مستند تحريرالوسيله: الاجتهاد و التقليد

اشارة

عنوان قراردادي : تحرير الوسيله. برگزيده. شرح.

عنوان و نام پديدآور : مستند تحريرالوسيله: الاجتهاد و التقليد/(لجنه من المحققين) ؛ تحقيق موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني قدس سره.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر تراث الامام الخميني (س)، موسسه مطبعه العروج، 1428ق.= 1386.

مشخصات ظاهري : 441 ص.

شابك : 56000 ريال:9789643359331

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه: ص. (425) - 436؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368. تحريرالوسيله -- نقد و تفسير.

موضوع : فقه جعفري -- رساله عمليه.

شناسه افزوده : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368. تحرير الوسيله. برگزيده. شرح.

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س). موسسه چاپ و نشر عروج.

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س)، محقق.

رده بندي كنگره : BP183/9/خ8ت30238

رده بندي ديويي : 297/3422

شماره كتابشناسي ملي : 1106495

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

مقدّمة الناشر

مقدّمة الناشر

يعدّ كتاب «تحرير الوسيلة» لآية اللَّه العظمى سيّدنا الإمام الخميني قدس سره حلقة فقهية مكمّلةً في عصرها لسائر حلقات التراث النفيس لفقه الشيعة الإمامية كثّرهم اللَّه تعالى، فهو مجموعة فقهية كاملة من كتاب الطهارة إلى كتاب الديات بضميمة المسائل المستحدثة. ولذا فقد صار في زمانه منبعاً للفيض الفقهي بفضل ما حواه من الدقّة والاستيعاب والتفصيل في عرض المسائل.

وحيث إنّه كتاب فتوائي لذا يمكنه أن يتبوّأ مكانه السامي في دروس الحوزة الفقهية الاختصاصية من خلال شرحه شرحاً استدلالياً مبسوطاً، وقد سبق إلى هذا الميدان بعض فقهائنا المعاصرين، نخصّ بالذكر منهم المرجع الديني الكبير سماحة آية اللَّه العظمى الشيخ الفاضل اللنكراني دام ظلّه، حيث ألّف «تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة» وكذا آية اللَّه الشيخ أحمد المطهّري رحمه الله حيث كتب «مستند تحرير الوسيلة».

وحيث إنّ مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره قد أخذت على عاتقها حفظ ونشر الآراء والمباني الفكرية للإمام الراحل قدس سره لذا فقد دعت عام (1378 ه. ش) عدداً من فضلاء وأساتذة الحوزة العلمية بقم المقدّسة ممّن لهم معرفة بالآراء والمباني الاصولية والفقهية للإمام قدس سره فشكّلت منهم لجنة مهمّتها شرح

ص: 6

«التحرير» شرحاً استدلالياً مبسوطاً موضّحاً للُاسس والركائز التي استند إليها قدس سره في فتاواه، وعلى أن يبذل قصارى الجهد في بيان أدلّته من خلال سائر كتبه وتقريرات بحثه الشريف، فشرعت اللجنة أوّلًا ببحث الاجتهاد والتقليد؛ لكونه أوّل بحوث «التحرير» ولأ نّه قدس سره كان قد شرح هذا البحث بنفسه شرحاً استدلالياً في رسالة مستقلّة.

ونحن مع إذعاننا بإمكان إنجاز هذا العمل بصورة أفضل بكثير ممّا هو عليها الآن- ولذلك ندعو المتخصّصين في ميداني الفقه والاصول إلى أن يفيضوا علينا بما جادت به أنظارهم المكمّلة وانتقاداتهم البنّاءة؛ لندرجها في الطبعة اللاحقة- لكنّنا نأمل أن يكون هذا الأثر واجداً لميزتين رئيسيّتين تبرّران السعي الجادّ والعمل الدؤوب والنفقات المبذولة في هذا الطريق:

الميّزة الاولى: اتخاذ اسلوب العمل الجمعي، لا الفردي، حيث قام أحد أعضاء اللجنة ببيان دليل المسألة أوّلًا، ثمّ نقده باقي الأعضاء ومحّصوه على مدى أيّام عديدة أحياناً، وبعدها تمّ ملاحظة وإدخال هذه التعديلات على دليل المسألة من قبل المدوّن وبإشراف المسؤول عن اللجنة، وفي هذه المرحلة قد يتمّ إصلاح الدليل عدّة مرّات.

ثمّ قوّمنا المتن تقويماً علمياً من خلال مراجعة الأدلّة والمستندات بهدف زيادة استحكام المطالب وسدّ خللها مهما أمكن، مع إيقاع التناسب والتوحيد بين سائر المسائل.

وأخيراً تمّ تقويم المتن تقويماً أدبياً وفنّياً؛ كي يكون الكتاب بمستوى من الوضوح والبيان، وليتناسب مع لغة هذا العصر وأساليبه.

ثمّ إنّ من اللازم علينا أن نذكر أعضاء اللجنة رعايةً للأمانة العلمية، وتقديراً

ص: 7

لجهودهم التي بذلوها في هذا السبيل، وهم(1):

حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد كاظم رحمان ستايش، حيث أعدّ أدلّة المسائل: (2) و (4) و (8) و (15) و (16) و (17) و (18) و (19) و (21) و (22) و (23) و (25) و (26) و (27) و (28) و (29).

وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ سيف اللَّه صرّامي، حيث أعدّ أدلّة المسائل:

(5) و (6) و (7) و (9) و (10) و (12) و (24) و (31).

وحجّة الإسلام والمسلمين السيّد أحمد الحسيني الخراساني، حيث أعدّ أدلّة المسائل: (1) و (13) و (14) و (20) و (33) و (34).

وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ أحمد المبلّغي، حيث أعدّ أدلّة المقدّمة المذكورة قبل المسائل، مع المسألتين: (11) و (30).

وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ كاظم قاضي زاده، حيث أعدّ أدلّة المسألتين:

(3) و (32).

وبعض هذه المسائل وإن كتبت أوّلًا من قِبَل شخصين، إلّاأنّا نسبناها إلى من وضع إطارها العامّ الكلّي، ولم نشر إلى الشخص الآخر.

ثمّ إنّه من الواجب علينا أن نخصّ بالشكر كلّاً من سماحة حجّة الإسلام والمسلمين كاظم قاضي زاده الذي تولّى إدارة هذا المشروع في بدايته، ومن سماحة حجّة الإسلام والمسلمين سيف اللَّه صرّامي الذي تولّي إدارة شؤونه فيما بعد حتّى نهاية المطاف.

الميّزة الثانية: اشتمال الكتاب على مقدّمة نافعة أعدّها سماحة حجّة الإسلام والمسلمين محمّد كاظم رحمان ستايش، نبّه فيها على الجذور التأريخية للمسائل


1- قدّمنا من هو أكثر تأليفاً هنا على غيره ..

ص: 8

المطروحة في الاجتهاد والتقليد، كما تتبّع الكتب والرسائل المؤلّفة في هذين المجالين ملاحظاً التدرّج الزمني في تأليفها، وما توفيقنا إلّاباللَّه عليه توكّلنا، وإليه ننيب.

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره

قسم التحقيق- فرع قم المقدّسة

ص: 9

مقدّمة التحقيق

مقدّمة التحقيق

مسيرة البحث عن الاجتهاد والتقليد

اشارة

عرف الاجتهاد في عصر الأئمّة عليهم السلام بشهادة الأخبار المستفيضة التي تدلّ بأنحائها عليه، كما عرف في ذلك العصر إرجاع الأئمّة عليهم السلام شيعتهم إلى الفقهاء، وهو ما يعبّر عنه بظاهرة التقليد؛ انطلاقاً من عدّة عوامل دعت إلى ظهوره في عصرهم عليهم السلام.

ولكن تأخّر البحث عن نفس الاجتهاد وحقيقته وشروطه وأنحائه وكذا التقليد، إلى أوائل الغيبة الكبرى؛ على الرغم من طرح مباحث الاجتهاد والتقليد في علمي الكلام واصول الفقه عند العامّة.

والوجه في تقدّم العامّة في هذه المباحث، تقدّم حاجتهم إليهما بسبب الظروف الخاصّة التي مرّت بهم؛ من جهة ابتعادهم عن عصر النبي صلى الله عليه و آله والصحابة، وعدم تمكّنهم من الوصول إلى الحكم الشرعي إلّاعن طريق الاجتهاد، الذي كان في بدو أمره مرادفاً للقياس، فبحثوا عن الاجتهاد- بالمعنى المذكور- منذ زمن بعيد، وبالتحديد من عصر الشافعي (م 204 ه) وبيّنوا أحكامه وشروطه بوضوح

ص: 10

في القرن الرابع الهجري، كما ظهر التقليد أيضاً بعد سنة (140 ه) وشاع بعد (200 ه)(1).

ويمكن تقسيم البحث إلى مراحل:

المرحلة الاولى: بروز الاجتهاد والتقليد علمياً

صار التقليد موضوعاً خاصّاً للمباحث العلمية في القرن الرابع الهجري. وقد اطلق في تلك المدّة على المجتهد في الأحكام الشرعية اسم «الفقيه» بحسب مدرسة أهل البيت عليهم السلام ولسان أصحاب الأئمّة الأطهار، ولم نجد في المصادر الروائية والتأريخية، ما يدلّ على استعمال لفظ «المجتهد» في ذلك العصر.

وقد دام الأمر على ذلك إلى أن وقعت الغيبة الكبرى، فارتفع معظم مبرّرات التقيّة؛ بسبب إعراض خلفاء بني العبّاس عن الشيعة، لعدم كون الإمام ظاهراً ليخافونه على ملكهم، وانضمّ إلى ذلك ظهور قوم من الشيعة لهم دولة وشوكة، كسلاطين آل بويه، وامراء بني حمدان، وغيرهم، فظهر أمر الشيعة، ونشأ فيهم علماء فضلاء في الكلام، كالشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، وغيرهم، فنظروا في كتب العامّة، وبحثوا معهم في الاصول والفروع.

وقد كان مدار العامّة في الفقه على الاعتبارات العقلية، كاجتهاد الرأي، والقياس، والاستحسان، وغير ذلك ممّا أحدثوه في الدين، وكانوا يسمّون الملكة التي يقتدر بها على استنباط الفروع من تلك الاصول الموضوعة «اجتهاداً» وصاحبها «مجتهداً».

وأمّا الشيعة، فقد دأبوا في ذلك الزمان على مناقشة العامّة في الاصول والفروع،


1- الإحكام في اصول الأحكام 6: 146 ..

ص: 11

ومقابلتهم في كلّ ما يبدعونه- ممّا خالف الحقّ- بما يبطله من أدلّة العقل و النقل؛ حتّى لا يمكنهم إنكارها، ولا ردّها، فسمّوا طريقهم في مقابلتهم «اجتهاداً» والعارف بمذهب آل محمّد عليهم السلام «مجتهداً» ولم يخرجوا عن العمل بكلام الأئمّة عليهم السلام فإن استدلّوا على فرع بغير النصّ، فليس هذا لأنّه مدرك شرعي عندهم، بل لإلزام الخصم؛ وبيان أنّ ما نقل عن الأئمّة عليهم السلام ممّا تعاضد فيه العقل والنقل، فمدرك الحكم عندهم النصّ لا غير، والعقل مؤيّد له.

هكذا كان ديدنهم من عصر الأئمّة عليهم السلام إلى أواخر المئة الخامسة من الهجرة(1).

فأصحابنا رحمهم الله وقفوا بوجه الاتجاهات العامّية في الاجتهاد، وفي نفس الوقت دافعوا عن الاجتهاد والفقاهة على أساس النصّ الشرعي، والشاهد على ذلك ما وصل إلينا من أسماء كتبهم في الفهارس، حيث ظهرت القرن الرابع الهجري تأليفات في هذا المضمار، منها:

1- «الردّ على عيسى بن أبان في الاجتهاد» وهو لأبي سهل إسماعيل بن علي بن إسحاق النوبختي، الذي كان حاضراً عند وفاة العسكري عليه السلام. ذكره النجّاشي بعنوان النقض.

2- «الردّ على أصحاب الاجتهاد في الأحكام» للشريف أبي القاسم علي بن أحمد الكوفي العلوي (م 352 ه).

3- «إظهار ما ستره أهل العناد من الرواية عن أئمّة العترة في أمر الاجتهاد» للشيخ أبي علي محمّد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي (م 381 ه).

والظاهر أنّ الكتابين الأوّلين كانا في مقام الردّ على الاجتهاد المعروف عند العامّة؛ أي القياس، ولعلّ ما كتبه الشيخ الإسكافي كان دفاعاً عن الاجتهاد الشيعي.


1- هداية الأبرار: 187 و 188 ..

ص: 12

وكيفما كان فلم تصل إلينا هذه الكتب حتّى نطّلع على ما فيها بدقّة.

ملامح هذه المرحلة: لعلّ أهمّ ملامح هذه المرحلة ما يلي:

الاولى: أنّ هذه المرحلة تابعة لمسيرة أصحاب الأئمّة عليهم السلام وتعدّ تطوّراً لها، ولذا قلّت الحاجة إلى الاجتهاد المصطلح؛ على الرغم من إعداد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام جماعة من الشيعة الإمامية للاستقلال الفكري، ورفدهم أصحابهم المستعدّين بما يمكّنهم من الاستمرار في حياتهم الثقافية على ضوء تعاليمهم الاصولية، فقد وضع الإمامان ومن بعدهما من الأئمّة عليهم السلام الأساس لتشييد القواعد الاصولية والفقهية، وبيّنوا أنّ المكلّف إمّا أن يكون عالماً، أو متعلّماً يأخذ منهم(1).

كما بيّنوا أنّ وظيفة فضلاء أصحابهم، التفريع على الاصول المأخوذ عنهم عليهم السلام(2)، ولذا فحينما نراجع الأخبار المروية عن هذين الإمامين، نرى تغيير اسلوب تعليمهم من الحفظ والاستظهار الشائعين في تلك الأعصار، إلى البحث والاستقراء في حلقات التعليم، فبرز الحوار والمناقشة والنقد، وانبثقت الآراء في القضايا الدائرة بينهم آنذاك.

فالفقيه في تلك الأعصار يمكنه التوصّل إلى الحكم الشرعي؛ إمّا من نصّ صريح في موضوع، أو من تطبيق قاعدة- قنّنها الأئمّة عليهم السلام لهم- على ذلك الموضوع؛ من دون حاجة إلى الاجتهاد المصطلح.

الثانية: أنّ الأصحاب في بداية عصر الغيبة، أخذوا بحقيقة الاجتهاد، وكانوا يعرفونه، ولم يكن مخترعاً من عند أنفسهم، بل كان الاجتهاد عندهم نتيجة لإرشادات الأئمّة إلى فقهاء أصحابنا القدامى. إلّاأنّ الالتزام بالنصّ دون الرأي،


1- بحار الأنوار 1: 170/ 22 ..
2- نفس المصدر: 245 ..

ص: 13

كان ميّزة أساسية لهذه المرحلة.

الثالثة: أنّ في هذه المرحلة، تمّ تدوين القواعد الاصولية المتلقّاة عن أئمّة الهدى عليهم السلام بالنحو الذي كان متيسّراً لهم في تلك العصور، وعلى أساس مدركاتهم المنطقية. إلّاأنّنا لا يمكننا إنكار سذاجة المباحث الاصولية والفقهية؛ خصوصاً مبحث الاجتهاد والتقليد.

فهذه المرحلة في الحقيقة، حلقة وصل بين عصر الحضور وعصر الغيبة، ولها أهمّية خاصّة في نموّ البذور العلمية للشيعة الإمامية وغيرهم في مختلف المجالات.

المرحلة الثانية: انعقاد البحث عن الاجتهاد والتقليد في كتب الاصول

تعرّض أعلامنا الاصوليون لمبحث الاجتهاد والتقليد في بداية القرن الخامس الهجري، وهو بداية عصر التأليف الاصولي على ضوء الفكر الإمامي، وفي مقدّمتهم السيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، فلابدّ أن نذكر خلاصة هذا البحث عندهما:

1- السيّد المرتضى والاجتهاد والتقليد: قد صرّح السيّد الشريف المرتضى (م 436 ه) في كتابه القيّم «الذريعة إلى اصول الشريعة»- الذي يُعدّ من أكبر تأليفات الشيعة الإمامية في اصول الفقه عبر عدّة قرون-: «بأنّ الاجتهاد هو إثبات الأحكام الشرعية بغير النصوص وأدلّتها، بل بما طريقه الأمارات والظنون»(1).

والظاهر من عبارته أنّه يريد بالنصوص، الصريحة القطعية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأدلّة، وفي قبال ذلك يذكر أنّ الطريق إلى الأحكام هو الظنّ، دون القطع الحاصل من النصّ الصريح والدليل القطعي.

ثمّ ذكر على أساس ما مرّ: «أنّ من المعقول أن يتعبّدنا اللَّه تعالى بالقياس، الذي


1- الذريعة 2: 792 ..

ص: 14

هو حمل الفروع على الاصول، وهو داخل في الاجتهاد؛ إذ هو أيضاً من الظنون، إلّا أنّه لم يتعبّدنا. واجتهاد الرسول فيما لم يتعبّدنا الشارع به، غير ممكن بطريق أولى، فلا مجال له على رأي الشيعة الإمامية».

ثمّ بحث عن صفة المفتي والمستفتي وطريقة التقليد؛ استناداً في حكم جواز التقليد إلى السيرة المستمرّة المتشرّعية من جميع الامّة على وجوب رجوع العامّي إلى المفتي، حيث قال: «أمّا صفة المفتي، فهي أن يكون عالماً بالاصول تفصيلًا، وبطريقة استخراج الأحكام من الكتاب والسنّة، وعالماً باللغة والعربية؛ بما يحتاج إليها في ذلك، ويكون مع هذه العلوم ورعاً، ديّناً، صيّناً، عدلًا، متنزّهاً؛ حتّى يحسن تقليده والسكون إلى نصيحته وأمانته» ثمّ ذكر اشتراط الأعلمية إذا تعدّد العلماء(1).

ويتعرّض السيّد في كتابه هذا للعامّة وشبهاتهم، كما يظهر من مخاطبته لهم.

2- الشيخ الطوسي والاجتهاد والتقليد: تميّز شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (م 460 ه) بالإحاطة الكاملة بآراء المتكلّمين والاصوليين من العامّة، وبإرثه لعلم متقدّمي الأصحاب القائم على أساس مدرسة النصّ ومدرسة العقل، ولذا أنكر الاجتهاد بما له من المعنى عند العامّة؛ أي القياس، فقال في الفصل الأوّل من كتابه «العُدّة في اصول الفقه» ما لفظه: «وأمّا القياس والاجتهاد، فعندنا أنّهما ليس بدليلين، بل محظور استعمالهما، ونحن نبيّن ذلك فيما بعد، ونبيّن أيضاً ما عندنا في صفة المفتي والمستفتي»(2).

ثمّ عقد الباب الحادي عشر للكلام في الاجتهاد، وأورد في الفصل الأوّل منه اختلاف آراء متكلّمي العامّة وفقهائهم في أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي


1- الذريعة 2: 800 ..
2- العدّة في اصول الفقه 1: 8 و 10 ..

ص: 15

حكمه، أو أنّ الحقّ في واحد فقط؟ ثمّ قال: «الذي أذهب إليه- وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين المحقّقين من المتقدّمين والمتأخّرين، وهو الذي اختاره سيّدنا المرتضى رحمه الله وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبداللَّه رحمه الله- أنّ الحقّ واحد، وأنّ عليه دليلًا من خالفه كان مخطئاً فاسقاً»(1)، وذكر أنّ الأصل في هذه المسألة، القول بالقياس والعمل بأخبار الآحاد التي اختصّ المخالف بروايتها(2).

فيستفاد من كلامه هذا، أنّ الاجتهاد في كلامه وفي عصره كان عنواناً للقياس المحظور عندنا، وعلى هذا الأساس أيضاً نفى اجتهاد الرسول في الأحكام في الفصل الثالث من هذا الباب(3).

كما يستفاد منه أنّ العامّي، لابدّ أن يرجع إلى الفتوى الصادرة من العالم بالأحكام الشرعية، وبمقدّمات العلم بها، ويعبّر عندنا عن هذا العالم بالمفتي، وعن العامّي المراجع إليه بالمستفتي.

وذكر: «أ نّه يشترط في المفتي أن يكون عالماً بالعقائد، واصول استنباط الأحكام؛ من الكتاب، والسنّة، والإجماع، دون القياس، والاجتهاد. وأ نّه يشترط في المستفتي أن لا يكون قادراً على البحث والتفتيش عن أدلّة الأحكام»(4).

واستدلّ على جواز تقليد العامّي للعالم في الأحكام، بالسيرة المتشرّعية منذ عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى زمانه؛ من غير نكير من أحد ومن الأئمّة عليهم السلام. أمّا في العقائد، فلا يجوز التقليد؛ لقيام الأدلّة العقلية والشرعية على بطلانه، وأنّ المقلّد فيها


1- العدّة في اصول الفقه 2: 726 ..
2- نفس المصدر ..
3- نفس المصدر: 733- 735 ..
4- نفس المصدر: 727- 729 ..

ص: 16

غير مؤاخذ به ومعفوّ عنه؛ ولو كان مخطئاً لاعتقاده الحقّ، وإن لم يسند ذلك إلى حجّة عقل، أو شرع(1).

ابن إدريس الحلّي والاجتهاد: تمكّن الشيخ الطوسي من الهيمنة بآرائه على أعلام مفكّري الشيعة نحو قرنٍ كامل؛ حتّى قيل: «إنّ علماء هذا القرن كانوا مقلّدة لشيخ الطائفة قدس سره» إلى أن جاء دور ابن إدريس الحلّي (م 598 ه) في إحياء الاجتهاد بالمعنى المعروف منه عند أصحابنا في القرون الاولى؛ حيث قال: «القياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا»(2)، فهذا التعبير نصّ في تداول التعبير عن القياس وأخويه بالاجتهاد، وفي كونها موضع إنكار فقهائنا الإمامية القدامى.

ولكنّه في نفس الوقت، سلك طريق الاستنباط والاستدلال على الفروع الفقهية، واستعان في ذلك بالمسائل الاصولية، واللغوية، والعرفية، والعلوم الروائية، وغيرها(3).

ملامح المرحلة الثانية: تعدّ هذه المرحلة مرحلة تطوّر العلوم الإسلامية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام وقد اتسمت بملامح خاصّة، إليك بعضاً منها:

الاولى: الفصل الجذري بين البحوث الإسلامية، وتخصيص كلّ منها بدراسة معيّنة، فكتبوا في الاصول دراسات خاصّة به، وكذا في الكلام، والفقه، وغيرها من العلوم؛ في حين لم يكن كثير من مباحث المرحلة السابقة، مستقلّة في التدوين، بل كان فيها اختلاط واضح.


1- العدّة في اصول الفقه 2: 730 و 731 ..
2- السرائر 2: 170 ..
3- راجع لمزيد من الاطّلاع على مواضع تطبيقه لهذه المسائل، كتاب« زندگى وانديشه هاى ابن إدريس» ..

ص: 17

الثانية: ظهور الكتب الاستدلالية بنحو موسّع في مختلف مجالات البحث، ومنها المباحث الاصولية وتعدّ كتب الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي قدست أسرارهم من أوائل الدراسات الاصولية الاستدلالية للشيعة الإمامية، والتي عالجوا فيها أهمّ مسائلها، ومنها مبحث الاجتهاد والتقليد، بينما لم يكن البحث معنوناً في الكتب السابقة استقلالًا.

الثالثة: أنّ الفقهاء اختلفوا في تحديد مصطلح الاجتهاد؛ فذهب بعضهم إلى أنّ المراد منه ما يساوي القياس العامّي المنهي عنه، وذهب آخر إلى أنّه الفقاهة والعلم واستنباط الأحكام من الأدلّة المعتبرة الشرعية، ولذا أنكر الاجتهاد بعضهم أخذاً بالمعنى الأوّل، بينما أثبته بعضهم أخذاً بالمعنى الثاني.

الرابعة: أنّ مسائل الاجتهاد والتقليد في هذه المرحلة، لا تتجاوز بضع مسائل مهمّة أصلية، فكانت محدودة أشدّ التحديد.

المرحلة الثالثة: تطوّر مصطلح الاجتهاد عند الإمامية

قد عرفت ممّا مرّ اقتران مصطلح الاجتهاد بنوع من الكراهية والنفور في أذهان فقهاء الإمامية، وذلك نتيجة وقوف الأئمّة المعصومين عليهم السلام بوجه القياس في الدين، وإبطاله بأشدّ ما يمكن من الأدلّة والحجج، إلّاأنّه- فيما نعلم- تطوّر هذا المصطلح على يد المحقّق الحلّي (م 676 ه) حيث عقد باباً لبيان حقيقة الاجتهاد قال فيه:

«الاجتهاد في عرف الفقهاء: بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً؛ لأنّها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياساً، أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.

ص: 18

فإن قيل: يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد.

قلنا: الأمر كذلك، لكن فيه إيهام؛ من حيث إنّ القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثني القياس، كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس»(1).

ثمّ بحث في الفصل الثاني من ذلك الباب عن القياس(2). وتعرّض في الباب العاشر من الكتاب لذكر مسائل في المفتي والمستفتي(3)، وبيّن أحكام التقليد والإفتاء في هذا المبحث.

فاتّضح بما ذكرناه: أنّ الخلاف في حقيقة الاجتهاد وانطباق مفهومه على القياس في برهة من الزمان، لم يؤثّر في مسألة التقليد، فهي كانت مسلّمة عند الكلّ، وإنّما الخلاف في تسمية الاجتهاد فقط، وهذا الخلاف زال على يد المحقّق الحلّي قدس سره.

نعم، تعرّض المحقّق الحلّي أيضاً لخلاف بعض المعتزلة في جواز التقليد مطلقاً، وردّهم بالدليل(4)، كما تعرّض لخلاف الحشوية القائلين بجواز التقليد في العقائد واصولها(5).

ويشهد كلامهم في بيان شروط القاضي، على تعارف الاجتهاد بمعناه الحقّ عند أصحابنا القدامى؛ وإن أطلقوا عليه اسم «الفقيه» أو «العالم»، قال الشيخ المفيد في «المقنعة»: «لابدّ أن يكون القاضي عاقلًا، كاملًا، عالماً بالكتاب، وناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، وندبه وإيجابه، ومحكمه ومتشابهه، عارفاً بالسنّة، وناسخها


1- معارج الاصول: 179- 180 ..
2- نفس المصدر: 182 ..
3- نفس المصدر: 197 وما بعدها ..
4- نفس المصدر: 197 ..
5- نفس المصدر: 199 ..

ص: 19

ومنسوخها، عالماً باللغة، مطّلعاً بمعاني كلام العرب، بصيراً بوجوه الإعراب، ورعاً عن محارم اللَّه عزّ وجلّ، زاهداً في الدنيا، متوفّراً على الأعمال الصالحات، مجتنباً للذنوب والسيّئات، شديد الحذر من الهوى، حريصاً على التقوى»(1).

وقد تكرّر هذا المضمون في كتب أصحابنا، ك «الكافي في الفقه»(2)، و «النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى»(3)، و «المهذّب»(4)، و «غنية النزوع»(5)، و «الوسيلة إلى نيل الفضيلة»(6)، و «إصباح الشيعة بمصباح الشريعة»(7)، و «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى»(8)، و «شرائع الإسلام»(9)، و «مختصر النافع»(10). واستمرّ هذا التعبير في العصور المتأخّر أيضاً، إلّاأنّه قد يعبّر عن الفقيه بالمجتهد.

نعم، في هذه المرحلة ذهب بعض علماء حلب- خلافاً لأكثر الإمامية- إلى وجوب الاستدلال على العوامّ، واكتفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع، أو النصوص الظاهرة، أو أنّ الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضارّ الحرمة، مع فقد نصّ قاطع في متنه ودلالته، والنصوص محصورة(11).


1- سلسلة الينابيع الفقهية 11: 19- 20 ..
2- نفس المصدر: 53 ..
3- نفس المصدر: 77 ..
4- نفس المصدر: 129 ..
5- نفس المصدر: 189 ..
6- نفس المصدر: 199 ..
7- نفس المصدر: 223 ..
8- نفس المصدر: 234 ..
9- نفس المصدر: 302 ..
10- نفس المصدر: 355 ..
11- ذكرى الشيعة 1: 41 ..

ص: 20

ومن جملة علماء حلب المشار إليهم، أبو الصلاح الحلبي، والسيّد أبوالمكارم ابن زهرة الحلبي، وغيرهما من أعلام تلك الناحية.

ولكن خالفهم الأكثر، بل جميع أصحابنا منذ أقدم فقيه تعرّض للمسألة. هذا.

وتحتاج دراسة آراء مخالفي التقليد والحكم بوجوب الاجتهاد عيناً في القرنين السادس والسابع الهجري، إلى تفصيل لايتسع المقام لإيراده.

ملامح هذه المرحلة: يمكن تلخيص ملامح هذه المرحلة حول الاجتهاد والتقليد في امور:

الأوّل: استقرار اصطلاح الاجتهاد على المعنى المقبول الإمامي، وتبيين المراد من المصطلح، وتمييزه عن المصطلح العامّي؛ وذلك على يد المحقّق الحلّي.

الثاني: تفرّد مدرسة حلب بإيجاب الاجتهاد العيني على جميع المكلّفين، وحرمة التقليد عليهم. وقد أنكر المتأخّرون هذا الرأي أشدّ الإنكار، كما سنشير إليه.

الثالث: أنّه ونتيجة لهذا الخلاف الأساسي، لم يوضّح في مباحث الاجتهاد والتقليد، الكثير من الفروع المحتاج إليها، وبقيت على سذاجتها.

المرحلة الرابعة: دور المتأخّرين في تطوّر مباحث الاجتهاد والتقليد

تطوّر البحث عن الاجتهاد والتقليد على يد العلّامة الحلّي (م 627 ه) والذي يعدّ من أوائل الفقهاء المتأخّرين، فقد تعرّض في كتابه «مبادئ الوصول إلى علم الاصول» إلى الاجتهاد وتوابعه، وبيّن حقيقة الاجتهاد، وثبوته للعلماء دون المعصومين عليهم السلام وشروط المجتهد، وتصويبه، وتفسير الاجتهاد، وجواز التقليد، وشروط الاستفتاء، وإفتاء غير المجتهد، واستفتاء من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد،

ص: 21

وجواز التجزّي في الاجتهاد، ووجوب تقليد الأعلم مهما أمكن، وعدم جواز تقليد الميّت(1).

وبهذا يكون قد توسّع في مباحث الاجتهاد والتقليد بما لم يتوسّع فيها أحد قبل عصره.

ثمّ اقتفى أثره الشهيد الأوّل (م 786 ه) في مقدّمة «ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة» فأثبت وجوب التقليد؛ خلافاً لبعض قليل من القدماء وفقهاء حلب، واعتبر اموراً ثلاثة عشر في الفقيه المفتي؛ استناداً إلى مقبولة عمر بن حنظلة، واعتبر أيضاً رأي الأعلم، واشترط الحياة في المفتي(2).

مباحث الاجتهاد والتقليد في القرن العاشر

كان لأعلام القرن العاشر دور مهمّ وأساسي في المرحلة الرابعة من مسيرة الاجتهاد والتقليد، فقد ازدهر البحث عن الاجتهاد والتقليد ومباحثه المهمّة على يد الشيخ زين الدين بن علي العاملي المشهور بالشهيد الثاني (م 966 ه) وقد بحث عن هذا الموضوع في عدّة مواضع:

فتارةً: في عداد المسائل الفقهية في شرحه على «الشرائع» في مبحث القضاء(3).

وتارةً: في عداد القواعد الاصولية من كتابه «تمهيد القواعد» حيث بحث في المقصد السابع عن جواز التقليد على العامّي، دون المجتهد، ووجوب تقليد الأعلم، وتخطئة المجتهد(4).


1- مبادئ الوصول إلى علم الاصول: 240- 250 ..
2- ذكرى الشيعة 1: 41- 44 ..
3- مسالك الأفهام 13: 328 وما بعده ..
4- تمهيد القواعد: 317- 321 ..

ص: 22

وثالثة: بإفراد رسائل في هذا المعنى نذكرها آنفاً.

كما ظهرت في هذه المرحلة عدّة رسائل خاصّة بهذا الموضوع ومسائله، إليك بعضاً منها:

1- «قبس الاقتداء» أو «الاهتداء في شرائط الإفتاء والاستفتاء» للشيخ محمّد بن علي بن جمهور الإحسائي (م 901 ه) صاحب «الغوالي» وفيه مباحث الاجتهاد والتقليد.

2- «وجوب الاجتهاد على جميع العباد عند عدم المجتهدين» لنور الدين بن علي بن عبدالعالي الكركي (م 940 ه).

3- «مقالة في المنع عن تقليد الميّت بل عن البقاء عليه» له أيضاً.

ومن المحتمل قويّاً اتّحاد هذه المقالة مع سابقتها؛ حيث أشار المحقّق الطهراني في هذه المقالة إلى محتوى الرسالة السابقة الذكر.

4- «الرسالة الاجتهادية» للشيخ زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (م 966 ه) وفي «كشف الحجب» ذكره بعنوان «رسالة في الاجتهاد».

5- «تقليد الميّت» له أيضاً، طبع ضمن رسائله(1).

6- «تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد» له أيضاً، وهو رسالة مختصرة تعرّض فيها لمقامين: أوّلهما: أنّ الاجتهاد يجب على المكلّفين عند خلوّ العصر من المجتهد، ثانيهما: أنّه إذا مات المجتهد لم يعتبر قوله شرعاً. طبع ضمن رسائله(2).

ولعلّها نفس الرسالة المشار إليها بعنوان «الرسالة الاجتهادية».

7- «تقليد الميّت» لبعض معاصري الشهيد الثاني، واحتمل في «الرياض»


1- رسائل الشهيد الثاني 1: 26- 56 ..
2- نفس المصدر: 3- 17 ..

ص: 23

أ نّه للسيّد فضل اللَّه الإسترآبادي.

8- «تقليد الميّت» للشيخ عبداللطيف ابن الشيخ نور الدين علي ابن الشيخ شهاب الدين أحمد الجامعي.

وبهذا يظهر من عناوين هذه الكتب والرسائل وما يحكى عن محتوياتها: أنّ البحث عن إمكان خلوّ زمان عن المجتهد وكذا البحث عن حكم تقليد الميّت، كان من المسائل المبحوث عنها؛ بحيث انبعث بعض الأعلام لتأليف رسائل في هاتين المسألتين.

ملامح المرحلة الرابعة: لهذه المرحلة عدّة ميّزات:

الاولى: تفنيد الفقهاء الفحول في هذه المرحلة رأي فقهاء حلب في عدم جواز التقليد، حيث ردّوا وجوب الاجتهاد عيناً على المكلّفين. وكان هذا حجراً أساسياً لتطوّر بحث الاجتهاد والتقليد؛ وتقدّمه نحو الأفضل.

الثانية: توسّع مباحث الاجتهاد والتقليد نسبياً؛ حيث تعرّضوا لتعريف الاجتهاد، وشروط المجتهد، وأدلّة جواز التقليد، ولزوم تقليد الأعلم، وحياته، والتخطئة والتصويب، والتجزّي في الاجتهاد، كما ذكروا شروط الإفتاء والاستفتاء.

الثالثة: ظهور الكثير من الرسائل الخاصّة في مسائل الاجتهاد، خصوصاً مسألة الاجتهاد؛ وهل يجب على المكلّفين عيناً، أم لا، وكذا في مسائل التقليد، خصوصاً تقليد الميّت ابتداءً وبقاءً، فقد أثبته بعضهم، وردّه آخر.

الرابعة: إدراج البحث عن الاجتهاد والتقليد في المباحث الفقهية على يد الشهيد الثاني؛ بعد ما كان يعدّ في المراحل السابقة من المسائل الاصولية، وقد استمرّ الأمر على هذه الوتيرة لعدّة قرون.

ص: 24

المرحلة الخامسة: ظهور الحركة الأخبارية في القرنين الحادي والثاني عشر

أوّلًا: مباحث الاجتهاد والتقليد في القرن الحادي عشر

تعدّ الحركة الأخبارية والصراع الثقافي الذي أفرزته، أعظم ما اتفق في تأريخ الفقه الإمامي، وكان على رأس هذه الحركة الشيخ محمّد أمين الإسترآبادي (م 1033 ه) وقد استندت إلى اصول دوّنوها في كتب ورسالات متعدّدة.

ومن أهمّ ميّزات هذه النزعة إنكارهم للاجتهاد المصطلح، فقد عقد الإسترآبادي الفصل الأوّل من كتابه في اثنتي عشرة مقدّمة(1)، استنتج منها عدم اعتبار طريقة الاجتهاد المتعارف بين الاصوليين في الوصول إلى الأحكام الشرعية. كما ادعى وجود طريق بديل للاجتهاد، وبيّنه في الفصل الثاني إلى الفصل السابع من كتابه(2).

وخصّ الفصل الثامن لدفع الشبهات الموثوق بصدورها المتوجّهة إلى مسلكه(3).

أمّا تصريحه بنفي المجال للاجتهاد المصطلح، فقد كرّره ببيانات مختلفة:

منها: ما ذكره في الوجه الثاني عشر لإبطال التمسّك بالاستنباطات الظنّية:

«من أنّهم» أي الاصوليين «صرّحوا بأنّ محلّ الاجتهاد مسألة لم تكن من ضروريات الدين، ولا من ضروريات المذهب، ولم تكن للَّه دلالة قطعية عليها، ونحن قد أثبتنا أنّ للَّه عزّوجلّ في كلّ واقعة- تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة- حكماً معيّناً، ودليلًا قطعياً عليه، وأنّ كلّ الأحكام والدلالات القطعية عليها» أي النصوص الصريحة فيها «محفوظ عند معادن وحي اللَّه تعالى، وخزّان


1- الفوائد المدنية: 180- 253 ..
2- نفس المصدر: 254- 310.
3- نفس المصدر: 310- 370 ..

ص: 25

علمه، والناس مأمورون بطلبها من عندهم»(1).

ومنها: ما في الفصل الرابع الذي عقده لإبطال انقسام المكلّف إلى المجتهد والمقلّد، قال: «يجوز لفاقد الملكة المعتبرة في المجتهد، أن يتمسّك في مسألة مختلف فيها بنصّ صريح خالٍ عن المعارض؛ لم يبلغ صاحب الملكة، أو بلغ ولم يطّلع على صحّته، ولا يجوز له أن يتركه ويعمل بظنّ صاحب الملكة المبني على البراءة الأصلية، أو استصحاب، أو عموم، أو إطلاق»(2).

ومنها: ما في الفصل السابع الذي عقده لبيان من يجب الرجوع إليه في القضاء والإفتاء، حيث ذكر عدّة أخبار استنتج منها أنّ الأحاديث الناطقة بأمرهم عليهم السلام بالرجوع في الفتوى والقضاء إلى رواة أحاديثهم وأحكامهم، متواترة معنىً، وتلك الأحاديث صريحة في وجوب اتباع الرواة فيما يروونه عنهم عليهم السلام من الأحكام النظرية، وليست فيها دلالة أصلًا على جواز اتّباع ظنونهم الحاصلة من ظواهر كتاب اللَّه، أو أصل، أو استصحاب، أو غيرها، ولا دلالة فيها على اشتراط أن يكون الرواة المتَّبعون، أصحاب الملكة المعتبرة في المجتهدين، ومن المعلوم أنّ المقام مقام البيان والتفصيل، فيعلم بقرينة المقام- علماً عادياً قطعياً- بأنّ تلك الظنون وكذلك تلك الملكة، غير معتبرين عندهم.

وذكر أيضاً: «أنّ من جملة غفلات المتأخّرين من أصحابنا- كالعلّامة الحلّي، والمحقّق الحلّي في اصوله؛ لا في معتبره، وكالشهيد الأوّل، والثاني، والفاضل الشيخ علي قدّس اللَّه أرواحهم- أنّهم زعموا أنّ المراد من تلك الأحاديث المجتهدون»(3).


1- الفوائد المدنية: 249- 250 ..
2- نفس المصدر: 263 ..
3- نفس المصدر: 305 ..

ص: 26

كما صرّح بعدم مشروعية التقليد المصطلح عندهم، وأنّ اللازم هو تقليد المعصوم بأخذ رواياته والعمل بها، قال: «فائدة: كما لا اجتهاد عند الأخباريين، لا تقليد أيضاً، فانحصر العمل- في غير ضروريات الدين- في الرواية عنهم عليهم السلام»(1).

كما ذهبوا إلى جواز تقليد الميّت؛ بناءً على لزوم الرجوع إلى رواة الأخبار و من يستنبط من الأخبار، دون المباني الظنّية، فقد صرّح الإسترآبادي بذلك قائلًا:

«فائدة: ما اشتهر بين المتأخّرين من أصحابنا: من أنّ قول الميّت كالميّت؛ لا يجوز العمل به بعد موته، المراد به ظنّه المبني على استنباط ظنّي، وأمّا فتاوى الأخباريين من أصحابنا، فهي مبنية على ما هو صريح الأحاديث، أو لازمه البيّن، فلا تموت بموت المفتي»(2).

ثمّ تبعه جمع من الطائفة، واشتهروا بالطائفة الأخبارية. وقد ألّفوا في تشييد أركان الأخبارية ووجوه تمايزهم عن الاصوليين، كتباً ورسائل متعدّدة. وبعض هذه الكتب بيّن الطريقة الأخبارية بوجه أحسن وأضبط، ك «هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار» تأليف الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي (م 1076 ه) واستمرّت الدعوة إلى هذه الطريقة ودعم تعاليمها أكثر فأكثر.

ولكنّها واجهت من ناحية الاصوليين الردّ والإنكار البليغين، فكتبوا في ردّ هذه الطريقة الكثير من الكتب؛ على حدّ ما ألّفه الأخباريون في نصرة طريقتهم.

ومن البديهي أن تكون خصوص مسألة الاجتهاد ومصادره ومبانيه- وبتبعها مسألة التقليد- مركزاً للنزاع والصراع آنذاك، فكانت مسيرة البحث عن الاجتهاد والتقليد


1- الفوائد المدنية: 300 ..
2- نفس المصدر: 299 ..

ص: 27

في القرن الحادي عشر، على وتيرة ما كان في القرن العاشر، فكتبوا في هذا الموضوع عدّة رسائل مهمّة، إليك بعضاً منها:

1- «الغنية في مهمّات الدين من تقليد المجتهدين» للسيّد حسين بن الحسن الموسوي الغريفي البحراني (م 1001 ه).

2- «معالم الدين وملاذ المجتهدين» لجمال الدين الحسن بن زين الدين (م 1011 ه) وقد عقد مؤلّفه قدس سره المطلب التاسع من الكتاب في الاجتهاد والتقليد، وتعرّض لآراء الشيخ الطوسي، والسيّد المرتضى، والمحقّق والعلّامة الحلّيين، والشهيدين، وفي هذا المطلب بيّن اصولًا: فأصل: في إمكان تجزئة الاجتهاد، وأصل:

في شروط الاجتهاد المطلق، وأصل: في التخطئة والتصويب، وأصل: في التقليد وجوازه، وأصل: في عدم جواز التقليد في العقائد، وأصل: في شروط المفتي، وأصل:

في تجديد النظر في الفتوى، وأصل: في تقليد الميّت.

3- «مشكاة القول السديد في معنى الاجتهاد والتقليد» له أيضاً.

4- «سلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد» للسيّد ماجد بن هاشم بن علي بن مرتضى الحسيني الحفصي (م 1028 ه).

5- «تقليد الميّت» للشيخ محمّد بن جابر بن عبّاس العاملي النجفي تلميذ الشيخ محمّد سبط الشهيد الثاني (م 1030 ه) وهو رسالة مختصرة صرّح فيها بحرمة تقليد الميّت.

6- «جواز التقليد» للشيخ زين الدين علي بن سليمان بن درويش بن حاتم (م 1064 ه).

7- «رسالة في حرمة التقليد» له أيضاً.

8- «زبدة الاصول» لبهاء الدين محمّد العاملي المشهور بالشيخ البهائي

ص: 28

(م 1031 ه) وهي رسالة موجزة في علم الاصول، تعرّض في المنهج الرابع منها لحكم الاجتهاد والتقليد.

9- «الفوائد المدنية» للمولى محمّد أمين الإسترآبادي (م 1036 ه) وقد أشرنا لإنكاره الاجتهاد فيه.

10- «الوافية في اصول الفقه» للمولى عبداللَّه بن محمّد البشروي الخراساني المشهور بالفاضل التوني (م 1071 ه) وقد عقد مؤلّفه الباب الخامس من كتابه في الاجتهاد والتقليد، وفيه مباحث أربعة: ثلاثة منها في الاجتهاد، وواحد في التقليد، وقد تعرّض في مباحث الاجتهاد لكلام الأخباريين، وردّ عليهم، ولكن تركّزت مباحث التقليد على تقليد الميّت، وذكر فيه أدلّة المجوّزين والمانعين، واختار تفصيلًا حاصله: أنّ الفتوى إن كانت مستندة إلى منطوق الأدلّة، فيجوز تقليد مفتيها حيّاً وميّتاً، وأمّا إن لم يعلم من حال المفتي إلّاأنّه يعمل باللوازم غير البيّنة، فيشكل تقليده حيّاً وميّتاً(1).

11- «هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار» للشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي (م 1076 ه) وقد عقد الفصل السادس من الكتاب في الاجتهاد والتقليد، وذهب إلى أنّ المنفي في نظر منكري الاجتهاد، هو التقليد عند المتأخّرين؛ بمعنى عمل العامّي بقول المجتهد فيما يرجّحه ظنّه في فروع الشريعة، وأمّا عند قدماء أصحابنا الإمامية، فهو رجوع العامّي إلى قول المعصوم في امور دينه ولو بواسطة يوثق بنقله. وأوّلَ إنكار الحلبيين للاجتهاد إلى إنكارهم جواز العمل بما يستند إلى رأي، أو اجتهاد، وأ نّه يجب على كلّ مكلّف الاجتهاد


1- الوافية في اصول الفقه: 307 ..

ص: 29

والسعي في تحصيل ما ورد من المعصوم عليه السلام(1).

وذكر في الفصل السابع: «أنّ متأخّري أصحابنا لمّا رأوا كثرة المجتهدين من الموتى، وما هم عليه من الاختلاف في الفتوى، أرادوا رفع الخلاف والمنازعة، ولم يمكنهم القول بوجوب تقليد مجتهد معيّن من الموتى؛ لعدم المرجّح، ولا العمل بالكلّ؛ لتعذّر ذلك، فحكموا بوجوب تقليد المجتهد الحيّ، وطرح قول الميّت، وصار عندهم قول الميّت كالميّت، من جملة الأمثال المشهورة» وأ نّهم وادعوا على ذلك الإجماع، والحال أنّ كتب القدماء خالية من هذا القول. وأنّ هذا كان في بداية الأمر تدبيراً سياسياً من العامّة، ثمّ اضطرّوا إلى أن يحصروا الاجتهاد في أئمّتهم. ثمّ خلص إلى أن كلّ قول يستند إلى كلام الأئمّة، فهو باقٍ لا يموت بموت قائله(2).

12- «الاصول الأصلية» للمولى محمّد محسن الفيض الكاشاني (م 1091 ه) وقد أكّد المؤلّف فيه على لزوم التفقّه في الدين لكلّ مكلّف، وعدم اعتبار الظنون في العقائد والأحكام.

13- «سفينة النجاة» له أيضاً، أورد فيها الآيات والأخبار وكلام القدماء وغيرهم في ذمّ الاجتهاد، وبيّن ما يترتّب عليه من المفاسد والآثار.

14- «الاجتهاد والأخبار» للمدقّق الميرزا محمّد بن الحسن الشيرواني (م 1098 ه) وهو من أصهار المولى محمّد تقي المجلسي.

15- «استنباط الأحكام» له أيضاً. وله أقوال خاصّة في الفروع، ينكر عليه منها قوله بوجوب الاجتهاد عيناً على كلّ أحد.

16- «تقليد الميّت وأ نّه لا قول له» له أيضاً.


1- هداية الأبرار: 300 ..
2- نفس المصدر: 303- 304 ..

ص: 30

17- «السؤال والجواب عن المسائل الفقهية» مثل جواز التقليد والإفتاء، له أيضاً.

18- «النبذة في مسائل الاجتهاد» لمحمّد بن الحارث المنصوري الجزائري من تلامذة المحقّق الكركي.

19- «تقليد الميّت» للشيخ عبداللطيف بن نورالدين علي بن شهاب الدين أحمد بن أبي جامع الحارثي الهمداني الشامي العاملي تلميذ البهائي وصاحبي «المعالم» و «المدارك».

فتحصّل ممّا مرّ ظهور الحركة الأخبارية في هذا القرن على يد المولى محمّد أمين الإسترآبادي، وأنّ مسلكها يختلف عن مسلك الاصوليين في عدّة نقاط، من أهمّها نفيهم لمشروعية الاجتهاد، وعدم تجويزهم تقليد غير المعصوم؛ وإن اختلفت حدّة تعابيرهم- شدّة وضعفاً- في هذا الموضوع. ولكنّهم يرون جواز العمل بآراء المحدّثين؛ لاستنباطهم الأحكام من كلام الأئمّة عليهم السلام فتكون آراء من هذه صفته حجّة؛ سواء كان حيّاً، أو ميّتاً، ولذا ترى ظهور كثير من الرسائل العلمية حول تقليد الميّت في هذه الحقبة الزمنية.

ثانياً: مباحث الاجتهاد والتقليد في القرن الثاني عشر

انتشرت الحركة الأخبارية في بداية هذا القرن في جميع المراكز العلمية الشيعية في العراق وإيران، وأ لّفوا رسائل في مختلف مسائل الاجتهاد والتقليد، كما ردّهم في ذلك كلّه بعض أعلام الاصوليين، ومن جملة ما كتبه الفريقان في هذا المضمار:

1- «تقليد الميّت» للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (م 1104 ه).

2- «جواز العمل بكتب الفقهاء» نسب للسيّد نعمة اللَّه المحدّث الجزائري (م 1112 ه).

ص: 31

3- «تقليد الميّت» للشيخ سليمان بن عبداللَّه الماحوزي (م 1121 ه) وكان من أعلام الأخباريين.

4- «جواز التقليد» له أيضاً.

5- «العشرة الكاملة» له أيضاً، وهي عشر مسائل في عشرة فصول؛ كلّها في الاجتهاد والتقليد.

6- «وجوب الاجتهاد عيناً» للميرزا حيدرعلي بن محمّد بن الحسن المدقّق الشيرواني (م 1129 ه).

7- «الفوائد الاثني عشرية» لبعض تلاميذ المولى محمّد باقر المجلسي، وتقع الفائدة الثانية عشرة في الاجتهاد والتقليد وعدم جواز خروج المكلّف عنهما.

8- «الاجتهاد والتقليد» للمولى محمّد رفيع الدين بن فرج الجيلاني المشهدي (م 1161 ه) استاذ السيّد عبداللَّه الجزائري.

9- «الذخيرة الباقية في أجوبة المسائل الجبلية الثانية» للسيّد عبداللَّه بن نور الدين ابن المحدّث الجزائري الموسوي التستري (م 1173 ه) أجاب فيها عن ثلاثين مسألة، وفصّل الكلام في مسألة تقليد الميّت.

10- «انس الفؤاد في حقيقة الاجتهاد» للشيخ محمّد علي المعروف بالشيخ علي الحزين (م 1181 ه).

11- «إرشاد النقّاد إلى تيسير الاجتهاد» للسيّد محمّد بن إسماعيل بن صلاح الأمير اليماني (م 1182 ه).

12- «منبع الحياة في حجّية قول المجتهدين من الأموات» للشيخ إبراهيم بن سليمان العاملي، كان حيّاً في أواسط القرن الثاني عشر، ومن العلماء المتأخّرين عن الشيخ الحرّ. وقد حكم في هذه الرسالة بجواز تقليد الميّت.

ص: 32

ملامح المرحلة الخامسة: أثّرت الحركة الأخبارية بنحو بارز في مباحث الاجتهاد والتقليد، فتميّزت هذه المرحلة بعدّة ميّزات:

الاولى: ازدهار الحركة الأخبارية، وتصدّيها للاجتهاد والتقليد المبنيين على أساس الفكرة الاصولية المنقّحة في طيّ المراحل السابقة.

الثانية: قيام الأعلام الاصوليين في قبال النزعة الأخبارية، وإلزامهم تلك النزعة بإصلاح دعاويهم، والاستدلال عليها، وتطويرها نحو الواقع العلمي.

الثالثة: صيرورة مسألة جواز الاجتهاد وجواز التقليد، مورداً للبحث بين الأخباريين والاصوليين، وكذا صارت مسألة جواز تقليد الميّت من صلب الصراع بين النزعة الأخبارية والاصولية.

المرحلة السادسة: عصر افول الحركة الأخبارية

قد استمرّ أمر الأخبارية على هذه الوتيرة، إلى أن وصلت النوبة إلى الفقيه الأخباري المعتدل الشيخ يوسف البحراني (م 1186 ه) فعدل عن طريقة الأخباريين المتشدّدين المتعصّبين إلى طريقة وسطى؛ وذلك بحكم ما اوتيه من دقّة، وورع، وإنصاف. ولابدّ أن نذعن بأنّ هذا العدول- على مستوى كبير- مدين لزميله الاصولي الشيخ محمّد باقر بن محمّد أكمل؛ الشهير بالوحيد البهبهاني (م 1206 ه) وإن ظهرت جذوره في وقت مبكّر قبل تلاقيهما، فقد صرّح الشيخ يوسف البحراني بهذه الحقيقة قائلًا: «وقد كنت في أوّل الأمر ممّن ينتصر لمذهب الأخباريين، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين ... إلّاأنّ الذي ظهر لي- بعد إعطاء التأمّل حقّه في المقام، وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام- هو إغماض النظر عن هذا الباب، وإرخاء الستر دونه والحجاب».

ص: 33

ثمّ ذكر وجهين لاتخاذ هذا المرام الجديد. واعتبر صاحب «الفوائد المدنية» أوّل من رفع صيت هذا الخلاف، وعابه في تجريد لسان التشنيع على الأصحاب(1).

وبحسب رؤية البحراني، فإنّ الناس في وقت الأئمّة عليهم السلام مكلّفون بالرجوع إليهم، والأخذ عنهم مشافهة، أو بواسطة، أو وسائط، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين كافّة العلماء؛ من أخباري ومجتهد. وأمّا في زمان الغيبة- كزماننا هذا وأمثاله- فإنّ الناس فيه إمّا عالم، أو متعلّم، وبعبارة اخرى: إمّا فقيه، أو متفقّه، وبعبارة ثالثة: إمّا مجتهد، أو مقلّد.

وهذا العالم والفقيه الذي يجب على من عداه الرجوع إليه، لابدّ أن تكون له ملكة استنباط الأحكام الشرعية من الأدلّة التفصيلية؛ إذ ليس كلّ أحد من الرعية والعامّة، ممّن يمكنه تحصيل الأحكام من تلك الأدلّة، واستنباطها منها.

ولا ريب في أنّ من كان قاصراً عن هذه المرتبة العلية والدرجة السنية، لا يجوز الأخذ عنه، ولا الاعتماد على فتواه، كيف لا؟! والروايات- على ما هي عليه من الإطلاق والتقييد، والإجمال والاشتباه- متصادمة في جملة الأحكام، واستنباط الحكم الشرعي منها يحتاج إلى مزيد قوّة؛ وملكة راسخة قدسية.

نعم، بقي الكلام في أمر آخر؛ وهو أنّ ذلك الفقيه إن استند في استنباطه الأحكام إلى الكتاب والسنّة، فهذا ممّا وقع الاتّفاق على الرجوع إليه، وإن كان إنّما استند إلى أدلّة اخرى- من إجماع، أو دليل عقل، أو نحوهما- فهذا هو الذي منعه الأخباريون، وشنّعوا به على المجتهدين(2).

ففي نظر البحراني لا يكون الخلاف بين الأخباري والاصولي إلّافي الاستناد


1- الحدائق الناضرة 1: 167؛ الدرر النجفية 3: 287 ..
2- الدرر النجفية 3: 293- 294، بتلخيص منّا مع التحفّظ على ألفاظه ..

ص: 34

إلى بعض المصادر، والخلاف بينهم لا يزيد عن الخلاف بين الاصوليين أنفسهم، وكذا بين الأخباريين أنفسهم، ويرى أنّ ما ذكر من مناط الفرق بين المسلكين، إمّا أن يكون من جملة المسائل التي اختلفت فيها الأنظار، وتصادمت فيها الآراء والأفكار، أو أنّ ذلك القول كان ناشئاً عن بعض هذه الأشياء المذكورة(1).

ولكن ربما حاد بعضهم- أخبارياً كان، أو مجتهداً- عن الطريق غفلة، أو توهّماً، أو لقصور اطّلاع، أو قصور فهم، أو نحو ذلك في بعض المسائل، وهذا لا يوجب تشنيعاً، ولا قدحاً.

وجميع المسائل التي جعلوها مناط الفرق بين الأخباري والاصولي، من هذا القبيل، كما لا يخفى على من خاض بحار التحصيل؛ فإنّا نرى كلًاّ من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل، بل ربما خالف أحدهم نفسه، مع أنّه لا يوجب تشنيعاً، ولا قدحاً، وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق رحمه الله إلى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد، ولا أخباري، مع أنّه لم يقدح ذلك في علمه وفضله(2).

وعليه فآراء الشيخ البحراني تعدّ معتدلة في موضوع الاجتهاد والتقليد بالقياس إلى آراء الإسترآبادي التي تقدّمت الإشارة إليها، فهو يرى جواز الاجتهاد والتقليد، إلّا أنّ منبع الاستنباط والاجتهاد لابدّ أن يكون الكتاب والسنّة، ولا يعدوهما.

فالمسلك الأخباري المتصلّب قد انتهى أمده بظهور البحراني، إلّاأنّ الاصوليين لم يرتضوا بهذا الحدّ من الاعتدال الأخباري أيضاً، ولذا استمرّ صراع الاصوليين مع هذا المسلك على أشدّه.

ولابدّ أن نعدّ النصف الثاني من القرن الثاني عشر، عصر افول الحركة الأخبارية


1- الدرر النجفية 3: 289 ..
2- الحدائق الناضره 1: 169- 170، وذكر نحوه في الدرر النجفية 3: 289 ..

ص: 35

على يد الوحيد البهبهاني، حيث اقصيت تلك الحركة عن بلاد إيران والعراق، وبقيت جذورها في البحرين إلى حدّ الآن.

وقد كثرت المؤلّفات في إطار الاجتهاد والتقليد لبيان حقيقة الاجتهاد، وإثبات مشروعيته وأحكامه، وكذا التقليد، بل قد عدّ البحث عن تقليد الميّت، من المسائل الأساسية أيضاً. وفي مقدّمة هؤلاء الأعلام المؤلّفين في الموضوع الوحيد البهبهاني نفسه، ثمّ تتابعت حركته على يد تلامذته، فأ لّفوا في هذا المجال، وإليك نبذة منها:

1- «الاجتهاد والأخبار» للُاستاذ الأكبر آقا محمّدباقر الشهير بالوحيد البهبهاني (م 1206 ه) وقد ردّ المؤلّف في هذه الرسالة على الأخبارية، وذكر كيفية الاجتهاد، ومقدّماته، وأقسامه، ولزوم إعمال القواعد الاجتهادية في الأخبار سنداً ومتناً. فرغ من تأليفه في سنة (1155 ه).

2- «الفوائد الحائرية» له أيضاً. وقد تعرّض في الفائدة الثامنة من الفوائد القديمة لردّ الأخباريّين القائلين بعدم جواز التقليد، كما ذكر في الفائدة السادسة والثلاثين شروط الاجتهاد، وجعل الخاتمة في خطورة طريق الاجتهاد، وأمّا الفائدة الخامسة والعشرون من «الفوائد الجديدة» فقد تناولت تقليد المجتهد، وتناولت الفائدة الثانية والثلاثون عدم جواز التقليد في اصول الدين، وتعرّضت الفائدة الثالثة والثلاثون للوظائف المحوّلة للمجتهد، وبعدها ردّ شبهة المانعين من وجوب الاجتهاد.

3- «رسالة في بطلان عبادة الجاهل من غير تقليد» له أيضاً.

4- «رسالة في المنع عن تقليد الميّت» له أيضاً.

5- «مناهج الحقّ» ويقال له: «مناهج الاجتهاد» للشهيد البرغاني (م 1264 ه).

6- «ارجوزة في الاجتهاد والأخبار» للشيخ حسين بن محمّد بن علي بن عيثان الأخباري البحراني (م قبل 1240 ه) فقد ترحّم عليه تلميذه الشيخ فتح علي نزيل

ص: 36

شيراز في هذا التأريخ في «الفوائد الشيرازية».

7- «التجزّي في الاجتهاد» للمولى عبدالصمد الهمداني الحائري الشهيد بالحائر الحسيني في وقعة الوهّابيين سنة (1216 ه). وقد رتّبه على مقامين: أوّلهما: في جوازه ووقوعه، وثانيهما: في حجّية رأي المتجزّي.

8- «التذكرة في شرح التبصرة» لآقا محمّد جعفر بن محمّد علي بن محمّد باقر البهبهاني الكرمانشاهي (م 1254 ه) وقد ذكر قبل الشروع في شرحه على «التبصرة» مقدّمات، وجملة من مباحث الاجتهاد والتقليد، وشروط الاجتهاد، وغيرها.

9- «التقليد» للسيّد محمّدباقر الأصفهاني (م 1260 ه) ينقل عباراتها في «هداية المسترشدين» لمحمّد بن علي القزويني.

10- «التقليد» لمحمّد علي القزويني، وهي رسالة مبسوطة ذكرها في أوّل كتابه «هداية المسترشدين» المؤلَّف في سنة (1242 ه) ذكر أنّه بعد تأليف رسالتين، رأى رسالة السيّد محمّد باقر الأصفهاني في التقليد التي أوجب قبلها العدول إلى المجتهد الحيّ بمجرّد موت المجتهد، فكتب «الهداية» في ردّه.

11- «تقليد الأموات بقاءً» أي جواز البقاء على تقليد الميّت، للسيّد محمّد جعفر بن محمّد حسين بن مهدي الموسوي الشهرستاني الحائري. ألّفه في سنة (1259 ه).

12- «تقليد الميّت» لمحمّد إبراهيم الكلباسي (م 1261 ه). ذكر فيه: أنّه لمّا بلغ في كتابه «شوارع الهداية في شرح الكفاية» إلى هذه المسألة، جعلها مستقلّة مرتّبة على مقدّمة، ومصباحين، وخاتمة.

13- «جامع الشتات» المعروف ب «السؤال والجواب» للميرزا أبوالقاسم

ص: 37

الجيلاني نزيل قم، المشتهر بالمحقّق القمّي (م 1231 ه) اختصّ الباب الثاني من الكتاب بالأحكام الشرعية على ترتيب الكتب الفقهية؛ مبتدئاً بمسائل التقليد.

14- «تقليد الميّت» له أيضاً. طبع ضمن «جامع الشتات» في الطبع الحجري.

15- «كفاية المستفيد في الاجتهاد والتقليد» للسيّد علي شاه الكشميري (م 1269 ه).

16- «المحصول في شرح وافية الاصول» للسيّد محسن الأعرجي الحسيني الكاظمي (م 1227 ه) وقد بحث في الباب الخامس من الفنّ الثاني، عن الاجتهاد والتقليد وأحكامهما.

17- «الفوائد الاصولية» للشيخ مرتضى الأنصاري (م 1281 ه). كتبها في غوامض المسائل الاصولية، ومنها الاجتهاد والتقليد.

18- «التقليد» له أيضاً. رتّبه المؤلّف على أربعة فصول: في حكم التقليد، وفي المقلِّد، وفي المقلَّد، وفي المقلَّد فيه.

19- «مطارح الأنظار» للشيخ أبوالقاسم الكلانتر الطهراني (م 1292 ه) وهو من تقريرات الشيخ الأنصاري. طبع معه رسالتان في تقليد الميّت، وتقليد الأعلم.

20- «رسالة الاجتهاد والتقليد» للسيّد مرتضى الحسيني اليزدي النجفي. كتبه سنة (1281 ه) ضمن مجموعة اصولية.

21- «مصابيح الاصول» لمحمّد جعفر الإسترآبادي الشريعتمداري (م 1263 ه) بحث في المجلّد الثاني عن الاجتهاد.

22- «المظاهر العقلية في العقائد والأحكام الدينية» للسيّد محمّد تقي

ص: 38

الحسيني الاورازاني الطالقاني نزيل طهران. رتّبه على مقدّمة، وثلاثة مقاصد، وخاتمة، والمقصد الثاني في الاجتهاد والتقليد. فرغ من شروط الاجتهاد في سنة (1290 ه).

23- «مفاتيح الاصول» للسيّد محمّد الطباطبائي (م 1242 ه) بحث فيه عن الاجتهاد والتقليد مبسوطاً.

24- «تجريد الاصول» للمولى مهدي النراقي (م 1209 ه) بحث فيه عن الاجتهاد والتقليد باختصار.

25- «فوائد بحر العلوم» أو «الفوائد الاصولية» لمحمّد مهدي الطباطبائي الشهير ببحر العلوم (م 1212 ه) بحث فيها عن التخطئة والتصويب.

26- «كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء» للشيخ جعفر كاشف الغطاء (م 1227 ه) بحث في مقدّمات الكتاب عن الاجتهاد وحقيقته.

27- «الحقّ المبين» له أيضاً. كتبه ردّاً على شبهات الأخباريين، ويقع قسم منه في الاجتهاد والتقليد.

28- «مصادر الأنوار» للميرزا محمّد النيسابوري (م 1232 ه) كتبه مؤلّفه ردّاً على طريقة الاصوليين في الأحكام، وذمّ فيه الاجتهاد.

29- «الاصول الأصيلة» للسيّد عبداللَّه شبّر (م 1242 ه) استخرج المؤلّف مباحث الكتاب من الروايات، وقد اختصّ قسم منه بالاجتهاد والتقليد.

30- «مناهج الاصول» للمولى أحمد النراقي (م 1244 ه) بحث مؤلّفه عن الاجتهاد والتقليد في عداد المسائل الاصولية.

31- «رايات الاجتهاد» للمولى أبوالحسن بن محمّد كاظم الجاجرمي (م 1245 ه).

ص: 39

32- «رسالة في الاجتهاد والأخبار» للشيخ محمّد ابن الشيخ أحمد الإحسائي (م 1241 ه).

33- «منبّه العوامّ على وجوب تقليد نائب الإمام» للمولى محمّد كاظم ابن المولى محمّد شفيع الهزارجريبي (م 1234 ه).

34- «هداية المسترشدين في شرح معالم الدين» للشيخ محمّد تقي الأصفهاني (م 1284 ه) بحث فيه مؤلّفه عن الاجتهاد مبسوطاً، ولم يتعرّض لمباحث التقليد.

35- «الفصول الغروية في الاصول الفقهية» للشيخ محمّد حسين بن محمّد رحيم الأصفهاني (م 1261 ه).

36- «ضوابط الاصول» للسيّد إبراهيم القزويني (م 1262 ه).

37- «نتائج الأفكار» له أيضاً. وقد بحث فيهما مؤلّفهما عن الاجتهاد والتقليد؛ كلّ على حدّة.

38- «القواعد الشريفة» لمحمّد شفيع الجابلقي البروجردي (م 1279 ه) أورد فيه مباحث الاجتهاد والتقليد على وتيرة البحث الاصولي.

39- «الأسئلة الصالحية» أو جوابات الشيخ صالح بن طعّان بن ناصر بن علي التستري البحراني (م 1281 ه) عن بعض فروع الاجتهاد والتقليد، للشيخ عبد علي ابن الشيخ خلف بن عبد علي ابن الشيخ حسين العصفوري (م 1303 ه).

40- «منهاج الكرامة في شرح تهذيب العلّامة» شرح مزجي للسيّد محمّد ابن السيّد عطيّة الموسوي. نقل في بحث الاجتهاد والتقليد عن رسالة الاجتهاد للوحيد البهبهاني.

41- «نتائج الأفكار في اصول الفقه» للمولى محمّد تقي بن حسين علي الهروي

ص: 40

الأصفهاني (م 1299 ه) رتّبه على مقدّمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة، والباب الثالث في الاجتهاد.

42- «نفي الاجتهاد» للميرزا علي ابن الميرزا محمّد الأخباري (م 1273 ه).

43- «الاجتهاد والتقليد» للمولى آقا محمّد علي ابن المولى محمّد صادق الشيرازي، من أحفاد المولى صالح المازندراني. فرغ منه سنة (1276 ه) واختار فيه حجّية ظنّ المجتهد المتجزّي العالم بالعلوم التي هي من مقدّمات الاجتهاد.

44- «الاجتهاد والتقليد» للسيّد الميرزا عبدالواسع الحسيني الزنجاني (م 1291 ه).

45- «الاجتهاد والتقليد» للميرزا مسيح بن محمّد سعيد الرازي الطهراني (م 1263 ه).

46- «الاجتهاد والتقليد» للمولى محمّد مهدي ابن العلّامة الحاجّ محمّد إبراهيم الكلباسي (م 1292 ه).

47- «إحياء الاجتهاد لإرشاد العباد فيما يتعلّق بتقليد الأحياء والأموات» لسلطان العلماء السيّد محمّد ابن السيّد دلدار علي النقوي النصيرآبادي (م 1284 ه) فرغ من تأليفه سنة (1236 ه).

48- «تقليد الميّت» للميرزا علي أكبر الأردبيلي (م 1269 ه).

49- «التجزّي في الاجتهاد» للسيّد حسين ابن السيّد دلدار علي النقوي النصيرآبادي (م 1273 ه).

50- «هداية المسترشدين في حكم التقليد للعوامّ» للميرزا عبدالوهّاب الشريف ابن محمّد علي القزويني (م 1233 ه) ذكر فيها أنّه ألّف أوّلًا رسالة فارسية مختصرة، واخرى عربية في مسائل التقليد.

ص: 41

51- «تقليد الميّت» لبعض تلاميذ صاحب «الجواهر» هو مجلّد مبسوط.

52- «الدرر النجفية في ردّ الأخبارية» أوّل درره في تقليد الميّت، ولم يذكر المؤلّف اسمه، ولكنّه من أحفاد صاحب «الحدائق» ومن تلاميذ السيّد محسن المقدّس الأعرجي.

53- «الدرّ النضيد في مسألة التقليد وجوازه ابتداءً من الميّت» للشيخ حسين بن يوسف البحراني.

54- «تبصرة الحرّ الرشيد بعجائب الدرّ النضيد» تأليف السيّد مهدي الكاظمي، وهو ردّ على الكتاب السابق.

55- «الاجتهاد والتقليد» للشيخ مهدي الكجوري الشيرازي (م 1293 ه) وهو تقرير لأبحاث الميرزا الشيرازي.

ملامح المرحلة السادسة: توسّع البحث في هذه المرحلة عن الاجتهاد والتقليد، وكان ذلك لعدّة عوامل:

الأوّل: أنّ افول الحركة الأخبارية، أدّى إلى إيجاد الأرضية المناسبة لازدهار مباحث الاجتهاد والتقليد وفروعهما، حيث انقضى أمد الأخباريين في القرن الثالث عشر، وابتعدوا من الساحة؛ خصوصاً على يد استاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري، ولم يبق أثر منهم في الساحة العلمية.

الثاني: توسّع مجال التأليف في هذا الموضوع؛ فكتبوا رسائل مستقلّة في بعض مباحثهما، كما كتبوا عنهما كتباً مستقلّة جامعة فيهما؛ مضافاً إلى تفصيل المباحث في حلقي الاصول والفقه على غير ما كان متعارفاً قبل هذه المرحلة.

الثالث: استمرار البحث عن الاجتهاد والتقليد في الفقه واصوله معاً، وفي الغالب لم يميّز تمييزاً أساسياً بين طور البحث فيهما.

ص: 42

المرحلة السابعة: الاجتهاد والتقليد في القرن الرابع عشر

تواصل التأليف في اصول الفقه على يد تلامذة الشيخ الأعظم الأنصاري، جاعلين بحث الاجتهاد والتقليد في خاتمة المباحث الاصولية. وظهرت كتب الشرح والتعليق والحواشي على كتب الأعلام السابقين في هذه الحقبة الزمنية أكثر من الحقب السابقة. كما توسّعت هذه الثروة العلمية في مجال التأليف؛ بحيث يعسر استقصاء المؤلّفات في هذا الموضوع، فلنصفح عن ذكر الكتب الاصولية التي بحثوا فيها عن الاجتهاد والتقليد، محيلين للطالب على ما كتب في المصادر الخاصّة بموضوع تعريف الكتب الاصولية(1).

والمهمّ الآن ذكر ما كتب حول الاجتهاد والتقليد خاصّة في هذه الفترة التي سمّيت بعصر ازدهار الفقه والاصول:

1- «الاجتهاد والتقليد» ويقال له «رسالة التجزّي» للميرزا صالح الشهير بالعرب ابن السيّد حسن الشهير بداماد- لأنّه كان صهراً لصاحب «الرياض»- الموسوي الحائري نزيل طهران (م 1303 ه).

2- «الاجتهاد والتقليد» للميرزا عبدالرحيم الگلي بري التبريزي (م 1334 ه).

3- «الاجتهاد والتقليد» للمولى عبدالعظيم بن محمّد اللواساني من تلاميذ شريف العلماء.

4- «الاجتهاد والتقليد» للمولى محمّد علي ابن المولى مهدي الآراني الكاشاني (م 1325 ه) اختار فيه عدم وجوب تقليد الأعلم.

5- «الاجتهاد والتقليد» للمولى محمّد بن محمّد باقر الإيرواني الفاضل (م 1306 ه).


1- راجع: كتابشناسي اصول فقه شيعة، تأليف مهدي المهريزي ..

ص: 43

6- «التجزّي في الاجتهاد» للمولى محمّد رفيع بن عبدالمحمّد بن محمّد رفيع بن أحمد بن صفي الكوازي الكزازي النجفي (ق 14 ه) وكان من تلامذة الشيخ حبيب اللَّه الرشتي.

7- «التقريرات» وفيها من الاصول مباحث الاجتهاد والتقليد، للشيخ حسن بن عبداللَّه بن علي الهشترودي التبريزي (م 1304 ه).

8- «التقليد وأحكامه» للشيخ محمّد باقر بن محمّد جعفر البهاري الهمداني (م 1333 ه) وهو مرتّب على امور: معنى التقليد، حكمه، كفاية الاحتياط عند المطابقة، جوازه لمن بلغ مرتبة الاجتهاد، شروط المفتي، اشتراط حياة المفتي.

9- «تقليد الأموات» للشيخ علي أكبر ابن الميرزا محسن الأردبيلي (م 1346 ه) فارسي مطبوع. أفتى فيه بوجوب تقليد الميّت الأعلم ابتداءً عند الدوران مع الحيّ غير الأعلم.

10- «تقليد الميّت» لأبي المعالي الكلباسي (م 1315 ه) وهو ضمن الرسائل الخمس عشرة التي له.

11- «تقليد الميّت» للشيخ علي الخوئي (م 1309 ه) ولعلّه من تقرير استاذه العلّامة الأنصاري.

12- «التنقيد في أحكام التقليد» للميرزا أبوطالب بن أبوالقاسم ابن السيّد كاظم الموسوي الزنجاني (م 1329 ه).

13- «جواب العلّامة الشيخ مهدي الخالصي الكاظمي (م 1343 ه) عن اعتراضاته على بعض مسائل التقليد» للشيخ محمّد حسن كبّة البغدادي (م 1336 ه).

14- «الدرّ المنظوم في نفي تقليد غير المعصوم» للميرزا حسين بن علي بن

ص: 44

محمّد الأخباري النيشابوري (م 1318 ه).

15- «الاجتهاد والتقليد» للشيخ أبوالقاسم بن محمّد صادق النوراني الأصفهاني (م 1305 ه).

16- «رسالة في تحريم تقليد الميّت» للميرزا محمّد الهمداني إمام الحرمين (م 1303 ه).

17- «رسالة في تقليد الأعلم» للمولى محمّد باقر الفشاركي (م 1314 ه).

18- «غرر التقليد» وهو اسم للجزء الثاني من كتاب «فوز العباد في المبدأ والمعاد» للشيخ مرتضى بن عبّاس بن حسن ابن الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء (م 1349 ه).

19- «لباب الاجتهاد» للسيّد محمّد حسين بن محمّد علي بن محمّد حسين الشهرستاني الحائري (م 1315 ه) وهو مرتّب على مقامين: مهمّات مسائل الاجتهاد، ومهمّات مسائل التقليد.

20- «مسائل التقليد» للشيخ محمود بن محمّد ذهب الظالمي النجفي (م 1325 ه) وهي تشتمل على ثلاث مسائل: عدم جواز تقليد الميّت، وتقليد الأعلم، وبيان موضوع التقليد وأحكامه، وهي بخطّ تلميذه السيّد حسن ابن السيّد جاسم الفحّام الحسيني (م 1315 ه).

21- «ملاذ العباد في تتميم السداد» برزت منه مسائل الاجتهاد والتقليد مستوفاة، وهو للشيخ أحمد بن صالح البحراني آل طعّان (م 1315 ه).

22- «منقذة القرى» فارسي في مقصدين، والثاني في أحكام التقليد وشروطه؛ من الأعلمية، والحياة، وغيرهما؛ للسيّد مهدي بن حيدر الموسوي الصفوي الكشميري (م 1309).

ص: 45

23- «الرأي السديد في مسائل الاجتهاد والتقليد» للسيّد المولوي ابن الحسن بن المير حسن رضا الجايسي اللكنهوي، ولد سنة (1291 ه).

24- «وجوب الاجتهاد وحكم تارك الطريقين» لأسد اللَّه بن عبّاس الإشكوري النجفي (م 1333 ه).

25- «هداية المجاهدين» للمولى محمّد حسين بن مهدي السلطان آبادي (م 1314 ه) ذكر فيها براهين كثيرة على عدم جواز تقليد الميّت.

26- «تقليد الأعلم» للميرزا حبيب اللَّه الرشتي (م 1312 ه).

27- «التقريرات» منها تقرير لمسألتي تقليد الميّت، وتقليد الأعلم، له أيضاً. وقد طبعا في آخر كتابه «الغصب» في سنة (1322 ه).

28- «تقليد الأعلم» للميرزا محمّد بن إسماعيل التنكابني (م 1302 ه) ذكر في «قصص العلماء»: أنّه اختار فيه عدم تعيّن الأعلم.

29- «الدرّ النضيد في التقليد» للشيخ عبّاس ابن الشيخ حسن ابن الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء (م 1322 ه).

30- «اللوامع المحمّدية» للسيّد مصطفى بن إسماعيل الموسوي تلميذ الميرزا محمّد النيسابوري الأخباري، ذكر فيها حدوث أصل الاجتهاد، ونقل كلمات القدماء والمتأخّرين في المنع عنه، والمنع عن العمل بالظنّ. كتبه باسم محمّد شاه القاجار.

31- «الاجتهاد والتقليد» تقرير بحث الآخوند الخراساني، لتلميذه السيّد أبوالحسن بن عبّاس الإشكوري (م 1368 ه).

32- «الاجتهاد والتقليد» للشيخ طاهر ابن الشيخ عبد علي ابن الشيخ طاهر الحجامي النجفي (م 1357 ه).

ص: 46

33- «رسالة في الاجتهاد والتقليد» للسيّد راحت حسين الرضوي الكوپال پوري المولود سنة (1297 ه).

34- «رسالة في الاجتهاد والصحابة» للشيخ محمّد تقي بن عبدالكريم التبريزي المولود سنة (1243 ه).

35- «رسالة في تقليد الأعلم» للسيّد عبداللَّه ثقة الإسلام الأصفهاني المولود سنة (1285 ه).

36- «منهاج الرشاد في معنى التقليد والاجتهاد وما يتعلّق بهما» للشيخ عبدالحسين ابن الشيخ مبارك النجفي (م 1364 ه).

37- «نظرة اليقين في تحريم تقليد الأموات» للشيخ محمّد هادي الدفتر (م 1347 ه).

38- «تقليد الأموات» للميرزا عنايت اللَّه ابن الميرزا حسين ابن الميرزا علي ابن الميرزا محمّد النيسابوري الهندي المعروف بالأخباري، من شيوخ إجازة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي.

39- «قلائد العوامّ في التقليد في الأحكام» للسيّد محمّد قصير الرضوي.

40- «الاجتهاد والتقليد» للشيخ محمّد حسين الأصفهاني (م 1361 ه).

41- «منظومة في الاجتهاد والتقليد» للسيّد حسن ابن السيّد محمود الأمين العاملي (م 1368 ه).

42- «المواهب السنية في الاجتهاد والتقليد» للشيخ الميرزا مهدي الأصفهاني (م 1365 ه).

43- «حلية التحبيب» للسيّد مهدي بن صالح الموسوي القزويني الكاظمي (م 1358 ه) منع فيه عن تقليد الميّت ابتداءً، وقد كتب في الردّ عليه «الدرّ النضيد

ص: 47

في مسألة التقليد».

44- «رسالة في التقليد» مختصرة في ثلاثمئة بيت، للشيخ محمّد تقي بن أبوطالب اليزدي الأردكاني (م 1367 ه).

45- «التحفة الحسينية في شرائط الاجتهاد في الأحكام الدينية» للسيّد حسن الأشكذري اليزدي (م 1359 ه).

46- «التقليد في مسائله باللغة الگجراتية» للمولى غلام علي البهاوتگري (م حدود 1367 ه).

47- «القول المفيد في مسائل الاجتهاد والتقليد» للسيّد محمّد حسين بن الحسين الهندي (م 1316 ه).

48- «النور الساطع في الفقه النافع» لعلي بن محمّد رضا بن هادي بن عبّاس كاشف الغطاء. ويقع في مجلّدين (م 1331 ه).

49- «ضربة الحقّ السديد على زخرف يقظة البليد في مسألة وجوب التقليد» له أيضاً.

50- «الحياة الطيّبة في حرمة البقاء على تقليد الميّت» للشيخ محمّد صالح ابن الميرزا فضل اللَّه المازندراني الحائري، ولد سنة (1297 ه).

51- «الدرّ المنظم في حكم تقليد الأعلم» للسيّد محسن الأمين العاملي (م 1371 ه).

52- «التقليد وأحكامه» للسيّد أحمد علي ابن المفتي المير محمّد عبّاس التستري اللكنهوي.

53- «التنقيد في إثبات الاجتهاد والتقليد من القرآن المجيد» للسيّد علي ابن السيّد أبوالقاسم الرضوي اللاهوري.

ص: 48

54- «رسالة في حرمة البقاء على تقليد الميّت» تقرير الشيخ حسن بن مطر الحويزي العنزي الحائري الوائلي لأبحاث السيّد محمود الشاهرودي.

55- «توضيح الرشاد في تأريخ حصر الاجتهاد» لمحمّد محسن الطهراني الشهير بالشيخ آغا بزرگ الطهراني.

56- «رسالة في الاجتهاد والتقليد» للشيخ محمّد علي الأراكي، تقرير أبحاث الشيخ عبدالكريم الحائري (م 1355 ه) طبع في آخر «درر الفوائد» و «كتاب البيع».

وفي هذه المرحلة ظهر كتاب «العروة الوثقى» تأليف الفقيه الكبير السيّد كاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337 ه) الذي كان من تلامذة الشيخ الأعظم الأنصاري، وقد اشتمل على مباحث الاجتهاد والتقليد بنحو أوفى؛ ممّا دعا جمعاً من الأعلام للتعليق عليه، والشرح له، فكتب عدّة من الأعلام شروحاً ضخمة عليه، ويشتمل أكثرها على شرح مباحث الاجتهاد والتقليد، وإليك بعضاً منها:

1- «شرح العروة الوثقى» للسيّد مرتضى بن أحمد الخسروشاهي التبريزي، خرج منه مسائل الاجتهاد والتقليد فحسب.

2- «مستمسك العروة الوثقى» للسيّد محسن الحكيم.

3- «التنقيح في شرح العروة الوثقى» تقرير أبحاث السيّد أبوالقاسم الخوئي، للميرزا علي الغروي التبريزي.

4- «دروس في فقه الشيعة» تقرير أبحاث السيّد أبوالقاسم الخوئي، للسيّد مهدي الخلخالي.

5- «الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد» للميرزا غلام رضا عرفانيان اليزدي، تقرير أبحاث السيّد أبوالقاسم الخوئي في الاصول.

ص: 49

6- «مهذّب الأحكام» للسيّد عبدالأعلى السبزواري.

7- «الفقه» للسيّد محمّد الشيرازي.

وهناك عدّة شروح اخرى جامعة لمباحثها(1).

ملامح المرحلة السابعة: إنّ ازدهار المباحث الاصولية في هذه المرحلة، صاحبه عدّة ميّزات لها:

الاولى: تكثّر المسائل المبحوث عنها في الاجتهاد والتقليد، وطرح بعض الفروض الجديدة، كحكم تارك الاجتهاد والتقليد.

الثانية: صيرورة مباحث الاجتهاد والتقليد ساحةً لإبراز مقدّرات كلّ فقيه في مجال الدراسة والبحث؛ لكونها من المسائل النظرية الدقيقة والخلافية، ولذا كثر التأليف في هذا الموضوع، كما كثرت الأقوال، وتنوّعت الأدلّة أيضاً في هذا المجال، خصوصاً مسألتي تقليد الأعلم، وتقليد الميّت.

الثالثة: التفريق في هذه المرحلة بين طور مباحث الاجتهاد والتقليد في الدراسات الاصولية، وبين طورها في الدراسات الفقهية، فغالباً ما بحثوا في علم الاصول عن أصل جواز الاجتهاد، وأدلّة مشروعيته، والتخطئة والتصويب، والشروط الأصلية في الاجتهاد ومقدّماته، وأصل مشروعية التقليد، وأمّا أحكام التقليد، وتعريف المجتهد، والشروط المعتبرة في الرجوع إليه، وما يبتلى به المكلّف من مسائل تقليده، فيبحث عنها في الدراسات الفقهية. هذا.

وأمّا الرسائل المستقلّة، فتختلف رؤية مؤلّفيها إلى موضوع الاجتهاد والتقليد؛ فقد يغلب على بعضها العنصر الاصولي، وعلى بعض آخر العنصر الفقهي.


1- راجع: مأخذشناسي نظام تعليم وتربيت روحانيت: 163- 166 ..

ص: 50

المرحلة الثامنة: الاجتهاد والتقليد في العصر الحاضر

تبتدئ هذه المرحلة المهمّة منذ خمس وسبعين سنة تقريباً، ومن أهمّ ميّزاتها عند الشيعة الإمامية، ازدهار دور المرجعية الدينية في مختلف مجالات حياتهم وشؤونها، خصوصاً الشؤون السياسية والحكومية، وذلك نتيجة تطبيق نظرية ولاية الفقيه عملياً؛ بعد أن كانت نظرية علمية صرفة.

وممّا يلاحظ في هذه المرحلة، اهتمام الفقهاء ومثقفي الشعوب الإسلامية الشديد بمسألة الاجتهاد والتقليد، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وتوسّع شؤون الفقهاء، حيث تركّزت جهود الأعلام في الدراسات الفقهية والاصولية على هذا المجال، وبسط الكلام في هذا الموضوع الهامّ؛ حسبما فيه من المباني الفقهية والقانونية لتلك الشؤون، فظهرت المئات من التأليفات، وحقّقت الكثير من كتب الأعلام المتقدّمين؛ لحاجة هذا البحث إلى التنقيح، كما نشرت الكثير من المقالات في المجلّات الثقافية التي تناولت هذا الموضوع المهمّ باللغات المختلفة، وبإمكان القارئ الاطلاع عليها من خلال مراجعة كشّاف المجلّات الثقافية، وفهارس المقالات.

ولعلّ أفضل ما ا لّف في بداية هذه المرحلة، وهو ما كتبه السيّد الإمام الخميني رحمه الله والذي هو عصارة أبحاثه الاصولية العالية في الدورة الاولى سنة (1370 ه) لما امتاز به كتابه «الاجتهاد والتقليد» من تطوّر وابتكار في بحوثه، فمحاور البحث من هذا الكتاب، تفوق ما خلّفه السابقون؛ حيث طرح السيّد الإمام في هذا الكتاب اموراً:

فأوّلًا: ذكر شؤون النبي صلى الله عليه و آله و سلم والأئمّة عليهم السلام من بعده، وذهب إلى أنّها بجميعها تنتقل إلى الفقهاء في عصر الغيبة؛ إلّاما خرج بالدليل الخاصّ.

ص: 51

وثانياً: ذكر شروط الاجتهاد، وشروط المفتي، وبيّن العلوم التي لابدّ أن يعرفها الفقيه ويستفيد منها في الاجتهاد.

وثالثاً: بحث مسألة اشتراط القضاء بالاجتهاد؛ وهل للفقيه أن يوكله إلى غير المجتهد، أم لا؟

ورابعاً: أثبت مشروعية التقليد واستناده إلى ما تعارف في عصر الأئمّة عليهم السلام واستعرض ما جرى على لسانهم عليهم السلام من التعابير المختلفة.

وخامساً: بحث في تشخيص مرجع التقليد وشروطه، كالحياة، والأعلمية.

ولأجل هذه المزايا التي اتّسم بها كتاب السيّد الإمام الخميني قدس سره قمنا بتقديمه على سائر ما كتب منذ بداية هذه المرحلة وإلى يومنا هذا، حيث ا لّفت الكثير من الكتب، نذكر منها:

1- «الاجتهاد والتقليد» لأحمد الآذري القمّي، ويقع في مجلّدين.

2- «الاجتهاد والتقليد» للسيّد رضا الصدر.

3- «القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد» للسيّد عادل العلوي.

4- «الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر» ليحيى محمّد.

5- «التقليد في الشريعة الإسلامية» للسيّد عزّ الدين بحر العلوم.

6- «الاجتهاد في الشريعة الإسلامية» له أيضاً.

7- «أنوار الهدى في شرح العروة الوثقى» قسم الاجتهاد والتقليد، للسيّد محمّد تقي العلوي الغروي.

8- «النور المبين في شرح التحرير ومنهاج الصالحين» الاجتهاد والتقليد، للسيّد نور الدين الشريعتمدار الجزائري.

9- «مصباح المنهاج» الاجتهاد والتقليد، للسيّد محمّد سعيد الحكيم.

ص: 52

10- «رسائل في الاجتهاد والتقليد وقاعدة لا ضرر وولاية الفقيه» لعلي رضا الأراكي السنجري، تقرير أبحاث السيّد محمّد صادق الروحاني.

11- «دراسات في الاجتهاد والتقليد» للسيّد علي الحسيني الصدر.

12- «الدرّ النضيد في الاجتهاد والاحتياط والتقليد» لمحمّد حسن المرتضوي اللنكرودي، ويقع في مجلّدين.

13- «تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة» الاجتهاد والتقليد، للشيخ محمّد الفاضل اللنكراني.

14- «مباني منهاج الصالحين» للسيّد محمّد تقي الطباطبائي القمّي، وقد بحث عن الاجتهاد والتقليد في المجلّد الأوّل.

15- «التقليد» دراسة فقهية لظاهرة التقليد الشرعي، للدكتور عبدالهادي الفضلي.

16- «آراء في المرجعية الشيعية» لمجموعة من الباحثين.

17- «الاجتهاد والحياة حوار على الورق» إعداد السيّد محمّد الحسيني.

18- «مصباح الشريعة في شرح تحرير الوسيلة» كتاب الاجتهاد والتقليد، للشيخ عبدالنبي النمازي.

19- «السيّد محمّد حسين فضل اللَّه وحركية العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية» لجعفر الشاطوري البحراني.

والجدير بالذكر: أنّ بعض المصنّفين تعرّضوا لمسألة ولاية الفقيه في بحث الاجتهاد والتقليد؛ وذلك لأجل ما لولاية الفقيه من الصلة العميقة بالاجتهاد والتقليد، إلّا أنّ هذا لاينفي الاختلاف الأساسي بين مداري البحثين.

ثمّ إنّه قد يبحث في الأوساط العلمية المعاصرة، عن عدّة فروض جديدة في مجال الاجتهاد والتقليد، كالتخصّص في شؤون المرجعية، والأبحاث العلمية، ونحوها.

ص: 53

المقدّمة: الاجتهاد والتقليد

اشارة

ص: 54

ص: 55

وجوب الاجتهاد أو الاحتياط أو التقليد

اشارة

اعلم أنّه يجب (1) على كلّ مكلّف غير بالغ مرتبة الاجتهاد

1- لم يختلف العلماء في أصل هذا الوجوب، وإنّما اختلفوا في تحديد سنخه؛ وأ نّه هل هو عقلي، أو فطري، أو شرعي؟

فهاهنا احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: الوجوب العقلي

وقد قرِّر بتقريرين:

التقرير الأوّل: أنّ هذا الوجوب عقلي مناطه وجوب شكر المنعم؛ ويمكن في بيانه أن نشكل قياساً صورته: أنّ شكر المنعم واجب، وبما أنّ امتثال تكاليفه من مصاديق الشكر له، فيجب إمّا الاجتهاد أو التقليد- حتّى نعرف من خلالهما تلك التكاليف، فنأتي بها- أو الاحتياط؛ حتّى نتيقّن بسببه بتحقّق الامتثال لهذه التكاليف عملياً.

وقد اعتُرض على هذا التقرير(1) بما حاصله- مع توضيح منّا-: أنّه لا يجب شكر المنعم مطلقاً حتّى يثبت المطلوب، بل الواجب شكره في الجملة، وهذا لا يثبت المطلوب.


1- راجع: الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 242- 243 ..

ص: 56

وتوضيحه: أنّ هناك شيئين؛ أحدهما: لزوم ترك كفران النعمة، والآخر: وجوب شكر المنعم؛ أمّا بالنسبة إلى الأوّل فالعقل يحكم به بشكل مطلق؛ بمعنى أنّه يرى أنّ من يكفر بالنعمة فهو مستحقّ للذمّ واللوم، وأمّا بالنسبة إلى الثاني فالعقل لايرى أنّ ترك شكر المنعم موجب لاستحقاق الذمّ واللوم بشكل مطلق، بل يرى أنّ هذا الاستحقاق ثابت في كلّ مورد اجتمع فيه ترك شكر المنعم مع كفران النعمة.

وبعبارة اخرى: يرى أنّ كلّ ترك شكر للمنعم إذا صدق عليه عنوان كفران النعمة، فهو يوجب استحقاق الذمّ واللوم، وإلّا فلا، فالنسبة بين «ترك شكر المنعم» و «كفران النعمة» نسبة العموم والخصوص المطلق؛ بمعنى أنّ كلّ كفران للنعمة يصدق عليه عنوان ترك شكر المنعم، ولكن عكسه غير صحيح؛ فليس كلّ ترك شكر للمنعم عبارة عن كفران للنعمة.

ثمّ بعد ذلك نقول: ليس كلّ ترك شي ءٍ نحتمل أنّه تكليف، يستلزم كفران النعمة؛ حتّى يقال بلزوم الاجتهاد أو التقليد لكي نعرف هل هو تكليف أو لا، أو نحتاط حتّى لا نقع في كفران النعمة.

التقرير الثاني: أنّ هذا الوجوب العقلي ثابت على أساس قاعدة وجوب تحصيل المؤمّن.

وتقريبه: أنّ هناك علماً إجمالياً بوجود تكاليف شرعية، وهذا العلم الإجمالي منجّز كما ثبت في علم الاصول، ومقتضى منجّزيته أنّه يصحّ للمولى عقوبة من لم يأتِ بما احتمل أنّه من تلك التكاليف فيما إذا وافق الواقع، فلا بدّ من سلوك طريق يؤمّننا من العذاب، وهذا المؤمّن يتحقّق إمّا بالاجتهاد، أو بالتقليد، أو بالاحتياط(1).

وهذا متين.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 2 ..

ص: 57

الاحتمال الثاني: الوجوب الفطري

إنّ الوجوب هنا فطري(1) بمعنى أنّ الإنسان بحسب فطرته يرى ويدرك لزوم دفع الضرر المحتمل، وهذه الفطرة لا تختصّ بالإنسان، بل تحصل للحيوان أيضاً، ولذا نجد أنّه يفرّ ممّا يواجهه من الأضرار المحتملة.

ويلاحظ على هذا التقرير: أنّ ما يشاهَد في الإنسان أو الحيوان من الفطرة، ليس إلّا فعلًا يصدر عنه بالطبع؛ وهو اتّقاؤه من الضرر المحتمل، وأين هذا من الذي نحن بصدد إثباته؟! ألا وهو الحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل وإدراك هذا الوجوب.

وبعبارة اخرى: المقصود في المقام الكشف عن ماهية الوجوب المتعلّق بالاجتهاد والتقليد والاحتياط؛ وأنّ الحاكم بهذا الوجوب من هو؟ ومن المعلوم أنّ أقصى ما يثبته هذا التقرير اتّقاء الإنسان والحيوان من الضرر المحتمل، وهذا لا ربط له بقضيّة الإدراكات.

فإن قيل: اشتراك الإنسان مع الحيوان في التوقّي من الضرر المحتمل، لا ينفي امتياز الإنسان عن الحيوان في إدراكه الفطري لهذا اللزوم، فللإنسان فطرتان؛ إحداهما: التوقّي من الضرر المحتمل، وهذه هي التي يشترك مع الحيوان فيها، والاخرى: إدراكه بالفطرة لحكم وجوب دفع الضرر المحتمل، فثبت أنّ الإنسان بفطرته يدرك هذا الوجوب، وهذا هو المدّعى.

فجوابه ما أفاده بعض الأعلام(2): من أنّ إدراك شي ء حسب الفطرة، يعني إدراكه بشكل بديهي لا يحتاج إلى أيّ نظر واستدلال، ومن المعلوم أنّ إدراك وجوب دفع


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 6 ..
2- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 242 ..

ص: 58

الضرر المحتمل ليس من هذا القبيل.

وتوضيحه: أنّ القضية الفطرية- حسب الاصطلاح المنطقي- هي القضية التي تكون قياساتها معها، مثل «الأربعة زوج» و «الواحد نصف الاثنين»، وغير خفيّ أنّ الحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل ليس بمثابة الحكم بأنّ الأربعة زوج، بل يحتاج حصوله إلى إمعان النظر وترتيب قياس.

إن قيل: إنّه لا مشاحّة في الاصطلاح؛ فإنّه من الممكن أن نعتبر الحكم في المقام فطرياً، لا على أساس اصطلاح المناطقة، بل على أساس أنّ هناك فعلًا فطرياً للإنسان؛ وهو اتّقاؤه من الضرر المحتمل، ويقارن هذا الفعل حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، وهذه المقارنة تصحّح لنا التعبير: بأنّ دفع الضرر المحتمل فطري.

قلنا: هذا لا بأس به، إلّاأنّه لابدّ أن يُعلم بأنّ اعتبار هذا من الفطريات، لا يعني أنّ إدراك الوجوب هنا يحصل على أساس الفطرة؛ فإنّ الإدراك- كما قلنا- يحصل على أساس إمعان النظر وإعمال الفكر، وهذا هو محطّ البحث في المقام.

الاحتمال الثالث: الوجوب الشرعي

اشارة

في داخل إطار هذا الاحتمال وقع البحث في أنّ هذا الوجوب الشرعي- على القول به- هل هو مقدّمي غيري، أو طريقي، أو نفسي؟ وهناك وجوه بل أقوال:

الأوّل: أنّه وجوب مقدّمي غيري

بمعنى أنّ الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط بما أنّها تكون مقدّمة للعمل، فلابدّ من الحكم بوجوبها من باب المقدّمة.

وقد ناقش بعض الأعلام المحقّقين رحمه الله في ذلك بأنّ: «مقدّمة الواجب- على ما

ص: 59

بيّناه في محلّه- ليست بواجبة شرعاً، وليس أمرها مولوياً بوجه وإنّما هي واجبة عقلًا لعدم حصول الواجب إلّابها.

على أنّا لو سلّمنا وجوب المقدّمة فليس الاحتياط مقدّمة لأيّ واجب فإنّ ما أتى به المكلّف إمّا أنّه نفس الواجب أو أنّه أمر مباح، وهو أجنبي عن الواجب رأساً لا أ نّه مقدّمة لوجود الواجب وتحقّقه، بلا فرق في ذلك بين أن يكون أصل الوجوب معلوماً وكان التردّد في متعلّقه كما في موارد الاحتياط المستلزم للتكرار، وبين أن يكون أصل الوجوب محتملًا كما في موارد الاحتياط غير المستلزم للتكرار، ومعه كيف يكون الاحتياط مقدّمة لوجود الواجب؟!

نعم، ضمّ أحد الفعلين إلى الآخر مقدّمة علمية للامتثال، لأنّ به يحرز الخروج عن عهدة التكليف المحتمل. وكذلك الحال في الاحتياط غير المستلزم للتكرار، لا أ نّه مقدّمة وجودية للواجب ليجب أو لا يجب، هذا كلّه في الاحتياط.

وكذلك الاجتهاد والتقليد، لأنّهما في الحقيقة عبارتان عن العلم بالأحكام ومعرفتها، ولا يكون معرفة حكم أيّ موضوع مقوّماً لوجود ذلك الموضوع ومقدّمة لتحقّقه بحيث لا يتيسّر صدوره ممّن لا يعلم بحكمه، فهذا كردّ السلام فإنّه ممكن الصدور ممّن لا يعلم بحكمه، وكذلك الحال في غيره من الواجبات إذ يمكن أن يأتي بها المكلّف ولو على سبيل الاحتياط من دون أن يكون عالماً بحكمها، فلا يتوقّف وجود الواجب على معرفته بالاجتهاد أو التقليد.

نعم، لا يتمكّن المكلّف في بعض الموارد من الإتيان بالعمل إلّاإذا علم بما اعتبر فيه من القيود والشروط، كما في الموضوعات المركّبة مثل الصلاة والحجّ فإنّ الجاهل بأحكامهما غير متمكّن على إصدارهما، إلّاأنّه من الندرة بمكان»(1).


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 2 ..

ص: 60

الثاني: أنّ هذا الوجوب وجوب شرعي طريقي

والمقصود منه: هو ما انشئ بداعي تنجيز التكليف، فالواجب الطريقي هو الذي وجب لكي ينجّز التكليف؛ بحيث لو لا الأمر به لبقي التكليف على حالة عدم التنجيز، ومثاله: وجوب الفحص على الحائض في بعض الحالات؛ فإنّ مثل هذا الوجوب لم يشرّع إلّابهدف تنجيز ما عليها من التكليف، وكذا وجوب العمل بخبر الواحد؛ فإنّ إيجابه إنّما هو بهدف التحفّظ على أحكام شرعية كثيرة تتضمّنها جملة من أخبار الآحاد؛ فإيجابه ينجّز تلك التكاليف المنتشرة في هذه الأخبار، وبهذا اللحاظ قد يعبّر عن الواجبات الطريقية بما يحافظ على الأحكام وملاكاتها.

وحينئذٍ نقول: هل يمكن أن يكون وجوب الاجتهاد والتقليد والاحتياط من هذا القبيل أو لا؟

وللإجابة على هذا السؤال لابدّ من عقد مقامين: مقام لبحث ثبوتي، ومقام لبحث إثباتي:

أمّا البحث الثبوتي: فنبحث فيه عن إمكان اعتبار الوجوب الطريقي للُامور الثلاثة وعدم إمكانه، فلو أثبتنا في هذا المقام عدم إمكان تحقّق الوجوب الطريقي لهذه الامور فسوف لا تصل النوبة إلى مقام الإثبات؛ أي ليس بالإمكان حينئدٍ أن نفحص عن دليل يدلّ على تعلّق الوجوب الطريقي بها، ولو وجدنا دليلًا يظهر منه ذلك فلابدّ من توجيهه؛ حيث إنّ هذه الامور- حسب الفرض- لا تقبل أن تكون كواجبات طريقية.

وقد ذهب بعض الأعلام رحمه الله إلى تفصيل في المقام، حاصله: أنّ هناك فرضين:

فرض وجود العلم الإجمالي بالتكاليف الشرعية، وفرض عدم وجوده في البين بأن نفترض عدم وجود العلم من الأوّل، أو انحلاله بعد أن كان موجوداً.

ص: 61

أمّا بالنسبة إلى الفرض الأوّل: فلا يمكن أن يتصوّر تعلّق الوجوب الطريقي بالامور الثلاثة؛ حيث إنّ الغرض من الوجوب الطريقي هو تنجيز متعلّقه، والمفروض تنجّزه بالعلم الإجمالي، والمتنجّز لا يتنجّز ثانية.

