق- فضلا عن العموم- في أمثال هذه الأدلة ممنوع؛ فإنها مسوقة لبيان المقدار لا لبيان من عليه المقدار، فالقول بوجوبها على الطفل إذا بلغ أثناء الحول و يؤديها عنه وليّه أو هو بعد البلوغ ضعيف، و لكنه الأحوط.
الثاني: العقل: فلا زكاة في مال المجنون في تمام الحول أو بعضه و لو أدوارا، فلا تجب لا وضعا؛ للأصل، بعد ما عرفت من قصور ما دل على ثبوت الحق في تلك المقادير الخاصة عن شمولها للصبي و المجنون بقسميه، مضافا إلى
ص: 234
صحيحة ابن الحجاج و خبر ابن بكير و الإجماع المستفيض، و لا تكليفا لحديث رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، و ظاهر معاقد الإجماعات و بعض الأدلة اعتبار العقل في تمام الحول على حد اعتبار البلوغ و الملك و نحوهما، فالمجنون أدوارا يعتبر حوله من حين إفاقته كما صرح به العلامة قدّس سرّه في محكي المنتهى، حيث قال: و لو كان الجنون يعتوره أدوارا اشترط الكمال طول الحول، فلو جن في أثنائه سقط و استأنف من حين عوده.
و خالفه في المدارك فقال: إنما تسقط الزكاة عن المجنون المطبق، و أما ذو الأدوار فالأقرب تعلق الوجوب به في حال الإفاقة؛ إذ لا مانع من توجه الخطاب إليه في تلك الحال. انتهى.
و فيه: أنّ المراد إن كان عدم المانع من توجه الخطاب المنجز إليه بالزكاة حال إفاقته و لو في أثناء الحول، أو أوّله، ففيه- مضافا إلى ما قيل من استلزام كون غير المكلف أسوأ حالا من المكلف، و أنّ عدم التكليف لا يصير منشأ للتكليف- أنّ هذا مخالف لجميع ما دل على اعتبار الحول مطلقا في النقدين و المواشي، و اعتبار بدو الصلاح في الغلّات.
و إن كان المراد عدم المانع من توجه الخطاب المعلق إلى تمام الحول، بمعنى اعتبار مدة الجنون من الحول، ففيه أنّ هذا يحتاج إلى دليل خاص يفي بهذا الشرح و البيان. أما إطلاق أدلة الحول فهي قاصرة عن شمولها لمثل هذا الفرد.
و بعبارة أجلى: أنّ هنا إطلاقين: إطلاق أدلة لا زكاة على مال المجنون، و أفراده المتيقنة المجنون المطبق، و إطلاق أدلة اعتبار الحول، و أفراده المتيقنة العاقل طول الحول، و بقي من يجن في بعض الحول و يفيق في بعضه، و ليس
ص: 235
دخوله في أحد الإطلاقين أولى، و مع الشك و قصور الأدلة فالمرجع إلى أصالة عدم الوجوب.
و بعد بطلان الاحتمالين تعين أنّ عدم المانع إنما هو عن توجه الخطاب المعلق على تمام الحول من حين إفاقته، و هذا هو الذي اختاره العلامة رحمه اللّه، و عليه ظاهر المشهور.
الثالث: الحرية: فلا زكاة على العبد و إن قلنا بملكه، بل و لو قلنا بعدم منعه من التصرف في بعض أمواله، كما يظهر من موثقة ابن عمار: في رجل وهب لعبده ألف درهم استحلالا منه عما لعله ظلمه بضرب أو نحوه، هل يحل ذلك المال للمولى؟ فقال عليه السّلام: لا يحل له، و ليردها له. و غيرها من الأخبار الظاهرة في ملكيته المطلقة، فليس المانع من وجوب الزكاة عدم الملكية، أو المنع من التصرف، بل المانع نفس العبودية و الرقية، كما يظهر من ملاحظة مجموع الأدلة.
كما لا تجب على العبد، كذا لا تجب على سيده، كما ذكر قدّس سرّه في المسألة (3)، و هو على القول بملكية العبد واضح، و أما على القول بعدم ملكه فيجب عليه- أي على سيده- الزكاة مع التمكن العرفي من التصرف في المال الذي بيد العبد على نحو الوكالة و العمالة، كمال المضاربة، أو العارية و الوديعة بحيث يقال عرفا: هو مال السيد في يد العبد، أما لو كان منسوبا إلى العبد عرفا، كالمال الموهوب له من مولاه، أو من أجنبي بحيث لم تبق للواهب به علاقة فالأقوى عدم الوجوب عليهما معا؛ فإنه كالطعام المعد للضيف الذي لا يسع صاحبه المنع عنه.
مضافا إلى صحيحة ابن سنان: قلت له: مملوك في يده المال عليه زكاة؟
قال: لا، قلت: فعلى سيده؟ قال: لا؛ لأنه لم يصل إلى السيد و ليس هو للمملوك.
ص: 236
و المراد منها على الظاهر- بعد التأمل- الأموال التي يكتسبها العبد المأذون من مولاه بالكسب، فإنها أموال في يد العبد و لكنها ليست له، فلا تجب عليه الزكاة، بل لمولاه، و لكن لا تجب عليه الزكاة أيضا؛ لأنها لم تصل و لم تحصل في يده و تستقر حولا عنده.
الرابع: أن يكون مالكا: اعتبار الملك ضروري عقلا، فضلا عنه شرعا، و إنما المعتبر هنا شرطا شرعيا هو تمامية الملك، فقبل تمام الملك لا زكاة قبل القبض، كالموهوب، بناء على أنّ القبض شرط في الصحة و حصول الملكية، سواء جعلناه ناقلا فلا ملكية قبله، أو كاشفا و هو ممنوع من التصرف قبله.
و قول صاحب المدارك إن الخلاف في القبض بالهبة واقع بأنّه شرط في الصحة أو اللزوم، لا في كونه كاشفا أو ناقلا، مدفوع بأنهم متفقون على أنّ الهبة بالقبض لا تصير لازمة، و أنها من العقود الجائزة بذاتها، و لا تلزم إلّا بأسباب مخصوصة، و أن مرادهم باللزوم الكشف عن تحقيق الملكية السابقة لا اللزوم بالمعنى المصطلح في البيع و نحوه، كما نبه عليه كاشف الغطاء قدّس سرّه.
و كيف كان، فلا إشكال في وجوب الزكاة بعد مضي الحول من حين القبض و لو كان الملك متزلزلا، نعم لو رجع الواهب في أثناء الحول سقطت، أما بعده فلا، و كذا فيما لا يعتبر فيه الحول كالغلات، فإنه يرجع المال إلى الواهب بعد أداء الزكاة، و كذا القرض، لا تجب إلّا بعد قبض المقرض، و زكاته قبل ذلك على المقترض، كما سيأتي.
و الفرق بين الهبة و القرض من حيث وجوبها على المقترض، و يرجع المال بتمامه للمقرض، و في الهبة يرجع إلى الواهب بعد إخراج الزكاة منه ظاهر بالتأمل.
ص: 237
الخامس: تمام التمكن من التصرف: يظهر هذا الشرط من المستفيضة التي اعتبرت في وجوب الزكاة أن يكون المال عنده، أو في يده، و أن يكون وصل إليه، و أن لا يكون غائبا عنه، و أمثال ذلك.
و لا ينبغي الريب في أن المراد بهذه الكلمات الكناية عن السلطنة التامة الفعلية للمالك بحيث لا مانع له من التصرف بأي نحو أراد لا شرعا و لا عرفا، فمثل المغصوب و المجحود و المسروق و الضائع و أمثالها، لا مانع له من التصرف شرعا فيه بأي نحو أراد، و لكنه ممنوع عرفا، بمعنى أن تصرفاته تعد لغوا عند العرف.
أما مثل المرهون و الموقوف و المحجر عليه لفلس و نحوه، مما يتعلق بالعين حق الغير، فهو ممنوع من التصرفات فيه شرعا، بل و عرفا،؛ و لعله قدّس سرّه نظرا لهذا قال: و المدار في التمكن على العرف، فإنّ العرف إذا أحرز المنع الشرعي اكتفى به مانعا.
أما النذر فسيأتي الكلام فيه.
(مسألة 1): يستحب للولي الشرعي إخراج الزكاة في غلات غير البالغ ...
الخ.
جمعا بين صحيحة محمد بن مسلم، و زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: مال اليتيم ليس عليه في العين، و الصامت شي ء، فأما الغلات فإن عليها الصدقة واجبة. و بين موثقة أبي بصير: و ليس على جميع غلاته من نخل أو زرع أو غلة زكاة، فيحمل الوجوب على تأكد الاستحباب على إشكال؛ لأن احتمال الاستحباب ليس بأقوى من احتمال جريها مجرى التقية؛ لأن زكاة الغلات بل و المواشي كان يأخذها عامل السلطان في تلك الأزمنة، حتى من
ص: 238
مال الصغير، و من هنا ظهر الإشكال في استحباب إخراجها من مواشيه، و أن الأحوط- كما ذكره قدّس سرّه- الترك، بل هو الأقوى؛ لعدم دليل عليه سوى ما يدعى من عدم القول بالفصل، و هو كما ترى.
(مسألة 2): يستحب للولي الشرعي ... الخ.
مستنده صحيحة ابن الحجاج: امرأة من أهلنا مختلطة أ عليها زكاة؟ فقال:
إن كان عمل به فعليها الزكاة، و إن كان لم يعمل به فلا.
و مثله خبر موسى بن بكير، و هو ظاهر في النقدين، فلا تستحب في غيرهما و لو عمل به.
(مسألة 3): الأظهر وجوب الزكاة على المغمى عليه ... الخ.
و نقل سيد المدارك (1) عن العلامة قدّس سرّه في التذكرة أنه قال: و تجب الزكاة على الساهي، و النائم، و المغفل، دون المغمى عليه؛ لأنه تكليف، و ليس من أهله، ثمّ قال السيد: في الفرق نظر، فإن أراد أنه ليس أهلا للتكليف حال الإغماء فمسلّم، لكن النائم كذلك، و إن أراد كونه مقتضيا لانقطاع الحول، كما في ذي الأدوار، طولب بدليله. انتهى ملخصا و هو جيد.
ص: 239
وَ أَذِّنْ فِي النّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجٰالًا وَ عَلىٰ كُلِّ ضٰامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ (1).
بما أن الإنسان متكون من جوهرين: جسم و روح، فقد جعل شارع الشريعة الإسلامية لكل من الجوهرين فرائض، و تكاليف، ليس الغرض منها سوى سعادة الإنسان، و تعاليه في معارج الكرامة، و مدارج العظمة، و أهمّ فرائض الروح العقيدة و الإيمان، و أهمّ فرائض البدن أعمال خاصة يسميها الشرع بالعبادات و الفروع، أي فروع الدين، كما يسمي تلك بأصول الدين.
و تلك العبادات خمسة: الصلاة، و الصوم، و هي بدنية محضة، و الخمس، و الزكاة، و هي مالية محضة، و الحج يتضمّنهما معا، فهو عبادة مالية و بدنية، و قد جمعت كل واحدة من هذه العبادات أسرارا و حكما إذا لم يكن الحج أكبرها مقاصد و أكثرها أسرارا و فوائد، فليس هو بأقلها.
و قد أشارت الآيات إلى بعض تلك الأسرار و المزايا، و هي مادية اقتصادية، و أخلاقية اجتماعية، و رموز علوية، و رياضات روحية.
نعم، الناظر إلى أعمال الحج نظرة سطحية قد ينسبق إلى ذهنه أنها ألاعيب من العبث، و أضراب من اللهو و النصب، و لكن لا تلبث تلك النظرة العابرة حتى
ص: 240
تعود عبرة و فكرة، تذهل عندها الألباب و تطيش في سبحات جلالها العقول.
أما الذي فيه من الفوائد المادية، و الاجتماعية، و الأخلاقية، فلعل سطحه الأول ظاهر مكشوف، و التوسع فيه يحتاج إلى مجال أوسع، و نظر أعلى و أرفع، و هي التي أشير إليها بقوله عز شأنه: لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ، و لكن إذا لم يتسع لنا المجال للإشارة إلى تشريح هذه المنافع أ فلا يمكن التلويح إلى بعض تلك النفحات التي تهب نسائمها من الكنوز و الرموز الروحية التي تتضمنها أعمال الحج؟
أولها الإحرام، أ رأيت المحرم حين يتجرد من ثيابه التي يتجمل بها بين الناس فيستبدل بها قطعتين من القطن الأبيض، إشارة إلى قطعه جميع علائق هذه الحياة، و زخارفها، و اكتفائه بثوبين، كمن ينتقل من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى، لابسا أكفانه، منصرف النفس عن كل شهواتها، و عازفا عن كل لذاتها؟
أ تراه حين يرفع صوته كلما علا جبلا أو هبط واديا أو نام أو استيقظ:
«لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك» كأنه يجيب داعيا، و يخاطب مناديا؟
نعم، يجيب داعي الضمير، و خطاب الوجدان خطابا يجيب به نداء ربه، و أذان أبيه إبراهيم، و دعوة نبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله.
أ تراه كيف يتجرد عن الدنيا و يتحلى عن الروح الحيوانية فيصير روحا مجردا، و ملائكا بشرا، فيحرّم على نفسه التمتع حتى من النساء و الطيب و الطيبات، بل حتى العقد على النساء، و يحرم عليه أن يؤذي حيوانا، و لو من الهوام، و أن يصيد صيدا و لو من الأنعام، و أن يقطع شجرا، أو يقطع نباتا، و إذا عقد على امرأة في إحرامه حرمت عليه أبدا؟
أ رأيته حين يطوف حول الكعبة- رمز الخلود، و مركز الأبدية، و تمثال
ص: 241
العرش، الذي تطوف حوله الملائكة وَ تَرَى الْمَلٰائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ (1)- طالبا أن تفتح أبوابها فيدخل في فردوسها الأبهى، و يخلد في نعيمها الأبدي، مع الخالدين؟
أتراك حيث تبتدئ بطوافك من الحجر فتلمسه قاصدا أنك تبايعه و تأخذ العهد منه، و تقبله و كأنك تقبل يد الرحمن، و أنه قد نزل من السماء أبيض من اللجين، و لكن ذنوب العباد كسته حلة السواد، كناية أنه تحمل ذنوبهم و تعهد بغفرانها من خالقهم؟
أ رأيت كيف ينقلب الطائف حول الكعبة بعد الفراغ من طوافه إلى مقام إبراهيم فيصلي فيه؟ إشارة إلى أنه بعد طوافه على القلب قام مقام أبيه إبراهيم في دعائه إلى الرب: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهِيمَ مُصَلًّى، رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَ تُبْ عَلَيْنٰا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ.
أ تراه حين ينفلت بعد الفراغ من الطواف إلى السعي بين الصفا و المروة مهرولا، يدفعه الشوق إلى السوق حذار أن تعرضه خطرات الوساوس فتكون حجر عثرة في طريقه إلى مشاهدة الحق، و تكدر عليه ذلك الصفا المتجلي عليه من أشعة تلك اللمعات.
و الصفا هو الصخرة التي وقف عليها نبي الرحمة في أول دعوته الناس إلى التوحيد، و الدخول في دين الإسلام، و التخلي عن عبادة الأصنام، و ما بين الصفا و المروة هو الموقع الذي سعت فيه هاجر أم إسماعيل سبعة أشواط في طلب الماء لولدها الذي تركته في المسجد الحرام حول الكعبة، و لما أيست رجعت
ص: 242
لولدها، رجعت إليه فوجدت ماء زمزم قد نبع من تحت قدميه.
ثمّ بعد إكمال السعي يقصر من شعره، و لعله إشارة إلى أن السالك إلى الحق مهما جد في المسير، فإن مصيره و منتهاه إلى القصور في شعوره، أو التقصير، فإذا عرف قصوره، و اعترف به، حل من إحرامه، و أحل اللّه له الطيبات التي حرمها عليه، و رجع من الحق إلى الخلق، و هو أحد الأسفار الأربع، و إلى هنا تنتهي عمرته.
ثمّ يوم الثامن يوم التروية يعقد الإحرام ثانيا، و هو إحرام الحج، و يتوجه إلى منى، و قبل الظهر يوم التاسع يكون في عرفات من الظهر إلى غروب الشمس، ثمّ يفيض إلى المشعر، و قبل طلوع الشمس يعود إلى منى، فيأتي بمناسكها الثلاثة: الرمي، و الذبح، و الحلق، يوم عيد الأضحى، و بعد الحلق يحل من كل ما حرم عليه بالإحرام إلّا الطيب، و الصيد، و النساء.
ثمّ يعود إلى مكة لإحرام الحج، و يحل له بعده الصيد، و الطيب، ثمّ يعود إلى منى و يبيت فيها ليالي النفر، الحادية و الثانية عشر، و يرمي الجمرات في اليومين، أو الثلاث بعد الأضحى، ثمّ يطوف طواف النساء فتحل له، و هنا تنتهي أعمال الحج و المناسك بأجمعها.
و في كل واحد من هذه الأعمال رموز و أسرار و حكم و مصالح، لو أردنا شرح بعضها فضلا عن كلها لاحتجنا إلى مؤلف مستقل لا نستطيع القيام به، و قد و هن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا.
و لكن ليعلم أنّ الأسرار و المصالح التي في الحج، بل و في كل عبادة، نوعان، خاصة و عامة:
أما الخاصة: فهي الأسرار التي يتوصل إليها السالكون و العلماء
ص: 243
الراسخون، و العرفاء الشامخون، و لا تنكشف أستارها، و كنوزها لعامة الناس، بل و لا يتصورها بلمح الخيال أحد منهم.
و أما العامة: فهي الواضحة المكشوفة التي يستطيع كل متفكر و متدبر أن يعرفها و يتوصل إليها، و أعظمها و أهمها و أجلى المصالح و الأهداف التي يرمي إليها، و يتطلبها على الظاهر المكشوف، و التي يدركها كل ذي شعور، هي الناحية الاجتماعية.
