مفتاح الهداية في شرح تحريرالوسيلة: كتاب القضاء

اشارة

سرشناسه : مقتدايي، مرتضي، 1314 -

عنوان قراردادي : تحرير الوسيله . برگزيده. شرح

عنوان و نام پديدآور : مفتاح الهداية في شرح تحريرالوسيلة: كتاب القضاء/ تاليف مرتضي المقتدائي.

مشخصات نشر : تهران : موسسة تنظيم و نشر تراث الامام الخميني(س)، موسسةالعروج، 1392.

مشخصات ظاهري : ه_، 675 ص.

شابك : 300000 ريال:978-964-2123-33-9

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه: ص. (655)- 664؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368 . تحرير الوسيله -- نقد و تفسير

موضوع : فقه جعفري -- رساله عمليه

موضوع : قضاوت (فقه)

شناسه افزوده : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368 . تحرير الوسيله. برگزيده. شرح

شناسه افزوده : موسسه چاپ و نشر عروج

رده بندي كنگره : BP183/9/خ8ت30237746 1392

رده بندي ديويي : 297/3422

شماره كتابشناسي ملي : 3310314

ص: 1

مقدّمة الناشر

- أ-

إنّ الكتب المعدّة لبيان الفتاوى من جانب فقهائنا وإن كانت كثيرة من الصدر الأوّل إلى يومنا هذا، لكن من المعلوم أنّها ليست في مرتبة واحدة في صيرورتها محلًا للاعتناء التامّ ومركزاً للتوجّه العامّ من جانب الفقهاء والباحثين في أبحاثهم الدراسية والاستدلالية ونشاطاتهم التعليمية والفقهية؛ فإنّ قليلًا منها قد حاز هذه الرتبة وصار مداراً للشروح والتعاليق من جانب فقهاء آخرين.

وذلك مثل «شرائع الإسلام» و «قواعد الأحكام» في القرون الماضية و «العروة الوثقى» و «وسيلة النجاة» في القرن الأخير؛ فإنّ هذه الكتب قد أصبحت محوراً للشروح والتعاليق بما لا يعدّ ولا يحصى.

هذا، و «تحرير الوسيلة» بالرغم من أنّه لايصل تأريخ كتابته إلى نصف قرن، قد أقبل إليه كثير من الفقهاء في أبحاثهم الفقهية، فجعلوه متناً لدراساتهم العليا وشروحهم الاستدلالية وتعاليقهم الفقهية والحمد لله.

ثمّ إنّ الإمام الخميني (س) قد علّق أوّلًا على «وسيلة النجاة» للفقيه آية الله السيّد أبوالحسن الأصفهاني (قدس سره) على النهج المعروف بين الفقهاء، ثمّ أخذ في إدخال هذه التعاليق في متن الكتاب عند ما نفى إلى تركيا، وأكمل ذلك في

- ب-

منفاه الثاني وهو النجف الأشرف وسمّاه ب- «تحرير الوسيلة»، لكن أضاف إليه بعض الأبحاث التي لم تكن في ذلك، فأصبح بحمد الله كتاباً حافلًا لكلّ أبواب الفقه المحتاج إليها الآن من الطهارة إلى الديات بما فيها كثير من المسائل المستجدّة التي أضافها إليه في الصفحات الأخيرة منه، حتّى يكون الكتاب شاهداً لشمولية الفقه لحياة الإنسان بكلّ أبعادها، ودليلًا للاتّجاه الحيّ والفعّال لفقه الشيعة وفقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) إلى المسائل المستجدّة والمواضيع الحديثة في حياة الإنسان ومجتمعه.

ثمّ إنّ مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (س) قد قامت لحدّ الآن بإعداد كثير من الشروح والتعاليق التي ألّفها الفقهاء والمجتهدون على «تحرير الوسيلة» ونشرها، حيث إنّ هذه المؤسّسة تعتبر هذا الأمر خطوة كبيرة وأساسية في العمل لفقه الشيعة والاهتمام به وكذا في توسعة المباني الفقهية والاجتهادية للإمام الخميني (س) وتثبيتها.

«مفتاح الهداية في شرح تحرير الوسيلة» أحد هذه الشروح الاستدلالية وهي لم تتمّ بعد، وما نقدّمه إليكم الآن هو الشرح على كتاب القضاء وقد قام بتأليفه الفاضل المحقّق سماحة آية الله الشيخ مرتضى المقتدائي، والمؤسّسة تأمّل وترجو من الله تبارك وتعالى أن يوفقه لاستمرار العمل وإكمال الشرح والحمد لله.

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (س)

فرع قم المقدّسة- قسم البحوث

- ج-

مقدّمة المؤلّف

الحمد لله الذي جعل الحمد شكراً لنعمائه، والصلاة على محمّد وآله وسيلة للنيل إلى محبّة الرسول وآله.

وبعد، كنت افكّر في سالف الزمان أن آخذ ذريعة لأتوصّل بها إلى التوفيق في نشر الفقه الإمامي. وبما أنّي تلمّذت أيّامي الدراسية عند الفقهاء والمجتهدين خاصّة فقيه المتألّه والاصولي الكامل ووحيد الدهر الإمام الخميني (س) ويا حيف! بعد قليل من فيوضاته، في قم المقدّسة؛ أبعده جور الزمان وفتن السلطان الجائر عن امّته الإيرانية. ولكن ابتلائه بالبلاء صار سبباً لفوائد كثيرة للُامّة الإسلامية في كافّة أقطار العالم خاصّة العالم الإسلامي؛ في توفيقه لقيادة الثورة الإسلامية في إيران. ومن جملتها أيضاً أن سمحه الفرصة إلى إدخال حواشيه على «وسيلة النجاة» منضمّاً إلى المتن كفتاواه في الفقه الإمامية، التي سمّاها ب- «تحرير الوسيلة» حيث حرّرها على نهج «وسيلة النجاة» للسيّد الأصفهاني (ره) وفي منفى في تركيا.

وإنّي بحمد الله بعد أن استقرّت الحكومة الإسلامية في إيران بيده الشريف

- د-

وفّقني الله أن أكون أحد الأشخاص الذين أدّوا وظيفتهم تحت راية الجمهورية الإسلامية في الدولة الكريمة وذلك كانت في الامور القضائية وفصل الخصومة بين الناس وبما أنّي كنت في بعض الأزمان من سنوات خدمتي في مصادر القوّة القضائية وأخذت أسفاراً حقوقية وقضائية إلى أنحاء البلاد- من الإسلامية وغيرهم- طيلة أكثر من عشرين سنة وباحثت فنّياً مع العلماء وخبراء القضاء والأخصّائيين في البلاد الإسلامية وغيرها. وذلك كانت ببركة ما اذخرته عند أساتذتي الفقهاء في حلقات الدروس الخارج في الحوزات العلمية. ولهذا صممت أن احرّر بحوثاً تطبيقية في الفقه خاصّة الفقه القضائي ورأيت كتاب «تحرير الوسيلة» الذي ألّفها سيّدنا الاستاذ، قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخميني (س) كتاباً جامعاً يليق للشرح عليه وجعلته متناً لحلقة درس الخارج في الفقه في الحوزة العلمية في قم المقدّسة وألقيتها على كثير من الفضلاء. وفي نفس الزمان كتبت شرحاً كاملًا على بعض الكتب من ذلك الكتاب.

وما بأيديكم كتحفة قليلة نفيسة ثمينة قيمة من سلسلة كتب الفقهية التي سمّيتها: ب- «مفتاح الهداية في شرح تحرير الوسيلة». وإلى الآن بحمد الله تمّ شرح كتاب القضاء، والشهادات، والحدود، والقصاص، وإلقائها الدراسي أيضاً، على كثير من الفضلاء، وفي قليل من الزمان سيتمّ شرح كتاب الديات إن شاء الله.

وهذا المعروض بأيديكم، شرح مبحث القضاء من كتاب «تحرير الوسيلة» وبوسعي حاولت للجمع بين ما فهمت من الحلقات الدراسية لسيّدنا الاستاذ قبل الثورة الإسلامية وأيضاً ما أثبته في كتاب «تحرير الوسيلة»؛ مع ما جربته في سنوات الخدمة في القوّة القضائية في جمهورية إيران الإسلامية وكنت أودّ أن

- ه-

أهدى إلى ساحة فقه الشيعة والأخصّائيين والمشتاقين في تحقيق التفصيلي في فقه الإسلامي من القرّاء الكرام أهمّ تجربتي في سالف الزمان في القضاء وفصل الخصومة. ولذا باحثت بحثاً جامعاً تطبيقياً؛ مع أنّي ربما غيّرت ترتيب البحث في قليل من المسائل مع ما أوردت من المناقشات في بعض من فتاواه الشريفة وأخذت رأياً جديداً. ولكن في كثير من المسائل بعد البحث وطرح المناقشات والدفاع عن الإيرادات وافقت رأيه الشريف.

واللازم عليّ في ختام هذه المقدّمة، هو الشكر لسماحة حجة الاسلام والمسلمين نامدار- دامت تأييداته- حيث أتعب نفسه لتخريج المصادر التكميلية، وفّقه الله لخدمة فقه آل الرسول (عليهم السلام).

وأسئل الله تعالى أن يكون سعيي مقبولًا عنده ومفيداً للفضلاء الباحثين في الفقه الإسلامي إن شاء الله.

مرتضى المقتدائي

ص: 2

كتاب القضاء

اشارة

ص: 3

وهو(1) الحكم بين الناس لرفع التنازع بينهم، بالشرائط الآتية. (1)

[القضاء]

معنى القضاء

(1) «القضاء» بالمدّ و «القضى» بالقصر: مصدراً لفعل «قضى، يقضي، قضاءً وقضياً»(2) و «قضى، يقضي- قضياً، وقضاءً، وقضية»(3). وقد ذكروا في كتب اللغة له معاني متعدّدة، تزيد على العشرة، وعليه شواهد وأمثلة في القرآن وكلمات العرب:

ومنها: الحكم، ويقال: «إنّه المشهور» كقوله تعالى: وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ(4) أي يحكم.

ومنها: الخلق، كقوله تعالى: فَقَضَهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ(5)، أي خلقهنّ.


1- أي القضاء.
2- المنجد، مادّة قضى.
3- المعجم الوسيط.
4- غافر( 40): 20.
5- فصلت( 41): 12.

ص: 4

ومنها: الإتمام، كقوله تعالى: فَإذَا قَضَيْتُمْ مناسِكَكُمْ(1) أي أتممتم.

ومنها: الأمر، كقوله تعالى: وَقَضَي رَبُّكَ ألا تَعْبُدُواْ إلا إيّاهُ(2) أي أمَرَ.

ومنها: الحتم، كقوله تعالى:- في قضية سليمان- فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ(3)، أي حتمنا.

ومنها: الفعل، كقوله تعالى: فَاقْضِ مَآ أنْتَ قَاضٍ(4)، أي افعل.

ومنها: الفراغ، كقوله تعالى:- في قضية يوسف- قُضِىَ الأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ(5)، أي فرغ.

ومنها: القتل، كقوله تعالى: فَقَضى عَلَيْهِ(6)، أي قتله.

ومنها: الأداء، كقوله (ص): «قضى صلاته»(7)، وكذا «قضى دينه»(8)، أي أدّاه.

ثمّ هل اللفظ حقيقة في الجميع، بأنّ وضع لكلّ واحد من المعاني مستقلًا فيكون اللفظ مشتركاً؟ أو وضع لمعنى جامع بين تلك المعاني، وهو الأحكام والإتقان والإنقاذ كما قيل ثمّ استعمل في جميع المعاني المذكورة لما فيها من الأحكام والإتقان؟ أو يكون حقيقة في أحدها، ومجازاً في غيره،- كما قيل- من أنّه حقيقة في الحكم فقط؟ وجوه، لا حاجة إلى إضاعة الوقت في تحقيقها؛ لأنّه


1- البقرة( 2): 200.
2- الإسراء( 17): 23.
3- سبأ( 34): 14.
4- طه( 20): 72.
5- يوسف( 12): 41.
6- القصص( 28): 15.
7- وسائل الشيعة 96: 5، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس، الباب 57، الحديث 2.
8- وسائل الشيعة 17: 17، كتاب التجارة، أبواب مقدّمات التجارة، الباب 2، الحديث 10.

ص: 5

مرتبط بفقه اللغة، وهو خارج عمّا نحن بصدده.

نعم، المعلوم استعماله في «الحكم» وهو معروف ومشهور، وهذا المقدار كافٍ في المقام. هذا كلّه في معنى القضاء لغة.

تحديد المعنى الاصطلاحي للقضاء

وأمّا اصطلاحاً فقد عرّف بوجوه:

منها: ما في «المسالك»(1) و «كشف اللثام»(2)؛ وهو أنّه ولاية الحكم شرعاً لمن له أهليه الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معيّنين من البرّية؛ بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحقّ.

ومنها: ما عن الشهيد (ره) في «الدروس»: «وهو ولاية شرعية على الحكم في المصالح العامّة من قبل الإمام»(3).

ومنها: ما عن السيّد الطباطبائي في «ملحقات العروة»: «وهو الحكم بين الناس عند التنازع والتشاجر، ورفع الخصومة وفصل الأمر بينهم»(4).

ومنها: ما عن السيّد الخوئي (ره): «وهو فصل الخصومة بين المتخاصمين؛ والحكم بثبوت دعوى المدّعى، أو بعدم حقّ له على المدّعى عليه»(5).

ومنها: ما اختاره الإمام (ره) في «تحرير الوسيلة»: «وهو الحكم بين الناس لرفع


1- مسالك الأفهام 325: 13.
2- كشف اللثام 5: 10.
3- الدروس الشرعية 65: 2.
4- العروة الوثقى 413: 6.
5- مباني تكملة المنهاج 3: 1.

ص: 6

التنازع بينهم بالشرائط الآتية»(1).

ففي الحقيقة يشتمل التعريف على أمرين:

الأمر الأوّل: الولاية.

والأمر الثاني: الحكم بين الناس وفصل الخصومة.

قال في «الجواهر»: «ولعلّ المراد بذكرهم الولاية- بعد العلم بعدم كون القضاء عبارة عنها- بيان أنّ القضاء الصحيح من المراتب، والمناصب، كالإمارة، وهو غصن من شجرة الرئاسة العامّة للنبيّ (ص) وخلفائه (عليهم السلام)»(2).

وقد يقال: إنّ أخذ الولاية في المفهوم من جهة تصحيح إطلاق القاضي على من نصب للقضاء ولم يحكم بعد، ولم يفصل الخصومة، فإنّه على التعريف الثاني لا يصدق عليه «القاضي».

ولكن الوجهين لا يوجبان أخذ الولاية في المفهوم؛ فإنّ كونه منصباً يعلم من احتياجه إلى النصب، والإذن، والتصحيح المذكور يتحقّق بإطلاق القضاء على الحرفة، لا الفعل الخارجي.

والحاصل: إنّه لا وجه لأخذ قيد «الولاية» في التعريف، بل الولاية مصحّح ومجوّز للحكم وفصل الخصومة، فإنّه بعد نصبه وإعطاء الولاية له، يجوز له الحكم، ويكون حكمه نافذاً، فتكون الولاية من مصحّحات القضاء، لا نفسه. مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: أنّ القضاء هي الحرفة لا الفعل وبهذا يرتفع محذور عدم التلبّس بالقضاء بعد أخذ المجوّز للقضاء كما أنّه لا بأس في القول


1- تحرير الوسيلة: 823.
2- جواهر الكلام 9: 40.

ص: 7

بأنّ هذا هو الطبيب مع أنّه- إلى الآن- لم يعالج أيّ مريض.

المختار في تعريف القضاء

فالتعريف الصحيح للقضاء يتحقّق بالأمر الثاني، أي «الحكم بين الناس» لكن مع تكملة بإضافة ما يعد من شؤون القاضي، سواء كان غاية للحكم كإثبات حقّ، أو نفيه، أو إجراء الحدود والتعزيرات، أو ما يعدّ من مصالح المسلمين، كالحكم بالهلال، والنسب، أو ما هو من مقدّمات الحكم، مثل ملاحقة المجرم، وجلبه إلى المحكمة، وإحضار الشهود وتوقيف الأموال، أو الحكم بجمع القرائن والشواهد وغيرها.

آثار حكم القاضي

ثمّ إنّ الحكم الصادر من القاضي له آثار وأحكام.

منها: عدم جواز نقضه من القاضي الآخر إلا في موارد خاصّة ستأتي.

ومنها: كونه نافذاً في حقّ الكلّ حتّى المجتهد الآخر المخالف له في اجتهاده.

ومنها: عدم ضمانه لو ظهر خطأه لو لم يكن مقصّراً، بل تدارك الضرر، يكون على بيت المال.

تنبيه: ما قلناه من عدم جواز نقض حكم القاضي، مبنيّ على كون القاضي مجتهداً مطلقاً، ويقضي مستنداً إلى نصبه العامّ في زمن الغيبة من قبل الإمام (ع). وأمّا لو لم يكن القاضي مجتهداً، أو كان، ولكنّه في زمن قيام الحكومة الإسلامية مع زعامة ولاية وليّ الأمر، بحيث يحتاج القضاء إلى الإذن منه، فيكون حكمه تابعاً لما يؤذن فيه، فإنّه قد يؤذن له في أن يقضي في الحقوق المدنيّة، دون

ص: 8

ومنصب القضاء من المناصب الجليلة، الثابتة من قبل الله للنبي (ص)، ومن قبله للأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، ومن قبلهم للفقيه الجامع للشرائط الآتية. (2)

الجنائيّة، أو بالعكس، أو ينصبه للمحكمة البدويّة، أو الاستئنافيّة، وكذا يؤذن له في القضاء بكيفيّة خاصّة مدوّنة، بأن يقضي، ولكن إن اعترض المحكوم عليه خلال مدّة معيّنة ترفع القضيّة إلى محكمة الاستئناف، وربما ينقض حكمه في هذه المحكمة.

الفرق بين الفتوى والحكم

ثمّ إنّ الفرق بين الفتوى وحكم القاضي، هو أنّ الفتوى إخبار عن الحكم الكلّي الإلهي، وهي حجّة على نفس المفتي، ومن قلّده، وأمّا القضاء فهو إنشاء حكم جزئي في مورد خاصّ، مثل أن يحكم بأنّ المال الكذائي لزيد، وهذه المرأة زوجة فلان، ويكون حكمه نافذاً على نفسه وعلى غيره ولو كان مجتهداً.

(2) مقتضى الأصل- مع قطع النظر عن الأدلّة- عدم ولاية أحد على الآخر أو عدم نفوذ حكم شخص على الآخر، إلا أن تثبت الولاية أو حجّية الحكم بدليل؛ من غير فرق بين كون القضاء ولاية على الأشخاص، أو حكماً نافذاً في حقّهم.

وكذا يستفاد من القرآن الكريم عدم جواز القضاء لمن ليس أهلًا له، ولم يكن مأذوناً، كما قال الله عزّ وجلّ: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ(1) فإنّ المقام- حيث كان- مقام الحظر، ولذا يدلّ


1- ص( 38): 26.

ص: 9

الأمر بالحكم على الجواز وجواز الحكم متفرّع على جعل الخليفة، فيستفاد منه أنّه مع انتفاء جعل الخليفة يرتفع الجواز؛ يعني أنّه لا يجوز لمن ليس بخليفة من قبل الله عزّ وجلّ أن يحكم، فالقضاء الصحيح يحتاج إلى الإذن، وإعطاء منصب القضاء إنّما يكون ممّن له أن يأذن وله إعطاء المنصب، وهو الله عزّ وجلّ فإنّه الخالق والمالك على الإطلاق، وهو الربّ والمدبّر، كما جاء في القرآن: ألا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الْحاسِبينَ(1). وكقوله عزّ وجلّ: إِنِ الْحُكْمُ إِلا للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ(2). وكقوله عزّ وجلّ: قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ(3) وكقوله عزّ وجلّ: تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(4).

ولذلك لا يجوز للناس في بلد أن يجتمعوا وينتخبوا قاضياً لبلدهم لأنّهم عبيد ومملوكون ولا يكون لهم ولاية، حتّى يعطوا الآخر. نعم، لهم انتخاب رجل لرئاسة البلد وإدارة شؤون الدولة، أو انتخاب نائب لمجلس الشورى مثلًا، وأمّا انتخاب رجل يكون حكمه نافذاً في حقّ الكلّ، فلا.

ثبوت الرئاسة العامّة للنبيّ (ص) والأئمّة (عليهم السلام)

1- إنّ جعل الخليفة في الآية الشريفة يراد به إعطاء منصب خلافة الله لهم (عليهم السلام)، وهي الرئاسة العامّة، والقضاء غصن من هذه الشجرة.


1- الأنعام( 6): 62.
2- الأنعام( 6): 57.
3- الزمر( 39): 46.
4- الزمر( 39): 46.

ص: 10

2- وكذلك يستفاد من لفظة «الخليفة» إعطاء هذا المنصب أيضاً؛ فإنّ معنى «الخليفة» هو من يقوم مقام المنوب عنه، ويفعل فعله، فتصير جميع صلاحياته هي عين صلاحيات الأصيل، فكما أنّ له (سبحانه و تعالى) أن يحكم بين عباده فلخليفته أيضاً ذلك. ولذا قال الله عزّ وجلّ مخاطباً النبيّ الأعظم (ص): إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أرَاكَ اللهُ(1).

وقال (سبحانه و تعالى): فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمّ لا يَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(2).

فمن هذه الآيات يستفاد أنّه (سبحانه و تعالى) أذن لنبيّه الأكرم أن يحكم بين الناس، وأعطاه هذا المنصب. وبمقتضى الوصاية عن النبيّ (ص) والإمامة للأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) يكون لهم ما للنبيّ (ص) من الولاية، والرئاسة العامّة؛ ومنها القضاء. ولذا فقد أوكل رسول الله (ص) أمر القضاء في زمن حياته إلى علي (ع) وأمره بالقضاء، وقال في حقّه: «أقضاكم عليّ»(3) كما تولّي (ع) أمر القضاء بعد زمن الرسول في زمن الخلفاء وفي حكومته (ع) الظاهرية.

3- وكذلك يستفاد ثبوت هذا المنصب لهم من الروايات.

فعن أبي عبدالله (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع) لشريح: «يا شريح! قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ»(4).


1- النساء( 4): 105.
2- النساء( 4): 65.
3- دعائم الإسلام 92: 1؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 18: 1 و 219: 7.
4- وسائل الشيعة 17: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.

ص: 11

وعن أبي عبدالله (ع) قال: «اتّقوا الحكومة، إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، لنبيّ، أو وصيّ نبيّ»(1).

ملاحظة تطبيقي فيما قال به السيّد الإمام (ره) وبعض الفقهاء

أقول: إلى هنا ثبت أنّ القضاء حقّ لنبيّ أو وصيّ نبيّ. ولكن هنا نقطة لا بدّ من ملاحظتها؛ وهو أنّ الإمام (ره) قال في «التحرير»: «ومنصب القضاء من المناصب الجليلة، الثابتة من قبل الله تعالى للنبيّ (ص)، ومن قبله للأئمّة المعصومين (عليهم السلام)»(2). مع أنّ بعض الفقهاء يقولون: إنّ الإمام أيضاً قاضي من قبل الله عزّ وجلّ.

فنقول: كلام السيّد الإمام الخميني (ره) مقرون بالصواب لأنّ إمام المعصوم هو الوصيّ والوصيّ يعمل بما كان يعمل الموصيّ فالإمام يأخذ الامور والمناصب، من النبيّ (ص). أي أنّ الله يعطي الاختيار إلى الإمام لا مستقيماً، بل بواسطة النبيّ (ص).

دليل ثبوت القضاء للفقهاء والمجتهدين

وأمّا لثبوت هذا المنصب للفقهاء والمجتهدين، فهناك روايات دالّة على نصبهم للقضاء بنحو عامّ، فإنّ النصب على قسمين: خاصّ، وعامّ.

وأمّا النصب الخاصّ؛ فهو نصب شخص خاصّ للقضاء، كنصب أمير المؤمنين (ع) أبا الأسود وغيره للقضاء، ولا بأس فيه.


1- وسائل الشيعة 17: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.
2- تحرير الوسيله: 823.

ص: 12

أمّا النصب العامّ؛ فهو أن ينصب كلّ من كان واجداً لصفات خاصّة، فكلّ من هو واجد للصفات، فهو منصوب؛ فالفقهاء منصوبون بنصب عامّ، بدلالة الروايات:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبدالله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحا كما إلى السلطان، وإلى القضاة، أيحِلُّ ذلك؟ ... قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(1).

ومنها: صحيحة أبي خديجة، حيث قال (ع):- بعد نهيهم عن المراجعة إلى حكّام الجور- «اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً»(2).

فيستفاد منهما أنّ من كان واجداً للصفات المذكورة فيهما- أي كان راوياً لأحاديثهم وناظراً وباحثاً في حلالهم وحرامهم وعارفاً فقيهاً في الأحكام- فهو منصوب منهم للحكومة والقضاء. والمستفاد منهما إعطاء المنصب والإذن في إعمال الولاية.

ومنها: القضاء وهذا هو النصب العامّ، كما تقدّم.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ القضاء منصب إلهي أعطاه الله عزّ وجلّ النبيّ الأكرم (ص)، فهو يقضي بما أنّه خليفة الله على الأرض، أو ينصب أشخاصاً


1- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 139: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

ص: 13

لذلك؛ ثمّ الأوصياء (عليهم السلام)؛ فكلّ واحد منهم بما أنّه وصيّ رسول الله (ص)، فوّض إليه ما كان للنبيّ (ص) ثمّ الفقهاء بما هم نوّاب إمام العصر، لهم القضاء بين الناس أو نصب القاضي، فهم منصوبون لذلك بالنصب العامّ.

الوجه في نصب الفقهاء بالنصب العامّ

بقي هنا سؤال: وهو أنّه، ما الوجه في نصب الفقهاء للقضاء بنحو النصب العامّ مع أنّه لا يشابهه نصب؛ في أيّة مسؤولية ومنصب ومقام من المسؤوليات المدنية أو العسكرية؟

والجواب عنه: أنّ الأئمّة (عليهم السلام) نهوا الشيعة ومتابعيهم، عن الرجوع إلى قضاة الجور، والمنصوبين من قبل الخلفاء الغاصبين والظلمة، ومنعوهم من التحاكم إليهم بأشدّ المنع.

كما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به»(1).

وكما في صحيحة أبي خديجة حيث قال (ع): «إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شي ء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق»(2).

فلا بدّ حينئذٍ من تعيين بديل لهم؛ فإنّ التنازع والتشاجر، أمر طبيعي، يتّفق


1- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 139: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

ص: 14

بينهم كثيراً ولا مخلّص لهم عنه، واللازم على الإمام (ع) إرائة الطريق وهدايتهم إلى بديل يراجعونه لرفع التنازع، وفصل الخصومة، ولا يمكن للإمام (ع) تعيين أشخاص محدّدين لذلك؛ فإنّهم يصيرون حينئذٍ معروفين ومشخّصين عند الخلفاء ومورداً للبغض والأخذ والحبس والقتل بلا شبهة، فالأئمّة (عليهم السلام) نصبوا بالنصب العامّ من كان واجداً لصفات خاصّة وجعلوه قاضياً، فالواجد للصفات لم يكن معيّناً ومشخّصاً، حتّى يلاحق من قبل خلفاء الجور. كما أنّ مراجعة الشيعة إليهم كانت سهلة أيضاً؛ من جهة كونهم متفرّقين في بلاد الشيعة وقراهم، وكان الوصول إليهم سهلًا.

هذا تامّ في زمن الغيبة وعدم حضور إمام العصر وعدم قيام الحكومة بقيادة فقيه عادل، يرفع المشكل عن الشيعة.

عدم جواز استقلال القاضي بالقضاء عند قيام الحكومة الإسلامية

وأمّا إذا قامت الحكومة الإسلامية وكان في رأسها فقيه عادل اوكلت إليه قيادة الامّة، وزمام امور المسلمين، وإدارة شؤونهم؛ فهل لكلّ من كان واجداً للأوصاف ومشمولًا بالنصب العامّ، الجلوس في دكّة القضاء للحكم بين الناس؟ وإنّ لكلّ واحد منهم التصدّي للقضاء في نقطة خاصّة، أو لا؟ لأنّه لا يصحّ هذا للفقهاء الواجدين للصفات والمشمولين بنصب القضاة عامّاً؟ بأنّه يوجب الفوضي واختلال النظم في المجتمع؛ وهذا ما نعلم بعدم رضى الشارع الأقدس به فإنّ الشارع المقدّس إنّما أوجب إقامة الحكومة الشرعية لرفع الفوضي واختلال النظام؛ فكيف يرضى بأمر يوجب ذلك بعد إقامة الحكومة؟ أليس هذا إلا نقضاً لغرض الشارع؟

ص: 15

وهذا يوجب تقييد إطلاق أدلّة النصب وصرفها إلى زمن لم تتحقّق فيه الحكومة الإسلامية. بل القدر المتيقّن من الأدلّة هو ذلك الزمان. وعدم جواز القضاء لهم ليس من جهة وجود نقص فيهم، لعدم أهليتهم، بل لوجود المانع وهو استلزامه الفوضي والهرج والمرج والاختلال في النظم. نعم، يصحّ لهم القضاء مع إذن الوليّ الفقيه؛ فإنّ الفقيه الذي قام بالأمر، له ولاية مطلقة فوّضها إليه الإمام (ع) فيكون له تمام ما للإمام (ع) بمقتضى أدلّة ولاية الفقيه، ومنها القضاء بنفسه بالمباشرة أو بنصب من يتصدّى للقضاء ولو كان مجتهداً آخر.

كلام تطبيقي مع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران

وبناء على هذا الأساس والمبنى الصحيح الفقهي الحقّ، جاء في مادّة الخامسة من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران(1)- المدوّن من قبل مجلس الخبراء المتشكّل من جمع من المجتهدين والعلماء قديماً وحديثاً- ما حاصله: أنّ ولاية الأمر وإمامة الامّة في زمن غيبة حضرة صاحب الأمر (عج) هي للفقيه العادل الواجد لصفات خاصّة مذكورة فيه.

ثمّ جاء أنّ طريق انتخابه سيأتي في المادّة سبع ومأة(2) وقد ورد ذيلها: أنّ من


1- المادة الخامسة:« في زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الامة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتّقي، البصير بامور العصر، الشجاع، القادر على الإدارة والتدبير وذلك وفقاً للمادّة 107».
2- المادة السابعة بعد المائة:« بعد المرجع المعظّم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية ومؤسّس جمهورية إيران الإسلامية سماحة آية الله العظمي الإمام الخميني( قدس سره) الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته، توكّل مهمّة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من قبل الشعب. وهؤلاء الخبراء يدرسون ويتشاورون بشأن كلّ الفقهاء الجامعين للشرائط المذكورة في المادّة الخامسة والمادّة التاسعة بعد المائة، ومتى لم يشخصوا فرداً منهم- باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأى العامّ، أو تمتّعه بشكل بارز بأحدى الصفات المذكورة في المادّة التاسعة بعد المائة- انتخبوه للقيادة، وإلا فإنّهم ينتخبون أحدهم ويعلنونه قائداً، ويتمتّع القائد المنتخب بولاية الأمر و يتحمّل كلّ المسؤوليات الناشئة عن ذلك. ويتساوى القائد مع كافّة أفراد البلاد أمام القانون».

ص: 16

ولا يخفى: أنّ خطره عظيم، وقد ورد: «أنّ القاضي على شفير جهنّم»، وعن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: «يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ»، وعن أبي عبدالله (ع): «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين؛ لنبيّ أو وصيّ نبيّ»، وفي رواية: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله- عزّ وجلّ- فقد كفر»، وفي اخرى: «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس؛ فإمّا في الجنّة، وإمّا في النار»،

انتخب من هذا الطريق يتعيّن للولاية العامّة وعلى عهدته زعامة الامّة وإمامتهم، وجميع مسؤوليات مقام الولاية. ولكن حيث لا تبقى له فرصة لأن يقضي بين الناس؛ فعليه أن يعيّن مجتهدين عدولًا لإدارة أمر القضاء ورئاسة السلطة القضائية، فبيده نصب القضاة وعزلهم وارتقائهم ونقلهم من محلّ إلى محلّ آخر وغير ذلك، ممّا هو مبيّن في وظائفه؛ فمن عينه للقضاء فهو قاض ومنصوب ومأذون- مع الواسطة- من جانب إمام العصر (عج)، فهل يلزم كونهم مجتهدين؟ أو يجوز أن ينصب غير المجتهدين؟ فيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 17

وعن أبي عبدالله (ع) قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة». (3)

الروايات الواردة في القضاء نفياً وإثباتاً

اشارة

(3) الروايات التي وردت في هذا الباب على قسمين.

القسم الأوّل: ما دلّت على ترغيب الناس في القضاء بذكر ما يترتّب عليه من الثواب والأجر العظيم.

القسم الثاني: ما دلّت على ترهيبهم من القضاء وتحذيرهم من تصدّيه بذكر أشدّ العذاب وما يترتّب عليه من العقوبات.

فمن القسم الأوّل:

1- قوله (ع) عن عبدالرحمان بن الحجّاج، عن أبي إبراهيم (ع) في قول الله عزّ وجلّ: يُحْي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ(1) قال: «ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالًا فيحيون العدل، فتحيى الأرض لإحياء العدل»(2).

2- عن سلمة بن كهيل عن علي (ع): «إيّاك والتضجّر والتأذّي في مجلس القضاء، الذي أوجب الله فيه الأجر، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحقّ»(3).


1- الروم( 30): 50.
2- وسائل الشيعة 12: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 1، الحديث 3.
3- وسائل الشيعة 211: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 1، الحديث 1.

ص: 18

3- قوله (ع) عن أمير المؤمنين (ع): «يد الله فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة، فإذا حاف وكّله الله إلى نفسه»(1).

4- عن معقل بن يسار عن رسول الله (ص): «إنّ الله مع القاضي ما لم يحف عمداً»(2).

5- قوله (ص): «إنّ الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلّي عنه ولزمه الشيطان»(3).

6- قال الشيخ (ره) في «المبسوط» روى ابن مسعود أنّه قال: «لئن أجلس يوماً فاقضي بين الناس أحبّ إليّ من عبادة سنة»(4).

ومن القسم الثاني:

1- محمّد بن محمّد المفيد في «المقنعة»(5) عن النبيّ (ص) قال: «من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكّين»(6). وفي «المستدرك» في ذيله: «قيل وما الذبح قال نار جهنّم»(7).

2- قوله (ع): «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ فهو كافر بالله العظيم»(8).


1- وسائل الشيعة 224: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 9، الحديث 1.
2- كنز العمّال 802: 5/ 14427، و 92: 6/ 14986، و 98/ 15011.
3- كنز العمّال 92: 6/ 14985، و 97/ 15010.
4- المبسوط 82: 8.
5- المقنعة: 721.
6- وسائل الشيعة 19: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 8.
7- مستدرك الوسائل 243: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 4.
8- وسائل الشيعة 31: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 5، الحديث 2.

ص: 19

3- قوله (ع): «أي قاض قضى بين اثنين فأخطأ سقط أبعد من السماء»(1).

4- قوله (ع): «إنّ النواويس شكت إلى الله عزّ وجلّ شدّة حرّها، فقال لها عزّ وجلّ: اسكني فإنّ مواضع القضاة أشدّ حرّاً منك»(2).

وقال صاحب «الوسائل» في الهامش: «النواويس موضع جهنّم».

5- قوله (ص): «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس، فإمّا إلى الجنّة، وإمّا إلى النار»(3).

وقد وردت من طرق العامّة أيضاً روايات مرهبة:

منها: ما عن «سنن البيهقي» في رواية: «يؤتي بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقي من شدّة الحساب ما يتمنّى أنّه لم يقض بين اثنين في تمرة قطّ»(4).

الجمع بين الطائفتين من الروايات

ووجه الجمع بين القسمين من الروايات أنّ الواجد للشروط المعيّنة في القضاء- من العلم والعدالة والتقوى- إنّه إذا إطمأنّ بقضائه بالعدل وأنّه لا يؤثّر في نفسه وجود القرابة بينه وبين أحد المتخاصمين في الصداقة أو العداوة، وكذا لا يقع تحت تأثير التهديد أو التطميع وغير ذلك، فهو مصداق للقسم الأوّل من الروايات وينبغي له القبول فإنّه- مضافاً إلى ما مرّ- يكون فيه إحقاق الحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


1- وسائل الشيعة 32: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 5، الحديث 4.
2- وسائل الشيعة 219: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 6، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 228: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 12، الحديث 2.
4- السنن الكبرى، البيهقي 96: 10.

ص: 20

ولو كان موقوفاً على الفتوى يلحقه خطر الفتوى أيضاً، ففي الصحيح قال أبو جعفر (ع): «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله، لعنه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه». (4)

فقد روي عن النبيّ (ص) أنّه قال: «إنّ الله لا يقدس امّة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقّه من القوي»(1) فإذا قصد القربة في عمله يصير عبادة ويكون مأجوراً إن شاء الله عزّ وجلّ.

ومن لم يكن واجداً للشروط أو كان واجداً ولكن لم يطمئنّ بإجرائه العدل والحقّ فعليه التحذّر والتحرّز والاجتناب من قبوله خوفاً من الوقوع والسقوط في النار، بقوله (ص): «القاضي على شفير جهنّم»(2).

ولأجل هذه الروايات استنكف بعض الأعلام من الدخول في أمر القضاء وأخذوا طريق الاحتياط. ولكن أقوى الدليل على رجحانه وشرفه تصدّي النبيّ (ص) والوصيّ (ع) لأمر القضاء خصوصاً إذا علم أنّه إذا ترك أمر القضاء لتصدّاه من لا يراعي الحقّ والعدل، ولذا قال الإمام (ره) في مورد: «إنّ الاحتياط في ترك هذا الاحتياط لوجود شبهة التعيّن عليه».

(4) هذا إذا قضى في الواقعة على حسب فتواه؛ فإنّه إذا لم يكن واجداً للشروط وجامعاً لما يعتبر في الإفتاء استحقّ عقوبة من لم يكن أهلًا للإفتاء، وكذا عقوبة من لم يكن أهلًا للقضاء، وفي الصحيح عن أبي عبدالله (ع) قال: قال


1- عوالي اللئالي 515: 3/ 5.
2- السنن الكبرى، البيهقي 97: 10؛ مجمع الزوائد 193: 4.

ص: 21

مسألة 1: يحرم القضاء بين الناس ولو في الأشياء الحقيرة إذا لم يكن من أهله، فلو لم ير نفسه مجتهداً عادلًا جامعاً لشرائط الفتيا والحكم، حرم عليه تصدّيه وإن اعتقد الناس أهليته، ويجب كفايةً على أهله، وقد يتعيّن إذا لم يكن في البلد أو ما يقرب منه ممّا لا يتعسّر الرفع إليه من به الكفاية.

مسألة 2: لا يتعيّن القضاء على الفقيه إذا كان من به الكفاية ولو اختاره المترافعان أو الناس.

مسألة 3: يستحبّ تصدّي القضاء لمن يثق بنفسه القيام بوظائفه، والأولى تركه مع وجود من به الكفاية؛ لما فيه من الخطر والتهمة. (5)

أبو جعفر (ع): «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه»(1).

فروع في حكم القضاء التكليفي

(5) ذكر الإمام (ره) هنا ثلاث مسائل وفيها ستّة فروع:

الأوّل: حرمة القضاء على من لم يكن أهلًا له.

الثاني: وجوبه كفاية على من له أهليته.

الثالث: وجوبه عيناً عليه عند عدم من به الكفاية.


1- وسائل الشيعة 20: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 1.

ص: 22

الرابع: عدم تعيّن القضاء على الفقيه عند وجود من به الكفاية ولو اختاره المترافعان.

الخامس: استحباب تصدّي القضاء لمن يثق من نفسه القيام بوظائفه.

السادس: أولوية ترك التصدّي مع وجود من به الكفاية.

ولا ريب: في أنّ جميع هذه الفروع مرتبطة بزمان حكومة الطاغوت وانعزال الفقهاء عن شؤون الدولة، مع وجودهم في ذلك الظرف ونصبهم بالنصب العامّ لهذا الزمان. كما أنّ الأصحاب (عج) بحّثوا على هذه الطريقة، ولهم أقوال في المسألة:

1- القول بوجوب القضاء عيناً.

2- وجوب القضاء كفاية.

3- استحبابه عيناً مع كونه واجباً كفائياً.

وقد استدلّوا على كلّ واحد بالآيات والأخبار ووجوه آخر كما بحّثوا في الجمع بين الوجوب- ولو كفائياً- مع الاستحباب عيناً.

ولا بدّ لنا أن نلتفت إلى زماننا الذي قامت فيه- بحمدالله والمنّة- الحكومة الإسلامية الإلهية بقيادة الفقيه العادل، ولذا فسنبحث في الفروع الستّة بناء على هذا الأمر. ولكن مقدّمة على بيان الفروع الستّة نقول:

يجب على الوليّ الفقيه القائد للحكومة، نصب القضاة- بمقدار الاحتياج- في البلاد التي تحت حكومته وجوباً عينياً، وذلك لوجوب حفظ النظام، وسدّ أبواب الاختلال، والفوضي في المجتمع، فإنّه من الواجبات الأكيدة في الشرع المقدّس؛ وكذا يكون إقامة القسط واستيفاء الحقوق مطلوباً أكيداً للشرع، ولا يتمّ ذلك إلا

ص: 23

بنصب القضاة بمقدار الاحتياج في كلّ بلد وناحية.

الفرع الأوّل: حرمة القضاء على من لم يكن أهلًا له.

يحرم القضاء على من لم يكن أهلًا وإن اعتقد الوليّ الفقيه أو المنصوب من قبله واجديته وأهليته ونصبه للقضاء. لفقدان الشرط وعدم تغيّر الواقع من جهة اعتقادهم بأهليته.

ففي رواية أبي عبدالله (ع) قال: قال رسول الله (ص): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1).

فكما أنّ قضاء رسول الله (ص) لا يغيّر الواقع، كما إذا لم يكن لشخص مال على عهدة زيد- مثلًا- ولكن أقام الشهود، فقضى رسول الله (ص) بنفعه وأخذ المال وأعطاه له. وقال: «إنّما قطعت له به قطعة من النار» يعني يكون غصباً وحراماً وحكمه (ص) لا يغيّر الواقع، فكذلك هنا إذا لم يكن واجداً للشروط؛ بأن لم يكن عادلًا- مثلًا- أو مجتهداً فإنّ إذنه (ص) لا يجوّز له القضاء.

ولقول أمير المؤمنين (ع) لشريح: «لا يجلسه إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ أوشقيّ»(2) فإنّ ظاهره أو صريحه أنّه لا بدّ أن يكون أهلًا وواجداً لما يشترط فيه؛ فمن يؤذن له ولم يكن أهلًا فهو شقيّ ومن الواضح حرمة إشقاء الإنسان نفسه.

وكذا قوله (ع): «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم


1- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.

ص: 24

بالقضاء، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ»؛(1) فإنّه أيضاً يدلّ على أنّ الفاقد للشروط لا بدّ له أن يتّقى و ي جتنب الحكوم ة.

الفرع الثاني: وجوبه كفاية على من له أهليته.

أنّه يجب على المسلمين كفاية أن يكون فيهم خبراء وعلماء بأمر القضاء، كما يجب كفاية، أن يكون فيهم الطبيب وأصحاب أنواع الحرف، ممّا هو من واجبات حفظ النظام وممّا يحتاج بقاء حياة الإنسان إليه.

فحينئذٍ لو كان الواجدون لشروط القضاء في المجتمع أكثر ممّن به الكفاية فيجب عليهم كفاية أن يعلنوا عن تهيّئهم لتصدّي أمر القضاء وتعريف أنفسهم لدى وليّ الأمر أو من كان منصوباً من جانبه لذلك؛ فإذا انتخبوا بالمقدار اللازم وانتصبوا له يسقط الوجوب عن البقية. ولو كانوا أقلّ ممّن به الكفاية يتعيّن عليهم الإقدام ويجب عليهم عيناً على قول، وإن كان الحقّ أنّه يجب عليهم كفاية. ولكنّه يتعيّن عليهم حسبما ذكر في الاصول: من أنّ الواجب الكفائي لا ينقلب إلى العيني ولكنّه عند عدم من به الكفاية يتعيّن على الموجودين.

الفرع الثالث: وجوبه عيناً عليه عند عدم من به الكفاية.

لو طلب الوليّ الفقيه أو المنصوب من قبله للسلطة القضائية، من الواجدين للشروط، المشاركة في أمر القضاء، وأمرهم بذلك يتأكّد الوجوب الكفائي عليهم، إذا كانوا أكثر ممّن به الكفاية؛ فإنّ أمره أيضاً على الكفاية. ولو كانوا أقلّ يتعيّن الوجوب الكفائي بناء على ما قلناه. ولو أمر شخصاً خاصّاً تجب عليه الإطاعة ولو كان الوجوب على الكفاية.


1- وسائل الشيعة 17: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

ص: 25

الفرع الرابع: عدم تعيّن القضاء على الفقيه عند وجود من به الكفاية ولو اختاره المترافعان.

الفرع الخامس: استحباب تصدي القضاء لمن يثق من نفسه القيام بوظائفه.

إذا اشتغل من به الكفاية بأمر القضاء وسقط الوجوب عن بقية الواجدين لشروط القضاء، يستحبّ للمؤهل والواجد للشروط أن يطلب من الوليّ الفقيه أن ينصبه للقضاء، وذلك لعظم ما يترتّب عليه من الفوائد المعلوم رجحانها عقلًا وشرعاً؛ فإنّه من القيام بالقسط فيشمله ما في قوله تعالى: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ(1) وهو من التعاون على البرّ، المأمور به في قوله تعالى: تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى(2) وهو مقدّمة تحصيل الأجر والثواب في قول علي (ع) لشريح: «الذي أوجب الله فيه الأجر، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحقّ»(3). ولأنّ القضاء من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكذا ما دلّ على «إنّ الله مع القاضي»(4) أو «يد الله فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة»(5) وكلّ ذلك كافٍ للدلالة على الاستحباب بلا إشكال. مضافاً إلى تصدّي النبيّ (ص) وأمير المؤمنين (ع) ولذا قال الإمام الخميني (ره) في «التحرير» في المسألة الثالثة: «يستحبّ تصدّي القضاء لمن يثق بنفسه القيام


1- النساء( 4): 135.
2- المائدة( 5): 2.
3- وسائل الشيعة 212: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 1، الحديث 1.
4- كنز العمّال 802: 5/ 14427، و 92: 6/ 14986 و 98/ 15011.
5- وسائل الشيعة 224: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 9، الحديث 1.

ص: 26

بوظائفه»(1) فإنّه لا فرق بين استحباب تصدّي القضاء واستحباب طلبه من الوليّ الفقيه. ولذا قال الشهيد (ره) في «الدروس»: «لو لم يوجد واحد تعيّن ولو وجد غيره ففي استحباب تعرّضه للولاية نظر؛ من حيث الخطر وعظم الثواب إذا سلم والأقرب ثبوته لمن يثق من نفسه القيام به»(2).

الفرع السادس: أولوية ترك التصدّي مع وجود من به الكفاية.

وقد يقال بعدم الاستحباب بل أولويّة تركه، لما فيه من الخطر العظيم لقول عليّ (ع): «القاضي على شفير جهنّم»(3) وكذا ما تقدّم من الروايات المحذرة والمرهبة وقد اختاره الإمام الخميني (ره) في قوله: «والأولى تركه مع وجود من به الكفاية، لما فيه من الخطر والتهمة»(4).

وقال السيّد (ره) في ملحقات «العروة»: «إنّ الأولى تركه ممّن لا يثق من نفسه مع وجود من به الكفاية»؛(5) فإنّه قيد أولوية الترك بمن لا يثق من نفسه ويحتمل أن ينزلق في العمل.

فلعلّ هذا، مراد سائر من قال بأولويّة الترك لما تقدّم من عظم فوائده وترتّب الأجر والثواب عليه؛ فمع اطمئنان الإنسان ووثوقه من نفسه بالحفظ من الخطر لا يترك لاحتمال الخطر إن كان الخطر عظيماً.


1- تحرير الوسيلة: 824.
2- الدروس الشرعية 66: 2.
3- فقه الصادق( ع) 11: 25.
4- تحرير الوسيلة: 824، مسألة 3.
5- العروة الوثقى 416: 6.

ص: 27

مسألة 4: يحرم الترافع إلى قضاة الجور- أي من لم يجتمع فيهم شرائط القضاء- فلو ترافع إليهم كان عاصياً، وما أخذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً، وفي العين إشكال إلا إذا توقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم، فلا يبعد جوازه، سيّما إذا كان في تركه حرج عليه، وكذا لو توقّف ذلك على الحلف كاذباً جاز. (6)

حرمة الترافع إلى قضاة الجور

اشارة

(6) في المسألة فروع:

الفرع الأوّل: في حرمة الترافع إلى قضاة الجور، وأنّ من ترافع إليهم كان عاصياً. ثمّ في بيان المراد من قضاة الجور وهل هم المنصوبون من قبل خلفاء الجور أو يشمل من لم يكن أهلًا للقضاء، وإن كان مسلماً إمامياً مثل أن يكون فاسقاً؟

أمّا الدليل على حرمة الترافع إليهم:

فمن القرآن: قوله تعالى: ألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أنزلَ إِلَيْكَ وَمَا انزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ امِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً(1) حيث يدلّ على حرمة التحاكم إلى الطاغوت لأنّهم مأمورون- من قبل الله عزّ وجلّ- بأن يكفروا به.

ومن الروايات مقبولة عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن رجلين من


1- النساء( 4): 60.

ص: 28

أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ فقال: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، ما أمر الله أن يكفر به». قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا، وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله، وعليه ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»(1).

ومنها: رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: «أيّما مؤمن قدم مؤمناً في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله، فقد شركه في الإثم»(2).

وقد رواها المشايخ الثلاثة، أي الكليني(3)، والصدوق(4)، والطوسي(5) (عج).

ومنها: رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (ع)(6) قال: «رجل كان بينه وبين أخ له مماراة(7) في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا


1- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 11: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 1.
3- الكافي 411: 7/ 1.
4- الفقيه 4: 3/ 3219.
5- تهذيب الأحكام 219: 6/ 7.
6- وسائل الشيعة 11: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 2.
7- المماراة: المنازعة.

ص: 29

أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزّ وجلّ: ألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا انزِلَ إِلَيْكَ وَمَا انزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ امِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ... الآية(1).

وقد رواها المشايخ الثلاثة أيضاً(2).

ومنها: ما عن أبي بصير أيضاً قال: قلت لأبي عبدالله (ع) قول الله عزّ وجلّ في كتابه: وَلا تَأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ(3) فقال: «يا أبا بصير إنّ الله عزّ وجلّ قد علم أنّ في الامّة حكّاماً يجوزون، أما إنّه لم يُعن حكّام أهل العدل ولكنّه عنّي حكّام أهل الجور، يا أبا محمّد! أنّه لو كان لك على رجل حقّ، فدعوته إلى حكّام أهل العدل، فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممن حاكم إلى الطاغوت وهو قول الله (عز و جل): ألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا انزِلَ إِلَيْكَ وَمَا انزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ(4)»(5) والظاهر من الآية الشريفة والروايات هو حرمة الترافع إلى قضاة الجور الذين نصبوا من قبل السلطان الجائر والخلفاء الغاصبين، فإنّهم من مصاديق الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به واستشهاد الإمام (ع) في الروايات بالآية يدلّ على ذلك فلا دلالة لها على حرمة الترافع إلى من ليس واجداً للعدالة، وإن كان مأذوناً ومنصوباً من


1- النساء( 4): 60.
2- الكافي 411: 7/ 2؛ الفقيه 4: 3/ 3220؛ تهذيب الأحكام 220: 6/ 11.
3- البقرة( 2): 188.
4- النساء( 4): 60.
5- وسائل الشيعة 12: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 3.

ص: 30

السلطان العادل في الحكومة الحقّة، فإنّه لا يصدق عليه «الطاغوت» أو «الجائر» وإن كان فعله محرّماً.

ولعلّ الوجه في حرمة الترافع إليهم كونه حماية لهم، واعترافاً بنصبهم وإقراراً به؛ لكونهم جزء من الحكومة الظالمة الغاصبة الطاغية، فيكون حراماً من هذه الجهة وهذا الوجه غير متحقّق بالنسبة للمنصوب من قبل السلطان العادل، ولكنّه غير واجد للشرط. نعم، يمكن أن يستدلّ على حرمة الترافع إلى من لم يكن واجداً للشروط مطلقاً بما عن صاحب «الكفاية»: «من أنّ حكم الجائر بينهما فعل محرّم والترافع إليه يقتضي ذلك، فيكون إعانة على الإثم وهي منهي عنها»(1). ونتيجته كون الترافع إليه محرّماً مطلقاً.

واستشكله في «الجواهر»: «بأنّه لا يكون إعانة أوّلًا وبمنع حرمتها ثانياً»(2).

ولعلّ مراده من منع كون الترافع عنده إعانة، أنّ حكم القاضي يصدر عنه اختياراً ولا يؤثّر الترافع في تحقّق الحكم.

وفيه: أنّه نظير إعطاء العصا بيد من يريد الضرب، فإنّه أيضاً لا يكون مضطرّاً إلى الضرب، بل بعد إعطائه العصا، له أن لا يضرب.

وأمّا منع حرمة الإعانة على فرض صدقها فلعلّه من جهة أنّه يريد أخذ حقّه نظير من تمسّك بظالم لإنقاذ حقّه من يد آخر.

وفيه: أنّ له أن يأخذ حقّه بطريق آخر كما سيجي ء.

وقد يستدلّ على حرمة الترافع مطلقاً، بعدم القول بالفصل بين المراجعة إلى


1- كفاية الأحكام 664: 2.
2- جواهر الكلام 35: 40.

ص: 31

قضاة الجور ومن لم يكن جامعاً للشروط.

وفيه: أنّه لا دليل في كلماتهم على التعميم أي مطلق من يكون فاقداً للشروط، بل الظاهر من عباراتهم التخصيص؛ وهو ما يستفاد من ظاهر الآية والروايات.

والحاصل: أنّ عدم القول بالفصل ليس بحجّة. ولكن إذا ثبت القول بعدم الفصل أي ادّعى شخص القول بعدم الفصل؛ فبهذا ينعقد الإجماع، ولو انعقد الإجماع به لا يمكن إثبات صغرى القضية مضافاً إلى أنّ القول بعدم الفصل لا يفيد بالنسبة إلى زمن صدور الرواية.

متى يحرم الترافع إلى قضاة الجور؟

الفرع الثاني: هل حرمة الترافع إلى قضاة الجور تختصّ بمن تمكّن من المراجعة إلى قضاة الحقّ، واستيفاء حقّه من خصمه، ولكنّه مع ذلك يرجع إلى قضاة الجور، أو تشمل ما إذا توقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم، ولو من جهة امتناع خصمه من الترافع إلا إليه؟ ظاهر كلام جمع من المحقّقين الأوّل. قال الإمام (ره): «إلا إذا توقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم، فلا يبعد جوازه، سيّما إذا كان في تركه حرج عليه، وكذا لو توقّف ذلك على الحلف كاذباً جاز»(1).

وقال: في «المسالك»: «ويستثنى منه ما لو توقّف حصول حقّه عليه، فيجوز كما يجوز الاستعانة على تحصيل الحقّ بغير القاضي. والنهي في هذه الأخبار وغيرها، محمول على الترافع إليهم اختياراً مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحقّ»(2).

وقال صاحب «الجواهر»: «نعم، لو توقّف حصول حقّه عليه- ولو لامتناع


1- تحرير الوسيلة: 824.
2- مسالك الأفهام 335: 13.

ص: 32

خصمه عن المرافعة إلا إليهم- جاز كما يجوز الاستعانة بالظالم على تحصيل حقّه المتوقّف على ذلك، والإثم حينئذٍ على الممتنع كما هو ظاهر ما سمعته، من النصوص الظاهرة(1) في اختصاصه بالإثم»(2). ومثله ما في «العروة»(3).

والدليل على الجواز، ظهور الآية الكريمة، والأخبار في اختصاص الحرمة بما إذا أمكنت المراجعة إلى قضاة العدل، مع امتناع الخصم، فلذا كان الإثم على الممتنع، وأمّا من توقّف استيفاء حقّه على الترافع إلى قاضي الجور- وإن كان التوقّف من جهة امتناع خصمه عن المراجعة إلا إليه- فلا يكون مشمولًا لهذه الأدلّة.

وهذا ما يستفاد من الآية الشريفة حيث نقل في شأن نزولها- على ما في المجمع- أنّه كان اختلاف بين أحد المنافقين، ويهودي، ورضي اليهودي بقضاء رسول الله (ص) لاعتقاده بأمانته، وصدقه، فامتنع المنافق من ذلك، وعين واحداً من أكابر اليهود، لعلمه بإمكان إعطائه الرشوة، حتّى يقضي له، فمورد الآية إمكان الترافع إلى قاضي العدل.

وهذا أيضاً ظاهر رواية ابن سنان(4)، وروايتي أبي بصير(5) وعلي بن جعفر(6) المتقدّمان.


1- راجع: وسائل الشيعة 11: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 1.
2- جواهر الكلام 35: 40.
3- العروة الوثقى 425: 6.
4- راجع: وسائل الشيعة 11: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 1.
5- راجع: وسائل الشيعة 219: 29، كتاب الديات، أبواب ديات النفس، الباب 13، الحديث 8.
6- راجع: وسائل الشيعة 50: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 29، الحديث 1.

ص: 33

فتحصّل: أنّ الآية الشريفة وثلاثة من الروايات الأربعة المذكورة مقيّدة بالتمكين من الترافع إلى حاكم العدل؛ ومع ذلك يراجعان إلى حاكم الجور.

ولكن المقبولة مطلقة لقوله (ع): «فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ...»(1) وهو مطلق من جهة إمكان المراجعة إلى غيرهم وعدمه.

ويمكن أن نحملها على مورد عدم توقّف استيفاء الحقّ، على الترافع إليهم، بقرينة تلك الروايات. ولعلّ تعبير الإمام الخميني بقوله: «فلا يبعد جوازه» ولم يقل «جائز» من جهة إطلاق المقبولة. ولكن إذا كان عدم المراجعة وصرف النظر عن حقّه حرجاً، أو ضررياً، فجاز بلا إشكال، من جهة حكومة قاعدتي «نفي الحرج» و «لا ضرر» على المقبولة، فإنّ حرمة الترافع إليهم، تكون حينئذٍ حرجاً عليه، ويوجب المشقّة أو الضرر عليه، فينتفي الحكم بقاعدتي «نفي الحرج» و «لا ضرر ...».

ما أخذ بحكم حاكم الجور

الفرع الثالث: قال الإمام (ره): «وما أخذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً، وفي العين إشكال».

إذا كان الترافع إلى قضاة الجور حراماً- وهو فيما إذا أمكنه الترافع إلى قاضي العدل وراجع إلى قاضي الجور، وحكم له- فهل ما أخذ بحكمهم حرام مطلقاً، أي سواء كان ديناً، أو عيناً، أو فيه تفصيل، ففي الدين حرام بخلاف العين؟


1- وسائل الشيعة 13: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 4.

ص: 34

أقول: الظاهر من مقبولة عمر بن حنظلة حرمته مطلقاً، ديناً كان، أو عيناً، لقوله (ع): «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى طاغوت وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت»(1). لأنّ المراد بالميراث في قول السائل: «بينهما منازعة في دين أو ميراث» هو مقابل الدين أي العين. وكذا ترك الاستفصال في الرواية، بل هو مقتضى عموم التعليل في قوله: «لأنّه أخذه بحكم الطاغوت» ولكن فرّق في «الكفاية»(2) بين الدين والعين ففي الدين حكم بحرمة ما أخذ، بخلاف العين، ولعلّه من جهة أنّ الدين كلّي في الذمّة، وتعيّنه في الشخص بحكم الحاكم وإلزامه. ومع عدم رضا المديون لا أثر لحكم الحاكم حينئذٍ، فيكون المال للغير. والتصرّف فيه حراماً بخلاف العين، فإنّها مملوكة للمالك، وحكم الحاكم يكون موجباً لرفع المنع عن التصرّف في ملكه، فلا إشكال في أخذه، ولذا استشكل الإمام (ره) في العين، من جهة عموم الحكم في المقبولة، ومن جهة عدم خروج العين عن ملكه، بل هي باقية في ملكيته، فلا وجه لحرمتها وإن أخذت بحكم الطاغوت.

ولكن الحقّ: أنّ ما يأخذه حرام مطلقاً سواء في الدين، أو في العين، بمقتضى دلالة المقبولة، وهي آبية عن الحمل على ما قيل، مثل ما قاله السيّد اليزدي (ره)(3)


1- وسائل الشيعة 13: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 4.
2- ويستفاد من الخبرين عدم جواز أخذ شي ء بحكمهم وإن كان له حقّاً، وهو في الدين ظاهر، وفي العين لايخلو عن إشكال، لكن مقتضى الخبرين التعميم.( كفاية الأحكام 663: 2)
3- العروة الوثقى 424: 6.

ص: 35

من حمله على أنّه بمنزلة السحت في العقاب، أو غير ذلك.

ثمّ إنّ كونه حراماً لا ينافي كونه ملكاً له، فإنّ الأخذ بحكم حاكم الجورينطبق عليه عنوان محرّم، فيوجب حرمة التصرّف فيه، وإن كان ملكاً له، فما استقرّبه بعض؛ من عدم خروج المال عن ملكه، فلا وجه للحرمة؛ في غير محلّه.

ما أخذ بحكم من لا أهلية له

هذا كلّه فيما إذا أخذ المال بحكم قضاة الجور، المنصوبين من قبل السلطان الجائر، في الحكومة الطاغية. أمّا إذا أخذ المال بحكم من لم يكن أهلًا ومستجمعاً لشروط القضاء، فلا يكون التصرّف فيه حراماً، وإن كان الترافع إليهم حراماً أيضاً، كما تقدّم.

ولذا قال السيّد (ره) في «ملحقات العروة»: «هذا بالنسبة إلى ما أخذ بالترافع إلى قضاة الجور. وأمّا المأخوذ بالترافع إلى غيرهم ممّن ليس من أهل الحكم؛ فإنّه وإن فعل حراماً إلا أنّ حرمة ما يأخذه من حقّه- عيناً أو ديناً- غير معلومة، فيعاقب على فعله لا على التصرّف في المأخوذ. والخبر مختصّ بقضاة الجور، بل المنصوبين منهم للقضاء، وشموله لغيرهم غير معلوم»(1).


1- العروة الوثقى 425: 6.

ص: 36

مسألة 5: يجوز لمن لم يتعيّن عليه القضاء الارتزاق من بيت المال ولو كان غنيّاً، وإن كان الأولى الترك مع الغنى، ويجوز مع تعيّنه عليه إذا كان محتاجاً، ومع كونه غنيّاً لا يخلو من إشكال؛ وإن كان الأقوى جوازه. وأمّا أخذ الجعل من المتخاصمين أو أحدهما، فالأحوط الترك حتّى مع عدم التعيّن عليه، ولو كان محتاجاً يأخذ الجعل أو الأجر على بعض المقدّمات (7).

(7) هاهنا ثلاث مسائل.

المسألة الاولى: في ارتزاق القاضي من بيت المال.

المسألة الثانية: في أخذ الاجرة على القضاء.

المسألة الثالثة: أخذ الجعل من المتخاصمين، أو من أحدهما، أو من آخر.

ثمّ إنّ للقاضي أربع حالات، فإنّه قد يتعيّن عليه القضاء، فيكون القضاء واجباً عينيّاً عليه، وقد لا يتعيّن عليه، بل يجب عليه كفاية، وعلى الحالتين؛ قد يكون غنيّاً وله كفاية من ماله، وقد يكون محتاجاً ولو من جهة اشتغاله بالقضاء فلا تبقى له فرصة للاكتساب.

ارتزاق القاضي من بيت المال

اشارة

المسألة الاولى: في ارتزاق القاضي من بيت المال وفيها أقوال ثلاثة:

الأوّل: الجواز مطلقاً، أي مع تعيّن القضاة عليه وعدمه ومع غنائه واحتياجه.

الثاني: عدم الجواز مطلقاً.

ص: 37

الثالث: التفصيل: فمع عدم تعيّن القضاء عليه، يجوز له الارتزاق وإن كان غنيّاً ومع التعيّن وغناه، لا يجوز له الارتزاق.

ولا يخفى: أنّ المراد من بيت المال هو البيت أو الصندوق الذي يجمع فيه ما يصرف في مصالح الإسلام والمسلمين، وليس له مصرف خاصّ كالأنفال، والجزية؛ والخراج؛ والمقاسمة؛ والمال الموصي صرفه في وجوه البرّ، والقسم الخاصّ من الزكاة؛ الذي يصرف في سبيل الله.

أمّا القول بالجواز مطلقاً،- جواز الارتزاق من بيت المال- فقد اختاره الإمام الخميني (ره)(1) والسيّد الطباطبائي في «ملحقات العروة»(2) والعلامة في «القواعد»(3) والسيّد الخوئي في «مباني تكملة المنهاج»(4).

والدليل عليه امور:

منها: ما في «العروة» حيث قال: إنّ بيت المال معدّ لمصالح المسلمين وهذا منها لتوقّف انتظام امور المسلمين عليه.

وقد استقرّت السيرة بين المسلمين عليه من صدر الإسلام، وفي زمن الخلفاء؛ حيث إنّ القضاة كانوا يرتزقون من بيت المال. قال ابن قدامة:(5) «روي عن عمر أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقاً ورزق شريحاً في كلّ شهر مائة درهم». وكذا استمرّت السيرة في عهد خلافة أمير المؤمنين (ع) الظاهرية،


1- راجع: تحرير الوسيلة: 824، مسألة 5.
2- العروة الوثقى 441: 6.
3- قواعد الأحكام 422: 3.
4- مباني تكملة المنهاج 4: 1.
5- المغني، ابن قدامة 376: 11.

ص: 38

فجعل لشريح من بيت المال شيئاً أقلّ ممّا كان في زمن عمر حيث جعل له في كلّ سنة خمس مائة درهم، أي في كلّ شهر ما يقرب من واحد وأربعين درهماً ونصفاً، كما عن «نظام القضاء»(1) و «السرائر»(2)، ولم يفرّقوا بين تعيّنه عليه وعدمه ولم يعهد منهم السؤال عن كفايته وغناه وعدمها، ولا دليل على كون بيت المال لذوي الحاجة أصلًا، بل هو معدّ للمصالح العامّة، بل الأدلّة مطلقة كمايأتي.

ومنها: ما استدلّ به السيّد(3) أيضاً وهو إطلاق مرسلة حمّاد بن عيسى الطويلة الواردة في الخمس، والأنفال، والغنائم، والأرضين التي أخذت عنوة، والزكاة، وفيها قال (ع): «ويؤخذ الباقي، فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام، وتقوية الدين في وجوه الجهاد، وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة»(4).

قال صاحب «الوسائل» في ذيلها: «أقول يظهر منه جواز الرزق للقاضي من بيت المال وهو تامّ لأنّ القضاء من أوضح مصاديق ما فيه مصلحة العامّة».

ثمّ إنّ الرواية وإن كانت مرسلة، ولكنّها منجبرة بعمل الأصحاب، كما قاله الفاضل النراقي (ره) في «المستند»(5) ولذا ذهب إلى جواز الارتزاق من بيت المال ولو مع التعيين وعدم الحاجة، كما حكي عن بعضهم عليه الإجماع.


1- نظام القضاء والشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء 151: 1.
2- السرائر 178: 2.
3- العروة الوثقى 442: 6.
4- وسائل الشيعة 221: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 2.
5- مستند الشيعة 68: 17.

ص: 39

وقد قيّد في «اللمعة»(1) الجواز بالحاجة ولا وجه له بعد عموم الرواية المنجبرة.