وأمّا بالنسبة إلى الفرض الثاني: فيمكن تعلّق الوجوب الطريقي بالاجتهاد وأخويه، ووجه ذلك: أنّ أدلّة الاصول الترخيصية تشمل موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص، ومقتضى شمولها لذلك عدم تنجّز التكاليف، وحينئدٍ فبالإمكان أن نفترض ورود أمر من الشارع يدلّ على وجوب الاجتهاد وأخويه بهدف تنجيز ما هو غير متنجّز علينا، فيصبح الاجتهاد وأخواه كواجبات يتحفّظ بسببها على الأحكام والتكاليف، فيثبت المدّعى وهو إمكان فرض الوجوب الطريقي لهذه الثلاثة، ولا نريد الأزيد من ذلك، فلو لا أمر الشارع بهذه الثلاثة لما بقي لتنجّز الأحكام طريق، وعليه فإنّ الشارع لو أراد تنجيز هذه الأحكام في موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص فلابدّ أن يستفيد من هذه الطرق الثلاث.

أمّا أنّه هل أمر بها بهدف التنجيز فهو أمر لابدّ أن نبحث عنه في مقام الإثبات.

ثمّ أشار رحمه الله في ذيل كلامه إلى نكتة، وهي أنّ ما ذكرنا- من إمكان تعلّق الوجوب الطريقي بالتقليد- يصحّ إذا افترضنا أنّ التقليد عبارة عن تعلّم الفتوى أو أخذها، أمّا لو فسّرناه بأ نّه العمل استناداً إلى الفتوى فلا تصحّ نسبة التنجيز إليه؛ حيث إنّه عبارة عن نفس الإتيان بالعمل، مع أنّ التنجّز يعني أنّ الحكم قد ثبت واستقرّ علينا فلابدّ من الإتيان به؛ والذي ينجّز الحكم هو التعلّم، فإذا تعلّم شخص حكماً ما فهو يتنجّز عليه، فلابدّ من الإتيان به، أي يجب عليه أن يأتي به، وهذا هو معنى التنجّز(1).


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 3- 4 ..

ص: 62

وتتوجّه إلى كلامه عدّة مناقشات:

الاولى: أنّ ما ذكره في الفرض الثاني- من تعلّق الوجوب الطريقي الشرعي بالاجتهاد وأخويه- يواجه نفس المشكلة التي نحن بصدد حلّها؛ حيث إنّ هذا الوجوب الذي نريد إثباته للُامور الثلاثة نفسه حكم شرعي حسب الفرض، فلابدّ أن يتنجّز علينا، فنسأل ما هو المنجّز لهذا الحكم؟ فإن قيل: إنّ حكم العقل ينجّزه فهو خلاف المدّعى؛ حيث ثبت أنّ الذي يوجب الاجتهاد وأخويه لأوّل مرّة هو العقل لا الشرع، وإن قيل: إنّ تنجّزه يتمّ بسبب حكم آخر من الشرع- أي أنّه أمر باجتهادٍ أو تقليدٍ آخرين؛ حتّى نصّ في ضوئهما على وجوب الاجتهاد أو التقليد بسبب الاستنباط من الأدلّة- فهذا يعني إمّا الدور أو التسلسل، وكلاهما باطلان.

ومن هنا صحّ أن يدّعى أنّه لا مجال للقول بتعلّق الوجوب بالامور الثلاثة في الفرض الثاني؛ فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال لإثبات هذا الإمكان هو ما قاله، وهو محلّ مناقشة كما قلنا.

المناقشة الثانية: أنّ ماذكره رحمه الله- من جريان أدلّة الاصول الترخيصية في موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص، ومقتضى شمولها لها عدم تنجّز التكليف، بإمكان أن يتصوّر التنجيز للاجتهاد والتقليد والاحتياط- يرد عليه: أنّ الفرض الذي نحن فيه هو فرض عدم وجود العلم الإجمالي في البين، وعليه فلا حاجة إلى اللجوء إلى الأدلّة الترخيصية لإثبات عدم تنجيز التكليف؛ حيث إنّ المنجّز هو العلم الإجمالي وهو منتفٍ بحسب الفرض.

إلّا أن يقال: هناك مبنى آخر يقول بأنّ صرف الاحتمال منجّز وإن لم يكن مقروناً بالعلم الإجمالي، وعليه لابدّ من التمسّك بأدلّة الاصول الترخيصية لرفع تنجّز التكليف الذي ثبت تنجّزه بسبب الاحتمال، فكلام المحقّق الخوئي رحمه الله في محلّه.

ص: 63

غير أنّه- مضافاً إلى عدم ذهاب السيّد الخوئي رحمه الله نفسه وكثير من المحقّقين إلى ذلك- يرد عليه: أنّه لو تبنّينا هذا المبنى القائل بمنجّزية الاحتمال فسوف لا يبقى لنا مجال للاعتقاد بشمول أدلّة الاصول الترخيصية في المقام، بل إنّ قبول شمول تلك الأدلّة للمقام يواجه مشكلة أساسية؛ وهي أنّ هذا الدليل المرخّص لا يخلو حاله عن أمرين: فإنّه إمّا صدر كحكم من العقل أو صدر كحكم من الشرع، فلو كان الأوّل فالإشكال هو أنّنا بذلك التزمنا في الفرض بصدور أمرين متعارضين من ناحية العقل؛ حيث قبلنا من ناحية أنّ العقل حكم بتنجّز التكليف، ومن ناحية اخرى حكم بعدم تنجّزه، فإنّه عندما يحكم بالمنجّزية للاحتمال فهو بذلك يحكم بأنّ التكليف متنجّز علينا، وعندما يحكم بالترخيص فهو يحكم بعدم تنجّز التكليف علينا، فلو حكم بالأوّل فلا يحكم بالثاني، والعكس أيضاً كذلك.

وإن قلتم: إنّه حكم بالمنجّزية للاحتمال ولم يحكم بالثاني، فنقول: إذن لا تصل النوبة إلى الاجتهاد والتقليد والاحتياط لكي يكون كلّ منها منجّزاً للتكليف؛ حيث إنّ الفرض أنّ الاحتمال حينئذٍ هو المنجّز.

وإن قلتم بأنّ العقل لم يحكم بالأوّل- أي منجّزية الاحتمال- بل حكم بالثاني أي الترخيص، فنقول: إذن لا حاجة إلى اللجوء إلى الأدلّة الترخيصية كما فعل هذا المحقّق رحمه الله؛ حيث إنّ التنجيز حينئذٍ منتفٍ فلماذا ترجعون إلى الأدلّة الترخيصية؟! بل بإمكان أن يقال: إنّه بما أنّ التكليف غير متنجّز فيصحّ أن يجعل الاجتهاد وأخواه كواجبات طريقية تنجّز التكاليف.

ولو كان الثاني فالإشكال هو أنّ هذا يعني صدور أمرين متعارضين من قبل الشرع؛ حيث إنّنا تصوّرنا من ناحية أنّ الشارع حكم بالترخيص، ومقتضاه عدم تنجّز التكليف، ومن ناحية اخرى حكم بلزوم الاجتهاد وأخويه بهدف التنجّز، فلو

ص: 64

كان أراد التنجّز فلماذا جاء بدليل الأصل الترخيصي؟ ولو أراد عدم التنجّز فلماذا أصدر أمره بالاجتهاد والتقليد والاحتياط بهدف التنجّز؟

فتحصّل: أنّ ما قاله- من شمول أدلّة الاصول الترخيصية لموارد الشبهة الحكمية قبل الفحص- غير صحيح.

المناقشة الثالثة: وهي متوجّهة إلى ما ذكره قدس سره في نهاية كلامه من أنّ التقليد إذا فُسّر بأ نّه العمل استناداً إلى الفتوى فلا تصحّ نسبة التنجيز إليه؛ حيث إنّنا نلتزم بأنّ الذي هو منجّز في الواقع في مفروض الكلام ليس الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط حتّى يلزم ما قاله، بل المنجّز هو ذلك الأمر الصادر من المولى متوجّهاً إلى الاجتهاد وعدليه؛ بمعنى أنّ هذا الأمر ينجّز التكليف بمحض صدوره، وعليه فإنّ الاجتهاد حتّى لو لم يتحقّق بعدُ فإنّ التكليف متنجّز على الشخص؛ وذلك لأنّ هذا الاجتهاد ليس هو الذي ينجّزه بل المنجّز هو ذلك الأمر، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر يمكن أن يأتي بالنسبة إلى الكلّ على مستوى واحد، وعليه فلا فرق في أن نفسّر التقليد بالعمل أو نفسّره بالتعلّم؛ فإنّ الأمر المتوجّه إليه هو الذي ينجّز الحكم في كلا الشقّين.

اللهمّ إلّاأن يقال: صحيح إنّ المنجّز هو الأمر، غير أنّه يوجد هناك فرق بين الاجتهاد والتقليد حسب التفسير الأوّل والتقليد حسب تفسيره بأ نّه العمل، وهذا الفرق هو أنّ الاجتهاد والتقليد إذا فسِّرا بالتعلّم توجد فيهما قابلية التنجيز؛ بمعنى أنّ الاجتهاد لو اتّفق أن يتحقّق في موردٍ ينجّز الحكم الذي يكشف عنه، وكذلك التقليد حسب هذا التفسير؛ فإنّ المقلّد إذا أخذ الفتوى أو تعلّمها يصبح التكليف عليه منجّزاً، وهذا بخلاف التقليد حسب التفسير الثاني؛ فإنّه لا يمتلك مثل هذه القابلية، حيث إنّه عبارة عن نفس الإتيان.

ص: 65

ومن المعلوم أنّ هذه القابلية- الموجودة في الاجتهاد والتقليد حسب المعنى الأوّل- تلعب دوراً في إصدار الأمر من قبل المولى، فالذي هو الداعي في إصداره وجود هذه القابلية فيهما؛ بمعنى أنّ الشارع لمّا رأى أنّ الاجتهاد يمكن أن ينجّز الحكم يُصدر أمره إليه بهدف التنجيز، غير أنّ هذا الأمر سوف ينجّز الحكم بمجرّد أن صدر من المولى، فلا يُبقي مجالًا للاجتهاد حتّى ينجّز- هو- الحكم، بمعنى أنّه بعد صدور الأمر لو لم تأتِ بالاجتهاد فإنّ التكليف متنجّز عليك بلحاظ كون منجّزه هو ذلك الأمر لا الاجتهاد.

وبعد ذلك نقول: إنّ هذه القابلية- التي هي بمثابة الداعي إلى إصدار الأمر- غير موجودة في التقليد الذي فُسّر بنفس العمل، وعليه كيف يصدر أمر يتوجّه إليه؟ وهذا هو الفارق بين الموردين.

ولكن يقال في الجواب عن ذلك: إنّ إصدار المولى أمره بالنسبة إلى شي ء بهدف تنجيز الحكم لا يحتاج إلى أن يكون الداعي له عبارة عن وجود مثل هذه القابلية المشار إليها، بل يكفي لتحقّق هذا الداعي ثبوت صلة وارتباط للشي ء بما فيه مثل تلك القابلية، بمعنى أنّ الشي ء الذي يتوجّه إليه أمر المولى بهدف التنجيز لابدّ إمّا أن تكون فيه قابلية التنجيز، أو أن تكون له صلة بما فيه قابلية التنجيز؛ فإنّ كلًاّ من القابلية المذكورة والصلة بما فيه تلك القابلية يكفي لكي يكون داعياً للمولى حتّى يصدر أمره إلى الشي ء بهدف التنجيز.

والتقليد إذا فسّر بنفس العمل وإن لم يكن فيه تلك القابلية، ولكن له صلة بما فيه تلك القابلية، وهذه الصلة تتمثّل لنا في صورتين:

الاولى: أنّ التقليد هذا عِدل للاجتهاد، وعليه يكون أمر الشارع عبارة عن أنّه يجب عليكم بهدف التنجيز: إمّا الاجتهاد وإمّا التقليد، فالصلة عبارة عن كونه

ص: 66

عِدلًا للاجتهاد الذي فيه تلك القابلية.

الثانية: أنّ التقليد لا معنى له بدون الاجتهاد؛ حيث إنّه عبارة- بحسب المعنى الثاني- عن العمل استناداً إلى فتوى المجتهد، لا نفس العمل بدون أن يكون له مثل هذا الاستناد، ومن المعلوم أنّ هذا الاستناد يعني الاستناد إلى ما تحقّق على أساس الاجتهاد الذي فيه تلك القابلية.

وعلى أيّ حال فإنّه- كما ظهر من المناقشة الاولى- لا يوجد أمامنا طريق للقول بإمكان تعلّق الوجوب الطريقي بالامور الثلاثة في الفرض الثاني، كما هو الحال بالنسبة إلى الفرض الأوّل أيضاً بما تقدّم منه رحمه الله.

وأمّا البحث الإثباتي: فنقول فيه: قد يقال بأنّ هناك أدلّة تدلّ على وجوب التعلّم مثل ما ورد(1) من إيجاب طلب العلم، أو لزوم السؤال من أهل الذكر(2)، فإنّ هذه الأدلّة تدلّ على تحقّق الوجوب الطريقي للاجتهاد والتقليد اللذين يتحقّق التعلّم بأحدهما؛ فإنّ التعلّم عبارة عن التعلّم الاجتهادي والتعلّم التقليدي.

إن قيل: لعلّ هذه الأدلّة تدلّ على تحقّق وجوب نفسي للاجتهاد والتقليد، لا الوجوب الطريقي لهما كما هو المدّعى.

قلنا: إنّ كلّ دليل تتحقّق له الدلالة على أساس ما للناس والعرف من الرؤية والارتكاز، ومن المعلوم أنّ الذي يراه العرف بالنسبة إلى التعلّم هو كونه طريقاً إلى الواقع، وأ نّه عندما يقال: «تعلّم شيئاً» فالملاك في ذلك الشي ء، لا في التعلّم نفسه؛ فإنّه يأتي لكي يكون طريقاً إلى ذلك الشي ء، فإذا كان للعرف مثل هذه الرؤية فلابدّ أن تُحمل الأدلّة الواردة في التعلّم على ذلك الفهم العرفي، فتكون النتيجة: أنّ الأدلّة


1- الكافي 1: 30/ 1 و 2 و 5 ..
2- النحل( 16): 43 ..

ص: 67

تثبت لنا تعلّق وجوب طريقي بالاجتهاد والتقليد، هذا.

ولكن إثبات المدّعى مشكل؛ من ناحية أنّنا أثبتنا في البحث الثبوتي عدم إمكان تعلّق الوجوب الطريقي بالاجتهاد والتقليد، وعليه لا يبقى مجال لمثل هذه الاستفادة الإثباتية من الأدلّة الواردة في التعلّم، بل لابدّ من توجيهها بأن يقال: إنّ هذه الأدلّة إرشادية.

إلّا أن يقال: إنّه بالنسبة إلى الشقّ الثاني من الفرد الثاني- وهو فرض انحلال العلم الإجمالي- قلنا: إنّ تعلّق الوجوب الطريقي بالاجتهاد والتقليد قد يتصوّر أمراً ممكناً لو قبلنا شيئاً من التسامح وأغمضنا عن بعض الإشكالات المتصوّرة هناك، وعليه لابدّ من حمل الأدلّة الواردة في التعلّم على أنّها في مقام إيجاب الاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى ما يبرز أمامنا بعد الانحلال من شبهات بدوية.

وبعبارة اخرى: أنّه بعد إثبات الإمكان في البحث الثبوتي لإيجاب الاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى فرض الانحلال، تحمل الأدلّة الواردة في التعلّم على ذلك الإيجاب الممكن.

إلّا أنّه يمكن أن يلاحظ على هذه المحاولة: بأ نّه توجد في المقام فروض ثلاثة:

الأوّل: أن تكون هذه الأدلّة الواردة في التعلّم ناظرة إلى فرض الانحلال، فتكون هي بصدد إيجاب الاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى الشبهات البدوية قبل الفحص.

الثاني: أن تكون ناظرة إلى ما قبل الانحلال، فتكون حينئذٍ بصدد الإرشاد إلى حكم العقل؛ حيث افترضنا أنّ العقل قد أوجب علينا الاجتهاد والتقليد على أساس وجود العلم الإجمالي في البين.

الثالث: أنّها مطلقة وشاملة لفرض ما قبل الانحلال وفرض ما بعده، فتكون بصدد الإرشاد إلى حكم العقل بالنسبة إلى فرض ما قبل الانحلال، وفي نفس الوقت

ص: 68

تكون بصدد تأسيس الوجوب بالنسبة إلى فرض ما بعد الانحلال.

وبعد ذلك نقول: أنّ الفرض الأوّل لا يمكن الالتزام به؛ حيث إنّه مع وجود حكم للعقل في إيجاب الاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى فرض ما قبل الانحلال ينعقد لتلك الأدلّة ظهور في الإرشاد إلى ذلك الحكم، ومع مثل هذا الظهور كيف يمكن اعتبار الأدلّة واردة في غير ما دلّ العقل على إيجابه؟!

وبعبارة اخرى: أنّه صحيح أنّ المفروض إمكان تعلّق وجوب طريقي بالاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى فرض ما بعد الانحلال، غير أنّ صرف هذا الإمكان غير كافٍ في إثبات المدّعى، بل لابدّ أن نرى أنّ الأدلّة هل تدلّ على ذلك الأمر الممكن أم لا؟

ومن المعلوم أنّ هذه الدلالة غير متحقّقة لها؛ وذلك بسبب أنّه انعقد لها ظهور في الإرشاد إلى حكم العقل، لأنّ للعقل حكماً في إيجاب الاجتهاد والتقليد وبما أنّ حكم العقل يكون لما قبل الانحلال فلا محالة الحكم الإرشادي إلى ذلك الحكم العقلي أيضاً يكون لما قبل الانحلال فلا ينعقد ظهور لتلك الأدلّة لما بعد الانحلال كما هو المدّعى في الفرض الأوّل.

وبعد إبطال الفرض الأوّل يبقى أمامنا فرضان، فلو ذهبنا إلى الفرض الثاني فالنتيجة عدم إثبات المدّعى؛ حيث اعتبر كون الأدلّة إرشادية محضة، ولو ذهبنا إلى الفرض الثالث فيثبت المدّعى؛ حيث افترضنا أنّ الأدلّة تكون بصدد تأسيس الوجوب لفرض ما بعد الانحلال في نفس الوقت الذي تكون هي إرشادية بالنسبة إلى فرض ما قبل الانحلال.

والحقّ أن يقال: إنّ الفرض الثالث لا يمكن قبوله؛ وذلك لأنّه يعني فرض ورود دليل واحد في مقامين: مقام الإرشاد ومقام التأسيس، وهذا لا يمكن الالتزام به؛ فإنّ الدليل لو أراد الشخص الذي جاء به أن يجعله ناظراً إلى كلا مجالي الإرشاد

ص: 69

والتأسيس فلابدّ من نصب قرينة تدلّ على ذلك، ومع عدم نصبها فالدليل ينصرف لا محالة إلى ذلك الوجوب العقلي، وحينئذٍ يكون إرشادياً؛ فإنّ التأسيس شي ء زائد على ما أثبته العقل من الوجوه، وهذا الشي ء الزائد لا يثبت إلّاإذا نُصبت عليه قرينة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الاجتهاد والتقليد، وأمّا الاحتياط فقد يقال بوجود أدلّة تدلّ عليه، والصحيح- في مقام تقسيم تلك الأدلّة- أن يقال: إنّ تلك الفروض الثلاثة- التي أتت بالنسبة إلى أدلّة التعلّم- جائية هنا أيضاً، فلو فرضنا كون هذه الأدلّة واردة بشكل مطلق بحيث تشمل فرضي ما قبل الانحلال وما بعده، فتكون هي إرشادية بالنسبة إلى ما قبل الانحلال وتأسيسية بالنسبة إلى ما بعده. وهو الفرض الثالث من تلك الفروض.

فيردّ بمثل ما رُدّ به فرض كون أدلّة التعلّم مطلقة؛ من أنّ ورود دليل واحد في مقامين لا يصح إلّاإذا نصبت عليه قرينة، وهي منتفية في المقام. كما أنّا لو فرضنا الفرض الثاني من تلك الفروض وهو نظارة الأدلّة إلى ما قبل الانحلال فيرد عليه ما تقدّم بالنسبة إلى الاجتهاد والتقليد في هذا الفرض من أنّ النتيجة حينئذٍ عدم إثبات المدّعى حيث اعتبر كون الأدلّة إرشادية محضة.

وأمّا الفرض الأوّل من تلك الفروض وهو كون هذه الأدلّة في مقام تأسيس الوجوب الطريقي للاحتياط لمرحلة ما بعد الانحلال؛ أي تلك المرحلة التي برزت فيها أمامنا شبهات بدوية ولم نفحص عنها بعدُ. فهذا هو الذي فهمه الكثير من أدلّة الاحتياط، وقالوا بأ نّها توجب الاحتياط لهذه المرحلة.

إلّا أنّ قبول هذا الفرض يواجه مشكلتين، فإن أمكن دفعهما ثبت الفرض وإلّا فلا.

المشكلة الاولى: إنّه فرض أنّ هناك حكماً للعقل بوجوب الاحتياط لمرحلة ما

ص: 70

قبل الانحلال بنحو البدلية؛ أي أنّه يجب إمّا الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، فلابدّ- مع وجود هذا الحكم- من حمل أدلّة الاحتياط على الإرشاد إلى ذلك الحكم العقلي؛ لما قلناه سابقاً من أنّه إذا كان هناك حكم عقلي ثمّ ورد دليل من الشرع فلابدّ من حمله على ذلك الحكم العقلي، أمّا اعتبار هذا الدليل ناظراً إلى تأسيس الوجوب بالنسبة إلى تلك المرحلة التي ورد فيها حكم العقل فهو شي ء زائد يحتاج إلى نصب قرينة، وعليه لا يصحّ هذا الفرض القائل بأنّ الأدلّة تؤسّس وجوباً للاحتياط لمرحلة ما بعد الانحلال.

المشكلة الثانية: أنّه لو سلّمنا كون أدلّة الاحتياط ناظرة إلى مورد بروز الشبهات البدوية بعد الانحلال، فإنّه يثبت بناءً على ذلك شي ءٌ هو غير المدّعى؛ حيث إنّ المدّعى اعتبار وجوب طريقي للاحتياط على سبيل كونه بدلًا عن الاجتهاد والتقليد.

وهذا واضح عندما ننظر إلى أصل المسألة التي عقدوها هنا: من أنّه يجب على المكلّف إمّا أن يجتهد أو يقلّد أو يحتاط، فالمدّعى هو أنّه يجب من أوّل الأمر أحد هذه الامور الثلاثة، مع أنّ الذي أثبتّموه أوّلًا: جاء في فرض ما بعد الانحلال، وثانياً:

أنّ هذا الوجوب للاحتياط جاء لا على سبيل البدلية؛ حيث أثبتنا سابقاً أنّ الوجوب للاجتهاد والتقليد لا يأتي لا قبل الانحلال ولا بعد الانحلال، ومعنى ذلك أنّ الثابت غير المدّعى.

الثالث: أنّ هذا الوجوب وجوب نفسي

وهاهنا نبحث أيضاً في مقامين: ثبوتي وإثباتي.

أمّا ثبوتاً فنقول: إنّ تعلّق وجوب نفسي بالاجتهاد وأخويه يبدو كأمر غير ممكن، لا بلحاظ أنّ توفّر مصلحة واقعية في الاجتهاد وأخويه يكون أمراً غير ممكن، فإنّ

ص: 71

هذا أمر لا إشكال في إمكانه؛ فإنّ العقل لا يرى أيّ استحالة في أن تكون لهذه الامور الثلاثة مصلحة واقعية تصبح على أساسها كواجبات نفسية، غير أنّ صرف إمكان توفّر هذه المصلحة غير كافٍ للحكم بإمكان صيرورتها كواجبات نفسية، بل لابدّ أن نرى هل هناك مشكلة في تعلّق أمر الشارع بهذه الامور الثلاثة أم لا.

وفي الحقيقة توجد مشكلتان في المقام لا يمكن بلحاظهما الحكم بإمكان الوجوب النفسي:

الاولى: ليس للشارع أن يُصدر أمراً مولوياً في موردٍ صدر من العقل فيه حكم بالوجوب، فلو واجهنا فيه أمراً من الشارع لزم حمله على الإرشاد؛ ولعلّه لذلك حمل السيّد الإمام الخميني الأحاديث الواردة في المقام على كونها إرشاداً إلى حكم العقل بلزوم التعلّم والسؤال(1).

ومن المعلوم أنّ في المقام وجوباً عقلياً للاجتهاد والتقليد والاحتياط كما هو المفروض؛ حيث قلنا: إنّه بعد وجود علم إجمالي بالتكاليف فلابدّ من تحصيل مؤمّن من العذاب المحتمل.

الثانية: أنّ هناك قاعدة تقول: ليس للشارع أن يُصدر تكاليف لا تقبل التنجّز أو تواجه مشكلة التنجّز، ومن المعلوم أنّ إيجاب الشارع للاجتهاد والتقليد والاحتياط من الموارد التي تواجه مشكلة التنجّز؛ حيث إنّ الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ما هو منجّزها؟

فلو قيل: إنّ حكم العقل بوجوبها هو السبيل والطريق إلى تنجّز هذا الوجوب الشرعي، فنقول: إنّه بعد فرض الامور الثلاثة كواجبات عقلية يثبت ذلك المدّعى الذي يقابل مدّعانا؛ وهو أنّ هذه الامور تُعدّ كواجبات طريقية.


1- راجع: أنوار الهداية 2: 429 ..

ص: 72

وإن قيل: إنّ تنجّز هذا الوجوب الشرعي يتحقّق على أساس ما للشارع من حكم آخر؛ وهو إيجاب الاجتهاد والتقليد كواجبين طريقيّين، فنقول في الجواب:

أوّلًا: أنّ الشارع لو أوجبها كواجبات طريقية، فإنّه يتحقّق بهذا الإيجاب الطريقي ما يريده من إيجابها بالوجوب النفسي، فليس من المعقول أن نتصوّر أنّ الشارع أوجبها في البداية بالوجوب الطريقي ثمّ بعد ذلك أوجبها بالوجوب النفسي.

وثانياً: أنّ هذا الإيجاب الطريقي- المتصوّر للاجتهاد والتقليد الآخرين- نفسه يعدّ حكماً شرعياً، ولابدّ من أن يتنجّز علينا، فيسأل: ما هو المنجّز لهما؟! هذا كلّه بالنسبة إلى الاجتهاد والتقليد.

وأمّا بالنسبة إلى الاحتياط: فالأمر فيه كذلك أي إنّه غير ممكن، وليس ذلك بلحاظ عدم إمكان توفّر مصلحة واقعية في الاحتياط، فإنّ ذلك غير مقبول، بل بلحاظ عدم إمكان تعلّق الإيجاب الشرعي النفسي به بعد إثبات وجوب عقلي له حسب الدليل الذي أسلفناه سابقاً من لزوم تحصيل المؤمّن، وإذا ثبت حكم عقلي لشي ء فليس للشارع إصدار أمر مولوي بالنسبة إلى نفس ذلك الشي ء.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

أمّا إثباتاً فنقول: لو أغمضنا النظر عن النتيجة التي انتهينا إليها في مقام الثبوت- من حيث عدم إمكان تعلّق الوجوب النفسي بالامور الثلاثة- فلابدّ أن نرى في مقام الإثبات هل هناك دليل على تعلّق هذا الوجوب بها أم لا؟ فيقال:

أمّا بالنسبة إلى الاجتهاد والتقليد فنحن نواجه أدلّة تدلّ على لزوم التعلّم، غير أنّه لا يصحّ استفادة الوجوب النفسي من هذه الأدلّة؛ وذلك لأنّ كلّ دليل لابدّ أن تتمّ الاستفادة منه حسب الفهم العرفي، ومن المعلوم أنّ العرف يرى أنّ التعلّم طريق للمحافظة على الواقع، وليست له الموضوعية، ومع وجود مثل هذا الفهم العرفي

ص: 73

- المتأصّلة جذوره في مرتكزاتهم- لا يصحّ استفادة الوجوب النفسي للتعلّق.

هذا بالإضافة إلى أنّ في بعض هذه الأدلّة إشارةً وإشعاراً بذلك؛ فإنّه ورد في الحديث: «إنّ العبد يسأل يوم القيامة: هلّا عملت؟ فيقول في الجواب: ما علمت، فيقال له: هلّا تعلمت؟!»(1) فالتعلّم لا يسأل عنه إلّابلحاظ العمل، وهذا يقوّي ذلك الفهم العرفي الذي أشرنا إليه.

وأمّا بالنسبة إلى الاحتياط فهناك أدلّة شرعية تدلّ عليه، غير أنّ الذي يستفاد من هذه الأدلّة- على فرض تسليم ورودها في مقام الإيجاب- ليس هو وجوب الاحتياط كعِدل للاجتهاد والتقليد؛ وذلك لأنّه ثبت عدم استفادة الوجوب للاجتهاد والتقليد من الأدلّة، ومعه لا مجال لأن نذهب إلى إيجاب الاحتياط كعِدل لهما، فإنّهما حسب الفرض غير واجبين، فكيف يجب الاحتياط كعِدل للاجتهاد والتقليد؟!

فإن قيل: إنّه يجب الاحتياط لا على سبيل البدل، قلنا: إنّ هذا لا يصحّ الالتزام به؛ لأنّه يعني أنّ الشارع قد أوجب علينا أن نحتاط دائماً ومنذ البداية.

إلّا أن يقال: إنّ القول بوجوب الاحتياط لا على سبيل البدل لا يقتضي إيجابه للاحتياط منذ البداية؛ لأنّ المفروض أنّ الشارع ارتضى الوجوب العقلي للاجتهاد والتقليد وأرشد إليهما، ومع قبوله له يكون إيجابه للاحتياط إيجاباً لمرحلة ما بعد العمل على أساس الاجتهاد والتقليد.

أو يقال: إنّه لم يوجب الاحتياط إلّاللشبهات البدوية قبل الفحص، لا منذ البداية وحين وجود العلم الإجمالي.


1- راجع: الأمالي، الشيخ الطوسي: 9/ 10؛ تفسير نور الثقلين 1: 775- 776/ 300؛ بحار الأنوار 2: 29 و 180 ..

ص: 74

هذا كلّه بالإضافة إلى أنّ الفهم العرفي في الاحتياط أنّه- كعِدليه- طريق للمحافظة على الواقع، ومع مثل هذا الفهم العرفي لا يصحّ استفادة الوجوب النفسي له من الأدلّة، فيكون حاله حال الاجتهاد والتقليد في عدم استفادة الوجوب النفسي.

هل الامور الثلاثة في عرض واحد أم بينها ترتّب طولي؟

بحث الفقهاء في أنّ هذه الامور الثلاثة هل هي في عرض واحد، أم بينها نسبة طولية؟ ولا يخفى أنّه ليس المقصود من وجود مراتب طولية بين الامور الثلاثة ما يتبادر إلى الذهن من الشرف لصاحب بعض هذه الامور بالنسبة إلى صاحب البعض الآخر؛ فإنّه لا سبيل لإنكار أنّ المجتهد في مكانة سامية وعالية بالنسبة إلى من يقلّده، بل المقصود هل تثبت المراتب الطولية بينها حسب قضية الاجتزاء الفقهي؛ بمعنى أنّه يسأل: أنّ من يتمكّن من الاجتهاد مثلًا هل له أن يقلّد أو يحتاط؟ فلو قلّد أو احتاط فهل تقليده أو احتياطه هذا مجزٍ أم لا؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى التقليد بالإضافة إلى الاحتياط أو العكس.

فنقول: يوجد هنا فرضان، بل قولان:

الأوّل: أنّها في عرض واحد.

والثاني: أنّ بينها نسبة طولية، وبالنسبة إلى هذا الفرض يبحث عن أنّ أيّ واحد منها هو الأوّل، وأيّاً منها هو الثاني وأيّاً منها هو الثالث؟ فهنا تتصوّر فروض يكون ثالثها التفصيل.

فنقول في ذلك: أمّا بالنسبة إلى الاجتهاد والتقليد فقبل الإشارة إلى ما ورد في المقام من الأدلّة لابدّ أن ننظر إلى حكم العقل، وسيّما أنّنا فرغنا من أنّ وجوب الاجتهاد والتقليد عقلي، فنقول:

ص: 75

إنّ العقل لا يخلو حاله في عالم الفرض عن الثلاثة: فإنّه إمّا أن يحكم بالترتيب والطولية، أو يحكم بعدم ذلك، أو لا يكون له حكم في المسألة، وعلى الأوّلين لا مشكلة، وأمّا على الأخير فلابدّ من النظر إلى الشرع؛ حيث إنّ للشرع أن يتدخّل ويحكم إمّا بالترتيب أو بعدمه، كما أنّ له أن لا يتدخّل بل يسكت، فلو ثبت عدم حكمه أيضاً فلابدّ من القول بثبوت النسبة العرضية بينهما؛ حيث إنّ المؤمّن من العذاب يتحقّق بكلا الأمرين: الاجتهاد والتقليد.

والحقيقة أمران:

1- إنّ العقل ليس له حكم في المسألة لا بالترتيب ولا بعدمه، بل إنّما هو حاكم بلزوم تحصيل المؤمّن، وبما أنّ هذا المؤمّن يبرز إمّا بالاجتهاد أو بالتقليد فيصير هذان واجبين بحكمه، فالاجتهاد والتقليد مصداقان لما هو الواجب، ومعلوم أنّ المصداقين يكونان في عرض واحد.

2- إنّ الشارع لم يسكت في المقام، بل توجد من جانبه أدلّة تدلّ على عدم لزوم رعاية الترتيب؛ يعني أنّ للمكلّف أن يختار ما يشاء من الاجتهاد والتقليد، من دون أن يكون هناك فرق بين حالتي التمكّن من تحصيل الاجتهاد وعدم التمكّن منه، ونشير فيما يلي إليها:

الأوّل: آية النفر، فإنّها تدلّ على لزوم قيام طائفة بتحصيل الاجتهاد والتفقّه، لا قيام الجميع به، فوجوب ذلك كفائي وليس عينياً، ومقتضى ذلك أنّ المكلّف يمكنه أن يختار طريقة التقليد وإن تمكّن من أن يذهب ويتفقّه بنفسه.

الثاني: أدلّة التقليد اللفظية كآية السؤال: فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(1) فإنّ لها إطلاقاً يشمل حالتي التمكّن من تحصيل الاجتهاد وعدم


1- النحل( 16): 43 ..

ص: 76

التمكّن منه، ففي كلتا الحالتين يصحّ للمكلّف أن يقلّد المفتي.

بالإضافة إلى ذلك: يمكن التمسّك بالسيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم؛ فإنّهم لم يتقيّدوا في الرجوع إلى العالم بما إذا كانوا غير متمكّنين من تحصيل العلم، بل استقرّت سيرتهم على ذلك في كلتا الحالتين.

ويتبيّن ممّا ذكرنا: أنّ النسبة بين الاجتهاد والتقليد نسبة عرضية، وإن كانت مرتبة الاجتهاد متقدّمة من حيث الشرف على التقليد.

ويبرز بعد ذلك هذا السؤال: ما هي النسبة بين الاحتياط وبين الاجتهاد والتقليد؟

هل هو في عرضهما، أو هو متقدّم من حيث الرتبة عليهما، أو هو متأخّر عنهما؟

يمكن أن يقال: إنّ الاحتياط لا شكّ في كونه من المسائل الخلافية من حيث حكمه؛ فالبعض يجوّزه والبعض الآخر يحرّمه، كما أنّ القائلين بجوازه يذهب جملة منهم إلى وجوبه إمّا نفسياً أو طريقياً، فالاختلاف حوله ممّا لا شكّ فيه، ومن المعلوم أ نّه في المسائل الخلافية لابدّ من الاجتهاد أو التقليد لإثبات صحّة أحد الآراء وليس هناك طريق آخر غيرهما، ولازم ذلك احتياج الاحتياط إلى الاجتهاد والتقليد، فيكون متأخّراً عنهما.

وقد تصدّى المحقّق الأصفهاني لردّ هذا الإشكال بما حاصله مع توضيحات: أنّ هناك حيثيّتين للاحتياط: حيثية كونه واجباً- سواء بالوجوب الشرعي النفسي أو الطريقي- أو كونه حراماً نفسياً بعنوانه، وحيثية خروجه عن كونه احتياطاً بسبب تدخّل الشارع في مورده بتعيين حكم له أي للمورد، وهذا التعيين يخرج المورد عن دائرة الاحتياط العقلي، ويجعله واضحاً من حيث ماله من الحكم الشرعي. ويعبّر عن الحيثية الاولى بالحيثية العارضة، و عن الثانية بالحيثية المخرجة.

أمّا بالنسبة إلى الحيثية الاولى: فلو كان العارض هو الوجوب فلا يكون الاجتهاد

ص: 77

والتقليد حينئذٍ متوجّهين إلّاإلى ذلك العارض أي حكم الوجوب، فإنّ كشف هذا الحكم العارض ليس ممكناً إلّابسبب الاجتهاد أو التقليد، أمّا قضية ترتّب الأثر على الاحتياط في مقام العمل فهي أجنبية عن مسألة الاجتهاد والتقليد؛ بمعنى أنّ هذا الأثر يترتّب على الاحتياط شئنا أم لم نشأ، اجتهدنا وقلّدنا أم لم نجتهد ولم نقلّد، اعتقدنا بوجوب الاحتياط الذي نأتي به في مقام العمل أم لم نعتقد.

ومن المعلوم أنّ النظر إلى الاحتياط كطريق من الطرق إلى ما له من مثل هذا التأثير العملي فيكون الاحتياط من هذا المنظار على مرتبة الاجتهاد والتقليد، وليس متأخّراً من حيث الرتبة عنهما، فكما أنّ بالاجتهاد والتقليد تخلّص الذمّة عن العهدة فكذلك الاحتياط؛ من حيث إنّه يترتّب عليه ذلك الأثر المشار إليه.

وأمّا لو كان العارض هو الحرمة، فقد يتوهّم بأنّ كشف هذه الحرمة يؤثّر على قصر الطريق في الاجتهاد والتقليد؛ حيث إنّه لو ثبت أنّه حرام فلا يبقى أمامنا إلّا الاجتهاد والتقليد، وعليه يكون الاحتياط متأخّراً من حيث الرتبة عنهما؛ إذ لو لم يتبيّن لنا ما له من حكم الحرمة فليس لنا جعله كطريق إلى جانب الاجتهاد والتقليد، فلو ثبت أنّه ليس بحرام في مورد جعلناه إلى جانبهما، أمّا لو ثبتت لنا حرمته فلا نحكم بكونه طريقاً إلى جانبهما، بل نحكم بقصر الطريق فيهما.

فإذاً الخطوة الاولى هي أن نفهم أنّ الاحتياط هل هو محرّم- في مثل العبادة مثلًا أو غيرها- أم لا، ولابدّ لذلك من أن نجتهد أو نقلّد.

وقد دفع المحقّق الأصفهاني هذا التوهّم بما حاصله: أنّ النظر الأصلي إلى الاحتياط- عندما نجعله كطريق إلى جانب الاجتهاد والتقليد- هو النظر إلى ما له من تأثير في مقام العمل، أي ننظر هل يترتّب عليه أثر في تحصيل الغرض وخروج الذمّة عن العهدة- كما هو الشأن في الاجتهاد والتقليد- أو لا يترتّب أثر في ذلك.

ص: 78

وعليه يرجع البحث عن حرمة هذا الاحتياط في مثل العبادة إلى أنّها هل تتحقّق بسبب الاحتياط بلحاظ خصوصية فيها- وهو قصد الوجه لو قلنا به- أم لا؟

وهذا لا ربط له بقضيّة إمكان الاحتياط كطريق من الطرق؛ فإنّ نتيجة التوصّل إلى حرمة الاحتياط في العبادة هو التعبّد بأ نّها غير متحقّقة بالاحتياط، وليست النتيجة عبارة عن التعبّد بإمكان الاحتياط وجوازه شرعاً.

ومن المعلوم أنّ اعتبار الاحتياط كطريق محصّل للغرض أمر عقلي، وهو بمعزل عن قضية التعبّد الشرعي، فلا نحتاج في جعله كطريق إلى تحصيل كونه محرّماً في مثل العبادة أم لا؛ فإنّه حتّى لو لم نجتهد ونقلّد ولم نصل بهما إلى حرمته أو عدمها أمكن اعتباره كطريق محصّل للغرض.

وأمّا بالنسبة إلى الحيثية الثانية فنقول: إنّ الاجتهاد والتقليد لو أوصلنا أحدهما إلى حكم للشارع في مورد الاحتياط العقلي، فإنّ نتيجة هذا الوصول إلى الحكم الشرعي هو التعبّد بوجود الحكم، وأنّ المورد خارج عن شمول الاحتياط العقلي، وليست النتيجة التعبّد بإمكان الاحتياط وجوازه.

ومن المعلوم أنّنا عندما نتكلّم عن الاحتياط نريد به أنّه أمكن تحصيل الغرض بسبب الاحتياط، وأين هذا من تلك النتيجة الحاصلة بالاجتهاد والتقليد، والتي كانت عبارة عن كون المورد خارجاً عن مجرى الاحتياط العقلي؟!

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه: أنّه سواء بالنسبة إلى الحيثية الاولى أو بالنسبة إلى الحيثية الثانية لا دخل للاجتهاد والتقليد في قضية إمكان الاحتياط كطريق محصِّل للغرض، فلا يكون الاحتياط متأخّراً من حيث الرتبة عن الاجتهاد والتقليد(1).

ولابدّ لأجل تمحيص كلامه أن ننظر أوّلًا إلى معنى التقدّم والتأخّر في المقام،


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 181- 182 ..

ص: 79

نقول: إنّ التقدّم والتأخّر على أشكال:

1- قد يراد منهما من حيث الرتبة الشرفية، بمعنى أنّ الاجتهاد في مكانةٍ عالية بالنسبة إلى الاحتياط، وأنّ المجتهد أكثر شرفاً من المحتاط. ولا كلام في ثبوت هذا التقدّم للاجتهاد بالنسبة إلى الاحتياط، غير أنّ التقدّم بهذا المعنى خارج عن محطّ نظر البحث.

2- قد يراد منهما وجود التأثير لطرف بالنسبة إلى الآخر؛ بمعنى أنّ الاجتهاد قد ترك وسيترك آثاراً على الاحتياط؛ بمعنى أنّ المحتاط عندما يريد أن يعمل بالاحتياط فلا محالة يتأثّر بنتائج الاجتهاد؛ حيث إنّه يأتي في مسألةٍ بالطرفين اللذين أبرزهما الاجتهاد؛ فإنّ كون شي ء دائراً أمره بين طرفين يعلم غالباً من ناحية الاجتهاد، فالمحتاطون جالسون على المائدة التي أعدّها المجتهدون سواء شاؤوا أم أبوا.

والتقدّم والتأخّر بهذا المعنى واقعيان جدّاً، إلّاأنّ هذا المعنى خارج عن محطّ البحث أيضاً؛ فإنّ البحث هنا متوجّه إلى مكلّف واحد، وأ نّه هل يجتهد أو يقلّد أو يحتاط، وإنّ أيّاً من هذه الطرق متقدّم بمعنى تعيّنه عليه؟

وأمّا ما ذكر من أنّ الاجتهاد قد ترك آثاراً على الاحتياط فهو يعني استفادة المكلّف المحتاط من نتائج اجتهادات الآخرين، وهذا لا ربط له بالذي نريده هنا من الحكم على المكلّف بأ نّك لابدّ أن تجتهد أو تقلّد أو تحتاط، فإنّ في عالم الواقع يتأثّر بعض الأشياء ببعضٍ في ظروف خاصّة.

3- قد يراد منهما أنّه يجب على المكلّف في البداية أن يجتهد أو يقلّد، فلو لم يتمكّن منهما فعليه أن يحتاط، وهذا المعنى لو ثبت نفع في ثبوت المدّعى؛ حيث اعتُبر في هذا الفرض الموارد الثلاثة بالنسبة إلى مكلّف واحد، واعتُبر أنّه

ص: 80

ليس له أن يحتاط إلّابعد عدم التمكّن من الآخرين وهذا هو التقدّم المبحوث عنه في المسألة.

إلّا أنّ هذا الفرض باطل ولم يذهب إليه أحد؛ حيث إنّ بحثنا في حكم العقل بوجوب هذه الثلاثة على البدلية، ومن المعلوم أنّ العقل ليس له حكم بمثل هذا التقدّم والتأخّر بين الاجتهاد والتقليد وبين الاحتياط؛ فإنّه في مقام بيان أنّ المحصِّل لغرض المولى يتحقّق بأحد هذه الامور الثلاثة، فلو كان التقدّم والتأخّر بالمعنى الثالث ثابتين فإنّما ينشآن من دليل شرعي- لو كان- وجده المجتهد، وهذا لا ربط له بحكم العقل.

مضافاً إلى أنّه لابدّ من أن يثبت وجود هذا الدليل في الشرع، بينما لم يذهب إلى مثل هذا الفرض أحد، بل الكلّ متّفقون على أنّ الاحتياط حسب هذا المعنى في عرض الاجتهاد والتقليد؛ أي لم يذهب أحد من العلماء إلى أنّه يجب أوّلًا الاجتهاد والتقليد ثمّ الاحتياط على تقدير عدم التمكّن من ذلك.

4- قد يراد منهما أنّه يجب على من يريد الاحتياط أن يعرف أحكامه إمّا بالاجتهاد أو بالتقليد ثمّ يبادر بالاحتياط.

والفرق بين هذا الفرض وسابقه: أنّه هنا يكون كلّ احتياط مسبوقاً باجتهاد أو تقليد؛ بمعنى أنّه في البداية يكون مجتهداً أو مقلّداً ثمّ يحتاط على أساس ذلك الاجتهاد أو التقليد، فالمحتاط يكون في نفس الوقت مجتهداً أو مقلّداً؛ لأنّه يعمل بالأحكام التي وصلت إليه بالاجتهاد والتقليد والتي نعبّر عنها بالاحتياط.

بينما في الفرض السابق ليس احتياط الشخص مسبوقاً باجتهاده أو تقليده، بل مسبوق بمعرفة نتائج اجتهادات الآخرين، وهذه المعرفة ليست عبارة عن تقليدهم.

ص: 81

وبعد هذا نسأل أنّ هذا الفرض الرابع هل هو صحيح؟ ثمّ لو كان صحيحاً فهل يثبت لهذا المعنى للتقدّم والتأخّر ذلك التقدّم والتأخّر المبحوث عنه هنا؟ فنقول:

أمّا بالنسبة إلى السؤال الثاني فالجواب بالإثبات؛ حيث إنّه يثبت أنّ على المحتاط أن لا يبادر بالاحتياط إلّابعد اجتهادٍ وقع من جانبه بالنسبة إلى موارد الاحتياط- وأ نّه هل يحصّل الغرض في جميع الموارد أو لا يحصّل الغرض في جميعها؟ وأ نّه كيف يتحقّق الاحتياط في هذه الموارد؟- أو تقليد للآخرين بالنسبة إلى موارد الاحتياط هذه؟ فمثل عدم جواز هذه المبادرة إلى الاحتياط منذ البداية يعني أنّ الاحتياط ليس في عرضهما في مقام العمل، وهذا هو نفس المدّعى الذي كان البعض بصدد إثباته.

وأمّا بالنسبة إلى السؤال الأوّل فالحقّ أنّ هذا الفرض لا يمكن قبوله؛ حيث إنّ لزومَ كون المحتاط عاملًا بما وصل إليه بالاجتهاد أمر اجتهادي يحكم به المجتهد حسب اجتهاده، والمفروض أنّ هذا الشخص المحتاط ليس بمقلّد له؛ فإنّ التقليد له أمر يخيّره العقل فيه، أمّا التقليد الذي يحكم المجتهد بلزومه فهو غير واجب على هذا الشخص، بل هو مخيّر بين طرق ثلاثة: الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط. وبعبارة اخرى: هذا الفرض مبتنٍ على عنصر يكون ثبوته أوّل الكلام؛ وهو لزوم عمل الشخص المحتاط بما وصل إليه المجتهد.

بعد ذلك كلّه ننتقل إلى كلام المحقّق الأصفهاني لتقييمه وتحليله، فنقول: إنّ هناك ملاحظتين على كلامه نذكرهما أوّلًا إجمالًا ثمّ نفصّلهما:

الاولى: أنّه لم يبيّن معنى التقدّم الوارد في كلامه؛ وأ نّه بأيّ معنى من المعاني المذكورة، ولو كان يركّز النظر إليه لكان يتمكّن من الإجابة على الإشكال بطريق آخر.

ص: 82

الثانية: أنّ الجواب الذي ذكره عن الإشكال غير صحيح.

أمّا توضيح الملاحظة الاولى فنقول:

إنّ الحيثيّتين اللتين قال بثبوتهما للاحتياط تنكشفان في عالم الاجتهاد؛ فإنّ المجتهد هو الذي يصل إلى أنّ أيّ حكم قد عرض على الاحتياط، وأنّ الاحتياط متى يخرج عن كونه احتياطاً وبسبب أيّ حكم، وحينئذٍ لابدّ له من الالتزام بما توصّل إليه.

أمّا بالنسبة إلى غير المجتهد فليس هذا الالتزام واجباً عليه إلّاإذا أصبح مقلّداً له، وإلّا فليس عليه الالتزام بما توصّل إليه المجتهد من الأحكام العارضة على الاحتياط. ومن المعلوم أنّ هذا الشخص الثالث- الذي ليس مقلّداً ولا مجتهداً- هو أيضاً توجّهت إليه تكاليف الشرع، فلابدّ من أن يأتي بما يؤمّنه من العذاب المحتمل الكائن في صورة عدم الإتيان بالتكاليف، وهذا المؤمّن كما يحصل بالاجتهاد والتقليد يحصل كذلك بالاحتياط، فله الاحتياط من دون الالتزام بما يصل إليه هذا المجتهد أو ذاك.

وبعبارة اخرى: أنّ ذلك الاعتبار الذي أخذه الاجتهاد من حكم العقل- بعنوان كونه طريقاً يؤمّن الشخص من العذاب- قد أخذه الاحتياط من العقل أيضاً، وعليه يتمكّن المكلّف أن يختار طريق الاحتياط ويأتي به في عالم الخارج حسب ما يفهمه، وأمّا إلزامه بالأحكام التي يصل إليها الاجتهاد فلا وجه له؛ فإنّه ليس مجتهداً حتّى تتنجّز تلك الأحكام عليه، وليس مقلّداً حتّى يجب عليه الالتزام بتلك الأحكام.

ونتيجة ذلك: أنّ الاحتياط ليس في مرتبة متأخّرة عنهما؛ فإنّ قبول هذه المرتبة المتأخّرة للاحتياط منوط بأن نجدها في صميم حكم العقل والحال أنّ الأمر ليس

ص: 83

كذلك؛ حيث إنّ المفروض أنّ حكم العقل هنا عبارة عن أنّ التكاليف التي نعلمها إجمالًا لابدّ من الإتيان بها، وهذا الإتيان يتحقّق إمّا بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط. وليس لدى العقل حكم زائد من ذلك.

وأمّا توضيح الملاحظة الثانية: فعدم صحّة كلامه لأجل أنّه قبل أنّ إمكان الاحتياط يأتي كنتيجة للحكم الذي يثبت عروضه على الاحتياط وهو حكم الحرمة؛ فإنّه كما ذكرنا قال بأنّ من يصل إلى أنّ قصد الوجه شرط في العبادة- وهو لا يتحقّق في الامتثال بطريق الاحتياط- يفهم أنّ الاحتياط غير ممكن في العبادة.

ومعنى كلامه ذلك هو الاعتراف بأنّ إمكان الاحتياط في العبادة متوقّف على نتيجة اجتهادية، وصرف هذا المقدار يكفي للحكم بتأخّر مرتبة الاحتياط عن الاجتهاد.

والذي ذكره من التفكيك بين التعبّد بإمكان الاحتياط وإمكانه في مقام العمل لا يرجع إلى محصّل؛ فإنّ تأخّر مرتبة الاحتياط لا يتصوّر في فرض القول بتعبّد إمكان الاحتياط بسبب الاجتهاد، بل يتحقّق بسبب القول بنفس كشف عدم إمكان الاحتياط.

لا يقال: إنّ كشف عدم إمكانه يرتبط بموارد من موارد الاحتياط وهي العبادة، وهذه كصغرى من صغريات الاحتياط.

فإنّه يقال: هذا غير معلوم لنا؛ إذ لعلّ الاحتياط ممنوع وغير ممكن في موارد، فلابدّ أن نجتهد حتّى نفهم إمكانه أو عدم إمكانه؛ فإنّ بحثنا فيمن لم يجتهد بعد، فلابدّ من الاجتهاد أوّلًا، وهذا يعني تقدّم مرتبة الاجتهاد على الاحتياط، فهذا الجواب للمحقّق الأصفهاني لا ينهض لدفع الإشكال المزبور.

ص: 84

فتحصّل ممّا ذكرنا كلّه: أنّ الاحتياط ليس متأخّراً رتبةً عن الاجتهاد والتقليد، بل هو في عرضهما.

وقد يقال بتقدّم رتبة الاحتياط على الاجتهاد والتقليد، ويستدلّ على ذلك: بأنّ الاحتياط هو الإتيان بجميع المحتملات في المسألة، فيوجب القطع بالامتثال، بخلاف الاجتهاد والتقليد؛ فإنّ السلوك على أساسهما لا يوجب القطع بالامتثال دائماً، بل يوجب الظنّ بالامتثال في أكثر الأحيان، ومن المعلوم أنّ الإتيان الموجب للقطع المتمثّل في الاحتياط مقدّم على الإتيان الموجب للظنّ المتمثّل في الاجتهاد والتقليد.

وقد ناقش هذا الدليل المحقّق الخوئي رحمه الله بما حاصله: أنّ الشارع لمّا نزّل الأمارات الظنّية منزلة القطع كان الإتيان بما قامت عليه الحجّة في عرض الإتيان الموجب للقطع بالامتثال؛ فإنّ الأوّل امتثال قطعي تعبّدي، والثاني امتثال قطعي وجداني، فالتفرقة بينهما في غير محلّها، فلا يبقى وجه لتقديم الاحتياط على أخويه. هذا فيما لم يكن الاحتياط محرّماً من ناحية الشارع؛ مثل ما إذا أوجب الاحتياط اختلالًا في النظام، ولم يكن كذلك مرجوحاً؛ مثل ما إذا أوجب الاحتياط عسراً وحرجاً للمكلّف(1).

أقول: إنّ الوجوب الذي نتصوّر ثبوته هنا للُامور الثلاثة ليس وجوباً شرعياً، بل هو وجوب عقلي كما مرّ سابقاً، فعليه لابدّ أن ننظر إلى حكم العقل؛ لكي نرى أنّ الوجوب الذي حكم به، هل هو ثابت في المرحلة الاولى للاحتياط ثمّ في فرض عدم التمكّن منه يثبت للاجتهاد والتقليد، أو هو ثابت للكلّ على حدّ سواء؟


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 45 ..

ص: 85

والحقيقة أنّ حكم العقل بالوجوب يتحقّق- كما قلنا سابقاً- على أساس قاعدة لزوم تحصيل المؤمّن من العذاب المحتمل، ومن المعلوم أنّ هذا المؤمن يتحقّق بكلّ من الاحتياط والاجتهاد والتقليد على حدّ سواء، فإنّ المطلوب للعقل تحصيل المؤمّن الذي يصدق على كلّ من الامور الثلاثة بشكل واحد، فليس الاحتياط مقدّماً عليه بناءً على ذلك.

وبعبارة اخرى: أنّ حكم العقل هو لزوم تحصيل المؤمّن، لا لزوم تحصيل القطع بتحقّق المكلّف به؛ فإنّ العقل لم يتعلّق له حكم بلزوم الوصول إلى المكلّف به.

ومن هنا يتبيّن أنّ الذي ذكره المحقّق الخوئي رحمه الله كجواب عن الاستدلال في غير محلّه؛ حيث إنّه نظر إلى ما وقع في الشرع من تنزيل الأمارات بمنزلة القطع، مع أنّنا نتكلّم في مرحلة ما يحكم به العقل بالنسبة إلى هذه الامور الثلاثة ولم تصل النوبة بعدُ إلى مرحلة ما حكم به الشرع؛ ومسألة التنزيل الشرعي أمر يثبت بسبب الاجتهاد، مع أنّنا نريد أن نكشف حكم الاجتهاد نفسه.

وبعبارة اخرى: أنّ المحقّق الخوئي رحمه الله قبل في مسألة تعيين نوعية الوجوب أنّه عقلي، فكيف رجع في هذه المسألة- أعني تعيين المراتب- إلى حكم الشرع؟! فإنّ الشرع حسب الفرض ليس له حكم في أصل الوجوب، فكيف يكون له حكم في تعيين المراتب؟!

فتبيّن: أنّ الفرض الصحيح- من بين الفروض الثلاثة المشار إليها- هو كون الاحتياط والاجتهاد والتقليد في عرض واحد، وأمّا فرض كون الاحتياط مقدّماً على أخويه، أو كون الاجتهاد والتقليد مقدّمين على الاحتياط، فهما غير صحيحين.

وأمّا سائر الفروض المتصوّرة في المقام فلم يذهب إليها أحد، فلا داعي لتطويل الكلام بالبحث فيها.

ص: 86

في غير الضروريات من عباداته ومعاملاته (1)

1- يمكن تقسيم متعلّق الاجتهاد إلى الضروري وغير الضروري، كما يمكن تقسيم غير الضروري إلى اليقيني وغير اليقيني.

وقد ذكر الفقهاء أنّ وجوب الامور الثلاثة المذكورة ثابت في غير الضروريات، أمّا بالنسبة إليها فلا يأتي حكم العقل بوجوبها.

ودليل ذلك: الوجهان التاليان:

الأوّل: أنّ الضروري حجّيته ذاتية، ومع كونه كذلك، لا تصل النوبة إلى التعبّد فيه بالطرق.

الثاني: أنّ موضوع حكم العقل بلزوم تحصيل المؤمّن من العذاب: ما إذا احتمل المكلّف ترتّب العقاب على تصرّفاته، ومن المعلوم أنّ العالم بحكمٍ ما لا يحتمل أن يكون الواقع غيره، فلا يحتمل ترتّب العقاب على الإتيان به، فلا يكون داخلًا في موضوع القاعدة العقلية المشار إليها.

وغير خفيّ أنّ ما ذكر من عدم الاحتياج إلى الامور الثلاثة في الضروريات يأتي فيما إذا كان العلم الضروري بالحكم حاصلًا للمكلّف، أمّا لو تصوّرنا أنّ هناك حكماً ضرورياً لدى المجتمع الإسلامي، غير أنّ المكلّف- بسبب كونه بعيداً عن هذا المجتمع، أو عدم صلته به- لم يكن عالماً به، فإنّه حينئذٍ يعدّ شاكّاً في الحكم، فتجب عليه الامور الثلاثة بالوجوب التخييري.

ونفس هذا الكلام يجري في اليقينيّات أيضاً، فكلّ حكم حصل لنا القطع به لا يجب الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط بالإضافة إليه؛ حتّى إذا لم يكن من الضروريات في الشريعة.

ص: 87

ولو في المستحبّات والمباحات (1)،

1- يمكن تقسيم متعلّق الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط من زاوية اخرى، وهي تقسيمه إلى الأحكام الإلزامية وغير الإلزامية.

وحينئذٍ نسأل هل ما ذكر من وجوب الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط يختصّ بالأحكام الإلزامية فقط، أو يأتي بالإضافة إلى مثل المندوبات والمباحات أيضاً؟

ذهب بعض الفقهاء إلى الأوّل، والحقّ تعلّقه بجميع الأحكام الإلزامية وغير الإلزامية؛ فإنّه يجب على الإنسان أن يكون إمّا مجتهداً أو مقلّداً في المندوبات والمباحات أيضاً.

وقد يطرح هنا سؤال آخر، وهو أنّ الأحكام غير الإلزامية لا يجب فعلها ولا يحرم تركها حتّى نحتاج إلى مؤمّن في تركها أو فعلها؟ فعليه لا يجب بالإضافة إليه تحصيل المؤمّن، فلا يجب الاجتهاد ولا التقليد.

غير أنّ هذا الإشكال غير صحيح؛ فإنّ الاجتهاد والتقليد لا نحتاج إليهما في مرحلة إحراز كون الحكم مستحبّاً- مثلًا- حتّى يقال بهذه المقالة، بل نحن نتكلّم عمّا قبل هذه المرحلة؛ والتي نواجه فيها مجموعة من الأحكام لا نعلم أنّ أيّ شي ء منها يكون واجباً، وأيّ شي ء محرّماً، وأيّ شي ء منها مندوباً، فلابدّ من تحصيل المؤمّن حتّى لو تركنا شيئاً أو فعلنا شيئاً وكانت لدينا حجّة في هذا الترك أو الفعل، والاجتهاد والتقليد هما الطريقان اللذان يفرزان لنا الواجبات والمحرّمات والمندوبات بعضها عن بعض.

أمّا لو لم نجتهد أو نقلّد وتركنا شيئاً نحتمل كونه واجباً فنحن نحتمل حينئذٍ الضرر؛ حيث يمكن أن يكون هذا الشي ء في الواقع واجباً ونحن اعتبرناه مندوباً لا

ص: 88

أن يكون إمّا مقلّداً (1)

على أساس الاجتهاد والتقليد وتركناه، أو فعلنا شيئاً بعنوان المباح- مثلًا- وهو محرّم في الواقع، فنحن نعاقب من دون أن يكون لدينا حجّة تؤمّننا من العذاب، وهذا معنى ما قد يقال من أنّ الاجتهاد والتقليد نحتاج إليهما في غير الإلزاميات أيضاً.

وهناك وجه آخر يدلّ على لزوم الاجتهاد أو التقليد في المندوبات والمباحات والمكروهات، وهو أن يقال: إنّ نفس اعتبار شي ء مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً، له حكم في الشرع، فلابدّ من أن نجتهد أو نقلّد حتّى لا نعتبر شيئاً على أساس غير صحيح؛ فإنّ من لا يجتهد ولا يقلّد، في اعتباره لشي ء أنّه مندوب ربّما يقع في البدعة.

وهذا الوجه غير الوجه السابق كما هو واضح؛ فإنّه في الوجه السابق كان التركيز على لزوم الاجتهاد والتقليد بهدف كشف حكم الشي ء وأ نّه هل هو الندب أو الوجوب، بخلاف هذا الوجه فإنّه يُركّز فيه على لزوم الاجتهاد والتقليد بهدف أن لا نقع في البدعة، ف «اعتبارُ شي ء مندوباً لا على أساس» موضوعٌ يكون حكمه في الشرع الابتداع، فلِكي لا نقع في الابتداع- الذي يترتّب عليه العذاب الإلهي ولو بشكل احتمالي- لابدّ من أن نجتهد أو نقلّد.

1- التقليد لغير المجتهد والمحتاط واجب حسب الوجوب التخييري المتقدّم بحثه، ولكن هذا الوجوب فرع مشروعيته كطريق للوصول إلى الأحكام الشرعية، كعِدليه من الاجتهاد والاحتياط، فلنتعرّض هنا لمشروعية التقليد حتّى يكون مقدّمة لما يأتي من المسائل المرتبطة بمشروعية التقليد وكيفية أدلّتها أيضاً.

ص: 89

أدلّة مشروعية التقليد

و هي امور:

منها:- وهو العمدة- بناء العقلاء، وتقريبه: أنّ من الامور الفطرية المركوزة في عقول الناس الرجوع إلى العالم في موارد الجهل بشي ء، وقد تبانى العقلاء على هذا الحكم العقلي الفطري، وبما أنّ الشارع لم يردع عن هذا البناء في دائرة الأحكام الشرعية كشف عن كونه معتبراً لديه، فلابدّ من التقليد؛ إذ التقليد- الذي هو رجوع المكلّف إلى الفقيه- يعدّ من صغريات تلك القاعدة الفطرية التي تبانى عليها العقلاء.

وقد نوقش هذا الدليل بعدّة مناقشات نذكرها فيما يلي:

المناقشة الاولى: إنّنا حتّى لو سلّمنا ببناء العقلاء على ذلك، لكن لا نسلّم كون ذلك فطريّاً لدى عقول الناس، ووجهه: أنّ الامور الفطرية في عقول البشر هي ما تكون قياساتها معها؛ بحيث لا يحتاج إدراكها إلى تأمّل وتشكيل قياس، كما في مثل «الأربعة زوج»، ورجوع الجاهل إلى العالم ليس من هذا السنخ؛ فإنّ ذلك بحاجة إلى تأمّل ولو يسير.

لكن قبول هذا الإشكال لا يعني عدم صحّة التمسّك بالبناء العقلائي لإثبات مشروعية التقليد؛ لأنّ وجود هذا البناء للعقلاء مسلّم، إلّاأنّ الإشكال يُفقد إحدى مزيّتي مسألة الرجوع إلى العالم، وهي كونها من الامور البديهية الفطرية.

ويمكن المناقشة في هذا الإشكال: بأنّه لو قصد من الرجوع إلى العالم هذا التعبير المتشكّل من «الرجوع إلى العالم» فهو شي ء، إلّاأنّ المقصود من كون ذلك فطرياً ليس المصطلح المستخدم في المجالات العلمية؛ حتّى يقال: إنّ هذا التعبير أمر هو نفسه بحاجة إلى التعلّم، أو على الأقلّ بحاجة إلى التأمّل، كما وردت تأمّلات في اصولنا حول هذه القضية، بل المقصود منه ما هو لبّه وجوهره الذي هو عبارة

ص: 90

عن رجوع من لا يعلم- بشكل تلقائي- إلى من يعلم، وهذا أمر فطري موجود منذ الطفولة إلى آخر العمر.

فتبيّن: أنّ من لا يرى ذلك فطرياً ينشأ توهّمه هذا عن تخيّله، بأنّ الأمر الفطري هنا هو قضية لزوم رجوع الجاهل إلى العالم، فيقول: إنّ الحكم بهذا اللزوم بحاجة إلى التأمّل، غير أنّ الجواب- كما قلنا- هو أنّه لا حاجة إلى أن نطرح القضية بهذه الصورة، ونقول: الأمر الفطري هو لزوم الرجوع إلى العالم، بل ننظر إلى ذلك بصورة اخرى فنقول: إنّ الاندفاع والانبعاث إلى سؤال العالم يكون أمراً فطرياً، وهذا ممّا لا يمكن إنكاره.

المناقشة الثانية: أنّ اعتبار السيرة بلحاظ توجّه إمضاء الشارع إليها- ولو في قالب عدم الردع عنها- وتوجّهه إليها، متوقّفٌ على كونها موجودة في زمن الأئمّة عليهم السلام، ومن المعلوم أنّ التقليد أمر حصل وحدث بعد زمنهم.

ويرد عليها أوّلًا: لا ننظر إلى التقليد إلّاكصغرى لكبرى قد قامت السيرة عليها، وتلك الكبرى هي الرجوع إلى العالم وأهل الخبرة في كلّ حرفة وصنعة، وهذه الكبرى كانت متبلورة في زمنهم كسيرة للعقلاء ولم يردع عنها الشارع، ومن المعلوم أنّه إذا ما وقعت كبرى كسيرة للعقلاء واعتبرها الشارع فتكون صغرياتها حجّة لا محالة، لأنّ الكبرى إنّما هي للتطبيق.

وثانياً: أنّ صغرى تلك الكبرى في مجال الأحكام الشرعية- أي التقليد- كانت موجودة آنذاك أيضاً؛ أي أنّه بالإضافة إلى وجود أصل الكبرى في ذلك الزمن كانت الصغرى- وهي التقليد- أيضاً متحقّقة وقتذاك، والقرائن على وجود التقليد في زمنهم متوافرة ومتكاثرة، وهذه القرائن والشواهد يمكن تقسيمها إلى صنفين:

الصنف الأوّل: ما ورد من روايات لها دلالة وإشعار بذلك، وهي على أقسام:

ص: 91

القسم الأوّل: تلك الروايات الآمرة بالاستنباط والتفريع، مثل الحديث القائل بأنّ «علينا إلقاء الاصول وعليكم التفريع»(1). إلّاأن يقال: هذه الأحاديث لعلّها أمرت الأصحاب بالاستنباط لأنفسهم لا لغيرهم، فليس لها إشعار بصحّة التقليد.

القسم الثاني: ما أمر بالإفتاء، وهو كما هو معلوم يشعر بصحّة التقليد؛ لأنّ الإفتاء إنّما يكون اعتباره بلحاظ أن يستفيد الآخرون منه، وليس مجرّد عرض نكتة وإظهار رأي، ولاسيّما أنّ الإفتاء القائم آنذاك في المجتمع السنّي- والذين كانوا هم الأكثرين- عبارة عن إبداء الفقيه رأيه للغير لكي يعمل به.

القسم الثالث: تلك الروايات الواردة في إرجاع الناس إلى الفقهاء لتعلّم أحكامهم منهم، ومعلوم أنّ الرجوع إلى الفقيه لتعلّم الحكم منه هو يعني التقليد.

القسم الرابع: تلك الروايات التي تكلّمت عن التقليد وضرورته؛ مثل ما ورد «فللعوامّ أن يقلّدوه»(2) وإن نوقش في سند هذه الروايات.

الصنف الثاني: القرائن الحاكية عن رجوع الناس عملًا إلى الأصحاب وأخذ الأحكام منهم، مثل ما ورد في التأريخ(3) من أنّ الناس بعد أن خرج الإمام الرضا عليه السلام من المدينة كانوا يرجعون إلى يونس بن عبدالرحمان ويوجّهون إليه سؤالاتهم الفقهية ويعملون بأجوبته.

وعلى أساس ذلك فدعوى كون التقليد حاصلًا بعد زمنهم أمر يوجد على خلافه الدليل.


1- السرائر 3: 575؛ وسائل الشيعة 27: 62، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 52 ..
2- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: 300؛ الاحتجاج 2: 511؛ وسائل الشيعة 27: 131، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20 ..
3- معجم رجال الحديث 20: 200 ..

ص: 92

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الاجتهاد بالشكل الرائج الآن عند علماء الشيعة لم يكن موجوداً في زمنهم، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ عِدل الاجتهاد- وهو التقليد- أيضاً أمر يقبل التفاوت بتبع ما في الاجتهاد من التفاوت المشار إليه بين ما كان قائماً في زمنهم وبين ما حدث بعدهم.

نعم، هناك اختلافات في بعض الزوايا بين التقليد الحاصل آنذاك وما حصل بعده، مثل ما يُرى الآن من كون تقليد كلّ مكلّف متوجّهاً إلى مرجع واحد، فلكلّ مرجع، وقبول أنّ ذلك كان موجوداً بهذا الشكل آنذاك لا دليل عليه، غير أنّ مثل هذه الاختلافات لا تضرّ بالمدّعى؛ حيث إنّ أصل التقليد هو المهمّ لنا، وهو كان موجوداً في زمنهم، أمّا أنّ زوايا وأبعاد التقليد الآن هي غير ما كان ثابتاً للتقليد في ذلك الزمان فهو أمر آخر لا يسبّب عدم مشروعية أصل التقليد.

وثالثاً: أنّه من المعلوم أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يعلمون بما سيقع في الأوساط الشيعية في زمن الغيبة من وضعية خاصّة في مجال تلقّي الأحكام الشرعية، وهي التقليد للعلماء بشكل خاصّ، فلولا رضاهم بذلك لكان من اللازم أن يردعوا عنها، ومن المعلوم أنّهم لم يردعوا عن ذلك.

لا يقال: إنّ الردع وعدمه يتصوّران بالإضافة إلى ما كان حاصلًا في زمنهم، لا بالنسبة إلى ما سيحدث بعد زمنهم.

فإنّه يقال: هذا فيما اذا لم يكونوا يخبرون عمّا سيقع بعد زمنهم، وإلّا فسوف تكون هناك ضرورة للردع عمّا سيقع فيما إذا افترضنا عدم ارتضائهم به على ذلك المستوى من الضرورة للردع عمّا كان في زمنهم في صورة عدم ارتضائهم به.

وبعبارة اخرى: إنّ ذلك المناط الموجب لضرورة الردع بالنسبة إلى ما

ص: 93

لا يرتضونه ممّا هو واقع في زمنهم متواجد تماماً بالنسبة إلى ما يقع بعد زمنهم ولا يرتضونه، ولا سيّما إذا كان ما يقع بعد زمنهم أمراً حسّاساً له صلة بمجرى تعلّم الأحكام، وكان عامّ البلوى ورائجاً في أوساط المجتمع، ومترسّخاً في أعماق التأريخ الذي يحدث بعد زمنهم.

وهذا معقول وقابل للتصديق حتّى فيما إذا كانت الحادثة ممّا لم يخبروا عن وقوعها، فضلًا عمّا إذا كانوا يخبرون عن ذلك، والمقام من هذا السنخ، ولا سيّما أنّ إخبارهم متضمّن لنكتة أنّ العلماء هم محلّ رجوع الناس بعدهم، وكانوا عليهم السلام يأمرون بضبط أحاديثهم لكي تبقى لبعد زمنهم، كي يستفيد منها العلماء، فإذا كان المفروض أنّهم قد أخبروا عمّا يحدث بعدهم، وأصدروا أوامر دفعاً لوقوع الهرج والمرج، فكيف نسمح لأنفسنا أن نتصوّر أنّهم بقوا- إزاء ما يقع بعد زمنهم من ظاهرة التقليد- ساكتين رغم عدم ارتضائهم به، فسكوتهم دليل على رضاهم بهذه الظاهرة.

المناقشة الثالثة: أن يقال: إنّ الردع من جانب الشارع قد حصل بالنسبة إلى هذه السيرة، وهذا متمثّل في مثل الآيات الناهية عن العمل بالظنّ، فإنّ هذه الآيات تشمل التقليد أيضاً؛ لأنّ التقليد لا يوصلنا إلى القطع بالحكم، بل أقصى ما يحدث لنا غالباً ونوعاً هو الظنّ.

والجواب عن هذه المناقشة: أنّنا حتّى لو سلّمنا بدلالة مثل هذه الآيات على الردع عن مطلق الظنّ، إلّاأنّها غير صالحة للردع عن مثل التقليد.

ووجهه: أنّ رجوع الجاهل إلى العالم لمّا كان أمراً فطرياً في عقول البشر، فلا يكفي لردع الشارع- لو أراد الردع- أن يجي ء بمثل ما جاء في الآية المشار إليها؛ حيث إنّ أهل العرف- والذين هم مخاطبو الشارع في كلماته- لا ينتقلون أصلًا من

ص: 94

أمثال هذه التعابير إلى أنّ الشارع في مقام الردع عمّا لديهم من أمر فطري مثل الرجوع إلى العالم، وسرّ عدم انتقالهم واضح، بعد أن افترضنا كون قضية الرجوع بديهية لعقولهم، فلا يحتملون الخلاف، والشارع لو أراد الردع عن امور فطرية لابدّ له من استخدام كلمات صريحة؛ نظير ما جاء من قبله في ردّ القياس مع أنّه ليس أمراً بديهياً في عقول البشر.

فتبيّن من ذلك كلّه: أنّ السيرة يمكن الاتّكال عليها لإثبات مشروعية أصل التقليد، هذا.

ولكن لو سلّمنا أنّه لم يكن في عصر الأئمّة البناء العملي على الرجوع إلى العالم، وافترضنا أنّ ما ذكرنا- من كفاية وقوع الكبرى في زمنهم- غير تامّ، وقلنا: إنّ الذي كان آنذاك ليس أزيد من وجود ارتكاز عقلائي على الرجوع إلى العالم، ولم نقبل ما ذكر أيضاً من أنّ سكوتهم إزاء ما يحدث بعدهم من التقليد يساوق إمضاءهم له، وبكلمة واحدة: إنّا لو لم نقبل جميع تلك المحاولات المذكورة بصدد إثبات وقوع الإمضاء إزاء السيرة، فهل من الممكن أن نعتبر ذلك الارتكاز العقلائي- غير الوارد إلى ساحة العمل في زمنهم- دليلًا على مشروعية التقليد؟

يمكن أن يقال في الجواب: نعم، إذ الارتكاز إذا وقع إزاءه إمضاء كإمضاء السيرة من قبل الأئمّة عليهم السلام كان معتبراً، غير أنّ إمضاءه يختلف عن إمضاء السيرة من ناحية أنّ إمضاء السيرة يتحقّق بإحدى صورتين:

الاولى: مجي ء قول من الأئمّة عليهم السلام أو صدور فعل من جانبهم بصدد قبولها.

الثانية: السكوت إزاءها وعدم الردع عنها.

بينما الارتكاز لا يعقل أن يتمّ إمضاؤه إلّابصورة واحدة، وهي مجي ء قول منهم أو صدور فعل من جانبهم وكانوا بصدد الإشعار إلى قبوله، أو كان له إشعار في ذلك

ص: 95

حتّى لو لم يكن الإمام عليه السلام في مقام بيانه، وأمّا فرض إمضائه من طريق السكوت تجاهه فهو ممّا لا وجه له، وإلّا لزم أن نعترف بكثير من السِّيَر الحاصلة بعدهم؛ بحجّة أنّها- نوعاً- ناشئة عن جذور ارتكازية موجودة في زمنهم، فسكوتهم إزاء تلك الجذور يكون إمضاءً لها وتكون السِّيَر الحاصلة منها بعدهم حجّة.

وعليه فلو قبلنا أنّ هناك في زمنهم ارتكازاً بالرجوع إلى العالم، فهذا الارتكاز إنّما يكون معتبراً فيما لو وجدنا قولًا أو فعلًا يشعر باعتباره، والظاهر وقوع مثل ذلك إزاء هذا الارتكاز؛ حيث نجد روايات تدلّ على إرجاعهم عليهم السلام إلى العلماء، وهذا الإرجاع من جانبهم وقع- نوعاً- بعد مبادرة السائلين إلى السؤال عمّن يصحّ الرجوع إليه، فتكون مثل هذه الأسئلة دالّة على وجود ارتكاز لديهم على الرجوع إلى العالم، فما وقع من جانبهم عليهم السلام من الإرجاع إلى أشخاص معيّنين يعدّ إمضاءً لذلك المرتكز لديهم، وعليه يكون التقليد مشروعاً(1).

هذا، ولكن تأتي هنا ملاحظتان:

الاولى: أنّه لو افترض أنّ إرجاعهم إلى العلماء سبّب أن يحدث في زمنهم ظاهرة الرجوع إلى الأصحاب، بحيث أصبحت تلك الظاهرة منتشرة بينهم، وكان الأئمّة عليهم السلام يسكتون إزاء هذه الظاهرة، فبالإمكان أن نعتبر تلك السيرة دليلًا آخر على التقليد بالإضافة إلى ذلك الإمضاء الحاصل من جانبهم إزاء المرتكز، وعليه يكون أمامنا حينئذٍ دليلان على التقليد: إمضاؤهم لذلك المرتكز. وإمضاؤهم لظاهرة الرجوع إلى العلماء المسبّبة عن إرجاعهم إليهم.

الثانية: أنّ الإمضاء الحاصل إزاء شي ء بما أنّه فعل- فيما إذا كان هذا الإمضاء متمثّلًا في قضية الإرجاع- فلابدّ في الاستفادة منه من الاقتصار على القدر المتيقّن،


1- راجع: الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 78- 81 ..

ص: 96

وهنا يوجد هذا القدر المتيقّن في البين؛ حيث إنّنا نجد أنّ الرجوع آنذاك كان في حالٍ لم يكن بين العلماء اختلاف كثير في المسائل، حيث كانوا إنّ اجتهاداتهم لم تكن بمثل الاجتهادات التي حصلت في الأزمنة المتأخّرة عنهم، فلا يمكن الاستفادة من ذلك الإمضاء إلّابالنسبة إلى مثل تلك الرجوعات البسيطة، وأمّا الاستدلال بذلك الإمضاء لمثل الرجوعات الجارية الآن، مع هذه الاختلافات العظيمة، فهو من سنخ الاستدلال بفعل الأئمّة على الأزيد من القدر المتيقّن، فيبقى حينئذٍ التقليد الموجود حالياً بلا دليل من هذا الحيث(1).

ولكن يمكن الإجابة على هذا الإشكال بأ نّه:

أوّلًا: كان الاختلاف آنذاك بين المفتين وفق مذهب أهل البيت عليهم السلام موجوداً على مستوٍ كبير، وكانت هناك عوامل لهذا الاختلاف: مثل انتشار المتعبّدين بمذهبهم في أقطار الأرض، وانتشار أصحابهم كذلك في النقاط المختلفة والبعيدة عن المدينة، ومثل إصدار الأئمّة- انطلاقاً من رعاية أصل التقيّة- لأحكام فقهية مختلفة في موارد كثيرة، ممّا سبّب أن تكون لدى كلّ شخص أو مجموعة من الرواة، روايات خاصّة لا تطابق أحياناً بعضَ ما لدى المجموعة الاخرى.

ومثل هذا الاختلاف يمكن مشاهدته في بعض ما ورد في أحوال الرواة من الأصحاب من مشاجرتهم حول سنخ من الروايات في مجالسهم، وقد بلغ هذا الاختلاف إلى حدّ كان الأصحاب الذين يعيشون في المدينة يختلفون حول آراء إمامهم مع أنّ الإمام عليه السلام كان قريباً منهم.

وقد تكلّم ابن قبة عن شدّة ما لدى الأصحاب من الاختلاف في بعض كلماته، وقال في ذلك: «إنّهم- أي الأصحاب- شكوا إلى الأئمّة عليهم السلام ما حدث لديهم من


1- راجع: الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 81 ..

ص: 97

وجود اختلافات شديدة، وقد أمروهم في موارد الاختلاف بالرجوع إلى الإجماع والشهرة»(1).

فإذا كان التقليد- في مثل ذلك الجوّ المثير للاختلاف- مقبولًا ومشروعاً لدى الأئمّة، كان مشروعاً في هذه الأزمان كذلك، بل لعلّ الاختلاف في هذه الأزمان قد تقلّص وانضبط من بعض الجهات؛ فنجد أنّ الشخص يرجع إلى مفتٍ واحد في زمن طويل، مع أنّه آنذاك كان الناس يرجعون في مسائلهم إلى أفراد مختلفين كانت لهم فتاوى مختلفة.

بل لعلّ من هنا يمكن أن يقال- كما يأتي في محلّه- بجواز الرجوع إلى الأفراد المختلفين من حيث الفتوى لو تمكّنا من إثبات أنّ رجوعهم إلى المفتين في عصر الأئمّة عليهم السلام لم يكن من سنخ الرجوعات الثابتة لأشخاص معيّنين.

وثانياً: لابدّ من النظر إلى الفتوى في هذه الأزمان؛ لكي نفهم أنّ اختلافها مع الفتوى آنذاك يمكن في أيّ نقطة ومن حيث أيّ زاوية، فلو وجدنا أنّ الاختلاف لايمثّل اختلافاً يرتبط بجوهر الفتوى والتقليد فلابدّ أن لا نحسب له حساباً، وأن لا نحسب ما كان في زمن الأئمّة القدر المتيقّن ممّا دلّ الدليل على اعتباره، فنقول:

هناك اختلافات ثلاثة بين الفتوى في هذه الأزمان معها في تلك الأزمان:

الأوّل: الاختلاف في عرض الفتوى؛ بمعنى أنّ المفتي في هذه الأزمان يعرض فتواه بطرق متطوّرة، ومثل هذا الاختلاف لا مساس له بجوهر الفتوى كما هو معلوم، فلا يمكن أن يقال: إنّ التقليد في زماننا ليس حجّة لأجل اختلافه عن التقليد آنذاك.

الثاني: الاختلاف من حيث الموضوعات التي تتمّ الفتوى للإجابة على حكمها،


1- راجع: كشف القناع: 146 ..

ص: 98

فإنّنا نجد بالوجدان اختلافاً فاحشاً من هذا الحيث بين الفتوى آنذاك والفتوى في هذه الأزمان، ولكن هل من الصحيح والمعقول أن نربط هذا الاختلاف بقضيّة أصل الفتوى لكي يختلط التقليدان: تقليد ذلك الزمن وتقليد هذا الزمن؟ وإنّ اعتبار الفتوى إنّما يكون بلحاظ الإجابة عن المستحدثات فإنّ المسائل المستحدثة في زمن الإمام الرضا عليه السلام غيرها في زمن الإمام الباقر عليه السلام فاعتبار الاختلاف الحاصل بين التقليدين حسب الموضوعات اختلافاً بين الأقلّ والأكثر والمتيقّن، والزائد عليه غير صحيح.

الثالث: الاختلاف الذي بين التقليدين من حيث إنّ التقليد في ذلك الزمن كان حاصلًا عن اجتهاد غير متطوّر، بينما التقليد في هذا الزمن يعتمد على اجتهاد متطوّر، وهذا الاختلاف راجع- كما هو معلوم- إلى ما حصل للاجتهاد المتأخّر من مهارة متكاملة بالقياس إلى الاجتهاد المتقدّم، والسؤال هو: أنّ هذا الذي حصل من الاختلاف من حيث المهارة، هل يسبّب بصورة منطقية أن نعتبر التقليد المعتمد على الاجتهاد المتطوّر تقليداً زائداً على القدر المتيقّن، وأن يكون التقليد المعتمد على الاجتهاد الحاصل آنذاك هو القدر المتيقّن ممّا دلّ الدليل على اعتباره من التقليد؟!

نقول في الجواب: لو كان هناك تشكيك لنا في أصل حجّية واعتبار ومشروعية هذا الذي حصل كتطوّرات في الاجتهاد، فحينئذٍ لا تصل النوبة لجعل التقليد والأخذ من هذه الاجتهادات غير معتبر إلى التمسّك بقضيّة لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن، بل نقول قبل ذلك: إنّ ما نشكّ في أصل اعتباره لا اعتبار له ولا يمكن التعويل عليه من رأس، إلّاأنّ التشكيك في ذلك لا مجال له.

اللهمّ إلّاأن نكون من الأخباريّين أو من أتباع فكرتهم إزاء الاجتهاد، فالاجتهاد لو قبلنا أصله فلابدّ من أن نعتقد- حسب الأدلّة المذكورة في محلّها- بأ نّه كلّما

ص: 99

ازداد مهارةً، ازداد اعتباراً فإذا كان أمامنا اجتهادان أحدهما ساذج وبسيط والآخر متعمّق لم يصحّ التقليد للأوّل.

فتحصّل من جميع ما ذكر: أنّه لا معنى لأن يقال: إنّ ما وقع من إمضاءٍ لمرتكز الرجوع إلى العالم يكون دليلًا على التقليد الحاصل في ذلك الزمن فحسب؛ لأجل كونه قدراً متيقّناً من ذلك الدليل اللبّي.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ السيرة العقلائية أو الارتكاز العقلائي دليل متين وتامّ يدلّ على اعتبار ومشروعية أصل التقليد، نعم بالنسبة إلى كيفيته- بمعنى أ نّه هل تدلّ السيرة على تقليد الأعلم فيما إذا كان في البين، أو تقليد الميّت فيما إذا كان الحيّ في البين- فهو أمر يأتي في الأبحاث القادمة.

ومنها: أدلّة لفظية قد يقال بدلالتها على مشروعية التقليد، إزاء ما تقدّم من السيرة أو الارتكاز العقلائي:

منها: آية السؤال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ(1). وتقريب الاستدلال بها: أنّ عنوان «أهل الذكر» عنوان عامّ يشمل كلّ من عنده خبروية في مجال من المجالات، والفقيه يُعدّ مصداقاً من مصاديق هذا العنوان العامّ، فلابدّ من الرجوع إليه لأخذ الأحكام منه، وهذا هو التقليد.

وقد نوقش الاستدلال بهذه الآية بعدّة مناقشات نذكر منها اثنتين:

المناقشة الاولى: أنّ الآية أوجبت السؤال معلّقاً على عدم العلم، فتفيد أنّ السؤال يجب كمقدّمة لتحصيل العلم، وعليه فإنّ ما يجب على المكلّف هو العمل وفق علمه، فالواجب في الحقيقة هو العمل، ويجب العلم لأجله، ويجب السؤال لأجل تحصيل العلم، فحينئذٍ تكون الآية أجنبية عمّا نحن بصدده، فإنّ الذي نريد إثباته في المقام


1- النحل( 16): 43 ..

ص: 100

وجوب التعبّد برأي الفقيه أو فقل: حجّية رأيه، والآية- حسب ما ذكرنا- لا تدلّ على حجّية رأيه وعلى لزوم العمل حسب قوله، بل هي بصدد إثبات لزوم تحصيل العلم لكي يتمّ العمل على وفقه، وطريق هذا التحصيل السؤال، فلابدّ من أن نسأل حتّى نصل إلى العلم، فلو وصلنا إليه نعمل على وفقه، وإلّا فلابدّ من تكرار السؤال أو الفحص حتّى نصل إليه.

وقد أجاب السيّد الخوئي رحمه الله(1) عن هذا الإشكال بما حاصله: أنّ الذي يكون كمتفاهم عرفي لهذه الآية هو أنّ السؤال إنّما يجب لأن نعمل على وفق رأي المجيب، فهو من سنخ «راجع الطبيب إن لم تكن طبيباً»، فإنّ ذلك لا يعني: راجعه حتّى تصير طبيباً، بل معناه: راجعه حتّى تعمل برأيه فيزول مرضك. والآية بصدد إثبات حجّية رأي أهل الذكر- ومنهم الفقيه- في مجال الأحكام.

وهذا الجواب متين، ولا سيّما إذا التفتنا إلى أنّ العرف لمّا كان لهم مرتكز رجوع الجاهل إلى العالم، لم يمكن أن يتكوّن لهم- عند مواجهتهم لمثل هذه الآية- فهم آخر غير ما ذكر، فإنّ فهمهم يتكوّن في إطار ذلك المرتكز، فهم هكذا يفهمون من الآية: ارجعوا إلى العلماء إن كنتم جاهلين. غير أنّ الذي لابدّ من الالتفات إليه حينئذٍ هو أنّ الآية تفقد- حسب ذلك- اعتبارها كدليل لفظي مستقلّ؛ حيث إنّها تكون إرشاداً إلى ذلك الأمر المرتكز الذي عند العقلاء، فلابدّ من الرجوع إلى ما عندهم من الارتكاز بما له من حدود وإطار خاصّ.

المناقشة الثانية: إنّ هذه الآية قد وردت في قضية خاصّة تتعلّق بمجموعة من الناس كانوا ينكرون نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم، وقد خاطبتهم الآية وأمرتهم بأن يرجعوا إلى أهل الذكر من علماء اليهود والنصارى؛ حتّى يخبروهم عن الحقائق الواردة حول


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 67 ..

ص: 101

نبيّنا في كتبهم السماوية، وعليه فلا يمكن تعميم عنوان «أهل الذكر» الوارد في الآية إلى كلّ من عنده علم في مجال من المجالات؛ كي يمكن بسبب هذا التعميم استفادة ضرورة الرجوع إلى الفقهاء.

بل نقول: حتّى لو كان التعميم سائغاً فلابدّ أن نعمّم ذلك العنوان إلى كلّ من له علم في المجالات الاعتقادية حتّى يتناسب مع ذلك المجال الاعتقادي الذي وردت الآية فيه؛ حيث إنّ الذي يحتاج إلى العلم هو المجال الاعتقادي، وتناسب الحكم والموضوع في الآية يؤكّد ذلك؛ أي أنّه فيما إذا لم نعلم أمراً عقائدياً ولم نعتقد به فلابدّ من الرجوع إلى من عنده علمه حتّى يعلّمنا إيّاه فنعتقد به.

ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأنّ الذي استقرّت عليه الروايات، واحتجاجات المسلمين بعضهم مع البعض، هو لزوم التعامل مع شأن النزول للآيات تعامل التعميم والتسرية، لا تعامل الاستفادة من شأن النزول استفادة خاصّة، وهي المنحصرة بذلك المورد الذي وردت الآية فيه، فدور شأن النزول إنّما هو إيجاد فرصة لأن ترِد آية في مجالٍ ما، فتعطي أحكاماً أو مطالب في ذلك المجال.

نعم، إنّ شأن النزول- بلحاظ هذا الدور الثابت له- قد يرشدنا بسبب بعض ما فيه من خصوصيات إلى أن نفهم الآية ونصل إلى مغزاها، غير أنّ هذا لا يعني ردّ مطلق التعميم، بل يعني لزوم أن تتمّ استفادة التعميم في دائرة بعض تلك الخصوصيات المتعلّقة بشأن النزول.

وحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ في شأن نزول هذه الآية خصوصية لابدّ من رعايتها في استفادة التعميم من الآية، ألا وهي أنّ المشركين كانوا يجهلون أمراً اعتقادياً، فلابدّ أن يتمّ التعميم في دائرة المسائل الاعتقادية فحسب، فلامجال للتعميم إلى ما هو موضع بحثنا وهو المسائل الفقهية ولا سيّما مع تناسب الحكم والموضوع في

ص: 102

الآية- كما ذكر- مع امور اعتقادية.

إلّا أنّه بلحاظ نكتتين يمكن تعميم الآية إلى المجال الفقهي أيضاً:

النكتة الاولى: أنّه ورد في بعض الروايات أنّ المراد من «أهل الذكر» هم أهل البيت عليهم السلام، فلو قبلنا- كما هو الحقّ- أنّ أهل البيت عليهم السلام لابدّ من الرجوع إليهم في كلا مجالي الاعتقاد والفقه، فلابدّ لنا من قبول أنّ الآية يستفاد منها التعميم غير المنحصر بالمجال الاعتقادي.

لايقال: إنّ تلك الروايات في مقام جعل التعبّد بالنسبة إلى أهل البيت، وعليه فلا يمكن أن نحسب ورود هذه الروايات كنكتة نعتمد عليها لاستفادة التعميم.

حيث يقال: إنّ تلك الروايات بصدد تفسير الآية والإخبار عمّا فيها من المضمون والمراد، لا جعل التعبّد، وعليه فإنّ هذه الروايات يمكن الاعتماد عليها كقرينة للقول: إنّ هذه الآية وردت لكي ترجعنا في كلّ مجالٍ من المجالات الدينية إلى من عنده علم في ذلك. نعم، إنّ أبرز مصاديق «أهل الذكر» هم أهل البيت عليهم السلام، ودون هذا المصداق مراتب اخرى من المصاديق.

النكتة الثانية: إنّ المجال الاعتقادي وإن كان بحاجة إلى العلم، غير أنّ الرجوع في هذا المجال إلى من عنده علم حول مسألة من مسائله لاينتهي دائماً إلى حصول العلم بما يفيده، بل أكثر ما يتحقّق بسبب هذا الرجوع هو الظنّ بتلك المسألة، وعليه فالرجوع قد يسبّب العلم وقد لا يسبّبه، فالمقصود حينئذٍ من الإرجاع إلى هؤلاء العلماء ذلك الإرجاع الذي يفهمه العرف فيما إذا ارجع جاهل إلى عالم، والذي ذكرناه سابقاً بعنوان أنّه المتفاهم عرفاً من الآية.

وهاهنا يمكن أن يُسأل: إذن فما هي فائدة إرجاعهم إلى علماء اليهود والنصارى؟

والجواب: فائدة ذلك قطع ألسنتهم في مقام الاحتجاج، وإثبات أنّهم كانوا

ص: 103

يتكلّمون عن جهلٍ حول النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وأن يقال لهم: إنّ المفروض- كما هو بناء العقلاء وديدنهم في ذلك- أن يرجع الجاهل منكم إلى العالم وأن يعتدّ بما يقوله. هذا بالإضافة إلى أنّه ربّما كان يصل بعضهم إلى العلم- أو يسكت على الأقلّ- بسبب الرجوع إلى هؤلاء العلماء.

وخلاصة القول: إنّ هذه النكتة مردّها إلى ضرورة الفصل بين أمرين: لزوم العلم في الاعتقاديات، وعدم حصول العلم في الاعتقاديات بمجرّد السؤال، فلايصحّ ادّعاء أنّه لابدّ أن يكون التعميم حاصلًا في دائرة ما يحتاج إلى حصول العلم؛ أي الاعتقاديات.

ومنها: آية النفر فَلَوْ لَانَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ...(1).

وهذه الآية تدلّ على ثلاثة امور: وجوب التفقّه في الدين، ووجوب الإنذار للقوم، ووجوب التحذّر على القوم، والذي يفيدنا في إثبات المدّعى الأمر الثالث؛ بتقريب: أنّ المقصود من الحذر هو الحذر العملي؛ بمعنى أنّ على المكلّف أن يتحذّر في أعماله بالتقّيد بما يقوله ذلك الفقيه المنذر، وهذا الوجوب للتحذّر يستفاد من لعلّهم يحذرون.

وقد نوقش في هذا الاستدلال بعدّة مناقشات:

المناقشة الاولى: أنّه هذه الآية لا يستفاد منها وجوب التحذّر؛ فإنّ الذي استخدم فيها هو لفظة «لعلّ»، وهذه اللفظة لا دلالة لها على الوجوب، بل أقصى ما تدلّ عليه هو ثبوت المحبوبية له.

ويجاب عن ذلك بعدّة أجوبة:

الجواب الأوّل: أنّه حتّى لو سلّمنا عدم دلالتها على الوجوب، فلا أقلّ من قبول


1- التوبة( 9): 122 ..

ص: 104

دلالتها على مشروعية التقليد، وللمشروعية نفسها الموضوعية، وإن كنّا نريد هنا إثبات الأكثر من المشروعية؛ أي وجوب التقليد.

الجواب الثاني: ورد في بعض الأحاديث(1) أنّ لفظة «لعلّ» إذا استُعملت في القرآن فإنّها تدلّ على الوجوب، وتتّبع موارد استعمالها في القرآن شاهد على ذلك؛ فإنّه كلّما استخدمت هذه اللفظة فيه فإنّها استخدمت في امور هامّة لا يصحّ تصوّر الاستحباب بشأنها.

الجواب الثالث: أنّ التحذّر هنا وقع كغاية للإنذار، وبما أنّ الإنذار واجب- كما هو معلوم وممّا لا شكّ فيه- فكذلك ما جُعل غاية له، فبمعونة وجوب ذي الغاية نصل إلى وجوب الغاية.

المناقشة الثانية: أنّ التحذّر لا يطلق إلّافي موارد وجود التخوّف النفساني، سواء كان مجرّداً عن أيّ عمل أو كان مع العمل، أمّا إطلاقه على العمل البحت فلا، وعليه كيف يدّعى أنّ الحذر هنا يقصد به الحذر العملي وإن لم يكن مقترناً بالخوف؟! ولا سيّما أنّنا نجد أنّ الإنذار لا يصدق على الإفتاء؛ فإنّ من يفتي بوجوب شي ء أو حرمته لا يقال في حقّه: «أنذر قومه» بل الإنذار يصدق فيما إذا قال الشخص كلمة فيها وعيد وبيان للعذاب، وعليه يعلم من هذه الآية- مع ما فيها من قرائن خاصّة- أنّ الإنذار المقصود فيها هو ذكر ما يرتبط بالمسائل الاخروية من العذاب، وأنّ الحذر بمعنى إحساس الخوف عقيب ذلك الإنذار، فلا صلة للآية بقضيّة التقليد.

وبعبارة اخرى: أنّ الآية لا يصحّ تفسيرها بهذا الشكل- بأن يقال: إنّه في الآية ثلاث مراحل: مرحلة التفقّه، أي الاجتهاد في الأحكام الشرعية، ومرحلة الإنذار


1- راجع: الجامع لأحكام القرآن 1: 227؛ مفردات ألفاظ القرآن: 741 وفيه: وذكر بعض المُفَسّرين أنّ« لَعَلّ» من اللَّه واجبٌ ..

ص: 105

أو محتاطاً بشرط أن يعرف موارد الاحتياط، ولا يعرف ذلك إلّاالقليل؛ فعمل العامّي غير العارف بمواضع الاحتياط من غير تقليد باطل بتفصيل يأتي (1).

بمعنى الإفتاء، مرحلة الحذر أي التقليد، والأوّلتان تتحقّقان من جانب المجتهد المفتي، والأخيرة، من جانب المقلِّد- بل التفسير الصحيح للآية أن يقال: إنّ المراحل هي: التفقّه، والإنذار (بمعنى بيان العذاب الاخروي)، والحذر (بمعنى إحساس الخوف في الذي يخاطبه المنذِر)، وعليه فلاصلة للآية بقضيّة التقليد.

فإن استشكل: بأ نّه لو قبلنا أنّ التفقّه هو المرحلة الاولى- كما ادّعي في التفسير الثاني- فلابدّ وأن تكون للمرحلة الثانية والثالثة صلة بهذه الاولى، ومعلوم أنّ الذي يناسب التفقّه هو الإفتاء، لا الإنذار الذي بمعنى الإيعاد.

كان الجواب: أنّه لو كان المراد من التفقّه في هذه الآية المعنى المصطلح عليه بين الفقهاء كان الإشكال في محلّه، غير أنّ التفقّه في القرآن إنّما استعمل بمعنى عامّ يشمل جميع المعارف الدينية والتي من جملتها معرفة القضايا الاخروية، وعليه فإنّ مرحلة الإنذار تتناسب مع قسم كبير من هذا الفقه.

المناقشة الثالثة: أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر، فلا يستفاد منها وجوب التحذّر بصورة مطلقة؛ أي سواء أفاد الإنذار العلم أو لم يفد، وبما أنّ المطلوب- أي وجوب التقليد- منوط باستفادة هذا الإطلاق، فبعدم استفادته منها لا تدلّ الآية على هذا المطلوب. وهذه المناقشة في محلّها.

1- الكلام في الاحتياط سيأتي في المسألة الاولى، أمّا بالنسبة إلى معرفة موارده فيبرز هنا هذا السؤال: أليس الاحتياط في عرض الاجتهاد، فكيف يصحّ أن يفتي الفقهاء بلزوم كون المحتاط عارفاً بموارد الاحتياط، وبأنّ الاحتياط لو تمّ من دون

ص: 106

هذه المعرفة فإنّه غير مجزٍ؟!

وبعبارة اخرى: أنّه بعد فرض عدم وجود ما يلزم المحتاط بتقليد المجتهد- انطلاقاً من كون الاحتياط في عرض الاجتهاد- فكيف تصحّ مثل هذه المقالة من المجتهدين؟! بل المفروض- حسب هذه الأرضية الثابتة بين الاجتهاد والتقليد- أن يقال: إنّ الشخص بإمكانه أن يختار الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، فلو اختار الاحتياط فهو يأتي بما يفهمه كمعنى ومصداق للاحتياط.

ويمكن أن يجاب على هذا السؤال: بأ نّه لا شكّ في أنّ المجتهد بإمكانه أن يفحص عن حكم الاحتياط- بما أنّه موضوع من الموضوعات- ويصل إليه، كما أ نّه لا شكّ في أنّ بإمكانه أن يبدي نظره وفتواه في ذلك، وكذلك لا شكّ في أنّ بإمكانه أن يعمل بالاحتياط حسب ما له من الأحكام طبقاً لنظره، أو يعمل شخص آخر- كمقلّد له- على وفق تلك الأحكام للاحتياط.

وعليه فإنّه يعقل بلحاظ ذلك أن يقال: إنّ الاحتياط لا يصحّ إلّاإذا تمّ على أساس المعرفة بأحكامه، وهذا لا يعني نفي ذلك الاحتياط العقلي الذي هو في عرض الاجتهاد والتقليد، والذي كان لازمه صحّة مبادرة المكلّف إلى الاحتياط مباشرةً من دون الرجوع إلى الاجتهاد والتقليد، إلّاأنّ هذا الاحتياط العقلي لا يكون مؤمّناً له إلّا إذا كان بحيث يحسّ المكلّف بأنّ الذي يأتى به- بعنوان الاحتياط- هو في الحقيقة إتيان بجميع ما في البين من المحتملات.

وعليه فلو كان هذا الشخص- الذي يريد أن يمشي على أساس الاحتياط العقلي- غير عالم بالمحتملات في مسألة، فلابدّ له من أن يذهب ويفحص عن حقيقة الحال في المسألة، الأمر الذي ينتهي به أحياناً إلى الرجوع لآراء الفقهاء المتضمّنة لشقوق الاحتياط؛ حتّى يتمكّن من الإتيان بالاحتياط، من دون أن نسمّي ذلك بتقليده للغير؛ فإنّ مثل هذا الرجوع إليهم إنّما ينبعث إليه لأجل ذلك الحكم العقلي.

ص: 107

مباحث الاحتياط

اشارة

(مسألة 1): يجوز العمل بالاحتياط (1) ولو كان مستلزماً للتكرار على الأقوى.

مباحث الاحتياط

1- إنّ دراسة مسألة الاحتياط بجميع وجوهها تحتاج إلى بسطٍ في المقال بما هو خارج عن المقام؛ فإنّ المسألة بصياغتها الاصولية والفقهية ذات صور كثيرة، قد تعرّض لها الأصحاب في مواضع عديدة من المباحث الاصولية، كمسألة العلم الإجمالي وحجّيته ثبوتاً وسقوطاً، ومسألة الانسداد ومقدّماتها التي منها عدم جواز الاحتياط أو عدم وجوبه، ومسألة الشبهات الحكمية والموضوعية الوجوبية والتحريمية البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي وبيان أحكامها، ومسألة الاصول العملية التي منها أصالة الاحتياط والبحث عن شرائط جريانها.