و من المعلوم أنّ الإسلام دين اجتماعي، و قد أعطى للنواحي الاجتماعية أعظم الأهمية، فشرّع صلاة الجماعة في مسجد المحلة كل يوم ثلاث مرات، أو خمس، و صلاة الجمعة في المسجد كل أسبوع، و صلاة العيدين لعموم أهل كل بلد و ضواحيها كل سنة مرتين، و لم يكتف بذلك كله حتى دعى إلى مؤتمر عام بجميع أهل الحجى، و الثروة، و الطبقة الراقية، مالا و عقلا، من المسلمين المتفرقين في أقطار الأرض الشاسعة في صعيد واحد، ليتعارفوا أولا، فإذا تعارفوا تآلفوا، و إذا تآلفوا تكاتفوا و صار كل واحد منهم قوة للآخر، يتفقد شئونه، و يشاركه في سرّائه و ضرّائه، و نعيمه و شقائه، فتكون من ذلك للمسلمين قوة هائلة، لا تقاومها كل قوة في العالم.
أذكر أني عام (1330) ه- أعني قبل إحدى و أربعين سنة- لما تشرفت للحج اجتمعت على ربوة (1) مساء حول مسجد الخيف بجماعة من الحجاج، فكان فيهم الصيني، و المراكشي، و اليماني، و العراقي، و الهندي، و كان فيهم من يحسن أكثر اللغات، فانجرّ الحديث إلى الحج و منافعه و فوائده، مع كثرة متاعبه،
ص: 244
و تكاليفه، فقلت: أيّ فائدة تريدون أعظم من اجتماعنا هذا؟ و هل كان يدور في خلد أحد أن يجتمع الصيني في أقصى الشرق بالمراكشي و هو في أقصى الغرب، و العراقي و الفارسي و هو في طرف الشمال باليماني و هو في أقصى الجنوب؟
و لكنّ المسلمين و يا للأسف لو كان يجدي الأسف أنهم لما فاتهم الحجى و اللب أصبحت أعمالهم بل و عباداتهم قشرا بلا لبّ، يجتمعون و هم متفرقون، و يتقاربون و هم متباعدون، متقاربة أجسامهم متضاربة أحلامهم، يحجّون و لا يتعرف أحدهم بأخيه، و لا يرى إلّا صورته، و لا يعرف شيئا من أحواله بل و لا اسمه، و بهذا و مثله وصلنا إلى الحال التي نحن فيها اليوم، فلا حول و لا قوة، و باللّه المستعان على هذا الزمان و أهل الزمان.
ص: 245
تشترك العبادات عموما بأنها أفعال وجودية، هي بمنزلة الجسد، و روحها النية، فالصلاة و الطواف و السعي، كالغسل و الوضوء و أمثالها أعمال جسدية، إذا لم يأت بها المكلف بداعي القربة فهي كجسد ميت لا حياة فيه، و كأشباح بلا أرواح، و لكن مهما كان فهو جسم عبادة، و صورة طاعة، و كل العبادات في ذلك سواء، أعني أنها أجساد و لها أرواح، فإن كانت تلك الروح فيه فهو حي، و إلّا فهو ميت، إلّا الصوم فقد كاد بل كان روحا مجردة، و حياة متمحضة لا جسم له و لا مادة، و هذه ميزة امتاز بها الصوم عن سائر العبادات، و لم يشاركه فيها سوى الإحرام، فإنّ الصيام و الإحرام كل منهما تروك محضة، و عدميات صرفة، ليس فيها من الأعمال الجسمانية شي ء، و لكن الإحرام فضحته ثياب الإحرام و لبسها، و بقي الصيام محتفظا بروحيته و تجرّده من كل عمل ظاهري، و لم يتجاوز عن كونه نية خالصة، و عبادة قلبية خفية، لا يعلم بها إلّا صاحبها و ربها العالم بالسرائر.
و من هنا اختص الصوم بميزة انفرد بها دون كل عبادة، و هي عدم إمكان دخول الرياء فيه، بل يستحيل ذلك إلّا بالقول، فيكون الرياء حين ذاك بالعبارة لا بالعبادة، و بالكلام لا بالصيام.
و الإحرام أيضا بجوهره و إن كان نية و تروكا كالصوم إلّا أن الإحرام فيه
ص: 246
عمل واحد وجودي، و هو لبس ثياب الإحرام، و منه قد يتأتى تدخل الرياء فيه، بخلاف الصوم المتمحض في النية و التروك فقط، فهو عبادة صامتة خرساء، و معاملة سرية بين القلب و الرب.
و لعل هذا هو المراد من الحديث المشهور: «الصوم لي و أنا أجزي به»- مبنيا للفاعل- فيكون القصد أنه تعالى تكريما للصائم يتولى جزاءه مباشرة من دون وسائط الفيض، و على المفعول: فيكون المراد أنه هو جزائي و اللائق بمقام عظمتي و تجردي، فإنّ الصائم يتجرد و يصير روحانيا، و المتخلق بأخلاق الروحانيين يلحق بهم، و يكون لحوقه بهم جزاؤه لهم، سواء عاد الضمير إلى الصوم، أو للصائم، هذا.
مضافا إلى ما يتضمنه الصوم من الفوائد الصحية، و الرياضة البدنية، و تربية قوة الإرادة، و مضاء العزم، و تهذيب النفس، و قمعها عن الانقياد إلى بواعث الشهوات، و كبح جماح قوتي الشهوة و الغضب اللتين هما أصل كل جريمة، و السبب في هتك كل حرمة.
و من آثاره تذكر حال الفقراء و أهل الفاقة، و من كضه الطوى و أمضه الجوع، فإنّ الصيام يوجب رقة القلب و اندفاع الدمعة، فيواسي إخوانه، و يكون حليما و رحيما و مهبطا للرحمة، و الراحمون يرحمهم اللّه تعالى.
ص: 247
وحدة الوجود أو وحدة الموجود (1)
هذه القضية من أمهات أو مهمات قضايا الفلسفة الإلهية، و هي تتصل اتصالا وثيقا بعلم الحكمة العالية.
و الإلهي بالمعنى الأعم الذي يبحث فيه عن الأمور العامة، كالوجود و الموجود، و كالواجب و الممكن، و العلة و المعلول، و الوحدة و الكثرة، و أمثالها، مما لا يتعلق بموضوع خاص، و لا حقيقة معينة من الأنواع، لا ذهنا و لا خارجا.
و للتمهيد و المقدمة نقول:
إنّ من المسائل الخلافية بين حكماء الإسلام و فلاسفة المسلمين مسألة
ص: 248
أصالة الوجود أو الماهية، بمعنى أنّ المتحقق في العين و الخارج هل هو الوجود، و الماهية أمر اعتباري ينتزع من الوجود المحدود المقيد المتعين بالتعين الذي يميزه عن غيره بالجنس و النوع و غيرهما من الاعتبارات، أو أنّ المتحقق في ظرف العين و الخارج و نفس الأمر و الواقع هو الماهية، و الوجود مفهوم اعتباري خارج عنها منتزع منها، محمول عليها، من خوارج المحمول لا المحمولات بالضميمة؟
فماهية النار مثلا إذا تحققت في الخارج و ترتبت عليها آثارها الخاصة من الإضاءة و الإحراق و الحرارة صح انتزاع الوجود منها، و حمله عليها، فيقال:
النار موجودة، و إلّا فهي معدومة.
و هذا القول- أعني أصالة الماهية، و أنّ الوجود في جميع الموجودات حتى الواجب اعتبار محض- على الظاهر كان هو المشهور عند الحكماء إلى أوائل القرن الحادي عشر، و عليه تبتني شبهة الحكيم «ابن كمونة» (1) التي
ص: 249
أشكل بها على التوحيد زاعما أنه ما المانع من أن يكون في ظرف التحقق و نفس الأمر و الواقع هويتان مجهولتا الكنه و الحقيقة، بسيطتان، متباينتان بتمام ذاتيهما، و ينتزع وجوب الوجود من كل منهما، و يحمل على كل واحدة منهما من قبيل خارج المحمول لا المحول بالضميمة؛ لأنّ ذات كل منهما بسيطة لا تركيب فيها؛ إذ التركيب يلازم الإمكان، و قد فرضنا وجوب كل منهما.
و قد أعضلت هذه الشبهة في عصره على أساطين الحكمة، و استمر إعضالها عدة قرون حتى صار يعبّر عنها كما في أول الجزء الأول من الأسفار «افتخار الشياطين»، و سمعنا من أساتذتنا في الحكمة أنّ المحقق الخونساري (1) صاحب «مشارق الشموس» الذي كان يلقب بالعقل الحادي عشر، قال: لو ظهر الحجة- عجل اللّه فرجه- لما طلبت معجزة منه إلّا الجواب عن شبهة ابن كمونة، و لكن في القرن الحادي عشر الذي نبغت فيه أعاظم الحكماء كالسيد الداماد (2)، و تلميذه ملّا
ص: 250
صدرا (1)، و تلميذيه الفيض (2) و اللاهجي صاحب الشوارق الملقب بالفياض (3)، انعكس الأمر، و أقيمت البراهين الساطعة على أصالة الوجود، و أنّ الماهيات جميعا اعتبارات صرفة ينتزعها الذهن من حدود الوجود.
أما الوجود الغير المحدود كوجود الواجب جلّ شأنه فلا ماهية له، بل «ماهيته إنّيته»، و قد ذكر الحكيم السبزواري رحمه اللّه (4)- في منظومته- البراهين القاطعة على أصالة الوجود، مع أنه من أوجز كتب الحكمة، فما ظنك بالأسفار و هي أربع مجلدات بالقطع الكبير، و يكفيك منها برهان واحد و هو اختلاف نحوي الوجود، حيث نرى بالضرورة و الوجدان أن النار مثلا بوجودها الذهني لا يترتب عليها شي ء من الآثار من إحراق و غيره، بخلاف وجودها الخارجي، و لو كانت هي المتأصلة في كلا الوجودين لترتبت آثارها ذهنا و خارجا، و إليه أشار في المنظومة بقوله:
ص: 251
و إنه منبع كل شرف و الفرق بين نحوي الكون يفي
و حيث أسفرت الأبحاث الحكمية عن هذه الحقيقة الجلية من أصالة الوجود الخارجي الغير المحدود الذي نعبر عنه بواجب الوجود- جلّت عظمته- يستحيل أن يفرض له ثان، فإن كل حقيقة بسيطة لا تركيب فيها يستحيل أن تتثنى و تتكرر لا ذهنا و لا خارجا، و لا وهما و لا فرضا، و قد أحسن المثنوي (1) في الإشارة إلى هذه النظرية القطعية، حيث يقول عن أستاذه شمس التبريزي (2):
شمس در خارج اگرچه هست فرد مى توان هم مثل او تصوير كرد شمس تبريزى كه نور مطلق است آفتاب است و ز انوار حقست شمس تبريزى كه خارج از أثير نبودش در ذهن و در خارج نظير
و بعد أن اتضح بطلان أصالة الماهية، و أشرق نور الوجود بأصالته، اختلف القائلون بأصالة الوجود بين قائل: بأنّ الوجودات بأجمعها واجبها و ممكنها
ص: 252
الذهني منها و الخارجي، المتباينة في تشخصها و تعيينها قطعا، هل إطلاق الوجود عليها من باب المشترك اللفظي؟ و هو إطلاق اللفظ على المعاني المتكثرة و المفاهيم المتباينة التي لا تندرج تحت حقيقة واحدة، و لا يجمعها قدر مشترك كالعين التي تستعمل في الباصرة و في النابعة و الذهب إلى آخر ما لها من المعاني الكثيرة المتباينة، على عكس المترادف ألفاظ كثيرة لمعنى واحد، و المشترك معاني كثيرة تحت لفظ واحد، و قد نسب هذا القول إلى المشائين، أو لأكثرهم.
أو أنه من المشترك المعنوي، فوجود النار و وجود الماء في باب المفاهيم، و وجود زيد و وجود عمرو في باب المصاديق، شي ء واحد، و حقيقة فاردة، و إنما التباين و التعدد في الماهيات المنتزعة من حدود الوجود، و تعيّنات القيود، فحقيقة الوجود من حيث هو واحدة بكل معاني الوحدة، و ما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك. فتدبر هذه الجملة جيدا كي تصل إلى معناها جيدا.
و حيث إنّ القول الأول يستلزم محاذير قطعية الفساد، و ما يستلزم الفاسد فاسد قطعا.
و من بعض محاذيره لزوم العزلة بين وجود الواجب و وجود الممكن، و عدم السنخية بين العلة و المعلول المنتهي إلى بطلان التوحيد من أصله و أساسه.
و إلى هذا أشار سيد الموحدين و إمام العرفاء الشامخين، أمير المؤمنين- سلام اللّه عليه- حيث يقول: «توحيده تمييزه عن خلقه، و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة».
و للّه هذه الحكمة الشامخة، و الكلمة الباذخة، ما أجلها و أجمعها لقواعد التوحيد و التجريد و التنزيه و دحض التشبيه.
ص: 253
و الأصح الذي لا غبار عليه أنّ حقيقة الوجود من حيث هي واحدة لا تعدد فيها، و لا تكرار، بل كل حقيقة من الحقائق و ماهية من الماهيات أيضا بالنظر إلى ذاتها مجردة عن كل ما سواها يستحيل تعددها و تكررها، و من قواعد الحكمة المتفق عليها أنّ «حقيقة الشي ء لا تتثنى و لا تتكرر، و الماهيات إنما تتكثّر و تتكرر بالوجود»، كما أن الوجود إنما يتكثر بالماهيات و الحدود، يعني أنّ ماهية الإنسان و حقيقته النوعية إنما تكثرت بالأفراد العينية و المصاديق الخارجية، و التعيّن إنما جاء من الوجود، و به تكررت الماهية و تكثرت، و لو لا الوجود لما كانت الماهية من حيث هي إلّا هي، لا تعدد و لا تكثر، و كما أنّ الماهية بالوجود تكررت و تكثرت فكذلك الوجود إنما تكرر و تكثر بالحدود و التعيّنات التي انتزعت منها الماهيات، فالقضية مطردة منعكسة، تكثر الوجود بالماهية، و تكثرت الماهية بالوجود.
ثمّ إنّ الوجود نوعان، ذهني و خارجي:
أما الذهني، فهو اعتبار صرف، و مفهوم محض، كسائر المفاهيم الذهنية المنتزعة من المصاديق يحمل عليها بالحمل الشائع الصناعي من المحمولات بالضميمة، لا خوارج المحمول، فقولك: زيد موجود، كقولك: زيد كاتب، و هو كلي واحد منطبق على أفراده التي لا تحصى، و من المعقولات الثانوية باصطلاح الحكيم.
أما الوجود العيني الخارجي الذي يحكي عنه ذلك المفهوم و ينتزع منه فهو بأنواعه الأربعة، الذاتي و هو بشرط لا، و المطلق و هو لا بشرط، و المقيد و هو بشرط شي ء، و يندرج فيه الوجود الرابط، و هو مفاد كان الناقصة، و الرابطي و هو ما يكون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره، كالأعراض، و الربطي و هو ما
ص: 254
يكون وجوده لنفسه في نفسه، و لكن بغيره، كالجواهر فإنها موجودة لنفسها و في نفسها، لكن بغيرها، أي بعلتها. أما واجب الوجود فوجوده لنفسه في نفسه بنفسه.
و هو أي الوجود أيضا بذاته و بجميع هذه الأنواع و حداني ذو مراتب متفاوتة بالقوة و الضعف، و الأولية و الأولوية، أعلى مراتبه و أولها و أولاها الوجود الواجب الجامع لكمالات جميع ما دونه من مراتب الوجود بنحو البساطة و الوحدة الجامعة لجميع الكثرات، و كل الكثرات نشأت منها و رجعت إليها «إنا للّه و إنا إليه راجعون»، و إليه الإشارة بقولهم: «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء و ليس بشي ء من الأشياء»، و التوحيد الكامل «رد الكثرة إلى الوحدة و الوحدة إلى الكثرة».
و هذا الوجود الخارجي من أعلى مراتبه الوجوبية إلى أخس مراتبه الإمكانية و هي الهيولى (1) التي لها أضعف حظ من الوجود و هي القوة القابلة لكل صورة، و لعلها هي المشار إليها في دعاء السمات: و انزجر لها العمق الأكبر كله، واجبه و ممكنه و ماديه و مجرده، حقيقة واحدة و إن اختلف في القوة و الضعف، و الوجوب و الإمكان، و العلية و المعلولية، و لكن كل هذا الاختلاف العظيم لا يخرجه عن كونه حقيقة واحدة، و لا يصيره حقائق متباينة و إن كان بالنظر إلى حدوده و مراتبه متعددا و متكثرا، و لكن حقيقته من حيث هي واحدة لا تعدد فيها و لا تكثر.
أ لا ترى أنّ الماء من حيث أنواعه و أصنافه ما أكثره و أوسعه؟ فماء السماء و ماء البحر و ماء النهر و ماء البئر و هكذا، و لكن مهما تكثرت الأنواع، و تعددت
ص: 255
المصاديق، فحقيقة الماء و طبيعته في الجميع واحدة، و هكذا سائر الماهيات و الطبائع.
إذا فوحدة الوجود بهذا المعنى تكاد أن تكون من الضروريات التي لا تستقيم حقيقة التوحيد إلّا بها، و لا تنتظم مراتب العلة و المعلول، و الحق و الخلق إلّا بها، فالوجود واحد مرتبط بعضه ببعض من أعلى مراتبه من واجب الوجود نازلا على أدناها و أضعفها و هو الهيولى التي لا حظ لها من الوجود سوى القوة و الاستعداد، ثمّ منها صاعدا إلى المبدأ الأعلى، و العلة الأولى، منه المبدأ و إليه المعاد.
ثمّ إنّ أول صادر منه و أقرب موجود إليه هو العقل الكلي و الصادر الأول «أول ما خلق اللّه العقل» الحديث، و هو العقل الكلي الخارجي العيني، لا الكلي الذهني المفهومي، و هو ظل اللّه و فيضه الأقدس.