ومنها: ما استدلّ به أيضاً في «العروة»(2) من إطلاق خبر «الدعائم» عن علي (ع) أنّه قال: «لا بدّ من إمارة ورزق للأمير، ولا بدّ من عريف ورزق للعريف، ولا بدّ من حاسب ورزق للحاسب، ولا بدّ من قاضٍ ورزق للقاضي، وكره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضي لهم، ولكن من بيت المال»(3). وهو أيضاً يدلّ على جواز رزق القاضي من بيت المال بنحو مطلق.

ولا يخفى: أنّ الارتزاق غير أخذ الاجرة فإنّ الاجرة في مقابل العمل، فيأخذها الأجير في قبال عمله وأمّا الارتزاق فيكون للشخص بما أنّه قاض أو مؤذّن أو غيرهما لا في مقابل القضاء أو الأذان.

ومنها: ما عن علي (ع) في كتابه إلى مالك الأشتر عامله على مصر فإنّه- بعد ما قال: «واختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك» وذكر صفات القاضي- قال: «وأكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيح علّته، وتقلّ معه حاجته إلى الناس»(4).

ومعلوم أنّه أمر بالبذل إلى القاضي من بيت المال، فإنّه ليس عند عامله غيره، وهو أيضاً لا إشكال في إطلاقه بالنسبة إلى الجهات المذكورة من وجوبه عليه عيناً وكفاية وغناه أو حاجته.


1- اللمعة الدمشقية: 79.
2- العروة الوثقى 442: 6.
3- دعائم الإسلام 538: 2.
4- وسائل الشيعة 223: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 9.

ص: 40

وأمّا القول بعدم الجواز- عدم جواز الارتزاق من بيت المال- مطلقاً فقد اختاره صاحب «الجواهر» (ره)(1) وغيره(2).

واستدلّ له بصحيحة عبدالله بن سنان قال سئل أبو عبدالله (ع) عن قاض بين قريتين أو فريقين، يأخذ من السلطان على القضاء الرزق، فقال: «ذلك السحت»(3) وقد رواها المحمّدون الثلاثة(4).

ويرد عليه: أنّ إطلاق «السحت» عليه، لعلّه من جهة أخذه من السلطان الجائر- سواء قلنا إنّ ما يؤخذ من السلطان بما أنّه مأخوذ من السلطان سحت أو بما أنّه مأخوذ بإزاء القضاء سحت- فلا يمكن الاستدلال بها.

أمّا القول بالتفصيل فممّن قال به هو المحقّق في «الشرائع» قال: «إذا ولّى من لا يتعيّن عليه القضاء فإن كان له كفاية من ماله، فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال»(5). قال في الجواهر: «توفيراً لغيره من المصالح ولو طلب جاز لأنّه من المصالح. وإن تعيّن عليه القضاء ولم يكن له كفاية، جاز له أخذ الرزق. وإن كان له كفاية قيل: لا يجوز له أخذ الرزق، لأنّه يؤدّي فرضاً»(6).

وبما أنّه اكتفى بنقل عدم الجواز والتعليل له، يستظهر أنّه قَبِلَه، فعمدة استدلاله وكذا استدلال غيره أنّه- في الفرض- يجب عليه القضاء عيناً، ولا ضرورة له من


1- جواهر الكلام 122: 22.
2- الخلاف 233: 6؛ تهذيب الأحكام 222: 6.
3- وسائل الشيعة 221: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 1.
4- راجع: الكافي 409: 7؛ الفقيه 6: 3؛ تهذيب الأحكام 222: 6.
5- شرائع الإسلام 862: 4.
6- جواهر الكلام 51: 40.

ص: 41

جهة الإعاشة فارتزاقه من بيت المال وأخذ الرزق، ينافي الوجوب.

ويرد عليه: أنّا فرقنا بين الارتزاق وأخذ الاجرة والعوض على القضاء، فلو سلّمنا التنافي بين الوجوب وأخذ العوض لم ينطبق على الارتزاق من بيت المال بلا شبهة.

أخذ الاجرة أو الجعل في القضاء

مسألتا الثانية والثالثة: أخذ الاجرة؛ أو الجعل على القضاء من المتخاصمين، أو من أحدهما، أو من غيرهما:

والبحث في المسألتين واحد، فإن حكم أخذ الجعل مثل حكم أخذ الاجرة بلا تفاوت بينهما.

مضافاً إلى أنّ المتعارف اليوم، هو توظيف القضاة في السلطة القضائية وتعيين الأجر لهم فحينئذٍ لا وجه لأخذ الجعل من المتخاصمين، بل لا يجوز بلا شبهة، فلذا نمحّض البحث في الاجرة.

وأمّا البحث عن ارتزاق القاضي من بيت المال، فهو وإن لم يكن محلًا للابتلاء فعلًا، لكنّا سنبحث عنه لأجل توضيح معنى «بيت المال» وبيان مصارفه.

أخذ الاجرة على القضاء من بيت المال

فنقول: اختلفوا في جواز أخذ الاجرة على القضاء على أقوال:

أوّلها: الجواز مطلقاً، قال به السيّد (ره) في «العروة»(1) ونقله عن جماعة(2)، بل قال:


1- العروة الوثقى 441: 6.
2- مستند الشيعة 67: 17.

ص: 42

«إنّه المشهور» واستظهره السيّد الخوئي (ره) في «مباني التكملة»(1).

ثانيها: عدم الجواز مطلقاً، كما عن جماعة، منهم الشيخ (ره) في «المبسوط» حيث قال: «عندنا لا يجوز بحال»(2) وظاهره الإجماع عليه.

وقال الإمام (ره): «وأمّا أخذ الجعل من المتخاصمين أو أحدهما، فالأحوط الترك حتّى مع عدم التعيّن عليه»(3).

ثالثها: التفصيل بين من لا يتعيّن عليه القضاء أو مع الحاجة أيضاً فيجوز، وبين من يتعيّن عليه أو مع الكفاية، فلا يجوز، كما قال به المحقّق (ره) في «الشرائع»(4). وأقواها الأوّل: أي الجواز مطلقاً لعدم الدليل على المنع- سوى ما يقال: من عدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات- وبعض الروايات؛ وكلاهما ممنوع، فإذا لم يكن دليل على المنع فالوجه الجواز؛ للأصل والإطلاقات. أمّا دليل عدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات فقالوا من جهتين:

الاولى: التنافي بين وجوب عمل على شخص، وأخذ الاجرة عليه.

الثانية: التنافي بين قصد القربة المعتبرة في العبادات وبين أخذ الاجرة.

أمّا الاولى، فلأنّه يعتبر في صحّة الإجارة أن يكون متعلّقها مملوكاً للموجر حتّى يصحّ نقله إلى المستأجر، سواء كان اعتبار المملوكية ثابتاً له قبل العقد كمنافع الدار المملوكة قبل الإجارة، أو كان اعتبار المملوكية بعد العقد كعمل


1- مباني تكملة المنهاج 4: 1.
2- المبسوط 151: 8.
3- تحرير الوسيلة: 824، مسألة 5.
4- شرائع الإسلام 862: 4.

ص: 43

الحرّ فإنّه وإن لم يعتبر مملوكاً لعامله قبل العقد إلا أنّه بالعقد يعتبر مملوكاً للمستأجر.

ثمّ إنّ تعلّق الوجوب بعمل، يوجب أن لا يكون مملوكاً للفاعل حتّى يصحّ نقله بالإجارة لأنّه يصير حينئذٍ مملوكاً لله (سبحانه و تعالى)، ومستحقّاً له، فعلى عهدته أن يعمل هذا العمل لله تعالى، فلا يمكن أن ينقله إلى المستأجر ويأخذ الاجرة عليه ويعمله له فإنّه نظير أن يؤاجر نفسه لرجلين لعمل مثل الحجّ في سنة واحدة عنهما وليس ذلك إلا من جهة أنّ الفعل صار مملوكاً للأوّل، ومستحقّاً له فلا معنى لتمليكه ثانياً للآخر. ويأتي تقريره في الواجب الكفائي أيضاً، فإنّ العمل قبل صدوره من العامل، وإن لم يتّصف بكونه مملوكاً لله (سبحانه و تعالى)، لعدم تعيّنه عليه؛ إلا أنّه بعد أن أراد إصداره يتّصف بكونه مملوكاً لله (سبحانه و تعالى)، أي صدر العمل مملوكاً لله (سبحانه و تعالى)، فلا يمكن أن تتعلّق به الإجارة المقتضية لكون العمل صادراً مملوكاً للمستأجر.

وهذا أقوى الوجوه التي استدلّ بها في «جامع المقاصد» وهو لو تمّ، لكان مقتضاه عدم جواز أخذ الاجرة على القضاء مطلقاً.

ولكن يرد عليه: أنّ الأمر من جانب الله عزّ وجلّ إذا تعلّق بفعل، يوجب البعث وتحريك العبد إلى إتيان ذلك الفعل، وغاية ما يدلّ عليه أنّ الفعل كان مطلوباً لله (سبحانه و تعالى)، وأراد من عبده صدوره، أمّا دلالته على كونه مملوكاً لله (سبحانه و تعالى) فلا، بل ولا يستفاد من أيّ دليل. كيف؟! وقد حقّق في الاصول أنّ متعلّق الأحكام، إنّما هي نفس الطبائع، لا الأفراد، ولا معنى لكون الطبيعة مملوكة أصلًا.

وقد أجاب السيّد (ره) بقوله: «لا مانع من اجتماع المالكين إذا كانت إحدى

ص: 44

الملكيتين في طول الاخرى فإنّ الله عزّ وجلّ مالك لذلك الفعل، والمستأجر أيضاً مالك له»(1).

وأمّا الثانية، فلأنّ في الواجبات العبادية يلزم العبد أن يأتي بها بداعي القربة، وبداعي امتثال أمره (سبحانه و تعالى) وهذا ينافي الداعي الآخر، وهو أن يأتي بها بإزاء الاجرة المأخوذة.

وأجاب عنه جمع من المحقّقين بأنّ الاجرة داعية في طول داعي القربة لا في عرضه، وما يضرّ بالإخلاص إنّما هو الداعي الدنيوي الذي هو في عرض داعي الامتثال، كالرياء، وسائر الدواعي النفسانية، وأمّا إذا كان في طوله فلا بأس، كما في المقام، فإنّ الداعي لنفس العمل هو امتثال الأمر المتعلّق به، وأمّا الداعي لإتيان العمل بداعي امتثال أمره، فهو عرض آخر دنيوي أو اخروي لا يرجع إلى الله عزّ وجلّ، ولا بأس به، لأنّه لا دليل على لزوم أن يكون سلسلة العلل كلّها راجعة إلى الله. كيف؟! ولازمه الحكم ببطلان عبادة جلّ الناس بل كلّهم، عدا من عصمه الله عزّ وجلّ منهم، لأنّ داعيهم إلى امتثال أوامر الله عزّ وجلّ إنّما هو الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب.

فالحاصل: أنّه لا تنافي بين الداعيين أي قصد القربة، وأخذ الاجرة على الواجبات العبادية، وكذا لا تنافي بين الوجوب وأخذ الاجرة، فما قيل من عدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات في غير محلّه، ولا وجه له.

نعم، قام الدليل على أنّ بعض الواجبات، لابدّ أن يؤتي بها مجّاناً وبلا عوض مثل العباديات. وفيما لم يكن دليل على ذلك- مثل الواجبات الكفائية المتوقّفة


1- العروة الوثقى 439: 6.

ص: 45

حفظ النظام عليها- لا مانع من أخذ الاجرة عليها، ومنها القضاء، والطبابة، وأمثالهما لعدم احتياجها إلى قصد القربة.

وقد يستدلّ على عدم الجواز بصحيحة عمّار بن مروان، قال: قال أبو عبدالله (ع): «كلّ شي ء غُلَ(1) من الإمام فهو سحت، والسحت أنواع كثيرة، منها: ما اصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها: اجور القضاة واجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ المسكر، والربا بعد البيّنة، فأمّا الرشا- يا عمّار- في الأحكام، فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم ورسوله (ص)»(2).

بتقريب: أنّ الظاهر منها أنّ اجور القضاة سحت و «القضاة» جمع محلّى بالألف واللام، فيدلّ على العموم، أي أنّ كلّ ما يأخذه القاضي- سواء كان منصوباً من قبل السلطان العادل أو الظالم- بعنوان الأجر فهو سحت.

وأجاب عنه السيّد الخوئي (ره): «بأنّ الظاهر منها أنّ الضمير في قوله (ع): «ومنها اجور القضاة» يرجع إلى الموصول في جملة: «ما اصيب من أعمال الولاة» بقرينة عدم تكرار لفظ «منها» في «اجور الفواجر» وما بعدها، فيصير المعنى: أنّ الأموال التي تصاب من أعمال الولاة- التي منها اجور القضاة- سحت، فلا دلالة فيها على أنّ الأجر على القضاة محرّم مطلقاً حتّى إذا لم يكن من عمّال ولاة الجور، كان قضاؤه حقّاً»(3).


1- « الغلول: الخيانة الخفيفة ولا سيّما في الغنيمة» يستفاد هذا المعنى من اللغة وإليك بعض الكتب: « يقال غلّ شيئاً من المغنم: إذا أخذ منه خفية ... وكلّ من خان في شئ خفية فقد غلّ».( مجمع البحرين 325: 3) وكذا في المنجد:« الغِلّ: الحقد والغش، أغلّه أي نسبه إلى الخيانة».
2- وسائل الشيعة 95: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 12.
3- مباني تكملة المنهاج 5: 1.

ص: 46

ولكن يرد على استدلال السيّد الخوئي (ره):

أوّلًا: أنّ عدم تكرار كلمة «منها» في جمله «اجور القضاة وما بعدها» لا تكون دليلًا على عدم جواز إرجاع الضمير في منها إلى كلمة «السحت» حتّى يراجع الضمير إلى الموصول في جملة «ما اصيب من أعمال الولاة»، بل يصحّ أن يتكرّر كلمة منها في بيان تمام الأقسام؛ ويقال منها فلان، ومنها فلان، ومنها فلان؛ واخرى لا يتكرّر أصلًا بأن قال ذلك وذلك وذلك وثالثة يصحّ أن يتكرّر في مورد، أو موردين، ولا يتكرّر في الباقي، فإنّه أمر متعارف وليس فيه إبهام.

ثانياً: أنّه لا يوافق القواعد العربية فإنّ «ما» الموصول مذكّر، ولا بدّ من إرجاع ضمير المذكّر إليه. ولو قيل: إنّه بلحاظ المعنى مؤنّث، فإنّه بمعنى الأموال، فمع هذا لا يجوز أيضاً إرجاع ضمير المؤنّث إليه، لإرجاع ضمير المذكّر في اصيب إليه ولا يصحّ لحاظ اللفظ في واحد ولحاظ المعنى في آخر.

ويرد على الاستدلال بالرواية أيضاً- عمّار بن مروان-: أنّ القضاة الذين حكم (ع) بأنّ اجورهم من السحت هم الذين كانوا مشتغلين بالقضاء ومتصدّين له من قِبَلِ ولاة الجور، وعلى الأقلّ فإنّ القدر المتيقّن منهم ذلك، وإطلاق الرواية أيضاً منصرف إليه فلا تشمل القضاة الذين ليس لهم تلك الخصوصية بلا إشكال.

وقد يستدلّ على عدم الجواز بصحيحة عبدالله بن سِنان المتقدّمة، قال: سئل أبو عبدالله (ع) عن قاض بين قريتين، يأخذ من السلطان على القضاء الرزق، فقال: «ذلك السحت»(1).


1- وسائل الشيعة 221: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 1.

ص: 47

بتقريب: أنّ تعبير «على القضاء الرزق» يحمل على الاجرة، فقال (ع): «ذلك السحت»، أي مطلقاً.

ولكن يرد عليه: أنّ كونه سحتاً، إنّما هو من جهة الأخذ من السلطان الجائر، كما تقدّم، ولا يشمل غيره.

حاصل الكلام في أخذ الاجرة للقاضي من بيت المال

ثمّ إنّه بعد ما تبيّن عدم تمامية عمدة ما استدلّ به على المنع مطلقاً، فالمستفاد من الأصل وإطلاقات أدلّة الإجارة هو الجواز مطلقاً، فإنّ عمل الإنسان محترم، وينتفع منه المجتمع فإذا كان واجداً لبقية شروط الإجارة فلا وجه للمنع عنه، فمقتضى الأصل، صحّة أخذ الاجرة في مقابل عمل القاضي، كما تشمله إطلاقات الإجارة.

ثمّ إنّ الإمام (ره) إحتاط لزوماً في عدم جواز أخذ الاجره على القضاء مطلقاً؛ حتّى في صورة عدم التعيّن.

ولعلّ الوجه فيه ما يستفاد من بعض الكلمات والاستدلالات لصاحب الجواهر (ره)، فإنّه كان من القائلين بعدم جواز أخذ الاجرة على القضاء مطلقاً وعدم جواز ارتزاق القاضي من بيت المال مطلقاً، لكنّه أجاز له عند الحاجة الارتزاق من بيت المال، لكونه أحد المحتاجين والفقراء الذين يمكن ارتزاقهم من بيت المال لا بعنوان القاضي.

واستدلّ عليه بوجوه في كتاب التجارة، حيث قال: «لأنّه من مناصب السلطان الذي أمرالله عزّ وجلّ بأن يقول: قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً(1) وأوجب التأسي


1- الأنعام( 6): 90.

ص: 48

به»(1). لقوله عزّ وجلّ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ اسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً(2) لكنّ الظاهر عدم تمامية الاستدلال بالآية، فإنّ الآية راجعة إلى أمر تبليغ الرسالة وهداية الناس المأمور به من جانب الله عزّ وجلّ بقوله: يَا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأنذِرْ(3) وقوله عزّ وجلّ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ(4) وقوله: فَاسْتَقِمْ كَمَا امِرْتَ(5) فلا تكون مرتبطة بباب القضاء. ولعلّ وجه احتياط الإمام هو ما يستفاد من صدر كلام «الجواهر» حيث قال: «لأنّه من مناصب السلطان الذي أمر الله عزّ وجلّ بأن يقول: اوْلَئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ* اوْلَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(6) ولهذا في توجيه كلام الإمام (ره) نقول:

نعم، أصل كون منصب القضاء من مناصب النبيّ (ص) مسلّم، إلا أنّ هذا المنصب الجليل ممّا فوّضه الله عزّ وجلّ إلى نبيّه (ص) ليحكم بين الناس بما أنزل الله، قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمّ لا يَجِدُوا فِى أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً(7) وقال علي (ع)


1- جواهر الكلام 122: 22.
2- الأحزاب( 33): 21.
3- المدّثر( 74): 1- 2.
4- الحجر( 15): 94.
5- هود( 11): 112.
6- الأنعام( 6): 89- 90.
7- النساء( 4): 65.

ص: 49

لشريح: «يا شريح! قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبيّ، أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ»(1)، فلا ينبغي لمن إتّكأ على هذا المتّكأ وجلس هذا المجلس العظيم للحكم بين عباده، أن يأخذ منهم الاجرة، بل مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون القضاء مجّاناً؛ وليس قابلًا لأن تقع عليه الإجارة؛ لأنّه من المناصب الإلهية فالإمام (ره)- ولأجل هذه الشبهة- احتاط في المقام لزوماً، لما كان في ذهنه الشريف من أنّ المنصب ينافي أخذ الاجرة.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه يصحّ الالتزام بهذه المقالة فيما لو كان مجتهداً جامعاً للشروط وفقيهاً منصوباً من قبل الإمام عموماً، وقد يتّفق مراجعة بعض الناس إليه لفصل الخصومة في كلّ يوم مرّة، ومرّتين؛ فحينئذٍ يأتي إلى الذهن أنّ أخذه الاجرة على هذا الأمر العظيم غير مناسب لمقامه.

بل أنّ له خصوصيات كخصوصيات قضاء النبيّ (ص).

منها: عدم جواز الاعتراض عليه، ووجوب القبول، كما كان لرسول الله (ص) لقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِى أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً(2) ولما في مقبولة عمر بن حنظلة: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله، وعليه ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله عزّ وجلّ»(3).

ومنها: عدم جواز طرح الدعوى عند قاض آخر.


1- وسائل الشيعة 17: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.
2- النساء( 4): 65.
3- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

ص: 50

ومنها: عدم جواز نقض الحكم من قبل قاض آخر.

ومنها: غيرها، فمن هذه الخصوصيّات يستفاد لزوم كون قضائه مجّاناً.

ولكنّه لا يمكن تطبيقه على ما هو المبتلى به في هذا الزمان، حيث رفعت اليد عن اعتبار الاجتهاد المطلق في القاضي، إلى مَن أمكنه القضاء تقليداً. وذلك لكثرة القضايا بحيث صار القضاء من الوظائف الرسمية في البلد. وهذا ممّا أجازه الإمام (ره) في زمان ولايته، في الجمهورية الإسلامية في إيران مع أنّه كان معتقداً قبل ذلك اشتراط الاجتهاد المطلق في القاضي، كما لم يعترض على توظيف القضاة؛ وأخذهم الاجرة على القضاء.

وما قاله في ذيل كلامه من أنّه: «لوكان محتاجاً يأخذ الجعل أو الأجر على بعض المقدّمات» شاهد قويّ على ما في ذهنه الشريف من الفرض، وإلا ففي هذه الأزمنة يتصدّى أعوان القاضي جميع المقدّمات كرئيس مكتبة أو المشاور أو غيرها؛ وليست المقدّمات على عهدة القاضي أصلًا. مضافاً إلى أنّ المقدّمات على قسمين كما ذكرهما صاحب «الجواهر»(1) فبعضها داخل في أمر القضاء، كسماع الشهادة، والجرح، والتعديل، ونحوهما؛ فتكون كالقضاء في تحريم العوض، وبعضها خارج عن القضاء ومقدّماته، كالكتابة ونحوها، وهذه يجوز أخذ الاجرة عليها بلا إشكال.

ثمّ إنّه بقي أمران متعارفان ومتداولان اليوم في النظام القضائي في الجمهورية الإسلامية، وفي جميع المحاكم.

الأمر الأوّل: ما تأخذه المحكمة من مال المدّعى متناسباً مع المدّعى به


1- جواهر الكلام 123: 22.

ص: 51

بحسب النسبة المئوية وما تلزمه به المدّعى من دفع قيمة بعض الطوابع المالية حتّى تقدّم على قبول دعواه وكتابتها في سجلات المحكمة؛ بحيث لو امتنع المدّعى من أدائه لامتنعت المحكمة من قبول دعواه، واستماعها، وإثباتها في سجلاتها، فهل يجوز إعطاء هذا المبلغ وأخذه أم لا؟

لا إشكال في أنّ هذا المبلغ، لايرتبط بأمر القضاء أصلًا، ولا يكون في مقابل قضاء القاضي، بل الوجه فيه أمران.

أوّلهما: أنّ له جهة ردع؛ فإنّه لو قبلت الدعوى من كلّ أحد مجّاناً، لادّعى كلّ أحد دعوى على غيره ولو كانت واهية، ومن غير دليل، ولصار هذا سبباً لتراكم الدعاوي واشتغال المحاكم بامور تافهة ولتأخّرت الدعاوي المهمّة، ولتضرّر المتخاصمان كثيراً.

ثانيهما: أنّ هذا أحد المنابع المالية للدولة والحكومة لتأمين ما يلزم صرفه في إدارة شؤون النظام، ودفع نفقات المشاريع التي تستحدثها، كما أنّ أحدها أيضاً الضرائب، ولذا يجعل المأخوذ في بيت المال أي الخزانة العامّة.

والنتيجه: إنّ هذا أمر حكومي، وللحاكم أن يأخذ هذا المبلغ بعد أن يدوَّن له قانون خاصّ، فلا وجه لعدم جوازه.

نعم، لو كان المدّعى معسراً وعاجزاً عن أداء هذا المبلغ، فليس للحاكم الامتناع عن قبول دعواه، والنظر فيها.

الأمر الثاني: تغريم المحكوم عليه، كلّ ما أنفقه المحكوم له من المبالغ التي أنفقها على الدعوى، فإذا أثبت المدّعى دعواه عند الحاكم، وحكم له على طبقها، وألزم المدّعى عليه بأداء ما كان على ذمّته وأنكره- سواء كان من الديون، أو الأعيان الخارجيه المملوكة للمدّعي- فهل له أن يطلب من الحاكم

ص: 52

مسألة 6: أخذ الرشوة وإعطاؤها حرام إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل. نعم، لو توقّف التوصّل إلى حقّه عليها جاز للدافع وإن حرم على الآخذ. وهل يجوز الدفع إذا كان محقّاً ولم يتوقّف التوصّل إليه عليها؟ قيل: نعم، والأحوط الترك، بل لا يخلو من قوّة. ويجب على المرتشي إعادتها إلى صاحبها؛ من غير فرق- في جميع ذلك- بين أن يكون الرشى بعنوانه أو بعنوان الهبة أو الهديّة أو البيع المحاباتي ونحو ذلك. (8)

أن يحكم على المدّعى عليه بأداء كلّ ما صرفه المدّعي لاستيفاء حقّه، من المبلغ الذي دفعه للمحكمة لقبول دعواه واستماعها اجرة المحامي واجرة الخبراء والمقوّمين وغيرها، كما هو المتعارف اليوم، أم لا؟

الظاهر الجواز؛ وذلك لأنّ الموجب لصرف هذه المبالغ، هو المدّعى عليه في الأعمّ الأغلب؛ فإنّه بإنكاره صار موجباً، لأن يتوقّف استيفاء حقّ المدّعي، على صرف هذه النفقة، وصرفها ضرر عليه، ومنشأ الضرر هو المدّعى عليه، فلا محيص له من جبران الضرر «بقاعدة لا ضرر ...».

وهذا أيضاً غير مرتبط بأخذ الاجرة على القضاء.

جهات في أخذ الرشوة في القضاء

اشارة

(8) قد بحّث الفقهاء عن الرشوة في بابين: في المكاسب المحرّمة، وفي كتاب القضاء. والآن لا بدّ لنا أن نبحث من جهات:

ص: 53

الجهة الاولى: في ماهية الرشوة وأنّ الرشوة ما هي؟

قد يقال: إنّ الرشوة ما يبذله للقاضي ليحكم له بالباطل، قال في «مجمع البحرين»: «والرشوة قلّ ما تستعمل إلا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل»(1).

وقد يقال: إنّ الرشوة ما يبذله للقاضي ليحكم له؛ حقّاً كان أو باطلًا، أو لغير القاضي كموظّف الدولة مثلًا، ففي «المصباح المنير»: «هي ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره؛ ليحكم له، أو يحمله على ما يريد»(2).

وفي «النهاية» لابن الأثير: «الرشوة الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة ..، فالراشي: من يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش: الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا، ويستنقص لهذا»(3).

فيستفاد من كلمات اللغويين استعمالها في المعنى الخاصّ عند بعض، وفي المعنى العامّ عن آخر.

ومثله الحال عند الفقهاء حيث تستعمل في المعنيين. ولكن المشهور هو المعنى العامّ؛ أي ما يبذل للقاضي أو للموظّف للحكم بالحقّ، أو بالباطل، أو لحمله على ما يريده وهو الذي يستفاد من الأدلّة؛ على ما يأتي، قال المحقّق الأردبيلي في «مجمع الفائدة»: «والظاهر أنّ المراد بها هنا، ما يعطى للحكم؛ حقّاً، أو باطلًا، لأنّه المفهوم الموافق للّغة والخبر ..، فتخصيص البعض بأنّها التي يشترط


1- مجمع البحرين 182: 2.
2- المصباح المنير 228: 2.
3- النهاية في غريب الحديث 226: 2.

ص: 54

بإزائها الحكم بغير الحقّ، والامتناع من الحكم بالحقّ، غير جيد»(1).

وقال الشيخ الأعظم الأنصاري (ره)(2): «نعم، لا تختصّ بما يبذل على خصوص الباطل، بل تعمّ ما يبذل لحصول غرضه؛ وهو الحكم له، حقّاً كان أو باطلًا، وهو ظاهر ما تقدّم عن «المصباح» و «النهاية».

فتحصّل: أنّ الرشوة كما تتحقّق بإعطائها إلى القاضي للحكم بالباطل، تتحقّق بإعطائها للحكم بالحقّ، وأنّها لا تختصّ بباب القضاء، بل تعمّ العامل الذي وظف ليعمل العمل على حسب وظيفته ولكنّه يأخذ مالًا، من المراجعين ليعمل لهم، حقّاً، أو باطلًا.

الجهة الثانية: في حكم الرشوة في الإسلام

لا إشكال في حرمتها، وتدلّ عليها الأدلّة الأربعة: من الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل، بل ضرورة المذهب، أو الدين.

الأوّل: أمّا الإجماع، فقال في «المسالك»: «اتّفق المسلمون على تحريم الرشوة على القاضي والعامل»(3).

وقال في «مفتاح الكرامة»: «وأمّا حرمتها على القاضي، فهي من ضروريات المذهب، بل الدين، والأخبار المستفيضة»(4).

الثاني: وأمّا الكتاب، فقد استدلّ بقوله تعالى: وَلا تَأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ


1- مجمع الفائدة والبرهان 49: 12.
2- كتاب المكاسب 242: 1.
3- مسالك الأفهام 419: 13.
4- مفتاح الكرامة 33: 10.

ص: 55

بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ(1).

قال في «المجمع» «يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض بالغصب والظلم والوجوه التي لا تحلّ، وتلقوا بالأموال إلى القضاة، لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالعمل الموجب للإثم، وأنتم تعلمون أنّ ذلك الفريق من المال، ليس بحقّ لكم وأنتم مبطلون»(2).

وقال العلامة الطباطبائي في «الميزان» الإدلاء: «هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء، كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكّام ليحكموا كما يريده الراشي. وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة، الممثّل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده»(3).

والحاصل: إنّ صدر الآية يدلّ على حرمة مطلق أكل المال بالباطل، وذيلها يدلّ على حرمة قسم خاصّ منه؛ وهو إعطاء الرشوة للحاكم؛ ليحكم الراشي بقطعة من أموال الناس، فكما أنّ الرشوة للحاكم أكل للمال بالباطل، كذلك أخذ المحكوم له مالًا من المحكوم عليه بالإثم هو أيضاً أكل للمال بالباطل، فالخطاب في الآية وإن كان متوجّهاً إلى الراشي، ويدلّ على حرمة إعطاء الرشوة، إلا أنّه يدلّ بالملازمة على حرمة أخذها على الحاكم؛ فإنّه أكل للمال بالباطل أيضاً.

والظاهر منها أيضاً حرمة إعطاء الرشوة للحكم بالباطل، ولكنّه لا يظهر منها


1- البقرة( 2): 188.
2- مجمع البيان 25: 2.
3- الميزان في تفسير القرآن 52: 2.

ص: 56

الاختصاص، بل تدلّ على حرمة هذا القسم منها فحسب، فلو دلّ دليل على حرمة أخذ الرشوة وإعطائها للحكم بالحقّ أيضاً، لما ينافي الآية الكريمة. لأنّ الآية تدلّ على الحرمة في مورد ومع هذا لا تدلّ على الحرمة في مورد آخر.

ويحتمل أن يقال في تفسير الآية الكريمة: إنّ قيد «بالإثم» في الآية، وارد في مورد الغالب؛ ولا يكون القيد احترازياً فإنّ أكثر موارد إعطائها، للحكم بالباطل، فنفس الآية أيضاً تدلّ على حرمة الرشوة على الحقّ. كما تدلّ على حرمة الرشوة للحكم بالباطل.

الثالث: وأمّا السنّة، فقد وردت روايات كثيرة متواترة من طرق الخاصّة والعامّة على حرمتها وفيها عناوين الأربعة التالية:

الأوّل: الكفر بالله. منها: صحيحة عمّار بن مروان، عن أبي عبدالله (ع) فإنّه بعد أن عدّ أنواع السحت قال: «فأمّا الرشا- يا عمّار- في الأحكام، فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله (ص)»(1).

ومنها: موثّقة سماعة، قال: قال أبو عبدالله (ع): «السحت أنواع كثيرة، وأمّا الرشا في الحكم، فهو الكفر بالله العظيم»(2).

ي كلّ هذه الروايات جاء التعبير بأنّ «الرشا في الحكم هو الكفر بالله العظيم» كما عدّت الرشوة من السحت.

الثاني: الشرك. وفي رواية عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (ع) قال: «أيما والٍ احتجب من حوائج الناس، احتجب الله عنه يوم القيامة، وعن


1- وسائل الشيعة 95: 17، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به، الباب 5، الحديث 12.
2- وسائل الشيعة 92: 17، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به، الباب 5، الحديث 2.

ص: 57

حوائجه وإن أخذ هدية كان غلولًا، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك»(1).

حيث عبّر عن الرشوة بالشرك.

الثالث: السحت. وفي روايات كثيرة عبّر عنها بالسحت وإليك الآن تقديم نموذجان منها:

1- عن يزيد بن فرقد قال: سألت أبو عبدالله (ع) عن البخس فقال: «هو الرشا في الحكم»(2).

2- عن جرّاح المدائني، عن أبي عبدالله (ع) قال: «من أكل السحت، الرشوة في الحكم»(3).

الرابع: موارد اللعن. وفي «مجمع البحرين» قال: «ألعَنَ رسول الله (ص) الراشي، والمرتشي والرائش»(4). وعن «المستدرك» قال رسول الله (ص): «لعن الله الراشي والمرتشي»(5). وعن أبي عبدالله (ع) «لعن رسول الله (ص) ... فسألهم الرشوة»(6).

ومن طرق العامّة أيضاً وردت روايات:

منها: ما في «سنن ابن ماجة» عن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله (ص): «لعنة الله على الراشي والمرتشي»(7).


1- وسائل الشيعة 94: 17، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به، الباب 5، الحديث 10.
2- وسائل الشيعة 223: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 223: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 7.
4- مجمع البحرين 182: 2.
5- مستدرك الوسائل 355: 17، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 8.
6- وسائل الشيعة 223: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 5.
7- سنن ابن ماجة 775: 2/ 2313.

ص: 58

فيستفاد من الروايات المتواترة- التي فيها الصحيح والموثّق- حرمة الرشوة مطلقاً، خصوصاً قوله: في «الأحكام» المتبادر منه من يعطي للحكم له، ومن يأخذ للحكم له، وكذا للحكم بالحقّ، أو الباطل؛ فإنّ نطاق الروايات آبٍ عن الاختصاص بما كان للباطل فقط، لأنّ أخذ الحاكم الرشوة هتك لحرمة القضاء، وإفساد في المجتمع، وتلاعب بالموازين؛ من غير فرق بين أن تكون الرشوة لاحقاق حقّ، أو لإثبات باطل، ولذا فالتعبير عن أخذها «بالكفر» و «الشرك» و «السحت»- بنحو مطلق- ليس على خلاف الارتكاز العرفي، فالصحيح أنّ إعطاء الرشوة للقاضي وأخذ القاضي لها حرام مطلقاً، وهذا ما يستفاد من الآية، ومن الروايات، وإطلاق كلمات الفقهاء، بل صريح كلماتهم.

الرابع: وأمّا العقل، فهو حاكم بأنّ الرشوة من أقوى مصاديق الظلم والعدوان، وتصرّف في مال الغير بغير حقّ، وقبيحة بلا إشكال.

ويستفاد من كلام الإمام (ره) إنّه قائل بحرمة الرشوة على المرتشي- أي الآخذ- والراشي- أي المعطي- سواء توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، أو الحقّ، إلا أنّه أفتى في الأوّل من غير شبهة، وقال في الثاني: «والأحوط الترك، بل لا يخلو من قوّة»(1).

نعم، استثني من ذلك مورداً واحداً، وهو ما لو توقّف التوصّل إلى حقّه على الرشوة، فتجوز للدافع وإن حرمت على الآخذ.

واستثنى السيد (ره) في «العروة» موردين: 1- ما لو كان مكرها على الدفع 2- ما


1- تحرير الوسيلة: 824، مسألة 6.

ص: 59

لو توقّف استنقاذ حقّه على ذلك(1). وقال الفاضل النراقي في «المستند»: «وقد يخصّ الجواز للراشي إذا كان محقّاً ولا يمكن وصوله إلى حقّه بدونها. ذكره جمع كثير؛ منهم الوالد الماجد، وهو حسن»(2).

واستدلّ عليه بدليل «رفع ما اضطرّوا إليه»(3). وبقاعدة «لا ضرر»(4) فإنّها مقدّمة على الإطلاقات الدالّة على حرمة الرشوة على الرايش كما أنّه ضرورة والضرورات تبيح المحظورات.

الجهة الثالثة: في موارد الرشوة ومصاديقها

قد تكون الرشوة مالًا عيناً، أو منفعة.

وقد تكون عملًا يعمل للقاضي مجّاناً كخياطة ثوبه، أو بناء داره، أو تعميرها، أو إصلاح سيارته.

وقد تكون قولًا كمدحه والثناء عليه بالشعر والنثر على المنبر، أو بالنشر في الصحف، أو في مجلس حضوره.

وقد تكون فعلًا يفعله لقضاء حاجته، أو تكريمه وتجليله كالقيام عند دخوله، وغير ذلك.

والرشوة تصدق على كلّها عرفاً، فيشملها ما تقدّم من الأدلّة:

أمّا الآية الكريمة، فظاهرها وإن كان الأموال، بل صريحها؛ الأموال- لقوله عزّ


1- راجع: العروة الوثقى 444: 6.
2- مستند الشيعة 71: 17.
3- وسائل الشيعة 369: 15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
4- راجع: وسائل الشيعة 428: 25، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.

ص: 60

وجلّ: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكّامِ(1) أي الأموال.- ولكن من المعلوم عدم خصوصيته للمال، بل كلّ ما يصير وسيلة وسبباً للحكم وأخذ مال الغير بالإثم فهو محرّم ومنهي عنه، فيصحّ إلغاء الخصوصية من المال، فينتج أنّ كلّ شي ء تسبّب للغاية المحرّمة- وهي أكل مال الغير بالإثم- فهو محرم بلا اشكال.

وأمّا الروايات فتشملها، لصدق عنوان «الرشوة» على الكلّ عرفاً.

وكما قلنا جاء به صاحب العروة (ره) أيضاً حيث قال: «الرشوة قد تكون مالًا، من عين، أو منفعة، وقد تكون عملًا للقاضي كخياطة ثوبه أو تعمير داره أو نحوهما وقد تكون قولًا كمدحه والثناء عليه لإمالة قلبه إلى نفسه ليحكم، وقد تكون فعلًا من الأفعال كالسعي في حوائجه وإظهار تعظيمه وتبجيله، ونحو ذلك، فكلّ ذلك محرّم إمّا لصدق الرشوة عليها، أو للإلحاق بها»(2).

الجهة الرابعة: في حكم الهدية ونحوها

لو بذل مالًا للقاضي بعنوان الهدية، أو وهبه مالًا، أو باعه محاباة فما هو حكمه، وهل يكون ذلك من الرشوة أم لا؟

الفرق بين الرشوة والهدية

لا يخفى: أنّ الفرق بين الرشوة والهدية ماهوي ذاتي، لا بالقصد والنيّة.

الرشو ة: هي ما يبذل للقاضي في قبال الحكم له بالباطل، أو بالحقّ، إذا لم يحكم له بدونها، سواء صرّح بذلك أو كان معلوماً ولو بالقرائن، وسواء كان


1- البقرة( 2): 188.
2- العروة الوثقى 444: 6.

ص: 61

البذل قبل طرح الدعوى أو بعده، وسواء كان في موضع قضائه أو في غيره. كأن يبذل له مالًا في سفر الحجّ مثلًا.

الهدية: بخلاف الهدية فإنّها يبذله بقصد القربة إكراماً له، لقرابته، أو صداقته، أو لعلمه، أو إيمانه، من دون ترقّب القاضي لعوض على عمله أصلًا ولو يمكن أن يكون.

أكثر ما نسمّيه هدية هي رشوة حقيقة وإن أظهر بعنوان الهدية فبالحقيقة عنوان «الهدية» ستر وغطاء له. وكما قلنا جاء به السيّد اليزدي أيضاً؛ وقال في «العروة»(1): «الفرق بين الرشوة والهدية أنّ الغرض من الرشوة جلب قلبه ليحكم له ومن الهدية الصحيحة، القربة، أو إيراث المودّة لا لداعٍ، أو الداعي عليها حبّه له؛ لوجود صفة كمال فيه من علم أو ورع أو نحوهما».

فإذا ثبت الفرق بين الهدية والرشوة وقلنا: أنّه جوهري فالظاهر حلية الهدية للقاضي؛ فإذا أهدي إليه صديقه هدية وكان من عادته الهدية إليه، أو كان رحماً له، ولم تكن لدي القاضي دعوى للمهدي، ولم يحتمل وقوع منازعة بينه وبين غيره حتّى يحتاج إلى مراجعة القاضي في المستقبل، والقرائن ممحّضة في أنّ القصد لله والإهداء للقربة ولم تكن أيّة قرينة على أن يكون الإهداء لأجل الحكم والقضاء له أصلًا؛ فيجوز للقاضي قبولها وتحلّ له وإن كان الأولى والأحوط عدم قبولها والتنزّه عنها.

قال المحقّق الأردبيلي في «مجمع الفائدة»(2) «والظاهر أنّه يجوز له قبول الهدية


1- العروة الوثقى 448: 6، مسألة 29.
2- مجمع الفائدة والبرهان 50: 12.

ص: 62

فإنّه مستحبّ في الأصل، إلا أنّه يمكن أن يكون مكروهاً لاحتمال كونها رشوة، إلا أن يعلم باليقين أنّها ليست كذلك ...- إلى أن قال:- ومع ذلك لا شكّ أنّ الأحوط هو الاجتناب في وقت يمكن أو يحتمل احتمالًا بعيداً لكونها رشوة.

وقال المحقّق النراقي في «المستند»: «ولو تعارضت القرينتان- كأن يكون ذلك ممّن جرت عادته بذلك قبل حصول الخصومة كالقريب، والصديق الملاطف، فبذل بعد حضورها أيضاً- فالأحوط عدم القبول»(1).

وهنا نقطة مهمّة في كلام المحقّق النراقي (ره) حيث قال: «بل الأحوط للقاضي سدّ باب الهدايا مطلقاً، بل حكم جمع بكراهتها له ولا بأس به، لفتواهم»(2).

وإنّك ترى أنّ المحقّق النراقي لم يذكر لما اختاره من الاحتياط للقاضي في سدّ باب الهدايا مطلقاً دليلًا لفتاوى الفقهاء.

وهاهنا روايات قد تمسّك بها للحرمة:

منها: رواية الأصبغ- المتقدّمة- عن أمير المؤمنين (ع) وفيها قال: «وإن أخذ هد ية كان غُلُولًا»(3).

والغُلُول بمعنى الخيانة، ومعناه الأخصّ، السرقة من غنائم المسلمين، فتدلّ على الحرمة بلا إشكال.

واستشكل عليها السيّد الخوئي(4) سنداً، ودلالة:


1- مستند الشيعة 74: 17.
2- مستند الشيعة 74: 17.
3- وسائل الشيعة 94: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 10.
4- مصباح الفقاهة 425: 1.

ص: 63

أمّا السند فلوجود أبي الجارود، وسعد الإسكاف. وأمّا الدلالة فلأنّها واردة في هدايا الولاة، لا القضاة.

وفيه: أنّ أبا الجارود ثقة؛ على ما قاله الشيخ المفيد (ره) فإنّه عدّه من الرؤساء الذين يؤخذ عنهم الحلال والحرام، والذين لا مطعن عليهم، ولا سبيل إلى طعن واحد منهم(1).

وأمّا سعد الإسكاف فهو ثقة أيضاً، لرواية ابن أبي عمير؛ عنه وهو ممّن لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة.

وأمّا الإشكال في الدلالة، فيندفع بأنّه لا خصوصية للوالي في نظر العرف، بل القاضي أيضاً له الولاية. غاية الأمر أنّ سنخ ولايته تختلف عن سنخ ولاية الوالي وكلاهما حاكمان على الناس فيتعدّي منه إلى القاضي أيضاً.

ومنها: ما عن النبي (ص): «قال هد ية الامراء غلول»(2) ولكنّها ضعيفة السند.

ومنها: ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) عن الرضا عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) في قوله تعالى: أكّالُونَ لِلسُّحْتِ(3) قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة، ثمّ يقبل هديته»(4).


1- جدير بالذكر بما أنّ النجاشي قال في أبي الجارود« زياد بن المنذر أبو الجارود الهمداني الخارفي الأعمى أخبرنا ابن عبدون عن علي بن محمّد، عن علي بن الحسن، عن حرب بن الحسن، عن محمّد بن سنان قال: قال لي أبو الجارود: ولدت أعمى، ما رأت الدنيا قطّ. كوفي، كان من أصحاب أبي جعفر، و روى عن أبي عبدالله، وتغيّر لما خرج زيد.» فلا بأس بأن نقول هو الذي لم يطعن ولعلّ نقله الرواية كان قبل تغيره.( رجال النجاشي: 170)
2- وسائل الشيعة 223: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 6.
3- المائدة( 5): 42.
4- وسائل الشيعة 95: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 11.

ص: 64

ويمكن أن يستشكل على الروايات بأنّها:

1- واردة في الهدية التي تبذل للعمّال بما أنّه عامل أو أمير فتكون رشوة ومحرّمة.

أو يراد بها ما يبذل لهم لأمر باطل، كما ذكره في «الجواهر» حيث قال:

«وإطلاق النصوص أنّ هدايا العمّال غُلول وسُحت ونحو ذلك، يمكن إرادة المدفوعة لهم دفعاً للباطل ونحوه منهم، وهو شي ء آخر غير الرشوة التي هي محرّمة وإن كانت للحكم بالحقّ على الأصحّ، ودليله ما يستفاد من خبر «تحف العقول» وغيره ممّا تقدّم في المكاسب. كما يمكن إرادة بيان حرمة استئثار العمّال بها(1)، بل مرجعها إلى بيت مال المسلمين؛ لأنّه من توابع عمل المسلمين»(2).

ويشهد لذلك خبر أبي حميد الساعدي على ما نقله صاحب «الجواهر»(3) والمحقّق النراقي(4) عن «سنن البيهقي» قال: استعمل النبي (ص) رجلًا- يقال له ابن اللتبية- على الصدقة، فلمّا قدّم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقام النبي (ص) على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! فهلا جلس في قعب بيته أو في بيت امّه فينظر أيهدي له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منها شيئاً، إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته»(5).


1- أي انفرادهم بها.
2- جواهر الكلام 132: 40.
3- جواهر الكلام 132: 40.
4- مستند الشيعة 73: 17.
5- السنن الكبرى، البيهقي 158: 4، و 16: 7، و 138: 10.

ص: 65

وسند هذه الرواية عامّي في أغلب كتبنا الروائية وكذا في الكتب الأخلاقية،- مثل «جامع السعادات»- وأمّا دلالتها، فقال: في الأخير- «جامع السعادات»- بعد نقل الرواية ما هذا لفظه: «وعلى هذا فينبغي لكلّ والٍ أو حاكم أو قاض وغيرهم من عمّال السلاطين أن يقدّر نفسه في بيت أبيه وامّه معزولًا بلا شغل فما كان يعطي حينئذٍ يجوز له أن يأخذه في ولايته أيضاً، وما لايعطي مع عزله ويعطي لولايته، يحرم أخذه، وما أشكل عليه من عطايا أصدقائه فهو شبهة وطريق الاحتياط فيها واضح»(1). وأمّا صاحب «الجواهر» فقد استظهر منه أنّ هدية العامل ترجع إلى بيت المال، ولا يجوز له التصرّف فيها لنفسه.

والحاصل: أنّ مجموع هذه الروايات، لا تنافي ما دلّ على أصل محبوبية الهدية شرعاً واستحبابها فقد كان رسول الله يقبل الهدية، بل يأمر الامّة بالتهادي؛ للتحابّ والتوادّ، كقول الصادق (ع) قال: «قال رسول الله (ص): لو اهدي إليّ كراع لقبلته»(2) وقال: «قال أمير المؤمنين (ع): لئن أهدي لأخي المسلم هدية تنفعه، أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمثلها»(3).

وقال (ع): «قال رسول الله (ص): تهادوا تحابّوا؛ فإنّها تذهب بالضغائن»(4).

نعم، إذا كان عنوان الهدية ستراً وغطاء للرشوة، فهو في الحقيقة رشوة لا هدية، فتكون محرّمة بخلاف الهدية الحقيقية للحاكم فإنّها حلال وإن كان


1- جامع السعادات 133: 2.
2- وسائل الشيعة 286: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 88، الحديث 3.
3- وسائل الشيعة 286: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 88، الحديث 4.
4- وسائل الشيعة 286: 17- 287، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 88، الحديث 5.

ص: 66

الأحوط تركها، بل حكم جمع بكراهتها، كما تقدّم. ولعلّه تحمل على ذلك ما عن أمير المؤمنين في «نهج البلاغة» في قضية إهداء الأشعث بن قيس له (ع) وما قاله الإمام (ع) في ردّها، وذلك بعد أن نقل قضية عقيل بقوله (ع) فقلت له: «ثكلتك الثواكل يا عقيل؛ أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها لِلعبة، وتجرني إلى نار سجرها جبّارها لغضبه؟! أَتَئِنُّ مِن الأذي، ولا أئنّ من لظي؟».

ثمّ يقول (ع): «وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتُها، كأنّما عجّنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصِلة، أم زكاة، أم صدقة؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت، فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنّها هدية، فقلت هبلتك الهبول، أعَن دين الله أتيتني لتخدعني، أمختبط أنت أم ذو جنّه أم تَهجُر؟ والله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلبَ شعيرة؛ ما فعلت وإنّ دنياكم عندي لأَهوَنُ من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذّة لا تبقى»(1).

وأمّا الهبة والبيع المحاباتي فكلّ واحد منها وإن كان عقداً من العقود الصحيحة ولكنّه إذا قصد بهما أمالة قلب الحاكم ليحكم له، يكونان من مصاديق الرشوة فيحرمان ويفسد العقد، كما قاله صاحب «الجواهر»(2) والمحقّق الأنصاري(3).


1- نهج البلاغة 217: 2- 218.
2- جواهر الكلام 131: 40.
3- كتاب المكاسب 246: 1.

ص: 67

ردّ مال الذي أخذ رشوة

قال الإمام (ره)- في ذيل المسألة- «ويجب على المرتشي إعادتها إلى صاحبها ...».

قد يقع الكلام في الحكم التكليفي، وقد يقع في الحكم الوضعي، أي الضمان عند التلف أو الإتلاف.

أمّا في الأوّل،- الحكم التكليفي- فيجب عليه ردّ المال إلى الراشي فوراً لبقائه على ملكه، سواء أعطاه بعنوان الرشوة، أو بعنوان الهبة، أو البيع المحاباتي، لما عرفت من صدق عنوان «الرشوة» عليه أيضاً.

وأمّا في الثاني- الحكم الوضعي- فيكون ضامناً وعليه أداء مثلها أو قيمتها؛ وذلك بدليل «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1). قال المحقّق في «الشرائع». «ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها. ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له»(2).

وقال في «المسالك»- بعد نقل قول بعض العامّة- «والأظهر ما ذكره المصنّف من عدم ملكها ووجوب ردّها إلى المالك، ويضمنها إلى أن تصل»(3).

وقد يقال بعدم ضمان المرتشي عند التلف من جهة أنّ الراشي مع علمه بحرمة إعطاء الرشوة وعدم ملكية المرتشي لها، قد سلّطه على ماله مجّاناً، ورضي


1- عوالي اللئالي 345: 2/ 10؛ سنن الترمذي 369: 2/ 1284؛ وجدير بالذكر أنّه جاء في بعض الكتب كلمة« تؤدّيه» وإليك ما يلي من المصادر:( مستدرك الوسائل 88: 17؛ كنز العمّال 360: 10/ 29811؛ السنن الكبرى، البيهقي 95: 6؛ سنن ابن ماجة 802: 2/ 2400)
2- شرائع الإسلام 869: 4.
3- مسالك الأفهام 423: 13.

ص: 68

بإتلافه، ففي الحقيقة هو الهاتك لحرمة ماله، فلا يكون المرتشي ضامناً له بعد التلف، ورضاه وإن كان مقيّداً بالعوض وهو الحكم له. إلا أنّ المفروض تحقّق قيده وهو حكم القاضي له.

نعم، لو لم يحكم له، لأمكن القول بضمانه؛ لأنّ الرضا كان مقيّداً بالحكم، ولم يحصل، فبانتفاء القيد ينتفي الرضا.

وفيه: أنّ رضا الراشي يحصل في ضمن التمليك بعنوان الرشوة أو بعنوان الهبة والهدية وإذا لم يمض الشارع هذا التمليك، لحرمته؛ فلا يحصل الرضا أيضاً، ولا رضا غيره حتّى يؤثّر في جواز التصرّف على الفرض فيصير مقتضى عموم «على اليد» هو الضمان.

ولا يخفى أنّ الإمام (قدس سره) لم يتعرّض للحكم الوضعي والضمان في المسألة.

بقي هنا فرعان

اشارة

لم يتعرّض لهما الإمام (قدس سره) فينبغي التعرّض لها.

الفرع الأوّل: في إعطاء الخمس أو الزكاة بعنوان الرشوة

قال السيّد الطباطبائي في «العروة»: «لو دفع إلى الحاكم خمساً أو زكاة بقصد الرشوة لم تبرأ ذمّته منها لاعتبار القربة فيهما»(1).

أقول: لا إشكال في أنّ أكثر من هم بصدد جلب محبّة القاضي وإمالة قلبه حتّى يحكم لهم يتوسّلون بطرق مختلفة من الحيلة والخدعة والمكر والشيطنة لأنّه يعلم أنّه لو أعلن أنّه يعطي شيئاً للرشوة يجعل نفسه والقاضي ومقام القضاء معرضاً للإهانة، ولهذا يفحص عن مجالات مناسبة لهذا حتّى يجلب محبّة


1- العروة الوثقى 447: 4، مسألة 26.

ص: 69

القاضي ويتوسّل إلى حيل الدقيقة ليتقرّب إلى القاضي إذن على القاضي أن يتّقي الله ويحذر، لنفسه عن الورود في أمر قبيح، وصوناً وحفظاً لمرتبة القضاء وشخص القاضي عن التلوّث بها وهتك الحرمة، فقد يبذل المال بعنوان الهدية، كما تقدّم، أو الهبة مع قيام القرائن الواضحة على أنّ غرضه المعاوضة والمقابلة بأن يبذل ليحكم له.

وقد يحضر عند القاضي للمحاسبة معه وإعطاء المال بعنوان الخمس أو الزكاة أو وجوه الخير ويكلها إلى نظر القاضي، مع أنّ واقعة الرشوة وأمّا ظاهره فهو الخمس أو الزكاة أو الهدية كما تقدّم، فيكون حراماً وغير مبرئٍ لذمّة الباذل كما قاله السيّد (ره).

الفرع الثاني: في انعزال القاضي المرتشي

إذا كان أخذ الرشوة للحاكم المرتشي حراماً وفي حدّ الشرك أو الكفر بالله العظيم، فيخرج عن العدالة بأخذه ولا يصلح للقضاء ولا يكون حكمه صحيحاً ونافذاً ويصير معزولًا ومنفصلًا بذلك لاشتراط العدالة في القاضي بلا إشكال.

نعم، لو تاب وصلح وأدّى ما أخذه لصاحبه- عيناً مع وجوده، ومثلًا أو قيمة مع تلفه- لجاز له القضاء والتصدّي لمنصبه.

قال في «العروة»: «لا ينفذ حكم الحاكم الآخذ للرشوة وإن كان على القاعدة وبالحقّ، لصيرورته فاسقاً بأخذها. نعم، لو تاب بعد الأخذ ثمّ حكم بالحقّ بعد التوبة صحّ ونفذ»(1).


1- العروة الوثقى 447: 4، مسألة 25.

ص: 70

مسألة 7: قيل: من لا يقبل شهادته لشخص أو عليه لا ينفذ حكمه كذلك، كشهادة الولد على والده والخصم على خصمه. والأقوى نفوذه وإن قلنا بعدم قبول شهادته. (9)

شرائط نفوذ حكم القاضي

(9) ذكر في «الجواهر» في كتاب الشهادات: «إنّ من موارد ردّ الشهادة شهادةالولد على والده(1)، وكذا شهادة العدوّ على عدوّه وخصمه. ولكن تقبل شهادة الولد لوالده، وكذا شهادة الوالد لولده، وعليه، وكذا تقبل شهادة العدوّ لعدوّه»(2).

وقد قيل هنا في كتاب القضاء: «من لا يقبل شهادته لشخص أو عليه لا ينفذ حكمه له أو عليه» فعليه لا ينفذ حكم الولد على والده، وكذا حكم القاضي على من بينهما عداوة دنيوية. والقائل بذلك جماعة، منهم المحقّق في «الشرائع»(3) والعلامة في «القواعد»(4) وغيره(5) من كتبه، وبعض آخر(6).

واستدلّوا لذلك بكون الحكم شهادة وزيادة؛ فإنّ الحاكم لا يحكم حتّى يثبت


1- جواهر الكلام 78: 41.
2- جواهر الكلام 74: 41.
3- شرائع الإسلام 864: 4.
4- قواعد الأحكام 422: 3.
5- إرشاد الأذهان 138: 2؛ تحرير الأحكام 117: 5.
6- مسالك الأفهام 364: 13.

ص: 71

له الموضوع؛ بحيث لو أراد أن يشهد به لجازت له الشهادة ففي الحقيقة يكون شاهداً وحاكماً فيلحقه حكم الشهادة فكلّ مورد لا تقبل الشهادة فيه، لا ينفذ الحكم أيضاً.

وفي كلام المحقّق (ره) إشعار باتّفاقية المسألة، وردّ الإمام (ره) هذا القول بقوله: «والأقوى نفوذه وإن قلنا بعدم قبول شهادته»(1) يعني:

أوّلًا: لا نسلم عدم قبول شهادة الولد على والده، أو شهادة الخصم على خصمه؛ فإنّ القائل بردّ شهادة الولد على والده استدلّ بوجوه غير تامّة:

منها: إنّ شهادته على والده إيذاء له فإنّه يستلزم نسبة الكذب وغصب أموال الناس إليه، ونحو ذلك، وذلك محرّم بما يدلّ على تحريم أذي الوالد وعقوقه من الآيات، والأخبار، والإجماع، ولا شكّ أنّه أشدّ من كلمة «افّ» مع أنّه قال (سبحانه و تعالى): فَلا تَقُلْ لَهُمَا افٍ(2) وقال (سبحانه و تعالى) أيضاً: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً(3).

وفيه: أنّه لا شبهة في أنّ الشهادة عليه إحسان له، وتخليص له من حقّ لازم عليه، وتفريغ لذمّته من الاشتغال بمال الغير وحقّه، وليس ذلك حراماً وعقوقاً بلا شكّ. ولا ينافي ذلك أيضاً المصاحبة لهما بالمعروف فإنّ الشهادة عليه من أقوى المصاحبة بالمعروف؛ فإنّه نجاة له من الهلكة ومن عذاب النار، مع أنّ لازمه عدم


1- تحرير الوسيلة: 824، مسألة 7.
2- الإسراء( 17): 23.
3- لقمان( 31): 15.

ص: 72

قبول شهادة الولد على الوالدة أيضاً، ولم يقل به أحد.

وأمّا وجه عدم قبول شهادة العدوّ على عدوّه فهو سرور أحدهما بمساءة الآخر. والمساءة بسروره؛ وهذا مقتضى للفسق بلا إشكال. قال في «المسالك»: «لا يخفى أنّ الفرح بمساءة المؤمن والحزن بمسرته معصية»(1)، فالوجه في عدم قبول الشهادة هو الفسق لا وجود العداوة فيرجع إلى اشتراط العدالة.

ثانياً: على فرض تسليم ردّ الشهادة فيما ذكر فلا نسلم عدم نفوذ الحكم في هذه الموارد، لعدم كون الحكم شهادة، على وجه يلحقه حكمها المعلّق عليها من حيث كونها شهادة ويؤيّده اختلاف القاضي والشاهد في الشروط المعتبرة فيهما، كالاجتهاد وعدمه والرجولة والانوثة.

هذا مع أنّ مقتضى إطلاقات نفوذ الحكم، التعميم وشمول الحكم للجميع، خصوصاً قوله (ع): «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(2) و «فإنّهم حجّتي عليكم»(3) و «والرادّ عليهم كالرادّ علينا»(4) وغير ذلك.

وأمّا الإجماع في المسألة، فغير ثابت، ولذا حكي عن بعضهم اختصاص المنع بقاضي التحكيم.


1- مسالك الأفهام 193: 14.
2- وسائل الشيعة 137: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 140: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
4- راجع: وسائل الشيعة 153: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 48.

ص: 73

مسألة 8: لو رفع المتداعيان اختصامهما إلى فقيه جامع للشرائط، فنظر في الواقعة وحكم على موازين القضاء، لا يجوز لهما الرفع إلى حاكم آخر، وليس للحاكم الثاني النظر فيه ونقضه، بل لو تراضى الخصمان على ذلك فالمتّجه عدم الجواز. (10)

حكم الترافع إلى المحكمة الاستئنافية

(10) إذا قضى وحكم القاضي في واقعة، هل يجوز للمتخاصمين عدم قبول حكمه؛ والاعتراض عليه؛ وطرح الدعوى عند حاكم آخر؟

وهل يجوز للحاكم الثاني النظر فيها ونقض حكم الأوّل أم لا؟

ولا يخفى: أنّ محطّ كلام الإمام (ره) وغيره من الأصحاب الذين تعرّضوا للمسألة، هو ما إذا لم تقم حكومة إسلامية بزعامة الولي الفقيه، بل كانت بيد الطاغوت وكانت القضاة عمّال الجائرين. وقد نهي الأئمّة (عليهم السلام)، الشيعة وتابعيهم عن المراجعة إلى قضاة الجور وأكّدوا عليه؛ بحيث حكموا بالسحت على المال المأخوذ بحكم قضاة الجور وإن كان حقّاً، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، ومعلوم أنّ الشيعة أيضاً قد يقع بينهم التنازع والمخاصمة فيحتاجون إلى قضاة لرفع المنازعة وفصل الخصومة، والقضاء بينهم، ولذا نصبوا (عليهم السلام) الفقهاء الواجدين لشروط الإفتاء، قضاة بنصب عامّ، فقال (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(1) ولهذا فقد جرى ديدن الشيعة من زمن الصادق (ع) على


1- وسائل الشيعة 137: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

ص: 74

المراجعة إلى المجتهدين لفصل الخصومة، الحاصلة بينهم، كما جرى ديدن العلماء والمجتهدين على قبول الترافع عندهم، والتصدّي للقضاء، بل كان بعضهم مبسوط اليد، بحيث أجرى القِصاص والحدود والتعزيرات وغيرها، فعندئذٍ إذا ترافعوا إلى مجتهد جامع للشروط، ونظر في الواقعة، وقضى بينهم على موازين القضاء شرعاً، فهل للمتخاصمين عدم قبوله والاعتراض عليه، وطرح الدعوى عنده ثانياً، أو عند حاكم آخر، أم لا؟

ثمّ هل للمجتهد الثاني النظر فيه ونقضه أم لا؟

قال الإمام (ره) بعدم الجواز في كليهما. ولتوضيح المطلب نقدّم اموراً:

الأمر الأوّل: إنّ الهدف والغاية من تشريع القضاء في الإسلام، هو فصل الخصومة، ورفع المنازعة، وهذا لا يتحقّق إلا بعد أن يتمتّع الحكم بقوّة وصلابة واستحكام، بحيث لا يتزلزل برفضهم له واعتراضهم عليه، وإلا لما حصل المطلوب والغرض، بل ينتهي الأمر إلى الهرج والمرج في النظام، ولما بقيت أية قوّة وصلابة للقاضي وحكمه. ولذا تجد أنّ هذه القدرة والقوّة للأحكام القضائية ثابتة في جميع الدول والمجتمعات، والكلّ يراعون هذا الاستحكام فإنّه بمصالح الحكومة وإدارة الدولة، بلا إشكال.

الأمر الثاني: إنّ اللازم من نصبهم (ع) المجتهدين للقضاء وجوب إطاعتهم، وقبول حكمهم، والرضا به، وحرمة ردّه، ونقضه، والا لزمت لغوية التنصيب، ولذا نصبهم الإمام الصادق (ع) أوّلًا بقوله: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» ثمّ قال: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله، وعليه ردّ،

ص: 75

والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو في حدّ الشّرك بالله»(1) فجعل حكم المنصوب من قبلهم بمنزلة حكمهم وهو بمنزلة حكم الله، وعدم قبوله وردّه بمنزله ردّ حكم الله عزّ وجلّ.

ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمّ لا يَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً(2) فإنّ هذا الخطاب وإن كان للنبي لكنّه من باب حكم القضاء وأدب القضاء، لا الشخص.

الأمر الثالث: لا إشكال في أنّ القضاء وإنشاء الحكم أو نقضه فرع وجود المنازعة والمخاصمة فإذا لم تكن مخاصمة فلا موضوع للقضاء ولا يكون مشروعاً.

فإذا اتّضحت هذه الامور نقول: إذا رفع المتخاصمان نزاعهما إلى مجتهد جامع للشروط فنظر في الواقعة وقضى بينهما على وفق موازين الحقّ والشرع، فبمقتضى الأمرين الأوّلين: 1- الهدف من تشريع القضاء، 2- اللازم من نصبهم وجوب إطاعتهم لا يجوز لهما الترافع إلى مجتهد آخر. وكذا لا يجوز للحاكم الثاني النظر فيها بلا إشكال.

وبمقتضى الأمر الثالث- كون إنشاء الحكم فرع وجود المنازعة- لا يجوز الأمران من جهة اخرى، وهي عدم وجود المخاصمة، فإنّه إذا قضى الأوّل بالحقّ، وكان واجداً للشروط فصلت الخصومة، وارتفع التنازع، فلا تنازع، حتّى


1- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
2- النساء( 4): 65.

ص: 76

يقضي الثاني ليرفعه. وبهذا تعرف: أنّ حرمة تجديد المرافعة والنقض من القضايا التي قياساتها معها. ولذا قال المحقّق الرشتي في كتاب «القضاء»: أنّ حرمة النقض لا يحتاج في إثباتها إلى دليل آخر، غير ما دلّ على وجوب الرضا بالحكم، فإنّ الحكم عبارة عن فصل الخصومة وقطع المنازعة، فإذا تحقّق الفصل عند حاكم لم يبق أمر قابل للفصل شرعاً بعد؛ سواء رضي الخصمان بتجديد المراجعة أم لا(1).

وذهب صاحب الجواهر (ره) إلى القول بجواز النقض برضى المتخاصمين: حيث قال: «بل ربما يوهم عدم محلّ للدعوى أنّ تراضي الخصمان بتجديدها عند الحاكم الثاني وإن كان الأقوى خلافه»(2).

ولكن الحقّ عدم الجواز ولو برضاهما كما قال الإمام (ره) لعدم تغيير الحكم الشرعي برضاهما فإنّه لا يوجد موضوعاً للطرح عند الحاكم الثاني كما قلنا.

وقال السيّد (ره)(3) في «العروة» موافقاً لصاحب «الجواهر»: «ليس للمحكوم عليه بعد تمام المرافعة والحكم مطالبة تجديدها عند حاكم آخر أو عند الأوّل. وهل يجوز ذلك برضى الطرفين أو لا؟ قولان أقواهما الأوّل- كما اختاره في «الجواهر»- إذ الظاهر عدم صدق ردّ الحكم خصوصاً إذا كان لاحتمال خطاء الحاكم؛ لا سيّما إذا كان الحاكم أيضاً أراد تجديد النظر في مقدّمات الحكم وفي «المستند»(4) اختار عدم الجواز». انتهى كلامه (ره).


1- كتاب القضاء 107: 1.
2- جواهر الكلام 94: 40.
3- العروة الوثقى 449: 6، مسألة 31.
4- مستند الشيعة 89: 17.