وقد وقع الخلاف فيها بين الأصحاب: من الأخباريّين والاصوليّين من جانبٍ، وبين الاصوليّين أنفسهم من نواحي اخَر.

والظاهر أنّ البحث والدراسة عن المسألة بهذه التفاصيل ممّا انفردت به الإمامية.

ونحن نذكر هنا ما يتعلّق بالمسألة بمقدار ما له دَخْل في إيضاح ما أفاده السيّد الماتن قدس سره.

ص: 108

فنقول: إنّ للأصحاب في حكم الاحتياط- جوازاً ومنعاً وتفصيلًا- آراءً مختلفة:

فمنهم من ذهب إلى جوازه والاكتفاء به في مقام الامتثال مطلقاً من غير فرق بين المعاملات- بالمعنى الأعمّ والأخصّ- وبين العبادات، وسواء استلزم التكرار أم لم يستلزمه، وسواء أمكن الامتثال التفصيلي من طريق الاجتهاد والتقليد أم لم يمكن.

ومنهم من منع منه في العبادات سيّما إذا استلزم التكرار.

ومنهم من منع منه في المعاملات أيضاً.

ومنهم من ذهب إلى جوازه فيما إذا لم يتمكّن المكلّف من الامتثال التفصيلي.

إلى غير ذلك من المسالك والتفاصيل الموجودة في المسألة.

ومذهب الماتن قدس سره ورأيه في المسألة هو مذهب جُلّ الأجلّة من المتأخّرين، وهو أنّ الأقوى جواز العمل بالاحتياط مطلقاً.

أمّا جوازه في المعاملات بالمعنى الأعمّ: فممّا لا إشكال ولا خلاف فيه؛ إذ المقصود منها وقوع نفس العمل وتحقّقه الخارجي بأ يّ وجهٍ اتّفق من غير اعتبار القصد ونحوه، فمن شكّ في أنّ ثوبه المتنجّس هل يطهر بالغسل مرّةً أو يعتبر فيه التعدّد جاز له أن يغسله مرّتين احتياطاً، سواء كان متمكّناً من الامتثال التفصيلي- بالاجتهاد أو التقليد- أم لم يتمكّن.

وأمّا في المعاملات بالمعنى الأخصّ كالعقود والإيقاعات: فأيضاً لا إشكال في جواز الاحتياط والاكتفاء به- كما هو المعمول في إجراء عقد النكاح من ذكر صِيَغٍ مختلفة مادّةً وصيغةً- إذ في صحّة العقد كالنكاح والبيع، والإيقاع كالطلاق، لا يعتبر النيّة وقصد الأمر والوجه ونحو ذلك.

إلّا أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قد حكى عن بعض مشايخه المعاصرين الخلاف في ذلك، فإنّه قدس سره- بعد التصريح بحسن الاحتياط في العبادات والمعاملات مع دفع

ص: 109

جميع ما اورد على الاحتياط من الإيرادات- قال: «ثمّ المخالف في المعاملات بعض المعاصرين»(1). وفي لفظ آخر: «بعض مشايخنا المعاصرين»(2).

وحاصل ما أفاده إيراداً على الاحتياط في المعاملات أي العقود والإيقاعات: هو أنّ الأثر الوضعي- من النقل والانتقال، وتحقّق علقة الزوجية، وحصول البينونة، في البيع والنكاح والطلاق- إنّما يترتّب على الصيغة الواقعة عن تقليد أو اجتهاد؛ إذ في المعاملات المختلف فيها يترتّب الأثر على ما أدّى إليه الاجتهاد أو التقليد، ومن دون الاستناد إليهما لا يترتّب الأثر.

وقد ناقشه الشيخ الأعظم: بأنّ الأثر يترتّب على الواقع عند إدراكه بالاحتياط، والجهل به حين العمل لا دخل له في الواقع كما هو واضح(3).

ثمّ أنّ هنا إشكالًا آخر- قد عبّر عنه الشيخ الأعظم بالوهم- حاصله: أنّ الإنشاء يعتبر فيه الجزم، وهو لا يتمشّى من المحتاط الشاكّ في الصحّة حين الإنشاء، وحصول العلم بوقوع ما هو المؤثّر بعده لا يكفي في تحقّق الإنشاء المنجّز.

ودفعه: بأنّ الإنشاء فعل للمنشئ، وهو جازم به، وأمّا الشكّ والتعليق فإنّما هو في المُنشأ وما يوجد بالإنشاء من الحكم الشرعي بتحقّق الملكية أو الزوجية أو البينونة، والشكّ فيه لا يقدح في الجزم بالإنشاء(4).

فتحصّل: أنّ الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأخصّ ممّا لا إشكال فيه، وما ذكر من المناقشتين قد أجاب الشيخ الأعظم عنهما.


1- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 52 ..
2- فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 423- 429، والمراد ببعض مشايخه المعاصرين هو الفاضل النراقي في« المناهج» ..
3- نفس المصدر ..
4- فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 428- 429 ..

ص: 110

وممّا ذكرنا يتبيّن أنّ ما في بعض الكلمات- من نسبة المناقشة إلى الشيخ الأعظم- لا وجه ولا أساس له(1).

وأمّا الاحتياط في العبادات مع عدم توقّفه على التكرار فمثاله: ما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، كالشكّ في جزئية السورة للصلاة، أو كالشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مع العلم بأصل الأمر، ومن المعلوم أنّ الاحتياط هنا لا يستلزم تكرار العمل، بل يأتي المحتاط بصلاةٍ واحدة مشتملة على السورة، وكذا يحتاط ويأتي بدعاء واحد عند رؤية الهلال.

وحيث إنّه يمكن إتيان الصلاة بداعي مطلوبيّتها، فيصدق الامتثال ويجزئ بلا إشكال.

ولكن قد نسب إلى المشهور عدم جوازه؛ لاعتبار قصد الوجه والتمييز في عبادية العبادة وصحّتها، وهما لا يتأتّيان بالاحتياط.

وقد اجيب عنه: بأ نّه لا دليل على اعتبارهما في العبادات؛ إذ لو كانا معتبرين فيها لأشار الأئمّة عليهم السلام إلى ذلك، ولانعكس ذلك في الروايات؛ لكثرة الابتلاء بها، والحال أنّه ليس في الروايات من اعتبارهما أثر ولا خبر.

ولو شكّ في اعتبارهما فمقتضى البراءة عدم اعتبارهما.

مع أنّه لو سلّم اعتبارهما فإنّما هو في الواجبات النفسية، دون الضمنية من الأجزاء(2).


1- دروس في فقه الشيعة 1: 36 ..
2- قد أجاب بذلك السيّد الإمام كما في معتمد الاصول 2: 302، والمحقّق الخراساني في كفاية الاصول: 98- 99 و 315 و 415 وفي التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 49- 50، وغيرهم من الأعلام ..

ص: 111

حكم الاحتياط المستلزم للتكرار

وأمّا مع التوقّف على التكرار- كدوران الأمر بين القصر والتمام أو الظهر والجمعة في الشبهة الحكمية، والصلاة إلى أربع جهات في الشبهة الموضوعية- فالمنسوب إلى المشهور هو الحكم ببطلان عبادة تاركي طريقَي الاجتهاد والتقليد الآخذين بالاحتياط، ولذلك قسّموا المكلّفين في زمن الغيبة إلى صنفين: مجتهد ومقلّد.

وقد استدلّ لهم على ذلك بوجوه:

الأوّل: الإجماع، وهو المنقول عن السيّدين: الرضي والمرتضى صريحاً وتقريراً(1).

وفيه أوّلًا: أنّه منقول ليس بحجّة.

وثانياً: أنّه مدركي أو محتمل المدركية، إذ يمكن أن يكون المستند له سائر الوجوه، فلابدّ من ملاحظة مدركه ومستنده.

وثالثاً: معقده إنّما هو عبادة الجاهل التارك للطرق الثلاثة، فلا يشمل ما نحن فيه، ولذلك قال الشيخ الأعظم: «بل في شمول معقده لما نحن فيه تأمّل»(2).

نعم استُظهر عن بعض أنّ عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط في العبادات إذا توقّف على التكرار اتّفاقي(3).

وفيه: أنّ المسألة لم تُعنون في جميع الكتب الفقهية عند جميع الأصحاب حتّى يدّعى عليها الاتّفاق، مع أنّ الاتّفاق ليس بدليل معتبر شرعي، فلابدّ من ملاحظة مستنده.


1- رسائل الشريف المرتضى 2: 382، وانظر: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 21 ..
2- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 49 ..
3- فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 71- 72 ..

ص: 112

الثاني: أنّ الاحتياط المستلزم للتكرار لعب بأمر المولى، ويُعدّ لغواً وقبيحاً.

وقد اجيب عنه: بأ نّه قد يتعلّق غرض عقلائي بالتكرار، كأسهلية الامتثال الإجمالي بالاحتياط بالنسبة إلى التفصيلي بالاجتهاد أو التقليد، فلا يكون لغواً وعبثاً.

مع أنّه لو سلّم فلا بأس به إذا كان ذلك في طريق تحصيل الامتثال والإطاعة، لا في أصله(1).

الثالث: أنّ الاحتياط في العبادات فيما إذا استلزم التكرار يستلزم التشريع المحرَّم؛ وذلك أنّ المحتاط: إن لم يقصد بالمأتيّ به الامتثال والأمر لم تتحقّق العبادة، وإن قصد ذلك مع عدم العلم بأ نّه متعلّق للأمر يلزم التشريع، وهو قبيح عقلًا وحرام شرعاً.

ولعلّ هذا الوجه أقدم شبهة في مسألة الاحتياط في العبادات، وقد حاول كثير من الأعلام الجواب عنها بوجوه عديدة، والذي اختاره السيّد الإمام وغيره هو أنّ التشريع إنّما يتحقّق بإتيان العمل استناداً إلى اللَّه تعالى من دون علم بالأمر، وأمّا إتيانه برجاء كونه محبوباً للَّه سبحانه فلا تشريع، بل هو عمل ممدوح عند العقل والعقلاء، وهذا المقدار من الإسناد كافٍ في عبادية العبادة(2).

الرابع: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله من الطولية بين مراتب الامتثال، وأنّ الامتثال الإجمالي في العبادات من طريق الاحتياط مترتّب على عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي(3).


1- هذا الجواب ذكره كثير من الأعلام، منهم: السيّد الإمام قدس سره كما في معتمد الاصول 2: 301- 302 ..
2- كتاب الطهارة، المحقّق الفاضل اللنكراني: 353 ..
3- فوائد الاصول 3: 69- 73، و 4: 269- 270 ..

ص: 113

وقد أجاب عنه ثلّة من المحقّقين منهم السيّد الماتن، وحاصل ما أفاده: هو أنّه لا فرق في صدق الإطاعة وتحقّق الامتثال بين الإجمالي منه والتفصيلي بعد إضافة العمل إلى اللَّه سبحانه وإتيانه بداعي أمره ومتقرّباً إليه، فالملاك في تحقّق الامتثال- الموجب لحصول الغرض المسقط للأمر بحكم العقل- هو صدق الإطاعة، وهو حاصل بإتيان العمل مضافاً ومتقرّباً به إلى اللَّه تعالى(1).

هذه هي عمدة الوجوه المستدلّ بها للمشهور من القول بعدم جواز الاحتياط في العبادات مع استلزامه التكرار، وقد عرفت الجواب عنها.

وحيث ادّعي الإجماع على المنع في المسألة، واحتُمل اعتبار قصد الوجه، مع طرح شبهة اللعب بأمر المولى، وكون الاحتياط المستلزم للتكرار خلاف السيرة المستمرّة للعلماء والمتشرّعة، حكم بعض الأعلام كالشيخ الأعظم(2) بأنّ الأحوط ترك الاحتياط، وتحصيل الامتثال التفصيلي مع التمكّن منه تخلّصاً عن شبهة الخلاف؛ فإ نّ جواز الامتثال التفصيلي إجماعي ومتيقّن عند الجميع بلا خلاف، والامتثال الإجمالي وإن كان مقتضى القواعد جوازه ولكن حيث إنّه قد خالف فيه بعضٌ فمقتضى الاحتياط تركه وإن لم يكن واجباً.

وبالنظر إلى هذه الدعاوي وهذا الخلاف في المسألة عدّ السيّد الماتن قدس سره الجواز أقوى؛ ليشير بذلك إلى القول المخالف في المسألة.


1- أنوار الهداية 1: 180؛ تنقيح الاصول 3: 70 و 330؛ تهذيب الاصول 3: 182 ..
2- فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 406- 408 ..

ص: 114

ماهية التقليد

اشارة

(مسألة 2): التقليد هو العمل مستنداً إلى فتوى فقيه معيّن، وهو الموضوع للمسألتين الآتيتين. نعم، ما يكون مصحّحاً للعمل هو صدوره عن حجّة- كفتوى الفقيه- وإن لم يصدق عليه عنوان التقليد. وسيأتي أنّ مجرّد انطباقه عليه مصحّح له (1).

1- يقع البحث في هذه المسألة في مقامين:

المقام الأوّل: ماهية التقليد وحدّه.

المقام الثاني: المناط لصحّة عمل العامّي.

ماهية التقليد

أمّا المقام الأوّل: فالتقليد في اللغة: جعل الغير ذا قلادة، ومنه التقليد في الدِّين والتقليد في الهَدْي، قلَّده الأمر: ألزمه إيّاه، وتقلّد الأمر: احتمله. كذا في «الصحاح»(1) و «لسان العرب»(2).

وأمّا في الاصطلاح: فقد عرّفه علماء الفريقين بعدّة تعاريف، يمكن أن نجعل كلّ


1- الصحاح 2: 527 ..
2- لسان العرب 11: 276 ..

ص: 115

طائفة منها معبِّرةً عن مرحلة خاصّة، علماً بأنّ هذه التعاريف بين الخاصّة قد ظهرت من عصر المحقّق الحلّي، وأمّا القدماء من الاصوليّين فقد استعملوا لفظ «التقليد» في كلماتهم بمعناه اللغوي(1)، والمراحل كمايلي:

المرحلة الاولى: تعريف التقليد ب «العمل بقول الغير من غير حجّة».

كما عرّفه به الآمدي(2) وابن الحاجب والعضدي(3) من العامّة، والشيخ حسن ابن الشهيد الثاني(4) وصاحب «القوانين» ناسباً له إلى علماء الاصول(5) واختاره النراقي(6) وجمع من متأخّري المتأخّرين من الخاصّة.

وقد أضاف العلّامة الحلّي(7) من الخاصّة والآمدي من العامّة على التعريف توصيف الحجّة بالمُلزِمة.

المرحلة الثانية: تعريفه ب «قبول قول الغير أو الأخذ به من غير حجّة».

اختاره المحقّق الحلّي(8) وفخر المحقّقين في شرحه على «مبادئ الاصول»(9) والشهيد الأوّل(10) والمحقّق الكركي(11) وجمع من متأخّري المتأخّرين.


1- راجع: الذريعة إلى اصول الشريعة 2: 796؛ العدّة في اصول الفقه 2: 729- 730 ..
2- الإحكام في اصول الأحكام 4: 445 ..
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 479 ..
4- معالم الدين: 242 ..
5- قوانين الاصول 2: 160/ السطر 14 ..
6- مناهج الأحكام والاصول: 291/ السطر الأخر ..
7- نهاية الوصول إلى علم الاصول: 6 ..
8- معارج الاصول: 199 ..
9- حكاه في مفاتيح الاصول: 588 ..
10- ذكرى الشيعة 3: 173 ..
11- جامع المقاصد 2: 69 ..

ص: 116

كما ذهب إليه جمعٌ من العامّة كأبي إسحاق الشيرازي في «اللمع»(1) والغزالي(2) وابن قدامة(3) وغيرهم(4).

ويختلف هذا التعريف عن سابقه: في أنّ التقليد هناك كان عنواناً لنفس العمل الذي يأتي به المكلَّف على وفق رأي مقلَّده، وأمّا هنا فهو عنوان للقبول والأخذ بقول الغير وإن لم يقترن بالعمل.

المرحلة الثالثة: وقد ظهرت بين تلامذة الشيخ الأعظم الأنصاري ومن بعدهم، فعرّفه أكثرهم- ومنهم السيّد حسين البروجردي، والسيّد صدر الدين الصدر في تعليقات «العروة»، والسيّد الماتن- بأ نّه: المتابعة أو التطبيق أو الاستناد أو الاعتماد في مقام العمل على رأي الغير(5).

وفي قبالهم ذهب السيّد اليزدي في «العروة» إلى أنّه: «الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعدُ، بل ولم يأخذ بفتواه»(6)، وأكّد عليه السيّد المرعشي في تعليقته عليها(7).

وذهب المحقّق الخراساني- تبعاً لصاحب «الفصول»(8)- إلى أنّ التقليد هو:

«أخذ قول الغير ورأيه- للعمل به في الفرعيات، أو للالتزام به في الاعتقاديات-


1- اللمع: 251 ..
2- المستصفى من علم الاصول 2: 387 ..
3- روضة الناظر: 225 ..
4- قواطع الأدلة: 340؛ إرشاد الفحول 2: 755 ..
5- راجع في هذا المجال: العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 1: 14 و 15 ..
6- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 7، المسألة 8 ..
7- العروة الوثقى وبهامشها تعليقات أعلام العصر ومراجع الشيعة الإمامية 1: 4، المسألة 8 ..
8- الفصول الغروية: 411/ السطر 1 ..

ص: 117

تعبّداً بلا مطالبة دليل على رأيه». واختاره تلميذه أبو الحسن المشكيني في تعليقته على «كفاية الاصول»(1).

وفي الحقيقة يشترك هذان الأخيران- أعني القول بالالتزام والقول بالأخذ- في عدم تعنون العمل بعنوان التقليد- انطلاقاً من الإشكال فيه كما يأتي- على الرغم من وجود فارق دقيق بينهما، وعلى هذا يمكن أن تُعدّ الآراء في المسألة اثنين.

وقد حاول بعض الأعلام المعاصرين الجمع بين الرأيين فعرّفه بأ نّه «الالتزام مع العمل» كما جاء في تعليقة السيّد أحمد الخوانساري على «العروة»(2)، أو أنّه «يتحقّق بالالتزام وحده وبالعمل وحده وبهما معاً» كما ذكر ذلك السيّد الشهيد الصدر في تعليقة «منهاج الصالحين»(3).

وهذه المرحلة في الحقيقة تعتبر مرحلة تكامل للأقوال السابقة من دون إحداث قول جديد في المسألة، واختلاف التعابير ليس إلّالتوضيح مرام القدماء، و قد ذهب أكثرهم إلى أنّ التقليد عنوان للعمل، وفي قبالهم ذهب جمعٌ إلى أنّه الالتزام والأخذ بقول الغير ولم يعتبر العمل.

إلّا أنّ المعروف في المقام أنّ اصول الأقوال في حقيقة التقليد ثلاثة؛ وهي:

1- أنّه الأخذ بفتوى الغير للعمل به في الفرعيات.

2- أنّه الالتزام بالعمل على فتواه.

3- أنّه نفس العمل مستنداً إلى رأي الغير.

ولنأخذ بدراسة هذه الأقوال وتمحيصها تباعاً:


1- كفاية الاصول: 539 ..
2- العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 1: 15 ..
3- منهاج الصالحين 1: 6 ..

ص: 118

أمّا القول الأوّل:- وهو أنّ التقليد عبارة عن الأخذ بقول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات- فقد اختاره صاحب «الفصول» ووافقه المحقّق الخراساني.

وقد ذكرا- في وجه رأيهما- إشكالين على كون التقليد هو نفس العمل:

الإشكال الأوّل: أنّ التقليد إن كان نفس العمل على طبق فتوى الغير، فأوّل عمل يصدر من المكلّف يصدر من غير تقليد؛ لأنّ ذلك العمل غير مسبوق بالتقليد الذي هو العمل، مع أنّ العمل لابدّ أن يكون مسبوقاً بالتقليد؛ حتّى تكون أعماله عن حجّة واستناد إلى التقليد(1).

الإشكال الثاني: أنّ تفسير التقليد بالعمل يستلزم الدور؛ لأنّ مشروعية عبادة العامّي وصحّتها تتوقّف على تقليده؛ إذ لا يمكن له إتيان العبادة بما هي مأمور بها إلّا بالتقليد، فلو كان تقليده متوقّفاً على إتيانه بالعبادة- لعدم تحقّق التقليد إلّابالعمل- تحقّق الدور(2).

وانطلاقاً من هذين الإشكالين ذهبا إلى أنّ التقليد هو الأخذ للعمل، دون نفس العمل.

وقد اجيب عن كلا الإشكالين:

أمّا الإشكال الأوّل: فبأنّ التقليد عنوان لنفس العمل ومقارن له؛ ولذا لا يعتبر فيه السبق الزماني، فإذا عمل المكلّف عملًا مستنداً إلى فتوى الغير كان ذلك العمل مقروناً بالتقليد، ولا دليل على اعتبار سبق التقليد على العمل(3).


1- كفاية الاصول: 539 ..
2- الفصول الغروية: 411/ السطر 18 ..
3- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 14، بتقريب تلميذه في التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 60 ..

ص: 119

إن قلت: إنّ الاجتهاد والتقليد متقابلان، والاجتهاد هو أخذ الحكم عن مدركه، والتقليد هو أخذه لا عن مدرك، فكما أنّ الاجتهاد متقدّم على العمل فكذلك التقليد.

قيل في الجواب: إنّه لا تقابل بين الاجتهاد والتقليد حتّى يكون سبق الأوّل على العمل موجباً لسبق الثاني عليه، بل التقابل بين عمل المجتهد وعمل المقلِّد، فالعمل المستند إلى ما حصَّله من المدرك عمل المجتهد، والعمل المستند إلى رأي الغير عمل المقلّد(1).

والمعتبر في العمل هو وقوعه على جهة التقليد- أي مستنداً إلى فتوى الغير- لا سبق التقليد عليه.

أمّا الإشكال الثاني: فقد اجيب عنه بأنّ مشروعية العمل أو وجوبه يتوقّف على وقوعه على جهة التقليد ليحصل العلم للمقلّد بأنّ ما يأتي به يكون عبادة مقرِّبة، لا على سبق التقليد. فالتقليد متوقّف على العمل إلّاأنّه لا يتوقّف على التقليد بوجه(2).

بناءً على هذا، لا يبقى مانع عن كون التقليد هو العمل، خصوصاً مع اعتراف صاحب «الفصول»(3) نفسه بأنّ إطلاق التقليد على العمل في العرف العامّ شائع، وهو كاشف عن معناه اللغوي.

وأشار الماتن- كما سيأتي في المقام الثاني- إلى أنّ المصحّح للعمل يختلف عن مفهوم التقليد بقوله: «نعم ما يكون مصحِّحاً ...»، فانتظر.


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 14- 15 ..
2- نفس المصدر: 15 ..
3- الفصول الغروية: 411/ السطر 22 ..

ص: 120

وأمّا القول الثاني- وهو أنّ التقليد عبارة عن الالتزام بالعمل برأي المجتهد- فيمكن أن يستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه أوفق بالمعنى اللغوي.

ويمكن تقريبه: بأنّ اللغة تفيدنا أنّ التقليد هو جعل المقلِّد شيئاً في عنق من يقلّده، وأمّا جعل المقلِّد شيئاً في عنق نفسه فهو التقلُّد، والمستفاد من استعمالات التقليد أيضاً ما ذكرنا، وفي المقام يجعل المقلِّد- بالتزامه وأخذه الأحكام الشرعية من المجتهد- قلادة الأحكام الشرعية التي يأتي بها في عنق مقلَّده.

ويشهد على ما ذكرنا: المعتبرة الآتية التي نقلها عبدالرحمان بن الحجّاج؛ حيث اعتبر فيها الإمام ما أفتى به ربيعة الرأي مضموناً في عنقه، فهو مقلَّد- بالفتح- والسائل الذي أخذ برأيه مقلِّد له.

ويمكن ردّ هذا الوجه: بأنّ البناء على العمل أو الالتزام أو أخذ الرسالة العملية مثلًا ليس جعلًا لشي ء في رقبة المفتي؛ حتّى يصدق جعله ذا قلادة(1).

الوجه الثاني: أنّ الالتزام والأخذ يكون أوفق بمعنى التقليد في عرف المتشرّعة؛ ولذا يقال: إنّ العمل الفلاني وقع عن تقليد(2).

وفيه: أنّ المراد من هذا التعبير- الشائع في عرف المتشرّعة- أنّ العمل الفلاني وقع على جهة التقليد- كما احتمله الشيخ الأعظم الأنصاري(3) نفسه- ويشهد لذلك:

ما نقلناه آنفاً عن صاحب «الفصول» من أنّ إطلاق التقليد على العمل بقول الغير شائع في العرف العامّ(4).


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 14 ..
2- نفس المصدر ..
3- مجموعة رسائل فقهيه واصولية، الاجتهاد والتقليد: 47 ..
4- الفصول الغروية: 411/ السطر 22 ..

ص: 121

الوجه الثالث: أنّ لفظ التقليد لم يرد في شي ء من النصوص الشرعية، إلّافي الخبر المروي في الاحتجاج من قوله عليه السلام: «فللعوامّ أن يقلّدوه»(1) ومقتضاه: أنّ للعوامّ أن يلتزموا بآرائه ويأخذوا الأحكام منه، وهذا يفيد أنّ التقليد حقيقته الالتزام والأخذ.

وفيه أوّلًا: أنّ لفظ التقليد ورد في أخبار اخر أيضاً.

وثانياً: أنّ الكلام في معنى التقليد حتّى الوارد في نفس هذه الرواية، وحينئذٍ فكيف يمكن إثبات معنى التقليد باستعماله في تلك الرواية؟! فهذا الكلام أشبه شي ء بالمصادرة على المطلوب. مضافاً إلى أنّه كيف يصدق التقليد- أي جعل الغير ذا قلادة- على الالتزام والأخذ؟! بل سيجي ء الدليل على خلافه.

وممّا يبعِّد هذا القول: أنّه لا مدخلية للالتزام في شي ء من الأحكام الشرعية، بل له دخالة في الاعتقاديات، وقد توجّه المحقّق الخراساني(2) إلى هذا فاعتبر- في تعريفه- التقليد التزاماً في الاعتقاديات فقط، فراجع.

وأمّا القول الثالث- وهو أنّ التقليد هو العمل مستنداً إلى رأي الغير- فقد استشهد عليه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه الأوفق بالمعنى اللغوي للتقليد؛ حيث إنّ معناه جعل الغير ذا قلادة، وهو يناسب كونه عنواناً للعمل.

الوجه الثاني: عدم الخلاف في معنى التقليد في الاصطلاح؛ فإنّ كلامهم بين صريح في كونه العمل وبين ما لا ينافي الحمل عليه، بل ربّما عبَّر الشخص الواحد


1- وسائل الشيعة 27: 141، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20 ..
2- كفاية الاصول: 539 ..

ص: 122

تارةً بالعمل واخرى بغيره؛ ولذا لم ينبّه أحد على وقوع الخلاف بينهم في ذلك، بل نسب بعضهم تفسيره بالعمل إلى علماء الاصول(1).

الوجه الثالث: أنّ المستند لوجوب التقليد- في جنب أخويه- هو حكم العقل بلزوم الامتثال والعمل بالأحكام الشرعية استناداً إلى الحجّة أو إلى من له الحجّة، فاللازم من التقليد هو العمل دون الأخذ للعمل أو الالتزام برأي المجتهد(2).

الوجه الرابع: ما تقتضيه السيرة العقلائية هو العمل بقول العارف بشي ء حفظاً لنظام امورهم، فالانقياد قلباً أو الأخذ بالفتوى بوجودها العلمي أو الكتبي- وإن كان من المقدّمات- أجنبي عن مقاصد العقلاء(3).

الوجه الخامس: ما أشار إليه بعض الأخبار كمعتبرة عبدالرحمان بن الحجّاج قال: كان أبو عبداللَّه عليه السلام قاعداً في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه، فلمّا سكت قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي:

أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبوعبداللَّه: «هو في عنقه، قال أو لم يقل، وكلّ مفتٍ ضامن»(4).

فقد أضاف الإمام العنق والضمان إلى المجتهد المفتي، ومن المعلوم أنّه ضامن بالنسبة إلى العمل دون الأخذ والالتزام.

اللهمّ إلّاأن يقال: هذه الرواية لا تعيّن ماهية التقليد، وقوله: «كلّ مفتٍ ضامن» يصدق مع كون التقليد هو الأخذ والالتزام أيضاً.


1- قوانين الاصول 2: 160/ السطر 14 ..
2- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 15 ..
3- نفس المصدر ..
4- وسائل الشيعة 27: 220، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 7، الحديث 2 ..

ص: 123

كما استدلّ بالأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ «من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به»(1)، بتقريب: أنّه ولو لم يقع التعبير بالتقليد فيها- ولا دلالة فيها على انطباق عنوان التقليد على نفس العمل- إلّاأنّ إشعارها بل دلالتها على أنّه ليس هنا- عدا فتوى المفتي- شي ء سوى عمل المستفتي، ممّا لا مجال للارتياب فيه كما هو ظاهر(2).

وفيه: أنّ من ادّعى كون معنى التقليد هو الالتزام والأخذ لا يقول بأ نّه ورد التعريف به في الأخبار، بل هو يرى توقّف صدق المعنى اللغوي- وكذا دفع بعض الإشكالات- على تعريفه بالالتزام.

كما أنّ من يدّعي أنّ التقليد هو العمل لا يمكن له أن يستدلّ بالأخبار؛ لعدم ورود تعريف التقليد في شي ء من الأدلّة، بل غاية الأمر يمكنه ادّعاء إشعارها والتأييد بها.

بناءً على هذا فمن التزم العامّي بقوله وعمل، أو عمل بلا التزام، إذا كان مفتياً بغير علم فعليه وزر ما عمله العامّي. وبما ذكرنا يظهر الإشكال في الاستدلال ببعض أخبار اخر أيضاً.

الوجه السادس: أنّ الأدلّة اللفظية الدالّة على التقليد- على القول بدلالتها- كآيتي النفر(3) والسؤال(4)، وإن دلّت على وجوب قبول قول المنذِر أو المجيب، إلّا أنّ القبول الواجب هو القبول بالعمل، دون الالتزام والأخذ بوجودهما العلمي أو الكتبي، وكذا سائر الأدلّة؛ حيث إنّ موردها العمليات المطلوب فيها العمل،


1- راجع: وسائل الشيعة 27: 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 1 ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 48 ..
3- التوبة( 9): 122 ..
4- النحل( 16): 43 ..

ص: 124

دون عقد القلب المطلوب في باب العقائد(1).

وفيه: أنّ غاية ما يمكن أن يستفاد من هذه الأدلّة هو أنّ للعمل دخالة ولو في متعلَّق التقليد، وهذا يلائم القول بأنّ التقليد هو الأخذ أو الالتزام للعمل، كما يلائم القول بأ نّه نفس العمل، فلا ينهض هذا الوجه لتعيينه.

فتحصّل ممّا ذكرناه في وجوه القول الثالث: أنّ بعضها ينفع في مقام الردّ على القول باعتبار الالتزام في معنى التقليد، وأنّ أفضل ما يمكن أن يصير دليلًا على هذا القول إثباتاً هو العرف العامّ الذي هو المرجع في المفاهيم الشرعية، مؤيَّداً باللغة كما مرّ؛ فإنّ العرف العامّ يرى أنّ التقليد هو التبعية في العمل- كما مرّ عن صاحب «الفصول» اعترافه به أيضاً- ولا مجال للالتزام والأخذ فيه عندهم.

إذا عرفت ما ذكرنا يظهر: أنّ اختلاف الأعلام في المقام راجع إلى اختلافهم في ماهية التقليد لا إلى مجرّد الاختلاف في التعبير. ويشهد لذلك: أنّ من يقول بتحقّق التقليد بالأخذ والالتزام يقول بتحقّقه وإن لم يعمل المقلِّد بعدُ، وكذا تفريع بعض الفروع والأحكام على هذا الخلاف، وكذا ما مرّ من استشكال صاحبي «الفصول» و «الكفاية» على كون التقليد نفس العمل.

فمحاولة السيّد الحكيم(2) إرجاع المراد من الأخذ إلى العمل، وكذا الالتزام- وجمع التعابير على مراد واحد- لا ترجع إلى محصّل.

هذا كلّه فيما إذا لم يتعدّد المجتهدون، أو اتّفقوا في الفتوى؛ حيث يجوز العمل بفتوى الجميع وبكلّ واحد معيّن. وأمّا مع التعدّد واختلافهم في الفتوى، فقد يقال:

«بأ نّه لا محيص من أن تكون حجّية خصوص كلّ منها مشروطاً بأخذه والالتزام


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 15- 16 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 12 ..

ص: 125

بحجّيته وطريقيّته، كما هو الشأن في الخبرين المتعارضين الراجع إليه مفاد التخيير في الأخذ بواحد منهما، وفي مثله لا يكون الأخذ مقدّمة للعمل، ومثل ذلك المعنى واجب عقلًا، (و) مناط حكمه وجوب تحصيل الحجّة على الجاهل قبل الفحص، ولا يكاد يساعد على شرعية هذا المعنى دليل»(1).

فإنّ الحجّية التخييرية- الثابتة بين المجتهدين المتساويين- تتعيّن في كلّ منهم بالاختيار عقلًا، وإن شئت فعبّر عنه بالالتزام، وهذا لا يستلزم القول بأنّ حقيقة التقليد هي الالتزام كما توهّم.

ويمكن التعبير عن ذلك- على حدّ تعبير بعض الأعاظم- بأنّ الالتزام بهذا المعنى مقدّمة للتقليد، لا أنّه عينه(2).

ثمّ إنّه قد أخذ السيّد الماتن في تعريف التقليد قيد «فتوى فقيه معيّن» والظاهر أنّه أخذه انطلاقاً من تحقّق المعنى اللغوي في المفهوم الاصطلاحي؛ حيث إنّ جعل القلادة في عنق الغير- الذي هو المعنى اللغوي للتقليد- يستلزم تعيين الغير، فكذلك في الاصطلاح؛ حيث إنّ الاستناد إلى الغير يستلزم تعيّنه.

وعلى هذا فالقول بأ نّه لا دليل على تعيين الفقيه بقول مطلق وفي كلّ الصور حيث إنّه إذا اتّحد المجتهد فلا يلزم تعيينه، وإذا تعدّد المجتهدون: فإن اتّفقوا فلا دليل على تعيين أحد منهم، بل يجوز تقليد جميعهم كما يجوز تقليد بعضهم؛ بحسب أدلّة حجّية الفتوى الدالّة على حجّيتها على نحو صرف الوجود، فلا تختصّ الحجّية بواحد منها معيّناً أو مردّداً، إلّاأن يراد بالتعيين ما يقابل الترديد فلا بأس به لا يبقى له وجه؛ إذ مفهوم التقليد وتحقّق المصداق له أمرٌ، وتعيين حكم عمل المكلَّفين أمرٌ


1- مقالات الاصول 2: 504 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 14 ..

ص: 126

آخر، كما ستعرف وجهه في المقام الآتي.

ثمّ إنّه قد بيّن الماتن قدس سره أنّ التقليد بهذا المعنى قد اخذ في موضوع المسألتين الآتيتين، وأراد بهما مسألتي: البقاء على تقليد الميّت، والعدول من الحيّ إلى الحيّ، فإنّ المكلّف إذا لم يعمل بعدُ على رأي المجتهد لم يتحقّق التقليد، و حينئذٍ لا موضوع للبقاء ولا للعدول، بل الموضوع لهاتين المسألتين لا يتحقّق إلّابالعمل المستند إلى فتوى فقيه معيّن.

مناط صحّة عمل العامّي

المقام الثاني: في المصحّح لعمل العامّي:

ذكر السيّد الماتن قدس سره أنّ صحّة عمل العامّي لا تتوقّف على صدق عنوان التقليد، بل يصحّ عمله إذا صدر عن حجّة كفتوى الفقيه وإن لم يصدق عليه التقليد بأحد المعاني السابقة، بل ذكر أنّه يصحّ عمله إن انطبق على الحجّة اتّفاقاً.

وحينئذٍ لا تحتاج صحّة عمله إلى الالتزام والأخذ السابقين على نفس العمل، بل الاستناد أو الانطباق على فتوى الفقيه يكفي في المقام.

وبهذا الكلام منه قدس سره يندفع إشكال ربّما يطرح في المقام، بيانه:

كيف يمكن الجمع بين تفسير التقليد وتعريفه بنفس العمل مستنداً إلى فتوى الفقيه، والقول بأنّ المصحّح لعمل العامّي غير المحتاط هو التقليد- كما تقدّم في المقدّمة قبل الشروع في المسائل- حيث إنّ التقليد إن كان نفس العمل فكيف يكون المصحّح للعمل أيضاً نفسه؟! فإنّ المصحّح للعمل لابدّ أن يكون مغايراً لنفس العمل، كما عرفت في إشكال صاحب «الفصول» السابق.

والجواب- كما أشار إليه بقوله: «نعم ...» هو أنّه لم يوجد دليل على اعتبار تحقّق

ص: 127

عنوان التقليد في صحّة العمل وكونه مصحِّحاً، بل المصحِّح هو صدور العمل عن حجّة واستناده إليها وإن لم يصدق عنوان التقليد، فمسبوقية العمل بالفتوى- في الاستناد إليها- أو انطباق العمل بالفتوى إذا انكشف بعد العمل تكفي في صحّة العمل؛ لأنّ الفتوى طريق لإحراز الأحكام الشرعية والعلم بها ولا موضوعية لها، والاستناد إليها يلزم لتصحيح العمل، ولا دخل له في أصل العمل الذي يتحقّق التقليد به.

فلا منافاة بين تفسير التقليد بالعمل وبين ما هو المصحّح لعمل العامّي غير المحتاط(1).

ثمّ لا يخفى ما في هذا الاستدراك من الجواب عن القول الأوّل الذي عرفته من صاحبي «الفصول» و «الكفاية»، وسيأتي تفصيل البحث عن مصحّح العمل بلا تقليد في المسائل الآتية إن شاء اللَّه تعالى.


1- راجع: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 68 ..

ص: 128

شرائط مرجع التقليد

اشارة

(مسألة 3): يجب أن يكون المرجع للتقليد عالماً مجتهداً عادلًا ورعاً في دين اللَّه، بل غير مكبّ على الدنيا، ولا حريصاً عليها وعلى تحصيلها جاهاً ومالًا على الأحوط.

وفي الحديث: «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلّدوه» (1).

شرائط مرجع التقليد

1- تعرّض رحمه الله لشرائط مرجع التقليد، واقتصر على الشرطين- أي الاجتهاد و العدالة- بنحو الفتوى، وعلى بعض الشروط بنحو الاحتياط، ولم يتعرّض لبعض الشروط كالحرّية والبلوغ، ولعلّ عدم تعرّضه كان بتبع ما صنعه المحقّق الأصفهاني في «وسيلة النجاة»(1). وكيف كان فقد صرّح بالشروط الاخر في رسالته الفارسية(2)، ووافق السيّد اليزدي رحمه الله في اعتبار هذه الشرائط في حاشيته على «العروة»(3).

والآن نتعرّض أوّلًا للشرط الأوّل وهو الاجتهاد فنقول:


1- وسيلة النجاة مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 9 ..
2- توضيح المسائل، الإمام الخميني قدس سره: 1، المسألة 2 ..
3- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره 1: 9 ..

ص: 129

شرطية الاجتهاد

لا خلاف ولا إشكال ظاهراً في شرطية الاجتهاد لمرجع التقليد في الجملة؛ لأنّه هو الذي يقدر على استنباط الأحكام عن الأدلّة التفصيلية، ويتوقّف صدق عنوان «العالم» و «الفقيه» عليه، وأدلّة لزوم تقليد العامّي أو جوازه، لا تجوّز تقليده إلّاعن المجتهد؛ لأنّ أدلّته على قسمين: لفظية وغيرها:

أمّا الأدلّة اللفظية: فمع غضّ النظر عن استقامتها قد اخذ فيها عنوان «الفقهاء» ومشتقّاته، كما في آية النفر: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(1)، ورواية الاحتجاج: «فأمّا من كان من الفقهاء ... فللعوامّ أن يقلّدوه»(2). وفي بعضها «أهل الذكر» وهو آية:

فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ(3). وفي بعضها «الناظر في الحلال والحرام والعارف بالأحكام» كما في مقبولة عمر بن حنظلة(4). ولا يخفى أنّ هذه العناوين لا تصدق على غير المجتهد.

وأمّا الأدلّة اللبّية: فالسيرة العقلائية تدلّ على لزوم إرجاع الجاهل إلى العالم، وصدق «العالم» على من لم يبلغ درجة الاجتهاد مشكوك، إن لم نقل ممنوع. ودليل العقل يدلّ على لزوم دفع الضرر المحتمل، ولا يدفع إلّابعد التقليد عن المجتهد.

وهذا المقدار واضح، وإنّما الإشكال في حدّ الاجتهاد، فهل يعتبر في مرجع


1- التوبة( 9): 122 ..
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 299؛ الاحتجاج 2: 511؛ وسائل الشيعة 27: 131، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20 ..
3- النحل( 16): 43 ..
4- الكافي 1: 67/ 10؛ الفقيه 3: 5/ 2؛ تهذيب الأحكام 6: 301/ 845؛ وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1 ..

ص: 130

التقليد الاجتهاد المطلق، أو يكفي مطلق الاجتهاد ولو كان متجزّياً؟ وهذا الإشكال لا يرتبط بمسألة وجوب تقليد الأعلم أو عدمه؛ لأنّ النسبة بين عنوان «المتجزّي» و «الأعلم» عموم وخصوص من وجه، فيمكن أن يكون المتجزّي أعلم من غيره فيما استنبطه من المسائل.

نعم، هذا الإشكال يبتني على الإيمان بإمكان التجزّي في الاجتهاد، والحقّ إمكان التجزّي في الاجتهاد، وتفصيل القول فيه:

إنّ المعروف في تعريف المتجزّي: هو من له قدرة الاستنباط بالنسبة إلى بعض الأبواب دون بعضها الآخر. وفي تعريف آخر: هو من له قدرة استنباط بعض المسائل- من دون تقييد بباب أو أبواب- ولكن لم يتمكّن من الاستنباط في بعضها الآخر(1).

فبالنسبة إلى المعنى الثاني من الواضح إمكان التجزّي؛ لأنّ الأحكام تختلف بحسب المدارك وكيفية الاستنباط منها صعوبةً وسهولةً، فربّ حكم اختلفت فيه الأقوال وتضاربت أدلّته وكثرت النصوص المتعارضة فيه، وفي المقابل ربّما كان هناك حكم لم تختلف فيه الأقوال وليس مستنده إلّادليلًا واحداً من النصوص الظاهرة الدلالة والمعتبرة السند، ومن البديهي أنّ الاستنباط من الأوّل أصعب ومن الثاني أسهل.

وأمّا بالنسبة إلى تعريف المشهور فلا يجري ما قلناه أخيراً؛ لأنّ الأبواب وإن اختلفت بحسب نوع المدارك من جهة كثرة الروايات المتعارضة أو قلّتها ووجود القواعد وعدمها، وبتبع ذلك تختلف صعوبة الاستنباط وسهولته نوعاً، ولكن يوجد


1- هذا ظاهر عبارة التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 33، وقال الآخوند في تعريف المتجزّي: ما يقتدر على استنباط بعض الأحكام ..

ص: 131

في كلّ باب بالأخرة ما يرتبط استنباطه بباب التعارض، أو بالاستدلالات العقلية أو بالقواعد و ....

وهذا المعنى ما قاله بعض من أنّ كيفية الاستنباط في الأبواب الفقهية تكون على نسق واحد، ولا معنى للاجتهاد في باب دون باب(1)، ولا معنى للتجزّي أصلًا.

ولكن لا يخفى أنّ الاجتهاد في الأبواب المختلفة يحتاج إلى الدقّة للموضوع وصور المسألة، والتضلّع في مدارك الباب ومواضعها المعهودة لها، خصوصاً في زماننا هذا بسبب كثرة الموضوعات المشابهة وفي ثمَّ صعوبة معرفة ما ينبغي تطبيقه في المدارك.

والشاهد على ذلك: أنّ من له ملكة في استنباط العبادات قد لا يستطيع أن يستنبط مسائل مرتبطة بباب الشركة والتجارة مثلًا إلّابعد التضلّع في مباحثها الموضوعية وما يرتبط بها.

فالحقّ إمكان التجزّي ووقوعه خارجاً بهذا المعنى أيضاً.

والدليل على كفاية التجزّي في جواز التقليد هو سيرة العقلاء في الرجوع إلى العالم، حيث إنّهم لايفرّقون بين أن يكون المجتهد مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً؛ لوضوح أنّ الجاهل بشي ء يرجع إلى العالم به وإن لم يكن له معرفة بغيره من الامور، وأوضح شاهد على ذلك، مراجعة الناس للأطبّاء، بل قد يرجّحون المتخصّص في فنّ خاصّ- ولو لم يكن له خبرة بغيره- على من يعلم فنوناً متعدّدة.

لكن رغم وجود السيرة ادّعى بعض أنّها مردوعة، وما يستدلّ به على الردع امور:

الأوّل: الإجماع. ولكن لا دليل على ثبوته، وعلى فرض ذلك فهو مدركي أو محتمل المدركية.


1- ذكره شيخنا الاستاذ التبريزي في محاضرات درسه ..

ص: 132

الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة، وفيها: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(1). بدعوى: أنّ المقصود من الموصول في الرواية من يعلم جميع الأحكام والحلال والحرام.

وفيه: أنّ المقطوع به عدم إرادة العلم بجميع أحكامهم وحلالهم وحرامهم؛ لأنّ ذلك متعذّر عادةً، فلابدّ أن يكون المراد الجنس الشامل لمن يعلم البعض، وهو يصدق على المتجزّي.

نعم، لا يصدق على من يعلم شيئاً قليلًا جدّاً- كمن يعلم مسألة أو مسألتين- وإن كان مجتهداً مطلقاً.

ويؤيّد ما قلنا: قوله عليه السلام في مشهورة أبي خديجة: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا (قضايانا)، فاجعلوه بينكم؛ فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(2).

وهذه الرواية- على اختلاف نسخها- تدلّ على كفاية العلم بشي ء قليل من قضائهم أو قضاياهم في القضاء، ولا ريب في صدقه على المتجزّي.

الثالث: الآيات؛ بدعوى أنّ أَهْلَ الذِّكْرِ و لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ المذكورين في الآيات السابقة، يردعان عن جواز تقليد المتجزّي.

وفيه: أنّ آية السؤال- مع غضّ النظر عن موردها حيث نزلت في سؤال العوامّ من علماء اليهود حول ما يرتبط بالنبوّة- لا تنافي جواز الرجوع إلى المتجزّي؛ فإنّ


1- الكافي 1: 67/ 10؛ وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1 ..
2- تهذيب الأحكام 6: 303/ 846؛ وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6، قضايانا في نسخة« الوسائل» نقلًا عن« الفقيه» وقضائنا في نسخة« الكافي» و« التهذيب» ..

ص: 133

النسبة بين «المجتهد المتجزّي» و «أهل الذكر» عموم من وجه. وهذا الكلام يجري أيضاً بالنسبة إلى آية النفر.

مضافاً إلى أنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه، فالسؤال من أهل الذكر والحذر عن قول المتفقّه لا ينافيان السؤال والحذر من غيره كما لا يخفى.

فتحصّل ممّا ذكرنا إلى الآن: أنّ الشرط ليس الاجتهاد المطلق، بل مطلق الاجتهاد.

وظاهر كلام الماتن قدس سره كفاية التجزّي؛ لأنّه لم يقيّد الاجتهاد بالإطلاق. نعم صرّح هو في حاشيته على «العروة» بكفاية التجزّي في الاجتهاد في التقليد عنه في مسائل استنبطها(1).

قال بعض المعاصرين: لو كانت أدلّة التقليد نقلية فالقدر المتيقّن منها التقليد عن المجتهد المطلق، ولو كانت عقلية: فلو لم يكن مجتهداً مطلقاً أو تطابق فتوى المتجزّي مع المطلق يجوز تقليد المتجزّي، وإلّا فلا(2).

أقول: تقدّم مدى دلالة الأدلّة اللفظية وشمول ألفاظها للمتجزّي في الجملة، ومع دلالة اللفظ لا وجه للرجوع إلى القدر المتيقّن، وأمّا الأدلّة العقلية فلا دليل على تفصيله إلّاتوهّم أنّ المجتهد المطلق يكون أعلم من المتجزّي دائماً، والحال أنّه يمكن أعلمية المتجزّي فيما استنبطه كما لا يخفى. هذا كلّه بالنسبة إلى شرط الاجتهاد.

شرطية العدالة

ثمّ تعرّض قدس سره لشرطية العدالة، وعقّبها بالورع، وأردفها بعدم الكبّ على الدنيا والحرص عليها وعلى تحصيلها على الأحوط. وهذه الشروط كلّها كائنة على


1- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 9، المسألة 22 ..
2- ذخيرة العقبى، حاج آقا علي صافي 1: 111 ..

ص: 134

مستوى تديّن المرجع، وبعد إضافة احتمال كفاية الوثاقة في المفتي تصير الاحتمالات أربعة:

الأوّل: كفاية الوثاقة فقط.

الثاني: لزوم كونه عادلًا.

الثالث: لزوم كونه عادلًا وورعاً.

الرابع: لزوم كونه- مضافاً إلى ما تقدّم- زاهداً في الدنيا؛ أي يلزم كونه ثقةً عادلًا ورعاً زاهداً.

وظاهر عبارة الماتن- بعد ملاحظة ما ذكره قدس سره في حاشية «العروة»- يدلّنا على أنّ الورع ليس شرطاً مستقلًاّ بنظره، بل هو موضّح لشرط العدالة ومشير إلى المرتبة العالية منه. وأمّا الشروط الاخرى- المشيرة إلى الزهد في الدنيا- فهي شرائط احتياطية بنحو الاحتياط الواجب.

وكيف كان فذكر المستند للاحتمالات وتقويمها يدلّنا إلى الصواب:

أمّا كفاية الوثاقة فالتزم بها المحقّق الأصفهاني رحمه الله، قال: «أمّا العدالة من حيث العمل فإنّه لا دليل عليها بالخصوص في مسألة التقليد، إلّاما يتوهّم من الرواية المنسوبة إلى الإمام العسكري عليه السلام بقوله: «وأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلّدوه» لكنّه بعد المراجعة إليه يفهم منها أنّ اعتبار العدالة أيضاً للأمن من الكذب والخيانة لا تعبّداً.

مضافاً إلى ما ذكرنا مراراً من أنّ أدلّة حجّية الخبر والفتوى واحدة، ولا يعتبر في الخبر إلّاالوثوق، وعليه عمل الأصحاب أيضاً، فلا وجه لاعتبار الزيادة في الفتوى.

أمّا آية النبأ- الدالّة على طرح خبر الفاسق وقبول خبر العادل- فبمقتضى مناسبة الحكم والموضوع لا تستدعي أزيد من اعتبار الوثوق؛ فإنّ الفاسق لا مبالاة

ص: 135

له بالكذب ... فلا دليل على عدم جواز العمل بفتوى الفاسق»(1).

أقول: خلاصة كلامه: عدم وجدان المقيّد للإطلاقات وللسيرة العقلائية الدالّة على كفاية الوثوق بالمفتي، وحيث إنّ بحثنا منعقد فعلًا عن شرطية العدالة؛ فإن دلّ دليل عليها فهو بنفسه يكون مقيّداً للسيرة والإطلاقات، وإن لم يدلّ فالقول بكفاية الوثوق هو الصواب، فانتظر.

وأمّا الاحتمال الثاني فالتزم به أكثر الفقهاء- رضوان الله عليهم- واستدلّوا عليه بأدلّة لفظية وغير لفظية، وهذه الدلائل وإن كان في بعضها ضعف دلالةً أو سنداً، ولكن بعضها الآخر متقن يجب الالتزام به:

أمّا الأدلّة اللفظية: فتمسّك بعضٌ بآية النبأ: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ...(2)، بناءً على كون فتواه إخباراً عن الواقع(3).

ولكن فيه أوّلًا: ظاهر شرطية العدالة كونها شرطاً في جواز العمل بفتواه، لا في قبول إخباره عن فتواه. وتظهر الثمرة فيما لو علم صدقه في إخباره بفتواه، أو أخبر بها حال عدالته، أو عُلمت فتواه من غير جهة إخباره.

وثانياً: غاية ما تدلّ عليه آية النبأ هو شرطية الوثاقة لا العدالة، كما تقرّر في مباحث الاصول.

وتمسّك أيضاً بآية الركون: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ(4) حيث إنّ الفاسق ظالم، والاعتماد على فتواه نوع من الركون إليه.


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 69 ..
2- الحجرات( 49): 6 ..
3- مدارك العروة 1: 143 ..
4- هود( 11): 113 ..

ص: 136

وفيه أوّلًا: أنّ من الممكن أن يكون المراد مِن «الذين ظلموا» مَن ظلم غيره لا مطلق من صدرت منه المعصية، وهذا هو المتبادر من كلمة «الظالم»، فلا دلالة واضحة في الآية في الشمول لكلّ فاسق.

وثانياً: أنّه لا يصحّ ردع السيرة بالإطلاق كما قرّر في الاصول.

واستدلّ أيضاً بخبر «الاحتجاج»: «من كان من الفقهاء ...».

ولكن فيه إشكالان: الأوّل: ضعف السند، كما ذكر الماتن قدس سره في رسالته في «الاجتهاد والتقليد»(1).

والثاني: ضعف الدلالة واغتشاش المتن؛ لأنّ مورد الرواية هو اصول الدين، ولا يمكن إخراج المورد عن المدلول، ومع العناية بالمورد لا يصير مدلولها ظاهراً فيما أردناه من التقليد؛ حيث إنّ التقليد في الاصول تعبّداً غير صحيح.

ولذا قال الشيخ رحمه الله: «لكن بملاحظة صدر الخبر وذيله يعلم بأنّ المراد اعتبار العدالة من جهة الأمن من الكذب في الرواية، والإفتاء بغير ما أنزل اللَّه تعمّداً»(2).

وأمّا الأدلّة غير اللفظية: فاستدلّ بعضهم بالإجماع، إلّاأنّه لم يقم دليل على ثبوته ظاهراً، مضافاً إلى أنّ الظاهر كونه مدركياً.

كما أنّ بعضهم استدلّ بارتكاز المتشرّعة وسيرتهم القطعية؛ حيث لا يرجعون إلى الفاسق في الفتوى؛ فإنّ المرجعية- بحسب ما في الأدلّة- منصب شرعي لا ينحصر دوره في الإفتاء، بل له نوع زعامة دينية على كافّة الشيعة، ولا أقلّ من التلازم العرفي بين منصب المرجعية بحسب الفتوى ومنصب الزعامة في الجملة، ولا سيّما مع ملاحظة فتوى الفقهاء في زماننا هذا في الإلزام بإرجاع


1- راجع: الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 96 ..
2- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 58 ..

ص: 137

سهم الإمام بل السهمين إلى المرجع للتقليد(1).

كما أنّ من الواضح أنّ المرجع- وخصوصاً في هذه الأزمان- يقوم بعدّة أدوار:

منها: تسلّم الحقوق المالية الشرعية من المسلمين، ومنها إدارة أيضاً: إدارة الحوزات العلمية، ومنها: إبداء الرأي في المواقف العامّة التي ترتبط بشؤون المسلمين، وكلّ هذا يتطلّب العدالة.

وكيف يرضى الشارع الحكيم أن يتصدّى لمثلها من لا قيمة له لدى العقلاء والشيعة المراجعين له؟! خصوصاً بعد ملاحظة عدم رضا الشارع بإمامة من هو كذلك في الجماعة؛ حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة، فما ظنّك بالزعامة العظمى التي هي من أعظم المناصب بعد الولاية!(2).

هذا كلّه في شرطية العدالة، ومع تمامية الأدلّة عليها نتمكّن من تقييد الإطلاقات والسيرة العقلائية الدالّتين على كفاية الوثاقة، وحينئذٍ فلا يكون وجه للقول بكفاية الوثاقة.

نعم، يمكن القول بجواز التقليد وأخذ بعض المسائل عن المجتهد المتجزّي الثقة، لعدم دلالة ما تقدّم على لزوم عدالته بعد أن لم يكن له منصب الزعامة الكبرى ونظائره.

أمّا شرطية الورع والزهد

قبل البحث عن شرطيتهما، نبحث عن معناهما والفرق بينهما؛ كي لا يشتبه الحكم في المسألة:

أمّا الورع: فالمراد منه التحرّز عن الشبهات مضافاً إلى التحرّز عن المحرّمات،


1- راجع: كتاب الخمس، كيفية مصرف الخمس من« العروة الوثقى» و« تحرير الوسيلة» ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 78 ..

ص: 138

ففي «لسان العرب»: «الورع في الأصل: الكفّ عن المحارم، والتحرّج منه، وتورّع من كذا، ثمّ استعير للكفّ عن المباح والحلال»(1).

وفي الروايات أنّ الورع فوق العدالة: فعن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا ورع كالوقوف عند الشبهة»(2)، وعن العسكري عليه السلام: «أورع الناس من وقف عند الشبهات»(3)، وعن الصادق عليه السلام: سئل من الورع من الناس؛ قال: «الذي يتورّع عن محارم اللَّه ويجتنب هؤلاء، فإذا لم يتّق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه»(4).

نعم ورد في بعض الروايات(5) أنّ الورع هو الاجتناب عن المحرّمات، ولكن إطلاقها مقيّد بما عرفت من المقيّدات، خصوصاً الرواية الأخيرة.

وكيف كان فالمراد من الورع ظاهراً هو أمر فوق العدالة، أو فقل: مرتبة عالية من العدالة، ويؤيّد هذا المعنى: ما ورد في شأن الورعين من الناس؛ مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «جلساء اللَّه غداً أهل الورع والزهد في الدنيا»(6).

وأمّا الزهد: فهو الإعراض عن الدنيا، وعدم الإقبال على مالها وجاهها، وعدم الانكباب عليها. والظاهر أنّ الورع أخصّ من العدالة، والزهد أخصّ منهما؛ لأنّ


1- لسان العرب 15: 272 ..
2- نهج البلاغة: 488، الحكمة 113؛ وسائل الشيعة 27: 161، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 12، الحديث 23 ..
3- الخصال: 16/ 56؛ وسائل الشيعة 27: 162، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 12، الحديث 29 و 38 ..
4- معاني الأخبار: 252/ 1؛ وسائل الشيعة 27: 162، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 12، الحديث 30 ..
5- الكافي 2: 77/ 7 و 8 ..
6- كنز العمّال 3: 427/ 7279 ..

ص: 139

العادل يجتنب عن الحرام، والورِع عن المشتبه، والزاهد عن الحلال.

وأمّا الكلام في شرطية الورع- الذي لا قائل به إلّاالماتن قدس سره تبعاً لما في «وسيلة النجاة»(1)؛ حيث أضاف قيد الورع عقيب العدالة- والزهد، فحيث إنّ مستندهما عقلًا ونقلًا متقارب فاندمج البحث للاختصار، فنقول: ذكر وجهان للاشتراط:

الوجه الأوّل: رواية «الاحتجاج»: «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلّدوه»(2).

تقريب الاستدلال: أنّه يستفاد من الرواية لزوم مخالفة المرجع لهواه، ومن تورّط في الشبهات ولم يخالف هواه في المباح لا يصدق عليه أنّه «مخالف لهواه».

والظاهر أنّ مستند الماتن هذه الرواية؛ ولذا ذكرها في تتمّة المسألة.

الوجه الثاني: ارتكاز المتشرّعة في التقليد والأخذ عمّن كان في مرتبة عالية من التقوى. وهذا الارتكاز استمرار للارتكاز المتشرّعي في التحرّز عن تقليد من كان فاسقاً، فالمفتي- لما له من مقام المرجعية والولاية على المسلمين في الجملة- كان ينبغي أن يتّصف بما يتّصف به المعصوم من العصمة، ولكن للعلم بعدم ثبوت العصمة لغير المعصوم عليه السلام ارتكز في أذهانهم لزوم كون المرجع في مرتبة أعلى من العدالة والتقوى، وهذه المرتبة هي الورع والزهد.

أمّا بالنسبة للوجه الأوّل فيشكل عليه:

تارةً من جهة اعتبار السند، وقد تقدّم من الماتن قبول ضعف الرواية؛ من حيث


1- وسيلة النجاة مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 10 ..
2- الاحتجاج 2: 511؛ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 299؛ وسائل الشيعة 27: 131، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20 ..

ص: 140

وجود الضعفاء والمجاهيل في السند.

واخرى من جهة الدلالة، فقد أشكل السيّد الخوئي قدس سره- على ما في تقريرات بحثه- بما يلي: «فإنّه لا مساغ للأخذ بظاهرها وإطلاقها؛ حيث إنّ لازمه عدم جواز الرجوع إلى من ارتكب أمراً مباحاً شرعياً لهواه، إذ لا يصدق معه أنّه مخالف لهواه؛ لأ نّه لم يخالف هواه في المباح، وعليه لابدّ في المقلّد من اعتبار كونه مخالفاً لهواه حتّى في المباحات. ومن المتّصف بذلك غير المعصومين؟!

وبالجملة: إن اريد بالرواية ظاهرها وإطلاقها لم يوجد لها مصداق كما مرّ، وإن اريد بها المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع دون المباحات فهو عبارة اخرى عن العدالة وليس أمراً زائداً عليها، وقد ورد أنّ «أورع الناس من يتورّع عن محارم اللَّه»(1)، ومع التأمّل في الرواية يظهر أنّ المتعيّن هو الأخير، فلا يشترط في المقلّد زائداً على العدالة شي ء آخر»(2).

أقول: لا يستفاد من ظاهر الرواية أنّ المرجع يجب أن يكون مخالفاً لهواه مطلقاً، ولا يعمل عملًا مباحاً إلّاإذا كان مقدّمة لواجب أو مستحبّ، بل المقصود: أنّ من كان مطيعاً لهواه كثيراً حتّى في المباح لا يصلح للمرجعية. وهذا واضح فإنّ بين «من يخالف هواه في المعصية فقط» و «من يخالف هواه مطلقاً حتّى في المباح» مراتب كثيرة، وفي بعضها يوجد من يخالف هواه في المشتبهات وفي أكثر المباحات.

والظاهر أنّ هذا هو المراد من مجموع الرواية، وإلّا فلو كان المراد من مخالفة الهوى مخالفته في الحرام وترك الواجب فقط، لزم التكرار في الرواية؛ لأنّه يكون


1- راجع: الكافي 2: 77/ 8 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 197- 198 ..

ص: 141

عبارة اخرى عن «مطيعاً لأمر مولاه».

وهاهنا إشكال آخر ذكره السيّد الحكيم رحمه الله قال: «وقد عرفت الإشكال في سنده، وفي كونه فيما نحن فيه من التقليد في الفروع، وفي دلالته على أكثر من اعتبار الأمانة والوثوق كما يظهر من ملاحظة مجموع الفقرات، وإن كان الجمود على الفقرة الأخيرة يقتضي ظهوره في اعتبار العدالة»(1).

أقول: أمّا إشكال السند فقد سبق قبوله من الماتن أيضاً، وأمّا الإشكال من جهة المدلول فيمكن أن يقال بأنّ للتقليد مفهوماً أعمّ يشمل الاصول والفروع، وما يُمنع من التقليد فيه في الاصول هو التوحيد والنبوّة والمعاد، وأمّا التقليد فيما هو مرتبط بالاصول ويكون من الجزئيات أو اللواحق فلا إشكال فيه، فإذن المكلّف مأمور بالتقليد في غير الاصول الأصلية- كالتوحيد والمعاد- وإن كان من لواحق اصول الدين.

هذا بالنسبة إلى خروج المورد وعدم شمولها للتقليد في الفروع، هذا.

ولكن تقدّم من الماتن رحمه الله القول باغتشاش المتن، ولذا يبقى في النفس شي ء تجاه المدلول من هذه الجهة.

وأمّا مقتضى المدلول في هذه الفقرة، فقد تقدّم أنّه أكثر من العدالة وهو مرتبة الزهد، ولا أقلّ من مرتبة الورع، وظهور سياق الرواية في شرطية الوثوق لا ينافي ظهور هذه الفقرة في لزوم عدالة المرجع للتقليد عند الإمامية، ومع فرض التنافي لا يقدّم عليه لما تقرّر في الاصول من تقدّم الظهور اللفظي على الظهور السياقي.

وأمّا بالنسبة للوجه الثاني- وهو الارتكاز المتشرّعي- فيمكن أن يخدش: بأ نّه


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 46 ..

ص: 142

دليل لبّي، والقدر المتيقّن منه الاحتراز عن تقليد الفاسق، لا العادل غير الورع أو غير الزاهد.

والحاصل: ما يستند إليه في شرطية الورع والزهد ليس بتامّ.

ولكن مع هذا يمكن أن يقال:- بعد النظر إلى خطورة منصب المرجعية، واحتمال الوقوع في المهالك إذا لم يكن المرجع في مرتبة من الورع والزهد- بشرطية الورع والزهد ولو احتياطاً كما صنعه الماتن قدس سره بالنسبة إلى الثاني.

ص: 143

العدول من مجتهد إلى آخر

اشارة

(مسألة 4): يجوز العدول بعد تحقّق التقليد، من الحيّ إلى الحيّ المساوي، ويجب العدول إذا كان الثاني أعلم على الأحوط (1).

العدول من مجتهد إلى آخر

1- العدول عن تقليد مجتهد حيّ إلى حيّ آخر- بعد تحقّق التقليد؛ أي العمل مستنداً إلى رأي الأوّل- يتصوّر على ثلاث صور، وهي:

1- العدول من الحيّ إلى الحيّ المساوي.

2- العدول من الحيّ إلى الحيّ الأعلم.

3- العدول من الحيّ إلى الحيّ المفضول.

وقد تعرّض الماتن قدس سره للصورتين الاوليين دون الثالثة كما يظهر وجهه.

وقبل الورود في المسألة لابدّ من التنبيه على أنّ المكلّف مخيّر بدواً في اختيار تقليد أحد المراجع المتساوين في الفضل، كما سيصرّح به الماتن في المسألة الثامنة، وإنّما الكلام في العدول وثبوت التخيير بعد اختيار تقليد أحد المجتهدين، كما أنّ البحث حول التقليد في الوقائع المستقبلة، دون شخص الواقعة التي عمل بها على رأي المعدول عنه، كما أنّه لا إشكال في ثبوت التخيير وجواز العدول في صورة

ص: 144

اتّفاق المجتهدين في جميع المسائل، وإنّما الكلام في صورة اختلافهما في الفتوى مع علم المقلّد بذلك:

فحكم الماتن العلّامة قدس سره- في الطبعة النجفية الثانية ل «تحرير الوسيلة»، وفي حاشية «العروة»- بجواز العدول من الحيّ إلى الحيّ المساوي، كما صرّح به في بعض أجوبة استفتاءاته(1)، خلافاً لما اختاره في الطبعة الاولى النجفية ولتعليقته على «وسيلة النجاة»، حيث علّق على قول السيّد الأصفهاني رحمه الله: «لا يجوز العدول» بقوله: «على الأحوط في المساوي»(2).

وكيف كان فقد وقع الخلاف بين أعلام الخاصّة والعامّة في حكم العدول مع التساوي:

فذهب مشهور العامّة إلى القول بجواز العدول في الأعمال المستقبلة؛ استناداً إلى وقوع العدول من غير نكير من الأعلام والصحابة(3).

وأمّا الخاصّة فقد صارت المسألة- من بدو ظهورها بينهم- ذات قولين، فقد استوجه العلّامة الحلّي في «نهاية الوصول» القولَ بجواز العدول في الأعمال المستقبلة دون شخص الحكم الذي عمل به سابقاً(4)، وتبعه في ذلك الشهيد الثاني في «المقاصد العلّية»(5)، والمحقّق الثاني في الرسالة «الجعفرية»(6)، واختاره


1- استفتاءات 1: 8 ..
2- وسيلة النجاة مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 10 ..
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 309؛ الإحكام في اصول الأحكام 2: 242؛ إرشاد الفحول 2: 304؛ البحر المحيط 6: 373؛ أعلام الموقعين 4: 364 ..
4- نهاية الوصول: 639، الرابع: إذا اتّبع العامّي ... ..
5- المقاصد العلّية: 51 ..
6- حياة المحقّق الكركي وآثاره 4: 132- 133 ..

ص: 145

المحقّق القمّي حاكياً عليه الإجماع(1).

ولكنّ العلّامة الحلّي في «تهذيب الاصول» ذهب إلى عدم جواز العدول(2)، وتبعه على ذلك السيّد عميد الدين في شرحه(3)، والشهيد الأوّل في «الذكرى»(4)، واختاره جمع من المتأخّرين؛ كالشيخ الأعظم الأنصاري(5)، والسيّد اليزدي في «العروة الوثقى»(6).

وكيف كان لابدّ من دراسة أدلّة القولين:

أدلّة القائلين بجواز العدول

اشارة

قد استدلّ القائلون بجواز العدول بوجهين:

الوجه الأوّل: الإطلاقات اللفظية الدالّة على حجّية الفتوى؛ بدعوى عدم تقييدها بما إذا لم يرجع إلى غيره، فمقتضى إطلاقها، الحجّية وإن رجع إلى الغير وأخذ بفتياه.

وفيه أوّلًا: أنّه لا يوجد دليل مطلق يمكن الاتّكال عليه؛ لضعف الأدلّة اللفظية المذكورة للتقليد سنداً ودلالةً(7).

وثانياً: سلّمنا وجود الدليل اللفظي، ولكن لا إطلاق له بالنسبة إلى حال


1- قوانين الاصول 2: 264/ السطر 22 ..
2- حكي عنه في مفاتيح الاصول: 617 ..
3- راجع: بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 148 ..
4- ذكرى الشيعة 1: 44 ..
5- مجموعة رسائل فقهية واصولية: 83 ..
6- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 10، المسألة 33 ..
7- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 113 ..

ص: 146

التعارض؛ فإنّ غاية ما يمكن أن يستفاد من الدليل- على فرض إعمال التعبّد والإرجاع إلى الفقهاء- أنّ الجاهل لابدّ أن يرجع إلى العالم في تعلّم أحكام الدين، ومن المعلوم أنّ مثل ذلك لا إطلاق له لحال التعارض.

الوجه الثاني: الاستصحاب؛ بتقريب أنّ المكلّف قبل الأخذ بفتوى أحد المجتهدين كان مخيّراً في الأخذ بأيّهما شاء؛ لفرض تساويهما، فيكون من اختاره منهما جامعاً لشرائط الحجّية، فإذا رجع إلى أحدهما وشككنا في أنّ فتوى الآخر باقية على الحجّية التخييرية أو أنّها ساقطة، فالاستصحاب يقتضي الحكم ببقائها على الحجّية التخييرية. فالمكلّف مخيّر بين البقاء على تقليد المجتهد الأوّل والعدول إلى المجتهد الثاني.

وقد لوحظ عليه أوّلًا: بأ نّه يعتبر في الاستصحاب إحراز اتّحاد موضوع القضية المشكوكة والمتيقّنة، وهو غير محرز في المقام؛ إذ أنّ موضوع التخيير، إن كان «من لم تقم عنده حجّة فعلية» فقد ارتفع بالأخذ بإحدى الفتويين؛ لأنّها صارت حجّة فعلية بالأخذ بها، فلا موضوع لاستصحاب التخيير، وإن كان الموضوع للتخيير هو «من تعارض عنده الفتويان» نظير من تعارض عنده الخبران أو جاءه حديثان متعارضان، فهو أمر يرتفع بالرجوع إلى إحدى الفتويين.

فلو شككنا بعد ذلك في بقاء الحكم بالتخيير وارتفاعه لم يكن مانع من استصحابه بوجه، ولكنّا لم نحرز أنّ الموضوع أيّهما؛ حيث إنّ مدّعي التخيير في المسألة إنّما يروم إثباته بالإجماع أو السيرة، وهما دليلان لبّيان، وليسا من الأدلّة اللفظية لنستظهر أنّ موضوع الحكم فيها هو «من تعارض عنده الفتويان»، فيدور الأمر في الموضوع بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع، وفي مثله لا مجال للاستصحاب بالكلّية لأنّه لا يجري في الموضوع ولا في حكمه:

أمّا عدم جريانه في الحكم، فلأجل الشكّ في بقاء الموضوع.

ص: 147

وأمّا عدم جريانه في الموضوع، فلأجل أنّ استصحابه- بوصف أنّه كذلك- عبارة اخرى عن استصحاب الحكم نفسه، وأمّا ذاته- لا بوصف أنّه موضوع- فهو ليس بمورد للاستصحاب، فإنّه لا شكّ فيه، حيث إنّه مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع(1).

واجيب عنه بما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس سره: من أنّ موضوع قضية الفطرة والجبلّة هو «الجاهل»، ومن المعلوم أنّه لم يرتفع جهله حقيقةً بالرجوع إلى العالم.

وموضوع الانسداد هو «من لم يتمكّن من الاستناد إلى الحجّة».

وأمّا الموضوع للأدلّة اللفظية: ففي مثل آية النفر- الدالّة على حجّية الفتوى- هو من ليس له قوّة إعمال النظر، وفي مثل آية السؤال يكون الموضوع هو «الجاهل» فهي أوجبت على المكلّف أن يسأل مقدّمةً للتقليد، لا أنّ السؤال عينه، فالعالم بعد السؤال يكون موضوعاً لوجوب التقليد.

وأمّا مثل قوله: «فللعوامّ أن يقلّدوه» في خبر «الاحتجاج» فقد فرض «العامّي» في قبال الفقيه، وأوجب عليه الرجوع إلى الفقيه، فحاله حال آية النفر.

وأمّا الموضوع لأدلّة التخيير بين الخبرين المتعارضين فهو «من جاءه الخبران» دون «المتحيّر» و «من لم يختر» ونحوهما من العناوين الانتزاعية باجتهاد منّا ببعض المناسبات.

فعنوان «الجاهل»- الموضوع في الأدلّة اللفظية واللبّية- يصدق على من رجع إلى المجتهد، كما يصدق على من لم يرجع إليه، فيجوز العدول باستصحاب هذا العنوان بعد تقليد الأوّل(2).


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 121 ..
2- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 153- 154 ..

ص: 148

وقد اورد عليه: بأنّ هذا لا يناسب شأن قائله؛ حيث إنّ الأدلّة- على حسب المفروض- قد سقطت بالتعارض، فلا مجال لاستصحاب موضوعها بعد التساقط.

ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ التخيير قد ثبت قبل الأخذ بأحدهما، فإذا شككنا في بقائه وارتفاعه، وكان الموضوع للتخيير البدوي ثابتاً، أمكن إحراز وحدة الموضوع للقضية المتيقّنة والمشكوكة، وإلّا فلا مجال لاستصحاب ذلك التخيير الابتدائي بعد الأخذ بأحدهما. نعم، لا يمكن الاستدلال بالدليلين المتعارضين، ولكن وجود موضوعهما قبل التعارض يحقّق ركن الاستصحاب بعده.

ولوحظ عليه ثانياً: بأنّ الاستصحاب- إن تمّ- إنّما يتمّ فيما إذا كانت الحالة السابقة هي التخيير، دون ما إذا كان المجتهد الأوّل- أي من يريد العدول عنه- أعلم من المعدول إليه، إلّاأنّه ترقّى متدرّجاً حتّى بلغ مرتبة المجتهد الأوّل وتساوى معه في الفضيلة، وحينئذٍ فإذا شككنا في تعيّن البقاء على تقليد الأوّل وجواز العدول إلى المجتهد الثاني لم يمكننا استصحاب التخيير؛ لعدم الحالة السابقة له، بل الحالة السابقة هي التعيين؛ لما فرضناه من أنّه أعلم من المعدول إليه، فالاستدلال بالاستصحاب أخصّ من المدّعى(1).

واجيب عنه: بأنّ ما ذكر إنّما يرد على إطلاق عبارة «العروة» وأمثالها، ولا يرد على ما هو المهمّ المفروض في المقام من تساوي المجتهدين ابتداءً واستدامةً(2).

وفيه: منع بناء المقام على تساوي المجتهدين استدامةً.

اللهمّ إلّاأن يقال: بإمكان إجراء الاستصحاب التعليقي في هذا الفرض؛ ببيان: أنّ


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 94 ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 102 ..

ص: 149

المجتهد الثاني- الذي صار مساوياً للأوّل، بعد أن لم يكن كذلك من بداية تقليد المكلّف- لو كان موجوداً وكان مساوياً للمعدول عنه من أوّل الأمر، لكان الحكم هو التخيير بينهما، فيمكن استصحاب ذلك التخيير؛ حيث إنّه يكفي في اعتبار الاستصحاب اليقين والشكّ الفعليان، وكون المشكوك فيه ذا أثر شرعي أو منتهياً إليه، وكلا الشرطين حاصلان(1).

إلّا أنّ التعليق ليس شرعياً، مع أنّه يعتبر في جريان هذا النحو من الاستصحاب أن يكون كذلك، وسيأتي من الماتن التصريح بعدم جريان الاستصحاب كذلك، فانتظر.

ولوحظ عليه ثالثاً: بأنّ استصحاب التخيير معارض لاستصحاب الحجّية الفعلية للفتوى المأخوذ بها؛ فإنّ المعنى المعقول للحجّية التخييرية هو إيكال أمر الحجّية إلى اختيار المكلّف؛ بأن يتمكّن من أن يجعل ما ليس بحجّة حجّة، بأخذه فتوى أحد المتساويين، وهذا المعنى لا يكون مورداً للاستصحاب؛ لأنّ فتوى أحد المتساويين إذا اتّصفت بالحجّية الفعلية- لأخذ المكلّف بها- وشككنا في جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر، جرى فيه استصحاب جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر، واستصحاب حجّية ما اتّصف بالحجّية الفعلية بالأخذ به، وهما متعارضان.

وأمّا ما عن الشيخ الأعظم- من أنّ استصحاب الحجّية التخييرية حاكم على استصحاب بقاء الحجّية في أحدهما المعيّن(2)- فهو ممّا لا يمكن المساعدة عليه؛ إذ ليس عدم الحجّية الفعلية من الآثار الشرعية المترتّبة على بقاء الحجّية التخييرية،


1- راجع: الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 134- 135 ..
2- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 87 ..

ص: 150

بل من الآثار العقلية التي لا تترتّب على الاستصحاب(1).

ويلاحظ عليه: بأنّ الأمر التخييري في المسألة الاصولية يكون لتحصيل الواقع- بحسب الإمكان- بعد عدم الإلزام بالاحتياط، فمع الإتيان بأحد شقّي التخيير يبقى للعمل بالآخر مجال واسع، وإن لم يكن المكلّف ملزَماً به تخفيفاً عليه(2).

وعليه فقد يقال بجريان استصحاب واحد في المقام، وهو استصحاب الحجّية التخييرية على نحو البدلية؛ فإنّه مع الرجوع إلى أحد المجتهدين لا تتبدّل عن البدلية ولا تتّصف بالفعلية، نظير ما إذا قال المولى: «أكرم رجلًا»؛ فإنّ الواجب- بمقتضى هذا الأمر- هو إكرام فرد من طبيعة الرجل على نحو البدلية، فإذا أكرم زيداً مثلًا فلا يصير إكرام زيد واجباً فعلياً، بل هو على ما كان عليه من الوجوب البدلي، وعلى هذا فلا يجري إلّااستصحاب بقاء الحجّية البدلية، ولا معارض له(3).

ولكن هذا الكلام مع ذلك غير تامّ؛ لما سيأتي نقله عن الإمام الخميني قدس سره من عدم جريان استصحاب شخص الحكم التخييري السابق ولا الجامع بينهما.

ثمّ على تقدير جريان كلا الاستصحابين، فاستصحاب التخيير حاكم على استصحاب الحجّية الفعلية للفتوى المأخوذ بها، كما قال الشيخ الأعظم؛ لأنّ التخيير حكم شرعي دلّ عليه الدليل الاجتهادي- كالإجماع أو السيرة كما هو المفروض- فيترتّب عليه جميع الآثار ولو كانت عقلية، ومن جملتها عدم الحجّية الفعلية لخصوص الفتوى المأخوذ بها(4).


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 97 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 154، وراجع أيضاً: التعادل والترجيح: 143- 146 ..
3- راجع: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 102 ..
4- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 102 ..

ص: 151

أدلّة القائلين بعدم جواز العدول

قد استند القائل بالمنع من العدول إلى وجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع المحكي عن غير واحد(1).

وفيه أوّلًا: أنّ المسألة لم تُعنون في كلمات القدماء من الأصحاب كما تقدّم، فكيف يستكشف اتّفاقهم؟!

بل قد عرفت ذهاب جمع من الأعلام إلى جواز العدول.

وثانياً: أنّه من المحتمل استناد المجمعين إلى أحد الوجوه الآتية، فلا يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام على فرض تمامية صغراه.

الوجه الثاني: أنّ جواز العدول يستلزم العلم بالمخالفة القطعية العملية في بعض الموارد، مثل ما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ ولم يُرد الرجوع ليومه، والآخر بوجوب التمام فيه، فقلّد المكلّف أحدهما فقصّر، ثمّ عدل إلى الآخر فأتمّ، فإنّه يستلزم العلم بتحقّق المخالفة وبطلان صلواته المقصورة أو غيرها إجمالًا في طيلة الوقائع المنفصلة.

وقد يتّفق ذلك في الصلاتين المترتّبتين، كما في الظهرين؛ لعلمنا ببطلان الثانية علماً تفصيلياً: إمّا لبطلان الصلاة الاولى فالثانية أيضاً باطلة، وإمّا لبطلان الثانية في نفسها.

وفيه أوّلًا: النقض بموارد وجوب العدول، مثل مورد زوال الشرائط عن المجتهد الأوّل، أو كون الثاني أعلم، أو عدول المجتهد عن فتواه بعدما عمل المكلّف على طبقها؛ فإنّ العدول في هذه الموارد واجب، ولا إشكال فيه.


1- قوانين الاصول 2: 264/ السطر 22 ..

ص: 152

وثانياً: الحلّ بأنّ مقتضى القاعدة الأوّلية لزوم إعادة أعماله التي أتى بها على حسب الفتوى المتقدّمة؛ إذ يستكشف بالفتوى الثانية عدم كون الاولى مطابقة للواقع من الابتداء، إلّاأن يقال بإجزاء المأتيّ به بالأمر الظاهري عن الواقعي، فحينئذٍ لا تجب الإعادة حتّى وإن علم تفصيلًا بمخالفة المأتيّ به سابقاً للواقع، وحيث إنّ الحقّ عدم الإجزاء فلا مناص من الإعادة حتّى لا يحصل العلم بالمخالفة من غير معذّر. نعم، مقتضى حديث «لا تعاد الصلاة ...» عدم وجوب الإعادة فيما إذا كان الخلل الواقع في الصلاة من غير الخمسة المستثناة في الحديث، كما أنّ مقتضى البراءة عدم وجوب القضاء فيما إذا شككنا في صدق «فوت الصلاة».

وعليه فهذا الدليل إنّما يقتضي وجوب الإعادة- أو هي مع القضاء- إذا لم يقم دليل على عدمه، ولا دلالة له على عدم جواز العدول.

الوجه الثالث: أنّ التقليد إنّما يتعلّق بالمسألة الواحدة الكلّية؛ لأنّ لها حكماً واحداً شرعياً، والعدول يستلزم أحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ، ولا يمكن المساعدة على شي ء منهما:

أحدهما: التبعيض في المسألة الكلّية، كما إذا قلّد أحد المجتهدين اللذين أفتى أحدهما بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه، وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه، فإذا قلّد المكلّف أحدهما فقصّر في صلاته، ثمّ عدل إلى الآخر وأتمّ فيها، فلا يخلو:

إمّا أن نلتزم بصحّة كلتا الصلاتين- بمعنى أنّ المكلّف أتى في واقعةٍ من تلك المسألة برأي أحدهما، وفي الواقعة المستقبلة منها أتى برأي الآخر- وهو معنى التبعيض في المسألة الكلّية، ولا دليل على صحّة التقليد في مثله.

ص: 153

وإمّا أن نلتزم ببطلان صلاته الاولى؛ لأنّه قد عدل إلى المجتهد الآخر في كلّي المسألة، ومعنى ذلك: الالتزام بانتقاض آثار الأعمال السابقة الصادرة على طبق الفتوى السابقة، ومعه يجب على المكلّف إعادة الصلوات السابقة لعدم تطابقها مع الحجّة الفعلية.

وأجاب الشيخ الأعظم الأنصاري عن الإشكال أوّلًا: بأ نّه لا دليل على عدم صحّة تبعيض التقليد؛ فإنّ الجاهل كلّما شكّ في واقعة لم يجب عليه إلّاالرجوع إلى المجتهد في خصوص تلك الواقعة، فيتعيّن عليه الرجوع فيها إلى المجتهد، من دون اعتبار أنّه يقلّده في واقعة اخرى أو لا يقلّده.

وثانياً: بأنّ هذا- على فرض تسليم عدم صحّة التبعيض في التقليد- لا يوجب نقض آثار الواقعة السابقة؛ إمّا لانعقاد الإجماع على عدم تأثير التقليد الثاني في المسألة الكلّية بالنسبة إلى بعض أفرادها، أو لأنّ التعبّد الشرعي يمنع عن النقض؛ كما في صورة رجوع المجتهد عن اجتهاده(1).

وسيأتي مزيد توضيح لمسألتي التبعيض والإجزاء عند تعرّض الماتن قدس سره لهما.

الوجه الرابع: الاستصحاب، وهو يمكن أن يجري في الحكم الوضعي؛ بأن تستصحب الحجّية الفعلية الثابتة لفتوى المجتهد الأوّل في حقّ المقلّد، كما يمكن إجراؤه بالنسبة إلى الحكم التكليفي الواقعي الذي استكشفه المقلّد من فتواه، أو بالنسبة إلى الحكم التكليفي الظاهري المجعول عقيب كلّ أمارة وطريق، فإذا جرى استصحاب الحكم التكليفي أو الوضعي لزم البقاء على تقليد المجتهد الأوّل، ولم يجز العدول إلى الآخر.

وقد أجاب بعض أعلام العصر عن الإشكال في استصحاب الحكم الوضعي: بأ نّه


1- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 89- 90 ..

ص: 154

ليس الثابت في المقام إلّاالحجّية الثابتة على نحو البدلية، واستصحابها ينتج جواز العدول(1).

ويرد عليه: ما أفاده الإمام الراحل قدس سره من اختلاف التخيير البدوي والاستمراري، فلا يجري استصحاب شخص الحكم لفقدان أركانه، ولا استصحاب الجامع لكونه أمراً انتزاعياً(2)، وقد تقدّم.

وأمّا استصحاب الحكم الواقعي المستكشف من فتوى المجتهد فممنوع؛ لعدم الملازمة بين الأحكام الواقعية وفتوى المجتهدين، ومع عدم إحراز المتيقّن السابق لا مجال لجريان الاستصحاب.

وأمّا استصحاب الحكم الظاهري- الذي كان ثابتاً على المقلّد- فبعد عدول المقلّد عن فتوى المجتهد الأوّل لا علم له بحجّية فتواه في حقّه؛ لأنّ اليقين بالحجّية إنّما هو ما دام باقياً على تقليده، ويعتبر في الاستصحاب أن يكون المكلّف حينما يشكّ في البقاء متيقّناً من المستصحب حدوثاً.

الوجه الخامس: الأصل العقلي، وهو الاشتغال؛ بناءً على أنّ تكليف المقلّد في الواقعة الثانية مردّد بين تعلّقه بالتقليد السابق، وبين تعلّقه بأحد الأمرين منه ومن تقليد المجتهد الثاني، ومن المعلوم وجوب الاحتياط عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير والأخذ بالمعيّن.

وهذا الوجه أحسن الوجوه إن لم يثبت دليل خاصّ على التخيير الاستمراري، أو لم يجر استصحاب التخيير.


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 103 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 155 ..

ص: 155

مختار الماتن قدس سره

قد عرفت أدلّة القولين؛ أي جواز العدول من المساوي الحيّ إلى الحيّ وعدمه، وقد صرّح السيّد الإمام قدس سره بأ نّه ليس في المقام دليل لفظي يمكن إثبات التخيير به، بل صرّح قدس سره بقوله: وإنّما قلنا بالتخيير للشهرة والإجماع المنقولين، وهما معتبران في مثل تلك المسألة المخالفة للقواعد، والمتيقّن منهما هو التخيير الابتدائي؛ أي التخيير قبل الالتزام(1).

ومن المعلوم أنّ لازم هذا الرأي هو الحكم بعدم جواز العدول في مفروض المسألة على الأحوط، كما أفتى به السيّد الإمام في تعليقته على «وسيلة النجاة»(2) كما عرفت، ولكنّه نفسه- بعد تأليف تلك التعليقة- في حاشية «العروة»(3) وفي «تحرير الوسيلة» عدل عن رأيه- على الظاهر- واختار جواز العدول.

ولعلّ السرّ في ذلك ما أشار إليه في طيّ دراسة آراء استاذه العلّامة الحائري حول مسألة العدول؛ من أنّ التخيير في المسألة الفرعية يختلف عن التخيير في المسألة الاصولية؛ لأنّ الإتيان بأحد شقّي الواجب التخييري موجب لسقوط التكليف جزماً، فالإتيان بعده- بداعوية الأمر الأوّل، أو باحتمال داعويّته، أو بداعوية المحتمل- غير معقول.

ولكنّ الحجّية التخييرية في المسألة الاصولية- حيث لا نفسية لها، بل هي جعلت لتحصيل الواقع بحسب الإمكان بعد عدم الإلزام بالاحتياط- ثابتة حتّى بعد الأخذ بأحد شقّيها؛ فإنّه يبقى للعمل بالآخر بعد ذلك أيضاً مجال واسع، وإن


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 155، ونظيره في الصفحة 117 ..
2- وسيلة النجاة مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 11، المسألة 13 ..
3- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 8، المسألة 11 ..

ص: 156

لم يكن المكلّف ملزماً به تخفيفاً عليه(1).

وبعبارة اخرى: يكون التخيير في المسألة استمرارياً وباقياً دائماً.

وهذا الرأي ممّا نفى الماتن الإشكال الثبوتي عنه، وإن رأى أنّه ممّا لا يساعد عليه الدليل إثباتاً.

حول العدول إلى الحيّ الأعلم

هذه الصورة الثانية لمسألة العدول، وهي أن يكون المجتهد- الذي أراد المقلّد العدول إليه- أعلم من الأوّل، فقد احتاط الماتن قدس سره وجوباً بالرجوع إلى الأعلم.

والوجه في ذلك: أنّ المتعيّن على المكلّف هو وجوب تقليد الأعلم- كما ستعرف في المسألة الآتية- سواء اختاره من بدو التقليد، أو رجع إليه بعد تقليد المفضول.

وأمّا أدلّة التخيير- من الإجماع والشهرة- فهما جاريتان في المتساويين، وإلّا ففي ذي المرجّح- وهو في المقام الأعلم- لا مجال لجريان أدلّة التخيير كما هو واضح.

وممّا ذكرنا ظهر وجه عدم التعرّض لحكم الصورة الثالثة؛ وهي العدول من الأعلم إلى غيره؛ فإنّه غير جائز قطعاً؛ لأنّ حجّية فتوى الأعلم- بمقتضى أدلّة وجوب تقليده- تمنع عن حجّية فتوى غيره، وهذا من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى التنبيه.


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 153- 154 ..

ص: 157

وجوب تقليد الأعلم

اشارة

(مسألة 5): يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط (1)،

وجوب تقليد الأعلم

1- للمسألة سابقة طويلة في كلماتهم، فقد نقل السيّد المرتضى رحمه الله اختلافهم فيها بين قائل بالتخيير، وقائل بوجوب استفتاء المقدّم في العلم والدين، وجعل القول الثاني أولى؛ لأنّ الثقة فيها أقرب وأوكد، والاصول كلّها بذلك شاهدة(1).

وذهب المحقّق في «المعارج» إلى وجوب العمل على طبق فتوى الأرجح في العلم والعدالة.

وموضع كلامه ما إذا اختلف فقيهان في بلد المستفتي(2)، وهذا بخلاف السيّد رحمه الله؛ فإنّ كلامه مطلق من هذه الجهة.

وقال العلّامة رحمه الله في «مبادئ الوصول» بمثل ما في «المعارج» إلّاأنّه لم يفرض الاختلاف(3).

كما أنّ الشهيد رحمه الله في «الذكرى» أطلق أيضاً القول بوجوب اتّباع الأعلم الأورع


1- الذريعة إلى اصول الشريعة: 800- 801 ..
2- معارج الاصول: 201 ..
3- مبادئ الوصول: 240 ..

ص: 158

إذا تعدّد المفتي؛ مستدلًاّ بالحديث- والظاهر أنّ مراده مقبولة عمر بن حنظلة الآتية لاحقاً إن شاء اللَّه- وبزيادة الثقة بقول الأعلم(1).

ونقل الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك» اختلاف الأصحاب في المسألة، وجعل القول بتعيّن الأعلم أشهر بين الأصحاب- ويظهر منه عدم شذوذ القول بالتخيير أيضاً كما لا يخفى- ثمّ ذكر جملة من الأدلّة للطرفين(2) سننقلها إن شاء اللَّه.

مع ذلك كلّه حكي عن الشيخ الأنصاري رحمه الله في «المطارح» أنّ القول بالتخيير حدث من زمن الشهيد الثاني رحمه الله، وقد نقل فيه عن عدّة- قبل الشهيد الثاني رحمه الله وبعده- القول بتعيّن الأعلم، مستظهراً اتّفاقهم عليه قبله. وموضع الكلام في «المطارح» ما إذا علم اختلاف العالم مع الأعلم(3). ولا تزال المسألة في شقوقها وفروعها- التي سنذكرها إن شاء اللَّه- محلّاً للخلاف.

وأمّا أهل السنّة فالمسألة كانت بينهم أيضاً محلّاً للخلاف، يظهر ذلك من الغزالي في «المستصفى»(4)، وقد فصّل بين العامّي الذي يرجع ابتداءً إلى جماعة من العلماء يعلم الأعلم من بينهم- للسؤال عن مسألة لا يعلم اختلافهم فيها- فلا يلزم عليه حينئذٍ مراجعة الأعلم، وبين ما اختلف عليه مفتيان في حكم وكان أحدهما أفضل وأعلم في اعتقاده، فقال في الصورة الأخيرة: «الأولى عندي أنّه يلزمه اتّباع الأفضل»(5).

وقد نقل بعض أهل الخبرة- عند نقل آراء العامّة- اختلافهم في المسألة أيضاً،


1- ذكرى الشيعة 1: 42- 43 ..
2- مسالك الأفهام 13: 343 ..
3- مطارح الأنظار 2: 639 ..
4- المستصفى من علم الاصول 2: 391 ..
5- نفس المصدر: 390- 391 ..

ص: 159

وعبارتهم المشهورة: يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل في العلم(1)، هذا.

وقبل بيان أدلّة الطرفين في المسألة، يجب الالتفات إلى مقدّمات:

المقدّمة الاولى: أنّ النظر إلى مسألة تقليد الأعلم: تارةً من جهة العامّي ومعرفته بما هو عامّي، واخرى من جهة المجتهد الناظر في الأدلّة التفصيلية الاجتهادية والفقاهتية. والكلام هنا من الجهة الثانية، وأمّا الكلام من الجهة الاولى فيأتي في المسألة السابعة مع مزيد توضيح لهذا التفكيك بين الجهتين إن شاء اللَّه تعالى.

المقدّمة الثانية: في بيان شقوق المسألة ومحلّ الاختلاف فيها، فنقول: في فرض تعدّد المجتهدين والتفاضل بينهم في العلم، تارةً لا يعلم اختلافهم في المسائل لا تفصيلًا ولا إجمالًا، واخرى يعلم ذلك إمّا إجمالًا أو تفصيلًا في خصوص مسألة أو أكثر معيّناً، وثالثةً يعلم اتّفاقهم، وإذا علم الاختلاف: تارةً يكون قول المفضول موافقاً للاحتياط، واخرى لا يكون.

وفي كلّ هذه الصور تارةً يمكنه- بالإمكان العرفي المنافي للعسر والحرج- المراجعة إلى الأعلم والوصول إلى فتاواه، واخرى لا يمكنه كذلك:

فإن لم يمكنه فلا كلام بينهم في حجّية قول المفضول، وإليه نظر قول الماتن قدس سره في هذه المسألة: «مع الإمكان»، كما أنّ الأدلّة- التي سننقلها في المقام- كلّها تأتي في صورة الإمكان.

كما أنّ غير الأعلم- إذا كان قوله موافقاً للاحتياط- لا شكّ في جواز تقليده مع وجود الأعلم وإمكان الوصول إلى فتواه، ومثله إذا علم اتّفاقهما؛ وذلك لأنّ التقليد طريق عقلائي وحجّة شرعاً لغرض الوصول إلى الحكم الشرعي وامتثاله، ومع الاحتياط أو موافقة غير الأعلم للأعلم فهذا الغرض حاصل


1- اصول الفقه الإسلامي 2: 1163 ..

ص: 160

وإن فرضنا وجوب تقليد الأعلم في الواقع(1).

فالحاصل من هذه المقدّمة: أنّ محلّ الخلاف في وجوب تعيّن الأعلم ما إذا أمكن الوصول إلى رأي الأعلم أوّلًا، واحتمل أو علم اختلاف الأعلم مع غيره إجمالًا أو تفصيلًا ثانياً، ولم يكن قول غيره موافقاً للاحتياط(2) ثالثاً؛ وإلّا فلاشكّ في عدم وجوب تعيّن الأعلم.

ولا يخفى أنّ ظاهر كلام الماتن قدس سره في هذه المسألة وإن كان مطلقاً بالنسبة إلى الثاني والثالث من هذه القيود(3) إلّاأنّهما مرادان له، وذلك يتّضح في النظر إلى كلماته في رسالة «الاجتهاد والتقليد»- وسيأتي ما يرتبط منها بالمقام- وممّا قاله في المسائل السابقة هاهنا:

أمّا إذا علم عدم الاختلاف- ولو في مسائله المبتلى بها التي فيها يتنجّز عليه وجوب التقليد- فله أن يأخذ مثلًا رسالة غير الأعلم ويعمل بها؛ لأنّ مجرّد تطابق الفتاوى مع فتوى الأعلم يكفيه(4)، والفرض أنّه يعلم اتّفاقه مع الأعلم.

وأمّا إذا كان قول غير الأعلم موافقاً للاحتياط، فجواز تقليده مستفاد ممّا أفتى به في المسألة الاولى من جواز العمل بالاحتياط مطلقاً.

فتحصّل: أنّ إطلاق كلامه رحمه الله في هذه المسألة يقيّد بما قاله قبل هذه المسألة في


1- فراجع: التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 135- 144 و 169- 170؛ تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 140 ..
2- لا يخفى أنّ المراد من الاحتياط هنا هو مطلقه لا أحوط الأقوال الدارجة أو أحوط القولين بين الأعلم وغيره ..
3- ومعنى هذا الإطلاق وجوب تقليد الأعلم مع الإمكان وإن علم عدم اختلافه مع غيره وكذلك وإن كان قول غيره موافقاً للاحتياط ..
4- تحرير الوسيلة 1: 7 ..

ص: 161

المسألة الاولى وبما بعدها في المسألة العاشرة، وحاصله: «يجب تقليد الأعلم مع الإمكان، إذا احتمل اختلافه مع غيره، ولم تكن فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط على الأحوط».

المقدّمة الثالثة: في تأسيس الأصل في محلّ الخلاف قبل النظر إلى الأدلّة الاجتهادية- أو الثانوية على حدّ تعبير بعضهم(1)-: وقد ادّعي اتّفاقهم على أنّ الأصل في مورد الشكّ في وجوب تعيين الرجوع إلى الأعلم أو التخيير بينه وبين غيره هو الأوّل(2).

وكيف كان فقد قرّر الأصل للتعيين- وكذلك للتخيير- بوجوه(3). والصحيح- كما اختاره الماتن قدس سره- هو أصالة التعيين؛ لوجه ذكره نقرّره هنا ونحصّله بشكل لا يبتلي بإشكال، ونبيّن- في ضمنه- عدم تمامية أصالة التخيير في المقام. ولا يخفى أنّ أصالة التعيين في هذه المسألة- وهي مسألة الحجّية- لا ربط لها بأصالة التعيين والتخيير في البحث المعروف بدوران الأمر بين التعيين والتخيير في التكاليف.

أمّا تقرير أصل الوجه لأصالة التعيين في المقام: فهو يتشكّل من مقدّمات:

أ- أنّ الأصل هو حرمة العمل بغير العلم عقلًا ونقلًا وهذا نفترض ثبوته في محلّه.

ب- أنّ التقليد- وهو الأخذ بقول الغير ومتابعة رأيه في العمل- عمل بغير العلم، سواء كان دليله بناء العقلاء، أو التعبّد الشرعي من إجماع أو غيره.


1- مطارح الأنظار 2: 643 ..
2- نفس المصدر: 645- 646 ..
3- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 58 إلى ما بعد؛ تنقيح الاصول 4: 613 إلى ما بعد ..

ص: 162

ج- قد خرج من الأصل تقليد الأعلم إمّا إجماعاً- تعييناً كما هو قول جمع منهم، أو تخييراً كما هو القول الآخر- أو ضرورةً؛ لوضوح عدم كون الناس كلّهم مكلّفين بتحصيل العلم والاجتهاد، وبطلانِ وجوب العمل بالاحتياط أو التجزّي فيه(1) فيجوز الاكتفاء بتقليده لخروجه عن حرمة العمل بغير العلم، وأمّا الرجوع إلى غير الأعلم فهو باقٍ تحت أصل حرمة العمل بغير العلم، ولابدّ لإثبات خروجه عنه من التماس دليل(2).

إذن الأصل الأوّلي- الحاصل من أصالة عدم حجّية غير العلم- هو تعيين تقليد الأعلم.

ولتعقيب هذا الوجه وتحقيقه نقول:

أوّلًا: أنّه قد أقام- في المقدّمة الثالثة- دليلين على خروج تقليد الأعلم عن عموم حرمة العمل بغير العلم، كلاهما مشتركان في إثبات كون تقليد الأعلم قدراً متيقّناً للخروج عن هذا العموم:

الأوّل منهما: هو الذي عبّر عنه ب «إجماع» وليس المراد من الإجماع هنا وجود اتّفاق لهم على قول في المسألة من التعيين أو التخيير، كيف؟! ولو ثبت الإجماع كذلك فهو دليل مستقلّ في المسألة، ولا ينبغي التمسّك به في مقام بيان الأصل الأوّلي قبل النظر إلى الأدلّة الاجتهادية، مع أنّه سيأتي- في بيان الأدلّة- ردّ الإجماع كذلك في المقام منه رحمه الله ومن غيره.

بل المراد من الإجماع هنا: هو التسالم الحاصل من الجمع بين الأقوال الموجودة في المسألة، كما اشير إليه فيما بين الهلالين في صدر المقدّمة الثالثة، وهو المناسب


1- المراد من التجزّي هنا هو الأخذ بأحوط أقوال المجتهدين ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 58 و 59، مع النظر إلى تنقيح الاصول 4: 614 ..

ص: 163

للقدر المتيقّن الذي رام الدليل إثباته في جواز تقليد الأعلم، فالقدر المتيقّن من أقوالهم في المسألة هو جواز تقليد الأعلم.

والثاني من الدليلين: هو الذي عبّر عنه ب «ضرورة» وبيّنه بقوله: «لوضوح عدم كون الناس ...».

وثانياً: أنّ الدليل الثاني لإثبات المقدّمة الثالثة غير تامّ، ولكنّه لا يضرّ بعد تمامية الدليل الأوّل، ولتوضيح ذلك نقول:

أمّا بالنسبة إلى تمامية الدليل الأوّل: فلأنّ أصل مشروعية تقليد الأعلم متسالم عليها عندهم، إلّاأنّ الاختلاف في تعيينه أو التخيير بينه وبين العالم.

وأمّا بالنسبة إلى عدم تمامية الدليل الثاني: فلأ نّه عند التحليل والدقّة- مع دفع ما ربّما يقال على ظاهره بتكميله وتعميقه- عين ما ذكره الماتن قدس سره بعنوان دليل الانسداد وردّه(1)، فراجع وتأمّل(2). وسيأتي تتمّة الكلام عند نقد أدلّة تعيّن الرجوع إلى الأعلم إن شاء اللَّه.

وثالثاً: بعد الاعتماد على التسالم لإثبات المقدّمة الثالثة نحصّل نكتة اخرى؛ وهي عمومية النتيجة الحاصلة من هذا الوجه- في حجّية قول الأعلم- لمقام التنجيز كما هي ثابتة لمقام التعذير بلا إشكال.