نعم، هو ظل اللّه الممدود من سماء الجبروت، عالم السكون المطلق، و مركز الثبات، إلى عالم الملك و الملكوت و الناسوت، موطن التغير و الحركات أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شٰاءَ لَجَعَلَهُ سٰاكِناً، و هذا هو وجه اللّه الكريم، الذي لا يفنى، و لن يفنى أبدا، و هو اسم اللّه العظيم الأعظم، و نوره المشرق على هياكل الممكنات الذي يطلق عليه عند الحكماء بالنفس الرحماني، و عند العرفاء بالحق المخلوق به، و في الشرع رحمته التي وسعت كل شي ء، و الحقيقة المحمدية، و الصادر الأول «أول ما خلق اللّه نوري»، و هو الجامع لكل العوالم، عالم الجبروت و الملكوت و الملك و الناسوت.
و جميع العقول المفارقة، و المجردة و المادية، الكلية و الجزئية، عرضية و طولية، و النفوس كذلك، كلية و جزئية، و الأرواح و الأجسام و المثل العليا،
ص: 256
و أرباب الأنواع التي يعبر عنها في الشرع بالملائكة، و الروح الأعظم الذي هو سيد الملائكة و رب نوعها، كل هذه العوالم صدرت من ذلك الوجود المطلق، و المبدأ الأعلى الذي هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى قوة و شدة، و عدة و مدة، أوجد عزّ شأنه ذلك الصادر الأول الجامع لجميع الكائنات و الوجودات الممكنات، أوجده بمحض المشيئة، و صرف الإرادة في أزل الآزال إلى أبد الآباد وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلّٰا وٰاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (1) و التشبيه من ضيق نطاق الألفاظ، و إلّا فالحقيقة أدقّ و أرقّ من ذلك و هو المثل الأعلى الحاكي بنوع من الحكاية عن تلك الذات المقدسة المحتجبة بسرادق العظمة و الجبروت و غيب الغيوب «يا من لا يعلم ما هو إلّا هو».
و ذلك العقل الكلي أو الصادر الأول- ما شئت فعبّر- أو الحقيقة المحمدية متصلة بمبدئها، غير منفصلة عنه، لا فرق بينك و بينها إلّا أنهم عبادك و خلقك، بدؤها منك و عودها إليك «أنا أصغر من ربي بسنتين»، و الكل وجود واحد ممتد بلا مدة و لا مادة، من صبح الأزل إلى عشية الأبد، بلا حد و لا عدّ، و لا بداية و لا نهاية، و من المجاز البعيد، و ضيق خناق الألفاظ قولنا: هو الأول و الآخر، و الظاهر و الباطن، وجوده قبل القبل، في أزل الآزال، و بقاؤه بعد البعد من غير انتقال و لا زوال.
همه عالم صداى نغمۀ اوست كه شنيد اين چنين صداى دراز
ص: 257
مٰا خَلْقُكُمْ وَ لٰا بَعْثُكُمْ إِلّٰا كَنَفْسٍ وٰاحِدَةٍ (1)، و ذلك النفس الرحماني، و العقل الكلي، و الصادر الأول، هو كتاب اللّه التكويني، الذي لا نفاد لكلماته قُلْ لَوْ كٰانَ الْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمٰاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنٰا بِمِثْلِهِ مَدَداً (2).
و لو أردنا التوسع في هذه الغوامض و الأسرار أو كشف الرموز عن هذه الكنوز ملأنا القماطير بالأساطير، و لم نأت إلّا بقليل من كثير.
(مثنوى هفتاد من كاغذ شود)
و لكن ما ذكرناه مع غاية إيجازه لعله كاف للمتدبر في إثبات المعنى الصحيح «لوحدة الوجود»، و أنه مترفع الأفق عن الإنكار و الجحود، بل هو من الضروريات الأولية، و قد عرّفنا الضروري في بعض مؤلفاتنا بأنه ما يستلزم نفس تصوره حصول التصديق به، و لا يحتاج إلى دليل و برهان، مثل: أنّ الواحد نصف الاثنين، فوحدة الواحد بالمعنى الذي ذكرناه لا ريب فيها و لا إشكال، إنما الإشكال و الإعضال في وحدة الموجود، فإنّ المعقول في بادئ النظر وحدة الوجود، و تعدد الموجود المتحصل من الحدود و القيود و التعينات.
و لكن الذي طفح و طغى في كلمات العرفاء الشامخين و مشايخ الصوفية السالكين و الواصلين، هو وحدة الوجود و وحدة الموجود أيضا، و كانت هذه الكلمة العصماء يلوح بها أكابر العرفاء و الأساطين في القرون الأولى،
ص: 258
كالجنيد (1)، و الشبلي (2)، و بايزيد البسطامي (3)، و معروف الكرخي (4)، و أمثالهم، حتى وصلت إلى الحلاج و أقرانه إلى أن نبغ في القرون الوسطى محي الدين العربي و تلميذاه، القونوي (5)، و القيصري (6)، فجعلوها فنا من الفنون و المؤلفات الضخام، كالفتوحات المكية و غيرها، و المتون المختصرة كالفصوص و النصوص التي شرحها و نقحها صدر الدين القونوي، و انتشرت عند عرفاء القرون الوسطى من العرب كابن الفارض و ابن عفيف التلمساني (7) و غيرهما.
ص: 259
و الجامي (1) و أضرابهم.
و أحسن من أبدع فيها نظما العارف التبريزي الشبستري في كتابه المعروف «گلشن راز».
و خلاصة هذه النظرية: أنّ تلك الطائفة لما أرادوا أن يبالغوا و يبلغوا أقصى مراتب التوحيد الذي ما عليه من مزيد، و أن لا يجعلوا للحق شريكا لا في الربوبية كما هو المعروف عند أرباب الأديان، بل نفوا الشريك له حتى في الوجود، فقالوا: لا موجود سوى الحق، و هذه الكائنات من المجردات و الماديات من أرضين و سماوات، و ما فيها من الأفلاك و الإنسان و الحيوان و النبات، بل العوالم بأجمعها كلها تطوراته و ظهوراته، و ليس في الدار غيره ديار، و كل ما نراه أو نحسّ به أن نتعقله لا وجود له، و إنما الوجود و الموجود هو الحق جلّ شأنه، و نحن أعدام، و ليس وجودنا إلّا وجوده.
ما عدمهائيم و هستيهانما تو وجود مطلق و هستى ما كه همه اوست و نيست جز او وحده لا إله إلّا هو
و قد تفنن هؤلاء العرفاء في تقريب هذه النظرية إلى الأذهان، و سبحوا سبحا طويلا في بحر هذا الخيال، و ضربوا له الأمثال، فصوروه تارة بالبحر، و هذه العوالم و الكائنات كأمواج البحر فإنها ليست غير البحر و تطوراته، و ليست
ص: 260
الأمواج شي ء سوى البحر، فإذا تحرك ظهرت، و إذا سكن عدمت و اندحرت، و هو معنى الفناء المشار إليه بقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ* وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ (1) يفنى وجه الممكن و يبقى وجه الواجب:
چه ممكن گرد امكان برفشاند بجز واجب ديگر چيزى نماند
نعم، الأمواج تطورات البحر لا شي ء موجود غير وجود البحر.
چه درياى است وحدت ليك پر خون كز او خيزد هزاران موج مجنون هزاران موج خيزد مردم از وى نگردد قطرۀ هرگز كم از وى
قالوا: الوجه واحد، و المرايا متعددة.
و ما الوجه إلّا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا
و كذلك العدد ليس إلّا تكرار الواحد إلى ما لا نهاية له:
وجود اندر كمال خويش سارى است تعينها أمور اعتباري است أمور اعتباري نيست موجود عدد بسيار و يك چيز است معدود
ص: 261
چه واحد گشته در اعداد سارى
و من هذا القبيل التمثيل بالشعلة الجوّالة التي ترسم دائرة نارية من سرعة حركتها، و ليست هي إلّا تلك الشعلة الصغيرة.
همه از وهم تو اين صورت غير چه نقطه دائره است از سرعت سير
و الوجود واحد و الموجود واحد له ظهورات و تطورات، يتراءى أنها كثرات، و ليس إلّا الذات و مظاهر الأسماء و الصفات و شئون الجمال و الجلال و القهر و اللطف، و قد رفع الكثير منهم حجب الأستار عن هذه الأسرار حتى أنّ محي الدين العربي (1) عبّر عن كل هذا بتغيير كلمة في البيت المشهور (2):
ص: 262
ص: 263
ص: 264
و في كل شي ء له آية تدل على أنّه واحد
فقال: «تدل على أنه عينه» ثمّ تحامل و تقحم إلى ما هو أصرح و أعظم، حيث قال:
سبحان من حجّب ناسوته نور سنا لاهوته الثاقب ثمّ بدا في خلقه بارزا بصورة الآكل و الشارب
و مشى على السبيل المتوعر كثير من شعراء العرب و عرفائهم في القرون الوسطى يحمل رايتهم و يفرضها ابن الفارض (1) في أكثر شعره، و لا سيما تائيته الصغرى و الكبرى التي يقول فيها:
هو الواحد الفرد الكثير بنفسه و ليس سواه إن نظرت بدقة بدا ظاهرا للكل في الكل بيننا نشاهده بالعين في كل ذرة
ص: 265
فكل مشاهد محسوس من الذرة إلى الذرى، و من العرش إلى الثرى، هي أطواره و أنواره و مظاهره و تجلياته، و هو الوجود الحق المطلق و لا شي ء غيره، فإذا قلت لهم: فالأصنام و الأوثان، يقول لك العارف الشبستري:
مسلمان گر بدانستى كه بت چيست بدانستى كه دين در بت پرستيست
و إذا قلت: فالقاذورات، قالوا: نور الشمس إذا وقع على النجاسة هو ذلك النور الطاهر، و لا تؤثر عليه النجاسة شيئا:
نور خورشيد ار بيفتد بر حدث نور همان نور است نبپذيرد خبث
و ما اكتفوا بهذه التمثيلات و التقريبات حتى أخضعوا هذه النظرية المتمردة على العقول لسلطان البرهان الساطع و الدليل القاطع.
و بيانه بتنقيح و توضيح منّا بعد مقدمتين وجيزتين:
الأولى: أنّ الوجود و العدم نقيضان، و النقيضان لا يجتمعان، و لا يقبل أحدهما الآخر بالضرورة، فالوجود لا يقبل العدم، و العدم لا يقبل الوجود، يعني أن الموجود يستحيل أن يكون معدوما، و المعدوم يستحيل أن يكون موجودا، و إلّا لزم أن يقبل الشي ء ضده و نقيضه، و هو محال بالبداهة.
الثانية: أنّ قلب الحقائق مستحيل، فحقيقة الإنسان يستحيل أن تكون حجرا، و حقيقة الحجر تستحيل أن تكون إنسانا، و هذا لمن تدبره من أوضح الواضحات، فالعدم يستحيل أن يكون وجودا، و الوجود يستحيل أن يكون عدما.
ص: 266
و بعد وضوح هاتين المقدمتين نقول: لو كان لهذه الكائنات المحسوسة وجود بنفسها لاستحال عليها العدم؛ لأنّ الوجود لا يقبل العدم، و هو منافر له، و ضد له بطبيعته، مع أننا نراها بالعيان توجد و تعدم و تظهر و تفنى، فلا محيص من الالتزام بأنها غير موجودة، و ليس الموجود إلّا وجود واجب الوجود الأزلي الحق الذي يستحيل عليه العدم بطبيعة ذاته المقدسة، و كل ما نراه من هذه الكائنات التي نحسبها بالوهم موجودة هي أطواره و مظاهره يفيضها و يقبضها، يبقيها و يفنيها، و يأخذها و يعطيها، و هو المانع و المعطي، و القابض و الباسط، و هو على كل شي ء قدير، و كل شي ء هالك إلّا وجهه، و كل الأشياء تجلياته و ظهوراته و إشراقاته و أنواره، و كل الكائنات و الممكنات كلها مضافة إليه بالإضافة الإشراقية لا المقولية، أطرافها اثنان لا ثلاثة.
و سواء قلنا بأنّ هذا البرهان صخرة صماء لا تمسه أظافر الخدشة، أو أنّ للمناقشة فيه مجالا فهو برهان منطقي على أصول الحكمة و المنطق، هذا عدا ما يدعونه من الشهود و المكاشفة و العيان الذي هو أسمى من الدليل و البرهان؛ إذ يقولون: إنّ الدليل عكازة الأعمى:
پاى استدلاليان چوبين بود پاى چوبين سخت بى تمكين بود (1)
***
ص: 267
زهى احمق كه او خورشيد تابان بنور شمع جويد در بيابان در آن جائى كه نور حق دليل است چه جاى گفتگوى جبرئيل است
سبحانك أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟
متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ و متى بعدت حتى تحتاج إلى ما يوصلنا إليك؟ عميت عين لا تراك و لا تزال عليها رقيبا (1).
و مع هذا كله فإنّ علماء الظاهر، و أمناء الشرع يقولون: إنّ سالك هذا الطريق كافر زنديق، و هذه الطريقة- أعني وحدة الوجود و الموجود- عندهم زندقة و إلحاد، تضاد عامة الشرائع و الأديان، مهما قام عليها الدليل و البرهان؛ إذ حينئذ أين الرب و المربوب؟ أين الخالق و المخلوق؟ و ما معنى الشرائع و التكاليف؟ و ما هو الثواب و العقاب؟ و ما الجنة و النار؟ و ما المؤمن و الكافر؟
و الشقي و السعيد؟ إلى آخر ما هنالك من المحاذير و اللوازم الفاسدة.
ص: 268
و لعل هذا هو مدرك ما ذكره السيد الأستاذ قدّس سرّه «في العروة الوثقى» ما نصه (1): «القائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم».
و إذا أحطت خبرا بما ذكرنا تعرف ما في هذا و أمثاله من كلمات الفقهاء رضوان اللّه عليهم، و أني لا أرى من العدل و الإنصاف، و لا من الورع و السداد، المبادرة إلى تكفير من يريد المبالغة في التوحيد، و عدم جعل الشريك للّه تعالى في كل كمال، و الكمال و الوجود كله للّه وحده لا شريك له، و مع ذلك فهم يؤمنون بالشرائع، و النبوات، و الحساب و العقاب و الثواب، و التكاليف بأجمعها على ظواهرها، فالحقيقة لا تصح عندهم و لا تنفع بدون الطريقة، و الطريقة لا تجدي بدون الشريعة، و الشريعة هي الأساس، و بها يتوصل ملازم العبادة إلى أقصى منازل السعادة.
و عندهم في هذه المسائل مراحل و منازل و تحقيقات أنيقة، و تطبيقات رشيقة، و معارج يرتقي السالك بها إلى أسمى المناهج، و مؤلفات مختصرة و مطولة فوق حد الإحصاء، نظما و نثرا و أذكارا، سرا و جهرا، و رياضات و مجاهدات لتهذيب النفس و تصفيتها كي تستعد للحوق بالملإ الأعلى، و المبدأ الأول، و هناك من البهجة و المسرة و الجمال و الجلال ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر.
و هاهنا أسرار عميقة، و مباحث دقيقة لا تحيط بها العبارة، و لا تدركها الإشارة، فلنتركها لأهلها، و نسأله تعالى أن يفيض علينا من فضله بفضلها.
ص: 269
نعم، لا ريب أن كل طائفة اندس فيها من ليس من أهلها من الدخلاء و أهل الأهواء حتى يكاد أن يغلبوا على أربابها الأصحاء، فلا ينبغي ضرب الجميع بسهم واحد، و أخذهم أو نبذهم على سواء، كما أن بعض المتطرفين المتوغلين في الغرام و الهيام و الشوق إلى ذلك المقام الأسمى قد توقدت شعلة المعرفة في قلوبهم فلم يستطيعوا ضبط عقولهم و ألسنتهم، فصدرت منهم شطحات لا تليق بمقام العبودية، مثل قوله بعضهم: «أنا الحق» «و ما في جبتي إلّا الحق»، و أعظم منها في الجرأة و الغلط و الشطط قول بعضهم: «سبحاني ما أعظم شأني».
و هذه الكلمات قد حملها الثابتون منهم على أنها صدرت من البعض حالة المحو لا حالة الصحو، و في مقام الفناء في الذات، لا في مقام الاستقلال و الثبات، و لو صدرت في غير هذه الحال لكانت كفرا.
على أن المنقول عن الحلاج (1) أنه قال للذين اجتمعوا على قتله: اقتلوني فإنّ دمي لكم مباح؛ لأني قد تجاوزت الحدود، و من تجاوز الحدود «أقيمت عليه الحدود».
و لكن العارف الشبستري (2) التمس العذر لهذه الشطحات، و حملها على
ص: 270
أحسن وجه، حيث قال:
أنا الحق كشف ان أسرار مطلق بجز حق كيست تا گويد أنا الحق روا باشد انا الحق از درختى چرا نبود روا از نيك بختى
يقول: من ذا يستطيع غير الحق أن يقول أنا الحق، و إذا صح و حسن من الشجرة أن تقول: أنا اللّه، فلما ذا لا يحسن ذلك من العارف الحسن الحظ.
و حقا أقول: إنّ من أجال فكره، و أمعن النظر في جملة من آيات القرآن العزيز، و كلمات النبي و الأئمة المعصومين- سلام اللّه عليهم- و أدعيتهم و أورادهم سيجد في الكثير منها الإشارة إلى تلك النظرية العبقرية، و قد شاعت كلمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هي قوله- سلام اللّه عليه-: «أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد» (1):
ص: 271
ألا كل شي ء ما خلا اللّه باطل (1)
و قد تضمنت هذه الكلمة في طياتها كل ما قاله العرفاء الشامخون من أنّ الأشياء أعدام؛ إذ ليس الباطل إلّا العدم، و ليس الحق إلّا الوجود، فالأشياء كلها باطلة و أعدام، و ليس الحي و الموجود إلّا واجب الوجود.