ص: 77

نعم، لو ادّعى أحد الخصمين: بأنّ الحاكم الأوّل لم يكن جامعاً للشرائط- كأن ادّعى عدم اجتهاده أو عدالته حال القضاء- كانت مسموعة يجوز للحاكم الثاني النظر فيها، فإذا ثبت عدم صلوحه للقضاء نقض حكمه، كما يجوز النقض لو كان مخالفاً لضروري الفقه؛ بحيث لو تنبّه الأوّل يرجع بمجرّده لظهور غفلته. وأمّا النقض فيما يكون نظرياً اجتهادياً فلا يجوز، ولا تسمع دعوى المدّعي ولو ادّعى خطأه في اجتهاده. (11)

وفيه: أنّه لا إشكال في صدق الردّ بصرف عدم قبولهما الحكم ورضاهما بتجديد النظر مع كون الأوّل فقيهاً جامعاً للشرائط وقضى على موازين الحقّ ولو كان رضاهما بتجديد النظر وطرح الدعوى عند الآخر، لاحتمال خطاء الحاكم الأوّل، فإنّ في كلّ واقعة- إذا قضى الحاكم- يحتمل الخطاء، فجواز التجديد برضاهما يوجب الوهن للأحكام ونقض الغرض كما تقدّم. نعم، إذا ادّعيا خطأه جزماً فهو دعوى مسموع فيترتّب عليه الأثر كما سيجي ء.

موارد جواز الاستئناف

اشارة

(11) قد استثني من عدم جواز تجديد النظر في الأحكام موردين:

أوّلهما: ما لو ادّعى أحد الخصمين عدم كون الحاكم واجداً للشروط، مثل عدم كونه مجتهداً أو عادلًا حال القضاء.

وثانيهما: ما لو ادّعى عدم كون القضاء على طبق الموازين الشرعية، وأنّه

ص: 78

كان مخالفاً لضروري الفقه ولما كان متّفقاً عليه عند الكلّ، مثل أن أحلف المدّعي مكان المنكر، أو قضى بشهادة النساء فيما لا تقبل شهادتين أو بشهادة عدلين فيما يلزم شهادة الأربعة، وغير ذلك؛ بحيث لو تنبّه الأوّل يرجع بمجرّده، لظهور غفلته.

والوجه في الجواز في الموردين واضح.

أمّا الأوّل؛ فلكونه مشمولًا لأدلّة سماع الدعوى، فإنَّ المقتضى للسماع موجود، والمانع مفقود. ولا يتنافي ذلك مع المقبولة الدالّة على وجوب القبول وحرمة الردّ، فإنّ موردها المجتهد الجامع للشروط، والمقام ليس كذلك، لأنّهما يدّعيان عدم كونه صالحاً للقضاء فلا يصدق حينئذٍ الردّ.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ الحكم المخالف لموازين الشرع ليس حكماً شرعياً حتّى يصدق عليه أنّه حكمهم (عليهم السلام) ويجب قبوله. لقوله (ع) في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا ولم يقبل منه فيجوز للمتنازعين طرح الدعوى عند حاكم آخر».

وبهذا يظهر أنّ هذين الموردين، ليسا بمستثنيين حقيقة من عدم جواز النظر في حكم الحاكم الأوّل، أو عدم جواز الترافع عند الثاني. بل هما خارجان منهما تخصّصاً فيجوز الترافع فيهما عند حاكم آخر واجد للشروط حتّى يقضي على مقتضى القواعد في الدعاوي بينهما.

هذا كلّه بناءً على تصدّي الفقهاء للقضاء باعتبار نصبهم عموماً من جانب الإمام من دون قيام حكومة إسلامية بزعامة الوليّ الفقيه.

ص: 79

حكم الترافع عند محكمة اخرى إذا كانت بزعامة الوليّ الفقيه

إذا قامت الحكومة الإسلامية بزعامة الفقيه الجامع للشروط وكان قد استقرّ في نظامها، السلطة القضائية وقام بتدوين الاسس القضائية والإدارية، فهل يجوز إعادة المرافعة في محكمة اخرى؟

لا إشكال في أنّ الوليّ الفقيه وزعيم النظام الإسلامي هو من مصاديق قوله (ع): «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» فيجوز له القضاء بنفسه كما يلزمه الإذن فيه ونصب القضاة في المحاكم الإسلامية، ولا بدّ له من رعاية المصالح وتسهيل الأمر على المراجعين، ولذا فقد قسّمت المنازعات والمرافعات، إلى أقسام، مدنية، وجزائية، وأحوال شخصية، وعسكرية، وغيرها، وأوجدت المحاكم، لكلّ قسم من الأقسام، كما قسّموا الأحكام الصادرة من المحاكم، إلى قطعي غير قابل للتمييز والاعتراض، وما هو قابل للتمييز والاعتراض إلى عشرين يوماً من صدوره، فاللازم على قضاة المحاكم، أن يحكموا على طبق موازين القانون المدوّن، من حيث قطعية الحكم وعدمها، وعلى حسب إذن الوليّ الفقيه لهم، فله أن ينصب بعض القضاة لا للقضاء، بل لتهيئة مقدّمات صدور الحكم خاصّة.

وهذا ما يستنبط من بعض الروايات، كقول أمير المؤمنين (ع) لشريح القاضي، «وإيّاك أن تنفذ قضية في قصاص، أو حدّ من حدود الله، أو حقّ من حقوق المسلمين حتّى تعرض ذلك على إن شاء الله»(1).


1- وسائل الشيعة 212: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 1، الحديث 1.

ص: 80

مسألة 9: لو افتقر الحاكم إلى مترجم لسماع الدعوى أو جواب المدّعى عليه أو الشهادة، يعتبر أن يكون شاهدين عدلين. (12)

والحاصل: أنّ جميع ذلك لا ينافي المقبولة، فإنّها ليست مستند صحّة أحكامهم، بل المستند إذن الفقيه لهم، فيلزمهم العمل في دائرة إذنه ولا إشكال فيه.

استخدام المترجم للقاضي

(12) إذا لم يعرف الحاكم لغة أحد الخصمين أو الشهود، فاحتاج إلى مترجم يطّلعه على مفاد ادّعاء المدّعي، أو جواب المدّعى عليه، أو شهادة الشهود فهل يعتبر في المترجم التعدّد، أو يكفي الواحد؟ فيه أقوال؛ منشؤها أنّ ترجمته هل هي شهادة من المترجم، فيعتبر فيها التعدّد والعدالة أو أنّها رواية وإخبار عن معاني الألفاظ الصادرة من الشخص فيكفي فيها خبر الثقه؟

قال الإمام (ره) بالأوّل،- الشهادة- واختاره الشهيد الثاني في «المسالك» حيث قال: اشترط في المترجم العدالة والتكليف والعدد، لأنّه ينقل قولًا إلى القاضي لا يعرفه القاضي، فكان في معنى الشهادة، بل فرداً من أفرادها(1).

ونقل عن بعض العامّة(2) كفاية مترجم واحد، جعلًا له من باب الخبر، وقال به بعض الخاصّة(3) أيضاً؛ لأجل حجّية خبر الواحد الثقة في الموضوعات الخارجية


1- مسالك الأفهام 395: 13.
2- الحاوي الكبير 176: 16؛ حلية العلماء 146: 8.
3- المبسوط 103: 8.

ص: 81

فلا يحتاج إلى التعدّد والعدالة.

ولو لم يحرز كون الترجمة شهادة أو خبراً وشككنا في ذلك، وكان في المقام أصل ينقّح الموضوع، رجع إليه. وقد ادّعي أنّ الأصل هو الخبر فإنّ الشهادة قسم من الخبر يراد بها إثبات أمر عند الحاكم، ليترتّب عليه الحكم فيعتبر فيها التعدّد، ولو لم يحرز ذلك الواحد؛ استناداً إلى عموم ما دلّ على قبول خبر الثقة.

واستشكل عليه في «الجواهر»: «بوضوح التباين بين الرواية والشهادة في العرف- الذي هو المرجع في أمثالها- بعد معلومية عدم الوضع الشرعي فيهما»(1).

لعلّ مراده أنّه تارة يكون الشخص في مقام نقل ما سمعه من الآخر، كنقل محمّد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، أو نقل ما رآه من واقعة، أو سمعه، كقوله جاء زيد أو قتل عمرو فهو عند العرف خبر أو رواية. واخرى يكون في مقام بيان ما رآه وسمعه للقاضي ليحكم على طبقه، وهذا شهادة عند العرف تباين الأوّل. وليسا من قبيل العامّ والخاصّ، فلا أصل في البين ينقّح الموضوع فعند ذلك لا بدّ من الاحتياط ورعاية التعدّد من باب أنّه المتيقّن.

وهذا ما اختاره المحقّق في «الشرائع»، حيث قال: «إذا افتقر الحاكم إلى مترجم، لم يقبل إلا شاهدان عدلان، ولا يقتنع بالواحد؛ عملًا بالمتّفق عليه»(2) كما اختاره في «الجواهر»(3) أيضاً، بل قال الشيخ في «الخلاف»: «دليلنا: أنّ ما اعتبرناه


1- جواهر الكلام 107: 40.
2- شرائع الإسلام 867: 4.
3- جواهر الكلام 106: 40.

ص: 82

مجمع على قبوله، وما ادّعوه ليس عليه دليل»(1).

ومرادهم من كونه المتيقّن، إنّ الحاكم إذا استند في حكمه إلى قول مترجمين اثنين، يكون مجزئاً قطعاً، وإن استند إلى قول واحد، يكون محلّ خلاف وموضع اشتباه.

فتحصّل: أنّ في المسألة أقوالًا ثلاثة: 1- اعتبار التعدّد في المترجم، لأنّها شهادة؛ 2- وعدمه لكونه خبراً؛ 3- والاحتياط؛ ومرجعه أيضاً إلى التعدّد لكونه قدراً متيقّناً.

أقول: ويمكن أن يقال: إنّ الترجمة ليست من باب الشهادة، ولا الخبر، بل هي من باب الرجوع إلى أهل الخبرة، فإنّ المترجم يقول: «إنّ معنى هذا اللفظ كذا» وهذا لا يكون شهادة، ولا خبراً، بل يوضّح ويبيّن معنى الألفاظ الصادرة من المدّعي، أو المدّعى عليه، أو الشهود، وهذا نظير ما إذا وقع الاشتباه في خطّ أو ادّعى تزوير التوقيع، فارجع الأمر إلى الخبير في ذلك فقال: «هذا مزوّر» مثلًا أو «هذا ليس شبيه خطّ فلان» فإنّه ليس شهادة، أو خبراً، ينقله؛ بل هو بيان لنظره وتشخيصه، فحينئذٍ نقول: لا حاجة في الترجمة إلى التعدّد، أو العدالة فإنّ قول أهل الخبرة الموثوق بهم حجّة، لبناء العقلاء على الاكتفاء بالواحد منهم في امورهم.


1- الخلاف 217: 6.

ص: 83

القول: في صفات القاضي وما يناسب ذلك

اشارة

مسألة 1: يشترط في القاضي: البلوغ، والعقل، والإيمان، والعدالة (1)،

شروط القاضي الذي ينصبه وليّ أمر المسلمين

اشارة

(1) ليس البحث هنا في شروط القاضي الذي ينصبه الإمام المعصوم (عج) فنحن في غنىً عنه، لأنّه موكول إلى نظره الشريف، وإنّما الكلام حول شروط القاضي الذي يراد نصبه من قبل الوليّ الفقيه، وهي امور:

الشرط الأوّل: البلوغ

فلا ينفذ قضاء الصبيّ وإن كان مراهقاً، بل ومجتهداً جامعاً لسائر الشروط عدا البلوغ.

وقد ادّعى كثير من العلماء الإجماع عليه، وذكروا أنّه لم يختلف فيه أحد.

ويرد عليه أنّه محتمل المدركية؛ فلعلّ استنادهم في ذلك على ما سيجي ء في الأدلّة، فلم يثبت إجماع تعبّدي.

ص: 84

واستدلّوا على البلوغ أيضاً بالأصل، فإنّ مقتضاه عدم الولاية لأحد على أحد ولا نفوذ لحكم أحد على أحد، إلا ما خرج بالدليل، فإذا شككنا في نفوذ حكم الصبيّ وإن كان مراهقاً كان مقتضى الأصل عدم النفوذ.

واستدلّ أيضاً بانصراف الأخبار. مضافاً إلى التقييد بالرجل في خبر أبي خديجة حيث قال (ع): «اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً»(1) فإنّ المستفاد منه، أنّ منصب القضاء مجعول لمن فيه خصوصية الرجولية، فلا يشمل الصبيّ.

وقد يقال: بإلغاء الخصوصية من لفظ الرجل، كما في سائر الموارد، مثل قوله: «رجل صلّى فلم يدر أ في الثالثة هو أم في الرابعة؟»(2) حيث إنّه لا يختصّ بالرجال، بل يشمل النساء أيضاً.

ولكن يرد عليه أنّه في تلك الموارد، يعلم بعدم الخصوصية للرجل فيها، لأنّ السؤال عن حكم الشكّ، لا شكّ الرجل، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ من المحتمل دخالة خصوصية الرجل في القضاء، فلا يمكن إلغاء الخصوصية.

ويمكن الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة فإنّه (ع) نهى أوّلًا عن المراجعة إلى قضاء الجور، فقال الراوي فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران من كان منكم، ممّن قد روي حديثنا فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» فإنّ لفظ «من» الموصولة وإن شمل الصبيّ أيضاً، لكنّه منصرف إلى البالغ من جهة أهمّية المقام.

واستدلّ أيضاً بأنّ الصبيّ مُولّى عليه، فلا يصلح لهذا المنصب العظيم. قال في


1- وسائل الشيعة 139: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
2- وسائل الشيعة 218: 8، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 7.

ص: 85

«المسالك»: «إنّ الصبيّ لا ولاية له على نفسه فانتفاؤها عن غيره أولى ولا ينفذ قوله على نفسه فالأولى أن لاينفذ على غيره»(1) هذا، وأمّا قوله تعالى في مورد يحيي (ع): يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً(2) وكذا بالنسبة إلى نبوّة عيسى أو إمامة الإمام الجواد وإمام العصر أرواحنا فداه؛ فهي على سبيل خرق العادة وإتمام الحجّة والاختبار.

الشرط الثاني: العقل

فلا ينفذ قضاء المجنون وإن كان أدوارياً وكان في حالة صحّته وإفاقته.

واستدلّوا عليه:

1- بالإجماع أيضاً، وإن ورد عليه ما تقدّم.

2- وبالأصل.

3- وكونه مولّى عليه.

4- وبانصراف الأدلّة عنه من جهة أهمّية منصب القضاء، وعلوّ مقامه، فلا يناسب المجنون بوجه.

الشرط الثالث: الإيمان

فلا ينعقد لغير الإمامي فضلًا عن الكافر. قال السيّد:(3) الثالث والرابع: الإسلام والإيمان، وهذا تصريح بعدّهما شرطين؛ ولكن اشتراط الإيمان يغني عن اشتراط


1- « فلأنّ الصبيّ والمجنون لا ولاية لهما على أنفسهما، فانتفاؤها عن غيرهما أولى. ولا ينفذ قولهما على أنفسهما، فأولى أن لاينفذ على غيرهما».( مسالك الأفهام 327: 13)
2- مريم( 19): 12.
3- العروة الوثقى 417: 6.

ص: 86

الإسلام، لأنّه أخصّ من الإسلام كما هو واضح، هذا. وقد استدلّ في «الشرائع»(1) على عدم انعقاده للكافر، بعدم كونه أهلًا للأمانة، فلا يصلح لأن يؤتمن على دم المسلم وماله وعرضه.

واستدلّ في «الجواهر»(2) بقوله تعالى وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا(3) ولا شبهة في أنّ القضاء ولاية، وهي سبيل للكافر على المؤمن.

وكذا استدلّ فيه بقوله (ص): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(4) فإنّ علوّ القاضي على المتخاصمين- بل وعلى غيرهما- عرفي. والمستفاد من مجموع ما تقدّم، عدم انعقاد قضاء الكافر بين المسلمين.

ثمّ هل يصحّ نصب الكافر قاضياً بين الكفّار من أهل نحلته، أو وغيرهم، حتّى يقضي بينهم على حسب دينهم وعلى مقتضى عقائدهم؟

وهذه حاجة ملحّة بالنسبة إلى كفّار بلادنا، ولذا، فَهُم، يطالبون قائد الحكومة الإسلامية بأن يجعل لهم محاكم خاصّة بهم يكون قضاتها منهم؛ ليرجعوا إليها في حلّ نزاعاتهم فإنّهم جماعة كثيرون في بلادنا ويعيشون تحت لواء الإسلام والمسلمين ولهم نوّاب في مجلس الشورى الإسلامي، وقد أجازت لهم الدولة العمل بقوانينهم ومعتقداتهم في الأحوال الشخصية من النكاح والطلاق والوصيّة والإرث وغيرها فإذا كانوا مجازين في العمل بما يعتقدونه ويلتزمون به في دينهم


1- شرائع الإسلام 860: 4.
2- جواهر الكلام 12: 40.
3- النساء( 4): 141.
4- وسائل الشيعة 14: 26، كتاب الفرائض، أبواب موانع الإرث، الباب 1، الحديث 11.

ص: 87

ووقع بينهم اختلاف في النكاح، أو الطلاق، أو الإرث، أو غيره؛ فلا بدّ من القضاء بينهم في دينهم، من القوانين المجعولة لفصل الخصومة وحلّ الاختلاف.

وكذا لا شبهة في ارتكاب بعضهم الجرائم، ولا بدّ من تنفيذ الأحكام الجزائية بحقّهم لدفع الجرائم ومنعهم عن الارتكاب فإذا رفع أمرهم إلى المحاكم القضائية فالحاكم الشرعي مخيّر بين معاقبتهم على طبق موازين الإسلام، أو دفعهم إلى أهل ملّتهم، ليحاسبوهم على طبق مذهبهم، كما قال الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ(1).

والمراد من الأعراض عنهم- كما في الروايات- هو إرجاعهم إلى أهل ملّتهم، ليحكموا عليهم على طبق موازين دينهم، فيستفاد من الآية أنّ أهل الذمّة يصحّ أن يحاكموا على ضوء حُكمين: حكم الإسلام، وحكم أهل ملّتهم، بخلاف المسلمين، حيث لا يحاكمون إلا على وفق الدين الإسلامي الحنيف. وبالجملة إذا جاز لهم العمل عي طبق دينهم في الأحوال الشخصية، وجاز لهم حلّ النزاع والمخاصمة وإقامة الحدود والتعزيرات بينهم على طبق مذهبهم، وقوانينهم الدينية كان لازم ذلك أن ينشِؤوا بأنفسهم المحاكم، وأن يعينوا القضاة ولا شبهة في أنّه لا يمكن للحكومة الإسلامية أن تجيز ذلك، بل مقتضى المصلحة اللازمة هو أن يأمر الوليّ الفقيه بإقامة المحاكم المختصّة بهم، وإن يأذن بنصب قضاة منهم عليهم ليفصلوا بينهم على وفق دينهم.

إذا جاز للوليّ الفقيه أو المأذون من قبله أن ينصب القاضي الكافر للقضاء بين الكفّار على طبق معتقداتهم، فهل يجوز له أن ينصب القاضي المسلم للقضاء


1- المائدة( 5): 42.

ص: 88

بينهم على حسب معتقداتهم في الأحوال الشخصية وفي الجرائم، أم لا؟

الظاهر الجواز؛ فإنّه إذا جاز القضاء بينهم على حسب معتقداتهم، وجاز للحاكم الشرعي أن يأتمن الكافر على القضاء بينهم، فنصب القاضي المسلم لذلك أولى بالجواز، لأنّه أولى بالائتمان من غيره.

نعم قد يقال: إنّ القاضي المسلم يجب عليه، أن يحكم بالعدل والقسط، فكيف يجوز له أن يحكم على طبق دين اليهود، أو النصارى، مع اعتقاده أنّه باطل وغير الحقّ؟!

ويدفع بأنّ المستفاد من الآية المتقدّمة أنّ لهم حكمين: حكم الإسلام، وحكم دينهم، فيجوز الحكم عليهم على وفق أيّ واحد منهما، فالحكم عليهم بما في دينهم حكم بما أنزل الله عزّ وجلّ، ويجب على القاضي المسلم أن يحكم بما أنزل الله عزّ وجلّ.

ومن المناسب أن نذكر هنا ما فهمه بعض الفقهاء، من دلالة الآية الشريفة على التخيير بين إجراء حكم الإسلام عليهم أو إرسالهم إلى أهل ملّتهم ليحكموا عليهم بما في دينهم:

قال المحقّق في «الشرائع»: «ولو زنا الذمّي بذمّية دفعه الإمام إلى أهل نحلته ليقيموا الحدّ على معتقدهم وإن شاء أقام الحدّ بموجب شرع الإسلام»(1).

وقال في «الجواهر» في ذيله: «بلا خلاف أجده فيه»(2) كما عن بعضهم الاعتراف به.


1- شرائع الإسلام 938: 4.
2- جواهر الكلام 336: 41.

ص: 89

وقال السيّد الخوئي في «مباني تكملة المنهاج»: «وأمّا إذا زنى كافر بكافرة، أو لاط بمثله فالإمام مخيّر بين إقامة الحدّ عليه وبين دفعه إلى أهل ملّته، ليقيموا عليه الحدّ»(1).

واستدلّ عليه بالآية الشريفة وبالجمع بين طائفتين من الأخبار، حيث دلّ بعضها على لزوم إقامة الحدّ طبق الإسلام وبعضها على بعثهم إلى أهل ملّتهم.

فمن الاولى:- لزوم إقامة الحدّ طبق الإسلام- ما في صحيحة أبي بصير، قال: قلت: إن أخذوا في بلاد المسلمين وهم يعملون الفاحشة، أيقام عليهم الحدّ؟ قال: «نعم، يحكم فيهم بأحكام المسلمين»(2).

وما عن موسى بن جعفر (ع) حيث سئل عن يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أخذ زانياً، أو شارب خمر؛ ما عليه؟ قال: «يقام عليه حدود المسلمين، إذا فعلوا ذلك في مصر من أمصار المسلمين أو في غير أمصار المسلمين، إذا رفعوا إلى حكّام المسلمين»(3).

ومن الثانية:- بعثهم إلى أهل ملّتهم- ما عن جعفر بن محمّد عن آبائه (عليهم السلام)، أنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى علي (ع)، في الرجل زنى بالمرأة اليهودية والنصرانية فكتب (ع) إليه: «إن كان محصناً فارجمه، وإن كان بكراً


1- بلاخلاف بين الأصحاب وتدلّ على ذلك الآية الكريمة:\i فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ\E فإنّها ظاهرة في التخيير بين أن يحكم الحاكم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وبين أن يتركهم وشأنهم وما تقتضيه شريعتهم.( مباني تكملة المنهاج 187: 1)
2- وسائل الشيعة 219: 29، كتاب الديات، أبواب ديات النفس، الباب 13، الحديث 8.
3- وسائل الشيعة 50: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 29، الحديث 1.

ص: 90

فاجلده مائة جلدة، ثمّ أنفه، وأمّا اليهودية فابعث بها إلى أهل ملّتها، فليقضوا فيها ما أحبّوا»(1).

قال السيّد الخوئي: «إنّ مقتضى الجمع بينهما، هو التخيير، ورفع اليد عن ظهور كلّ منها في الوجوب التعييني بنصّ الآخر، فتكون النتيجة هي التخيير»(2).

والظاهر أنّ المشهور أيضاً قائلون بالتخيير للقاضي بين أن يحكم بينهم على مقتضى شريعة الإسلام، أو دفعه إلى حكّامهم، ليحكموا عليه بمقتضى معتقدهم. ومستندهم في ذلك، نفس الآية، والجمع بين الروايات، فيستفاد من ذلك أنّ المراد بالإعراض في الآية ليس ترك الحكم فقط، بل المراد دفعه إلى أهل ملّته، ليقيموا عليه الحدّ. وهذا من جهة أنّ الإسلام دين اليسر والتسامح.

وأمّا القاضي العامّي، أو الشيعي، غير الإمامي، فهل يجوز نصبه للقضاء بين الشيعة أم لا؟

الظاهر من اشتراط الإيمان في القاضي بعد الإسلام، هو العدم، لأنّ المراد به الإيمان بالمعنى الأخصّ.

واستدلّوا لذلك بامور:

الدليل الأوّل: الإجماع كما ادّعاه غير واحد من العلماء.

ويرد عليه: أنّه مدركيّ كما تقدّم.

الدليل الثاني: ذكر القيد في كلام الإمام (ع)، ففي صحيحة أبي خديجة قال (ع): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى


1- وسائل الشيعة 80: 28، كتاب الحدود، أبواب حدّ الزنا، الباب 8، الحديث 5.
2- مباني تكملة المنهاج 188: 1.

ص: 91

رجل منكم»(1)، فإنّ الظاهر من قوله «منكم» اعتبار كونه شيعياً معتقداً بولاية أهل البيت (عليهم السلام).

ومثلها مقبولة عمر بن حنظلة، حيث قال (ع): «ينظران من كان منكم»(2).

ويرد عليه: أوّلًا: إنّ ذكر القيد لا يدلّ على اعتبار الإيمان في القاضي، بل الظاهر منه أنّه في مقام بيان عدم جواز الرجوع إلى قضاة الجور المنصوبين من قبل سلاطين الجور، والطواغيت، فلا يدلّ على عدم جواز نصب القاضي العامّي، الذي يقضي على ضوء مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّ الوارد في صدر المقبولة هكذا: سألت أبا عبدالله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكموا إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ...- إلى أن قال-: ينظران من كان منكم ...»(3) يعني تحاكموا إلى من لم يكن مثل هؤلاء القضاة المنصوبين من قبل الجائر، ويكون مستندهم أيضاً، فاسداً، فلا تدلّ الرواية على نفي أهلية العامّي الموثوق به، إذا قضى بالحقّ وبمستند صحيح.

ثانياً: عدم ورود هذا القيد في الصحيحة الاخرى لأبي خديجة، حيث قال: «بعثني أبو عبدالله (ع) إلى أصحابنا فقال (ع): «قل لهم إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شي ء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد


1- وسائل الشيعة 13: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

ص: 92

جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(1).

لا يقال: إنّ الصحيحة الاولى التي ذكر فيها هذا القيد، تقيد هذه الصحيحة.

لأنّه يقال: إنّ المنساق منها ردع أصحابهم عن الرجوع إلى الظلمة والفسّاق، والسلطان الجائر وعمّاله، وإلزامهم بالرجوع إلى من ليس من الظلمة وعمّال السلطان، وهم الشيعة الإمامية وغيرهم ممّن لا يكون ظالماً ولا جائراً. ويستند في قضائه إلى مذهب الحقّ، فعدم ذكر القيد في الصحيحة الثانية، يؤيّد ما استفدناه من الاولى. هذا. وقد عبّر صاحب «المستند»(2) عن روايتي أبي خديجة بالصحيحتين، فقال: ووصف الروايتين بعدم الصحّة- مع أنّه غير ضائر عندنا مع وجودهما في الاصول المعتبرة، وانجبارهما بالإجماع المحقّق والمحكيّ مستفيضاً، وفي «المسالك»(3) أنّها والمقبولة الآتية مشتهران بين الأصحاب، متّفق على العمل بمضمونهما- غير جيّد؛ لأنّ أولاهما، رواها في «الفقيه» عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة، وطريق «الفقيه» إلى أحمد صحيح كما صرّح به في «الروضة»(4) وأحمد نفسه موثّق إمامّي(5)، وأمّا أبو خديجة- وهو سالم بن مكرم- فإن ضعّفه الشيخ في موضع، ولكن وثّقه في موضع آخر، ووثّقه النجاشي(6) وقال:


1- وسائل الشيعة 139: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
2- راجع: مستند الشيعة 18: 17.
3- راجع: مسالك الأفهام 335: 13.
4- روضة المتقّين 32: 4.
5- راجع: رجال النجاشي: 98، رقم 246؛ رجال الكشي( مع تعليقات الميرداماد) 653: 2.
6- رجال النجاشي: 188، رقم 501.

ص: 93

الحسين بن علي بن الحسن كان صالحاً(1). وعدّ في «المختلف»(2) في باب الخمس روايته من الصحاح. وقال الأسترآبادي في رجاله الكبير في حقّه، «فالتوثيق أقوى».

وأمّا الثانية فالإشكال فيها من جهة أبي الجهم الراوي عن أبي خديجة واسمه ثوير، قال النجاشي: «ثوير بن أبي فاختة أبو الجهم الكوفي، وقد نقل الكشّي(3) رواية عن أبي الجهم صارت منشأ لاختلاف الرجاليين في وثاقته. وحاصلها أنّه صحب بعض المخالفين الذين أرادوا أن يسألوا الإمام الباقر (ع) عن أربعة آلاف مسألة، قال ثوير: فغمّني ذلك ... حتّى إذا دخلت المدينة افترقنا، فنزلت أنا على أبي جعفر (ع)، فقلت له: جعلت فداك إنّ ابن ذرّ وابن قيس الماصر والصلت صحبوني، وكنت أسمعهم يقولون: قد حرّرنا أربعة آلاف مسألة نسأل أبا جعفر (ع) عنها، فغمّني ذلك! فقال أبو جعفر (ع): «ما يغمّك من ذلك، إذ جاؤوا فأذن لهم»(4). الحديث. حيث استدلّ بها بعض الرجاليين، على قلّة معرفة


1- رجال الكشي( مع تعليقات الميرداماد) 641: 2.
2- راجع: مختلف الشيعة 341: 3.
3- رجال الكشّي، الجزء الثالث: 219.
4- ( ثوير أبوالجهم بن أبي فاختة سعيد بن علاقة) وإليك نصّ الحديث فلاحظ: قال خرجت حاجاً فصحبني عمر بن ذر القاضي وابن قيس الماصر والصلت بن بهرام، وكانوا إذا نزلوا منزلًا قالوا انظر الآن فقد حررنا أربعة آلاف مسألة نسأل أبا جعفر( ع) منها عن ثلاثين كلّ يوم، وقد قلدناك ذلك، قال ثوير: فغمني ذلك حتّى إذا دخلنا المدينة فافترقنا، فنزلت أنا على أبي جعفر( ع) فقلت له جعلت فداك ابن ذر وابن قيس الماصر والصلت صحبوني وكنت أسمعهم يقولون: قد حررنا أربعة آلاف مسألة نسأل أبا جعفر( ع) عنها فغمني ذلك! فقال أبو جعفر( ع) ما يغمك من ذلك فإذا جاؤوا فأذن لهم! فلمّا كان من غد دخل مولى لأبي جعفر( ع) فقال: جعلت فداك بالباب ابن ذر ومعه قوم، فقال أبو جعفر( ع) يا ثوير قم فأذن لهم، فقمت فأدخلتهم فلمّا دخلوا سلموا وقعدوا ولم يتكلّموا، فلمّا طال ذلك أقبل أبو جعفر( ع) يستنبئهم الأحاديث وأقبلوا لا يتكلّمون، فلمّا رأى ذلك أبو جعفر( ع) قال لجارية له يقال لها سرحة هاتي الخوان! فلمّا جاءت به فوضعته، فقال قال ثوير: فغمّني ذلك.( رجال الكشي، الجزء الثالث: 219)

ص: 94

«ثوير» بمقام الإمام وسعة علمه، لأنّه اغتمّ من تهيئة المخالفين لأسئلة كثيرة. ووجه غمّه ما تخيله من أنّ الإمام (ع) قد لا يعرف بعض أجوبتها، وهذا قدح في عقيدة ثوير. بينما توقّف بعضهم في روايته لعدم دلالة الرواية على قدح ولامدح.

وقال المحقّق المامقاني (ره): «لا يكون الخبر ظاهراً في القدح لأنّ الأشفاق لعلّه من أن يتأذّى لخبثهم ورداءة لسانهم، أو لعدم تمكّنه (ع) من إظهار الحقّ تقيّة منهم فلا يجيبهم بصريح الحقّ فيجري للمعاندين في أثناء السؤال من سوء الأدب. لا أنّ الإشفاق لظنّه قصور الإمام (ع) عن الجواب حاشاه من ذلك فلا يكون دليلًا على عدم علمه بحقيقة الإمام (ع) ليحصل القدح فيه.

على أنّه على فرض التنزّل نقول بما قاله الوحيد في التعليقته من أنّه لا تأمّل في كونه من الشيعة ومشاهيرهم، وحكاية الاشفاق لا يضرّ بالنسبة إلى الشيعة في ذلك الزمان»(1).

ثمّ قال: «وبالجملة: فدلالة الخبر على القدح ممنوعة، بل ما ادّعاه العلامة(2) من عدم دلالته على المدح، ممكن المنع، لأنّ نزوله على الإمام حين وصوله إلى المدينة المشرّفة بعد الحجّ وافتراقه عنهم. وإعلامه (ع) عن كيد المعاندين وذهابه


1- تنقيح المقال 425: 13، ذيل ثوير أبو الجهم بن أبي فاخته، الرقم 119.
2- رجال العلامة الحلّي: 20.

ص: 95

بأمره (ع) إلى الباب ليأذن لهم بالدخول؛ دليل على أنّه من خواصّه وحواريه، وفيه مدح لا يخفى»(1).

الدليل الثالث: الأخبار المتواترة المانعة من الرجوع إلى غير المؤمن في رفع التنازع. قال: في «الجواهر» بعد قول المحقّق (ره) «ولا كافر»(2). «وكذا غير المؤمن الذي هو كافر في الجملة أيضاً؛ بما تواترت به النصوص في النهي عن المرافعة إلى قضاتهم. بل هو من ضروريات مذهبنا»(3).

وقد عقد في «الوسائل» باباً في وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهم السلام) من أحكام الشريعة، لا فيما يقولونه برأيهم وفيه ثمانية وأربعون حديثاً(4).

ويرد عليه: أنّه ليست في هذه الأخبار، رواية واحدة دلّت على اشتراط الإيمان بهذا المعنى، بل الأخبار المتواترة تدلّ على النهي عن المراجعة إلى قضاة الجور، والموجودين في زمن الأئمّة وفيهم جهات ثلاث، لعدم جواز الرجوع.

أوّلها: كونهم غير معتقدين بما اعتقده الشيعة.

ثانيها: كونهم منصوبين من قبل سلاطين الجور، والخلفاء الغاصبين.

ثالثها: استناد أحكامهم القضائية إلى ما لا يصحّ عند الشيعة كالقياس والاستحسان فلا تدلّ على الأوّل بالخصوص، بل لعلّ الوجه في عدم


1- تنقيح المقال 426: 13، ذيل ثوير أبو الجهم بن أبي فاخته، الرقم 119.
2- جواهر الكلام 12: 40.
3- شرائع الإسلام 860: 4.
4- راجع: وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11.

ص: 96

جوازالرجوع إليهم هو الأمران الآخران.

وأمّا الأصحاب فلم يشترط جمع من فقهائنا العظام الإيمان. قال المفيد في «المقنعة»: «ولا ينبغي لأحد أن يتعرّض له حتّى يثق من نفسه بالقيام به، وليس يثق أحد بذلك من نفسه حتّى يكون عاقلًا كاملًا، عالماً بالكتاب»(1) ولم يصرّح باشتراط الإيمان.

ومثله صنع الشيخ الطوسي في «النهاية»(2)، و «الخلاف»(3) و «المبسوط»(4).

بل أنّ مراد بعض من صرّح باعتبار الإيمان، هو الإسلام، لا المعنى الخاصّ منه، كالمحقّق في «الشرائع» حيث قال: «يشترط فيه البلوغ، وكمال العقل والإيمان والعدالة» ثمّ فرّع عليه بقوله: «فلا ينعقد القضاء لصبيّ ولا مراهق، ولا كافر»(5)، وكذا الفاسق، فمن قوله «ولا لكافر» يفهم أنّه مقابل للمؤمن فيكون قرينة على أنّ المراد من المؤمن، هو المسلم.

وقال العلامه في «القواعد»: «الفصل الثاني: في صفات القاضي ويشترط فيه البلوغ، والعقل، والذكورة، والإيمان، والعدالة ...» ثمّ تفرّع عليه بقوله: «فلا ينفذ قضاء الصبيّ، ولا المجنون، ولا الكافر، والفاسق، ولا المرأة»(6). قال السيّد العاملي في «مفتاح الكرامة»- في شرح كلام «القواعد»-: «فمراد المصنّف بالإيمان


1- المقنعة: 721.
2- النهاية: 337.
3- الخلاف 207: 6.
4- المبسوط 84: 8.
5- شرائع الإسلام 860: 4.
6- قواعد الأحكام 421: 3.

ص: 97

الإسلام، بقرينة قوله: ولا الكافر»(1). ومِثلُ المصنّف صنع المحقّق في «الشرائع»(2).

والمستفاد ممّا عرفت: أنّ المسألة غير إجماعية أيضاً، فضلًا عن كونها ضرورية، كما في كلام صاحب «الجواهر»(3) فلعلّ مراده من قوله: «بل هو من ضروريات مذهبنا» ضرورية تحريم المراجعة إلى قضاتهم، وهو كذلك على ما قلناه.

فتحصّل: إنّه إذا كان أحد العامّة واجداً للشروط- من البلوغ، والعقل، والوثوق، والعلم،- واستند في قضائه إلى القوانين والموازين الشريعة المتلقّاة من أهل البيت (عليهم السلام)، فلا دليل على عدم نفوذ قضائه، بل إطلاقات أدلّة القضاء بالحقّ، والعدل، تشمله بلا إشكال، فيصحّ نصبه للقضاء على أهل مذهبه، بل على الشيعة أيضاً، فلا يصحّ الرجوع إلى الأصل المذكور مثلًا لوجود الإطلاقات وشمولها له كما قلنا.

الشرط الرابع: العدالة
اشارة

فلا ينفذ قضاء الفاسق؛ ولا بدّ لنا أن نبحث في امور:

الأمر الأوّل: فيما استدلّ به لاشتراط العدالة

قد استدلّ على اعتبار عدالة القاضي بالأدلّة الأربعة، أي الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.


1- مفتاح الكرامة 9: 10.
2- راجع: شرائع الإسلام 860: 4.
3- جواهر الكلام 13: 40.

ص: 98

أمّا الكتاب: فقوله (سبحانه و تعالى): وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ(1) والركون هو الميل والسكون والرضا بفعل الشخص، ولا شكّ في أنّ الفاسق المرتكب للمعاصي ظالم إمّا لغيره بالتعدّي والتجاوز عليه، أو لنفسه لإيجاب هلاكه. ونصبه للقضاء يوجب الركون إليه والرضا بحكمه.

وقوله عزّ وجلّ: لا يَنَالُ عَهْدِى الظّالِمِينَ(2) بتقريب أنّ المراد من العهد وإن كان الإمامة، لقوله عزّ وجلّ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً(3) ولكن القضاء أيضاً شعبة من الولاية العامّة التي للإمام (ع). وهو أيضاً منصب إلهي، وعهد إلهي، فلا ينال الظالمين والفاسق ظالم كما قلنا.

وأمّا السنّة: فمنها: ما في مقبولة عمر بن حنظلة، قال: فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيهما حكماً، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال (ع): «الحكم ما حكم به أعدلهما»(4).

فإنّ الظاهر منها أنّ اشتراط العدالة كان أمراً مفروضاً ومفروغاً عنه؛ لكنّهما إذا كانا عادلين اعتبر قول أعدلهما.

ومنها: ما عن سليمان بن خالد، عن أبي عبدالله قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ»(5).


1- هود( 11): 113.
2- البقرة( 2): 124.
3- البقرة( 2): 124.
4- وسائل الشيعة 106: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.
5- وسائل الشيعة 17: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

ص: 99

ومنها: ما عن الإمام الحسن العسكري (ع)- في حديث- قال: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلّدوه»(1).

وهي مرسلة وضعيفة سنداً لكنّها متلّقاة بالقبول عند الأصحاب ومعمول بها وتدلّ على اشتراط العدالة، بل ما هو فوقها. والظاهر منها وإن كان الفتوى ولكن القضاء أيضاً نوع من الفتوى، فإنّ القاضي المجتهد يفتي في المسألة ويستند إليها في القضاء.

وأمّا العقل فهو الفحوى والأولوية القطعية: فإنّ ما دلّ على اشتراط العدالةفي إمام الجماعة والمفتي والشاهد، والولاية على الصغير والمجنون والغائب، يدلّ على اعتبارها في القاضي بوجه أولى لأنّه يقضي في الدماء، والأعراض، والأموال، والحقوق، فلا بدّ أن يكون عادلًا أميناً، فالفاسق إذا كان قاصراً عن مرتبة الولاية على الصغير والمجنون فكيف يولّي هذا المقام الخطير؟!

وأمّا الإجماع: فقد ادّعى في كتب فقهية عديدة مثل «العروة»(2) و «المستند»(3) وغيرهما.

والإشكال في الإجماع بأنّه مدركي؛ وارد هنا أيضاً. ولكن الاستدلال بغيره صحيح.


1- وسائل الشيعة 131: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20.
2- راجع: العروة الوثقى 417: 6.
3- راجع: مستند الشيعة 34: 17.

ص: 100

الأمر الثاني: في تحديد معنى العدالة

في تحديد معنى العدالة: قال المحقّق الأردبيلي في «مجمع الفائدة»: «المشهور في الاصول والفروع أنّها ملكة راسخة في النفس تبعث على ملازمة التقوى بترك الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر وضمّ البعض، المروّة أيضاً»(1).

وهذا التعريف هو المشهور بين المتأخّرين. وظاهره أنّ العدالة من الصفات النفسانية وليست مجرّد حسن الظاهر، أو ترك المعاصي أو الاستقامة الفعلية في الدين- على ما قيل.- وقد أصرّ صاحب «الجواهر»(2) في باب صلاة الجماعة على ردّ هذا التعريف.

والدليل عليه روايات كثيرة صحيحة ومعتبرة. والعمدة فيها صحيحة عبدالله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبدالله (ع): بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين، حتّى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن، والفرج، واليد، واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر، والزنا، والربا، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وغير ذلك»(3).

ودلالتها على كون العدالة هي الملكة من وجهين:

الأوّل: أنّ الستر والعفاف من الصفات النفسانية فإنّ الستر هو التقوى، والعفاف ترك الشهوات، وقد أخذا في مفهومها.


1- مجمع الفائدة والبرهان 351: 2.
2- جواهر الكلام 294: 13.
3- وسائل الشيعة 391: 27، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 1.

ص: 101

الثاني: أنّ ترك جميع ما جاء في الرواية من المعاصي لا يحصل بدون وجود الملكة الرادعة، إذ لولاها لما استقام الترك في طول حياته، ولصدرت منه المعاصي أحياناً، فالعدالة عبارة عن بلوغ الإنسان مرتبة يسهل معها، الإتيان بالواجبات، وترك المحرّمات، بل يعسر عليه الإتيان بالمحرّمات، وترك الواجبات، إلا أنّ لها مراتب، كسائر الصفات النفسانية كالجود، والشجاعة، والحلم، وغيرها، فالعدالة، في أمثال آية الله العظمى الأراكي والمقدّس الأردبيلي مرتبة، وفي الفرد العادي مرتبة اخرى.

ونظيرها روايات كثيرة، تدلّ على اعتبار الملكة في العدالة وسنبحثها في كتاب الشهادات إن شاء الله.

ثمّ إنّ العدالة إذا كانت عبارة عن الحالة النفسانية والكيفية الخاصّة في الباطن فبم تعرف في مقام الثبوت، ويعلم بوجودها في الأفراد؟

الظاهر إنّ طريق تشخيصها مماثل لطريق العلم بوجود غيرها، من الملكات النفسانية، حيث تعرف بآثارها الظاهرة، في أعمال الإنسان وأفعاله، وحالاته، فإذاعرف شخص بأنّه مجتنب عن المحرّمات ولم يرَ مرتكباً لمعصية صغيرة ولاكبيرة وعلم بمواظبته على الفرائض، والإتيان بها، فيستكشف منه وجودالملكة فيه، ويعبّر عن ذلك بحسن الظاهر. وهذا هو المستفاد من الصحيحةأيضاً، فإنّه (ع) قال: «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه، ... ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ، وحفظمواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين، وأن لا يتخلّف عن

ص: 102

جماعتهم في مصلاهم إلا من علّة»(1).

فإنّ الظاهر أنّ علّة تصريحه بحضور جماعة من المسلمين، وعدم التخلّف عن جماعتهم هو التعرّف على مقدار محافظته على الصلوات في أوقاتها وفي المساجد، ونفس الحضور في المساجد والمواظبة على إيقاع الصلوات فيه أوّل أوقاتها، كاشف عن الاجتناب عن المعاصي لأنّ الله عزّ وجلّ قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ(2).

قال السيّد الطباطبائي في «العروة»: «العدالة ملكة الاجتناب عن الكبائر وعن الإصرار على الصغائر، وعن منافياة المروّة، الدالّة على عدم مبالاة مرتكبها بالدين. ويكفي حسن الظاهر الكاشف ظنّاً عن تلك الملكة»(3).

وقد علّق السيّد محمّد تقي الخونساري على قوله: «الكاشف ظنّاً» بقوله: «الأقوى كونه كاشفاً تعبّدياً وإن لم يفد الظنّ» وقال السيّد في «ملحقات العروة»- وقد أشرنا إليه سابقاً-: «إنّ العدالة وإن كانت عبارة عن الملكة ويعسر الاطّلاع عليها غالباً بالعلم إلا أنّ المستفاد من الأخبار الكثيرة أنّ حسن الظاهر كاشف عنها، والاطّلاع عليه سهل»(4). وقال الإمام (ره) في كتاب الشهادة: «الرابع: العدالة، وهي الملكة الرادعة عن معصية الله تعالى»(5).

وممّا دلّ على الاكتفاء بحسن الظاهر قوله (ع): «فإذا كان ظاهر الرجل


1- وسائل الشيعة 391: 27، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 1.
2- العنكبوت( 29): 45.
3- العروة الوثقى 189: 3.
4- العروة الوثقى 520: 6.
5- تحرير الوسيله: 851.

ص: 103

ظاهراً مأموناً، جازت شهادته، ولا يسأل عن باطنه»(1).

ومن الروايات:

ما عن علقمة، وفيها قال: قلت له: تقبل شهادة معترف بالذنوب؟ فقال: «يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً»(2) قال صاحب «الوسائل»- بعد نقل الرواية الرابعة من الباب-: «أقول قد عمل الشيخ وجماعة(3) بظاهره وظاهر أمثاله، وحكموا بعدم وجوب التفتيش»(4).

وسيأتي البحث عن تحديد معنى الكبائر وبيان المراد من الإصرار على الصغائر، وكذا المراد من منافياة المروّة.

الأمر الثالث: البحث حول فسق المخالف

ثمّ إنّه بعد اشتراط العدالة في القاضي، هل ينفذ قضاء غير الشيعة، الاثني عشرية من سائر فرق المسلمين، أو لا؟

قد يقال بالعدم، لأنّ غير المؤمن فاسق وظالم، وإن اتّصف بالإسلام.

قال المحقّق في «الشرائع» في صفات الشهود، وما يعتبر في الشاهد: «الثالث:


1- وسائل الشيعة 393: 27، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 395: 27، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 13.
3- الوافي 1005: 16.
4- وسائل الشيعة 393: 27، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 4.

ص: 104

الإيمان، فلا تقبل شهادة غير المؤمن، وإن اتّصف بالإسلام، لا على مؤمن ولا على غيره، لاتّصافه بالفسق والظلم المانع من قبول الشهادة»(1)، فإذا صدق على غير المؤمن أنّه فاسق وظالم، فلا ينفذ قضاؤه كما لا تقبل شهادته.

ولكن نقول: إنّ غير المؤمن تارة يكون جاحداً ومتعصّباً ومعانداً وناصبيّاً، وأمثال ذلك، ممّن ظهر عنده الحقّ، وأنكره من جهة عناده لأهل البيت (عليهم السلام) ولتعصّبه لخلفاء الجور مثلا، ولخوفه على مقامه وجاهة بين الناس، وغير ذلك. وهذا يصدق عليه أنّه فاسق وظالم، بل هو كافر، كما قاله صاحب «الجواهر»(2).

واخرى يظهر له الحقّ، بل يعتقد أنّ ما عليه من الاعتقاد حقّ وطريق للنجاة ومرضى للربّ (عز و جل)، فهل يصدق عليه أنّه فاسق أو ظالم؟ الظاهر عدم الصدق فإنّ الفسق ارتكاب المعصية مع العلم بكونها معصية وكذلك الحال في صدق الظلم. وهذا ما اختاره الشهيد في «المسالك» حيث قال: «إنّ الفسق إنّما يتحقّق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أمّا مع عدمه، بل مع اعتقاد أنّها طاعة- بل من امّهات الطاعات- فلا، والأمر في المخالف للحقّ في الاعتقاد كذلك؛ لأنّه لا يعتقد المعصية بل يزعم أنّ اعتقاده من أهمّ الطاعات، سواء كان اعتقاده صادراً عن نظر أم تقليد، ومع ذلك لا يتحقّق الظلم أيضاً، وإنّما يتّفق ذلك ممّن يعاند الحقّ مع علمه به، وهذا لا يكاد يتّفق، وإن توهّمه من لا علم له بالحال»(3). وقد اعترض عليه صاحب «الجواهر» بقوله: «وهو من غرائب الكلام


1- شرائع الإسلام 911: 4.
2- جواهر الكلام 17: 41.
3- مسالك الأفهام 160: 14.

ص: 105

المخالف لظاهر الشريعة وباطنها- إلى أن قال-: بالجملة لا يستأهل هذا الكلام ردّاً إذ هو مخالف لُاصول الشيعة ومن هنا شدّد النكير عليه الأردبيلي»(1).

أقول: إنّ كلام الشهيد في «المسالك» أتقن فإنّ من حقّق في مسألة الإمامة مثلًا وانتهى نظره- بمراجعة الروايات ونقل التواريخ النبي بأيديهم- إلى خلاف الحقّ رأى أنّ اعتقاده صحيح ومرضيّ عند الله عزّ وجلّ، وأنّه طاعته بل من أهمّ الطاعات، بل قد يدّعوا الله عزّ وجلّ- عن خلوص- ليحشره مع أعداء آل محمّد، وهكذا حال من اعتمد عليه، وأخذ عنه اعتقاداته، فلا يصدق عليهما إنّهما فاسقان، أو ظالمان، أو كافران، بلا شبهة؛ بل هما معذوران وإذا كانت أعمالهما طبق موازين شريعتهما، فهما عادلان- في ملّتهم- كما ذكره الشهيد الثاني في ذيل كلامه بالنسبة إلى سائر الملل حيث قال: «والحقّ أنّ العدالة تتحقّق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم»(2).

وقال في ذيل كلام المحقّق(3): «نعم، تقبل شهادة الذمّي خاصّة في الوصيّة ما هذا لفظه: «وأمّا قبول شهادة الذمّي في الوصيّة مع عدم عدول المسلمين، فلقوله عزّ وجلّ: أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ(4) ويشترط فيه العدالة في دينه لظاهر العطف على قوله: «منكم» الداخل في حيّز العدالة، وكأنّ التقدير ذوي عدل منكم، أو ذوي عدل من غيركم ...، ولعموم أدلّة العدالة».


1- جواهر الكلام 19: 41.
2- مسالك الأفهام 160: 14.
3- مسالك الأفهام 161: 14.
4- المائدة( 5): 106.

ص: 106

والاجتهاد المطلق، (2)

وقد نقل صاحب «الجواهر» كلام المحقّق الأردبيلي في مورد آخر(1)، وقال: «وهذا الكلام لا يستأهل ردّاً» وهنا عبّر بهذا الكلام، بالنسبة إلى كلام «المسالك» وأيّده بكلام الأردبيلي؛ لكون كلامه موافقاً لنظره الشريف. جعلهم الله عزّ وجلّ تحت ظلّ رحمته، وحشرهم مع نبيّه الكريم (ص) وأهل بيته (عليهم السلام).

فتحصّل: أنّ المخالف إذا كان واجداً للصفات المعتبرة في القاضي، و- منها العدالة بحسب مذهبه- ينفذ قضاؤه، إذا أذن له الوليّ الفقيه، واستند في قضائه إلى قوانين مسفادة من كلام أهل البيت (عليهم السلام).

الشرط الخامس: الاجتهاد
اشارة

(2) ممّا يعتبر في القاضي أن يكون مجتهداً مطلقاً؛ فلا ينعقد ولا ينفذ قضاء المتجزّئ ولا المقلّد، وهذا هو المشهور بين الأصحاب، بل ادّعي عليه الإجماع؛ قال المحقّق في «الشرائع»: «وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقلّ بأهلية الفتوى ولا يكفيه فتوى العلماء؛ ولا بدّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه»(2).

وأوضحه في «الجواهر» قائلًا: «والمراد بكونه عالماً بجميع ما وليه، كونه مجتهداً مطلقاً فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على


1- جواهر الكلام 19: 41.
2- شرائع الإسلام 860: 4.

ص: 107

القول بتجزي الاجتهاد»(1).

وقال في «المسالك»: «المراد بالعالم هنا المجتهد في الأحكام الشريعة، وعلى اشتراط ذلك في القاضي إجماع علمائنا، ولا فرق بين حالة الاختيار والاضطرار، ولا فرق فيمن نقص عن مرتبته، بين المطّلع على فتوى الفقهاء وغيره»(2).

وقال السيّد في «ملحقات العروة»: «العاشر: الاجتهاد، فلا ينفذ قضاء غير المجتهد وإن بلغ من العلم والفضل ما بلغ»(3). وقال في «المستند»: «صرّح بعضهم بكفاية التجزّي، وهو الظاهر من الفاضل في «التحرير»(4) حيث شرط في القاضي الاجتهاد، وذكر شرائطه، ثمّ قال: «وهل يتجزّء الاجتهاد أم لا؟ الأقرب نعم». وقد اختاره صاحب «المستند» أيضاً(5). وأمّا صاحب «الجواهر» فذهب إلى جواز القضاء للمقلّد بفتوى مجتهده حيث ذكر جملة من الآيات والروايات، ثمّ قال: «إلى غير ذلك من النصوص البالغة بالتعاضد، أعلى مراتب القطع، الدالّة على أنّ المدار، الحكم بالحقّ الذي هو عند محمّد وأهل بيته وأنّه لا ريب في اندراج من سمع منهم (عليهم السلام) أحكاماً خاصّة مثلًا؛ وحكم فيها بين الناس وإن لم يكن له مرتبة الاجتهاد والتصرّف»(6).

وقد استدلّ على القول باشتراط الاجتهاد المطلق، بامور:


1- جواهر الكلام 15: 40.
2- مسالك الأفهام 328: 13.
3- العروة الوثقى 418: 6.
4- تحرير الأحكام 111: 5.
5- مستند الشيعة 29: 17- 30.
6- جواهر الكلام 16: 40.

ص: 108

منها: الأصل؛ وهذا فيما إذا قلنا بعدم تمامية الأخبار فإنّه مع وجود الإطلاقات لا تصل النوبة إلى الأصل.

وممّن استدلّ بالأصل(1) السيّد الخوئي (ره) فقال: «إنّ القضاء واجب كفائي لتوقّف حفظ النظام عليه، ولا شكّ في أنّ نفوذ حكم أحد على غيره، إنّما هو على خلاف الأصل، والقدر المتيقّن من ذلك هو نفوذ حكم المجتهد، فيكفي في عدم نفوذ حكم غيره الأصل؛ بعد عدم وجود دليل لفظي يدلّ على نصب القاضي ابتداءً ليتمسّك بإطلاقه»(2). واستشكل في الروايات بعدم صحّة السند في بعضها، وعدم الدلالة في بعضها الآخر.

ومنها: ما استدلّ به السيّد (ره) في «ملحقات العروة» وهو:

«أنّ الظاهر من الآيات والأخبار هو أنّ منصب القضاء مختصّ بالنبي والأئمّة فيتوقّف جوازه من غيرهم، على الإذن منهم. والأخبار الدالّة على الإذن مختصّة بالعلماء ورواة الأخبار، الظاهرة في القادر على استنباط الحكم منها»(3).

ومنها: الأخبار الدالّة على اشتراط الاجتهاد المطلق:

أوّلها: مقبولة عمر بن حنظلة قال فيها: قلت: فكيف يصنعان قال: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا


1- ولعلّ إطلاق كلام السيّد اليزدي أيضاً يدلّ علي استدلاله بالأصل علي لزوم الاجتهاد حيث قال:« ولأنّ نفوذ الحكم وترتيب آثاره على خلاف الأصل والقدر المتيقّن هو حكم المجتهد».( العروة الوثقى 418: 6)
2- مباني تكملة المنهاج 6: 1.
3- العروة الوثقى 418: 6.

ص: 109

فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ...»(1).

والبحث فيها من ناحيتين السند والدلالة.

أمّا السند، فالكلّ إلى داود بن الحصين ثقات وأجلاء لا اختلاف فيهم. وأمّا داود بن الحصين فقال النجاشي(2) بحقّه: «ثقه» ولكن وصفه الشيخ (ره)(3) بكونه واقفياً، ولم يتعرّض لوقفه النجاشي مع أنّ من دأبه التصريح بوافقية الراوي وغيرها، فإذا دار الأمر بينهما فيما اختلفا، فالترجيح لقول النجاشي لأنّه أضبط من حيث كونه رجالياً خاصّة. بخلاف الشيخ الذي كان فقيهاً واصولياً ومتكلّماً ومحدّثاً ومفسّراً؛ ولذا قال الشيخ البهائي (ره) في «الكشكول»: «ظفرت على كلّ ذي فنون وغلبني كلّ ذي فنّ».

بقي في السند عمر بن حنظلة وهو لم يوثّق في الرجال وإن زعم الشهيد الثاني توثيقه لوجوه مذكورة في «معجم رجال الحديث»(4)، ولكنّها غيرتامّة.

نعم، تلقّاها المشهور بالقبول وعملوا بها في موارد متعدّدة. ولذلك سمّيت بالمقبولة.

مضافاً إلى إتقان محتواها بحيث يكشف عن كونها مع الإمام وقلنا- في محلّه- إنّ الملاك هو كون الرواية موثوقاً بصدورها، لا أن يكون الراوي ثقة، هذا حال السند.

أمّا الدلاله فيستظهر منها اشتراط الاجتهاد المطلق فإنّ قوله: «نظر في حلالنا


1- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
2- رجال النجاشي: 159، الرقم 421.
3- رجال الشيخ الطوسي: 336، الرقم 5007- 5.
4- معجم الرجال الحديث 31: 14، الرقم 8737.

ص: 110

وحرامنا» لا يراد به النظر السطحي والالتفات الابتدائي، بل المراد النظر في حلالهم وحرامهم بإمعان ودقّة، كما في قوله تعالى: فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(1) فيستظهر منه النظر الاستدلالي والاستنباطي. وهكذا الحال في قوله (ع): «عرف أحكامنا» فإنّه لا يستعمل إلا فيما إذا سبقه الاشتباه والاختلاط فيستظهر منه قوّة الاستنباط وتشخيص الحقّ من الباطل، والحلال من الحرام.

ويدلّ عليه أيضاً أنّ الأحكام جمع مضاف يفيد العموم.

فيكون المراد معرفة جميع الأحكام والنظر في جميع الحلال والحرام، فلا يشمل المتجزّي ولا المقلّد، إذ لا يصدق على أيّ منهما أنّه نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم.

ثانيها: صحيحة أبي خديجة أو مشهورته قال: بعثني أبو عبدالله (ع) إلى أصحابنا، فقال: «قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شي ء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلًا ممّن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(2).

ولا بدّ أن يبحث فيها من جهتين: سندية، ودلالية.

أمّا من حيث السند فقد رواها الشيخ عن ابن محبوب وطريقه إليه صحيح كما قال: إنّه ثقة عين فقيه كما عن النجاشي(3) وأحمد بن محمّد بن عيسى، والحسين


1- آل عمران( 3): 137.
2- وسائل الشيعة 139: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
3- رجال النجاشي: 20، الرقم 25.

ص: 111

بن سعيد، ثقتان أيضاً بلا خلاف. وأمّا أبو الجهم فقد تقدّم أنّ اسمه ثوير بن أبي فاختة، والأقوى أنّه ثقة من أصحاب السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام). وقد يقال: إن اسمه بكير بن أعين فهو أخو زرارة بن أعين ومن أصحاب الصادق (ع) ومن الثقات. لأنّه من آل أعين وهم من أعيان الشيعة وموثّقون وقد روي أنّه لمّا بلغ موته إلى الصادق قال في حقّه: «أما والله لقد أنزله الله عزّ وجلّ بين رسوله وأمير المؤمنين»(1) وعلى أي حال فإنّ أبا الجهم موضع للوثوق.

ولكن هاهنا إشكال مشترك بينهما؛ وهو أنّ الحسين بن سعيد من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) فكيف يمكن أن ينقل الحديث بلا واسطة عن بكير بن أعين الذي مات في زمن الصادق (ع)، أو عن ثوير وهو من أصحاب السجّاد والباقر والصادق (عليهم السلام)؟! فلا بدّ أن يكون في السند سقط، فتصير الرواية مرسلة.

ويمكن أن يدفع الإشكال: بإمكان استظهار الواسطة من سائقة الروايات التي نقل فيها الحسين بن سعيد، عن بكير بن أعين بواسطة أو بوسائط: فمن الاولى ما عن الحسين بن سعيد، عن حريز بن عبدالله عن بكير. ومن الثانيةالحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن بكير وعن صفوان، عن عبدالله بن بكير، عن أبيه بكير بن أعين وعن حمّاد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن بكير؛ وهؤلاء كلّهم ثقات. وأمّا أبو خديجة فاسمه سالم بن مُكرَم وقد كنّاة الإمام الصادق بأبي سلمة. وقال النجاشي:(2) إنّه ثقة وكذا وثّقه


1- وسائل الشيعة 36: 30.
2- راجع: رجال النجاشي: 188، الرقم 501.

ص: 112

الكشّي(1) وعدّه البرقي(2) من أصحاب الصادق، وقال: يكنن أبا سلمة ابن مكرم. وضعّفه الشيخ(3) في موضع بينما قال في موضع آخر(4): إنّه ثقة فيتعارض كلامه ويبقى توثيق النجاشي والكشّي بلا معارض.

وقد يقال: إنّه اشتبه الأمر على الشيخ فتخيّل أنّه سالم بن أبي سلمة، وهو ضعيف في كتب الرجال مع أنّ أبا سلمة هي كنية نفس أبي خديجة كما تقدّم لا كنية أبيه، فظهر أنّ السند تامّ معتبر، لا غبار عليه.

وأمّا تقريب الاستدلال بها، فهو أن «عرف» في قوله (ع): «اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا وحرامنا» ظاهر في الفعلية وقد تقدّم أنّه يستعمل فيما إذا اشتبه الأمر وكان فيه اختلاط، فيصير المعنى أنّه عارف بالفعل وله قدرة على تمييز الحلال من الحرام والحقّ من الباطل في جميع الحلال والحرام الصادر من الأئمّة وهذه القوّة والعرفان بالنسبة إلى جميع الأحكام لا تكون إلا في المجتهد المطلق.

ثالثها: مشهورة أو صحيحة أبي خديجة الثانية؛ قال: قال أبو عبدالله (ع): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»(5).


1- راجع: رجال الكشّي: 352، الرقم 661.
2- رجال البرقي: 32.
3- الفهرست: 80.
4- رجال الشيخ الطوسي: 217.
5- وسائل الشيعة 13: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

ص: 113

ولنبحث فيها أيضاً من جهه السند والدلالة.

أمّا السند، فهي صحيحة، فإنّ طريق الصدوق إلى أحمد بن عائذ صحيح. وأمّا أحمد نفسه فهو ثقة وتقدّم الكلام في أبي خديجة.

وأمّا الدلالة، ففي «الفقيه»: «يعلم شيئاً من قضايانا»(1). وفي «الكافي»: «يعلم شيئاً من قضائنا»(2). والمراد بالأوّل هو الأحكام الصادرة منهم من الحلال والحرام وغيرهما، والمراد بالثاني الموارد التي حكموا (عليهم السلام) فيها لرفع التنازع وفصل الخصومة.

وتقريب الاستدلال بها: إنّ قوله: «يعلم شيئاً من قضايانا» لا يراد به العلم بشي ءمّا، فإنّه لا يمكن لأحد الإحاطة بعلومهم (عليهم السلام)، فالعالم بالأحكام مهمابلغ من العلم، فهو لا يعلم إلا شيئاً من قضاياهم، فلا بدّ أن يكون ذلك الشي ء مقداراً معتدّاً به، حتّى يصدق عليه أنّه يعلم شيئاً من قضاياهم، والمراد به هو المجتهد العالم بالأحكام من الكتاب والسنّة ولا ينطبق إلا على المجتهد المطلق.

رابعها: التوقيع الشريف الذي رواه الصدوق في «إكمال الدين وإتمام النعمة» عن محمّد بن محمّد بن عصام، عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العَمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان: «أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك»- إلى أن قال:- «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها


1- الفقيه 3: 3/ 3216.
2- الكافي 412: 7/ 4.

ص: 114

إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله»(1). ونقله أيضاً الطبرسي بتمامه، في «الاحتجاج»(2) في توقيعات الناحية المقدّسة.

ولا بدّ لنا أن نبحث في سنده ودلالته.

أمّا السند، فهو صحيح ومعتبر، فإنّ محمّد بن محمّد بن عصام من مشايخ الصدوق. كما هو ظاهره في كتاب «كمال الدين» حيث قال في «مشيخة الفقيه»: «وما كان فيه عن محمّد بن يعقوب الكليني (ره) فقد رويته عن محمّد بن محمّد بن عصام الكليني، وعلى بن أحمد بن موسى، ومحمّد بن أحمد السناني عن محمّد بن يعقوب الكليني، وكذلك جميع كتاب «الكافي» فقد رويته عنهم، عنه عن رجاله»(3).

وعليه: فمحمّد بن محمّد وقريناه، ثقات؛ لأنّهم من مشايخ الإجازة، ولاعتماد الصدوق عليهم. ويؤيّده ترضيه (قدس سره) عليهم، فإنّه يشعر بوثاقتهم. وأمّا إسحاق بن يعقوب فهو أخو الكليني. ولم يذكر في كتب الرجال. لكنّه استظهر حسن حاله من القرائن، كدعاء الإمام (ع) له في أوّل التوقيع وتسليمه عليه في آخره. ولأنّ التوقيع لا يصدر إلا لمن كان شيعياً مخلصاً مؤتمناً، ولأنّه يستفاد من نقل الكليني (ره) لهذا التوقيع ورؤيته، والاعتماد عليه، من جهة اشتهار خطّ الإمام (ع)، لمثل الكليني ومعرفته له، وأمّا عدم نقله في «الكافي» فلعلّه من جهه التقية لاشتهار إسحاق بن يعقوب آنذاك وكونه من الشيعة المرتبطين بالناحية المقدّسة.


1- كمال الدين وتمام النعمة: 483/ 4.
2- الاحتجاج 283: 2.
3- الفقيه 534: 4.

ص: 115

هذا؛ مضافاً إلى اعتماد الصدوق (ره)، والشيخ (ره) لنقله إيّاه في «إكمال الدين»(1)، و «الغيبة»(2)، بل قد استقرّ عمل المشهور عليه، والفتوى على طبقه، فيظهر من مجموع ما تقدّم صحّة الاعتماد عليه.

أمّا الدلاله فلا إشكال في أنّ المراد بالحوادث ليس الامور المشتبهة من جهة الحكم؛ فإنّ معرفة حكم المسائل المشكلة أو المشتبهة لم تتعسّر على أحد حتّى يحتاج إلى سؤال الإمام. بل المراد هو الوقايع الحادثة التي لا بدّ فيها من المراجعة إلى الوالي أو الحاكم أو الرئيس أو القاضي؛ وذلك بعد غيبة الإمام (ع) وقصور الشيعة عن الوصول إلى محضره الشريف، للسؤال عن تلك الحوادث المهمّة التي منها فصل الخصومة، ورفع التنازع، فأجاب الإمام (ع) بالرجوع فيها إلى رواة الحديث.