توضيح ذلك: أنّ بعض الأعاظم قد فصّل بين مقام التنجيز من الحجّية ومقام التعذير منها، قال: إنّ الحجّية إذا دار أمرها بين التعيين والتخيير، فإن كان المراد منها تنجيز ما لم ينجّز على المكلّف لولا الحجّة الواصلة فالأصل هو التخيير، وإن كان المراد منها التعذير فقط- كما إذا كان الواقع منجّزاً على المكلّف مع قطع النظر عن


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 59 و 60 ..
2- وقد تفطّن أيضاً للإشكال السيّد رضا الصدر في الاجتهاد والتقليد: 168 ..

ص: 164

قيام الحجّة عنده بالعلم الإجمالي الكبير أو غيره في موارد خاصّة- فالأصل هو التعيين(1).

وهذه الفكرة- مع غضّ النظر عن صحّتها أو فسادها- تبتني على ما يقتضيه العقل الحاكم في مقام امتثال أوامر المولى؛ فإن لم تحرز له التكليف وكان يتوقّع من الحجّة تنجيز التكاليف غير المعلومة قبل وصول الحجّة، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تؤمّنه بالنسبة إلى الكلفة الزائدة عمّا في التخيير بين العالم والأعلم، ومعنى هذا التأمين عدم وجوب الرجوع إلى الأعلم معيّناً، وهذا بخلاف ما إذا كان التكليف- ولو بإجماله- معلوماً، والمتوقّع من الحجّة المفروضة هو التعذير بالنسبة إليه فقط، فإنّ العقل يحكم بلزوم سعي المكلّف إلى أن يحرز أنّه معذور في أعماله، وهذا يقتضي تعيين الرجوع إلى الأعلم، هذا.

وأمّا إذا أدخلنا التسالم في حساب الاستدلال- كما صنعه الماتن قدس سره في المقدّمة الثالثة من هذا الوجه بقوله رحمه الله: «إجماعاً» فلا فرق بين مقام التعذير والتنجيز كما لا يخفى؛ فإنّ التسالم على القدر المتيقّن من أقوالهم قد حصل على حجّية قول الأعلم في كلا المقامين، فإنّهم لم يفصّلوا- في تسالمهم على جواز تقليد الأعلم- بين مقام التعذير والتنجيز، مع أنّ المبتلى به للمقلّد في رجوعه إلى المجتهد لا ينحصر في مقام التعذير فقط، بل يرجع إلى المجتهد في مقام تنجيز تكاليف لا يعلم بها؛ حتّى في أطراف علمه الإجمالي بتكاليف في الشريعة المقدّسة، فليتأمّل فإنّه جدير به.

ورابعاً: معنى أصالة التعيين في المقام- سواء ثبتت بهذا الوجه أو غيره- هو أصالة الاحتياط عند فقد الدليل على طرفي النزاع، والتمسّك بالتسالم في طيّ الاستدلال لا يخرجه عمّا يقتضيه العقل الحاكم في مقام الامتثال؛ فإنّ العقل


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 120 إلى ما بعدها ..

ص: 165

- على هذا الوجه- يرى أنّ التقليد عن الأعلم حجّة له قطعاً، بخلاف التقليد عن العالم؛ فإنّه يشكّ في حجّيته من دون النظر إلى الأدلّة الثانوية أو الاجتهادية في المقام.

ومن هنا يعلم وجه الاحتياط في كلام الماتن قدس سره في المسألة؛ فإنّ الظاهر منه أنّه لم يتمّ عنده شي ء من أدلّة الطرفين في محلّ النزاع، وبعد عدم تماميتها تصل النوبة إلى الأصل الأوّلي الذي لوحظ فيه التسالم في المقام، وهو الاحتياط بوجوب الرجوع إلى الأعلم في صورة معلومية الاختلاف بين الأعلم وغيره(1).

وخامساً: مفروض هذا الاستدلال: هو أنّ المقام مقام الشكّ في الحجّية.

وقد يقال: إنّه مقام الشكّ في التكليف، أو الاشتراط الزائد في المكلّف به؛ حيث إنّ وجوب الرجوع إلى الأعلم تعييناً، أو اشتراط الأفضلية في المفتي- بعد ثبوت أصل التكليف بالرجوع إليه- مشكوك؛ والأصل الحاكم في هذا المقام هو البراءة- كما قرّر في محلّه- لا الاحتياط(2).

وأنت خبير بفساد هذا القول؛ فإنّ الشاكّ في المقام لا يكون شاكّاً في تكليف، أو قل بتعبير أدقّ: لا يكون موضع الكلام من جهة شكّه في تكليف، بل هو- بناءً على طريقية الحجج والأمارات- في صدد إحراز طريق متّصف بالحجّية إلى الشريعة المقدّسة. نعم، المقدّمات الكلامية الاعتقادية تهديه وتلزمه بالحركة بهذا الصدد، وهذا غير مقام المكلّف الشاكّ في التكاليف الشرعية، فالعقل يحكم له- على ما في هذا الوجه- بالرجوع إلى الأعلم.


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 110 ..
2- راجع: الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 164، ونقل القول في التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 119، وتفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 107 ..

ص: 166

وسادساً: ربّما يقال بأصالة التخيير في مفروض الكلام؛ تمسّكاً بالاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل.

بيانه: أنّا لو فرضنا مجتهدين متساويين في زمان فالعقل يحكم بالتخيير بينهما قطعاً، ويُستكشف من هذا الحكم العقلي حكم شرعي يقيني بالتخيير بناءً على قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع، فإذا صار أحدهما أعلم فلنا أن نستصحب الحكم الشرعي اليقيني الثابت في الزمان الأوّل إلى الزمان الثاني، ونثبت التخيير بين الأعلم وغيره في هذا الفرض، ثمّ بضميمة عدم القول بالفصل في المقام- بين هذا الفرض وغيره- يثبت المطلوب؛ وهو جواز التخيير بين الأعلم وغيره(1).

ولا يخفى أنّه لو تمّ هذا الاستدلال على أصالة التخيير في المقام، كان وارداً على الوجه الذي نقلناه لأصالة التعيين؛ لأنّه إذا أجاز الشارع تقليد غير الأعلم في مفروض الكلام- بمدد أدلّة الاستصحاب- فلا مجال لحكم العقل بلزوم الرجوع إلى الأعلم تعييناً كما لا يخفى، فعلى صاحب هذا الوجه أن يجيب عن هذا الاستدلال حتّى يتمّ وجهه.

وقد أجاب عنه السيّد الإمام قدس سره بجوابين:

أحدهما: نقضي، وقد أمر بالتأمّل فيه(2) لا نطيل بذكره وما يمكن أن يقال فيه.

وثانيهما حلي هو- مع تلخيص وتوضيح- أنّ حكم العقل في الزمان الأوّل لا يكون إلّابمناط تساوي المجتهدين، والحكم الشرعي المستكشف منه أيضاً


1- نقل معناه وردّه في التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 122- 123؛ الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 61- 62 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 62 ..

ص: 167

متعلّق بالموضوع لأجل هذا المناط، وإذا زال المناط في الزمان الثاني لا يعقل بقاء الحكم العقلي والشرعي المستكشف منه.

فإن قلت: إذا ثبت الحكم الشرعي بمدد حكم العقل في الزمان الأوّل، فبقاؤه في الزمان الثاني لا يحتاج إلى بقاء حكم العقل أيضاً؛ لأنّ البقاء يكون بمدد أدلّة الاستصحاب، فالحدوث اليقيني في الزمان الأوّل بمدد حكم العقل، والبقاء التنزيلي في الزمان الثاني بمدد أدلّة الاستصحاب.

نعم، جريان الاستصحاب يحتاج إلى احتمال البقاء، وهو موجود؛ لأنّه يحتمل في الواقع بقاء الحكم بالتخيير في الزمان الثاني شرعاً بمناط آخر غير مناط التساوي الذي توصّل إليه العقل في الزمان الأوّل وحكم عليه، والعقل لا يحكم بانحصار مناط التخيير في التساوي؛ وإلّا لم يشكّ أحد في تعيين الرجوع إلى الأعلم في مفروض المقام.

قلت: لا ريب أنّ شخص الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي في الزمان الأوّل قد زال بزوال حكم العقل في الزمان الثاني، وأمّا احتمال وجود التخيير في الزمان الثاني فلا يكون إلّاباحتمال مناط آخر- ولو كان موجوداً في الزمان الأوّل أيضاً- يوجب شخصاً آخر من التخيير غير الشخص الأوّل، فلا يكون لهذا الشخص يقين في الزمان الأوّل.

فحينئذٍ لا يتوهّم في المقام إلّااستصحاب الكلّي، وهو- كما قرّر في محلّه- متوقّف على أن يكون الكلّي أو الجامع بنفسه- لا بأفراده- حكماً شرعياً، أو موضوعاً ذا حكم، أو له تأثير شرعي، وفيما نحن فيه ليس كذلك؛ لأنّ الجامع بين التخيير في حالة التساوي والتخيير في حالة التفاضل، من المخترعات العقلية غير

ص: 168

المجعولة؛ لتعلّق الجعل بكلّ من التخييرين، لا الجامع بينهما القابل للصدق عليهما(1).

هذا كلّه مع إمكان جواب ثالث عن هذا الاستدلال على أصالة التخيير في المقام: وهو أنّ حالة التساوي وحالة التفاضل بين المجتهدين حالتان، لا يبعد أن يراهما العرف موضوعين متفاوتين، وهذا كافٍ للمنع عن جريان الاستصحاب.

فتحصّل من هذه المقدّمة: أنّ الأصل قبل النظر إلى أدلّة الطرفين هو الاحتياط بوجوب الرجوع إلى الأعلم.

إذا عرفت هذا: فقد تقدّم بيان محلّ الخلاف في المقدّمة الاولى، وله صور كما اشير إليه هناك.

الصورة الاولى: ما إذا علم اختلاف الأعلم مع غيره تفصيلًا.

الصورة الثانية: ما إذا علم اختلافهما إجمالًا.

الصورة الثالثة: ما إذا لم يعلم اختلافهما بل يحتمل ذلك فقط.

وقد صوّر الماتن قدس سره هذه الصور مع زيادة صورة العلم بعدم الاختلاف(2)، إلّاأنّه لم يذكر شيئاً حول هذه الصورة في طيّ كلامه، والظاهر أنّه لأجل وضوح حكمها بالنظر إلى ما تقدّم في المقدّمة الاولى(3).

وكيف كان فنحن نتعرّض لأدلّة الطرفين في كلّ صورة مع رعاية الاختصار، و قبل عرضها نشير إلى أنّ غالب الأدلّة ذكرت للصورتين الاوليين بعنوان صورة


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 61 و 62 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 58، تنقيح الاصول 4: 613 ..
3- وراجع أيضاً في هذا المجال: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 124، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 107 ..

ص: 169

واحدة هي «ما إذا علم الاختلاف»، لكن بما أنّ في تطبيق الأدلّة عليهما نحو اختلاف- كما سيتّضح- فنذكرها في الصورة الاولى ثمّ نطبّقها على الصورة الثانية، بل نطبّقها على الصورة الثالثة أيضاً، فنقول:

الصورة الاولى: أدلّة وجوب الرجوع إلى الأعلم

الأوّل: الإجماع، حكي عن المحقّق الثاني(1)، وقد عرفت في صدر المسألة اختلاف كلماتهم، مع كفاية احتمال مدركيّته في عدم جواز الاستدلال به؛ فإنّ المدارك والأدلّة كثيرة في المقام كما سيأتي(2).

الثاني: بناء العقلاء، وقد قرّر في مورد الكلام بمثال مريض نطمئنّ بأنّ عدم مراجعة الطبيب لعلاجه يجعله مشرفاً على الموت، وفي الأطبّاء من هو أعلم من غيره، فلا خفاء في بنائهم على مراجعته لزوماً؛ بحيث لو لم يراجعه ومات المريض بسبب مرضه لم يكن معذوراً عندهم، وإن راجع غير الأعلم(3).

والظاهر أنّ هذا البناء- لو صحّ- فلا ينبغي الشكّ في استقراره واستمراره في زمن المعصوم عليه السلام أيضاً؛ لأنّ حاجة الرجوع إلى العالم وأهل الخبرة كانت موجودة في تلك الأزمنة أيضاً؛ كما أنّ هذا البناء لوجده لا يكفي، بل لابدّ من ضمّ مقدّمة اخرى إليه نحتاج إليها لإثبات حجّيته؛ وهي عدم ثبوت ردع من الشارع المقدّس بالنسبة إليه؛ كي يستكشف بذلك رضاه به وإمضاءه له(4).


1- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 169 ..
2- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 169؛ الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 104؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 114 ..
3- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 110 ..
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 113- 114 ..

ص: 170

وناقش السيّد الإمام قدس سره في هذا البناء- أو في كونه على نحو اللزوم على الأقلّ- وقد أطال الكلام أوّلًا في إثبات أنّ مناط العمل بقول العالم ورجوع الجاهل إليه هو إلغاء احتمال الخلاف والخطأ في رأي العالم عند العقلاء(1).

ثمّ قال ما حاصله: إنّ هذا المناط ليس أمراً نسبياً يتفاوت بالنسبة إلى فرض الأعلم مع العالم- سواء اختلف أم لا- وعدمه؛ لعدم تعقّل تحقّق المناط في العالم مع عدم الأعلم وعدم تحقّقه مع وجود الأعلم، فلو فرض تقديم العقلاء لقول الأعلم- عند اختلافه مع العالم- فإنّما هو من باب ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى، لا من باب عدم المناط في قول العالم، فهو ترجيح غير لزومي من باب حسن الاحتياط.

وأمّا احتمال أقربية قول الأعلم- على فرض صحّته- فلم يكن بمثابة يرى العقلاء ترجيحه عليه لزومياً؛ ولهذا تراهم يتركون الرجوع إلى الأعلم بمجرّد أعذار غير وجيهة، كبُعد الطريق وكثرة المراجعين ومشقّة الرجوع إليه ولو كانت قليلة؛ ممّا يعلم أنّه لو كان ترجيحاً لزومياً لما كانت تلك الأعذار وجيهة عندهم(2).

ثمّ تردّد في بناء العقلاء على العمل بقول العالم في صورة العلم التفصيلي- بل الإجمالي المنجّز- بمخالفته مع الأعلم(3). وهذا معناه احتمال وجود مناط آخر- غير مناط إلغاء احتمال الخطأ- في قول الأعلم يرجّحه لزوماً على قول العالم في هذه الصورة.


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 82- 84 ..
2- نفس المصدر: 86- 87 ..
3- نفس المصدر: 88 ..

ص: 171

وقد ناقش نقاشاً آخر في هذا البناء يرجع إلى النقاش في تطبيق أصل التقليد في دائرة الشرع على بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم؛ جرياً على ما أثبته من مناط لذلك الرجوع، وهو إلغاء احتمال الخلاف.

حاصل بيانه: أنّ الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء- بل من فقيه واحد في كتبه العديدة- تمنع عن إلغاء احتمال الخطأ والخلاف(1)، وقد تقدّم الكلام في ذلك في مشروعية أصل التقليد.

وقد ناقش أيضاً بعض أهل النظر في تحقّق بناء العقلاء في المقام، وذلك من خلال التنبيه إلى مثالين، ثمّ استنتاج أنّ الملاك في عمل العقلاء هو اتّباع الوثوق أو الاطمئنان الحاصل من تجميع القرائن وخصوصيات الموارد:

المثال الأوّل: ما إذا أفتى الطبيب الأفضل بلزوم علاجٍ للمريض لو تُرك يشرف على الموت، والفاضل أفتى بأنّ هذا العلاج فيه خطر عظيم على نفس المريض، فلم يعمل العقلاء على رأي الأفضل.

والمثال الثاني: ما لو رأى المقوّم الأفضل قيمة للدار، ورأى الفاضل قيمة أكثر بتفاوت عظيم، فلم يعملوا بقول الأفضل فيها أيضاً، فالملاك في المثالين هو اتّباع الوثوق أو الاطمئنان العقلائي كما في سائر الموارد(2).

والإنصاف: أنّ ادّعاء القطع أو الاطمئنان بالبناء العقلائي كما قرّر في الدليل في غير محلّه، وهو السرّ في تردّد الماتن قدس سره في هذا الدليل الذي هو العمدة في المقام.

الثالث: الأخبار، وهي كثيرة، مفادها- بحسب ما يتراءى من الظهور البدوي لها على الأقلّ- الإرجاع إلى الأعلم، ولكنّ التأمّل يوضّح أنّها واردة إمّا في مورد


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 84 ..
2- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 172 ..

ص: 172

القضاء وفصل الخصومة، أو الولاية والرئاسة بين الناس كلًاّ أو في بلد خاصّ مثلًا، فراجع وتأمّل(1).

وعمدتها مقبولة عمر بن حنظلة، وقد ادّعى في «المسالك» صراحتها في شرطية الأعلمية فيمن يرجع إليه المقلّد، قائلًا: «إنّها هي مستند القائل بذلك من الأصحاب» وإلّا أنّه ناقش في طريقها(2).

وقد جاء فيها عن الصادق عليه السلام- بعد السؤال عنه عليه السلام: «عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة» الجور على الظاهر أوّلًا، والنهي الشديد عن التحاكم إليهم ثانياً، والإرجاع إلى «من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» ثالثاً، وفرض اختيار كلّ رجل من المتنازعين «رجلًا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم» رابعاً- «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»(3).

والمحكي عن المحقّق الرشتي في تقريب الاستدلال بها: أنّها دلّت على تقديم قول الأفقه والأصدق في الحديث على قول غيرهما عند الاختلاف في حكم اللَّه تعالى(4).


1- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 71؛ تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 113؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 114؛ ولاية الفقيه، المحقّق المنتظري 1: 302 ..
2- مسالك الأفهام 13: 344 ..
3- الكافي 1: 67/ 10 ..
4- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 114 ..

ص: 173

واورد عليه: أوّلًا: بضعف السند بعمر بن حنظلة؛ لعدم دليل على وثاقته(1)، خلافاً للماتن رحمه الله في الرواية والراوي؛ لأنّ الرواية من المقبولات عند الأصحاب، ولوثاقة عمر بن حنظلة أو حسنه على الأقلّ، وعلى ذلك قرائن كثيرة(2).

وثانياً: بأنّ ظاهر المقبولة أنّ الأوصاف الأربعة مجتمعةً توجب التقديم؛ بمقتضى العطف ب «الواو»، وفرض الراوي صورة التساوي- بعد هذه الفقرة في الرواية- لا يكشف عن كون المراد وجود أحدها(3)، وهو لا ينطبق على المدّعى من كون المزيد مجرّد الأفقهية والأعلمية(4).

وثالثاً: بأنّ الرواية أجنبية عن المقام؛ لأنّها في مورد النزاع والخصومة التي لا مناص من فصلها، ولا معنى للتخيير فيها، بخلاف المقام من أخذ الفتوى(5).

لا يقال: إنّ الشبهة فرضت حكمية في المقبولة، فنفوذ حكمه- الأعلم- تعييناً ملازم لنفوذ فتواه كذلك في تلك المسألة، فنتعدّى إلى غيرها بإلغاء الخصوصية أو القطع بالملاك، سيّما مع تناسب الأفقهية والأصدقية في الحديث لذلك.

لأ نّه يقال: يمنع التلازم هاهنا؛ لأنّ الملازمة إنّما تكون في صورة إثبات النفوذ لا سلبه؛ لأنّ سلب المركّب أو ما بحكمه بسلب أحد أجزائه، فسلب نفوذ حكم العالم- بمقتضى تعيينية نفوذ حكم الأعلم- كما يمكن أن يكون لسلب حجّية فتواه- وهو أحد المقدّمات أو الأجزاء اللازمة لمشروعية حكمه- يمكن أن يكون لسلب


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 115 ..
2- راجع: كتاب البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 638 ..
3- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 104 ..
4- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 116 ..
5- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 115 ..

ص: 174

صلاحية حكمه للفصل لانتفاء مقدّمات أو أجزاء اخر.

وهذا احتمال عقلائي يردّ ادّعاء إلغاء الخصوصية أو القطع بملاك واحد في مقام التنازع ومقام الاستفتاء، فلعلّ الشارع لاحظ جانب الاحتياط في حقوق الناس في المقام الأوّل فجعل حكم الأعلم فاصلًا تعييناً، لأقربيّته إلى الواقع ولو في نظر غالبي إلى الموارد، ولم يلاحظه في مقام الاستفتاء توسعةً على الناس، فدعوى إلغاء الخصوصية أو القطع بملاك واحد في المقامين أيضاً مجازفة.

وأمّا تناسب الأفقهية والأصدقية فلم يصل إلى حدّ كشف العلّية التامّة(1).

نعم، قيل بعدم القول بالفصل بين المقامين، فكلّ من قال بتقديم حكم الأعلم في مقام التنازع قال بتقديم فتواه أيضاً(2)، ولم نتحقّقه.

الرابع: أقربية قول الأعلم إلى الواقع، بتقاريب لعلّ أحسنها: أنّ حجّية فتوى المجتهد للمقلّد من باب الطريقية إلى الواقع، لا الموضوعية والسببية كما قرّر في محلّه، وقول الأعلم- بتناسب أعلميته من العالم- أقرب إلى الواقع من قول العالم، والأقربية في الطرق هي المتعيّنة في مقام الإسقاط والإعذار(3).

وهو مردود صغرى وكبرى: أمّا ردّ الصغرى: فلأنّ فتوى غير الأعلم قد تكون أقرب إلى الواقع من غيره؛ بالنظر إلى مجموع القرائن الداخلية والخارجية، كما أنّه قد يكون قوله موافقاً للأعلم من الأموات، أو عدّة من كبار العلماء كصاحب «الجواهر» والشيخ الأنصاري رحمهما الله مثلًا، أو موافقاً للمشهور أو المجمع عليه بين الأحياء(4).


1- راجع: الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 104؛ تنقيح الاصول 4: 640 ..
2- المحقّق الرشتي بحكاية تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 114 ..
3- مأخوذ من الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 105؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 117 ..
4- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 105؛ كفاية الاصول: 544 ..

ص: 175

نعم، الأعلمية متناسبة بنفسها مع الأقربية، كما ربّما يتراءى من التقريب المذكور، ومن دفاع بعض المحقّقين عنه: من الفرق بين الأقربية الداخلية- الحاصلة من النظر إلى نفس فتوى الصادر من المجتهد وخصوصياته من دون تطبيق على فتوى الغير- والخارجية(1).

إلّا أنّ هذه الأقربية- المعبّر عنها في كلمات بعضهم بالأقربية الطبعية والاقتضائية- ليست ملاكاً للتقليد ولا لوجوبه، بل الملاك هو الأقربية الفعلية الواقعة، على فرض تسليم كونها ملاكاً كبروياً(2).

وأمّا ردّ الكبرى: فبأنّ القرب إلى الواقع وإن كان ملاكاً بمقتضى الطريقية بلا شبهة، إلّاأنّا لا نعلم أنّه تمام الملاك في تبعية المقلّد للمجتهد في جميع فروض المسألة، فلعلّ التوسعة- وعدم التضييق على المكلّفين في إيجاب تقليد الأعلم تعييناً عليهم- أيضاً جزء الملاك في مفروض الكلام، وهذا احتمالٌ معه لا يستقيم محاسبة المسألة بالنظر إلى ملاك القرب إلى الواقع فقط، حتّى يقال: إنّ الأقربية دليل على التعيين؛ فإ نّ ملاك التوسعة يقتضي التخيير(3).

لا يقال: إنّ القرب إلى الواقع- حتّى في حالة كونه جزءاً للملاك- يؤثّر في إيجاب تقليد الأعلم تعييناً؛ لأنّ المفروض أنّ العالم والأعلم سيّان في سائر الجهات من الملاك(4).

لأ نّا نقول: ملاك التوسعة- الذي احتملناه وبه أبطلنا الاستدلال- يركّز


1- نهاية الدراية 6: 412 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 118؛ كفاية الاصول: 544 ..
3- مأخوذ من الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 107، بتقرير وثوب آخر ..
4- نهاية الدراية 6: 413 ..

ص: 176

على التعيين وينفيه، فلا معنى لفرض وجوده مع فرض وجوب التعيين، فهذا خلف كما لا يخفى.

الخامس: نسبة الأعلم إلى العالم، قد يقال: إنّ الأعلم من كان أحسن استنباطاً من غيره؛ لكونه أقوى وأدقّ نظراً في تحصيل الحكم من مداركه الشرعية والعقلية، وأمتن استنباطاً لها عن مبادئ تحصيله، وأكثر معرفةً بكيفية تطبيقها على المصاديق، لأ نّه أوسع اطّلاعاً وإحاطةً بالجهات الموجبة للاستنباط، والتي هي مغفولة لدى غيره لقصور نظره، وإن كان نظره القاصر حجّة عليه وعلى مقلّده ذاتاً.

ففتوى الأعلم أوفق بمقتضيات الحجج الشرعية والعقلية؛ لبلوغ نظره- لفرض الأعلمية- إلى ما لا يبلغ إليه نظر غيره، فيكون بالإضافة إلى غيره كالعالم بالإضافة إلى الجاهل. فيتعيّن الرجوع إليه في مقام إبراء الذمّة عقلًا؛ لأنّ العقل يذعن- بمقتضى فرض الأعلمية- بكون رأيه أوفق بمقتضيات الحجج، وأنّ التسوية بينه وبين غيره تؤول إلى التسوية بين العالم والجاهل(1).

وفيه أوّلًا: أنّ أحسنية الاستنباط- وكون الأعلم أقوى نظراً في تحصيل الحكم من المدارك- عبارة اخرى عن أقربية رأيه إلى الواقع(2)، وقد تقدّم أنّها لا تدلّ على وجوب تقليده تعييناً.

وثانياً: أنّ إذعان العقل بما ذكره مستلزم لامتناع تجويز العمل على طبق رأي غير الأعلم؛ لقبح التسوية بين العالم والجاهل بل امتناعها، وهو كما ترى، ولا أظنّ التزام أحد به(3)، بل لازم ذلك- خلافاً لما ذكره قدس سره في كلامه- لزوم رجوع العالم


1- نهاية الدراية 6: 414 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 109 ..
3- نفس المصدر ..

ص: 177

أيضاً- كسائر المقلّدين- إلى الأعلم، وعدم حجّية نظره له أيضاً.

السادس: تعارض الأدلّة ودليل الانسداد، بتقريب: أنّ أدلّة حجّية قول المجتهد للمقلّد من الكتاب والسنّة- لو سلّمنا شمولها للعالم كشمولها للأعلم- تتعارض في مفروض الكلام من مخالفة قول العالم للأعلم، وبعد المعارضة والسقوط عن الحجّية تصل النوبة إلى دليل الانسداد، ودليل الانسداد لا يمكن أن يستنتج منه جواز تقليد غير الأعلم؛ فإنّ النتيجة ليست كلّية، بل إنّما يستنتج منه حجّية فتوى عالم ما؛ فإنّ العقل بعد المقدّمات قد استقلّ أنّ الشارع نصب طريقاً للعامّي لا محالة، وليس ذلك هو الاحتياط لأنّه غير ميسور في حقّه، ولا أنّه الظنّ لأنّه لا ظنّ للمقلد أو لا أثر له، فيتعيّن أن يكون الطريق فتوى عالم ما، والقدر المتيقّن فتوى الأعلم.

وأمّا السيرة العقلائية فهي غير جارية على الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم، بل قد جرت على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة(1).

أقول: أمّا السيرة فقد تقدّم الكلام فيها، وأمّا دليل الانسداد فلا يقتضي الرجوع إلى الأعلم تعييناً، وقد ذكره الإمام قدس سره في مقام تأسيس الأصل في المسألة، وردّه بقوله:

«إنّ العلم الإجمالي منحلّ بما في فتاوى الأحياء من العلماء، وليس للعامّي زائداً على فتاويهم علم، فيكون تكليفه الاحتياط في فتاويهم؛ أي العمل بأحوط الأقوال، ولزوم العسر والحرج منه- فضلًا عن اختلال النظام- ممنوع»(2).

فللعامّي أن يتعلّم أحوط الأقوال- في كلّ مسألة مبتلى بها- من العالِمين بفتاوى العلماء الدارجة في كلّ عصر ومصر، ثمّ يعمل به، وبعد ذلك لا يبقى عنده علم


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 113- 114 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 60 ..

ص: 178

إجمالي بتكاليف في الشريعة، فلا يمكن التمسّك بدليل الانسداد لإثبات وجوب الرجوع إلى الأعلم تعييناً.

وأمّا حديث التعارض في كلام المستدلّ، فقد اورد عليه: بأنّ حجّية قول الفقيه في الأدلّة إنّما اخذت بنحو البدلية؛ ضرورة أنّه لا يعقل أن يجعل قول كلّ فقيه حجّة بنحو الطبيعة السارية والوجوب التعييني؛ حتّى يكون المكلّف في كلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جميع الفقهاء وترتيب الأثر عليه، بل من الواضح أنّه إذا أخذ بقول واحد منهم فقد أطاع.

وحينئذٍ فلا مانع من دعوى إطلاق دليل الحجّية وشموله لحال التعارض، وهذا بخلاف الخبرين المتعارضين؛ حيث لا يعقل شمول الإطلاقات لهما، لأنّ كلّ فرد من أفراد طبيعة الخبر مشمول لدليل الحجّية تعييناً، ويجب على المجتهد الأخذ به وتصديق مخبره وترتيب الأثر عليه(1).

وأصل الفكرة تجدها في «درر الفوائد»(2)، وقد نقل ذلك السيّد الماتن قدس سره أيضاً وارتضاه ظاهراً، وجعله بياناً لإمكان الإطلاق في المقام بخلاف مقام الخبرين المتعارضين، غير أنّه قدس سره أنكر وجود دليل مطلق- معتبر دلالةً وسنداً في الأدلّة التعبّدية من الكتاب والسنّة- شامل لحالة التعارض(3). وسيأتي تمام الكلام إن شاء اللَّه في مستند المسألة الثامنة من مسائل المتن.

فقد تحصّل: أنّه لا يوجد دليل يركن إليه لإثبات وجوب الرجوع إلى الأعلم تعييناً في هذه الصورة.


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 95 و 96 ..
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 716 ..
3- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 113 ..

ص: 179

أدلّة التخيير بين الأعلم وغيره

الأوّل: إطلاق الأدلّة، من الآيات والروايات التي استدلّ بها على جواز التقليد ومشروعيّته.

وقد تقدّم الكلام والمناقشة في دلالتها على أصل تشريع التقليد كحكم تعبّدي تأسيسي، فكيف يمكن التمسّك بإطلاقها؟!

الثاني: روايات الإرجاع، وهي روايات دلّت على إرجاع الأئمّة عليهم السلام لجماعة من الشيعة إلى أمثال زرارة، ويونس بن عبدالرحمان، ومحمّد بن مسلم، وأبي بصير، وزكريّا بن آدم ... وغيرهم(1).

وقد قرّر دلالتها على حجّية قول غير الأعلم مع الأعلم من وجوه:

الأوّل: من جهة أنّ الإرجاع إلى غيرهم من الأصحاب- مع وجود أنفسهم عليهم السلام بين الناس- دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم(2).

الثاني: من جهة ظهورها في أنّ الرجوع إليهم كان متعارفاً، ومع وجود الأفقه كانوا يراجعون غيره(3).

الثالث: من جهة إرجاعهم عليهم السلام إلى متعدّدين، مع ثبوت الاختلاف بينهم من حيث الفضيلة(4).

بل قد يقال: إنّ الغالب بين أصحابهم عليهم السلام- الذين أرجعوا الناس إلى السؤال


1- راجع: جامع أحاديث الشيعة 1: 268، أبواب المقدّمات وما هو الحجّة في الفقه وما يناسبها، الباب 5 ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 120؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 113 ..
3- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 101 ..
4- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 120 ..

ص: 180

منهم في الأخبار المتقدّمة- هو المخالفة في الفتوى؛ لندرة التوافق بين جمع كثير(1)، وكيف كان لو اعتبرت الأعلمية لم يُرجعوا عليهم السلام الناس إليهم من دون تقييد بها.

وقد تقدّم استدلال سيّدنا الإمام قدس سره بأخبار كثيرة على إثبات تعارف الاجتهاد من الأصحاب في زمن الأئمّة عليهم السلام، وأنّ الإرجاع إليهم لا يكون لصرف نقل الروايات(2)، هذا.

ولكن مع ذلك كلّه لا يمكن الاعتماد على شي ء من هذه الوجوه لإثبات جواز التخيير:

أمّا عدم الاعتماد على الوجه الأوّل فواضح بالنسبة إلى مفروض كلامنا، وهو ما إذا علم مخالفة الأعلم مع غيره تفصيلًا، فلا يحتمل إرجاع الأئمّة عليهم السلام للناس إلى غيرهم عليهم السلام في صورة علمهم بمخالفة الغير لهم عليهم السلام في مسألة أو مسائل تفصيلًا، بل الإرجاع لا يكون إلّامن جهة أنّهم- أمثال زرارة ومحمد بن مسلم- أبواب إلى علوم الأئمّة عليهم السلام.

وأمّا الوجه الثاني والثالث فيردّهما: أنّ انعقاد الإطلاق لهذه الروايات لصورة العلم بمخالفة الأعلم مع غيره مشكل؛ لعدم العلم بذلك في تلك الأعصار، خصوصاً من مثل اولئك الفقهاء والمحدّثين الذين كانوا من بطانة الأئمّة عليهم السلام(3).

وقال بعض أهل النظر: إنّه حيث تكون المدارك في ذلك الزمان معلومة غالباً؛ لعدم ثبوت الواسطة بينهم وبين أئمّتهم عليهم السلام، فالاختلاف لا يكاد يتحقّق إلّانادراً(4).


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 108 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 70- 78 ..
3- نفس المصدر: 103 ..
4- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 121 ..

ص: 181

ومنه يظهر النقاش فيما نقلناه آنفاً: من غلبة الاختلاف بين أصحابهم عليهم السلام الذين أرجعوا الناس إلى السؤال منهم ....

الثالث: سيرة المتشرّعة، بتقريب: أنّهم يرجعون إلى المجتهد الواجد للشرائط فيما يبتلون به من المسائل، ولا يفحصون عن شرط الأعلمية فلو كان تقليد الأعلم واجباً عندهم لزم عليهم الفحص عن وجوده(1).

وفيه: أنّه لو اريد بذلك صورة عدم العلم بالمخالفة فلا يبعد دعوى قيام السيرة فيها على عدم الفحص عن فتوى الأعلم، وأمّا لو اريد بذلك صورة العلم بالمخالفة بينهما- كما هي محلّ الكلام- فلا مجال لدعوى السيرة فيها بوجهٍ، بل السيرة في هذه الصورة جارية على الرجوع إلى الأعلم(2).

هذا كلّه لو سلّم وجود أصل السيرة، وعدم كونها ناشئة عمّا بأيدينا من الأدلّة التي لنا الاجتهاد في فهم مفادها.

الرابع: لزوم العسر والحرج، في تشخيص الأعلم مفهوماً أو مصداقاً أوّلًا، وفي تعلّم فتاواه خصوصاً لمن يسكن في البلاد النائية عن بلد الأعلم ثانياً.

وفيه أوّلًا: أنّ هذا الحرج لو فرض بمقدار يعتذر معه شرعاً، فهو خلاف مفروض الكلام من إمكان وصول المكلّف إلى فتوى الأعلم، وقد تقدّم الكلام في صدر هذه المسألة.

وثانياً: أنّه لو اعتبرت الأعلمية فحالها كحال سائر الشرائط لمرجع التقليد، من حيث الطرق التي يمكن بها تشخيصها مفهوماً ومصداقاً، ولزوم الرجوع إلى مستجمعها.


1- نقل في التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 112 وتفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 121 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 112 ..

ص: 182

وثالثاً: أنّ تعلّم الفتاوى في زماننا هذا ليس معسوراً؛ لتيسّر أخذ الرسالة والتعلّم منها، مع أنّ تكثير نسخها ونشرها أمر سهل.

فالحاصل: أنّ شيئاً من أدلّة الطرفين في هذه الصورة- العلم بالمخالفة تفصيلًا- لا يتمّ، فتصل النوبة إلى الأصل الأوّلي في المقام والذي قرّرناه نقلًا عن الماتن قدس سره؛ وهو الاحتياط بتعيّن الرجوع إلى الأعلم كما في المتن.

الصورة الثانية: العلم بالمخالفة إجمالًا

و هذا العلم تارةً يكون منجّزاً كما لو كانت أطرافه شبهة محصورة داخلة في محلّ ابتلاء المكلّف، واخرى لا يكون كذلك كما لو كانت الشبهة غير محصورة، ولا يخفى أنّ الأدلّة لطرفي النزاع- في جميع الصور والأقسام المتصوّرة فيها- لا تزيد عمّا ذكر في الصورة الاولى، والفرق يمكن في كيفية انطباق تلك الأدلّة، فنقول:

أمّا أدلّة وجوب الرجوع إلى الأعلم

اشارة

فالإجماع:- مضافاً إلى ما تقدّم في ردّه- يمكن أن يقال: إنّ المتيقّن منه ما إذا علم الاختلاف تفصيلًا، ولا إطلاق له يشمل صورة العلم الإجمالي بالاختلاف. اللهمّ إلّا أن يقال: أنّ الغالب هو العلم الإجمالي بالاختلاف دون التفصيلي، فحمل كلماتهم على صورة العلم بالاختلاف تفصيلًا في غير محلّه.

وأمّا بناء العقلاء: فقد تقدّم عدم إحرازه في الصورة الاولى، فكيف بهذه الصورة؟! خصوصاً القسم الثاني منها.

وأمّا الأخبار: فمع ما تقدّم في أصل دلالتها، ظاهرها- وعلى الأقلّ ظاهر عمدتها وهي المقبولة- صورة العلم التفصيلي بالمخالفة كما لا يخفى، فإسراء حكمها إلى

ص: 183

صورة العلم الإجمالي بالاختلاف يحتاج إلى دليل مفقود، مع إمكان الفرق بين الصورتين.

وأمّا الدليل الرابع- وهو الأقربية إلى الواقع-: فهو لا يفرّق بين الصورة الاولى والثانية من جهة الاستدلال به، وردّه المتقدّمين.

وأمّا الدليل الخامس: فحاله حال الدليل الرابع استدلالًا وردّاً.

وأمّا ما تقدّم استدلالًا وردّاً في الدليل السادس- وهو تصوير تعارض الأدلّة- فهو يجري أيضاً في هذه الصورة بالنسبة إلى القسم الأوّل منها- وهو تنجّز العلم الإجمالي- دون القسم الثاني منها؛ فإنّ التعارض في المدّعى لا يحرز إلّافي صورة العلم الإجمالي المنجّز، وأمّا إذا علم الاختلاف ولكن في دائرة غير محصورة، أو كان بعض أطرافها خارجاً عن ابتلائه، فلم يحرز التعارض في دائرة محصورة مبتلى بها، كي ينجّز عليه. ولعلّه واضح.

والحاصل: أنّه لم يحرز في الصورة الثانية أيضاً دليل على وجوب الرجوع إلى الأعلم تعييناً.

وأمّا أدلّة التخيير

فالأوّل منها: كان عبارة عن ادّعاء إطلاق الآيات والروايات التي استدلّ بها على جواز التقليد ومشروعيّته(1)، وشمول هذا الادّعاء لهذه الصورة- خصوصاً القسم الثاني منها- أقرب منه للصورة الاولى، غير أنّ الكلام في أصل دلالة هذه الآيات والروايات على جواز التقليد كما تقدّم.

وأمّا الثاني:- وهو روايات الإرجاع- فلا فرق فيها بين صورة العلم الإجمالي


1- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 186 و 187 ..

ص: 184

المنجّز بالاختلاف وصورة العلم التفصيلي به من حيث الاستدلال بهذه الروايات بوجوهه المتقدّمة وردّها.

وأمّا صورة العلم الإجمالي غير المنجّز فلا يبعد إلحاقها- بالنسبة إلى هذا الدليل على الأقلّ- بالصورة الثالثة الآتية؛ أعني صورة عدم العلم بالاختلاف.

وأمّا الثالث: وهو سيرة المتشرّعة، فقد فرّق فيها بعض الأعاظم بين صورة العلم التفصيلي وصورة العلم الإجمالي بالاختلاف، فالكلام في الصورة الاولى نفس ما تقدّم ممّا قيل من جريان السيرة على الرجوع إلى الأعلم، وأمّا الثانية- بكلتا صورتيها أعني وجود علم إجمالي منجّز وعدمه- فيمكن القول فيها بقيام السيرة على التخيير(1). هذا، وقد تقدّم الكلام في وجود هذه السيرة واعتبارها.

وأمّا الرابع: وهو لزوم العسر والحرج، فلا فرق في الكلام فيه بين الصورة الاولى وهذه الصورة استدلالًا وردّاً، فلا نعيد.

فتحصّل: أنّ القسم الأوّل من هذه الصورة الثانية- وهو ما إذا علم الاختلاف إجمالًا بعلم إجمالي منجّز- ملحق بالصورة الاولى، ولا يتمّ فيه شي ء من أدلّة الطرفين، وتصل النوبة فيه أيضاً إلى التمسّك بالأصل الأوّلي في المقام.

وأمّا القسم الثاني منها- وهو صورة العلم الإجمالي غير المنجّز- فهو ملحق بالصورة الثالثة الآتية فيما يلي:

الصورة الثالثة: ما إذا كان لا يعلم اختلاف الأعلم مع غيره

فنقول: أمّا أدلّة تعيّن الرجوع إلى الأعلم: فقد تقدّم النقاش في جميعها في الصورة الاولى، فكيف بهذه الصورة؟! فإنّه إذا لم يتمّ الاستدلال بها فيما إذا علم


1- مهذّب الأحكام 1: 26- 27 ..

ص: 185

اختلاف الأعلم مع غيره لم يتمّ فيما لا يعلم بطريق أولى(1).

وأمّا أدلّة جواز الرجوع إلى غير الأعلم في هذه الصورة: فالظاهر تمامية دلالة السيرة العقلائية عليه، بعد قبول أصل تطبيقها على ما نحن فيه، وعدم كونها من باب الاطمئنان أو الوثوق بالقرائن الكلّية والجزئية في كلّ مورد بحسبه، كما أنّ دلالة روايات الإرجاع المتقدّمة(2) تامّة في هذه الصورة أيضاً.

ويظهر تمامية هذين الدليلين في هذه الصورة من الماتن قدس سره في طيّ كلامه في رسالة «الاجتهاد والتقليد»؛ قال: «هذا فيما إذا علم اختلافهما تفصيلًا، بل أو إجمالًا أيضاً بنحو ما مرّ، وأمّا مع احتماله فلا يبعد القول بجواز الأخذ من غيره أيضاً؛ لإمكان استفادة ذلك من الأخبار، بل لا تبعد دعوى السيرة عليه»(3).

والظاهر أنّ مراده من الأخبار هو أخبار الإرجاع المتقدّمة؛ لأنّه قدس سره قال بالنسبة إلى تلك الأخبار: «مع إمكان أن يقال: إنّ إرجاع مثل ابن أبي يعفور إنّما هو في سماع الحديث ثمّ استنباطه منه حسب اجتهاده، ولا إشكال في استفادة جواز الرجوع إلى الفقهاء- بل إلى الفقيه مع الأفقه- من تلك الروايات، لكن استفادة ذلك مع العلم الإجمالي أو التفصيلي بمخالفة آرائهما مشكلة»(4). فتبقى صورة الاحتمال داخلة في الاستدلال، هذا.

وقد اوضح دلالة هذين الدليلين على المطلوب في كلام بعض الأعاظم أيضاً، فراجع(5). ومع وضوح دلالتهما على المطلوب فلا نطيل الكلام بما قد


1- فراجع: التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 128؛ تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 124 ..
2- الثاني من أدلّة جواز التخيير في الصورة الاولى ..
3- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 110 ..
4- نفس المصدر: 103 ..
5- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 131- 132 ..

ص: 186

ويجب الفحص عنه (1).

يقال فيهما(1).

ثمّ إنّ القسم الثاني من الصورة الثانية- أعني ما إذا علم إجمالًا بالاختلاف بعلم غير منجّز- ملحق بهذه الصورة؛ فإنّ العلم الإجمالي إذا لم يكن منجّزاً يلحق في الحكم بالاحتمال وعدم العلم، وفي المقام أيضاً يدخل هذا القسم في روايات الإرجاع والسيرة العقلائية.

فالحاصل: أنّ الدليل الاجتهادي- في الصورة الثالثة والقسم الثاني من الصورة الثانية- قائم على جواز الرجوع إلى غير الأعلم أيضاً. غير أنّ عبارة المتن- في وجوب الرجوع إلى الأعلم احتياطاً- مطلقة. وظاهرها شموله لهذين الصورتين كشموله لصورة العلم بالاختلاف بعلم تفصيلي أو علم إجمالي منجّز، وهذا مخالف لما اختاره في كتابه الاستدلالي «الاجتهاد والتقليد» كما تقدّم.

نعم في المسألة الثانية عشرة صرّح بأنّ الاحتياط في تعيّن الرجوع إلى الأعلم يكون في المسائل التي يعلم تفصيلًا مخالفة الأعلم مع غيره فيها، والكلام في تلك المسألة وإن كان في العدول إلّاأنّه لا فرق بالنسبة إلى ما هو المراد في المقام.

وجوب الفحص عن الأعلم

1- إذا قلنا بوجوب تقليد الأعلم تعييناً، فالأعلمية تكون من شرائط المجتهد الذي يجب تقليده، ووجوب الفحص على المقلّد عن المجتهد الجامع للشرائط


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 129 ..

ص: 187

وإذا تساوى المجتهدان في العلم أو لم يعلم الأعلم منهما، تخيّر بينهما (1).

سيأتي إن شاء اللَّه تعالى في المسائل الآتية(1).

وهذا وجوب إرشادي عقلي تعلّق بالتحقيق والبحث عن الحجّة على الأحكام الشرعية الفرعية، وقد تقدّم الكلام فيه في مستند المقدّمة(2).

نعم، قد عرفت أنّ شرطية الأعلمية- في صورة العلم باختلاف الأعلم مع غيره في الفتوى تفصيلًا أو إجمالًا بعلم إجمالي منجّز، دون غيرهما- لا دليل اجتهادي عليها، والمعوّل عليه هو الاحتياط المطابق للأصل الأوّلي، وإذا كان أصل وجوب تقليد الأعلم احتياطياً فوجوب الفحص عنه أيضاً ينبغي أن يكون احتياطياً.

غير أنّ هذا الوجوب بما أنّه عقلي إرشادي، والاحتياط المتقدّم في الأصل الأوّلي أيضاً حكم عقلي، فلا محلّ لتقييد هذا الوجوب بالاحتياط. ومنه يظهر وجه عدم تقييد الماتن قدس سره لوجوب الفحص بكونه «على الأحوط» مع ذهابه إلى أصل وجوب تقليد الأعلم على الأحوط.

التخيير بين المتساويين

1- الكلام في المتساويين يأتي- إن شاء اللَّه- في المسألة الثامنة.

وأمّا إذا لم يعلم الأعلم في المجتهدين: فتارةً يحتمل تساويهما واخرى لا يحتمل ذلك: فإن كان الثاني فمعناه انحصار الأعلم فيهما، وهو موضوع الكلام في المسألة السادسة. وإن كان الأوّل فهو ملحق بصورة التساوي- كما ألحقه الماتن قدس سره هنا-


1- المسألة 17 وما بعدها ..
2- تقدّم في الصفحة 55 ..

ص: 188

لجريان أدلّة تلك الصورة فيه كما يأتي.

وهذا الإلحاق هو الزائد عمّا في المسألة الثامنة من مسائل المتن، ولعلّ ذلك- مع التوطئة لمسألة الأورعية أو الأعدلية- هو الوجه لذكر مسألة التساوي هنا.

توضيح التوطئة: أنّ الأورعية أو الأعدلية كما يمكن فرضهما عند التساوي في العلم، يمكن فرضهما مع التفاضل في العلم أيضاً، ولكنّ الماتن قدس سره فرضهما في الصورة الاولى فقط، بقوله: «وإذا تساوى المجتهدان ...» مقدّماً على فرض الأورعية أو الأعدلية، وهو الصحيح؛ لأنّ الأورعية أو الأعدلية في جنب الأعلمية لا أثر لهما في الحجّية؛ أمّا في صورة وجودهما في طرف الأعلم فواضح، وأمّا إذا كان أحد المجتهدين أعلم والآخر أورع، فالظاهر أنّ السيرة العقلائية- بناءً على تماميتها، وهي العمدة في إثبات وجوب الرجوع إلى الأعلم تعييناً عند القائلين به- جارية على تقدّم الأعلم(1). ويكتفى في الورع والعدالة بمقدار يحصّل له الوثوق عند حكايته عن رأيه.

قال المحقّق الحلّي: «ولو ترجّح بعضهم بالعلم والبعض بالورع، يقدّم الأعلم؛ لأنّ الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع، والقدر الذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر»(2). ومثله ما في «الذكرى» للشهيد رحمه الله(3)، وقد نقله صاحب «المعالم» واستحسنه(4).

هذا كلّه مع أنّ الأورعية في صورة التساوي أيضاً لا يوجد دليل على


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 31 و 32 ..
2- معارج الاصول: 202 ..
3- ذكرى الشيعة 3: 43 ..
4- معالم الاصول: 241 ..

ص: 189

وإذا كان أحدهما المعيّن أورع أو أعدل فالأولى الأحوط اختياره (1)،

الترجيح بها كما سيأتي، وكما يأتي بيان وجه الاحتياط الاستحبابي في الترجيح بها عند الماتن قدس سره.

تقديم الأورع

اشارة

1- الترجيح بالأورعية له سابقة في كلماتهم، قال في «المسالك»: «ومع تساويهما في العلم يقدّم الأعدل؛ نظراً إلى ثبوت الرجحان المقتضي لقبح تقديم المرجوح عليه، ويتحصّل من ذلك: أنّه يترجّح أعلم الورعين وأورع العالمين»(1).

قال ذلك في نصب الإمام للقضاة، ثمّ أجراه في الفقيهين حال الغيبة بالنسبة إلى الاستفتاء(2).

وكيف كان فالكلام يقع: تارةً بالنسبة إلى الأصل الأوّلي قبل النظر إلى الأدلّة الاجتهادية، واخرى مع ملاحظة تلك الأدلّة. ولا يخفى أنّ محلّ النزاع هنا مقيّد- كما هو الحال بالنسبة إلى الترجيح بالعلم- بإمكان الوصول إلى فتوى الأورع، واحتمال اختلافه في الفتوى مع غيره، وعدم موافقة فتوى غيره للاحتياط؛ لعين ما تقدّم في تنقيح محلّ النزاع في مسألة الأعلمية، فنقول:

أمّا الكلام بالنسبة إلى الأصل الأوّلي

فقد قيل بعدم الفرق بينه وبين ما سبق بالنسبة إلى مسألة الأعلم؛ لأنّ مقتضى حكم العقل من باب الاحتياط بلزوم الأخذ بالمعيّن- إذا دار أمر الحجّية بين التعيين


1- مسالك الأفهام 13: 345 ..
2- نفس المصدر..

ص: 190

والتخيير- هو لزوم الأخذ بخصوص فتوى الأورع، كلزوم الأخذ بخصوص فتوى الأعلم(1).

وبه استشكل على الماتن قدس سره في هذه المسألة؛ حيث احتاط وجوباً بالرجوع إلى الأعلم تعييناً، وقال بالنسبة إلى الأورع أو الأعدل: «أنّ الرجوع إليه تعييناً هو الأولى الأحوط» ولم يوجب الاحتياط.

وجه الإشكال: هو أنّ حكم العقل بالاحتياط في مسألة الأعلم، يجري بعينه في هذه المسألة من دون فرق بينهما(2).

أقول: إذا أعدنا النظر في تقرير الماتن قدس سره للأصل الأوّلي في مسألة الأعلم، يتّضح الفرق ويندفع الإشكال، أو يندفع التناقض في كلامه على الأقلّ، فإنّ تقريره قدس سره للأصل هو الملاك- عنده طبعاً- لما أفاده في المتن، لا التقرير الآخر.

توضيح ذلك: أنّه قد تقدّم أخذ التسالم- أو الإجماع على حدّ تعبيره قدس سره- في تقرير الأصل عنده قدس سره وهو تسالم الفقهاء على خروج فتوى الأعلم عن عموم حرمة العمل بالظنّ، دون فتوى غير الأعلم، وهذا التسالم لم يحرز بالنسبة إلى الأورع بالقياس إلى غير الأورع، ومع عدم هذا الإحراز لا يمكن لنا دعوى إجزاء قول الأورع يقيناً في جنب قول غير الأورع؛ حتّى ندّعي خروج قول الأورع عن عموم حرمة العمل بالظنّ يقيناً، دون قول غير الأورع فنحتمل- فقط- خروجه عنه، كما نحتمل خروج غير الأورع أيضاً بلا ترجيح للأورع على غيره في هذا الخروج.

نعم، بمقتضى ضرورة مشروعية التقليد نعلم بخروج عالم ما، وهو لا ينتج أكثر من التخيير.


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 133 ..
2- نفس المصدر..

ص: 191

ومنه يعلم أنّ الماتن قدس سره لم يتمسّك بنفس احتمال التعيين في الأعلم في قبال غير الأعلم، حتّى يقال: إنّ هذا الاحتمال موجود بالنسبة إلى الأورع في قبال غير الأورع أيضاً، كما هو مفروض الكلام في المقام(1).

بل المعيار في تقرير الأصل في مقام الحجّية عنده رحمه الله- وهو الحقّ كما تقدّم- هو جريان عموم حرمة العمل بالظنّ أو عدمه الذي هو الملاك في مقام الحجّية، ولا يخفى أنّ نفس احتمال التعيين لا يوجب الخروج عن هذا العموم.

ومعنى هذا: جريان العموم على الأورع وغير الأورع على حدّ سواء، والرجوع إلى أدلّة التخيير في المتساويين، كما أنّه لو لم يكن لنا حجّة قطعية على خروج الأعلم عن عموم حرمة العمل بالظنّ، لقلنا بمثل ذلك في الأعلم وغير الأعلم أيضاً.

فتحصّل أنّ الأصل الأوّلي بالنسبة إلى الأورع وغير الأورع هو أنّ حالهما حال المتساويين؛ أعني عدم دليل على ترجيح أحدهما على الآخر، ومعناه التخيير عقلًا كما يأتي في المتساويين.

وأمّا الكلام في الأدلّة الاجتهادية

فقد استدلّ على مرجّحية الأورعية- لتعيّن تقليده في قبال غير الأورع- بامور:

أحدها: المقبولة المتقدّمة في أدلّة الترجيح بالأعلمية، وما يشابهها من الروايات(2).

وقد تقدّم الكلام في ورودها في موضع القضاء، ولا دليل على إسراء ما فيها إلى


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 132 ..
2- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 83 ..

ص: 192

باب الاجتهاد والتقليد أيضاً، مع أنّ الظاهر منها اجتماع الأورعية مع الأفقهية والأصدقية(1).

ثانيها: دعوى الإجماع على الترجيح بالأورعية(2).

ويوهنها: احتمال استناد المجمعين إلى الروايات المتقدّمة، مع أنّ الظاهر من التتبّع في كلماتهم أنّها- كالأعلمية- لم تكن معنونة في كلماتهم في القرون الماضية المقاربة لعصر المعصوم عليه السلام.

ثالثها: دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط للعامّي، بل يجوز له أن يستند في أعماله مطلقاً إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين(3).

وهذا بظاهره لا يكون دليلًا على الترجيح بالأورعية أو شي ء آخر، ولكنّه- كما أشار إليه بعض الأعاظم- مبنىً مفروض لأصالة التعيين عند بعضهم(4)، وهو الأمر الرابع الآتي من الامور:

رابعها: أصالة التعيين فيما إذا دار أمر الحجّية بين التعيين والتخيير، وتقريبها: أنّ المجتهدين المتساويين في الفضيلة إذا كان أحدهما أورع- كما هو الفرض- دار الأمر بين أن تكون فتوى كلّ منهما حجّة تخييرية، وأن تكون فتوى الأورع حجّة تعيينية، وإذا دار الأمر في الحجّية بين التعيين والتخيير وجب الأخذ بما يحتمل تعيّنه؛ للقطع بحجّيته والشكّ في حجّية الآخر، والشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها، فالأورعية مرجّحة لا محالة(5). ولا يخفى أنّ هذا تقريب آخر للأصل


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 131؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 141- 142 ..
2- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 83 ..
3- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 131 ..
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 144 ..
5- نفس المصدر: 142 ..

ص: 193

وإذا تردّد بين شخصين يحتمل أعلمية أحدهما المعيّن دون الآخر، تعيّن تقليده على الأحوط (1).

الأوّلي يخالف ما قدّمناه آنفاً.

وفيه: أنّ دعوى القطع بحجّية ما يحتمل تعيّنه مجازفة؛ فإنّ أدلّة حرمة العمل بالظنّ- أو عدم حجّية الظنّ عقلًا- شاملة له، وصِرف احتمال تعيّن تقليده في الواقع ونفس الأمر لا يخرجه عن تلك الأدلّة. نعم، له حجّية تخييرية عقلًا بعد التسالم على عدم وجوب الاحتياط على العامّي(1). ولكن نسبة هذه الحجّية إلى كلّ من الأورع وغيره على حدّ سواء، ولا يتحصّل منها حجّية فتوى الأورع معيّناً.

فتحصّل من هذا، عدم وجود دليل على مرجّحية قول الأورع أصلًا، وفي هذا لا فرق بين صور المسألة، من احتمال اختلاف الأورع مع غيره في الفتوى، أو العلم بالاختلاف تفصيلًا أو إجمالًا؛ فإ نّ هذه الصور لا تختلف في تطبيق هذه الأدلّة وعدمها كما لا يخفى.

نعم، رعايةً لاحتمال دليل تعبّدي على الترجيح بالأورعية يستحسن الاحتياط بالرجوع إلى الأورع، وهو الوجه- ظاهراً- لأولوية الاحتياط في كلام الماتن قدس سره بقوله: «فالأولى الأحوط اختياره».

تقديم محتمل الأعلمية

1- هذه هي شبهة موضوعية لما تقدّم في صدر المسألة من وجوب تقليد الأعلم


1- وهذا بعينه هو التقريب الذي يأتي في الحجّية التخييرية للمجتهدين المتساويين. راجع: الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 111 ..

ص: 194

على الأحوط، وقد احتاط وجوباً في هذه الشبهة.

فنقول: إن قلنا بإحراز التسالم على إجزاء قول الأعلم المحتمل المعيّن أيضاً كما في الأعلم المعلوم، فتقرير الأصل الأوّلي الذي مفاده الاحتياط بوجوب الرجوع إلى الأعلم المعلوم- بالتقرير الذي تقدّم من الماتن قدس سره- يأتي في الأعلم المحتمل المعيّن أيضاً، ويكون هذا هو المستند للاحتياط هنا كالذي في صدر المسألة من الشبهة الحكمية.

وإن قلنا بعدم إحراز التسالم في هذا الفرض، فالصناعة وإن اقتضت الإفتاء بجواز الرجوع إلى غير محتمل الأعلمية أيضاً- وقد تقدّم أنّ صِرف احتمال التعيين لا يوجب الاحتياط في الطرف المحتمل- غير أنّ الإفتاء لا يجب إن لم يستلزم تركه وقوع المكلّف في خلاف الواقع أو احتمال وقوعه فيه.

وفي المقام الاحتياط الوجوبي بالرجوع إلى محتمل الأعلمية، وعدم الإفتاء بجواز الرجوع إلى غيره أيضاً، لا يوجب ذلك بعد العلم بأنّ الرجوع إلى غير محتمل الأعلمية لا يجب معيّناً.

وبناءً على عدم إحراز التسالم المذكور في هذا الفرض، فلقائل أن يقول: ما وجه الاحتياط الوجوبي- أو عدم الإفتاء بجواز الرجوع إلى غير محتمل الأعلمية- هنا، والإفتاء بالجواز في الرجوع إلى غير الأورع في الفقرة السابقة من المسألة مع الاحتياط الاستحبابي في الرجوع إلى الأورع أو الأعدل فيها، مع أنّ الأصل الأوّلي في كلتا الفقرتين هو التخيير؟

ولعلّ الجواب:- مع أنّ عدم الإفتاء لا يؤخذ به المفتي، إن لم يكن ملازماً لاحتمال وقوع المكلّف في خلاف الواقع، كما تقدّم- هو أنّ احتمال تعيّن الرجوع إلى محتمل الأعلمية- إذا دار الأمر بينه وبين غير محتملها- أقوى بمراتب من احتمال تعيّن الرجوع إلى الأورع إذا دار الأمر بينه وبين غيره مع التساوي في العلم.

ص: 195

إذا كان الأعلم منحصراً في شخصين

(مسألة 6): إذا كان الأعلم منحصراً في شخصين ولم يتمكّن من تعيينه، تعيّن الأخذ بالاحتياط، أو العمل بأحوط القولين منهما، على الأحوط مع التمكّن، ومع عدمه يكون مخيّراً بينهما (1).

إذا كان الأعلم منحصراً في شخصين

1- هذه المسألة شبهة موضوعية اخرى لمسألة وجوب الرجوع إلى الأعلم المتقدّمة.

غير أنّ هنا علماً إجمالياً بوجود الأعلم بين من دار التقليد فيه، بخلاف ما تقدّم من الشبهة الموضوعية في الفقرة الأخيرة من المسألة السابقة، ومع هذا العلم يجب الاحتياط بمقتضى أدلّة تنجيز العلم الإجمالي، رعايةً لوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية في صدر المسألة السابقة، ولا نحتاج حينئذٍ إلى ما ذكرناه في تلك الشبهة الموضوعية لتوجيه وجوب الاحتياط في كلام الماتن قدس سره.

وأمّا طريق الاحتياط: ففي تلك الشبهة هو الرجوع إلى من يحتمل أعلميته كما تقدّم، وفي هذه الشبهة بما أنّ كلّاً منهما محتمل للأعلمية فالاحتياط يقتضي رعاية فتوى كليهما، وذلك بعدم مخالفة شي ء منهما، وهذا لا يتحقّق إلّابالأخذ بالاحتياط

ص: 196

في جميع المسائل الذي لا يخالف مع فتواهما طبعاً، أو العمل بأحوط القولين منهما حتّى لايخالفهما.

هذا كلّه مع التمكّن من أحد الاحتياطين، وأمّا مع عدمه- لعدم إمكانه في نفسه كما في دوران الأمر بين المحذورين، أو لضيق الوقت مثلًا، أو لشي ء آخر- فالعقل لا يرشد إلّاإلى التخيير بين الفتويين؛ لعدم ثبوت ترجيحٍ لأحدهما على الآخر.

ص: 197

لزوم التقليد في مسألة تقليد الأعلم

(مسألة 7): يجب على العامّي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم (1)،

لزوم التقليد في مسألة تقليد الأعلم

1- في مسألة تقليد الأعلم- كجملة اخرى من مسائل كتاب الاجتهاد والتقليد-: تارةً يُنظر بنظر المجتهد الذي يرى مقتضى الأدلّة التفصيلية في المسألة، واخرى يُنظر بنظر العامّي الذي يحاول مراجعة من كان قوله في الفروع الدينية حجّة له بينه وبين اللَّه تعالى. وقد فصّل بعضهم- كصاحب «الكفاية»- بين هذين النظرين منهم(1).

والمسألة من حيث النظر الأوّل قد تقدّمت في مستند المسألة الخامسة.

وأمّا من حيث النظر الثاني فنقول: قد ادّعى بعضهم عدم معقولية الخلاف في تعيّن الرجوع إلى الأعلم في هذه المسألة(2)، وكأ نّه يرى عدم وصول عقل العامّي في هذه المسألة إلّالتعيّن الرجوع إلى الأعلم.

وكيف كان فقد أوجب الماتن قدس سره على العامّي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب


1- كفاية الاصول: 541، وراجع: نهاية الدراية 6: 403 ..
2- مطارح الأنظار 2: 526- 527 ..

ص: 198

تقليد الأعلم، والوجه في ذلك: أنّ العامّي حيث لا ينظر إلى الأدلّة التفصيلية فله وعليه ما حكم به عقله، وهو حجّته الباطنة عقلًا ونقلًا، والعقل في هذه الوضعية لا يحكم إلّابوجوب تقليد الأعلم؛ لأنّه المتيقّن حجّيته إذا دار الأمر بينه وبين غير الأعلم، فإ نّ الأعلم محتمل تعيّنه دون غيره.

فعقل العامّي المتديّن- المتحذّر عن احتمال الوقوع فيما لا يرضى الشارع به من دون مؤ مّن له- يحكم عليه بالاحتياط؛ برعاية احتمال التعيين إذا دار أمره بين التعيين والتخيير(1)، هذا.

ولكنّ الوجه المذكور لا يخلو عن نظرٍ يستفاد من «الكفاية». وأوضحه بعض الأعلام، فقد علّق تعيّن الرجوع إلى الأعلم على ما إذا احتمل تعيّنه، أمّا إذا لم يحتمل تعيّنه- بل استقلّ عقله بالتساوي من حيث الحجّية بين قول الأعلم وغيره، وجواز الرجوع إلى غير الأعلم أيضاً- فلا بأس برجوعه إليه(2).

والمبنى في هذا النظر هو عدم تقليدية الرجوع إلى الأعلم، كأصل التقليد ورجوع الجاهل العامّي إلى العالم الجامع للشرائط؛ بمعنى أنّ الذي يحمل العامّي على الرجوع إلى الأعلم- حينما يريد التقليد والرجوع إلى الغير- ليس إلّاحكم عقله وإدراكه؛ وإلّا فالحامل له عليه لا يكاد يمكن أن يكون فتوى المجتهد- ولو كان أعلم- بلزوم الرجوع إلى الأعلم؛ للزوم الدور(3)، فإن لم يحكم عقله وإدراكه- ولو من باب الاحتياط- بتعيّن الرجوع إلى الأعلم، فكيف يمكن حمله عليه؟!


1- راجع: التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 310؛ مطارح الأنظار 2: 526- 527 ..
2- كفاية الاصول: 541 ..
3- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 135، وراجع أيضاً في هذا المجال: حاشية الفيروز آبادي رحمه الله على العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء 1: 38، المسألة 46 ..

ص: 199

فإن أفتى بوجوبه لا يجوز له تقليد غيره في المسائل الفرعية، وإن أفتى بجواز تقليد غير الأعلم تخيّر بين تقليده وتقليد غيره. ولا يجوز له تقليد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم (1). نعم، لو أفتى بوجوب تقليد الأعلم يجوز الأخذ بقوله، لكن لا من جهة حجّية قوله، بل لكونه موافقاً للاحتياط (2).

1- العامّي إذا حمله عقله على وجوب الرجوع إلى الأعلم في مسألة التقليد- كما تقدّم- فقد سلّم أمره إليه في الفروع الدينية التي يحتاج فقهه وفهمه إلى النظر في الأدلّة التفصيلية، ذلك النظر الذي يكون العامّي عاجزاً بالنسبة إليه.

فحينئذٍ يطرح له- ثانياً- مسألة تقليد الأعلم، لكن من حيث حجّية قول مقلَّده، كسائر المسائل الفقهية الفرعية في صلاته وصومه وجميع أعماله، لا من حيث حكم عقله في ابتداء رجوعه إلى المجتهد، فإن أفتى مقلَّده الأعلم بوجوب الرجوع إلى الأعلم في مسألة تقليد الأعلم، فلا يجوز له تقليد غيره، وإن أفتى فيها بجواز تقليد غيره أيضاً تخيّر بين تقليده وتقليد غيره، كما في المتن.

والوجه في ذلك: حجّية قول الأعلم له، فلا تنافي بين حكم عقله ابتداءً ومن باب الاحتياط إلى لزوم الرجوع إلى الأعلم، وبين حجّية قول الأعلم له في جواز الرجوع إلى غيره؛ لأنّه في رجوعه إلى غير الأعلم يستند إلى قول الأعلم أيضاً، فلا تنافي.

2- العامّي إذا رجع في مسألة تقليد الأعلم إلى غير الأعلم، رجوعاً لا يستند إلى قول الأعلم، فظاهر الماتن قدس سره أنّ رجوعه وتقليده هذا باطل مطلقاً، فلا يمكن الاعتماد عليه. نعم لو أرجعه غير الأعلم هذا إلى الأعلم فيجوز له الأخذ بقول الأعلم، لكن لا من حيث الاعتماد على قول غير الأعلم وإرجاعه إليه، بل من حيث

ص: 200

حجّية قول الأعلم له واقعاً سواء أرجع إليه غير الأعلم أم لا.

والوجه في نظره قدس سره: هو أنّ العامّي بما هو عامّي لا يكون له حجّة إلّاقول الأعلم؛ لأنّه مقتضى الاحتياط الذي لا يصل عقل العامّي بما هو عامّي إلّاإليه.

ولكن لقائل أن يقول: إنّ العامّي يمكن في الواقع أن يحكم عليه عقله بتّاً بالتساوي بين الأعلم وغيره من حيث الحجّية، وأن لا يحتمل تعيّن الرجوع إلى الأعلم أصلًا أو لزوماً، ولا دليل على نفي هذا الإمكان في حقّ العامّي ومعرفته، فعليه لا يمكن المساعدة على إطلاق كلام الماتن قدس سره.

والصحيح هو التفصيل بين الصورة التي كان مستند العامّي في الرجوع إلى غير الأعلم هو حكم عقله بالتساوي وعدم المزية للأعلم لزوماً، فيجوز له تقليده؛ لأنّه يكون مستنداً إلى حجّته الباطنة وهي عقله ومعرفته، وبين الصورة التي يرجع العامّي فيها إلى غير الأعلم مع احتماله تعيّن الرجوع إلى الأعلم، فلا يجوز له تقليده، وحكمه ما في المتن(1).


1- راجع: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 136 ..

ص: 201

التقليد بين المتساويين

(مسألة 8): إذا كان المجتهدان متساويين في العلم، يتخيّر العامّي في الرجوع إلى أيّهما (1).

1- قد تعرّض الماتن في هذه المسألة لفرعين، أحدهما: التخيير بين المجتهدين المتساويين، وثانيهما: جواز التبعيض في التقليد.

التخيير في التقليد

أمّا الفرع الأوّل: فقد صرّح به الأصحاب منذ أقدم عصور تدوين اصول فقه الإمامية؛ كالسيّد المرتضى في «الذريعة»(1)، والمحقّق في «المعارج»(2)، والعلّامة في «مبادئ الوصول»(3)، والشهيدين في كتبهما(4).

بل قد نسب القول بالتخيير إلى إجماع القائلين بجواز التقليد، من غير تفصيل بين الاتّفاق في الفتوى والاختلاف، وموافقة فتوى أحدهما للاحتياط المطلق وعدمها(5).


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 2: 801 ..
2- معارج الاصول: 201 ..
3- مبادئ الوصول: 248 ..
4- ذكرى الشيعة 1: 44؛ تمهيد القواعد: 321 ..
5- مناهج الأحكام: 300/ السطر الأخير؛ مستمسك العروة الوثقى 1: 61 ..

ص: 202

وكيف كان، فالبحث عن جواز التخيير يجري في صورتين، إحداهما: صورة عدم علم المقلّد باختلاف المجتهدين في الفتوى، وثانيتهما: صورة علم المقلّد بالاختلاف إجمالًا.

أمّا الصورة الاولى: فحيث إنّ إطلاقات أدلّة حجّية الفتوى تشمل كلًاّ من المجتهدين المتساويين فالمكلّف مخيّر بينهما، وله أن يرجع إلى من شاء منهما.

وكذلك السيرة والإجماع.

أمّا الصورة الثانية: فقد وقعت محلّ البحث والكلام، ولتحقيق المرام لابدّ أن نبحث عنها في مقامي الثبوت والإثبات:

أمّا المقام الأوّل: فهناك صور في معنى الحجّية التخييرية:

الصورة الاولى: أن تكون الحجّية لكلا الرأيين معاً. وهي غير معقولة؛ لأنّ معنى الحجّية هو جعل ما ليس بعلمٍ علماً تعبّداً، أي جعل الطريق إلى الواقع، وأثرها تنجيز الواقع على تقدير المصادفة، والتعذير عنه على تقدير الخطأ، ومع العلم بتخالف رأي المجتهدين فمرجعه إلى أنّ الشارع اعتبر المكلّف عالماً بالحرمة وعالماً بعدمها، أو عالماً بوجوب شي ء وعالماً بحرمته، فتستلزم حجّيتهما معاً الجمع بين النقيضين أو الضدّين.

الصورة الثانية: أن تكون الحجّية للجامع بين الفتويين؛ أي عنوان إحداهما الذي هو عنوان انتزاعي. وهي أيضاً غير معقولة؛ لأنّ معناها- مع اختلاف الفتويين على نحو التناقض أو التضادّ- جعل الحجّية على أحدهما، مضافاً إلى أنّ كلّاً من المتعارضين ينفي معارضه بالالتزام، وجعل الحجّية على الجامع بين النفي والإثبات بالنسبة إلى كلّ من الفتويين أيضاً غير معقول.

الصورة الثالثة: أنّ الحجّية قد جعلت على كلّ من الفتويين مشروطاً بعدم الأخذ

ص: 203

بالاخرى، فكلّ منهما حجّة تعيينية مشروطة بعدم الأخذ بالاخرى.

وهي أيضاً غير معقولة؛ لأنّ لازمها أن يتّصف كلّ منهما بالحجّية الفعلية إذا ترك المكلّف الأخذ بهما معاً؛ لحصول شرط الحجّية في كليهما وهو عدم الأخذ بالاخرى، فيؤول الأمر إلى الصورة الاولى غير المعقولة.

الصورة الرابعة: أن تجعل الحجّية على كلّ من الفتويين مشروطاً بالأخذ بها، فالحجّية في كلّ منهما تعيينية مقيّدة بالأخذ بها.

وهذا المعنى من الحجّية التخييرية أمر معقول من دون أن يترتّب عليها المحاذير السابقة(1)؛ لأنّ بقيد «الأخذ» ترتفع المحاذير المترتّبة على الصورة الاولى والثانية، كما لا يترتّب المحذور المذكور في الصورة الثالثة أيضاً؛ لأنّه إذا لم يأخذ بهذا ولا ذاك لم يتّصف شي ء منهما بالحجّية؛ لأنّها مشروطة بالأخذ كما عرفت.

ومن ادّعى ثبوت الحجّية التخييرية أراد ثبوتها بهذا المعنى(2)، فلايترتّب عليها محذور ثبوتي.

أمّا المقام الثاني: فما استدلّ به على التخيير في صورة تساوي المجتهدين وجوه:

الوجه الأوّل: شمول إطلاقات أدلّة التقليد وحجّية فتوى المجتهد ورأيه- على أنحائها- لكلا المجتهدين؛ فإنّها كما تشمل فتوى هذا المجتهد كذلك تشمل فتوى المجتهد الآخر، والنتيجة التخيير بينهما.

وقد اورد عليه: بأنّ فساد هذا الوجه مستغنٍ عن البيان؛ لأنّ إطلاق أدلّة الاعتبار


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 137- 139 ..
2- ولا يبعد استفادة هذا المعنى من كلام السيّد الماتن في الاجتهاد والتقليد: 111، حيث قال:« لابدّ من الأخذ بأحدهما والقول بحجّيته التخييرية»، بناءً على ترتّب القول بالحجّية التخييرية لكلّ منها في كلامه على الأخذ به ..

ص: 204

لا يمكن أن يشمل المتعارضين؛ لأنّ شمولها لأحدهما من غير مرجّح، وشمولها لهما معاً يستلزم الجمع بين الضدّين أو النقيضين(1).

وفيه: أنّه لا يخفى الفرق بين حجّية قول الفقهاء وحجّية الأخبار المتعارضة في المقام؛ حيث إنّ أدلّة حجّية الأخبار لا تشمل صورة تعارضها، دون أدلّة حجّية قول الفقهاء؛ حيث إنّها تدلّ على حجّيته على نحو صرف الوجود من الطبيعة، لا الطبيعة السارية.

وبعبارة اخرى: العالم عبارة عمّن يعلم كلّ مسألة ويعرف حكم كلّ واقعة، فعند تعدّد أفراد هذا العنوان لا معنى للحجّية التعيينية لكلّ فرد بعد كفاية واحد منها للمرجعية، فمدلول الأدلّة هنا حجّية الواحد على البدل، وهذا المعنى يمكن حفظ إطلاقه بالنسبة إلى حال التعارض كما هو واضح.

والشاهد على ذلك: أنّه لا معنى لجعل حجّية قول كلّ عالم بنحو الطبيعة السارية والوجوب التعييني؛ حتّى يكون المكلّف في كلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جميع العلماء؛ فإنّه واضح البطلان، فالمأمور به هو الوجود الصرف.

فمثل قوله: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» مفاده: جعل حجّية قول العالم على نحو البدلية أو صرف الوجود، كان مخالفاً لقول غيره أو لا، يعلم تفصيلًا مخالفته له أو لا(2).

ففي المقام يمكن الأخذ بكلّ من الرأيين مشروطاً بالأخذ به، من دون محذور ثبوتي أو إثباتي.

إلّا أنّ هذا الفرق يوجّه إمكان شمول الإطلاق للمتعارضين في باب الفتاوى،


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 136 ..
2- كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 468؛ الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 113 ..

ص: 205

ولكنّه لا يوجد دليل لفظي مطلق حتّى يمكن شموله لمورد تعارض الفتاوى بناءً على مبنى الماتن قدس سره(1).

الوجه الثاني: السيرة العقلائية المستمرّة على التخيير في هذه الصورة، ومن هنا لم يسمع توقّفهم في العمل برأي واحد من أهل الخبرة إذا خالفه منهم آخر.

بل السيرة المتشرّعية جارية على ذلك؛ لأنّهم يعتمدون على فتوى أحد المجتهدين المتساويين، ولا يتوقّفون فيه.

واورد عليه: بأنّ استقرار السيرة العقلائية عند العلم بالمخالفة على التخيير بين المتساويين دعوى باطلة؛ فإنّها خلاف ما هو المشاهد منهم خارجاً، لأنّهم لا يعتمدون على قول مثل الطبيب عند العلم بمخالفته لقول طبيب آخر عند المعالجة، بل يحتاطون في أمثالها إن أمكنهم الاحتياط. والسيرة المتشرّعية أيضاً لم تثبت ولم يحرز اتّصالها بزمان المعصومين عليهم السلام، بل من المحتمل أن تكون السيرة- على تقدير ثبوتها- ناشئة من فتوى أصحابنا بالتخيير(2).

لكنّه لا مجال لهذا الإيراد؛ إذ بعد ما ثبت من أنّ التقليد كان أمراً ثابتاً في زمن الأئمّة عليهم السلام- كما يدلّ عليه إرجاع الأئمّة عليهم السلام إلى أشخاص متعدّدين، مع العلم بتساوي جمع منهم في الفضيلة، ولا أقلّ من عدم إحراز الأعلمية- فلا مجال لدعوى اختصاصه بما إذا كان المفتي من الأصحاب محرز الأعلمية، أو لم تعلم المخالفة بينه وبين غيره في الرأي، فالسيرة المتشرّعية ثابتة على التخيير.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّه لم يحرز استقرار السيرة على التخيير في صورة العلم بالمخالفة، بل القدر المتيقّن منها هو صورة عدم العلم بالمخالفة بين المجتهدين.


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 113 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 136- 137 ..

ص: 206

الوجه الثالث: الإجماع على التخيير بين المجتهدين المتساويين(1).

وقد اورد عليه أوّلًا: بأ نّه إجماع منقول بالخبر الواحد، ولا يمكن الاعتماد عليه.

وثانياً: بأنّ الاتّفاق غير مسلّم في المسألة؛ لأنّها من المسائل المستحدثة، ولم يتعرّض لها الفقهاء في كلماتهم.

وثالثاً: لو فرضنا العلم باتّفاقهم أيضاً فليس هذا إجماعاً تعبّدياً يستكشف به قول المعصوم، بل هو مستند إلى أحد الوجوه المذكورة(2).

أمّا ما أورده أوّلًا فلا مجال له؛ إذ قد عرفت في تأريخ المسألة أنّ القول بالتخيير بين المجتهدين المتساويين يستند إلى كلّ من قال بجواز التقليد في جميع الصور(3).

ويتّضح فساد ما أورده ثانياً أيضاً بالرجوع إلى ما حرّرناه في مقدّمة شرح هذه المسألة، وهذا واضح لمن تتّبع كلمات القوم، وإن لم يكن لنا مجال لذكر أقوالهم حذراً من التطويل، فراجع.

وأمّا ما أورده ثالثاً ففيه: أنّ هذا الاتّفاق يكشف عن وجود الارتكاز الذهني لأصحابنا؛ بحيث قد يتعدّى عن حدّ الاتّفاق، فأرسلوا مسألة التخيير- في فرض التساوي- إرسال المسلّمات؛ ولذا تسالموا على عدم وجوب الاحتياط أو الأخذ بأحوط القولين في المقام(4).


1- كما ادّعاه النراقي في مناهج الأحكام: 300/ السطر الأخير؛ والسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى 1: 61 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 137 ..
3- كما عرفت تصريح السيّد الحكيم بذلك ..
4- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 117 ..

ص: 207

مضافاً إلى أنّه ليس في الأخبار ما يستفاد منه التخيير في الأخذ بأحد المتساويين(1) كما ستعرف.

فإذا انضمّ إلى هذا التسالم استقرار السيرة المتشرّعية في عصر المعصومين عليهم السلام، يستكشف رضا المعصوم عليه السلام بما ارتكز في أذهان المتشرّعة بالبرهان.

الوجه الرابع: أخبار حجّية قول العلماء؛ فإنّها بإطلاقها شاملة لحال التعارض، كرواية أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه- يعني أبا الحسن الثالث عليه السلام- أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: «فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا، وكلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللَّه تعالى»(2).

ونحوها صدر مقبولة عمر بن حنظلة(3)، ومشهورة أبي خديجة(4)، والتوقيع الشريف(5)، وخبر «تفسير العسكري»(6)؛ فإنّ إطلاقها شامل لحال التعارض أيضاً(7).


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 117 ..
2- رجال الكشي 1: 15/ 7؛ وسائل الشيعة 27: 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45 ..
3- الكافي 1: 67/ 10؛ وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1 ..
4- تهذيب الأحكام 6: 303/ 846؛ وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6 ..
5- كمال الدين: 484/ 4؛ الغيبة: 176؛ وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9 ..
6- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 299؛ الاحتجاج 2: 511؛ وسائل الشيعة 27: 131، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20 ..
7- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 113 و 114 ..

ص: 208

وفيه: أنّ شمول إطلاق هذه الأدلّة لحال التعارض ممنوع؛ إذ:

أوّلًا: أنّ الظاهر من الرواية الإرجاع إلى الأمر الارتكازي، والشاهد على ذلك:

أ نّه لم يذكر فيها «الفقاهة»؛ حيث إنّها كانت معلومة، فأشار الإمام إلى صفات اخر موجبة للوثوق والاطمئنان بهم.

وثانياً: لو سلّم ذلك فلا إطلاق لها لحال التعارض، بل هذا القول يشبه قول القائل: «المريض لابدّ أن يرجع إلى الطبيب ويشرب الدواء» ومن المعلوم عدم الإطلاق لهذا القول.

وثالثاً: أنّ الرواية ضعيفة السند؛ لعدم ثبوت وثاقة غير الكشّي من رواتها، وكذا لم يوثّق إسحاق بن يعقوب الراوي للتوقيع الشريف(1).

الوجه الخامس: الأخبار العلاجية التي تدلّ على التخيير والسعة؛ كقوله عليه السلام: «يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّى يلقاه»(2) فإنّ الاختلاف بين الرجلين كان في الفتوى؛ حيث إنّ التخالف لا يتحقّق إلّامع الجزم بمضمون الرواية، وهو مساوق للفتوى، ويشهد له: تعبير السائل بأ نّه «يأمرنا أحدهما وينهانا الآخر» وهو محمول على الفتوى.

وكذلك الأمر في أخبار التخيير في الحديثين المختلفين بإلغاء الخصوصية؛ فإنّ اختلاف الفتوى يرجع إلى اختلاف الرواية(3).

وفيه أوّلًا: أنّ التمسّك بالموثّقة ممنوع؛ إذ معنى قوله عليه السلام: «يرجئه حتّى يلقى من


1- كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 467- 468 ..
2- الكافي 1: 53/ 7؛ وسائل الشيعة 27: 108، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 5 ..
3- درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 714 و 715 ..

ص: 209

كما يجوز له التبعيض في المسائل بأخذ بعضها من أحدهما وبعضها من الآخر (1).

يخبره» أنّ عليه أن يؤخّره ولا يعمل بواحد منهما، فقوله بعد ذلك: «فهو في سعة» يعني أنّه في سعة بالنسبة إلى نفس الواقعة، لا أنّه في سعة في الأخذ بأيّهما شاء، فله العمل على طبق الاصول، فتكون الرواية على خلاف المطلوب أدلّ.

وثانياً: أنّ شمول أخبار التخيير بين الحديثين المختلفين للمقام بإلغاء الخصوصية ممنوع عرفاً؛ ضرورة تحقّق الفرق الواضح بين اختلاف الأخبار واختلاف الآراء الاجتهادية، مع أنّ لازمه إعمال مرجّحات باب التعارض فيهما، وهو كما ترى(1).

هذا كلّه مع عدم توفّر رواية دالّة على التخيير جامعة لشرائط الحجّية(2).

والحاصل: أنّ العمدة في مستند التخيير بين المتساويين: هو تسالمهم على التخيير في الأخذ بفتوى أحدهما، وعدم وجوب الاحتياط أو الأخذ بأحوط القولين، فلابدّ من الأخذ بأحدهما والقول بحجّية التخييرية.

التبعيض في التقليد

1- وأمّا الكلام في الفرع الثاني: فالتبعيض في تقليد المجتهدين المتساويين يكون على صور:

أ التبعيض في التقليد بالنسبة إلى المسائل المختلفة والأبواب المتعدّدة، مع عدم العلم بالاختلاف في الفتوى أو مع العلم بالاتّفاق فيها؛ بأن قلّد أحدهما في الصلاة والآخر في الحجّ، أو أحدهما في العبادات والآخر في المعاملات.


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 116 ..
2- التعادل والترجيح، الإمام الخميني قدس سره: 119- 126 ..

ص: 210

وفي هذه الصورة لا إشكال في جواز التبعيض في التقليد؛ لشمول أدلّة حجّية الفتوى لكلّ منهما، من دون مانع من التضادّ أو التناقض.

ب- نفس الصورة مع العلم باختلافهما في الفتوى.

وهنا بناءً على القول بالتخيير وحجّية كلّ منهما- كما عليه الماتن المعظّم- فيجوز أيضاً التبعيض، هذا.

اللهمّ إلّاأن يقال(1): إنّ دليل الحجّية- في صورة الاختلاف في الفتوى- إنّما هو الإجماع، والقدر المتيقّن منه هو التخيير بالنسبة إلى جميع المسائل، وأمّا التبعيض فلم يحرز الإجماع عليه.

ومحاولة بعض الأعيان في شرحه على «التحرير»(2) في ذبّ الإشكال- بأنّ دليل التخيير ليس منحصراً بالإجماع، بل السيرة أيضاً قائمة عليه- غير ناجحة؛ لأنّ السيرة كالإجماع دليل لبّي لا إطلاق ولا عموم لها، فيقتصر على القدر المتيقّن؛ وهو التخيير في التقليد بالنسبة إلى جميع الأحكام، دون التبعيض فيه، فليتأمّل.

ج التبعيض في التقليد بحسب الأجزاء والشرائط لعمل واحد مركّب.

ففي صورة العلم بالاتّفاق في الفتوى فمقتضى القاعدة جوازه فيها أيضاً؛ لأنّ العمل المأتي به كذلك صحيح عند كلّ من المجتهدين، فلا بأس في الاجتزاء بالتسبيحات مرّة واحدة استناداً إلى فتوى أحدهما مع كون الآخر أيضاً يفتي بذلك، كما لا بأس في إتيان الصلاة من دون سورة استناداً إلى فتوى الآخر مع كون صاحبه أيضاً يفتي بعدم جزئيّتها لها، فالصلاة مع التسبيحات مرّة واحدة ومع ترك السورة صحيحة عند كليهما.


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 61 و 101 ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 137 ..

ص: 211

وأمّا في صورة عدم العلم بالاختلاف والاتّفاق بينهما: فأيضاً يجوز التبعيض لحجّية فتوى كلّ منهما، فيجوز الاستناد في أعماله إلى أيّهما شاء من دون مانع وهو العلم بالاختلاف.

د نفى الصورة السابقة مع العلم بالاختلاف في الفتوى؛ بأن قلّد أحدهما في الاكتفاء بالتسبيحات مرّة واحدة مع أنّ الآخر يفتي بوجوبها ثلاثاً، وقلّد في عدم جزئية السورة أحدهما فلم يأتِ بها في الصلاة مع كون الآخر يقول بجزئيّتها، فصلّى صلاة فاقدة للسورة مع الاكتفاء بالتسبيحات مرّة واحدة.

وقد حاول بعض السادة الأجلّاء توجيه الحكم بعدم جواز التبعيض فيها؛ لبطلان هذه الصلاة عند كلّ منهما: أمّا عند أحدهما فلترك الجزء، وأمّا عند الآخر فلعدم الإتيان بالتسبيحات ثلاث مرّات، وللحكم بصحّة هذه الصلاة لابدّ للمكلّف العامّي من الاستناد إلى فتوى أحدهما، والمفروض أنّ كليهما يراها فاسدة؛ لأنّ صحّة الأجزاء الارتباطية ارتباطية، فمع فقدان بعض الأجزاء بمقتضى فتوى أحدهما، أو بعضها الآخر عند الآخر، لا محالة يحكم بالفساد(1).

ويرد عليه: أنّ الملاك في الصحّة إنّما هو الاستناد إلى الحجّة ولاشكّ أنّ المكلّف استند في الصلاة بلا سورة إلى حجّة، وفي ترك التسبيحات ثلاثاً إلى حجّة اخرى.

نعم، الإشكال إنّما هو من ناحية عدم الحجّة؛ إذ الدليل في الصورة هو الإجماع، والقدر المتيقّن منه هو التخيير في جميع المسائل دون التبعيض(2).

والظاهر من السيّد الماتن قدس سره عدم الجواز؛ حيث اقتصر في الجواز على ذكر المسائل، مع التصريح بأخذ بعضها من أحدهما وبعضها من آخر.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 257- 258 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 61 و 101 ..

ص: 212

وجوب الاحتياط في زمان الفحص

(مسألة 9): يجب على العامّي في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم، أن يعمل بالاحتياط (1). ويكفي في الفرض الثاني الاحتياط في فتوى الذين يحتمل أعلميتهم؛ بأن يأخذ بأحوط أقوالهم (2).

وجوب الاحتياط في زمان الفحص

1- بناءً على ما تقدّم في مستند المقدّمة، فالعامّي في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم لابدّ له من الاحتياط؛ لأنّ طريق الاجتهاد منسدّ عليه حسب الفرض لأنّه عامّي، وطريق التقليد أيضاً لم يصل إليه بعد، فلابدّ له من الاحتياط؛ للعلم الإجمالي- المنجّز عليه- بوجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدّسة، لا يمكن له الخروج عن عهدتها إلّابالعمل بما هو مقتضى الاحتياط في كلّ حادثة يبتلي بها، وعليه أن يتعلّم موارد الاحتياط في تلك الحوادث، وكلّ ذلك يستقلّ به العقل الفطري وإن كان عامّياً، بلا شبهة.

2- المراد من «الفرض الثاني»: ما إذا فحص عن المجتهد ووصل إلى جمع من المجتهدين الجامعين للشرائط وفتاويهم، غير أنّه يحتمل أنّ أحدهم هو الأعلم من بينهم، فيفحص عن الأعلم بمقتضى وجوب تقليد الأعلم ولو احتياطاً وجوبياً؛ كما

ص: 213

هو مختار الماتن قدس سره على ما تقدّم في المسألة الخامسة.

ففي هذا الفرض يعلم أنّ وظيفته هي العمل- تقليداً- بفتوى أحد المجتهدين الذين وصل إليهم في المرحلة الاولى من فحصه عن المجتهدين، وبهذا ينحلّ علمه الإجمالي الأوّل في المرحلة الاولى من الفحص، ويتبدّل إلى العلم الإجمالي بالعمل بفتوى أحد المجتهدين، ومقتضى هذا العلم كفاية الأخذ بأحوط أقوالهم، وبهذا الأخذ يخرج عن عهدة ما تنجّز عليه.

نعم، له الأخذ بالاحتياط المطلق أيضاً كما في الفرض الأوّل، وهو واضح.

بل في الفرض الأوّل أيضاً له الأخذ بأحوط الأقوال المحتملة، إذا علم بوجود من يجوز تقليده فيها، كما نبّه عليه بعض الأعاظم في تعليقته على «العروة»(1)، وذلك لعين ما قلناه من الانحلال في الفرض الثاني.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 320/ الهامش 1 ..

ص: 214

تقليد المفضول

(مسألة 10): يجوز تقليد المفضول في المسائل التي توافق فتواه فتوى الأفضل فيها (1)،

تقليد المفضول

1- وذلك لوجهين:

الأوّل: عدم ترتّب ثمرة عملية على تعيّن وجوب تقليد الأعلم إذا وافقت فتواه فتوى غير الأعلم(1)؛ بناءً على المسلك الصحيح من طريقية الأمارات والحجج؛ لأنّ الغرض من تعيّن تقليد الأعلم حجّةً وأمارةً هو الاحتراز- ولو نوعاً- عن عدم وصول المقلّد إلى ما ربّما يصل إليه الأعلم من الأحكام الشرعية ولم يصل إليه غير الأعلم، فإذا توافقت الفتويان يتأمّن الغرض ويحصل الاحتراز.

نعم ربّما اخذ قيد «الالتزام بفتوى المجتهد الذي يجب تقليده» أو «الاستناد إليه» أو «الأخذ منه» في اتّصاف التقليد بالحجّية، وبالتالي يقال: إنّ أدلّة وجوب تقليد الأعلم مفادها: وجوب الالتزام بخصوص فتاوى الأعلم أو الاستناد إليه أو الأخذ منه، دون غير الأعلم حتّى ولو وافقت فتواه فتوى الأعلم.


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 140 ..

ص: 215

بل فيما لا يعلم تخالفهما في الفتوى أيضاً (1).

ولكن كلّ هذه المباني غير صحيحة بالنظر إلى ما هو معنى التقليد أوّلًا، وأدلّة حجّيته ثانياً، وقد تقدّم ذلك في المباحث الماضية، فراجع.

الثاني: أنّ جواز تقليد المفضول ثابت على جميع المباني في معنى التقليد إذا علم توافق فتواه مع فتوى الأفضل؛ وذلك لأنّ أدلّة حجّية قول الأعلم تعييناً تقصر عن إثبات التعيين حتّى في صورة العلم بالتوافق؛ فإنّها بين إجماعٍ وسيرةٍ، وصورة التوافق خارجة عن متيقّنهما؛ وأخبارٍ- على تقدير تسليم دلالتها- تقصر عن إثبات تعيين الأعلم حتّى في صورة العلم بالتوافق.

بل الظاهر أنّ السيرة العقلائية الممضاة- وهي العمدة في حجّية التقليد- قائمة على حجّية قول غير الأعلم- كالأعلم- في هذه الصورة، كما أنّه هو المتيقّن من روايات الإرجاع إلى الأصحاب لأخذ معالم الدين، من دون ترجيح الأعلم منهم للإرجاع، هذا.

وأمّا الأصل العقلي- القائم على وجوب تقليد الأعلم في فرض عدم تمامية أدلّة الطرفين- فهو أيضاً بجميع تقاريره لا يدلّ على وجوب تقليد الأعلم في صورة التوافق؛ لأنّ المعيار في ذلك الأصل- كما تقدّم- هو معيار الاحتياط واليقين بالخروج عن عهدة التكاليف تنجيزاً أو تعذيراً، وفي فرض التوافق بين الفتويين لا يقتضي هذا المعيار تعيّن وجوب تقليد الأعلم كما هو واضح، هذا.

مع أنّ قيام الدليل الاجتهادي على عدم وجوب تعيّن تقليد الأعلم في هذه الصورة- كما تقدّم آنفاً- يمنع عن التمسّك بهذا الأصل أيضاً.

1- هذا مناسب مع ما تقدّم في مستند المسألة الخامسة، وهي الصورة الثالثة من

ص: 216

الصور المفصّلة هناك، وقد نقلنا دليل الماتن قدس سره أيضاً على مشروعية تقليد المفضول- وعدم وجوب تقليد الأعلم تعييناً- فيما لا يعلم مخالفته مع الأفضل في الفتوى، وقد قال الماتن قدس سره بهذا الصدد: «... لإمكان استفادة ذلك من الأخبار، بل لا تبعد دعوى السيرة عليه»(1).

نعم، الأصل العقلي على فرض عدم تمامية الدليل الاجتهادي، يقتضي- في صورة عدم العلم بالمخالفة- الاحتياط ورعاية جانب فتوى الأعلم، ولكنّه محكوم للدليل الاجتهادي.


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 110 ..

ص: 217

إن لم يكن للأعلم فتوى

اشارة

(مسألة 11): إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل، يجوز الرجوع في تلك المسألة إلى غيره؛ مع رعاية الأعلم فالأعلم على الأحوط (1).

إن لم يكن للأعلم فتوى

1- إنّ عدم وجود فتوى للأعلم يتصوّر بثلاثة شقوق:

الأوّل: لم تكن له فتوى لا بالحكم الواقعي ولا بالحكم الظاهري: كأن لا يفتي بوجوب شي ء ولا يفتي بوجوب الاحتياط تجاهد أيضاً. وبالنسبة إلى هذا المورد يكون الحكم لزوم الرجوع إلى غير الأعلم. ويعدّ هذا المورد من أبرز مصاديق هذه المسألة.

الثاني: لم تكن للأعلم فتوى بالحكم الواقعي، لكنّه يفتي بالاحتياط في المسألة:

بحيث يرى الأعلم أنّ غير الأعلم كان على خطأ في فتواه؛ لأنّه يرى أنّ الأدلّة الموجودة في المسألة بكلا طرفيها غير ناهضة على إثبات شي ء من الطرفين، أو يرى تساقط الأدلّة، فيرجع على هذا الأساس إلى أصل يكون مقتضاه الاحتياط في المسألة، فإيجاب الأعلم للاحتياط حينئذٍ يكون حاصلًا على أساس عدم صحّة ما تبنّاه غيره في ذهابه إلى طرف من الطرفين.

ص: 218

وفي مثل هذا المورد لا يجوز الرجوع إلى غيره، بل يتعيّن الرجوع إليه وإن كان قد أفتى بالحكم الظاهري لا الواقعي.

وهاهنا يمكن أن يستشكل فيه: بأنّ عدم تمامية الأدلّة لدى المستنبط- الأعلم- لا يوجب بطلان الحكم الذي لغير الأعلم عند الأعلم(1)، بل الثابت لديه هو بطلان الاستناد(2) إلى دليل من الدليلين القائمين على طرفي المسألة؛ وإلّا لو كان الثابت لديه بطلان حكم غير الأعلم لما كان للاحتياط مجال، وهذا يلزم احتمال صحّة رأي غير الأعلم، فإذن كيف يقال بأنّ الأعلم يخطّئ رأي غير الأعلم؟! ومعه فيجوز الرجوع إلى غير الأعلم في هذه الصورة أيضاً.

ويجاب عن هذا الإشكال: بأنّ عدم تمامية الأدلّة لدى الأعلم وإن كان لا يستلزم بطلان الحكم الذي أفتى به غير الأعلم، غير أنّه يستلزم بطلان إجزائه، والمكلّف إنّما يريد- من خلال التقليد- أن يكون عمله مجزئاً ومبرئاً للذمّة بالنسبة إلى ما هو عليه من التكاليف.

وتوضيحه: أنّ هناك مقامين بالنسبة إلى تلك الأدلّة الحاصلة في المسألة:

1- مقام الثبوت: وهنا يصحّ القول بأنّ أدلّة أحد الطرفين تكون صحيحة، وإنّ أدلّة الطرف الآخر غير صحيحة.

2- مقام الإثبات: وهنا لا ندري ما هو الطريق إلى الحكم الواقعي؟ هل هو الدليل في هذا الطرف، أو هو الدليل في ذاك الطرف؟ واحتمال أنّ هذا هو الطريق أو ذاك لا يكفي للاستناد إليه؛ فإنّه في مقام تحصيل الحجّة لا يصحّ الاستناد إلى كلّ من هذين الطرفين من الأدلّة، ومادام لم يكن العمل مستنداً إلى الحجّة فلا يكون


1- لأنّه لو استلزم بطلانه فلماذا أفتى بالاحتياط؟!.
2- وإنّما لا يمكن الاستناد إلى هذا أو ذاك للتعارض أو لغيره من المشاكل ... ..

ص: 219

حينذاك مجزئاً، فالأعلم انطلاقاً من هذا يفتي بالاحتياط طريقاً لتحصيل الواقع له.

وبعبارة اخرى: أنّ ما اعترف به المستشكل- من أنّ لازم عدم تمامية الأدلّة إنّما هو عدم صحّة الاستناد إليها- يكفي للقول بعدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم؛ حيث إنّ الإفتاء الحاصل من قبل غير الأعلم إنّما تمّ في نظر الأعلم على أساس الاستناد إلى غير الحجّة، وبالتالي فلايصحّ التقليد عنه؛ لأنّه يعني العمل غير المستند إلى الحجّة.

الثالث: ما إذا لم يفتِ الأعلم بالحكم الواقعي، غير أنّه أفتى بالحكم الظاهري وهو وجوب الاحتياط: ولكن على أساس عدم انتهاء الاستنباط لديه؛ بمعنى أنّ الأعلم يقوم بعملية الاستنباط ولكنّه لا يُنهيها.

والفرق بين هذا الشقّ وسابقه: أنّه في الشقّ السابق يستنبط استنباطاً تامّاً، وكانت نتيجته عدم تمامية الأدلّة القائمة على الطرفين لديه، بينما هو في هذا الشقّ يحاول الاستنباط ثمّ يتركه لسبب خاصّ(1)، ويعترف في نفس الوقت بأ نّه لم يتمّ استنباطه، فيحكم بوجوب الاحتياط حسب ما يراه في المسألة.

وطبعاً فإنّه في الشقّ السابق يكون لازم رأيه- بعدم تمامية الأدلّة لديه- هو اعتقاده بخطأ رأي غيره الذي قد تمّ على أساس تلك الأدلّة، بينما لا يكون لازم عدم تمامية استنباطه في هذا الشقّ أن يكون معتقداً بخطأ غيره في رأيه، بل لو سئل عمّا لدى غيره لأجاب باحتمال صحّة ما عند الغير.

ومن هنا نفهم أنّ حكم هذا الشقّ هو جواز الرجوع إلى الغير.

وقد تبيّن ممّا ذكر: أنّ ما قد قيل من أنّه يجوز الرجوع- في مطلق الاحتياطات الوجوبية للأعلم- إلى غير الأعلم في غير محلّه؛ فإنّه يجوز هذا الرجوع في


1- كأن يرى أنّ الاستنباط بحاجة إلى وقت طويل ..

ص: 220

خصوص هذا الشقّ ولا يجوز في سابقه.

ثمّ إنّ في الاحتياطات الوجوبية التي يجوز الرجوع فيها إلى غير الأعلم لابدّ من رعاية الأعلم فالأعلم؛ بمعنى أنّه لو وجد فقهاء لم يكونوا على حدّ سواء بل كان أحدهم أعلم من الباقين فلابدّ من الرجوع إليه، فإن لم تكن له فتوى في ذلك المورد فلابدّ من الرجوع إلى الأعلم من بعده ... وهكذا.

والدليل على ذلك: هو أنّ ما ذكر سابقاً- كوجوهٍ على تعيّن الرجوع إلى الأعلم- يأتي في هذا المقام أيضاً.

رأي السيّد الإمام قدس سره

هذا، ولكنّ السيّد الماتن قدس سره رأى أنّ هذه الرعاية(1) أمر احتياطي ولم يفتِ بها.

ولعلّ السرّ في ذلك: أنّ السيرة العقلائية- لو قبلنا قيامها على لزوم الرجوع إلى الأعلم- قابلة للاستناد إليها بالنسبة إلى الموارد العادية والأوّلية، أمّا مثل المقام- الذي نريد أن نرجع فيه إلى غير الأعلم بلحاظ عدم فتوى للأعلم- فإنّ إثبات لزوم الرجوع إلى الأعلم بعده بالسيرة يكون من سنخ الرجوع إلى الأدلّة اللبّية في الزائد على المتيقّن منها.

نعم، يحكم العقل بالاحتياط- في مثل المقام- على أساس قاعدة الشغل، فيقال بالاحتياط هنا.


1- رعاية الأعلم فالأعلم ... ..

ص: 221

فتوى من لا أهلية له

(مسألة 12): إذا قلّد من ليس له أهلية الفتوى ثمّ التفت وجب عليه العدول (1).

وكذا إذا قلّد غير الأعلم وجب العدول إلى الأعلم على الأحوط (2).