و هذا كل ما يقوله و يعتقده أولئك القوم، أفاض اللّه سبحانه هذه الكلمة على لسان ذلك الشاعر العربي الذي عاش أكثر عمره في الجاهلية، و أدرك في أخريات حياته شرف الإسلام فأسلم، و قد صدق تلك الجوهرة الثمينة الصادق الأمين، و مثلها كلمة ولده صادق أهل البيت- سلام اللّه عليه-: «العبودية جوهرة كنهها الربوبية»، بل لو أمعنت النظر في جملة من مفردات القرآن المجيد تجدها وافية بذلك الغرض واضحة جلية، مثل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ (2)، و كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلّٰا وَجْهَهُ (3)، فإنّ المشتق حقيقة فيمن تلبّس بالمبدإ حالا، فكل شي ء فان فعلا و هالك حالا، لا أنه سوف يهلك و يفنى.
و مهما أحاول أن أوضح الحقيقة أجدها عني أبعد من الشمس، بيد أنها أجلى منها، و أنى لهذا اليراع القصير و العقل الصغير أن يجرأ فيتناول جرعة من ذلك البحر الغزير، يا من بعد في دنوّه، و دنى في علوه، ربّنا عليك توكلنا و إليك أنبنا و إليك المصير، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، و فوق ما يقول القائلون، و إنا للّه و إنا إليه راجعون.
ص: 272
و حيث وفّقنا جل شأنه لذكر ثلاث مسائل مهمة من مسائل الحكمة نشرت بهذا «الفردوس»، و هي: قاعدة الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد، و معنى العقول العشرة، و وحدة الوجود و الموجود، رأينا من المناسب أن نعزّزهن برابعة من معضلات الشرع و الدين، و التي قصرت عنها في الغالب الأدلة و البراهين، و هي قضية «المعاد الجسماني»، التي ينسب إلى الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا رحمه اللّه أنه قال ما مضمونه: إنّ العقل قاصر عن إثباتها، و لا تتم إلّا من ناحية الشرع.
ص: 273
المهم و الاعضال في هذا الموضوع هو تصور كيف يعود هذا الجسم العنصري، التي تعتور عليه الأطوار و الأدوار المختلفة المتنوعة، التي ينتقل فيها من دور إلى دور، لا يدخل في واحد إلّا بعد مفارقة ما قبله، و لا يتشكل إلّا بشكل يباينه ما بعده، ينشأ جنينا، ثمّ طفلا رضيعا، ثمّ صبيا و غلاما، ثمّ شبابا و كهلا، ثمّ شيخا و هرما، فبأي صورة من هذه الصور يبعث؟ و أي جسم من هذه الأجسام يعود؟
ثمّ كيف يعود، و قد تفرق و رجع كل شي ء إلى أصله غازا و ترابا، و كل ما فيه من عناصر، و لو جمعت كلها و أعيدت فهو خلق جديد و جسد حادث، غايته أنه مثل الأول لا عين الأول؟ مضافا إلى الشبهات الكثيرة، كاستحالة إعادة المعدوم، و شبهة الآكل و المأكول و غير ذلك.
و حيث إنّ الاعتقاد بالمعاد- روحا و جسما- يعدّ من أصول الدين الخمسة، أو من دعائم الإسلام الثلاثة: التوحيد، و النبوة، و المعاد، و مهما كان فلا مجال للشك بأنّ المعاد الجسماني على الإجمال من ضروريات دين الإسلام، و هل الضروري من الدين إلّا ما يكون التدين بذلك الدين مستلزما للاعتقاد و التدين به؟
مثلا وجوب الصلاة من ضروريات دين الإسلام، فهل يعقل الالتزام بدين الإسلام مع عدم الالتزام بوجوب الصلاة؟ و التصديق بنبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله عبارة عن
ص: 274
التصديق بأنّ كل ما جاء به حق و هو من اللّه جل شأنه.
و هذا القدر يكفي في الاعتقاد بالمعاد، و لا حاجة إلى أكثر من هذا للخروج من عهدة التكليف الشرعي أو العقل، و لا يلزم معرفة كيف يعود؟ و متى يعود؟ و أين يعود؟ فإنّ التكليف بمعرفتها تكليف شاق على الخواص، فكيف بغيرهم؟ فإنه يكاد يكون تكليفا بما لا يطاق، و العلم اللازم في أصول الدين لا يقدح فيه الإجمال، و لا يلزم فيه أن يكون قادرا على البرهنة و الاستدلال، بل يكفي فيه حصوله من أي سبب كان، و عدم جواز التقليد في أصول الدين يراد منه عدم كفاية الظن و لزوم القطع و اليقين، لا لزوم إقامة الحجج و البراهين.
و الغاية من هذا البيان و الغرض الأقصى به أنه لا يجب على المكلفين- و لا سيما العوام- البحث عن كيفية المعاد الجسماني، بل قد لا يجوز لهم ذلك، كسائر قضايا القواعد النظرية و المباحث الحكمية مثل قضية القضاء و القدر و الخير و الشر، و الاختيار و الجبر، و ما إلى ذلك من المعضلات العويصة؛ إذ قد تعلق الشبهة بذهن أحدهم (1) و لا يقدر على التخلص منها، فيكون من الهالكين،
ص: 275
كما هلك إبليس اللعين بشبهة: خلقتني من نار و خلقته من طين.
فالأولى بل الأسلم هو الالتجاء إلى العلم الحاصل من النقل من كتاب و سنة، و اعتبارات يستفاد من مجموعها اليقين، بأنّ المعاد الجسماني مثلا من أصول الدين، و يلتزم به و يقف عند هذا الحد، و على هذه الجملة و الإجمال لا يتجاوزه إلى تفاصيل الأحوال.
أما الاستدلال عليه كما قد يقال: بأنه ممكن عقلا، و قد أخبر به الصادق الأمين فيجب تصديقه، فهو دليل لا مناعة فيه لدفع الإشكال؛ فإن المانع يمنع الصغرى و يدعي أنه ممتنع عقلا، إما لاستحالة إعادة المعدوم أو لغير ذلك من المحاذير المعروفة، و حينئذ فإذا ورد ما يدل عليه بظاهر الشرع فاللازم تأويله كي لا يعارض النقل دليل العقل، كما في سائر الظواهر القرآنية، مثل: يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، و الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ، إلى كثير من أمثالها مما هو ظاهر في التجسيم المستحيل عقلا.
إذا، أ ليس الأسد و الأسعد للإنسان القناعة بالسنة و القرآن، و ترك البحث و التعمق، و طلب التفصيل في كل ما هو من هذا القبيل؟
و لعل هذا المراد من الكلمة المأثورة (1) «عليكم بدين العجائز» أي
ص: 276
اعتقاد الطاعنين أو الطاعنات في السن؛ فإنّ من نشأ على عقيدة و شب و شاب عليها تكون في أقصى مراتب الرسوخ و القوة، و لا تزيله كل الشبهات و التشكيكات عنها، و إن كانت العقيدة عنده مجردة عن كل دليل، بل تلقاها من الآباء و الأمهات إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
و لعل في الكلمة «العجائز» تلميحا أيضا إلى العجز عن إقامة الدليل، فإن أهل الاستدلال و الصناعات العلمية غالبا أقرب إلى التشكيك من أولئك البسطاء
ص: 277
المتصلبين في عقائدهم غلطا كانت في الواقع أو صوابا، و لذلك كانت الأنبياء- سلام اللّه عليهم- يقاسون أنواع البلاء و أشد العناء في إقناع أمّتهم بفساد عقائدهم و إقلاعهم عنها عن عبادة الأصنام أو غيرها، و البساطة في كل شي ء أقرب إلى البقاء و الدوام من التركيب و الانضمام، و البسائط أثبت من المركبات؛ لقبول الأجزاء الانحلال و التفكك.
و لعل هذا هو السبب في جعل الاعتماد في الاعتقاد بالمعاد و الجسماني منه خاصة على ظواهر الشرع و الأدلة النقلية دون العقلية من بعض أكابر الحكماء كالشيخ الرئيس ابن سينا قدّس سرّه، حيث قال في المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء «فصل في المعاد»: و بالحري أن نحقق هاهنا أحوال النفس الإنسانية إذا فارقت أبدانها، و أنها إلى أي حالة تعود، فنقول: يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو مقبول من الشرع، و لا سبيل إلى إثباته إلّا من طريق الشريعة، و تصديق خبر النبوة، و هو الذي للبدن عند البعث و خيرات البدن و شروره معلومة، و قد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها سيدنا و نبينا و مولانا محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله حال السعادة و الشقاوة التي بحسب البدن، و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهاني، و قد صدقته النبوة، و هما السعادة أو الشقاوة التي للأنفس. انتهى محل الحاجة منه.
و عليه فمن حصل له الاعتقاد بالمعاد من الأدلة السمعية، و لم تعرض له فيه شبهة توجب تشكيكه لرسوخ عقيدته و قوتها فقد وفق و أصاب، و بلغ النصاب، و لا ينبغي، بل قد لا يجوز له الخوض في الأدلة العقلية و الأصول النظرية، و لكن من عرضته الشبهة و اعتقد بالاستحالة و الامتناع عقلا و أنه لا بد من تأويل الظواهر الشرعية كي لا يتنافى الشرع مع العقل و يسقط عنده قول
ص: 278
المستدل: أنه ممكن، و أخبر به الصادق الأمين؛ لاندفاعه عنده بما أشرنا إليه قريبا، فلا بد حينئذ من رفع هذه الدعوى- أعني دعوى الاستحالة و الامتناع- و إثبات أنه ممكن عقلا، بل واقع، فاللازم إثبات إمكانه الذاتي، و إمكانه الوقوعي؛ إبقاء للأدلة الشرعية على ظواهرها، و قطع أيدي التأويل عن منيع مقامها.
و حيث إنّ الحاجة إلى النظر في هذه القضية لا بد أن يكون من غير الظواهر النقلية، بل من المبادئ العقلية، فاعلم أولا أنّ الأقوال في المعاد أربعة:
أحدها: إنكاره مطلقا، لا جسما و لا روحا، و هو قول جميع الملاحدة و الطبيعيين الذين ينكرون المبدأ، فكيف المعاد؟ و هما متلازمان في المفاد، و بينهما أقوى مراتب الاتحاد، و إثبات المبدأ يكفي في إبطال هذا القول. راجع الجزء الأول من «الدين و الإسلام» تجد فيه لإثبات الصانع ما يغنيك عن غيره، بأجلى بيان، و أقوى برهان.
ثانيها: إثبات المعاد الروحاني فقط؛ نظرا إلى أنّ الأرواح مجرّدة و المجرد باق، و الجسم مركب من عناصر شتى، و إذا فارقته الروح و دخلت في عالم المفارقات انحل هذا المركب و لحق كل عنصر بأصله، و انعدم و تلاشى ذلك المركب، و انعدمت تلك الصورة، و المعدوم يستحيل عوده، و الروح باقية، و هي التي تعاد للحساب و إنجاز عملية الثواب و العقاب، و لعل إلى هذا الرأي المثالي أو الخيالي يشير المعلم الثاني أبو نصر الفارابي قدّس سرّه (1) في أرجوزته التي يقول
ص: 279
ص: 280
ص: 281
فيها:
أصبح في بلابلي و أمسى أمسي كيومي و كيومي أمسي
ص: 282
يا حبذا يوم حلول رمسي مطلع سعدي و مغيب نحسي من عرض يبقى بدار الحس و جوهر يرقى لدار القدس و كل جنس لاحق لجنس
و يعني بالعرض الجسم التعليمي، ذا الأبعاد الثلاثة، و الكيفيات الخاصة و هو الذي تتفرق بالموت أجزاؤه، و يلحق كل جزء بأصله من العناصر، و لم يعلم رأيه أنها تعود أو لا تعود، و كيف تعود؟
و على كل فبطلان هذا القول يبتني على منع صيرورة البدن معدوما بالموت أو بعد الموت كما سيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى.
ثالثها: القول بالمعاد الجسماني فقط، و هو مذهب جميع أهل الظاهر من المسلمين، و بعض المتكلمين، و هو لازم كل من أنكر وجود النفس و الروح المجردة، بل أنكر وجود كل مجرد سوى اللّه «فلا مجرد إلّا اللّه»، أما الملائكة، و العقول، و النفوس و الأرواح، فكلها أجسام، غايته أنها تختلف من حيث اللطافة و الكثافة، و العنصرية و المثالية، يظهر هذا من كلمات عدة من العلماء، و لكني أجلهم عن ذلك، و كلماتهم محمولة على غير ما يتراءى منها، و مغزاها معان أخرى جليلة (1).
ص: 283
رابعها: و هو أحقها و أصدقها: إثبات المعادين الجسماني و الروحاني، أي معاد هذا الجسد الذي كان في الدنيا بروحه و جسمه، فيعود للنشر يوم الحشر كما كان، و يقف للدينونة بين يدي الملك الديان، كما هو ظاهر جميع ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالة على رجوع الخلائق إلى اللّه عز شأنه و الرد على منكري البعث و المعاد لمحض العناد، أو الاستبعاد، أو أخذا بقضية استحالة إعادة المعدوم المرتكزة في الأذهان.
و قد ردّ عليهم الفرقان المحمدي بأنحاء من الأساليب البليغة، البالغة إلى أقصى مراتب البلاغة و القوة، يعرفها من يتلو القرآن بتدبر و إمعان.
و حيث إنّ غرضنا المهم من تحرير هذه الكلمات هو إثبات الإمكان، و دفع الاستحالة، كي تبقى ظواهر الأدلة على حالها؛ لذلك لم نتعرض لسرد تلك الآيات النيّرات و اتجهنا إلى تلك الوجهة، و دحض تلك الشبهة، بأوضح بيان، و أصحّ برهان، و منه تعالى نستمد، و على فضل فيضه نعتمد، و نقول:
حيث إنّ من الواضح المعلوم بل المحسوس لكل ذي حس أنّ كل شخص من البشر مركب من جزءين: الجزء المحسوس و هو البدن العنصري الذي يشاهد بالعين الباصرة، و يشغل حيّزا من الفضاء؛ و جزء آخر يحس بعين البصيرة، و لا تراه عين الباصرة، و لكن يقطع كل أحد بوجود شي ء في الإنسان، بل و الحيوان غير هذا البدن، بل هو المصرف و المتصرف في البدن، و لولاه لكان هذا البدن جمادا لا حس فيه و لا حركة، و لا شعور و لا إرادة.
إذا فيلزمنا للوصول إلى الحقيقة و الغاية المتوخاة البحث عن هذين الجزءين، فإذا عرفناهما حق المعرفة فقد عرفنا كل شي ء، و اندفع كل إشكال إن شاء اللّه. و إليك البيان:
ص: 284
يشهد العيان و الوجدان- و هما فوق كل دليل و برهان، و إليهما منتهى أكثر الأدلة- أنّ هذا البدن المحسوس الحي المتحرك بالإرادة لا يزال يلبس صورة و يخلعها و تفاض عليه أخرى، و هكذا لا تزال تعتور عليه الصور منذ كان نطفة، فعلقة، فعظاما، فجنينا، فمولودا، فرضيعا، فغلاما، فشابا، فكهلا، فشيخا، فميتا، فترابا، تكونت النطفة من تراب، ثمّ عادت إلى التراب، فهو لا يزال بعد أن أنشأه باريه من أمشاج ليبتليه، فجعله سميعا بصيرا، إما شاكرا أو كفورا، في خلع و لبس أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، يخلع صورة و يلبس أخرى، و ينتقل من حال إلى حال، و من شكل إلى آخر، مريضا تارة و صحيحا و هزيلا و سمينا، و أبيضا و أسمرا، و هكذا تعتوره الحالات المختلفة، و الأطوار المتباينة، و في كل ذلك هو هو لم تتغير ذاته و إن تبدلت أحواله و صفاته، فهو يوم كان رضيعا هو يوم صار شيخا هرما، لم تتبدل هويته و لم تتغير شخصيته، بل هناك أصل محفوظ يحمل كل تلك الأطوار و الصور، و ليس عروضها عليه و زوالها عنه من باب الانقلاب، فإن انقلاب الحقائق مستحيل، فصورة المنوية لم تنقلب دموية أو علقية، و لكن زالت صورة المني و تبدلت بصورة الدم، و هكذا، فالصور متعاقبة متبادلة لا متعاقبة منقلبة «إذ صورة لصورة لا تنقلب».
و هذه الصور كلها متعاقبة في الزمان لضيق وعائه، مجتمعة في وعاء الدهر لسعته، و المتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الدهر، و لا بد من محل حامل و قابل لتلك الصور المتعاقبة، ما شئت فسمه مادة أو هيولى أو الأجزاء الأصلية كما في الخبر الآتي إن شاء اللّه، و كما أنّ المادة ثابتة لا تزول فكذلك الصور كلها ثابتة في محلها في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى، و لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلّا أحصاها.
ص: 285
و قد عرفت في ما مرّ عليك من المباحث أن الشي ء لا يقبل ضده، و الموجود لا يصير معدوما، و المعدوم لا يصير موجودا، و انقلاب الحقائق مستحيل.
ثمّ إنّ هذا البدن المحسوس العنصري لا ريب في أنه يتحصل من الغذاء، و أن أجزاءه تتحلل و تتبدل، فهذا الهيكل الجسماني بقوة الحرارة الغريزية التي فيه المحركة للقوى الحيوانية العاملة في بنائه و حفظه و تخريبه و تجديده كالجاذبة و الهاضمة و الدافعة و الماسكة و غيرها، لا يزال في هدم و بناء، و إتلاف و تعويض، كما قال شاعرنا الحكيم في بيته المشهور:
(و المتلف الشي ء غارمه) و قاعدة: (المتلف ضامن)
و في بيان أوضح: أن علماء الفيزيولوجيا (علم أعضاء الحيوان) قد ثبت عندهم تحقيقا أن كل حركة تصدر من الإنسان، بل و من الحيوان يلزمها، يعني تستوجب احتراق جزء من المادة العضلية، و الخلايا الجسمية، و كل فعل إرادي أو عمل فكري لا بد و أن يحصل منه فناء في الأعصاب و إتلاف من خلايا الدماغ، بحيث لا يمكن لذرة واحدة من المادة أن تصلح مرتين للحياة، و مهما يبدو من الإنسان، بل مطلق الحيوان، عمل عضلي أو فكري فالجزء من المادة الحية التي صرفت لصدور هذا العمل تتلاشى تماما، ثمّ تأتي مادة جديدة تأخذ محل التالفة، و تقوم مقامها في صدور ذلك العمل مرة ثانية، و حفظ ذلك الهيكل من الانهيار و الدمار، و هكذا كلما ذهب جزء خلفه آخر- خلع و لبس- كما قال عز شأنه: أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (1)، و يكون
ص: 286
قدر هذا الاتلاف بمقدار قوة الظهورات الحيوية و الأعمال البدنية، فكلما اشتد ظهور الحياة و تكثرت مزاولة الأعمال الخارجية ازداد تلف المادة و تعويضها و تجديدها، و من هنا تجد أرباب الأعمال اليدوية كالبنائين و الفلاحين و أضرابهم أقوى أجساما، و أعظم أبدانا، بخلاف ذوي الأعمال الفكرية الذين تقل حركاتهم و تسكن عضلاتهم.