والمراد «برواة الحديث» من غلبت عليهم لمن كان شغله هذه الصفة فلا يصدق على من روى حديثاً أو حديثين مثلًا؛ بل لا بدّ من كونه راوياً لأحاديثهم بمقدار معتدّ به، كما لا بدّ من فهمه لما يرويه وتمييزه لما صدر لبيان الواقع، أو التقيّة، وتشخيصه لصحيحه من سقيمه، وعامّه من خاصّه، فلا يصدق على من حفظ الأحاديث من غير تفقّه وتدبّر، والظاهر من إرجاعه إلى الرواة وأصحاب الحديث- لا إلى الروايات- أنّ فهمهم للأحاديث واستنباطهم منها، هو الحجّة في رفع التنازع وحلّ المشكل، وإدارة الامور، لا الروايات. ولذا قال (ع): «فإنّهم حجّتي عليكم»، لا «أنّ الروايات حجّة عليكم».


1- راجع: كمال الدين وتمام النعمة: 483/ 4.
2- الغيبة: 290.

ص: 116

فتحصّل: أنّ الحجّة هم رواة الأحاديث الذين يفقهون معناها، ويستنبطون منها الأحكام، ولا ينطبق هذا إلا على المجتهد المطلق الواجد للشروط، فله منصب الإفتاء، والقضاء، والحكومة، والولاية، لكن باعتبار كونه نائباً عنه (ع).

هذه هي الروايات التي استند إليها المشهور، في اشتراط الاجتهاد المطلق في القاضي، ومنهم الإمام (ره).

حول منع دلالة الروايات السابقة على اشتراط الاجتهاد المطلق

يمكن الإشكال في استفادة اشتراط الاجتهاد المطلق من الروايات السابقة، بل يستظهر منها كفاية الاجتهاد بنحو التجزّي؛ حتّى استدلّ بعضهم بروايتي أبي خديجة لذلك:

1- أمّا المقبولة فاستشكل الشيخ الأنصاري في دلالتها: «بأنّ الظاهر من لفظ «عرف» هو المعرفة الفعلية ومن لفظ «أحكامنا» هو جميع الأحكام فيكون المعنى المعرفة الفعلية، والعلم بجميع الأحكام. وهذا غير ممكن للمتعارف من الأفراد. أو نادر جدّاً، وغير مراد بالضرورة، لعدم اعتبار المعرفة كذلك قطعاً، فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين بأن يراد من «المعرفة» الملكة لا الفعلية أو يراد من «أحكامنا» الجنس، لا الاستغراق، والثاني أولى وأسهل. والجنس وإن أطلق على الواحد، أو الاثنين، ولكنّه- بمناسبة الحكم والموضوع ونصبه للقضاء- لا بدّ أن يراد منه معرفة مقدار معتدّ به من الأحكام بالفعل، وهو ينطبق مع الاجتهاد المتجزّي»(1).


1- القضاء والشهادات 232: 22.

ص: 117

2- وأمّا خبر أبي خديجة، الأوّل، فيظهر الإشكال فيه ممّا قاله الشيخ الأنصاري (ره) فإنّ المعرفة الفعلية بجميع الحلال والحرام لا يمكن حصولها لأحد فلا بدّ من حملها على الجنس؛ أي معرفة مقدار معتدّ به من الحلال والحرام، فهو أيضاً شامل للاجتهاد المتجزّي.

3- وأمّا خبر أبي خديجة، الثاني، قد استدلّ به الشيخ الأنصاري (ره) لكفاية التجزّي: «بأنّ الظاهر من قوله (ع): «يعلم شيئاً من قضايانا»- بقرينه المقام- هو مقدار معتدّ به من قضاياهم وأحكامهم. ولا يقاس فيه علمه بعلم الإمام، حتّى يقال: إنّ علمه بالنسبة إلى علمهم قليل، وإن بلغ ما بلغ؛ بل يراد مقدار ما يكفي أن يعلمه المنصوب للقضاء، وأولى بهذا الاستدلال ما لو كان الوارد- في الرواية- «يعلم شيئاً من قضائنا».

وقد استدلّ الشيخ الأنصاري (ره) على اعتبار سند الخبر الثاني لأبي خديجة بقوله: «وأمّا الكلام في سند المرفوعة، فحقيق بالإعراض عنه بعد إطلاق المشهورة عليها، وركون المشهور إليها، ولو في غير المقام، بل في المقام»(1).

4- وأمّا التوقيع المبارك، فقد أرجع الإمام السائل فيه عن الحوادث المهمّة والوقايع- التي لا بدّ فيها من المراجعة إلى الوالي أو القاضي- إلى رواة الحديث، ولا إشكال في أنّ كلّ راوٍ للحديث إنّما يروي بعض الأحكام المنقولة عن الأئمّة (عليهم السلام)، لا جميع الأحكام، فكلّ واحد منهم يعلم مقداراً من أحكامهم وحلالهم، وحرامهم، لا كلّها. نعم جميعهم بمنزلة المجتهد المطلق، وأمّا كلّ واحد فهو بمنزلة المجتهد المتجزّي، فالتوقيع أيضاً ينطبق على المجتهد


1- القضاء والشهادات 31: 22.

ص: 118

المتجزّئ، ويدلّ على كفايته في القضاء.

فتحصّل: أنّ الروايات التي استدلّ بها على اشتراط الاجتهاد المطلق، تشمل أيضاً الاجتهاد المتجزّي، فتدلّ على اعتبار مطلق الاجتهاد لا خصوص الاجتهاد المطلق.

ألف: ويؤيّده ما استدلّ به الشيخ الأنصاري، في الاستدلال بقوله: «أنّ الظاهر- بل المقطوع به- أنّ المنصوبين في زمن النبي (ص) والأمير (ع) لم يكن لبعضهم ملكة استنباط جميع المسائل».

ب: ويؤيّده أيضاً ما في عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر، من قوله (ع): «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممّن لا تضيق به الامور، ولا تمحّكه الخصوم ...»- إلى أن قال-: «وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج»(1) ولا إشكال في أنّ المراد أمره (ع) بانتخاب من كان عارفاًبالكتاب والسنّة. بمقدار يمكّنه من القضاء بين الناس، ولا يوجد في تلك الأمكنة والزمان من هو غير معصوم، وعارف بجميع الأحكام الشرعية بلا شبهة. ولوكان ذلك معتبراً لعطّل باب القضاء في مصر ولما تمكّن الأشتر من اختيار قضاة فيها.

فقد تلخّص: أنّ القول بكفاية الاجتهاد المتجزّي أقوى. وهذا ما اختاره الشيخ الأنصاري فقال: «ولا فرق في المجتهد بين المطلق والمتجزّي، على الأقوى، وفاقاً للمصنّف»- أي العلامه في «القواعد»(2) و «الشهيدين» يعني الشهيد


1- نهج البلاغة، صبحي صالح: 434.
2- قواعد الأحكام 423: 3.

ص: 119

الأوّل في «الدروس»(1) والثاني في «الروضة»(2) وغيرهم-(3). لإطلاق بعض أدلّة النصب في حال الغيبة»(4).

وأمّا السيّد فظاهر صدر كلامه في «ملحقات العروة»(5) وإن كان اشتراط الاجتهاد المطلق، لكنّه قال في ذيل كلامه: «وأمّا المتجزّئ- بناءً على إمكانه- فالأحوط عدم نفوذ قضائه خصوصاً مع وجود غيره، وإن كان لا يبعد جوازه إذا كان مجتهداً في أحكام القضاء لخبري أبي خديجة.

وممّن ذهب إلى كفاية المتجزّئ صاحب «المستند»(6) ناسباً إيّاه إلى «المحقّق» و «العلامه» فقال: «وهو الظاهر من «القواعد»(7) و «النافع»(8) و «الشرائع»(9). وحمل قوله في الأخير: «ولا بدّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه على الاجتهاد المطلق»- كما في «المسالك»(10) و «الجواهر»(11) كما قلناه- بأنّه لا وجه له، فعلى هذا لا يكون مراد من عبّر بهذا التعبير، العلم بجميع الأحكام، بل يكفي الاجتهاد في جميع ما يحتاج إليه في القضاء، وإن لم يكن مجتهداً في الطهارة والصلاة ومطلق العبادات.


1- الدروس الشرعية 66: 2.
2- شرح اللمعة 418: 2.
3- كفاية الأحكام 662: 2.
4- القضاء والشهادات 30: 22.
5- العروة الوثقى 422: 6.
6- مستند الشيعة 30: 17.
7- قواعد الأحكام 423: 3.
8- المختصر النافع 279: 2.
9- شرائع الإسلام 860: 4.
10- مسالك الأفهام 328: 13.
11- جواهر الكلام 15: 40.

ص: 120

5- وأمّا الأصل الذي استدلّ به السيّد الخوئي فهو مبتني على ضعف سند التوقيع الشريف.

والمقبولة، وإن كانت دلالتها تامّة عنده، ولكنّه ضعّف دلالة رواية أبي خديجة- رغم تصحيحه لسندها- وذلك من جهة ظهورها في نصب قاضي التحكيم- لا نصب القاضي ابتداءً- لأنّ قوله (ع): «فإنّي قد جعلته قاضياً» متفرّع على قوله: «فاجعلوه بينكم» وهذا هو القاضي المجعول من قبل الخصمين، فمن جعله المتخاصمان بينهما حكما هو الذي جعله الإمام (ع) قاضياً، فلا دلالة فيها على نصب القاضي ابتداءً.

ويرد عليه: أنّ الإمام ردع أصحابه أوّلًا، عن التحاكم إلى أهل الجور ثمّ أمرهم بالرجوع إلى رجل منهم، وإن يجعلوه بينهم قاضياً، معلّلًا بأنّه قد جعله قاضياً، وهذا تعليل للرجوع إلى رجل منهم، وجعلهم إيّاه قاضياً بينهم لا أنّه تفريع عليه. هذا. مضافاً إلى عدم الفرق بين رواية أبي خديجة والمقبولة التي ذهب إلى تمامية دلالتها، بقوله (ره): «يدلّ على أنّهم ملزمون بالرضا به حكماً، نظراً إلى أنّه قد جعله حاكماً عليهم، بمقتضى قوله (ع): «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» حيث إنّه تعليل لإلزامهم بذلك»(1).

وأنت ترى: أنّ هذا الكلام يأتي في صحيحة أبي خديجة فإنّهم ملزمون أيضاً بجعله قاضياً بينهم من جهة أنّه (ع) جعله قاضياً بمقتضى قوله (ع): «فإنّي قد جعلته قاضياً» حيث إنّه تعليل له. هذا، وقد عرفت اعتبار سند التوقيع والمقبولة أيضاً، مع أنّ عدم اعتبار سنديهما غير مانع من جواز الاستناد إليها، لعمل


1- وسائل الشيعة 13: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

ص: 121

المشهور بهما، وفتواهم على طبقهما، بناءً على ما اشتهر من أنّ عمل الأصحاب برواية ضعيفة جابر لضعفها، كما أنّ إعراضهم عن خبر صحيح موجب لوهنه.

وقد خالف في هذا الأمر السيّد الخوئي فقال: «إنّ الملاك في قبول الرواية والعمل بها كون رواتها ثقات فإذا كان الراوي ثقه يعمل بالرواية وتقبل وإن كان معرضاً عنها عند المشهور. ولو لم يكن رواتها ثقات، لم يعمل بها ولا تقبل، وإن كانت مفتى بها عند المشهور.

وحاصل ما اختاره المشهور كون المدار في قبول الرواية على الوثوق والاطمئنان بصدورها عن المعصوم. أمّا لكون راويها ثقة أو لقرائن اخر فليست حجّية قول الثقة عندهم تعبّدية، بل من جهة كونه طريقاً إلى الاطمئنان بصدور الرواية عن المعصوم، وهذا مطابق لبناء العقلاء في العمل بالخبر فإنّهم يعملون بما يطمئنّون به، سواء كان اطمئنانهم به لأجل الوثوق بمخبره أو لأمر آخر كما أنّ إرجاع الأئمّة (عليهم السلام) أصحابهم إلى الثقة. وقبول قوله، إرجاع إلى أمر مرتكز في أذهانهم. وهو أنّ قوله موجب للاطمئنان.

ومنشأ الخلاف هو كيفية الاستنباط من الروايات التي أرجع الأئمّة أصحابهم إلى الثقات:

فمنها: ما عن أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن قال: سألته وقلت: من اعامل وعمّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال: «العمري ثقتي فما أدّى إيّاك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له، وأطع فإنّه الثقة المأمون»(1).

قال: وسألت أبا محمّد عن مثل ذلك، فقال: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا


1- وسائل الشيعة 138: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.

ص: 122

إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما، وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان»(1).

فاستظهر منها السيّد الخوئي أنّ الإمام أرجع السائل، إلى الثقة فقوله- أي الثقة- حجّة فيؤخذ به، ويعمل على طبقه، سواء أعرض عنها المشهور، أم لا، والمشهور على أنّ تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلّية. يعني كلّ ما يوجب الاطمئنان.

ومنها: كون الراوي ثقة معتبر ففي الحقيقة إرجاع إلى، ما هو مرتكز في الأذهان، من بناء العقلاء.

ويشهد على ذلك ما عن الرضا (ع) قال: قلت لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن عبدالرحمن ثقة، آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم»(2).

فإنّه ظاهر في أنّ السائل لا يريد أن يسئل عن حجّية قول الثقة، بل هي عنده مفروغ عنه ويسئل عن المصداق وأنّ يونس هل هو ثقة أم لا؟ فإذا كان ثقة فيعلم أنّه موظّف بقبول قوله من جهة بناء العقلاء.

والأقوى قول المشهور، فإنّ حجّية قول الثقة لا تكون تعبّدياً كما تقدّم، بل هي المتداول بين العقلاء وبنائهم والأئمّة في روايات أرجعوا أصحابهم إلى الثقات من باب إرجاعهم إلى ما هو مرتكز في الأذهان.

ثمّ بعد تمام الكلام في القول باشتراط اجتهاد المطلق والقول باشتراط مطلق


1- وسائل الشيعة 138: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.
2- وسائل الشيعة 147: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 33.

ص: 123

الاجتهاد وبيان المختار في كفاية اجتهاد المتجزّي في تصدّي القضاء يقع الكلام في القول في جواز قضاء المقلّد وعدمه.

أدلّة القول بجواز قضاء المقلّد والردّ عليه

اشارة

ذهب صاحب «الجواهر»(1) إلى القول بجواز قضاء المقلِّد إذا كان عالماً بفتاوى مقلّده أو قضائه باستناد الفتوى على طبق العدل والحقّ والقسط. وقال: «إنّ المستفاد من الكتاب والسنّة صحّة الحكم بالحقّ والعدل والقسط من كلّ مؤمن» ثمّ أقام دلائل عليه.

الدليل الأوّل: الكتاب

الف: قوله تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ(2).

ب: قوله تعالى: يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ(3).

ج: مفهوم آيتين كريمتين؛

1- قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللهُ فَاوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(4).

2- وفي اخرى: هُمُ الْكافِروُنَ(5).

فبالبداهة إطلاق الآيات تدلّ على عدم اشتراط الاجتهادي في القاضي.


1- جواهر الكلام 15: 40.
2- النساء( 4): 58.
3- النساء( 4): 135.
4- المائدة( 5): 47.
5- المائدة( 5): 44.

ص: 124

الدليل الثاني: الروايات

ألف: قول الصادق (ع): «القضاة أربعة ...»- إلى أن قال-: «ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(1).

ب: قول علي (ع): «الحكم حكمان: حكم الله عزّ وجلّ، وحكم (أهل) الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله، حكم بحكم الجاهلية»(2).

ج: قول أبي جعفر (ع): «الحكم حكمان: حكم الله (عز و جل)، وحكم أهل الجاهلية وقد قال الله (عز و جل): وَمَنْ أحْسَنُ مِنْ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(3) وأشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية»(4).

ثمّ قال صاحب «الجواهر»: إلى غير ذلك من النصوص البالغة بالتعاضد أعلى مراتب القطع، الدالّة على أنّ المدار، الحكم بالحقّ الذي هو عند محمّد وأهل بيته، وأنّه لا ريب في اندراج من سمع منهم أحكاماً خاصّة مثلًا وحكم بها بين الناس، فيها وإن لم تكن له مرتبة الاجتهاد والتصرّف(5).

ويرد على الجميع- من الآيات والروايات- إنّ من شرائط التمسّك بالإطلاق كون المطلق في مقام البيان من هذه الجهة. وهذه الآيات والروايات ليست بصدد بيان شرائط القاضي وخصوصياته حتّى يصحّ التمسّك بأحكامها، بل هي بصدد


1- وسائل الشيعة 22: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.
2- وسائل الشيعة 22: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 7.
3- المائدة( 5): 50.
4- وسائل الشيعة 23: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 8.
5- جواهر الكلام 16: 40.

ص: 125

بيان كيفية الحكم. وأنّه لا بدّ وأن يكون بالحقّ والعدل وأمّا أنّ القاضي من هو؟ وما هي شرائطه فلا يكون في مقام بيانه، فعندئذٍ التمسّك بإطلاقها لإثبات جواز كون القاضي مقلّداً؛ يكون نظير التمسّك بإطلاق قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ(1)؛ لعدم لزوم تطهير مواضعها، فإنّ الآية في مقام بيان الحلّية، والحرمة، ففي صدر الآية جاءت يَسْألُونَكَ مَاذَا احِلَّ لَهُمْ(2) حيث ترى أنّ التمسّك بإطلاقها، لعدم لزوم الغسل غير صحيح بلا إشكال، فكذلك ما نحن فيه.

مضافاً إلى تقييد الآيات و الروايات، بما تقدّم من الأدلّة على اشتراط الاجتهاد في القاضي.

وأورد عليه الشيخ الأنصاري بما قلناه وكذلك السيّد في «ملحقات العروة».

قال الأوّل- أي الشيخ الأعظم-: «وبعد ذلك فلا أرى وجهاً لميل بعض متأخّري المعاصرين تبعاً لبعض من تقدّم عليه منهم إلى تقوية الجواز، مستظهراً ذلك من الإطلاقات الدالّة على حسن القضاء بالحقّ ورجحانه- إلى أن قال-: وغير ذلك ممّا سبق أكثره لبيان حكم آخر، وقيّد جميعه بما تقدّم من الأدلّة؛ لفساد توهّم حكومة هذه عليها، بزعم كونها مفيدة للإذن العامّ في قضاء كلّ من يقضي بالحقّ»(3). انتهى.

وقال الثاني- أي السيّد اليزدي-: «ولا وجه لما قد يقال: من أنّ المستفاد من الكتاب والسنّة صحّة الحكم بالحقّ والعدل والقسط- إلى أن قال-: إذ فيه أنّ


1- المائدة( 5): 4.
2- المائدة( 5): 4.
3- القضاء و الشهادات: 35.

ص: 126

الأخبار المتقدّمة مقيّدة لهذه الآيات، والروايات مع أنّ الظاهر من هذه إرادة الأمر بالمعروف و مقام جواب السؤال عن الحكم في المسألة»(1). انتهى.

د: مضافاً على ما قال به العلمين استدلّ صاحب «الجواهر» أيضاً على صحّة قضاء المقلّد بصحيحة أبي خديجة حيث جاء فيها: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا» بناءً على إرادة الأعمّ من المجتهد منه. يعني أنّ المقلّد إذا علم فتاوى المجتهد يصدق عليه أنّه يعلم شيئاً من قضايانا،- يعني أحكامنا- ويصحّ له القضاء بما علم.

ويرد عليه: أنّ الظاهر من العلم بالأحكام أن يستنبطه من الروايات و يتحصّلها بأعمال الاجتهاد. والمقلّد لا يعلم الأحكام، بل يعلم فتاوى المجتهد الذي هو طريق إلى الأحكام.

ه-: وكذا استدلّ بخبر عبدالله بن طلحة عن الصادق (ع) الوارد في اللصّ الداخل على المرأة، حيث قتل ولدها وأخذ ثيابها أنّه (ع) أمر السائل بالقضاء بينهم بما وصفه الإمام (ع) له(2).

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّه يحتمل أن يراد منه بيان نظر الإمام (ع) لهم فيكون نظير القضاء لا نفس القضاء.

ثانياً: من المحتمل كون عبدالله بن طلحة من الواجدين لشرائط القضاء عند الإمام، مع أنّ الرواية ضعيفة بعبدالله بن طلحة.


1- العروة الوثقى 420: 6.
2- راجع: وسائل الشيعة 62: 29، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 23، الحديث 2.

ص: 127

و: وكذا استدلّ بفعل رسول الله (ص) وسيرته بنصب قضاة كانوا قاصرين مرتبة الاجتهاد وإنّما يقضون بين الناس بما سمعوه من النبيّ.

ويرد عليه أنّ المستفاد من الأخبار المتقدّمة أنّ المعتبر في القاضي أن يكون عالماً بالأحكام والحلال والحرام وإنّما اعتبرنا الاجتهاد في القاضي لأنّه الذي يعلم الأحكام باستنباطه واجتهاده، فالاجتهاد لا موضوعية له. بل يعتبر لأجل كونه وسيلة للعلم بالأحكام وتحصيلها.

والموجودون في زمن الرسول (ص) لمّا سمعوا أحكاماً من النبيّ أو رأوا كيفية قضائه فقد صاروا عالمين للأحكام فيكون الشرط فيهم حاصلًا. وهذا دون غير المجتهد في عصر الغيبة فإنّه لا يصل يده إلى فهم الأحكام وتحصيله؛ وإنّما هو يعرف الفتاوى من المجتهد ولا يصير بهذا عالماً بالأحكام، كما تقدّم.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّه لا دليل على جواز قضاء المقلّد، فيبقى تحت مفاد الأصل الأوّلي وهو: «عدم نفوذ حكم أحد على أحد» و «عدم جواز قضائه» بلا إشكال.

هل يجوز للمجتهد أن ينصب المقلّد للقضاء أم لا؟

لا يخفى: أنّ هذه المسألة متفرّعة على أنّ الاجتهاد هل هو شرط شرعي للقاضي بمعنى أنّ الشارع المقدّس اعتبر فيها الاجتهاد مثل اعتبار البلوغ والعقل والعدالة مثلًا، أم لا؟

والذي يظهر من أدلّة النصب، هو اشتراط الاجتهاد في المنصوب بنحو العامّ، وذلك لرعاية المصلحة العامّة في نظرهم (عليهم السلام) من أن يكون المنصوب من قبلهم

ص: 128

فقيهاً مجتهداً جامعاً للشرائط، حتّى يكون له ما لهم من الولاية المطلقة العامّة؛ التي منها القضاء بين الناس، فلا يظهر منها أنّ الاجتهاد شرط شرعي اشترطه الشارع في القاضي حتّى لا يكون المقلّد صالحاً وأهلًا للقضاء، ولو كان كذلك لم يكن للإمام المعصوم نصب المقلّد وغير المجتهد للقضاء، فإنّ إعمال ولايتهم لا بدّ أن يكون في محدودة الشرع ولا يتجاوز عنه قطعاً.

فغاية ما يستفاد من الأدلّة- مثل المقبولة والمشهورة- أنّ المنصوب من قبلهم والمأذون في القضاء هو المجتهد. لاقتضاء المصلحة ذلك، وغير المجتهد لم ينصب من قبلهم لأنّه لا يجوز نصبه، بل لو اقتضى المصلحة في نصبه خاصّاً للقضاء؛ فليس هو خارج عن ميزان الشرع، ولهم نصبه. كما أنّ الرسول (ص) والأمير (ع) نصبوا أفراداً للقضاء غير مجتهدين في زمنهم.

جواز نصب المقلّد للقضاء من ناحية الفقيه الجامع للشرائط

ثمّ إنّ الفقيه الجامع للشرائط، إذا تولّى الأمر والسلطة وأقام الحكومة الإسلامية، فبمقتضى أدلّة ولاية الفقيه، كما أنّ له أن يقضي بنفسه فله أيضاً نصب المقلّد للقضاء إذا اقتضى المصلحة ذلك. كما أنّ الإمام المعصوم أيضاً كان له ذلك، لعدم كونه خلافاً للشرع الأقدس.

واعتقد صاحب «الجواهر» (ره) أيضاً جواز ذلك حيث قال: «ونصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناءً على ظهور النصوص فيه، لا يقتضي عدم جواز نصب الغير» ثمّ استظهر صاحب «الجواهر» إرادة النصب العامّ للمجتهد من المقبولة والتوقيع المبارك. وقال: «وحينئذٍ فتظهر ثمرة ذلك- بناءً على عموم هذه

ص: 129

الرئاسة- في أنّ للمجتهد نصب مقلّده للقضاء بين الناس بفتاواه التي هي حلالهم وحرامهم، فيكون حكمه حكم مجتهده وحكم مجتهده حكمهم وحكمهم (عليهم السلام) حكم الله عزّ وجلّ والرادّ عليه كالرادّ على الله عزّ وجلّ»(1).

واستشكل عليه السيّد الطباطبائي اليزدي بقوله: «ثمّ ظهر ممّا ذكرنا أنّ المقلّد لا أهلية له للتصدّي للمرافعة وإن أذن له مجتهد أو نصبه قاضياً فإنّ نصبه له لا ينفعه في أهليته فما قد يقال: من أنّ مقتضى عموم ولاية المجتهد جواز نصب القاضي كما كان للأئمّة (عليهم السلام) لا وجه له؛ لأنّ المفروض أنّ إذن الإمام (ع) شرط وهو مختصّ بمن يقدر على الاستنباط وكونه مجتهداً»(2).

وفيه: أنّه لا يستظهر من الأدلّة عدم أهلية المقلّد للقضاء كما تقدّم، ومراده من عدم أهليته ما يظهر من كلامه قبل أسطر، من عدم قدرته للقضاء فإنّ القضاء أمر يحتاج إلى التبحّر والعلم. و نحن نفترض قدرته لذلك لعلمه بالقوانين المدوّنة والتجربة والتعلّم.

مضافاً إلى أنّ الإذن من المعصوم شرط كما قال: ولكن يكفي نصبه من جانب الفقيه الحاكم والوليّ النائب عن الإمام فإنّ نصبه وإذنه له بمنزلة نصب الإمام وإذنه.

واستشكل على ذلك أيضاً الشيخ الأنصاري (ره) حيث قال: «وبالجملة فالتمسّك بما ذكر من الإطلاقات مع ما عرفت من حالها، في مقابل ما عرفت من الأدلّة، ضعيف جدّاً.


1- جواهر الكلام 18: 40 و 19.
2- العروة الوثقى 421: 6- 422.

ص: 130

وأضعف منه دعوى أنّه وإن لم يجز للمقلّد الاستقلال في القضاء، إلا أنّه يجوز للمجتهد أن يأذن له فيه. وينصبه للحكومة نظراً إلى أنّ للمجتهد من الولاية ما للإمام (ع) إلا ما خرج، والظاهر ثبوت هذه الولاية له (ع) بأن ينصب عامّياً للحكومة؛ لعدم الدليل على عدم جوازه له، مع ما علم له (ع) من الولاية العامّة، والرئاسة المطلقة»(1).

ثمّ أورد على هذا الكلام بإيرادين:

أوّلهما: أنّ الظاهر من التعليل في أدلّة النصب بقوله: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(2) أو «فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله»(3) أنّ جواز الرجوع إليهم بجهة كونهم حكّاماً على الإطلاق وحججاً كذلك، فيدلّ على انحصار مباشرة فصل الخصومات في من هو مرجع على الإطلاق في جميع الوقايع والامور.

ثانيهما: أنّ مجرّد عدم الدليل على عدم جواز نصب العامّي للقضاء لا يكون دليلًا على الجواز، بل أصالة فساد الحكومة تكفي في الحكم ظاهراً بعدم جواز نصب العامّي للحكومة.

ويدفع الإيراد الأوّل؛ بأنّ التعليل المذكور ظاهر في أنّ الوجه في جواز الرجوع إليهم هو أنّه جعلهم حكّاماً أو قضاةً لا أنّ مباشرة فصل الخصومات منحصر فيمن هو مرجع على الإطلاق، فإنّ الدلالة على انحصار المذكور خارجة عن الأدلّة بلا إشكال.


1- القضاء والشهادات: 38.
2- وسائل الشيعة 136: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 140: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

ص: 131

ويدفع الإيراد الثاني، بأنّ المراد أنّه بعد ثبوت إطلاق دليل ولاية الفقيه وأنّ لهم ما للإمام يكفي؛ لجواز نصبهم عامياً للقضاء لعدم الدليل على التقييد. ومع وجود الإطلاق لا يبقى مورد للأصل المذكور.

نصب المقلّد أو غير العادل للقضاء عند الاضطرار

قلنا: إنّ للوليّ الفقيه نصب المقلّد للقضاء إذا اقتضى المصلحة ذلك اختياراً. ثمّ على فرض عدم الجواز اختياراً فهل يجوز نصبه للقضاء عند عدم وجود المجتهد، وكذا غيره ممّن لا يكون واجداً لشرط من الشرائط المعتبرة في القاضي كالعدالة مثلًا أو لا؟

قال المحقّق (ره): «إذا اقتضت المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط انعقدت ولايته؛ مراعاة للمصلحة في نظر الإمام، كما اتّفق لبعض القضاة في زمان علي (ع) وربما منع من ذلك»(1).

يستفاد من كلامه، أنّ في المسألة وجهين، بل قولين.

قال في «المسالك» بالجواز. وذهب صاحب «الجواهر» إلى القول بالمنع فراجع كلامهما،(2) لعلّ وجه منع «الجواهر» هو إطلاق دليل الشرط وفقد الشرط يقتضي فقد المشروط. وكذا قوله (ع): «القضاة أربعة ثلاثة في النار، وواحد في الجنّة ...»(3) فمن يكون من أهل النار لا تسوغ توليته.

ووجه الجواز: وجود المصلحة الكلّية التي هي الأصل في شرع الأحكام


1- شرائع الإسلام 863: 4.
2- مسالك الأفهام 362: 13؛ جواهر الكلام 68: 40.
3- وسائل الشيعة 22: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.

ص: 132

وكذا وقوع مثل هذا في زمن علي فإنّه ولى شريحاً للقضاء، مع ظهور مخالفته له في الأحكام المنافية للعدالة التي هي أحد الشرائط.

أقول: والأقوى في المسألة الجواز؛ فإنّ أصل تشريع القضاء لحفظ الحقوق، ورعاية حفظ النظم في المجتمع وسدّ باب الهرج والمرج والفوضى، في نظام المجتمع، فإذا لم يتمكّن من نصب الواجد للشرائط ولا يوجد المجتهد والعادل بمقدار اللازم لفصل الخصومات ورفع المرافعات والمنازعات، فلا مجال إلا لنصب الفاقد للشرائط ورعاية قضائه حتّى المقدور بأيّ وجه يمكن؛ حتّى لا يخرج عن طريق الشرع والحقّ، فإنّه لا يمكن سدّ باب المنازعات، والاختلاف بين الناس. وكذا لا يمكن أن يقال لهم اصبروا حتّى يوجد من كان واجداً للشرائط، فلا مناص للمجتهد من نصب غير الواجد حفظاً للحقوق.

ويمكن استفادة ذلك من دليل لا ضرر ودليل رفع العسر والحرج أيضاً، كماقيل.

وقد أورد على ما قيل من نصب علي (ع) شريحاً للقضاء: بأنّه كان مضطرّاً في إبقائه في منصبه ولا يتمكّن من عزله فإنّه كان منصوباً من جانب الخليفة الثاني واقتضت المصلحة إبقاؤه، مضافاً إلى أنّه اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه على ما في حسنة هشام عن الصادق (ع)(1) فكان (ع) هو القاضي في المسألة واقعاً والشريح كان قاضياً صورةً.

فالوجه في الجواز هو وجود المصلحة في حفظ الحقوق وحفظ النظام المقتضى لتشريع أصل القضاء في المجتمع.


1- راجع: وسائل الشيعة 17: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 1.

ص: 133

والذكورة، (3)

الشرط السادس: الذكورة

اشارة

(3) من الشرائط المعتبرة في القاضي الذكورة، فلا ينعقد القضاء للمرأة. هناك بحث مهمّ في المجتمع الإنساني وهو قضاء المرأة ورفعها الخصومات بين الناس إذا كانت واجدة للشرائط وفي الفقه الإمامي أيضاً هنا محطّ للنظر، ومحلّ للبحث إذن بالمناسبة؛ أي مناسبة البحث عن شرطية الذكورية في القضاء وضمن تحليل أدلّة الذكورية في القضاء نبحث في بعض الآيات والروايات التي ربما يستفاد منها شرطية الذكورية في القضاء وما يمكن أن يقال في الردّ عليها. وبيان المختار فنقول:

قال المحقّق في «الشرائع»: «والذكورة- إلى أن قال- ولا ينعقد القضاء للمرأة وإن استكملت الشرائط»(1).

قال في «المسالك»: «أي الشرائط المعتبرة في القضاء غير الذكورية وهو موضع وفاق، وخالف فيه بعض العامّة»(2).

تلاحظ أنّه يستفاد من كلامه أنّ المسألة عند الإمامية متّفق عليه والمخالف بعض العامّة فقط.

قال الشيخ (ره) في «الخلاف»: «لا يجوز أن تكون المرأة قاضية في شي ء من


1- شرائع الإسلام 860: 4.
2- مسالك الأفهام 329: 13.

ص: 134

الأحكام وبه قال الشافعي. وقال أبوحنيفة: يجوز أن تكون قاضية فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه. وهو جميع الأحكام إلا الحدود والقصاص.

وقال ابن جرير: يجوز أن تكون قاضية في كلّ ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه، لأنّها تعدّ من أهل الاجتهاد»(1).

وقد ادّعى جمع من الأصحاب الإجماع، ولكنّ الأردبيلي(2) أوقع الترديد فيه حيث قال: «نعم ذلك هو المشهور، فلو كان إجماعاً فلا بحث فلو لم يكن إجماعاً فالشهرة العظيمة محقّقة على اشتراط الذكورة بلا شبهة».

وقد استدلّ على اشتراط الذكورية في القاضي بوجوه، من الآيات والروايات وغيرها.

الأوّل: الأصل

لا شبهة في أنّ الأصل الأوّلي هنا هو عدم الجواز؛ لعدم نفوذ حكم أحد على أحد فلو لم يكن الاستدلال بالآيات والروايات تامّاً، إمّا من حيث الدلالة في الآيات أو من حيث السند في الروايات، فالأصل كاف في المسألة، فالمجوّز- في المرأة- لا بدّ له من دليل على إثبات الجواز وعدم اشتراط الذكورية. ولا يكفي له الإشكال في الآيات والروايات.


1- الخلاف 213: 6، مسألة 6.
2- « وأمّا اشتراط الذكورة، فذلك ظاهر فيما لم يجز للمرأة فيه أمر، وأمّا في غير ذلك فلا نعلم له دليلًا واضحاً، نعم ذلك هو المشهور. فلو كان إجماعاً، فلا بحث، وإلا فالمنع بالكلّية محلّ بحث، إذ لا محذور في حكمها بشهادة النساء، مع سماع شهادتهنّ بين المرأتين مثلًا بشي ء مع اتّصافها بشرائط الحكم.»( مجمع الفائدة والبرهان 15: 12)

ص: 135

الثاني: الآيات

أ: قوله عزّ وجلّ: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أنفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً(1).

الاستظهار من الآية الشريفة على وجهين.

أحدهما: قالوا أنّ المراد قيمومة الرجال وسيادتهم على النساء في المجتمع الإنساني يعني أنّ نوع الإنسان في حياته الاجتماعية لا تدوم إلا على منهج سيادة الرجال على النساء، وسيطرتهم، وقيمومتهم عليهنّ.

فملاك القيمومة والسيطرة أمران.

الأمر الأوّل: الملاك التكويني: أي فضّل الله الرجال على النساء في أمر الخلقة و الفضيلة بالعقل، والإدراك، و التدبير الصحيح، والقدرة، والقوّة، والاستطاعة في الجسم. والفضيلة بذلك في الرجال، توجب أن يجعل القيادة والولاية على عهدتهم في المجتمع الإنساني، وإن كانت للنساء فضائل في الخلقة في غيرها. ولا شكّ في أنّ عقول الرجال أكثر كما أنّ قدرتهم على الأعمال الشاقّة أوفر، على حسب الأغلب. يعني أنّ العقل والتدبير والقدرة في قبيلة الرجال؛ أكثر وأشدّ بالنسبة إليها في قبيلة النساء؛ وليس هذا شي ء ينكر. وإن يمكن أن يوجد امرأة كان عقلها أو قدرتها أكثر وأشدّ من الرجال، لكن هذا في


1- النساء( 4): 34.

ص: 136

غير الأغلب ولا ينافي التي كانت بحسب الأغلب.

الأمر الثاني: الملاك الاكتسابي: وهو الإنفاق بالأموال في الحياة اليومية من النفقة والسكنى وهزينة الامور المرتبطة بالطبابة والسفر والألبسة وغيرها؛ وبالأخرة يكون الامور الاقتصادية، في المجتمع الإنساني على عهدتهم، على حسب الأغلب.

وهذا معنى قوله تعالى: بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أنفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ(1).

ولا شكّ في أنّ المراد من كلمة «بعضهم» هو الرجال، والمراد من لفظ «على بعض» هو النساء.

ولعلّ النكتة في عدم التصريح باسم الرجال والنساء- ولم يقل «بما فضّل الله الرجال على النساء»- هي إفادة أنّ الطائفتين داخلتين تحت نوع واحد، مشاركتين في الإنسانية والبشرية. ولكن فضل بعض أفراده على بعض آخر منه حتّى يحفظ شأن المرأة ومقامها من أن يقال: إنّ تفضيل الرجال يفيد دخولهما تحت طبيعتين متغايرتين أو جنسين متغايرين ولا يطلق عليهنّ الإنسان مثلًا، إذن الآية، كما يفيد تفضيل الرجال على النساء، كذلك يستفاد منها أنّ الرجال والنساء من جنس واحد. وليست النساء خارجات عن الإنسانية.

وقد صرّح بهذا الاستظهار من الآية الكريمة؛ الشيخ الطوسي (ره) في تفسير «التبيان» بقوله «والمعنى: الرجال قوّامون على النساء بالتدبير والتأديب لما فضّل


1- النساء( 4): 34.

ص: 137

الله الرجال على النساء في العقل و الرأي»(1).

وكذا الطبرسي في «مجمع البيان» حيث قال: «إنّ الرجال قيّمون على النساء مسلّطون عليهنّ في التدبير والتأديب»(2).

وكذا الفيض (ره) في «تفسير الصافي» حيث قال: «أي يقومون عليهنّ قيام الولاة على الرعيّة»(3).

وكذا من العامّة ابن كثير في تفسيره حيث قال: « (عليهم السلام) الرجال قوّامون على النساء، أي الرجل قيّم المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدّبها إذا اعوجَّت»(4).

وكذا الزمخشري في «الكشّاف» حيث قال ما حاصله: إنّ الرجال يفضلون على النساء بالعقل والحزم والعزم والقوّة والفروسية والرمي، وإنّ منهم الأنبياء، والعلماء وفيهم الإمامة الكبرى، والصغرى.(5)

وقال العلامة الطباطبائي في «الميزان»: والمراد (عليهم السلام) بما فضّل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء، وهو زيادة قوّة التعقّل فيهم، وما يتفرّع عليه من شدّة البأس، والقوّة، والطاقة على الشدائد من الأعمال، ونحوها، فإنّ حياة النساء حياة إحساسية عاطفية مبنيّة على الرقّة، واللطافة، والمراد (عليهم السلام) بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهنّ ونفقاتهنّ.


1- التبيان 189: 3.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 68: 3، ذيل آية 43 من سورة النساء.
3- تفسير الصافي 448: 1، ذيل آية 43 من سورة النساء.
4- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير 292: 2.
5- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 505: 1، ذيل آية 43 من سورة النساء.

ص: 138

وعموم هذه العلّة يعطي أنّ الحكم المبنيّ عليها- أعني قوله: (عليهم السلام) الرجال قوّامون على النساء،- غير مقصور على الأزواج بأن يختصّ القوّامية بالرجل على زوجته، بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامّة، التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً فالجهات العامّة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة والقضاء مثلًا، الذين يتوقّف عليهما حياة المجتمع وإنّما يقومان بالتعقّل الذي هو في الرجال بالطبع، أزيد منه في النساء، وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدّة وقود التعقّل. كلّ ذلك، ممّا يقوم به الرجال على النساء. وعلى هذا فقوله: «الرجال قوّامون على النساء» ذو إطلاق تامّ.

وأمّا قوله تعالى بعد: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ ...، الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل وزوجته على ما سيأتي- فهو فرع من فروع هذا الحكم المطلق. وجزئي من جزئياته مستخرج منه، من غير أن يتقيّد به إطلاقه»(1). انتهى.

ثانيهما:- أي الثاني من وجهي الاستظهار من الآية الشريفة-، وهو أنّ المراد منها الولاية والسيطرة للرجال على النساء في العلاقات الزوجية ونظام العائلية، ففي الحياة العائلية له التسلّط والسيطرة لتدبير البيت ونظام العائلة. وهو الرئيس في المنزل بالملاكين المذكورين.

فعلى الاستظهار الأوّل- الملاك التكويني والملاك الاكتسابي- سيستدلّ بالآية على عدم جواز قضاء المرأة واشتراط الذكورية في القاضي. بتقريب ما تقدّم في كلام العلامة الطباطبائي في «الميزان»(2) لأنّ مفاد الآية أنّ للرجال قيمومة وسيطرة


1- الميزان في تفسير القرآن 343: 4- 344، ذيل آية 43 من سورة النساء.
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 343: 4، ذيل آية 43 من سورة النساء.

ص: 139

على النساء في الحياة الاجتماعية في الجهات العامّة التي ترتبط بها حياة القبيلتين. وهي الحكومة، والقضاء، والدفاع الحربي، ففي هذه الامور تكون الولاية لهم عليهنّ، فلا يجوز أن يجعل الولاية لهنّ في ذلك فإعطاء منصب القضاء لهنّ خلاف الآية، فبالنتيجة يشترط في القاضي الذكورة لعدم ثبوت ولاية القضاء للمرأة على الرجال. وكذلك على النساء لعدم القول بالفصل.

وعلى الاستظهار الثاني- السيطرة في العلاقات الزوجية- من الآية فولاية الرجل وسلطنته على المرأة في المنزل وفي النظام العائلي، لا تنافي ثبوت الولاية للنساء خارج المنزل على الرجال والنساء، فإنّ مبنى سلطنته في المنزل لزوم وجود الرئيس والمدبّر الواحد لإدارة البيت ونظام العائلي، ويعطي للرجال بالملاكين المذكورين في الآية لا عدم جواز الولاية للنساء أصلًا حتّى خارج محيط البيت؛ لأنّ الولاية الثابتة لهنّ ليست من جهة أنفسهنّ، بل من جهة إعطاء المنصب لهنّ من ناحية المعصوم، أو الوليّ الفقيه.

ويؤيّد استظهار الثاني.

أوّلًا: بذكر الإنفاق في الآية، فنقول: لا مناسبة بين الإنفاق وبين سيطرة الرجال على النساء في الحياة الاجتماعية. ويكون ذكره قرينة لعدم التعميم في الأوّل أيضاً أي فضيلة الرجال على النساء. يعني أنّ هذه الفضيلة في الخلقة يوجب جعل الولاية لهم في نظام العائلي.

ثانياً: سياق الآية، فإنّها- والآية قبلها. والآية بعدها- وإن جائت بلفظ «الرجال» و «النساء» لكن المراد الزوجان لا كلّ رجل و مرأة. والآيات في بيان وظائف الزوجين وشؤونهما ففي قبلها قال الله عزّ وجلّ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ أي لكلّ من الزوجين و قال في بعدها: وَإِنْ

ص: 140

خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أهْلِهَا وفي نفس الآية قال الله عزّ وجلّ: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ... وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَ فالموضوع في الآيات هو الزوجان. وإعطاء القيمومة لواحد منهما لا يفيد كونه قيّماً في خارج هذه الإطار وأيضاً كون موضوع الآية الاخرى السلطة عليها في المنزل لا تفيد كونها كذلك خارج البيت أيضاً.

ثالثاً: شأن نزول الآية، كما نقله المفسّرون فإنّها نزلت في امرأة نشزت على زوجها فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبيّ فقال: افرشته كريمتي فلطمها فقال النبيّ (ص): «لتقصّ من زوجها» فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه فقال النبيّ (ص) ارجعوا فهذا جبرائيل أتاني وأنزل الله هذه الآية: فقال (ص) أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ورفع القصاص لجواز تأديب الزوج الزوجة الناشزة، وليس فيه قصاص.

مضافاً إلى أنّه إذا كان في الآية احتمالان محتملان إرادة كلّ واحد منهما من الآية الشريفة، فلا يصحّ بناء حكم شرعي على أحدهما وهو اشتراط الذكورة في القاضي لفضل الرجال على النساء في المجتمع الإنساني، مع أنّ الترجيح بحسب الآية مع الاحتمال الآخر.

قال السيّد الگپايگاني- على ما في تقريرات درسه-: فإن قيل: الآية واردة في مورد الزوجين، قلنا: نسأل في الجواب ونقول: وهل يجوز أن لا تكون المرأة ذات سلطنة في شؤونها مع زوجها وتكون لها السلطنة في خارج دارها وعلى غير زوجها من الرجال؟(1)


1- كتاب القضاء 44: 1.

ص: 141

ولعلّ السيّد الگلپايگاني يريد أن يقول: وإن استفدنا من الآية الشريفة الاختصاص بقيادة الزوج وقيمومته على الزوجة إلا أنّها يمكن الاستناد إليها لعدم صلاحية المرأة للقضاء حيث قال المقرّر: ولعلّ مراده (ره) فحوى الآية الكريمة يعني إذا لم تكن لها سلطنة على زوجها في النظام العائلي، فلا يكون لها السلطنة على غيره في النظام المجتمع بطريق أولى.

ويرد عليه: أنّ إعطاء القيمومة للرجل في الحياة العائلي، بملاك قوّة التدبير، والقدرة والإنفاق، لا يدلّ على عدم الأهلية لها للقضاء وفصل الخصومة. ولا يستفاد منه الأولوية عند العرف بلا إشكال.

ب: ومن الآيات قوله تعالى: وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(1) والآية الشريفة متضمّنة لبيان بعض أحكام الزوج والزوجة وأمر الطلاق بما يلي.

الأمر الأوّل: يجب على المطلّقات التربّص ثلاثة أطهر، يعني لا بدّ لهنّ أن يصبرنّ من الزواج، بأن لا يتزوّجن في هذه المدّة، وهي كناية عن العدّة لئلا يلزم اختلاط المياه وفساد النسل. وكذا يرجي رفع الاختلاف وإعادة علقة الزوجية والمحبّة ورجوع الزوج وبقاء الزوجية.

الأمر الثاني: تحرم عليهنّ كتمان الولد في الرحم لو كان؛ لأجل الخروج عن العدّة مستعجلًا أو للإضرار بالزوج في عدم إمكان الرجوع.


1- البقرة( 2): 228.

ص: 142

الأمر الثالث: يجوز الرجوع للزوج ما دامت الزوجة في العدّة، إذا أراد الإصلاح لا الإضرار.

الأمر الرابع: هناك حقوق ثابتة للزوجة على الزوج، لا بدّ من أدائها كالحقوق التي للزوج عليها لا بدّ من أدائها.

قال الطبرسي في «المجمع»: وهذا من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمة وإنّما أراد بذلك ما يرجع إلى حسن العشرة وترك المضارّة والتسوية في القسم والنفقة والكسوة كما أنّ للزوج حقوقاً عليها مثل الطاعة التي أوجبها الله عليها له وأن لا تدخل فراشه غيره وأن تحفظ ماؤه فلا تحتال في إسقاطه(1).

ثمّ نقل روايات دالّة على حقوق الزوج على الزوجة، وبالعكس.

الأمر الخامس: بعد أن شرح بعض الفضيلة عليهنّ مع تبادل الحقوق بينهما، فلمّا كان ذلك موهماً لتساوي منزلتهما، رفع ذلك الوهم بقوله تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي منزلة وفضيلة. وتبادلية الحقوق لا يقتضي تساويهما في جميع المراحل الاجتماعية.

ومنها: الزيادة في سهم الإرث.

ومنها: أنّ حقّ الطلاق بيد الزوج.

ومنها: أنّ له حقّ الرجوع، وغيرها.

وعلى هذا المعنى لا يمكن الاستدلال بالآية، على اشتراط الذكورية في القضاء، لعدم شمول الفضيلة والدرجة التي للرجال على المرأة للقضاء وفصل الخصومة؛ لأنّ الآية في مقام بيان الحقوق الثابتة بين الزوجين. وأنّ للرجال- أي


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 575: 2، ذيل آية 228 من سورة البقرة.

ص: 143

الأزواج- فضيلة فيهما على الزوجات، ممّا تقدّم فهل تشمل هذه الفضيلة للقضاء أيضاً؟ فالتمسّك بالآية من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

معنى التسوية بين الرجال والنساء

نعم، هنا استظهار آخر من الآية يمكن الاستدلال بها على هذا الاستظهار وهو ما يستفاد من كلام العلامة الطباطبائي (ره)- بمناسبة ذكر المعروف في الآية- قال: وحيث بني شريعة الإسلام على أساس الفطرة والخلقة، كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس. إذا سلكوا مسلك الفطرة ولم يتعدّوا طور الخلقة(1) ثمّ قال: «والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الأفراد- على أنّ الجميع إنسان ذو فطرة بشرية- أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف- إلى أن قال- لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كلّ مقام اجتماعي لكلّ فرد من أفراد المجتمع- إلى أن قال- بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي ويفسّر معنى التسوية أن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه- إلى أن قال- لكنّها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها، تختلف مع الرجال من جهة اخرى، فإنّ المتوسّط من النساء تتأخّر عن المتوسّط من الرجال في الخصوصيات الكمالية- إلى أن قال- ولذلك فرّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامّة الاجتماعية التي ترتبط قوامها بأحد الأمرين- أعني التعقّل والإحساس- فخصّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها إلى التعقّل والحياة التعقّلية إنّما هي للرجل دون المرأة. وخصّ مثل حضانة الأولاد


1- الميزان في تفسير القرآن 274: 2.

ص: 144

وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة ...»(1) إلى هنا ما نقلناه عن العلامة الطباطبائي وللمزيد من هذا فراجع.

وهذا المعنى وإن كان معناً دقيقاً علميّاً، ولكن تعيين المستفاد من الآية فيه وترتّب حكم شرعي عليه وهو اشتراط الذكورية في القضاء، وعدم جواز القضاء للمرأة شرعاً، ممّا لا يطمئنّ عليه. مع أنّ تفسير كلمة «المعروف» بما ذكره غير واضح. لأنّه كما يقول الراغب(2): «المعروف كلّ فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنة. والمنكر ما ينكر بهما». مضافاً إلى أنّ كون القضاء أمراً معروفاً بالنسبة إلى الرجل دون المرأة، أوّل الكلام، فلا يمكن الاستدلال بالآية الشريفة لاعتبار شرط الذكورية في القاضي.

ج: آية النشوء ومن الآيات قوله تعالى: أوَ مَنْ يُنَشَّا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ(3) بتقريب أنّ المستفاد من الآية أنّ المرأة من جهة كون أساس خلقتها على الإحساس والعاطفة، والعلاقة تكون ذات علاقة شديدة بالزينة والحلية فكأنّها يكون نشؤها ونماؤها في الزينة مع أنّها في مقام المخاصمة والمجادلة غير مبيّن، يعني لا يقدر على بيان مقصودها وإثبات مطلبها، فإذا كانت المرأة غير مبيّن، فكيف يقدر على القضاء المحتاج إلى الاحتجاج والجدال والتحقيق.

ويرد عليه.


1- الميزان في تفسير القرآن 275: 2.
2- المفردات في غريب القرآن: 561.
3- الزخرف( 43): 18.

ص: 145

أوّلًا: أنّ الآية في مقام الاعتراض بقول المشركين من جعلهم لله (سبحانه و تعالى) جزءاً وهي البنات وكذا قولهم اتّخذ الله ممّا يخلق بنات وأصفاهم بالبنين، بقوله: كيف تصفونه بأنّه اتّخذ لنفسه بنات، مع أنّ أحدكم إذا بشّر بها ظلّ وجهه مسوّداً وهو كظيم. وكذا كيف تصفونه باتّخاذ البنات مع أنّ الانثى في أنظاركم تنشأ في الحلية ولا يقدر على الاحتجاج والبيان في مقام المخاصمة، ففي الحقيقة تكون الآية في مقام الحكاية عمّا هو مقرّر بين المشركين، لا أن تكون في مقام تقرير قضية ابتدائية من الشارع في عدم التساوي بين الذكر والانثى، من حيث إنّ الانثى ضعيفة في التقرير.

ثانياً: على فرض كون الآية في مقام تقرير أمر ابتداءً لا حكاية.

ويرد عليه: أنّ القضاء لا يحتاج إلى البيان والاحتجاج والمجادلة؛ حتّى لا تقدر عليه الانثى فإنّ القضاء في المحاكم يحتاج إلى الدقّة في كلمات المترافعين من ادّعاء المدّعي وإظهار أدلّته، ودفاع المدّعى عليه، وكذا الدقّة في القرائن والأمارات التي تثبت صدق المدّعي أو كذبه ولا حاجة إلى جدال وبيان ومناظرة حتّى تقال: إنّ المرأة فيها ضعيفة.

هذا كلّه في بيان الاستدلال بالآيات وقد عرفت بالوضوح عدم دلالتها على المقصود في جواز القضاء المرأة.

الثالث: الروايات

أمّا الاستدلال بالروايات:

1- فمنها: ما في «الفقيه» بإسناده عن حمّاد بن عمرو في وصيّة النبيّ (ص) لعليّ (ع) قال: «يا علي اوصيك بوصيّة فاحفظها- إلى أن قال- ليس على

ص: 146

النساء جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا إقامة- إلى أن قال- ولا تولّي القضاء»(1).

وفيه: أوّلًا: أنّها ضعيفة سنداً، فإنّ حمّاد بن عمرو مجهول، ومثله أنس بن محمّد. على أنّ في سند الصدوق إلى حمّاد وأنس مجاهيل يظهر من المشيخة.

ثانياً: إنّ الظاهر منها أنّ المرفوع هو الوجوب بقرينة أكثر ممّا جاء فيه من الأذان والإقامة وإتباع الجنازة وعيادة المريض.

2 و 3- ومثلها ما عن «مكارم الأخلاق» للطبرسي «ولا تولّي القضاء»(2).

وكذا رواية جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت أبا جعفر يقول: «ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا جماعة- إلى أن قال- ولا تولّي المرأة القضاء، ولا تولّي الإمارة ...»(3) فإنّهما ضعيفتان سنداً ودلالة كما مرّ.

4- ومنها: ما في «نهج البلاغة» في الوصيّة التي كتبها الإمام (ع) لولده الحسن (ع) عند منصرفه من صفّين بحاضرين (اسم مكان) «ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها؛ فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(4) والمراد منه الامور الخارجة عن قدرتها.

وفيه: كون القضاء من مصاديقه غير معلوم، فلا يمكن التمسّك به.

5- ومنها: ما رواه البخاري مسنداً واحتجّ به الأصحاب في الكتب


1- الفقيه 364: 4.
2- مكارم الأخلاق 439: 2.
3- راجع: الخصال: 585؛ وسائل الشيعة 220: 20، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 123، الحديث 1.
4- نهج البلاغه، صبحي صالح، قسم الرسائل: 31، الرأي في المرأة.

ص: 147

الاستدلالية؛ مثل صاحب «الجواهر»(1) والسيّد في «ملحقات العروة»(2) عن أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله، أيّام الجمل بعد ما كدت أنّ الحقّ بأصحاب الجمل فاقاتل معهم، قال: لمّا بلغ رسول الله إنّ أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى، قال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»(3).

ويرد عليه: أنّ الرواية نقلت عن طريق العامّة، ورجاله غير ثقات عندنا، فلا اعتبار بها. مضافاً إلى أنّها راجعة إلى الولاية المطلقة على البلد، والمدينة. وهذا غير الولاية للقضاء بين المتخاصمين. ومن المعلوم أنّ ثبوت الحكم- حكم عدم الجواز- في القويّ- أي الولاية المطلقة- لا يلازم ثبوته في الضعيف- أي الولاية في القضاء-.

6- واستدلّ أيضاً بأنّ المستفاد من روايات كثيرة أنّ الوظيفة المرغوبة من النساء في الشريعة، هي التحجّب والتستّر والتصدّي للُامور البيتية وعدم التدخّل فيما ينافي ذلك وبما أنّ تصدّي القضاء من المرأة ينافي ذلك؛ فنعلم من مذاق الشرع الأقدس عدم الرضا به.

ويرد عليه أنّه:

إن اريد ب- «مذاق الشارع» عدم رضاه اللزومي بعدم تصدّي المرأة لغير الامور البيتية وما شاكلها فهو ممنوع جدّاً. ولم يقم عليه دليل معتبر وإلا يلزم على المرأة أن لا تبتع ولا تشتري ولا تدخل السوق لذلك. ولا تمارس أيّ عمل يجعلها في


1- جواهر الكلام 14: 40.
2- العروة الوثقى 418: 6.
3- صحيح البخاري 136: 5.

ص: 148

مواجهة الأجانب حتّى مع حفظ الستر والعفاف. مع أنّ السيرة القطعية قائمة على خلاف ذلك.

وإن اريد به عدم رضاه الترجيحي بأنّ الستر مرغوب فيه لها عند الشارع، فهو لا ينافي حضوره بين الأجانب مع حفظ الستر والعفاف. مضافاً إلى أنّه يؤدّي إلى ما قاله المحقّق الأردبيلي (ره)(1) من جواز قضائها للنساء إذا كان الشهود أيضاً من النساء لا المنع بالكلّية للرجال والنساء.

7- واستدلّ أيضاً بصحيحتي أبي خديجة فإنّ فيهما قيّد جواز القضاء بالرجل. قال في الاولى: «اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا وحرامنا»(2) وفي الثانية «ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا»(3)، فأدلّة النصب والإذن لا تشمل المرأة فلا يصح لها القضاء.

ويرد عليه: أنّ الخطاب فيهما كان بجمع من الأصحاب فحيث إنّهم رجال حاضرون فقال (ع): «اجعلوا بينكم رجلًا» أو «انظروا إلى رجل» فإنّهم رجال، فاستظهار قيد الاحترازي منه بحيث يدلّ على عدم أهلية المرأة للقضاء؛ في غاية الإشكال.

8- واستدلّ أيضاً بفحوى ما دلّ على أنّ المرأة لا تؤمّ في صلاة الجماعة، فإذا لم تكن صالحة لأن تكون إماماً في الصلاة فعدم صلاحيتها للقضاء ثابته بطريق أولى.

ويرد عليه: أنّ الأولوية ممنوعة بلا إشكال، فإنّ المرأة في صلاة الجماعة لابدّ


1- راجع: مجمع الفائدة والبرهان 15: 12.
2- وسائل الشيعة 139: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 13: 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

ص: 149

لها من قيامها أمام الرجال. وهم ينظرون إليها متى تركع ومتى تسجد ومتى تقوم ويستمعون أذكارها وقرائتها. ثمّ هل تقرأ جهراً أو إخفاءً والوجه في وجوب الذ إخفات لها عدم سماع الأجنبيّ صوتها في القرائة. وقيامها أمامهم بهذه الكيفية يكون أسوء حالًا من سماعهم صوتها في القرائة. أمّا في القضاء فهي تطلب من المدّعي طرح الدعوى وهي تستمع كلامه. ثمّ تطلب من المدّعى عليه الجواب وهي تستمع. أو تطلب من المدّعي إحضار الشهود، وإقامة الشهادة، والإتيان بالمدارك، والقرائن؛ وهذه الامور لا تنافي التحجّب والتستّر أو العفاف المرغوب فيه منهنّ.

فإذا دلّ دليل على عدم جواز إمامتها في الصلاة فهذا لا يدلّ على عدم جواز القضاء لها بلا إشكال. مضافاً إلى أنّ ما دلّ على أنّها لا تؤمّ، ظاهر في عدم جواز إمامتها للرجال فيكون الدليل أخصّ من المدّعى، فإنّه توجد في روايات صحيحة صحّة إمامتها للنساء في المكتوبة، وقد يحمل على الكراهة.(1)

وقد يقال: إنّ الروايات المتقدّمة، وإن كان كلّ واحد منها قابلة للخدشة وضعيفة سنداً أو دلالة، لكن ينجبر ضعفها بعمل المشهور، فتكون صالحة للاستناد بها.

وفيه: أنّ انجبار ضعف الرواية بعمل المشهور يحصل فيما إذا علم استنادهم إلى رواية خاصّة في الفتوى. وهو هنا غير معلوم فإنّ بعضهم استندوا إلى الآيات، وبعضهم استندوا إلى رواية، والآخر إلى رواية اخرى، وبعضهم استندوا إلى روايتين أو أكثر.


1- روضة المتقين 540: 2.

ص: 150

ثمّ قالوا ولو لم تكن الروايات تامّة فلا أقلّ من الأصل كما في «الجواهر»(1) وبعضهم أضافوا إليها الفحوى من أدلّة عدم جواز الإمامة في الصلاة لها. وبالأخرة، العلم بكون مستندهم في الفتوى هو رواية خاصّة أو جميعها أو غير الروايات غير حاصل، فادّعاء الانجبار بعمل الأصحاب منتفٍ هنا.

وقد يقال: إنّ كلّ واحد من هذه الأدلّة وإن كان غير وافٍ بالمراد وغير صالح للاستدلال لكن حكم المجموع غير حكم كلّ فرد ولعلّ المجموع من حيث المجموع كاف في إفادة الاطمئنان على عدم صلاحيتها للقضاء، وهذه هي السيرة المستمرّة بين الفقهاء في أمثال المقام، إذ ربما لا تكون الأدلّة- إذا لوحظت بانفرادها- مفيدة للاطمئنان لعدم خلوّها عن المناقشة. لكن إذا لوحظت بصورة المجموع ربما تكون قوّة دلالة البعض جابرة لضعف دلالة الآخر، وبالعكس؛ أي قوّة سند البعض جابرة لضعف سند الآخر فيتفاعلان ويؤثّران.

ويرد عليه: سلّمنا أنّه لو كان بين الأدلّة دليل له قوّة سنداً أو دلالة، ومع هذا غير تامّ ولا يصحّ الاعتماد عليه لو انفرد لقلنا: إنّ التعاضد والاجتماع المذكور يوجب اعتباره شرعاً والاطمئنان به، ولكن فيما نحن فيه كلّ واحدة من الأدلّة التي بأيدينا قابلة للخدشة وضعيفة وضمّ ضعيف إلى ضعيف؛ لا يوجب القوّة بلا إشكال.

9- وقد يستدلّ بالسيرة المستمرّة من زمن الرسول الأكرم (ص) وأمير المؤمنين (ع) وسائر الخلفاء عبّر القرون من نصب الرجال للقضاء. ولم يعهد منهم تعيين المرأة، ولو للقضاء بين النساء مع وجود نساء فاضلات حتّى النساءالكمّل مثل فاطمة الزهراء (سبحانه و تعالى) وزينب الكبرى وغيرهما، ويستكشف من


1- جواهر الكلام 14: 40.

ص: 151

ذلك عدم صالحية النساء للقضاء.

ويرد عليه: أنّ السيرة واردة على نصب الرجال للقضاء، فهي حجّة ومعتبرة ويتّبع بلا إشكال. أمّا استفادة أمر سلبي منها- عدم صلاحية النساء لذلك- فلا؛ فإنّ غاية ما تدلّ عليه السيرة عدم نصب المرأة. وأمّا عدم صلاحيتها وعدم أهليتها لذلك شرعاً، فلا يستكشف منها؛ فإنّه من الممكن عدم تعيينهم للقضاء لجهات اخرى غير عدم الصلاحية مثل رعاية التستّر، والتحجّب المرغوب فيه لهنّ، مع كفاية تعيين الرجال أو عدم رضاية المتخاصمين للترافع عندهنّ وأمثال ذلك.

خلاصة الاستدلالات في قضاء المرأة

إلى هنا قد ذكرنا ما يمكن أن يستدلّ عليه، لعدم صلاحية النساء للقضاء، من الإجماع والآيات والروايات، والوجوه الاخر. ورأينا عدم تماميتها وأنّ كلّ واحد منها قابلة للخدشة. ولكن معذلك كلّه بعد عدم المنع من قضائهنّ شرعاً لا يصحّ لنا أن نقول بنفوذ قضائهنّ لكفاية الأصل للمنع عن قضائهنّ كما تقدّم.

فالمجوّز لا بدّ له من دليل مثبت للجواز، حتّى يمنع من إجراء الأصل.

لا يقال: يستفاد ذلك من مقبولة عمر بن حنظلة، من قوله (ع): «ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا ...» أنّ اسم الموصول- «من»- صالح للانطباق على الرجل والمرأة معاً، وإطلاق الخطاب يشمل المرأة أيضاً فينفذ قضاؤها على الرجال والنساء.

ومع وجود الإطلاق للجواز لا يصل النوبة إلى الأصل.

لأنّه يقال: ويشكل ذلك بأنّ الإطلاق في المقبولة منصرف إلى الرجال وذلك بقرينتين.

ص: 152

القرينة الاولى: أنّه لم يعهد من زمن الرسول (ص) والأمير (ع) وسائر الخلفاء تعيين النساء للقضاء.

القرينة الثانية: ما علم من الشارع، من لزوم رعاية التستّر والتحجّب للنساء، وعدم مواجهتا للرجال الأجانب حتّى المقدور.

ويشهد للانصراف ما فهم الراوي من قوله بعد كلامه (ع) حيث قال الراوي: «فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا»؛ فإنّه شاهد قويّ على ما هو المراد في مورد التخاطب بين الراوي والإمام. والمقبوله بعد هذا الانصراف تكون دليلًاً على عدم نصبهنّ بنحو العامّ للقضاء وإن بلغن من العلم والاجتهاد ما بلغن، ففي زمان الغيبة لا يجوز للمرأة الواجدة لجميع شرائط القضاء غير الذكورة أن يتولّي القضاء فإنّها غير مأذون ولم ينصب بنحو العامّ لذلك. مع أنّ المقبولة لا تدلّ أيضاً على عدم أهليتها وعدم صلاحيتها للقضاء، بل المصالح الكلّي للتنصيب تقتضي نصب الرجال دون المرأة. وأمّا لو أراد الإمام نصبها للقضاء، لم يكن خارجاً عن محدودة الشرع، لعدم دليل صالح على اشتراط الذكورة شرعاً وعدم أهلية المرأة لذلك، بل المصالح الكلّي يقتضي أن ينصب الرجال لطول زمان الغيبة للولاة العامّة، ومنها القضاء.

وحينئذٍ نقول: إذا قامت الحكومة الإسلامية وكان القائد فيها هو الفقيه الجامع للشرائط ورأى المصلحة في نصب المرأة للقضاء جاز له ذلك، فتصير المرأة بعد عدم اشتراط الذكورة شرعاً في القضاء، مأذوناً من جانب وليّ الفقيه، الذي إذنه بمنزلة إذن الإمام فينفذ قضائها للرجال والنساء، بلا إشكال ولا إيراد، إن شاء الله.

ص: 153

والأعلمية ممّن في البلد أو ما يقربه على الأحوط.

والأحوط أن يكون ضابطاً غير غالب عليه النسيان، بل لو كان نسيانه بحيث سلب منه الاطمئنان فالأقوى عدم جواز قضائه. وأمّا الكتابة ففي اعتبارها نظر. والأحوط اعتبار البصر، وإن كان عدمه لا يخلو من وجه.

مسألة 2: تثبت الصفات المعتبرة في القاضي بالوجدان، والشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان، والبيّنة العادلة. والشاهد على الاجتهاد أو الأعلمية لابدّ وأن يكون من أهل الخبرة.

مسألة 3: لا بدّ من ثبوت شرائط القضاء في القاضي عند كلّ من المترافعين، ولا يكفي الثبوت عند أحدهما.