فتوى من لا أهلية له

1- فإنّ تقليد من ليس له أهلية الفتوى كلا تقليد، فيجب عليه الرجوع إلى من له الأهلية والشرائط لمرجعية التقليد.

والتعبير بالعدول في المتن بحسب ظاهر حاله سابقاً من تقليده الباطل، ومنه يظهر أنّ وجوب العدول هنا لا يبتني على ما تقدّم في مستند المسألة الرابعة، بل الواجب هنا واقعاً هو الرجوع الابتدائي إلى جامع الشرائط، كما أنّ حكم أعماله قبل الرجوع إلى جامع الشرائط حكم أعمال من عمل بلا تقليد، وسيأتي ذلك في المسألة العشرين إن شاء اللَّه تعالى.

2- هذا بعينه ما تقدّم في الفقرة الثانية من المسألة الرابعة، وتقدّم مستنده أيضاً فراجع. ويمكن توجيه الاحتياط فيه عند الماتن: بأ نّه قدس سره إذا أوجب تقليد الأعلم ابتداءً بشكل احتياطي في قوله: «على الأحوط» في المسألة الخامسة، فالعدول إليه من غير الأعلم أيضاً يكون احتياطياً طبعاً.

ص: 222

وكذا إذا قلّد الأعلم ثمّ صار غيره أعلم منه؛ على الأحوط (1) في المسائل التي يعلم تفصيلًا مخالفتهما فيها في الفرضين (2).

وبما أنّ العدول من المساوي إلى المساوي عنده جائز فتوى- ولا احتياط وجوبياً فيه- ففي مسألة العدول من غير الأعلم إلى الأعلم لا يكون عنده احتياط إلّا في وجوب الرجوع إلى الأعلم، ولا يكون عنده- من ناحية أصل العدول- جانب احتياطي في تركه يجب رعايته.

وممّا ذكرنا يظهر وجه النظر فيما قاله بعض الأعلام مستشكلًا على الماتن: من أنّ اللازم عليه في مسألة العدول من غير الأعلم إلى الأعلم رعاية جانب احتياطين:

احتياط من جانب العدول وهو يقتضي ترك العدول، واحتياط من جانب الرجوع إلى الأعلم وهو يقتضي العدول إليه(1).

والظاهر أنّ هذا الإشكال منه- مدّ ظلّه- مبتنٍ على متن سابق من «تحرير الوسيلة» احتاط فيه الماتن في المسألة الرابعة منه بعدم جواز العدول من الحيّ إلى الحيّ المساوي.

وأمّا بناءً على ما اختاره في المتن الأخير- من فتواه بجواز العدول- فلا يكون في نظره قدس سره احتياط وجوبي إلّامن ناحية تعيين الرجوع إلى الأعلم، فراجع مستند المسألة الرابعة وتأمّل.

1- فإنّ هذا الفرض مصداق آخر للعدول من غير الأعلم إلى الأعلم، وصيرورته أعلم- بعد أن لم يكن كذلك- لا يؤثّر في مستند المسألة كما لا يخفى.

2- هذا القيد مبتنٍ على ما تقدّم منه قدس سره في مستند المسألة الخامسة، فقد نقلنا


1- راجع: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 144 ..

ص: 223

عنه قدس سره أنّ الصورة التي يجب الاحتياط فيها بالرجوع إلى الأعلم هي الصورة التي يعلم مخالفة فتوى الأعلم مع فتوى غير الأعلم تفصيلًا، وقد ذكر أنّه يلحق بها الصورة التي يعلم المخالفة إجمالًا بعلم إجمالي منجّز عليه في أطراف مبتلى بها للمكلّف. وأمّا في غير هذه الصورة وما يلحق بها فالسيرة العقلائية- القائمة على رجوع الجاهل إلى العالم- محكّمة.

إذا عرفت هذا فبما أنّ الفرضين المشار إليهما في المتن من مصاديق وجوب الرجوع إلى الأعلم احتياطاً في الحقيقة، فيجب رعاية قيده من العلم تفصيلًا بالمخالفة، وينبغي الالتفات إلى ما الحق به أيضاً وهو العلم الإجمالي المنجّز بالمخالفة.

ص: 224

تقليد الميّت

اشارة

(مسألة 13): لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً (1).

تقليد الميّت

1- إنّ مسألة تقليد الميّت- جوازاً، ومنعاً مطلقاً، أو في الجملة- ممّا اهتمّ بها الأصحاب، وقد وقع بينهم بل وبين غيرهم من العامّة فيها خلاف عظيم؛ ولذلك قد اختصّت بالدراسة والبحث بشكل مستقلّ ومستوعب؛ حتّى عملوا فيها كتباً ورسائل عديدة، فبعضٌ حاول إثبات الحكم بالمنع والحرمة مطلقاً، وآخر إثبات الجواز مطلقاً، وثالث إثبات التفصيل.

وقد مرّت على المسألة مراحل، أهمّها ما يلي:

الاولى: ظهورها كفكرة في الأذهان: إنّ فكرة جواز التقليد للميّت قد حصلت لأوّل مرّة في القرن الثاني؛ حيث طرح أهل السنّة مسألة جواز تقليد الصحابة، وقال بعضهم: بل هم الأولى بالتقليد، وقد استبطنت هذه المسألة فكرة تقليد الميّت كما هو معلوم، وقد ترسّخت هذه الفكرة بموت أئمّة المذاهب السنّية؛ حيث أخذوا في تقليدهم.

الثانية: طرحها على طاولة البحث: وقد استمرّ تقليد الميّت كسيرة عملية لدى

ص: 225

أهل السنّة طوال قرون، حتّى حلّ القرن الرابع وما حصل فيه من سدّهم لباب الاجتهاد، فانتقلت مسألة تقليد الميّت من حالة كونها فكرة غير مدروسة إلى ساحة البحث والدراسة؛ نتيجةً للحاجة التي كان يتطلّبها عهد التقليد، وأوّل من طرحها في هذا القرن- حسب ما يبدو من التتبّع- القصّار المالكي، فقد عقد باباً تحت عنوان «القول في تقليد من مات من العلماء»(1).

الثالثة: مبادرة علماء الإمامية إلى دراسة المسألة: طرحت المسألة لأوّل مرّة في بحوث الإمامية في القرن السابع، وأوّل من طرحها- كما يبدو- هو العلّامة رحمه الله، ثمّ تبعه من جاء بعده، وكلّما مرّ الزمن تطوّر وتعمّق البحث حولها أكثر فأكثر؛ حتّى احتلّت المسألة مكانة مرموقة في البحث لديهم.

ولعلّ أقدم من خاض في الكلام عنها، وأثار البحث حولها، وأكّد على الحرمة مطلقاً، هو المحقّق الكركي(2) من أعاظم فقهاء أهل البيت عليهم السلام، ثمّ الشهيد الثاني(3) وابنه صاحب «المعالم»(4)، وقد تبعا المحقّق الثاني في القول بالمنع مطلقاً(5).

ثمّ إنّ مسألة تقليد الميّت: تارةً تلاحظ بالقياس إلى العامّي حسب ما يستقلّ به عقله، واخرى تلاحظ بالنسبة إلى المجتهد من حيث ما يستفيده من الأدلّة الاجتهادية لفظية ولبّية، أو من الأدلّة الفقاهتية شرعية وعقلية.


1- المقدّمة في الاصول، القصّار: 34 ..
2- حياة المحقّق الكركي و آثاره 7: 253- 254 ..
3- مسالك الأفهام 3: 109؛ منية المريد: 167؛ رسائل الشهيد الثاني 1: 44 ..
4- معالم الدين: 247 ..
5- مجمع الفائدة والبرهان 7: 549 ..

ص: 226

حكم المسألة بالقياس إلى العامّي

لاشكّ أنّ أصل جواز التقليد أمر عقلي ارتكازي، لا يحتاج إلى الاجتهاد بمعنى الاستنباط من الأدلّة، ولا إلى التقليد، وإلّا لزم سدّ باب العلم به على العامّي؛ فإنّه لا يقدر على الاستنباط من الأدلّة، ولا على تحصيل الإجماع، ولا مقدّمات دليل الانسداد، وتقليده في أصل التقليد دوري أو تسلسلي. فالعامّي- ببركة ارتكازه- غنيّ عن سؤال العالم والرجوع إليه في أصل التقليد، بل بطبعه وجبلّته وارتكازه يصير إلى التقليد- ويرجع إلى العالم ويأخذ بقوله.

فإذا وضح لديه في خصوصية مساواة الحيّ مع الميّت فلا يحتاج إلى سؤال العالم والرجوع إليه، بل- بعد ثبوت عدم التفاوت بينهما عنده- لا معنى لمنع العالم إيّاه عنه، فيكون في أصل التقليد والبقاء عليه مستغنياً عن الرجوع إلى العالم.

وأمّا إذا التفت إلى المسألة وتحيّر وحصل له الشكّ من هذه الجهة بأ نّه هل يجوز له تقليد الميّت- ابتداءً أو استمراراً- أم لا، فلا محالة يحتاج حينئذٍ للرجوع إلى الحيّ؛ إذ المفروض أنّ عقله وارتكازه لم يُجب بشي ء، والاستدلال بالرجوع إلى الأدلّة غير ممكن، والرجوع إلى الميّت دوري، فيتعيّن الرجوع إلى الحيّ، فما أفتى به الحيّ الجامع للشرائط هو حكمه ووظيفته.

حكم المسألة بالقياس إلى المجتهد

فعند ذلك يبحث: هل للعالم- الذي رجع إليه العامّي- أصل وقاعدة أو دليل على الحكم بجواز الرجوع إلى الميّت أو البقاء عليه، أم لابدّ من العدول عنه(1)؟


1- يلاحظ: مطارح الأنظار 2: 218؛ كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 447- 448؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 208 وغير ذلك من كلمات الأعلام ..

ص: 227

فمصبّ البحث ومحلّ الكلام في المسألة جوازاً ومنعاً إنّما هو هذه الصورة.

ثمّ إنّ الأقوال في اعتبار الحياة فيمن يجوز تقليده وعدم اعتبارها متعدّدة:

الأوّل: ما هو المشهور بين الأصحاب وهو اعتبارها حدوثاً وبقاءً، فلا يجوز تقليد الميّت لا ابتداءً ولا استدامةً.

الثاني: عدم اعتبارها مطلقاً، فيجوز تقليده ابتداءً واستدامةً، وهذا منسوب إلى العامّة، ولكن لا يخفى أنّهم أيضاً مختلفون في ذلك: فبعض على الجواز، وبعض على العدم، وجماعة على الوجوب، والقول بوجوب تقليد أئمّتهم الأربعة وحصر المذاهب الفقهية فيها ليس رأياً فقهياً علمياً، بل هو أمر سياسي أقدم عليه بعض الخلفاء وأيّدهم في ذلك بعض العلماء، وللكلام في هذا المقام مجال واسع يُحال إلى محلّه(1).

وأمّا نسبته إلى الأخباريّين من علمائنا ففي غير محلّه؛ فإنّهم منكرون لأصل الاجتهاد والتقليد بالمعنى المصطلح، والبقاء على الأموات عندهم ليس من باب تقليدهم، بل من باب الرواية، ومن المعلوم عدم اعتبار الحياة في الراوي لأجل الرجوع إلى روايته.

فخلافهم ليس رأياً وقولًا في المسألة، بل هو خارج عنها يؤول إلى إنكار أصل التقليد بالمعنى المصطلح حتّى بالقياس إلى الأحياء، وأمّا الجائز عندهم- ولو بالنسبة إلى الأموات- فهو الرجوع إلى الراوي في الرواية أو نقلها بالمعنى، وهو شي ء يغاير الإفتاء والتقليد(2).


1- يلاحظ في ذلك ما أفاده المتتبّع الخبير الشيخ الطهراني في« رسالته المعمولة في تأريخ حصر الاجتهاد» و« هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار» للشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي وغيرهما من الرسائل والكتب المشتملة على البحث عن الموضوع ..
2- راجع: مطارح الأنظار 2: 431- 432 ..

ص: 228

نعم، القول بجواز تقليد الميّت مطلقاً ينسب إلى المحقّق القمّي(1)، ويستفاد من ظاهر بعض الأجلّاء من أهل العصر(2).

الثالث: التفصيل بين الابتداء به والاستدامة عليه، وهو قول حادث من بعض من عاصر السيّد الصدر شارح «الوافية»، وعليه جماعة من متأخّري المتأخّرين من محقّقي الأصحاب منهم السيّد الإمام أعلى اللَّه مقامه.

وأمّا التفصيل بين وجود الحيّ وعدمه- كما حكي عن العلّامة والأردبيلي(3)- فالظاهر أنّه ليس تفصيلًا في المسألة؛ إذ موضوعها ومحلّها وجود الحيّ، وأمّا فرض عدمه فمسألة اخرى تغاير مسألتنا موضوعاً ومحمولًا، قد تعرّض لها الأصحاب برأسها.

كما أنّ كلام «الوافية»(4)- في التفصيل بين من يفتي بمنطوقات الأدلّة، ومن يعمل بالأفراد الخفية للعمومات واللوازم الغير الظاهرة للملزومات- ليس تفصيلًا في المسألة، بل هو تفصيل بين من يجوز الرجوع إليه ولو كان ميّتاً، ومن لا يجوز ولو كان حيّاً، وهو أمر لا يرتبط بالتقليد المصطلح؛ ولذلك قال في التقريرات: «فالأولى عدّ الفاضل التوني في عداد نظرائه من الأخباريّين»(5).

فالمراد ممّن يجوز الرجوع إليه في كلام صاحب «الوافية» وتمييزه عمّن


1- قوانين الاصول 2: 274 ..
2- تهذيب الاصول، السيّد عبد الأعلى السبزواري 2: 135؛ الفقه، الاجتهاد والتقليد، السيّد محمّد الشيرازي: 57 ..
3- مجمع الفائدة والبرهان 7: 547- 549 ..
4- الوافية: 307 ..
5- مطارح الأنظار 2: 432 ..

ص: 229

لايجوز: هو الرجوع إليه بما هو راوٍ وناقل لما هو المأثور عن المعصومين عليهم السلام، لا بما هو مفتٍ ومرجع للتقليد الاصطلاحي.

فتحصّل: أنّ المسألة عند الدقّة تكون ثلاثية الأقوال لا أزيد.

وكيف كان، فالمهمّ إنّما هو بيان ما استدلّ به لكلّ من الأقوال من الوجوه، فنقول:

الوجوه المستدلّ بها لعدم جواز تقليد الميّت مطلقاً

قد استدلّ على قول المشهور بوجوه، قد أنهاها بعض إلى ستّة وبعض إلى سبعة، ولكنّا نتعرّض للأهمّ منها:

1- الأصل: إنّ الدليل العمدة بل الوحيد لمّا كان هو الأصل، فلابدّ من بيانه وتقريره مع ما اورد عليه، فنقول:

إنّ المستفاد من الأدلّة القطعية كتاباً وسنّةً وإجماعاً وعقلًا هو عدم حجّية غير العلم وحرمة العمل بما وراءه، إلّاما خرج بدليل معتبر قطعي؛ كحجّية فتوى المجتهد الحيّ الجامع لسائر شرائط الإفتاء بالإجماع القطعي والسيرة العقلائية الممضاة عند الشارع، بل وبالجبلّة والفطرة القطعية.

وما لم يقم على اعتباره دليل معتبر، وشكّ في حجّيته واعتباره، فمقتضى الأصل عدم الحجّية؛ ومن هنا اشتهر أنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها.

وهذا الأصل في الظنون- ومنها الفتوى- اتّفاقي بين الأصحاب، ولم يوجد له بينهم نكير؛ ولذا أرسلوه إرسال المسلّمات، وجعلوا الشكّ في الحجّية مساوقاً للقطع بعدمها(1).


1- يلاحظ: مطارح الأنظار 2: 436- 532- 641؛ وكذلك فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 125؛ الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 150 ..

ص: 230

نعم، قد يستظهر من «الوافية» و «القوانين» المخالفة في هذا الأصل؛ حيث إنّ الأوّل منع من عموم النهي عن التقليد واتّباع الظنّ وخصّصه باصول الدين(1)، والثاني قال: بأنّ الأصل في أمثال زماننا- حيث كان باب العلم منسدّاً- هو حجّية الظنّ وجواز العمل به، إلّاما خرج بالدليل كالظنّ القياسي، والاستدلال بالآيات على حرمة العمل بالظنّ مستلزم للدور لأنّه استدلال بالظنّ(2).

وقد اجيب عن الأوّل في التقريرات: بأ نّه ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، كيف؟! وذلك من الامور الضرورية، وقد دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة؛ فإنّ القول بغير علم تقوُّل وافتراء على اللَّه، وهو ظلمٌ قبيح ومن أظلم ممّن افترى على اللَّه.

وعن الثاني:- مضافاً إلى فساد المبنى من القول بالانسداد وحجّية مطلق الظنون- أنّ دليل ذلك الأصل لا ينحصر في الكتاب في آية منه، بل ذلك يستفاد من الكتاب علماً بواسطة تعاضد الظواهر، بل الأخبار في ذلك متواترة؛ حتّى أنّ بعض المتأخّرين قد تصدّى لجمعها، وقيل: إنّها خمسمئة رواية، بل ادّعي عليها الضرورة الدينية كالضرورة العقلية، وعن البهبهاني: ضرورة صبيان الإمامية ونسائهم على عدم جواز العمل بالظنّ(3).

فإذا ثبت عدم حجّية غير العلم وحرمة العمل بما وراءه إلّاما خرج بالدليل، فيمكن أن يقرّر الأصل في محلّ النزاع بأن يقال: إنّ رأي المجتهد لا يفيد إلّاالظنّ، واتّباعه اتّباع للظنّ، وهو لا يغني من الحقّ شيئاً إلّاما ثبتت حجّيته بالدليل القطعي، والمقدار الخارج بالقطع من رأي المجتهد بأدلّة التقليد هو رأيه حيّاً، فيكون تقليد


1- الوافية: 304 ..
2- قوانين الاصول 1: 440 ..
3- يلاحظ: مطارح الأنظار 2: 437 و 495 و 527 ..

ص: 231

الميّت مشكوك الجواز والحجّية، فيبقى تحت الأصل، فعلى القائد بالجواز: إمّا من هدم الأصل، وإمّا من إثبات المخرج(1).

ويمكن أن يقرّر هذا الأصل بتقرير ثانٍ فيقال: إنّ حجّية فتوى المجتهد وجواز العمل برأيه، طريق جعلي يحتاج إلى الدليل؛ وإلّا لما جاز اتّباعه، ومع دوران الأمر بين العمل برأي الحيّ والأخذ برأي الميّت، فالعمل بالأوّل متسالم عليه عند الكلّ، وأمّا الثاني فمشكوك، والأصل العقلي عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التعيين؛ إذ الحيّ رأيه حجّة على كلّ حال، وأمّا الميّت فمشكوك حجّيته، والأصل عند الشكّ في الحجّية هو عدمها.

وهذا التقرير مستفاد من التقريرات(2) و «المستمسك»(3) والاجتهاد والتقليد للمحقّق الأصفهاني(4).

وقريب منه تقرير ثالث: وهو أنّ اشتغال الذمّة يقيناً يقتضي عقلًا فراغها اليقيني، ولا يحصل إلّابالأخذ بقول الحيّ، فيتعيّن تقليده(5).

2- الإجماع: ففي التقريرات: «ظهور الإجماع المحقَّق من الطائفة المحقّة، ويمكن الاطّلاع عليه واستعلامه من كلمات أصحابنا الإمامية في المسألة؛ فإنّ نقل الاتّفاق والإجماع فوق حدّ الاستفاضة».

ثمّ ذكر كلام المحقّق الكركي في «شرح الألفية»(6)، والشهيد الثاني في


1- لاحظ: الفوائد الحائرية: 503؛ كفاية الاصول: 545 ..
2- مطارح الأنظار 2: 567 ..
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 22- 23 ..
4- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 20 ..
5- مطارح الأنظار 2: 569 ..
6- حياة المحقّق الكركي وآثاره 7: 253- 254 ..

ص: 232

«المسالك»(1) ورسالته المعمولة في المسألة(2)، وصاحب «المعالم»(3)، والمحقّق الداماد(4)، والوحيد البهبهاني(5)، في دعوى الإجماع وضرورة المذهب على عدم جواز تقليد الميّت، وأشار إلى ما يوهم الخلاف من مخالفة الأخباريّين وكلام «الذكرى»(6) والمحقّق القمّي(7)، وأجاب عنه.

ثمّ قال: «إنّ هذه الإجماعات يستكشف منها- على وجهٍ لا ينبغي الارتياب فيه- أنّ عند المجمعين دليلًا معتبراً يدلّ على ذلك، وذلك يكفي في المقام؛ إذ لا يلزم أن يكون الدليل معلوماً على وجه التفصيل، بل يكفي وجوده ولو إجمالًا»(8).

وبالجملة: فالظاهر من كلمات الشيخ هو تلقّيه الإجماع بالقبول، ووافقه في ذلك جماعة منهم السيّد الحكيم(9)، والسيّد الخوئي في الجملة كما في «مصباح الاصول»(10)، والمحقّق اللنكراني(11) ... وغيرهم من الأجلّة.

ثمّ إنّه لايقدح بتحقّق الإجماع في المسألة ما نسب إلى الأخباريّين والمحقّق القمّي من القول بجواز تقليد الميّت؛ حيث إنّه ليس مخالفة في المسألة؛ إذ الكلام


1- مسالك الأفهام 3: 109 ..
2- رسائل الشهيد الثاني 1: 44 ..
3- معالم الدين: 248 ..
4- شارع النجاة، ضمن« اثني عشر رسالة»: 10 ..
5- الرسائل الفقهية: 7 و 16 ..
6- ذكرى الشيعة 1: 44 ..
7- قوانين الاصول 1: 440 ..
8- مطارح الأنظار 2: 437- 441؛ مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 58 ..
9- مستمسك العروة الوثقى 1: 22- 23 ..
10- مصباح الاصول 3: 461 ..
11- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 150 و 155 ..

ص: 233

إنّما هو بناءً على الانفتاح وشرعية التقليد، والمحقّق القمّي(1) قائل بالانسداد، والأخباري قائل بعدم جواز التقليد، فمخالفتهم- مع هذه المباني المعلومة- غير قادحة في الإجماع، ولو أنّهم قالوا بالانفتاح وشرعية التقليد وسلكوا مسلكنا فلا علم لنا بأ نّهم كانوا يجوّزون تقليد الميّت ابتداءً حتّى يكون قولًا مخالفاً للإجماع، كما في «التنقيح»(2)، هذا.

ولكن يمكن المناقشة في الاستدلال بالإجماع في المقام؛ لأنّ الإجماع هنا ليس من الإجماع المعتبر، ووجهه: أنّ الإجماع المعتبر لا يخلو حاله عن أحد امور ثلاثة:

أ: ما إذا كان الإجماع حاكياً عن سيرة المتشرّعة ومن قبيلها، توضيحه: أنّ العلماء قد يعبّرون عن السيرة بلفظة الإجماع، وموارد ذلك كثيرة جدّاً. والإجماع في المقام ليس من هذا السنخ؛ وذلك لأنّ المعتبر من سيرة المتشرّعة ما إذا كانت السيرة موجودة في زمن الأئمّة عليهم السلام، ومن المعلوم أنّ قضية التقليد والأخذ عن الميّت لم تكن من المسائل المطروحة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وحتّى لو تنزّلنا- واحتملنا كون المسألة مطروحة لدى أصحاب الأئمّة عليهم السلام- فالإشكال أ نّه لم يكن طرحها لديهم بالغاً إلى مرتبة أوجبت تشكّل سيرة على وفقها، فإنّ الذي يحتاج إليه في تحقّق السيرة ليس صرف كون المسألة مطروحة لدى المتشرّعين، بل اللازم في تحقّقها كون المسألة مبتلى بها عندهم، وكونها كذلك أوّل الكلام.

إن قيل: إنّ الحجّة من المتشرّعة ليست هي سيرتهم فحسب، بل تكون ارتكازاتهم أيضاً حجّة، ومن المعلوم أنّ الارتكاز ليس من اللازم أن يكون مرتبطاً


1- قوانين الاصول 1: 440 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 76 ..

ص: 234

بمقام العمل ومتحقّقاً في ساحته؛ حتّى يقال: إنّ شرط الابتلاء بالمسألة لابدّ من توفّره.

نقول في الجواب: ليس أمامنا طريق إلى إثبات وجود مثل هذا الارتكاز لأصحاب الأئمّة عليهم السلام، إلّااعتبار ما هو قائم في الأذهان في هذه الأزمان من ارتكازٍ على عدم جواز تقليد الميّت، ومن المعلوم أنّ هذا يواجه إشكالين من جهتين:

الاولى: المنع من وجود هذا الارتكاز لنا، ولا سيما إنّ هناك ارتكازاً عقلائياً على أنّ العالم الميّت يكون قوله طريقاً إلى الواقع بمثل العالم الحيّ، ومعلوم أنّ تحقّق ارتكاز متشرّعي على خلاف مقتضى الارتكاز العقلائي لايتمّ إلّافيما إذا توفّرت وتحقّقت أسباب وعوامل قوية صرفت المتشرّعين عن الارتكاز العقلائي.

الثانية: أنّ إثبات كون جذور هذا الارتكاز- على فرض التسليم بوجوده- ممتدّةً إلى زمن الأئمّة عليهم السلام، ومأخوذةً من ارتكاز قائم آنذاك، محلّ منع جدّاً؛ فإنّ لأحد أن يقول: لعلّ هذا الارتكاز الفعلي قد نجم وحصل على أساس فتاوى الفقهاء طوال قرون على عدم الجواز.

ب: ما إذا كان الإجماع حاصلًا على أساس أصل متلقّى عن المعصوم عليه السلام، والتحقيق: أنّ الإجماع المدّعى في المقام ليس من هذا السنخ أيضاً؛ حيث إنّ الاصول المتلقّاة المجمع عليها هي التي انتقلت من جيل إلى جيل حتّى وصلت إلى قدمائنا- مثل الصدوق والمفيد والطوسي- فكتبوها في كتبهم ودوّنوها في مؤلّفاتهم، مع أنّ هذه المسألة لم تطرح في كتب هؤلاء كما هو معلوم.

إن قيل: إنّه ليس من الصحيح أن نتصوّر أنّه ما من أصل متلقّى إلّاوقد دوّن في الكتب القدمائية، بل من الممكن أن تكون هناك اصول متلقّاة لم يتسنّ للقدماء

ص: 235

المجال لإبرازها، بل برزت بعد فترات زمنية حصلت بعدهم، فإذا شاهدنا إجماعاً قامت قرينة على كون المجمع عليه فيه من تلك الاصول أخذنا به، وهذه القرينة متوفّرة في المقام؛ وهي أنّ تقليد الميّت كان من الأفكار المطروحة لدى أهل السنّة في القرن الثاني، وبما أنّ أهل البيت عليهم السلام وتلاميذهم كانوا ينظرون إلى الأفكار السنّية بعين الحسّاسية، فنظنّ أنّ فكرة تقليد الميّت لم تبق في إطار المدرسة السنّية، بل قد انتقلت إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام وطرحت لديهم، وأنّ الأئمّة عليهم السلام اتّخذوا إزاءها موقفاً سلبياً، فتلقّى الأصحاب هذا الموقف السلبي كأصل، وانتقل هذا الأصل من جيل إلى جيل؛ حتّى انتهى الدور إلى العلّامة ومن جاء بعده فأبرزوه في قالب إجماعهم عليه.

يقال في الجواب: ليس من الصحيح تصوّر أنّه ما من فكرة لدى أهل السنّة إلّا وقد انتقلت إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام، بل كانت تنتقل إليها تلك الأفكار التي كان أهل السنّة يدرسونها ويبحثون عنها بشكل بارز فحسب، ومن المعلوم أنّ فكرة جواز تقليد الميّت لو كانت موجودة لدى أهل السنّة فهي لم تكن من تلك الأفكار المطروحة على طاولة البحث؛ وإلّا لوجد منها أثر في كتبهم، فالمسألة كانت مطروحة على مستوىً ضعيف لديهم؛ بمعنى أنّهم بعد موت مالك أو أبي حنيفة كانوا يقلّدونهم.

نعم، في ذلك العصر كانت مسألة تقليد الصحابة مطروحة لدى أهل السنّة، غير أنّ بحثهم لم يكن بحثاً مركّزاً على جنبة تقليد الميّت، ولم يكونوا يبحثون مسألة تقليد الصحابة من هذه الزاوية، فإذا كانت هذه الجنبة مغفولًا عنها في أبحاثهم فعدم تعرّف أصحاب الأئمّة عليهم السلام عليها وعدم سرايتها إليهم كان أمراً طبيعياً.

ج: ما إذا كان الإجماع حاكياً عن أمر ضروري، والإجماع في المقام ليس من

ص: 236

هذا السنخ أيضاً كما هو واضح؛ لأنّ جواز تقليد الميّت وعدمه من المسائل التي أصبحت عند العلماء محلّاً للنظر والبحث، فليست ضرورية.

فتحصّل: أنّ الإجماع في المقام غير معتبر، بل يبدو أنّه من تلك الإجماعات التي لها منشأ اجتهادي، والمنشأ الاجتهادي في المقام استظهار عدم الجواز من أدلّة التقليد.

3- ظهور الأدلّة اللفظية للتقليد: عندما نرجع إلى أدلّة التقليد نجد أنّها ظاهرة في الدلالة على اعتبار الحياة في المفتي، فآية النفر: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ(1) يوجد لها مثل هذا الظهور؛ حيث إنّ في الآية كلمتين «الإنذار» و «الرجوع» وهما ظاهرتان في اعتبار الحياة في المفتي؛ فإنّ المنذر هو شخص من القوم، فالإنذار يتحقّق من قبل الحيّ فقط، كما أنّ الرجوع يتصوّر تحقّقه بالإضافة إلى الحيّ فقط؛ فإنّه الذي يرجع، لا الميّت.

وكذلك آية الذكر: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ...(2) فإنّ كلمتي «السؤال» و «أهل الذكر» ظاهرتان في كون الشارع ناظراً إلى إيجاب تقليد الحيّ؛ حيث إنّ السؤال لا يتحقّق بالإضافة إلى الميّت، وعنوان «أهل الذكر» ظاهر فيمن هو متّصف بالذكر فعلًا، لا الميّت الذي كان له الذكر سابقاً وقبل موته.

وشبيه ما ذكرنا- من الظهور للآيتين- ثابت لحديث: «أمّا من كان من الفقهاء ...»؛ فإنّه ظاهر أيضاً في الدلالة على اعتبار الحياة؛ حيث إنّ المقصود هو من يتّصف بالفقاهة فعلًا.

إن قلت: إنّ هذه الأدلّة وإن كانت ناظرة إلى تقليد الحيّ بحسب ما لها من الظهور،


1- التوبة( 9): 122 ..
2- النحل( 16): 43 ..

ص: 237

غير أنّه- حسب تنقيح المناط- يمكن تسرية حكم التقليد من الحيّ إلى الميّت؛ حيث إنّ المناط في الرجوع إلى الحيّ هو التعرّف على أحكام الشرع، وهذا حاصل أيضاً بالرجوع إلى فتاوى الفقيه الميّت.

يقال في الجواب: إنّه لا تصحّ المبادرة إلى عملية تنقيح المناط في المقام؛ حيث يحتمل أن تكون للخصوصيات الموجودة في الرجوع إلى الأحياء دخالة في الحكم، ومعه لا مجال لتنقيح المناط، والخصوصيات الموجودة في الأحياء ليست خصوصيات وهمية، بل هي واقعية يتعقّل أخذها؛ مثل خصوصية رعاية الأحياء لمسائل الزمن في فتاويهم، ولا سيّما أنّه قد يمرّ على فتاوى الفقيه الميّت زمن طويل؛ بحيث لا تتناسب فتاواه مع الأوضاع المستجدّة، أو مثل خصوصية كون الأحياء قادرين على طرح المسائل بلغة العصر ... وما إلى ذلك من الخصوصيات، هذا.

ولكنّ الاستدلال بظهور هذه الأدلّة اللفظية على المدّعى يتمّ فيما إذا قلنا بورودها في مقام تأسيس حكم شرعي، أمّا إذا قلنا بأنّ الظاهر منها كونها في مقام تنفيذ الأمر الارتكازي العقلائي، فلا مجال للتمسّك بها في المقام، بل لابدّ من الرجوع حينئذٍ إلى ذلك الارتكاز وما يقتضيه في المقام، وقد اختار السيّد الماتن أنّها في مقام التنفيذ لا التأسيس؛ ولذا اعتبر أنّ التمسّك بها غير صحيح(1).

الوجوه المستدلّ بها لجواز تقليد الميّت مطلقاً

وهي بأسرها- عند الدقّة- محاولةٌ للجواب عن الأصل المتقدّم، وإثباتٌ للمخرج عنه:


1- راجع: الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 127 و 134 ..

ص: 238

1- الاستصحاب، وقد قرّر بوجوه:

أ استصحاب الحكم الوضعي وهو الحجّية؛ بأن يقال: إنّ رأي المجتهد كان حجّة حين حياته، فإذا شكّ في بقائه عليها بعد وفاته يستصحب بقاؤه عليها.

ب استصحاب الحكم التكليفي الواقعي؛ بأن يقال: إنّ الحكم الفلاني- كوجوب الجمعة- كان ثابتاً في الواقع حسب فتوى ذلك المجتهد حين حياته، فيشكّ في بقائه بعد موته، فيستصحب.

ج استصحاب الحكم الظاهري، فيقال: إنّ صلاة الجمعة كانت واجبة ظاهراً بمقتضى رأي المجتهد حين حياته، فإذا شكّ في بقاء حكمها بسبب موته يستصحب ويحكم ببقائه.

إلى غير ذلك من التقارير المتقاربة التي يؤول بعضها إلى بعض، وما ذكر أحسن التقارير وأجمعها. وكيف كان فحاصل الوجوه: أنّ المفتي كان رأيه حجّة قبل موته، فإذا شكّ في بقائها بعد الموت يستصحب، وأنّ العامّي إذا كان بالغاً عاقلًا جاز له تقليد المجتهد في زمان حياته، فإذا شكّ في جوازه بعد موته يستصحب.

ومع جريان الاستصحاب- لتمامية أركانه من اليقين السابق، والشكّ اللاحق، واتّحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة- تنقطع أصالة عدم الحجّية، ولا يبقى لها مع الاستصحاب موضوع؛ إذ إنّ موضوعها هو الشكّ فيها، ومع الاستصحاب تحرز الحجّية تعبّداً، فلا يبقى شكّ حتّى يجري الاستصحاب ثمّ يحكم بعدمها؛ فإنّ الاستصحاب أصل سببي وموضوعي، ومعه لا مجال للأصل المسبّبي والحكمي.

وقد نوقش في التمسّك بالاستصحاب من وجوه:

المناقشة الاولى: أنّ الحجّية المستصحبة تتصوّر على ثلاثة أوجه كلّها ممنوعة:

أ أن تكون بنحو القضية الخارجية.

ص: 239

وفيه: أنّه لا يقين بالحجّية وجواز الرجوع للموجودين بعد حياته، فلا يجري الاستصحاب لعدم اليقين بالحدوث، بل وعدم الشكّ في البقاء؛ فإنّه فرع اليقين بالحدوث. نعم، للاستصحاب مجال للموجودين في زمانه؛ لتحقّق اليقين بالحجّية وجواز الرجوع في زمان حياته والشكّ بعد موته، فيجري الاستصحاب كما سيأتي بيانه في التفصيل بين البقاء والابتداء.

ب أن تكون بنحو القضية الحقيقية ولكن يكون الاستصحاب بنحو التنجيز؛ بأن يقال: الحجّية وجواز الرجوع بالنسبة إلى رأي المجتهد ثابتة على نحو القضايا الحقيقية التنجيزية لكلّ مكلّف عامّي سواء كان محقّق الوجود أو مقدّره.

وفيه أيضاً: أنّ غير المُدرك لزمان حياة المجتهد لا يقين له بثبوت الحجّية وجواز الرجوع بالقياس إليه؛ حتّى يستصحبها عند الشكّ بعد حياته. نعم، للاستصحاب وجه في حقّ المُدرك لزمان حياته، سوف يأتي بيانه عند ذكر القول بالتفصيل بين الابتدائي والاستدامي.

ج أن تكون بنحو القضية الحقيقية ولكنّ الاستصحاب بنحو التعليق؛ بأن يقال:

إنّ الحجّية لرأي المجتهد وجواز الرجوع إليه انشأت لكلّ مكلّف عامّي، وحينئذٍ فهي متيقّنة في زمان حياته، فإذا شكّ في بقائها بعد موته فتستصحب.

ولكن فيه: أنّ الاستصحاب التعليقي محلّ منع؛ لأنّ المتيقّن إنّما هو إنشاء الحجّية وجعل جواز الرجوع إلى المجتهد بالقياس إلى المُدرك لحياته، وأمّا بالنسبة إلى المعدومين حال حياته الموجودين بعده فمشكوك الجعل والثبوت، لا أنّه مشكوك البقاء والزوال، فبالنسبة إلى الموجودين بعد حياته يشكّ في أصل الحجّية، فيكون مجرى أصالة عدم الحجّية لا استصحابها كما لايخفى.

فتحصل: أنّه لم يثبت المخرِج عن أصالة عدم الحجّية بالنسبة إلى رأي الميّت.

ص: 240

ولكنّ السيّد الإمام قدس سره- بعد أن اختار من الصور الثلاث صورة كون المسألة على نهج القضايا الحقيقية وإجراء الاستصحاب على نحو التعليق- حاول أن يجيب عن الإشكال حسبما أسّسه في الاصول من التحقيق في حقيقة التشريع في محيط الشريعة، وأ نّه ليس إلّاكحقيقة التقنين في محيط العقلاء، فذكر أنّ الإشكال نشأ عن عدم معرفة حقيقة الجعل في الأحكام الشرعية على نحو القضايا الحقيقية.

وحاصل ما أفاده: هو أنّ جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية ليس معناه أنّ لكلّ فرد من أفراد الكلّي الذي جعل له الحكم جعلًا وحكماً مستقلّاً- حتّى يلزم تعدّد الجعولات والأحكام بتعدّد المصاديق والأفراد، ويؤولَ الشكّ في جعل الحكم لبعض الأفراد إلى أصل الجعل والثبوت، ولا يجري فيه الاستصحاب- بل معناه: جعل واحد لعنوان واحد كلّي ذي أفراد كثيرة من الأفراد الموجودة محقّقاً ومقدّراً، كما في جعل وجوب الحجّ بنحو القضية الحقيقية لكلّ من صدق عليه أنّه مستطيع، من غير فرق بين المستطيع الموجود بالفعل أو الموجود المقدّر في أمد الزمان، فإذا شكّ في بقاء وجوب الحجّ المجعول لكلّ مستطيع- لأجل عروض عارض ومزيل كالنسخ مثلًا- فيتمسّك بالاستصحاب للحكم ببقائه.

كذلك فيما نحن فيه؛ إذ جعلت الحجّية لرأي المجتهد وجواز الرجوع إليه لكلّ مكلّف عامّي بنحو القضية الحقيقية، فإذا شكّ في بقاء هذا المتيقّن- لأجل وقوع الموت- فلا بأس بإجراء استصحاب بقائه، من غير فرق في ذلك بين الموجودين في زمان حياته والموجودين بعد مماته(1).

ومن هنا فإنّ هذا الإيراد غير وارد على الاستصحاب عند السيّد الماتن قدس سره، فإذا


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 120؛ تهذيب الاصول 3: 660- 661؛ تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 161 ..

ص: 241

تمّ الاستصحاب فنتيجته هي جواز تقليد الميّت مطلقاً، ولكنّه قدس سره قد أعرض عن هذا في آخر البحث، وجعله مجرّد فرض لا واقع له، وسيأتي نقل كلامه.

المناقشة الثانية: أنّ التمسّك بالاستصحاب في المقام غير تامّ لعدم بقاء الموضوع عرفاً، فإنّ الموضوع في القضية المتيقّنة هو رأي المجتهد وظنّه، وهو متقوّم بالحياة عرفاً، وبعد الموت لا يتّصف المجتهد- بنظر العرف- بالرأي والظنّ، ولا أقلّ من الشكّ في اتّصافه بذلك، وهو كافٍ لعدم جريان الاستصحاب؛ لأنّ إحراز الموضوع شرط في جريانه، وهذا هو الإشكال المعروف على الاستصحاب الذي اعتمد عليه في التقريرات و «الكفاية» وغيرهما(1).

وقد اجيب عن هذه المناقشة بوجوه:

منها: ما أفاده السيّد الإمام قدس سره تبعاً لما في تقريرات شيخه الاستاذ، وحاصله: أنّ المناط في العمل برأي كلّ خبير في كلّ صنعة- ومنه المجتهد في الأحكام الشرعية- إنّما هو أمارية رأيه وطريقيّته إلى ما هو حكمه الفعلي من الواقعي والظاهري، سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء الممضى أو الأدلّة اللفظية، ففتوى المجتهد على نحو الجزم بوجوب الجمعة- مثلًا- بوجوده الحدوثي، طريق إلى الحكم الفعلي أبداً إلّا أن يتجدّد رأيه أو يتردّد فيه، فإذا شككنا في جواز العمل به وفي طريقيّته- من حيث احتمال دخالة الحياة- فيستصحب ذلك بعد الممات أيضاً(2).

وحاصل هذه المحاولة دفعاً للإشكال: هو صحّة التمسّك بالاستصحاب، وتكون نتيجتها جواز تقليد الميّت مطلقاً كما لا يخفى.

وأمّا ما أورده بعض الأجلّاء من شرّاح «التحرير» على هذا الجواب: بأ نّا لو


1- مطارح الأنظار 2: 462 و 586؛ كفاية الاصول: 545 ..
2- كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 449؛ الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 121 ..

ص: 242

استندنا في المقام إلى عمل العقلاء في الرجوع إلى الخبير في كلّ فنّ، واستكشفنا أنّ المناط في عملهم هو أمارية رأيه إلى الواقع بوجوده الحدوثي، فلا يحصل الشكّ في جواز العمل برأيه بعد موته حتّى نحتاج إلى الاستصحاب؛ إذ الرأي بوجوده الحدوثي معلوم ومتيقّن لا شكّ فيه، واحتمال ردع الشارع منفيّ بعدم الوصول، من غير حاجة إلى استصحاب عدم الردع(1).

فهو شي ء تعرّض له شيخ الإمام واستاذه العلّامة، وأجاب عنه بقوله: «لا نحتاج إلى الاستصحاب من جهة هذا الشكّ، بل لمّا رأينا دخل بعض القيود في موضوع هذا الأمر الارتكازي، ممّا لا يكون للارتكاز إليه سبيل، وثبت ذلك بالتعبّد الشرعي- كقيد الذكورة والعدالة ...- فنحتمل أن يكون قيد الحياة أيضاً كذلك، فالحاجة إلى الاستصحاب إنّما هي لدفع احتمال هذا القيد»(2).

وفيه:- مع أنّ ما أفاده قدس سره يقتضي حجّية رأي الميّت وجواز العمل به مطلقاً، وهو لا يقول به- أنّ الشكّ في دخل قيد الحياة في حجّية الرأي وجواز العمل به، شكٌّ في تحقّق الموضوع وأصل ثبوت الحجّية، فلا مجال بعدُ لاستصحاب الحجّية، وليس شكّاً في تحقّق المزيل والرافع بعد اليقين بالحدوث والثبوت؛ حتّى يستصحب البقاء.

وهذا شي ء صرّح به العلّامة الحائري في آخر كلامه؛ حيث قال: «إنّ الحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو لدفع احتمال هذا القيد في الحجّية»(3) ومن المعلوم أنّ الشكّ في ذلك يؤول إلى الشكّ في الحدوث لا في البقاء، فيكون مجرى لأصالة عدم


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 161 ..
2- كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 450 ..
3- راجع: كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 450 ..

ص: 243

الحجّية، لا مورداً لأصل الاستصحاب. وأمّا استصحاب عدم دخل القيد في الموضوع فأصل مثبت لا يقولون به.

فتحصّل: أنّ أصل الموضوع والحدوث غير متيقّن، فلا وجه للاستصحاب.

وأمّا ما أفاده السيّد الحكيم في الجواب عن الأصل وجريان الاستصحاب، فهو أيضاً لايرجع إلى معنى محصّل، بل اعتراف بعدم اليقين بالحدوث، ومعه لامجال للاستصحاب؛ فإنّه قدس سره- بعد المحاولات العديدة في تصحيح الاستصحاب وردّ الأصل- قال: «وبالجملة: احتمال حجّية الرأي بحدوثه إلى الأبد لا رافع له، فلا مانع من الاستصحاب»(1).

وأكّد ذلك بقوله في موضعين آخرين من كلامه بأنّ: «شأن الاستصحاب هو إلغاء احتمال دخل خصوصية الزمان السابق في الحكم»(2).

ونحن نقول: نعم، احتمال حجّية الرأي بحدوثه إلى الأبد لا رافع له فلا مانع من الاستصحاب، ولكن احتمال الحجّية، ثمّ استصحاب بقاء ذلك المحتمل لا يجدي فيما هو المقصود شيئاً.

وكذا نسلّم أنّ شأن الاستصحاب هو إلغاء الاحتمال، ولكنّ المحتمل: تارةً يكون ممّا له دخل في الموضوع والثبوت، واخرى يكون له دخل في الإزالة والرفع، والمجرى للاستصحاب إنّما هو الثاني دون الأوّل. واستصحاب عدم قيدية شي ء في الموضوع بنحو العدم الأزلي- مع ما فيه من عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية- أصل مثبت.

ففي المقام يجري أصالة عدم الحجّية بلا معارض، وهذا مخّ ما أفاده الشيخ


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 17 ..
2- نفس المصدر ..

ص: 244

العلّامة والإمام المؤسّس الشيخ الأعظم الأنصاري من عدم جريان الأصل وكون أصالة عدم الحجّية محكّمة بلا معارض(1).

المناقشة الثالثة: أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب هو أن يكون المستصحب حكماً شرعياً، أو موضوعاً ذا حكم شرعي؛ حتّى يصحّ النهي عن النقض ولا يلزم اللغوية، والمستصحب في المقام لا يكون شيئاً منهما؛ فإنّ المستصحب في المقام لا يخلو عن امور:

1- الحجّية العقلائية، وهي ليست حكماً شرعياً ولا موضوع حكم شرعي كما لايخفى، فلا معنى لاستصحابها؛ إذ لا يعقل التعبّد بالقياس إلى الأحكام العقلية.

2- الحجّية الشرعية وجواز العمل برأي المجتهد شرعاً، والمفروض عدم ثبوتها؛ إذ لا يوجد دليل شرعي يدلّ على جعل الشارع الحجّية التأسيسية وجواز العمل بالنسبة إلى الأمارات- ومنها فتوى المجتهد- تعبّداً، بل الأدلّة في المقام كلّها إمضائية وإرشادية إلى الارتكاز العقلائي كما تقدّم.

3- الأحكام الواقعية، وفيها أيضاً لا مجال للاستصحاب؛ فإنّها إمّا غير ثابتة فلا يقين بثبوتها فلا معنى لجريان الاستصحاب فيها، وإمّا متحقّقة فلا شكّ في بقائها؛ لأنّ الشكّ في بقائها: إمّا يكون للشكّ في النسخ، أو فقدان شرط، أو حدوث مانع، والمفروض عدم الشكّ من هذه الجهات، ففي صورةٍ لا يقين بالثبوت، وفي صورةٍ لا شكّ في البقاء، وأيّاً كان فلا معنى للاستصحاب.

4- الأحكام الظاهرية، بناءً على كون حجّية الأمارات- ومنها الفتوى- مستتبعةً لجعل الحكم المماثل.

وفيها: أنّ الظاهر من أدلّة اعتبار الأمارات- ومنها الفتوى- كما تقدّم هو إمضاء


1- مطارح الأنظار 2: 462 و 466- 467 و 508 و 586..

ص: 245

المرتكز عند العقلاء؛ من أمارية رأي كلّ خبير في كلّ فن إلى الواقع من دون استتباعه لجعل الحكم المماثل.

فتحصّل: أنّ المستصحب في المقام ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً ذا حكم شرعي؛ إذ ليس للشارع في باب الأمارات- ومنها الفتوى- جعل وتأسيس، بل كلّ ما ورد من الأدلّة فهي إرشاد إلى ما هو المرتكز عند العقلاء وإمضاء له، فحجّية رأي كلّ ذي صنعة خبير فيها- كالمجتهد بالنسبة إلى الأحكام الشرعية- أمرٌ عقلائي، وأثرها التنجيز والتعذير، فلا مجال لجريان الاستصحاب في المقام.

وهذا هو الإشكال الذي عدّه السيّد الإمام قويّاً وأصعب حلّاً من سائر الإشكالات(1)، ولكنّه قدس سره قد أجاب عنه بما يأتي تحت عنوان «استصحاب التخيير»، فانتظر.

2- بناء العقلاء

وبيانه: أنّ الدليل العمدة على جواز أصل التقليد: هو بناء العقلاء واستقرار سيرتهم العملية على رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ صنعة وحرفة، وهم لا يفرّقون في ذلك بين العالم الحيّ والميّت؛ وذلك لأنّ مناط بناء العقلاء في الرجوع إلى العالم إنّما هو أمارية رأيه وطريقيّته إلى الواقع، من غير تفاوت في ذلك بين أن يكون العالم حيّاً أو ميّتاً، وحيث لم يثبت الردع عنها في الشريعة فتكون حجّة ممضاة.

وفيه: أنّ التمسّك ببناء العقلاء على ذلك محلّ إشكال صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى: فلأنّ رجوع العقلاء إلى الخبراء من الأموات، مع وجود الأحياء والتمكّن من الرجوع إليهم- في صورة الاختلاف بينهم، وكون المورد من الامور الهامّة التي لها شأن كبير وخطر خطير- غيرُ معلوم، لو لم ندّعِ أنّه معلوم عدمه،


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 126؛ تهذيب الاصول 3: 198 ..

ص: 246

وأنت من العقلاء فارجع إلى نفسك، فهل ترى أنّك لو مرضت بمرض ذا أهمّية، ووجدت عندك طبيباً حيّاً يمكنك الرجوع إليه، مع كونه مخالفاً للميّت في تشخيص الداء وكيفية علاجه وبيان الدواء، فهل ترى نفسك مخيّرة بين الرجوع إليه أو إلى الميّت، فماذا ترى وتحكم أيّها العاقل اللبيب؟!

نعم، فيما إذا اتّفقا في الرأي، أو لم يحصل الشكّ والترديد بالنسبة إلى استدامة التقليد عن الميّت، أو حصل العلم من قول الميّت وكتابه، أو جزم بأعلمية الميّت ...

أو غير ذلك من الوجوه، فإنّهم يرجعون إلى الميّت، ولكن كلّ هذا خارج عن محلّ النزاع.

وبالجملة: لو لم نقل ببنائهم على عدم الرجوع إلى الميّت مع التمكّن من الحيّ المخالف له في الرأي والفتوى، فلا أقلّ من الشكّ في تحقّق البناء، ومعه لا وجه للتمسّك به.

والشاهد على ذلك: أنّ العوامّ بعد العلم بموت من كانوا يقلّدونه، يتحيّرون ويتساءلون عمّن يصلح للمرجعية والتقليد؛ حتّى يراجعوه: إمّا في أصل التقليد أو في مسألة البناء وعدمه، فلو كان البناء كما ادّعي لما كان لهذا التحيّر والتساؤل وجه.

وأمّا الاعتداد بأقوال الأموات من العلماء والفقهاء، والاهتمام بضبط آرائهم ومصنّفاتهم والمراجعة إلى كتبهم، فليس شي ء من ذلك دليلًا على تحقّق البناء من العقلاء على العمل بآراء الأموات وأقوالهم؛ حيث لا يعدّ ذلك تقليداً، بل كلّ ذلك- من ناحية العلماء والأخصّائيّين- إنّما هو لأجل الفحص والتفتيش عن الآراء والأقوال وما أفاده الأقدمون والسابقون من المطالب العلمية حول المسائل؛ ليحصل لهم الاطمئنان بما فهموه من الأدلّة ولا يقعوا في مخالفة الإجماع أو الشهرة، ولا يتسرّعوا إلى رأي شاذّ متفرّد.

ص: 247

وهذا بنفسه من مبادئ الاجتهاد ومقدّماته؛ ولذا ذكر كثير من الأصحاب- في عداد ما يعتبر في الاجتهاد- المراجعة إلى كتب الأصحاب ومعرفة آراء المتقدّمين، فإذا حقّقوا وتوصّلوا إلى نفس ما حقّقه عالم خبير حاذق بصير سابق. فهذا ليس تقليداً له، بل هو تحقيق وافق تحقيق من كان قبله، ولذا قد يخطّئه بعد المراجعة إلى آرائه وقد يؤيّده ويصوّبه به، فأين هذا من التقليد(1)؟!

فتحصّل: أنّه لم يثبت بناء في المقام، فلم تتحقّق صغرى القضية.

وأمّا الكبرى: ففيها: أنّ من المتسالم عليه أنّ البناء- على تقدير تحقّقه- بما هو ليس من الحجج الشرعية، بل لابدّ من إحراز إمضاء الشارع ورضاه بالنسبة إليه ولو بعدم الردع، ومع إمكان دعوى ظهور أدلّة حجّية الفتوى في خصوص الأحياء- لا الأعمّ منهم ومن الأموات- تكون هذه الأدلّة رادعة، فإحراز الإمضاء والرضاء من الشارع بالنسبة إلى هذا البناء مشكل جدّاً، هذا.

وللسيّد الإمام الماتن قدس سره بيان في الإشكال على الاستدلال بالسيرة العقلائية في المقام صغروياً وكبروياً، حاصله: أنّ الذي كان موجوداً في زمن التشريع لم يكن إلّا ارتكازاً للعقلاء فحسب؛ أي كانوا يرون أنّه لا فرق في الكلام الذي للميّت والذي للحيّ من حيث الطريقية، وهذا الارتكاز لم يبرز إلى ساحة العمل ولم يجر على أساسه سيرة وبناء عملي؛ وذلك لعدم تدوين الكتب الفقهية آنذاك، فإنّ الذي كان موجوداً في ذلك الزمن كان لايعدو عن تدوين كتب حديثية، أمّا تدوين الكتب الفتوائية فكان في زمن الغيبة وبيد أمثال الشيخ الصدوق والمفيد وأضرابهما، وعليه فلم يكن هناك مجال لكي تتحقّق ظاهرة التقليد عن الميّت.

وإذا ضممنا إلى هذه النكتة نكتة اخرى: وهي أنّ الذي ذكر- من أنّ سكوت


1- يلاحظ مطارح الأنظار 2: 487- 492 ..

ص: 248

الشارع بمعنى عدم الردع من قبله- يكون فيما إذا كانت في زمن الشارع سيرة لا ارتكاز فإنّ سكوت الشارع إزاء السيرة يمثّل عدم الردع منه، أمّا الارتكاز الذي لم ينتقل بعدُ إلى ساحة العمل فليس سكوت الشارع إزاءه بمعنى عدم الردع عنه، ومن المعلوم أنّ الحكم لابدّ وأن يستند إلى الشارع، وهذا الاستناد يتحقّق إمّا بلفظ صادر منه يدلّ على ذلك الحكم، أو بتحقّق عدم الردع من جانبه، وتقليد الميّت لم يتحقّق بالنسبة إليه هذان الطريقان(1).

3- إطلاق الآيات والروايات

إنّ آيتي التفقّه والسؤال، والروايات الواردة في إرجاع الأئمّة عليهم السلام إلى أشخاص معيّنين- كزكريّا بن آدم ويونس بن عبد الرحمان- تدلّ على وجوب التحذّر عقيب إنذار الفقيه، والعمل بعد سؤال أهل الذكر، وأخذ معالم الدين بالرجوع إلى هؤلاء الأجلّاء، من غير تقييد بحياة الفقيه المنذر والمسؤول والمرجع، ومن غير إشارة إلى اعتبار الحياة في الأخذ بقولهم.

فلو كانت الحياة معتبرة في حجّية رأيهم وجواز الأخذ منهم لُاشير إلى اعتبارها في هذه النصوص، وحيث لم يثبت اعتبارها فيؤخذ بهذه الإطلاقات، ويكون المكلّف العامّي مخيّراً بين الرجوع إلى الحيّ أو الميّت.

وقد اورد على التمسّك بهذه الإطلاقات بوجوه:

منها: أنّها لو سلّم دلالتها على حجّية الفتوى لكانت إرشادية إلى ما يقتضيه الارتكاز والسيرة العقلائية، فلابدّ من ملاحظة مدى دلالة السيرة، وقد حقّقنا أنّه لا إطلاق لها فلا تشمل المقام، ولا داعي للتكرار.

ومنها: لو سلّم دلالتها وكذا كونها تأسيسية، فلا تدلّ على أزيد من أصل جواز


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 132- 133 ..

ص: 249

التقليد والرجوع إلى الفقيه، فهي مسوقة لبيان أصل تشريع التقليد من دون تعرّض لبيان الخصوصيات، فلا وجه للتمسّك بها بالنسبة إلى هذه الخصوصيات.

ومنها: أنّه لو رفعنا اليد عن الإشكالين المتقدّمين، فيمكن أن يقال مع ذلك: إنّ العناوين المأخوذة في لسان هذه النصوص ك «المنذر» و «أهل الذكر» و «الفقيه» و «العالم» ظاهرة في الفعلية، فالمراد: المتّصف بها فعلًا، لا الأعمّ من المتّصف بها بالفعل ومن المنقضي عنه هذه العناوين؛ فإنّ الميّت لا يتّصف فعلًا بوصف الإنذار والفقاهة والعلم، وإن كان متّصفاً بها حين حياته.

وبالجملة: فالأمر بالسؤال والرجوع والأخذ ظاهرٌ في الإرجاع إلى الحيّ وسؤاله والأخذ منه؛ إذ لا معنى للإرجاع إلى الميّت وسؤاله والأخذ منه، وذلك لأنّ الإرجاع إنّما هو إلى هؤلاء الأشخاص بأنفسهم، والمفروض أنّهم ميّتون، لا إلى أقوالهم وآرائهم كي يقاس بالرواية؛ من حيث عدم سقوطها عن الاعتبار بموت الراوي.

القول بالتفصيل

قد عرفت أنّ القول بالتفصيل في تقليد الميّت بين الابتدائي والاستدامي قولٌ مستحدث بين المتأخّرين كما عن السيّد الصدر في شرح «الوافية»، وعليه استقرّ رأي جماعة من أساطين العصر ومن قاربهم، بعد أن كانت المسألة ذات قولين لدى المتقدّمين(1).

ثمّ إنّ القائلين بجواز البقاء على تقليد الميّت قد أخذوا بالتفصيل في المسألة من وجوه، فلابدّ من بيان صورها، ثمّ بيان حكم كلّ واحدة منها على حدة.

فنقول: في مسألة البقاء ثلاث صور:


1- مطارح الأنظار 2: 505 و 620 ..

ص: 250

1- العلم بموافقة الحيّ الذي يجوز تقليده للميّت الذي كان يقلّده، في الفتوى.

2- العلم بتخالفهما فيها.

3- عدم العلم بذلك.

أمّا الصورة الاولى: فلا ثمرة للبحث والنزاع فيها؛ إذ بناءً على مسلك الطريقية في حجّية الأمارات- التي منها الفتوى- فالعمل المأتيّ به الموافق للرأيين اللذين أحدهما حجّة له لا محالة يكون صحيحاً، سواء كان رأي الميّت حجّة أم لا، وسواء كانا متفاضلين في العلم أم متساويين، وقد تقدّم تفصيل الكلام في ذلك في مستند المسألة العاشرة، فراجع.

وأمّا الصورة الثانية: ففيها تارةً يكون أحدهما أعلم، وحينئذٍ فمقتضى بناء العقلاء هو الأخذ بقوله سواء كان حيّاً أم ميّتاً، فأمر التقليد بقاءً واستئنافاً يدور مدار الأعلمية حيث ما دارت.

هذا بناءً على كون الدليل على تعيّن الأخذ بقول الأعلم بناء العقلاء؛ فإنّهم لا يفرّقون في الرجوع إلى الأعلم بين الحيّ والميّت، ومعه لا مجال للرجوع إلى الاصول العملية مطلقاً، وأمّا بناءً على كون الدليل هو حكم العقل بتعيين الأعلم- من باب الاحتياط عند دوران الأمر بينه وبين التخيير في الحجّية- فهو وإن كان يقتضي تعيين الأعلم، ولكن مقتضى الاستصحاب حجّية رأي الميّت وإن كان مفضولًا، ومعه لا مجال للاحتياط؛ إذ الأصل الشرعي وارد على العقلي(1).

واخرى: لا يكون بينهما تفاضل، ولكن تكون فتوى أحدهما أوفق بالاحتياط؛ بأن كانت فتوى أحدهما وجوب شي ء وفتوى الآخر إباحته، وهنا قيل: يعمل بالأوفق بالاحتياط منهما؛ حيث إنّه موجب للقطع بأداء التكليف وبراءة الذمّة


1- يلاحظ: مستمسك العروة الوثقى 1: 20 ..

ص: 251

ومؤمّن من العقاب سواء كان ذلك هو فتوى الميّت أو الحيّ(1).

وفيه: أنّه خروج عن محلّ النزاع؛ فإنّ العمل بأحوط الرأيين كما لا يكون اجتهاداً لا يعدّ تقليداً، بل هو احتياط يغايرهما، والفرق بينها واضح، هذا.

مع أنّ العمل بالاحتياط ليس بواجب إلّافي موارد ليس المقام منها، فلابدّ من البحث عن حكم مسألة البقاء حتّى يثبت ما هو الحجّة من رأي الميّت أو الحيّ.

وثالثة: لا يكون التفاضل بينهما معلوماً بل ولا محتملًا، ولا يكون رأي أحدهما أوفق بالاحتياط، بل يكون كلّ منهما مخالفاً وموافقاً للاحتياط باختلاف الجهات، فقيل: مقتضى القاعدة هنا في باب تعارض الطرق والأمارات- ومنها الفتوى- هو التساقط، والرجوع إلى الأصل الملائم مع المقام.

فأدلّة اعتبار الفتوى وإطلاقها- على القول بها- لا تشمل المتعارضين معاً لاستلزامه التكاذب والتناقض، ولا أحدهما المعيّن لاستلزام الترجيح من غير مرجّح كما هو المفروض، ولا أحدهما لا على التعيين إذ لا وجود له.

وحيث إنّ البراءة توجب القطع بالمخالفة الواقعية- لمكان العلم الإجمالي بالتكليف- فلا محالة يتعيّن الاحتياط بالجمع مع الإمكان، ومع عدم إمكانه- إمّا لدوران الأمر بين المحذورين، أو لعدم وفاء الوقت- فلابدّ من العمل على وفق أحدهما تخييراً بحكم العقل؛ إذ بعد عدم التمكّن من الامتثال الجزمي التفصيلي يحكم العقل بالاجتزاء بالامتثال الاحتمالي، والتخيير هذا عقلي في مقام الامتثال، لا أن يكون من التخيير في المسألة الاصولية لأجل حجّية أحدهما شرعاً(2).

لا يقال: إنّ التسالم المسلّم بين الأصحاب على الحكم بالتخيير بين المجتهدين


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 89 ..
2- نفس المصدر: 89- 90 ..

ص: 252

الحيّين- المختلفين في الفتوى، المتساويين في الفضيلة- يقتضي التخيير هاهنا أيضاً.

فإنّا نقول: التخيير هناك- كما نصّ الأصحاب- حكم مخالف للقاعدة والأصل، خرج بالدليل وهو التسالم، فيقتصر فيه على المتيقّن وهو مورد الاختلاف بين الحيّين، فلا عموم ولا إطلاق يشمل المقام، وقياس ما نحن فيه بما ثبت هناك مع الفارق وإسراء لحكم من موضوع إلى آخر من غير دليل، وهو كما ترى، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ ما ذكر- من التساقط والرجوع إلى الأصل- مبنيّ على القول بشمول أدلّة التقليد لقول الميّت- كالحيّ- في حدّ نفسها ولولا التعارض، مع أنّه لا يخفى ما في ذلك من المصادرة على المطلوب؛ فإنّ حجّية رأي الميّت أوّل الكلام ومشكوك فيها، والمنصرف أو الظاهر من الأدلّة هو تقليد الحيّ، فلا وجه لفرض تحقّق التعارض ثمّ الحكم بالتساقط أو التخيير أو غير ذلك. والعجب ممّن لا يرى دليلًا لفظياً يدلّ على جواز التقليد شرعاً فضلًا عن إطلاقه، ومع ذلك يرى التعارض بين شمول الأدلّة لرأي الحيّ والميّت مستقرّاً!(1) هذا.

مع ما تقدّم من الكلام حول وقوع هذا التعارض في المقام كوقوعه في الخبرين المتعارضين، فراجع.

وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما لم يعلم الموافقة ولا المخالفة بين الحيّ والميّت في الفتوى، ولعلّ هذه الصورة هي مصبّ البحث والنزاع بين المشهور والمتأخّرين منعاً وجوازاً، فالآن نذكر أهمّ ما استدلّ به للقول بجواز البقاء في هذه الصورة، وهو الأصل، والمراد به في المقام هو الاستصحاب، وحيث كان هذا الدليل هو العمدة


1- راجع: مستمسك العروة الوثقى 1: 15؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 203؛ الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 134، حيث صرّحوا بعدم وجدان ما يدلّ على التقليد تأسيساً ..

ص: 253

عندهم فقرّروه بأشكال عديدة، لا بأس بذكر بعضها على سبيل الإشارة لمكان تقدّم البحث عنها في القول بجواز تقليد الميّت مطلقاً، ونذكر بعضها الآخر على وجه تفصيلي:

الف- استصحاب الحجّية العقلائية.

ب- استصحاب الحجّية الشرعية.

ج- استصحاب جواز العمل على طبق قول الميّت.

د- استصحاب الأحكام الواقعية.

ه- استصحاب الأحكام الظاهرية.

و- استصحاب التخيير.

وحيث إنّ تقرير الاستصحاب بالوجوه المذكورة مشترك بين صورتي التقليد الابتدائي والاستدامي- وقد تعرّضنا لأكثر ذلك نقلًا ونقداً، ولا طائل في التكرار- فالمهمّ في المقام هو التركيز على تقرير الاستصحاب من حيث كون المستصحب هو الحجّية؛ بأن يقال: إنّ فتوى المجتهد قبل موته كانت حجّة فعلية في حقّ من يقلّده، فإذا شكّ فيها بعد موته فيستصحب الحجّية.

وهذا التقرير لا يرد عليه ما تقدّم في الاستدلال به لجواز التقليد الابتدائي من أنّه إن كان بنحو التنجيز كان الدليل أخصّ من المدّعى؛ إذ لا يقين لغير الموجودين في زمان حياته، وإن كان بنحو التعليق ففي صحّته إشكال؛ إذ المفروض في المقام اتّصاف فتوى المجتهد زمان حياته بالحجّية الفعلية بالنسبة إلى من قلّده، بل بالنسبة إلى كلّ من أدرك حياته مكلّفاً، فالحجّية الفعلية في حقّه متيقّنة التحقّق، فإذا شكّ بعد الموت في زوالها يحكم بالبقاء بمقتضى الاستصحاب، فيتمّ المطلوب.

وفيه: أوّلًا: أنّ الحجّية المتيقّنة: إن كانت عقلائية فلا مجال لجريان الاستصحاب

ص: 254

فيها؛ إذ هي ليست حكماً شرعياً مجعولًا حتّى يشمله دليل الاستصحاب، كما أنّها ليست موضوعاً لحكم شرعي، بل إنّها موضوع لأثر عقلي؛ وهو التعذير والتنجيز ونحو ذلك من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق الثواب والعقاب، ومن المعلوم أنّ من شرائط جريان الاستصحاب كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لأثر وحكم شرعي.

وإن كانت الحجّية المتيقّنة هي الحجّية الشرعية- بمعنى جواز الأخذ والعمل بفتوى المجتهد- ففيه: أنّه لم يوجد دليل معتبر شرعي يدلّ على تأسيس الشارع وجعله الحجّية وجواز العمل عقيب فتوى المجتهد بأدلّة اعتبار رأيه، بل الأدلّة بأسرها- كما تقدّم- إرشادية إلى المرتكز عند العقلاء، وإمضاء لما استقرّ عليه بناؤهم من رجوع الجاهل إلى العالم، من غير استتباع جعل وتأسيس(1).

وثانياً: لو سلّم كون الحجّية أمراً مجعولًا شرعياً متأصّلًا، وقلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلّية، لم يجر في المقام؛ لعدم العلم بكون الموضوع هو مجرّد الرأي حدوثاً، بل يحتمل أن يكون الموضوع للحجّية هو الرأي حدوثاً وبقاءً، ومن المعلوم عرفاً عدم بقاء الموضوع بعد الموت وإن كان باقياً عقلًا، ولا أقلّ من الشكّ فيه وهو كافٍ للعدم(2).

وأمّا القول بأنّ اليقين بالحجّية بوجوده الحدوثي هو الموضوع- فإذا شكّ فيها بعد الموت فتستصحب- ففيه: أنّ المتيقّن إنّما هو حجّية رأي المجتهد الحيّ، وأمّا


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 126- 127؛ تنقيح الاصول 4: 666؛ تهذيب الاصول 3: 667 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 16؛ بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 23؛ كفاية الاصول: 545 ..

ص: 255

كون الحياة من الحالات أو من المقوّمات فهو مشكوك على الأقلّ لو لم ندّع الثاني، ولا ريب أنّ المعتبر في صحّة جريان الاستصحاب هو إحراز بقاء الموضوع، وأمّا الشكّ في بقائه وزواله فهو كالعلم بزواله في عدم جريانه؛ إذ بدون العلم بالبقاء- وإن احتمل- لا يصدق النقض حتّى يكون منهياً عنه، فإنّ عدم ترتيب أحكام موضوع- لا يعلم أنّه نفس السابق أم لا- لا يعدّ نقضاً في أحكامه.

فكما أنّ العلم باختلاف الموضوع يضرّ بجريان الاستصحاب، كذلك عدم العلم بوجوده أيضاً يضرّ به وإن احتمل وجوده؛ إذ كما أنّ نفي الوجوب مثلًا عن غير الصلاة ليس نقضاً لوجوبها، فكذلك نفي الوجوب عمّا لا يعلم أنّه صلاة أم لا، ليس نقضاً، فإذا شككنا أنّ الحجّية- الثابتة لرأي الحيّ وقوله- هل هي ثابتة للميّت أيضاً فأصالة عدم الحجّية محكّمة، ولا تصل النوبة إلى إجراء الاستصحاب لعدم إحراز الموضوع؛ إذ لم يثبت لنا بدليل قطعي أنّ الموضوع إنّما هو حدوث الحجّية؛ إذ لعلّ للحياة دخالة فيها، ولا رافع لهذا الاحتمال، ومقتضى الشكّ في الحجّية عدمها(1).

وأمّا ما أفاده السيّد الحكيم: من أنّ احتمال حجّية الرأي بحدوثه إلى الأبد لا رافع له- فلا مانع من الاستصحاب(2)- ففيه: أنّه لا يجدي شيئاً؛ إذ غايته استصحاب احتمال الحجّية، والحجّية المحتملة ليست بشي ء كما لا يخفى. وما أفاده في «التنقيح» أيضاً لا يزيد عمّا في «المستمسك»(3).

وبالجملة: لم يثبت لنا أنّ الموضوع للحجّية وجواز العمل برأي المجتهد هو «مجرّد الحدوث» أو «الرأي والقول والظنّ» حتّى إذا شككنا في زوالها بعد


1- مطارح الأنظار 2: 464 و 508 و 586 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 17 ..
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 76 ..

ص: 256

الموت نتمسّك بالاستصحاب، ونقول: إنّ الحجّية بوجودها الحدوثي ثابتة إلى الأبد، فعند الشكّ في زوالها بالموت نستصحب بقاءها، أو إذا شككنا في زوال الرأي والقول والظنّ بعد الموت فنستصحب بقاءه. بل الشكّ إنّما هو في أنّ الثابت من الحجّية وجواز العمل هل هو الثابت لخصوص زمان الحياة أم لما بعدها أيضاً، فالشكّ يؤول إلى أصل الحجّية فيما بعد الموت، فمقتضى الأصل هو عدمها كما لايخفى.

ولذلك قال في التقريرات ما حاصله: إنّا لا نتحاشي من القول بإمكان بقاء الظنّ والرأي بعد الموت، ولكن نقول: إنّ المقلّد متعبّد بظنّ المجتهد الحيّ دون الميّت، ومن ادّعى أكثر من ذلك طولب بالدليل، وأ نّى له بذلك بعد عدم قيام دليل معتبر على مشروعية أصل التقليد سوى الإجماع والسيرة والضرورة؛ التي لا يحصل منها أمر يرتفع منه الاشتباه(1)؟!

فاتّضح ممّا ذكر: أنّه لا وجه لما قيل من أنّ رأي المجتهد كان حجّة فعلية لمن قلّده في زمان حياته، فمع الشكّ فيها بعد موته يستصحب؛ لما بيّنّا من أنّ الشكّ ليس في بقائها، بل في حدوثها بالقياس إلى زمان الموت، فالمقدار المتيقّن من الحجّية هو حال الحياة، وأمّا بالنسبة إلى زمن الموت فهي مشكوكة الحدوث، ومقتضى الأصل هو العدم.

وأمّا استصحاب جواز العمل على وفق قوله، فقد تقدّم أنّه لا دليل معتبر شرعي يدلّ على تأسيس الشرع الحجّية لرأي المجتهد أو جواز العمل- أو وجوبه- على وفق رأيه، بل الأدلّة بأسرها تنفيذٌ لما ارتكز لدى العقلاء وإرشادٌ إلى بنائهم.


1- مطارح الأنظار 2: 465 و 509 ..

ص: 257

كما أنّ استصحاب الأحكام الواقعية غير تامّ؛ لعدم العلم بها: لا بالوجدان كما هو ظاهر، ولا بالتعبّد؛ إذ المفروض عدم وجود دليل معتبر شرعي عليها.

مع أنّه لو سلم العلم بها فلا وجه للشكّ في بقائها؛ إذ الشكّ في ذلك: إمّا ناشئ عن النسخ أو فقدان شرط أو حدوث مانع، والمفروض عدم الشكّ من هذه الجهات(1).

وممّا تقدّم- في المناقشة حول استصحاب الحجّية الشرعية وجواز العمل- يعرف المنع في استصحاب الأحكام الظاهرية؛ فإنّ ظاهر أدلّة اعتبار الأمارات- ومنها الفتوى- هو إمضاء ارتكاز العقلاء في معاملتهم مع آراء الخبراء معاملة الأمارة والحكاية من دون استتباع جعل(2).

استصحاب التخيير؛ إنّ للسيّد الإمام قدس سره- بعد المحاولات العديدة له في ذكر تقريرات للاستصحاب والنقاش فيها- بياناً ذكر فيه حصيلة البحث بقوله: «فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الاستصحاب غير جارٍ لفقدان المستصحب؛ أي الحكم أو الموضوع الذي له حكم».

ثمّ قال: «وغاية ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذا الإشكال- الذي عدّه أقوى من سائر الإشكالات- أنّ احتياج الفقيه للفتوى بجواز البقاء على تقليد الميّت إلى الاستصحاب إنّما يكون في مورد اختلاف رأيه مع رأي الميّت، وأمّا مع توافقهما فيجوز له الافتاء بالأخذ برأي الميّت من غير احتياج إلى الاستصحاب، فما يحتاج في الحكم بجواز البقاء إلى الاستصحاب هو موارد اختلافهما».

ثمّ قال ما حاصله: إنّ التخييرَ بين مجتهدين حيّين متساويين في العلم مع


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 18؛ الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 127 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 127 ..

ص: 258

اختلافهما في الفتوى، حكمٌ مسلَّم بين الفقهاء وأرسلوه إرسال المسلّمات، مع كونه خلاف القاعدة المقتضية للتساقط.

فالمُدرك لهما زمن بلوغه وتكليفه مخيّر في الأخذ بأيّهما شاء، فإذا مات أحدهما يستصحب هذا الحكم التخييري، ومقتضى الاستصحاب هو عدم الفرق بين الابتدائي والاستمراري فيمن أدرك المجتهدين مكلّفاً، قلّده أحدهما زمان حياته أم لم يقلّده، فلو قام إجماع على عدم جواز الابتدائي مطلقاً فيثبت جواز الاستمراري من دون إشكال(1).

وفيه: أنّ الحكم بالتخيير بينهما- كما نصّ عليه قدس سره- مخالف لمقتضى القاعدة في تعارض الطرق، إلّاأنّ التسالم المسلّم بينهم- على التخيير بين الحيّين المتساويين علماً المختلفين فتوى-: إمّا لأجل دليل شرعي وصل إليهم دوننا، أو للسيرة المستمرّة كما هي ليست ببعيدة.

ولمّا لم يصل ذلك الدليل إلينا- حتّى نلاحظه ومدى دلالته وقيمة سنده- كما أنّ السيرة دليل لبّي لا إطلاق لها، فالمتيقّن من التسالم المسلّم على خلاف القاعدة هو التخيير بين الحيّين، وأمّا بين الميّتين أو حيّ وميّت فلم يقم عليه دليل، فلا وجه لاستصحاب ذلك التخيير الثابت بين الأحياء في مورد الأموات أو الأموات والأحياء.

وجدير بالذكر أنّه قدس سره قد نصّ على مثل ذلك في بعض المواضع(2).


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 130- 131؛ تنقيح الاصول 4: 669؛ تهذيب الاصول 3: 201 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 155؛ تهذيب الاصول 3: 677، وراجع في هذا المجال: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 156؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 82 ..

ص: 259

حصيلة البحث

قد تبيّن: أنّ القول بعدم اشتراط الحياة في المرجع للتقليد وجواز تقليد الميّت ابتداءً، ممّا لا يمكن المساعدة عليه، والوجوه المستدلّ بها غير ناهضة، بل جميعها مدحوضة عند المحقّقين ومنهم السيّد الإمام قدس سره.

وأمّا جواز البقاء على تقليد الميّت وعدم اشتراط الحياة استدامةً، ففيه صور ثلاث:

إحداها: ما علم الموافقة في الفتوى بين الحيّ الذي يجوز تقليده والميّت الذي كان يقلّده. ولا ثمرة للنزاع فيها؛ لأنّ العمل المأتيّ به- الموافق للرأيين- صحيح مطلقاً سواء كان رأي الميّت حجّة أم لا.

ثانيتها: ما عُلم المخالفة بينهما في الفتوى ولم تكن أعلمية أحدهما معلومة بل ولا محتملة، وكذا لم يكن رأي أحدهما أوفق بالاحتياط بل كانا متساويين. وهنا قيل بالتساقط والرجوع إلى الأصل الموجود في المقام، وقد ناقشنا في ذلك القول بأ نّه تعسّف وتكلّف؛ حيث إنّ رأي الميّت مشكوك الحجّية فكيف يعارض رأي الحيّ الذي هو متيقّن الحجّية؟!

ثالثتها: عدم العلم بالموافقة والمخالفة، والمتأخّرون من الفقهاء قد استدلّوا على الجواز في هذه الصورة بوجوه أهمّها الاستصحاب بتقريراته العديدة، والسيّد الإمام- بعد ذكره لتقريرات عديدة لدليل الاستصحاب، والمناقشة فيها- اعتمد على استصحاب التخيير، وعلى هذا الأساس أفتى بجواز البقاء على تقليد الميّت.

وقد ذكرنا ما فيه من الإشكال، وعدم تمامية ذلك حتّى عنده قدس سره؛ لأنّه خلاف ما أسّسه.

ص: 260

نعم، يجوز البقاء على تقليده- بعد تحقّقه بالعمل ببعض المسائل- مطلقاً ولو في المسائل التي لم يعمل بها على الظاهر (1)،

البقاء على تقليد الميّت

1- أمّا اشتراط تحقّق التقليد بالعمل ببعض المسائل في جواز البقاء عليه؛ فلأجل أنّه قدس سره فسّر التقليد في المسألة الثانية ب «العمل مستنداً إلى فتوى فقيه معيّن»- وصرّح هناك بأنّ التقليد بهذا المعنى موضوع للمسألتين، أي مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت وعدمه، ومسألة جواز العدول من الحيّ إلى الحيّ المساوي وعدم جوازه- فما لم يتحقّق العمل لم يتحقّق التقليد، ومع عدم تحقّقه يكون التقليد عن الميّت ابتدائياً، فيكون ممنوعاً.

وأمّا كفاية تحقّق التقليد بالعمل ببعض المسائل في جواز البقاء في جميع المسائل حتّى التي لم يعمل بها، فلعلّ وجهه: أنّ مشروعية التقليد ثابتة بالبناء العقلائي، وهذا البناء لا يفرّق بين تقليد الحيّ والميّت، وفي الميّت بين التقليد الاستدامي منه والابتدائي، غير أنّ التقليد الابتدائي للميّت قد خرج من حجّية هذا البناء العقلائي بالإجماع المسلَّم بينهم، وحيث إنّه دليل مخصّص لبّي فيؤخذ بالقدر المتيقّن منه؛ وهو الابتدائي الذي لم يقلّد فيه المرجع الميّت في حياته أصلًا ولو في بعض المسائل، فيبقى غيره داخلًا في مفاد هذا البناء العقلائي؛ ومنه الابتدائي الذي قلّد فيه الميّت في حياته ولو في بعض المسائل.

بل يمكن أن يقال: إنّ تحقّق التقليد ولو في بعض المسائل، يخرج التقليد- حتّى في المسائل التي لم يتحقّق تقليده بالنسبة إليها- عن التقليد الابتدائي

ص: 261

ويجوز الرجوع إلى الحيّ الأعلم، والرجوع أحوط (1)،

عرفاً، فلا يشمله الإجماع المذكور.

وفيه: أنّ هذا لا يلائم مذهب الماتن قدس سره؛ إذ كلّ باب من الأبواب الفقهية- بل كلّ مسألة منها- أمر مستقلّ، له حكم مستقلّ في نظره رحمه الله؛ ولذا أفتى كغيره من الأعلام بجواز التبعيض في التقليد باختلاف الأبواب بل المسائل، فكلّ مسألة لم يتحقّق العمل بها لا يصدق التقليد بالنسبة إليها كي يكون من مسألة البقاء، بل يكون من التقليد الابتدائي.

وبالجملة: الأبواب الفقهية ومسائلها ليست من قبيل العامّ المجموعي حتّى لا يصحّ التفكيك بينها من حيث التقليد، بل من قبيل العموم الانحلالي والأفرادي؛ ولذلك يجوز تبعيض التقليد فيها.

نعم، لو قيل بأنّ التقليد: هو الالتزام، أو التعلّم والأخذ للعمل وإن لم يتحقّق العمل بعدُ- فيكون الحكم بالجواز وعدمه دائراً مدار ما يستفاد من أدلّة حجّية الفتوى من الاستصحاب وغيره؛ بأن يقال: إنّ رأي الحيّ كان في زمن حياته متّصفاً بالحجّية الفعلية في حقّ المقلّد، ومع الشكّ في بقائها بعد الموت يستصحب الحجّية- لكان لما ذكره في المتن وجه.

وأمّا بناءً على ما عليه الماتن المعظّم- من أنّ التقليد هو العمل مستنداً إلى فتوى فقيه معيّن، وأنّ التقليد بهذا المعنى موضوع للمسألتين، ومن القول بجواز التبعيض في التقليد حسب اختلاف الأبواب والمسائل- فما في المتن: من أنّ العمل ببعض المسائل يكفي في جواز البقاء على تقليده في جميعها، غير وجيه.

1- أقول: هذا عِدل قوله المتقدّم: «نعم يجوز البقاء على تقليده» وحاصله: أنّ

ص: 262

المقلّد مخيّر بين البقاء على تقليد الميّت وبين الرجوع إلى الحيّ، هذا.

ثمّ إنّ المراد من قوله: «إلى الحيّ الأعلم» هو أعلم الأحياء، لا الحيّ الأعلم من الميّت؛ وذلك لأنّ الماتن قدس سره ممّن يفتي بوجوب الرجوع إلى الأعلم على الأحوط، ولذا صرّح في المسألة الرابعة بوجوب العدول إذا كان المعدول إليه أعلم على الأحوط، وكذا فيما سيأتي في مسألتنا المبحوث عنها في المقام؛ حيث قال: «إلّا إلى أعلم منه فإنّه يجب على الأحوط».

واحتمال الفرق بين العدول عن الميّت إلى الحيّ الأعلم، وبين العدول عن الحيّ إلى الحيّ الأعلم- بكونه في الأوّل جائزاً، وفي الثاني واجباً على الأحوط- غير مسموع، مع ما فيه من الحزازة وكون الحيّ أدون مرتبةً من الميّت من دون أيّ وجه ومزية.

وبالجملة: إذا كان المعدول إليه أعلم من المعدول عنه، فالعدول واجب عند من يرى تعيّن الأخذ بقول الأعلم، إمّا على نحو الفتوى أو الاحتياط الوجوبي.

وعلى هذا فلا يخفى ما في شرح بعض الأعلام(1) من الإشكال فيما استظهره من المتن؛ إذ قد تبيّن بما ذكرنا أنّ المراد من المتن ليس ما استفاده هذا الشارح الفاضل وتبعه عليه بعض آخر حتّى يرد ما أورده عليه. وعبارة «الوسيلة» هنا أوضح من عبارة «تحرير» ها، بحيث لا يبقى معها مجال لهذا التوهّم والاشتباه، فليلاحظ.

وأمّا وجه الاحتياط الاستحبابي حيث قال: «والرجوع أحوط» فللخروج عن شبهة الخلاف مع القول بعدم جواز البقاء على تقليد الميّت.


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 169 ..

ص: 263

ولا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط، ولا إلى حيّ آخر كذلك (1)

1- المستفاد من ظاهر قوله: «ولا إلى حيّ آخر كذلك» أنّه لا يجوز العدول من الحيّ إلى الحيّ المساوي على الأحوط، وهذا مخالف لما تقدّم منه قدس سره في المسألة الرابعة طبقاً لفتواه الأخيرة أو المصحّحة في تلك المسألة، فإنّ النسخة القديمة من «التحرير» في تلك المسألة- على ما نبّه عليه الناشر في هامش النسخة المطبوعة أخيراً في مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره- كانت هكذا: «لا يجوز العدول بعد تحقّق التقليد من الحيّ إلى الحيّ المساوي على الأحوط»، والظاهر أنّ ما في مسألتنا هذه كان مطابقاً لما في النسخة القديمة، ولم يُغيّر طبقاً للنسخة الجديدة المصحّحة في حياة المؤلّف وتحت نظره الشريف ظاهراً.

وقد تفطّن بعض شرّاح «تحرير الوسيلة»(1) لعدم تناسب هذه الفقرة من مسألتنا مع ما في المسألة الرابعة في نسختها الأخيرة المصحّحة. نعم، من كان بيده النسخة القديمة فقط- ظاهراً- فبالطبع لم يبدُ له عدم التناسب بين ما في المسألتين(2)؛ لأنّ النسخة القديمة من المسألة الرابعة متناسبة مع ما في هذه الفقرة من مسألتنا كما لا يخفى.

وكيف كان، فرعاية التناسب بين النسخة الجديدة المصحّحة في المسألة الرابعة وبين مسألتنا تقتضي حذف قوله قدس سره: «ولا إلى حيّ آخر كذلك ... على الأحوط» في هذه المسألة، أو تبديله بمثل «وإن جاز الرجوع إلى حيّ آخر إذا كان مساوياً له في


1- شرح تحرير الوسيلة، الشيخ أحمد سبط الشيخ الأنصاري 1: 38 ..
2- كالشيخ الجليل الفاضل اللنكراني في« تفصيل الشريعة» في شرح المسألتين ..

ص: 264

الفضل، ويجب على الأحوط إذا كان أعلم منه».

وقد تقدّم الكلام في مستند جواز العدول من الحيّ إلى الحيّ المساوي في ذيل كلام الماتن في المسألة الرابعة.

وأمّا مستند قوله قدس سره: «ولا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط» فهو شبهة صِدق الرجوع الابتدائي إلى الميّت؛ فإنّه إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ الأعلم فيحتمل قويّاً انقطاع تقليده للميّت، وعدم صدق «البقاء على تقليد الميّت» إذا رجع إليه ثانياً؛ بل من المحتمل قويّاً حينئذٍ صدق التقليد الابتدائي للميّت؛ وهو من التقليد الممنوع كما تقدّم.

هذا بناءً على أنّ المراد من قوله قدس سره: «الحيّ الأعلم»- في هذه المسألة- هو أعلم الأحياء، لا الأعلم من الميّت أيضاً، وأمّا إذا كان المراد الأعلم من الميّت فعدم جواز العدول إلى الميّت ثانياً- ولو بالاحتياط الوجوبي- أوضح لأنّه من قبيل العدول عن الأعلم إلى غيره، هذا.

وأمّا وجه كلامه المذكور هنا طبقاً للنسخة القديمة في المسألة الرابعة، فهو: رعاية جانب ما ذكر من الاستدلال على التخيير الابتدائي دون الاستمراري فيما تقدّم في مستند المسألة الرابعة، مع ما أسّسه في رسالة الاجتهاد والتقليد من الأخذ بالقدر المتيقّن، والجري على قاعدة الاشتغال والتعيين العقلي عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مثل هذه المسألة(1)، فهذا ينتج الاحتياط الوجوبي؛ تقديماً لجانب التعيين فيما نحن فيه، وهو تعيين البقاء على تقليد الحيّ المرجوع إليه عن الميّت، وعدم التخيير في الرجوع إلى حيّ آخر- مساوٍ له في الفضل- أو الميّت ثانياً. مع أنّ هذا التعيين الاحتياطي بالنسبة إلى الرجوع إلى الميّت ثانياً أوضح كما لايخفى.


1- يلاحظ: الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 155 ..

ص: 265

إلّا إلى أعلم منه، فإنّه يجب على الأحوط (1). ويعتبر أن يكون البقاء بتقليد الحيّ (2)، فلو بقي على تقليد الميّت من دون الرجوع إلى الحيّ الذي يفتي بجواز ذلك، كان كمن عمل من غير تقليد (3).

1- إذا كان الحيّ الثاني أعلم من الحيّ الأوّل، فمقتضى مذهبه- من وجوب الرجوع إلى الأعلم احتياطاً- هو وجوب العدول إليه احتياطاً فيما نحن فيه، كما تقدّم في المسألة الرابعة أيضاً.

2- وذلك لأنّ المفروض سقوط فتوى الميّت عن الاعتبار بالموت؛ فإنّ الشكّ في حجّيتها- بسبب الموت- يساوق القطع بعدمها، ولا مجال للعامّي لإثبات حجّيتها أن يتمسّك بالاستصحاب وغيره كما لايخفى، والبقاء على تقليده اعتماداً وأخذاً بفتوى الميّت في ذلك دور بيّن، فلابدّ للحكم بجواز البقاء من تحصيل الحجّة، وليست في المقام إلّارأي الحيّ الجامع للشرائط، فيتعيّن الرجوع إليه في ذلك، فالمتّبع في المقام إنّما هو رأيه وجوباً وجوازاً ومنعاً.

نعم، لو لم يحصل الشكّ للمقلّد في ذلك لأجل عدم الالتفات والجهل، بل كان قاطعاً بحجّية فتوى مقلّده والبقاء عليه- وهنا لا محالة يعمل على وفق علمه ما لم يزل بالالتفات وعروض الشكّ، وما لم يتفطّن إلى ما هو وظيفته- ففي هذا الفرض لا وجه ولا ملزم للحكم برجوعه إلى الحيّ؛ حيث إنّه يرى نفسه ذا حجّة وعالماً بالعلم التعبّدي الحاصل من قول مقلّده، فلا موضوع ولا مجال للرجوع إلى الحيّ.

3- فإن بقي على تقليده مع كونه شاكّاً في ذلك، ولم يرجع إلى الحيّ، فيعامل معه معاملة الجاهل المقصّر.

ص: 266

وإن كان غير ملتفت إلى عدم اعتبار فتوى الميّت، وغير محتمل لعدم جواز البقاء عليه، بل كان- حسب زعمه- جازماً بجواز البقاء، فيعامل معه معاملة الجاهل القاصر.

وأمّا البحث عن حكم الأعمال المأتيّ بها استناداً إلى ذلك التقليد الذي لم تثبت حجّيته بحجّة قطعية- من حيث الصحّة والفساد، والإجزاء وعدمه فيما إذا وافقت الواقع أو وافقت رأي من يجب عليه الأخذ به، ومن حيث التفصيل بين العبادات والمعاملات ... ونحو ذلك- فيطلب من موضعه في سائر مسائل الاجتهاد والتقليد.

ص: 267

تعاقب تقليد الأموات

(مسألة 14): إذا قلّد مجتهداً ثمّ مات، فقلّد غيره ثمّ مات، فقلّد في مسألة البقاء على تقليد الميّت من يقول بوجوب البقاء أو جوازه، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأوّل أو الثاني؟ الأظهر البقاء على تقليد الأوّل إن كان الثالث قائلًا بوجوب البقاء، ويتخيّر بين البقاء على تقليد الثاني والرجوع إلى الحيّ إن كان قائلًا بجوازه (1).

تعاقب تقليد الأموات

1- إنّ في المسألة فروضاً كثيرة قد أطلق السيّد الماتن قدس سره الكلام فيها، ولم يتعرّض إلّالبيان حكم فرضين منها: أحدهما: كون المجتهد الثالث قائلًا بوجوب البقاء، وثانيهما: كونه قائلًا بجوازه.

وأمّا من حيث التفاضل والتساوي بين المجتهدين في العلم والفضيلة- بأن كان الأوّل أو الثاني أعلم، أو كان الثالث أعلم، أو كانوا متساوين- فكلامه مطلق من هذه الجهة، وهو قدس سره وإن استدلّ على عدم تعيّن تقديم الأعلم في دراساته العالية(1)، ولكنّه اختار وجوب تقليد الأعلم على الأحوط(2)، فكان عليه أن يفصّل بين الصور


1- وقد تقدّم في مستند مسألة 5 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 9، مسألة 5 ..

ص: 268

المحتملة من هذه الجهة كما صنعه بعض الأعلام(1).

كما أنّ كلامه- من جهة كون الأوّل والثاني متوافقي الفتوى من حيث وجوب البقاء وحرمته وجوازه، أو مختلفي الفتوى- مطلق أيضاً، ومن المعلوم أنّ الفروض المحتملة من هذه الحيثية تكون تسعة يختلف الحكم بحسبها، والسيّد الإمام قدس سره أطلق الحكم بوجوب البقاء على الأوّل من غير فرق بين أن يكون الأوّل قائلًا بجواز البقاء أو وجوبه أو حرمته، وكذا بالنسبة إلى المجتهد الثاني، هذا.

ولكن يمكن أن يستفاد من كلماته في مواضع اخر- أو يستظهر من نفس هذا الكلام- بعض القيود والفروض، كما استظهره بعض شرّاح كلامه(2).

وكيف كان فكلام الماتن هنا غير منقّح ولا مبوّب؛ ولذا يحتاج إلى مزيد تأمّل، ونحن نبيّن أوّلًا ما هو المصرّح به، ثمّ نعقّبه ببعض ما يمكن أن يستفاد ويستظهر منه:

فالمصرّح به في المتن هو ما كان المجتهد الثالث الحيّ قائلًا بوجوب البقاء أو جوازه، وهذا احتراز عمّا لو كان قائلًا بحرمة البقاء إذ لو كان الثالث قائلًا بحرمة البقاء ووجوب العدول لتعيّن الأخذ بقوله، ولا يعبأ بفتوى الأوّل ولا الثاني، سواء كان رأيهما حرمة البقاء أو وجوبه أو جوازه؛ إذ الحجّة الفعلية- التي عليها المدار والعمل- هي فتوى الثالث، وحيث كانت فتواه حرمة البقاء فلا أثر لفتوى الأوّل والثاني أيّ شي ء كانت فتواهما.

وبالجملة: فالسيّد الماتن قدس سره تعرّض في المسألة لبيان حكم صورتين:

الصورة الاولى: ما لو كان الثالث قائلًا بوجوب البقاء، فقال: «الأظهر البقاء على تقليد الأوّل».


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 342- 344 ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 173 ..

ص: 269

وبيان ذلك يتوقّف على ذكر أمرين:

الأوّل: في تعيين مصبّ الفرض: وهو ما إذا كان الثاني قائلًا بجواز الرجوع بالمعنى الأعمّ؛ ليصحّ رجوع العامّي من الأوّل إلى الثاني، وهذا شي ء يساعده الاعتبار، كما استظهره بعض الأعلام(1)، وصرّح به نفس الماتن في رسالة «الاجتهاد والتقليد»؛ حيث قال: «لو قلّد مجتهداً في الفروع فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب الرجوع، فرجع إليه فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب البقاء»(2).

الثاني: في وجه ذلك الحكم: وهو أنّ الأمارة الفعلية التي عليها المدار- أعني فتوى الثالث بوجوب البقاء- قائمة على بطلان فتوى الثاني بوجوب الرجوع، فيكون رجوع العامّي عن الأوّل استناداً إلى فتوى الثاني فاسداً من رأسه، ولا معنى للبقاء على الثاني بفتوى الثالث؛ لأنّه يخطّئ الثاني في قوله بحرمة البقاء.

وحيث إنّ فتوى الثاني بوجوب الرجوع كانت باطلة عند الثالث، فلا معنى ولا مجرى لاستصحاب حجّية رأيه أيضاً؛ لا في حقّ العامّي- لأنّه ذو حجّة فعلية وهي رأي الثالث، ومعها لا شكّ حتّى يتمسّك بالاستصحاب- ولا بالنسبة إلى المجتهد الثالث؛ لأنّ رأي الثاني باطل عنده من غير شكّ، فلا موضوع للاستصحاب.

فالعامّي- في رجوعه عن الأوّل إلى الثاني- وإن كان معذوراً بمقتضى فتوى الثاني بوجوب الرجوع، إلّاأنّه بعد سقوط رأيه عن الحجّية- بالموت- واقتضاء الحجّة الفعلية فساده، فلا محالة تكون وظيفة العامّي البقاء على الأوّل حسب ما تقتضيه الحجّة الفعلية وهي رأي الثالث. وهذا كلّه يستفاد ممّا أفاده السيّد الماتن قدس سره(3).


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 173 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 158؛ تهذيب الاصول 3: 676 ..
3- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 158؛ تهذيب الاصول 3: 677 ..

ص: 270

ثمّ لا بأس بالتنبيه على أمر: وهو أنّه لِمَ لَمْ يحكم الماتن على نحو البتّ والقطع، بل قال: «الأظهر ...»؟

لعلّ الوجه في ذلك- كما يمكن أن يستفاد من بعض الأعلام(1)- هو أنّ تقليد العامّي للثاني الذي أفتى بالرجوع عن الأوّل وقع صحيحاً في وعائه، إذ الحجّة التي يلزم عليه اتّباعها آنذاك هي فتوى الثاني بوجوب الرجوع، وبعد أن رجع عن الأوّل إلى الثاني- وفقاً للحجّة- يتحقّق العدول من الميّت الأوّل، فالرجوع إليه استناداً إلى فتوى الثالث بوجوب البقاء يكون من التقليد الابتدائي الممنوع، فيقوى البقاء على الثاني؛ ولذلك قال السيّد الجليل صاحب «العروة»: «الأظهر البقاء على الثاني»(2).

فلعلّ الفرق بين فتوى السيّدين الجليلين في مفروض الكلام نشأ من ذلك، فليتأمّل.

ولكن حيث إنّ مبنى السيّدين- في باب اضمحلال الاجتهاد، وتبدّل الرأي، وموارد العدول من رأي إلى آخر- هو عدم انتقاض التقليد الصحيح الواقع في زمانٍ بسبب تقليد مجتهد آخر(3)، فيمكن أن يكون الفرق بينهما: هو الفرق بحسب اختلاف مفروض كلام كلّ منهما؛ فإنّ المفروض في كلام السيّد الماتن: هو ما إذا كان الثاني قائلًا بحرمة البقاء والثالث بوجوبه كما فصّلناه، وأمّا كلام صاحب «العروة» فلابدّ من فرضه فيما إذا كان الثاني قائلًا بجواز البقاء، فحينئذٍ فتوى الثالث بوجوب البقاء تقتضي البقاء على الثاني؛ حيث إنّ تقليد العامّي عنه كان صحيحاً


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 99 ..
2- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 14، المسألة 61 ..
3- يستفاد ذلك من المسألة السادسة عشرة في« التحرير»، والمسألة الثالثة والخمسين من« العروة» ..

ص: 271

عند الثالث، وهو يفتي بوجوب البقاء على التقليد الصحيح. وأمّا تقليد الأوّل فقد انقطع بالرجوع إلى الثاني، فلا وجه لشمول فتوى الثالث- بوجوب البقاء- للتقليد عن الأوّل؛ لأنّه من التقليد الابتدائي الممنوع.

فليكن هذا هو الفارق بين فتوى السيّدين، فالاختلاف بينهما في الإفتاء بالبقاء على الأوّل أو الثاني إنّما هو لأجل الاختلاف فيما هو المفروض في كلام كلّ منهما، لا لأجل الاختلاف في المبنى؛ من حيث انتقاض التقليد وعدم انتقاضه، واللَّه العالم(1).

الصورة الثانية: ما كان الثالث قائلًا بجواز البقاء، فقال: «ويتخيّر بين البقاء على الثاني والرجوع إلى الحيّ». والوجه فيه: هو أنّ العامّي- حسب رأي الثالث- كان مخيّراً بين البقاء على الأوّل والرجوع إلى الثاني، وحيث اختار الرجوع إلى الثاني فقد وقع تقليده عن الثاني- حسب رأي الثالث- صحيحاً، فلا يجوز للعامّي الرجوع إلى الأوّل بعد رجوعه عنه إلى الثاني على وجه صحيح لأنّه بالنسبة إلى الأوّل يكون من التقليد الابتدائي للميّت وهو الممنوع، فلا محالة يدور الأمر حسب الفرض بين البقاء على الثاني والرجوع إلى الثالث.

ثمّ لا فرق في هذا الفرض بين كون الثاني قائلًا بحرمة البقاء أو جوازه؛ لأنّ فتوى الثالث بجواز البقاء توجب البقاء على الثاني في المسائل الفرعية، وأمّا المسألة الأصلية- أعني أصل البقاء- إذا كان الثاني قائلًا بحرمة البقاء فلا تشملها فتوى الثالث بجواز البقاء؛ حتّى يحصل التهافت والتناقض.

هذا هو الوجه في الحكم بالتخيير بين البقاء على الثاني والرجوع إلى الثالث،


1- يلاحظ: مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 66، فإنّه عدّ المسألة محلّ إشكال ..

ص: 272

الذي مقتضاه عدم جواز الرجوع على الأوّل؛ فإنّه من التقليد الابتدائي الممنوع، لا ما أفاده بعض الشرّاح وأطال الكلام حوله(1).

إذا عرفت ما يتعلّق بتبيين المسألة، فلا بأس بالإشارة إلى مسألة اخرى لها ارتباط وثيق بالمقام، قد عنونها الماتن المعظّم في رسالة «الاجتهاد والتقليد»، وذكرها غيره من الأعلام في كتبهم ك «العروة الوثقى» ورسالة «التقليد» للشيخ الأعظم، وهي أنّه إذا قلّد مجتهداً كان قائلًا بوجوب الرجوع إلى الحيّ، فمات ورجع إلى من هو قائل بوجوب البقاء، يجب عليه البقاء في سائر المسائل(2).

فهنا حكمان أحدهما: وجوب البقاء على الميّت بفتوى الحيّ في المسائل الفرعية. ثانيهما: عدم شمول فتوى الحيّ بوجوب البقاء للمسألة الأصلية التي هي فتوى الميّت بحرمة البقاء، فلابدّ من بيان وجه كلّ منهما:

أمّا وجوب البقاء على الميّت في جميع المسائل الفرعية- إذا كانت فتواه كذلك؛ بأن لم يشترط العمل أو التعلّم في البقاء- فإنّما هو لأجل أنّ فتوى الميّت سقطت عن الحجّية بموته، فلابدّ من الرجوع إلى الحيّ، وحيث إنّه قائل بوجوب البقاء فتصير فتوى الميّت بذلك حجّة معتبرة.

وأمّا فتوى الحيّ بوجوب البقاء في نفس مسألة البقاء- التي أفتى الميّت فيها بالحرمة- فلا تشملها؛ للتناقض كما في كلام الشيخ الأعظم(3)، ولأنّ المسألة الواحدة لا تتحمّل التقليدين؛ إذ بعد أن قلّد العامّي فيها الحيّ فلا تحيّر له حتّى يقلّد


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 176 ..
2- هذا كما في الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 157؛ تنقيح الاصول 4: 679؛ مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 66 ..
3- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 66 ..

ص: 273

الميّت، ولعدم جواز إفتاء الحيّ بالبقاء عليه فيها؛ لأنّه يرى الميّت في ذلك على خطأ.