ثمّ إنّ هذا التلف الدائم لا يزال يعتوره التعويض المتصل من المادة الحديثة الداخلة في الدم المتكونة من ثلاث دعائم، هي دعائم الحياة، و أسسها الجوهرية: الهواء، و الماء، و الغذاء، و لو فقد الإنسان واحدا منها- و لو بمدة قصيرة- هلك، و فقدت حياته.
و هذا العمل التجديدي عمل باطني سري، لا يظهر في الخارج إلّا بعد دقة في الفكر، و تعمق في النظر، و لكن عوامل الاتلاف ظاهرة للعيان، يقال عنها إنها ظواهر الحياة، و ما هي في الحقيقة إلّا عوامل الموت؛ لأنّها لا تتم إلّا بإتلاف أجزاء من أنسجتنا البدنية و أليافنا العضوية، فنحن في كل ساعة نموت و نحيى، و نقبر و ننشر، حتى تأتينا الموتة الكبرى، و نحيى الحياة الأخرى.
إذا فنحن- بناء على ما ذكر- في وسط تنازع هذين العاملين: عامل الاتلاف، و عامل التعويض، يفنى جسمنا، و يتجدد في مدار الحياة عدة مرات، بمعنى أن جسمنا الذي نعيش به من بدء ولادتنا إلى منتهى أجلنا في هذه الحياة تفنى جميع أجزائه في كل برهة و تتحصل أجزاء يتقوم بها هذا الهيكل ليس فيها جزء من الأجزاء السابقة، و لا يمكن تقدير هذه البرهة على التحقيق، يعني أي مقدار به تتلاشى تلك الأجزاء جميعا و تتجدد غيرها بموضعها.
ص: 287
نعم، لا نعلم ذلك و لكن ينسب إلى الفيزلوجي «مولشت» (1) أنّ مدة بقائها ثلاثين يوما، ثمّ تفنى جميعا. و نقل عن «فلورنس» (2) أنّ المدة سبع سنين.
و قد أجرى العلماء المحققون في هذه الأعصار الامتحانات الدقيقة في بعض الحيوانات كالأرانب و غيرها فأثبت لهم البحث و التشريح تجدد كل أنسجتها بل و حتى عظامها ذرة ذرة في مدة معينة، فكيف يتفق هذا مع ما يرتئيه الماديون و منكروا النفس المجردة في زعمهم أنّ الذاكرة قوة تنشأ من اهتزازات فسفورية تخزن في الخلية العصبية من الدماغ عند وصول التأثيرات الخارجية إليها؟
نعم، كيف يجتمع هذا مع ما تقرر في الفن و شهد به الاختبار و الاعتبار من أنّ كل ما فينا من الأنسجة و العظام و الخلايا العصبية تتلاشى ثمّ تجدد بمدة معلومة؟ أقصى ما تجدد به السبع سنوات، و لو كانت قوة التذكر و التفكر مادية و قائمة في خلايا الدماغ لكان اللازم أن نضطر في كل سبع سنين إلى تجديد كل ما علمناه و تعلمناه سابقا، و الحالة المعلومة بالضرورة و الوجدان عندنا أن سيال المادة المتجدد و المجدد لما يندثر منا على الاتصال لم يحدث أدنى تغيير في ذاكرتنا، و لم يطمس أي شعلة من علومنا و معارفنا.
و لعمري أنّ هذا لأقوى دليل على وجود قوة فينا مدركة، شاعرة، مجردة
ص: 288
عن المادة، باقية بذاتها، مستقلة في وجودها، بقيمومية مبدئها، محتاجة إلى آلاتها المادية في تصرفها، متحدة معها في أدنى مراتبها، و دثور المادة لا يستوجب دثورها، و لا دثور شي ء من كمالاتها و ملكاتها، و لا من مدركاتها، و لا من معلوماتها.
كيف لا و لا تزال تخطر على بالنا في وقت الهرم أمور وقعت لنا أيام الشباب، بل أيام الصبا و ما قبله؟
و كيف كان، فإنّ من الوضوح بمكان أنّ كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا و عدم تغيرها مع تغير و تبدل جميع ذرات أجسامنا.
و لمزيد الإيضاح و بيان ما يتفرع على هذا الأصل الرصين لا بد لنا من ذكر أصول في فصول للحصول على الوصول إلى حل عقدة المعاد الجسماني التي أعضل حلها، كما عرفت على أكبر حكماء الإسلام.
ص: 289
قد تلونا عليك ما هو المعلوم لديك من أنّ هذه الأجسام من الإنسان و الحيوان لا تعيش و لا تمتد حياتها إلّا بدعائم الحياة الثلاث: الهواء، و الماء، و الغذاء، و ما يلزمها من الحركة، و الحرارة و الضياء.
و لكن لعلك تحسب أنّ الغذاء الذي نعيش به هو بذاته و صورته يكون جزءا من أبداننا و مقوما لأعضائنا و أنسجتنا، كلّا فإنّ هذا الوهم يذهب شعاعا عند أول نظرة عن تدبر و فكرة؛ و ذلك أن كسرة الخبز التي نأكلها و فدرة اللحم التي نمضغها و تدخل في جوفنا تعتور عليها عدة صور، تخلع صورة و تلبس أخرى، من الكيموس إلى أن تصير دما، ثمّ توزعه العناية الكبرى المدبرة للكائنات و المربية للعوالم، تلك العناية التي تحير العقول و تدهش الألباب، فتجعل من ذلك الدم لحما و عظما و شحما و عصبا و أليافا و عروقا و كبدا و قلبا و رية و طحالا، إلى آخر ما يحتوي و يتكوّن منه هذا الهيكل الإنساني، و الجسد الحيواني.
اضرب بأجواء فكرك ما اتسع لك التفكير و اعرف سرّ قولهم- عليهم آلاف التحية و التسليم-: «تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة»، فكّر و كبّر عظمة المبدع، كيف أنشأ من كسرة الخبز التي نأكلها سبعين نوعا من الأنواع المختلفة، و الأجناس المتباينة، فأين العظم من اللحم؟ و أين الشحم من الغاز؟ و أين الغاز من المخ؟ و أين المخ من الشعر؟ و هكذا، و هلمّ جرّا.
ص: 290
كل هذا تكون من لقمة الخبز التي نأكلها، فهل في لقمة الخبز كل هذه الأنواع مندمجة مطوية؟ أم انقلبت و تحولت من صورة إلى صورة و من حقيقة إلى أخرى، أو أنها كانت معدة للنطفة بأن تفيض العناية إليها صورة العلقة و المضغة و هكذا حتى تصير إنسانا كاملا؟
كل ذلك مما تقف عنده العقول حائرة خاسرة مهما سطروا و حرروا، و ألّفوا و صنّفوا، فإنهم دون الحقيقة وقفوا، و عنها صرفوا، و لكن مهما تغلغل الأمر و الواقع في مجاهل الغيب و الخفاء فإنّ من الواضح الجلي أن تلك اللقمة التي تدخل في جوفنا و تتصرف بها المشية تلك التصاريف المتنوعة لم تدخل هي في كياننا، و لم تصر جزءا من أجسامنا، بل تطورت عدة أطوار و تعاورتها صورة بعد صورة، دخلت في معامل مكانيكية و تحليلات كيمياوية إلى أن بلغت هذه المرحلة، و نزلت من أجسامنا بتلك المنزلة.
فلو أنّ مؤمنا أكل كل لحم في بدن الكافر، أو أكل الكافر كل لحم في بدن المؤمن، فلا لحم الكافر صار جزءا من بدن المؤمن، و لا لحم المؤمن دخل في بدن الكافر، بل اللحم لما دخل في الفم و طحنته الأسنان- و هو الهضم الأول- زالت الصورة اللحمية منه و ارتحلت إلى رب نوعها- حافظ الصور- و اكتست المادة صورة أخرى، و هكذا صورة بعد صورة.
و من القواعد المسلّمة عند الحكماء بل عند كل ذي لبّ: أنّ الشي ء بصورته لا بمادته، إذا فأين تقع شبهة «الآكل و المأكول»؟ و كيف يمكن تصويرها و تقريرها فضلا عن الحاجة إلى دفعها، و الجواب عنها؟
و كيف استكبرها ذلك الحكيم الكبير الإلهي فقال: «يدفعها من كان من الفحول»؟
ص: 291
و يزيدك وضوحا لهذا: أنّ جميع المركبات العنصرية يطّرد فيها ذلك الناموس العام، ناموس التحوّل و التبدل و الدثور و التجدد.
أنظر حبة العنب مثلا، فهل هي إلّا ماء و سكر؟ و هل فيها شي ء من الخمر أو الخل أو الكحول؟ و لكنها بالاختمار تصير خلا ثمّ خمرا ثمّ غازا أو بخارا، و هكذا.
أ ترى أنّ العنب صار جزءا من الخل، و الخل صار جزءا من الخمر؟
إذا فمن أين جاءت شبهة الآكل و المأكول التي لا يدفعها إلّا من كان من الفحول؟
و من أين اتّجه القول بأنّ لحم الكافر يصير جزءا من بدن المؤمن، و لحم المؤمن جزءا من بدن الكافر؟
لا أدري.
ص: 292
لعلك تقول: إذا كان هذا الهيكل الإنساني عبارة عن صور متعاقبة يتلو بعضها بعضا، و يتصل بعضها ببعض، إذا فشخصية كل فرد من هذا النوع بما ذا تتحقق؟ و تعيّنه بأي شي ء يكون؟ و المادة بنفسها غير متحصّلة فكيف يتحصل بها غيرها، و هي صرف القوة و الاستعداد؟
فنقول: فليكن هذا أيضا من أحد الأدلة على وجود النفس المجردة ذاتا، المادية تعلقا و تصرفا، و تشخّص كل فرد و تعيّنه إنما يكون بتلك النفس التي تتعلق بتلك الصور المختلفة المتعاقبة بنحو الاتصال على المادة المبهمة و الهيولى الأولى التي لا توجد و لا تخرج من القوة إلى الفعل إلّا بصورة من الصور و هي متحدة معها وجودا، منفكة عنها تعقلا و مفهوما، و النفس الجزئية المستمدة من النفوس الكلية حافظة لها معا، و هي أيضا متحدة بهما وجودا و متصلة بهما ذاتا، و تواكب و تصاحب كل تلك الصور المتعاقبة على نحو الاتّصال و الواحد السيّال.
و أضرب لك مثلا محسوسا لتقريب ذاك إلى ذهنك و استحضاره بعقلك:
أ رأيت النهر الجاري في الليلة القمراء، حيث يطل القمر على الماء المتدافع و كل موجة تأتي يشع القمر عليها، و ترتسم صورته فيها، ثمّ تمضي و تأتي موجة أخرى ترتسم صورة القمر فيها، و هكذا حتى يجف الماء، و يغيب البدر؟ فالقمر هو النفس، و النهر هو البدن، و الموجات المتدافعة من الينبوع هي الصورة المتعاقبة على البدن التي يشرق عليها و يتحد مع كل واحد منها، و هي مع كثرتها
ص: 293
واحدة، و مع انفصال بعضها عن بعض متصلة، و النهر واحد سيال على الاتصال، و كذلك البدن من حيث الصور المتعاقبة عليه واحد كثير متّصل منفصل، و النفس مشرقة عليه هي المدبرة له الباعثة فيه النور و الحرارة و الحركة و الحياة.
و هذا العالم الصغير يحكي لك العالم الكبير بل «و فيك انطوى العالم الأكبر»، و هو المثل وَ لِلّٰهِ الْمَثَلُ الْأَعْلىٰ، «أيها الإنسان اعرف نفسك تعرف ربك».
نعم، النهر يجري من ينبوع الأرض، و الجسد و النفس تجري من ينبوع السماء، بل من ينابيع العرش، بل من ينابيع رب العرش عظمت جلالته، و جلّت عظمته.
شد مبدل آب اين جو چند بار عكس ماه و عكس أختر برقرار
تبدل ماء هذا الجدول عدة مرات و عكس القمر و الشمس لم يتحول و لم يتبدل عن ذلك القرار.
ص: 294
هل في هذا الهيكل الإنساني سوى ما هو المعروف و المحسوس من أنه:
جسد و روح؟ روح مجردة بسيطة، و جسد مادي مركب من العناصر، فهل ثمة شي ء ثالث؟
الجواب: نعم، و لكن لا تستغرب و لا تعجب لو قلت لك: إنّ في كل جسم حي مادي عنصري، جسم آخر أثيري سيال شفاف، أخف و ألطف من الهواء، هو برزخ بين الجسم المادي الثقيل، و الروح المجرد الخفيف، و لعل هذا هو الجسم البرزخي الذي يسأل في القبر و يحاسب، و ينعم إن كان تقيا، و يعذّب إن كان شقيا، و يبقى في نعيم أو حميم إلى يوم البعث، إلى يوم القيامة الذي تعود فيه هذه الأبدان العنصرية للحياة الأبدية.
و قد تلونا عليك من قبل أنّ الحقائق الحكمية و الدقائق الفلسفية لا تسعها العبارات اللفظية، و أنّ الألفاظ لا يقتنص منها شوارد المعاني، و أوابد الأسرار، و لكنها إذا كانت لا تحكي عن الحقيقة من كل وجه فقد تحكي عنها من وجه.
أ رأيتك حين تقول: روحي و جسدي و عقلي، من تعني بياء المتكلم؟ و من هو الذي تقصده بقولك: «أنا و أنت و هو» و أمثالها من الضمائر؟
فهل تريد بقولك «أنا» لهذا الجسد الخاص، و لشخصيتك المتعينة من الجسد و النفس؟ إذا فما ذا تريد بقولك «جسدي»؟ و من هو الذي أضفت إليه جسدك، أو أضفت جسدك أو نفسك أو عقلك إليه؟
ص: 295
ثمّ هل تدبرت حالك حين تتلو سورة من القرآن؟ تحفظها في نفسك و تقرأها في خاطرك من دون أن تحرك لسانك، أو يظهر صوتك و أنت في تمام السكوت و السكون، كأنّ في داخلك شخصا يقرأ و يتلو عليك بغير صوت و لا لسان، فقد تقرأ سورة من الطوال، أو قصيدة ساحبة الأذيال مرتلا لها و مترسلا فيها، و اللسان صامت، و المقول ساكت، و قد قرأتها كلمة كلمة، و تلوتها حرفا حرفا، فمن ذا الذي أملاها عليك؟ و أين كانت مخزونة و مجتمعة، ثمّ جاءت واحدة بعد واحدة متقطعة؟
حقا إنّ التفكّر في هذه السلسلة، سلسلة الفكر و الذكر، و الحفظ و النسيان، و التصور و التفكر، و التصديق و الشك و اليقين، و كل ما هو خارج عن المادة الجسمانية، و الأعضاء الحسية، حقا إنّ معرفة كل ما هو من هذا النطاق أمر لا يطاق، و لا تصل أنسرة العقول مهما حلقت في سماء التفكير إلى كبرياء معراجه، و مفتاح رتاجه، و لكن مهما استعصى على أولي الحجى سره فهو يدل دلالة واضحة على أنّ في الإنسان بشخصه الخاص جوهر مفيض و آخر مستفيض، و غلاف و قشر يحمل هذين الجوهرين، فالمفيض هو النفس الجزئية المتصلة بالنفس الكلية و المبدأ الأعلى، و المستفيض هو ذلك البدن المثالي الأثيري، و الغلاف هذا البدن العنصري.
على أنّ التحقيق و البحث الدقيق أوصلنا إلى حقيقة جلية و هي أنّ هذه الحقائق الثلاث شي ء واحد، و أنها تنشأ نشأة واحدة، و أنّ النفس جسمانية الحدوث، روحانية البقاء، فهي تتدرج في تكونها و نشوئها و نموها من النطفة إلى أن تصير إنسانا كاملا عاقلا، بل إلى أن تصير عقلا مجردا، ملكا أو شيطانا.
فهذا العنصر هو النفس و لكن بمرتبتها السافلة، و النفس هي البدن و لكن
ص: 296
بمرتبته العالية، و كل ما فيه من الحواس الظاهرة و الباطنة و القوى العاملة من الهاضمة و الماسكة و الدافعة و المصورة و المقدرة، إلى غير ذلك، كلها آلات للنفس، و أدوات تمدها و تستمدها و تتعاكس معها و تتعاون أخذا وردا، و سلبا و إيجابا، فكل الانفعالات النفسية تظهر فورها على البدن.
أ لا ترى حمرة الخجل، و صفرة الوجل، و ضربان العروق، و خفقان القلب عند الخوف، و ابتهاج البدن عند الفرح، و بالعكس، كل ما يصيب البدن من ضربة أو صدمة أو جرح تنفعل النفس به و تتألم؟
و كل هذا شاهد و دليل على وحدة النفس مع البدن، و أن البدن المادي و البدن الامتدادي المجرد عن المادة و الروح المجردة عنهما شي ء واحد، و هذا البدن الامتدادي الأثيري هو همزة الوصل بين الروح المجردة عن المادة ذاتا، المتعلقة بها تصرفا، و بين البدن المادي ذاتا و الذي هو آلة الروح تعلقا و تصرفا، و هو الذي تجد الإشارة عنه حينا، و التصريح به حينا آخر في كلمات أكابر الفلاسفة الأقدمين و الحكماء الشامخين، و العرفاء السالكين، مثل قول أرسطو فيما نقل عنه: أنه ربما خلوت بنفسي، و خلعت بدني، و صرت كأني جوهر مجرد بلا بدن، فأكون داخلا في ذاتي، خارجا عن جميع الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن و البهاء ما أبقى له متعجبا مبهوتا، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الشريف.