مسألة 4: يشكل للقاضي القضاء بفتوى المجتهد الآخر، فلا بدّ له من الحكم على طبق رأيه، لا رأى غيره ولو كان أعلم.

مسألة 5: لو اختار كلّ من المدّعي والمنكر حاكماً لرفع الخصومة، فلا يبعد تقديم اختيار المدّعي لو كان القاضيان متساويين في العلم، وإلا فالأحوط اختيار الأعلم، ولو كان كلّ منهما مدّعياً من جهة ومنكراً من جهة اخرى، فالظاهر في صورة التساوي الرجوع إلى القرعة.

مسألة 6: إذا كان لأحد من الرعية دعوى على القاضي فرفع إلى قاضٍ آخر، تسمع دعواه وأحضره، ويجب على القاضي إجابته، ويعمل معه الحاكم في القضية معاملته مع مدّعيه من التساوي في الآداب الآتية.

مسألة 7: يجوز للحاكم الآخر تنفيذ الحكم الصادر من القاضي، بل قد يجب. نعم، لو شكّ في اجتهاده أو عدالته أو سائر شرائطه لا يجوز إلا

ص: 154

بعد الإحراز، كما لا يجوز نقض حكمه مع الشكّ واحتمال صدور حكمه صحيحاً، ومع علمه بعدم أهليته ينقض حكمه. وطهارة المولد، (4)

الشرط السابع: طهارة المولد

(4) إلى هنا بحثنا مفصّلًا عن ستّة شروط من أحد عشر شرط الذي طرحها الماتن (ره) ولما كان البحث عن شرط السابع- طهارة المولد- قليل الفائدة ولا يكون محلًا للابتلاء فإنّه لا أظنّ أن يوجد مورد من صدر الإسلام إلى الآن أن يمنع أحد من القضاء أو يعزل عن منصب القضاء من جهه فقدانه ذلك الشرط، فلذا صرفنا النظر عن البحث فيه.

وكذا الشرط الثامن- أي شرط الأعلمية- صرفنا النظر عن البحث فيه لوضوح عدم الوجه لاشتراط الأعلمية أو الاحتياط فيه بعد إطلاق المقبولة وصحيحتي أبي خديجة وعدم دليل على اعتبارها.

وكذا شرط الضبط، والكتابة، والبصر- أي الشرط التاسع، والعاشر، والحادي عشر- فإنّها قليل الفائدة أو غير محلّ الابتلاء، مع أنّا أثبتنا تتمّة متن عند ما نقلنا كلام الماتن (ره) في «القول في صفات القاضي».

ثمّ ذكر الإمام هنا مسائل(1) بعضها يبحث عنها في الموارد المشابه الآتية في بحث القضاء، أو بعضها مربوط بالقاضي المنصوب بنحو العامّ في زمن عدم قيام


1- جدير بالذكر أثبتنا متن تلك المسائل عند ما نقلنا كلام الماتن؛ في« القول في صفات القاضي» كما أضبطه الإمام؛ تحت عنوان مسألة 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 فراجع، ولكن لما قلنا صرفنا النظر عن البحث فيه.

ص: 155

مسألة 8: يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه من دون بيّنة أو إقرار أو حلف في حقوق الناس، وكذا في حقوق الله تعالى، (5)

الحكومة الإسلامية، فننصرف عنها ونبحث في المسألة الثامنة- حكم القاضي طبقاً لعلمه- وهي من المسائل المهمّة في باب القضاء.

حول حكم القاضي طبقاً لعلمه

(5) قد وقع الخلاف في أنّ القاضي هل يجوز له أن يستند في قضائه بعلمه؟ بمعنى أنّه هل يكون علمه من الطرق التي يستند إليها، في إثبات الدعوى والموضوع فيحكم على طبقه فتكون العلم حجّة. ومن الموازين القضائية، كالبيّنة والحلف، والحكم باستناد العلم يكون نافذاً، أو يقال أنّ العلم وإن كان حجّة على نفسه، لكن لا يكون حجّة في إثبات الدعوى، والموضوع في المحكمة فلا يجوز للقاضي أن يستند إليه في القضاء فلا يكون مثل البيّنة والحلف طريقاً في الإثبات القضائي، فلا يكون الحكم باستناده نافذاً.

وقد عمّم بعضهم البحث عن جواز عمل الإمام المعصوم بعلمه، وعدمه إلى جوازه للفقيه النائب عنه وعدمه، ولكنّ الأولى صرف البحث و الخلاف إلى الثاني- جوازه للفقيه النائب عنه- فإنّ البحث عن جوازه للإمام المعصوم وعدمه وإن كان فائدته أنّه على فرض عدمه له (ع) يفيد عدم الجواز للفقيه بطريق أولى، ولكن على فرض جوازه له (ع) لا يفيد جوازه للفقيه أيضاً، لاحتمال اختصاصه بالإمام المعصوم، فلا بدّ من إمعان النظر إلى جواز العمل بالعلم للفقيه في قضائه أو عدمه، والنظر فيما يمكن أن يستدلّ به.

ص: 156

ولا يخفى: أنّ محلّ البحث إنّما هو قضاء الحاكم بعلمه في الشبهات الموضوعية فقط، وأمّا في الشبهات الحكمية، فلا خلاف فيه فإنّ الحاكم يقضي بعلمه أي ما استخرجه من الأدلّة واستنبطه منها، يكون حجّة له. ويكون قضائه باستناده نافذاً ولا يجوز له غير ذلك.

ثمّ اختلفوا في جواز العمل بالعلم وعدمه في غير المعصوم من القضاة على أقوال:

1- الجواز في حقوق الله وحقوق الناس، كما عليه المشهور.

2- عدم الجواز، كما عن ابن جنيد- على ما نقل عنه في «الانتصار»(1)-.

3- الجواز في حقوق الناس كما عن ابن إدريس(2).

4- الجواز في حقوق الله عزّ وجلّ كما عن ابن جنيد أيضاً- على ما نقل عنه في «المسالك»(3)- عن كتابه «الأحمدي».

بيان الأقوال في حكم القاضي بعلمه

القول الأوّل: الجواز مطلقاً

قال الشيخ (ره)(4): «للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأحكام من الأموال،


1- الانتصار: 488.
2- السرائر 179: 2. جدير بالذكر أنّ صاحب المسالك نصب هذا القول إلى ابن إدريس مع أنّ صدر كلامه مشعر بالجواز مطلقاً ولعلّه استظهر من تمثيله في الذيل هذا القول منه.( مسالك الأفهام 383: 13)
3- مسالك الأفهام 384: 13.
4- الخلاف 242: 6، مسألة 41.

ص: 157

والحدود والقصاص وغير ذلك؛ سواء كان من حقوق الله أو من حقوق الآدميين، فالحكم فيه سواء. ولا فرق بين أن يعلم ذلك بعد التولية في موضع ولايته، أو قبل التولية».

قال السيّد (ره)(1): «وممّا انفردت به الإمامية- وأهل الظاهر، يوافقونها فيه-؛ القول بأنّ للإمام والحاكم من قبله أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود من غير استثناء. وسواء على الحاكم ما علمه وهو حاكم أو علمه قبل ذلك ...».

فإن قيل: كيف تستجيزون ادّعاء الإجماع من الإمامية في هذه المسألة وأبو علي بن الجنيد يصرّح بالخلاف فيها ويذهب إلى أنّه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شي ء من الحقوق ولا الحدود؟

قلنا: لا خلاف بين الإمامية في هذه المسألة، وقد تقدّم إجماعهم ابن الجنيد وتأخّر عنه(2).

وأمّا عند العامّة فالمشهور بينهم عدم الجواز. قال المالك: لا يقضي بعلمه مطلقاً(3). وقال الشافعي يقضي في حقوق الناس(4). وفي الحدود قولان. وقال أبوحنيفة(5) أنّه لا يحكم بما علمه قبل نصبه لمنصب القضاء، ويحكم بما علمه بعد


1- الانتصار: 486.
2- راجع: الانتصار: 488؛ مفتاح الكرامة 36: 10.
3- لا يقضي بعلمه شهد بذلك في ولايته أو قبلها هو قول مالك.( فتح الباري 140: 13)
4- الشرح الكبير 424: 11.
5- هذا باب في بيان من رأى من الفقهاء أنّ للقاضي، ويروي: للحاكم أن يحكم بعلمه في أمر الناس، وأشار بهذا إلى قول الإمام أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، فإنّ مذهبه أنّ للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الناس، وقيّد به لأنّه ليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود.( عمدة القاري 24: 235)

ص: 158

نصبه لمنصب القضاء. أي إذا كان منصوباً للقضاء وترافعاً إليه وعلم بشي ء حكم طبق علمه وإلا فلا.

وهو- الجواز مطلقاً- قول ابن إدريس أيضاً حيث قال: «عندنا للحاكم أن يقضي بعلمه في جميع الأشياء»(1).

وكيف كان: فالأقوى الجواز، كما عليه المشهور، وقد ادّعي عليه الإجماع. وقال في «الجواهر»(2) وهو الحجّة لعدم تمامية ما استدلّ عليها على الجواز عنده.

ويرد على الإجماع: لأنّه من المحتمل تمسّك المجمعين بما سيجي ء من الأدلّة فلا يكون كاشفاً عن قول المعصوم غير ما عندنا من الأدلّة.

أدلّة جواز حكم القاضي بعلمه

وقد استدلّ على الجواز- مضافاً إلى الإجماع الذي نقلناه وناقشنا فيه- بوجوه من الآيات والروايات وغيرها.

الدليل الأوّل: قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا(3).

وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ(4).

وتقريب الاستدلال بها أن الخطاب في الآيتين متوجّه إلى الحكّام أي من عليه إقامة الحدّ. وعلّق الحكم- أي وجوب القطع ووجوب الجلد- على عنوان واقعي ووصف خارجي من غير أن يعيّن لكشفه وتحقّقه طريقاً خاصّاً وبما أنّ


1- السرائر 179: 2؛ 432: 3.
2- جواهر الكلام 88: 40.
3- المائدة( 5): 38.
4- النور( 24): 2.

ص: 159

العلم طريق إلى الواقع وحجّيته ذاتي له؛ فإذا علم الحاكم بوقوع السرقة أو الزنا يتحقّق عنوان السارق أو الزاني، فنقول:- في معنى السرقة والزنا- السارق هو من تلبّس بالسرقة ووقع منه السرقة. والزاني هو من تلبّس بالزنا وصدر منه ذلك، وحصل له الوصف العنواني ووجب عليه الحكم بالقطع والجلد ويجب إجرائهما بلا شبهة. ولو لم يصدر من الشارع حجّية البيّنة والإقرار والحلف لكان علم القاضي هو الطريق الوحيد إلى كشف العنوان المأخوذ في الآية. غاية الأمر أنّ موارد علم القاضي قليل جدّاً. ولذا توسّع الشارع الطريق- لمصلحة القضاء وإمكان الوصول إلى الواقع- للقاضي في غير مورد العلم أيضاً. حتّى يتمكّن من إجراء الحدود على المرتكبين للجرائم ويتحقّق الهدف من تشريع الحدود والتعزيرات فجعل البيّنة والإقرار حجّة لغلبة الوصول إلى الواقع فيها.

فبالنتيجة تدلّ الآية على أنّ الحاكم إذا علم أنّ زيداً سارق أو زان مثلًا؛ يجب عليه إقامة الحدّ عليه كما أنّه إذا شهد على زيد الشهود على ذلك أو أقرّ بالسرقة أو الزنا يجب عليه الحكم بإجراء الحدّ عليه بأدلّة حجّية البيّنة أو الإقرار.

إن قلت: إنّ حجّية العلم وإن كان ذاتياً له وهو طريق تامّ لكشف الواقع؛ لكن القول بكونه من موازين القضاء، وأنّه يصحّ استناد القاضي إليه في إثبات الموضوع في المحكمة غيرمعلوم، فإنّه يستفاد من أدلّة حجّية البيّنة واليمين والإقرار، أنّ للشارع طرق خاصّة لكشف الواقع في القضاء وجعل موازين إثباتي قضائي للقاضي لأن يستند إليها في المحكمة ولم يعلم أنّ العلم كان منها، فالقاضي إذا علم بكونه مرتكباً للزنا أو السرقة لا يجب عليه الحكم على طبقه لعدم حصول العلم بجعل الشارع علم القاضي طريقاً إثباتياً للقضاء،

ص: 160

ولو أقام البيّنة على خلاف علمه أو حلف المنكر مثلًا، له الامتناع من القضاء في المورد.

قلت: إنّ الآية تدلّ على وجوب الحكم للقاضي على المتلبّس بالسرقة أو الزنا، فإذا علم بارتكاب أحد السرقة أو الزنا، فقد تحصّل على المتلبّس بها فيجب عليه الحكم ولو لم يحكم كان متخلّفاً ومعاقباً. ودليل حجّية البيّنة واليمين ليس في مقام جعل الطريق انحصاراً، بل قد توسع الأمر للقاضي، حتّى يصحّ له العمل بها؛ ليستند في القضاء إليها، لا أن يمنعه من العمل بعلمه بلا شبهة.

الدليل الثاني: قوله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ(1).

وقوله تعالى- مخاطبا للنبي (ص)-: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ(2).

وقوله تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ(3).

وتقريب الاستدلال بها أنّ الخطاب فيها، وإن كان لداود النبيّ أو نبيّ الإسلام (ص) في الأخيرتين، لكن المستفاد منها أنّ الوظيفه في القضاء هو أن يكون الحكم على الحقّ والقسط والعدل. وهذه الامور من الحقايق الخارجية والواقعية كلّما تحقّقت يجب على القاضي الحكم بها.

مثلًا إذا علم الحاكم باشتغال ذمّة زيد لعمرو بمبلغ، فمالكية عمرو بذاك المبلغ في ذمّة زيد حقّ، علم به الحاكم فيجب عليه الحكم بالحقّ وكذا لو علم


1- ص( 38): 26.
2- المائدة( 5): 42.
3- النساء( 4): 58.

ص: 161

أنّ زيداً قاتل لعمرو فالحكم بالقصاص منه في حقّ عمرو عدل، وقسط، يجب عليه أن يحكم به.

إن قلت: إنّ الآية في مقام بيان أنّ الحكم لا بدّ أن يكون متّصفاً بالحقّ والقسط والعدل أمّا أنّها هل يستكشف من أيّ طريق وبأيّ وسيلة فلا يكون في مقام بيانه، فلا يمكن الرجوع إلى الإطلاق حتّى يقال بجواز الحكم طبق علمه بالحقّ والعدل.

قلت: إنّ المستفاد من الآية أنّ القاضي يجب عليه أن يحكم بالحقّ فإذا استكشف الحقّ عنده بالعلم، فلا شبهة في أنّ حكمه على طبقه يكون حكماً بالحقّ ولا يحتاج إلى البيان، إلا أن ينهي عنه الشارع. نعم، لا يستفاد منه جواز الحكم إذا استكشف عنده الحقّ بالبيّنة أو اليمين لعدم العلم بكونه طريقاً شرعاً، لو لم يدلّ عليه دليل وإذا قام الدليل على حجّيتهما لا يكون مفهومه عدم حجّية العلم وعدم جواز الاستناد إليه أو عدم كون العلم طريقاً شرعياً، في القضاء، بل المستفاد منها تعميم طريق الاستكشاف للحقّ، والعدل والقسط فيجوز للقاضي أن يستند في القضاء بالبيّنة واليمين وأنّ له أن يستند بالعلم.

الدليل الثالث: ما ذكره في «الجواهر»(1) من استلزام عدم القضاء بالعلم فسق الحاكم، أو إيقاف الحكم من غير موجب وهما باطلان، وذلك لأنّه إذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً مثلًا؛ بحضرته ثمّ جحد كان القول قوله مع يمينه، فإنّ الحكم على خلاف علمه بأن استحلفه ثمّ سلّمها إليه لزم فسقه وإن لم يحكم في الواقعة لزم إيقاف الحكم لا لموجب وهذا أيضاً باطل؛ لأنّ وظيفة القاضي هو فصل


1- جواهر الكلام 88: 40.

ص: 162

الخصومة ورفع التنازع وإيقافه أو امتناعه عن القضاء على خلاف الوظيفة.

وقد استشكل عليه بأنّ الاستلزام المذكور، فرع الحجّية القضائية للعلم ولم يثبت ذلك يعني أنّ المطلوب من القاضي هو الحكم على طبق الموازين القضائية الشرعية الثابتة في باب القضاء من البيّنة واليمين، لا الحكم على طبق الواقع، فإذا لم يثبت كونه طريقاً للإثبات وحجّة في باب القضاء و لم يثبت جواز استناد القاضي إليه فلا يلزم شي ء ممّا ذكر من اللوازم.

ويرد عليه: أنّ الآيات المتقدّمة كانت دالّة على أنّ المطلوب من القاضي هو الواقع، وما هو الحقّ والعدل. وإذا ثبت عنده الواقع بالعلم وانكشف ما هو الحقّ بالعلم، يجب عليه الحكم بلا إشكال. إلا أن ينهي الشارع عن الاستناد بالعلم ولم يثبت ذلك وأدلّة حجّية البيّنة واليمين، ليست في مقام بيان الطريق والميزان الصحيح بنحو الكلّي في باب القضاء، بحيث يفهم منه أنّ العلم ليس حجّة وقابلًا للاستناد في باب القضاء، بل المستفاد منها يعمّ الطريق إلى الواقع- من البيّنة واليمين والعلم- للمصلحة في باب القضاء كما تقدّم، فالاستلزام المذكور صحيح، ونتيجته صحّة القضاء بالعلم.

الدليل الرابع: ما في «الجواهر»(1) أيضاً من أنّه يستلزم عدم وجوب إنكار المنكر وعدم وجوب إظهار الحقّ عليه مع إمكانه؛ فإنّه إذا علم بطلان ادّعاء القتل على زيد وأنّه ليس قاتلًا واقعاً أو علم أنّ زيداً مديون لعمرو وإنكاره باطل، فإن لم يجب عليه منعهما عن الباطل وإظهار ما عنده من الحقّ و الواقع، لزم الأوّل وإلا ثبت المطلوب.


1- جواهر الكلام 88: 40.

ص: 163

واستشكل عليه: أنّ الواجب عليه المنع من المنكر وإظهار الحقّ قولًا، من باب وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وأمّا جواز الحكم على طبق علمه في المحكمة فلا؛ فإنّه متوقّف على ثبوت كون علم القاضي، أحد الطرق الثابتة في الموازين الشرعية للقاضي وهو غيرثابت.

ويرد عليه: أنّ إثبات كون العلم طريقاً للواقع والحقّ لا يحتاج إلى بيان، بل إذا حصل له العلم يجب عليه الحكم كما استفدناه من الآيات، ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولًا وعملًا إلا أن ينهاه الشارع عن العمل بعلمه، وعلم أنّ علمه ليس طريقاً إثباتياً من موازين القضاء في المحكمة، وهذا ليس بثابت من الشارع الأقدس.

الدليل الخامس: ما ذكره في «الجواهر»(1) أيضاً من أنّ العلم أقوى من البيّنة المعلوم إرادة الكشف منها، بمعنى أنّ الشارع جعل البيّنة حجّة للقاضي من جهة غلبة الكشف للواقع فيها، مع أنّ العلم يكون كاشفاً تامّاً فلا بدّ أن يكون حجّة بطريق أولى.

واستشكل عليه أيضاً بأنّ أقوائية العلم من البيّنة من جهة كونه كاشفاً تامّاً صحيح، بالنسبة إلى نفس القاضي، فالعلم في نفسه أقوى وأولى من البيّنة، وأمّا إذا صار موضوعاً للغير، وأراد الحاكم أن يستند إليه للحكم، على الغير فهذا يحتاج إلى دليل من الشارع لجواز الاستناد إليه وليس هنا إطلاق حتّى جاز التمسّك به.

ويرد عليه مثل ما تقدّم، من أنّه معلوم أنّ حجّية البيّنة من جهة كشفه عن


1- جواهر الكلام 88: 40.

ص: 164

الواقع، وهذه الجهة تكون في العلم أقوى، فإذا وجب على القاضي الحكم بالواقع وإذا انكشف الحقّ عنده يجب عليه الحكم على طبقه فلا شبهة في جواز الاستناد إليه في المحكمة. ويكون طريقاً إثباتياً، ومن الموازين القضائي؛ إلا أن ينهي عنه الشارع، وهو لم يثبت.

الدليل السادس: إنّ أصحابنا (رحمهما الله) بل الشيعة يعترضون وينكرون على أبي بكر حيث طلب البيّنة من فاطمة (سبحانه و تعالى) في قصّة فدك مع علمه بصدقها، بل بعصمتها، فلو لم يكن علم الحاكم حجّة واحتاج إلى البيّنة فعمله صحيح في تلك الواقعة ولا وجه للإنكار عليه. قال السيّد(1)- على ما نقل عنه في «الجواهر» أيضاً-: وكيف يخفى إطباق الإمامية على وجوب الحكم بالعلم وهم ينكرون توقّف أبي بكر عن الحكم لفاطمة بنت رسول الله (ص) بفدك لمّا ادّعت أنّ أباها أنحلّها ويقولون إذا كان عالماً بعصمتها وطهارتها وأنّها لا تدعي إلا حقّاً؛ فلا وجه لمطالبتها بإقامة البيّنة لأنّ البيّنة لا وجه لها مع العلم بالصدق(2).

وقد أورد عليه: بأنّ الاعتراض والإنكار عليه من جهة عدم عمله بعلمه وأنّه لا بدّ له من ردّ الفدك إليها من دون الورود في أمر القضاء.

وفيه- ردّاً على الإيراد-: أنّ العمل بعلمه يستلزم القضاء عليه أيضاً.

الدليل السابع: رواية حسين بن خالد، عن أبي عبدالله (ع) قال: سمعته يقول: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ، ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره، لأنّه أمين الله في خلقه، وإذا نظر


1- الانتصار: 488.
2- جواهر الكلام 89: 40.

ص: 165

إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه، قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته وإذا كان للناس فهو للناس»(1).

وتقريب الاستدلال: أنّه يمكن أن يقال يجب على الإمام في حقوق الله إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ، وفي حقوق الناس فهو للناس، يعني يحتاج إلى المطالبة فليس المراد هو التفصيل في إقامة الحدود بعلمه بين حقوق الله وحقوق الناس، بل التفصيل كان من جهة توقّف إقامة الحدود في حقوق الناس على المطالبة دون حقوق الله؛ لأنّه أمين الله فيقيم الحدّ في حقوقه من دون لزوم مطالبة أحد.

ففي حقوق الناس أيضاً يعمل بعلمه ويكون علمه نافذاً لكنّه بعد المطالبة.

والظاهر أنّ المراد من قوله (ص): «يجب على الإمام» هو الوليّ الشرعي ومن عليه إقامة الحدود، وليس المراد هو الإمام المعصوم كما ورد في أبواب القضاء لفظ «الإمام» كثيراً ويراد منه الحاكم الشرعي. وكذا التعبير بأنّه «أمين الله في خلقه» لا يكون قرينة لإرادة الإمام المعصوم فإنّها أيضاً عبّر في بعض الروايات على العلماء، كخبر إسماعيل بن جابر «العلماء امناء» وخبر السكوني «الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا»(2) وخبر «تحف العقول» «مجاري الامور والأحكام على أيدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه»(3).


1- وسائل الشيعة 57: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 32، الحديث 3.
2- بحار الأنوار 36: 2/ 38.
3- تحف العقول: 238.

ص: 166

فالرواية واضحة الدلالة على جواز القضاء بالعلم في حقوق الله وحقوق الناس للقاضي، ومن حيث السند صحيحة ومعتبرة أيضاً على الأقوى فإنّ محمّد بن أحمد المحمودي وأباه موثّقان، غاية الأمر: أن نقول في حقوق الناس يحتاج إلى المطالبة وهنا نبحث في ذلك- أي البحث عن أنّ أصل جواز القضاء بالعلم في حقوق الله وحقوق الناس- أمّا أنّ إقامة الحدود في حقوق الناس يحتاج إلى المطالبة أم لا؟ فهو بحث آخر يطلب في كتاب الحدود(1).

وقد أورد على الاستدلال بها:

أوّلًا: أنّ المراد من الإمام هو الإمام المعصوم بقرينة قوله: «لأنّه أمين الله في خلقه».

ثانياً: لو سلّمنا أنّ المراد منه الوليّ الشرعي، فيشمل نوّاب الإمام أيضاً، لكنّه غير مرتبط بباب القضاء، بل المراد منه الوظيفة الإجرائية للوليّ- كلّما نظر إلى رجل يرتكب المعاصي من الحدود، أو التعزيرات،- أن يجري عليهم الحدّ والتعزير، لدفع الفساد من المجتمع.

وفيه: أنّ الجواب من إيراد الأوّل قد تقدّم.

وأمّا عن الثاني: فنقول إنّ المراد من النظر فيها، هو الثبوت عند الحاكم. لا النظر بالعين والرؤية بها، فإنّ الإمام في مقام بيان التفصيل بين إقامة الحدود في


1- وقد بحث عنه الإمام، في كتاب الحدود في لواحق باب الزنا حيث قال: للحاكم أن يحكم بعلمه في حقوق الله وحقوق الناس، فيجب عليه إقامة حدود الله تعالى لو علم بالسبب، فيحدّ الزاني كما يجب عليه مع قيام البيّنة والإقرار، ولا يتوقّف على مطالبة أحد، وأمّا حقوق الناس فتقف إقامتها على المطالبة حدّاً كان أو تعزيراً، فمع المطالبة له العمل بعلمه.( تحرير الوسيلة: 872، مسألة 4)

ص: 167

التوقّف عن المطالبة وعدمه، فكلّما ثبت عنده حقّ من حقوق الله يقيمه من دون التوقّف على المطالبة. وكلّما ثبت عنده حقّ من حقوق الناس فإقامة الحدّ فيها يحتاج إلى المطالبة وموردها وظيفه الحاكم الشرعي ويرتبط، بل يختصّ بباب القضاء.

الدليل الثامن: ما رواه صاحب «الوسائل» عن الصدوق، بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (ع)(1).

وتقريب الاستدلال بالرواية أنّ الرجل القرشي بعد أن جعل قاضياً بين رسول


1- محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين( ع) قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ( ص)- فادّعى عليه سبعين درهماً ثمن ناقةٍ باعها منه، فقال قد أوفيتك، فقال:« اجعل بيني و بينك رجلًا يحكم بيننا»- فأقبل رجلٌ من قريشٍ، فقال رسول الله( ص):« احكم بيننا»- فقال للأعرابيّ ما تدّعي على رسول الله( ص)، فقال: سبعين درهماً ثمن ناقةٍ بعتها منه، فقال ما تقول يا رسول الله( ص)، فقال:« قد أوفيته» فقال للأعرابيّ ما تقول فقال: لم يوفني فقال لرسول الله( ص): أ لك بيّنةٌ أنّك قد أوفيته. قال« لا» فقال للأعرابيّ: أ تحلف أنّك لم تستوف حقّك و تأخذه قال: نعم. فقال رسول الله( ص):« لأتحاكمنّ مع هذا- إلى رجلٍ يحكم بيننا بحكم الله»، فأتى عليّ بن أبي طالبٍ( ع) و معه الأعرابيّ. فقال عليٌّ( ع):« ما لك يا رسول الله» قال:« يا أبا الحسن احكم بيني و بين هذا الأعرابيّ» فقال عليٌّ( ع):« يا أعرابيّ! ما تدّعي على رسول الله( ص)» قال: سبعين درهماً ثمن ناقةٍ بعتها منه. فقال:« ما تقول يا رسول الله» قال:« قد أوفيته ثمنها»، فقال يا أعرابيّ:« أ صدق رسول الله( ص) فيما قال». قال الأعرابيّ: لا ما أوفاني شيئاً، فأخرج عليٌّ( ع) سيفه فضرب عنقه». فقال رسول الله( ص):« لم فعلت يا عليّ ذلك». فقال:« يا رسول الله( ص) نحن نصدّقك على أمر الله و نهيه، و على أمر الجنّة و النّار، و الثّواب و العقاب و وحي الله عزّ و جلّ، ولا نصدّقك على ثمن ناقة الأعرابيّ، و إنّي قتلته لأنّه كذّبك لمّا قلت له، أصدق رسول الله( ص) فقال لا ما أوفاني شيئاً، فقال رسول الله( ص):« أصبت يا عليّ، فلا تعد إلى مثلها» ثمّ التفت إلى القرشيّ و كان قد تبعه، فقال:« هذا حكم الله لا ما حكمت به».( وسائل الشيعة 274: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 18، الحديث 1)

ص: 168

الله (ص) والأعرابي، المدّعي على رسول الله سبعين درهماً، ثمن ناقة ادّعى أنّه باعها من رسول الله. قال ما تقول يا رسول الله؟ فقال (ص): «قد أوفيته». وكان الأعرابي منكراً قال القرشي لرسول لله: ألك بيّنة؟ أمّا أمير المؤمنين إذا جعل قاضياً بينهما وسئل عن الرسول بقوله ما تقول يا رسول الله؟

فقال (ص) قد أوفيته ثمنها. اكتفي بقوله (ص) وثبت عنده أنّه قد أوفاه ثمن الناقة ولم يكن ذمّة رسول الله مديوناً بشي ء، فقال للأعرابي: صدّق رسول الله فيما قال. يعني قد ثبت عندي صدق ما قال (ص) فهل أنت أيضاً تصدق؟ فلمّا قال الأعرابي لا ما أوفأني شيئاً، فعلم أنّه كاذب ويكذّب النبي في ادّعائه فهو مرتدّ، فأخرج سيفه وضرب عنقه لارتداده، ثمّ قوله (ص): «أصبت» فهو تصديق له فيما فعل بالمرتدّ وقال (ص): «فلا تعد إلى مثلها»- لمصلحة كانت في نظره الشريف- أمّا بالنسبة إلى اكتفاء على بقول النبي (ص) قد أوفيت ثمنها وتصديقه إيّاه في ذلك وعلمه بعدم كونه (ص) مديوناً للأعرابي، ولذا لم يسئل عن النبي (ص) الشهود فقد صدقه في ذلك رسول الله. وقال للقرشي: «هذا حكم الله لا ما حكمت به» يعني لا بدّ لك أيضاً تصديق الرسول والعلم من قوله والعمل به، لا الرجوع إلى البيّنة والحلف فالأوّل هو حكم الله لا ما حكمت به.

ولا شبهة في أنّ العلم الحاصل لعلي هو العلم العادي الذي يحصل لكلّ أحد يسمع الكلام من رسول الله (ص) لا العلم اللدنّي والغيب.

وكما أنّه لا شبهة في أنّ العلم الحاصل لعلي وهو المعصوم لا خصوصية له، وكذا العلم الحاصل من قول الرسول (ص)- وهو المعصوم- لا خصوصية له، بل المراد هو العلم الحاصل لشخص من طريق عادي، ولذا قال رسول الله (ص)

ص: 169

للقرشي: «هذا حكم الله» يعني الحكم الذي يجب على كلّ أحد أن يتبعه، وكان هو أيضاً يجب أن يحكم بهذا الحكم لا ما حكم به.

فالحديث من حيث الدلالة تامّ، وكذا من حيث السند؛ لأنّه قال الصدوق في «المشيخة»: كلّ ما نقله من قضايا أمير المؤمنين من طريقه إلى محمّد بن قيس فأفراده موثّق بما أنّ الحديث منقول من الصدوق.

فما قيل- في الإيراد على الحديث-: بأنّ العلم الحاصل للمعصوم غير قابل للخطاء أو العلم الحاصل من قول المعصوم له خصوصية لا يمكن تسرّيه إلى غيره، أو قوله هذا حكم الله إشارة إلى قتل الأعرابي المرتدّ، بيد علي وليس مربوطاً بباب العلم للقاضي فغير تامّ، كما لا يخفى.

الدليل التاسع: ما رواه في «الوسائل»(1) في ذلك الباب.

وتقريب الاستدلال به أنّ خزيمة بن ثابت لمّا شاهد أنّ النبي يقول للأعرابي:


1- وعنه عن عبدالرحمن بن أحمد، عن محمّد بن يحيى النيسابوري، عن الحكم بن نافعٍ، عن شعيبٍ، عن الزهري، عن عبد اللّه بن أحمد، عن عمارة بن خزيمة بن ثابتٍ، عن عمّه أنّ النبيّ( ص) ابتاع فرساً من أعرابي، فأسرع ليقضيه ثمن فرسه فأبطأ الأعرابي، فطفق رجالٌ يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، و لا يشعرون بأنّ النبيّ( ص) ابتاعها، حتّى زاد بعضهم الأعرابي في السوم، فنادى الأعرابي فقال: إن كنت مبتاعاً لهذا الفرس فابتعه، و إلا بعته فقام النبيّ( ص) حين سمع الأعرابي، فقال:« أ و ليس قد ابتعته منك»، فطفق الناس يلوذون بالنبيّ( ص) و بالأعرابي، و هما يتشاجران، فقال الأعرابي: هلمّ شهيداً يشهد أنّي قد بايعتك، و من جاء من المسلمين قال للأعرابي: إنّ النبيّ( ص) لم يكن يقول إلا حقّاً، حتّى جاء خزيمة بن ثابتٍ، فاستمع لمراجعة النبيّ( ص) للأعرابي، فقال خزيمة: إنّي أنا أشهد أنّك قد بايعته، فأقبل النبيّ( ص) على خزيمة، فقال:« بم تشهد» فقال: بتصديقك يا رسول اللّه. فجعل رسول اللّه( ص) شهادة خزيمة بن ثابتٍ شهادتين، و سمّاه ذا الشهادتين.( وسائل الشيعة 276: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 18، الحديث 3)

ص: 170

«أنّي ابتعت الفرس منك» وأنكره الأعرابي، وقال: «هلمّ شهيداً يشهد أنّي قد بايعتك»، جاء وقال: إنّي أنا أشهد أنّك قد بايعته، فقال النبي (ص): «بم تشهد» فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين و سمّاه ذا الشهادتين.

فكان شهادة خزيمة باستناد علمه، من قول رسول الله، وصدّقه في ذلك رسول الله، ولم يكتف بذلك، بل جعل شهادته بمنزلة شهادتين فكما أنّ الشهادة باستناد العلم جائزة فكذلك القضاء باستناد العلم.

وقد أورد عليه أنّه لا ملازمة بين جواز الشهادة وجواز القضاء بالعلم، ولو سلّمنا ذلك فإنّه هو العلم الحاصل من قول المعصوم، وأين هو من جواز العمل بمطلق العلم الحاصل من القرائن وضمّ الشواهد.

وفيه: أنّ هذا من الآثار المترتّبة على العلم، فكما أنّه إذا علم أحد بأمر جاز له أن يشهد عليه، كذلك جاز له القضاء على طبقه، وقد تقدّم أنّ العلم الحاصل عن قول المعصوم لا خصوصية له.

قال بعض المعاصرين: أنّه رأى في بعض التواريخ أنّ المشركين قد مهّدوا توطئة وحيلًا على النبي، لهتك حرمته وسقوط مكانته بين الناس، بأن يدّعي عليه فيما لا يكون شهوداً حتّى ينكر النبي ثمّ يظهروا كذبه وانتشروا أنّه كذب حتّى تسقط مكانته واعتبار قوله وكلامه. ولمّا علم أمير المؤمنين (ع) ذلك، قتل الأعرابي المدّعي في الناقة على النبي، لسدّ هذا الباب وكذا مدح النبي خزيمة بن ثابت وجعل شهادته بمنزلة شهادتين لذلك، فإنّه لو يفتح باب ذلك على النبي يوجب سقوط نفوذ كلامه واحترامه بين الناس.

ص: 171

وسند هذه الرواية وإن كان ضعيفاً لكن القضية كانت مشهورة وكان خزيمة مشهوراً بذي الشهادتين من هذه الجهة، فلهذا نقول هذه الرواية قابلة للاعتماد.

الدليل العاشر: صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج عن الباقر (ع)(1).


1- عن عبدالرحمن بن حجّاج قال: دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر( ع) فسألاه عن شاهد ويمين، فقال: قضى به رسول الله( ص)، وقضى به عليّ( ع) عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن، فقال: وأين وجدتموه خلاف القرآن؟ قالا: إن الله يقول:\i وَأشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ\E فقال: قول الله:\i وَأشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ\E هو لا تقبلوا شهادة واحد ويميناً، ثمّ قال: إنّ عليّاً( ع) كان قاعداً في مسجد الكوفة، فمرّ به عبدالله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة، فقال له عليّ( ع): هذه درع طلحة، أخذت غلولًا يوم البصرة، فقال له عبدالله بن قفل: اجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه وبينه شريحاً، فقال علي( ع):« هذه درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة»، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن، فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد، واحد ولا أقضي بشهادة شاهد، حتّى يكون معه آخر، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوك، ولا أقضي بشهادة مملوك، قال: فغضب علي( ع) وقال:« خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات»، قال: فتحوّل شريح وقال: لا أقضي بين اثنين، حتّى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات؟ فقال له:« ويلك- أو ويحك- ، إنّي لما أخبرتك أنّها درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة، وقد قال رسول الله( ص): حيث ما وجد غلول أخذ بغير بيّنة، فقلت: رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة، ثمّ أتيتك بالحسن فشهد فقلت: هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد، حتّى يكون معه آخر، وقد قضى رسول الله( ص) بشهادة واحد ويمين، فهذه ثنتان، ثمّ أتيتك بقنبر، فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة، فقلت: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا»، ثم قال:« ويلك- أو ويحك- ، إنّ إمام المسلمين يؤمن من امورهم على ما هو أعظم من هذا.( وسائل الشيعة 266: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 6) ونقل مثلها الشيخ في تهذيب الأحكام 273: 6/ 747، عن ابن أبي عمير. والصدوق بسند آخر معتبر عن محمّد بن قيس. واقتصر على قصّة علي مع شريح وزاد في آخرها. ثمّ قال أبوجعفر: إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك رمع. وأراد منه الخليفة الثاني فإنّه مقلوب عمر.( الفقيه 109: 3/ 3428)

ص: 172

وتقريب الاستدلال بها أنّ أمير المؤمنين حيث قال لشريح، هذه درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة فطلب منه البيّنة ثمّ ردّ الشهود غضب على وقال: «إنّ هذا، قضى بجور» ثلاث مرّات، ثمّ بين له جوره في ثلاث مرّات، ثمّ قال ويلك (أو ويحك) إنّ أمام المسلمين يؤمن من امورهم على ما هو أعظم من هذا.

وهذا إشكال رابع على قضاء شريح يعني إذا أخبر لك إمام المسلمين الذي كان معصوماً ومأموناً على امور المسلمين «أنّ هذه درع طلحة» لا بدّ لك أن تصدقه ويحصل لك العلم بذلك وتقضي به من دون مطالبة البيّنة منه، فإنّ إمام المسلمين كان مأموناً في امورهم وأموالهم على ما هو أعظم من هذا فتوبيخ الإمام إيّاه كان من جهة خروجه عن ميزان القضاء من ترك العمل بالعلم والالتفات إلى البيّنة.

قال في هامش «الفقيه»(1): قال المولى- مراده التفرشي-: «لعلّ مبنى ذلك على أنّه لم يكن كلام في أنّها درع طلحة لعلمهم بذلك بحيث لا يمكن إنكاره حيث رأوها مرّة بعد اخرى، بل الكلام إنّما كان في أن عبدالله بن قفل هل أخذها غلولًا، أو على وجه شرعي، والأصل عدم انتقالها إليه بناقل شرعي؟» انتهى.

أقول: كأنّ فقدان درع طلحة يوم الجمل ممّا اشتهر.

وقال العلامة المجلسي(2) قوله: «حيث ما وجد غلولًا» لعلّه محمول على ما إذا كان معروفاً مشهوراً بين الناس أو عند الإمام وإلا فالحكم به- أي الأخذ من غير


1- الفقيه 110: 3، الهامش.
2- مرآة العقول 231: 24.

ص: 173

بيّنة- لا يخلو عن إشكال. انتهى.

وقد أورد على الاستدلال بها:

أوّلًا: بأنّ حصول العلم من إخبار المعصوم موجّه، ولكن لا يمكن إسراؤه إلى غيره.

ثانياً: أنّه أجنبي عن باب القضاء، بل المراد توبيخه من جهة ضعف اعتقاده بالإمام فإنّه إذا أخبر الإمام بأمر يجب على كلّ أحد من المأمومين إطاعته وترتيب الأثر بكلامه. ويرد على الإيراد الأوّل؛ بأنّ العلم الحاصل من كلام المعصوم لا خصوصية له، بل الميزان هو حصول العلم بمن يحصل له.

ويرد على الإيراد الثاني: أنّه خلاف ظاهر الرواية، فإنّ الظاهر توبيخه في أمر القضاء وخلافه في الموازين المعينة للقضاء لا في الاعتقاد بالإمامة.

الدليل الحادي عشر: صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبدالله (ع) قال: «في كتاب علي (ع) إنّ نبياً من الأنبياء شكا إلى ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أر ولم أشهد؟ قال فأوحى الله إليه أحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به. وقال هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1).

وسيأتي تقريب الاستدلال بهذه الصحيحة مع تقريب الاستدلال بمرسلة أبان بن عثمان الآتي في الدليل الثاني عشر.

الدليل الثاني عشر: مرسلة أبان بن عثمان، عمّن أخبره، عن أبي عبدالله (ع) قال: «في كتاب علي (ع) إنّ نبياً من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء؛ فقال كيف أقضي بما لم تر عيني ولم تسمع اذني؟ فقال: إقض بينهم بالبيّنات


1- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

ص: 174

وأضفهم إلى اسمي يحلّفون به»(1).

وتقريب الاستدلال بهما- صحيحة سليمان بن خالد ومرسلة أبان بن عثمان- أنّ المفهوم من شكاية النبي إلى ربّه بأنّه كيف يقضي فيما لم يره ولم يشهده، أنّه إذا رآه أو شاهده؛ فصحّة القضاء كان مفروغاً عنه عنده ويعلم أنّه يقضي حينئذٍ على مقتضى علمه. وإنّما الكلام فيما إذا لم يره فلا يعلم ماذا يفعل حينئذٍ، وسكوته تعالى عن هذا المفهوم تصحيح وإمضاء له. ثمّ علّمه كيفية القضاء فيما لم يره ولم يشهده بأن يقضي بالبينات والأيمان.

وهذا وإن كان حكم في كيفية القضاء في زمن نبيّ من الأنبياء في سالف الزمان؛ لكن ذكره في كتاب على ونقله الإمام (ع) من ذاك الكتاب بيان لإجراء هذا الحكم في هذه الشريعة أيضاً وأنّ كيفية القضاء في هذه الشريعة مثل ما كان في الشرائع الماضية.

ولا يخفى أنّ قوله: «كيف أقضي فيما لم أر ولم تر عيني ولم تسمع اذني» يراد به فيما لم أعلم فإنّه لا خصوصية في الرؤية والسماع، بل ذكرهما لبيان مصداق الأعلى للعلم وهو ما يحصل من طريق الرؤية أو السماع.

والحاصل: أنّ المستفاد من الرواية أنّ القضاء بالبيّنة أو اليمين في طول القضاء بالعلم فإذا لم يكن عالماً، يقضي بالبينات والأيمان. ويستفاد أيضاً أنّ الميزان في القضاء هو الحكم بالواقع وهو الحقّ والعدل، فإذا كان عالماً به فذاك وإلا فيقضي بطريق آخر يكشف عن الواقع غالباً.

وسند رواية سليمان بن خالد نقيّة، ورواية أبان وإن كانت مرسلة، لكن


1- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 2.

ص: 175

المرسل هو أبان بن عثمان وهو من أصحاب الإجماع.

واستشكل على الروايتين:

أولًا: أنّ المشكل عند نبيّ من الأنبياء الذي شكى منه إلى الله، هو عدم اطّلاعه عن الواقع، الذي هو عند الله. ويخاف أن يحكم على خلاف ما عند الله. والشاهد على ذلك ما نقل عن استدعاء داود النبيّ (ع)، من الله ذيل المرسلة «فأوحى الله إليه» الميزان الكلّي في باب القضاء وهو الحكم بالبينات والأيمان وليس موظّفاً بالحكم بالواقع، فلا تدلان- رواية سليمان بن خالد ومرسلة أبان- على جواز القضاء بالعلم فيما يكون القاضي عالماً بالموضوع.

ثانياً: على فرض الدلالة، تدلّ على اعتبار العلم الحسّي الذي حصل للقاضي بالرؤية بالعين، أو السماع بالاذن، فلا تدلّ على جواز القضاء بمطلق العلم ولو كان حدسياً، أو قريب الحسّ.

وردّ الأوّل: بأنّ المتفاهم العرفي من شكاية النبي (ص) إلى ربّه، أنّه في الأغلب يترافعان إليه، ويتحاكمان عنده بموضوعات لم يره ولم يكن حاضراً وشاهداً عنده، فالعمدة من المشكل عنده كيفية القضاء في هذه الموارد، فأراه الله كيفيه القضاء فيما كان عنده مشكلًا بحيث لا يعلم الحقّ والواقع ويردّد فيه، فليس سؤاله عن كيفية القضاء بالواقع عند الله، وليس المراد من الوحي إرائة طريق القضاء بنحو الكلّي حتّى فيما كان عالماً به.

وردّ الثاني: بأنّ التعبير من عدم العلم بموضوع، بعدم الرؤية والسماع مرسوم، وكثير وعرفي، خصوصاً قوله في المرسلة كيف أقضي بما لم تر عيني، ولم تسمع اذني؟ فإنّها تأكيد في عدم العلم عرفاً.

ص: 176

هذا كلّه جميع ما يمكن الاستدلال به على القول المشهور، من جواز عمل القاضي بعلمه في حقوق الله وحقوق الناس ورأينا أنّ دلالتها قوية على قول المشهور، والمناقشات والإيرادات عليها قابلة للدفع والرفع ومخدوشة.

والعجب من صاحب «الجواهر» بعد نقل الاستدلال بالآيات وبعض الوجوه المتقدّمة ونقل كلام السيّد في «الانتصار»، من شدّة الإنكار على ابن جنيد،- القائل بعدم جواز العمل بالعلم- ونسبة قلّة التأمّل في أقوال الإمامية واستدلالاتهم بابن جنيد ونقل شدّة الإنكار من غير السيّد أيضاً، على ابن جنيد؛ قال: «ولكن الإنصاف أنّه ليس بتلك المكانة من الضعف ...»(1).

وكان اعتقاده أنّ البحث هنا في أنّ العلم هل هو من طرق الحكم والفصل بين المتخاصمين في جميع الحقوق، بحيث يصحّ للقاضي أن يستند إليه في المحكمة مثل استناده إلى البيّنة والحلف أم لا؟ وليس في شي ء من الأدلّة المذكورة- عدا الإجماع- دلالة على ذلك، بل أقصي ما يدلّ عليه، حجّية العلم لمن حصل له، ولا بدّ أن يترتّب عليه الأثر من التكاليف الشرعية، وذلك لا يقتضي كونه من طرق الحكم.

وهذا هو عمدة الإشكال الذي في أذهان المستشكلين، والقائلين بعدم حجّية العلم للقاضي. ومن الأسف أنّهم (رحمهما الله) إذا بحثّوا عن الأدلّة، كان همّهم تطبيق الأدلّة مع ما في أذهانهم الشريفة. ونحن رأينا بحمد الله عزّ وجلّ أنّ الأدلّة تامّة الدلالة- خصوصاً الآيات الشريفة والأخبار- على جواز استناد القاضي بالعلم. لا حجّية العلم له فإنّ قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا


1- جواهر الكلام 89: 40.

ص: 177

أيْدِيَهُمَا(1) تدلّ على وجوب قطع يد السارق للقاضي، والسارق من تلبّس بالسرقة فإذا علم القاضي بتلبّس أحد، بالسرقة فهو سارق عنده ويجب قطع يده عليه، فلو لم يكن البيّنة أو الحلف حجّة عند الشارع، فهل لم نفهم من هذه الآية شيئاً أو نعلم وجوب الحكم طبق علمه؟ فإنّ الحكم تعلّق بالواقع من غير تعيين الطريق إليه، فإذا ورد الدليل منه على حجّية البيّنة؛ نعلم أنّه وسع الطريق إلى الواقع للقاضي، أي أجاز الشارع للقاضي الانتقال من طريق له كشف تامّ- الحكم بالعلم- إلى طريق له غلبة الكشف- الحكم بالبيّنة- فيما لم يكن الطريق التامّ حاصلًا؛ وهو الأغلب.

وكذا قوله مخاطباً للقرشي في رواية الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (ع): «هذا حكم الله لا ما حكمت به»(2) مشيراً إلى عمل أمير المؤمنين (ع) من استناده بعلمه في القضاء تدلّ على أنّ الاستناد بالعلم للقاضي هو حكم الله وكذا غيرهما من الأدلّة، فلا يبقى شكّ في جواز استناد القاضي بالعلم في الحكم لمن راجع الأدلّة ونظر فيها بالدقّة والتأمّل كخالي الذهن، كما قال السيّد في «الانتصار»: فمن يروي هذه الأخبار مستحسناً لها معوّلًا عليها كيف يجوز أن يشكّ في أنّه كان يذهب إلى أنّ الحاكم يحكم بعلمه لو لا قلّة تأمّل ابن الجنيد (ره) الذي نقله «الجواهر»(3).


1- المائدة( 5): 38.
2- وسائل الشيعة 274: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 18، الحديث 1.
3- راجع: جواهر الكلام 89: 40.

ص: 178

القول الثاني: عدم جواز العمل بالعلم للقاضي مطلقاً

وهو قول ابن الجنيد على ما نسبه إليه في «الانتصار»(1)، فقد استدلّ عليه بوجوه:

الأوّل: الأصل، كما قاله صاحب «الجواهر» من أنّه إذا شككنا في جواز استناد القاضي بعلمه في المحكمة وعدمه، فأصالة عدم ترتّب آثار الحكم عليه يقتضي عدمه.

وفيه: أنّ الأصل مقطوع بالدليل والدليل هنا موجود.

الثاني: العمل بالعلم، قالوا: إنّ العمل بالعلم يعرض الحاكم للتهمة وسوء الظنّ به، وذلك يوجب سقوط مكانته عند الناس، وعدم الاعتماد بقوله، وهو غير مناسب للمنصب.

وفيه: أوّلًا: إنّ نفس تصدّيه للحكم أيضاً يوجب ذلك، كما أنّ تزكية الشهود وقبول قولهم أو جرحهم وعدم قبول قولهم، التي هي من وظائف الحاكم يوجب ذلك أيضاً ولم يكن مانعاً من القضاء.

ثانياً: أنّ القاضي يعتبر فيه العدالة وهي مانعة من اتّهامه بهذا الامور؛ فإنّه مأمون.

الثالث: ادّعاء تزكية النفس، قالوا: إنّ في العمل بالعلم ادّعاء التزكية لنفسه وهذا قبيح.

وفيه: أنّها حاصلة بالجلوس في منصب القضاء وقبول تصدّيه.

الرابع: بناء الحدود على المسامحة، قالوا: إنّ بناء الحدود على المسامحة


1- راجع: الانتصار: 448.

ص: 179

في حدود الله والمطلوب عدم ثبوتها والتستّر على الناس حتّى المقدور على ما يستفاد من الروايات.

وفيه: أنّ الستر يكون مع عدم الثبوت، أمّا إذا ثبت فليس كذلك والعلم ثبوت وظهور بنفسه.

الخامس: صحيحة هشام بن الحكم، صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال رسول الله (ص) إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1).

وتقريب الاستدلال بها أنّ كلمة- إنّما- للحصر وظاهره الحصر الحقيقي فتدلّ على انحصار ما يستند إليه القاضي في أمرين- البينات والأيمان- لا غير، فبمفهوم الحصر تدلّ على نفي حجّية علم القاضي وعدم جواز الاستناد إليه في القضاء.

وعمدة الاستدلال لهذا القول؛ هذه الرواية فإنّهم استفادوا منها أنّ الشارع جعل للقضاء طريقاً وميزاناً لا بدّ للقاضي أن يستند إليه في باب القضاء وهو البيّنة واليمين والعلم خارج عنها، فلا يصحّ الاستناد إليه، وهذا مراد صاحب «الجواهر» من قوله المتقدّم أنّ البحث في أنّ العلم هل هو من الطرق المجعولة للاستناد إليه في القضاء أم ليس في الأدلّة ما دلّ على ذلك؟ يعني أنّ ما كان ميزاناً للإثبات في المحكمة وطريقاً يصحّ الاستناد إليه شرعاً هو البيّنة واليمين لا غير، فلا يمكن الاستناد إلى العلم في المحكمة.


1- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

ص: 180

ويرد على الاستدلال المذكور في رواية هشام بن الحكم، بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الحصر هنا إضافي فإنّ الناس في زمن النبي (ص) كانوا يشاهدون أنّ النبي يخبرهم بما يفعلون في منازلهم؛ أو يقولون في مقام المقابلة مع النبي ويخبرهم من المكر والحيلة في تصميماتهم، وغيرها فعند وقوع المنازعة أو المشاجرة بينهم إذا ترافعوا إليه كان في ذهنهم بحسب الطبع أنّ النبي يحكم بينهم بما علمه الله من الغيب فقوله: «إنّما أقضي بينكم ...» في مقام دفع هذا الأمر؛ يعني لم أحكم بما عندي من علم الغيب، بل أقضي بينكم بالبينات والأيمان، فالحصر إضافي في قبال الواقع عند الله بقرينة ما ذكر، فلا ينافي القضاء باستناد العلم أو الإقرار أو شاهد ويمين المدّعي وغيرها.

الوجه الثاني: أنّ الحصر إضافي أيضاً في قبال قبول صرف الدعوى والألحنية في الخطاب بقرينة ذيل الحديث، فالمراد أنّ صرف الدعوى وإن كانت مقرونة بكون المدّعي خطيباً مفهماً لمقصوده بأحسن بيان؛ لا يكفي ما لم يكن حجّة في البين وقد ذكر الحجّة الغالبة بحسب الموجود أعني البيّنة واليمين.

الوجه الثالث: أنّ كلامه محمول على الغالب، يعني أنّ موارد حصول العلم قليل وأكثر موارد التنازعات والمرافعات ممّا لا يكون القاضي عالماً ولا يحصل له العلم بالموضوع؛ فإنّما هو يقضي بينهم بالبينات والأيمان، فلا يكون نافياً لصحّة الاستناد بالعلم، بل جوازه كان مفروغاً عنه ولكن في الأغلب يقضي بهما لعدم حصول العلم، فكان نظير قول نبي من الأنبياء فيما تقدّم: «كيف أقضي فيما لم أره ولم أشهده». ويشهد لذلك ذيل الرواية يعني قوله (ص) فإنّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النار، فالملاك هو الواقع. والبيّنة

ص: 181

واليمين طريقان إلى الواقع ولكنّهما لا يغيران الواقع، فلو أخطأ فلا يجوز للمحكوم له أخذ ما حكم به فإنّه قطعة من النار فإذا كان الملاك هو الواقع فأيّ طريق إلى الواقع أوفى وأتقن من العلم؟

ويشهد لذلك أيضاً حديث الحسن بن على العسكري (ع) في تفسيره(1) عن أمير المؤمنين (ع) قال: «كان رسول الله يحكم بين الناس بالبيّنات والأيمان في الدعاوي فكثرت المطالبات والمظالم فقال: أيّها الناس! إنّما أنا بشر، وأنتم تختصمون، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض وإنّما أقضي على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من أخيه بشي ء فلا يأخذنّه، فإنّما أقطع له قطعة من النار».

فإنّ قوله: «كان رسول الله يحكم ...» محمول على الغالب ويؤكّد في ذيلها أنّ الخطأ في الطريق لا يغير الواقع، فلا يجوز للمحكوم له أخذه، فإذا كان الملاك هو الواقع، وقلنا أنّ البيّنة والحلف طريقان إليه، فالعلم طريق تامّ للكشف عن الواقع وأقدم من غيره.

السادس: رواية المشايخ الثلاثة، ما روى المشايخ الثلاث عن قول أميرالمؤمنين أنّه قال: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى»(2).


1- وسائل الشيعة 233: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 3.
2- الكافي 432: 7/ 20؛ تهذيب الأحكام 287: 6/ 3؛ وسائل الشيعة 231: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 6. وفيما نقله الصدوق في الخصال في صدره« جميع أحكام المسلمين». وفي آخره« أو سنة جارية مع أئمّة الهدى».( راجع: الخصال: 155)

ص: 182

تقريب الاستدلال بها أنّه (ع) حصر جميع أحكام القضائي للمسلمين في البيّنة واليمين والسنّة أو الطريقة العلمية أو المنقولة من الأئمّة من شاهد واحد، ويمين المدّعي، أو الإقرار، أو القواعد الشرعية، من درء الحدود بالشبهة واليد والاستصحاب وغيرها. والعلم خارج منها ولو كان أحد الطرق هو العلم فلا بدّ أن يذكر مستقلًا.

ولكن يرد عليه: أنّ العلم داخل في الثالثة- السنّة الماضية في الأئمّة- ولا وجه لخروجها، فإنّ أمير المؤمنين (ع) قضى به في موارد كثيرة فيكون من مصاديق السنّة الماضية في الأئمّة.

مضافاً إلى أنّ الرواية وإن نقلها المشايخ الثلاثة، لكن أسنادهم غير نقيّة في مثل أبي جميلة مفضّل بن صالح.

قال ابن الغضائري: «أنه ضعيف كذّاب يضع الحديث»(1).

وقال المحقّق الخوئي: «إنّ مفضّل بن صالح وقع في أسناد «كامل الزيارات» وقد شهد ابن قولويه بوثاقة جميع من وقع في أسناد كتابه»(2).

ولكنّه معارض بما ذكره النجاشي(3) من أنّ ضعف مفضّل بن صالح كان من المتسالم عليه عند الأصحاب. ومع ذلك روى عنه جمع من الأجلّة ومن أجمعت العصابة إلى تصحيح ما يصحّ عنه؛ مثل ابن أبي عمير، والحسن بن محبوب، والبزنطي، وأيضاً كان كثير الرواية وسديدة ومفتى بها(4).


1- رجال ابن الغضائري: 110، رقم 160.
2- معجم رجال الحديث 312: 19، الرقم 12607.
3- رجال النجاشي: 128، رقم 332.
4- معجم رجال الحديث 312: 19، الرقم 12607.

ص: 183

وبالجملة: إذا كان ضعفه متسالم عليه فكثرة الرواية ورواية الأجلّة عنه، لا تدلان على وثاقته، فلا يمكن الاعتماد عليه وفي الأسناد أفراد آخر غير معتمد، فراجع.

السابع: ثلاثة روايات في البيّنة واليمين، ما ورد في الصحيح وغيره من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه وعليها الاستدلال بتقريب واحد.

فمنها: صحيحة هشام، عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال رسول الله (ص) البيّنة على من ادّعى، واليمين على من ادّعي عليه»(1).

ومنها: عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (ع) قال: «إنّ الله حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم، أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعي عليه، واليمين على من ادّعى، لئلا يبطل دم امرئ مسلم»(2).

ومنها: مرسلة صدوق قال: قال رسول الله (ص): «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ...» الحديث(3).

كيفية الاستدلال بالروايات:

وتقريب الاستدلال بها أنّ الظاهر منها: انحصار طريق الإثبات القضائي في أمرين: 1- البيّنة على المدّعي 2- واليمين على المدّعى عليه.


1- وسائل الشيعة 233: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 234: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 3.
3- الفقيه 32: 3/ 3267؛ وسائل الشيعة 234: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 5.

ص: 184

ويرد عليه: أوّلًا: إنّها لا تدلّ على الحصر بوجه، بل يحمل على الغالب.

ثانياً: إنّها غير مرتبط بما نحن بصدده؛ فإنّها في مقام تشخيص أنّ البيّنة على عهدة من، واليمين على عهدة من؟ فإنّها يبين أنّ المدّعي وظيفته الإتيان بالبيّنة والمدّعى عليه وظيفته اليمين. أمّا أنّ طرق الإثبات هل هذين فقط أو يوجد غيرهما أيضاً؟ فلا تكون في مقام بيانه، فلا تدلّ على نفي كون العلم طريقاً إثباتياً.

الثامن: مرسلة يونس: مرسلة يونس، عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي- فهي واجبة- عليه أن يحلف، ويأخذ حقّه، فإن أبى أن يحلف فلا شي ء له»(1).

وتقريب الاستدلال أنّ الرواية تدلّ على انحصار طرق استخراج الحقوق في المحكمة بذلك. ولم يذكر العلم فيعلم أنّه لا يكون من الطرق فلا يجوز الاستناد إليه للقاضي.

يه: أوّلًا: إنّ الرواية ضعيفة سنداً، لكونه مرسلة ومضمرة، سقطت بعض رواته ولم يذكر الإمام المرويّ عنه.

وثانياً: إنّ الرواية منصرفة عن العلم، بل هي في مقام بيان كيفية الاستناد إلى البيّنة واليمين، ولذا لم يتعرّض للإقرار أيضاً.

التاسع: صحيحة ابن فرقد، صحيحة داود بن فرقد، قال: سمعت أبا


1- وسائل الشيعة 241: 27- 242، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 4.

ص: 185

عبدالله (ع) يقول: «إنّ أصحاب رسول الله (ص) قالوا لسعد بن عبادة: أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلًا ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت أضربه بالسيف، قال: فخرج رسول الله (ص) فقال: ماذا يا سعد؟ فقال سعد: قالوا لو وجدت على بطن امرأتك رجلًا ما كنت صانعاً به، فقلت: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد «فيكف بالأربعة شهود» فقال: يا رسول الله بعد رأى عيني وعلم الله أن قد فعل؟ قال: «إي والله بعد رأى عينك وعلم الله أن قد فعل، إنّ الله قد جعل لكلّ شي ء حدّاً وجعل لمن تعدّي ذلك الحدّ حدّاً»(1).

وتقريب الاستدلال بالرواية: أن قول رسول الله (ص): «فكيف بالأربعة الشهود» وأيضاً قوله: «إي والله بعد رأى عينك وعلم الله أن قد فعل؟» ظاهر في أنّ الحدّ لا يجري إلا مع الإثبات بالبيّنة، وأنّ العلم- أي علم كان- لا مدخلية له في القضاء- لا علم الزوج، ولا علم القاضي، ولا علم الله- وأكّده بقوله: «أنّ الله جعل لكلّ شي ء حدّا ...» يعني إنّ الله عزّ وجلّ جعل لإثبات كلّ شي ء ميزاناً وطريقاً ومقرّراً والميزان في حدود الله هو الشهود وإثبات الحدّ في المحكمة بالبيّنة وجعل مادون الأربعة مستوراً.

ويرد عليه: إنّ الذي يظهر من قوله: «فكيف بالأربعة الشهود» أنّه في مقام بيان ردّ قوله: «أضربه بالسيف» وأنّه لا بدّ أن يراجع إلى الحاكم ويشهد عليه البيّنة وبعد ثبوته في المحكمة يحكم القاضي بإجراء الحدّ وليس لك أن تقيم الحدّ بنفسك وإن رأيت بعينك وعلم الله أن قد فعل.

وببيان آخر كان رسول الله بصدد نهي الزوج عن إقامة الحدّ بنفسه، على


1- وسائل الشيعة 14: 28، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 2، الحديث 1.

ص: 186

المتجاوز لزوجته بل لا بدّ أن يثبت ذلك عند الحاكم فيحكم به وليس في مقام بيان عدم جواز عمل القاضي بعلمه، وعدم نفوذ علمه في المحكمة وذكر الأربعة الشهود لبيان ذكر الطريق للزوج لإقامة الحدّ على المتجاوز بإقامة الشهود عند الحاكم على الزنا، والمراد بالحدّ الذي جعل الله لكلّ شي ء هو ذلك ولم يأذن لكلّ أحد إجراء الحدّ.

ولعلّ استظهار ذلك من الرواية واضح لمن له أدني تأمّل في الرواية وأنّها ليست في صدد بيان انحصار الطريق لإثبات الموضوع في المحكمة بالبيّنة ودفع نفوذ علم القاضي. وعلى فرض وجود الإطلاق في الرواية على عدم نفوذ العلم لا للزوج ولا لغيره، وانحصار الطريق إلى إقامة الشهود يقيد الإطلاق بما تقدّم من صحّة قضاء الحاكم بعلمه.

العاشر: النبوي (ص)، ما روي عن النبي (ص) في قصّة الملاعنه: «لو كنت راجماً من غير بيّنة لرجمتها»(1).

بتقريب أنّه إذا وقع اللعان من الزوج عند رسول الله وثبت به زنا الزوجة وكانت محصنة؛ فلا بدّ من رجمها. لكنّه (ص) قال: «لو كنت راجماً من غير بيّنة» يعني لا يثبت حدّ الرجم إلا بالبيّنة، فتدلّ على عدم نفوذ علم القاضي للرجم.

ويرد عليه: أوّلًا: بضعف الرواية سنداً فإنّها عامّي.

ثانياً: أنّه يظهر من تعبيره ب- «لو كنت راجماً» أنّ الحكم في الرجم في غير ثبوته بالبيّنة هو تخيير الحاكم بين الرجم وغيره كما أنّ في صورة الإقرار كان


1- السنن الكبرى، النسائي 407: 7.

ص: 187

الحاكم مخيراً بين العفو والإجراء، فيقول: لو كنت راجماً من غير بيّنة يعني لو كنت اختار الرجم في غير البيّنة لرجمتها، ولكن لا اختار الرجم إلا في مورد البيّنة.

الحادي عشر: علم رسول الله (ص) على امور من يبطن الكفر، ما استدلّ به ابن الجنيد- القائل بهذا القول- كما نقل عنه السيّد في «الانتصار»(1).

قال: ووجدنا الله عزّ وجلّ قد اطّلع رسول الله (ص) على من كان يبطن الكفر ويظهر الإسلام فكان يعلمه ولم يبين (ع) أحوالهم لجميع المؤمنين، فيمتنعوا من مناكحتهم وأكل ذبائحهم.

أراد ابن جنيد أن ينتج من هذا الكلام أنّ رسول الله كان عالماً بامور ولم يترتّب عليه الأثر. كما لا يظهر للمؤمنين كفر المنافقين حتّى امتنعوا من مناكحتهم وأكل ذبائحهم فكذلك لا يعمل بعلمه في القضاء وفي المنازعات، التي تراجعون إليه؛ فيعلم من ذلك عدم جواز عمل القاضي بعلمه في القضاء.

وأجاب عنه السيّد(2) بما حاصله:

أوّلًا: لا نسلّم أنّ الله عزّ وجلّ اطّلع النبي على معاتب المنافقين، فإن استدلّ على ذلك بقوله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ(3). يعني المنافقين الذين في قلوبهم أضغان للنبي؛ فنقول: قلنا هذا لا تدلّ على وقوع التعريف وإنّما تدلّ على القدرة عليه، ولو سلّم لم يلزم ما


1- الانتصار: 494.
2- الانتصار: 494.
3- محمّد( 47): 30.

ص: 188

ذكره ولأنّ تحريم المناكحة والموارثة وأكل الذبائح، إنّما يختصّ بمن أظهر الكفر دون من أبطنها، فلا يجب على النبي أن يبين أحوالهم لأجل هذه الأحكام، انتهى.

أقول: وما ذكره السيّد صحيح فإنّ النبي والأئمّة لم يكونوا عالمين بجميع حالات الكفّار والمنافقين وبواطنهم، نعم لو شاؤوا لعلموا.

ثانياً: إنّ المستفاد من الروايات، أنّ أحكام الطهارة والتوارث وحلّية أكل الذبائح يترتّب على من أقرّ بالشهادتين وإن أبطن الكفر والنفاق وأمّا في القضاء فلا بدّ للحاكم أن يحكم على طبق الواقع فإذا علم بالواقع، لا بدّ له أن يحكم به.

نعم، يعلم من حالات النبي والأئمّة أنّهم لا يحكمون بما عندهم، من علوم الغيبية. أمّا لو حصل لهم علم من طريق عادي يعملون به. كما تقدّم من فعل علي في موارد متعدّدة.