وحيث إنّ المجتهد الحيّ يرى الميّت على الخطأ فلا يشكّ حتّى يجري الاستصحاب، كما أنّ العامّي- لمكان كونه ذا حجّة معتبرة فعلية وهي فتوى الحيّ- لاشكّ له، فلا مجرى للاستصحاب بالنسبة إليه أيضاً.

هذا كلّه ممّا أفاده السيّد الماتن قدس سره(1).

وبالجملة: ففتوى الحيّ بوجوب البقاء لا يعقل أن تشمل فتوى الميّت بحرمته؛ لاستلزام التناقض، فالتخلّص عن المحذور العقلي يقتضي القول بعدم شمول فتوى الحيّ بالبقاء لهذه المسألة الاصولية، وأمّا القول بشمولها لها دون المسائل الفرعية ففيه: أنّه يستلزم تخصيص الأكثر.


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 157 ..

ص: 274

المأذون والوكيل عن المجتهد

(مسألة 15): المأذون والوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف أو الوصايا أو في أموال القُصّر ينعزل بموت المجتهد. وأمّا المنصوب من قبله؛ بأن نصبه متولّياً للوقف، أو قيّماً على القصّر، فلا يبعد عدم انعزاله، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط؛ بتحصيل الإجازة أو النصب الجديد للمنصوب من المجتهد الحيّ (1).

المأذون والوكيل عن المجتهد

1- قد تعرّض الماتن في هذه المسألة أوّلًا: لحكم المأذون والوكيل عن المجتهد الميّت وصرّح بانعزاله بموته، وقد اتّفقت كلمات فقهائنا على هذا الحكم، وادّعي عليه الإجماع أيضاً. وثانياً: لحكم المنصوب من قِبله، فالسيّد الأصفهاني في الوسيلة قال: «فيه إشكال» وغيّره السيّد الماتن بقوله: «فلا يبعد ...»(1).

وقد اختلفت كلمات الأصحاب منذ أقدم عصور فقه الإمامية، فقد نقل الشيخ الطوسي اختلاف المذاهب المختلفة- وكذا الأصحاب- في انعزال نوّاب الإمام ونوّاب القاضي(2)، واستمرّ هذا الخلاف إلى عصرنا هذا.


1- وسيلة النجاة مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 11، المسألة 15 ..
2- المبسوط 8: 127 ..

ص: 275

وأمّا أهل السنّة: فالمشهور منهم قائلون بعدم انعزال نائب القاضي بعزل القاضي ولا بموته(1).

وكيف كان لا إشكال في قيام الإذن بوجود الآذن، فبالموت يرتفع الإذن، وأمّا الوكالة فهي عقد جائز، حقيقتها إباحة التصرّف بالإذن من الموكّل وقيام الوكيل مقامه، فمع موت الموكّل وانعدام إذنه لا أثر للوكالة، وقد ذكروا أنّ أحد مبطلات الوكالة هو موت الموكّل إجماعاً(2)، فما قاله الماتن قدس سره في صدر المسألة بالنسبة إلى المأذون والوكيل تامّ لا إشكال فيه.

وأمّا المنصوب من قِبله- أي المجتهد الميّت- كالمتولّي للوقف والقيّم على القصّر، فبناءً على ثبوت ولاية الفقيه على النصب- كما هو مختار الماتن قدس سره- فحيث إنّه لا يكون نائباً ووجوداً تنزيلياً للفقيه فلا يكون كالمأذون والوكيل بحيث يبطل بموت الآذن والموكّل. وحينئذٍ فقد يقال بعدم انعزال منصوب الفقيه؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الشأن في كلّ المناصب- إذا لم تكن مقيّدة- أن لا تزول إلّا بالعزل، كما في إعطاء الواقف التولية لشخص؛ فإنّ التولية والنظارة باقية بعد موت الواقف(3)، والحاكم الشرعي له السلطنة والاقتدار على ذلك بمقتضى قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة: «فإنّي قد جعلته حاكماً»، وحينئذٍ يكون وزانها وزان حكم الحاكم غير القابل للنقض بموته(4).


1- الفقه الاسلامي وادلته 8: 6348.
2- جواهر الكلام 27: 260 ..
3- فقد صرح فخر المحققين في ايضاح الفوائد 4: 305 بان سبيل المنصوبين لذلك سبيل المتولين من قبل الواقف.
4- مدارك العروة 1: 187

ص: 276

الوجه الثاني: أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة والمستفاد من النصوص أنّ منصب القضاء منصب نيابي، فجميع الوظائف التي يؤدّيها القاضي- من فصل الخصومة ونصب القيّم ونحو ذلك- يؤدّيها نيابةً عن الإمام، فمنصوبه منصوب الإمام، ولا يقصد به كونه نائباً عن الإمام أو عن المجتهد، ولازم ذلك البناء على عدم البطلان بالموت.

وقد نوقش في كلا الوجهين: بأنّ القدر المتيقّن من ثبوت الولاية إنّما هو ولايته على النصب وهو حيّ، وأمّا ولايته على نصب القيّم مثلًا ما دام القيّم حيّاً وإن مات المجتهد فهي مشكوكة الثبوت، وحيث لا إطلاق يتمسّك به لإثباتها فمقتضى الأصل عدم ولايته كذلك بعد موته(1).

أقول: قد عرفت أنّ النصب وزانه وزان جعل المتولّي من الواقف، فالفقيه يمثّل وظيفة الواقف- إذا لم يكن موجوداً- في جعل المتولّي، فلا يكون نصبه مقيّداً بحياته كما لا يخفى، أو أنّ منصوب القاضي يكون منصوب الإمام بواسطة في الجعل، وقد اعترف المستشكل ببقاء النصب في هذا الفرض(2)، وقد عرفت إمكان استفادة ذلك من ارتكاز المتشرّعة ونصوص باب القضاء.

نعم، هذا كلّه يبتني على جواز نصب المجتهد للمتولّي والقيّم ونحوهما من المناصب، وهو يبتني على ثبوت الولاية للفقيه على ذلك، وقد صرّح السيّد الماتن بأنّ «للفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمّة ممّا يرجع إلى الحكومة والسياسة، ولا يعقل الفرق»(3) وأصرّ عليه في مقالاته بأساليب مختلفة وبرهن عليه.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 321- 322 ..
2- دروس في فقه الشيعة 1: 223.
3- كتاب البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 626 ..

ص: 277

وعلى هذا يكون منصوب الفقيه بحكم منصوب الإمام المعصوم، فإن انعزل منصوب الإمام بموته فينعزل منصوب الفقيه أيضاً وإلّا فلا.

نعم قد يقال: إنّ المنصوب من قبل الإمام أيضاً حيث تكون ولايته فرع ولاية الإمام فإذا مات الإمام فقد تمّ عصر إمامته وزال اعتبار نصبه؛ فإنّ لكلّ عصر إماماً لابدّ من الرجوع إليه.

ولكن وجوب الرجوع إلى الإمام الحيّ وأ نّه حجّة العصر، لا ينافي عدم انعزال المنصوب من قِبل الإمام الميّت؛ فإنّ الإمام الحيّ له أن يعزل المنصوب عن الإمام الميّت بلا إشكال.

وكيف كان فقد نقل فخر المحقّقين عن والده أنّه قال: «المنصوبون في شغل عامّ- كقوّام الأيتام والوقوف- لا ينعزلون بموت القاضي وانعزاله بغير خلاف؛ لئلّا يختلّ أبواب المصالح، وسبيلهم سبيل المتولّين من قِبل الواقف»(1).

وهكذا الأمر في جميع الدول والحكومات؛ وإلّا لاختلّ النظام والامور، هذا.

ولكنّ الظاهر أنّ الماتن قدس سره لمكان الخلاف بين الأصحاب في ذلك كما عرفت، احتاط- بعد الفتوى- بالاحتياط الذي لا ينبغي تركه بتحصيل الإجازة أو النصب الجديد للمنصوب من المجتهد الحيّ، وهو حسن.

ثمّ إن شكّ في انعزال المنصوب أو بقائه، فقد يقال بجريان استصحاب بقاء القيمومة والتولية.

ولكن قد اورد عليه: بأنّ الموضوع غير محرز البقاء، فلا استصحاب(2).

ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ الموضوع المستصحب هو القيّم والوليّ، ومع الشكّ


1- إيضاح الفوائد 4: 305 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 322 ..

ص: 278

في بقاء ولايتهما وعدمه فلا مانع من الاستصحاب.

وقد يقال بجريان استصحاب جواز التصرّف بالقيمومة أو التولية للقيّم بعد موت المجتهد.

واورد عليه أوّلًا: بأنّ هذا الاستصحاب من الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية، فلا يجري(1). وثانياً: بأ نّه استصحاب تعليقي معارض بأصالة عدم ترتّب الأثر(2).

والإشكال الأوّل يختصّ بمبنى المستشكل في الاصول، وقد تبيّن خلافه في محلّه، فراجع.

والإشكال الثاني أيضاً مندفع: بانتقاض أصالة عدم ترتّب الأثر على تصرّفات القيّم والمتولّي قطعاً، فلا يرجع إليها، وتجري أصالة جواز التصرّف بلامعارض.

هذا كلّه مع عدم وصول النوبة إلى الاستصحاب لما ذكرناه آنفاً.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 322 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 80 ..

ص: 279

التقليد والإجزاء في الأعمال الماضية

(مسألة 16): إذا عمل عملًا- من عبادة أو عقد أو إيقاع- على طبق فتوى من يقلّده، فمات ذلك المجتهد فقلّد من يقول ببطلانه، يجوز له البناء على صحّة الأعمال السابقة، ولا يجب عليه إعادتها؛ وإن وجب عليه فيما يأتي العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني (1).

التقليد والإجزاء في الأعمال الماضية

1- هذه المسألة- كما ترى- من فروع مسائل تقليد الميّت، وقد عرفت أنّ الماتن أفتى بجواز تقليده بقاءً بعد تحقّقه بالعمل ولو ببعض المسائل، فإن عدل المكلّف- لأيّ سبب- عن تقليد الميّت ورجع إلى الحيّ، واختلف رأي الميّت وذلك الحيّ في صحّة عمل المكلّف- سواء كان عبادة أو معاملة- فقد ذهب المشهور إلى أنّ وزان هذه المسألة وزان تبدّل رأي المجتهد وتغيّره.

ولتحقيق مدى صحّة هذا الرأي يلزم أن نتعرّض لتأريخ المسألة على مسلك المشهور، فنقول:

قد تعرّض العلّامة الحلّي- في مبحث التقليد من كتابه «النهاية»(1)- لحكم تغيّر


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول: 626/ السطر 16 ..

ص: 280

رأي المجتهد، واستعرض الصور والأقوال وأدلّتها تفصيلًا، بعدما كان هذا البحث مطرح أنظار أعلام اصوليّي العامّة كابن الحاجب والعضدي والآمدي وغيرهم(1)، فقد ذكروا أمثلة من العبادات والمعاملات وبحثوا فيها.

وقد استمرّ طرح البحث كذلك في مباحث الاجتهاد والتقليد، إلى أن عدّ الشيخ الأعظم الأنصاري مسألة تبدّل رأي المجتهد من فروع بحث الإجزاء وتبدّل الحكم الظاهري، وتعرّض للبحث عنها في ذيل مبحث الإجزاء.

وأيضاً عدّ مسألة عدول المقلّد عن فتوى مجتهده إلى فتوى مجتهد آخر وكذا حكم أعماله السابقة من فروع تلك المسألة(2)، وصرّح هناك بعدم الإشكال في مضيّ الأعمال السابقة وعدم وجوب القضاء، إلّاأنّه بحث في الإعادة واختار ثبوتها على المقلّد في هذا الفرض.

ولكنّه أطلق- في رسالته في التقليد(3) في نفس هذه المسألة- القولَ بعدم نقض آثار الوقائع السابقة بعد رفع اليد عن تقليد الأوّل والالتزام بتقليد الثاني.

وذهب المحقّق النائيني وأعلام مدرسته إلى عدّ هذه المسألة من فروع مبحث الإجزاء، بلا افتراق بينها وبين مسألة تبدّل رأي المجتهد(4).

واستشكل على ذلك جمع من المتأخّرين كما ستعرف إن شاء اللَّه.

وكيف ما كان فالبحث في هذه المسألة يُفرض فيما إذا كان العمل السابق باطلًا


1- مفاتيح الاصول: 582/ السطر 10 ..
2- مطارح الأنظار 2: 153 ..
3- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 90 ..
4- فوائد الاصول 1: 259 ..

ص: 281

على رأي المجتهد المعدول إليه ولم يمكن تصحيحه بوجهٍ، مثل ما لو كان غير مشمول لقاعدة «لا تعاد ...» من أجزاء الصلاة وكذا تُفرض هذه المسألة فيما إذا لم تكن فتوى المجتهد الثاني مبتنية على أساس الاحتياط كما لايخفى.

فهل تكون الأعمال السابقة المطابقة لفتوى المجتهد الأوّل صحيحةً أم لا؟

فنقول: قد عرفت أنّ أعلام الفقهاء من متأخّري المتأخّرين بحثوا عن هذه المسألة بعنوان بعض الفروع لمسألة الإجزاء في أصول الفقه، فقد بحثوا عن الإجزاء في موارد تبدّل رأي المجتهد وفصّلوا القول فيه، ثمّ ألحقوا به مسألة الإجزاء في موارد العدول أيضاً لموت كان أو لأي سبب آخر.

ولتحقيق البحث لابدّ أوّلًا من تحقيق مقتضى القاعدة في المقام، ثمّ تحقيق مقتضى الدليل الخاصّ لو كان:

أمّا مقتضى القاعدة الأوّلية: فبناءً على ما هو الحقّ من القول بالطريقية في الأمارات فالصحيح هو عدم الإجزاء عند انكشاف الخلاف كما بيّن في الاصول(1).

والوجه فيه: أنّ إيجاب العمل على وفق الأمارة ينافي كاشفية الأمارة عن الواقع- بناءً على الطريقية- عند العرف والعقلاء.

وأمّا مقتضى الدليل في نفس هذه المسألة: فقد ذهب جمع إلى الإجزاء، واستدلّوا عليه بوجوه:

الأوّل: أنّ الاجتهاد الثاني في المقام لا يكشف عن عدم حجّية الاجتهاد الأوّل، فكلّ منهما حجّة في زمانه، والوجه في ذلك: أنّ الحجّية متقوّمة بالوصول ولا أثر للحجّية غير الواصلة، وحينئذٍ فالاجتهاد الأوّل متّصف بالحجّية في ظرفه، ولايمكن رفع اليد عنه إلّابعد وصول الحجّة الثانية، وبعد وصولها يبقى الاجتهاد الأوّل على وصف الحجّية في ظرفها، ولكنّه يسقط عن الاعتبار من هذا الحين، ففي الحقيقة


1- مناهج الوصول 1: 315 و 316 ..

ص: 282

يكون التبدّل في الحجّية من التبدّل في الموضوع.

ولكن اورد عليه: بأنّ الاجتهاد الثاني وإن كان لا يستكشف به بطلان الاجتهاد الأوّل، ولكن مقتضى أدلّة اعتباره ثبوت مقتضاه في الشريعة المقدّسة من أوّل الأمر، لعدم اختصاصه بزمان دون زمان، فبالدلالة الالتزامية يدلّ على بطلان العمل المأتيّ به على طبق الاجتهاد الأوّل(1).

هذا غاية ما يذكر من بيان وإيضاح لبطلان العمل المأتيّ به على طبق الاجتهاد الأوّل في الصورة المفروضة، وسيأتي تحقيق ذلك لاحقاً.

الثاني: أنّ الآثار السابقة لا تنتقض في الأحكام الوضعية ولا التكليفية التي عمل فيها على طبق الاجتهاد الأوّل، ولكلٍّ منهما توجيه:

أمّا الأحكام الوضعية: فلأ نّها تابعة للمصالح والمفاسد في جعلها واعتبارها، دون المصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فبقيام الحجّة الاولى تنكشف المصلحة على طبقها، وبعد قيام الحجّة الثانية لم يستكشف أنّ الاولى كانت غير مطابقة للواقع؛ لأنّ الأحكام الوضعية لا واقع لها وراء أنفسها، فلا معنى لكشف الخلاف فيها.

وأمّا الأحكام التكليفية: فهي تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، ولذا يتصوّر فيها كشف الخلاف، إلّاأنّ الحجّة الثانية تتّصف بالحجّية بعد انسلاخ الحجّية- بأيّ سبب كان- عن السابقة، فحجّيتها تحدث بعد سلب الحجّية عن سابقتها، وإذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون الحجّة المتأخّرة الحادثة موجبةً لانقلاب الأعمال- المتقدّمة عليها بزمان- من الصحّة إلى الفساد(2).

واورد عليه فيما اختصّ بالأحكام الوضعية- وإن كان صحيحاً في رأي


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 35- 37 ..
2- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 188 ..

ص: 283

المستشكل مبنىً-: بأنّ الحجّة الثانية تكشف عن خلاف الحجّة الاولى من ابتداء الشريعة، وأنّ الحكم السابق غير مجعول في الشرع على حسب المفروض، فلا تختلف عن الأحكام التكليفية.

وفي الأحكام التكليفية أيضاً: بأ نّه بعد سقوط الحجّة السابقة عن الاعتبار- والمفروض قيام الحجّة اللاحقة على بطلان الأعمال السابقة- يشكّ في تبعات عمل المكلّف من الإعادة أو القضاء، وحيث لا محرز له عن مطابقتها للواقع فلابدّ أن يرجع إلى الحجّة الثانية التعبّدية، وبما أنّها تدلّ على بطلان الأعمال السابقة فلا إجزاء.

وأمّا عدم تأثير الحجّة المتأخّرة في الأعمال المتقدّمة: فقد ينقض بشهادة العادل الذي كان فاسقاً في زمانٍ ثمّ تاب، وبعد صيرورته عادلًا شهد على أمر مربوط بزمان فسقه، فهل يشكّ في اعتبار شهادته؟!

والحلّ: أنّ المتأخّر لا يؤثّر في فساد ما وقع صحيحاً سابقاً، ولكنّه يمكن أن يكشف عن مخالفة الأعمال السابقة للواقع، ولا يختلف الحال في ذلك بين تقارن الحجّة أو تأخّرها، فإنّهما لا يؤثّران في البطلان(1).

وقد عرفت أنّ أساس كلام المستشكل كان يرتكز على أنّ الحجّة الثانية تكشف عن ثبوت الحكم من ابتداء الشريعة؛ ولذا يستلزم الحكم ببطلان الأعمال السابقة، فلابدّ من الخروج عن تبعاته، وسيأتي تحقيق هذا المبنى فيما بعد.

الثالث: أنّ لازم عدم الإجزاء قضاء العبادات السابقة على كثرتها، وهو أمر عسر على المكلّفين ويستلزم الحرج عليهم، والعسر والحرج منفيّان في الشريعة المقدّسة.

وفيه أوّلًا: أنّه قد يتصوّر ذلك في القضاء، دون الإعادة غالباً، إلّاأنّه قد


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 39- 41 ..

ص: 284

يوجب الحرج في إعادة الحجّ أيضاً.

وثانياً: أنّ المرفوع هو الحرج الشخصي، ففي كلّ مورد يستلزمه القضاء أو الإعادة فهو مرفوع، وإلّا فلابدّ من تدارك العمل.

وثالثاً: أنّ الحرج المدّعى يلزم بناءً على انكشاف الخلاف في العلم الوجداني أيضاً، فالنسبة بين قاعدة نفي الحرج وانكشاف الخلاف بالتعبّد تكون عموماً من وجه، فلا تصلح القاعدة للاستدلال في المقام.

الرابع: الإجماع على أنّ المأتيّ به على طبق الحجّة الشرعية، لا تجب إعادته ولا قضاؤه إذا قامت حجّة اخرى على خلافها، وهذا الإجماع قد حكي عن المحقّق النائيني(1).

وفيه أوّلًا: أنّه من الإجماع المنقول الذي لم ينقله غيره، فلا يعتمد عليه.

وثانياً: أنّ من المحتمل- لو لم ندّع العلم أو الظنّ- استناد المجمعين- لو سلّمنا الإجماع- في ذلك إلى بعض الوجوه المتقدّمة.

وأمّا إشكال معارضة هذا الإجماع للإجماع المحكي عن العلّامة والعميدي على عدم الإجزاء(2) فلا مجال له؛ لأنّ مدّعي الإجماع هنا لا يدّعيه على إجزاء العمل- المأتيّ به سابقاً- عن الواقع حتّى يتعارض الإجماعان، فيختلف مصبّ الإجماعين كما سيأتي توضيحه.

ثمّ للمحقّق النائيني في المقام تفصيل: بأنّ الإجزاء يبحث عنه في ثلاث مقامات:

المقام الأوّل: الإجزاء في العبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأوّل عن الإعادة والقضاء. ولا إشكال في أنّه القدر المتيقّن من مورد الإجماع.


1- فوائد الاصول 1: 259 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 81 ..

ص: 285

المقام الثاني: الإجزاء في الأحكام الوضعية فيما لم يبق هناك موضوع يكون محلّاً للابتلاء، كما إذا بني على صحّة العقد الفارسي اجتهاداً أو تقليداً، فعامل معاملة بالفارسية ولكنّ المال الذي انتقل إليه بتلك المعاملة أتلفه أو تلف عنده. وفي شمول الإجماع لهذا المقام إشكال، وإن كان لا يبعد الإجماع على عدم التبعة من الإعادة والقضاء ومن الضمان في الأفعال الصادرة على طبق الاجتهاد الأوّل.

المقام الثالث: الإجزاء في الأحكام الوضعية مع بقاء الموضوع الذي يكون محلّاً للابتلاء، كبقاء المال بعينه في الفرض السابق، وكما إذا عقد على امرأة بالعقد الفارسي وكانت محلّ الابتلاء له بعد انكشاف الخلاف. وهذا المورد خارج عن معقد الإجماع، وفتوى جماعة بالإجزاء تبتني على ذهابهم إلى أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية هو الإجزاء(1).

أقول: قد عرفت فيما مرّ أنّ الإجماع لا يصلح دليلًا على الإجزاء فلا نعيد، وأمّا الأحكام الوضعية: فالقسم الثاني منها- كما اعترف هذا المحقّق- محلّ بحث وخلاف، وأمّا القسم الأوّل منها فلا فرق بينه وبين القسم الثاني إلّامن ناحية أنّه مع عدم بقاء الموضوع يجب تدارك التالف ببدله ما أمكن، فالتفصيل لا مجال له كالإجماع نفسه.

الخامس: السيرة المتشرّعية جرت على عدم لزوم الإعادة أو القضاء في موارد العدول والتبدّل في الاجتهاد؛ حيث لا نعهد أحداً يعيد أو يقضي ما أتى به من العبادات طيلة حياته، فلا محالة لا تجب الإعادة أو القضاء عند قيام حجّة على الخلاف.

وفيه أوّلًا: أنّ موارد قيام الحجّة على بطلان الأعمال الصادرة على طبق الحجّة


1- أجود التقريرات 1: 299 ..

ص: 286

الاولى من القلّة بمكان، وليست من المسائل عامّة البلوى ليستكشف فيها السيرة المتشرّعية.

وثانياً: أنّا لم نحرز اتّصال هذه السيرة- لو كانت- بزمن المعصومين عليهم السلام؛ إذ لا علم لنا بحدوث العدول أو تبدّل الرأي في تلك الأعصار؛ حتّى تتحقّق السيرة بشرائطها آنذاك، بل كثرة الابتلاء بهذه المسألة قد حدثت في الأعصار المتأخّرة.

السادس: ما دلّ على جواز العدول أو وجوبه إنّما دلّ عليه بالإضافة إلى الوقائع اللاحقة؛ إذ العمدة فيهما الإجماع، أو أصالة التعيين في الحجّية عند الدوران بينه وبين التخيير، وكلاهما لا يثبتان الحجّية بالإضافة إلى الوقائع السابقة لإهمال الأوّل فيقتصر فيه على القدر المتيقّن، ولا سيّما مع تصريح جماعة من الأعاظم بالرجوع في الوقائع السابقة إلى فتوى الأوّل وعدم وجوب التدارك بالإعادة أو القضاء.

ولورود استصحاب الأحكام الظاهرية- الثابتة بمقتضى فتوى الأوّل- في الوقائع السابقة على أصالة التعيين؛ لأنّها أصل عقلي لا يجري مع جريان الأصل الشرعي، فاستصحاب الحجّية لفتوى الميّت بالإضافة إلى الوقائع السابقة لا يظهر له دافع(1).

أقول: إن حدث الشكّ في أنّ الموت هل يكون أمداً لحجّية فتوى الميّت كان للاستصحاب مجال، ولا يكشف اختلاف الحيّ معه في الفتوى عن خطأ الميّت، إلّا أنّ الحجّة الفعلية في المقام- وهي مقلَّده الحيّ- يفتي بخلاف رأي الميّت، ويرى أنّ الحكم الشرعي ثابت من ابتداء الشريعة إلى الآن، فما عمله المكلّف سابقاً- وهو


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 81 و 82 ..

ص: 287

باطل على رأيه الآن- يكون باطلًا من أوّل الشريعة، وحيث إنّ فتوى المقلَّد تكون أمارة شرعية في حقّ مقلّديه، فلا يبقى لهم استصحاب الحجّية لفتوى الميّت؛ حيث إنّ الأمارة تكون واردة على الاستصحاب، فلا تصل النوبة إليه.

السابع: أنّه قد انقدح في الاصول عدم الإجزاء في الحكم الظاهري إذا انكشف خلافه، ومقتضاه عدم الإجزاء في المقام، إلّاأنّه يمكن أن يبني المكلّف حينئذٍ على صحّة الأعمال التي أتى بها تقليداً للميّت، والوجه في ذلك: أنّ اختلاف الحيّ والميّت قد يكون في الحكم التكليفي، وقد يكون في الحكم الوضعي، ولا إشكال في تحقّق الامتثال إذا أتى المكلّف بالعمل في زمان حياة مقلَّده صحيحاً، فالحكم التكليفي بالنسبة إليه واضح.

وأمّا الحكم الوضعي- أي صحّة الأعمال السابقة التي أتى بها تقليداً للمجتهد الأوّل؛ بحيث لا تحتاج إلى الإعادة أو القضاء- فلابدّ أن تكون المسألة مستندة إلى اعتبار شي ء في العبادة أو العقد أو الإيقاع في رأي المجتهد الثاني لم يأت به المكلّف حين تقليده للمجتهد الأوّل، ومن المعلوم أنّ المكلّف كان حين العمل جاهلًا بالنسبة إلى اعتبار هذا الشي ء شرطاً أو جزءاً، فيشمله حديث الرفع؛ لأنّ هذا الشرط أو الجزء يكون ممّا لا يعلمون بحسب المفروض، وإطلاقه حاكم وشامل لزمان حصول العلم بالمجهول.

مع أنّه في فرض الكلام لم يحصل العلم باعتباره في العقد؛ لوضوح الفرق بين قولنا: «رفع ما لا يعلمون» وبين قولنا: «رفع ما لم يعلموا»، فالإطلاق للأوّل موجود دون الثاني(1).

ففي مفروض المسألة- ببركة القواعد الخاصّة في بعض الموارد ك «لا تعاد ...»


1- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 379- 380 ..

ص: 288

في مورد الصلاة، والقواعد العامّة التي تعذر الجاهل كالبراءة الشرعية الجارية في الأجزاء والشرائط- يحكم ببناء المكلّف على صحّة أعماله السابقة، من دون تفصيل بين الموارد من العبادات أو المعاملات.

إلّاأنّ هذا الوجه يجري فيما إذا كان الجهل عذراً، ففي كلّ مورد جرت قاعدة تدلّ على رفع الحكم عن الجاهل حُكِم بإجزاء عمله، وإلّا فلا.

فالمتحصّل: أنّه إن كان هذا مراد السيّد الماتن كان عليه تخصيص الحكم بالإجزاء في موردٍ يكون الجهل عذراً كما فعله بعض الأعلام(1)، ويستكشف من عدم التقييد أنّ هذا الوجه ليس مراداً للماتن قدس سره.

الثامن: أنّ جميع الأعمال السابقة التي أتى بها المستفتي على طبق فتوى الميّت في زمان حياته صحيحة؛ إذ لا ريب في حجّية قول الميّت في حياته، ولا يسقطه الموت عن الحجّية، فالموت نهاية لأمد حجّية قول الميّت إن لم يبق المقلّد على تقليده بعد الموت، وليس بمسقط لحجّيته في زمان حياته، فكلّ ما أتى به المكلّف كان عن حجّة فعلية لم ينكشف خلافها، فليس الموت كاشفاً عن خطأ الحجّة أو عن عدم حجّية قول الميّت في حياته.

كما أنّ فتوى الحيّ- الذي رجع إليه- ليست بكاشفة عن خطأ الميّت؛ لأنّ خلاف الحيّ في الفتوى مع الميّت لا يوجب سقوط حجّية قول الميّت في ظرف حجّيته؛ فإنّ المستفاد من أدلّة التقليد: أنّ حجّية قول الفقيه شأنية، وتصير فعلية بالرجوع إليه، فتحدث الفعلية بعده، فلا معارضة لقول الحيّ مع قول الميّت.

ومن هذا البيان ظهر: أنّ قياس المقام بباب تبدّل رأي المجتهد فاسد؛ لأنّ تبدّل الرأي يكشف عن خطأ المجتهد في رأيه الأوّل، ولا يوثق به عقلائياً، ولا حجّية له


1- منهاج الصالحين، العبادات، السيّد المحقّق الخوئي: 7، المسألة 17 ..

ص: 289

حينئذٍ، بخلاف الموت فإنّه لا يكشف عن الخطأ، بل ينتهي الأمد لحجّية الحجّة الفعلية.

وأيضاً ظهر: أنّ هذه المسألة لا تكون من صغريات مسألة إجزاء الأمر الظاهري وعدمه؛ فإنّ مصبّ تلك المسألة هو انكشاف الخلاف، وقد عرفت أنّه لم ينكشف الخلاف بالموت في المقام(1).

ويمكن استفادة هذا الوجه من كلام المحقّق الأصفهاني، فراجع(2).

التاسع: ما يستفاد من تعليقة السيّد الشهيد مصطفى الخميني على «العروة»؛ فإنّه يرى أنّ البحث لابدّ أن يقع حول حدود حجّية رأي المجتهد الأوّل ومعذّريّته بنظر المجتهد الثاني.

بيانه: أنّ التقليد الأوّل إن كان معذّراً عند المقلَّد الثاني- أي كان تقليده صحيحاً- فلا شي ء عليه، وإن كان معذّراً وكان من موارد تعيّن البقاء أو جواز البقاء فالأمر كذلك، وإن لم يكن معذّراً لكونه فاقداً لشرطٍ كالأعلمية- وهكذا في كلّ مورد تعيّن العدول إلى الحيّ-: فإن رجع ذلك إلى بطلان مستنده في التقليد الأوّل وتقصير المقلّد فحكمه حكم من قلّد فاسداً، وإن لم يكن بتقصير منه فإيجاب العدول لا ينافي معذّرية التقليد الأوّل بالنسبة إلى مخالفته للواقع، وترك الإعادة والقضاء، وترك ترتيب الآثار حسب نظر المجتهد الثاني(3).

وهذان الوجهان الأخيران متّحدان وإن اختلف بيانهما، وهما يبتنيان على لزوم اعتبار الحجّية الثابتة لرأي المجتهد الميّت وتعيين حدودها، من دون أن تكون


1- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 378 ..
2- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 33 ..
3- تحرير العروة الوثقى: 31 و 32 ..

ص: 290

المسألة من صغريات مبحث الإجزاء.

إذا عرفت ما تلوناه عليك يظهر: أنّ صحّة ما عمله المكلّف سابقاً- تقليداً للمجتهد الميّت- تتمّ على أساس قواعد تصحّح الأعمال السابقة العبادية وغيرها.

نعم، على المكلّف بعد العدول أن يأتي بأعماله وفقاً لرأي المجتهد الثاني المعدول إليه؛ لأنّه الحجّة الفعلية عليه حينئذٍ، وقد انتهى أمد حجّية رأي المجتهد الأوّل؛ ولذا عقّب السيّد الإمام هذه المسألة بقوله: «وإن وجب عليه فيما يأتي العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني».

ص: 291

الشكّ في حائزية المجتهد للشرائط

(مسألة 17): إذا قلّد مجتهداً من غير فحص عن حاله، ثمّ شكّ في أنّه كان جامعاً للشرائط، وجب عليه الفحص، وكذا لو قطع بكونه جامعاً لها ثمّ شكّ في ذلك، على الأحوط. وأمّا إذا أحرز كونه جامعاً لها، ثمّ شكّ في زوال بعضها عنه- كالعدالة والاجتهاد- لا يجب عليه الفحص، ويجوز البناء على بقاء حالته الاولى (1).

الشكّ في حائزية المجتهد للشرائط

1- بعدما ذكر الماتن قدس سره شرائط المقلَّد تعرّض لصور شكّ المكلّف في اتّصافه بها. وهذه المسألة لم تعنون في كلمات أصحابنا القدّامي، وبعد طرحها في العصر المتأخّر أصبحت عرضة للتشقيق والتصاوير المختلفة.

وكيف كان، فقد تعرّض الماتن قدس سره في هذه المسألة إلى ثلاث صور للشكّ في أهلية المرجع للتقليد؛ وهي:

أ- ما إذا قلّد المجتهد مدّة من غير فحص عن حاله، ثمّ تنبّه وشكّ في جامعيّته للشرائط وعدمها.

ب- ما إذا قطع ابتداءً بكونه جامعاً للشرائط، ثمّ شكّ فيما قطع به أوّلًا.

ج- ما إذا أحرز ابتداءً كونه جامعاً للشرائط، إلّاأنّه شكّ بعد ذلك في زوال بعضها.

ص: 292

أمّا الصورة الاولى فقد صوّرها بعض الأعلام فيما إذا كانت الشرائط محرزة ابتداءً بقيام البيّنة ثمّ عرض له الشكّ، وبذلك تفترق هذه الصورة عن الثانية(1).

لكن هذا الفرض خلاف ما يُفهم من ظاهر عبارة الماتن كما هو الظاهر، بل الفرق بين الصورة الاولى والثانية: أنّ المقلّد في الصورة الاولى قلّد المجتهد في أوّل الأمر بتسامح أو غفلة بالنسبة إلى الفحص عن شرائطه وإحراز حجّة عليها، ثمّ تنبّه وشكّ في أنّه كان جامعاً لها أم لا(2)، ولكنّه في الصورة الثانية لا يكون غافلًا أو متسامحاً في الشرائط بل أحرزها بالقطع، ثمّ شكّ فيما قطع به أوّلًا شكّاً سارياً في الاصطلاح.

وبهذا تمتاز الصورة الثانية عن الثالثة أيضاً؛ فإنّ الشكّ في الصورة الثالثة شكّ في أمر جديد- وهو زوال بعض الشرائط- من دون إخلال بالنسبة إلى إحرازه السابق في الشرائط.

وكيف كان، لا إشكال في الصورة الاولى في وجوب الفحص كما كان يجب في ابتداء التقليد؛ للزوم استناد أعمال المكلّف إلى الحجّة المعتبرة، وهي تقليد من يستجمع الشرائط بأجمعها، وإحراز ذلك يحتاج إلى الفحص كما لايخفى.

وأمّا في الصورة الثانية، فالذي يقتضيه النظر هو وجوب الفحص كالصورة الاولى؛ وذلك لأنّ الشكّ إذا كان سارياً فهو يوجب زوال القطع حتّى بالنسبة إلى الحالة السابقة، فيكشف عن عدم توفّر حجّة للعامّي- من أوّل الأمر- على جامعية من قلّده لشرائط التقليد شرعاً، فيجب عليه الفحص كالصورة الاولى التي قلّد فيها من دون حجّة على الشرائط، هذا.

ولكنّ الماتن لم يفتِ في هذه الصورة بوجوب الفحص، بل احتاط وجوباً في


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 187 ..
2- راجع في هذا المجال: الدرّ النضيد 2: 236 ..

ص: 293

ذلك. ولعلّ الوجه فيه: احتمال حجّية قاعدة اليقين في حقّ العامّي في هذه الصورة.

ولكنّه قدس سره ردّ حجّية هذه القاعدة في رسالة الاستصحاب(1).

وأمّا في الصورة الثالثة فقد حكم بجواز البناء على بقاء حالته الاولى؛ وذلك لأنّ الاستصحاب في هذا الفرض يقتضي بقاء الشرائط المحرزة سابقاً، وعدم الاعتناء بالشكّ في زوالها بلاريب.


1- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 230 ..

ص: 294

فقد شرائط التقليد

اشارة

(مسألة 18): إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط من فسق أو جنون أو نسيان، يجب العدول إلى الجامع لها، ولا يجوز البقاء على تقليده. كما أنّه لو قلّد من لم يكن جامعاً للشرائط، ومضى عليه برهة من الزمان، كان كمن لم يقلّد أصلًا، فحاله حال الجاهل القاصر أو المقصّر (1).

1- تتركّب هذه المسألة من فرعين:

الأوّل: عروض ما يوجب فقد المجتهد للشرائط المعتبرة في المرجع.

الثاني: تقليد غير جامع الشرائط في برهة من الزمان.

فقدان المفتي للشرائط

أمّا الفرع الأوّل: فأوّل من تعرّض له على التفصيل المحقّق الكركي في حاشيته على «الشرائع»؛ حيث قال:

«متى عرض للفقيه- والعياذ باللَّه- فسق أو جنون، أو طعن في السنّ كثيراً بحيث اختلّ فهمه، امتنع تقليده لوجود المانع، ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده؛ لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذٍ وقد خرج

ص: 295

عن الأهلية لذلك، فكان تقليده باطلًا بالنسبة إلى مستقبل الزمان»(1).

واستحسن كلامه كلّ من تأخّر عنه إلّاقليلًا منهم، استناداً إلى أنّ الأدلّة تدلّ على جواز تقليد واجد الشرائط حدوثاً وبقاءً، وبزوالها- بأجمعها أو بعضها- يرتفع الجواز، ولا يكفي استجماع الشرائط حدوثاً في جواز البقاء على تقليده، وادّعى الشيخ الأعظم الأنصاري الإجماع على ذلك(2). نعم، في خصوص زوال شرط الحياة قد دلّ الدليل على جواز البقاء على تقليد الميّت كما مرّ.

فلا يقاس المقام بالرواية التي رواها الراوي وكان حين روايتها عادلًا أو ثقةً ثمّ زال ذلك؛ حيث إنّ العدالة والوثوق حين الرواية تكفيان في حجّيتها، وفسقه أو ارتداده بعد ذلك لا يضرّان بحجّية ما رواه، فتختلف الفتوى عن الرواية في ذلك.

وفي قبال ذلك، ادّعى بعض الأعلام أنّ ما يستفاد من الأدلّة: هو أنّ الشرائط تعتبر في حجّية الفتوى حدوثاً لا بقاءً، فبحسب القاعدة يجوز البقاء على تقليد من كان- حين أخذ المسائل منه- جامعاً للشرائط المعتبرة وإن زالت عنه الشرائط فيما بعد. والمستند لهذه القاعدة وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ استصحاب الحجّية- الثابتة لفتوى المجتهد بحسب الحدوث- يقتضي جواز البقاء على تقليده بعد تبدّل الشرائط المذكورة إلى ما يضادّها أو يناقضها؛ للقطع بحجّيتها حال استجماعه الشرائط، فإذا ارتفعت وزالت وشككنا في بقائها على حجّيتها وعدمه استصحبنا بقاءها على حجّيتها.

فهذا الاستصحاب تامّ الأركان عند هذا القائل، إلّاأنّ الاستصحاب لا يجري عنده في الشبهات الحكمية كما في المقام، فلا يتمّ مقتضاه عنده.


1- حياة المحقّق الكركي وآثاره 11: 114- 115 ..
2- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 68 ..

ص: 296

الوجه الثاني: أنّ الأدلّة الاجتهادية- المستدلّ بها على حجّية فتوى الفقيه- غير قاصرة الشمول لصورة زوال الشرائط وارتفاعها، وذلك لإطلاقها كما اتّضح في شرطية الحياة، فيعتبر أن يكون المجتهد المقلَّد حال الأخذ منه ممّن تنطبق عليه العناوين الواردة في لسان الدليل، فإذا كان واجداً للشرائط حين الأخذ منه صدق أنّ الفقيه أنذره، سواء أكان باقياً على تلك الشرائط بعد الإنذار أم لم يكن، وكذا غيره من الأدلّة اللفظية.

وأمّا السيرة العقلائية: فإنّها أيضاً جرت على رجوع الجاهل إلى العالم، سواء في ذلك أن يكون العالم باقياً على علمه وخبرويّته بعد الرجوع أم لم يكن، مثلًا: إذا راجعوا الطبيب وأخذوا منه العلاج والدواء وقد جنّ بعد ذلك، لم يتردّدوا في جواز العمل على طبق معالجته.

فتحصّل: أنّ البقاء على تقليد المجتهد- في المسائل التي عمل بها أو تعلّمها حال استجماعه للشرائط المعتبرة- موافق للقاعدة مطلقاً، وإن افتقد شيئاً منها أو كلّها بعد ذلك(1).

والتحقيق في المقام: هو أنّ أدلّة وجوب التقليد على العامّي تدلّ على وجوب اتّباع رأي الفقيه العادل حال تعلّق العمل أو الالتزام به؛ وإلّا كان عملًا بغير الرأي، أو برأي غير الفقيه، أو برأي الفقيه غير العادل، فلابدّ من إحراز جميع القيود المعتبرة في الحكم بجواز التقليد؛ حتّى يحرز العنوان الذي هو الموضوع في لسان الدليل.

ومن المعلوم أنّه لا يصحّ إطلاق هذا العنوان لصورة زوال الرأي بالجنون أو اختلال الفهم؛ حيث إنّه يعتبر ثبوت المطلق في جميع مراتب الإطلاق، فاعتبار جامعية المجتهد بالنسبة إلى الشرائط التي يوجب زوالها عدم صدق رأي الفقيه أي


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 198 و 291 ..

ص: 297

ذات الموضوع- كالجنون واختلال الفهم والموت على رأي- واضح.

وأمّا الإيمان والعدالة فاعتبارهما في المجتهد قد ثبت بدليل منفصل، وليسا هما من مقوّمات موضوع التقليد؛ فلايعتبران في حجّية الفتوى بنفسها، بل في حجّية إظهار الفتوى وإحرازها، وعلى هذا فقد يقال بعدم اعتبارهما بقاءً، إلّاأنّ عدمهما يعدّ منقصة دينية ودنيوية، ولا يرضى الشارع الحكيم بزعامة المسلمين على يد من فيه منقصة كذلك كما يظهر بالمراجعة إلى الأخبار الواردة في شأن المفتي وعِظم منصبه.

ويظهر هذا التفصيل بين الشرائط من تعليقة السيّد الإمام على «العروة الوثقى»؛ حيث علّق على المسألة الرابعة والعشرين منها: «الحكم في بعض الشرائط مبنيّ على الاحتياط».

إذا عرفت ما ذكرنا تعرف أنّ شيئاً من الوجهين- اللذين استدلّ بهما بعض الأعلام- لا يصلح لإثبات قاعدة اعتبار الشرائط في المجتهد حدوثاً لا بقاءً؛ وذلك لأ نّه قد عرفت أنّ بعض الشرائط داخل في موضوع الأدلّة، وفقدها يوجب زوال الموضوع، ومن المعلوم أنّه يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع، فلا يجري الاستصحاب لتبدّل الموضوع في مفروض المسألة.

كما أنّ قياس المقام- أي مقام الفتوى- بالرواية لا وجه له؛ لوضوح الفرق بين الرأي والرواية، فإنّ الرأي متقوّم بصاحبه حدوثاً وبقاءً، بينما الرواية متقوّمة بالحكاية، ففي حدوثها تحتاج إلى الحاكي ولكن بقاءها غير متقوّم بالحاكي.

والشاهد على ما ذكرنا: أنّ صاحب الرأي إن تبدّل رأيه فيؤخذ برأيه الأخير فقط، ولكن صاحب الرواية إذا نقل أخباراً مختلفة ومتعارضة فيؤخذ بجميعها ويعمل بقواعد باب التعارض.

ص: 298

وبهذا البيان يتّضح حال السيرة العقلائية المدّعاة؛ حيث إنّ الطبيب يكون مرشداً ومخبراً عن الداء ودوائه، فمع إحراز حذاقته وتبحّره يطمئنّ المريض بأنّ علاجه هو هذا الدواء فيعتمد على إخباره، وأمّا إذا شكّ في تشخيص الطبيب- لأيّ سبب كان- فلا يعتمد على قوله قطعاً، فحال الطبيب يكون كحال الراوي حيث لا يتعبّد برأيه، فلا يقاس بالمقام.

لا يقال: إنّ هذا المثال بنفسه يستشهد به على استقرار السيرة العقلائية على التقليد.

فإنّه يقال: ما يستشهد به هو لزوم رجوع الجاهل إلى العالم في الجملة، ولكن تحليل مناشئ الرجوع في مورد قد يختلف عنها في مورد آخر، فكلّ من الراوي والفقيه يمكن أن يُعدّ عالماً يجب الرجوع إليه، إلّاأنّ كيفية الرجوع والاستناد تختلف فيهما. فتأمّل.

ثمّ إنّ بعض الأعلام قد ذكر أنّ القاعدة وإن كانت تقتضي جواز البقاء على تقليد من فقد الشرائط، إلّاأنّ القرينة الخارجية قامت على اعتبار الشرائط حدوثاً وبقاءً؛ وذلك لأنّه مقتضى ما ارتكز في أذهان المتشرّعة حسب ما استكشفته من مذاق الشارع؛ من عدم رضائه أن يكون المتصدّي للزعامة الكبرى للمسلمين من به منقصة دينية أو دنيوية يعاب بها عليه وتسقطه عن أنظار العقلاء المراجعين إليه، فلا يحتمل أن يرضى بكونه جاهلًا أو منحرفاً عن الشريعة التي يدعو الناس إلى سلوكها، فضلًا عن أن يكون راضياً بكونه مجنوناً أو كافراً أو غير ذلك من الأوصاف الرذيلة.

فلا وجه لمقايسة هذه الشرائط لشرطية الحياة؛ لأنّ ضدّها- أعني الموت- ليس بمنقصة دينية ولا دنيوية، وإنّما هو كمال للنفس وتجرّد من هذه النشأة وانتقال إلى

ص: 299

نشأة اخرى أرقى، ومن هنا اتّصف به الأنبياء والأوصياء، إذن فالأدلّة الدالّة على اعتبار تلك الشرائط حدوثاً هي بنفسها تدلّ على اعتبارها بقاءً(1).

ولكن قد عرفت عدم تمامية القاعدة بإطلاقها، وما ذكره يتمّ في بعض الشرائط المعتبرة في المرجع من دون أن يجري في جميع موارد التقليد، ولا يثبت اعتبار الشرائط حدوثاً وبقاءً مطلقاً من مجرّد حجّية رأي المجتهد من دون لحاظ منصب المرجعية والزعامة الدينية في المجتمع.

ولذا فيمكن الرجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط حالياً في المسائل المستحدثة، ويبقى في المسائل التي تعلّمها أو عمل بها سابقاً على رأي المجتهد الذي عرض له عارض يُفقده بعض الشرائط من دون تحقّق زعامة ومنصب كي يكون فقد بعض هذه الشرائط عيباً لها.

إذن فاعتبار بعض الشرائط يكون مستنداً إلى اعتباره في حقيقة التقليد، وبعض آخر يستند اعتباره إلى منصب الإفتاء؛ أي ثبت اعتباره بالدليل الخارجي.

وأمّا الموت: فقد عرفت أنّه لا يزيل الرأي؛ ولذا لم يذكر في عنوان هذه المسألة، وقد ثبت في محلّه أنّ الدليل الخاصّ قد قام على جواز تقليد الميّت بشرائط، فلا يدخل في موضوع المسألة.

إلّاأنّه قد ادّعى بعضهم أنّ مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت، ومسألة البقاء على تقليد فاقد الشرائط بقاءً، من باب واحد. وأنّ الظاهر من بعض أدلّة وجوب العدول عن الميّت أنّ وجوب العدول هنا من المسلّمات(2)، كما أشار في تتمّة كلامه إلى الإجماع في المقام أيضاً.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 200 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 57 ..

ص: 300

وفيه أوّلًا: أنّ الإجماع الذي ادّعاه الشيخ الأعظم الأنصاري ممنوع: بأ نّه منقول، وبأنّ تردّد جمع من الأعلام في المسألة يخالفه، وبأنّ المسألة لم تكن معنونة بين القدماء كما قد عرفت في تأريخ المسألة.

وثانياً: قد عرفت أنّ الرأي لا يزول بالموت، بينما العوارض المذكورة في فرض المسألة- من الجنون والفسق واختلال الفهم- فتُزيل الرأي نفسه أو إحرازه؛ ولذا تفترق مسألة البقاء على تقليد الميّت عن مسألة البقاء على تقليد فاقد الشرائط، إلّا بناءً على زوال الرأي بالموت- كما ذكره في «المستمسك»(1)- أو عدم التفرقة بين الموت وغيره ممّا يزيل شرائط المرجع، وقد عرفت خلاف الأوّل منهما في محلّه، كما قد عرفت لزوم التفصيل في المقام.

تنبيه: قد عرفت في كلام المحقّق الكركي أنّه ذكر دليلًا على وجوب العدول، وهو «أنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذٍ، وقد خرج عن الأهلية لذلك، فكان تقليده باطلًا بالنسبة إلى مستقبل الزمان»(2).

فإن كان مراده قدس سره: أنّه لابدّ للمقلّد أن يستند إلى الحجّة في كلّ عمل يعمله في الشرعيات- ففي كلّ واقعة لابدّ أن يستند إلى رأيه حجّةً على عمله- ففيه: أنّه لم نجد دليلًا على ذلك في جميع الوقائع؛ لأنّ التقليد- كما عرفت من معناه- هو العمل استناداً واعتماداً على ما تعلّمه من رأي الفقيه، ولا يعتبر في كلّ فرد من واقعة إيقاعه بنيّة الاستناد إلى الحجّة، فلا يعتبر في الصلاة مثلًا إحراز الحجّة على هذه الصلاة التي يريد المكلّف أن يأتي بها.

وإن كان مراده: الاستناد إلى الفقيه في المسائل المستحدثة- كما يظهر من تأكيده


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 3 ..
2- حياة المحقّق الكركي وآثاره 11: 115 ..

ص: 301

على مستقبل الزمان- فهو صحيح بالنسبة إلى المسائل المستحدثة، ولكنّه لا يدلّ على وجوب العدول مطلقاً.

فلا يصلح ما ذكره دليلًا لإثبات وجوب العدول، إلّاأن يوجّه كلامه ويقال بالتفصيل في الشرائط كما مرّ.

تقليد من لا يصلح للتقليد

وأمّا الفرع الثاني:- وهو أنّ المقلّد إن قلّد من لم يكن جامعاً للشرائط ومضى عليه برهة من الزمان- والحال كذلك- فهو كمن لم يقلّد أصلًا فحكمه: أنّه إن كان معذوراً في تقليده- لحصول العلم له، أو قيام البيّنة على جامعيّته للشرائط- فحاله حال الجاهل القاصر، وأمّا إن لم يكن معذوراً في تقليده بأن لم يحرز جامعيّته للشرائط فحاله حال الجاهل المقصّر. ويأتي البحث عن ذلك في المسألة العشرين إن شاء اللَّه.

نعم، إن كان ما عمله في تلك البرهة مطابقاً للاحتياط فهو مجزئ بلا إشكال.

والمستند في كون المكلّف في مفروض المسألة كمن لم يقلّد: هو أنّ التقليد يكون طريقاً لخروج المكلّف عن عهدة التكاليف فيما إذا قلّد الجامع للشرائط، ومع قطع المكلّف بفقد مقلَّده للشرائط من ابتداء تقليده فلم يتحقّق التقليد المشروع، فلم تنطبق أعماله على رأي حجّةٍ في الشرع، فيكون كمن لم يقلّد أصلًا؛ لعدم تحقّق شروط التقليد المشروع في مرجعه.

ص: 302

طرق معرفة الاجتهاد أو أعلمية

(مسألة 19): يثبت الاجتهاد بالاختبار، وبالشياع المفيد للعلم، وبشهادة العدلين من أهل الخبرة. وكذا الأعلمية. ولا يجوز تقليد من لم يعلم أنّه بلغ مرتبة الاجتهاد وإن كان من أهل العلم، كما أنّه يجب على غير المجتهد أن يقلّد أو يحتاط وإن كان من أهل العلم وقريباً من الاجتهاد (1).

طرق معرفة الاجتهاد أو أعلمية

1- ذكر السيّد المرتضى والمحقّق الحلّي(1) وجمع آخر: أنّ جامعية الشرائط في المفتي يمكن أن تحرز بالمخالطة والأخبار المتواترة الموجبين للعلم، وقد سلّم من تأخّر عنهما هذين الطريقين لإحرازها.

وقد ذكر العلّامة الحلّي طريقاً آخر: وهو غلبة الظنّ للمستفتي على أنّ مفتيه من أهل الاجتهاد والورع، ويمكن إحراز ذلك برؤيته له منتصباً للفتوى بمشهد من الخلق واجتماع المسلمين وتعظيمه(2). وهذا نفس الشياع، ولكن المتأخّرين اعتبروا في الشياع إفادته العلم، فما لم يفد العلم فهو غير معتبر.


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 2: 801؛ معارج الاصول: 201 ..
2- تهذيب الوصول: 292؛ مبادئ الوصول: 247؛ نهاية الوصول: 638 و 639 ..

ص: 303

ثمّ بعد ذلك ذكر صاحب «المعالم» شهادة العدلين العارفين؛ محتجّاً بأ نّها حجّة شرعية، إلّاأنّ اجتماع شرائط قبولها في هذا الموضع عزيز الوجود(1). وقد اعترف جميع من تأخّر عنه بحجّية هذا الطريق مضافاً إلى ما تقدّم من العلم الحاصل من المخالطة والأخبار المتواترة ونحوهما.

وكيف كان، فقد مرّ أنّه لابدّ من إحراز الشرائط المعتبرة في المقلَّد حتّى يجوز تقليده، والطريق إلى إحرازها إمّا الوجدان أو التعبّد.

والإحراز الوجداني هو حصول العلم بأيّ سبب من الاختبار والمخالطة ونحوهما أو الشياع الذي يفيد العلم، ولا ريب في حجّية العلم القطعي العقلي، وأمّا العلم العادي- الذي يعبّر عنه بالاطمئنان- فهو ملحق بالعلم القطعي العقلي؛ فإنّه حجّة عقلائية يراه العقلاء علماً ويتعاملون معه معاملة العلم الواقعي شرعاً(2).

ومن الإحراز التعبّدي شهادة العدلين من أهل الخبرة التي تسمّى بالبيّنة، وهي طريق عقلائي يسلكه العقلاء غالباً في ثبوت الموضوعات الخارجية، كما أنّها حجّة شرعية قام الدليل عليها في موارد كثيرة، إلّاأنّ الغالب ورودها مورد القضاء وفصل الخصومات والحدود والقصاص وحقوق الناس، ومن هنا فقد يتوهّم اختصاص حجّيتها بهذه الموارد فقط.

ولكنّه لا مجال لهذا التوهّم؛ فإنّ الأدلّة الواردة في ثبوت المعظّمات بها- كما يوجب القتل مثل الزندقة وعبادة الأوثان واللواط، أو القطع كالسرقة، أو الحدّ كشرب الخمر ... ونحوهما ممّا يعثر عليه المتتبّع وكذا في موارد حقوق الناس


1- معالم الدين: 244- 245 ..
2- راجع: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 190 ..

ص: 304

وغيرها من الموارد الكثيرة المختلفة- موجبة لإلغاء الخصوصية عرفاً؛ لأنّ العرف يرى أنّ ثبوت تلك الأحكام- كالقطع والقتل والحدّ- إنّما هو لثبوت موضوعاتها بالبيّنة، من غير دخالة لخصوصية الموضوع أو الحكم في ذلك، بل دعوى الجزم باعتبارها في مثل النجاسة والطهارة من غير المعظّمات- بعد ثبوت تلك المعظّمات بها- غير جزاف(1) هذا.

مضافاً إلى موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(2).

وهذه الرواية معتمدة من ناحية سندها؛ إذ لو سلّمنا كون مسعدة بن صدقة عامياً، إلّا أنّ المراجع لأخباره يجدها في غاية المتانة وموافقة لما يرويه الثقات من الأصحاب؛ ولذا عملت الطائفة بما رواه هو وأمثاله من العامّة، بل لو تتبّعت وجدت أخباره أسدّ وأمتن من أخبار مثل جميل بن درّاج وحريز بن عبداللَّه، حكى ذلك الوحيد عن المجلسي الأوّل ووثّقه بهذا الاعتبار(3).

وكذا فهو ممّن وقع في أسناد «كامل الزيارات»، وإن كان لا يمكن المساعدة على هذا التوثيق العامّ.


1- كتاب الطهارة، الإمام الخميني قدس سره 4: 262 ..
2- الكافي 5: 313/ 40؛ تهذيب الأحكام 7: 226/ 989؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4 ..
3- تنقيح المقال 3: 212 ..

ص: 305

وأمّا دلالتها: فإنّ المعروف في معناها: أنّ كلّ شي ء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه سواء كان من قبيل الأمثلة المذكورة في الرواية- ممّا قامت أمّارة عقلائية وشرعية على حلّيتها- أم لا؛ وذلك لأنّ ذكر خصوص تلك الأمثلة إنّما هو من باب الاتّفاق، ثمّ عقّبها بقاعدة كلّية شاملة لمواردها وغيرها وهي: «الأشياء كلّها على هذا ...»(1).

ولمّا كانت للبيّنة حيثية الأمارية، فلا يفهم العرف من قاطعيّتها للحلّية إلّا لأماريّتها على الواقع وثبوته بها، من غير خصوصية للموضوعات أو الأحكام المترتّبة عليها، خصوصاً مع جعلها عِدلًا للاستبانة(2).

واحتمل الماتن قدس سره احتمالًا آخر في معنى الرواية فقال: «هذا الاحتمال يكون ثقيلًا على الأسماع ابتداءً، وليس بعيداً بعد التنبّه لخصوصيات الرواية: وهو أنّ المراد بقوله: «كلّ شي ء هو لك حلال» أنّ ما هو لك بحسب ظاهر الشرع حلال، فيكون قوله: «هو لك» من قيود الشي ء، و «حلال» خبره، وتشهد لهذا امور:

منها: ذكر ضمير «هو» ... لعلّها لإفادة خصوصية زائدة، هي تقييد الشي ء بكونه لك.

منها: الظاهر من قوله: «ذلك مثل كذا وكذا» أنّ له عناية خاصّة بالأمثلة التي ذكرها، ولها نحو اختصاص بالحكم.

منها: ذكر الأمثلة التي كلّها من قبيل كون الموضوع ممّا يختصّ به بحسب أمّارة شرعية كاليد و ....

منها: أنّ لسان الرواية- على ما فهمه المشهور- لسان الأصل، وهو لا يناسب


1- كتاب الطهارة، الإمام الخميني قدس سره 4: 263 و 266 ..
2- نفس المصدر: 264 ..

ص: 306

الأمثلة المذكورة، وعلى هذا الاحتمال لا يكون لسانها لسان الأصل، بل المنظور فيها أمر آخر.

منها: اختصاص العلم الوجداني والبيّنة بالذكر؛ فإنّ المراد من الاستبانة هو العلم الوجداني على الظاهر المتفاهم منها.

فمعنى الرواية: أنّ كلّ ما هو لك بحسب الأمارات الشرعية لا تنقطع حلّيته إلّا بالعلم أو البيّنة، وليست هي بصدد بيان الحكم الظاهري.

وبناءً على هذا الاحتمال في معنى الرواية أيضاً يثبت إطلاق حجّية البيّنة؛ فإنّ المستفاد منها أنّ البيّنة عِدل العلم في إثبات الموضوعات حتّى مع قيام الأمارات على خلافها»(1).

فإحراز الاجتهاد والأعلمية- كسائر الشرائط المعتبرة في المقلَّد- يمكن أن يكون بشهادة العدلين، إلّاأنّه يعتبر أن يكون الشاهدان عالمين بما يشهدان، وحيث إنّ الاجتهاد والأعلمية في هذا المبحث يكونان من الامور الحدسية، فيحتاج إحراز ما يشهدان به إلى خبرة في معرفتهما.

إذا عرفت هذا فينبغي التنبيه على امور:

1- اتّضح ممّا ذكرنا: أنّه لا نحتاج في إثبات عموم حجّية البيّنة إلى الإجماع؛ حتّى يقال: إنّه مدركي.

2- وكذلك لا نحتاج في تعميم حجّية البيّنة إلى طريق الأولوية فقط، بل كشف ملاك الحجّية في الموارد المنصوصة يكفي لثبوت الحكم في غيرها بإلغاء الخصوصية.

3- أنّ البيّنة حجّة شرعية اطلقت في لسان الأخبار على شهادة العدلين، ولا أقلّ


1- كتاب الطهارة، الإمام الخميني قدس سره 4: 264- 265 ..

ص: 307

من أنّها كانت في عصر الإمام الصادق عليه السلام حقيقة في المعنى الشرعي بلا شكّ، وعمل على ذلك الشارع المقدّس في غير المرافعات كما تنبّه له بعض الأعلام(1).

4- لا يضرّنا في المقام ما ذكروه من التفصيل في حجّية البيّنة بين الحسّيات والحدسيات؛ لأنّ الاجتهاد والأعلمية والعدالة ونحوها من الامور الحدسية القريبة إلى الحسّ ويعامل معها معاملة الحسّيات.

ثمّ إنّه قد صرّح السيّد المرتضى والمحقّق الحلّي بعدم جواز تقليد غير المجتهد ولو كان من أهل العلم(2)، وسبقهما في ذلك اتّفاق العامّة على هذا الحكم(3).

والمستند في ذلك واضح؛ حيث إنّ الدليل على حجّية رأي غير المجتهد- أيّاً من كان- مفقود، فقوله يدخل في مورد أصالة عدم الحجّية؛ ولذا ادّعي في كلام غير واحد من المتأخّرين الإجماع على عدم جواز تقليده(4).

وبناءً على هذا، فيجب على غير المجتهد نفسه أن يحتاط أو يقلّد، كما مرّ في مقدّمة هذا الكتاب، فراجع.

ولعلّ السرّ في التصريح بهذه الفروع- بعد وضوحها في نفسها وازدادت وضوحاً في المسائل السابقة- الإشارة إلى أقوال العامّة، وإزالة الوهم عن عوامّ الناس؛ كي لا يقلّدوا من لا تجتمع فيه شرائط التقليد ولو كان بظاهره عالماً دينياً.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 173 ..
2- رسائل الشريف المرتضى 2: 320؛ معارج الاصول: 201 ..
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 482؛ المحصول في علم الاصول 2: 533؛ المستصفى من علم الاصول 2: 390؛ روضة الناظر: 226 ..
4- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 47؛ مستمسك العروة الوثقى 1: 37 ..

ص: 308

حكم عمل الجاهل

اشارة

(مسألة 20): عمل الجاهل المقصّر الملتفت من دون تقليد باطل، إلّاإذا أتى به برجاء درك الواقع؛ وانطبق عليه أو على فتوى من يجوز تقليده. وكذا عمل الجاهل القاصر أو المقصّر الغافل مع تحقّق قصد القربة صحيح إذا طابق الواقع أو فتوى المجتهد الذي يجوز تقليده (1).

حكم عمل الجاهل

1- الكلام هنا حول أعمال تارك الطرق الثلاثة- الاجتهاد والتقليد والاحتياط- فيكون الإتيان بها غير مستند إلى حجّة معتبرة.

والماتن المعظّم وإن لم يصرّح إلّابترك التقليد حيث قال: «عمل الجاهل ... من دون تقليد باطل» إلّاأنّ كلامه ظاهر في تارك الاجتهاد والتقليد والاحتياط، ومقصوده هو العمل من دون الاستناد إلى الطرق الثلاثة؛ إذ لو عمل بالاحتياط وترك الاجتهاد والتقليد خاصّة، لدخل في مسألة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والآخذ بالاحتياط، وهي مسألة برأسها قد تعرّض لها في المسألة الاولى.

وأيضاً لو عمل بالاحتياط لما كان لما ذكره من القيود- الإتيان برجاء درك الواقع، والانطباق عليه أو على فتوى من يجوز الرجوع إليه- وجه؛ إذ الاحتياط

ص: 309

حجّة معتبرة وطريق من طرق امتثال الأحكام الواقعية كشقّيه، فلا محالة يكون المراد هو بيان حكم عمل التارك للطرق الثلاثة.

ثمّ إنّه قدس سره جعل العنوان «عمل الجاهل» وهو بظاهره يعمّ العبادي والمعاملي، إلّا أنّ قوله: «إذا أتى به برجاء درك الواقع»، وقوله: «مع تحقّق قصد القربة» ظاهر في تخصيصه البحث بالعمل العبادي خاصّة.

ولعلّه لأجل وضوح الحكم في العمل المعاملي وعدم الخلاف فيه، لا لما أفاده بعض الأعاظم في شرحه على «التحرير» من عدم جريان النزاع فيه بأنّ العمل غير العبادي لا يتّصف بالصحّة والفساد وأمره دائر بين الوجود والعدم(1). فإنّه غير تامّ؛ إذ العمل غير العبادي أيضاً يتّصف بالصحّة والفساد بحسب توفّر الشرائط فيه وعدمه، كما سنبيّنه.

وكذلك لم يتعرّض الماتن العزيز للحكم التكليفي وما يتفرّع على الإقدام على المخالفة من العصيان والتجرّي.

وكيف كان فنقول: إنّ الجاهل الآتي بالعمل من دون الاستناد إلى حجّة معتبرة على أقسام؛ لأنّه إمّا مقصّر ملتفت متردّد، وإمّا مقصّر غافل جازم، وإمّا قاصر، ثمّ العمل المأتيّ به إمّا معاملي وإمّا عبادي، فهذه ستّ صور للمسألة.

وعلى كلٍّ منها: إمّا أن لا ينكشف الحال أبداً لا بالمطابقة للواقع أو لفتوى من يجوز تقليده ولا بالمخالفة له، وإمّا أن ينكشف الحال بالمطابقة، أو ينكشف بالمخالفة.

والانكشاف: إمّا يكون بالعلم- وإن كان نادراً في حقّ العامّي- أو بالاجتهاد بأن صار أهلًا له بعد مضيّ زمان مع التعلّم والتفقّه، أو بالتقليد بأن أراد التقليد لمن أهله.


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 220، ذيل المسألة 20 ..

ص: 310

ثمّ إذا كان الانكشاف مستنداً إلى التقليد: فهل المدار على رأي من كان يجب تقليده حين العمل، أو رأي من يجب الرجوع إليه حين الالتفات، أو رأي كلّ منهما على سبيل البدلية، أو رأي كلّ منهما على نحو الاستغراق والمعية؟

فهذا هو الهيكل العامّ للبحث وإطاره الكلّي، والمسألة- بحسب الصور والاحتمالات المذكورة- متنازع فيها بين الأعيان، ولكنّ الكلام في كلّ الصور سيتّضح بعد بيان ما هو العمدة منها، فنقول:

الكلام في المعاملات

1- إذا كان العمل المأتيّ به معاملة بالمعنى الأعمّ؛ كأن يغسل المتنجّس- بالبول- بالماء القليل مرّة واحدةً، بغير اجتهاد ولا احتياط ولا تقليد.

فما لم ينكشف ولم يحرز إمّا وجداناً أو تعبّداً- بالاجتهاد أو التقليد- صحّة المأتيّ به وكفاية المرّة في تحقّق الطهارة مثلًا، فمقتضى القاعدة هو الحكم بالفساد ظاهراً وعدم ترتيب الآثار عليها؛ فإنّ مقتضى الاستصحاب هو عدم ترتّب الأثر على العمل المأتيّ به.

هذا من حيث الوضع، ولا فرق في ذلك بين الجاهل المقصّر الملتفت، والمقصّر الغافل، والقاصر. وأمّا من حيث التكليف: فلا وجه لعدّه عاصياً أو متجرّياً إلّاإذا أوجب التشريع.

2- وإذا انكشف الحال وتبيّن كون المأتيّ به غير المأمور به- بأن كانت المرّة غير مؤثّرة في الطهارة، والعقد الفارسي ليس سبباً لتحقّق النكاح والطلاق والبيع، وفري الودجين غير كافٍ في التذكية- فالحكم هو الفساد وعدم ترتيب الأثر عليه؛ فإنّ العبرة في صحّة المعاملات وفسادها بالمطابقة للواقع أو فتوى من يجوز الرجوع إليه والمخالفة لهما.

ص: 311

فما وقع منها باطلًا ولم يكن له أثر في الحال والاستقبال فلا كلام فيه، وأمّا ما له أثر فلا يترتّب ذلك الأثر من حين الانكشاف، فلا يجوز الصلاة في ذلك الثوب، ولا التمتّع بالمرأة المعقود عليها بالعقد الفاسد، والأكل من المذبوح على غير وجهه الشرعي.

هذا من حيث الوضع، وأمّا من حيث التكليف: فإن كان مقصّراً عُدّ عاصياً وإلّا فهو معذور.

3- وإذا انكشف للمكلّف وأحرز مطابقة العمل المأتيّ به للواقع أو فتوى من يجب الرجوع إليه، فالوجه هو الصحّة من حين الوقوع لا الانكشاف؛ إذ العبرة في المعاملات صحّةً وفساداً بالمطابقة والمخالفة للواقع، سواء وقعت عن إحدى الطرق أم لا، لأنّها من قبيل الأسباب للأحكام الشرعية، ولا مدخل للعلم والجهل في تأثيرها وترتّب المسبّبات عليها، فمن عقد على امرأة بما لا يعرف تأثيره في حلّية الوطء، فانكشف بعد ذلك صحّته، كفى في الصحّة من حين الوقوع.

فالغرض الأقصى في التوصّليات هو تحقّق العمل المأمور به بسببه الخاصّ، من دون اعتبار قصد أو علم أو استناد إلى الطرق الثلاثة.

ثمّ هل يعدّ عاصياً أم لا؟ مقتضى القاعدة في مقدّمية وجوب الطرق الثلاثة عدم صدق العصيان، اللهمّ إلّاأن يقال باستحقاق العقوبة من باب التجرّي في خصوص المقصّر الملتفت؛ فإنّه إذا تزوّج امرأة بعقد لم يثبت عنده سببيّته الشرعية، فلا يجوز له ظاهراً التمتّع بها، وإن كان في الواقع- أو حسب رأي من يجوز تقليده- سبباً تامّاً لصحّة النكاح.

وإذا كان انكشاف الصحّة بمطابقة فتوى من يجب الرجوع إليه، فهل المدار على رأي من كان يجب تقليده حين العمل، أو حين الانكشاف والالتفات، أو غير ذلك؟

ص: 312

ففيه خلاف بين الأعلام نذكره عند التعرّض لحكم العبادات.

فتحصّل: أنّ العمل المأتيّ به من غير الاستناد إلى الطرق الثلاثة، مع كونه عملًا توصّلياً، ولم ينكشف مطابقته للواقع أو فتوى من يجب الرجوع إليه، يحكم بفساده ظاهراً بالمعنى المتقدّم. وإذا انكشف مخالفته لهما فيكون باطلًا واقعاً. وإذا انكشف مطابقته لهما فيحكم بصحّته.

الكلام في العبادات

1- إذا كان الآتي بالعبادة جاهلًا مقصّراً ملتفتاً، ولم يحرز انطباقها ولا مخالفتها للواقع أو فتوى من يجوز تقليده، فمقتضى القاعدة هو الحكم بالبطلان ظاهراً؛ فإنّ الاشتغال اليقيني بالتكليف يقتضي الفراغ اليقيني ولو تعبّداً، وهو- إذا لم تنكشف المطابقة أو المخالفة كما هو المفروض- لا يحصل إلّابإتيانها مستنداً إلى حجّة معتبرة، وبدونه يستصحب التكليف وعدم سقوطه، والظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في ذلك.

وأمّا من حيث التكليف فإن لم تكن مطابقةً للواقع يعدّ عاصياً، وإلّا يكون متجرّياً.

2- وإذا تبيّن مخالفتها للواقع أو فتوى من يجوز الرجوع إليه، فالبطلان واضح لا شبهة فيه؛ إذ ما لم تكن العبادة مطابقة للواقع، ولم تصدر عن حجّة معتبرة منجِّزة عند الإصابة ومعذِّرة عند الخطأ، فلا وجه للحكم بالصحّة وسقوط التكليف وامتثال الأمر.

وهذا أيضاً ممّا لا خلاف فيه وضعاً وتكليفاً، إلّافيما يعمّه «لا تعاد ...»، أو يدلّ عليه دليل خاصّ.

3- وأمّا إذا تبيّن الانطباق مع الواقع أو الفتوى، فقد اختلف الأعلام على أقوال،

ص: 313

وهو الظاهر من «العروة الوثقى» في المسألة السابعة، وصريحها في المسألة السادسة عشرة، هو الحكم بالبطلان في هذه الصورة كالصورتين المتقدّمتين.

والدليل العمدة لهذا القول- كما يستفاد من كلام السيّد اليزدي وغيره-: هو عدم تمشّي قصد القربة مع الشكّ والترديد في كون المأتيّ به مأموراً به.

وهو قدس سره- مع حكمه ببطلان عبادة الجاهل المقصّر الملتفت وإن كانت مطابقة للواقع- حكم بصحّة عبادة القاصر والمقصّر الغافل إذا تحقّق قصد القربة والمطابقة لفتوى المجتهد، فيستفاد من ذلك: أنّ وجه البطلان في عمل المقصّر الملتفت هو عدم تحقّق قصد القربة مع الشكّ والالتفات إلى احتمال عدم كون المأتيّ به مأموراً به.

والأساس في ذلك هو ما أفاده الشيخ الأعظم في موضعين من فرائده، ولا بأس بذكر بعض كلامه، قال: «إذا أوقع الجاهل عبادةً عمل فيها بما تقتضيه البراءة، من دون فحص عن الدليل واليأس عن الظفر به- كأن صلّى بدون السورة- فإن كان حين العمل متزلزلًا في صحّة عمله، بانياً على الاقتصار عليه في الامتثال، فلا إشكال في الفساد وإن انكشف الصحّة بعد ذلك، بلا خلاف في ذلك ظاهراً»(1).

وتبعه تلميذه المدقّق الآشتياني في تصريحه بنفي الإشكال والخلاف عن الحكم بالبطلان(2) هذا.

ولكن جلّ الأجلّاء من المعلّقين على «العروة» وغيرهم ذهبوا إلى القول بالصحّة، وأجابوا عمّا أفاده الشيخ الأعظم والسيّد المعظّم بما حاصله: أنّ المعتبر في عبادية


1- فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 306 و 429 ..
2- بحر الفوائد، البراءة والاشتغال: 209/ السطر 7 ..

ص: 314

العبادة وصحّتها: إنّما هو الإتيان بها بداعي أمر اللَّه تعالى وإضافة إليه سبحانه، وهذا المقدار قابل للتحقّق من الجاهل المقصّر الملتفت، وأمّا الجزم بأنّ المأتيّ به هو المأمور به فلا دليل على اعتباره.

وهذا هو وجه ما أفاده الماتن المعظّم من الحكم بالصحّة مطلقاً لو كان جاهلًا مقصّراً ملتفتاً؛ حيث استثنى من الحكم بالبطلان صورة الإتيان بالعبادة برجاء درك الواقع مع الانطباق عليه أو على فتوى من يجوز الرجوع إليه؛ ومع الإتيان بها برجاء درك الواقع وبداعي أمره تعالى ومضافاً إليه سبحانه، مع الانطباق على الواقع أو فتوى من يجوز تقليده، تكون العبادة جامعة لجميع حدودها وقيودها، ومعه لا وجه للحكم بالبطلان وعدم ترتيب الآثار وعدم الإجزاء.

وقد صرّح بذلك كلّه السيّد الحكيم(1) والسيّد الخوئي(2)، بل عدّ المحقّق الأصفهاني الحكم بالصحّة في هذا الفرض من القضايا التي قياساتها معها، فلا يحتاج إلى البرهان بل إلى التنبيه(3).

وأمّا التمسّك بعدم الخلاف للقول بالبطلان- في كلام الشيخ الأعظم وبعض تلاميذه- ففيه: أولًا: أنّه استفاد ذلك من إجماعهم على شرطية قصد التقرّب في صحّة العبادات، حيث قال: «وبالجملة: فقصد التقرّب شرط في صحّة العبادة إجماعاً نصّاً وفتوى، وهو لا يتحقّق مع الشكّ في كون العمل مقرّباً»(4)؛ ولذلك ادّعي عدم الخلاف في الحكم بالبطلان وإن انكشف الانطباق للواقع.


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 35 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 161- 162 ..
3- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 186 ..
4- فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 430 ..

ص: 315

ونحن لا نسلّم عدم تحقّق قصد التقرّب مع الشكّ؛ فإنّ التقرّب: هو إتيان العمل بداعي أمره تعالى وإضافة إليه سبحانه؛ بحيث لو لم يكن أمره- ولو محتملًا- لما أتى بالعمل، وهذا المقدار متأتٍّ ومتمشٍّ من الجاهل المقصّر المتردّد. نعم، هو لا يكون جازماً بذلك، إلّاأنّه لا دليل على اعتبار الجزم كما قدّمنا.

وثانياً: أنّه قدس سره قد خالف ذلك في رسالته المعمولة في التقليد، وصرّح بالصحّة إذا كان العمل مطابقاً للواقع أو الفتوى، مع التصريح بعدم الفرق في ذلك بين المقصّر المتفطّن والقاصر والمقصّر الغافل، وجعل الحكم بالصحّة من فروع كون الطرق الثلاثة واجبات مقدّمية لامتثال الواقع، لا نفسية ولا شرطية(1).

وأمّا الاستدلال بالإجماع- الوارد في كلام السيّد الرضي والذي قرّره عليه أخوه الشريف المرتضى(2)، في مسألة من صلّى صلاةً لا يعلم حكمها؛ حيث حكما بالبطلان- فقد تعرّضنا له في مسألة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والآخذ بالاحتياط، وحاصل ما قلناه: أنّه إجماع منقول لا يعتمد عليه، مضافاً إلى عدم كونه تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام؛ لكونه مدركياً.

فتحصّل من كلّ ما ذكرنا: أنّ العمل المأتيّ به من دون الاستناد إلى حجّة معتبرة، ما لم ينكشف ولم يحرز مطابقته للواقع أو الفتوى، فمقتضى القاعدة فساده ظاهراً وإن كان في الواقع هو المأمور به، من غير فرقٍ في ذلك بين العبادة والمعاملة، وبين الجاهل المقصّر- البسيط والمركّب- والقاصر. وأمّا إذا انكشف الانطباق فمقتضى القاعدة هو الحكم بالصحّة إذا أتى به برجاء درك الواقع ومضافاً إليه سبحانه إذا كان عباديّاً.


1- مجموعة رسائل فقهية واصولية، الاجتهاد والتقليد: 51 ..
2- رسائل الشريف المرتضى 2: 383 ..

ص: 316

والآن يقع الكلام في طريق إحراز المطابقة، فنقول: إنّ مرآة المطابقة للواقع: إمّا العلم بها، أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد، أو المقلّد العامّي:

فإن حصل العلم بها فلا كلام فيه، إلّاأنّه بمكان من القلّة والندرة لا سيّما بالنسبة إلى العامّي.

وإن أحرز بالاجتهاد- بأن صار أهلًا له- فالظاهر أنّه الحجّة له، فيكون المدار على اجتهاده، فيعمل على وفقه صحّةً وفساداً، فلا كلام فيه أيضاً.

وإن كان إحراز المطابقة برأي المجتهد وتقليده: فإن كان من يجب تقليده واحداً- بأن كان الذي يجب تقليده حين العمل هو الذي يجب تقليده فعلًا- فلا كلام في أنّ المتّبع رأيه صحّةً وفساداً، وإن كان متعدّداً ومختلفاً من حيث الفتوى، فهل المدار على رأي الأوّل أو الثاني؟ فيه خلاف بين الأعلام:

1- المدار إنّما هو على فتوى من يجب تقليده حين العمل، كما أفاده المحقّق الأصفهاني(1) والسيّد البروجردي(2) والمحقّق اللنگرودي(3).

2- المدار على رأي من يجب تقليده فعلًا أي حين الرجوع، كما اختاره السيّد الحكيم(4)، وعليه السيّد الخوئي في مواضع من كلماته(5)، وهو الظاهر من كلمات الشيخ الأعظم(6).

3- المدار على رأي من يجب الرجوع إليه حين الالتفات مع رعاية المطابقة


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 187- 188 ..
2- العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 1: 21 ..
3- الدرّ النضيد 1: 356 ..
4- مستمسك العروة الوثقى 1: 36 ..
5- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 160 و 244 و 269، المسألة 16 و 25 و 40 ..
6- فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 431 ..

ص: 317

لرأي الأوّل أيضاً احتياطاً، وعليه السيّد اليزدي في «العروة»(1).

4- كفاية مطابقة عمله لأحد الأمرين: من فتوى من كان يجب عليه تقليده حين العمل، وفتوى من يجب عليه تقليده فعلًا، بعد كفاية الإحراز مع الواقع أيضاً الذي قلنا: إنّه لا كلام فيه.

وهذا الأخير صرّح به السيّد الإمام الخميني قدس سره في «توضيح المسائل» بالفارسية؛ حيث قال ما حاصله: إنّ من عمل مدّةً بلا تقليد فعمله صحيح إذا أحرز موافقته للواقع، أو كان مطابقاً لفتوى من كان وظيفته الرجوع إليه حين العمل، أو فتوى من يجب تقليده فعلًا(2).

وبالجملة: ففتوى الماتن المعظّم- في موضعين من كلماته- صريحة في الأعمّ من المجتهد حال العمل والمجتهد فعلًا وحال الالتفات، وفي موضع آخر ظاهرة فيه كما ذكرنا، أو ظاهرة في خصوص المجتهد حين الالتفات، أو مجملة كما أفاده الشارح الكريم.

فعمدة الأقوال في المسألة أربعة، والمهمّ بيان ما تقتضيه القاعدة، فنقول:

استدلّ على القول الأوّل: بأنّ حجّية الفتوى على العامّي ومنجّزيتها لتكاليفه تكون من حين وجوب الرجوع إلى المفتي، فتؤثّر في الوقائع المتجدّدة والأعمال المستقبلة، ووجوب القضاء وعدمه هنا وإن كان مربوطاً بالأعمال المستقبلة، لكنّه فرع بطلان العمل وصحّته المنوطين بنظر من كانت وظيفة العامّي الرجوع إليه، وهو أعلم عصره حال العمل دون هذا المفتي، بل ربّما كان لا وجود له في تلك الحال، أو لم يكن بمجتهد، أو كان مفضولًا بالإضافة إلى غيره، هذا في العبادات، وأمّا في


1- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 8، المسألة 16 ..
2- توضيح المسائل، الإمام الخميني قدس سره: 3، المسألة 14 ..

ص: 318

المعاملات فكذلك، بل الأمر أوضح؛ حيث لا واقع لاعتبار الملكية إلّانفسه، فليس له- بعد قيام الحجّة على سببيّة شي ء له- كشف الخلاف(1).

هذا ما استدلّ به المحقّق الأصفهاني وهو الأساس في ذلك.

وفيه أوّلًا: أنّ فتوى المجتهد الثاني- الذي يجب الرجوع إليه في الحال- وإن صارت حجّة من حين وجوب الرجوع إليه، إلّاأنّ مفاد الفتوى مطلق يشمل الماضي والمستقبل، فإذا أفتى المجتهد الثاني بشرطية شي ء أو جزئيّته للصلاة مثلًا، يكون المراد أنّه جزء أو شرط في الصلاة مطلقاً، لا فيما بعد خاصّة، فلا وجه لتخصيص مضمونها بالأعمال المستقبلة دون الماضية.

وثانياً: أنّ الحكم بالصحّة أو الفساد بالنسبة إلى الأعمال السابقة- لابدّ له من حجّة، وهي فتوى المجتهد الثاني؛ لعدم حجّية فتوى الأوّل في الحال: إمّا لموت أو نسيان أو غير ذلك، وإلّا لكانت هي الحجّة.

وثالثاً: أنّ القول بالصحّة أو الفساد بالنسبة إلى الأعمال السابقة- مع كون الفتوى الثانية خلاف الاولى- يستلزم القول بالسببيّة والتصويب، ولا يلتزم به المستدلّ قدس سره.

وأمّا ما أفاده بالنسبة إلى المعاملات خاصّة، فاورد عليه بما حاصله: أنّ هذا متين لو قلنا بالسببيّة في الأمارات؛ بأنّ الاعتبار قد تحقّق في زمان العمل لا محالة، ولا ينقلب الشي ء عمّا وقع عليه. وأمّا على الطريقية فتحقّق الاعتبار في الخارج إنّما كان لأجل قيام الحجّة عليه، فإذا قامت حجّة اخرى بعد بطلان الحجّة الاولى- لوجود مانع، أو فقد شرط فيها- على أنّه لم يكن متحقّقاً فيكشف الخلاف لا محالة(2).

وبالجملة: فالمكلّف التارك للطرق الثلاثة بالنسبة إلى أعماله السابقة يريد الآن


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 188- 189 ..
2- دروس في فقه الشيعة 1: 109 ..

ص: 319

أن يعرف هل هي صحيحة أم فاسدة ليعرف وظيفته بالنسبة إليها؟ فلابدّ من الأخذ بالحجّة، والمفروض أنّ الحجّة في حقّه هو التقليد عمّن يجوز تقليده، وهو ليس المجتهد الأوّل؛ لعدم اعتبار فتواه بالموت أو عارض آخر، فلا محالة يكون هو المجتهد الثاني الجامع لشرائط الفتوى، فالمدار على رأيه والمتّبع هو فتواه صحّةً وفساداً.

فالاعتماد في ذلك على فتوى الأوّل اعتماد على غير الحجّة وأمّا قضية أنّه «لو بنى على التقليد حين العمل لكان عليه الرجوع إلى ذاك المجتهد» فهي صحيحة ولكنّه ما لم يرجع إليه لا تتّصف فتواه في حقّه بالحجّية، كما صرّح المستدلّ بنفسه بذلك.

وأمّا المجتهد الثاني فإنّه وإن لم يكن حين العمل موجوداً أو مجتهداً أو جامعاً للشرائط، إلّاأنّه في الحال صار جامعاً للشرائط، فهو المرجع الوحيد إذا كان أعلم عصره وقلنا بوجوب الرجوع إلى الأعلم.

وممّا حقّقناه في بيان عدم تمامية ما استدلّ به على القول الأوّل، تبيّن عدم تمامية القول الثالث والرابع أيضاً؛ إذ رأي الأوّل مسلوب عنه الحجّية، فجعله عِدلًا للحجّة- وهي الفتوى الثانية- ضمّ للّا حجّة إلى الحجّة ولا أثر له، كما أنّ اعتبار الحجّة هي الفتوى الاولى منضمّةً إلى الثانية لا وجه له؛ إذ لا اعتبار لها، فضمّها إلى الثانية كالحجر في جنب الإنسان.

فالمتعيّن هو حجّية الفتوى الثانية، وكونها هي المدار في الحكم بالصحّة أو الفساد.

ص: 320

طرق معرفة فتوى المجتهد

(مسألة 21): كيفية أخذ المسائل من المجتهد على أنحاء ثلاثة: أحدها: السماع منه. الثاني: نقل العدلين أو عدل واحد عنه أو عن رسالته المأمونة من الغلط، بل الظاهر كفاية نقل شخص واحد إذا كان ثقة يطمأنّ بقوله. الثالث: الرجوع إلى رسالته إذا كانت مأمونة من الغلط (1).

طرق معرفة فتوى المجتهد

1- ذكر الماتن قدس سره الطرق المعتبرة شرعاً لتحصيل فتوى المجتهد في المسألة، وهي كالتالي:

الأوّل: السماع من المجتهد، واعتبار هذا الطريق حجّة على المقلّد في مقام أخذ المسائل من المجتهد من باب إنّه لا شبهة في حجّية إخبار المجتهد: بمقتضى الآيات والأخبار التي تدلّ على حجّية إخبار المجتهد بالمطابقة أو الالتزام، وكذا السيرة العقلائية الجارية على حجّية إخبار أهل الخبرة برأيهم من غير أن يطالبوهم بدليل إخباراتهم، فالمقلّد بسماعه من مرجعه يطمئنّ بالحكم بعد ثبوت حجّية إخبار مجتهده.

ص: 321

الثاني: نقل العدلين، وهو المراد من البيّنة، وقد مرّ عموم حجّيتها بما يشمل المقام أيضاً.

وقد جوّز الماتن هاهنا أخذ المسائل بنقل العدل الواحد أو الثقة، مع أنّه لم يرتض حجّية خبر الواحد في كثير من المسائل، منها ما مرّ في المسألة التاسعة عشرة.

ولتمحيص المطلب نقول: لابدّ أن نبحث عن الوجه في عدم حجّية إخبار الثقة في الموضوعات الخارجية لنرى مدى انطباقه فيما نحن فيه، فنقول: ما ذكر من الوجوه على ذلك:

أوّلًا: موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك؛ وذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة»(1).

وهي- على ما هو المعروف في معناها- ظاهرة في الردع عن حجّية خبر الواحد؛ فإنّ الظاهر- على ذلك المبنى- أنّ الغاية للحلّ مطلقاً هي البيّنة، فلو كان خبر الثقة مثبتاً للموضوع كان اعتبار البيّنة بلا وجه، فلا يمكن الجمع بينهما في الجعل(2).

وثانياً: الروايات المستشهد بها على حجّية خبر الواحد في الموضوعات، فإنّها وردت في موارد خاصّة لا يمكن إثبات سائر الموارد بها، لا سيّما مع قلّة العامل بها


1- الكافي 5: 313/ 40؛ تهذيب الأحكام 7: 226/ 989؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4 ..
2- كتاب الطهارة، الإمام الخميني قدس سره 4: 270 ..

ص: 322

على الظاهر؛ فلم نعثر على مورد عمل الأصحاب فيه بخبر الثقة في الموضوعات كما عملوا به في الأحكام، ولم يستفيدوا من تلك الأخبار حجّية خبر الثقة في مطلق موارده.

وثالثاً: بناءً على الوجهين السابقين يشكل الاعتماد على السيرة العقلائية الجارية على العمل بخبر الثقة، وكذا يشكل الوثوق بعدم الردع عن السيرة.

ولذا رأى الماتن أنّ الأحوط- لو لم يكن الأقوى- عدم ثبوت الموضوعات الخارجية بخبر الثقة(1)، إلّاأن يقال: إنّ إخبار الثقة إذا كان بحيث يوجب الاطمئنان بقوله يجوز الأخذ به، فحينئذٍ تكون الحجّة في الحقيقة نفس الاطمئنان دون التعبّد بحجّية خبر الثقة.

هذا بشكل عامّ، وأمّا فيما نحن فيه فاختيار الماتن ثبوت الفتوى بإخبار العدل أو الثقة الواحد من باب الإخبار عن الفتوى إخبار عمّا هو من شؤون الأحكام الشرعية؛ لأنّه في الحقيقة إخبار عن قول الإمام مع الواسطة، والدليل على حجّية إخبار العدل الواحد عن الإمام غير قاصر الشمول للإخبار عنهم مع الواسطة؛ أي لا فرق في ذلك بين أن يتضمّن نقل قول المعصوم عليه السلام ابتداءً- أي الحكم الواقعي- أو يتضمّن نقل الفتوى أي الحكم الظاهري المستنبط من الأدلّة.

وعلى هذا فلا وجه للإشكال عليه: بأنّ الإخبار عن الفتوى ليس إخباراً عن الحكم وقول الإمام بوجه، بل إخبار عن نظر المجتهد ورأيه، ولاسيّما مع الإضافة إلى شخص خاصّ(2).

لكن قد عرفت أنّ الفتوى- ولو كانت حدسية- مستندة إلى مصادر حسّية


1- كتاب الطهارة، الإمام الخميني قدس سره 4: 273 ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 209 ..

ص: 323

وأهمّها السنّة، فرأي المفتي غالباً يكون نقلًا لمضمون ما استفاده من الكتاب والسنّة، كما أنّه في موارد اخرى يكون تطبيقاً لمضمون الكتاب والسنّة، وحينئذٍ فنقله يكون بمنزلة نقل الحكم الشرعي عن الإمام، غاية الأمر أنّه منقول بالمعنى، وقد ثبت في محلّه جواز النقل بالمعنى، كما أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد تشمل نقل الحكم الشرعي سواء كان واقعياً أو ظاهرياً.

وبما ذكرنا اتّضح الفرق بين المقام وبين مسألة إثبات الاجتهاد والأعلمية، واتّضح سبب عدم ذكر الماتن لهذا الطريق لإثباتهما؛ فإنّه:

أوّلًا: الاجتهاد وكذا الأعلمية محلّ للخلاف بين الناس؛ لاستنادهما إلى الامور الحدسية التي لا مجال لكلّ أحد أن يحرزها أو يحرز عدمها.

وثانياً: أنّ حجّية إخبار الواحد- العدل أو الثقة- فيهما منوطة بحجّية إخبار الثقة في الموضوعات الخارجية، والماتن لم يقل بها كما عرفت.

وفي خصوص إخبار الثقة في الموضوعات اعتبر الماتن أن يكون الثقة ممّن يطمئنّ بقوله، والمراد اعتبار الاطمئنان النوعي بالنسبة إلى ذلك الثقة، لا الاطمئنان الشخصي بالنسبة إلى إخباره كما هو واضح.

الثالث: الرجوع إلى الرسالة المأمونة من الغلط؛ وذلك كما إذا كانت الرسالة بخطّ المفتي، أو لاحظها وأمضاها وأخبر بأنّ ما فيها يطابق فتواه، فإنّ ذلك لا يقصر عن الإخبار اللفظي بها. وبعبارة اخرى: يكون ما في الرسالة وجوداً كلّياً للفتوى، والدليل على حجّية الفتوى والإخبار عنها يشمل اعتبار الرسالة المأمونة من الغلط أيضاً.

وبما ذكرنا ظهر: سبب جعل الإخبار عن الرسالة بالعدلين أو العدل الواحد في الطريق الثاني؛ أي في عداد الإخبار عن نفس المجتهد.

ص: 324

التعارض في نقل الفتاوى

(مسألة 22): إذا اختلف ناقلان في نقل فتوى المجتهد فالأقوى تساقطهما مطلقاً؛ سواء تساويا في الوثاقة أم لا، فإذا لم يمكن الرجوع إلى المجتهد أو رسالته، يعمل بما وافق الاحتياط من الفتويين، أو يعمل بالاحتياط (1).

التعارض في نقل الفتاوى

1- تعرّض الماتن قدس سره في هذه المسألة- بعد ذكره لكيفية أخذ المسائل في المسألة السابقة- لحكم اختلاف ناقلي الفتوى.

ولا يخفى أنّ الاختلاف في إعلام فتوى المجتهد يتصوّر على صور:

إذ قد يكون الخلاف بين فردين من سنخ واحد من طرق إعلام الفتوى؛ كما إذا اختلف الناقلان في نقل فتوى المجتهد، أو اختلفت رسالتان في نقل فتواه ... وما إلى ذلك، وقد يكون الخلاف بين فردين من سنخين من طرق إعلام الفتوى؛ كما إذا اختلفت الفتوى المنقولة شفاهاً مع ما هو الموجود في الرسالة مثلًا.

ولكلّ من هذين الفرضين صور مختلفة، فلنذكر الصور المتشعّبة من كلّ فرض وحكمها في مقامين:

المقام الأوّل: في اختلاف فردين من سنخ واحد من طرق إعلام الفتوى، فهنا إن

ص: 325

كان الاختلاف على وجه يمكن معه عدول المجتهد عن فتواه، وأخبر أحد الناقلين عن فتواه السابقة والآخر عن فتواه الفعلية، وذلك فيما إذا اختلف الناقلان بحسب الزمان في نقل الفتوى، ففي هذه الصورة يؤخذ بالفتوى المتأخّرة؛ إذ لا معارض لها.

وأمّا إذا لم نحتمل عدول المجتهد عن فتواه- كما إذا كان تأريخ كلا الفردين واحداً؛ مثل ما إذا كان تأريخ طبع الرسالتين واحداً وذكر في إحداهما الحكم بالجواز في مسألة وفي الاخرى الحكم بالحرمة في ذات تلك المسألة، أو لم نحتمل العدول في رأي المجتهد حتّى مع تفاوت زماني الإعلامين- ففي هذه الصورة حيث يقع التعارض بينهما في حكم المسألة فلابدّ من تساقطهما والرجوع إلى طريق آخر.

ولا وجه لإجراء قواعد الترجيح هنا؛ حيث إنّ أدلّة الترجيح الواردة في الخبرين المتعارضين لا تعمّ الفتويين ولا نقلهما، كما هو واضح، بل تختصّ تلك الأدلّة بمستند الفتوى فقط.

والماتن قدس سره قد افترض وقوع الاختلاف في نقل الفتوى وحكم فيه بالتساقط، وصرّح بأ نّه لا فرق في المقام بين أوثقيّة ما لو فرض أوثقيّة أحد الناقلين أو تساويهما في ذلك. والوجه فيه ما ذكرناه. واتّضح أيضاً أنّ افتراض وقوع الاختلاف بين رسالتين ممكن، كما إذا طبعت رسالة في إيران ورسالة في العراق ورسالة في بيروت في تأريخ واحد. وكيف كان فقد اتّضح حكم جميع الصور في فرض اختلاف فردي سنخ واحد من طرق إعلام الفتوى.

يبقى ما هي وظيفة المكلّف في صورة تساقط إخبارين عن الحجّية؟ حكم الماتن بأ نّه لابدّ أن يرجع إلى الطريقين الآخرين الباقيين: وهما السماع من المجتهد أو الرجوع إلى رسالته المأمونة من الخطأ. ثمّ إن لم يمكن ذلك للمقلّد- لعدم تيسّر الرجوع إلى المجتهد، أو عدم حصوله على الرسالة المأمونة لمجتهده- فعليه أن

ص: 326

يحتاط إمّا بالعمل بأوفق الفتويين المذكورتين مع الاحتياط أو بالاحتياط المطلق.

والوجه في ذلك: أنّ المقلّد إذا انسدّ عليه طريق الاجتهاد حسب المفروض، و طريق التقليد- للتعارض والتساقط في الفتويين- فيبقى الطريق الثالث أي الاحتياط، وهو الطريق الذي كان واجباً عليه تخييراً، وبالانسداد في الطريقين الآخرين يصير واجباً تعيينياً، وبذلك يخرج المكلّف عن عهدة التكليف.

المقام الثاني: في اختلاف فردين من سنخين من طرق إعلام الفتوى. وهذا الفرض لم يتعرّض الماتن له، إلّاأنّا نذكره تتميماً للفائدة، فنقول: الاختلاف في هذا المقام له صور ثلاث:

الاولى: اختلاف السماع عن المجتهد مع النقل.

الثانية: اختلاف السماع مع ما في الرسالة.

الثالثة: اختلاف ما في الرسالة مع النقل.

وفي جميع هذه الصور: إن اختلف الزمان- مثل ما إذا كان السماع في سنة، والنقل في سنة اخرى- فحيث يحتمل تبدّل رأي المجتهد أخذ بالمتأخّر. وهكذا في الصورتين الاخريين.

وأمّا إذا لم يختلف زمانهما، أو لم يحتمل تبدّل الرأي من المجتهد، فاختلاف الطرق يكون كاختلاف الأمارات؛ ففي كلّ مورد أفادت الأمارة قطعاً اخذ بها وترك ما يفيد ظنّاً، وكذا يؤخذ بما يفيد الظنّ الأقوى فالأقوى عقلائياً، وإن تساوت الطرق- من هذه الجهة- تساقطت كاختلاف الأفراد من سنخ واحد.

والاختلاف بين هذا المقام وسابقه: هو أنّ التكافؤ المعتبر في التعارض في نوع الأمارات وسنخها يقوم على أساس الاعتماد العقلائي على الأمارة والطريق، فمع اختلاف الطرق يقدّم ما هو أكثر اعتماداً على غيره، بخلاف الأفراد المختلفة من

ص: 327

سنخ واحد حيث إنّها متكافئة بحسب نوعها.

وبناءً على ما ذكرنا، فحيث إنّ السماع قد يوجب القطع فهو يقدّم على النقل، كما ادّعاه السيّد الطباطبائي في «العروة الوثقى»(1)، أو يقدّم السماع على النقل عقلائياً لأجل انصراف دليل حجّية النقل عن صورة المعارضة للسماع، كما ذهب إليه بعض آخر(2).

وهكذا الأمر إذا اختلف السماع مع ما في الرسالة فيما إذا لم تكن الرسالة بخطّ المجتهد أو ملحوظة بنظره تماماً.

وأمّا إذا كانت الرسالة بخطّ المجتهد أو ملحوظة بنظره، فهنا وإن كان يجري في كلا الطريقين أصالة عدم الخطأ عقلائياً، إلّاأنّه لا يبعد دعوى جريان السيرة العقلائية على تقديم الرسالة على السماع، والوجه في ذلك: أنّ العناية والدقّة في الكتابة عادةً تكون أكثر؛ بحيث يصير احتمال الخطأ- بالنسبة إلى الفتوى المسموعة- موهوناً، فيقدّم ما في الرسالة المذكورة على السماع.

وبما ذكرناه ظهر حكم اختلاف الرسالة مع النقل، فإنّه كسابقه بعينه.

فتحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ المدار- في الأخذ بأحد المختلفين بحسب سنخهما- على مدى الاعتماد العقلائي على سنخ الطريق.


1- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 14، المسألة 59 ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 212 ..

ص: 328

وجوب تعلّم العبادات وأحكام الخلل

(مسألة 23): يجب تعلّم مسائل الشكّ والسهو وغيرها ممّا هو محلّ الابتلاء غالباً، إلّا إذا اطمأنّ من نفسه بعدم الابتلاء بها، كما يجب تعلّم أجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ومقدّماتها. نعم، لو علم إجمالًا أنّ عمله واجد لجميع الأجزاء والشرائط، وفاقد للموانع، صحّ وإن لم يعلم تفصيلًا (1).

وجوب تعلّم العبادات وأحكام الخلل

1- قد ركّز البحث في هذه المسألة على وجوب التعلّم، فلابدّ من تنقيح مورده وحقيقته، ثمّ بيان مستند الحكم فيه، وذلك من خلال التكلّم في عدّة امور:

الأمر الأوّل: أنّه قد عرفت في مقدّمة مبحث الاجتهاد والتقليد: أنّ الطريق لخروج المكلّف عن عهدة التكاليف المنجّزة عليه بالعلم الإجمالي هو الاجتهاد والتقليد والاحتياط، وحيث إنّ المفروض عدم تمكّن المقلّد من الاجتهاد فينحصر الطريق في الاثنين:

فإن اختار الاحتياط، فحيث يُخرِج المكلّف نفسه عن العهدة بإتيان جميع المحتملات أو أحوطها، فلا يلزم عليه العلم بالحكم الشرعي على ما هو عليه في واقعه، فلا يتوقّف عمله على تعلّم الحكم الشرعي تفصيلًا، بل يكفي

ص: 329

علمه الإجمالي به كما هو واضح.

وأمّا إذا لم يتمكن في مورد من الاحتياط- كما قد يتّفق- وانحصر الطريق عليه في التقليد، أو اختار التقليد من أوّل الأمر، فحينئذٍ يتّسع المجال للبحث عن حكم تعلّم المسائل الشرعية، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى إلزامه بتعلّم الأحكام الشرعية يتفرّع على القول بحرمة قطع الصلاة وإبطالها على المكلّف؛ إذ لو كان متمكّناً من قطع الصلاة- ولم يكن ذلك حراماً عليه- فيمكن له الامتثال تفصيلًا، وذلك بقطع الصلاة والإتيان بصلاة من دون شكّ وسهو، أو يتعلّم ما ابتلى به فعلًا ثمّ يأتي بصلاته. ولمّا كان المشهور ذاهبين إلى حرمة قطع الصلاة- وبنى عليها أكثر المتأخّرين ومنهم الماتن(1)- والممنوع شرعاً كالممتنع عقلًا، انحصر طريق المكلّف لامتثال الواجب من دون ارتكاب محرّم في التعلّم.

الأمر الثاني: حيث إنّ المطلوب من المكلّف الإتيان بأعماله وفقاً للواقع أو فتوى المجتهد، فإذا أحرز المكلّف أنّ ما أتى به موافق للواقع أو لفتوى مجتهد ولو اتّفاقاً، فلا مجال للإشكال في صحّة عمله من جهة أنّه لم يتعلّم أحكامه قبل العمل؛ إذ غاية ما يقتضي ذلك هو استحقاق العقاب- على بعض المباني- دون المساس بصحّة العمل.