ص: 297
و عن الوصية الذهبية لفيثاغورس (1) أو ديوجانس (2): إذا فارقت هذا البدن أصبحت سابحا في عوالم الفلك، غير عائد إلى الإنسانية، و لا قابلا للموت.
و قال آخر: من قدر على خلع جسده صعد إلى الفلك، و جوزي هناك بأحسن الجزاء، و الصعود إلى الفلك إنما هو بذلك الجسم الأثيري بحكم التناسب، فكما أنّ الجسم العنصري أخلد إلى الأرض؛ لأنه منها و يعود إليها، فكذلك الجسم الأثيري يرقى إلى الأجسام الفلكية الأثيرية؛ لأنه منها و يعود إليها.
و لا غرابة لو قال بعض العرفاء: ربما تجردت من بدني هذا، و ارتقيت إلى الأفلاك، و سمعت تسبيح الملائكة.
و كل هذه الأحوال إنما هي لهذا البدن الأثيري المثالي، لا للعنصري، و لا للروح، فإنها ترقى إلى عوالم المجردات المحضة بعد كمالها لا إلى الأجسام الفلكية و العوالم الأثيرية.
و على كل، فيغنيك الوجدان عن البرهان في إثبات تلك الأبدان، الأبدان المثالية التي هي أنت، و أنت هي، و بقاؤك به لا بهذا الجسد العنصري الذي قد
ص: 298
عرفت أنه في كل برهة يتلاشى و لا يبقى منه شي ء، ثمّ يتجدد و تتعاقب في تقويمه الصور، صورة بعد صورة، و هيئة بعد هيئة، و هو الذي يستعمل الحواس و يستخدمها و تملي عليه الروح المعارف و الأمور العامة، فيمليها على القلب و اللسان.
أنظر إذا كنت تحفظ سورة من القرآن، أو خطبة من الخطب أو قصيدة من الشعر، فربما تلوتها في نفسك و قرأتها في خاطرك فتجد كأن شخصا في طويتك يتلوها عليك كلمة كلمة، و أنت سامد ساكن لم تفتح فما، و لم تحرك لسانا.
و طالما كنت أمسك القلم بأناملي فأجد كأن إنسانا أو ملاكا يملي عليّ الخطبة أو الشعر أو المقال، و يجري مع القلم من دون فكرة و لا روية، كأني أنقله من كتاب أمامي و ليس شي ء من هذه الأعمال من وظائف الروح و النفس، و إنما وظائفها العلم و الإدراك و معرفة الكليات المجردة و الأمور العامة، مثل أنّ الكثرة هي الوحدة، و الوحدة هي الكثرة، و أنّ العلة تعالي المعلول، و المعلول تنازل العلة، و أنّ الغاية هي الرجوع إلى البداية، و البداية هي النهاية، و أمثال هذه من قواعد الحدوث و القدم، و الوجوب و الإمكان، و الجواهر و الأعراض، كما أنها أيضا ليست من وظائف الجسد المادي الحي، فإنّ وظيفته إدراك الجزئيات و ثورة العواطف من تأثير الحس الظاهري أو الباطني.
نعم، بحكم الوحدة و الاتصال بين تلك القوى يستمد بعضها من بعض، و يتقوى بعضها ببعض، و حكم العالم الصغير مثل العالم الكبير، فكما أنّ الجسمانيات العنصرية مرتبطة بالفلكيات و هي مرتبطة بالمجردات و النفوس الجزئية تستمد من النفوس الكلية، و هي تستمد من العقول المجردة، فكذلك هذا الجسد الإنساني الذي انطوى فيه العالم الأكبر، و لا تعدّ قواه و لا تحصر.
ص: 299
حيث عرفت جيدا أنّ في الإنسان بدنا برزخيا بين الروح المجرد و الجسد المادي، فاعلم أنّ هذا البدن قد تغلب عليه الناحية الروحية و النزعات العقلية، فيغلب على الجسد المادي و يسخره لحكمه، و يكون تابعا له و منقادا لأمره، و قد ينعكس الأمر، فتتغلب النواحي المادية و الشهوات الحسية على الملكات الروحية، فتصير الروح مسخرة للمادة تابعة لها منقادة لرغباتها و شهواتها، و هنا تصير الروح مادة تهبط إلى الدرك الأسفل، و ظلمات الجهالات، و لكنه أخلد إلى الأرض، و هناك تصير المادة روحا حتى تخف و تلطف، و تنطبع بطابع المجردات، فتسمو إلى الملأ الأعلى في هذه الحياة الدنيا، فضلا عن الحياة الأخرى، و قديما ما قال بعض الشعراء في سوانحهم الشعرية:
خفت و كادت أن تطير بجسمها و كذا الجسوم تخف بالأرواح
بل الجسم قد يطير بالروح، و قد قلت في كلمة سابقة: إنّ الأنبياء و الحكماء و العرفاء و من هو على شاكلتهم- من رجال اللّه تعالى- جعلوا أبدانهم أرواحا، أما نحن فقد جعلنا أرواحنا أبدانا، و إذا صار البدن روحا و غلب حكم الملك على الملكوت، لم يعسر على ذلك أن يخترق حدود الزمان و سدود المكان، فيحكم على الزمان و المكان، و لا يحكم شي ء منهما عليه.
و بهذا يسهل عليك تصور المعراج الجسماني، و سيره في الملكوت الأعلى و رجوعه قبل أن يبرد فراشه، و إحضار آصف عرش بلقيس قبل أن يرتد
ص: 300
إليه طرفه، و مبارحة أمير المؤمنين عليه السّلام المدينة إلى المدائن لتجهيز سلمان رحمه اللّه و رجوعه من ليلته، بل و ما هو أشد غرابة من ذلك و هو حضوره عند كل محتضر في شرق الأرض و غربها من مؤمن أو منافق «يا حار همدان من يمت يرني».
يسهل عليك تصور هذه القضايا يا الخارقة لنواميس الطبيعة، يسهل إليك تصورها، بل و التصديق بها.
نعم و إنما يستعصي علينا الإذعان بها، و يجعل عندنا هذا القبيل من المستحيل انغمارنا في المادة و انطمار أرواحنا في مفازات الطبيعة، فلا نبصر و لا نتعقل إلّا من وراء حجبها الكثيفة، و من للأعمى و الأكمه أن يرى نور الشمس، أو يستلذ بلحن نغمات الأوتار، و ليس عندنا لرد هذه الأنوار سوى الإنكار و سد باب الاعتبار.
أ رأيت هذين الملوين المتعاقبين على هذه الكرة؟ لو قيل لك: إنّ أحدا يراهما دفعة واحدة بعينه، هل تعد هذا المقال إلّا من المحال؟
و لكن لو كان في إحدى كواكب المجرة التي تبعد عن نظامنا الشمسي ملايين الملايين من الأميال ذو بصر حديد، و أيد شديد، نظر إلى الأرض لأبصر الليل و النهار فيها بآن واحد، يعني يرى وجهها المقابل للشمس و المعاكس له دفعة واحدة، و ما ذاك إلّا لأنّه ترفع عن أفق الزمان و المكان، و خرج عن الحدود و القيود، و لو أنّ البدن المثالي بما فيه من الروح تكاملت ملكاته و تعالت روحياته لغلبت قوته على هذا البدن العنصري و سار أو طار به حيث شاء، كما ربما ينقل مثل ذلك عن بعض المرتاضين من العرفاء الواصلين.
و قد قيل لبعضهم: إنه روي أنّ عيسى عليه السّلام مشى على الماء، فقال: لو كمل يقينه لمشى على الهواء، و لعل إلى هذا و مثله الإشارة في الحديث القدسي المعروف: أطعني تكن مثلي، أقول للشي ء كن فيكون، و تقول له: كن فيكون.
ص: 301
كل جسم نام من نبات أو حيوان أو إنسان فبدء تكوينه بذرة مختلطة من أمشاج الأرض و عناصرها المختلفة، ثمّ تستمد نموّها و رقيها من المواد الأرضية، و تتعاقب عليها الصور فتلبس صورة ثمّ تخلعها، و تكتسي صورة أخرى، فهي بما فيها من القوة و الاستعداد لا تزال في خلع و لبس، و نمو و سمو، دائبة في صراط السير و الحركة إلى الغاية المعدة لها، و جميع تلك الصور و الفعليات التي تتعاور على تلك البذرة الحاملة للقوة و الاستعداد لقبول كل تلك الصور، يفيضها المبدا الأعلى بتوسط المثل العليا و العقول المفارقة، و النفوس الكلية متدرجة في قوس النزول إلى تلك المادة، و البذرة الحاملة، أو المحمولة للهيولى الأولى، و التي هي محض القوة و الاستعداد، و هي آخر تنزلات تلك الفعلية التامة و الهوية الوجودية الكاملة.
ثمّ بعد أن نزلت إلى أقصى مراتب الضعف و الشأنية أخذت ترتقي في قوس الصعود من صعدة إلى أخرى حتى تصل إلى ما منه بدأت، منه البدء و إليه المعاد و كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ.
فالنهاية هي العود إلى البداية، و المبدا هو الغاية، و كل تلك الصور المتعاقبة في قوس الصعود تتلاشى موادّها و تتفرق عناصرها، و تضمحل تراكيبها، أما صورها فهي محفوظة عند أرباب أنواعها و مثلها العليا من العقول
ص: 302
المفارقة، و المجردات القادسة فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً، التي هي وجه اللّه الذي لا يفنى، و لن يفنى أبدا وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ، و مٰا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ بٰاقٍ.
كما أن تلك المادة الأولية و البذرة المعينة محفوظة في خزائن الغيب وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ الْغَيْبِ لٰا يَعْلَمُهٰا إِلّٰا هُوَ، فإذا جاءت الساعة بأشراطها و قامت القيامة بالبعث و النشور و نفخ في الصور و أمطرت العناية الأزلية من سماء المشيئة فبرزت تلك البذور عند النفخة الثانية في الصور، و أعشبت الأرض و ألقت ما فيها و تخلت، و هي غير هذه الأرض طبعا يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّمٰاوٰاتُ وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ الْوٰاحِدِ الْقَهّٰارِ، ظهر كل إنسان بجسمه و بدنه، و عاد عليه بدنه المثالي المتجسد المتحد بروحه، فلو رأيته لقلت: هذا فلان بعينه، كما لو رأيت زيدا أيام شبابه ثمّ رأيته كهلا، لا تشك في أنه هو زيد بعينه مهما تغيرت صورته، و تبدلت ألوانه و أشكاله، و لكن بما أن الدار الآخرة دار الجمع و دار القرار و الثبات، و دار الحس و الحياة، و كل شي ء هناك حي و ناطق وَ إِنَّ الدّٰارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوٰانُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ.
نعم، كل شي ء هناك حي و ناطق حتى لحمك و دمك و جلدك وَ قٰالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنٰا قٰالُوا أَنْطَقَنَا اللّٰهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ، حيث إنها دار الحس و الحياة، و دار الجمع و الثبات، تجتمع عندك جميع صورك في جميع أدوار حياتك، و يتمثل لديك كل أعمالك صغيرة و كبيرة، حسناتك و سيئاتك، و تكون نفسك و ذاتك و هويتك الخاصة، و روحك البارزة في بدنك المثالي الأخروي العنصري المناسب لدار الحس و الحياة التي تذوب و تنصهر فيها العنصريات و الماديات، و بسّت الجبال بسّا فكانت هباء منبثّا، و تكون الجبال
ص: 303
كالعهن المنفوش، و الشمس كورت، و الكواكب انتثرت، و البحار سجرت، يعني أنّ المادة تتلاشى و تضمحل و يبقى الروح و الجوهر و الحس و الشعور و الحياة بارزة بأشكالها الدنيوية، و لكنها جوهرية أخروية.
نعم، تكون ذاتك و نفسك هي كتابك اقْرَأْ كِتٰابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً، كتاب حسناتك بيمينك، و كتاب سيئاتك بشمالك، كل أعمالك بارزة أمامك، مجسمة بأجسامها المناسبة لها، من خير أو شر، و هذا معنى تجسم الأعمال، و هي نفس أعمالك ترد إليك «إنما هي أعمالكم ردّت إليكم» إنما تجزون ما كنتم تعملون، جزاؤكم نفس أعمالكم لكن بصورتها الحقيقية و حقيقتها الجوهرية، و جوهرتها الروحية لا المادية، أعمالك الصالحة و إحسانك للناس يعود وجها حسنا جميلا تأنس به، و إساءتك و شرّك يعود وجها قبيحا تستوحش منه. نعم، و قد تعود حيات و عقارب تلسعك، و هكذا أعضاؤك، تعود عينك و لكن بغير شحم، و يعود سمعك و لكن بغير عظم، و يعود قلبك و لكن بدون لحم، و هكذا يعود كل شي ء منك و لكن بأقوى و أصح مما كان في الدنيا و كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا هي غيرها و هي عينها، و لو كانت غيرها تماما لما جاز عقابها، و لا تنس حديث اللبنة (1)، و ذاتك و أعمالك، و سريرتك
ص: 304
و أخلاقك و معارفك، و إيمانك و يقينك، و كفرك و جحودك هي ميزانك، و هي كتابك، و هي حسابك، و هي صراطك، و هي جنتك، و هي جحيمك، و أشهد أنّ الموت حق، و النشور حق، و الصراط حق، و الميزان حق، و كل ما في القرآن العظيم حق، على ظاهره و حقيقته من غير تأويل و لا تبديل.
و لكن أشهد أنّ الموت حق ليس معناه و المراد منه أن الموت أمر واقع، فتكون شهادة تافهة باردة؛ لأنه أمر محسوس لا ينكره أحد، بل المراد أنّ الموت حق لازم موافق للحكمة و حقيقة لا بد منها، و لو لا الموت لكان الكون و إيجاد الخلق عبثا و باطلا أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لٰا تُرْجَعُونَ (1)، فالموت و البعث و النشور، و الحساب و الثواب و العقاب، و كل ما ورد في الكتاب من المبدأ و المعاد، و أحوال البرزخ بينهما، و أحوال يوم القيامة بعدهما كله حق موافق للحكمة، و ضرورة لا بدّ منها في العناية الأزلية، فالحياة و الموت و البرزخ و القيامة و الحشر و النشر و الكتاب و الحساب، و هكذا كلها مراحل تطويها النفس الإنسانية لتصل إلى الغاية التي منها بدأت نازلة ثمّ تعود إليها صاعدة.
تفكر و تدبر، و أحسن التفكر و التدبر بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2).
و قوله عز شأنه: أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ
ص: 305
كَلّٰا إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِمّٰا يَعْلَمُونَ (1)، و هذه الإشارة خير من ألف عبارة، فهذه النطفة القذرة كيف يصح لها أن تلتحق بعظمة جبروت اللّه وسعة ملكوته، و تدخل في جنانه و بهاء رضوانه إلّا بعد التصفية و التهذيب، و طي تلك المراحل و المنازل فتعود إليه كما بدأت منه و إلّا بقيت مخلدة في سجن الطبيعة و سجين المادة، و ظلمات الأهواء، و جحيم الرذائل النفسانية، لهم نار جهنم خالدين فيها أبدا، عافانا اللّه منها، و من كل سوء.
و أحسب أني بعد هذا كله قد أوضحت لك البيان، و خرجت لك من العهدة، و محضتك بعد المخض الحثيث بالزبدة، و عرّفتك من غوامض المبدأ ما يحل لك العقدة، و تضحى لك به أنوار الحقيقة، و لكني حرصا على مزيد إقناعك، و رسوخ يقينك و شموخ عرفانك أضرب لك مثلا من نفسك، هو أقرب شي ء إلى وجدانك و حسّك، ففي الحكمة العالية، و لعلها من معين ينابيع النبوة: أيها الإنسان اعرف نفسك تعرف ربك «من عرف نفسه عرف ربه» (2) طردا و عكسا.
ص: 306
و لعلني بهذه اللمحة أحسن لك التمثيل و التصوير، و أفتح لك بابا من التفكير، طالع و تطلع و انظر جسدك هذا الذي به حسّك و حياتك، و تدبر ما فيه من القوى و الحواس ظاهرة و باطنة، و ما اشتمل عليه من الجوارح و الأعضاء، تجد لكل جارحة، و لكل عضو وظيفة معينة لا يتعداها و لا يشاركه غيره فيها، فوظيفة العين مثلا النظر، و وظيفة الاذن السمع، فلا الأذن تتدخل يوما في وظيفة البصر، و لا العين تتدخل يوما بوظيفة السمع، بل كل منها ملازم لوظيفته لا يتعداها و لا يتجاوز إلى ما سواها، و هكذا جميع الأعضاء و الجوارح، بل حتى الشرايين و العروق و الأوردة و الشغاف و اللحم و الدم و العظم و القلب و الكبد و الرئة و الدماغ، بل و خلايا الدماغ، بل و كريات الدم البيض و الحمر لكل منها وظيفة معينة، و عمل خاص، لا يتجاوزه إلى غيره.
و الكل و الجميع و إن كان يعمل لغاية واحدة، و يرمي إلى هدف واحد، و هو حراسة هذه المدينة، و ترميم ما يتداعى منها، و دفع الأعداء المتهاجمين عليها لقلع قلاعها و ردم حصونها، و لكن كل واحد من أولئك العمال و الموظفين يقوم بعمله مستقلا كأنه ليس له أي ارتباط بالآخر، و لا يصده الآخر عن عمله،
ص: 307
عمل الآخر بوظيفته أم لا، و سواء كان الآخر موجودا أم لا، فالعين تبصر و تؤدي وظيفتها سواء كانت الاذن موجودة أم مفقودة، و سواء قامت بوظيفتها تماما أم قصرت فيها، و هكذا كل واحد من الأعضاء و الجوارح الظاهرة، أو الباطنة، مملكة مستقلة لا يرتبط أحدها بالآخر، و لا يستمد بعضها من بعض حتى القلب و إن كان هو خزانة التوزيع و التموين، و لكن المدد الأعظم و الفيض الأتم و الذي ترتبط به جميع الأعضاء حتى القلب، و لا يعمل شي ء منها عمله إلّا بإشارته و بعثه، هو الدماغ الذي هو عرش النفس، و كرسيها الأعظم، فالنفس أي الروح تعطي الحس و تبث الحياة لكل الجوارح و الأعضاء و جميع الحواس الظاهرة و الباطنة، و هي تعين و تعين كل جارحة و حاسة في وظيفتها، فالعين لا تؤدي وظيفتها إلّا بتوجه النفس إليها، و توجيهها للبصر و النظر.