الثاني عشر: موضوعية البيّنة واليمين، الأوّل: أنّ المستفاد من جميع ما ورد من أهل البيت في باب القضاء وكيفية الحكم وأحكام الدعاوي وغيرها؛ انحصار الطريق لإثبات الحقّ أو نفيه في المحكمة بالبيّنة واليمين. كما تقدّم بعضها؛ مثل قوله: «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان» أو قوله: «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» أو: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه» وكذا ما تعرّض فيها بتعارض البينتين أو أحكام اليمين وأمثال ذلك. ولم يرد منهم رواية واحدة- حتّى رواية ضعيفة- دالّة على جواز عمل القاضي بعلمه أو إذا خالف البيّنة أو اليمين مع علمه ما هو وظيفته؛ وأمثال ذلك. وهذا يوجب الاطمئنان على أنّ الطريق منحصر بهما، وليس العلم من الطرق الذي يصلح الاستناد إليه للقاضي.

ص: 189

الثاني: وكذا يستفاد لمن راجع الروايات، في الأبواب المختلفة؛ من كتاب القضاء، أنّ الوجه في حجّية البيّنة واليمين، ليس من جهة الكشف إلى الواقع؛ وما فيهما من الطريقية للواقع، بل لهما موضوعية من غير دخالة للواقع أصلًا، كما يستفاد ذلك من الوحي إلى النبي(1) الذي شكى إلى الله من أجل الحكم والقضاء فيما لم يره ولم يشهده، من قوله تعالى: «أحكم بينهم بالبيّنات وأضفهم إلى اسمي»، فإن الظاهر منه أنّ الميزان الكلّي في القضاء ذلك، من دون نظر إلى الواقع، بل يستفاد عن بعض الروايات، في اليمين أنّه إذا رضي المدّعي بيمين المنكر وحلف المنكر، ذهبت اليمين بحقّه، فلا يجوز له المطالبة بعده. ولا التقاصّ لو وقع من المنكر مال عنده وقال (ع): «وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله»(2) فراجع، فإنّ ظاهر هذه الرواية أنّ لليمين موضوعية وخصوصية صارت حجّة من هذه الجهة، لا من جهة كشفه عن الواقع فعلى هذا لا يبقى وجه لأن يقال: إنّ العلم أقوى حجّة وأوفى طريقاً للواقع من البيّنة واليمين.

ويرد على الأوّل: أنّ جميع هذه الروايات، محمولة على الغالب؛ فإنّ في أكثر موارد القضاء ليس للقاضي فيها، علم بالواقعة. أو منصرفة عن صورة حصول العلم للقاضي.

قال السيّد في «العروة»(3)- بعد نقله الروايات- والجواب أنّه منزّل على الغالب،


1- راجع: وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 244: 27- 245، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.
3- راجع: العروة الوثقى 458: 6.

ص: 190

من عدم العلم للحاكم.

وكذا صاحب «الجواهر»، فإنّه بعد حمايته عن ابن جنيد بقوله: «والإنصاف أنّه ليس بتلك المكانة من الضعف» ونقله الروايات المدّعاة ظهورها في حصر طريق الحكم بالبيّنة واليمين. قال: «اللهمّ إلا أن يحمل ذلك كلّه على ما هو الغالب، أو الظاهر منها في صورة عدم العلم خصوصاً مع ملاحظة إجماع الأصحاب»(1).

ويرد على الثاني: أنّ قوله- ذيل صحيحة هشام بن الحكم-: «فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(2) وكذا قوله (ص): «فمن قضيت له من حق أخيه بشي ء فلا يأخذنّه فإنّما أقطع له قطعة من النار» صريحة في أنّ الميزان هو الواقع وأنّ البيّنة أو اليمين، لا يفيدان الواقع فإذا خالفا الواقع، فيحرم أخذه ممّن يأخذه ويوجب تقييد ما فيه الإطلاق.

نعم، بعد رضى المدّعي بيمين المدّعى عليه فإذا حلف المنكر، فلا يجوز له المطالبة أو التقاصّ والوجه فيه أنّه مخالف لفصل الخصومة ورفع النزاع، فإنّ وظيفة الحاكم، بل فلسفة تشريع القضاء هو فصل الخصومة، فإذا حكم القاضي وحصل الفصل، فلا يجوز ردّه ونقضه كما تقدّم. لا أنّه ليس له طلب في الواقع، وليس المنكر مديوناً واقعاً، فيحكم الحاكم فيتمّ النزاع، بل الحقّ في الواقع ثابت لذي الحقّ وهو يطالبه في الآخرة.

عدم الفرق بين العلم الحسّي والحدسي في جواز القضاء بالعلم

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ المستفاد ممّا تقدّم؛ من الأدلّة على نفوذ علم القاضي


1- جواهر الكلام 90: 40.
2- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

ص: 191

وحجّيته، عدم الفرق بين العلم الحسّي والعلم الحدسي. والقاضي كما يصحّ له الاستناد بالعلم، الذي يحصل له من طرق الحواسّ، مثل أن رأى وقوع القتل والضرب والسرقة من رجل أو سمع من شخص ارتكابه لها أو غيرهما، وكذا العلم الذي حصل له من مبادي الحسّية حيث يعبّر عنه بالعلم القريب من الحسّ؛ كذلك يصحّ له الاستناد بالعلم الحدسي الذي حصل له من اجتماع القرائن والشواهد والأمارات، فإنّ القاضي إذا علم بأمر من القرائن والشواهد فإنّه يرى أنّ الحكم على طبقه حقّ وعدل، والحكم على خلافه حكم على غيرالحقّ وعلى غير ما أنزل الله، فلا بدّ له من أن يحكم عليه، بمقتضى قوله تعالى: وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(1) وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللهُ فَاوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(2) وكذا إذا علم من طريق الحدس القطعي بوقوع الزنا من شخص، فقد تحقّق عنده الموضوع فيجب عليه الحكم بالجلد، بمقتضى قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأخُذْكُمْ بِهِمَا رَأفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(3).

وكذا لا فرق في أقوائية العلم من البيّنة بين العلم الحسّي والحدسي، فإنّ العلم الحدسي أيضاً طريق وكاشف تامّ للواقع، فإذا كانت حجّية البيّنة والحلف من جهة الكشف فحجّية العلم أقوى منهما.


1- الزمر( 39): 69 و 75.
2- المائدة( 5): 47.
3- النور( 24): 2.

ص: 192

التفصيل بين العلم الحسّي و الحدسي

قد يقال: أنّه يجوز للقاضي أن يستند إلى العلم الحسّي أو القريب بالحسّ، وهو طريق إثباتي للقضاء دون العلم الحدسي و ذلك لأمرين.

الأمر الأوّل: ما يستفاد من صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبدالله (ع) قال: «في كتاب علي (ع) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أر ولم أشهد؟ قال: فأوحى الله إليه أحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1).

بتقريب: أنّ المفهوم من كلام النبي من قوله: «كيف أقضي فيما لم أره» أنّ جواز القضاء بالعلم كان مفروغاً عنه، وحيرته وشكايته كان عمّا ليس له علم، فلو لم يمكن هذا المفهوم مورداً للتصديق فلا بدّ لله (سبحانه و تعالى) من ردّه ولكنّه (سبحانه و تعالى) سكت عنه وهذا السكوت إمضاء لما يفهم من كلامه ثمّ جعل له الطريق في غير مورد العلم وهو الحكم بالبيّنات واليمين. ولكن العلم المشار إليه في صريح كلامه هو العلم الحاصل من طريق الرؤية، يعني الحسّي الخاصّ ولما لم يكن للرؤية خصوصية يتعدّى منه إلى العلم الحسّي المطلق، أي الحاصل من الحواسّ ولم يكن للحواسّ أيضاً خصوصية، بل العمدة أن يكون من الحسّ- بلا واسطة كان أو مع الواسطة- فيتعدّى منه إلى علم الحاصل من مبادي الحسّية أيضاً، فالعلم الحسّي والقريب من الحسّ، يكون مورداً للسكوت الإمضائي ويبقى غيره- أي العلم الحدسي- تحت عدم الحجّية وعدم جواز الاستناد إليه، وإذا ثبت حجّية العلم الحسّي أو ما يقرب منه وجواز استناد القاضي إليه دون الحدسي، فيقيد بها جميع


1- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

ص: 193

ما دلّ على حجّية العلم مطلقاً.

الأمر الثاني: الروايات الدالة على أن الشهادة يعتبر أن يكون عن حس أو ما يكون قريباً من الحس، بدعوى التعدّي من الشهادة إلى القضاء لعدم احتمال الفرق أو أهونية الشهادة من القضاء عرفاً. وهي ما روي عن على بن غياث واخرى عن علي بن غراب عن أبي عبدالله قال: «لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك»(1).

وما رواه المحقّق في «الشرائع» مرسلًا، عن النبي (ص) وقد سئل عن الشهادة، قال: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(2)، فإذا تعدّينا من باب الشهادة إلى باب القضاء قيّدنا بذلك إطلاقات القضاء بالحقّ والعدل.

ويرد على الأمر الأوّل: أنّ عدم ذكر الخصوصية للرؤية والشهود، في كلام النبيّ معلوم وكان مورداً لقبول المستدلّ، فحينئذٍ نقول: كما أنّه يحتمل أن يكون ذكرهما من باب أنّهما فردان من مطلق العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ ويحتمل أيضاً أن يكون من باب أنّهما فردان من مطلق العلم؛ والمتفاهم العرفي من هذا الكلام هو الثاني، فإنّه كثيراً ما يذكر الرؤية ويراد منها العلم فيكون معناه «كيف أقضي فيما لم أعلم؟» فإنّ الفرق بين العلم الحسّي والحدسي في العرف غير مأنوس، فالرواية تدلّ بالسكوت على الإمضاء والتصديق على جواز الاستناد إلى العلم للقاضي مطلقاً.

ويرد على الأمر الثاني:


1- وسائل الشيعة 341: 27، كتاب الشهادات، الباب 20، الحديث 1.
2- شرائع الإسلام 917: 4؛ وسائل الشيعة 341: 27، كتاب الشهادات، الباب 20، الحديث 1.

ص: 194

أوّلًا: عدم تمامية الروايات سنداً.

ثانياً: احتمال وجود الفرق بين باب الشهادة والقضاء عرفاً لو تمّت تمامية الروايات سنداً، فإنّ الشاهد إذا كان علمه غير حسّي يمكنه السكوت وعدم الشهادة، وأمّا القاضي إذا حصل له العلم الحدسي وقام الدليل القضائي من البيّنة أو اليمين، على خلاف علمه، فلا بدّ له إمّا أن يقضي بعلمه أو يقضي بما يعلم خطأه وخلافه للواقع، ولا يجوز له عدم القضاء في المورد، فإنّه لا يجوز له الاستنكاف عن القضاء فإنّ وظيفته فصل الخصومة ورفع التنازع شرعاً وعرفاً، فهذا أحد وجوه الفرق بين البابين عند العرف.

حاصل الكلام من القول الثاني (وهو المختار)

فثبت من جميع ما تقدّم جواز عمل القاضي بعلمه في حقوق الله وفي حقوق الناس، سواء كان العلم الحاصل له من طريق الحواسّ وما يقرب منه، أو من القرائن المفيدة للعلم. نعم، قال السيّد اليزدي في «ملحقات العروة»: «يمكن أن يقال إنّ الجواز مختصّ بالعلم الحاصل من الأسباب العادية، لا الحاصل من الجفر أو الرمل أو النوم أو نحو ذلك»(1) انتهى كلامه.

وهو الحقّ وكان نظر سماحة الاستاذ الإمام الخميني هكذا في جواب الاستفتاء منه (قدس سره) في أوائل استقرار النظام الجمهوري الإسلامي و النظام القضائي في إيران الإسلامية.

والدليل على ذلك انصراف الأدلّة الدالّة على حجّية العلم للقاضي عن مثل


1- العروة الوثقى 458: 6، ذيل مسألة 43.

ص: 195

هذا العلم، فإنّ دليل وجوب الحكم بالحقّ والعدل ظاهر في الحقّ الذي يعلم به بطريق عادية يحصل منها العلم بالحقّ لكلّ من حصل للجميع له ذلك الأسباب والطرق. لا العلم الحاصل من طريق غير عادية كإخبار من يدّعي قدرته على كشف الضالّة والسارق والقاتل من طرق خفية أو يعتقد بالاستخارة فيحصل له العلم منها وغير ذلك.

مضافاً إلى أنّ الدليل الذي استند إليه القاضي في المحكمة لا بدّ أن يكون قابلًا للاعتماد والاطمئنان لطرفي النزاع، بل لجميع الحاضرين في المجلس ولمن يسمع الحكم حتّى يوجب الاحترام والتسليم مقابل حكم القاضي لا الاعتراض، بل التنفّر عنه.

ولا يخفى على من اطّلع عن الوقايع الذي يطرح في المحاكم الفعلية في الامور المهمّة، وغيرها أنّ المتداول ممّا يستند القاضي إليه في الأكثر والأغلب لكشف الحقايق هو العلم الحاصل له من جميع القرائن والشواهد عن إخبار الخبراء والمتخصّصين في العلوم المختلفة، والتحقيق من طرق مختلفة ومن أفراد كثيرة المطّلعين عن الواقعة وكان القرائن بحيث لو علم بها أيّ شخص، يحصل له العلم بالواقع. وليس هذه الوقايع مورداً للبيّنة أو اليمين أصلًا. وليس إرجاع الأمر إلى الخبراء والمطّلعين، والمتخصّصين من باب إرجاع الأمر إلى البيّنة، بل من باب إرجاع الأمر إلى العالم والاستفادة من علمه وتبحّره وتجربته. ولعلّه ليس فيهم شرائط قبول الشهادة أصلًا ولو قلنا بعدم جواز العلم الحدسي الذي حصل للقاضي من ذاك الطرق لانسدّ باب القضاء والحكم في أغلب الموارد.

والذي يظهر من المراجعة إلى قضايا أمير المؤمنين (ع) الذي قال رسول

ص: 196

الله (ص) في حقّه: «أقضاكم علي»- أنّه يقضى بما يوجب العلم عادياً لكلّ أحد علماً حسّياً أو حدسياً، كما نقل صاحب الوسائل بعض هذه الأخبار(1) فإنّه حكم فيها على أساسٍ علمي طبّي أو عاطفي يوجب العلم لكلّ أحد منها بالواقع وإن لم يكن حسّياً.

القول الثالث: الجواز في حقوق الناس لا في حقوق الله

احتجّ القائل بجواز استناد القاضي في القضاء إلى علمه في حقوق الناس دون حقوق الله؛ بابتناء حقوق الله على المسامحة والرخصة والستر فلا يناسب الحكم بالعلم(2).

وفيه نظر؛ لأنّ المسامحة قبل العلم لا بعده، فإنّ القاضي إذا علم بالحكم فلا يجوز له الإغماض عنه؛ فإنّه يوجب تعطيل حدود الله.

القول الرابع: الجواز في حقوق الله لا في حقوق الناس

والقائل به ابن جنيد على ما نسب إليه في «المسالك» وقال في «المسالك» لم يذكر للقول بجوازه في حقوق الله دون حقوق الناس، دليلًا(3).

تنبيه: بعد أن أكملنا البحث في القول الأوّل أي الجواز مطلقاً سواء في حقوق الله أم في حقوق الناس. والقول الثاني أي عدم الجواز مطلقاً كذلك، وأتممنا البحث في الردّ على القول الثاني فلا يهمّنا البحث عن القول الثالث والرابع.


1- راجع: وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الأبواب 1 و 20.
2- راجع: الوسيلة: 218؛ السرائر 179: 2.
3- راجع: مسالك الأفهام 383: 13.

ص: 197

فصل: في موارد الاستثناء

قال في «المسالك»: «واعلم أنّ من منع من قضائه بعلمه استثني صوراً»(1).

1- تزكية الشهود وجرحهم لئلا يلزم الدور، أو التسلسل، فإنّه إذا علم بأحد الأمرين وتوقّف في إثباته على الشهود؛ فإن اكتفى بعلمه بتزكية المزكّى أو الجارح، فقد حكم بعلمه وإلا افتقر إلى آخرين. وهكذا، فيلزم التسلسل إن لم يعتبر شهادة الأوّلين أو الدور إن اعتبرها في حقّ غيرهما.

لكن يرد عليه: أنّ البيّنة حجّة شرعاً وإن لم يحصل للقاضي منها العلم، فلا بدّ للقاضي العمل بالبيّنة المزكّى أو الجارح من دون استلزام الدور والتسلسل.

2- الإقرار في مجلس القضاء وإن لم يسمعه غيره.

3- العلم بخطأ الشهود يقيناً أو كذبه.

4- تعزير من أساء أدبه من مجلسه وإن لم يعلمه غيره لأنّه من ضرورة حفظ ابهّة القضاء.

5- أن يشهد معه آخر أي يصير القاضي أحد الشاهدين، فإنّه لا يقصر عن شاهد. ولا يخفى: أنّه بناءً على ما قلنا من جواز عمل القاضي بعلمه فلا إشكال فيها وأمّا بناءً على القول بالعدم فلا وجه للاستثناء فيها خصوصاً في الأخير، فإنّه يلزم كون القاضي أحد الشاهدين وجزء البيّنة فإذا حكم بعلمه ففي الحقيقة يحكم بالبيّنة التي نفسه أحدهما، وذلك خارج عن ظهور أدلّة حجّية البيّنة والعمل بها، فإنّ ظاهرها حضور البيّنة عند القاضي واستناد القاضي في الحكم إليها لا أن يكون القاضي نفسه، جزءاً منها.


1- مسالك الأفهام 385: 13.

ص: 198

بل لا يجوز له الحكم بالبيّنة إذا كانت مخالفة لعلمه، أو إحلاف من يكون كاذباً في نظره (6).

في عدم جواز الحكم بالبيّنة إذا كانت مخالفة لعلم القاضي

(6) أي إذا قامت البيّنة على خلاف ما علمه القاضي أو أقرّ المدّعى عليه بأمر يعلم القاضي كذبه في إقراره، لا يجوز للقاضي الحكم باستنادهما، وكذا لا يجوز له إحلاف من يعلم أنّه يحلف كاذباً.

وقد استدلّ على ذلك بوجوه:

منها: أنّ مفاد دليل اعتبار الأمارات والطرق مقيد بعدم العلم على الخلاف، فلو قامت الأمارة على ما علم خلافها فليست بحجّة ولا يجوز للقاضي الاستناد إليها.

منها: أنّ الأدلّة الدالّة على جواز استناد القاضي بالبيّنة أو الحلف منصرفة عن صورة حصول العلم للقاضي كما تقدّم.

منها: أنّ حجّية البيّنة والحلف من باب جعل الطريق، ولا إشكال في أنّ جعل الطريق كان للشاكّ ومن كان عالماً بالواقع فلا يعقل جعل الطريق له.

منها: أنّه إذا كان عالماً بالواقع فحكمه على خلافه باستناد البيّنة أو الحلف حكم بغير ما أنزل الله.

والحاصل: أنّ القاضي إذا كان عالماً، لا يجوز له مطالبة البيّنة التي كانت على خلاف علمه، كما لا يجوز له إحلاف من يعلم أنّه يحلف كاذباً. بل لا يجوز له طلب البيّنة التي يعلم أنّها تقام على طبق علمه. ولا يجوز له إحلاف من

ص: 199

نعم، يجوز له عدم التصدّي للقضاء في هذه الصورة مع عدم التعين عليه. (7)

مسألة 9: لو ترافعا إليه في واقعة قد حكم فيها سابقاً، يجوز أن يحكم بها على طبقه فعلًا إذا تذكّر حكمه وإن لم يتذكّر مستنده، وإن لم يتذكّر الحكم فقامت البيّنة عليه جاز له الحكم، وكذا لو رأى خطّه وخاتمه وحصل منهما القطع أو الاطمئنان به. ولو تبدّل رأيه فعلًا مع رأي سابقه الذي حكم به، جاز تنفيذ حكمه إلا مع العلم بخلافه؛ بأن يكون حكمه مخالفاً لحكم ضروري أو إجماع قطعي، فيجب عليه نقضه.

يعلم أنّه يحلف موافقاً لعلمه؛ لما قلنا من عدم الحجّية لهما مع علمه بالواقع.

قال السيّد في «ملحقات العروة»: «بل لا يجوز له طلب البيّنة وإن علم أنّهما يشهدان على طبق علمه؛ لأنّه إلزام بغير الموجب»(1).

وكذا لا يجوز له إحلاف المنكر إن علم أنّه يحلف على طبق علمه إلا أن يكون تركه موجباً لاتّهامه.

(7) الوجه أنّه مع عدم التعين عليه لا يجب عليه أن يقضي بعلمه، للأصل.

ولكن يمكن أن يرد عليه: أنّ وظيفة القاضي- شرعاً وعرفاً- هو فصل الخصومة وحلّ القضية. ولا يجوز له الاستنكاف ولو مع عدم التعين فإنّ فيه تضييع الحقوق واستمرار المنكر والظلم.


1- العروة الوثقى 460: 6، مسألة 44.

ص: 200

مسألة 10: يجوز للحاكم تنفيذ حكم من له أهلية القضاء من غير الفحص عن مستنده، ولا يجوز له الحكم في الواقعة مع عدم العلم بموافقته لرأيه، وهل له الحكم مع العلم به؟ الظاهر أنّه لا أثر لحكمه بعد حكم القاضي الأوّل بحسب الواقعة. وإن كان قد يؤثّر في إجراء الحكم كالتنفيذ فإنّه أيضاً غير مؤثّر في الواقعة وإن يؤثّر في الإجراء أحياناً. ولا فرق في جواز التنفيذ بين كونه حيّاً أو ميّتاً، ولا بين كونه باقياً على الأهلية أم لا؛ بشرط أن لا يكون إمضاؤه موجباً لإغراء الغير بأنّه أهل فعلًا.

مسألة 11: لا يجوز إمضاء الحكم الصادر من غير الأهل؛ سواء كان غير مجتهد أو غير عادل ونحو ذلك؛ وإن علم بكونه موافقاً للقواعد، بل يجب نقضه مع الرفع إليه أو مطلقاً.

مسألة 12: إنّما يجوز إمضاء حكم القاضي الأوّل للثاني إذا علم بصدور الحكم منه؛ إمّا بنحو المشافهة، أو التواتر، ونحو ذلك. وفي جوازه بإقرار المحكوم عليه إشكال. ولا يكفي مشاهدة خطّه وإمضائه، ولا قيام البيّنة على ذلك. نعم، لو قامت على أنّه حكم بذلك فالظاهر جوازه.

ص: 201

القول: في وظائف القاضي

اشارة

وهي امور:

الأوّل: يجب التسوية بين الخصوم- وإن تفاوتا في الشرف والضعة- في السلام والردّ والإجلاس والنظر والكلام والإنصات وطلاقة الوجه وسائر الآداب وأنواع الإكرام والعدل في الحكم. (1)

هل يجب على القاضي رعاية الآداب أم لا؟

اشارة

(1) هذه المسألة يبحث عن آداب القضاء وما يناسب للقاضي رعايتها في مجلس القضاء.

ذكر الإمام (ره) ثمانية منها. وأعرض عن ذكر الباقي بقوله: «وسائر الآداب وأنواع الإكرام». ولمزيد الاطّلاع على الآداب أثبتنا في الهامش كلام الفاضل النراقي في إعداد وظيفة الحاكم.

إنّما الكلام في أنّها واجبة على القاضي أو لا يجب؟ بل كانت رعايتها

ص: 202

مستحبّاً، أو فيه التفصيل بين الإنصاف والعدل؟ فإنّهما واجبان على القاضي و بين غيرهما فلا يجب، في المسألة أقوال:

القول الأوّل: الوجوب مطلقاً

ذهب الماتن إلى الوجوب في الجميع. وادّعى صاحب «المسالك» عليه الشهرة(1)


1- من وظيفة الحاكم أن يسوي بين الخصمين في السلام عليهما، وجوابه لهما، وإجلاسهما، والقيام لهما، والنظر والاستماع والكلام وطلاقة الوجه، وسائر أنواع الإكرام. ولا يخصّص أحدهما بشي ء من ذلك، لأنّه ينكسر به قلب الآخر، ويمنعه من إقامة حجّته. ومنه ممازحة أحدهما، ومسارته، وانتهاره إلا أن يفعل ما يقتضيه. ولو لم يمكن التسوية بينهما في جواب السلام ابتداء، بأن يسلم أحدهما دون الآخر، فيصبر هنيئة رجاء أن يسلم الآخر فيجيبهما معاً. فإن طال الفصل بحيث يخرج عن كونه جواباً للأوّل فليرد قبله على المسلم. وقيل: لا بأس بأن يقول للآخر: سلم، فإذا سلم أجابهما، ويعذر في الاشتغال بغير الجواب لئلا يبطل معنى التسوية. ومعنى التسوية بينهما في المجلس أن يجلسهما بين يديه معاً، لما فيه- مع التسوية بينهما- من سهولة النظر إليهما والاستماع لهما. هذا إذا كانا مسلمين أو كافرين. أما لو كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً جاز أن يرفع المسلم في المجلس، لما روي أنّ عليّاً( ع) جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهودي في درع، وقال:« لو كان خصمي مسلماً لجلست معه بين يديك، ولكنّي سمعت رسول الله( ص) يقول: لا تساووهم في المجلس». ثمّ التسوية بين الخصمين في العدل في الحكم واجبة بغير خلاف. وأمّا في الامور الباقية فهل هي واجبة أم مستحبّة؟ الأكثرون على الوجوب، لما روي عن النبي( ص) أنه قال:« من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر». وقول أمير المؤمنين( ع):« من ابتلى بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة، وفي النظر، وفي المجلس». وقيل: إنّ ذلك مستحبّ، واختاره العلامة في المختلف، للأصل، وضعف ... مستند الوجوب، وصلاحيته للاستحباب. وإنّما عليه أن يسوي بينهما في الأفعال الظاهرة، وأمّا التسوية بينهما بقلبه بحيث لا يميل إلى أحدهما به فغير مؤاخذ به ولا محاسب عليه، لأنّ الحكم على القلب غير مستطاع، وقد كان رسول الله( ص) لما قسم بين نسائه يقول:« اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، وأنت أعلم بما لا أملك» يعني: الميل القلبي.( مسالك الأفهام 427: 13- 429)

ص: 203

وقال في «الرياض» إنّ الوجوب هو الأظهر الأشهر(1) وفاقاً للصدوقين(2).

وقال العلامة في «القواعد»: «ويجب على الحاكم التسوية بين الخصمين إن تساويا في الإسلام والكفر، في القيام، والنظر، وجواب السلام، وأنواع الإكرام، والجلوس، والإنصات، والعدل في الحكم»(3).

وقال المحقّق في «الشرائع»: «الأولى من وظائف القاضي التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والانصاف والعدل في الحكم»(4).

ولعلّ عطف الأخيرين الواجبين على غيرهما ظاهر في وجوب التسوية في الجميع.

واستدلّ على الوجوب بروايات:

منها: ما رواه سلمة بن كهيل عن أمير المؤمنين في حديث طويل: «... ثمّ واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتّى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك»(5).

بتقريب أنّ الخطاب إلى شريح القاضي ويأمره بوجوب رعاية هذه الامور بما هو قاضي في المحكمة بقرينة التعليل فيه والأمر فيه ظاهر في الوجوب.

وسندها وإن كانت ضعيفة من جهة عمرو بن أبي المقدام وهو لم يوثق، وكذا سلمة بن كهيل، ولكن في السند حسن بن المحبوب وهو من أصحاب


1- راجع: رياض المسائل 79: 13.
2- راجع: المقنع: 397.
3- قواعد الأحكام 428: 3.
4- شرائع الإسلام 870: 4.
5- وسائل الشيعة 211: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 1، الحديث 1.

ص: 204

الإجماع مضافاً إلى عمل المشهور عليها.

ومنها: رواية السكوني، عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال أمير المؤمنين (ع) من ابتلى بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النظر، وفي المجلس»(1).

ومنها: ما روي عن النبي (ص) أنّه قال: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده، ولا يرفعنّ صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر»(2).

ومنها: ما عن «الكافي» عن أبي عبدالله قال: «قال أمير المؤمنين (ع) لعمر بن الخطّاب ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شي ء سواهنّ، قال: وما هنّ يا أبا الحسن؟ قال: إقامة الحدود على القريب و البعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود قال عمر: لعمري لقد أوجزت وأبلغت»(3).

الظاهر أنّ الاستشهاد بقوله: «والقسم بالعدل» فإنّ الظاهر منه لزوم التسوية في الامور المتقدّمة.

ومنها: ما رواه المشايخ الثلاث «أنّ رجلًا نزل بأمير المؤمنين (ع) فمكث عنده أياماً ثمّ تقدّم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين فقال له أخصم أنت؟ قال: نعم، قال: تحوّل عنّا فإنّ رسول الله (ص) نهى أن يضاف


1- وسائل الشيعة 214: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 3، الحديث 1.
2- مسالك الأفهام 428: 13؛ راجع: سنن الدار قطني 131: 4/ 4420؛ السنن الكبرى 76: 2/ 20961.
3- وسائل الشيعة 212: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 1، الحديث 2.

ص: 205

الخصم الا ومعه خصمه»(1) ولا يخفى أنّ سند أكثرها ضعيف ولكنّها مورد عمل الأصحاب خصوصاً رواية سلمة بن كهيل الذي وقع في سندها من كان من أصحاب الإجماع.

القول الثاني: عدم الوجوب مطلقاً

وقال ابن إدريس: «ويستحبّ أن يكون نظره إليهما واحداً ومجلسهما بين يديه على السواء لا أنّ ذلك واجب على ما يتوهّمه من لا بصيرة له بهذا الشأن»(2).

وكذا سلار بعد ذكر الامور المذكورة قال: «فهذا كلّه ندب»(3).

قال في «مفتاح الكرامة»: «أمّا العدل في الحكم، فلا خلاف في وجوبه، وأمّا ما عداه فهو مختار أكثر الأصحاب، بل لم يخالف فيما أحد سوى من يأتي ذكره». ثمّ استدلّ بما تقدّم من الروايات، ثمّ قال: «والضعف منجبر بفتوى أكثر الأصحاب»(4).

مضافاً إلى أنّ حرمة القضاء وكونه من المناصب الإلهية تقتضي ذلك، بل لا ينتظر منه إلا المساواة في أنواع الإكرام بين الخصوم، بل عدم رعايتها من القاضي يوجب هتك احترام مجلس القضاء وهذا ينافي العدالة.


1- الكافي 413: 7/ 4؛ تهذيب الأحكام 226: 6/ 544؛ 12: 3/ 3236؛ وسائل الشيعة 214: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 3، الحديث 2.
2- السرائر 157: 2.
3- المراسم: 231.
4- مفتاح الكرامة 30: 10.

ص: 206

وأمّا التسوية في الميل بالقلب فلا يجب. (2)

وذهب شيخنا الأنصاري (ره) إلى عدم الوجوب(1).

واستدلّ القائل باستحباب الامور المذكورة:

1- بما تقدّم من الروايات: حيث يتسامح في أدلّة السنن: قال في «مفتاح الكرامة»- بعد الاستدلال بما تقدّم من الروايات- والمضعّف منجبر بفتوى أكثر الأصحاب بتلك الروايات حيث يسامح في أدلّة السنن.

وفيه بل الظاهر من الروايات هو الوجوب بلا شبهة. لأنّه بعد انجبار ضعفها بعمل الأصحاب تكون الروايات ظاهرة الدلالة على المطلوب وهو الوجوب مطلقاً.

2- استدلّ الشيخ الأنصاري بالأصل- بعد تضعيف روايات الوجوب سنداً.- ثمّ قال: هذا، مضافاً إلى كون ذلك- أي الوجوب- حرجاً على القاضي. وفيه لا مجال للأصل بعد أثبتا الظهور للروايات في الوجوب.

مستثنيات وجوب التسوية على القاضي

(2) استثني من وجوب التسوية على القاضي أمران:

الأمر الأوّل: التسوية في الميل القلبي بمعنى محبّة أحدهما أو الميل إلى التكلّم معه والقرب إليه في المجلس والتعظيم له أو الميل إلى أن يكون حكم الله موافقاً لهواه. وذلك لأنّه غير مقدور غالباً.


1- راجع: القضاء والشهادات 113: 22.

ص: 207

قال في «الجواهر»: وقد كان رسول الله يقول في القسم بين نسائه: «هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك»(1) يعني الميل بالقلب.

وما في خبر ابن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (ع) قال: «كان في بني إسرائيل قاضٍ، و كان يقضي بالحقّ فيهم، فلمّا حضره الموت قال لامرأته: إذا أنا متّ فاغسليني و كفّنيني و ضعيني على سريري وغطّي وجهي، فإنّك لا ترين سوءاً، فلمّا مات فعلت ذلك، ثمّ مكث بذلك حيناً، ثمّ إنّها كشفت عن وجهه لتنظر إليه، فإذا هي بدودةٍ تقرض منخره، ففزعت من ذلك، فلمّا كان اللّيل أتاها في منامها، فقال لها: أفزعك ما رأيت؟ قالت: أجل فقال لها: أما لئن كنت فزعت ما كان الّذي رأيت إلا في أخيك فلانٍ، أتاني و معه خصمٌ له، فلمّا جلسا إليّ قلت: اللهمّ اجعل الحقّ له، و وجّه القضاء على صاحبه، فلمّا اختصما إليّ كان الحقّ له، و رأيت ذلك بيّناً في القضاء فوجّهت القضاء له على صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان مع موافقة الحقّ»(2).

قد يقال إنّه محمول على ضرب من الحثّ على المراتب العالية كما عن «الجواهر»(3) والمراد أنّه يؤكّد أن يجتهد القاضي حتّى أمكن له التسوية في الميل القلبي ويقدر عليه.

قال في «مفتاح الكرامة»(4): نعم، لو أمكن ولو بجهد استحبّ كما أشار إليه في


1- جواهر الكلام 142: 40.
2- وسائل الشيعة 225: 27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 9، الحديث 2.
3- جواهر الكلام 142: 40.
4- مفتاح الكرامة 30: 10.

ص: 208

«الدروس»(1) واستدلّ بهذا الرواية.

ولكن يشكل ذلك، بأنّ الظاهر من الرواية أنّ القاضي عوقب لهواه لقوله: «فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان مع موافقة الحقّ»، وهذا ينافي الحمل على المراتب العالية. ولذا حمل الشيخ الأنصاري الرواية على الكراهة قال: «نعم، يكره حبّ توجّه القضاء لأحدهما على صاحبه، وإظهار ذلك ولو لله سبحانه بالدعاء، كما في رواية الثمالي»(2).

وحمله في «المستند»(3) على أنّ المؤاخذة في الرواية كانت على إظهار ما في قلبه لله (سبحانه و تعالى) ولو لم يظهره على الخصمين بقوله: قلت: «اللهمّ اجعل الحقّ له».

وهذا أولى ممّا قاله في «الجواهر» وغيره على ما يظهر من الرواية.

الأمر الثاني: ما إذا كان أحدهما غير مسلم، فيجوز تكريم المسلم زائداً على خصمه في المجلس وغيره.

قال في «الجواهر»(4) بلا خلاف، بل في «الرياض»(5) إنّه كذلك قولًا واحداً. وذلك لاختصاص الحكم في بعض الروايات بالتسوية بين المسلمين كما في رواية سلمة وبعضها الآخر منصرف إلى ذلك.

وقد ورد أنّ أمير المؤمنين (ع) ترافع مع يهودي إلى شريح في درع، فقام شريح وجلس الأمير (ع) مكانه وجلس شريح واليهودي بين يديه، فقال: لولا أنّه


1- الدروس الشرعية 74: 2.
2- القضاء والشهادات، الشيخ الأنصاري: 114.
3- راجع: مستند الشيعة 115: 17.
4- جواهر الكلام 143: 40.
5- رياض المسائل 79: 13.

ص: 209

هذا إذا كانا مسلمين، وأمّا إذا كان أحدهما غير مسلم يجوز تكريم المسلم زائداً على خصمه. وأمّا العدل في الحكم فيجب على أيّ حال. (3)

الثاني: لا يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين شيئاً يستظهر به على خصمه، كأن يدّعي بنحو الاحتمال، فيلقّنه أن يدّعى جزماً حتّى تسمع دعواه، أو يدّعي أداء الأمانة أو الدين فيلقّنه الإنكار. وكذا لا يجوز أن يعلّمه كيفية الاحتجاج وطريق الغلبة.

ذمّي لجلست معه بين يديك غير أنّي سمعت النبي لا تساووهم في المجلس(1).

(3) وذلك لما ورد في الآيات الكريمة والروايات المستفيضة.

منها قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ(2) أو فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ(3) وقوله عزّ وجلّ: إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ(4) وقوله عزّ وجلّ: يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئآنُ قَوْمٍ عَلَى ألا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقْوَى(5) ولا فرق ذلك بين كونها مسلمين، أو كافرين ذمّيين، أو مختلفين.

وروايات التحريث القاضي العدل أكثر من أن تحصى فراجع في أبوابها.


1- راجع: المغني، ابن قدامة 443: 11.
2- ص( 38): 26.
3- المائدة( 5): 42.
4- النساء( 4): 58.
5- المائدة( 5): 8.

ص: 210

هذا إذا لم يعلم أنّ الحقّ معه وإلا جاز، كما جاز له الحكم بعلمه. وأمّا غير القاضي فيجوز له ذلك مع علمه بصحّة دعواه، ولا يجوز مع علمه بعدمها، ومع جهله فالأحوط الترك.

الثالث: لو ورد الخصوم مترتّبين بدأ الحاكم في سماع الدعوى بالأوّل فالأوّل، إلا إذا رضي المتقدّم تأخيره، من غير فرق بين الشريف والوضيع والذكر والانثى، وإن وردوا معاً، أو لم يعلم كيفية ورودهم، ولم يكن طريق لإثباته، يقرع بينهم مع التشاحّ.

الرابع: لو قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم يسمعها حتّى يجيب عن دعوى صاحبه وتنتهي الحكومة، ثمّ يستأنف هو دعواه، إلا مع رضا المدّعي الأوّل بالتقديم.

الخامس: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى، ولو ابتدرا معاً يسمع من الذي على يمين صاحبه. ولو اتّفق مسافر وحاضر فهما سواء ما لم يستضرّ أحدهما بالتأخير، فيقدّم دفعاً للضرر. وفيه تردّد. (4)

عدم جواز تلقين أحد الخصمين للقاضي

(4) قال المحقّق في «الشرائع»: «لا يجوز أن يلقّن(1) أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه، ولا أن يهديه لوجوه الحجاج»(2).


1- أي يعلم الحاكم، والتلقين حمل الشخص على قولة معيّنة.
2- شرائع الإسلام 870: 4.

ص: 211

والمراد منه أنّه لا يجوز للقاضي أن يعين المدّعي ويهديه طريق طرح الدعوى حتّى يصير دعواه مسموعاً، كما أنّه لو أراد أن يطرح دعواه بطريق الاحتمال والظنّ يرشده القاضي أن يدّعي جزماً حتّى يسمع دعواه، وكذا لا يجوز للقاضي أن يعين المنكر في إنكاره ويهديه طريق الإنكار حتّى يقبل منه. مثل أن يدّعي المدّعي وجود الأمانة عنده أو القرض عليه، وهو يريد أن ينكره فيقول: أدّيته إليه، فيلقنه أن ينكر الأمانة أو القرض من أساس وإلا يصير مقرّاً بالأمانة عنده أو الدين. ثمّ يدّعى الردّ فيلزمه الإثبات وقد لا يمكنه وبالجملة كلّ ذلك يكون ضرراً على الخصم وإرشاداً لأحد الخصمين على كيفية الغلبة على الآخر.

والدليل على الحرمة على ما قاله المحقّق في «الشرائع»: «أنّ مشروعية ذلك على القاضي يفتح باب المنازعة وقد نصب لسدّها»(1).

ويستظهر من هذا الاستدلال، عدم وجود دليل عندهم على ذلك غيره.

ويرد عليه: أوّلًا، إنّ إعانته لأحدهما بما تقدّم لا يوجب فتح باب المنازعة في جميع الموارد، بل قد يوجب وضوح الدعوى أو الإنكار ووضوح فصله وختمه.

ثانياً، إنّه لا دليل على حرمة ذلك للحاكم.

نعم، إرائة طريق الغلبة للخصم وكيفية الحجاح والإرشاد بجمع الدليل والمستند لقوله؛ كانت من أوضح مصاديق عدم رعاية المساواة للقاضي. وقد تقدّم أنّ التسوية بينهم واجب عليه فيكون ذلك حراماً عليه من هذه الجهة كما استدلّ به المحقّق النراقي(2).


1- شرائع الإسلام 870: 4.
2- مستند الشيعة 117: 17.

ص: 212

مضافاً إلى أنّ القاضي حينئذٍ يصير خصماً للآخر ومعيناً لأحد الطرفين، وذلك لا يجوز له ولا فرق في ذلك بين أن يكون القاضي عالماً بواقع القضية أو لا لإطلاق أدلّة وجوب التسوية وعدم استلزامه الضرر على الآخر عند عدم إرائة الطريق للغلبة للزوم الحكم مطابقاً لعلمه بينهما غايةً.

فالقول بالجواز في كلام الإمام (ره) في قوله: «هذا إذا لم يعلم أنّ الحقّ معه وإلا جاز كما جاز له الحكم بعلمه»(1)، فلا وجه له، فإنّ غايته أنّه إعانة لأحدهما على وصوله بحقّه وتركه يوجب تضييع الحقّ عليه وذلك مدفوع بجواز الحكم بعلمه عليه.

وقد يستدلّ على حرمة التلقين والهداية على القاضي، بأنّهما مخالفان لشؤون القضاء ويوجبان هتك حرمة القضاء وسلب اعتماد الناس من القاضي.

وفيه أنّه عبارة اخرى عن وجوب التسوية فإنّ حكمة وجوبها ذلك.

هذا كلّه في القاضي.

حول تلقين غير القاضي لأحد الخصمين

اشارة

أمّا غير القاضي فقد يكون وكيلًا لأحدهما فهو بمنزلة نفس الموكّل فيجوز له تلقينه طريق الغلبة على الخصم وكيفية الاستدلال والاحتجاج وجمع الدليل والمستند كما أنّ له أن يفعل ذلك بنفسه لأجل الوكالة عنه.

وقد لا يكون وكيلًا ومع ذلك يجوز له إرشاده وهدايته إلى طريق الغلبة على الخصم إذا كان عالماً بصحّة دعواه، فإنّه من باب التعاون على البرّ، وكذا إذا كان


1- تحرير الوسيلة: 827.

ص: 213

جاهلًا واحتمل الصحّة، وأمّا إذا كان عالماً بعدم كونه ذا حقّ في دعواه أو إنكاره فلا يجوز له الإعانة بلا شبهة، فإنّه من باب التعاون على الإثم والعدوان المحرّمين بمقتضى يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْىَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(1).

ثمّ ذكر الإمام ثلاثة وظائف آخر للقاضي. وأثبتناه في المتن بعد الأمر الثاني من الامور التي تفضل به الماتن (ره) في وظائف القاضي وهو الأمر الثالث والرابع والخامس، لكنّها مربوط بما إذا لم يقم نظام قضائي فلا وجه لذكرها.

استحباب الترغيب إلى الصلح

نعم، ذكر المحقّق في «الشرائع» وغيره فرعاً لا يخلو من فائدة لذكرها.

قال المحقّق: «إذا ترافع الخصمان، وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا إلا المناجزة، حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح»(2) انتهى.

لا إشكال في أنّه إذا تبين الحقّ للحاكم بالبيّنة أو الإقرار أو اليمين ولم يبق فيه اشتباه حكمي أو موضوعي بحسب الأدلّة وطلب المحكوم له يجب عليه الحكم؛


1- المائدة( 5): 2.
2- شرائع الإسلام 871: 4.

ص: 214

لأنّه حقّ مطالب ولا مسوّغ لتأخيره، وإن أشكل أخرّ الحكم حتّى يتّضح.

إنّما الكلام في استحباب ترغيب الخصمين إلى الصلح للقاضي.

قال في «المسالك»(1) إنّ ذلك يوجب التأخير في الحكم وهو مناف للفورية المذكورة.

وفيه: أنّها عرفي، والترغيب إلى الصلح يحصل في المجلس وعند عدم قبولها للتصالح يحكم الحاكم ولا ينافي الفورية العرفية بلا إشكال.

ويظهر من ابن إدريس ذهاب جمع كثير إلى عدم الجواز. قال: «وله أن يأمرهما بالصلح ويشير بذلك. لقوله عزّ وجلّ: والصُّلْح خَيْرٌ(2) وما هو خير، فللإنسان فعله بغير خلاف من محصّل. وقد يشتبه هذا الموضع على كثير من المتفقّهة، فيظنّ أنّه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح، ولا يشير به، وهذا خطأ من قائله»(3).

والأقوى استحبابه للقاضي ولا دليل عليه بالخصوص في المورد لكن يمكن الاستدلال بما دلّ على استحباب الصلح من الآيات والروايات الواردة في الصلح.

كقوله تعالى: فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ(4) وقوله عزّ وجلّ: والصُّلْح خَيْرٌ وغيرهما في الآيات:


1- مسالك الأفهام 431: 13.
2- النساء( 4): 128.
3- السرائر 160: 2.
4- الحجرات( 49): 10.

ص: 215

كقوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ(1) أي لا تجعلوا اليمين بالله عزّ وجلّ مانعاً عن البرّ والتقوى والصلح فإذا دعيتم إلى البرّ والتقوى والصلح أن تقولوا على يمين على أن لا أفعل.

وقد يستدلّ على استحباب الترغيب إلى الصلح للقاضي بأنّه ربما يتوجّه إلى المنكر الحلف وهو مكروه وإن كان صادقاً فالترغيب إلى الصلح يرفع الحلف عن المنكر(2).

ولو رغبهما إلى الصلح وتصالحا، ثمّ ادّعى بعد ذلك أحدهما الغبن في الصلح؛ فالظاهر سماع الدعوى وله فسخه وإعادة الدعوى، وقد ذكروا في باب خيار الغبن جريانه في الصلح إذا كان فاحشاً خارجاً عن حدود المقصود في الصلح كما يجري في البيع فعلى الحاكم أن يستمع إلى دعوى المدّعي للغبن وإعادة الحكم.


1- البقرة( 2): 224.
2- راجع: وسائل الشيعة 197: 23، كتاب الأيمان، الباب 1، الحديث 1 و 2 و 5؛ 439: 18، كتاب الصلح، باب استحبابه ولو ببذل المال وإن حلف علي الترك، الباب 1، الحديث 1- 8.

ص: 216

ص: 217

القول: في شروط سماع الدعوى

اشارة

وليعلم أنّ تشخيص المدّعي والمنكر عرفي كسائر الموضوعات العرفية، وليس للشارع الأقدس اصطلاح خاصّ فيهما. وقد عُرّف بتعاريف متقاربة، والتعاريف جلّها مربوطة بتشخيص المورد، كقولهم: إنّه من لو ترك ترك، أو يدّعي خلاف الأصل، أو من يكون في مقام إثبات أمر على غيره، والأولى الإيكال إلى العرف. وقد يختلف المدّعي والمنكر عرفاً بحسب طرح الدعوى ومصبّها، وقد يكون من قبيل التداعي بحسب المصبّ. (1)

(1) قد ورد في الروايات أحكام تتعلّق بالمدّعي وبالمنكر أو المدّعى عليه، ومن أهمّها مطالبة البيّنة من المدّعي واليمين من المنكر فلا مناص للقاضي في المحكمة إلا أن يتميز بينهما ويعرف المدّعي حتّى يطلب منه إقامة البيّنة ويعرف المنكر حتّى يطلب منه اليمين.

ص: 218

حول معاني المدّعي والمنكر

ولا ريب في أنّه لم يثبت للّفظ المدّعي أو المنكر حقيقة شرعية أو المتشرّعة في الشرع، بل هما باقيان على ما هما عليه من المعنى وقد استعمل في لسان النصوص والمتشرّعة بذاك المعنى العرفي.

نعم، قد تصدّي جمع من الفقهاء لبيان تعاريف لهما في كتبهم لكنّها لا يخلو من إشكال.

أحدها: ما حكي أنّه المشهور وهو أنّ المدّعي هو من لو تَرَكَ تُرِكَ وبعبارة اخرى هو من لو سَكَتَ سُكِتَ عنه، يعني لو ترك المخاصمة والتنازع ورفع اليد عنها ترك التخاصم وترك وحاله ولم يطالب شي ء وخلّي ونفسه، أو أنّه لو سكت ولم يخاصم سُكِتَ عنه ولم يخاصم و لم يتوجّه إليه شي ء ولم يطالب بشي ء.

وينتقض هذا التعريف بمدّعي الردّ أو الإعسار في باب الدين، ومدّعي الوفاء في باب الأمانات ومدّعي التلف إذا كانت يده يد ضمان كالخياط مثلًا؛ فإنّ مدّعي أداء الدين أو الإعسار لو ترك ورفع اليد عن التخاصم لم يترك بحاله. بل المال باق عنده وعلى عهدته ويطالب به وكذا البقية.

وثانيها: أنّه من يدّعي خلاف الأصل ويكون قوله مخالفاً للأصل.

والظاهر أنّ المراد من الأصل أعمّ من الأصل العملي والأمارات المعتبرة شرعاً كاليد ونحوها كما إذا ادّعى داراً تكون في يد زيد مثلًا، فيكون مدّعياً لأنّ قوله مخالف للأمارة المعتبرة وهي اليد.

ص: 219

وناقش فيه صاحب «الجواهر»(1) بما حاصله: أنّ المراد بالأصل إن كان هو مخالفة كلّ أصل بالنسبة إلى تلك الدعوى فلا ينبغي الريب في بطلان التعريف لأنّ المدّعي قد لا يكون قوله مخالفاً لكلّ أصل بالنسبه إلى تلك الدعوى، فإنّ كثيراً من أفراد الدعوى قد تكون موافقة لأصل العدم. كما لو اختلف الزوجان في كون الزواج دائماً أو منقطعاً فمدّعي الانقطاع يكون قوله موافقاً لأصل العدم. وإن اريد مخالفة الأصل في الجملة فلا يتميز بهذا التعريف المدّعي عن المنكر، لأنّ قول المنكر قد يكون مخالفاً لبعض الاصول.

ثالثها: أنّه ممّن يدّعي خلاف الظاهر. والظاهر أنّ المراد بالظاهر هو الظاهر المعتبر شرعاً وهو الظاهر بحسب المتعارف والمعتاد كما إذا ادّعت الزوجة التي تعاشر الزوج في البيت عدم الإنفاق والزوج ينكره. وهذا يرجع إلى ما قبله.

قال السيّد: «ويختلف الظهور والخفاء بالنسبة إلى الأشخاص فيلزم أن يكون شخص واحد في دعوى واحدة مدّعياً عند حاكم ومنكراً عند آخر»(2).

رابعها: أنّ المرجع فيهما هو العرف على حسب غيرهما من الألفاظ التي لم تثبت لها حقيقة شرعية ولا قرينة على إرادة معنى مجازي خاصّ.

كما صرّح به الإمام (ره) وقال: «وليعلم أنّ تشخيص المدّعي والمنكر عرفي كسائر الموضوعات العرفية، وليس للشارع الأقدس اصطلاح خاصّ فيهما»(3). وقال: «إنّ التعاريف المذكورة لهما جلّها مربوطة بتشخيص المورد وبيان


1- جواهر الكلام 373: 40.
2- العروة الوثقى 462: 6، مسألة 1.
3- تحرير الوسيلة: 827.

ص: 220

المصاديق فلا يكون تعريفاً حقيقياً حتّى يناقش بعدم كونها جامعاً أو مانعاً». وقال: «الأولى إيكاله إلى العرف».

وقال في «الجواهر» فلا مرجع حينئذٍ إلا العرف. الذي لا اشتباه فيه في كثير من أفراده، بل جميعها.

والمعنى العرفي في المدّعي هو الذي يدّعي شيئاً على آخر، و يكون ملزماً بإثباته عند العقلاء، سواء يدّعي شيئاً من مال أو حقّ أو غيرهما أو يدّعي وفاء دين أو أداء يمين كان واجباً عليه، ونحو ذلك والمنكر في مقابله. قاله السيّد الخوئي (ره)(1) وقال: المفهوم العرفي منه ذلك وكلام «الجواهر» قريب من ذلك حيث قال: «وحينئذٍ فالمراد به الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له أو خروج من حقّ عليه، سواء وافق الظاهر والأصل بذلك أو خالفهما، وسواء تُرِكَ مع سكوته أو لم يترَك، فإنّ المدّعي عرفاً لا يختلف باختلاف ذلك»(2). وهذا المعنى موافق وقريب لمعنى اللغوي للمدّعي قال في «المنجد»: «ادّعى الشي ء زعم أنّه له؛ حقّاً أو باطلًا ادّعى عليه؛ حاكمة عند القاضي»(3).

فإذا كان المرجع فيهما هو العرف فقد يختلف صدق المدّعي والمنكر على حسب مصبّ الدعوى، فالملاك كيفية طرح الدعوى ومصبّه، فإذا ادّعى على شخص بدين على عهدته فأنكره الدين كان الأوّل مدّعياً والآخر منكراً، وإذا ادّعى في مقام الجواب أنّه أدّاه فقد ينقلب الدعوى فيصر الثاني مدّعياً والأوّل


1- راجع: مباني تكملة المنهاج 42: 1.
2- جواهر الكلام 376: 40.
3- المنجد، مادّة دعي.

ص: 221

مسألة 1: يشترط في سماع دعوى المدّعي امور: بعضها مربوط بالمدّعي وبعضها بالدعوى، وبعضها بالمدّعى عليه، وبعضها بالمدّعى به:

الأوّل: البلوغ، فلا تسمع من الطفل ولو كان مراهقاً. نعم، لو رفع الطفل المميّز ظلامته إلى القاضي فإن كان له وليّ أحضره لطرح الدعوى، وإلا فأحضر المدّعى عليه ولاية، أو نصب قيّماً له، أو وكّل وكيلًا في الدعوى، أو تكفّل بنفسه وأحلف المنكر لو لم تكن بيّنة. ولو ردّ الحلف فلا أثر لحلف الصغير. ولو علم الوكيل أو الوليّ صحّة دعواه جاز لهما الحلف. (2)

منكراً. ولو اتّفقا على وقوع عقد بينهما لكنّهما يختلفان في كونه بيعاً أو هبة، فإن كان مصبّ الدعوى والفرض من طرحها لزوم العوض وعدمه فمن يدّعي كونه بيعاً يكون مدّعياً لأنّه يدّعي على عهدة الآخر ثمناً والآخر منكراً. وإن كان الفرض تعيين نوع العقد الواقع بينهما فيكون كلّ واحد منها مدّعياً ومنكراً فهو التداعي.

شرائط سماع الدعوى

الشرط الأوّل: البلوغ

اشترط الفقهاء في سماع الدعوى في المحكمة أن يكون المدّعي بالغاً.

(2) وقد استدلّ على ذلك بامور كما عن السيّد(1).


1- العروة الوثقى 464: 6، مسألة 3.

ص: 222

منها: ادّعاء عدم الخلاف، بل الإجماع عليه كما عن غير واحد من الفقهاء.

وفيه: أنّه محتمل المدركية، لاحتمال وجود دليل تعبّدي لهم بحيث لم يصل إلينا، بل يحتمل أن يكون مستندهم في ذلك ما يأتي من الأدلّة.

ومنها: الأصل، يعني أصالة عدم ترتّب آثار الدعوى من وجوب السماع، وقبول البيّنة والإقرار وسقوط الدعوى بالحلف وغيرهما على هذه الدعوى.

ويرد عليه: أنّ الأصل محكوم بإطلاقات الأدلّة في كلّ مورد شككنا في ترتّب الأثر عليه.

ومنها: أنّ المتبادر من الأدلّة هو البالغ فما دلّ على وجوب سماع الدعوى، وكذا أحكام الدعوى يختصّ بما إذا صدرت ممّن اجتمعت فيه الشرائط.

ومنها: التكليف مضافاً إلى أنّ الدعوى قد تضمّن اموراً تتوقّف على التكليف كإقامة البيّنة ونحوها(1).

ويرد عليه: بمنع التبادر، من مثل قوله: «فاحكم بين الناس بالحقّ» أو قوله: «البيّنة على المدّعي» ولو كان إنّما هو بدوي يزول بالتأمّل. وما يتوقّف على التكليف من الأحكام فيقتصر في عدم السماع بهما فيكون الدليل أخصّ من المدّعي.

ومنها: الأخبار الدالّة على أن لا يجوز أمر الصبيّ حتّى يبلغ كما في رواية حمزة بن حمران عن أبي جعفر (ع) قال: «والغلام لا يجوز أمره في الشراء


1- راجع: رياض المسائل 161: 13.

ص: 223

والبيع ... حتّى يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم ...»(1) تدلّ على أنّه لا ينفذ أمر الصبيّ في سماع دعواه وترتّب الآثار عليه.

وفيه: أنّ مورد هذه الروايات التصرّفات المالية التي له فيها وليّ من الأب والجدّ ولا يشمل غيرها ممّا ليس فيه تصرّف مالي.

ومنها: أنّ الصبيّ مسلوب العبارة فلا يعتدّ بكلامه.

وفيه: أنّه لا دليل على ذلك وحديث رفع القلم يراد منه رفع المؤاخذة أو التكليف ولا دلالة له على كونه مسلوب العبارة، بل دلّت بعض الأخبار على مشروعية عباداته.

ومنها: أنّ الصبيّ محجور عليه، فلا أثر لسماع دعواه.

وفيه: أوّلًا: أنّه أخصّ من الدعوى لاختصاصه بالدعاوي المالية.

وثانياً: أنّه لا ملازمة بين الحجر على الصبيّ وعدم سماع دعواه؛ فإنّ المراد من حجره عدم نفوذ تصرّفاته المالية فللقاضي أن يسمع الدعوى وعند ثبوت الحقّ للصبيّ لا يسلم إليه المال، بل يسلم إلى وليه. وكيف كان فلا ينهض دليل معتدّ به على عدم سماع دعوى الطفل المراهق، فلو جاء يتيم لا ولي له، إلى الحاكم وادّعى أنّ فلاناً أفقأ عيني أو قتل أبي أو نزع ثوبي أو غصب حقّي ويريد الفرار ولي بذلك شهود فاسمع شهودي وخذ بحقّي؛ بحيث ليس فيها تصرّف مالي أصلًا، فالأوجه سماع دعواه وترتيب الأثر عليها. نعم، لو توقّف بعضها على التكليف شرعاً أو يلزم تصرّف مالي فيعمل القاضي بما ذكره الإمام في المتن.


1- وسائل الشيعة 411: 18، كتاب الحجر، باب حد ارتفاع الحجر، الحديث 1.

ص: 224

الثاني: العقل، فلا تسمع من المجنون ولو كان أدوارياً إذا رفع حال جنونه. (3)

الثالث: عدم الحجر لسفه إذا استلزم منها التصرّف المالي. وأمّا السفيه قبل الحجر فتسمع دعواه مطلقاً. (4)

الشرط الثاني: العقل

(3) والدليل على ذلك أنّ المجنون مسلوب العبارة فلا يترتّب على كلامه أثر والأدلّة منصرفة عنه. نعم، يمكن أن يقال أنّ القاضي إذا احتمل وقوع ظلم عليه والتعدّي بالنسبة إليه أو ماله، فلازم له التفحّص ورفع الظلم عنه من جهة أهمّية رفع الظلم ولزوم الاحتمام به أو الاحتفاظ للحقوق فلا بدّ أن يحضر وليه، أو يتولّى بنفسه أمر القضاء بولايته عنه أو يجعل له وكيلًا.

الشرط الثالث: عدم الحجر

(4) وذلك لأنّ السفيه إذا حكم عليه بالحجر يصير ممنوعاً من التصرّف في أمواله، فإذا استلزم دعواه التصرّف المالي لا يسمع وأمّا إذا لم يستلزم التصرّف المالي أو لم يحكم عليه بالحجر فلا يكون ممنوعاً من التصرّف وكان دعواه مسموعاً. هذا بناء على مذهبه، من أنّ السفيه لا يكون محجوراً إلا بحكم الحاكم وأمّا من قال بأنّ السفيه محجور عليه قبل حكم الحاكم أيضاً، فاشترطوا هنا الرشد قال السيّد: «الثاني كونه رشيداً فلا تسمع من

ص: 225

الرابع: أن لا يكون أجنبياً عن الدعوى، فلو ادّعى بدين شخص أجنبي على الآخر لم تسمع، فلا بدّ فيه من نحو تعلّق به كالولاية والوكالة، أو كان المورد متعلّق حقّ له. (5)

السفيه»(1) وكذا قال في «المستند»(2).

أقول: ولكن يمكن أن يقال أنّ معنى كونه محجوراً- سواء بحكم الحاكم أو غيره- هو أنّه ممنوع من التصرّفات المالية. ولا ريب في أنّ ذلك لا يستلزم عدم سماع دعواه، بل يمكن أن يقال أنّه تسمع دعواه، فإذا استلزم بعد الحكم له التصرّف في ماله لا يسلم إليه المال. والحاصل أنّه لا دليل على عدم سماع دعواه، بل دعواه مسموعاً وتقبل منه البيّنة ويكون عينية نافذة ولكن لا يسلم إليه المال.

الشرط الرابع: عدم الأجنبية

(5) يعني يعتبر في المدّعي أن يكون المدّعى به ملكاً له أو متعلّق حقّ له، فهو مالك أو ذو حقّ ويطالب بحقّه بالدعوى أو يكون للمدّعي نحو تعلّق وارتباط مع المالك أو المدّعى به مثل أن يكون وكيلًا له أو ولياً أو وصياً أو قيماً له أو يكون المال متعلّق حقّه من رهانة أو أمانة أو عارية ونحو ذلك.

وقد استدلّ على ذلك بالأصل فإنّ الأصل عدم وجوب سماع الدعوى من


1- العروة الوثقى 465: 6.
2- راجع: مستند الشيعة 146: 17.

ص: 226

غيره وعدم جواز إجبار الغريم على الجواب وعدم ترتّب سائر آثار الحكم عليه.

واستشكل عليه في «المستند»(1) بأنّه محكوم بالعمومات نحو قوله تعالى: وَأنِ اْحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنزَلَ اللهُ(2) وقوله عزّ وجلّ: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أرَاكَ اللهُ(3) وقوله عزّ وجلّ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنزَلَ اللهُ(4) فإنّ مقتضى الأمر بالمحاكمة بينهم هو التحاكم ورفع النزاع مطلقاً. وقد استدلّ أيضاً بانصراف الأدلّة والعمومات عن الأجنبيّ، فإنّه لا بدّ أن يصدق للمدّعي أنّه يطالب بماله وحقّه ويصدق على الآخر أنّه خصم له وطرف لدعواه ويصدق لهما المتخاصمين. وفي بعض الروايات أنّ البيّنة يشهدان بكونه ذا حقّ والحلف يسقط حقّه ممّا يوضح لزوم كون المطالبة من قبل صاحب الحقّ.

والانصراف صحيح ولا يشمل الأدلّة من لا يكون له نحو تعلّق بالمال ويدّعي عن الغير بلا ولاية تكون عليه أو الوكالة عنهم أو الوصاية وغيرها، ولا تسمع دعواه بلا إشكال.

وهل يشترط في سماع دعوى الوكيل والوليّ، ثبوت وكالته أو ولايته أو لا، بل يكفي ادّعائه لذلك؟ وجهان؛ بل قولان. أظهرهما الاشتراط.

نعم، يستثني من ذلك الدعاوي الراجعة إلى الحقوق العامّة والامور الحسبية فإنّ الظاهر سماع الدعوى من مدّعي العامّ مثلًا. أو من المحتسبين كما إذا ادّعى شخص على ميّت له صغار بدين، وهو يعلم أنّه أوفاه وذمّته بريئة وله شهود بذلك


1- مستند الشيعة 146: 17.
2- المائدة( 5): 49.
3- النساء( 4): 105.
4- ص( 38): 26.

ص: 227

الخامس: أن يكون للدعوى أثر لو حكم على طبقها، فلو ادّعى أنّ الأرض متحرّكة وأنكرها الآخر لم تسمع. ومن هذا الباب ما لو ادّعى الوقف عليه أو الهبة مع التسالم على عدم القبض، أو الاختلاف في البيع وعدمه مع التسالم على بطلانه على فرض الوقوع، كمن ادّعى أنّه باع ربوياً وأنكر الآخر أصل الوقوع. ومن ذلك ما لو ادّعى أمراً محالًا، أو ادّعى أنّ هذا العنب الذي عند فلان من بستاني، وليس لي إلا هذه الدعوى، لم تسمع؛ لأنّه بعد ثبوته بالبيّنة لا يؤخذ من الغير لعدم ثبوت كونه له. ومن هذا الباب لو ادّعى ما لا يصحّ تملّكه، كما لو ادّعى أنّ هذا الخنزير أو الخمر لي، فإنّه بعد الثبوت لا يحكم بردّه إليه إلا فيما يكون له الأولوية فيه. ومن ذلك، الدعوى على غير محصور، كمن ادّعى أنّ لي على واحد من أهل هذا البلد ديناً. (6)

فحينئذٍ يدّعي عن الميّت وفاء الدين لحفظ أموال الصغار. أو ادّعى على صديقه أو جاره الغائبين وهو يعلم براءةهما ونحو ذلك خصوصاً إذا كان المدّعي بحيث لو أثبت دعواه وأخذ ما يدّعيه لم يمكن استرداده منه بعد أن صار الصغار كباراً أو بعد حضور الغائب وذلك لعدم انصراف العمومات عن أمثال ذلك.

الشرط الخامس: المعقولية

(6) الخامس من شرائط الدعوى أن يكون ادّعاء المدّعي أمر ذا أثر معقول وكمثال نقول: لا بدّ وأن يكون نتيجة الدعوى ذا أثر يعتمد عليه بعد حكم الحاكم.

ص: 228

الفروع المتفرّعة على شرط المعقولية في طرح الدعوى

والإمام (ره) تعرّض إلى سبعة من الفروع تحت هذا الشرط الخامس، وهذا المنهج هو المنهج الصحيح.

فسنبحث عنها واحداً بعد واحد.

الفرع الأوّل: لو ادّعى شخص في المحكمة: أنّ الأرض متحرّكة وأنكرها الآخر، لا تكون الدعوى ذا أثر لأنّه لو حكم القاضي بحركة الأرض أو سكونها لن توجد أي فائدة للمتنازعين.

الفرع الثاني: لو ادّعى أنّ الملك الفلاني موهوبة أو موقوفة له، ولكن لم يقبض بعده، مع أنّ القبض شرط في لزوم الوقف والهبة وإذا لم يقبض لا يلزم، فحينئذٍ لا يوجد أي أثر لحكم الحاكم، سواء حكم بوقوع صيغة الوقف أو الهبة أو عدم وقوعهما، لأنّ عدم القبض هو المتسالم عليه عند المدّعي والمدّعى عليه. ونتيجة التسالم بطلان الوقف أو الهبة، سواء كان الحكم بصحّة الادّعاء أم عدم الصحّة.

الفرع الثالث: لو اختلفا على وقوع البيع وعدمه وتسالما على ربويته، كمن ادّعى أنّه باع ربوياً والآخر أنكر أصل البيع فحينئذٍ لا وجه للترافع إلى الحاكم سواء حكم بصدق ادّعاء المدّعي أم لا؟ لأنّ البيع على أيّة حال باطل شرعاً.

الفرع الرابع: لو ادّعى أمراً محالًا(1) سواء كان محالًا عادياً، كما يدّعي الإنسان الطيران أو عقلياً كادّعاء جواز اجتماع النقيضين أو شرعياً كمن يدّعي أنّه يملك


1- جدير بالذكر أنّ الفقهاء بحّثوا عن ادّعاء المحال تحت العنوان« الادّعاء الصحيح والباطل» ولكن الإمام؛ بحّث عنها هنا تحت العنوان« ادّعاء غير ذي أثر».