وهذا هو الذي صرّح به الماتن قدس سره في المسألة الثانية حيث قال: إنّ انطباق عمل المكلّف على الحجّة- أي فتوى الفقيه- مصحّح لعمله.

الأمر الثالث: أنّه لا إشكال ولا خلاف في الجملة في وجوب تعلّم الأحكام الشرعية التي تكون محلّ الابتلاء للمكلّف، والمستند في ذلك: هو تنجّز الأحكام


1- تحرير الوسيلة 1: 180، المسألة 12 ..

ص: 330

الإلزامية الشرعية بالعلم الإجمالي بثبوتها في الشريعة، وقد اتّضح سابقاً أنّ مقتضاه وجوب فراغ الذمّة منها عقلًا، وحيث إنّ الفراغ منها غالباً يتوقّف على معرفتها فيجب التقليد أي الرجوع إلى المجتهد- لغير المجتهد والمحتاط- للتعرّف عليها.

نعم، وقع الخلاف في نوعية الوجوب الثابت للتعلّم، وكذا في حدّ الابتلاء في المسائل الموجب لتعلّم الأحكام، وسيتّضح كلّ من البحثين في الامور الآتية.

الأمر الرابع: ما هي نوعية وجوب التعلّم للأحكام الشرعية؟

يمكن استخراج عدّة أقوال من خلال تتبّع كلماتهم، وقد ذهب إلى كلّ منها قائل:

القول الأوّل: أنّ وجوب التعلّم شرعي نفسي يعاقب المكلّف على تركه، وقد ذهب إلى هذا القول المقدّس الأردبيلي وتلميذه صاحب «المدارك»(1).

القول الثاني: أنّ وجوبه شرعي طريقي؛ بمعنى أنّ الشارع جعل وجوب التعلّم كطريق لإتيان الواجبات الواقعية، بحيث إذا أخلّ المكلّف بهذا الواجب، عوقب على مخالفته للمكلّف به الواقعي لا على تركه للتعلّم.

القول الثالث: أنّ وجوبه عقلي لا شرعي.

أمّا القول الأوّل فيرد عليه: أوّلًا: أنّه لا دليل عليه من عقل أو نقل.

وثانياً: أنّه حيث إنّ التعلّم ليس محبوباً ذاتياً، والأمر به لا لأجل مصلحة فيه، بل لأجل التحفّظ على الأحكام الشرعية كما هو الحال في الأمر بالاحتياط، فإشكال كون وجوب التعلّم متقدّماً على فعلية الحكم الشرعي على المكلّف- بالبيان الآتي في بعض فروع المسألة- لا يندفع به، مع أنّ هذا الالتزام بالوجوب الشرعي النفسي كان محاولة للتخلّص عن ذلك الإشكال.

وأمّا القول الثاني: ففيه: أنّ أدلّة التعلّم لا يستفاد منها كون وجوبه وجوباً مجعولًا


1- راجع: دروس في فقه الشيعة 1: 173 ..

ص: 331

شرعياً، ومن المعلوم أنّ إثبات الوجوب الشرعي- بأيّ نوع كان- لشي ء يحتاج إلى دليل يثبته، وهو مفقود في المقام كما يتّضح في مستند القول الثالث.

وأمّا القول الثالث- أي وجوب التعلّم عقلًا- فبيانه: أنّ المولى المقنّن لجميع العباد يلزم عليه إيصال أحكامه إليهم بوسيلة الأنبياء والرسل والكتب المنزلة والأحاديث المروية عنهم، وإيصال الرسل عبارة عن بثّهم في العباد بنحو متعارف، وهو تعليمها لعدّة من العلماء وكتابتها في الدفاتر والزبر وبسطها بين الناس.

وبهذا الإيصال تصير التكاليف فعلية على المكلّف، ومقتضى فعليّتها وجوب خروج المكلّف عن عهدتها بحيث يحرز الامتثال القطعي لها، وهذا الوجوب واللزوم- المستفاد من إدراك العقل لاستحقاق المكلّف للعقاب إن لم يُقدِم على الامتثال وما يلزم في طريقه- يكون مستنداً لوجوب التعلّم فيما إذا لم يمكن امتثال الواجب في ظرفه بدونه.

وعليه يكون وجوب التعلّم والتفقّه وجوباً مقدّمياً للتحفّظ على العناوين المستقلّة الذاتية، فما ورد في الآيات والروايات- من وجوب التفقّه في الدين وفرض طلب العلم- يكون إرشاداً إلى هذا الوجوب المقدّمي.

مع أنّ في نفس هذه الأدلّة شواهد على ذلك؛ مثل آية النفر الدالّة على أنّ غاية وجوب التفقّه في الدين تحذّر المستمعين، ومن المعلوم أنّ نفس التحذّر ليس مطلوباً، بل المطلوب هو العمل بالأحكام.

وكذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ(1) من «أنّ اللَّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت جاهلًا، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل؟! فيخصم،


1- الأنعام( 6): 149 ..

ص: 332

فتلك الحجّة البالغة»(1)؛ فإنّه صريح في أنّ التعلّم إنّما هو للعمل، ولا نفسية له ولا طريقية شرعية.

بناءً على ما ذكرنا يتّضح أنّ الاستدلال لوجوب التعلّم بالإجماع غير تامّ؛ فإنّ احتمال استناد المجمعين إلى حكم العقل وما يرشد إليه من الآيات والروايات قويّ؛ ولذا لا تتمّ دعوى الإجماع القطعي عليه.

الأمر الخامس: أنّه قد اتّضح ممّا تقدّم أنّ العقاب إنّما يترتّب على نفس الواجب المتروك بترك تعلّم أحكامه وأجزائه، ولا دخل للتعلّم في أصل الوجوب ولا في العقاب المترتّب على تركه. وحينئذٍ فما استظهره بعض الأعلام من عبارة المتن- من أ نّها ظاهرة في الوجوب الشرطي الذي مرجعه إلى دخل التعلّم في صحّة العبادة ووقوعها موافقةً للأمر المتعلّق بها، استشهاداً على ذلك بقوله: «نعم لو علم إجمالًا ...»؛ حيث يدلّ على أنّ محطّ البحث هو: الصحّة والبطلان والامور الدخيلة في الأوّل أو الموجبة للثاني(2)- غير منطبق على المتن لما صرّح به الماتن نفسه في مواضع من أنّ الواجب هو امتثال الواقع كيف ما اتّفق والحرام هو ترك ذلك الامتثال؛ حتّى أنّه إذا لم يتعلّم الأحكام وأبطل الصلاة التي شكّ فيها وأتى بها صحيحة ثانياً فلا مجال للإشكال فيها.

الأمر السادس: في حدّ الابتلاء الذي قد قدّمنا دخوله في موضوع حكم العقل.

من المعلوم أنّ العقل لا يحكم بوجوب تعلّم ما هو خارج عن محلّ ابتلاء المكلّف من الأحكام، وكذلك إذا احتمل وقوعه نادراً؛ كما إذا اطمأنّ المكلّف


1- الأمالي الشيخ الطوسي: 9/ 10؛ تفسير نور الثقلين 1: 775- 776/ 300؛ بحار الأنوار 2: 29/ 10 ..
2- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 213 ..

ص: 333

بعدم الابتلاء بمسائل الشكّ والسهو والنسيان، فإنّه لا يجب عليه تعلّم أحكامها حينئذٍ.

كما لا إشكال في حكم العقل بوجوب التعلّم فيما إذا علم بابتلائه بمسائل.

وإنّما الخلاف فيما إذا احتمل الابتلاء احتمالًا عقلائياً فهل يجب التعلّم في هذا المورد أيضاً؟

قد يقال: إنّ استصحاب عدم الابتلاء بتلك المسائل في الأزمنة المستقبلة يجري وينتج عدم وجوب تعلّم تلك المسائل، فيكون هذا الاستصحاب استقبالياً.

إلّا أنّ الظاهر أنّ العقل يحكم بوجوب التعلّم فيما إذا احتمل المكلّف ابتلاؤه بمسائل في ظرف الشكّ أو السهو ولا يقصر إدراكه عن موارد الاحتمال.

لا يقال: إنّ الاستصحاب الاستقبالي بالتقريب المذكور حيث يكون موضوعياً، يقدّم على الحكم الشرعي المستند إلى إدراك العقل، وينفي موضوع وجوب التعلّم في غير معلوم الابتلاء.

فإنّه يقال: إنّ هذا الاستصحاب وإن كان يجري على مبنى الماتن، لكنّه حيث ينفي موضوع الدليل غالباً، وإجراؤه يستلزم إعمال الدليل في موارد نادرة، فلا يجري لما يترتّب عليه من اللازم الفاسد.

فتحصّل: أنّه يجب على المكلّف في موارد احتمال الابتلاء أيضاً تعلّم الأحكام، إلّا أنّه يعتبر كون الاحتمال عقلائياً، دون ما إذا كان ضعيفاً نادراً.

والمراد بهذا الابتلاء: هو ابتلاء نوع المكلّفين ببعض مسائل الشكوك والسهو، لا ما يبتلي المكلّف به غالباً كما توهّم(1)؛ فإنّ لزوم تعلّم أحكامه حينئذٍ واضح مفروغ عنه لا يحتاج إلى البحث والتصريح، بل التقييد بهذا القيد- أي قوله: «غالباً»- يفيد


1- الدرّ النضيد 2: 177 ..

ص: 334

أنّ الابتلاء لا ينحصر بمورد العلم به، بل يصدق في مورد الاحتمال العقلائي للابتلاء بملاحظة ابتلاء غالب المكلّفين به. نعم، لا إطلاق لحكم العقل بلزوم التعلّم لمورد ما إذا لم يحتمل الابتلاء احتمالًا عقلائياً، كما لا إطلاق لأخبار وجوب التعلّم لذلك المورد؛ لأنّها- كما عرفت- إرشادية إلى حكم العقل غير المطلق.

الأمر السابع: حكم تعلّم أحكام الشكّ والسهو في العبادات كحكم تعلّم أنفسها، فقد يمكن أن يعدّها من أحكام نفس الأجزاء والشرائط والموانع للعبادة بتفصيلها؛ حيث إنّه يبحث في أحكام الشكّ والسهو: أنّ الشرائط والأجزاء هل تكون معتبرة في العبادة مطلقاً، أم هي معتبرة في حال الالتفات والذكر؟ ثمّ الذي يعتبر فيها هل يعتبر من جانب الوجود أم من جانب العدم(1)؟

لكن ما ذكر لا يجري في جميع أحكام الشكّ والسهو، بل يختصّ بالشكّ والسهو في الأجزاء والشرائط التي لم يلتفت لها وذلك بمقتضى قاعدة التجاوز أو الفراغ، وأمّا ما عُيِّن له حكم خاصّ- تداركاً لما فات من المكلّف، أو بدلًا للفائت- فلا يندرج في البحث عن الأجزاء والشرائط ونحوهما كما هو واضح.

نعم، إذا كانت أحكام الشكّ والسهو واردة في مقام الإرشاد إلى أسهل طريق للامتثال في ظرفي الشكّ والسهو فلا يجب على المكلّف تعلّمهما؛ لإمكان استئناف العمل من جديد.

ولكن قد عرفت أنّ سيّدنا الماتن قدس سره يفتي بحرمة قطع الصلاة(2) وإبطالها لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... لَاتُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ(3) كما أ نّ الظاهر من أدلّة أحكام


1- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 341 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 180، المسألة 12 ..
3- محمّد( 47): 33 ..

ص: 335

الشكّ والسهو أيضاً هو ذلك، فراجع وتأمّل، وحينئذٍ فلا يبقى مجال للمكلّف إلّاأن يتعلّم أحكام الشكّ والسهو لأنّها ليست إرشادية مولوية.

الأمر الثامن: يظهر من خلال ما ذكرنا وجه الاستثناء من الحكم بوجوب تعلّم أحكام الشكّ والسهو والذي ذكره بقوله «إلّا إذا اطمأنّ من نفسه بعدم الابتلاء بها»؛ حيث إنّ المناط في هذا الحكم هو إدراك العقل وإرشاد أخبار وجوب التعلّم إليه، فالوجوب يكون بمناط أنّ العقل يرى أنّ المكلّف- الملتفت إلى التكاليف المنجّزة عليه- إن أخلّ بشي ء من واجباته ولو بترك بعض مقدّمات عمله فهو مستحقّ للعقاب، ومن المعلوم أنّ هذا الحكم العقلي لا يجري فيما إذا اطمأنّ المكلّف بأ نّه لا يبتلي بالشكّ أو السهو؛ إمّا لقوّة ذاكرته وحافظته، أو لاستعانته بجهاز خاصّ يحفظ له صورة عمله ويجعله لا يشكّ ولا يسهو.

وبعبارة اخرى: لا يبقى حينئذٍ موضوع لحكم العقل، فلا يجري لذلك.

ثمّ لا يخفى أنّ صحّة عمل المكلّف تدور مدار موافقته للواقع أو لفتوى من يقلّده فيما إذا حصل منه قصد القربة في العبادات، فالتعلّم يكون طريقاً إلى الصحّة فقط، وتركه يوجب استحقاق العقاب على مخالفة الواقع(1).

الأمر التاسع: أنّ الإتيان بالعبادة الواجبة المنجّزة على المكلّف يمكن أن يكون على نحو الامتثال التفصيلي؛ أي مع العلم بواقع العمل- وجداناً أو بالفتوى- بجميع أجزائه وشرائطه وما يعتبر في صحّته، ويمكن أن يكون على نحو الامتثال الإجمالي- أي الاحتياط- بإتيان جميع ما يحتمل جزئيّته أو شرطيته للواجب من دون العلم التفصيلي بهما.

ويجوز الامتثال الإجمالي ولو مع التمكّن من الامتثال التفصيلي، أو استلزامه


1- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 10، المسألة 28 ..

ص: 336

لتكرار العمل(1)، بشرط التعرّف على كيفية الاحتياط.

والتعلّم يكون واجباً مقدّمياً للامتثال التفصيلي دون الإجمالي؛ لأنّ المكلّف إذا أمكنه الإتيان بأعماله مضافاً إلى اللَّه تعالى على نحو يقطع بحصول الامتثال ولو من دون تعلّم الأحكام، فقد أخرج نفسه عن عهدة ما وجب عليه، وهذا هو الذي استدركه الماتن قدس سره على الحكم بوجوب تعلّم الأجزاء والشرائط بقوله: «نعم لو علم إجمالًا أنّ ...».

وأمّا إذا لم يتمكّن من الامتثال الإجمالي أو أراد الامتثال التفصيلي، فلا يحصل الفراغ عن الواجب إلّاعن طريق التعرّف على ما يعتبر في تحقّقه؛ فإن كان الواجب موسّعاً بحيث يمكن تعلّم أحكامه من الأجزاء والشرائط ونحوهما فيجوز تعلّمها في أثناء وقت وجوبه قبل الإتيان بالواجب، وأمّا إن كان الواجب مضيّقاً أو كان لا يمكن التعلّم في وقت الواجب الموسّع، فيلزم على المكلّف تعلّم الأحكام قبل مجي ء وقت الواجب أو قبل تحقّق شرطه.

وحينئذٍ فقد يشكل: بأ نّه كيف يجب تعلّم أحكام ما لم يصر وجوبه فعلياً لعدم تحقّق شرطه أو مجي ء وقته؟!

فنقول: تارك التعلّم في هذه الموارد يكون مستحقّاً للعقاب على مبنى المشهور من كون وجوب التعلّم مقدّمياً، وكذا على غيره من المباني:

توضيح ذلك: أنّه ذهب المشهور إلى أنّ الواجب المشروط يكون وجوب شرطه مقدّمياً، ولكن قد حقّق في مبحث مقدّمة الواجب أنّ القول بترشّح وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها- بحيث لايعقل وجوبها قبل وجوبه؛ للزوم كون المعلول قبل علّته- ليس على ما ينبغي، بل لوجوب المقدّمة كوجوب ذيها مبادٍ ومقدّمات خاصّة بها،


1- تحرير الوسيلة 1: 7، المسألة 1 ..

ص: 337

إذا وجدت وجد الوجوب وإلّا فلا، سواء وجب ذو المقدّمة فعلًا أم لا.

فحتّى لو قلنا بوجوب المقدّمة وسلّمنا بالتلازم نقول: بأنّ المولى إذا تصوّر توقّف الواجب المشروط الذي سيتحقّق شرطه على شي ء- بحيث يوجب تركه سلب قدرة العبد عن الامتثال في ظرف تحقّق الشرط- فلا ريب في تعلّق إرادته بإيجاده بمناط المقدّمية؛ لوجود مبادئ إرادتها.

نعم بناءً على مبنى معلولية وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها، فتبعية وجوب المقدّمة لوجوب ذيها كالنار على المنار، لكنّ التأمّل في إرادة ذي المقدّمة ومبادئها وإرادة المقدّمة ومبادئها يرفع الريب عن عدم وجاهة المبنى.

فترك التعلّم- الموجب لفوات الواجب في محلّه بلا عذر- موجب لاستحقاق العقاب على ما بنى عليه المشهور من وجوب المقدّمة.

وأمّا لو لم نقل بوجوب المقدّمة أو كون وجوبها بمناطها- كما هو الحقّ في المقامين- فلا شبهة أيضاً في استحقاقه العقوبة؛ لحكم العقل والعقلاء بأنّ تفويت الواجب المشروط- الذي سيتحقّق شرطه في ظرفه- بلا عذر موجبٌ للاستحقاق، فلا عذر لمن يعلم أنّ شرط الواجب يحصل غداً أن يتساهل في مقدّماته الوجودية المفوّتة ولو صرّح المولى بأنّ الواجب المشروط قبل شرطه ليس بواجب أصلًا(1).

لا يقال: إنّ التعرّف على الواجب- إجمالًا أو تفصيلًا- بأجزائه وشرائطه وموانعه من المقدّمات العلمية للواجب، وليس من المقدّمات الوجودية له، إذ تجب السنخية بين الشي ء ومقدّماته الوجودية، ولا سنخية بين العلم ووجود الشي ء(2).


1- أنوار الهداية 2: 426 و 427 ..
2- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 340 ..

ص: 338

فإنّه يقال: اعتبار السنخية بين المقدّمة وذيها قائم على أساس كون مقدّمة وجود الشي ء داخلة في علل وجوده؛ أي على مبنى معلولية وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها، وقد عرفت عدم صحّة المبنى كما حقّق في محلّه.

بل الحقّ أنّ وجوب التعلّم يكون من المقدّمات الوجودية المفوّتة؛ باعتبار أنّ العقل والعقلاء يحكمون بأ نّه لا يجوز تفويت الواجب المشروط إذا تحقّق شرطه في ظرفه، فلا يعدّ التعلّم من المقدّمات العلمية.

ص: 339

العمل بلا تقليد

(مسألة 24): إذا علم أنّه كان في عباداته بلا تقليد مدّة من الزمان ولم يعلم مقداره، فإن علم بكيفيتها وموافقتها لفتوى المجتهد الذي رجع إليه، أو كان له الرجوع إليه فهو، وإلّا يقضي الأعمال السابقة بمقدار العلم بالاشتغال، وإن كان الأحوط أن يقضيها بمقدار يعلم معه بالبراءة (1).

العمل بلا تقليد

1- قد تقدّم في مستند المسألة العشرين تفصيل الكلام بالنسبة إلى العمل الصادر لا عن تقليد وأ نّه غير صحيح إلّاإذا أتى به وتمشّى منه قصد القربة- في العبادات- وانطبق على الواقع أو على فتوى من يجوز أو يجب عليه الرجوع إليه في ذاك العمل. فإن كان العمل ممّا يكون قضاؤه واجباً- وقد دخل في المستثنى منه في تلك المسألة- وجب عليه قضاؤه إن لم تتّفق له إعادة العمل في الوقت صحيحاً. فإذا علم المكلّف ببطلان عمل صدر منه بلا تقليد وكان العمل واجب القضاء فيجب عليه القضاء؛ لأنّ إتيان العمل باطلًا كعدم إتيانه بالنسبة إلى جريان أدلّة القضاء، وتفصيل الكلام في هذه الأدلّة موكول إلى محلّه.

وفي الحقيقة يشير الماتن قدس سره في هذه المسألة إلى غرضين أحدهما فرعي والآخر أصلي:

ص: 340

أمّا الغرض الفرعي في هذه المسألة: فهو التنبيه على أنّ العمل بلا تقليد إذا كان باطلًا يكون من صغريات أدلّة القضاء في كلّ باب.

وأمّا الغرض الأصلي- الذي هو محور الكلام في هذه المسألة- فهو بيان حال العمل الباطل الصادر بلا تقليد من حيث العلم بمقداره والجهل به. وهذا وإن كان أيضاً من صغريات باب قضاء الفوائت من حيث العلم بالمقدار وجهله، إلّاأنّ الباعث لذكره في باب الاجتهاد والتقليد هو بيان صغروية مسألة العمل الباطل الصادر بلا تقليد من حيث المقدار أيضاً للأقوال والأدلّة في باب قضاء الفوائت وشمولهما لها من هذه الحيثية.

وكيف كان، فأصل مسألة مقدار الواجب من القضاء إذا لم يعلم مقدار الفائت موضوع لكلامهم قديماً وحديثاً، قال السيّد الشريف المرتضى: «ومن لم يحص ما فاته كثرةً من الصلاة، فليصلّ اثنتين وثلاثاً وأربعاً، ويدمن ذلك حتّى يغلب على ظنّه أ نّه قد قضى الفائت»(1).

ومثله ذكر في كلام جمع كثير من الفقهاء(2)، بل نسب هذا المضمون إلى قريب من إجماعهم عليه(3).

وفي المسألة أقوال:

الأوّل: ما تقدّم من وجوب القضاء حتّى يغلب على ظنّه الوفاء بمقدار الواجب، وربّما يقيّد بما إذا عسر تحصيل العلم بالفراغ، وقد يدّعى إرادة العلم من الظنّ في


1- رسائل الشريف المرتضى 3: 39 ..
2- راجع: الكافي في الفقه: 150؛ النهاية: 127؛ المراسم: 89؛ المهذّب البارع 1: 458؛ الغنيةالنزوع 1: 99؛ إصباح الشيعة: 99؛ السرائر 1: 275؛ شرائع الإسلام 1: 121؛ قواعد الأحكام 1: 312. وغير ذلك ممّن يقف عليه المتتبّع في كلماتهم ..
3- جواهر الكلام 13: 129 ..

ص: 341

كلماتهم، وليس ببعيد خصوصاً فيما إذا حصل بسهولة ومن دون حرج(1).

وصاحب «الشرائع» في المقام تارةً عبّر بالظنّ واخرى بالعلم في مسائل ثلاث كلّها من واد واحد، فلابدّ من ملاحظته والتأمّل فيه.

نعم، قد صرّح بعض من تأخّر بكفاية تحصيل الظنّ وإن تمكّن من تحصيل العلم(2).

الثاني: لزوم تحصيل العلم بالبراءة؛ بمعنى وجوب الإتيان بمقدار يحصّل له العلم بالبراءة(3).

الثالث: وهو قول الماتن قدس سره وجمع من المعاصرين وغيرهم-: كفاية الإتيان بمقدار العلم بالاشتغال، وإن لم يحصل له الظنّ أو العلم بإتيان مقدار الواجب عليه واقعاً.

واستدلّ للأوّل: أوّلًا: بالاتّفاق الناشئ من إطلاق كلام كثير منهم في كفاية الظنّ بالفراغ(4)، وقد تقدّم جملة منه.

وفيه: أنّه- مع وجود المخالف، وعدم وضوح مرادهم كما تقدّم- من المحتمل اعتمادهم على بعض الأدلّة الاجتهادية الآتية، دون خبر معتمد أو أصل متلقّى عندهم يكشف به رضا المعصوم عليه السلام بقولهم.

وثانياً: بالمرسل المروي في كتب الأصحاب من أنّ «المرء متعبّد بظنّه»(5).

وفيه من الضعف سنداً ودلالةً ما لا يخفى: أمّا السند فبالإرسال، وأمّا الدلالة


1- جواهر الكلام 13: 125 و 129 ..
2- نفس المصدر: 125 ..
3- راجع: جواهر الكلام 13: 127 ..
4- جواهر الكلام 13: 129 ..
5- راجع: جواهر الكلام 13: 129 وغيره من الكتب الفقهية ..

ص: 342

فبعدم الظهور في المطلوب، إذ من المحتمل قويّاً أن يكون المراد هو مقام الانبعاث، وأنّ الأفراد مختلفون في كيفية عباداتهم من النيّة والأعمال؛ فكلّ يعمل في عباداته على حدّ اعتقاده ودرجة إيمانه باللَّه تعالى ورسالة رسوله- صلوات اللَّه عليه وآله-.

ولا يخفى على المتتبّع أنّ الأصحاب رحمهم الله أيضاً لم يستدلّوا بهذا الخبر في المقام، والظاهر أنّ صاحب «الجواهر» نقله عنهم في غير المقام، وهذا أيضاً ممّا يوهن الاستدلال به في المقام، بل صاحب «الجواهر» نفسه أيضاً يظهر منه أنّه لم يعتمد؛ ولذا نقله بعنوان ما يتوهّم من الاستدلال على القول الأوّل(1).

وثالثاً: بما وجّه به كلامهم بعض الأعاظم رحمه الله بعد استظهار عدم وجه موجّه له، وهو: أنّ أمثال المقام وإن كانت مورداً للبراءة في نفسها إلّاأنّهم التزموا فيها بالاشتغال نظراً إلى أنّ إجراء البراءة عن المقدار الزائد في تلك المقامات يستلزم كثيراً العلم بالوقوع في مخالفة التكليف الواقعي.

وقد صرّحوا بذلك في جملة من الموارد؛ كما إذا شكّ في استطاعته، أو في بلوغ المال حدّ النصاب، أو شكّ في ربحه، أو في الزيادة على المؤونة ... ولعلّهم قد ألحقوا المقام أيضاً بتلك الموارد نظراً إلى أنّ الرجوع فيه إلى البراءة عن الزائد يستتبع فوات القضاء عن جملة ممّن هو مكلّف به واقعاً ....

ثمّ إنّ مقتضى ذلك وإن كان هو القضاء بمقدار يتيقّن معه بالفراغ، إلّاأنّ إيجابه يستلزم العسر والحرج ... ومن هنا لم يوجبوا الاحتياط بمقدار يوجب اليقين بالفراغ، ولم يرخّصوا الاكتفاء بالاحتمال بالرجوع إلى البراءة عن الزائد؛ لاستلزامه تفويت الواجب عمّن هو مكلّف به واقعاً، واعتبروا الظنّ بالفراغ لأنّه أوسط الامور


1- جواهر الكلام 13: 129 ..

ص: 343

وخير الامور أوسطها؛ فإنّ هذا هو الحال في كلّ مورد تعذّر فيه الامتثال اليقيني على المكلّف؛ فإنّ العقل يتنزّل وقتئذٍ إلى كفاية الامتثال الاطمئناني ثمّ الامتثال الظنّي ... إذن يلتئم مدرك المشهور من ضمّ أمر بأمر؛ أعني قاعدة الاشتغال المنضمّة إلى قاعدة نفي الحرج(1).

وقد ردّ رحمه الله هذا التوجيه أيضاً بما حاصله- مع توضيح بعض الجوانب منّا كي يندفع بعض ما يمكن أن يورد عليه- أوّلًا: منع جريان قاعدة الاشتغال في المقام.

وثانياً: عدم إنتاج جريان قاعدة نفي الحرج لمطلوب المشهور لو سلّمنا جريان الاشتغال:

أمّا الأوّل: فلأنّ العلم بالوقوع في مخالفة الواقع- المانع من جريان البراءة في تلك الموارد المذكورة: من الشكّ في الاستطاعة، وبلوغ المال حدّ النصاب ... وغير ذلك، والباعث على جريان الاشتغال- لا يحصل للمكلّف، كيف؟! وهو خلف الفرض؛ لأنّ وجوب الإتيان بالقضاء بمقدار علمه بالفائت واضح عند الكلّ و مثار الاختلاف هو وجوب الإتيان بالزائد على ذلك.

نعم، المفتي بإجراء البراءة للمكلّفين ربّما يحصل له العلم بوقوع بعضهم أو كثير منهم في مخالفة الواقع بإجرائهم للبراءة، وهذا العلم لا أثر له شرعاً؛ لأنّ مجرى البراءة هو شكّ المجري لها- وهو المكلّف- في كلّ واقعة.

وأمّا الثاني: فلأنّ الملاك في جريان القاعدة هو الحرج الشخصي على ما تقرّر في محلّه، فإذا حصل يمنع من جريان قاعدة الاشتغال سواء علم المكلّف بإتيان ما عليه أو ظنّ أو احتمل، كما أنّه يمكن أن يأتي بمقدار يحصّل له العلم بالبراءة من دون حرج عليه، فنسبة نتيجة جريان القاعدة إلى مطلوب المشهور- وهو وجوب


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 283- 284 ..

ص: 344

الإتيان بمقدار يظنّ معه بالبراءة- هو العموم والخصوص من وجه(1).

واستدلّ للقول الثاني بما نسب إلى المحقّق الأصفهاني رحمه الله صاحب الحاشية المشهورة على «المعالم» من أنّ «الشكّ في التكليف قد يكون مجرى للاشتغال؛ لرجوعه حقيقةً إلى الشكّ في السقوط، وهي الصورة التي لو كان التكليف بحسب الواقع ثابتاً لصار منجّزاً بواسطة حصول العلم به، كما في موارد الشبهة قبل الفحص، وكما في دوران الأمر بين المتباينين، وحال الفوائت من هذا القبيل؛ لأنّ المكلّف عند حضور وقت صلاته قد حصل له العلم بالتكليف المنجّز، فتنجّز عليه التكليف القضائي من جهة تركه الأداء، فإذا شكّ بعد ذلك في مقدار القضاء كان الشكّ في سقوط التكليف المنجّز»(2).

واورد عليه بإيرادات(3) لعلّ أتقنها أنّ «ما أفاده لا يرجع إلى محصّل؛ لأنّ التنجيز يدور مدار المنجّز حدوثاً وبقاءً، فيحدث بحدوثه كما أنّه يرتفع بارتفاعه، ومن هنا قلنا بجريان الاصول في موارد قاعدة اليقين؛ لزوال اليقين بالشكّ الساري لا محالة، ومع زواله يرتفع التنجّز؛ إذ لا معنى للتنجّز من غير منجّز، فلا يكون مانع من جريان الاصول في موردها. فإذا علم بنجاسة شي ء ثمّ شكّ في مطابقة علمه ومخالفته للواقع، جرت فيه قاعدة الطهارة، ولا يعامل معه معاملة النجاسة بوجه؛ إذ لا منجّز لها بقاءً»(4).


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 285؛ وراجع في هذا المجال أيضاً: الدرّ النضيد 2: 230؛ تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد 1: 225 ..
2- راجع: الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 360 ..
3- راجع: التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 281؛ الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 360 ..
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 282 ..

ص: 345

ففي المقام أيضاً التنجّز حاصل بمقدار مستنده؛ وهو العلم أو ما يقوم مقامه، فالمقدار الزائد عن المعلوم فوته لا يكون له منجّز في أصل ثبوته. إلّاأن يقال بتبعية وجوب القضاء للأمر بالأداء، وهذا ما سيتّضح حاله.

واستدلّ للقول الثالث بأنّ المقدار الزائد عن المقدار المعلوم فوته- بالترك، أو الإتيان فاسداً ولو لعدم التقليد الصحيح- مجرى للبراءة؛ لأنّه من الشكّ في التكليف الزائد. وتمامية هذا الاستدلال منوطة بثبوت أمرين:

الأوّل: كون القضاء بأمر جديد، وليس من توابع داعوية الأمر بالأداء في الوقت.

والثاني: موضوعية الفوت في الوقت لأدلّة القضاء، وعدم إمكان إثبات هذا الموضوع بإجراء استصحاب عدم الإتيان فيه؛ لأنّه مثبت وهوليس بحجّة.

وتوضيح المطلب أن يقال: أمّا بالنسبة للأمر الأوّل فإنّا لو قلنا بأنّ وجوب القضاء من توابع الأمر بالأداء، فبما أنّ التكليف بالأداء قد ثبت قطعاً، وشكّ المكلّف في أنّ المقدار الذي أتى به هل يكفي في سقوطه أم لا، فشكّه يرجع إلى الشكّ في سقوط التكليف الثابت يقيناً، والشغل اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.

وأمّا لو قلنا بأنّ القضاء يكون بأمر جديد، والأمر بالأداء قيّد متعلّقه بالوقت المحدّد في دليله، وإذا خرج الوقت فقد سقط التكليف ولو لعصيان المكلّف، فعليه يكون الشكّ في المقام من قبيل الشكّ في التكليف الزائد؛ لأنّ التكليف بالقضاء حينئذٍ لا يثبت إلّابإحراز الفوت في الوقت، والفرض أنّ المكلّف شاكّ في إتيان المقدار الزائد عمّا تيقّن بفوته ولو بالإتيان فاسداً لأجل عدم التقليد الصحيح، فبشكّه هذا يشكّ في الفوت الزائد، وبالتالي في التكليف الزائد، والشكّ في التكليف مجرى للبراءة.

وبما أنّ التحقيق- كما قرّر في محلّه، وعليه الماتن قدس سره أيضاً- هو القول الثاني-

ص: 346

أعني كون القضاء بأمر جديد وليس هو من توابع الأمر بالأداء(1)- تمّ الأمر الأوّل من الأمرين السابقين. ثمّ لو شككنا في كيفية دليل القضاء- وأ نّه هل يكون مطابقاً للقول الأوّل أو الثاني- فالنتيجة أيضاً تتّحد مع القول الثاني؛ لأنّه عدم الإيمان بالقول الأوّل كافٍ في كون الشكّ من الشكّ في التكليف الزائد خارج الوقت(2).

وأمّا بالنسبة للأمر الثاني فنقول: إنّ المقام وإن كان من قبيل الشكّ في التكليف ابتداءً، إلّاأنّه يمكن أن يقال: إنّه بمدد الاستصحاب يرتفع الشكّ في التكليف ويحرز الفوت في الوقت، وبهذا يتمّ موضوع أدلّة القضاء ولو كان بأمر جديد؛ وذلك بأن يقال: إنّ شكّ المكلّف في المقدار الزائد من الفائت لأجل شكّه في الإتيان بالعمل صحيحاً في الوقت، واستصحاب عدم الإتيان محكّم، فيحرز أنّه لم يأت بالعمل صحيحاً في الوقت.

فإن قلنا: بأنّ موضوع أدلّة القضاء نفس عدم الإتيان في الوقت- أعني الأمر العدمي السلبي الذي يكون مفاد الاستصحاب- جرت أدلّة القضاء لإحراز موضوعها بمعونة الاستصحاب، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى جريان أدلّة البراءة؛ لأنّ التكليف ثبت بالدليل.

وإن قلنا: بأنّ موضوع أدلّة القضاء ليس هو ذاك الأمر العدمي- بل هو عبارة عن أمر وجودي، أو عدمي آخر كالفوت مثلًا(3)- فجريان الاستصحاب لا يثبت موضوع أدلّة القضاء إلّاإذا قلنا بحجّية الأصل المثبت مطلقاً، أو فيما إذا كانت الواسطة بين المستصحب وما نحن بصدد إثباته خفيّةً، وقلنا فيما نحن فيه بأنّ


1- راجع: مناهج الوصول 2: 99، والخلل في الصلاة، الإمام الخميني قدس سره: 407 ..
2- الخلل في الصلاة، الإمام الخميني قدس سره: 399، ... وكذا مع الشكّ وعدم إحراز أحد الأمرين ..
3- راجع: الخلل في الصلاة، الإمام الخميني قدس سره: 435 ..

ص: 347

الواسطة بينهما خفية. والبحث موكول إلى محلّه.

والماتن قدس سره قائل بأنّ موضوع وجوب القضاء- كما يظهر من الروايات الواردة في الناسي(1)، بعد إلغاء الخصوصية- هو عدم الإتيان بالصلاة إلى ذهاب وقتها، فاستصحاب عدم الإتيان بها إلى آخر الوقت- أو إلى ذهابه- محرِز للموضوع، ويترتّب عليه القضاء(2).

وحينئذٍ فكيف أفتى هنا وفي كتاب الصلاة بعدم وجوب الإتيان بالزائد المشكوك؟! والظاهر أنّ ذلك لأجل أنّه اعتمد على دليلين آخرين:

الأوّل: قاعدة التجاوز؛ فإنّه لا إشكال في جريانها في الشكّ بعد الوقت- كما هو المفروض هنا- لو قلنا بأنّ القضاء بأمر جديد، بل صدق نحو قوله عليه السلام: «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(3) على مضيّ الوقت أولى وأنسب(4).

الثاني: قاعدة الحيلولة الحاكمة بوجوب الإتيان بما يشكّ في إتيانه في الوقت وعدم وجوبه خارجه(5). والبحث عن القاعدتين مقرّر في محلّهما.

فتحصّل: أنّ الواجب على المكلّف- في مفروض المسألة- هو قضاء الأعمال السابقة بمقدار العلم بالاشتغال، وأمّا الزائد عن المقدار المعلوم فهو مجرى للبراءة أو لقاعدتي التجاوز والحيلولة. نعم بما أنّه يحتمل ثبوت مقدار زائد في ذمّته زائداً فحسن الاحتياط عقلًا أو شرعاً يقتضي أن يقضي بمقدار يعلم معه بالبراءة.


1- راجع: وسائل الشيعة 8: 253، كتاب الصلاة، أبواب قضاء الصلوات، الباب 1 ..
2- الخلل في الصلاة، الإمام الخميني قدس سره: 403 ..
3- وسائل الشيعة 8: 237، كتاب الصلاة، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 23، الحديث 3 ..
4- الخلل في الصلاة، الإمام الخميني قدس سره: 405، وراجع أيضاً: مستمسك العروة الوثقى 1: 67 ..
5- الخلل في الصلاة، الإمام الخميني قدس سره: 407، وراجع أيضاً: الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 360 ..

ص: 348

الشكّ في صحّة التقليد

(مسألة 25): إذا كان أعماله السابقة مع التقليد، ولا يعلم أ نّها كانت عن تقليد صحيح أم فاسد، يبني على الصحّة (1).

الشكّ في صحّة التقليد

1- افترض الماتن في هذه المسألة أنّ المكلّف قد أتى بأعماله تقليداً، إلّاأنّه شكّ في أنّها هل وقعت عن تقليد صحيح حتّى تصحّ أعماله أم فاسد حتّى لا تصحّ؟

فحكم بأنّ عليه أن يبني على الصحّة.

والظاهر أنّ مراده البناء على صحّة التقليد وصحّة الأعمال معاً؛ حيث إنّ البناء على صحّة التقليد ينفي الشكّ عن صحّة الأعمال.

والشكّ في صحّة التقليد وفساده ناشئ عن الشكّ في استجماع المجتهد الذي اختاره مقلّداً للشرائط المعتبرة، وقد تعرّض لحكم الشكّ كذلك في المسألة السابعة عشرة. فالشكّ في صحّته هاهنا يكون من ناحية الشكّ في الأعمال التي وقعت عن تقليد شُكّ في صحّته وفساده.

وقد حكم المصنّف بالصحّة، وذلك استناداً إلى أصالة الصحّة في تقليده الذي يكون عنواناً لأعماله، حسب مبنى الماتن قدس سره.

ص: 349

توضيح ذلك: أنّ أصالة الصحّة تجري في كلّ مورد ثبت وقوع العمل ووجوده وشكّ في أنّه وجد صحيحاً أو فاسداً. وفي المقام نقول: لا إشكال في جريانها في الأعمال السابقة المأتيّ بها تقليداً.

وأمّا إجراؤها في نفس التقليد، فقد يقال: بأ نّه لا يترتّب على التقليد السابق أثر إلّا مشروعية العدول وعدمها، ومشروعية البقاء على تقليده وعدمها، وما نحن فيه ليس واحداً منهما، ومع عدم الأثر فإجراء أصالة الصحّة ممّا لا مجال له؛ لأنّ إجراء الاصول كلّها مشروط بترتّب الأثر الشرعي عليها، والتقليد السابق لا يكون كذلك.

ولكنّه يمكن أن يقال: إنّ أصالة الصحّة تجري في المقام بالنسبة إلى الأعمال التي أتى بها تقليداً، فالشكّ في صحّة التقليد أوجب الشكّ في صحّة الأعمال، فالتقليد السابق يترتّب على صحّته وفساده الأثر الشرعي من صحّة الأعمال- من العبادات والمعاملات- أو فسادها.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ التقليد- على مبنى الماتن- يكون عنواناً للعمل، فالشكّ في التقليد- بحسب مصاديقه- يلازم دائماً الشكّ في العمل المأتيّ به تقليداً أي متابعةً للمجتهد.

فالتقليد بنفسه أيضاً يمكن أن يقع مورداً لأصالة الصحّة؛ ولذا قلنا: إنّ مراد الماتن قدس سره في هذه المسألة البناء على الصحّة في التقليد وفي الأعمال معاً، ولا وجه للتشكيك في شمول البناء على الصحّة للأعمال والتقليد معاً.

نعم إذا كان التقليد هو الالتزام والأخذ فقط، ففي إجراء أصالة الصحّة وأمثالها فيه تأمّل واضح، ولكنّه قد عرفت خلافه.

اتّضح ممّا ذكرنا: أنّ عقد بحثين على حدة عن صحّة التقليد وفساده وعن صحّة الأعمال السابقة وفسادها ممّا لا وجه له؛ فإنّ هذه المسألة غير مسوقة لهذين البحثين على استقلالهما.

ص: 350

(مسألة 26): إذا مضت مدّة من بلوغه، وشكّ بعد ذلك في أنّ أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا، يجوز له البناء على الصحّة في أعماله السابقة، وفي اللاحقة يجب عليه التصحيح فعلًا (1).

1- يقع البحث في هذه المسألة عن شكّ المكلّف في أنّ ما عمله في أوائل بلوغه هل كان عن تقليد صحيح أو غير صحيح أو أنّه لم يقلّد أصلًا؟ فيحتمل عدم التقليد في هذه المدّة. وبهذا تفترق هذه المسألة عن سابقتها إذ لم يكن المكلّف هناك يحتمل عدم التقليد. وحينئذٍ نقول: في الجهة المشتركة مع المسألة السابقة يمكن إجراء أصالة الصحّة بالنسبة إلى الأعمال السابقة لتصحيحها.

وأمّا من ناحية احتمال عدم التقليد من رأس غفلةً فقاعدة التجاوز تجري وتحكم بصحّة الأعمال السابقة؛ استناداً إلى الأخبار التي منها موثّقة محمّد بن مسلم: «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(1).

والارتكاز العقلائي استقرّ على أنّ الفاعل- المريد لفراغ ذمّته- إذا أراد الإتيان بشي ء يأتي بما هو وظيفته في محلّه، وإن لم يصل إلى حدّ تطمئنّ النفس بأنّ


1- وسائل الشيعة 8: 237، كتاب الصلاة، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 3، الحديث 3 ..

ص: 351

بناءهم على عدم الاعتناء بالشكّ(1).

ثمّ إنّ الأصل والقاعدة يصحّحان الأعمال السابقة، ولا نظر لهما إلى الأعمال اللاحقة، فلابدّ من تصحيح تقليده فعلًا؛ أي يجب عليه الفحص عمّن يستجمع شرائط التقليد والعمل بفتاواه.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه يبتني على ما هو الغالب في تلك الموارد من عدم حفظ المكلّف في ذهنه، لصورة عمله الذي أتى به سابقاً وإلّا فلو علم بكيفية إتيانه بالعمل- ولو مع عدم التقليد رأساً أو مع التقليد الفاسد- ولم يكن موافقاً للحجّة- وهي في المقام فتوى الفقيه- فحكم عمل هذا المقلّد مذكور في المسألة العشرين، فراجع.


1- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 346- 347 ..

ص: 352

اشتراط العدالة في المفتي والقاضي

اشارة

(مسألة 27): يعتبر في المفتي والقاضي العدالة (1)،

اشتراط العدالة في المفتي والقاضي

1- قد مرّ في المسألة الثالثة اعتبار العدالة في المفتي شرطاً. وأمّا اعتبارها في القاضي فالعمدة في مستنده: الإجماع الثابت من الامّة الإسلامية، كما صرّح به الشيخ الطوسي(1) وأكثر أئمّة المذاهب الإسلامية الاخرى(2).

وقد وردت في ذلك الأخبار أيضاً:

منها: صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبيّ أو وصيّ نبيّ»(3).

ومنها: صحيحة أبي خديجة قال: بعثني أبو عبداللَّه إلى أصحابنا، فقال: «قل لهم:

إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارى في شي ء من الأخذ والعطاء، أن تتحاكموا


1- الخلاف 6: 212، المسألة 5 ..
2- الفقه الإسلامي وأدلّته 8: 5936 ..
3- وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3 ..

ص: 353

إلى أحد من هؤلاء الفسّاق ...» الحديث(1).

وغير ذلك من الأخبار الواردة في النهي عن الرجوع إلى حكّام الجور.

كما أنّ التحاكم إلى الفاسق يكون من مصاديق الركون إلى الظلمة، وهو منهيّ عنه في الشريعة المقدّسة بمقتضى الآية الشريفة: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ(2)، وكذا ما ورد من الأخبار في ذلك.

لا يقال: إنّ الرجوع إلى حكم غير العادل مع وثاقته ليس ركوناً إلى الظالم، ألا ترى أنّ الفقهاء يأخذون بخبر غير العادل مع الوثاقة، ولا يُعدّ هذا ركوناً إلى الظالم؟! والأب والجدّ وليّان على أولادهما الصغار(3).

فإ نّه يقال: إنّ الوثاقة المعتبرة في حجّية الأخبار هي الصدق في الإخبار؛ فإنّه المناط في حجّية الرواية، والعدالة المعتبرة في الأخبار أيضاً يراد بها العدالة في النقل والحكاية، لا مطلقاً؛ فإنّ فساد المذهب يخلّ بالعدالة التامّة الشرعية فلا يُعدّ الثقة في الإخبار عادلًا كما هو ظاهر. وأمّا الوثاقة بمعناها العامّ اللغوي فهي الاعتماد، ومن المعلوم أنّ المعتمد في الحكومة هو العادل لا الفاسق، فقياس المقام بمقام التحديث مع الفارق.

وأمّا عدم اشتراط العدالة في ولاية الأب والجدّ على ولدهما فهو بمناط خاصّ، فلا يقاس بمقام الحكومة كما هو واضح.

كما أنّ اعتبار العدالة في إمام الجماعة والشاهد يدلّ بالأولوية على اعتبارها في القاضي؛ لأهمّية القضاء بالنسبة إليهما، وهذا الوجه يتمّ فيما إذا كانت الأولوية


1- وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6 ..
2- هود( 11): 113 ..
3- جامع المدارك 6: 4 ..

ص: 354

وتثبت بشهادة عدلين، وبالمعاشرة المفيدة للعلم أو الاطمئنان، وبالشياع المفيد للعلم (1)،

قطعية، كما لا يبعد ذلك.

وحينئذٍ فلا يبقى مجال للخلاف والإشكال في اعتبار العدالة في القاضي، وصرّح الماتن قدس سره بشرطيتها في القاضي في محلّه(1).

1- إنّ الطريق في إثبات العدالة المعتبرة في المفتي والقاضي نفس الطريق الذي يعتبر في إثبات سائر الموضوعات الخارجية- كالاجتهاد والأعلمية و ...- التي عيّن الشارع الطريق إلى إحرازها، وأضاف الماتن قدس سره في المقام حسن الظاهر أيضاً، وحيث إنّه قد مرّ البحث عن تلك الطرق في المسائل السابقة فنوقع البحث هاهنا في الجهة التي ترتبط بمحلّ الكلام، وأمّا حسن الظاهر فيأتي بحثه مفصّلًا لاحقاً، فنقول:

طرق إثبات العدالة

الطرق التي اعتبرها الشارع في إحراز الموضوعات الخارجية كانت كالتالي:

إحداها: البيّنة.

وقد مرّ في المسألة التاسعة عشرة عموم حجّيتها وعدم اختصاصها بالقضاء وفصل الخصومة، والمراد بها هاهنا شهادة العدلين على العدالة.

وهل تصدق على الشهادة الفعلية بالعدالة أيضاً؛ كأن يقتدي العدلان برجل- بدون ضرورة- فهل يكون اقتداؤهما به شهادة فعلية على عدالته؟

نقل الشيخ الأعظم الأنصاري(2) عن الشهيد في «الدروس» جزمه بثبوت


1- تحرير الوسيلة 2: 385، المسألة 1 ..
2- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 58 ..

ص: 355

العدالة بالشهادة الفعلية، كالقولية(1).

واستدلّ له: بعموم ما دلّ على وجوب تصديق العادل- بل المؤمن- الشامل لتصديق قوله وفعله؛ لأنّ الفعل كالقول منبئ ومخبر عمّا في ضمير الفاعل، فيتّصف بالصدق والكذب، مثل قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ(2)، وما دلّ على وجوب تصديق المؤمن(3)، وإن انصرف كلّ ذلك إلى القول، إلّاأنّ إرادة تصديقه في مطلق ما يدلّك وينبئك عليه ويرشدك إليه واضح(4).

ثمّ أيّد ذلك أوّلًا: بعمل الفقهاء بتعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم، مع أنّ هذه التعديلات تكون من باب الشهادة، ولم يتأمّل أحد فيه من أجل أنّ الخبر والنبأ لا يصدق على الكتابة.

وأ يّده ثانياً: بعملهم أيضاً بالأخبار المودعة في كتب الحديث من دون السماع عن المحدّث، ويستدلّون عليها بأدلّة حجّية الخبر والنبأ(5).

أقول: إنّ الخبر والنبأ يصدقان على الفعل أيضاً كالقول؛ فإنّ الخبر بمعناه اللغوي والعرفي يصدق على كلّ ما يحكي عن شي ء ويحتمل فيه الصدق والكذب، وهذا العنوان إذا اطلق وإن كان ظاهراً في مورد القول إلّاأنّه غير منحصر بجنس القول؛ إذ قد يحكي الفعل عمّا في الضمير كما تحكي الصلاة والصوم مثلًا عن إسلام المصلّي والصائم، أو عن طهارة المصلّي، ويحتمل في هذا الإخبار الصدق والكذب كما


1- الدروس الشرعية 1: 218 ..
2- التوبة( 9): 61 ..
3- الكافي 8: 147/ 125 ..
4- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 59 ..
5- نفس المصدر: 61 ..

ص: 356

هو ظاهر.

وإن أبيت عن ذلك وعددت الخبر من مقولة القول، فالشهادة غير متقوّمة بصدق مفهوم الخبر عليها، بل يكفي صدق الإنباء العرفي عليها.

كما أنّ السيرة العقلائية قد استقرّت على العمل بالإخبار والشهادة الفعلية كالقولية، حيث نراهم يأخذون بالأقارير المكتوبة، والحال أنّ وجودها حصيلة لليد والكتابة وهي من مقولة الفعل، فتكون من الشهادة الفعلية دون القولية.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الكتابة عبارة عن وجود كتبي للقول، فتتنزّل منزلة القول.

إلّاأنّ السيرة غير منحصرة بذلك، بل تظهر من مصاديق اخر أيضاً؛ فإنّ التعبير بلسان الحال وأمثاله، مع اعتبار حكايته في كثير من الموارد، يشهد بثبوت السيرة، وذلك كشهادة الصلاة على الإسلام كما ذكرنا، وشهادة نقل الراوي- الذي لا ينقل إلّا عن الثقة- على وثاقة شيخه ونحو ذلك.

وأمّا ما ذكره الشيخ الأعظم كمحاولة للاستدلال على هذا القول، ففيه:

أوّلًا: أنّه اعترف بانصراف الأدلّة المذكورة في كلامه إلى تصديق القول، فلا يبقى لشمول التصديق للفعل أيضاً إلّادعوى تنقيح المناط ولكنّه غير قطعي، مضافاً إلى أ نّه خلاف ظاهر كلامه.

وثانياً: أنّ التصديق المذكور فيما سرده قدس سره من الأدلّة يختلف معناه عمّا يراد به هنا كما هو واضح؛ فإ نّ التصديق للمؤمنين- ولو في أفعالهم- يختصّ بما إذا احتملنا كذبهم، فظاهر حال المسلم المؤمن يقتضي حمل فعله على الصحّة وتصديقه بما يقوله ظاهراً، لا واقعاً بحيث يؤخذ بإخباره وشهادته- مطلقاً- على مسلم آخر.

وثالثاً: لا عموم يدلّ على حجّية الفعل كالقول؛ ولذا صرّح في آخر كلامه بأنّ الاعتماد على الفعل ما لم يفد الوثوق بالعدالة في غاية الإشكال؛ لفقد ما تطمئنّ

ص: 357

به النفس من الدليل عليه تعبّداً(1).

ورابعاً: أنّ التعديلات والأخبار المكتوبة يكون وجودها نحو وجود للخبر الرجالي أو الروائي، وقد دلّ الدليل على حجّية الخبر والحديث، لكنّها لا تقاس بالمقام؛ فإنّ اقتداء العدلين لا يكون وجوداً للقول حتّى بالعناية والمجاز، بل هو يدلّ على معنى خاصّ لا يصدق عليه عنوان الخبر والحديث.

وفي كلامه مواقع اخرى للنظر ولكن فيما ذكرناه غنىً وكفاية.

فتحصّل: أنّ شهادة عدلين تعتبر طريقاً لإحراز العدالة، سواء كانت الشهادة فعلية أو قولية بشرائطها.

ثانيتها: المعاشرة المفيدة للعلم أو الاطمئنان.

أقوى الطرق لإحراز العدالة هي المعاشرة للشخص؛ بحيث يحصل العلم القطعي بعدالته أو الاطمئنان- أي ما يعدّه العرف علماً عادياً- بها.

وقد مرّ أيضاً أنّ العلم القطعي حجّة عقلية يجب العمل عليه، وأنّ الاطمئنان حجّة عقلائية استقرّ ديدن العقلاء على تعاملهم معه معاملة العلم، ولا يعتنون باحتمال الخلاف فيه. والشارع اعتبرهما في إحراز جميع المقامات إلّاما خرج بالدليل.

ثالثتها: الشياع المفيد للعلم.

إنّ الشياع- كما مرّ في مستند بعض المسائل السابقة- لم يقم على اعتباره بنفسه دليل قطعي، إلّاأنّه يسبّب العلم بمتعلّقه، وحيث إنّه لا تختلف حجّية العلم من ناحية سبب حصوله فحجّية هذا الطريق تنشأ عن طريقيّته للعلم.


1- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 61 ..

ص: 358

بل تعرف بحسن الظاهر؛ ومواظبته على الشرعيات والطاعات وحضور الجماعات ونحوها (1)، والظاهر أنّ حسن الظاهر كاشف تعبّدي ولو لم يحصل منه الظنّ أو العلم.

1- الطريق الرابع الذي اعتبره الشارع- مضافاً إلى سائر الطرق لإحراز الموضوعات الخارجية- هو حسن الظاهر، فالعدالة تمتاز عن سائر الموضوعات الخارجية بإمكان تشخيصها من طريق حسن الظاهر أيضاً؛ ولذا أتى الماتن قدس سره بهذا الطريق بكلمة «بل» للاستدراك.

ولتبيين حسن الظاهر لابدّ من بيان امور:

الأمر الأوّل: في كاشفية حسن الظاهر عن العدالة.

تستفاد الأمارية والكاشفية من الأخبار المتعاضدة والتي فيها الصحيح والضعيف، ولا بأس بالاعتماد على مجموعها لكثرتها:

منها: معتبرة عبداللَّه بن أبي يعفور، وفيها- بعد تعريف العدالة والعادل-: «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه؛ حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه»(1).

ومنها: مرسلة يونس بن عبدالرحمان عن بعض رجاله عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

سألته عن البيّنة إذا اقيمت على الحقّ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال:

«خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، والمناكح، والذبائح، والشهادات، والأنساب؛ فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولا يسأل عن باطنه»(2).


1- وسائل الشيعة 27: 391، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 1 ..
2- وسائل الشيعة 27: 392، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 3 ..

ص: 359

والماتن قدس سره لا يعتمد على مراسيل يونس بن عبدالرحمان(1).

ومنها: صحيحة عبداللَّه بن المغيرة عن الرضا عليه السلام أنّه قال: «كلّ من ولد على الفطرة، وعرف بالصلاح في نفسه، جازت شهادته»(2)، والصلاح هو ما يعرف بحسن الظاهر.

ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا عُلم منه خير»(3)، والعلم بالخير في الرجل هو حسن الظاهر.

ومنها: خبر أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً»(4)، والعفّة والصون في الرواية هي ستر العيوب، وهو حسن الظاهر.

ومنها: صحيحة حريز عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يُعرفون بشهادة الزور، اجيزت شهادتهم جميعاً»(5).

ومنها: رواية البزنطي عن أبي الحسن عليه السلام: «من ولد على الفطرة اجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يُعرف منه خير»(6).

إلى غير ذلك من الأخبار والنصوص الواردة في الباب.

ويستفاد منها: أنّ الشارع جعل حسن الظاهر كاشفاً عن العدالة وأمارةً لها.

ولا يخفى أنّ هذه الأخبار تبيّن مصاديق لحسن الظاهر بما أنّها كاشف عن


1- انظر: كتاب الطهارة، الإمام الخميني قدس سره 1: 92 ..
2- وسائل الشيعة 27: 393، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 5 ..
3- وسائل الشيعة 27: 394، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 8 ..
4- وسائل الشيعة 27: 395، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 10 ..
5- وسائل الشيعة 27: 397، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 18 ..
6- وسائل الشيعة 22: 26، كتاب الطلاق، أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه، الباب 10، الحديث 4 ..

ص: 360

العدالة، لا أنّ ما ورد في الأخبار من التعابير مفهومها حسن الظاهر؛ حتّى يكون معنى العدالة هو حسن الظاهر، وسيأتي في شرح المسألة الآتية أنّ حقيقة العدالة شي ء آخر غير حسن الظاهر.

الأمر الثاني: في المراد من حسن الظاهر.

قد عرفت أنّ الأخبار المذكورة ذُكر في بعضها مصاديق لحسن الظاهر، فالتعابير بمثل «المرضي» و «الصلاح» و «الخير» وأمثالها تفسّر حسن الظاهر.

ولكن بعضاً آخر منها يذكر مصاديق أكثر خصوصيةً وضيقاً لحسن الظاهر، كالذي ورد في معتبرة ابن أبي يعفور التي جاء فيها: التعاهد للصلوات الخمس، وستر العيوب جميعاً، وكذا مثل قول الرضا عليه السلام نقلًا عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممّن كملت مروّته وظهرت عدالته ...»(1) وغيرهما من الأخبار.

فالمراد بحسن الظاهر- المستفاد من مجموع الأخبار- هو مواظبة المكلّف على الشرعيات والطاعات وحضور الجماعات ونحوها.

لا يقال: إنّ حسن الظاهر يكون أمراً إضافياً؛ فإنّ الظاهر لأهل بلد باطن بالنسبة إلى غيرهم، والظاهر لأهل محلّة باطن بالنسبة إلى باقي أهل البلد، وكذا الظاهر للجيران والزوجة باطن بالنسبة إلى غيرهما، فما هو المعيار لحسن الظاهر الكاشف عن العدالة؟

فإنّه يقال: إنّ كون الشخص- بالإضافة إلى المُعاشر له، وكذا من أحرز عدالته بالحجّة الشرعية- فاعلًا لفرائضه ومجتنباً عمّا يحرم عليه فيما هو ظاهر منه عندهما، هو معنى حسن ظاهره الذي عبّر عنه في لسان الأخبار بالتعبيرات المختلفة.


1- وسائل الشيعة 27: 396، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 15 ..

ص: 361

فحسن الظاهر- بما أنّه طريق- يكون طريقاً إلى عدالته عند المعاشر أو عند من أحرز عدالته به، وهذا الطريق- كسائر الطرق- تثبت حجّيته ما لم تقم حجّة على خلافه، فيمكن أن يكون المكلّف محرَز العدالة عند أهل بلده بما أنّه حسن الظاهر عندهم، وهو غير حسن الظاهر عند جيرانه لأنّهم اطّلعوا على ما لم يطّلع عليه أهل بلده.

وما ذكرناه يجري في أكثر الطرق المعتبرة الشرعية.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّه لا وجه لاعتبار المعاشرة في كاشفية حسن الظاهر عن العدالة، بل يكفي مجرّد كونه ساتراً لعيوبه متعاهداً للحضور في جماعات المسلمين ... ونحو ذلك ممّا ذكرناه في تحقيق حسن الظاهر، ولا يعتبر إحراز الباطن حتّى يحتاج إلى المعاشرة زائداً على ما ذكرنا.

الأمر الثالث: في أنّ حسن الظاهر كاشف تعبّدي.

استظهر الماتن قدس سره من أخبار الباب أنّ حسن الظاهر قد جعل طريقاً لإحراز العدالة من دون اعتبار إفادته الظنّ أو العلم بالعدالة، وهذا ما يعبّر عنه بالكاشف التعبّدي، وفي قباله الحجج العقلائية التي أمضاها الشارع، وهي متقوّمة بإفادتها الظنّ أو العلم.

والوجه في استظهاره ما ذكرناه: أنّه لم يقيّد في النصوص كاشفية حسن الظاهر بإفادته الظنّ أو العلم.

وأمّا احتمال استفادة ذلك ممّا ورد في مرسلة يونس من أنّه «إذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته»(1) بتقريب أنّ مأمونية الظاهر معناها إحراز مطابقة الظاهر للواقع ظنّاً أو علماً، ففيه:- مضافاً إلى ضعف سندها- أنّ معناها


1- وسائل الشيعة 27: 392، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 3 ..

ص: 362

الأمن بالنسبة إلى ظاهر حاله، لا أنّ ظاهره أوجب المأمونية؛ أي العلم أو الظنّ بالعدالة.

وكذا لا يدلّ قوله عليه السلام: «لا تصلّ إلّاخلف من تثق بدينه»(1) على لزوم الوثوق بالعدالة المستكشفة حتّى لو كان الاستكشاف من طريق حسن الظاهر؛ إذ المراد بالرواية هو أنّه لا يجوز الائتمام في الصلاة إلّابمن تثق بدينه أي من يكون إماميّاً اثنا عشريّاً.

فلا تصحّ دعوى تقييد الإطلاقات- الواردة في اعتبار حسن الظاهر طريقاً إلى العدالة- بهذين الخبرين، واعتبار الوثوق أو العلم أو الظنّ بالعدالة بسبب حسن الظاهر كما لا يخفى.

واتّضح ممّا ذكرنا: أنّ الشارع جعل حسن الظاهر طريقاً إلى التعرّف على العدالة مصداقاً، وكذا مفهوماً؛ أي في مقام تبيين مفهوم العدالة جعل حسن الظاهر طريقاً للوصول إلى مفهومها، وهذا يختلف عن جعل حسن الظاهر هو نفس العدالة كما هو واضح.


1- وسائل الشيعة 8: 315، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 11، الحديث 8 ..

ص: 363

مفهوم العدالة

اشارة

(مسألة 28): العدالة عبارة عن ملكة راسخة باعثة على ملازمة التقوى؛ من ترك المحرّمات وفعل الواجبات (1).

مفهوم العدالة

1- قد عرفت في المسألة السابقة أنّ العدالة معتبرة في المفتي والقاضي شرطاً، وفي هذه المسألة يبيّن الماتن قدس سره مراده من العدالة، وتوضيح المرام في المقام أن يقال:

إنّ العدالة في اللغة ما قام في النفوس أنّه مستقيم، وضدّه الجور(1)، وفسّر لغتها فقهاؤنا ب «الاستواء»(2) أو «الاستقامة»(3) أو «الاستواء والاستقامة معاً»(4).

أمّا في لسان المتشرّعة- بعد عدم ثبوت الحقيقة الشرعية لها- فقد نقل الشيخ الأعظم الأنصاري في «رسالة في العدالة» خمسة أقوال في حقيقتها، وهي:

1. أنّ العدالة كيفية نفسانية باعثة على ملازمة التقوى؛ أي إتيان الواجبات وترك المحرّمات، وقد زاد بعضهم على التعريف: «مع المروّة».


1- لسان العرب 11: 430 ..
2- المبسوط 8: 217؛ السرائر 2: 117 ..
3- جامع المقاصد 2: 372؛ مجمع الفائدة والبرهان 12: 312 ..
4- روض الجنان 2: 767؛ مدارك الأحكام 4: 67؛ كشف اللثام 2: 370 ..

ص: 364

وهذا التعريف مشهور بين العلّامة الحلي(1) ومن تأخّر عنه، وإن اختلفوا في التعبير عنه بالكيفية أو الحالة أو الهيئة أو الملكة.

ونسب التعبير بالملكة إلى العلماء أو الفقهاء(2) أو الموافق والمخالف(3)، كما نسب صاحب «المدارك» التعبير بالهيئة الراسخة إلى المتأخّرين(4) وبعض آخر نسب التعبير بالحالة النفسانية إلى المشهور(5).

2. أنّ العدالة عبارة عن مجرّد ترك المعاصي، أو خصوص الكبائر منها.

ففي «السرائر»: أنّ حدّ العدل هو الذي لا يخلّ بواجب ولا يرتكب قبيحاً(6).

وفي «الوسيلة»: أنّ العدالة في الدين الاجتناب عن الكبائر وعن الإصرار على الصغائر(7).

وفي «الكافي في الفقه»: أنّها تثبت باجتناب القبائح أجمع(8).

وعن المجلسي والسبزواري: أنّ الأشهر في معناها أن لا يكون مرتكباً للكبائر ولا مصرّاً على الصغائر(9).

وهذا القول لا يعتبر كون ذلك عن ملكة، بل العدالة هي الاستقامة العملية في الأفعال والتروك على وفق الشريعة.


1- إرشاد الأذهان 2: 156 ..
2- كنز العرفان 2: 384 ..
3- مجمع الفائدة والبرهان 2: 351 ..
4- مدارك الأحكام 4: 67 ..
5- مجمع الفائدة والبرهان 12: 311 ..
6- السرائر 1: 280 ..
7- الوسيلة: 230 ..
8- الكافي في الفقه: 435 ..
9- راجع: بحار الأنوار 88: 25؛ ذخيرة المعاد: 304/ السطر 9 ..

ص: 365

3. أنّ العدالة هي الاستقامة الفعلية الناشئة عن ملكة، دون مجرّد عدم ارتكاب المعاصي فقط وإن كان ذلك عن عدم اتّفاق كبيرة له.

وهذا التعريف استظهره الشيخ الأعظم من كلام جملة من الأعلام؛ فقال الصدوقين: أنّه من تثق بدينه وورعه(1).

وقال المفيد: إنّ العدل من كان معروفاً بالدين والورع والكفّ عن محارم اللَّه(2).

وقال الطوسي وابن حمزة: إنّ العدالة تحصل بأربعة أشياء: الورع والأمانة والوثوق والتقوى(3).

واعتبر القاضي ابن البرّاج فيها: الستر والعفاف واجتناب القبائح(4).

فإنّ الورع والكفّ والاجتناب مع العفاف ليست مجرّد تروك، بل هي ناشئة عن كيفية نفسانية تمنع النفس عن ارتكاب المحارم.

4. أنّ العدالة هي الإسلام مع عدم ظهور الفسق؛ فمن كان مسلماً ولم يظهر منه فسق يحكم بعدالته، كما حكي عن ابن الجنيد(5) والشيخ الطوسي في كتاب «الخلاف»(6).

5. أنّ العدالة هي حسن الظاهر، وهذا التعريف نسب إلى جماعة، بل إلى أكثر القدماء(7).


1- الفقيه 1: 380/ 1170؛ الهداية: 147 ..
2- المقنعة: 735 ..
3- النهاية: 225؛ الوسيلة: 308 ..
4- المهذّب البارع 2: 556 ..
5- راجع: مختلف الشيعة 3: 88 ..
6- الخلاف 6: 217، المسألة 20 ..
7- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 8 ..

ص: 366

ولكنّ القولين الأخيرين ليسا تعريفين لحقيقة العدالة، بل هما طريقان لإحراز العدالة، والدليل على ذلك:

أوّلًا: أنّ جماعة من الأصحاب عدّوهما ممّا به تعرف العدالة(1)، كما أنّ ظاهر الكلام المحكي عن ابن الجنيد هو لزوم الحكم بعدالة كلّ مسلم ما لم يظهر خلافها(2)، والأظهر منه أنّ الشيخ في كتاب «الخلاف» حكم بعدم وجوب البحث عن عدالة الشهود إذا عرف إسلامهم محتجّاً بإجماع الفرقة وأخبارهم، وأنّ الأصل في المسلم العدالة، والفسق طارٍ عليه يحتاج إلى دليل(3).

وثانياً: أنّه لا يعقل أن يكون عدم ظهور الفسق للمسلم أو حسن ظاهره مما نفس العدالة؛ لأنّهما يجتمعان مع الفسق الواقعي إذا لم يظهر من المسلم مظهره، فيمكن أن لا يرتكب الفاسق- المرتكب للمعاصي واقعاً- تلك المعاصي بمنظر الناس حفظاً لجاهه ومنزلته عندهم، فيمكن أن يكون الفاسق الواقعي في الباطن، حسن الظاهر ومستور الحال في الظاهر، ومن المعلوم أنّ العدالة لا تجتمع مع الفسق.

نعم، العدالة الظاهرية- أي التي ثبتت بالقرائن والشواهد الظاهرية- قد تجتمع مع الفسق الواقعي، ولكن لا يلزم من ذلك تغيير مفهوم العدالة الشرعية، بل هو من اشتباه المصداق.

وبما ذكرناه يتّضح: أنّ هذين القولين ليسا تعريفين للعدالة، بل هما طريقان إلى إحرازها.


1- ذكرى الشيعة 4: 391؛ الدروس الشرعية 1: 218؛ حياة المحقّق الكركي وآثاره 4: 195؛ جواهر الكلام 13: 281 و 299 ..
2- ذخيرة المعاد: 305/ السطر 33 ..
3- الخلاف 6: 217 ..

ص: 367

وأمّا التعريفان الأوّل والثالث فهما يرجعان إلى أمر واحد؛ إذ إنّ القول الثالث وإن كان يعتبر تلبّس المكلّف بالعمل وفقاً للأحكام الشرعية الإلزامية- طبعاً انطلاقاً من ملكة أو هيئة راسخة أو حالة أو كيفية نفسانية- في حين أنّه لم يعتبر القول الأوّل هذا الشرط أي التلبّس بالعمل بل يكتفي بوجود نفس الملكة أو الهيئة أو الحالة أو الكيفية في العدالة.

ولكن أصحاب القولين يشتركان في أنّ من كان له ملكة العدالة وغلب عليه هواه وعصى فقد ارتكب ما يوجب الفسق قطعاً، ومن المعلوم عدم إمكان اجتماع العدالة والفسق في شخص واحد في زمان واحد. ففي الحقيقة يعتبر كلا القولين في العدالة صدور أعمال المكلّف- من الفعل في الواجبات والترك في المحرّمات- عن ملكة أو هيئة أو حالة أو كيفية نفسانية.

فيتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الخلاف في تعريف العدالة يرتكز على أنّ العدالة هل هي مجرّد الاجتناب عن المحرّمات والإتيان بالواجبات- أي الاستقامة الفعلية التي ترتسم على ظاهر المكلّف من حركاته وسكناته- ولو لم تنشأ عن ملكة نفسانية، أو يعتبر أن تكون تلك الاستقامة ناشئة من الملكة النفسانية؟

وقبل تحقيق ذلك لابدّ من تبيين المراد بالملكة في محلّ النزاع، فنقول:

إنّ مبادئ ترك المحرّمات وفعل الواجبات مختلفة وتحقيقها موكول إلى علم الأخلاق وعلم النفس، إلّاأنّ المهمّ هاهنا أنّ ترك المعاصي من قبل المسلم قد يكون لأجل عدم الابتلاء بها، وقد يكون الترك- مع الابتلاء بالمعصية- لدواعي نفسانية اخرى غير خوف اللَّه، وقد يكون لحالة خوف حصلت له على سبيل الاتّفاق منعته عن الإقدام على المعصية؛ حتّى أنّه إذا ترك في زمان طويل معاصي كثيرة ابتلى بها كان الترك في كلّ مرّة مستنداً إلى حالة اتّفقت له في ذلك الزمان، وقد يكون ترك

ص: 368

المعاصي لحالة واحدة مستمرّة في الزمان الذي يبتلي فيه بالمعاصي، وهذا الرابع هو المقصود بالصفة النفسانية أو الصفة الراسخة، في مقابل غير الراسخة الموجودة في الثالث(1).

وقد قُسّم العباد في أخبار أئمّتنا عليهم السلام إلى ثلاثة أصناف؛ فإنّ جمعاً منهم: يعبدون اللَّه خوفاً من عقابه، وآخر: شوقاً إلى ثوابه، وثالثاً: يعبدون اللَّه حبّاً له وكونه مستحقّاً للعبادة(2).

ومن المعلوم أنّ ما يدفع الناس عامّةً- إلّاالأوحدي منهم- إلى أن يتلبّسوا بالعمل وفقاً لأوامر اللَّه تبارك وتعالى ونواهيه، هو الخوف من العقاب، وأمّا الشوق والحبّ فهما قد يؤثّران في ذلك أحياناً.

وهذا الخوف قد يحصل للمكلّف في زمان بسبب وعظ أو اتّفاق ويزول بسرعة، فهذا ما يسمّى بالحالّ، وقد يبقى في نفس المكلّف بحيث يوجب احترازه عن ارتكاب المحرّم ويدفعه نحو الإتيان بالواجب- وبعبارة اخرى: يوجب ملازمة المكلّف للتقوى- وهذا الخوف والخشية من اللَّه إذا ارتكز في النفس بحيث صار كالطبيعة الثانية للإنسان سمّي بالملكة.

فهي صفة نفسانية راسخة تظهر آثارها كلّما تهيّأت أسباب المعصية، وبحسب هذا المعنى تكون الملكة أمراً إيجابياً، لا سلبياً أي من لم يرتكب المحرّم فقط.

فلا يراد بالملكة والصفة النفسانية ما اصطلح عليه علماء الأخلاق من صيرورة الاعتدال صفة للنفس مثلًا، بل المراد بالصفة النفسانية حالة كامنة في النفس لها رسوخ بحسب مبدئها لا تزول بسرعة.


1- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 27 ..
2- نهج البلاغة: 510، الحكمة 237؛ الكافي 2: 84/ 5؛ بحار الأنوار 70: 210/ 33 ..

ص: 369

إذا عرفت ما ذكرنا، نقول: قد ذهب المشهور- كما عرفت- إلى اعتبار الملكة في تعريف العدالة، وما استدلّوا به على هذا الرأي وجوه:

الوجه الأوّل: الأصل(1)، وتقريبه: أنّه إذا شكّ في دخول الملكة في مفهوم العدالة وعدمه، فالقاعدة تقتضي الأخذ بالقدر المتيقّن؛ وهو المفهوم الضيّق أي الداخل فيه الملكة، فأصالة عدم ترتّب الآثار المطلوبة من العدالة- على نفس اجتناب المحرّمات وإتيان الواجبات- تقتضي لزوم كونهما صادرين عن ملكة؛ حتّى تترتّب على العدالة آثارها(2).

وفيه أوّلًا: أنّ الشكّ هاهنا ليس في تحقّق مصداق العدالة، بل في دائرة مفهومها، وإجراء الأصل بهذا التقريب لا يثبت اعتبار الملكة في مفهومها؛ فإنّ الآثار لا تترتّب على المفهوم، بل تترتّب على المصداق.

وثانياً: أنّ الآثار المطلوبة من العدالة لا تترتّب فيما إذا كانت القرينة- المعتبرة للعدالة في الحكم الشرعي- متّصلة؛ حيث إنّ إجمال مفهوم العدالة وتردّد معناها بين الموسّع- بدون قيد الملكة- والمضيّق- مع القيد- يسري إلى الخطاب بأجمعه، فلابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن.

وأمّا إذا كانت القرينة- المعتبرة لها في الحكم الشرعي- منفصلة، فبإجمال المخصّص المنفصل لا يخرج العامّ والمطلق عن الحجّية، فمع تردّد المقيّد والمخصّص والشكّ في سعتهما وضيقهما يمكن الرجوع إلى العامّ والمطلق، ومقتضاه عدم ثبوت الزائد من المقيّد والمخصّص.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ حيث إنّ شرط العدالة لم يثبت بنفس أدلّة التقليد،


1- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 11 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 216- 217 ..

ص: 370

بل القرينة المنفصلة دلّت على اعتبار العدالة في المفتي، وحينئذٍ فإن فرض إجمال مفهوم العدالة- وتردّده بين المفهوم الموسّع، والمفهوم المضيّق بقيد الملكة- فيؤخذ بعموم أدلّة جواز التقليد مقيّداً بالعدالة الموسّعة من دون قيد الملكة(1).

الوجه الثاني: الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة المحقَّقة بل عدم الخلاف(2)، وهذا الإجماع يتقوّى ويتأكّد بما ستعرفه من ذهاب بعضهم إلى إمكان إرجاع الأقوال إلى رأي واحد.

ولكن فيه أوّلًا: أنّ اعتبار الملكة في تعريف العدالة قد حدث في عصر العلّامة الحلّي وتبعه عليه غيره، ولم يسبقه في إدخال هذا التعبير في التعريف أحد، فلم يكن اعتبار الملكة معنوناً عند القدماء فضلًا عن اشتهاره، ومن المعلوم أنّ الإجماع والشهرة إنّما يعتبران فيما إذا كانا مستفادين من أقوال القدماء دون خصوص المتأخّرين، فلا اعتبار بهما صغرويّاً.

وثانياً: من المحتمل قويّاً استناد المجمعين إلى وجوه الاستدلال الاخرى كالأخبار الآتية، فلا يكون الإجماع دليلًا تعبّدياً، وهكذا الكلام في الشهرة.

الوجه الثالث: الأخبار الدالّة على اعتبار الوثوق بدين إمام الجماعة وورعه(3) بتقريب: أنّ الوثوق لا يحصل بمجرّد تركه المعاصي في جميع ما مضى من عمره، ما لم يعلم أو يظنّ فيه ملكة الترك(4).

واورد عليه: بأ نّه قد يحصل الوثوق بترك المحرّم في المستقبل ولو لم يحرز فيه ملكة كذلك، كما إذا علمنا بالمعاشرة لشخص- مثلًا- أنّه يخاف حيواناً مؤذياً أو


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 217 ..
2- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 11 ..
3- وسائل الشيعة 8: 308، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 10 و 12 ..
4- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 11 ..

ص: 371

يخاف الجنّ، فلا يدخل في موضع فيه ذلك الحيوان، أو لا يسكن مكاناً خالياً من الإنس، فبمرور برهة من الزمان على ذلك يحصل لنا الوثوق بأ نّه يكون كذلك في المستقبل أيضاً. وفي المقام يمكن أن يعلم بمعاشرته أنّه يترك المعاصي، بلا فرق بين القول باعتبار الملكة في العدالة وعدمه(1).

وفيه: أنّ القائل باعتبار الملكة لا يريد بها إلّاهذا؛ فإنّ نفس تقيّد المكلّف بفعل شي ء أو ترك شي ء- بحيث نشأ ذلك من حالته النفسانية الثابتة- يعدّ ملكة له، فنعلم بوجود الملكة فيما إذا دعت تلك الحالة النفسية المكلّف إلى ترك المحرّمات و فعل الواجبات في عمود الزمان.

نعم، في الأمثلة المذكورة لم تكن الملكة المعتبرة في العدالة موجودة، بل الموجود هو ملكة نفسانية لدواعي نفسانية كالرياء أو نحوه، فتختلف الملكة فيها عن المقام باختلاف متعلّقها، فإنّ المعتبر في المقام هو الملكة الباعثة على التقوى من ترك المحرّم وإتيان الواجب، ولكن حقيقة الملكة- بالتفسير المذكور- مشتركة في جميع الموارد.

وكيف كان فقد اتّفق الأعلام على عدم اعتبار صدور بعض الأفعال أحياناً في تحقّق الملكة.

الوجه الرابع: الأخبار الواردة في شرط قبول الشهادة؛ حيث اعتبر فيها كون الشاهد «مأموناً»(2) و «صالحاً»(3) و «خيّراً»(4) و «عفيفاً صائناً»(5)، وهذه التعابير


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 75؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 218 ..
2- وسائل الشيعة 27: 393، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 3 ..
3- وسائل الشيعة 27: 395، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 5 ..
4- وسائل الشيعة 27: 395، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 9 و 13 ..
5- وسائل الشيعة 27: 395، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 10 ..

ص: 372

تدلّ على أنّ المعتبر في العدالة وجود صفة نفسانية نعبّر عنها بالملكة، ومن المعلوم أ نّه لا يعتبر في الشاهد شي ء غير العدالة إجماعاً، فهذه العناوين تكون عبارة اخرى عن مفهوم العدالة(1).

وهذه الأوصاف حيث تدلّ على الحسن الفاعلي- ولا يكفى فيه صرف تلبّس المكلّف بكلّ منها في زمان، بل يعتبر وجودها مستمرّاً في الفاعل- فهي تحكي عن وجود حالة في النفس يستمرّ معها الأمن والصلاح والخير والعفّة والصيانة، وهذا ما نعبّر عنه بالملكة.

واورد على الاستدلال بها: بأنّ هذه العناوين لا تنطبق على الصفات النفسانية؛ فإنّ جميعها من صفات الأعمال الخارجية: فإنّ المأمونية قائمة بالغير أي كون غير هذا الشخص منه في أمن، والأمن منه يتحقّق بكون المكلّف مستقيماً في أعماله فقط بحيث يمكن الاطمئنان من جانبه. والعفّة والصيانة أيضاً معناهما الامتناع وترك المعاصي، وهما من صفات الفعل لا من صفات النفس، وكذلك الصلاح معناه كون المكلّف صالح العمل أي غير مفسد للعمل، فهو أيضاً صفة للفعل لا النفس(2).

وفيه أوّلًا: أنّ بعض العناوين المذكورة في هذه الأخبار- كالستر والعفاف وأشباههما- تصدق على الصفة النفسانية، كما سيأتي.

وثانياً: أنّه يعتبر وجود هذه الصفات في الشاهد العادل في جميع الأزمنة الثلاثة؛ بحيث يُطمئنّ أنّه يصدر منه في المستقبل أيضاً- كالماضي والحال- الصلاح والعفّة والصيانة والأمن، وهذا الاطمئنان لا ينفكّ عن الملكة المسبِّبة لها.

الوجه الخامس: الأخبار الواردة في تفسير العدالة:


1- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 11 ..
2- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 75 و 76؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 219 ..

ص: 373

منها: ما رواه ابن أبي يعفور؛ حيث سأل أبا عبداللَّه عليه السلام بقوله: بِمَ تُعرف عدالة الرجل بين المسلمين؛ حتّى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللَّه عليها النار، من شرب الخمر، والزنا، والربا، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف وغير ذلك.

والدلالة على ذلك كلّه: أن يكون ساتراً لجميع عيوبه؛ حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّامن علّة.

فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلة(1) ومحلّته قالوا: ما رأينا منه إلّاخيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين.

وذلك أنّ الصلاة ستر وكفّارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأ نّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه ويتعاهد جماعة المسلمين، وإنّما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يُعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيّع، ولولا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بصلاح؛ لأنّ من لم يصلّ لا صلاح له بين المسلمين، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين، وقد كان فيهم من يصلّي في بيته، فلم يقبل منه ذلك.


1- في نسخة: قبيلته ..

ص: 374

وكيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من اللَّه عزّوجلّ ومن رسوله صلى الله عليه و آله و سلم فيه الحرق في جوف بيته بالنار وقد كان يقول: لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلّامن علّة»(1).

ورواه الشيخ الطوسي في «التهذيب»(2) و «الاستبصار»(3) بتفاوت في بعض فقراته الأخيرة.

وقد ادّعى الشيخ الأعظم دلالة الرواية على اعتبار الملكة في العدالة؛ حيث إنّ الستر والعفاف والكفّ قد وقع مجموعها- المشتمل على الصفة النفسانية- معرِّفاً للعدالة، فلا يجوز أن يكون أخصّ منها، بل لابدّ من المساواة(4).

ونحن نعقد البحث عن الرواية في مقامين: سندها ودلالتها.

أمّا السند: فقد رواها الشيخ الصدوق، بإسناده عن عبداللَّه بن أبي يعفور، وقد صحّح العلّامة الحلّي طريق الصدوق إليه كما صحّحه الاسترابادي(5)، إلّاأنّ في طريقه أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار(6)، وقد اختلف حاله عند أعلام الرجاليّين، فقد اعتمد عليه بعضهم استناداً إلى:

1- أنّه من المشايخ، فقد روى عنه الصدوق والتلعكبري، والشيخوخة تدلّ على علوّ الحال بل الوثاقة.

إلّا أنّه لا يمكن أن نقبل بهذا الوجه- في مقام التوثيق- على إطلاقه، بل هو


1- وسائل الشيعة 27: 391- 392، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 1 ..
2- تهذيب الأحكام 6: 241/ 596 ..
3- الاستبصار 3: 12/ 33 ..
4- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 11- 12 ..
5- خلاصة الأقوال: 437 ..
6- جامع الرواة 2: 536 ..

ص: 375

قرينة تدلّ على مدح الرجل فقط فيما إذا ثبت جلالة شأنه.

2- تصحيح العلّامة الحلّي للطريق التي وقع هو فيها. واستشكل السيّد الخوئي عليه: بأ نّه مبنيّ على أصالة العدالة(1). إلّاأنّا لم نتحقّق هذا المبنى من العلّامة.

3- توثيق الشهيد الثاني والسماهيجي والشيخ البهائي(2) له.

إلّا أنّه احتمل أنّ توثيق هؤلاء كان مستنداً إلى اجتهادهم لأجل كونه شيخ إجازة لبعض الأعلام؛ ولذا نرى أنّ الشيخ البهائي ضعّف بعض أخباره لجهالته(3).

4- ذكر ابن نوح السيرافي إيّاه في طريقه إلى كتب بني سعيد الأهوازي، معتمداً عليه(4).

واحتمل ابتناء هذا الاعتماد على أصالة العدالة.

ولكن قد عرفت أنّا لم نتحقّق هذا المبنى على نحو الكلّية في كلام القدماء.

وكيف كان، يستفاد من مجموع القرائن اعتبار الرواية، ولا يضرّ جهالة الرجل- أي إهماله- في المصادر الرجالية؛ لعدم استيعابها لجميع الرواة ولا لأحوال جميعهم.

ولذا اعتبره كثير من الأعلام المتقدّمين والمتأخّرين؛ فهذا الشيخ محمّد تقي المجلسي في شرحه على «من لا يحضره الفقيه»(5) عدّ هذا الحديث في الحسن كالصحيح، بل الصحيح.

أمّا سند الشيخ الطوسي فهو مشتمل على الضعفاء والمجاهيل، فلا اعتبار به، إلّا أنّه بعد ثبوت اعتبار رواية «الفقيه»- والاطمئنان بوحدة الروايتين- لا مجال


1- معجم رجال الحديث 2: 328 ..
2- نفس المصدر ..
3- راجع: معجم رجال الحديث 2: 329 ..
4- نفس المصدر ..
5- روضة المتّقين 6: 104- 105 ..

ص: 376

للتشكيك من جهة اختلاف ألفاظهما وتعابيرهما.

وأمّا الدلالة: ففيها ثلاث فقرات يمكن البحث عنها

الفقرة الاولى: سؤال الراوي وجواب الإمام إلى قوله عليه السلام: «ويعرف باجتناب الكبائر ...».

الفقرة الثانية: قوله عليه السلام: «ويعرف باجتناب الكبائر ...».

الفقرة الثالثة: قوله عليه السلام: «والدلالة على ذلك كلّه ...».

والجهة المبحوث عنها في المقام هي الفقرة الاولى؛ فنقول: إنّ الراوي سأل عن الإمام عليه السلام: «بمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم وعليهم؟» فهل هذا السؤال وقع عن مفهوم العدالة، أو عن علامة العدالة والدليل عليها بعد وضوحها مفهوماً؟

ذهب بعض الأعلام إلى ظهور السؤال بدواً في كونه عن الطريق إلى العدالة بعد معرفة مفهومها، إلّاأنّ القرائن توجب حملها على بيان مفهوم العدالة(1).

ولكن هذا الظهور بالنسبة إلى عصر الإمام ممنوع؛ إذ لم يألف ذهن السائل الاصطلاحات العلمية آنذاك حتّى يميّز المفهوم عن الطريق جلياً، بل المرتكز في أذهان الناس- بما أنّهم من العرف العامّ الملقى إليهم الخطاب- أنّهم لا يعرفون «مَن العادل» بمفهومه وبطريق معرفته، فيصلح أن يكون سؤاله عن مفهوم العدالة، كما يصلح أن يكون عن الطريق إلى معرفتها، هذا.

وقد اختلفوا في تفسير جواب الإمام عن السؤال بقوله: «أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان» على قولين:

القول الأوّل: أنّ جواب الإمام يكون معرِّفاً منطقياً للعدالة؛ إجابةً عن السؤال عن


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 47 ..

ص: 377

مفهومها، فيكون المعرِّف مساوياً للمعرَّف، لا أخصّ منه(1).

فالجملة المذكورة في الفقرة الاولى، تكون حدّاً أو رسماً للعدالة وبياناً لماهيّتها.

واورد عليه: أوّلًا: بأنّ الظاهر من سؤال الراوي أنّه سأل عمّا يُعرف ويستكشف به العدالة، لا أنّه سأل عن حقيقتها وماهيّتها؛ فإنّ المعرِّف المنطقي اصطلاح حديث بين المنطقيين، ومن البعيد أن يكون مراد السائل هذا النحو من المعرِّف، والمراد بمثل هذه العبارة في السؤال- في المحاورات الدارجة- هو السؤال عمّا ينكشف به الشي ء وما يدلّ عليه(2).

أقول: ما ذكره قدس سره بالنسبة إلى نفي حمل السؤال على المعرِّف المنطقي- حدّاً أو رسماً- متين، إلّاأنّ ذلك لا يثبت ما ادّعاه هو من أنّ السؤال وقع عن الطريق إلى معرفة العدالة، كما ستعرف.

وثانياً: بأ نّه لم يذكر في الجواب أنّ العدالة هي الستر والعفاف، بل قال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف» فقد جعل المعرِّف اشتهار الرجل ومعروفيّته بهما، لا نفس الستر والعفاف، ومن البديهي أنّ الاشتهار والمعروفية بهما ليسا بحقيقة العدالة، وإذا كانت الجملة معرِّفاً منطقياً فحقيقتها هي نفس الستر والعفاف، دون المعروفية بهما(3).

وفيه: أنّ الإشكال نشأ من أخذ المعروفية على نحو الموضوعية في التعريف، فلا يصحّ أن يقال: إنّ العدالة هي معروفية الرجل بالستر والعفاف، إلّاأنّه قد ثبت في محلّه- في الاصول- أنّ الظاهر من أمثالها- كالعلم والتبيّن والظهور ونحوها- هو


1- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 12- 13 ..
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 222 ..
3- نفس المصدر ..

ص: 378

كونها طريقاً إلى الواقع، فإرادة الموضوعية منها خلاف ظاهر إطلاقاتها، وتحتاج إلى قرينة شاهدة لها.

والشاهد على ما ذكرنا: الرواية الاخرى لابن أبي يعفور؛ حيث روى عن أخيه عبدالكريم عن أبي جعفر عليه السلام: «تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم»(1).

فإنّ المراد من قوله عليه السلام: «معروفات بالستر والعفاف» هو المستورات العفيفات، لا المعروفات بالستر والعفاف وإن لم يوصفن بحسب الواقع بالستر والعفاف؛ وذلك لأنّ المتبادر من بقية الأوصاف ووحدة السياق ما ذكرنا(2).

إذا عرفت ذلك كلّه يتّضح ما في الإيرادات على اعتبار الملكة في العدالة، والآن نشير إلى جملة منها مع بعض ما يرد عليها:

فمنها: أنّ التعبير بالملكة في تعريف العدالة وُجد في عصر العلّامة الحلّي ومن تأخّر عنه، وكأ نّهم اقتفوا في ذلك أثر العامّة(3).

وفيه: أنّ عدم وجدان هذا التعبير في كلام من تقدّم على العلّامة لا يضرّ بعد إمكان استفادته من الأخبار كما عرفت، وعدم التعبير بلفظ الملكة في تلك الأخبار غير ضائر بعد ما عرفت من إمكان استفادة هذا المعنى من الأخبار.

ومنها: أنّ القول بالملكة في تعريف العدالة يستلزم الحرج واختلال النظام؛ لندرة وجودها، وكثرة ابتلاء الناس وحاجتهم إلى العدالة في العبادات والمعاملات


1- وسائل الشيعة 27: 398، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 20 ..
2- الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 297 ..
3- ذخيرة المعاد: 305/ السطر 11 ..

ص: 379

والإيقاعات(1).

وفيه: أنّ المعتبر في العدالة هو العدالة التي يجد الإنسان بها مدافعة الهوى في أوّل الأمر وإن صارت مغلوبة بعد ذلك؛ ولذا تصدر الكبيرة عن ذي الملكة كثيراً، وهذه الحالة غير عزيزة على الناس وليست بنادرة حتّى يلزم من اعتبارها الحرج والاختلال. بل الإنصاف أنّ الاقتصار على ما دون هذه المرتبة يوجب تضييع حقوق اللَّه وحقوق الناس(2).

مضافاً إلى أنّه حيث جعل حسن الظاهر كاشفاً عن العدالة، فلا حرج ولا اختلال للنظام كما هو واضح.

ومنها: أنّ الحكم بزوال العدالة بارتكاب المعصية، ورجوعها بمجرّد التوبة، ينافي كون العدالة هي الملكة.

وفيه: أنّك قد عرفت من مفهوم الملكة أنّها صفة كامنة في النفس تقتضي مدافعة الهوى في أوّل الأمر، وتكفّ النفس عن ارتكاب ما تشتهيه، فارتكاب الكبيرة لا يزيل العدالة واقعاً بل تعبّداً؛ حيث إنّ المقتضى قد يتخلّف عن مقتضيه؛ ولذا يقال: إنّ الجواد قد يكبو، والعدالة تكون مقتضية لترك المحرمات لاعلّة تامّة له. وبناءً على هذا يكون عود العدالة بالتوبة- أيضاً- أمراً تعبّدياً، فإنّ الشارع جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فبالتوبة يعود المكلّف إلى الحالة التي كانت نفسه عليها مقتضية للستر والعفاف.

إلى غير ذلك ممّا لا يحتاج إلى مزيد توضيح وبيان.

ثمّ في قبال المشهور- الذاهبين إلى اعتبار الملكة في العدالة- ذهب بعض آخر


1- مصابيح الظلام 1: 441 ..
2- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 28 ..

ص: 380

إلى عدم اعتبارها فيها؛ استناداً إلى عدم وجود مستند لاعتبارها، فذهب إلى أنّ العدالة يراد بها معناها اللغوي؛ أي الاستقامة وعدم الجور والانحراف، والعدالة المطلقة- التي تنسب إلى الذوات- هي الاستقامة العملية في جادّة الشرع بداعي الخوف من اللَّه أو رجاء الثواب، والاستقامة بهذا المعنى يعتبر فيها أن تكون مستمرّة بأن تصير كالطبيعة الثانوية للمكلّف؛ بحيث يوثق باستقامته ودينه في عيشه، وأمّا الخوف الذي كان داعياً للمكلّف فليس هو العدالة؛ حتّى يتوهّم أنّها من الصفات النفسانية، بل العدالة تكون صفة عملية(1).

لكن تبيّن ما فيه إذ أوّلًا: قد تمّ المستند لاعتبار الملكة في العدالة من الأخبار، فراجع.

وثانياً: أنّ الجميع اتّفقوا على أنّه يعتبر في العدالة- بأيّ معنى فسّرت- استقامة المتّصف بها استمراراً؛ أي في مدّة من الزمان يصدق عليه- بإتيانه الواجبات وتركه للمحرّمات- أنّه مستقيم وعدل وصالح وخيّر ومأمون وغير ذلك ممّا ورد في الأخبار، ومن المعلوم أنّه لا يحصل الوثوق بالاستقامة والديانة والصلاح إلّابمضيّ مدّة- معتنى بها على هذا الأوصاف نتيجة المراقبة والكفّ والستر والعفاف، وهذا لا يحصل إلّابالملكة.

وثالثاً: أنّ الاستقامة في العمل- من ترك الكبائر، وستر جميع الذنوب، وإتيان الصلاة، وحضور الجماعات ونحوها- قد جعلت في النصوص معرِّفاً وكاشفاً عن العدالة، فليست هي نفس العدالة؛ لتغاير المعرِّف والمعرَّف.

ثمّ من الممكن- مع التسامح- إرجاع القولين إلى رأي واحد، وذلك بأن يكون


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 88؛ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 212 و 215 ..

ص: 381

المراد بالملكة في المقام هو نفس اعتبار الاستمرار على فعل الواجبات وترك المحرّمات، دون ما يراد بها في سائر الملكات(1).

فتحصّل: أنّ العدالة هي ملكة راسخة تبعث المكلّف على ملازمة التقوى- خوفاً وخشيةً من اللَّه- من إتيان الواجبات وترك المحرّمات.

العدالة والمروّة

المعروف بين المتأخّرين اعتبار ترك منافيات المروّة أيضاً في العدالة، والمشهور بين القدماء عدم اعتبارها، نعم ظاهر كلام الشيخ الطوسي اعتبارها في العدالة(2).

والمراد بالمروّة- بحسب مادّتها اللغوية- هو الإنسانية؛ لأنّها مأخوذة من «المرء» وقد قلبت الهمزة واواً وادغمت إحدى الواوين في الاخرى، وهذه المادّة تطلق على الذكر والانثى، فلا ينحصر معناها بالرجولية كما قيل(3).

وأمّا الأصحاب فيريدون بها عدم ارتكاب ما يستقبح في العادات بحسب الأشخاص والأعصار والأمصار ممّا لم يكن بنفسه حراماً شرعاً أو قبيحاً عقلًا، ومثّلوا لمنافيات المروّة: بالأكل في السوق لغير السوقي، وكشف الرأس في المجالس، ومدّ الرِّجل بين الناس وأشباه ذلك ممّا يكون التظاهر به كاشفاً عن عدم المبالاة أو عن عدم الحياء بلحاظ نفسه.

ثمّ من ذهب إلى اعتبار المروّة- بالمعنى المذكور- في العدالة، اعتمد على وجهين في الاستدلال على ذلك:


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 215 ..
2- المبسوط 8: 217 ..
3- الصحاح 1: 72 ..

ص: 382

الوجه الأوّل: الأخبار:

منها: معتبرة عبد اللَّه بن أبي يعفور السابقة في تفسير العدالة، وقد احتجّ بثلاث فقرات منها على اعتبار المروّة في العدالة:

الفقرة الاولى: قوله عليه السلام: «بأن تعرفوه بالستر والعفاف» بتقريب: أنّ المراد من هذا هو ستر العيوب الشرعية والعرفية، التي منها ارتكاب خلاف المروّة.

الفقرة الثانية: قوله عليه السلام: «كفّ البطن والفرج واليد واللسان» ببيان: أنّ منافيات المروّة- غالباً- تكون من شهوات الجوارح، وقد عرِّف العادل بمن كفّ نفسه عنها.

الفقرة الثالثة: قوله عليه السلام: «والدالّ على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه» حيث إنّ جميع العيوب يشمل الشرعية والعرفية منها، فبارتكاب ما يُعدّ عيباً لدى العرف لا يصدق على فاعله أنّه ساتر لجميع عيوبه.

ولكنّ الصحيح عدم تمامية الاستدلال بهذه الفقرات على اعتبار المروّة في العدالة، والوجه في ذلك: أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم إطلاق متعلّق هذه الفقرات بحيث يشمل العيوب الشرعية والعرفية معاً، بل المبيّن فيها مفهوم العدالة الشرعية. نعم، غاية مايمكن أن يقال: إنّ ستر منافيات المروّة يكون تتمّة لطريق إحراز العدالة ولا يعتبر في نفسها، فمن لم يستر منافيات المروّة ويرتكبها لا تُحرز عدالته ظاهراً، وهذا لا ينافي إمكان إحراز عدالته من طريق آخر غيره.

ويشهد لما ذكرنا قوله عليه السلام في نفس الرواية: «ويعرف باجتناب الكبائر» مع أنّه لو كان المعتبر عند الشارع لزوم اجتناب العيوب الشرعية والعرفية معاً لما كان وجه لتخصيص الكبائر بالذكر، حيث إنّه يكون حينئذٍ من باب تخصيص الأكثر، وهو مستهجن.

ص: 383

كما أنّ كفّ الجوارح- في الفقرة الثانية- أيضاً يشير إلى كفّها عن معاصيها، لا مطلق ما تشتهيه.

وقد يتمسّك لاعتبار المروّة بلفظَي «الستر» و «العفاف» الواردين في المعتبرة، وهما راجعان إلى معنى واحد، حيث إنّ المراد بالستر: هو ما يُعدّ مقابلًا للتبرّج، المفسّر بالتظاهر بما يقبح ويستهجن في الشرع أو العرف(1)، ومنافيات المروّة ممّا يستهجن في العرف، فهي منافية للستر والعفاف بهذا المعنى(2).

وفيه: أنّه إن كان المراد من الستر والعفاف هو الحياء- المرادف لهما- فالاستحياء من الناس بلحاظ ما جرت عليه عادتهم لا ربط له بالاستحياء من اللَّه بلحاظ التعدّي عن حدوده تعالى، ولا يراد من العفاف والستر إلّاالحياء باللحاظ الثاني، فغاية الأمر عدم مبالاة تارك المروّة بعادات الناس أو ما يحسن تحصيله عندهم(3).

ومنها: الأخبار الواردة في شأن المروّة:

كقول الكاظم عليه السلام في حديث هشام: «لا دين لمن لا مروّة له، ولا مروّة لمن لا عقل له»(4).

وقوله عليه السلام: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممّن كملت مروّته، وظهرت عدالته، ووجبت اخوّته، وحرمت غيبته»(5).


1- شرح اصول الكافي، صدر المتألهين 1: 510، ذيل الحديث 14 ..
2- رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 22 ..
3- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 90 ..
4- الكافي 1: 19/ 12 ..
5- وسائل الشيعة 27: 396، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 15 ..

ص: 384

وقوله عليه السلام: «لا تتمّ مروّة الرجل حتّى يتفقّه في دينه، ويقتصد في عيشته، ويصبر على النائبة إذا نزلت به، ويستعذب مرارة إخوانه»(1).

وقوله عليه السلام: «المروّة مروّتان: مروّة الحضر ومروّة السفر، فأمّا مروّة الحضر:

فتلاوة القرآن، وحضور المساجد، وصحبة أهل الخير، والنظر في الفقه. وأمّا مروّة السفر: فبذل الزاد، والمزاح في غير ما يسخط اللَّه، وقلّة الخلاف على من صحبك، وترك الرواية عليهم إذا أنت فارقتهم»(2).

إلى غير ذلك ممّا ورد في شأن المروّة، وكذا ما ورد في شأن الحياء.

ولكن من المعلوم أنّ المروّة في هذه الأخبار تكون من صفات الجوارح وتُعدّ من فضائل الأعمال، فهي تكون كاشفة عن العدالة بما هي ملكة نفسانية، لا أنّها داخلة في مفهومها كما لا يخفى، وأين ذلك من المروّة التي اعتبرها فقهاء الأصحاب من المتأخّرين في العدالة؟! فإنّ المروّة- على حدّ تعبير فخر المحقّقين- هي «اجتناب ما يسقط المحلّ والعزّة في القلوب، ويدلّ على عدم الحياء وعدم المبالاة من الاستنقاص»(3)، وقريب منه ما ذكره الشهيد من أنّ «المروّة تنزيه النفس عن الدناءة التي لا تليق بأمثالها»(4).

الوجه الثاني: أنّ من لم يخجل من الناس ولم يستحيِ من غير اللَّه سبحانه- بأن لم يبال بالنقائص العرفية- لا يخجل ولا يستحيي من اللَّه؛ وذلك لأنّ عدم مبالاته بتلك الامور يكشف عن أنّه ممّن لا حياء له.


1- بحار الأنوار 78: 63/ 148 ..
2- وسائل الشيعة 11: 436، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 49، الحديث 12 ..
3- إيضاح الفوائد 4: 420 ..
4- الدروس الشرعية 2: 125 ..

ص: 385

وفيه: أنّه لا ملازمة بين الأمرين؛ فإنّه قد يوجد في بعض الناس- وإن كان نادراً- من لا يعتني بالامور الدنيوية، ويكون متمحّضاً في المعنويات والامور الاخروية، بحيث لا يبالي بالامور المتعارفة بين الناس لأجل اهتمامه وانقطاعه إلى الباقيات الصالحات، فتراه لايبالي بالناس والاستحياء منهم، ومع ذلك لا يستكشف من ذلك عدم مبالاته وعدم استحيائه من اللَّه.