أ لا ترى أنّ النفس إذا كانت مشغولة في التفكر في موضوع مهم قد يمر به شخص فلا يراه و عيناه سالمة مفتوحة، و كذا قد يتكلم بحضوره متكلم فلا يسمعه، كل ذلك لأنّ الروح منصرفة عن الحواس و الجوارح منقطعة عن إمدادها و إرفادها التي به تستطيع أداء وظيفتها.
فالروح هي كل القوى و كلّها تستمد من الروح، كما أن القوى كلها جنود تعمل لها و تقدم كل ما يتحصل لديها إلى النفس، و كل الصور المتحصلة للحواس على نحو البسط و النشر و التفصيل من الخارج كانت كامنة و متحصلة في النفس على نحو القبض و الطي و الإجمال في الداخل افاضتها النفس على الحواس إجمالا و قوة و استعدادا فأدركتها و تحصلت لديها بسطا و تفصيلا، و ارتسمت في لوحها تعينا و هوية، فكانت المعلومات الذهنية المتحصلة من الأعيان الخارجية بدأت من النفس ثمّ عادت إليها، فهي المبدأ و إليها المعاد، النفس تبسطها
ص: 308
و تطويها و تعديها و تبديها.
أ رأيت السحاب كيف ينشأ من البحر ثمّ يعود إلى البحر؟ أ رأيت النواة حيث تغرسها في تربة و تسقيها ثمّ بعد قليل من الزمن تجد منها الخير و تجود لك بسعف و ليف و كرب، ثمّ بعد برهة بسرا ثمّ رطبا ثمّ تمرا، و هكذا سبع سنين أو سبعين، ثمّ بعد ذلك تفنى النخلة و تعود إلى النواة، ما أدري هل النخلة و كل ما نمى فيها و أفيض منها كله كان في النواة، بنحو الكمون و البطون و الإعداد و الاستعداد و القوة و الإجمال، ثمّ ظهر بنحو البسط و النشر و التفصيل و الفعلية، فكانت هي المبدأ، و إليها المعاد؟
لا أدري.
و لكن أيها الإنسان «اعرف نفسك تعرف ربك» أو اعكسها، و قل: «اعرف ربك تعرف نفسك»، العين لا تبصر إلّا بالنفس، و النفس لا تبصر إلّا بالعين.
نعم، قد ترتقي النفس إلى حظاير القدس و تلحق بالمجردات فلا تحتاج في مدركاتها إلى استعمال آلة فتكون بشدة اتصالها و تعلقها بمثلها العليا و مبادئها المقدسة سميعة بلا أذن، بصيرة بلا عين، قابضة و باسطة بلا يد، عاقلة بلا قلب، ذاك مقام «كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به» (1):
ص: 309
«چه بى يسمع و بى يبصر عيان شد»
هناك ترتقي النفس من جنات تجري من تحتها الأنهار إلى «رضوان من اللّه أكبر»، بل هناك- أي في ذات نفسك- الجنان و الرضوان، و الحور و الولدان، هناك مقام أعددت لعبدي المؤمن ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خٰالِدُونَ، هناك مقام:
بأسمائك الحسنى أروح خاطري إذا هب من قدس الجلال نسيمها إذا ظمأت نفسي فإنك ريها و إن شقيت يوما فأنت نعيمها
***
گر باقليم عشق روى آرى همه آفاق گلستان بينى آنچه بينى دلت همان خواهد و آنچه خواهد دلت همان بينى
رزقنا اللّه تلك المنازل الرفيعة، و جعلنا من السالكين إليها، الواصلين إليه، و من أهل الزلفى عنده، و الكرامة عليه، فإنه لا ينال ذلك إلّا بفضله، و فيضه و لطفه و كرمه.
و إن أردت الخلاصة و الزبدة، فاعلم: أن كل حركة تستلزم أربعة أركان:
المحرّك، و المتحرك، و ما منه الحركة، و ما إليه الحركة، و لا شك أنك واقع في صراط الحركة، و المحرّك علتك، و المتحرك شخصيتك و هويتك (1)، و ما منه
ص: 310
الحركة أول ما خلق اللّه النفس الرحماني (1) و العقل الكلي، فإنّ منه الحركة
ص: 311
نزولا، و إليه الحركة صعودا، اللهمّ لك الجود، و أنت الجواد، و منك الوجود و الإيجاد، و منك البدء، و إليك المعاد.
النور واحد أحدي بسيط لا تعدد فيه و لا تكرار، و لكن إذا أشرق على هياكل الممكنات ظهرت الأشباح و الظلال على حسب القابليات، فالنور سطع من شمس الشموس، و روح الأرواح، و غيب الغيوب، و الأظلة هي الوجودات الإمكانية، و القابلية هي حدود الماهية، و الأعيان الثابتة.
أ لم تر إلى ربك كيف مدّ الظل بإشراق شمس الحقيقة عليه بسطا، ثمّ ينطوي ذلك النهار و تلك الأنوار فلا يبقى أثر لظله، و لا لذي ظل قبضا، و لكن قبضا يسيرا. فتدبر نكتة اليسير هنا، و أحسن التفكير.
ص: 312
و حقا إذا أشرقت الشمس انطمست الكواكب، و زالت الأشباح و الأظلة، و قامت القيامة، و أتى النداء من معاقد عرش العظمة، و سبحات وجه الجلال و الجبروت لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّٰهِ الْوٰاحِدِ الْقَهّٰارِ، و كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلّٰا وَجْهَهُ، و كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ* وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلٰالِ وَ الْإِكْرٰامِ، تندك الجهات، و يبقى الوجه، ثمّ قبضناه أي قبضنا وجه الكائنات، و ظل الممكنات إلينا قبضا سهلا يسيرا وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلّٰا وٰاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.
و عساك قد اقتنعت بما أترعت لك من البيان في تصوير المعاد الجسماني، و أنه ممكن ذاتا، واجب وقوعا، و ليس هو من إعادة المعدوم، و لا من الفرض الموهوم، و إنما هو سير و حركة، و تفريق و جمع، و استبدال و انتقال من حال إلى حال.
و يحسن أن نختم المقال ببعض ما جاء في الكتاب الكريم، و أحاديث أهل البيت عليهم السّلام، و نجعله «مسك الختام».
و ليس الغرض من ذكرها الاستدلال بالأدلة النقلية، بل لبيان مطابقة العقل للنقل، و موافقة الوحي للوجدان، و البرهان للعيان.
أما القرآن العزيز: فأكثر الآيات ظاهرة في أن الذي يرجع إلى اللّه- عز شأنه- و يعود إليه هو هذا الجسد المعين، و الهوية الخاصة، التي يشار إليها بهذا، و يعبر عن نفسه «أنا»، مثل قوله تعالى: إِلَى اللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً (1)، وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّٰهِ (2)،
ص: 313
أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لٰا تُرْجَعُونَ (1)، و قوله تعالى: كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (2)، كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (3)، هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ (4)، و تشير هذه الآية الكريمة و نظائرها إلى أنّ ثبوت المبدأ يستلزم ثبوت المعاد، بل هما متلازمان ثبوتا أو إثباتا، و لو لا المعاد بطلت الحكمة، و إذا بطلت الحكمة بطل المبدأ، و لزم التعطيل، أو العبث، أو الصدفة، و ما أشبه ذلك من اللوازم الفاسدة التي أوضحنا بطلانها في الجزء الأول من كتاب «الدين و الإسلام» (5).
فالمعاد في الجملة ضروري، لا بد من الاعتراف به و المصير إليه، و بعض الآيات كالصريحة بأنه جسماني وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ (6)، و الآية التي بعدها تشير إلى كيفية الإحياء و أسلوبه الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نٰاراً فَإِذٰا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (7)، و هي طريقة البروز و الكمون و الطي و النشر.
ص: 314
أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ (1)، و هذه المثلية هي العينية، فهو مثله باعتبار، و عينه باعتبار آخر، و اختلاف الاعتبارين من اختلاف طباع النشأتين، كما أوضحناه فيما مر عليك.
أما الأخبار الشريفة: فقد جاءت بأوسع من ذلك البيان، و أفصحت عن كل ما جلّ دقّ، و ما هو بالحق أحق.
ففي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و مثله عن الصادق عليه السّلام، و نقله في البحار بطوله، و فيه بعض القضايا المحتاجة إلى التأويل أو التحصيل، و لكن محل شاهدنا منه لا غموض فيه، بعد مراجعة ما ذكرناه من الفصول و الأصول، قال- أي الزنديق، يسأل الصادق سلام اللّه عليه، بعد قوله عليه السّلام: هو سبحانه يحيي البدن بعد موته و يعيده بعد فنائه-: فأين الروح؟ قال: في بطن الأرض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث، قال: فمن صلب، فأين روحه؟ قال: في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض.
و أقول: لعله يشير- سلام اللّه عليه- بهذه الجملة إلى علاقة الروح بالبدن بعد فراقها، و أنها مرتبطة به لشدة الاتصال في الدنيا به، كما عرفت من أنّ آثار الروح تظهر على البدن كحمرة الخجل، و صفرة الوجل، و ضربان القلب، و رعشة البدن، و انفعالات البدن تظهر و تسري إلى الروح كألم الضربة و الطعنة، و سائر العوارض على البدن التي تتألم منها الروح بحكم تحقق الوحدة بينهما، أي أن البدن هو الروح بمرتبته العليا، و الروح هو البدن بمرتبته السفلى، و الموت نوع من التعطيل في التصرف.
ص: 315
ثمّ قال- أي الزنديق-: أ فيتلاشى الروح بعد خروجه من قالبه، أم هو باق؟ قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء، و تفنى، فلا حس و لا محسوس، ثمّ أعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها.
أقول: هذا إشارة إلى ما بين النفختين يوم يأتي النداء: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فلا مجيب إلّا نور الأنوار لِلّٰهِ الْوٰاحِدِ الْقَهّٰارِ، حيث عرفت أنّ شمس الشموس إذا تجلّت بتمام نورها للعقول و النفوس، استولى عليها الفناء و الطموس، فلا ظل و لا ذو ظل، و لا حس و لا محسوس.
«همه آنست و نيست جز او» «وحده لا إله إلّا هو»
ثمّ قال الزنديق (1): فأنى له بالبعث و البدن قد بلي، و الأعضاء قد تفرقت،
ص: 316
فعضو ببلدة يأكله سباعها، و عضو بأخرى تمزقه هوامها، و عضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط؟ قال: إن الذي أنشأه من غير شي ء، و صوّره على غير مثال سبق، قادر أن يعيده كما بدأه، قال: أوضح لي ذلك، قال الإمام عليه السّلام: إن الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء و فسحة، و روح المسي ء في ضيق و ظلمة، و البدن يصير ترابا كما منه خلق، و ما تقذف به السباع و الهوام من
ص: 317
أجوافها مما أكلته و مزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في ظلمات الأرض، و يعلم عدد الأشياء و وزنها، و أن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، فإذا كان حين البعث مطر الأرض مطر النشور، فتربو الأرض، ثمّ تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، و الزبد من اللبن إذا مخض، فيجمع تراب كل قالب إلى قالبه ينتقل بإذن اللّه القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئاتها، و تلج الروح فيها، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا. انتهى ما أردنا نقله من هذا الخبر الشريف.
و لو أردنا شرح هذه الكلمات النيرة و تفسير كل جملة منها كما هو حقه اقتضى ذلك تأليف رسالة مستقلة، و لكن نعلق على بعضها إشارة إجمالية تكون مفتاحا لرتاجها، و ذبالة لسراجها.
قوله عليه السّلام: الروح مقيمة في مكانها، و حيث إنها من المجردات، و التجرد فوق الزمان و المكان، أي ليس للمجرد زمان و لا مكان، فلعل المراد من كونها مقيمة في مكانها وقوفها عن الحركة لوصولها إلى الغاية التي تحصلت لها من سيرها إلى الكمال الميسر لها في نشأتها الأولى «و كل ميسر لما خلق له».
أما انتقالها إلى النشأة الثانية فهي هناك واقفة و مقيمة في مكانها قد خرجت عن عالم الترقي و الإعداد و الاستعداد الذي كان لها بتلك الدار، و نزلت بدار القرار و الاستقرار، بخلاف الجسد الذي بقي في صراط الحركة و دار الإعداد و الاستعداد و التبدل و الانتقال من حال إلى حال، و من صورة إلى أخرى حتى ينتهي إلى الصورة الأخيرة الجامعة لجميع الصور، ذلك يوم الجمع، و هي التي يبلغ البدن بها إلى الغاية التي يكون بها بدنا أخرويا يصلح للاتصال
ص: 318
بالروح، فيعود إليها كما كان في النشأة الأولى، فالمعاد هو معاد البدن إلى الروح، لا معاد الروح إلى البدن، و هنا تقف الحركة، و ينتهي السير و الإعداد و الاستعداد، و رُدُّوا إِلَى اللّٰهِ مَوْلٰاهُمُ الْحَقِّ، وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلىٰ، و الأهونية هنا من جهة القابل لا من جهة الفاعل؛ فإنه جل و علا ليس شي ء أهون عليه من شي ء؛ إذ الجميع في ظرف قدرته سواء، وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلّٰا وٰاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، و لكن حيث إنّ تراب البدن- كما عرفت- صارت له مع الروح علاقة خاصة اكتسب بها بعض المزايا و امتاز بذلك عن سائر الأتربة، فرجوعه إلى الروح التي له معها تمام الأنس و أقوى العلاقة، بل لا تزال العلاقة ثابتة فضعفت ثمّ تضاعفت أهون من إنشاء الروح من التراب، أي البدن الذي لم تكن لها به أي علاقة سابقا حسبما عرفت من أنّ النفس جسمانية الحدوث، روحانية البقاء.
إذا فما أبعد الفرق بين المقامين، و هل من شك بأنّ النشأة الثانية أهون النشأتين؟
و قوله عليه السّلام: و يعود ترابا، كما منه خلق، لعله يشير إلى ناحية من تلك الجوهرة، يعني يصير ترابا كالتراب الذي خلق منه، و حق المعنى أن يقال: يعود إلى التراب الذي خلق منه، و لكن حيث إنّ التراب الذي خلق منه قد اكتسب من ملابسة الروح في النشأة ملكات و كمالات كانت فيه على نحو الاستعداد فصارت على نحو الفعلية لذا قال- سلام اللّه عليه-: كما منه خلق، أي التراب الذي خلق منه من حيث نوعه، لا من خصوصياته، أو من حيث إنّ طريق نزوله كطريق صعوده، فتدبّره جيدا.
قوله عليه السّلام: و ما تقذف به السباع إلى الآخر، إشارة إلى دفع شبهة الآكل
ص: 319
و المأكول، و أنّ التغذية و النمو في الأجسام ليس بصيرورة المأكول جزءا من الآكل، بل هو معد لإفاضة النفس الكلية بمشيئته تعالى صورة أخرى عليه بدلا عما تحلل من ذلك الجسم، فالمراد أنّ جميع الصور المفاضة المتعلقة كلها محفوظة في التراب عند ربّ الأرباب.
قوله عليه السّلام: و أنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، لعله إشارة إلى أنّ النفوس القادسة التي بلغت أقصى مراتب الصفاء و التجرد حتى تجردت أجسامها و صارت أرواحا لا تبلى و لا تتغير كالذهب الذي لا يغيره التراب، و لا يؤثر فيه، كما ورد في كثير من الأخبار المنقولة في البحار و غيره، و لعل المراد بمطر النشور نفخة الصور الثانية التي تقوم بها الخلائق أحياء بعد فناء الجميع بالنفخة الأولى، و في بعض الأخبار أن اللّه سبحانه يرسل سحابا فتمطر على أرض المحشر، فينشر البشر و يخرج كما يخرج النبات من الأرض غب المطر، و أكثر آيات المعاد و الحشر و النشر في القرآن العزيز تشير إلى ذلك، مثل قوله تعالى: وَ نَزَّلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (1)، وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذٰلِكَ الْخُرُوجُ (2)، وَ كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ (3)، كَذٰلِكَ النُّشُورُ (4)، إلى كثير من أمثالها.
و قوله عليه السّلام: فيجمع تراب كل قالب إلى قالبه، ينتقل بإذن اللّه القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصور كهيئاتها، و تلج الروح فيها. صريح فيما سبق من أن البدن بعد استكماله و كماله و بلوغه أقصى ما قدّر له من السير في
ص: 320
صراط الحركة و الإعداد و الاستعداد ينتقل إلى الروح، و يتحد معها أقوى من اتحاده بها في النشأة الأولى؛ لأنه صار لطيفا روحيا، و كان كثيفا ماديا، و لعل في قوله عليه السّلام: فتعود الصور بإذن المصور كهيئاتها و تلج الروح فيها، إيماء إلى ما ذكرنا من أنّ الصور المتعاقبة على البذرة الأولى التي تكون الإنسان منها جنينا، ثمّ رضيعا و شابا و كهلا و شيخا، كلها محفوظة في مبادئها العالية و النفوس الكلية، و يوم الحشر و النشر- و هو يوم الجمع- تعود كهيئاتها و تتصل بالروح الاتصال الذي عبّر عنه الإمام عليه السّلام بقوله: و تلج الروح فيها، فإذن قد استوى، لا ينكر من نفسه شيئا فتجمع كل الصور فيه ماثلة لديه.