ص: 229

السادس: أن يكون المدّعى به معلوماً بوجه، فلا تسمع دعوى المجهول المطلق، كأن ادّعى أنّ لي عنده شيئاً؛ للتردّد بين كونه ممّا تسمع فيه الدعوى أم لا. وأمّا لو قال: «إنّ لي عنده فرساً أو دابّة أو ثوباً» فالظاهر أنّه تسمع، فبعد الحكم بثبوتها يطالب المدّعى عليه بالتفسير، فإن فسّر ولم يصدّقه المدّعي فهو دعوى اخرى، وإن لم يفسّر لجهالته- مثلًا- فإن كان المدّعى به بين أشياء محدودة يقرع على الأقوى. وإن أقرّ بالتلف ولم ينازعه الطرف فإن اتّفقا في القيمة،

الخمر إذا في كلّ من هذه الثلاثة لا يتحقّق الدعوى، ولا يسمع، لأنّه لا أثر للحكم.

الفرع الخامس: لو ادّعى شخص أنّ هذا العنب مثلًا محصول حديقتي ولا يدّعي الآن ملكية العنب، فحينئذٍ لا أثر لحكم الحاكم فيه، ولهذا لا يسمع الدعوى.

الفرع السادس: لو ادّعى ملكية ما لا يصحّ تملّكه كمن ادّعى مالكية الخمر أو الخنزير، وحينئذٍ لا أثر للدعوى، لأنّه لو ثبت لا يحكم القاضي بردّ الخمر أو الخنزير إليه إلا إذا كان له أولوية في التصرّف في هذا الشي ء الذي لا يصحّ تملّكه، وهذا لا يحتاج إلى حكم القاضي.

الفرع السابع: لو ادّعى على غير المحصورين لا يسمع، لأنّه لا أثر له وأمّا الادّعاء على المحصورين فسيأتي حكمها.

ص: 230

وإلا ففي الزيادة دعوى اخرى مسموعة. (7)

الشرط السادس: معلومية الدعوى

(7) لو ادّعى على أمر مجهول لايسمع، كما لو ادّعى أنّ لي على فلان شي ء، أو سرق فلان منّي شيئاً ولا يعينه كمّاً أو كيفاً ووصفاً؛ لأنّا عند عدم التعين نشكّ في وجوب السماع، والأصل عدم الوجوب ولا بدّ أن يكون الدعوى معلوم.

ثمّ هنا بحث وهو أنّه هل يجب أن يكون الدعوى معلوماً بالتفصيل، أو يكفي المعلومية إجمالًا، كما لو قال إنّ لي عليه دنانير، أو إنّ لي عليه البهيمة، أو بيت، أو يقول: جعلت عنده فرشاً والآن لا يعطيني مالي.

هناك قولان:

القول الأوّل: المعلومية بالتفصيل؛ قال به جمع من الفقهاء كالشيخ(1) والحلبي(2) وابن إدريس(3) وحمزة(4) وزهرة(5) والعلامة في بعض كتبه(6) والشهيد(7) وجمع آخر من الفقهاء.


1- راجع: المبسوط 156: 8.
2- راجع: الكافي في الفقه: 446.
3- راجع: السرائر 177: 2.
4- راجع: الوسيلة: 216.
5- راجع: غنية النزوع: 444.
6- راجع: تحرير الأحكام 141: 5.
7- راجع: مسالك الأفهام 436: 13.

ص: 231

دليل المسألة: عدم الفائدة. قالوا ليست في الحكم في الدعوى الغير المعلومة بالتفصيل فائدة؛ لأنّه بعد استماع الدعوى وإقامة البيّنة أو الإقرار المدّعى عليه لا يمكن للقاضي أن يسترد المال الذي ليس بمعلوم بالتفصيل.

القول الثاني: كفاية المعلومية بالإجمال؛ أي لو قال: «لي عنده كتاب» يسمع دعواه و على الحاكم أن يحكم بمقتضى الدعوى، كما قال الإمام (ره)(1).

والدليل عليه: أوّلًا: منع عدم الفائدة لأنّ الحاكم بعد فصل الخصومة وإنشاء الحكم يلزم المدّعى عليه على التعيين وإذا عين المال كمّاً وكيفاً يأخذه الحاكم للمدّعي.

ثانياً: كما قلنا في كتاب الإقرار أنّه إذا قال: «له على كتاب» يسمع وبمصداق إقرار العقلاء يلزم بالتعيين، كذلك يسمع الدعوى هنا لعلّ المدّعى عليه يقرّ بأصل الدعوى، ثمّ بعد الإقرار يلزم على التعيين.

ثالثاً: ربما يوجب عدم السماع في الدعوى المعلوم بالإجمال ضرراً على المدّعي، أي أنّ المدّعي يعلم أنّ فلاناً مثلًا استقرض منه دنانير، ولكن لا يعلم كم ديناراً كان، فلو لم يسمع دعواه لم يعمل بفلسفة القضاء، لأنّ فلسفة القضاء إحقاق الحقّ وذلك يشمل الحقّ المعلوم بالتفصيل والإجمال.

فالأقوى في المسألة القول الثاني وهو وجوب سماع الدعوى ولو كان معلوماً بالإجمال.


1- راجع: تحرير الوسيلة: 845، مسألة 8.

ص: 232

السابع: أن يكون للمدّعي طرف يدّعى عليه، فلو ادّعى أمراً من دون أن تكون على شخص ينازعه فعلًا لم تسمع، كما لو أراد إصدار حكم من فقيه يكون قاطعاً للدعوى المحتملة، فإنّ هذه الدعوى غير مسموعة. ولو حكم الحاكم بعد سماعها؛ فإن كان حكمه من قبيل الفتوى- كأن حكم بصحّة الوقف الكذائي، أو البيع الكذائي- فلا أثر له في قطع المنازعة لو فرض وقوعها. وإن كان من قبيل أنّ لفلان على فلان ديناً بعد عدم النزاع بينهما، فهذا ليس حكماً يترتّب عليه الفصل وحرمة النقض، بل من قبيل الشهادة، فإن رفع الأمر إلى قاضٍ آخر يسمع دعواه، ويكون ذلك الحاكم من قبيل أحد الشهود، ولو رفع الأمر إليه وبقي على علمه بالواقعة، له الحكم على طبق علمه. (8)

الشرط السابع: وجود المدّعى عليه

(8) إنّ الدعوى في المحكمة على أقسام:

1- قسم منها لا تحتاج إلى طرف يدّعي عليه. وكمثال نقول شخص يراجع القاضي لأخذ الحكم في إثبات الهلال، فحينئذٍ يسمع القاضي شهادة الشهود ويحكم بما يرى.

2- وقسم آخر منها تحتاج إلى طرف يدّعى عليه والنظر في البحث هنا هذا القسم. وكمثال نقول لو ادّعى شخص حقّاً أو مالًا لا بدّ أن يكون هناك شخص يدّعى عليه؛ مثلًا يقول المدّعي: لي على فلان حقّ أو مال، أو يقول: لي على

ص: 233

المؤسّسة الفلانية أو الدائرة الحكومية حقّ أو مال.

وهذا هو السابع من شروط الدعوى يتمكّن الحاكم- بعد الترافع إليه- من الحكم وفصل الخصومة، ولذا لو طلب من الحاكم صحّة الوقف الذي يدّعيه، أو ملكية مال أو ضيعة يدّعيها واستمع الحاكم دعواه وأخذ الشهود ثمّ حكم بالوقف أو الملكية لا يكون هذا إلا كفتوى الفقيه أي إذا جاء شخص بعد وادّعى ملكية هذا المال أو الضيعة يسمع دعواه، مع أنّه يمكن أن يكون هذا المدّعي الثاني كاذباً وبقي الوقف على حاله أو صادقاً وبطل الوقف. ولا يتوجّه إلى القول بنفوذ حكم الحاكم وعدم جواز نقض الحكم، بل الحكم الأوّل لا يمنع عن استماع دعوى الثاني.

دليل المسألة: انصراف الأدلّة، أي أنّ دليل- فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ(1). أو فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنزَلَ اللهُ(2) أو فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ(3)- الذي يدلّ على وجوب الحكم، منصرف إلى مورد التنازع. والتنازع هو الاختلاف الذي له طرفان- المدّعي، والمدّعى عليه- وفي الدعوى الذي لا توجد فيها مدّعى عليه نشكّ أنّه هل يسمع الدعوى أم لا؟ وعندئذٍ نقول الأصل عدم سماع الدعوى، وكذا الأصل عدم ترتّب الأثر ولو استمع الدعوى وحكم بما يرى.


1- ص( 38): 26.
2- المائدة( 5): 48.
3- النساء( 4): 65.

ص: 234

الثامن: الجزم في الدعوى في الجملة. والتفصيل: أنّه لا إشكال في سماع الدعوى إذا أوردها جزماً، وأمّا لو ادّعى ظنّاً أو احتمالًا، ففي سماعها مطلقاً، أو عدمه مطلقاً، أو التفصيل بين موارد التهمة وعدمها؛ بالسماع في الأوّل، أو التفصيل بين ما يتعسّر الاطّلاع عليه كالسرقة وغيره، فتسمع في الأوّل، أو التفصيل بين ما يتعارف الخصومة به- كما لو وجد الوصيّ أو الوارث سنداً أو دفتراً فيه ذلك، أو شهد به من لا يوثق به- وبين غيره، فتسمع في الأوّل، أو التفصيل بين موارد التهمة وما يتعارف الخصومة به وبين غيرهما، فتسمع فيهما، وجوه، الأوجه الأخير، فحينئذٍ لو أقرّ المدّعى عليه أو قامت البيّنة فهو، وإن حلف المدّعى عليه سقطت الدعوى، ولو ردّ اليمين لا يجوز للمدّعي الحلف، فتتوقّف الدعوى، فلو ادّعى بعده جزماً أو عثر على بيّنة ورجع إلى الدعوى تُسمع منه. (9)

الشرط الثامن: الجزم

(9) قال المحقّق (ره)(1) ولا بدّ من إيراد الدعوى بصيغة الجزم، فلو قال أظنّ أو أتوهّم لم تسمع. وكان بعض من عاصرناه يسمعها في التهمة ويحلف المنكر وهو بعيد عن شبه الدعوى.

الأقوال في المسألة:

1- اشتراط الجزم مطلقاً.


1- شرائع الإسلام 872: 4.

ص: 235

2- عدمه مطلقاً.

3- التفصيل، وهناك أربعة تفاصيل ذكرها الإمام واختار الأخير من وجوه التفصيل التي نقلها في المتن وفي المسألة أقوال اخر أيضاً. وحيث إنّ المختار عندنا هو القول الثاني أي عدم اشتراط الجزم مطلقاً نبحث في القول الأوّل دليلًا وردّاً وننصرف عن البحث في الأقوال في التفصيل.

واستدلّ لقول المشهور بامور:

1- المتبادر من الدعوى ما كان بالجزم. وفيه أنّه ممنوع وذلك:

أوّلًا: أنّه لا ينكر صدق الدعوى، سواء كانت جزمية أو ظنّية أو احتمالية.

ثانياً: بأنّه في صورة عدم الجزم في الدعوى يكفي صدق المخاصمة والمنازعة وهو يكفي في سماع الدعوى.

2- إنّ السماع ضرر على المدّعى عليه من حيث إلزامه بالإقرار أو الحلف والحضور في المحكمة وهو إهانة وضرر فليقتصر فيه على قدر المتيقّن وهي الدعوى الجزمي.

وفيه: أوّلًا: عدم الضرر كلّية.

ثانياً: تعارض بالضرر للمدّعي فإنّه قد يوجب تضييع حقوقه؛ لأنّه بإمكانه أن يطرح الدعوى الظنّي لاحتمال أن يتحصّل على نتيجة قطعية.

3- لازم السماع القضاء بالنكول، أو يمين المدّعي في صورة عدم الإقرار أو البيّنة وكلاهما مشكل؛ لأنّ القاضي لا يجوز له القضاء من حيث عدم قطعية الدعوى. ومن جانب آخر يجب عليه القضاء من حيث سماع الدعوى.

وفيه: أنّه لا يلزم من المشكلة عدم وجوب السماع، بل غاية الأمر عدم ترتيب

ص: 236

جميع الآثار والدعاوي التي لا يترتّب عليه جميع الآثار كثيرة متوفّرة.

والأقوى عدم اشتراط الجزم مطلقاً، بل وتسمع الدعوى مع الظنّ والاحتمال مطلقاً.

وذلك لوجود التهمة فيما نفاه «الجواهر»(1) أيضاً، فإنّه إذا ادّعى على زيد- مثلًا- باشتغال ذمّته له، أو جناية الموجب للمال وزيد منكر لذلك فيقول: إنّه يكذب فيتّهم بالكذب وجلب النفع ودفع الضرر وغير ذلك. مضافاً إلى وجود السيرة بذلك، فإنّه مع المراجعة إلى المحاكم يعلم أنّ أكثر الدعاوي كان كذلك، ولذاوضعوا قانوناً لمنعهم عن طرح الدعوى الاحتمالية بلزوم إبطال التمبر وأداءمال لذلك ليكون سدّاً لبعض الدعاوي الغير اللازمة حتّى لا يقولوا في الفارسية: «سنگ مفت و گنجشك هم مفت» إذاً نطرح الدعوى كلّما نتحصّل على منفعة.

فالتهمة أيضاً موجودة ويصدق عليها الدعوى والمشاجرة فتشملها العمومات، ويدلّ عليها الروايات المذكورة في باب ضمان الصانع والأجير والحاتك الدالّة على تحليف المتّهم، أو إتيانه بالبيّنة فإنّ المستفاد منها استماع الدعوى مع الاحتمال:

منها: عن أبي بصير- يعني المرادي-، عن أبي عبدالله (ع) قال: «لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلا أن يكونوا متّهمين فيخوف بالبيّنة ويستحلف لعلّه يستخرج منه شيئاً». وفي رجل استأجر جمّالًا فيكسر الذي يحمل أو يهريقه، فقال: «على نحو من العامل إن كان مأموناً فليس عليه


1- جواهر الكلام 155: 40.

ص: 237

شي ء وإن كان غير مأمون فهو ضامن»(1). وكذا روايتي بكر بن حبيب قال: قلت لأبي عبدالله (ع): أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه، قال: «إن اتّهمته فاستحلفه، وإن لم تتّهمه فليس عليه شي»(2).

وبهذا الإسناد عن أبي عبدالله (ع) قال: «لا يضمن القصّار إلا ما جنت يده، وإن اتّهمته أحلفته»(3).

قال الفاضل النراقي (ره): «والأقوى عدم الاشتراط مطلقاً»(4)، كما صرّح به الفاضل المعاصر(5)، حيث استدلّ بالعمومات وبهذه الروايات. ثمّ قال: وتوهمّ اختصاص تلك الروايات بالتهمة فلا تنهض دليلًا على العموم فاسد؛ لأنّ التهمة تعمّ جميع المواضع التي ينكر فيها المدّعى عليه؛ فإنّها لا تختصّ بالفعل والسرقة، بل يشمل الكذب في الإنكار وجلب النفع ودفع الضرر أيضاً ولا ينفكّ المدّعى عليه، المنكر عن الاتّهام بأحد هذه الامور.

ويؤيّد المطلوب أيضاً ما عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع): «إنّ شابّاً قال لأمير المؤمنين (ع): إنّ هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما ترك مالًا، فقدمتهم إلى شريح، فاستحلفهم، وقد علمت أنّ أبي خرج ومعه مال كثير، فقال أمير المؤمنين (ع): والله لأحكمنّ بينهم بحكم ما حكم به


1- وسائل الشيعة 144: 19- 145، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 11.
2- وسائل الشيعة 146: 19، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 16.
3- وسائل الشيعة 146: 19، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 17.
4- مستند الشيعة 151: 17.
5- راجع: غنائم الأيام: 678.

ص: 238

خلق قبلي إلا داود النبيّ (ع) يا قنبر ادع لي شرطة الخميس، فدعاهم، فوكّل بكلّ رجل منهم رجلًا من الشرطة، ثمّ نظر إلى وجوههم فقال: ماذا تقولون؟ تقولون: إنّي لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى؟! إني إذاً لجاهل، ثمّ قال: فرّقوهم وغطّوا رؤوسهم، قال: ففرّق بينهم، واقيم كلّ رجل منهم إلى اسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم، ثمّ دعا بعبيدالله بن أبي رافع كاتبه، فقال: هات صحيفة ودواة، وجلس أمير المؤمنين (ع) في مجلس القضاء، وجلس الناس إليه فقال لهم: إذا أنا كبّرت فكبّروا، ثمّ قال للناس: اخرجوا، ثمّ دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه، ثمّ قال لعبيدالله: اكتب إقراره وما يقول، ثمّ أقبل عليه بالسؤال، فقال له أمير المؤمنين (ع): في أيّ يوم خرجتم من منازلكم، وأبو هذا الفتى معكم؟ فقال الرجل: في يوم كذا وكذا، فقال: وفي أيّ شهر؟ فقال: في شهر كذا وكذا، قال: في أيّ سنة؟ فقال: في سنة كذا وكذا، فقال: وإلى أين بلغتم في سفركم حتّى مات أبو هذا الفتى؟ قال: إلى موضع كذا وكذا، قال: وفي منزل من مات؟ قال: في منزل فلان بن فلان، قال: وما كان مرضه؟ قال: كذا وكذا قال: وكم يوماً مرض؟ قال: كذا وكذا، قال: ففي أيّ يوم مات؟ ومن غسّله؟ ومن كفّنه؟ وبما كفّنتموه؟ ومن صلّى عليه؟ ومن نزل قبره؟ فلمّا سأله عن جميع ما يريد، كبّر أمير المؤمنين (ع) وكبّر الناس جميعاً، فارتاب اولئك الباقون، ولم يشكوا أنّ صاحبهم قد أقرّ عليهم وعلى نفسه، فأمر أن يغطّى رأسه وينطلق به إلى السجن، ثمّ دعا بآخر فأجلسه بين يديه وكشف عن

ص: 239

وجهه، وقال: كلا زعمتم أنّي لا أعلم ما صنعتم؟! فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا إلا واحد من القوم، ولقد كنت كارهاً لقتله فأقرّ ثمّ دعا بواحد بعد واحد كلّهم يقرّ بالقتل وأخذ المال، ثمّ ردّ الذي كان أمر به إلى السجن فأقرّ أيضاً، فألزمهم المال والدم، ثمّ ذكر حكم داود (ع) بمثل ذلك- إلى أن قال:- ثمّ إنّ الفتى والقوم اختلفوا في مال أبي الفتى كم كان، فأخذ علي (ع) خاتمه وجمع خواتيم من عنده قال: أجيلوا هذه السهام، فأيّكم أخرج خاتمي، فهو صادق في دعواه، لأنّه سهم الله (عز و جل)، وهو لا يخيب»(1).

وكذا ما في أبواب القسامة(2)، حيث ادّعى مسلم أنّ يهودياً قتل مسلماً وسمع دعواه.

ننتج أنّ الدعوى مسموعة مطلقاً. غاية الأمر: أنّه إن كان المدّعي ذا بيّنة أو حلف المنكر يحكم القاضي على ما يرى، ولكن لا يرد اليمين ولا يقضي بالنكول. مضافاً إلى أن توقّف الدعوى خلاف مقتضى القاعدة وخلاف مقتضى


1- وسائل الشيعة 279: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 20، الحديث 1.
2- عن ابن أبي عمير، عن بريد بن معاوية، عن أبي عبدالله( ع) قال:« سألته عن القسامة؟ فقال: الحقوق كلّها البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه إلا في الدم خاصّة، فإنّ رسول الله( ص) بينما هو بخيبر إذ فقدت الأنصار رجلًا منهم فوجدوه قتيلًا فقالت الأنصار: إنّ فلاناً اليهودي قتل صاحبنا، فقال رسول الله( ص) للطالبين: أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيّده برمته، فإن لم تجدوا شاهدين، فأقيموا قسامة خمسين رجلًا اقيّد برمته فقالوا: يا رسول الله ما عندنا شاهدان من غيرنا وإنّا لنكره أن نقسم على ما لم نره، فوداه رسول الله( ص)، وقال: إنّما حقن دماء المسلمين بالقسامة لكي إذا رأى الفاجر الفاسق فرصة من عدوّه حجزه مخافة القسامة أن يقتل به فكفّ عن قتله، وإلا حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلًا ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، وإلا أغرموا الدية إذا وجدوا قتيلًا بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون.( وسائل الشيعة 152: 29، كتاب القصاص، أبواب دعوي القتل، الباب 9، الحديث 3)

ص: 240

فصل الخصومة، مع أنّه لو ردّ اليمين أو قضى بالنكول يجوز للمدّعي الأخذ كما يأخذ بالحكم بالإقرار مع أنّ المدّعي لا يكون جازماً في ادّعائه.

فممّا ذكرنا يعلم أنّ القول باشتراط الجزم مطلقاً لا وجه له.

قال السيّد (ره): «والأقوى أنّ المناط صدق الدعوى والمخاصمة والمنازعة عرفاً؛ وهي إنّما تصدق في صورة وجود التهمة وهي أعمّ من الظنّ والاحتمال»(1) أي كلّما كانت التهمة موجودة تسمع الدعوى، ولو كانت احتمالياً.

واستدلّ على ذلك بصدق الدعوى والمنازعة فتشملها العمومات كالآيات الشريفة وقوله البيّنة على المدّعي.

ورأى صاحب «الجواهر» أنّ المدار هو الرجوع إلى العرف(2). ولكنّه جعل مصداقه موردين- وجود التهمة وصدق المنازعة والتخاصم عرفاً- كما في وجود دفتر أو سند أو قول من لا يوثق بقوله.

وقال: «والتحقيق الرجوع إلى العرف في صدق الدعوى المقبولة وعدمها. ولا ريب في قبولها عرفاً في مقام التهمة بجميع أفرادها».

ثمّ قال: «وكذا لا ريب في تحقّق الخصومة والمشاجرة مع عدم الجزم فيما يجده الوصيّ أو الوارث من سندات أو دفتر أو شهادة من لا يوثّق بهم أو غير ذلك»(3).

وبالجملة: فالمدار ما يتعارف من الخصومة بسببه، سواء كان بجزم أو ظنّ أو احتمال.


1- العروة الوثقى 473: 6.
2- راجع: جواهر الكلام 376: 40.
3- جواهر الكلام 155: 40.

ص: 241

التاسع: تعيين المدّعى عليه، فلو ادّعى على أحد الشخصين أو الأشخاص المحصورين لم تسمع على قول، والظاهر سماعها؛ لعدم خلوّها عن الفائدة؛ لإمكان إقرار أحدهما لدى المخاصمة، بل لو اقيمت البيّنة على كون أحدهما مديوناً- مثلًا- فحكم الحاكم بأنّ الدين على أحدهما، فثبت بعد براءة أحدهما، يحكم بمديونية الآخر، بل لا يبعد بعد الحكم الرجوع إلى القرعة، فيفرّق بين ما علما أو علم أحدهما باشتغال ذمّة أحدهما فلا تأثير فيه، وبين حكم الحاكم لفصل الخصومة، فيقال بالاقتراع. (10)

أمّا ما لا يتعارف الخصومة به كاحتمال شغل ذمّة زيد مثلًا؛ أو جنايته بمايوجب مالًا أو نحو ذلك ممّا لا يجري التخاصم به عرفاً، فلا سماع للدعوى فيه.

وهذا ما ذهب إليه الإمام (ره) وجعله وجيهاً من التفصيل: حيث قال: «أو التفصيل بين موارد التهمة وما يتعارف الخصومة به وبين غيرهما، فتسمع فيهما، وجوه، الأوجه الأخير»(1) وكأنّه أخذ ذلك من «الجواهر»(2).

الشرط التاسع: معلومية المدّعى عليه بالتعيين

(10) قد تقدّم في الشرط السابع اعتبار أن يكون للمدّعي طرف يدّعى عليه


1- راجع: تحرير الوسيلة: 829.
2- راجع: جواهر الكلام 376: 40.

ص: 242

فبعد اعتبار ذلك قد يقال إنّه يعتبر أن يكون الطرف أي المدّعى عليه معيناً فلو ادّعى على أحد شخصين أو الأشخاص محصورين، فلا تسمع. كما إذا ادّعى أنّ له على أحد هذين دين أو قال: قتل ابني أحد هذين.

واستدلّوا على ذلك بعد عدم وجود النصّ في الباب بعدم الفائدة في هذه الدعوى؛ فإنّه لو قامت البيّنة على هذه الدعوى بأن شهدا على أنّ أحدهما مديوناً لهذا الشخص، أو أقرّا بهذا النحو. بأن يقرّا بكون أحدهما مديونان فلا أثر لها، لأنّ الأصل براءة كلّ منهما ولا تكون أصالة البراءة في مكلّفٍ معارضة بأصالة البراءة في الآخر. كواجدي المني في الثوب المشترك بينهما، مع علمهما بالارتباط بأحدهما فإذا خلت الدعوى عن الفائدة كانت لغواً وبلا أثر. ولكنّ السيّد(1) تصوّر لها الفائدة وقال بسماع الدعوى وعنون لها فرعاً تحت عنوان «العاشر» وتبعه الإمام (ره) بقوله: «والظاهر سماعها، لعدم خلوّها عن الفائدة» وهو الحقّ لأنّ عدم السماع قد ينجّر إلى تضييع الحقوق للمدّعي مثلًا لو كان شريكاًمع شخصين آخرين ثمّ فسخا الشركة وعلم أنّه بقي على عهدة أحدهما مبلغ له، ولكن لا يعلم أيهما المديون فحينئذٍ كانت الدعوى مسموعة ويحتمل إقرار أحدهما عند المخاصمة بكونه مديوناً فيأخذ حقّه، بل لو اقيمت البيّنة على كون أحدهما مديوناً، فحكم الحاكم بأنّ الدين على أحدهما ثمّ ثبت براءةأحدهما بأن يرى سنداً ومدركاً للبراءة فيحكم بمديونية الآخر فيأخذ حقّه منه أيضاً، بل لو لم يقرّ أحدهما ولا يثبت براءة أحدهما أيضاً، لا يبعد بعد الحكم الرجوع إلى القرعة؛ فإنّ الحاكم إذا حكم بمديونية أحدهما بمبلغ معين


1- العروة الوثقى 476: 6.

ص: 243

فيكون الدين أمراً ثابتاً بحكم الحاكم، واشتبه بينهما والقرعة لكلّ أمر مشتبه أو مشكل.

فإذا تصوّر للدعوى فائدة فيشملها إطلاقات وجوب الفصل بين المتنازعين، وعمومات كون ميزان الفصل هي البيّنة واليمين فيلزم سماعها.

ولا يخفى: الفرق بين حكم الحاكم بمديونية أحدهما باستناد البيّنة على ذلك، أو إقرارهما بهذا النحو وبين ما إذا علما باشتغال ذمّة أحدهما لشخص فإنّ في الصورة الثانية لا أثر للعلم الإجمالي بعد كونه بين مكلّفين. لأنّ كلّ واحد منهما يجري أصالة عدم الاشتغال وأصالة البراءة بالإضافة إلى نفسه، ولا تكون أصالة البراءة في مكلّف معارضة بأصالة البراءة في الآخر كواجدي المني في الثوب المشترك بينهما مع علمهما بالارتباط بأحدهما، ولا يمكن إرجاع الأمر فيه إلى القرعة بخلاف صورة حكم الحاكم باشتغال ذمّة أحدهما.

ويظهر من المحقّق في باب القصاص(1)- كما نقل عنه السيّد(2) أيضاً- السماع مع الترديد في المدّعى عليه. قال: «ولو قال قتله أحد هذين سمع إذ لا ضرر في إحلافهما، ولو أقام بيّنة سمعت لإثبات اللوث». ثمّ قال: «وتبعه جماعة منهم العلامة في «القواعد»(3)، بل قال: وكذا دعوى الغصب والسرقة وأمّا القرض والبيع وغيرهما من المعاملات فإشكال ينشأ من تقصيره بالنسيان والأقرب السماع أيضاً»، انتهى.


1- شرائع الإسلام 873: 4 و 892.
2- العروة الوثقى 477: 6.
3- قواعد الأحكام 611: 3.

ص: 244

مسألة 2: لا يشترط في سماع الدعوى ذكر سبب استحقاقه، فتكفي الدعوى بنحو الإطلاق من غير ذكر السبب؛ سواء كان المدّعى به عيناً أو ديناً أو عقداً من العقود. نعم، في دعوى القتل اشترط بعض لزوم بيان أنّه عن عمد أو خطأ، بمباشرة أو تسبيب، كان هو قاتلًا أو مع الشركة. (11)

هل يشترط بيان سبب الاستحقاق في سماع الدعوى؟

(11) الظاهر أنّه لا يشترط في سماع الدعوى أن يذكر المدّعي سبب استحقاقه ووجه الدعوى وخصوصياتها، بل يكفي الدعوى بنحو الإطلاق بأن يقول: إنّ لي على ذمّة فلان كذا، أو فلان سارق مالي، أو غاصبه، أو فلان قاتل ابني مثلًا.

قال المحقّق النراقي: «المسألة السابعة: لا يشترط عند كافّة أصحابنا على ما صرّح به بعضهم(1) ذكر سبب استحقاق المدّعي، ولا كشف ما يلزمها ويتعلّق بها من الحقوق واللوازم، بل يكفي فيها الإطلاق مجرّداً عن ذكر السبب وغيره، لأصالة عدم الاشتراط، وللعمومات المشار إليها، مع أنّ أسباب الاستحقاق كثيرة، وضبط جميعها وذكر مقدارها ممّا يؤدّي إلى الحرج»(2).

نعم عن الشيخ في «المبسوط»(3) دعوى الإجماع على الاشتراط في خصوص


1- كشف اللثام 335: 2.
2- مستند الشيعة 160: 17.
3- راجع: المبسوط 260: 8.

ص: 245

مسألة 3: لو لم يكن جازماً فأراد الدعوى على الغير، لا بدّ أن يبرزها بنحو ما يكون من الظنّ أو الاحتمال، ولا يجوز إبرازها بنحو الجزم ليقبل دعواه؛ بناء على عدم السماع من غير الجازم. (12)

دعوى القتل، وأنّه لا بدّ فيه من بيان أنّه عمد أو خطأ، وأنّه بالمباشرة أو بالتسبيب، وكونه قاتلًا منفرداً أو مع شركة الغير ونحو ذلك. وعلّله بأنّ أمره شديد وفائدته لا يستدرك وبالخلاف في أسبابه.

ويرد عليه: أنّ التعليل لا يستلزم ذكر الخصوصيات في الدعوى بحيث لا يسمع الدعوى إذا كانت خالية عن ذكرها، بل كان ذلك وظيفة الحاكم؛ ليسأل ويستفصل من الحالات والخصوصيات مع أنّه لو ادّعى القتل العمدي، أو القتل بانفراده، ثمّ بعد التحقيق والتوضيح وصل الحاكم إلى عدم كون القتل عمدياً؛ أو كان مع الشركة من الغير، فلا بدّ أن يحكم على مقتضى ما وصل إليه في تحقيقاته.

قال السيّد: «والأقوى عدم الاشتراط وكفاية الإجمال في السماع. نعم، للحاكم أن يستفصل ولو لم يعلم التفصيل لم يسمع»(1).

ويرد على ذيل كلامه: أنّ الذيل يناقض الصدر لأنّه (قدس سره) قال في الذيل: «لو لم يعلم التفصيل لم يسمع الدعوى» ونتيجته اشتراط ذكر سبب الاستحقاق، مع أنّه قال في الصدر: «الأقوى عدم الاشتراط».

(12) هذه المسألة من فروع اشتراط الجزم في الدعوى وهو الأمر الثامن


1- العروة الوثقى 468: 6.

ص: 246

مسألة 4: لو ادّعى اثنان- مثلًا- بأنّ لأحدهما على أحد كذا تسمع، وبعد الإثبات على وجه الترديد يقرع بينهما. (13)

مسألة 5: لا يشترط في سماع الدعوى حضور المدّعى عليه في بلد الدعوى، فلو ادّعى على الغائب من البلد؛ سواء كان مسافراً، أو كان من بلد آخر- قريباً كان أو بعيداً- تسمع، فإذا أقام البيّنة حكم القاضي على الغائب، ويردّ عليه ما ادّعى إذا كان عيناً، ويباع من مال الغائب ويؤدّى دينه إذا كان ديناً. ولا يدفع إليه إلا مع الأمن من تضرّر المدّعى عليه لو حضر وقضى له؛ بأن يكون المدّعي مليّاً أو كان له كفيلٌ. وهل يجوز الحكم لو كان غائباً وأمكن إحضاره بسهولة، أو كان في البلد وتعذّر حضوره بدون إعلامه؟ فيه تأمّل. ولا فرق في سماع الدعوى على الغائب بين أن يدّعي المدّعي جحود المدّعى عليه وعدمه.

المتقدّم. وقد تقدّم منّا أنّ الأقوى عدم اشتراط الجزم في الدعوى فلا يبقى وجه لهذه المسألة وكذا فرض عكس المسألة بأن يبرز الدعوى بنحو الاحتمال مع كونه جازماً.

(13) هذه المسألة من فروع الأمر التاسع المتقدّم، وهو سماع الدعوى مع الترديد في المدّعى عليه، فكذلك يسمع الدعوى لو كان الترديد في طرف المدّعي كما لو ادّعى اثنان أنّ لأحدهما على واحد كذا فبعد الإثبات- إمّا بالبيّنة أو بالإقرار من المدّعى عليه على وجه الترديد- يتعين المحقّ بالقرعة أو يقتسمان على وجه الصلح.

ص: 247

نعم، لو قال: «إنّه مقرّ ولا مخاصمة بيننا» فالظاهر عدم سماع دعواه، وعدم الحكم. والأحوط عدم الحكم على الغائب إلا بضمّ اليمين. ثمّ إنّ الغائب على حجّته، فإذا حضر وأراد جرح الشهود أو إقامة بيّنة معارضة، يقبل منه لو قلنا بسماع بيّنته. (14)

الحكم على الغائب

(14) هذه هي من المسائل المهمّة في الفقه، وهو جواز الحكم على الغائب وحينئذٍ يستظهر من الجواز عدم اشتراط حضور المدّعى عليه في سماع الدعوى ولا بدّ فيها من البحث في جهات.

الجهة الاولى: في أصل مشروعية الحكم على الغائب في الإسلام.

قال صاحب «الجواهر»: «لا إشكال ولا خلاف بيننا في مشروعية الحكم عليه- أي على الغائب- في الجملة، بل الإجماع بقسميه عليه»(1).

قوله: «في الجملة» إشارة إلى الاختلاف في المسألة، فالمشهور على جواز الحكم على الغائب من مجلس الحكم وإن كان حاضراً في البلد ولا محظور له في الحضور. وقال آخرون بجواز الحكم على الغائب من البلد، أو كان حاضراً في البلد لكن حضوره في المجلس الحكم متعذّر فإنّه بمنزلة الغائب. وقال السيّد: «على المشهور المدّعى عليه الإجماع»(2).


1- جواهر الكلام 220: 40.
2- العروة الوثقى 478: 6.

ص: 248

ويدلّ على ذلك رواية جميل بن درّاج، عن جماعة من أصحابنا عنهما قالا: «الغائب يقضي عليه إذا قامت عليه البيّنة ويباع ماله، ويقضي عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم، قال: ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلا بكفلاء»(1)، فدلالتها واضحة تدلّ على لحاظ مصلحة المدّعي، فيسمع دعواه. ولو كان المدّعى عليه غائباً فلعلّه في التأخير والصبر إلى حضوره ضرر عليه فيحكم له ويدفع المال إليه. ولكنّه يلاحظ أيضاً حال الغائب ويكون على حجّته إذا قدّم، فلو ادّعى أداء المال يطلب منه البيّنة، ولو أنكر الدعوى له أن يحلف ويرجع المال إليه. ولحفظ غبطة الغائب يؤخذ من المدّعي الذي أقام البيّنة وأخذ المال الكفيل، لرعاية الاحتياط في حفظ المال. قال المجلسي: «يظهر من قوله: «إلا بكفلاء» عدم الاكتفاء بالكفيل الواحد. ويمكن الجمع باعتبار الموارد»(2).

قد يقال: إنّ الرواية مرسلة ولا اعتناء بالمرسلة في إثبات حكم شرعي لعدم ذكر أسامي الجماعة.

ويرد عليه: أنّ في الرواية خصوصيات تزيد الاعتماد عليها.

منها: أنّ جميل من أصحاب الإجماع.

ومنها: أنّ المرويّ عنه جماعة من أصحابنا، ومن المقطوع أنّهم من المشايخ ولا أقلّ من كون بعضهم من الأجلاء.


1- وسائل الشيعة 294: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 1؛ تهذيب الأحكام 296: 6/ 34.
2- راجع: مرآة العقول 56: 19.

ص: 249

ومنها: أنّ المشهور استندوا عليه وأفتوا على طبقه فلو كان فيها ضعف ينجبر بعمل الأصحاب.

ويدلّ عليه أيضاً رواية اخرى عن جميل بن درّاج، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) نحو رواية الاولى. إلا أنّه زاد في ذيلها: «إذا لم يكن مليّاً»(1).

يستفاد منها: أنّه لو كان المدّعي مليّاً يعتمد عليه ولا يحتاج إلى أخذ الكفيل.

والحاصل: أنّه لا بدّ أن يكون مليّاً حتّى يدفع إليه المال من الغائب وإلا يؤخذ منه الكفيل.

ويدلّ أيضاً رواية زرارة، عن أبي جعفر قال: «كان علي (ع) يقول: لا يحبس في السجن إلا ثلاثة: الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظلماً، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها، وإن وجد له شيئاً باعه غائباً كان أو شاهداً»(2).

يستفاد من قوله: «إن وجد له شيئاً باعه» أنّه بعد أن ثبت جرمه عند الحاكم يباع ماله إجراءً للحكم. ثمّ يستفاد من قوله: «غائباً كان أو شاهداً» أنّه جاز الحكم على الغائب وبيع ماله. إلى هنا من الروايات التي وردت من طرق الخاصّة.

واستندوا أيضاً ببعض الروايات من طرق العامّة.

منها: ما روي عن أبي موسى الأشعري قال: «كان الخصمان إذا اختصما إلى


1- وسائل الشيعة 295: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 1؛ تهذيب الأحكام 191: 6/ 38.
2- وسائل الشيعة 295: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 2.

ص: 250

رسول الله فاتعدا للموعد فوافى أحدهما ولم يواف الآخر قضى للذي يفي منهما»(1).

ومنها: النبويّ المستفيض أنّه قال لهند زوجة أبي سفيان- بعد أن ادّعت أنّه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني و ولدي:- «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»(2).

وأورد السيّد في «العروة»(3) على الثاني بأنّه ليس من باب الحكم، بل بيان الفتوى. مضافاً إلى أنّ عدم حضور أبي سفيان في البلد حين الحكم غير معلوم.

والأولى الإيراد عليهما بضعف السند خصوصاً رواية الاولى بأبي موسى الأشعري.

ولكن مقابل هذه الروايات هناك رواية رواه في «قرب الإسناد» عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (ع) قال: «لا يقضي على غائب»(4). لكنّه محمول إمّا على عدم القضاء عليه جزماً بحيث لا يكون على حجّته، أو على الغائب عن مجلس الحكم مع حضوره في البلد وعدم تعذّر حضوره.

مضافاً إلى ضعف سندها بأبي البختري وهو وهب بن وهب حيث يقال: فيه أنّه عامّي كذّاب(5) وإلى إعراض الأصحاب عنها.


1- كنز العمّال 507: 5/ 14539.
2- السنن الكبرى 466: 7 و 477.
3- راجع: العروة الوثقى 478: 6.
4- قرب الإسناد: 141؛ وسائل الشيعة 296: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 4.
5- هو وهب بن وهب بن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى أبو البختري. راجع: بهجة الآمال في شرح زبدة المقال 166: 7، الحرف« و».

ص: 251

الجهة الثانية: في المراد من الغائب الموجود في النصّ والفتوى، فبعد ثبوت مشروعية الحكم على الغائب يقع الكلام في المراد منه فنقول:

قد يكون المدّعى عليه غائباً عن البلد وقد يكون غائباً عن المجلس.

والأوّل:- أي الغائب عن البلد- قد يكون من بلد آخر، أو سافر إليه من نفس البلد قريباً أو بعيداً طال السفر أو لا، وقد يمكن حضوره بسهولة أو لا.

والثاني:- أي في عدم إمكان الحضور بسهولة- قد يكون متوارياً ومخفياً أو لا. وقد يمتنع حضوره ويتعذّر الوصول إليه أو لا، وقد يمتنع عن الحضور أو لا، فالفروض في صدق الغائب كثيرة.

فهل يجوز الحكم على الغائب في جميع الفروض أو لا؟ ففي المسألة قولان.

القول الأوّل: قال في «المسالك»(1) ثمّ إن كان غائباً عن البلد قضى عليه باتّفاق أصحابنا، سواء كان بعيداً أم قريباً. وكذا لو كان حاضراً في البلد وتعذّر حضوره في مجلس الحكم؛ إمّا قصداً أو لعارض.

ولو لم يتعذّر حضوره فالمشهور الجواز أيضاً لعموم الأدلّة.

القول الثاني: وقال الشيخ في «المبسوط»: «لا يحكم عليه حينئذٍ لأنّ القضاء على الغائب موضع ضرورة فيقتصر فيه على محلّها»(2). وقد اختار الشهيد(3) قول المشهور في ذيل كلامه.

واستدلّ للمشهور- القول الأوّل- بعموم وإطلاق رواية جميل؛ بقوله: «الغائب


1- مسالك الأفهام 468: 13.
2- المبسوط 162: 8.
3- مسالك الأفهام 468: 13.

ص: 252

يقضي عليه»، فإنّه يشمل جميع الفروض ولا ينافيه قوله: «والغائب على حجّته إذا قدّم» فإنّه لم يستظهر منه القدوم من السفر، بل يراد منه إذا قدّم المحكمة.

ولكن الأقوى قول الشيخ فإنّ الحكم على الغائب حكم استثنائي ليس الحاجة إليه؛ فإنّ الحكم بجواز بيع ماله ودفعه إلى المدّعي وأخذ الكفيل منه إذا لم يكن ملياً يستفاد منه أمر لا بدّ منه، ولا يمكن تركه لضرورة المدّعى. أمّا لو كان المدّعى عليه حاضراً في البلد وأمكن إحضاره في مجلس الحكم بلا محذور وبلا مشقّة، فالحكم عليه وبيع ماله ودفعه إلى المشتري من دون اطّلاع المحكوم عليه أمر مستنكر جدّاً، لا يحكم به الشارع، فيقال إنّ الإطلاق منصرف عن مثل ذلك.

هذا قلنا بمقالة الشيخ وأنّ الحكم على الغائب شرع للحاجة والضرورة فقط، فنضيف إلى كلامه ما إذا كان مسافراً أو من بلد آخر ولا مشقّة له في الحضور. وكذا لو كان مسافراً وبإمكانه الرجوع في مدّة قليلة مثلًا في أيّام بحيث لا يتحقّق ضرر على المدّعي في الصبر إلى أن يحضر، ففي هاتين الصورتين أيضاً نقول بعدم جواز الحكم على الغائب لانصراف الأدلّة عنهما أيضاً.

والحاصل: أنّه إذا كان المدّعى عليه غائباً عن البلد وتطول غيبته ولا يمكن إحضاره بسهولة أو كان في البلد ويتعذّر حضوره أو يمتنع عن الحضور، فيحكم القاضي عليه غيابياً، بدليل ما تقدّم من الروايات. وأمّا إذا يرجع عن السفر في زمن قليل أو يمكن إحضاره بسهولة أو كان في البلد ويحضر بمجرّد الاطّلاع فلا. وذلك لانصراف الأدلّة عنها.

قال الإمام (ره)- في ذيل كلامه-: «وهل يجوز الحكم لو كان غائباً وأمكن إحضاره بسهولة، أو كان في البلد وتعذّر حضوره بدون إعلامه؟ فيه

ص: 253

تأمّل»(1) وجه التأمّل ما قلناه والأقوى عدم جواز الحكم في تلك الموارد.

الجهة الثالثة: الظاهر اختصاص الحكم على الغائب بما إذا تحقّق وجود المخاصمة والمنازعة بينهما بأن يدّعي المدّعي جحود المدّعى عليه أو يدّعي عدم علمه بذلك. ولعلّه يكون جاحداً. أمّا لو كان المدّعي مقرّاً بعدم الجحود، بل كان المدّعى عليه مقرّاً ومعترفاً بالدين مثلًا؛ فلا يسمع الدعوى عليه لعدم صدق شكلية المخاصمة. والقضاء هو فصل الخصومة ورفع النزاع.

نعم، لو ادّعى اعترافه بالدين وممّا طلته في أدائه، فيسمع أيضاً لتحقّق النزاع أيضاً بوجه؛ فما قاله الإمام (ره) من أنّ: «الظاهر عدم سماع دعواه وعدم الحكم» صحيح.

فما قد يقال: بأنّ مقتضى إطلاق القضاء على الغائب، عدم الفرق في جواز الحكم عليه بين أن يدّعي المدّعي جحود الغائب عن الحقّ أو لا؟ غير صحيح. فإنّ القضاء متوقّف على صدق النزاع والمخاصمة ومع اعترافه بعدم الجحود، فلا نزاع، حتّى يصحّ الحكم فالمورد خارج عن الإطلاق.

وقد تمسّك السيّد بوجه آخر، وقال: لو قال: «إنّ الغائب معترف بحقّي» يمكن أن يقال بعدم سماع دعواه بناءً على عدم اعتبار تحقّق المنازعة في سماع الدعوى ومع اعترافه باعتراف المدّعى عليه بالحقّ لا يصدق النزاع والمخاصمة، لكنّه ممنوع لشمول عمومات الحكم بالقسط والعدل والقضاء بالبينات والأيمان». انتهى(2).


1- تحرير الوسيلة: 830، مسألة.
2- العروة الوثقى 479: 6.

ص: 254

ويرد عليه أنّ الآيات المباركات والحديث النبويّ راجعة إلى القضاء والحكم وهو متوقّف على صدق المنازعة بلا شبهة فلا تشمل ما نحن فيه. وقال السيّد نفسه في الأمر الثامن(1) ممّا يشترط في سماع الدعوى: يشترط أن يكون للمدّعي طرف يكون بينهما مخاصمة ومنازعة فعلًا: لأنّ المتبادر ممّا دلّ على وجوب السماع وترتّب آثار الحكم صورة وجود المنازعة فعلًا.

فلا فرق في عدم صدق المنازعة فعلًا بين أن لا يكون له طرف أو كان، ولكنّه معترف بحقّه.

الجهة الرابعة: هل يلزم في جواز الحكم على الغائب ضمّ اليمين الاستظهاري بالبيّنة من جانب المدّعي كما في الدعوى على الميّت أو لا؟ المشهور على الأوّل إلحاقاً له بالدعوى على الميّت لشباهته به في عدم اللسان للمدّعى عليه، ليدافع عن نفسه في المحكمة.

والدليل على ذلك هو التعليل الوارد في رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله التي رواها المشايخ الثلاث. قال في الرواية وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات فاقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين «بالله الذي لا إله إلا هو، لقد مات فلان، وأنّ حقّه لعليه»(2) فإن حلف؛ وإلا فلا حقّ له. لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها أو غير بيّنة قبل الموت.

لأنّ قوله (ع): «لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه قبل الموت» يأتي في الغائب


1- العروة الوثقى 471: 6.
2- الكافي 415: 7/ 1؛ تهذيب الأحكام 229: 6/ 555؛ الفقيه 63: 3/ 3343؛ وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

ص: 255

أيضاً لعدم الخصوصية في الميّت فالبيّنة راجعة إلى إثبات أصل الحقّ. وأمّا بقائه إلى حين الموت يحتاج إلى اليمين. وقال جماعة بل هو المنسوب إلى أكثر متأخّري المتأخّرين بالقول الثاني- أي عدم الإلحاق- واستدلّوا على عدم الإلحاق:

1- بأنّ الحكم على خلاف القاعدة فلا بدّ أن يقتصر فيه على قدر المتيقّن. وهو الدعوى على الميّت فلا يمكن التعدّي منه إلى الدعوى عن الغائب والصبيّ والمجنون.

2- وبأنّ القياس مع الفارق فإنّ الميّت لا يكون له لسان الدفاع أصلًا وإلى الأبد بخلاف الغائب، فإنّه وإن كان حين الدعوى عليه لا لسان له ولكن سيرجع ويكون على حجّته.

وقوّى الإمام (ره) في تلك المسألة القول الثاني وقال: «والأقوى عدم إلحاق الطفل والمجنون والغائب وأشباههم- ممّن له نحو شباهة بالميّت في عدم امكان الدفاع لهم- به، فتثبت الدعوى عليهم بالبيّنة من دون ضمّ يمين»(1). ولكنّه قال هنا: «والأحوط عدم الحكم على الغائب إلا بضمّ اليمين»(2) والاحتياط ظاهر في الوجوبي، لعدم ذكر الفتوى قبله فالإلزام بالاحتياط ينافي أقوائية عدم لزوم ضمّ اليمين بحسب الأدلّة. نعم لو اضيف هذا الكلام إلى ما قاله في تلك الباب يستظهر منه الاحتياط الاستحبابي وكان له وجه.

أقول: والأقوى ما قال به الإمام في تلك المسألة، من عدم لزوم ضمّ اليمين، فيكتفي لإثبات الدعوى بالبيّنة ويكون الغائب على حجّته إذا قدّم.


1- تحريرالوسيلة: 837، مسألة 28.
2- تحرير الوسيلة: 830، مسألة 5.

ص: 256

مسألة 6: الظاهر اختصاص جواز الحكم على الغائب بحقوق الناس، فلا يجوز الحكم عليه في حقوق الله تعالى مثل الزنا، ولو كان في جناية حقوق الناس وحقوق الله، كما في السرقة، فإنّ فيها القطع وهو من حقوق الله، وأخذ المال وردّه إلى صاحبه وهو من حقوق الناس، جاز الحكم في حقوق الناس دون حقوق الله، فلو أقام المدّعي البيّنة حكم الحاكم، ويؤخذ المال على ما تقدّم. (15)

(15) هذه هي الجهة الخامسة التي يبحث فيه في الحكم على الغائب، وهي قول المشهور بأنّ جواز الحكم على الغائب مختصّ بحقوق الناس ولا يكون مشروعاً في حقوق الله. وفيه فروع:

الفرع الأوّل: الحكم على الغائب في حقوق الناس.

قال المحقّق (ره): «يقضي على الغائب في حقوق الناس، كالديون والعقود ولا يقضي في حقوق الله، كالزنا واللواط»(1).

وفي «الجواهر»(2): «بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل نسبه غير واحد إلى فتوى الأصحاب».

والدليل على ذلك في حقوق الناس ما تقدّم، من رواية جميل عن أبي عبدالله(3)،


1- شرائع الإسلام 875: 4.
2- راجع: جواهر الكلام 223: 40.
3- راجع: وسائل الشيعة 294: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 1؛ تهذيب الأحكام 296: 6/ 34.

ص: 257

فإنّها وإن كانت واردة في خصوص الدين،- لقوله يباع ماله ويقضي عنه دينه وهو غائب- ولكن بإلغاء الخصوصية عن الدين يستظهر منها جواز الحكم عليه في مطلق حقوق الناس. مضافاً إلى أنّ المعروف في حقوق الناس أنّها مبنيّة على الاحتياط فيراعي جانب المدّعي فيحكم له ويراعي جانب المدّعى عليه بأخذ الكفيل من المدّعي عند تسليم المال إليه.

الفرع الثاني: الحكم على الغائب في حقوق الله.

والدليل على عدم جواز الحكم على الغائب في حقوق الله عزّ وجلّ هو:

1- أنّ البناء فيها على التخفيف لغنائه عنها.

2- وكذا مرسلة صدوق قال: قال رسول الله: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»(1). وهي وإن كانت مرسلة لكنّه لمّا نقلها الصدوق بلفظ «قال» ونسبه إلى رسول الله فهي كاشفة عن اعتماده عليها؛ كما قال به في أوّل «الفقيه» فتكون معتبرة. مضافاً إلى عمل المشهور على طبقها واستنادهم عليها كما لا يخفى على من تأمّلها.

ولكنّ الشبهة هنا موجودة كما هي، لاحتمال أن يكون للغائب حجّة تفسد الحجّة التي قامت عليه غياباً.

الفرع الثالث: الحكم على الغائب في ما كان مشتركاً فيه حقوق الله وحقوق الناس.

أمّا فيما كان فيه حكم الله وحقوق الناس موجود مشتركاً كالسرقة- فإنّ فيها حقّ الله وهو حدّ القطع، وكذا حقّ الناس وهو وجوب ردّ المال إلى المسروق


1- وسائل الشيعة 47: 28، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود وأحكامه العامّة، الباب 24، الحديث 4.

ص: 258

منه- فالظاهر أنّ الدعوى فيه مسموع، ويقضي على الغائب بالنسبة إلى حقّ الناس وهو ردّ المال إلى المدّعي، ولا يقضي عليه في حقّ الله لما عرفت فلكلّ مورد حكمه.

ولكن قال المحقّق (ره): «ولو اشتمل الحكم على الحقّين قضى بما يختصّ الناس، كالسرقة يقضي بالغرم، وفي القضاء بالقطع تردّد»(1)، ففي القضاء عليه في حقّ الله عزّ وجلّ وعدمه تردّد ولم يفت بعدم الجواز كما صرّح به في حقّ الله المحض في صدر كلامه.

وقال في «الجواهر»(2) ولم نجده لغيره.

وقال في «المسالك»(3) وباقي الأصحاب قطعوا بالفرق بين حقّ الناس وحقّ الله- وفي حقّ الله أفتوا بعدم جواز القضاء على الغائب- وذكر في «الجواهر»(4) وجه ترديد المحقّق بأنّهما معلولا لعلّة واحدة فلا وجه لتبعيض مقتضاها. يعني أنّ العلّة لحدّ القطع ووجوب ردّ المال هي السرقة، فإذا تحقّقت يترتّب الحكم على كليهما. وإن لم تتحقّق فلا يترتّب على كليهما، أمّا ترتّب أثر الردّ بأن يحكم على الغائب بردّ المال دون القطع فلا وجه له.

وأجاب عنه الشهيد(5) بأنّ العلل الشرعية ليست عللًا حقيقية، وإنّما هي معرّفات للأحكام وتخلّف أحد المعلولين فيها لمانع محتمل، بل واقع كثيراً، ففي مثال


1- شرائع الإسلام 875: 4.
2- راجع: جواهر الكلام 223: 40.
3- راجع: مسالك الأفهام 469: 13.
4- راجع: جواهر الكلام 223: 40.
5- راجع: مسالك الأفهام 469: 13.

ص: 259

السرقة لو أقرّ بالسرقة مرّة واحدة يثبت عليه المال دون القطع. وذلك لأنّ القطع يحتاج إلى تعدّد الإقرار، فعدم ترتّبه لمانع وهو عدم وجود التعدّد. وكذلك العكس لو كان المقرّ محجوراً عليه في المال يثبت القطع دون المال لوجود المانع في المال وهو الحجر.

ونوقش عليه في «الجواهر»(1) وأكّده السيّد في «ملحقات العروة»(2) بأنّ العلل الشرعية وإن كانت معرّفات للأحكام، وليست علّة حقيقية ولكن يجري عليها حكم العلل التامّة ولا يعقل انفكاكه عن العلّة أو تبعيض المعلولين. قال- السيّد (ره)- وعلى ذلك مبنى حجّية منصوص العلّة أي يكون الحكم دائراً مدار وجود العلّة أين ما كان. والتخلّف في المثال المزبور من جهة اختلاف العلّة، لا تفكيك المعلول؛ ففي صورة الإقرار مرّة واحدة بالسرقة- بالنسبة إلى ردّ المال- تحقّقت العلّة فيحكم بردّ المال، أمّا بالنسبة إلى قطع اليد فيكون العلّة هي السرقة، إذا ثبتت بالإقرار مرّتين، وحيث يكون الإقرار مرّة واحدة؛ فلم يتحقّق العلّة فلا يحكم بالقطع وفي صورة الإقرار مرّتين من المحجور عليه تحقّقت العلّة بالنسبة إلى القطع.

أمّا بالنسبه إلى ردّ المال فبما أنّ الإقرار علّة لثبوت السرقة من غير المحجور عليه؛ فلا يحكم بالردّ لعدم تحقّق علّته ولو ثبتت فهو في غير موضوع وفيما نحن فيه إذا ثبتت السرقة من الغائب بالبيّنة عند الحاكم فيحكم عليه بردّ المال لتحقّق العلّة، أمّا بالنسبة إلى القطع فعلّته هي السرقة بشرط الثبوت بالبيّنة مع حضور


1- راجع: جواهر الكلام 223: 40.
2- راجع: العروة الوثقى 481: 6.

ص: 260

المدّعى عليه، فلا يحكم على الغائب بالقطع لعدم تحقّق العلّة.

قال السيّد(1):- في الإيراد على وجه ترديد المحقّق- القطع وردّ المال- بأنّهما معلولا علّة واحدة وهي السرقة فلا وجه للتبعيض وفيه منع كون العلّة في القطع هي السرقة فقط، بل مع ثبوتها بحضور المدّعى عليه.

الجهة السادسه: ما هو المراد من كون الغائب على حجّته؟

قد دلّت روايتي جميل ومحمد بن مسلم بالصراحة على أنّ الغائب على حجّته بعد أن يحكم على الغائب ويجري الحكم ببيع ماله وأداء دينه منه مع أخذ الكفيل(2)، فيستظهر منهما أنّ غيبته ليست موجبة لكونه محروماً عمّا للمدّعى عليه من الحقوق، لو كان حاضراً فله أن يدّعي عدم أهلية الحاكم للقضاء أو المحكمة من جهة محدودية اختيارات المحكمة مثلًا. وكذلك له جرح الشهود وله أيضاً أن يدّعي وفاء الدين، فله أن يثبته بالبيّنة، فكلّ ما كان للمدّعى عليه لو كان حاضراً ثابت له ولو كان غائباً ويقوم به حيث قدم.

قال السيّد: «الظاهر جواز إعادة المرافعة برضاهما عند الحاكم الأوّل أو غيره ولا يكون نقض للحاكم الأوّل لعدم تماميته بعد كون الحجّة باقية»(3).

أقول: الظاهر أنّه غير تامّ، فإنّ المستفاد من الروايات أنّ الحاكم بعد طرح الدعوى عنده- وكانت الدعوى مسموعاً- يحكم على الغائب، ثمّ يجري الحكم بعده فيكون تماماً بحيث لو رجع الغائب وادّعى جرح الشهود مثلًا أو ادّعى


1- راجع: العروة الوثقى 480: 6.
2- راجع: وسائل الشيعة 294: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 1.
3- العروة الوثقى 480: 6.

ص: 261

مسألة 7: لو تمّت الدعوى من المدّعي، فإن التمس من الحاكم إحضار المدّعى عليه أحضره، ولا يجوز التأخير غير المتعارف. ومع عدم التماسه وعدم قرينة على إرادته فالظاهر توقّفها إلى أن يطلبه. (16)

الدين ولم يثبته ولم يقم عليه البيّنة فلا يحتاج إلى الحكم ثانياً. نعم، لو أقام البيّنة وكان مرضيّاً عند الحاكم يرجع عن حكمه كما إذا علم باشتباهه في الحكم. فإعادة المرافعة عنده أو عند قاض آخر لا وجه له، فإنّه نقض لحكم الحاكم؛ وهو غير صحيح.

(16) قد تقدّم في المسألة الاولى- من سلسلة المسائل التي هذه المسألة سابعها- أنّه يشترط في سماع الدعوى امور. ثمّ ذكر تسعة امور يعتبر في سماع الدعوى، من البلوغ والعقل وعدم الحجر لسفه وأن لا يكون أجنبيّاً عن الدعوى وأن يكون للدعوى أثر وأن يكون المدّعى به معلوماً وأن يكون للمدّعي طرف، والجزم في الدعوى وأن يكون المدّعى عليه معلوماً معيناً. ثمّ ذكر عدم اشتراط أمرين ممّا كان مختلفاً فيه عند الأصحاب- وهو عدم اشتراط ذكر سبب استحقاقه للمدّعى به، وعدم اشتراط حضور المدّعى عليه في بلد الدعوى- ثمّ تعرّض- الآن- في البحث عن هذه المسألة وقال إذا تمّت الدعوى بأن كانت واجدة لجميع الشرائط وكانت مسموعة فلو التمس من الحاكم احضار المدّعى عليه أو كانت هناك قرينة على إرادته أحضره الحاكم ولا يجوز التأخير الغير المتعارف لإمكان تضرّره من التأخير وإلا فالظاهر توقّفها إلى أن يطلبه.

هذه المسألة محلّ خلاف عند الأصحاب، وفيها قولان:

ص: 262

القول الأوّل: ذهب جمع من الفقهاء منهم الشهيد في «المسالك»(1) إلى أنّه لو تمّت الدعوى من المدّعي، كانت وظيفة الحاكم أن يطالب المدّعى عليه للجواب.

القول الثاني: وذهب جمع آخر إلى أنّه يتوقّف على مطالبة المدّعي، فلو التمس من الحاكم أن يطالبه فهو، وإلا فيتوقّف الدعوى إلى أن يلتمس من الحاكم المطالبة.

قال المحقّق(2): «إذا تمّت الدعوى، هل يطالب المدّعى عليه بالجواب، أو يتوقّف ذلك على التماس المدّعي؟ فيه تردّد، والوجه أنّه يتوقّف».

وفي «الجواهر»(3): «بل قولان للشيخ، بل قيل: إنّه الأشهر، بل عن المبسوط عندنا مشعراً بالإجماع. ثمّ قال ولكن الأوجه خلافه وفاقاً للمحكيّ عن جماعة».

استدلّ المحقّق(4) للتوقّف بأنّه حقّ له فيقف على المطالبة. واستدلّ في «الجواهر»(5) لقوله بالأصل يعني الأصل عدم التوقّف وعدم لزوم الالتماس من الحاكم في المطالبة. ولكونه حقّاً للحاكم المنصوب لقطع المنازعات والخصومات إلا أن يسقط المدّعي حقّه.

واستدلّ في «المسالك»(6) للقول بعدم التوقّف بدلالة شاهد الحال على الطلب


1- راجع: مسالك الأفهام 440: 13.
2- شرائع الإسلام 872: 4.
3- جواهر الكلام 157: 40.
4- شرائع الإسلام 872: 4.
5- جواهر الكلام 157: 40.
6- مسالك الأفهام 440: 13.

ص: 263

للعلم العادي، بأنّ الإنسان لا يحضر خصمه إلى مجلس الحكم ليدّعي عليه وينصرف من غير جواب.

وفيه: أنّ المرجع لهذا الاستدلال هو القول بالتوقّف. واستدلال الشهيد ينتج العكس لأنّ شاهد الحال الذي استدلّ بها الشهيد على عدم التوقّف يقتضي الطلب وقرينة للالتماس من الحاكم مطالبة المدّعى عليه، فإنّ الالتماس قد يكون بالصراحة وقد يكون بقرينة شاهد الحال، ولعلّ هذا خلط على الشهيد (ره) مع جلالة شأنه. ولهذا نقول:

والأقوى قول صاحب «الجواهر»- القول بالتوقّف- يعني إذا التمس المدّعي من الحاكم المطالبة أو كانت هناك قرينة موجودة دالّة على ذلك من شاهد الحال وغيره، فهو، وإلا فاللازم على القاضي أن يطالبه للجواب والدفاع عن نفسه، فإنّ القاضي منصوب لرفع النزاع وحل الاختلاف، فإذا طرح المدّعي دعواه وكانت مسموعة كان معناه وجود النزاع والاختلاف بينهما وحينئذٍ لا يجوز للقاضي الصبر والانتظار حتّى يطلب المدّعي بالمطالبة أو يأذن للقاضي أن يطالب المدّعى عليه، بل يلزم عليه على حسب وظيفته إحضار المدّعى عليه ليسمع منه الجواب ويحكم بينهما، فكما أنّ القاضي، عند طرح الدعوى من المدّعي موظّف بالتفحّص والتحقيق في الدعوى كي يفهم هل هو واجد لجميع شرائط السماع أو لا؟ وإذا علم جامعية الدعوى للشرائط تصير الدعوى مسموعة؛ كذلك عليه وظيفة اخرى، وهو إحضار المدّعى عليه، واستماع الجواب عنه ثمّ الحكم بينهما على مقتضى الموازين القضائية. وكما أنّه وظيفة بل حقّ عامّ للحاكم كذلك تكون السيرة أيضاً، بل ارتكاز العقلائية عليه فإذا طرحت

ص: 264

الدعوى ومضت أيام ثمّ راجع إلى القاضي ورأى أنّه لم يحضر المدّعى عليه ليس للقاضي الاعتذار بأنّك لم تسئل الإحضار ولم تلتمس المطالبة؛ لأنّه مستنكر عند العقلاء ويقولون إنّه لم يعمل بوظيفته بلا شبهة، بل السيرة والارتكاز العقلائية تحكم بأنّ وظيفة القاضي الإحضار بعد طرح الدعوى.

ولا فرق في ذلك بين الشريف والوضيع، بل لا بدّ للقاضي من إحضار المدّعى عليه وإن كان له شأن ووجاهة في الاجتماع فإنّ المسلمين سواء سواء تجاه القانون، ويجري القانون عليهم بلاتفاوت. ولا دليل على القول بأنّ الشريف يستدعي منه الوكيل أو يدّعي في منزل القاضي وأمثال ذلك.

كما أنّه لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة سواء كانت برزة أو مخدّرة، أي لا دليل على التفصيل بين البرزة والمخدّرة فإنّ إحضارها للجواب عن ما يدّعي عليها ليست خلاف شأنها وليست منافية للخدرة، غاية الأمر تطلب خلف السترة مثلًا.

ص: 265

فصل: في جواب المدّعى عليه

اشارة

المدّعى عليه: إمّا أن يسكت عن الجواب، أو يقرّ، أو ينكر، أو يقول: «لا أدري»، أو يقول: «أدّيت» ونحو ذلك ممّا هو تكذيب للمدّعي.

القول: في الجواب بالإقرار

مسألة 1: إذا أقرّ المدّعى عليه بالحقّ- عيناً أو ديناً- وكان جامعاً لشرائط الإقرار وحكم الحاكم ألزمه به، وانفصلت الخصومة، ويترتّب عليه لوازم الحكم، كعدم جواز نقضه، وعدم جواز رفعه إلى حاكم آخر، وعدم جواز سماع الحاكم دعواه، وغير ذلك. ولو أقرّ ولم يحكم فهو مأخوذ بإقراره، فلا يجوز لأحد التصرّف فيما عنده إذا أقرّ به إلا بإذن المقرّ له، وجاز لغيره إلزامه، بل وجب من باب الأمر بالمعروف. وكذا الحال لو قامت البيّنة على حقّه من جواز ترتيب الأثر على البيّنة، وعدم جواز التصرّف إلا بإذن من قامت على حقّه. نعم، في جواز إلزامه أو وجوبه مع

ص: 266

قيام البيّنة من باب الأمر بالمعروف إشكال؛ لاحتمال أن لا يكون الحقّ عنده ثابتاً ولم تكن البيّنة عنده عادلة، ومعه لا يجوز أمره ونهيه، بخلاف الثبوت بالإقرار. (1)

(1) إذا ادّعى المدّعي على شخص عند الحاكم فجواب المدّعى عليه- بعد تفهيم الاتّهام عند القاضي- لا يخرج عن إحدي الحالات الثلاثة:

الحالة الاولى: ربّما يقرّ المدّعى عليه ويقول: هو صادق في ادّعائه.

الحالة الثانية: وربما ينكر ويقول: هو كاذب في ادّعائه وليس له على شي ء.

الحالة الثالثة: وثالثة يسكت ولا يجيب نفياً أو إثباتاً.

لا يقال: إنّ السكوت ليس بجواب.

فإنّه يقال: أوّلًا: في إطلاق الجواب على السكوت مسامحة من ناحية الماتن (ره).