فتحصّل: أنّ الوجهين لا يثبتان اعتبار المروّة في العدالة.

نعم، قد يعبّر عن منافيات المروّة- في لسان بعض الفقهاء- بما يدلّ على عدم مبالاة مرتكبها بالدين(1)، ومن المعلوم أنّ اعتبار المروّة بهذا المعنى وترك منافياتها يكون من العدالة، وليست المروّة بهذا المعنى خارجة عن العدالة وزائدة عليها، إذ كيف يمكن أن يكون العادل- ذو ملكة الكفّ عن الذنوب- غير مبالٍ بالدين، ألا يكون هذا من اجتماع النقيضين؟!

والماتن قدس سره لم يذكر هاهنا المروّة في تعريف العدالة، ولمّا اعتبر في شرائط إمام الجماعة العدالة اعتبر فيها اجتناب المكلّف «عن ارتكاب أعمال دالّة عرفاً على عدم مبالاة فاعلها بالدين، والأحوط اعتبار الاجتناب عن منافيات المروّة وإن كان الأقوى عدم اعتباره»(2).


1- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 442، المسألة 12 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 258 ..

ص: 386

زوال العدالة بارتكاب المعاصي

(مسألة 29): تزول صفة العدالة حكماً بارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر، بل بارتكاب الصغائر على الأحوط، وتعود بالتوبة إذا كانت الملكة المذكورة باقية (1).

زوال العدالة بارتكاب المعاصي

1- بعد ما بيّن حقيقة العدالة ظهر أنّ العدالة سواء الواقعية منها أو الظاهرية- أي التي ثبتت بحسن الظاهر ونحوه من سائر الأمارات- تزول عن المكلّف بارتكاب الكبائر؛ أي لا يصحّ لسائر المكلّفين ترتيب آثار العادل عليه فيما يعتبر فيه العدالة- كالإخبار والشهادة ونحوهما- بحسب التعبّد والحكم الشرعي الظاهري وإلّا فإنّ ارتكابه للكبيرة لا يدلّ على زوال العدالة واقعاً عن المكلّف؛ إذ العدالة- كما عرفت- عبارة عن ملكة كامنة في نفس المكلّف لا يمكن الاطّلاع عليها- وجوداً وعدماً- إلّابمظاهرها، فكما نحكم بوجودها بحسب ما يُظهر ملكة العدالة كذلك نحكم بزوالها لأجل ظهور ما يخالفها وذلك لأنّ عمدة المستند في تعريف العدالة هو معتبرة ابن أبي يعفور، وقد صرّح الإمام فيها بأنّ العادل هو من يجتنب عن الكبائر و ...، وبذلك وصف العادل، ولكن بارتكاب الكبائر يزول ذلك الوصف عن المكلّف بحسب الظاهر التعبّدي.

ص: 387

ثمّ إنّ الماتن قدس سره تعرّض في هذه المسألة لعدّة مباحث:

المبحث الأوّل: لاخلاف ولا إشكال في زوال العدالة- بمعنى الملكة أو الاستقامة الفعلية على جادّة الشرع- بإتيان الكبائر، إلّاأنّه وقع الخلاف في المراد بالكبيرة ووجه تمييزها عن الصغيرة وعددها. والخلاف في ذلك ناشئ من اختلاف الأخبار الواردة في المقام.

وكيف كان فالمراد بالكبيرة: المعصية التي اختصّت بصفة خاصّة وهي لاتشمل جميع المعاصي.

خلافاً لمن عدّ جميع المعاصي كبيرة قائلًا بأنّ الاختلاف بالكبر والصغر إنّما هو بالإضافة إلى معصية اخرى.

وخلافاً لما حكي عن بعضهم: من أنّ الإضافة تكون بلحاظ الفاعل؛ فإنّ معصية العالم أكبر من معصية الجاهل ولو مع اتّحاد المعصيتين.

وقد استندوا في ذلك إلى اشتراك الجميع في مخالفة أمر اللَّه سبحانه أو نهيه، مضافاً إلى النصوص التي تدلّ على أنّ كلّ معصية عزيمة(1).

كما أنّ تقسيم الذنوب إلى الكبائر والصغائر لم يكن معهوداً عند القدماء، وأوّل من تعرّض لهذا التقسيم- فيما نعلم- الشيخ الطوسي في مبسوطه(2)، وقد صرّح ابن إدريس الحلّي بأنّ هذا القول لم يذهب إليه- الشيخ الطوسي- إلّافي هذا الكتاب، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا؛ لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلّابالإضافة إلى غيرها(3).


1- وسائل الشيعة 15: 322، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 46، الحديث 5 ..
2- المبسوط 8: 217 ..
3- السرائر 2: 118 ..

ص: 388

وذهب إلى هذا القول: الشيخ الطوسي في «عدّة الاصول» والشيخ المفيد والقاضي ابن البرّاج الطرابلسي وتقيّ الدين أبو الصلاح الحلبي وأمين الإسلام الطبرسي(1).

والصحيح انقسام المعاصي بحسب نفسها- لا بالإضافة- إلى صغائر وكبائر والوجه في ذلك: أنّ ظاهر القرآن دالّ على ذلك كما في قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ(2)، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ(3)، وقوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِهذَا الْكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا(4).

كما أنّ الأخبار الكثيرة تدلّ على هذا التقسيم، فراجع أبواب جهاد النفس من «وسائل الشيعة»(5).

مضافاً إلى ما ذكره العلّامة البروجردي رحمه الله: من أنّه لا مجال لإنكار الصغر والكبر بقول مطلق أصلًا؛ ضرورة أنّه مع دعوى الإضافة لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب ليس لها فوق، وهذا الذي ليس له فوق كما أنّه كبيرة بالنسبة إلى ما تحته من الذنوب، كذلك كبيرة في حدّ نفسه وبقول مطلق؛ إذ لا يتصوّر فوق بالإضافة إليه- كما هو المفروض- حتّى يكون هذا الذنب صغيرة بالنسبة إليه، وهكذا الأمر في


1- مفتاح الكرامة 8: 283 ..
2- النساء( 4): 31 ..
3- النجم( 53): 32 ..
4- الكهف( 18): 49 ..
5- وسائل الشيعة 15: 299، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 40، الحديث 2؛ الباب 43، الحديث 2 و 3 و 7 و 8؛ الباب 45، الحديث 4 و 5؛ الباب 46، الحديث 5 ..

ص: 389

جانب الصغيرة ... فلا محيص حينئذٍ عن الالتزام بوجود الكبيرة والصغيرة بقول مطلق أيضاً(1).

أمّا الضابط لتشخيص الكبيرة والصغيرة وكذا عدد الكبائر، فسوف يأتي الكلام فيه عند تعرّض الماتن قدس سره له في كتاب الصلاة عند البحث عن شرائط إمام الجماعة، ونحن نشير إليه هنا بنقل عبارته المذكورة هناك حيث قال: «أمّا الكبائر: فهي كلّ معصية ورد التوعيد عليها بالنار أو بالعقاب، أو شدّد عليها تشديداً عظيماً، أو دلّ دليل على كونها أكبر من بعض الكبائر أو مثله، أو حكم العقل بأ نّها كبيرة، أو كان في ارتكاز المتشرّعة كذلك، أو ورد النصّ بكونها كبيرة»(2)، ثمّ عدّ أكثر من أربعين كبيرةً، فليطلب شرحها من هناك.

المبحث الثاني: بعد أن عرفت- بمقتضى الأخبار- أنّ المعاصي الكبيرة تزيل العدالة، نقول: إنّ الأمر في الإصرار على الصغيرة كذلك؛ للنصّ الصريح بأ نّه «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار»(3)، كما أنّه عُدّ الإصرار على الصغيرة كبيرة(4).

وقد صرّح الماتن قدس سره في مبحث شرائط إمام الجماعة بأنّ الإصرار على الصغائر من الذنوب نفسه من الكبائر، ثمّ فسّره في المسألة الاولى هناك بقوله: «الإصرار الموجب لدخول الصغيرة في الكبائر: هو المداومة والملازمة على المعصية من دون تخلّل التوبة، ولا يبعد أن يكون من الإصرار العزم على العود إلى المعصية بعد


1- نهاية التقرير 2: 282 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 258 ..
3- وسائل الشيعة 15: 338، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 48، الحديث 3 ..
4- وسائل الشيعة 15: 330، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 46، الحديث 33 ..

ص: 390

ارتكابها وإن لم يَعُد إليها، خصوصاً إذا كان عزمه على العود حال ارتكاب المعصية الاولى. نعم، الظاهر عدم تحقّقه بمجرّد عدم التوبة بعد المعصية من دون العزم على العود إليها»(1).

وأمّا ارتكاب الصغيرة: فقد يقال: بأ نّه غير مخلّ بالعدالة؛ لعدم اعتبار ترك الصغيرة في العدالة، وذلك استناداً إلى وجوه:

منها: أنّ معتبرة عبداللَّه بن أبي يعفور ورد فيها قوله: «وتُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللَّه عليها النار» بتقريب: أنّه إن كان اجتناب الصغائر معتبراً في العدالة، لم يكن للحصر باجتناب الكبائر وجه.

وفيه: أنّ ذيل المعتبرة وهو قوله: «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه» يدلّ على أنّ الستر لجميع العيوب معتبر في استكشاف العدالة، فاجتناب الصغائر معتبر في العدالة.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ هذا الكلام وارد في مقام بيان الأمارة على العدالة، فلا يكون ترك مطلق المعصية مناط العدالة، ولكنّه طريق إلى استكشاف ترك الكبائر المعتبر في حقيقة العدالة، فإنّ ترك جميع المعاصي يلازم اجتناب الكبائر بالأولوية(2).

ولكنّ المذكور في ذيل الرواية أنّ المواظبة على الصلوات الخمس والحضور في جماعة المسلمين من أمارات العدالة، ومن المعلوم أنّ ترك الحضور في صلاة الجماعة ليس من الكبائر التي عدّوها.

وقد يقال: إنّ هذا يشهد على اعتبار اجتناب الصغائر أيضا في تحقّق العدالة.

ويمكن الجمع بين الأمرين بأن يقال: إنّه لا يعتبر في الأمارة على شي ء أن


1- تحرير الوسيلة 1: 259 ..
2- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 94 ..

ص: 391

لا يتعدّى عن الخصوصيات الدخيلة فيه، خصوصاً إذا كانت أمارة شرعية معتبرة.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّه يكفي في إحراز المواظبة على الصلوات الحضور فيها نوعاً، فلا يظهر من ذيل الرواية ما ينافي صدرها(1).

أقول: قد ورد في أخبار اخر- في توصيف العدول- عدّة تعبيرات، تدلّ على لزوم اجتناب غير الكبائر أيضاً:

ومنها: ما ورد في قبول شهادة النساء؛ من قوله عليه السلام: «مطيعات للأزواج تاركات للبذاء»(2)، ولم يُذكر التبرّج ولا عصيان الزوج من الكبائر، وقد اعتبر في هذا الخبر تركهما- مع أنّهما من الصغائر- في تحقّق العدالة.

ومنها: ما ورد من قولهم عليهم السلام في عدّة موارد فيمن تجوز شهادته: «إذا لم يُعرف بالفسق»(3)، فإنّ الفسق هو مطلق الخروج عن طاعة اللَّه لا خصوص ما يقابل العدالة فقط، فهو شامل للصغائر أيضاً.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ هذا الاستظهار متوقّف على أن يكون العدالة والفسق ضدّين لا ثالث لهما، إلّاأنّهما ليسا كذلك؛ إذ الفسق يتحقّق بارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة فقط.

ومنها: مفهوم قوله عليه السلام: «فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة، وإن كان في نفسه مذنباً»(4)؛ حيث يدلّ بإطلاقه على أنّ الذنب يخلّ بالعدالة، والصغيرة أيضاً من


1- تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 274 ..
2- وسائل الشيعة 27: 398، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 20 ..
3- وسائل الشيعة 27: 394- 396، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 6 و 13 و 18 ..
4- وسائل الشيعة 27: 396، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 13 ..

ص: 392

الذنب، وعلى الأقلّ لتركها دخل في كشف العدالة.

ويؤيّد ذلك: الاعتبار أيضاً؛ حيث إنّ المعاصي كلّها- الكبيرة والصغيرة- تؤثّر في الانحراف عن جادّة الشرع، فإذا كانت العدالة عبارة عن الاستقامة والاستواء على طريق الشريعة فهي لا تكون متحقّقة بحصول الانحراف يسيره أو كثيره.

ولا يعتبر في ذلك- أي تحقّق الانحراف مطلقاً- ترتّب العقوبة الفعلية أو عدمه، فالعفو عن الصغائر- الذي دلّ عليه الكتاب(1) والسنّة(2)- لا يدلّ على عدالة مرتكبها؛ لأنّ العفو عن المؤاخذة لا يلازم عدم الفسق والانحراف، كما أنّ العفو مشروط- بحسب الآية الكريمة- بعدم ارتكاب الكبائر طيلة عمره، وهذا ممّا لا يمكن إحرازه إلّابإتيان الواجبات وترك المحرّمات بأجمعها.

إلّا أنّ ما ذكر من الوجوه لم يصرّح فيها بأنّ ارتكاب الصغيرة- غير مصرّ عليها- موجب لزوال العدالة، ومن المحتمل أن يراد بالذنوب المخلّة بالعدالة الكبائر منها دون الصغائر، ولذا احتاط الماتن قدس سره وجوباً في زوال العدالة بارتكاب الصغيرة؛ فإنّ النصّ المعتبر لم يعتبر أزيد من اجتناب الكبائر في تحقّق العدالة.

المبحث الثالث: تعود العدالة بعد زوالها حكماً- بارتكاب الكبائر، أو الإصرار على الصغائر، أو الصغيرة مطلقاً على الأحوط- بالتوبة فيما إذا كانت ملكتها باقية.

توضيح ذلك: أنّك قد عرفت أنّ العدالة ملكة تؤثّر في نفس المكلّف وتدعوه لترك المعاصي، وتزول تعبّداً وحكماً- لا حقيقةً وواقعاً- بارتكابها، حيث إنّ العدالة في الواقع ليست علّة تامّة لترك المعاصي، بل هي مقتضٍ لذلك قد أخذها الشارع


1- النساء( 4): 31 ..
2- وسائل الشيعة 15: 315، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 45 ..

ص: 393

علّة تعبّدية لذلك الترك.

فإن كانت المعصية الصادرة أحياناً من العادل بحيث تكشف عن زوال الملكة- كما إذا كانت متكرّرة- فعود العدالة يتوقّف على تحقّق مقدّمات ثبوتها كالأوّل.

وأمّا إذا لم تكن المعصية بهذه المثابة- بل صدر من المكلّف ما ينافي العدالة من دون تكرّر مثلًا- فهنا وإن لم يتحقّق الاجتناب الناشئ عن الملكة إلّاأنّ مجرّد ذلك لا يدلّ على زوال الملكة، فإذا تاب المكلّف فيزول المانع ويعود المكلّف إلى الحالة السابقة التي كان عليها.

وهذا ما تقتضيه الأخبار الدالّة على أنّ التوبة- بأشكالها المختلفة وبمراتبها المتعدّدة- توجب زوال أثر المعصية، فقد اشتهر عن الأئمّة الأطهار أنّ «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(1)، فحال التائب يكون كحال من لم يرتكب ذنباً.

وهذا المقدار ظاهر ولا خلاف فيه، إلّاأنّه وقع الكلام في حقيقة التوبة التي تؤثّر في زوال أثر المعصية، فنقول:

إنّ التوبة هي الرجوع من الذنب إلى الربّ، وهذا المعنى يناسب معناها اللغوي، وهذه الحالة تحصل للعبد بعد طيّ المراتب التالية:

المرتبة الاولى: الرجوع من الجهل والغرور إلى العلم والإقرار قلباً.

المرتبة الثانية: بغضّ المعصية وإساءة فاعلها.

المرتبة الثالثة: التحزّن والتأسّف على صدور المعصية من فاعلها (الندم).

المرتبة الرابعة: العزم على عدم العود إلى المعصية.

المرتبة الخامسة: طلب مغفرة اللَّه وعفوه عن المعصية قلباً.

المرتبة السادسة: الرجوع من فعل المعصية إلى تركها في الحال.


1- وسائل الشيعة 16: 74- 75، كتاب جهاد النفس، أبواب جهاد النفس، الباب 86، الحديث 8 و 14 ..

ص: 394

المرتبة السابعة: الرجوع عن التقصير بالتدارك والتلافي لما فات؛ من قضاء أو إيفاء للحقوق ... وغير ذلك.

وما عدا المرتبة الاولى كلّها من مراتب التوبة الحالية(1).

وأمّا الأخبار: فقد عُدّ فيها الندم توبةً- قائلًا: «كفى بالندم توبة»(2)- من دون اعتبار لحوقه بالاستغفار؛ كما في خبر أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول:

«ما من عبد أذنب ذنباً فندم عليه، إلّاغفر اللَّه له قبل أن يستغفر ...» الحديث(3).

وقد عُدّ في بعضها بغضّ المعصية وكذا التأسّف على إتيان الذنب- في جنب الندم- توبةً؛ كما في خبر ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: «ما من مؤمن يذنب ذنباً إلّاأساءه ذلك وندم عليه، ومن سرّته حسنته وساءته سيّئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن»(4).

وفي طائفة اخرى اعتُبر في التوبة العزم على عدم العود؛ كما في الخبر أنّ «التوبة هي تصديق القلب، وإضمار أن لا يعود إلى الذنب الذي استغفر منه»(5).

وفسّرت التوبة النصوح: بأن يتوب الرجل من ذنب، وينوي أن لا يعود عليه أبداً(6).


1- بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 116- 118 ..
2- وسائل الشيعة 15: 335 و 336، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 47، الحديث 11، و 16: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 83، الحديث 1 و 3 و 5 و 6 ..
3- وسائل الشيعة 16: 66، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 83، الحديث 4 ..
4- وسائل الشيعة 15: 335 و 336، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 47، الحديث 11، و 16: 61، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 83، الحديث 1 ..
5- وسائل الشيعة 16: 78، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 87، الحديث 5 ..
6- وسائل الشيعة 16: 77، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 87، الحديث 3 و 4 ..

ص: 395

وفي طائفة رابعة من الأخبار عُدّ الاستغفار توبةً ودواءً للذنوب؛ كما في خبر السكوني عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لكلّ داء دواء، ودواء الذنوب الاستغفار»(1).

ونحوه غيره من الأخبار.

والظاهر من مجموع الأخبار أنّ حقيقة التوبة متقوّمة بركنين: أحدهما الندم على الذنب، وثانيهما العزم على عدم العود إليه، كما أشار الماتن قدس سره إلى ذلك في شرح الحديث السابع عشر من كتابه «الأربعين حديثاً»(2).

ولكنّ التوبة لها شرائط للقبول، وعمدتها أمران: الأوّل: ردّ حقوق المخلوقين التي ضيّعها المكلّف، الثاني: تدارك ما فوّته في حقوق الخالق بفعل ما فاته من الوظائف الشرعية.

كما أنّ لها شرائط للكمال وأهمّها شرطان: الأوّل: إذابة اللحم الذي نبت على السحت بالأحزان، الثاني: إذاقة ألم الطاعة للنفس كما أذقتها حلاوة المعصية.

ويمكن استفادة جميع ذلك ممّا روي عن عليّ عليه السلام في «نهج البلاغة»: من أنّ قائلًا بحضرته قال: أستغفر اللَّه، فقال عليه السلام: «ثكلتك امّك، أتدري ما الاستغفار؟! إنّ الاستغفار درجة العلّيين، وهو اسم واقع على ستّة معانٍ، أوّلها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً. والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم؛ حتّى تلقى اللَّه سبحانه أملس ليس عليك تبعة. والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقها. والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان؛ حتّى تُلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. والسادس: أن


1- وسائل الشيعة 16: 68، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 85، الحديث 11 ..
2- شرح چهل حديث: 275 ..

ص: 396

تُذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية»(1).

فالاستغفار ليس بنفسه توبة، بل هو تعويذ إلى الربّ الغفّار كي يتوب عليه، وهو- غالباً- متأخّر عن التوبة بمعنى الندم، وأمّا ركنا التوبة فهما المعنيان الأوّلان المذكوران في كلام الإمام عليه السلام، وشرطا قبولها هما المعنيان الثالث والرابع، وشرطا كمالها هما المعنيان الخامس والسادس.

فالعادل الذي صدر عنه ذنب أحياناً، بالتوبة- أي الندم والعزم على ترك العود إلى المعصية- يعود إلى ما كان عليه من العدالة.

ثمّ لتحقيق التوبة وأركانها وشرائطها ومراتبها مباحث طويلة نافعة تطلب من كتب الأخلاق وغيرها.


1- نهج البلاغة: 549، الحكمة 417 ..

ص: 397

حكم نقل الفتوى خطأً

(مسألة 30): إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأً يجب عليه إعلام من تعلّم منه (1).

حكم نقل الفتوى خطأً

1- يتصوّر لهذه المسألة فرضان:

الفرض الأوّل: ما إذا كانت الفتوى الصحيحة للمفتي حكماً ترخيصياً، بينما نقل الناقل فتواه على أنّها حكم إلزامي، قد يقال بوجوب الإعلام ويتمسّك لذلك بما دلّ على وجوب تبليغ الأحكام الشرعية كآية النفر(1).

إلّا أنّه استشكل على التمسّك بهذه الآية وما شابهها بإشكالين:

الإشكال الأوّل: أنّ هذه الآية وما شابهها ليس فيها دلالة على أزيد من وجوب تبليغ الأحكام الشرعية إلى الناس بصورة عامّة، وأمّا ما نحن فيه- من إيصال الأحكام إلى الناس فرداً فرداً- فهو ليس مستفاداً من هذه الأدلّة؛ وإلّا لكان على كلّ من يعلم حكماً شرعياً إبلاغه إلى كلّ فردٍ فردٍ، وهذا ممّا لم يلتزم به أحد.

وإن ناقش شخص في الإشكال: بأ نّنا لو قبلنا القول بأنّ المناط في وجوب


1- راجع: تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 289، وقد نقلها في الدرّ النضيد 2: 309 بعنوان« ما يتوهّم» ..

ص: 398

التبليغ- على أساس هذه الآية- هو تبليغ الحكم لمن نتيقّن بكونه غير عالم بالحكم(1)، فحينئذٍ يجب الإعلام على ناقل الفتوى فيما إذا أخطأ في نقلها؛ حيث يعلم قطعاً أنّ ذلك الشخص المنقول إليه لا يعلم الحكم قطعاً، بل أمره أشدّ؛ حيث إنّه يتخيّل حكماً آخر ليس هو الواقع.

فجوابه: أنّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّ مثل هذا المناط في وجوب تبليغ الأحكام ممّا لا سبيل إلى إحرازه، بل يمكن القول: إنّ عدم كونه كذلك هو الذي نجزم بصحّته، حيث إنّه لو كان المناط هو ذلك لوجب على من نفر إلى قومه أن يذهب إلى كلّ من يعلم بأ نّه لا يعلم الحكم قطعاً، ولا يلتزم بذلك أحد، بل الذي التزم به الجميع هو الإبلاغ العامّ للأحكام الشرعية.

نعم، لو كان عدم العلم بالحكم لدى بعض الأشخاص ممّا يؤدّي إلى مفسدة عظيمة للمجتمع والدين، فيجب عليه حينئذٍ إبلاغ الحكم إليه بأسرع وقت ممكن، ولكن هذا بلحاظ كون المسألة معنونة بعنوان ثانٍ، وهذا خارج عن موضوع الكلام.

الإشكال الثاني: أنّ مثل هذه الأدلّة لا تدلّ إلّاعلى تبليغ الأحكام الإلزامية؛ لأنّ مثل هذه الأحكام يكون العمل على خلافها موجباً للهلكة ومستوجباً للإنذار. و أمّا الأحكام الترخيصية فلا محذور في العمل على خلافها؛ بأن يتجنّب عن متعلّقها فيما إذا كان الحكم المنقول هو الحرمة، أو الإتيان بالمتعلّق فيما إذا كان الحكم المنقول هو الوجوب، بل يكون العمل على خلاف الأحكام الترخيصية أولى في موارد احتمال كون الحكم الواقعي إلزامياً، لكن قامت الحجّة الظاهرية على الترخيص؛ حيث إنّه موافق للاحتياط.


1- وعليه يجب- حسب هذه الآية- الإبلاغ العامّ؛ بلحاظ أنّنا متأكّدون من أنّ من بين الناس من لا يعلم الحكم قطعاً، لو لم نتأكّد من أنّهم جميعاً لا يعلمون الأحكام ..

ص: 399

إلّاأن يقال بوجود محذور في خصوص هذا الفرض الأخير وهو التزام الشخص المنقول إليه بأنّ الحكم للمسألة هو الحرمة أو الوجوب، مع أنّ الحكم- بحسب الفتوى- ليس إلّاالترخيص.

إلّا أنّ ذلك يحدث الإشكال فيما إذا التزم الشخص كذلك مع أنّه يرى أنّ الحكم غير ما التزم به، فيكون من البدعة، وهاهنا لم تتحقّق البدعة فعلًا لا من الناقل ولا من المنقول إليه:

أمّا الناقل: فلكونه- حسب الفرض- مخطئاً في نقله للفتوى، لا عامداً في نقل فتوى غير صحيحة إليه.

وأمّا المنقول إليه: فلكونه غير عالم ولا عارف بالحكم والفتوى كما قلنا.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ وجوب الإعلام منحصر بموارد الأحكام الإلزامية، ولكن بنكتة اخرى غير ما تقدّم، وهي أنّ التعليم يعدّ وجوبه طريقياً لا نفسياً؛ بمعنى أنّه إنّما يجب بلحاظ التحفّظ على المصالح الواقعية، والتجنّب عن المفاسد الحقيقية.

وعليه فالظاهر أنّ التعليم واجب في كلّ مورد يكون التعلّم فيه واجباً، وإلّا فلا معنى لأن يقال- بالإضافة إلى مورد-: إنّ التعلّم فيه غير واجب ولكنّ التعليم فيه واجب، ومن المعلوم أنّ التعلّم في موارد الأحكام الترخيصية ليس واجباً، فلا معنى للقول بكون تعليمها واجباً، ووجوب الإعلام- المستفاد من آية النفر حسب الفرض- إنّما يكون بالنسبة إلى الأحكام الإلزامية فحسب.

وقد يثار هاهنا إشكال حاصله: أنّ المورد المنقول خطأً مادام هو من الأحكام الترخيصية فسوف توجب الفتوى المنقولة إلى العامّي- وجوباً أو حرمةً- وقوعه في الكلفة والمشقّة غير المرادة للشارع لأنّ الشريعة الإسلامية شريعة سهلة سمحة، ونقل الفتوى قد أوجب فوات هذه السهولة- في ذلك المورد- عن العامّي،

ص: 400

فلابدّ عليه- لأجل ذلك- أن يعلّم الحكم الترخيصي له.

إلّا أنّه يمكن أن يقال في معرض الجواب عن هذا الإشكال: صحيح أنّ الأحكام الشرعية بعضها ترخيصية وبعضها إلزامية، وأنّ الترخيصية إنّما تمّ تشريعها لأجل التسهيل على الناس، إلّاأنّ فتوى المفتي بكون شي ء ترخيصياً لا يعكس- في تمام الموارد- ذلك الترخيص الذي أراده الشارع؛ حيث يحتمل وقوعه في الخطأ في فتواه، ولا سيّما إذا كانت المسألة خلافية، وكان رأيه مخالفاً للمشهور، فكون الحكم في الواقع ترخيصياً شرعياً أمر لا نجزم ولا نقطع به، وبالتالي فإنّ المسألة يكون للاحتياط فيها مجال.

ولذا قد يقال: إنّ بإمكان المجتهد أن لا يفتي بالترخيص بل يقول بالاحتياط في بعض الموارد التي توصّل فيها إلى الحكم الترخيصي.

الفرض الثاني: ما إذا كانت الفتوى الصحيحة للمفتي حكماً إلزامياً، بينما نقل الناقل إلى العامّي الفتوى على أنّها حكم ترخيصي.

وقد ذهب المحقّق الخوئي رحمه الله إلى وجوب إعلام الفتوى الواقعية، مستدلّاً بما حاصله: أنّ المتفاهم العرفي من الأدلّة الناهية عن ارتكاب الأفعال المحرّمة هو كون انتساب الفعل المحرّم إلى شخص مبغوضاً بنحو مطلق؛ أي سواء كان الانتساب بالمباشرة أو بالتسبيب، والمقام يعدّ من صغريات الانتساب بنحو التسبيب؛ حيث إنّ ارتكاب الفعل المحرّم يكون في المنقول إليه مستنداً إلى ذلك النقل الخاطئ الصادر من الناقل، فهو ما دام جاهلًا أو غافلًا بالإضافة إلى نقله غير الصحيح يكون معذوراً، وأمّا إذا التفت إلى خطئه فعليه أن يوصل الفتوى الواقعية إلى العامّي. وهناك روايات تؤيّد هذا، لو لم نقل بأ نّها تدلّ عليه:

منها: ما دلّ على أنّ كلّ مفتٍ ضامن، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه كان

ص: 401

قاعداً في حلقة ربيعة الرأي فقال فيها: «إنّ كلّ مفتٍ ضامن»(1).

ومنها: ما دلّ على أنّ «من أفتى الناس بغير علم ولا هدىً من اللَّه ... لحقه وزر من عمل بفتياه»(2).

ومنها: ما ورد من أنّ كفّارة تقليم المحرم أظفاره على من أفتى بجوازه(3). انتهى حاصل كلامه(4).

ويمكن أن يورد على ما ذكره بمناقشتين.

المناقشة الاولى: أنّه على فرض التسليم بكون التسبيب في ارتكاب المحرّم حراماً فليس المقام من صغرياته؛ حيث إنّ وقوع العامّي في الحرام وإن كان مستنداً إلى نقل الناقل، غير أنّه لمّا لم يبادر إلى النقل عن عمدٍ فإطلاق عنوان كونه مسبّباً في غير محلّه؛ فإنّ ما يستفاد من أدلّة الاجتناب عن الحرام هو حرمة تسبيب فعله- عن عمدٍ- لارتكاب حرام، وما نحن فيه ليس كذلك، بل ربّما كان الناقل في المقام متقرّباً إلى اللَّه بذلك النقل الذي تبيّن خطؤه.

غير أنّه يمكن ردّ هذه المناقشة: بأنّ لكلّ فتوى شأنين: شأن صدورها عن المفتي، وشأن بقائها وعدم رفع يده عنها، ومن المعلوم أنّ المقلّد لا يعمل بالفتوى فيما لو قطع برفع المفتي يده عنها، فللشأن الثاني دور في قضية تقليد المكلف عنه.

وعليه فنقول: إنّ ترك الإعلام- والذي هو تحت إرادة الناقل واختياره- يستند إليه كون الفتوى باقية لم يرفع اليد عنها، وعمل المكلّف مستند إلى ظهور الفتوى في


1- وسائل الشيعة 27: 220، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 7، الحديث 2 ..
2- وسائل الشيعة 27: 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 1 ..
3- وسائل الشيعة 13: 164، كتاب الحجّ، أبواب بقية كفّارات الإحرام، الباب 13 ..
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 314 ..

ص: 402

بقائها، فيصدق- بهذا اللحاظ- عنوان التسبيب للحرام على تركه للإعلام.

المناقشة الثانية: أنّ كبرى حرمة التسبيب للوقوع في الحرام لا تأتي في المقام؛ وذلك- لا بلحاظ عدم صدق عنوان التسبيب كما في المناقشة الاولى- لعدم صدق كون الارتكاب الحاصل من المنقول إليه ارتكاباً محرّماً وإن كان ما ارتكبه حراماً في الواقع حسب الفرض؛ فإنّه فرق بين نفس الارتكاب والفعل المرتكب- بالفتح-.

ومجرّد كون الفعل المرتكب حراماً في الواقع لا يسوّغ نسبة الحرمة إلى ارتكابه، بل صحّة هذه النسبة منوطة بأن كان لمرتكبه التفات وتوجّه إلى حرمته، والعامّي ليس له هذه الالتفات والتوجّه؛ حيث إنّه- بحسب الفرض- يتخيّل أنّ الحكم هنا ترخيصي، فالذي يصدر عنه لا يعدّ ارتكاباً محرّماً لفعل محرّم، وإن صحّ عدّه ارتكاباً لفعل محرّم.

والناقل وإن سبّب وقوعه في هذا الارتكاب، غير أنّ ما يرتكبه لا يمكن أن نعتبره ارتكاباً محرّماً، وإن كان بالإمكان اعتباره ارتكاباً لفعل هو في الواقع ونفس الأمر محرّم لو كانت فتوى المفتي مصيبة للواقع، وأدلّة الاجتناب عن الفعل المحرّم منصرفة إلى ما إذا كان الارتكاب نفسه محرّماً، أو ما إذا كان للمسبِّب التفات إلى حرمة العمل، والمقام ليس مندرجاً في واحد منهما.

وهذه المناقشة قابلة للردّ أيضاً: بأنّ هذا الانصراف ممّا لا يُرى له وجه؛ فإنّ مردّ الإشكال إلى كون هذه الأدلّة ناظرة إلى ما تحقّق فيه أحد الملاكين السابقين- أي إمّا أن يكون الارتكاب نفسه محرّماً، أو أن يكون للمسبِّب التفات إلى كون العمل نفسه محرّماً- والحال أنّ هناك صورة ثالثة لا يمكن فيها دعوى انصراف الأدلّة عنها مع عدم اندراجها في أحد ذينك الملاكين؛ وهي صورة انقطاع عدم الالتفات بعد مدّة

ص: 403

وعدم استمراره على حاله، والمقام من هذا القبيل.

نعم، هناك صورة رابعة: وهي ما إذا لم ينقطع ما للناقل من عدم التفاته إلى كون الفعل محرّماً، وهذه الصورة خارجة عن محلّ البحث والكلام؛ حيث إنّ البحث فيما إذا تبيّن للناقل أنّه أخطأ في بيان الفتوى الواقعية، هذا.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ هناك نكتة تنتهى بنا إلى وجوب الإعلام على الناقل المخطئ في نقل الفتوى:

وهو أنّنا ذكرنا سابقاً وجود شأنين لكلّ فتوى: شأن صدورها- أو نقلها من ناحية المفتي أو الناقل- ووصولها إلى المكلّف، وشأن بقائها لدى المكلّف كحكم شرعي، والمكلّف لا يحتاج إليها فقط للآن الذي يأخذها من الناقل، بل يريدها لكي يعمل على أساسها في المستقبل، ويلتزم بها كحكم شرعي لكلّ الأحيان.

وعليه، فإنّ المفتي والناقل يكونان- بسبب تركهما للإعلام- موجبين لظهور الفتوى في البقاء، فهما وإن كانا معذورين بالإضافة إلى الشأن الأوّل لها، غير أنّهما لا يكونان معذورين بالإضافة إلى الشأن الثاني، فلا يصحّ لنا القول بأ نّه لم يكن لهما عمد في بيان الفتوى، فإنّ الفتوى ليس لها الشأن الأوّل فقط حتّى نركّز على عنصر البيان. فالروايات المشار إليها تلزم بوجوب الإعلام على المفتي والناقل حسب هذا التقريب، إلّاأنّ هذا الوجوب يأتي بالإضافة إلى الفرض الثاني؛ وذلك بلحاظ ما أسلفناه عند التكلّم حول الفرض الأوّل من الفرضين السابقين.

نعم، يمكن أن يقال: لا يبعد أن يكون وجوب الإعلام ثابتاً على الناقل أو المفتي حتّى بالإضافة إلى الفرض الأوّل أيضاً- وبه يتمّ ما في المتن من إطلاق وجوب الإعلام- وذلك بلحاظ نكتتين:

اولاهما: أنّه يستفاد من الأدلّة الواردة في البدعة حرمة كلّ عمل يهيّئ للوقوع

ص: 404

في البدعة والاقتراب منها، وعليه فإذا قلنا بأنّ النسبة إلى الدين من دون علم واستناد إلى دليل بدعة فهو، وإلّا لا محيص عن قبول أنّ ما من مفتٍ يفتي بغير علم وينسب إلى الشرع شيئاً من دون استناد إلى دليل فإنّما يكون ذلك عرضة للبدعة من دون شكّ؛ بمعنى أنّه لا يمكن لهذا الشخص أن ينكر أنّ بعض ما يقوله يكون مخالفاً للواقع، فهو- بلحاظ ذلك- يكون عامداً في أن يقول بعض ما يكون على خلاف الشرع، وهذا لو لم يصدق عليه عنوان البدعة فهو- على الأقلّ- ارتكاب لما هو عرضة للبدعة، فيشمله ذلك التوعّد الشديد الذي ورد في روايات البدعة.

وثانيتهما: أنّ الفتوى عند ما تصل إلى المكلّف لا يفترض فيها أن تبقى عنده ولا تذكر لغيره، بل ربّما تصل إلى شخص أو أشخاص آخرين؛ لأنّه يكرّر العمل على أساسها وقد ينقلها لغيره، وربّما تستقرّ هذه الفتوى في عائلته وأبنائه، وعليه يمكن القول بأنّ الناقل أو المفتي سبّبا- بسبب تركهما للإعلام- الاقتراب من البدعة، فيجب عليهما- حسب ما يستفاد من أدلّة البدعة- الإعلام؛ لكي لا ينسب إلى الشارع ما لا يكون مستنداً إلى دليل.

فتحصّل من جميع ما ذكر: أنّه لا يبعد القول بوجوب الإعلام بشكل مطلق، كما في المتن.

ص: 405

ابتلاء المصلّي بمسألة يجهل حكمها

(مسألة 31): إذا اتّفق في أثناء الصلاة مسألة لا يعلم حكمها، ولم يتمكّن حينئذٍ من استعلامها، بنى على أحد الطرفين؛ بقصد أن يسأل عن الحكم بعد الصلاة؛ وأن يعيدها إذا ظهر كون المأتيّ به خلاف الواقع، فلو فعل كذلك فظهرت المطابقة صحّت صلاته (1).

ابتلاء المصلّي بمسألة يجهل حكمها

1- المسألة في حدّ الجواز واضحة، بناءً على ما تقرّر في محلّه من كفاية مطابقة العمل المأتيّ به للمأمور به في الواقع للحكم بالصحّة، وإن كان المكلّف شاكّاً في هذه المطابقة عند الإتيان. نعم، اللازم تحقّق قصد القربة منه- مع شكّه في المطابقة- عند الإتيان، ويمكن تحقّقه بالإتيان بالعمل رجاءً للمطابقة.

وعلى ذلك يجوز له أن يبني على أحد الطرفين بقصد: أن يسأل عن الحكم بعد الصلاة، وأن يعيدها إذا ظهر كون المأتيّ به خلاف الواقع، فإذا فعل ذلك بهذا القصد ثمّ ظهرت المطابقة صحّت صلاته.

والظاهر أنّ وجه التقييد بهذا القصد ليس إلّالتصحيح وتحقيق قصد القربة المتمشّي من خلال رجاء المطابقة، فالرجاء- الصالح لتمشّي قصد القربة من

ص: 406

خلاله- لا يتحقّق إلّامع هذا القصد؛ وإلّا فكيف يمكن له إضافة فعله إلى اللَّه تعالى مع عدم قصده؛ سعياً لإحراز مطابقة فعله لما طلبه اللَّه تعالى منه، أو إعادته صحيحاً لو لم يطابق؟! هذا.

ولكن ظاهر المتن- حيث قال: «بنى على أحد الطرفين»- أنّ المسألة في حدّ الوجوب، فيجب عليه أن يبني على أحد الطرفين ... إلى آخر ما في المتن، وهذا بخلاف ما جاء في «العروة»- ولم يعلّق عليه السيّد الإمام قدس سره بشي ء من هذه الجهة- من قوله: «يجوز له أن يبني على أحد الطرفين ...»(1).

فيقع الكلام في وجه الوجوب في المسألة بعد الفراغ عن جواز ذلك، فنقول:

للمسألة صور: لأنّ الصلاة إمّا أن تكون واجبة أو تكون مندوبة، وعلى كلّ منهما تارةً يمكنه الاحتياط وإحراز الصحّة في الأثناء كما لو شكّ جزء غير ركني وأمكن تكراره، واخرى لا يمكنه ذلك كما لو شكّ في إتيان الجزء الركني.

فإن كانت الصلاة واجبة وكان لا يمكن الاحتياط: فإن قلنا بحرمة قطع الفريضة- كما عليه الماتن قدس سره(2)- وجب عليه البناء على أحد الطرفين ... إلى آخر ما في المتن؛ وذلك لأنّه مقتضى حرمة القطع، وبما أنّ الاحتياط غير ممكن فتصل النوبة إلى التخيير فيتخيّر أحد الطرفين ويبني عليه، ثمّ بعد السؤال عن المسألة لو تبيّن انطباق ما عمله على ما هو الصحيح فهو، وإلّا أعادها.

ويمكن أن يقال: إنّ دليل حرمة القطع هو الإجماع، وهو دليل لبّي يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن، وهو غير صورة ما إذا قطع الصلاة لأجل تصحيح العمل بعد السؤال عن حكم المسألة.


1- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 12، المسألة 49 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 180، المسألة 12 ..

ص: 407

ولكنّ الظاهر شمول الدليل لصورةٍ يكون جهله بالمسألة في الأثناء لأجل عدم تعلّم الأحكام وتقصيره في هذه الجهة؛ حيث إنّ الواجب على المكلّف تعلّم المسائل التي يعلم أو يحتمل عقلائياً ابتلاءه بها؛ وذلك لأنّ هذه الصورة من الجهل ملحقة بصورة تعمّد القطع باختياره من دون عذر؛ فإنّ الامتناع بالاختيار لا يعدّ عذراً عند العقل والعقلاء.

وليس ذلك لأجل القاعدة الفلسفية المعروفة القائلة بأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، بل لقاعدة عقلائية اخرى مقتضية لذلك(1)، ومقتضية للوم من يقوم بعمل كان له نحو قبح فعلي كما لا يخفى.

نعم، لو كان جهله قصورياً- بأن كان لا يحتمل احتمالًا عقلائياً ابتلاءه بهذه المسألة، أو غفل عنها بالمرّة- فيمكن أن يقال: إنّه خارج عن القدر المتيقّن من دليل حرمة القطع، فله أن يقطع الصلاة ويسأل عن الحكم ويصلّي صحيحاً.

وأمّا لو أمكن الاحتياط فربّما يقال: يجب عليه أن يحتاط؛ رعايةً لجانب حرمة قطع الفريضة، وتفريغاً للذمّة عن وجوب الصلاة صحيحةً؛ وقد ذكر الماتن قدس سره في تعليقته على «العروة» في هذه المسألة أنّ هذا هو الأحوط(2).

ولكنّ الظاهر أنّ هذا الاحتياط لا يجب كحكم شرعي مُفتى به؛ ولذا لم يفت به الماتن قدس سره في التعليقة، بل جعله أحوط- وإن كان الأحوط في كلامه احتياطاً وجوبياً في اصطلاحهم- وذلك لعدم دليل يعتمد عليه لوجوب هذا الاحتياط؛ لأنّ تفريغ الذمّة لا ينحصر طريقه بهذا الاحتياط، بل له أن يبني على أحد الطرفين رجاءً لمطابقته للواقع أو وظيفته الواقعية، فإذا انكشفت المطابقة فقد حصل تفريغ الذمّة.


1- راجع: أنوار الهداية 2: 427 ..
2- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 12، المسألة 49 ..

ص: 408

نعم، لعلّ وجه القول بالاحتياط الوجوبي هو أنّه أقرب زماناً إلى تفريغ الذمّة، وأقرب مرتبةً ومعنويةً إلى العبودية، أو أنّ وجهه هو فتوى المشهور بذلك لو ثبت ذلك ولعلّ هذه الوجوه- أو مع ضميمة- تكفي لاحتراز الفقيه عن الإفتاء بما يخالف الاحتياط.

وممّا ذكرنا يظهر: أنّ المكلّف- فيما إذا أمكنه الاحتياط- لا يجب عليه البناء على أحد الطرفين إلى آخر ما ذكره الماتن، بل له أن يحتاط أيضاً.

هذا كلّه في الصلاة الواجبة، وأمّا لو كانت الصلاة مندوبة: فإن قلنا بحرمة قطعها أيضاً فالكلام الكلام، وإلّا فلا وجه لوجوب البناء على أحد الطرفين، بل له أن يقطع ويسأل ويصلّي صلاة صحيحة أيضاً، كما أنّ له الاحتياط إذا أمكن.

وينبغي التنبيه على امور:

الأوّل: المطابقة المعتبرة لتعلّق القصد به عند الإتيان، أو لكشف الصحّة بعد الصلاة، لا يراد بها خصوص المطابقة بحسب الواقع فحسب- كما قد يتراءى بدواً من كلام الماتن قدس سره- بل المراد هو المطابقة لما هو الحجّة: من الواقع لو انكشف له، أو فتوى من يقلّده، أو فتوى نفسه لو كان المكلّف المفروض مجتهداً ولم يستنبط المسألة بعدُ، أو استنبط ولم يذكر ما استنبطه في أثناء العمل مثلًا. كلّ ذلك لعدم خصوصية في المقام للواقع كما لا يخفى.

الثاني: الظاهر من كلام الماتن قدس سره وغيره في المقام أنّ مفروض كلامهم ما إذا كان المكلّف في سعة الوقت؛ ولذا عبّروا بالإعادة فقالوا: «وأن يعيدها» ولم يتعرّضوا للقضاء خارج الوقت.

وأمّا إذا كان في ضيق الوقت: فإمّا أن يكون الضيق حتّى بالنسبة إلى الاحتياط في الأثناء، فحينئذٍ يجب عليه البناء على أحد الطرفين وإن أمكنه الاحتياط؛ لأنّ

ص: 409

هذا المحذور الشرعي- وهو ضيق الوقت- كسائر المحذورات التي يمتنع معها الاحتياط كتكرار الركن.

وإمّا أن يكون الضيق من حيث القطع والإعادة فقط: فإن أمكنه الاحتياط في الأثناء وجب عليه ذلك حتّى لو قلنا بعدم حرمة قطع الفريضة؛ لأنّ تفريغ الذمّة في حال ضيق الوقت ينحصر طريقه بهذا الاحتياط، وبه يمتاز عمّا قلناه سابقاً في سعة الوقت.

نعم، لو كانت الصلاة مندوبة، وقلنا بعدم حرمة قطعها، فلا يحرم قطعها، كما لا يحرم- تكليفاً- تفويت الوقت في المندوبة، وهو واضح.

وإن كان لا يمكنه الاحتياط فيجب عليه البناء على أحد الطرفين، ولا يجوز له القطع وإن قلنا بعدم حرمة قطع الصلاة؛ لأنّ ذلك مقتضى وجوب رعاية الوقت في الفريضة. نعم المندوبة أمرها سهل كما ذكرنا.

الثالث: الحرمة التكليفية في المقام لا ينبغي خلطها بالفساد في المقام، فلو قلنا بحرمة قطع الصلاة- إمّا نفساً أو لضيق الوقت- فلا ينافي ذلك صحّة صلاته المعادة في الوقت أو المقضية في خارج الوقت. كما أنّه في فرض وجوب الاحتياط في الأثناء- فيما لو كان الوقت ضيّقاً بالنسبة إلى الإعادة- لو تركه وبنى على أحد الطرفين، وانكشف مطابقة المأتيّ به مع المأمور به، فلا منافاة بين عدم جواز الإقدام على هذا البناء تكليفاً، وصحّة صلاته لو انكشف الانطباق وضعاً.

ص: 410

الوكيل في عمل عن الغير

(مسألة 32): الوكيل في عمل عن الغير- كإجراء عقد أو إيقاع، أو أداء خمس أو زكاة أو كفّارة أو نحوها- يجب عليه أن يعمل بمقتضى تقليد الموكِّل، لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين (1).

الوكيل في عمل عن الغير

1- تعرّض الماتن قدس سره في هذه المسألة لأربعة عناوين، يجمعها نحوٌ من النيابة عن الغير في إتيان العمل؛ وهي الوكالة والإجارة والوصاية والولاية، من جهة اختلاف تقليد العامل مع الغير:

أمّا الوكالة: فهي- على ما عرّفها الماتن قدس سره- تفويض أمر إلى الغير ليعمل له حال حياته، أو إرجاع أمر من الامور إليها له حالها(1).

فيجب على الوكيل التحفّظ التامّ على إتيان الأمر المفوّض إليه. وحدود الوكالة دائرة مدار تعيين الموكِّل سعةً وضيقاً وكيفيةً.

وأمر هذا من جهة الثبوت واضح في مسألتنا هذه، فلو وكّله في إتيان العمل على طبق تقليده- أي الموكِّل- فلا يجوز للوكيل التعدّي عنه، ولو وكّله في إتيان العمل


1- تحرير الوسيلة 2: 37 ..

ص: 411

صحيحاً ولو بنظر نفس الوكيل- اجتهاداً أو تقليداً- فله العمل كذلك، كما أنّه لو قيّده مثلًا بنظر نفس الوكيل فلا يجوز له التعدّي عنه أيضاً ... وهكذا.

إنّما النزاع في مقام الإثبات؛ فقد يقال: إنّ إطلاق الوكالة يقتضي إيكال تطبيق العمل الموكّل عليه إلى نظر الوكيل، نعم إذا اتّفق التفات الموكّل إلى الاختلاف في التطبيق، فقد يشكل ذلك من جهة أنّ نظر الموكّل مانع من عموم التوكيل لمورد الاختلاف، ويدفعه: أنّه وإن كان يمنع من عمومه بنظر الموكّل تفصيلًا، لكن لا يمنع من عمومه إجمالًا، وهو كافٍ في جواز العمل ... نعم، إذا كانت قرينة على تقييد الوكالة بالعمل بنظر الموكّل، أو كان ما يصلح أن يكون قرينة على ذلك، لم يصحّ عمل الوكيل بنظره المخالف لنظر الموكّل، وإن لم يكن كذلك فإطلاق التوكيل يقتضي جواز عمل الوكيل بنظره، ومجرّد التفات الموكّل إلى الاختلاف غير كافٍ في تقييد إطلاق التوكيل. ففي مقام الإثبات لا مانع من الأخذ بالإطلاق إذا تمّت مقدّمات الحكمة(1).

واورد عليه بأنّ «الوكالة هي الاستنابة في التصرّف، فهي تسبيب للعمل على يد الوكيل، ومن هنا يصحّ إسناد العقود أو الإيقاعات التي يوقعها الوكيل إلى الموكّل، ويكون هو المخاطب بالوفاء بها؛ لأنّ عمل الوكيل عمل للموكّل، فلا محالة تنصرف الوكالة إلى ما يراه الموكّل صحيحاً؛ لعدم ترتّب أثره على غيره عند الموكّل، سواء في ذلك المعاملات والعبادات.

وبعبارة اخرى: الغرض من توكيل الغير في عمل: هو ترتيب الأثر على فعله عند الموكّل، والاكتفاء بعمله عن المباشرة؛ فإنّ الشخص لا يوكّل غيره في إعطاء الخمس أو الزكاة أو الإتيان بعبادة- مثلًا- إلّالغرض إفراغ ذمّته عن التكليف، كما


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 86 ..

ص: 412

وأمّا الأجير عن الوصيّ أو الوليّ في إتيان الصلاة ونحوها عن الميّت، فالأقوى لزوم مراعاة تقليده؛ لا تقليد الميّت، ولا تقليدهما (1).

أ نّه لا يوكّل غيره في عقد أو إيقاع إلّالغرض ترتيب الأثر على عقده وإيقاعه، وهذه قرينة عامّة على تخصيص مورد الوكالة بما يراه الموكّل صحيحاً ومفرّغاً لذمّته اجتهاداً أو تقليداً، ومعها لا مجال لتوهّم التمسّك بمقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق»(1).

فإطلاق الوكالة يقتضي العمل على طبق نظر الموكّل، ولو سلّمنا اقتضاء الإطلاق لرعاية الوكيل نظره فلابدّ للانصراف؛ لأنّ التوكيل إنّما يكون من جهة ترتّب الأثر على مورد الوكالة، وما يراه الموكّل فاسداً لا يترتّب عليه الأثر عنده(2).

فالحاصل: أنّ الوكيل يجب عليه رعاية تقليد الموكّل- لا تقليد نفسه- إذا كانا مختلفين وأطلق الوكالة، وهو الظاهر من مفروض كلام الماتن قدس سره.

1- بالنسبة للإجارة في الأجير عن الوصي أو الوليّ في إتيان الصلاة ونحوها عن الميّت، قد أفتى الماتن قدس سره فيها بلزوم مراعاة تقليد الأجير نفسه، لا تقليد الميّت ولا تقليدهما.

وغاية ما يمكن أن يستند إليه في هذه الفتوى في العبادات- وهي- أي العبادات- المحتمل قويّاً من مورد كلامه رحمه الله؛ حيث قال: «في إتيان الصلاة ونحوها»- هو أن نقول: إنّ الظاهر من مراد الوصي أو الوليّ عند الاستئجار: هو تفريغ ذمّة الميّت عن الصلاة والصيام مثلًا، أو إيصال ثوابهما إليه، من دون نظر إلى خصوصية تقليدهم،


1- دروس في فقه الشيعة 1: 228 ..
2- راجع: الاجتهاد والتقليد، السيّد رضا الصدر: 383 ..

ص: 413

وكذا لو أتى الوصيّ بها تبرّعاً أو استئجاراً يجب عليه مراعاة تقليده، لا تقليد الميّت (1).

فالأجير- بمقتضى عقد الإجارة- مأمور بتفريغ الذمّة أو إيصال الثواب، ولا يحصل هذا الغرض عنده إلّابالإتيان بما هو الصحيح عنده؛ وهو المفرّغ للذمّة أو الموصل إلى الثواب، فيجب عليه رعاية تقليده لا تقليد الميّت و لا تقليد الوصي أو الوليّ.

نعم، لو قيّد الإجارة بما هو الصحيح عند المستأجر، فالأجير لو احتمل صحّة العمل مع ذلك- أي مع كونه مخالفاً لتقليده- أمكن له العمل على طبق الإجارة، وإن لم يحتمل الصحّة فلا يمكن له العمل بمقتضى الإجارة؛ لأنّه مع البطلان بنظره لا يمكن تمشّي قصد القربة منه، وهذا معناه بطلان الإجارة؛ لعدم إمكان وقوع العمل من هذا الأجير(1).

ولا يخفى أنّ هذا البيان لا يأتي في المعاملات؛ لأنّها لا فرق فيها بين الإجارة والوكالة من حيث لزوم تسليم مورد الإجارة- من العمل الصحيح بنظر المستأجر- إليه.

ويأتي فيها ما تقدّم في الوكالة ممّا بيّناه في مقام الثبوت والإثبات.

1- بالنسبة للوصاية إذا قلنا: إنّ الوصي نائب عن الموصي في التصرّف بعد الممات، كما أنّ الوكيل نائب الموكّل في حال الحياة، فالكلام هنا هو ما تقدّم في الوكالة.

وأمّا إن قلنا: إنّ الوصاية هي إعطاء منصب للوصي لإجراء مفاد الوصية، فالظاهر أنّ الواجب عليه رعاية تقليده، خصوصاً فيما يرجع إلى تفريغ ذمّة الميّت من واجب


1- راجع في هذا المجال: التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 325 ..

ص: 414

وكذا الوليّ (1).

أو إيصال ثواب إليه في عمل؛ لأنّ المفوّض إليه هو تفريغ الذمّة أو إيصال الثواب، ولا يكون هذا إلّابما هو كذلك بنظره لا بنظر الميّت(1).

والذي استُقرب من كلام الماتن قدس سره في كتاب الوصية(2) هو المبنى الثاني- والتحقيق موكول إلى محلّه- وهو المناسب لما أفتى به هنا من لزوم رعاية الوصي لتقليد نفسه لا تقليد الميّت.

1- بالنسبة للولاية لا شبهة في أنّ الوليّ يعمل على طبق تقليد نفسه، لا تقليد المولّى عليه؛ وذلك لأنّ الولاية منصب شرعي يفوّض فيها أمر المولّى عليه إلى الوليّ، والمفوِّض فيها هو الشارع لا المولّى عليه، فالوليّ يعمل على طبق ما هو وظيفته شرعاً، ومرجع تقليده هو الذي يعيّن له وظائفه الشرعية، وذلك واضح.


1- راجع في هذا المجال: الدرّ النضيد 2: 358 ..
2- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره 2: 1020، المسألة 3 حيث لم يعلّق عليه الإمام قدس سره ..

ص: 415

اختلاف المتعاقدين تقليداً أو اجتهاداً

(مسألة 33): إذا وقعت معاملة بين شخصين، وكان أحدهما مقلّداً لمن يقول بصحّتها، والآخر مقلّداً لمن يقول ببطلانها، يجب على كلّ منهما مراعاة فتوى مجتهده، فلو وقع النزاع بينهما، يترافعان عند أحد المجتهدين أو عند مجتهد آخر، فيحكم بينهما على طبق فتواه، وينفُذ حكمه على الطرفين. وكذا الحال فيما إذا وقع إيقاع متعلّق بشخصين كالطلاق والعتق ونحوهما (1).

اختلاف المتعاقدين تقليداً أو اجتهاداً

1- هذه المسألة من صغريات الكبرى الجارية في كلّ مورد وقع فيه خلاف بين الشخصين اجتهاداً أو تقليداً في العبادات والعقود والإيقاعات.

وجذور الآراء المختلفة في المسألة- صحّةً وفساداً وتفصيلًا- موجودة في البحث عن مفاد أدلّة حجّية الأمارات ومسألة الإجزاء.

فالحكم بالصحّة أو الفساد أو التفصيل أو التبعيض والتفكيك بينهما- بالنسبة إلى كلّ من المختلفين اجتهاداً أو تقليداً- مبني على ما أسّسوه في الاصول من القول بالسببيّة والموضوعية والطريقية البحتة والمعذّرية في الأمارات.

ولقد أجاد الشيخ الأعظم في نظير المسألة؛ حيث جعل الحكم بالصحّة أو الفساد أو التفصيل بينهما مبنياً على ذلك، قال: «لو اختلف المتعاقدان اجتهاداً أو تقليداً في

ص: 416

شروط الصيغة، فهل يجوز أن يكتفي كلّ منهما بما يقتضيه مذهبه أم لا؟»

ثمّ قال بالنسبة إلى هذين الوجهين: «إنّهما مبنيّان على أنّ الأحكام الظاهرية المجتَهد فيها بمنزلة الواقعية الاضطرارية ... أم هي أحكام عذرية لا يعذر فيها إلّامن اجتهد أو قلّد فيها»(1).

وحيث إنّ التحقيق في مفاد أدلّة حجّية الأمارات، ومنها ظنّ المجتهد ورأيه في عمل نفسه ومقلّديه- كما حقّقه الأجلّاء ومنهم السيّد المعزّز الماتن(2)- هو مجرّد الطريقية والعذرية عند انكشاف الخلاف، من غير حصول أيّ تبدّل وتحوّل في الواقع وفي مؤدّى الأمارة، فلا محالة تكون الأحكام الظاهرية المجتَهد فيها متعدّدة حسب اختلاف الاجتهادات.

وهذا هو السرّ في التفكيك بين الأحكام الظاهرية بالقياس إلى شي ء واحد وموضوع واحد، حسب اختلاف الأشخاص اجتهاداً أو تقليداً.

وليس ذلك في الأبواب الفقهية من العبادات والمعاملات بعزيز؛ فالماء الواحد الشخصي مثلًا طاهر ظاهراً بالنسبة إلى شخص حيث لم تقم عنده بيّنة على نجاسته، فتجري في حقه أصالة الطهارة والحلّ بل واستصحاب الطهارة، وفي الحال نفسه هو نجس لآخر؛ حيث قام وتمّ عنده الدليل على ذلك، وكذا في اللحوم والثياب، بل وفي الأموال والفروج.

وعلى هذا الأساس القويم بنى السيّد الإمام(3) وغيره من المحقّقين بنيانه، وقال:


1- المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 16: 178- 179 ..
2- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 127 و 128 و 135؛ تهذيب الاصول 2: 593؛ مناهج الوصول 1: 315؛ كتاب البيع 1: 362 ..
3- راجع: العروة الوثقى مع تعاليق عدّة من الفقهاء العظام 1: 46، المسألة 55..

ص: 417

يجب على كلّ منهما مراعاة فتوى مجتهده، فالمعاملة تكون صحيحة عند أحدهما حسب ما يقتضيه رأي مقلّده، وباطلة عند الآخر وفقاً لفتوى مرجعه، وكلّ يرتّب على العقد الواقع بينهما أثره من الصحّة والفساد.

ومن المعلوم أنّه يقع بينهما نزاع من حيث ترتيب آثار الصحّة والفساد: فمن كانت المعاملة عنده صحيحة يرى نفسه مالكاً للمعوّض كما يرى العوض خارجاً عن ملكه؛ ولذا يسعى في تملّكه والتصرّف فيه وتسليم عوضه لصاحبه، والآخر- حيث يرى المعاملة فاسدة- يمتنع عن تسليم ماله لصاحبه وأخذ مال صاحبه لنفسه.

فبالتالي يترافعان إلى الحاكم، كان الحاكم هو أحد المجتهدين الذي يقلّده أحدهما أو مجتهداً آخر، فيحكم على وفق فتواه، ومن المعلوم في محلّه- بمقتضى أدلّة نفوذ حكم الحاكم- أنّ حكم الحاكم حاكم على سائر الأمارات والطرق التي منها الفتوى، فيفصل بينهما ويحسم مادّة النزاع.

فالمتّبع هو حكم الحاكم وإن كان المحكوم عليه مجتهداً أو مقلّداً لمجتهد تخالف فتواه فتوى الحاكم، وهذه القاعدة السارية في باب الإيقاعات- كالطلاق والعتق ونحوهما- شي ء تسالموا عليه في كتاب القضاء في مسألة نقض الفتوى بالحكم.

وعلى هذا فما اختاره السيّد المحقّق اليزدي في «العروة»(1) من الحكم بفساد المعاملة بالنسبة إليهما، بانياً ذلك على ما أفاده في «حاشية المكاسب»(2): من أنّ المعاقدة والمعاملة أمر قائم بالمتعاملين، لا يمكن التفكيك فيها بالحكم بالصحّة في


1- العروة الوثقى مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره: 13، المسألة 55 ..
2- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 93 ..

ص: 418

طرف والفساد في طرف آخر.

كما أنّ ما أفاده المحقّق الأصفهاني: من الحكم بالصحّة بالنسبة إلى الطرفين؛ من حيث تقوّم العقد والمعاملة بهما، فإذا صحّ من جانب لصحّ من جانب آخر(1)، ممّا لا يمكن المساعدة عليهما في المقام؛ إذ عدم إمكان التفكيك إنّما هو بالنسبة إلى الأحكام الواقعية، وأمّا في الأحكام الظاهرية فالتفكيك- كما قدّمنا- غير عزيز. هذا مع ما في التعليل المذكور في كلامهما من الضعف والترجيح من غير مرجّح.

ثمّ إنّ للمسألة فروعاً اخر تحقيقها خارج عن المقام، وقد حقّقها الأصحاب في باب القضاء وغيره، فليلاحظ.


1- حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 1: 74 ..

ص: 419

أقسام الاحتياط

(مسألة 34): الاحتياط المطلق في مقام الفتوى؛ من غير سبق فتوى على خلافه أو لحوقها كذلك، لا يجوز تركه، بل يجب إمّا العمل بالاحتياط أو الرجوع إلى الغير؛ الأعلم فالأعلم. وأمّا إذا كان الاحتياط في الرسائل العملية مسبوقاً بالفتوى على خلافه؛ كما لو قال بعد الفتوى في المسألة: وإن كان الأحوط كذا، أو ملحوقاً بالفتوى على خلافه؛ كأن يقول: الأحوط كذا وإن كان الحكم كذا، أو وإن كان الأقوى كذا، أو كان مقروناً بما يظهر منه الاستحباب؛ كأن يقول: الأولى والأحوط كذا، جاز في الموارد الثلاثة ترك الاحتياط (1).

أقسام الاحتياط

1- المعروف بين المتأخّرين من أعيان الفقه- ومنهم الماتن المعظّم- هو تقسيم الاحتياط المذكور في الرسائل العملية إلى قسمين:

واجب: ويعبّر عنه بالاحتياط المطلق، وهو الذي لم يكن مسبوقاً ولا ملحوقاً بالفتوى، ولا مقروناً بما يدلّ على الاستحباب.

ومستحبّ: وهو عكس المطلق؛ أي ما كان مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوى أو مقروناً بما يدلّ على الاستحباب.

ص: 420

ولعلّ أوّل من جعل هذا الاصطلاح هو صاحب «الجواهر»(1)، ثمّ شاع وذاع بين المتأخّرين. وكيف كان فهم قد ذكروا لكلّ واحد منهما أحكاماً، فقالوا:

إنّ الاحتياط الواجب ما لا يجوز تركه إلّاإلى بدل كما هو شأن كلّ واجب تخييري؛ إذ مع فرض عدم الاجتهاد ينحصر طريق الخروج عن عهدة التكليف- المعلوم بالإجمال- عقلًا في الاحتياط والتقليد، فلو ترك الاحتياط ولم يرجع إلى المجتهد المفتي في المسألة فقد ترك مقتضى العلم الإجمالي من التنجيز عليه.

فلابدّ للعامّي على نحو التخيير: أمّا من العمل بالاحتياط، أو الرجوع إلى غير مرجعه ممّن له فتوى في المسألة، مع رعاية الأعلم فالأعلم بناءً على وجوب تقليد الأعلم. والوجه في ذلك:

أمّا جواز العمل بالاحتياط: فلأنّ المفروض هو جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي- الحاصل بالاحتياط- مع التمكّن من الامتثال التفصيلي الحاصل من التقليد أو الاجتهاد.

وحيث إنّ السيّد الماتن- كالسيّد اليزدي وكثير من الأعلام- قائل بالاجتزاء بالامتثال الإجمالي الاحتياطي حتّى مع التمكّن من الامتثال التفصيلي الظنّي، أفتى بالتخيير على الإطلاق، ولذا لا يرد عليه ما أورده السيّد الحكيم على صاحب «العروة» من أنّ الحكم بالتخيير لا يتمّ على إطلاقه(2).

نعم من يرى- كالمحقّق النائيني(3)- الترتّب والطولية بين الطرق الموجبة للخروج عن عهدة التكليف، لابدّ له في الحكم بالتخيير من التفصيل بين صورة


1- مجمع الرسائل: 11 و 22 و 24 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 100- 101 ..
3- فوائد الاصول 3: 69- 74 ..

ص: 421

التمكّن من التقليد وعدم التمكّن منه. إلّاأنّه قد تقدّم الكلام في إجزاء الاحتياط وعدم الطولية في مستند المقدّمة والمسألة الاولى.

وأمّا جواز الرجوع إلى غير ذلك المرجع مع رعاية الأعلم فالأعلم: فلأنّ المانع من الأخذ بقول غيره إنّما هو وجود فتواه في المسألة أو تحقّق التقليد عنه فيها، وحيث إنّه لا فتوى للأعلم والمقلَّد فيها فيجوز الأخذ بقول غيره؛ لوجود المقتضي لحجّية رأيه- وهو أدلّة التقليد عن الفقيه- وعدم المانع، وقد تقدّم ذلك في مستند المسألة الحادية عشرة أيضاً.

وأمّا الاحتياط المستحبّ: فيجوز تركه لمكان استحبابه، ولا يجوز في مورده الرجوع إلى غير مقلَّده؛ إذ المفروض أنّ للمقلَّد فتوى في المسألة، ومعها لا يجوز الرجوع إلى غيره؛ لوجود المانع عن ذلك، فللمقلّد في المقام أن يعمل بالاحتياط الاستحبابي، وله أن يتركه ويكتفي بالفتوى فقط، هذا.

ولكن هاهنا كلام لجملة من الأعلام- لعلّ الأصل فيه هو كلام الشيخ الأعظم(1)-: وهو أنّ للاحتياط قسماً ثالثاً يتعيّن العمل به ولا يجوز الرجوع فيه إلى غير مقلَّده، يسمّونه بالاحتياط الواجب قبال المطلق، ويعدّونه فتوى بوجوب الاحتياط، وهو من سنخ الفتوى لا الاحتياط الوجوبي في حكم المسألة.

وحصيلة ما أفادوه في ذلك هو: أنّ ما يذكره الفقيه من الاحتياط:

تارةً: يكون مستنده عدم العلم بالحكم الواقعي مع كون الشبهة قبل الفحص التامّ وقبل التحقّق والتأمّل الكاملين حول أدلّة المسألة، ولذلك يحتاط فيها، ولكنّه في نفس الوقت لا يخطّئ غيره في فتواه، وهذا هو الاحتياط المطلق الذي يتخيّر


1- يلاحظ: رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 87؛ بحوث في الاصول، الاجتهاد والتقليد: 169 ..

ص: 422

المكلّف فيه بين العمل به وبين الرجوع في مورده إلى غير مقلَّده.

واخرى: يكون مستند الاحتياط العلم والجزم- الحاصل بعد الفحص والتأمّل- بعدم تمامية الأدلّة؛ بحيث يعتقد أنّ من أفتى مستنداً إلى هذه الأدلّة فهو على خطأ، ولذا فهو يفتي بوجوب الاحتياط.

وهذا الاحتياط يتعيّن العمل به ولا يجوز في مورده الرجوع إلى غير مقلَّده؛ لأنّه بعد الفتوى بالحكم الظاهري ووجوب الاحتياط والاعتقاد بخطأ غيره، لا وجه للترخيص في الرجوع إلى غيره الموجب لترك الاحتياط.

وجواز الرجوع إلى الغير إنّما هو في صورة عدم إفتاء المقلَّد وعدم تخطئته غيره في الفتوى، ومع الإفتاء بوجوب الاحتياط بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل التامّ- وتخطئة من أفتى بمقتضى الأدلّة غير التامّة عنده- لا موجب للرجوع إلى غيره(1).

ويمكن أن يقال: إنّ غاية ما يحصل للأعلم والمقلَّد بعد الفحص التامّ عن الدليل على الحكم هو: أمّا عدم ظفره بالدليل أو عدم تمامية دلالة الدليل، وشي ء منهما لا يوجب جزمه بخطأ غيره في الفتوى؛ إذ حاصل اجتهاده وجهده هو عدم الظفر لا الظفر بالعدم، وعدم فهم دلالة الدليل لا فهم عدم دلالته، وذلك لا يوجب العلم بخطأ الآخر.

إذ في المثال المذكور في كلام هؤلاء الأعيان- وهو قاصد الأربعة من غير قصد


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 145 و 346؛ تفصيل الشريعة، الاجتهاد والتقليد: 142 و 298؛ تحرير العروة، السيّد مصطفى الخميني: 30. وهو الظاهر من حاشية المحقّق الخراساني على الرسالة العملية لصاحب الجواهر؛ راجع: مجمع الرسائل: 11 ..

ص: 423

الرجوع في يومه- بعد ملاحظة الأخبار المتعارضة وعدم تمامية شي ء منها على القصر أو التمام يفتي بالجمع احتياطاً؛ حيث لم يفهم من الأخبار خصوص القصر أو التمام، وأمّا تخطئة غيره في فتياه- وأنّ كلّ من قال بغير ذلك فهو على خطأ وفتواه باطلة- فلا وجه له.

نعم، كلّما خطّأ الأعلم غيره في فتياه لا يجوز له الترخيص في الرجوع إليه، ولكنّ الكلام كلّ الكلام في ذلك، وأ نّى لهم بذلك؟!

فعلى هذا يتمّ إطلاق ما في كلام الماتن وغيره من الأعلام: من القول بالتخيير في الاحتياط المطلق بين العمل به وبين الرجوع إلى غير مقلَّده، من غير فرق بين الاحتياطات المذكورة قبل الفحص وبعده.

والسرّ في ذلك كلّه: هو أنّ الاحتياط لا يعدّ فتوى، والعمل به لا يعدّ تقليداً، فالرجوع في مورده إلى غير المقلّد ليس ممنوعاً حتّى بعد العمل به.

ولذا فإنّ أرباب الفتوى- القائلين بتعيّن تقليد الأعلم وبمنع العدول- أجازوا الرجوع إلى غيره في الاحتياطات المطلقة مطلقاً.

هذا وقد تقدّم في مستند المسألة الحادية عشرة ما ينفع في المقام، فراجع وتأمّل.

ص: 424

ص: 425

مصادر التحقيق

مصادر التحقيق

1- أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبوالقاسم الخوئي (1317- 1413)، قم، مكتبة المصطفوي.

2- الاجتهاد والتقليد. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1418.

3- الاجتهاد والتقليد. السيّد رضا الصدر، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1420 ق.

4- الاحتجاج على أهل اللجاج. أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (القرن السادس)، قم، منشورات اسوة، 1413.

5- الإحكام في اصول الأحكام. سيف الدين الآمدي علي بن سالم (551- 631)، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتاب العربي، 1406.

6- اختيار معرفة الرجال «رجال الكشي». أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460)، مشهد المقدّسة، جامعة مشهد، 1348 ش.

7- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم الاصول. محمد بن علي الشوكاني (1173- 1250)، قاهره، دارالسلام.

8- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (385- 460)، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390.

9- الاستصحاب. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1417.

ص: 426

10- استفتاءات. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، الطبعة الثالثة، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1375.

11- إصباح الشيعة بمصباح الشريعة. قطب الدين محمّد بن الحسين الكيدري، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1416.

12- إعلام الموقعين عن ربّ العالمين. شمس الدين أبو عبداللَّه محمد بن أبوبكر المعروف بابن قيّم جوزية (691- 751)، قاهره، مكتبة مصر، 1999 م.

13- الأمالي. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (385- 460)، قم، دار الثقافة، 1414.

14- الأمالي. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسن القمي الشيخ الصدوق (م 381)، الطبعة الخامسة، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1400.

15- إيضاح الفوائد في شرح القواعد. فخر المحقّقين الشيخ أبو طالب محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي، قم، المطبعة العلمية، 1387.

16- أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1414.

17- بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمة الأطهار. العلّامة محمّدباقر بن محمّدتقي المجلسي (1037- 1110)، الطبعة الثالثة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403.

18- بحر الفوائد في شرح الفرائد. العلّامة ميرزا محمّدحسن الآشتياني، الطبعة الحجرية، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1403.

19- البحر المحيط. أبو حيّان أثير الدين أبي عبداللَّه محمّد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان (654- 754)، الطبعة الثانية، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1411.

20- بحوث في الاصول. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (م 1361)، الطبعة الثانية، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1416.

21- البرهان في تفسير القرآن. السيّد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبدالجواد الحسيني البحراني (م 1107)، الطبعة الثانية، قم، دار الكتب العلمية، 1393.

ص: 427

22- البيع. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1421.

23- تحرير العروة الوثقى. السيّد مصطفى الخميني رحمه الله، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1418.

24- تحرير الوسيلة. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1420.

25- تذكرة الفقهاء. جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر، العلّامة الحلّي (648- 726)، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414.

26- تذكرة الفقهاء. جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر، العلّامة الحلّي (648- 726)، طهران، الاوفست عن الطبعة الحجرية، 1388.

27- التعادل والترجيح. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1417.

28- تفسير نور الثقلين. الشيخ عبدعلي بن جمعة العروسي الحويزي (م 1112)، قم، دار الكتب العلمية.

29- تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة «الاجتهاد والتقليد». المحقّق الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني، الطبعة الاولى، قم، مطبعة مهر، 1399.

30- تنقيح الاصول (تقريرات الإمام الخميني قدس سره). حسين التقوي الاشتهاردي، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1418.

31- تنقيح المقال في علم الرجال. الشيخ عبداللَّه بن محمّدحسن المامقاني (1290- 1351)، الطبعة الثانية، قم، «بالاوفست عن الطبعة النجف الأشرف»، المطبعة المرتضوية، 1352.

32- التنقيح في شرح العروة الوثقى. السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئي (1317- 1413)، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1418.

33- تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن الشيخ الطوسي (385- 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1364 ش.

ص: 428

34- تهذيب الاصول (تقريرات الإمام الخميني قدس سره). بقلم الشيخ جعفر السبحاني التبريزي، قم، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1424.

35- جامع أحاديث الشيعة. آية اللَّه العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي (1291- 1380)، قم، مطبعة مهر، 1371 ش.

36- جامع الرواة وإزاحة الاشتباهات عن الطرق والأسناد. محمّد بن علي الأردبيلي (م 1101)، بيروت، دار الأضواء، 1403.

37- جامع المقاصد في شرح القواعد. المحقّق الثاني علي بن الحسين بن عبدالعالى الكركي (868- 940)، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1408- 1411.

38- الجامع لأحكام القرآن. أبو عبداللَّه محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي (م 671)، تحقيق أحمد عبدالعليم البردوني، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

39- جمل العلم والعمل ضمن «رسائل الشريف المرتضى». أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى، قم، منشورات دار القرآن الكريم، 1405.

40- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام. الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفي (م 1266)، إعداد عدّة من الفضلاء، الطبعة السادسة، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1398.

41- حاشية المكاسب. الشيخ محمّدحسين الغروي الأصفهاني (م 1361)، تحقيق الشيخ عباس محمّد آل سباع، الطبعة الاولى، قم، أنوار الهدى، 1418.

42- حياة المحقّق الكركي وآثاره. الشيخ علي بن الحسين بن عبدالعالي الكركي (م 940)، تحقيق الشيخ محمّد الحسّون، طهران، منشورات الاحتجاج، الطبعة الاولى، 1423.

43- الخصال. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1403.

44- الخلاف. أبو جعفر محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1407.

45- الخلل في الصلاة. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1420.

ص: 429

46- دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية. الشيخ حسينعلي المنتظري، الطبعة الثانية، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1409.

47- الدرّ النضيد. الشيخ محمّدحسن المرتضوي اللنگرودي، قم، المطبعة العلمية، 1412.

48- دُرر الفوائد. الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي (1276- 1355)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1408.

49- الدروس الشرعية في فقه الإمامية. الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكي العاملي (م 786)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1414.

50- دروس في فقه الشيعة (تقريرات الإمام الخوئي رحمه الله). السيّد محمّدمهدي الخلخالي، طهران، مطبعة پيام، 1396.

51- ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد. محمّد باقر السبزواري (1017- 1090)، قم، الطبعة الحجرية، مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

52- الذريعة إلى اصول الشريعة. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، الشريف المرتضى (355- 436)، تحقيق أبو القاسم گرجي، الطبعة الاولى، طهران، جامعة طهران، 1348 ش.

53- ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة. الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكي العاملي (م 786)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414.

54- رجال العلّامة «خلاصة الأقوال في معرفة الرجال». العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726)، قم، منشورات الرضي، 1402.

55- رسائل الشريف المرتضى. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355- 436)، قم، دار القرآن الكريم، 1405.

56- رسائل فقهية ضمن «تراث الشيخ الأعظم». الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214- 1281)، المطبعة الاولى، قم، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، 1414.

57- رساله توضيح المسائل. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1378 ش.

ص: 430

58- الرعاية في علم الدراية. الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911- 965)، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1408.

59- روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان. الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911- 965)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

60- روضة المتقين في شرح أخبار الأئمة المعصومين. العلّامة المولى محمّد تقي المجلسي (1003- 1070)، مؤسسة الثقافة الإسلامي لكوشانپور، 1393- 1399.

61- روضة الناظر وجنّة المناظر. عبداللَّه بن أحمد بن قدامة المقدسي، الطبعة الاولى، المكتبة الفيصلية بالاوفست من دار الحديث بمصر.

62- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي. أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (م 598)، الطبعة الثانية، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410- 1411.

63- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602- 676)، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1409.

64- شرح اصول الكافي. صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي، صدر المتألهين، الطبعة الاولى، طهران، مؤسسة مطالعات و تحقيقات فرهنگى، 1366 ش.

65- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب. عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالغفار، تصحيح أحمد رافر الشهير بشهري المدرس، 1307.

66- شرح تحرير وسيلة النجاة. الشيخ أحمد سبط الشيخ الأنصاري، الطبعة الاولى، قم، المطبعة العلمية، 1412.

67- شرح چهل حديث. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1372 ش.

68- الصحاح. إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393)، تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار، الطبعة الثانية، بيروت، دار العلم للملايين، 1399.

69- الطهارة (تقريرات الإمام الخميني قدس سره). الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1421.

ص: 431

70- عدّة الاصول (العدّة في اصول الفقه). شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385- 460)، تحقيق محمّدرضا الأنصاري القمي، الطبعة الاولى، قم، المطبعة ستارة، 1417.

71- العروة الوثقى. السيّد محمّدكاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337) مع تعاليق الإمام الخميني، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1422.

72- العروة الوثقى. السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337)، مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1417.

73- عيون أخبار الرضا عليه السلام. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الشيخ الصدوق (م 381)، تصحيح السيّد مهدي الحسيني اللاجوردي، الطبعة الثانية، منشورات جهان.

74- غنية النزوع إلى علم الاصول والفروع. السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (511- 585)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1417.

75- فرائد الاصول ضمن «تراث الشيخ الأعظم». الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214- 1281)، الطبعة الاولى، قم، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، 1414.

76- الفصول الغروية في الاصول الفقهية. محمّدحسين بن عبدالرحيم الأصفهاني (م 1250)، الطبعة الحجرية.

77- الفقه الإسلامي وأدلّته. الدكتور وهبة الزحيلي، الطبعة الثالثة، دمشق، دار الفكر، 1409.

78- الفقه. سيّد محمّد حسيني الشيرازي (1347- 1422)، بيروت، دارالعلوم، 1987 م.

79- الفقيه «كتاب من لا يحضره الفقيه». أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق علي أكبر الغفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390.

80- فوائد الاصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّدعلي الكاظمي (1309- 1365)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1414.

81- الفوائد الحائرية. الوحيد البهبهاني محمّدباقر بن محمّد أكمل، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1415.

ص: 432

82- قواعد الأحكام في مسائل الحلال والحرام. العلّامة الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي (648- 726)، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1413.

83- قواطع الأدلّة في الاصول. أبو المظفر منصور بن محمّد بن عبدالجبار السمعاني (426- 489)، بيروت، دارالكتب العلمية، 1997 م.

84- قوانين الاصول. المحقّق ميرزا أبوالقاسم القمي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمي (1151- 1231)، الطبعة الحجرية، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378.

85- الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)، تحقيق علي أكبر الغفاري، الطبعة الثالثة، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1388.

86- الكافي في الفقه. تقي الدين بن نجم أبو الصلاح الحلبي (374- 447)، تحقيق رضا الاستادي، أصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، 1403.

87- كتاب البيع. شيخ الفقهاء والمجتهدين محمّدعلي الأراكي، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1415.

88- كشف القناع عن وجوه حجّية الإجماع. المحقّق الشيخ أسد اللَّه التستري، مؤسسة آل البيت الاوفست عن الطبعة الحجرية.

89- كشف عن كتاب قواعد الأحكام. الفاضل الهندي بهاء الدين محمّد بن حسن بن محمّد الأصفهاني (1062- 1135)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1416.

90- كفاية الاصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255- 1329)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

91- كنز العرفان في فقه القرآن. الشيخ جمال الدين المقداد بن عبداللَّه السيوري (م 826)، طهران، المكتبة الرضوية، 1384.

92- لسان العرب. أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور المصري (م 711)، بيروت، دار صادر، بالاوفست عن طبعة البولاق بمصر.

93- اللمع في اصول الفقه. أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (م 476)، بيروت، عالم الكتب.

94- مبادي الوصول إلى علم الاصول. العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر (648

ص: 433

- 726)، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404.

95- المبسوط. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460)، طهران، المكتبة المرتضوية، 1387- 1393.

96- مجمع البحرين ومطلع النيّرين. فخر الدين الطريحي (972- 1087)، بيروت، مكتبة الهلال، 1985 م.

97- مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان. أحمد بن محمّد المحقّق الأردبيلي (م 993)، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1402- 1414.

98- المجموع شرح المهذّب. أبو زكريّا يحيى بن شرف النووي الشافعي (م 676)، بيروت، دار الفكر.

99- مجموعة رسائل فقهية واصولية. الشيخ الأعظم الأنصاري، السيّد المجدّد الشيرازي، الشيخ الشهيد النوري، الشيخ الكلانتر الطهراني، الطبعة الاولى، قم، مكتبة المفيد، 1404.

100- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة. العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726)، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1412- 1418.

101- مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام. السيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي (م 1009)، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1410.

102- مدارك العروة الوثقى. الشيخ على پناه الاشتهاردي، الطبعة الاولى، قم، دار الاسوة، 1417.

103- المراسم في فقه الإمامي. حمزة بن عبدالعزيز الديلمي الملقّب بسلّار (م 463)، قم، منشورات حرمين، 1404.

104- مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام. زين الدين بن علي العاملي الجبعي المعروف بالشهيد الثاني (911- 965)، قم، مؤسسة المعارف الإسلامي، 1418.

105- المستصفى من علم الاصول. أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي، قم، انتشارات دار الذخائر، بالاوفست من المطبعة الأميرية ببولاق مصر، 1368 ش.

106- مستمسك العروة الوثقى. السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (1306- 1390)، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1416.

107- مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع. العلّامة المجدّد المولى محمّد باقر الوحيد البهبهاني

ص: 434

(1117- 1205)، تحقيق مؤسسة العلّامة المجدّد الوحيد البهبهاني رحمه الله، 1424.

108- مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري). الشيخ أبوالقاسم الكلانتري (1236- 1316)، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، قم، الطبعة الاولى، 1425.

109- معارج الاصول. المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602- 676)، إعداد السيّد محمّدحسين الرضوي، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1403.

110- معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاصول». أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959- 1011)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1416.

111- معاني الأخبار. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1361.

112- المعتبر في شرح المختصر. المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602- 676)، قم، مؤسسة سيّد الشهداء عليه السلام، 1364 ش.

113- معتمد الاصول (تقريرات الإمام الخميني قدس سره). الشيخ محمد الفاضل اللنكراني، الطبعة الاولى، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1420.

114- معجم رجال الحديث و تفصيل طبقات الرواة. السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئي (1317- 1413)، قم، منشورات مدينة العلم، 1403.

115- مفاتيح الاصول. السيّد محمّد الطباطبائي (1180- 1242)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، بالاوفست عن الطبعة الحجرية.

116- مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة. السيّد محمّدجواد بن محمّد الحسيني العاملي (م حدوداً 1226)، تحقيق الشيخ محمّدباقر الخالصي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1423.

117- المفردات في غريب القرآن. حسين بن محمّد المفضّل الراغب الأصفهاني (م 502)، طهران، المكتبة المرتضوية.

118- المقاصد العلّية في شرح الرسالة الألفية. الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911- 965)، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1420.

ص: 435

119- مقالات الاصول. الشيخ ضياء الدين العراقي (1278- 1361)، تحقيق الشيخ مجتبى المحمودي والسيّد منذر الحكيم، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة مجمع الفكر الإسلامي، 1420.

120- المقنع. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، قم، مؤسسة الإمام الهادي عليه السلام، 1415.

121- المقنعة. أبو عبداللَّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410.

122- المكاسب ضمن «تراث الشيخ الأعظم». الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214- 1281)، الطبعة الاولى، قم، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، 1414.

123- مناهج الأحكام والاصول. المحقّق الفاضل النراقي، الطبع الحجري، المكتبة آية اللَّه المرعشي النجفي.

124- مناهج الوصول إلى علم الاصول. الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1414.

125- المنجد. اشترك في تأليفه عدّة من المحقّقين، بيروت، دار المشرق.

126- منهاج الصالحين. السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئي (1317- 1413)، نشر مدينة العلم، 1410.

127- منهاج الصالحين. السيّد محسن الطباطبائي الحكيم، وبهامشه التعليق السيّد محمّدباقر الصدر، الطبعة الثانية، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1396.

128- مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام. السيّد عبدالأعلى الموسوي السبزواري، الطبعة الرابعة، قم، مؤسسة المنار، 1413.

129- المهذّب البارع في شرح المختصر النافع. العلّامة أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي (757- 841)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1411.

130- نهاية التقرير (تقريرات المحقّق البروجردي)، بقلم محمّد الموحّدي الفاضل.

131- نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (م 1361)، تحقيق مؤسسة آل

ص: 436

البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414.

132- نهاية الوصول إلى علم الاصول. العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726)، الاوفست عن الطبعة الحجرية.

133- النهاية. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460)، قم، منشورات قدس.

134- نهج البلاغة. من كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام جمعه الشريف الرضي، محمّد بن الحسين (359- 406)، الدكتور صبحي الصالح، قم، دار الهجرة، 1395.

135- الوافية في اصول الفقه. المولى عبداللَّه بن محمّد البُشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني (م 1071)، تحقيق السيّد محمّدحسين الرضوي الكشميري، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1412.

136- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033- 1104)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، 1409.

137- وسيلة النجاة مع تعاليق الإمام الخميني قدس سره. السيّد أبوالحسن الأصفهاني، الطبعة الاولى، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1422.

138- هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. محمّدتقي الأصفهاني، الطبعة الحجرية، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

مستند تحرير الوسيلة (مصطفى خمينى)

مستند تحرير الوسيلة (مصطفى خمينى)

الجزء الأول

كتاب الطهارة ..... ص : 1

فصل في المياه ..... ص : 5

تقسيم المياه إلى المطلق و المضاف ..... ص : 5

و المطلق أقسام ..... ص : 8

مسألة 1: الماء المضاف ..... ص : 11

مسألة 2: الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن الإطلاق ..... ص : 24

مسألة 3: إذا شك في مائع أنه مطلق أو مضاف ..... ص : 25

مسألة 4: الماء المطلق بجميع أقسامه، يتنجس فيما إذا تغير ..... ص : 28

مسألة 5: المعتبر تأثر الماء بأوصاف النجاسة، لا المتنجس ..... ص : 32

مسألة 6: المناط تغير أحد الأوصاف الثلاثة ..... ص : 33

مسألة 7: لو وقع في الماء المعتصم، متنجس حامل لوصف النجس ..... ص : 36

مسألة 8: الماء الجاري ..... ص : 38

مسألة 9: الراكد المتصل بالجاري حكمه حكم الجاري ..... ص : 49

مسألة 10: يطهر الجاري و ما في حكمه ..... ص : 50

مسألة 11: الراكد بلا مادة ينجس بملاقاة النجاسة ..... ص : 53

مسألة 12: إذا كان الماء قليلا، و شك في أن له مادة أم لا ..... ص : 61

مسألة 13: الراكد إذا بلغ كرا ..... ص : 64

مسألة 14: للكر تقديران ..... ص : 66

مسألة 15: الماء المشكوك كريته إن علم حالته السابقة، يبني على تلك الحالة ..... ص : 77

مسألة 16: إذا كان الماء قليلا فصار كرا ..... ص : 81

مسألة 17: ماء المطر حال نزوله من السماء كالجاري ..... ص : 89

مسألة 18: المراد ب«ماء المطر» الذي لا يتنجس إلا بالتغير؛ القطرات النازلة ..... ص : 94

مسألة 19: يطهر المطر كل ما أصابه من المتنجسات القابلة للتطهير ..... ص : 97

مسألة 20: الفراش النجس إذا وصل إلى جميعه المطر، و نفذ في جميعه ..... ص : 104

مسألة 21: إذا كان السطح نجسا، فنفذ فيه الماء، و تقاطر من السقف حال نزول المطر ..... ص : 105

مسألة 22: الماء الراكد النجس، يطهر بنزول المطر عليه و امتزاجه به ..... ص : 107

مسألة 23: الماء المستعمل في الوضوء، لا إشكال في كونه طاهرا ..... ص : 108

مسألة 24: الماء المستعمل في رفع الخبث ..... ص : 117

مسألة 25: ماء الاستنجاء ..... ص : 124

مسألة 26: لا يشترط في طهارة ماء الاستنجاء، سبق الماء على اليد ..... ص : 133

مسألة 27: إذا اشتبه نجس بين أطراف محصورة ..... ص : 133

كتاب الصلاة ..... ص : 137

القول في الخلل ..... ص : 137

مسألة 4: من صلى إلى جهة بطريق معتبر، ثم تبين خطأه ..... ص : 139

القول في الخلل الواقع في الصلاة ..... ص : 149

مسألة 1: من أخل بالطهارة من الحدث، بطلت صلاته مع العمد ..... ص : 149

كتاب الصوم ..... ص : 170

القول في النية ..... ص : 171

مسألة 1: يشترط في الصوم النية ..... ص : 171

مسألة 2: يعتبر في القضاء عن الغير نية النيابة ..... ص : 189

مسألة 3: لا يقع(1) في شهر رمضان صوم غيره، واجبا كان أو ندبا ..... ص : 190

مسألة 4: الأقوى أنه لا محل للنية شرعا في الواجب المعين ..... ص : 194

مسألة 5: يوم الشك في أنه من شعبان أو رمضان ..... ص : 212

مسألة 6: لو كان في يوم الشك بانيا على الإفطار ..... ص : 223

مسألة 7: لو صام يوم الشك بنية أنه من شعبان، ثم تناول المفطر نسيانا ..... ص : 226

مسألة 8: كما تجب النية في ابتداء الصوم، تجب الاستدامة عليها في أثنائه ..... ص : 228

القول فيما يجب الإمساك عنه ..... ص : 236

الأول و الثاني: الأكل و الشرب ..... ص : 236

مسألة 2: المدار على صدق الأكل و الشرب و لو كانا على النحو غير المتعارف ..... ص : 243

الثالث: الجماع ..... ص : 244

الرابع: إنزال المني ..... ص : 252

مسألة 3: لا بأس بالاستبراء بالبول أو الخرطات لمن احتلم في النهار ..... ص : 259

السادس: تعمد الكذب على الله تعالى و رسوله ..... ص : 261

مسألة 4: لا فرق بين أن يكون الكذب مجعولا له أو لغيره ..... ص : 269

السابع: رمس الرأس في الماء على الأحوط ..... ص : 269

مسألة 5: لو ارتمس الصائم مغتسلا ..... ص : 276

الثامن: إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق ..... ص : 280

التاسع: الحقنة ..... ص : 287

كتاب المكاسب و المتاجر ..... ص : 289

مقدمة تشتمل على مسائل ..... ص : 291

مسألة 1 حرمة الاكتساب بالأعيان النجسة ..... ص : 291

و يستثنى من ذلك العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه ..... ص : 323

حكم التكسب بالكافر ..... ص : 325

مسألة 2: الأعيان النجسة لا يجوز الاكتساب بها ..... ص : 329

مسألة 3: لا إشكال في جواز بيع ما لا تحله الحياة من أجزاء الميتة، مما كانت له منفعة محللة مقصودة ..... ص : 334

مسألة 4: لا إشكال في جواز بيع الأرواث الطاهرة إذا كانت لها منفعة ..... ص : 337

مسألة 5: لا إشكال في جواز بيع المتنجس الذي يقبل التطهير ..... ص : 340

مسألة 6: لا بأس ببيع الترياق المشتمل على لحوم الأفاعي ..... ص : 342

مسألة 7: يجوز بيع الهرة و يحل ثمنها ..... ص : 344

مسألة 8: يحرم بيع كل ما كان آلة للحرام ..... ص : 347

مسألة 9: الدراهم الخارجة أو المغشوشة، المعمولة لأجل غش الناس، تحرم المعاملة بها ..... ص : 355

مسألة 10: يحرم بيع العنب أو التمر ليعمل خمرا، و الخشب مثلا ليعمل صنما ..... ص : 360

مسألة 11: يحرم بيع السلاح من أعداء الدين ..... ص : 368

مسألة 12: يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان، و الحيوان إذا كانت الصورة مجسمة ..... ص : 374

مسألة 13: الغناء حرام فعله ..... ص : 386

مسألة 14: معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كل محرم، حرام ..... ص : 403

مسألة 15: يحرم حفظ كتب الضلال ..... ص : 411

مسألة 16: عمل السحر و تعليمه و تعلمه و التكسب به حرام ..... ص : 415

مسألة 17: يحرم الغش ..... ص : 432

مسألة 18: يحرم أخذ الأجرة على ما يجب عليه فعله ..... ص : 436

مسألة 19: يكره اتخاذ بيع الصرف ..... ص : 452

مسألة 20: لا ريب أن التكسب و تحصيل المعيشة بالكد و التعب محبوب عند الله تعالى ..... ص : 455

مسألة 21: يجب على كل من يباشر التجارة، و سائر أنواع التكسب، تعلم أحكامها ..... ص : 455

مسألة 22: للتجارة و التكسب آداب مستحبة و مكروهة ..... ص : 461

مسألة 23: يحرم الاحتكار ..... ص : 475

مسألة 24: لا يجوز مع الاختيار الدخول في الولايات، و المناصب، و الأشغال من قبل الجائر ..... ص : 486

مسألة 25: ما تأخذه الحكومة من الضريبة على الأراضي ..... ص : 501

مسألة 26: يجوز لكل أحد أن يتقبل الأراضي الخراجية ..... ص : 514

الجزء الثاني

كتاب البيع ..... ص : 1

القول في الإيجاب و القبول ..... ص : 3

مسألة 1: عقد البيع يحتاج إلى إيجاب و قبول ..... ص : 3

مسألة 2: الظاهر جواز تقديم القبول على الإيجاب ..... ص : 10

مسألة 3: يعتبر الموالاة بين الإيجاب و القبول ..... ص : 12

مسألة 4: يعتبر في العقد التطابق بين الإيجاب و القبول ..... ص : 13

مسألة 5: لو تعذر التلفظ لخرس و نحوه، تقوم الإشارة المفهمة مقامه ..... ص : 17

مسألة 6: الأقوى وقوع البيع بالمعاطاة في الحقير و الخطير ..... ص : 20

مسألة 7: يعتبر في المعاطاة جميع ما يعتبر في البيع بالصيغة ..... ص : 25

مسألة 8: البيع بالصيغة لازم من الطرفين ..... ص : 29

مسألة 9: البيع المعاطاتي ليس قابلا للشرط على الأحوط ..... ص : 31

مسألة 10: هل تجري المعاطاة في سائر المعاملات مطلقا ..... ص : 33

مسألة 11: كما يقع البيع و الشراء بمباشرة المالك، يقع بالتوكيل أو الولاية ..... ص : 34

مسألة 12: لا يجوز على الأحوط تعليق البيع على شي ء غير حاصل حين العقد ..... ص : 36

مسألة 13: لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه ..... ص : 42

القول في شروط البيع ..... ص : 57

الأول: البلوغ ..... ص : 59

الثاني: العقل ..... ص : 75

الثالث: القصد ..... ص : 76

الرابع: الاختيار ..... ص : 78

كتاب الخيارات ..... ص : 81

القول في الخيارات ..... ص : 83

الأول: خيار المجلس ..... ص : 83

الثاني: خيار الحيوان ..... ص : 101

مسألة 1: لو تصرف المشتري في الحيوان تصرفا يدل على الرضا ..... ص : 112

مسألة 2: لو تلف الحيوان في مدة الخيار فهو من مال البائع ..... ص : 117

مسألة 3: العيب الحادث في الثلاثة من غير تفريط من المشتري ..... ص : 120

الثالث: خيار الشرط ..... ص : 122

مسألة 1: يجوز أن يشترط لأحدهما أو لهما الخيار بعد الاستئمار و الاستشارة ..... ص : 128

مسألة 2: لا إشكال في عدم اختصاص خيار الشرط بالبيع ..... ص : 131

مسألة 3: يجوز اشتراط الخيار للبائع ..... ص : 132

مسألة 4: نماء المبيع و منافعه في هذه المدة للمشتري ..... ص : 138

مسألة 5: الثمن المشروط رده إن كان كليا في ذمة البائع ..... ص : 143

مسألة 6: إن لم يقبض البائع الثمن أصلا ..... ص : 144

مسألة 7: كما يتحقق الرد بإيصاله إلى المشتري، يتحقق بإيصاله إلى وكيله المطلق ..... ص : 148

مسألة 8: لو اشترى الولي شيئا للمولى عليه ببيع الخيار ..... ص : 151

مسألة 9: لو مات البائع ينتقل هذا الخيار كسائر الخيارات - إلى وراثه ..... ص : 155

مسألة 10: كما يجوز للبائع اشتراط الخيار له برد الثمن ..... ص : 156

الرابع: خيار الغبن ..... ص : 158

مسألة 1: ليس للمغبون مطالبة الغابن بتفاوت القيمة ..... ص : 164

مسألة 2: الخيار ثابت للمغبون من حين العقد ..... ص : 165

مسألة 3: لو اطلع على الغبن و لم يبادر بالفسخ ..... ص : 169

مسألة 4: المدار في الغبن على القيمة حال العقد ..... ص : 172

مسألة 5: يسقط هذا الخيار بأمور ..... ص : 175

أحدها: اشتراط سقوطه في ضمن العقد ..... ص : 175

ثانيها: إسقاطه بعد العقد و لو قبل ظهور الغبن ..... ص : 179

الثالث: تصرف المغبون بعد العلم بالغبن فيما انتقل إليه ..... ص : 187

مسألة 6: لو فسخ البائع المغبون البيع ..... ص : 194

مسألة 7: بعد فسخ البائع المغبون لو كان المبيع موجودا عند المشتري، لكن تصرف فيه تصرفا مغيرا له ..... ص : 206

مسألة 8: لو باع أو اشترى شيئين صفقة واحدة، و كان مغبونا في أحدهما دون الآخر ..... ص : 227

الخامس: خيار التأخير ..... ص : 229

مسألة 1: الظاهر أن هذا الخيار ليس على الفور ..... ص : 239

مسألة 2: يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في ضمن العقد ..... ص : 240

مسألة 3: المراد ب«ثلاثة أيام» هو بياض اليوم ..... ص : 246

مسألة 4: لا يجري هذا الخيار في غير البيع ..... ص : 248

مسألة 5: لو تلف المبيع كان من مال البائع في الثلاثة، و بعدها على الأقوى ..... ص : 249

مسألة 6: لو باع ما يتسارع إليه الفساد ..... ص : 250

السادس: خيار الرؤية ..... ص : 253

مسألة 1: الخيار هنا بين الرد و الإمساك مجانا ..... ص : 257

مسألة 2: مورد هذا الخيار بيع العين الشخصية الغائبة حين المبايعة ..... ص : 260

مسألة 3: هذا الخيار فوري عند الرؤية على المشهور ..... ص : 263

مسألة 4: يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في ضمن العقد ..... ص : 265

السابع: خيار العيب ..... ص : 270

مسألة 1: يثبت هذا الخيار بمجرد العيب واقعا عند العقد و إن لم يظهر بعد ..... ص : 288

مسألة 2: كما يثبت الخيار بوجود العيب عند العقد، كذلك يثبت بحدوثه بعده قبل القبض ..... ص : 296

مسألة 3: لو كان معيوبا عند العقد، و زال العيب قبل ظهوره ..... ص : 302

مسألة 4: كيفية أخذ الأرش ..... ص : 306

مسألة 5: لو تعارض المقومون في تقويم الصحيح أو المعيب أو كليهما ..... ص : 312

مسألة 6: لو باع شيئين صفقة واحدة، فظهر العيب في أحدهما ..... ص : 314

القول في أحكام الخيار ..... ص : 319

مسألة 1: لا إشكال فيما إذا كان الوارث واحدا، و لو تعدد فالأقوى أن الخيار للمجموع ..... ص : 326

مسألة 2: لو اجتمع الورثة على الفسخ فيما باعه مورثهم ..... ص : 328

كتاب النكاح ..... ص : 331

أحكام الوطء ..... ص : 333

مسألة 11: المشهور الأقوى جواز وطء الزوجة دبرا ..... ص : 333

مسألة 12: لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين ..... ص : 339

مسألة 13: لا يجوز ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر ..... ص : 362

مسألة 14: لا إشكال في جواز العزل ..... ص : 370

أحكام النظر ..... ص : 378

مسألة 15: يجوز لكل من الزوج و الزوجة النظر إلى جسد الآخر ..... ص : 378

مسألة 16: لا إشكال في جواز نظر الرجل إلى ما عدا العورة من مماثله ..... ص : 381

مسألة 17: يجوز الرجل أن ينظر إلى جسد محارمه، ما عدا العورة ..... ص : 384

مسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلى ما عدا الوجه و الكفين؛ من المرأة الأجنبية ..... ص : 389

مسألة 19: لا يجوز للمرأة النظر إلى الأجنبي كالعكس ..... ص : 401

مسألة 20: كل من يحرم النظر إليه يحرم مسه ..... ص : 404

مسألة 21: لا يجوز النظر إلى العضو المبان من الأجنبي و الأجنبية ..... ص : 409

مسألة 22: يستثنى من حرمة النظر و اللمس في الأجنبي و الأجنبية، مقام المعالجة ..... ص : 414

مسألة 23: كما يحرم على الرجل النظر إلى الأجنبية، يجب عليها التستر من الأجانب ..... ص : 420

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.