و ليس العائد تلك الصور المحسوسة فحسب، بل يعود لك حتى أعمالك و صفاتك و ملكاتك، و كل عمر خير أو شر يعود ماثلا لديك بحقيقته و جوهره، فالنميمة عقرب يلسعك، و السعاية أفعى تلدغك، و الغيبة لحم ميت تأكله، و هكذا كل ما جنت جوارحك، و اقترفته يدك أو لسانك، و مثل ذا كل عمل حسن أو معروف تجده صورة جميلة تؤنسك وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً وَ لٰا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (1)، وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (2)، إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (3)، و لا حذف هنا، و لا تقدير، كما يتخيله بعض المفسرين، بل الجزاء نفس العمل، و في الحديث يقول- جل شأنه- يوم القيامة للعباد: أعمالكم ردت إليكم، و لكن بجوهرها و حقائقها، فكل ما في هذه الدار مجاز، و الحقيقة هناك، و هذا معنى ما سمعته أو تسمعه من تجسم الأعمال، فإن عملك هو
ص: 321
الكتاب الذي لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلّا أحصاها وَ كُلَّ إِنسٰانٍ أَلْزَمْنٰاهُ طٰائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كِتٰاباً يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتٰابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (1).
فعن العياشي، عن خالد بن نسيج، عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: إذا كان يوم القيامة دفع إلى الإنسان كتابه، ثمّ قيل له: اقرأ، قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إن اللّه يذكره، فما من لحظة و لا كلمة، و لا نقل قدم، و لا شي ء فعله إلّا ذكره كأنه فعله تلك الساعة قالوا: يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا الْكِتٰابِ لٰا يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لٰا كَبِيرَةً إِلّٰا أَحْصٰاهٰا.
و من ناحية تجسم الأعمال يأتي القرآن يوم القيامة شافعا مشفعا، أو شاكيا إلى ربه ممن هجره أو لم يحفظه، و من قرأ سورة لا أقسم و كان يعمل بها بعثها اللّه معه من قبره في أحسن صورة، تبشره و تضحك في وجهه، حتى يجوز الصراط، و بعض السور تصير صورة جميلة تؤنسه في قبره.
و من هذا ما ورد من أن أهل الجنة جرد مرد، و المتكبرون يحشرون كالذر يطأهم الناس بأقدامهم، و أنّ ضرس أحدهم كجبل أحد إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً (2).
و في الكافي من حديث طويل، يقول الصادق عليه السّلام فيه: يدعى المؤمن للحساب فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة، فيقول: يا رب أنا القرآن، و هذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي، و يطيل ليله بترتيلي، و تفيض عيناه إذا تهجد، فأرضه كما أرضاني، فيقول العزيز الجبار: ابسط يمينك، فيملأها من
ص: 322
رضوان اللّه، و يملأ شماله من رحمة اللّه، ثمّ يقال: هذه الجنة مباحة لك، فاقرأ و اصعد، فكلما قرأ آية صعد درجة.
و في خبر طويل روي بعضه في البحار عن عقد الدرر في الإمام المنتظر عليه السّلام، يقول فيه: إنه تعالى يسلط على الكافر في قبره تسعة و تسعين تنينا ينهشن لحمه، و يكسرن عظمه، يترددن عليه كذلك إلى يوم يبعث.
أقول: و في أربعين الشيخ البهائي قدّس سرّه: و يسلط عليه حيات الأرض.
روى في الكافي عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: أن اللّه يسلط عليه تسعة و تسعين تنينا، لو أنّ واحدا منها نفخ على الأرض ما أنبتت شجرا أبدا.
و روى الجمهور هذا المضمون بهذا العدد الخاص أيضا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.
قال بعض أصحاب الحال: و لا ينبغي أن يتعجب من التخصيص بهذا العدد، فلعل عدد هذه الحيّات بقدر عدد الصفات المذمومة من الكبر و الرياء و الحسد و الحقد، و سائر الأخلاق و الملكات الردية، فإنما تتشعب و تتنوع أنواعا كثيرة، و هي بعينها تنقلب حيات في تلك النشأة. انتهى.
و أقول: إنّ التعبير الأصح هو ما قلناه من أنها هي بعينها حيات في تلك النشأة، و في هذه، لا أنها تنقلب، و لكنما الدنيا غلاف الآخرة و قشرها، و الآخرة هي اللب و الحقيقة، و هي موجودة حالا في باطن الدنيا كما يشير إليه قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غٰافِلُونَ (1)، يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذٰابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ (2)، و اسم الفاعل حقيقة
ص: 323
فيما تلبس بالمبدإ حالا، لا ما يتلبس به في المستقبل.
نعم، الآخرة داخلة في الدنيا دخول الرقيقة في الحقيقة، و المعنى في اللفظ، و الروح في الجسم، و الهيولى مع الصورة.
من هنا يتجه ببعض الاعتبارات دعوى اتحاد الدنيا مع الآخرة اتحادا حقيقيا، و الاتحاد الحقيقي- كما مرت الإشارة إليه- هو اتحاد المتحصل مع غير المتحصل، يعني اتحاد ما بالقوة مع ما بالفعل، كاتحاد المادة بالصورة، و الجنس مع الفصل تحقيقا و اعتبارا، أما الشيئان المتحصلان فلا يتحدان أبدا، كما أن الشيئين غير المتحصلين يستحيل أن يكونا متحدين إلّا اعتبارا و جعلا، لا حقيقة و واقعا.
و قد أحسن التلميح المليح إلى هذه الحقيقة الشاعر العرفاني، ممن عاصرناه حيث يقول في ارتجالية له بديعة مطربة:
روحي في روحك ممزوجة و ربما تمزج روحان حتى كأنّي منك في وحدة لو صحّ أن يتحد اثنان
و يعجبني منها قوله قدست روحه الزكية:
هاموا هيامي فيك لو أنهم قد عرفوا معناك عرفاني لكن تجليت فأعشيتهم بفرط أنوار و نيران
و إليه يشير أيضا العارف الإلهي الشيخ محمود التبريزي الشبستري:
ص: 324
حلول و اتحاد اينجا محالست كه در وحدت دوئى عين ضلالست
و مهما يكن من شي ء فلا شك عند العارفين من أرباب اليقين أنّ كل شي ء في هذه الدنيا قشر و صورة، و لبابه و جوهره في الآخرة، و إلى هذا يرجع ما مر عليك من أن الآيات و الأحاديث قد استفاضت صريحة بتجسم الأحوال و الأعمال و الملكات و غيرها، و كل ذلك حق ليس فيه ريب، و إنما يؤمن به الواصلون الذين شاهدوا الحقائق عيانا، و ارتفعوا عن درجة الإيمان بالغيب «(1)».
ص: 325
و النواة التي تدور عليها هذه الكهارب هي ما تكرر ذكره، و أشرنا إليه من أنّ شيئية الشي ء و شخصيته التي تكون بها هويته و يصير هو هو، و يمتاز عن غيره، إنما تحقق بصورته لا بمادته، و إنما المادة هيولى صرفة و قوة محضة، و استعداد خاص لكل الصور المتعاقبة، و كل صورة لاحقة جامعة لكمال ما قبلها من الصورة السابقة، و كل سابقة فهي معدة لكل لا حقة حتى تنتهي إلى الصورة الأخروية الأخيرة التي تعاد يوم المعاد، و تقف بين يدي رب العباد، و هي الصورة الدنيوية الأخروية الجامعة لكل الصور طولا لا عرضا، بل طولا و عرضا، فإنه و إن كان من المستحيل اجتماع صورتين فعليتين في شي ء واحد كاستحالة اجتماع شخصيتين و هويتين في شخص واحد، و لكن هذا إنما هو في هذه النشأة دار التزاحم و التصادم، بخلاف النشأة الثانية دار الجمع و النظم، و كل هذا من جهة ضيق المادة و ما يتألف منها.
أما الصور المجردة عن المواد المتعالية عن القوة و الاستعداد كالمفارقات العلوية، فلا تزاحم فيها و لا تضاد، فتدبره عساك تكون من أهله.
ثمّ إنّ المراد بالصورة في قولهم «إنّ حقيقة كل شي ء بصورته لا بمادته»:
ص: 326
الصورة التي هي أحد الأنواع، الجواهر الخمسة، و هي الوجود الخاص المعين لا الصورة بمعناها العرفي و استعمالها الدارج التي ترتسم بالمرآة أو بالخطوط و النقوش أو بالماء و نحوه، أو بالتصوير الشمسي، فإنها أعراض و أشكال ترجع إلى كم أو كيف أو إضافة ... و القصارى أنّ بهذه القاعدة الحكمية المحكمة تمشي قضية المعاد الجسماني في سبيل لاحب لا ترى فيه عوجا و لا أمتا، و لا التواء، و لا تعاريج، و تتهافت على أشعة كل الشبهات و المناقشات تهافت الفراش على النار، و لا يبقى مجال لشبهة الآكل و المأكول، و لا لاستحالة إعادة المعدوم، و لا لغير ذلك مما قيل أو يقال في هذا المجال.
نعم، هنا خاطرة خاطئة لا بد من التعرض لها، و نفض ما يعلق على بعض الأذهان من غبارها، و إقالة عثارها، و هي توهم أنّ في عود الروح إلى البدن، أو عود البدن إلى الروح، نوعا من التناسخ، و يشهد له ما قيل: من أنه ما من دين من الأديان إلّا و للتناسخ فيه قدم راسخ، و قد قامت الأدلة العقلية و النقلية على بطلان التناسخ بجميع أنواعه، و لكن من عرف معنى التناسخ عند القائلين به يتضح له جليا أنه لا مجال لورود هذه الشبهة أصلا؛ فإنّ التناسخيين يقولون: إنّ عالم الكون و الفساد محدود لا يزيد ذرّة، و لا ينقص شعرة، و ما الدنيا عندهم إلّا جمع متفرقات، أو تفريق مجتمعات، و هذا العالم المحسوس ما هو إلّا عناصر امتلأ بها الفضاء تجتمع فتصير أجساما، و تتفرق فتصير غازا، أو بخارا، أو سديما أو سحابا، ثمّ تجتمع كرة أخرى فتصير إنسانا أو حيوانا، و هكذا.
ثمّ إنّ النفوس أيضا أرواح من الأزل محدودة لا تزيد و لا تنقص، تدخل واحدة منها في جسم قد استعد لقبول روح إنسانية أو حيوانية أو نباتية، و بحسب ما اكتسب من خير أو شر، إذا فارقت هذا الجسد دخلت في جسد آخر، إنسانا أو
ص: 327
حيوانا، معذبة أو منعمة، و هكذا لا تزال متنقلة إلى الأبد إن صح أن يكون للأبد غاية، أو يكون هو غاية، و لذا جعلوا للتناسخ أربعة أنواع: نسخ، أو مسخ، أو فسخ، أو رسخ (1).
فالعمود الفقري للتناسخ هو انتقال الروح من بدن إلى آخر في هذه الحياة الدنيا.
أما المعاد الجسماني في الإسلام فحبل وريده انتقال الروح أو عود الروح إلى بدنها الذي فارقته لا إلى بدن آخر، أو عوده هو إليها، فكم من الفرق بين
ص: 328
الأمرين؛ و لذا ينكر التناسخيون الدار الأخرى و الحياة الثانية، فلا مبدأ و لا معاد، و لا حساب و لا كتاب، و لا ثواب و لا عقاب، بل كل جزاء من خير أو شر هو في الحياة الدنيا، و من هنا أجمع أرباب الأديان على بطلان التناسخ تماما؛ لأنه يصادم الأديان تماما.
ثمّ إذا أحطت علما بما ذكرناه يظهر لك الخلل فيما ذكره المجلسي رحمه اللّه في المجلد الثالث من البحار، في «فذلكة له» حيث يقول: فالمراد بالقبر في أكثر الأخبار ما يكون الروح فيه في عالم البرزخ، و هذا يتم على تجسم الروح و تجرده، و إن كان يمكن تصحيح بعض الأخبار بالقول بتجسم الروح أيضا بدون الأجساد المثالية، و لكن مع ورود الأجساد المثالية في الأخبار المعتبرة لا محيص عن القول بها، و ليس هذا من التناسخ الباطل في شي ء؛ إذ التناسخ لم يقم دليل عقلي على امتناعه؛ إذ أكثرها عليلة مدخولة، و العمدة في نفيه ضرورة الدين، و إجماع المسلمين، و هذا غير داخل فيما انعقد الإجماع و الضرورة على نفيه. انتهى.
و من المؤسف صدور مثل هذا الكلام من أمثال هؤلاء الأعلام، و لكن ليت من لا يعرف شيئا لا يتدخل فيه، و ما أشد الخطأ و الخطل بقوله: «التناسخ لم يقم دليل عقلي على امتناعه»، ثمّ التمسك لإبطاله بالأدلة السمعية كالإجماع و ضرورة الدين التي لا مجال لها في القضايا العقلية، بل و العقلية المحضة، كالتناسخ و تجسم الروح الذي هو من قبيل الجمع بين الضدين، بل النقيضين، و أين المجرد من المادي، و المحسوس من المعقول، و البسيط من المركب؟
ثمّ أي برهان عقلي أقوى من أنّ النفس التي تدرجت من القوة المحضة في الجنين إلى أن تكاملت فعليتها إلى الكهولة و بلغ العقل أشده في الأربعين
ص: 329
فالخمسين، و هكذا، و تستحيل أن ترجع القهقرى فتعود قوة محضة في جسم جنين آخر، فإنّ ما بالقوة يقع في صراط الحركة، كما عرفت، و ينتهي إلى الفعلية، و لكن ما هو بالفعل يستحيل أن يعود إلى ما بالقوة، فالبرهان و الوجدان شاهدان عدلان على بطلان التناسخ.
مضافا إلى أدلة أخرى لا مجال لسردها، فلا حاجة إلى الإجماع و غيره في إبطاله، بل ذلك لا يجدي شيئا في نقير، أو فتيل، و لا غرابة إذا غرب مثل هذا عن مثل شيخنا المجلسي- طاب ثراه- فإنّه من المتخصصين بعلم المنقول لا المعقول.
و لكن الغريب جدا أن يشتبه الأمر على مثل شيخنا البهائي قدّس سرّه، و هو من المتضلعين في المباحث العقلية، قال في كتابه «الأربعين»: «وهم و تنبيه: قد يتوهم أنّ القول بتعلق الأرواح بعد مفارقة أبدانها العنصرية بأشباح أخرى- كما دلت عليه تلك الأحاديث- قول بالتناسخ، و هذا توهم سخيف؛ لأنّ التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه هو تعلق الأرواح بعد خراب أجسامها بأجسام أخر في هذا العالم، إما عنصرية كما يزعمه بعضهم، و يقسمه إلى النسخ و المسخ و الفسخ و الرسخ، أو فلكية ابتداء، أو بعد ترددها في الأبدان العنصرية على اختلاف آرائهم الواهية المفصلة في محلها.
و أما القول بتعلّقها في عالم آخر بأبدان مثالية مدة البرزخ إلى أن تقوم قيامتها الكبرى فتعود إلى أبدانها الأولية بإذن مبدعها إما بجميع أجزائها المتشتتة، أو بإيجادها من كتم العدم، كما أنشأها أول مرة، فليس من التناسخ في شي ء، أو أن تسميته تناسخا فلا مشاحة في التسمية إذا اختلف المسمى، و ليس إنكارنا على التناسخية و حكمنا بكفرهم لمجرد قولهم بانتقال الروح من بدن إلى
ص: 330
آخر، فإن المعاد الجسماني كذلك عند كثير من المسلمين، بل لقولهم بقدم النفوس، و ترددها في أجسام هذا العالم، و إنكارهم المعاد الجسماني. انتهى.
و لعمر الحق أن عجبي لا يتناهى من قوله: إنّ المعاد الجسماني كذلك عند كثير من أهل الإسلام، أي أنه عبارة عن انتقال الروح من بدن إلى آخر، و هل التناسخ الباطل إلّا هذا، و لا ينبغي نسبة ذلك إلى أحد من المسلمين، بل المتسالم عندهم عودها و انتقالها إلى بدنها الأول، لا إلى بدن آخر.
و كيف كان، فلا شي ء من الأبدان المثالية البرزخية و لا العنصرية الأخروية التي تعود يوم القيامة أبدان أخرى، بل هي تلك الأبدان التي نشأت من جرثومة الحياة الأولى، و التي منها تكونت الروح، و أخذت تنمو مع البدن المثالي و العنصري على ما سبق توضيحه بأقوى بيان، و أجلى برهان.
و في المعاد لم يحصل بدن جديد، و لا روح جديدة، و إنما هو اختلاف في نحوي التعلّق و الاتصال، كاختلاف تعلق الروح بالبدن بين حالتي النوم و اليقظة، أو الصحو و السكر.
و على ذكر حديث التناسخ نذكر أنّ بعض المتنطعين الذين يتكلفون ما ليس من شأنهم كتب إلينا من «بغداد» كتابا مطولا يقول فيه ما خلاصته: إنّ بعض الآيات في القرآن العزيز تدل على التناسخ، و لما ذا يحملها علماء الأديان على غير ظاهرها؟ و ذلك مثل قوله تعالى: رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (1)، فإنّ ظاهر الإماتة يقتضي أن تكون هناك حياة قبلها، و لازم ذلك أنّ لنا قبل هذه الحياة حياة، و قبل هذا الموت الذي نحمل
ص: 331
بعده إلى القبر موتا، و هذا هو التناسخ.
و قد أجبناه عن هذا التوهم، و لعل الكتاب و الجواب قد أثبتا في كتابنا «دائرة المعارف العليا»، و قد تعرض المفسرون لتوجيه هذه الآية بوجوه أربعة، كلها تصادم مبدأ التناسخ، و قد استعمل الكتاب الموت و الميت فيمن لم يعلم بأنّ له حياة سابقة، أو معلوم عدمها أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ (1)، فَسُقْنٰاهُ إِلىٰ بَلَدٍ مَيِّتٍ (2)، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا (3)، إلى كثير من أمثالها.
و أصح و أصرح من الجميع قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (4)، و هو من العدم في مقابل الملكة، كقولك للأعمى: ذهب بصره، و لا تقوله للحجر، و مثله: صغّر اللّه جسم البقة، و كبّر جسد الف