وثانياً: أنّ صاحب «الجواهر» (ره) عنون البحث ب- «ما يصدر من المدّعى عليه» عند طرح الدعوى عليه. ويراد منه ردّ فعل المدّعى عليه عند طرح الدعوى وهذا يعمّ السكوت أيضاً، فإنّ ردّ الفعل يمكن أن يكون بالإقرار أو بالإنكار وثالثة بالسكوت، فالسكوت ليس بجواب بالدقّة وإذا عبّرنا عنه بالجواب يكون مسامحة في التعبير والمقصود هو ردّ الفعل.

ثالثاً: نقول: إنّ الجواب يصدق على السكوت أيضاً، لأنّ نتيجة الإصرار على السكوت هو الإنكار فإنّ السكوت عن الجواب كالنكول، حيث إنّه لا يحلف المدّعى عليه. ولا يرد القسم على المدّعي. وقلنا: حكم النكول لا يخرج عن

ص: 267

أحد الأمرين إمّا يقضي عليه بمجرّد النكول أم يرد القاضي اليمين على المدّعي والسكوت أيضاً في حكم النكول وحكمه أحد الأمرين كما سيأتي.

ولا يهمّنا البحث عن هذا فلنبحث عن حكم الحالات الثلاثة.

القول في إقرار المدّعى عليه

اشارة

إن أقرّ المدّعى عليه بما ادّعى المدّعي فحينئذٍ إن حكم الحاكم ألزم المدّعى عليه بالحكم، ولا فرق في ذلك بين إقرار المدّعى عليه واقامة البيّنة عليه.

إمّا القصاص أو الدية أو الغرامة المالية أو غير ذلك، وينتهي الدعوى و يترتّب عليه آثار الحكم من عدم جواز طرح الدعوى في محكمة اخرى، وعدم جواز استماع الدعوى للقاضي الثاني أيضاً لو طرح عنده.

وإن لم يحكم بعد الإقرار فهل يلزم المقرّ بالإقرار أيضاً من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو نصبر حتّى يحكم الحاكم؟- كما أنّ هذا أيضاً محطّ البحث في البيّنة- قال الإمام (ره) في الفرق بين الإقرار بالشي ء والإقرار عليه تبعاً للشهيد(1). ما حاصله كما يلي.

الفرق الأوّل: لو أقرّ المدّعى عليه بشي ء للمدّعي ولم يحكم القاضي بعد، لا يجوز لأحد التصرّف فيه إلا بإذن المقرّ ويجوز إلزام المدّعى عليه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لأنّ إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ، والمقرّ بما أنّه من العقلاء؛ فإقراره نافذ في حقّ نفسه. ولكن أشكل على جواز ترتّب الأثر وإلزام المدّعى عليه من باب


1- راجع: مسالك الأفهام 442: 13.

ص: 268

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال: لعلّ المدّعى عليه لا يصدق البيّنة وسوف يجرح البيّنة ويسقطها عن الحجّية. أو لعلّ البيّنة لم يكن واجدة الشرائط من العدالة وغيرها ولا يقبل القاضي عدالة البيّنة.

إذن نصبر حتّى يحكم القاضي ويلزم المدّعى عليه. وأضاف الشهيد أنّ البيّنة مختصّة بالقاضي فالإقرار علّة تامّة للإلزام بخلاف البيّنة.

وقد ناقش فيه- في كلام المشهور- صاحب «الجواهر»(1) بالعموم أو إطلاق ما دلّ على قبوله بدلالة هؤلاء الروايات على قبول البيّنة وترتّب الأثر بمقتضاها من غير فرق بين أن يكون قبل حكم الحاكم أو بعد الحكم، بل كما أنّ القاضي يحكم بمقتضى البيّنة فعموم الناس يلزمون من عليه البيّنة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاري هنا أيضاً، فلا اختصاص للبيّنة بالقاضي.

وكمثال نقول عند ما تقام البيّنة على نجاسة ماء مثلًا يعامل معها بالنجاسة في الناس بدون أي تفاوت، غير أنّ القاضي بما أنّه في مقام القضاء بإمكانه أن يحكم- في مقامه- مقتضى البيّنة.

الفرق الثاني: أنّ القبول أو الردّ في البيّنة يحتاج إلى التحقيق والتفحّص والاجتهاد. وهذا من قدرات القاضي في مقام القضاء لا أيّ شخص غير الحاكم والقاضي.

بخلاف الإقرار فإنّه لا يحتاج إلى التفحّص والاجتهاد.

ويرد عليه أوّلًا: أنّ الإقرار أيضاً يحتاج إلى التفحّص والاجتهاد ولا يعلمه الناس والقاضي بإمكانه أن يعلم، فكما أنّه نفرض لقبول البيّنة شرائط، فلقبول


1- راجع: جواهر الكلام 160: 40.

ص: 269

الإقرار أيضاً شرائط خاصّة يطبقها القاضي.

ثانياً: محلّ البحث في البيّنة والإقرار التامّ الواجد للشرائط. وعندئذٍ لا فرق بين البيّنة والإقرار في القبول أو الردّ.

النتيجة: ممّا قاله الشهيد والإمام (رحمهما الله)

إنّ الشهيد والإمام (رحمهما الله) قالا بالفرق بين البيّنة والإقرار في المسألة وجاءا بالدليل وناقشنا في دليليهما، كما قال به صاحب «الجواهر»(1) وأشرنا إلى كلامه. وقال السيّد اليزدي أيضاً في الردّ على الفرق: «على هذا كما أنّه يجوز لكلّ من سمع الإقرار مع تحقّق شرائط أن يلزم المقرّ بالحقّ كذلك يجوز لكلّ من سمع شهادة الشاهدين مع علمه»(2) بعد التهمة أن يلزم المدّعى عليه بما شهد به.

نعم، هناك نكتة لعلّها لا يفهم من كلام السيّد اليزدي (ره) وهو وجوب الإقرار بالبيّنة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لا يقال: بعد أن ثبت جواز الإلزام أو وجوب الإلزام بعد الإقرار أو إقامة البيّنة فلا تحتاج إلى حكم الحاكم ولا الإلزام بحكم القاضي.

لأنّه يقال: أوّلًا: هذا يوجب لغوية الحكم مع أنّ لزوم حكم الحاكم متّفق عليه.

ثانياً: يترتّب على حكم الحاكم آثار اخر غير الإلزام أيضاً، فنقول بعد الإلزام ننتظر حكم الحاكم حتّى نتحصّل على تلك الآثار.


1- راجع: جواهر الكلام 161: 40.
2- العروة الوثقى 482: 6.

ص: 270

مسألة 2: بعد إقرار المدّعى عليه ليس للحاكم على الظاهر الحكم إلا بعد طلب المدّعي، فإذا طلب منه يجب عليه الحكم فيما يتوقّف استيفاء حقّه عليه على الأقوى، ومع عدم التوقّف على الأحوط، بل لا يخلو من وجه. وإذا لم يطلب منه الحكم أو طلب عدمه فحكم الحاكم، ففي فصل الخصومة به تردّد. (2)

مطالبة المدّعي للحكم

(2) ثمّ بعد طرح الدعوى والإقرار أو إقامة البيّنة هل الحكم متوقّف على مطالبة المدّعي، أم يحكم الحاكم بين المترافعين حيث شاء؟ الأقوال فيها مختلفة.

قال الإمام (ره) المسألة ذو صور مختلفة وجعل الصور كما يلي:

وإن طلب المدّعي عن الحاكم الحكم بعد سماع الدعوى والإقرار أو البيّنة، فإن كان استيفاء الحقّ متوقّفاً على الحكم، يجب على الحاكم الحكم، على الأقوى. وإن لم يكن استيفاء الحقّ متوقّفاً على حكم الحاكم يجب على الحاكم الحكم على الأحوط، بل الوجوب في هذه الصورة لا يخلو من وجه.

وإن لم يطلب المدّعي من الحاكم الحكم لا يجب على الحاكم صدور الحكم. ولو حكم في هذه الصورة أو إذا طلب المدّعي عدم الحكم ومع ذلك حكم الحاكم؛ ففي فصل الخصومة بهذا الحكم تردّد.

ولعلّ دليل تردّد الإمام (ره) في تحقّق فصل الخصومة إذا حكم الحاكم بدون

ص: 271

استدعاء المدّعي واستظهاره- حيث قال على الظاهر- عدم وجوب صدور الحكم عند عدم الطلب؛ أنّ صدور الحكم حقّ للمدّعي فلا يستوفي إلا بعد طلب المدّعي.

ولهذا أيضاً أثبت المحقّق(1) القول بعدم توقّف الحكم على طلب المدّعي. ولكن قول صاحب «الجواهر» مخالف لهما حيث قال- بعد كلام المحقّق- الأقوى خلافه. وقال: لأنّه حقّ للحاكم وعليه الحكم بعد استماع الدعوى والأدلّة. ولو لم يرضى المدّعى بصدور الحكم بما أنّ الحكم ربما يكون بضرره(2) إلا أن يرفعا اليد- أي المدّعي والمدّعى عليه معاً- عن الخصومة.

ووافقه السيّد اليزدي(3) أيضاً حيث قوى القول بعدم الحاجة في صدور الحكم إلى طلب المدّعي أو المدّعى عليه.

حول نفوذ «الإقرار العقلاء» في القضاء

تنبيه: إنّ هنا مشكلة مهمّة في المسألة لم يتعرّض لها من الفقهاء سوى المحقّق العراقي- آغا ضياء-(4) وهو أنّه قد قلنا في باب الإقرار أنّ دليل حجّية الإقرار هو القول بنفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم- إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز- فهناك يتصوّر أربعة صور:

الصورة الاولى: إقرار المدّعى عليه لنفع نفسه.


1- راجع: شرائع الإسلام 872: 4.
2- راجع: جواهر الكلام 163: 40.
3- راجع: العروة الوثقى 483: 6.
4- كتاب القضاء: 73- 74.

ص: 272

الصورة الثانية: إقرار المدّعى عليه لضرر نفسه.

الصورة الثالثة: إقرار المدّعى عليه لنفع الغير.

الصورة الرابعة: إقرار المدّعى عليه لضرر الغير.

ومحلّ البحث صورة واحدة من هذه الأربعة، لأنّ الإقرار لنفع الغير لا يسمع بما أنّ المقرّ ربّما لا يكون عادلًا. والإقرار لنفع نفسه أيضاً لا يسمع لأنّ المقرّ ذي نفع في الإقرار والإقرار لضرر الغير أيضاً لا يسمع وهو واضح.

إذاً يبقى صورة واحدة وهو الإقرار لضرر نفسه.

فنقول: إذا أقرّ المدّعى عليه بالدعوى فلا يجوز له التصرّف في موردالمرافعة، لأنّه أقرّ على نفسه وأمّا بالنسبة إلى جواز تصرّف المدّعي وعدم جواز تصرّف غير المدّعي فلا يسمع إقراره لأنّ قاعدة- إقرار العقلاء- لا تشمل هذين الصورتين، حيث إنّه ولو كان عادلًا يسمع شهادته لنفع الغير بضميمة شاهد آخر.

وربما يوجد التباني بين المدّعي والمدّعى عليه في إقرار المدّعى عليه. فالثمرة الوحيدة لإقرار المدّعى عليه على نفسه هو عدم جواز تصرّف المدّعى عليه في مورد الإقرار.

ص: 273

مسألة 3: الحكم: إنشاء ثبوت شي ء، أو ثبوت شي ء على ذمّة شخص، أو الإلزام بشي ء، ونحو ذلك. ولا يعتبر فيه لفظ خاصّ، بل اللازم الإنشاء بكلّ ما دلّ على المقصود- كأن يقول: «قضيتُ» أو «حكمتُ» أو «ألزمتُ» أو «عليك دين فلان» أو «هذا الشي ء لفلان»، وأمثال ذلك- من كلّ لغة كان إذا اريد الإنشاء، ودلّ اللفظ بظاهره عليه ولو مع القرينة. (3)

في معنى الحكم

(3) الإنشاء في مقابل الإخبار، وهو بمعنى إيجاد ما لم يكن موجوداً، لكن في وعاء الاعتبار فإذا قال مثلًا «بعت» فقد أوجد البيع اعتباراً وإذا قال «أنكحت» فقد أوجد علقة النكاح بين الزوجين، وهو أمر لم يكن موجوداً من قبل.

والإخبار حكاية عن الأمر المتحقّق في الماضي مثل «بعت» إذا أراد الإخبار عن تحقّق البيع في الماضي أو أنكحت كذلك.

فإذا قلنا: «الحكم إنشاء» نقصد أنّ الحاكم يوجد بإنشائه أمراً في مقام الاعتبار ما لم يكن موجوداً من قبل، كالحكم بثبوت عقد النكاح أو البيع أو الإيقاع أو الإلزام بأداء الدين، أو الحكم بثبوت الدين على عهدة زيد مثلًا.

ولا يعتبر في الإنشاء لفظ خاصّ، بل اللازم الإنشاء بما دلّ على المقصود، مثل «حكمت بذلك» أو «قضيت به» أو «ألزمت» أو «أنفذت» أو «إدفع إليه ماله» بأيّ لغة كان ولا اختصاص باللغة العربيّة لعدم الدليل عليه.

فيعبّر عنه الإمام (ره) بالإنشاء القولي أي باللفظ بأيّ لغة كان، ولو دلّ اللفظ عليه بالقرينة.

ص: 274

قال السيّد (ره): «بل يكفي فيه الفعل الدالّ إذا قصد به الإنشاء كما إذا أمر ببيع مال المحكوم عليه أو أخذ ماله ودفعه إلى المحكوم له»(1).

وأجاب عنه السيّد الگلپايگاني- على ما في تقريراته- وقال: «وهو مشكل لعدم تحقّق الحكم بالفعل عند أهل العرف وشمول الإطلاقات له غيرمعلوم»(2).

ولكن يرد عليه بثبوت صدق العرفي بالفعل. وكمثال نقول إذا كانت المخاصمة على عين وهو موجود في المحكمة في مقابل الحاكم فأخذه الحاكم ودفعه إلى المحكوم له. بقصد الانشاء، وأظهر أنّ هذا الفعل بعنوان الحكم، فيصدق عليه عرفاً أنّه قضى وحكم بذلك. كما أنّه كذلك لو أخذ تمرة وأكله بقصد إنشاء الحكم بالعيد ووجوب الإفطار، فيصدق عليه عرفاً الحكم بالعيد، بل يحتمل صدق الإنشاء عرفاً بوجوده الكتبي كما إذا كتب ما انتهى إليه نظره في المحكمة بعنوان إنشاء الحكم وأعطاه الطرفين فيعلمان الحكم في القضيّة، ممّا في الكتابة، وليس هذا من باب أنّ المكتوب كاشف عن حكمه ورأيه، بل يفهم أنّه كتبه بقصد إنشاء الحكم بالكتابة فيصدق عرفاً أنّه حكم من الحاكم. والمتعارف فعلًا في المحاكم أيضاً ذلك ولم يقل أحد أنّه ليس بحكم ولا يعترض عليه أحد، فهذا شاهد على صدق العرفي. ويستفاد ذلك أيضاً من كلام المحقّق العراقي (ره)(3).


1- العروة الوثقى 484: 6.
2- كتاب القضاء: 288.
3- راجع: كتاب القضاء: 76.

ص: 275

مسألة 4: لو التمس المدّعي أن يكتب له صورة الحكم أو إقرار المقرّ، فالظاهر عدم وجوبه إلا إذا توقّف عليه استنقاذ حقّه. وحينئذٍ هل يجوز له مطالبة الأجر أم لا؟ الأحوط ذلك وإن لا يبعد الجواز. كما لا إشكال في جواز مطالبة قيمة القرطاس والمداد. وأمّا مع عدم التوقّف فلا شبهة في شي ء منها. ثمّ إنّه لم يكتب حتّى يعلم اسم المحكوم عليه ونسبه على وجه يخرج عن الاشتراك والإبهام. ولو لم يعلم لم يكتب إلا مع قيام شهادة عدلين بذلك، ويكتب مع المشخّصات النافية للإيهام والتدليس، ولو لم يحتج إلى ذكر النسب وكفى ذكر مشخّصاته اكتفى به. (4)

هل يجب على القاضي كتابة صورة الحكم أو إقرار المدّعى عليه؟

(4) المسألة واضحة ولكن هناك امور نشير إليها اختصاراً:

الأمر الأوّل: نسب إلى الأشهر وجوب كتابة الحكم على القاضي بعد الإنشاء لو التمس القاضي.

الأمر الثاني: إذا توقّف استنفاذ الحقّ على كتابة الحكم، فهو، وإلا لا يجب الكتابة. ولو كتب لا يجوز للحاكم مطالبة الأجر على الكتابة على الأحوط ولا يبعد القول بجواز مطالبة الأجر للكتابة كما يجوز مطالبة قيمة القرطاس والمداد وغيره.

الأمر الثالث: وإذا لم يتوقّف استنقاذ الحقّ على الكتابة لا يجب على القاضي الكتابة ولا يأتي أحكامه من أجر الكتابة وأخذ قيمة القرطاس وغيره.

ص: 276

مسألة 5: لو كان المُقرّ واجداً الزم بالتأدية، ولو امتنع أجبره الحاكم، وإن ماطل وأصرّ على المماطلة، جازت عقوبته بالتغليظ بالقول حسب مراتب الأمر بالمعروف، بل مثل ذلك جائز لسائر الناس، ولو ماطل حبسه الحاكم حتّى يؤدّي ما عليه، وله أن يبيع ماله إن لم يمكن إلزامه ببيعه. ولو كان المقرّ به عيناً يأخذها الحاكم بل وغيره من باب الأمر بالمعروف، ولو كان ديناً أخذ الحاكم مثله في المثليات وقيمته في القيميات بعد مراعاة مستثنيات الدين، ولا فرق بين الرجل والمرأة فيما ذكر. (5)

الأمر الرابع: لو أراد الكتابة فعليه كتابة الاسم والنسب لو يعرفهما وإن لم يعرفهما فليأتي الشاهدان عدلان ويكتب الاسم والنسب بعد شهادة البيّنة بالاسم والنسب، ولو كفي كتابة الاسم فقط يكتفي بالاسم فقط.

(5) قال في «المستند»: «ومن ذلك يعلم أنّه إذا آل الأمر إلى العقوبة والإيذاء لا يجوز لغير الحاكم، لأنّها أعمال غير جائزة في الأصل يجب الاقتصار فيها على موضع الرخصة، ولأنّ غيره لا يعلم قدر الجائز منها فيتعدّي عن الحقّ»(1).

أقول: ونحن نضيف إلى ذلك أنّ هذه الاستدلالات مقيدة بغير زمن استقرار الحكومة الإسلامية وعندئذٍ لا بدّ أن يرجع إلى الحاكم وهو يعمل بمقتضى اللزوم لدفع الهرج والمرج والحفظ من الإخلال في النظام.


1- مستند الشيعة 179: 17.

ص: 277

مسألة 6: لو ادّعى المقرّ الإعسار وأنكره المدّعي، فإن كان مسبوقاً باليسار فادّعى عروض الإعسار فالقول قول منكر العسر، وإن كان مسبوقاً بالعسر فالقول قوله، فإن جهل الأمران ففي كونه من التداعي أو تقديم قول مدّعي العسر تردّد؛ وإن لا يبعد تقديم قوله. (6)

في ادّعاء المدّعى عليه الإعسار

(6) لو ادّعى المقرّ الإعسار فإن ثبتت إعساره عند القاضي إمّا بعلمه أو بتصديق صاحب الدين، وإن لم يثبت الإعسار عند القاضي فإمّا أن يصدقه المدّعي أو ينكره فتصير الصور مختلفة، قد تعرّض الإمام (ره) للصورة الاولى- أي ثبوت إعسار المقرّ- في مسألة 7 من هذه السلسلة ويأتي آنفاً وهنا في مسألة 6 بحث عن الصورة الثانية وهي صورة عدم ثبوت الإعسار للقاضي وإنكار المدّعي ادّعاء الإعسار.

وكان ينبغي تقديم صورة الإثباتي وهو ثبوت إعسار المقرّ عند القاضي فنبحث- تبعاً للإمام- في البداية عن صورة إنكار المدّعي إعسار المقرّ، فنقول: لو ادّعى المقرّ الإعسار وأنكره المدّعي، فإن كان الحالة السابقة للمدّعى عليه- المقرّ- اليسار فنستصحب إيسار المقرّ؛ فحينئذٍ ادّعاء الإعسار مخالف للأصل- أي الاستصحاب- فالمقرّ هو المدّعي للإعسار وعليه أن يأتي بالبيّنة لإثبات الإعسار، وإلا يحلف المدّعي بما أنّه منكر ويعامل مع المقرّ معاملة المؤسر. وإن كانت حالته السابقة هو الإعسار- وهو الآن أيضاً يدّعي الإعسار- فقوله مطابق للأصل فيصير منكراً فالمدّعي- أي الشاكي في أصل الدعوى- يصير مدّعياً بما

ص: 278

أنّ إنكاره للإعسار مخالف الحالة السابقة للمعسر، وعليه أن يأتي بالبيّنة على إيسار المقرّ وإلا يحلف المقرّ ويعامل معه معاملة المعسر. ولكن صاحب «الجواهر» (ره)(1) يرى أنّ الاستصحاب هناك أصل مثبت لأنّه يرى أنّ الحالة السابقة هو عدم المال أو واجد المال.

أقول: يمكن النقاش في كلام «الجواهر» بأن نقول الحالة السابقة هو اليسر أو العسر إذاً ليس الأصل مثبتاً، والحكم يترتّب على العسر أو اليسر نفسهما.

وإن جهل الأمران ولم يكن حالته السابقة بمعلومة فهناك تردّد؛ كما قال به الإمام (ره) فمن المحتمل أن يكون من التداعي بما أنّ كلّ واحد منهما مدّعي من وجه ومنكر من وجه.

ومن المحتمل أن يقدّم قول من يدّعي الإعسار لأنّ اليسر أمر وجودي والعسر أمر عدمي مطابق للأصل، وهو أصل عدم المال قبل الولادة، فيصير مدّعي العسر منكراً ومنكر العسر مدّعياً فعلى المدّعي الأوّل أي الشاكي أن يأتي بالبيّنة وإلا يحلف المقرّ المدّعي للعسر.

ولا بأس أن نقول يوجد في كلام الإمام هنا نوع من الإجمال ولعلّه منشأ من رعاية الاختصار، حيث لم يتعرّض هنا بيّنة المدّعي وذكر حلف المنكر المقرّ فقط.

قال المحقّق (ره): «وإن ادّعى الإعسار كشف عن حاله فإن استبان فقره، أنظره. وفي تسليمه إلى غرمائه، ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان، أشهرهما الإنظار حتّى يؤسر. وهل يحبس حتّى يتبيّن حاله؟ فيه تفصيل ذكر في باب المفلس»(2).


1- راجع: جواهر الكلام 164: 40.
2- شرائع الاسلام 873: 4.

ص: 279

مسألة 7: لو ثبت عسره، فإن لم يكن له صنعة أو قوّة على العمل، فلا إشكال في إنظاره إلى يساره. وإن كان له نحو ذلك، فهل يُسلّمه الحاكم إلى غريمه ليستعمله أو يؤاجره، أو أنظره وألزمه بالكسب لتأدية ما عليه، ويجب عليه الكسب لذلك، أو أنظره ولم يلزمه بالكسب، ولم يجب عليه الكسب لذلك، بل لو حصل له مال يجب أداء ما عليه؟ وجوه، لعلّ الأوجه أوسطها. نعم، لو توقّف إلزامه بالكسب على تسليمه إلى غريمه يسلّمه إليه ليستعمله. (7)

(7) هناك توجد صورتين مختلفتين.

الصورة الاولى: حكم المعسر الذي لم يكن به صنعة أو حرفة. إن لم يكن له صنعة أو حرفة فلينظر إلى أيساره وهذا لا بحث فيه.

الصورة الثانية: حكم المعسر إذا كان له صنعة أو حرفة.

صور المسألة إذا كان للمعسر صنعة أو حرفة

وإن كان له صنعة أو حرفة ففي حكمه وجوه:

الوجه الأوّل: يعطيه الحاكم إلى غريمه ليأخذ من عمله أو من اجرة عمله دينه، وهذا ما يميل إليه النراقي(1) كما سيأتي في الإشكال على الوجه الثاني.

الوجه الثاني: ينظر إلى يساره ويجب عليه الكسب ويلزمه الحاكم أيضاً بالكسب. هذا هو الوجه الذي أوجهه الإمام (ره) في المتن وسمّاه الوسط.


1- راجع: مستند الشيعة 190: 17.

ص: 280

الوجه الثالث: ينظر إلى يساره ولا يجب عليه الكسب والحاكم أيضاً لا يلزمه، بل يجب عليه الأداء لو حصل له مال، وهذا مختار المشهور.

الوجه الرابع: إن لم يقدّم بالكسب إلا على فرض تسليمه للغريم يسلمه الحاكم إلى الغريم حتّى يستعمله ويأخذ ماله. هذا هو الوجه الذي ذكرها الماتن (ره) أخيراً وقال: «نعم لو توقّف ...».

قال المشهور بالأنظار مطلقاً- الوجه الثالث-.

واستدلّ: أوّلًا: بالآية(1) حيث إنّ وجوب الأنظار تعلّق بمن ذا عسرة وهو من لم يقدر على أداء دينه وكان في الضيق والشدّة من المال وعاجزاً عن أداء الدين.

ويرد على المشهور: أنّه لا إشكال في عدم دلالة الآية على أنظار القادر بالاكتساب وأنّه لا يكون عاجزاً من الأداء، بل بإمكانه الاكتساب والأداء، ولذا قالوا: لو تمكّن من الأداء بالاكتساب لم يجز له أخذ الزكاة.

نعم، لو تمكّن من الاكتساب ولكن الاكتساب حرج عليه من جهة المنافاة لشأنه ولا يليق شأنه هذا للكسب أو يستطيع التكسّب بأمر لا يعد عرفاً من الكسب كتزويج المرأة حتّى يأخذ المهر وتؤدّي ديونه، فحينئذٍ في حكم العاجز عن الأداء.

ثانياً: الدليل الثاني للمشهور رواية غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه: «أنّ عليّاً (ع) كان يحبس في الدين فإذا تبيّن له حاجة وإفلاس خلى سبيله حتّى يستفيد مالًا».(2)


1- \i وَإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ\E.( البقره( 2): 280)
2- وسائل الشيعة 418: 18، كتاب الحجر، الباب 7، الحديث 1.

ص: 281

والظاهر أنّ كلمة «حتّى» فيها تعليلية ولو احتمل الغاية فتكون مجملة.

ثالثاً: خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (عليهم السلام): «إنّ امرأة استعدّت على زوجها أنّه لا ينفق عليها، وكان زوجها معسراً فأبى أن يحبسه، وقال: إنّ مع العسر يسراً»(1)، فهي قضية في واقعة. ولعلّ علي (ع) يعلم أنّه كان عاجزاً عن التكسّب.

واستشكل الفاضل النراقي في التمسّك بالأخبار- مايلًا إلى الوجه الأوّل- حيث قال ما حاصله هذا:

في رواية غياث «خلّي سبيله حتّى يستفيد» يعني ليستفيد أي يجب عليه الاكتساب لأداء الدين، كما في رواية السكوني دفعه إلى الغرماء ليستعملوه أو يؤاجروه، أي يجب الاكتساب(2).

وأمّا روايات المستفيضة في الباب- باب ما يجب على الإمام قضاء الدين عن المؤمن المعسر عن سهم الغارمين أو غيره ... كحديث النجّار(3) الذي نقله «المستند»(4) ومرسلة العبّاس(5) بما أنّ أمير المؤمنين كان مبسوط اليد وعنده بيت المال والزكاة ومع ذلك لم يؤدّ من بيت مال المسلمين شيئاً تحمل هذه الروايات على القضية في الواقعة.


1- وسائل الشيعة 418: 18، كتاب الحجر، الباب 7، الحديث 2.
2- راجع: مستند الشيعة 190: 17.
3- وفيه بدل« أبي نجّار»:« أبا محمّد». راجع: الكافي 93: 5/ 5؛ تهذيب الأحكام 185: 6/ 385؛ وسائل الشيعة 336: 18، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 9، الحديث 3.
4- راجع: مستند الشيعة 190: 17.
5- راجع: الكافي 94: 5/ 7؛ تهذيب الأحكام 184: 6/ 379؛ وسائل الشيعة 337: 18، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 9، الحديث 4.

ص: 282

ولكن نقول لا يمكن الحمل على القضية في الواقعة لأنّه جاء في الرواية كان على يحبس، وهذا يدلّ على الاستمرار وهو ينافي القضية في الواقعة.

ثمّ جمع- النراقي (ره)- بين الروايات وقال: وبما ذكرنا يرتفع التنافي بين الأخبار طرّاً.

أقول: هذا هو الذي أفاده الإمام (ره) في المتن- حيث سمّيناه في التقسيم؛ بالوجه الأوّل. وقال لو لم يكن له حرفة أو لم يقدر على الاكتساب ينظر ليستطيع وإن لم يكن طريق للاكتساب إلا التسليم إلى الغرماء ليستعملوه يسلمه الحاكم إلى الغرماء.

وقوّى السيّد اليزدي هذا القول حيث قال: «ذهب قوم ..... فالغريم وإن لم يكن مسلّطاً على منافعه وليست حقّاً له إلا أنّه من حيث استحقاقه للمطالبة مع فرض تمكّنه لأداء حقّه قد يجوز له إجارته أو استعماله بإذن الحاكم إذا لم يمكن استيفاء حقّه منه إلا على هذا الوجه. وهذا هو الأقوى لأنّ أداء الدين واجب فيجب مقدّمته، بل مع قدرته على الاكتساب لا يعدّ معسراً»(1).

نعم، لو كان الاكتساب حرجاً عليه من حيث هو، أو منافاته لشأنه، أو الكسب الذي تمكّن منه لا يليق شأنه، كما أنّ الظاهر عدم وجوب ما لا يعدّ اكتساباً عرفاً كما إذا تمكّنت المرأة من التزويج.

ولكن الأردبيلي ردّ هذه الروايات وقال هؤلاء الروايات لا يلائم روح الإسلام.


1- العروة الوثقى 494: 6.

ص: 283

مسألة 8: إذا شكّ في إعساره وإيساره وطلب المدّعي حبسه إلى أن يتبيّن الحال حبسه الحاكم، وإذا تبيّن إعساره خلّى سبيله وعمل معه كما تقدّم، ولا فرق في ذلك وغيره بين الرجل والمرأة، فالمرأة المماطلة يعمل معها نحو الرجل المماطل، ويحبسها الحاكم كما يحبس الرجل إلى تبيّن الحال. (8)

هناك نكتة جدير بالذكر وهو أنّ على الدولة الإسلامية في الجمهورية الإسلامية في إيران أن يأخذ سهماً للغارمين في مصارفه السنوية ولا يليق بالقوّة القضائية أن يسجن هؤلاء المدينين الذين لا يستطيعون على الأداء ولا يقدرون على الكسب.

الشكّ في الإعسار

(8) قلنا: لو ادّعى المدّعى عليه الإعساره فللمسألة وجوه وبحّثنا عنها مفصّلًا والآن نقول: لو شكّ في الإعسار أو إيسار المدّعى عليه فهل يجوز للمدّعي طلب حبس المدّعى عليه حتّى يتبين الحال أم لا؟ قولان:

القول الأوّل: قال الإمام (ره) حبسه الحاكم. كما قال المفيد في «المقنعة»: «وإن لم يعلم صحّة دعواه في الإعسار كان له حبسه حتّى يرضي خصمه»(1) وبمثل هذا قال الحلبي في «الكافي»(2).


1- المقنعة: 733؛ مفتاح الكرامة 75: 10.
2- راجع: الكافي في الفقه: 447.

ص: 284

القول الثاني: عن المحقّق (ره)(1) والشهيد في «المسالك»(2) التفصيل بين أن يعلم منه المال سابقاً، أو كان أصل الدعوى مالًا فيستصحب ويجوز حبسه بخلاف ما لو لم يكن كذلك مثل أن تكون جناية أو صداقاً أنفقه قبل قوله بيمينه.

دليل قول الأوّل:

1- الاستظهار من الآية الشريفة(3) حيث دلّ على أنّ الشرط في وجوب الأنظار تحقّق العسر، وإذا لم يثبت العسر لا يجب الأنظار فيجوز الحبس.

2- رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبدالله (ع): «أنّ أمير المؤمنين (ع) اختصم إليه رجلان في دابّة، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه انتجها، فقضى بها للذي في يده وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينها نصفين»(4).

المناقشة في دليلي قول الأوّل:

يمكن أن يقال: إنّه يستفاد من قوله: «لي الواجد» أنّ جواز العقوبة مشروط بتحقّق الواجدية واليسار. وإذا لم يثبت، لا يجوز حبسه ومطالبته، ولا بدّ من إحرازه حتّى يجوز العقوبة ومن جملته الحبس.

وهذا يخالف ما يستفاد من الآية ورواية غياث فحينئذٍ لا بدّ من الرجوع إلى الاصول، فالترجيح مع قول المحقّق والشهيد وهو القول بالتفصيل.

ولا فرق في المسألة بين المرأة والرجل بمعنى أنّ القولين الدين كان رأينا، يعمّ الرجل والمرأة.


1- راجع: شرائع الإسلام 349: 2، و 879: 4.
2- راجع: مسالك الأفهام 444: 13.
3- \i وَإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ\E.( البقره( 2): 280)
4- وسائل الشيعة 250: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 3.

ص: 285

مسألة 9: لو كان المديون مريضاً يضرّه الحبس، أو كان أجيراً للغير قبل حكم الحبس عليه، فالظاهر عدم جواز حبسه. (9)

(9) والدليل على عدم جواز حبس المريض يمكن أن يكون أحد الامور الثلاثة.

الأمر الأوّل: قال صاحب «تفصيل الشريعة»: أمّا الرواية و هي رواية غياث بن إبراهيم «كان على يحبس في الدين»(1).

إمّا بأن نقول القدر المتيقّن في فعل على صورة غير المرض.

ولكنّه مدخولة بأنّ الحاكي لفعل المعصوم إن كان معصوماً وكان غرض الحكاية بيان الحكم الشرعي، فيجوز التمسّك بإطلاق كلامه، والرواية ليست هكذا.

الأمر الثاني: قاعدة لا ضرر.

وهو أيضاً مبتني على أن يكون مفاد قاعدة لا ضرر بيان الحكم الثانوي، وهذا ليس بثابت كما قال به الشيخ الأنصاري(2) والمحقّق الخراساني(3) وأمّا على مبنى الماتن (ره) من كون قاعدة لا ضرر صورة حكومية من ناحية النبي (ص) فلا ترتبط بالمسائل الفقهية.

الأمر الثالث: قاعدة لا حرج.


1- تفصيل الشريعة، القضاء والشهادات: 132.
2- فرائد الاصول 536: 2.
3- كفاية الاصول: 433.

ص: 286

مسألة 10: ما قلنا من إلزام المعسر بالكسب مع قدرته عليه، إنّما هو فيما إذا لم يكن الكسب بنفسه حرجاً عليه أو منافياً لشأنه، أو الكسب الذي أمكنه لا يليق بشأنه بحيث كان تحمّله حرجاً عليه. (10)

مسألة 11: لا يجب على المرأة التزوّج لأخذ المهر وأداء دينها، ولا على الرجل طلاق زوجته لدفع نفقتها لأداء الدين، ولو وهبه ولم يكن في قبولها مهانة وحرج عليه يجب القبول لأداء دينه. (11)

إذاً يبقى نكتة وهو أنّه إذا كان الحكم حرجياً فبشمول قاعدة لا حرج نقول بعدم جواز الحبس وكذا لو كان أجيراً.

وقال السيّد: «إذا كان المديون مريضاً يضرّه الحبس يشكل جواز حبسه، كما أنّه لو كان له مانع آخر- كما إذا كان أجيراً للغير أو كان عليه واجب- يكون الحبس منافياً له»(1).

(10) قد تقدّم منّا البحث في أنّ المعسر لو كان نفس الاكتساب حرجيّاً عليه وكان منافياً لشأنه، أو الكسب الذي أمكنه لا يليق شأنه فلا يجوز إلزامه.

(11) وكذلك لا يجب التكسّب بما لا يصدق عليه الاكتساب وكمثال نقول لا يجب على المرأة التزويج لتأخذ المهر وتؤدّي ديونه، ولا يجب على المرء طلاق زوجته ليصرف نفقته في أداء الديون، ولكن في الهدية نرى وجوب القبول؛ لأنّه مقدّمة عرفاً للإيسار وأداء الديون.


1- العروة الوثقى 493: 6، مسألة 12.

ص: 287

القول: في الجواب بالإنكار

اشارة

مسألة 1: لو أجاب المدّعى عليه بالإنكار، فأنكر ما ادّعى المدّعي، فإن لم يعلم أنّ عليه البيّنة، أو علم وظنّ أن لا تجوز إقامتها إلا مع مطالبة الحاكم، وجب على الحاكم أن يعرّفه ذلك؛ بأن يقول: ألك بيّنة؟ (1)

القول في إنكار المدّعى عليه

اشارة

(1) هذا كلّه لو أجاب المدّعى عليه بالإقرار أمّا لو أجاب بالإنكار فلا بدّ أن يقضي الحاكم على طبق موازين القضاء.

والدليل عليه:

1- قال النبيّ (ص): «إنما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان»(1) والحصر إضافي، أي أنّ الغالب من قضاء النبي هو القضاء بالبينات والأيمان.

لكنّه مجمل ولا يعلم أن أيّهما لأيّهما، أي ليس بصريح في أنّ البيّنة على من؟


1- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

ص: 288

فهل هو للمدّعي أم المنكر، وكذلك اليمين على من فهل للمدّعي أم المنكر؟

2- النبوي الذي لا إجمال فيه من جهة ومجمل من جهة حيث قال: «البيّنة على من ادّعى، واليمين على من ادّعي عليه»(1).

فتدلّ على أنّ وظيفة المدّعي إقامة البيّنة وعلى المنكر الحلف. وهو وإن صرّح بأنّ البيّنة على من؟ واليمين على من؟ لكنّه أيضاً مجمل من حيث إنّه لم يبين أن أيّهما- المدّعي والمنكر- مقدّم وذلك غير مطّرد في الحدود. كما أشار إليه النراقي وقال: «لكن يستفاد من بعض الروايات أنّ الإتيان بالبيّنة مقدّمة على الحلف»(2).

أقول: كما قال هو (قدس سره) توجد روايات كثيرة نقرء أحداها كنموذج.

وهو: «أنّ نبياً من الأنبياء شكا كيف أقضى فيما لم أر ولم أشهد؟ قال ... أضفهم إلى اسمي»(3).

ربّما يقال أنّ التفصيل قاطع للشركة بمعنى أنّه عند ما يطرح بأنّ البيّنة للمدّعي واليمين على المنكر نفهم أنّ اليمين لا يكون على عهدة المنكر وكذلك البيّنة لا يكون على عهدة المدّعي بداية، إلا ما خرج بالدليل. وكيف كان فإن لم يعلم المدّعي أنّ عليه البيّنة أو علم أو ظنّ أنّه لا تجوز إقامتها إلا مع مطالبة الحاكم وجب على الحاكم أن يعرفه. وكلمة «علي» في قوله: «على المدّعي» أو «على من ادّعي عليه» ليست مثل قوله: ولله على الناس حجّ البيت. كما قال به


1- وسائل الشيعة 233: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1.
2- مستند الشيعة 201: 17.
3- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

ص: 289

صاحب «تفصيل الشريعة»(1) أي لا دلالة لها على التكليف النفسي، بل أراد الحكم بنفع نفسه عليه أن يأتي بالبيّنة.

حكم أخذ الحاكم من مال المحكوم عليه، للمحكوم له

قال السيّد اليزدي: «كما يجوز حبس المماطل كذا يجوز للحاكم أن يأخذ من ماله ويؤدّيه للمحكوم له إذا كان عنده من حبس ما عليه، ويجوز بيع ماله، وأداء ما عليه من ثمنه إذا لم يكن عنده من جنسه، وحينئذٍ فإن لم يتمكّن إلا عن أحدهما تعيّن وإن تمكّن من كلّ منهما فهل يقدّم الأوّل؛ لأنّه من تتمّة الإجبار اللازم تقديمه على التصرّف في ماله، أو الثاني لأنّ أداء ما عليه واجب على أيّ حال، فهو ممّا لا بدّ منه، والحبس عقوبة زائدة فإذا امتنع من أدائه يتصدّاه الحاكم من ماله. أو التخيير لعدم صلاحية الوجهين للتقديم، مع كون كلّ منهما خلاف الأصل وفي عرض واحد، فيتخيّر بينهما بعد ثبوت جوازهما في الجملة، وهذا هو الأقوى كما اختاره المحقّق (ره)»(2).

ولكنّ الظاهر الترتيب فإنّه كما أنّ العقوبة والحبس مخالفة للأصل ولا يرتكب إلا مع الدليل؛ فكذلك إعطاء ماله وبيعه على خلاف الأصل ويحتاج إلى دليل. والدليل على حلّية العقوبة ثابت لقوله (ص): «لي الواجد بالدين يحلّ عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره الله (عز و جل)»(3). ثمّ إذا لم يؤثّر العقوبة فلمّا توقّف أداء الدين وإيصال الحقّ الواجب على أدائه من ماله أو بيع ماله،


1- راجع: تفصيل الشريعة( القضاء والشهادات): 136.
2- العروة الوثقى 487: 6، مسألة 6.
3- وسائل الشيعة 333: 18- 334، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 8، الحديث 4.

ص: 290

فإن لم تكن له بيّنة ولم يعلم أنّ له حقّ إحلاف المنكر، يجب على الحاكم إعلامه بذلك. (2)

فيجوز التصرّف في ماله فالتصرّف في ماله لا يجوز إلا بعد عدم تأثير العقوبة كما قال به النراقي (ره)(1).

وتدلّ عليه بعض الروايات مثل رواية غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه: «أنّ عليّاً (عليهم السلام) ..، فإن أبى باعه فقسّم بينهم»(2). وكذا رواية زرارة(3).

والذي يظهر من عبارة الإمام (ره) هو الترتيب لا التخيير وإن احتمل بعض التخيير من كلامه (ره).

بيان حقّين للمدّعي

(2) إنّ للمدّعي حقّان في المحكمة. أحدهما: حقّ إرائة البيّنة. والثاني: حقّ إحلاف المنكر فإن لم تكن للمدّعي بيّنة وقال: لا بيّنة لي فَقَدَ حقّ إحضار البيّنة. ولكن بقي له حقّ إحلاف المدّعى عليه، المنكر فإن لم يكن المدّعى عالماً بهذا الحقّ أو يزعم أنّ عليه الصبر حتّى يجيز القاضي فعلى الحاكم أن يعرفه حقّه ليعلم أنّ له حقّ آخر وهو إحلاف المنكر.

والدليل العمدة عليه رواية عبدالله بن يعفور عن أب ي عبد الله (ع): «إذا رضي


1- مستند الشيعة 181: 17.
2- وسائل الشيعة 416: 18، كتاب الحجر، الباب 6، الحديث 1.
3- راجع: وسائل الشيعة 295: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 2.

ص: 291

مسألة 2: ليس للحاكم إحلاف المنكر إلا بالتماس المدّعي، وليس للمنكر التبرّع بالحلف قبل التماسه، فلو تبرّع هو أو الحاكم لم يعتدّ بتلك اليمين، ولا بدّ من الإعادة بعد السؤال، وكذا ليس للمدّعي إحلافه بدون إذن الحاكم، فلو أحلفه لم يعتدّ به. (3)

صاحب الحقّ بيمين المنكر فاستحلفه»(1).

كيفية إحلاف المنكر

(3) هناك ثلاثة نقاط.

النقطة الاولى: هل يجوز للقاضي أن يستحلف المنكر قبل أن يلتمس المدّعي من القاضي إحلاف المنكر؟

النقطة الثانية: هل تبرء ذمّة المدّعى عليه لو حلف تبرّئاً، وهل ينفذ هذا الحلف أم لا؟

النقطة الثالثة: ولو توافقا- المدّعي والمدّعى عليه- على أن يحلف المدّعى عليه أي لم يسئل المدّعي الاستحلاف عن القاضي، بل حلف المدّعى عليه بتوافق مع المدّعي فهل ينفذ الحلف أم لا؟

أمّا النقطة الاولى: قال المحقّق(2) لا ينفذ، وقال صاحب «الجواهر»(3)، بلا


1- وسائل الشيعة 244: 27- 245، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.
2- راجع: شرائع الإسلام 75: 4.
3- راجع: جواهر الكلام 171: 40.

ص: 292

خلاف أجده هنا، بل في «الرياض»(1) قولًا واحداً وفي «كشف اللثام»(2) اتّفاقاً وادّعى الشهيد في «المسالك»(3) الإجماع.

والدليل عليه:

1- قال المحقّق: لأنّه حقّ له، فيتوقّف استيفائه على المطالبة. بمعنى أنّ للمدّعي إعمال الحقّ أو إسقاطه أو إيقاف الدعوى إلى مدّة معينة.

2- لأنّ اليمين مسقط الدعوى وقد لا يريد الإحلاف في الحال توقّعاً لوجود شهود، أو ارتداع المنكر عن إنكاره، أو طيّ الدعوى بالصلح، أو نحو ذلك. مع أنّه ليس للقاضي إيقاف دعوى الغير إلا بإذنه وإن قيل: إنّ إحضار المدّعى عليه بعد طرح الدعوى لا يتوقّف على استدعاء المدّعي إلا أنّ هنا يفارق هناك كما صرّح به الشهيد وقال: إحلاف المدّعى عليه ربما يوجب الخسارة على المدّعي، لعلّه يريد طرقاً آخر لإحقاق حقّه. مضافاً إلى روايات ثلاث كما يلي.

3- الرواية الاولى: صحيحة بن أبي يعفور(4)، عن أبي عبدالله قال: إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر حقّه فاستحلفه ذهبت اليمين بحقّ المدّعي. حيث جعل الرضا المدّعي شرطاً لاستحلاف القاضي، فنستفيد أنّه إذا استحلف القاضي مستقلًا وبلا إذن من المدّعي لم ينفذ إلا أن يكون استحلافاً لا يحتاج إلى إذن المدّعي.


1- راجع: رياض المسائل 91: 13.
2- راجع: كشف اللثام 97: 10.
3- راجع: مسالك الأفهام 447: 13.
4- وسائل الشيعة 245: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

ص: 293

الرواية الثانية: خضر النخعي، عن أبي عبدالله (ع) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه، فهو على حقّه»(1) حيث لم يذكر فيها عن القاضي عين ولا أثر.

الرواية الثالثة: عبدالله بن وضّاح- إلى أن قال-: «ولو لا أنّك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنّك رضيت بيمينه»(2). حيث جعل الرضا باليمين دليلًا على سقوط الحقّ.

فنستنتج من الدليلين والروايات الثلاثة أنّه ليس للقاضي إحلاف المدّعى عليه قبل استحلافه المدّعي ولا يجوز للمدّعى عليه الحلف رأساً وتبرّعاً.

ولا ينفذ الحلف أيضاً لو توافقا على الحلف بدون اطّلاع من القاضي.

ولا يخفى أنّ الاستحلاف على قسمين: قسم صريح بقول المدّعي خطاباً للقاضي استحلف المنكر- المدّعى عليه- وقسم غير صريح بأن يقول: أنت أمين في مراحل الدعوى وهذا شاهد حال على الرضا بالمراحل ومنها حقّ الاستحلاف.

أمّا النقطة الثانية؛ أي لو تبرّع المدّعى عليه بالحلف لا ينفذ ولو راعى تمام شرائط الحلف إلا استدعاء المدّعي وإحلاف الحاكم.

ودليل المسألة: هو ما قلنا في النقطة الاولى بالضبط أي أنّه حقّ فيتوقّف استيفائه على المطالبة وأنّ اليمين مسقط للدعوى وقد لا يريد المدّعي إسقاط الدعوى. وللروايات الثلاثة التي سبقت ذكرها آنفاً.


1- وسائل الشيعة 246: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 246: 27- 247، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 2.

ص: 294

أمّا النقطة الثالثة: أي لو حلف المدّعى عليه بتوافق منه مع المدّعي بلا إحلاف من القاضي. واعلم إنّ الماتن (ره) أشار إلى هذه النقاط في المسألة الثانية من القول في الجواب بالإنكار.

وقال السيّد اليزدي- بعد بيان النقطة الاولى والثانية-: «وكذا لا يعتدّ بإحلاف المدّعي من دون إذن الحاكم»(1). واستدلّ عليه.

أوّلًا: بالإجماع، حيث قال: بلا خلاف كما ادّعى صاحب «الجواهر»(2) أيضاً الإجماع في المسألة.

ثانياً: بالأصل؛ حيث قال: لأصالة عدم ترتّب الأثر، لأنّ القدر المتيقّن في تأثير القسم هو أن يحلف باستحلاف المدّعي وإحلاف الحاكم؛ فإذا حلف بدونهما نشكّ في أثر الحلف والأصل عدم ترتّب الأثر.

وثالثاً: أنّ منصرف الأخبار في الحلف هو الحلف بعد استدعاء المدّعي وإحلاف المنكر، وما كان غير هذا لا ينفذ.

رابعاً: الأخبار المشتملة على قوله (ع): «أضفهم إلى إسمي».

حيث يستظهر منها أنّ الإحلاف وظيفة القاضي والحلف بدون إحلاف القاضي خلاف مقتضى الرواية.

ثمّ قال السيّد: ومع قطع النظر عن الروايات ففي الإجماع والأصل كفاية.

المناقشة في أدلّة صاحب «العروة».

1- إنّ الإجماع يحتمل أن يكون مدركياً، وأن يكون منشأ الإجماع هذه


1- العروة الوثقى 499: 6، ذيل مسألة 2.
2- راجع: جواهر الكلام 171: 40.

ص: 295

الاستدلالات التي دارت في ألسنة الفقهاء إذن لا يكشف عن قول المعصوم حتّى يكون حجّة.

2- أنّ الأصل مؤثّر إذا لم يكن إطلاق في الكلام.

3- إنّا لا نسلم انصراف الأخبار إلى صورة استحلاف المدّعي وإحلاف القاضي وكمثال نفحص في خبر ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله حيث قال (ع): «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له»، قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: «نعم وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ماكان له، وكانت اليمين قد أبطلت كل ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه».(1)

والإطلاق في هذه الرواية واضح يشمل صورة استحلاف المدّعي مع إحلاف القاضي وحلف المدّعى عليه وصورة استحلاف المدّعي والحلف من المدّعى عليه بدون إحلاف القاضي.

4- أنّ الرواية لا تدلّ على عدم جواز إطلاق المدّعي رأساً وبلا استدعاء من القاضي، بل لزوم الاستدعاء من القاضي يفهم من روايات ذكرت في مورده. كما استظهر صاحب «الجواهر» (ره)(2) من رواية عبدالله بن وضّاح(3) أنّه يجوز للمدّعي الإحلاف رأساً؛ لأنّه من البديهي أنّ عدم جواز بقاء المال في يد


1- وسائل الشيعة 245: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.
2- جواهر الكلام 172: 40.
3- راجع: وسائل الشيعة 246: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 2.

ص: 296

مسألة 3: لو لم يكن للمدّعي بيّنة واستحلف المنكر فحلف، سقطت دعوى المدّعي في ظاهر الشرع، فليس له بعد الحلف مطالبة حقّه، ولا مقاصّته، ولا رفع الدعوى إلى الحاكم، ولا تسمع دعواه. نعم، لا تبرأ ذمّة المدّعى عليه، ولا تصير العين الخارجية بالحلف خارجاً عن ملك مالكها، فيجب عليه ردّها وإفراغ ذمّته؛ وإن لم يجز للمالك أخذها ولا التقاصّ منه، ولا يجوز بيعها وهبتها وسائر التصرّفات فيها. نعم، يجوز إبراء المديون من دينه على تأمّل فيه، فلو أقام المدّعي البيّنة بعد حلف المنكر لم تسمع، ولو غفل الحاكم، أو رفع الأمر إلى حاكم آخر، فحكم ببيّنة المدّعي لم يعتدّ بحكمه. (4)

المدّعي بعد الحلف ليس بدليل الحلف عند حاكم؛ لأنّ الحلف عند الحاكم كلا حلف بما أنّه جائر، فنستفيد أنّ إحلاف المدّعي بنفسه كان جائزاً ومؤثّراً.

النتيجة: توجّه السيّد اليزدي إلى الإجماع والأصل. وصاحب «الجواهر» إلى الإجماع كما قال به النراقي أيضاً.

أقول: إنّ الأدلّة كلّها كما رأيت مخدوشة وإنّ الحلف بلا إحلاف من القاضي غير نافذ. أي لا أثر لحلف المدّعي من غير الإحلاف يعني أنّه يجوز أن يطرح الدعوى عند قاض آخر، ولكن آثار الحلف تتبّع.

صور المسألة بعد طرح الدعوى عند القاضي

(4) لو طرح الدعوى عند القاضي ففي المسألة صور وأحكام.

الصورة الاولى: أن يكون للمدّعي بيّنة فحينئذٍ يأتي بها ويحكم بها القاضي.

ص: 297

الصورة الثانية: أن لا يكون للمدّعي بيّنة فحينئذٍ يجوز أن يستحلف المدّعي من القاضي فيحلف المدّعى عليه بعد إحلاف القاضي فلها ثلاثة آثار:

1- يسقط الدعوى في ظاهر الشرع يعني أنّه لا يبرء ذمّة المدّعى عليه لو كان مديوناً واقعاً. ولذا قال صاحب «الجواهر»- بعد بيان كلام المحقّق-: «في الدنيا ويجب التخلّص في بينه وبين ربّه من حقّ المدّعي. وقال السيّد اليزدي أيضاً: «في ظاهر الشرع».

2- ولا يجوز للمدّعي مطالبة المجدّد؛

3- ولا يجوز التقاصّ أيضاً.

وجدير بالذكر أنّ هنا بحث طرحها الإمام (ره) وسيجي ء في المسألة 5 وهو أنّ هذه الآثار هل هو لحلف المدّعى عليه أم آثار لحكم القاضي؟

الصورة الثالثة: أن لا يكون للمدّعي بيّنة واستحلف المدّعى عليه ولا يحلف المدّعى عليه، بل يرد اليمين على المدّعي ويحلف المدّعي اليمين المردودة ويثبت الحقّ.

الصورة الرابعة: أن لا يكون للمدّعي بيّنة واستحلف المدّعى عليه ونكل المدّعى عليه، أي لا يحلف ولا يرد اليمين على المدّعي، فحينئذٍ ثبت حقّ المدّعي.

ولكلّ صورة مباحثها الخاصّة فلنذكرها إن شاء الله.

دليل المسألة:

1- رواية هشام بن الحكم، عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال رسول الله (ص):

ص: 298

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1).

2- صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له، قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله»(2).

حيث صرّح الرواية بإذهاب اليمين بحقّ المدّعي. ولكن نقول بالذهاب في ظاهر الشرع.

3- خضر نخعي عن أبي عبدالله (ع) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه، فهو على حقّه»(3) حيث تدلّ على أن ليس له حقّ بعد الحلف.

4- عبدالله بن وضّاح قال: كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن (ع) فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، وقد وقع له عندي مال فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت، فكتب: «لا تأخذ منه شيئاً إن كان ظلمك فلا


1- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 244: 27- 245، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 246: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 1.

ص: 299

تظلمه، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنّك رضيت بيمينه، (وقد ذهبت) اليمين بما فيها، فلم آخذ منه شيئاً، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (ع)»(1).

5- سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمّ وقع له عندي مال آخذه لمكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع قال: «إن خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عتبه عليه»(2).

ملاحظة رواية معارضة.

عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت له: رجل عليه دراهم فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال: «نعم ولكن لهذا كلام»، قلت: وما هو؟ قال: تقول: «اللهمّ إنّي لا آخذه ظلماً ولا خيانة وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً»(3).

هذه رواية تدلّ على جواز التقاصّ وتعارض الروايات المانعة من التقاصّ. قال السيّد الخوئي في توجيه هذه الرواية أنّ الحلف كان تبرّعياً بلا استحلاف من المدّعى والإحلاف من القاضي ولهذا لا يترتّب عليه الأثر.

وفيه: أنّا لا نسلّم أن يكون الحلف تبرّعياً والذي ألجأ السيّد الخوئي على هذا، أنّه (ره) لا يرى لاعراض المشهور عن الرواية أثراً مع أنّ هذه كانت في المرئى من


1- وسائل الشيعة 246: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 7.
3- وسائل الشيعة 273: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 4.

ص: 300

الكليني(1) في «الكافي» والشيخ في «التهذيب»(2) والصدوق في «الفقيه»(3) ونقلوها وأعرضوا عن العمل بها والأقوى عندنا عدم العمل بهذه الرواية فلا يجوز التقاصّ.

تنبيهان:

1- لا فرق في عدم جواز التقاصّ بين العين والحقّ، أي كما أنّه لا يجوز أخذ المال أو الدار أو الألبسة و غيره تقاصّاً، كذلك لا يجوز أخذ الحقّ تقاصّاً كحقّ التقدّم وحقّ التصرّف وغيره.

2- لا بأس في محاسبة الخمس أو الزكاة وغيره تقاصّاً، أي إذا كان الشخص مديوناً وحلف وبطل الدعوى يجوز للمدّعي أن يحاسب الزكاة أو الخمس قبال طلبه على المدّعى عليه وينوي ما يطلبه عن المدّعى عليه، زكاة مثلًا؛ لأنّ هذا لا يعارض آثار الحلف كما عليه السيّد اليزدي أيضاً(4).

فرع: هناك نقطة للملاحظة لم يتعرّضها السيّد الإمام الخميني وصاحب «الجواهر» وغيرهما وهو أنّه إذا رأى المدّعي أنّ المدّعى عليه أنكر الدعوى ويريد الحلف ظلماً، فهل يجوز للمدّعي عدم الاستحلاف حتّى لا يبطل الدعوى ويبقى له حقّ التقاصّ وغيره أم لا.

وهذا غير إيقاف الدعوى، بل نوع من الانصراف عن الدعوى موقّتاً. لأنّ للمدّعي حقّ الاستحلاف، ولا يجوز للقاضي الإحلاف قبل استحلاف المدّعي


1- الكافي 98: 5/ 3.
2- تهذيب الأحكام 348: 6/ 982.
3- الفقيه 186: 3/ 3699.
4- العروة الوثقى 725: 6.

ص: 301

مسألة 4: لو تبيّن للحاكم بعد حكمه كون الحلف كذباً يجوز بل يجب عليه نقض حكمه، فحينئذٍ يجوز للمدّعي المطالبة والمقاصّة وسائر ما هو آثار كونه محقّاً. ولو أقرّ المدّعى عليه بأنّ المال للمدّعي جاز له التصرّف والمقاصّة ونحوهما؛ سواء تاب وأقرّ أم لا. (5)

كما أنّه لو ماطل المدّعي بلا دليل في الاستحلاف لا يجوز الإيقاف وعلى القاضي فصل الخصومة ولكن هذا حقّ للمدّعي ليسدّ عن إبطال حقّه ظلماً لأنّ الأصل جواز التقاصّ إلا ما خرج بالدليل، وهو عدم جواز التقاصّ بعد استحلاف المدّعي مع إحلاف القاضي وحلف المدّعى عليه الذي أثبتناه بالروايات الثلاثة المتقدّمة وهو رواية عبدالله بن وضّاح ورواية خضر النخعي ورواية ابن أبي يعفور.

مضافاً إلى أنّه يفهم من فحوى هؤلاء الروايات جواز التقاصّ في صورة عدم الحلف وكما قلنا هذا فرع لم يتعرّض لها البجنوردي (ره) والإمام، ولكن تعرّض لها صاحب «القواعد الفقهية»(1) وهو بحث المبتلى به في زماننا هذا.

لو تبيّن كذب الحالف للقاضي بعد الحكم

(5) في المسألة فرعان:

الفرع الأوّل: لو تبين للحاكم بعد أن حكم بالحلف كذب الحالف في حلفه وعلم أو اطمئنّ أنّ المدّعى عليه حلف ظلماً يجب عليه نقض الحكم، ويذهب


1- القواعد الفقهية 225: 7.

ص: 302

آثار الحكم كلّها ويصير الدعوى ابتدائياً لأنّ مستند الحكم قد ذهب وهو الحلف فيذهب آثار الحكم أيضاً فإن شاء المدّعي يرفعه إلى حكم آخر أو هذا الحاكم نفسه.

الفرع الثاني: لو أكذب المدّعى عليه نفسه بعد الحلف و بعد حكم الحاكم وأقرّ بأنّ المال للمدّعي قال الفقهاء بسقوط آثار حكم الحاكم لأنّه كان مستنداً بالحلف فتذهب الآثار بذهاب الحلف.

والدليل عليه:

1- إنّ المدّعي والمدّعى عليه بعد تكذيب الحلف متصادقان في ثبوت الدين وعدم براءة ذمّة المدّعى عليه كما أشار إليه الشهيد (ره)(1).

2- إنّ المسألة إجماعي كما أشار إليه صاحب «الجواهر» (ره)(2).

3- إطلاق دليل إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ يدلّ على سقوط آثار الحكم المكذوب المستند، ولكن يعارضه إطلاق رواية ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له، قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه»(3).


1- مسالك الأفهام 499: 13.
2- جواهر الكلام 173: 40.
3- وسائل الشيعة 244: 27- 245، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

ص: 303

ويقال في توجيه التعارض:

أوّلًا: بالقول بانصراف إطلاق «ذهبت اليمين» عن مورد الإقرار.

ثانياً: وإن أبيت عن قبول الانصراف نقول إنّ هناك بين الدليلين عموم من وجه.

ومادّة اجتماعه: الحلف على عدم الدين ثمّ الإقرار بالدين فيتعارضان أي أنّ دليل إقرار العقلاء يدلّ على تأثير الإقرار وترتّب الآثار ودليل ذهبت اليمين بحقّه يدلّ على نفوذ الحلف فيتعارضان، فالرجوع إلى المرجّحات والترجيح مع دليل الإقرار لأنّه مطابق لفتوى المشهور، بل مطابق للإجماع وإن أبينا عن قبول الإجماع فالمشهور يكفينا.

مضافاً إلى رواية مسمع بن أبي سيّار وهي بدرجة صحّحها السيّد الخوئي(1) مع كمال دقّته واحتياطه الوافر في تصحيح الروايات وإن جعلها بعض الفقهاء معتبرة.

وهي ما عن أبي عبدالله (ع) إنّي كنت استودعت رجلًا مالًا فيجحدنيه وحلف لي عليه ثمّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إيّاه، فقال: «هذامالك فخذه، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها فهي لك مع مالك، واجعلني في حلّ، فأخذت منه المال وأبيت أن آخذ الربح منه ورفعت المال الذي كنت استودعته، وأبيت أخذه حتّى استطلع رأيك فما ترى؟ فقال: خذ الربح وأعطه النصف وحلله فان هذا رجل تائب والله يحب التوّابين»(2).


1- راجع: مباني تكملة المنهاج 15: 1.
2- راجع: وسائل الشيعة 286: 23، كتاب الأيمان، الباب 48، الحديث 3.

ص: 304

مسألة 5: هل الحلف بمجرّده موجب لسقوط حقّ المدّعي مطلقاً، أو بعد إذن الحاكم، أو إذا تعقّبه حكم الحاكم، أو حكمه موجب له إذا استند إلى الحلف؟ الظاهر أنّ الحلف بنفسه لا يوجبه ولو كان بإذن الحاكم، بل بعد حكم الحاكم يسقط الحقّ؛ بمعنى أنّ الحلف بشرط حصول الحكم موجب للسقوط بنحو الشرط المقارن. (6)

حيث إنّه ترى أنّ تكذيب النفس تؤثر ولهذا قال (ع): «خذ أصل المال». والإقرار نافذ ولا يبعد أن نقول الأمر بأخذ نصف الربح كان من باب الاستحباب لأنّه إذا كان المال له، فالربح أيضاً ماله فالأمر بعدم الأخذ استحبابي بما أنّ الرجل وإن لم يكن له أجر في تحصيل الربح، ولكن حيث إنّه تاب وأصلح ينبغي أن يكون له نصف الربح.

لو لم يكن للمدّعي بيّنة

(6) وكما فعل الماتن (ره) لو لم يكن للمدّعي بيّنة ففي المسألة أربعة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: سقوط الحقّ من آثار الحلف مطلقاً، سواء كان الحلف باستحلاف من المدّعي وإحلاف القاضي أم لا؟ فحينئذٍ يترتّب آثار الحلف من عدم جواز التقاصّ وغيره.

الاحتمال الثاني: سقوط الحقّ من آثار الحلف بشرط إذن الحاكم، أي إذا كان الحلف بعد استحلاف المدّعي وإحلاف الحاكم.

ص: 305

الاحتمال الثالث: سقوط الحقّ من آثار الحلف بشرط تعقّب حكم الحاكم، أي إذا كان الحلف باستحلاف من المدّعي وإحلاف الحاكم ثمّ الحلف إنشاء الحاكم الحكم فحينئذٍ يسقط الحقّ ويترتّب آثار الحلف من التقاصّ وغيره.

الاحتمال الرابع: سقوط الحقّ من آثار حكم الحاكم المستند بالحلف، أي لما حلف المنكر وحكم الحاكم باستناد الحلف يسقط الحقّ ويترتّب الآثار.

اختار الإمام (ع) الاحتمال الرابع، أي يرى أنّ محور سقوط الحقّ هو حكم الحاكم، فإذا أحلف المنكر ولكن لم يحكم الحاكم- بأيّ دليل- لا يترتّب عليه الأثر، وهذا موافق لصاحب «الجواهر» حيث قال: «قد يتوهّم من ظاهر النصوص سقوط الدعوى»(1). ولو أخذنا ظاهر النصوص. علينا أن نقول: لا نحتاج من أساس إلى حكم الحاكم، بل إقامة البيّنة أو الحلف يكفي في ثبوت الحقّ. ولكنّ المحور الأصل إنشاء الحكم.

ثمّ قال: «لكن التحقيق خلافه، ضرورة كون المراد من هذه النصوص وما شابهها تعليم ما به يحكم الحاكم وإلا فلا بدّ من القضاء والفصل بعد بذلك، كما أومأ إليه بقوله (ص): «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان»، بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص وشبهها لم يحتج إلى إنشاء الحكومة من الحاكم مطلقاً ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدّعي وثبوت الحقّ بالبيّنة»(2).

وفيه: إنّ الروايات ظاهرة في بيان حكم الشرعي باليمين، أي إذا جاء اليمين يتحقّق الآثار سواء كان التعليم للقاضي مقصوداً من الرواية أم لا؟ مع أن صاحب


1- جواهر الكلام 175: 40.
2- جواهر الكلام 175: 40- 176.

ص: 306

مسألة 6: للمنكر أن يردّ اليمين على المدّعي، فإن حلف ثبت دعواه وإلا سقطت. والكلام في السقوط بمجرّد عدم الحلف والنكول، أو بحكم الحاكم، كالمسألة السابقة. وبعد سقوط دعواه ليس له طرح الدعوى ولو في مجلس آخر؛ كانت له بيّنة أو لا. ولو ادّعى بعد الردّ عليه: بأنّ لي بيّنة، يسمع منه الحاكم، وكذا لو استمهل في الحلف لم يسقط حقّه، وليس للمدّعي بعد الردّ عليه أن يردّ على المنكر، بل عليه إمّا الحلف أو النكول، وللمنكر أن يرجع عن ردّه قبل أن يحلف المدّعي، وكذا للمدّعي أن يرجع عنه لو طلبه من المنكر قبل حلفه. (7)

«الجواهر» سعي في ذيل كلامه ليقول: أنّه لا حاجة إلى إنشاء الحكم.

وكذا قال السيّد اليزدي(1) الظاهر من كلمات الفقهاء أنّ سقوط الدعوى من آثار حكم الحاكم ويستظهر أيضاً أنّه ليس لليمين خصوصية حتّى يوجب سقوط الدعوى، وبراءة المدّعى عليه. ثمّ قال: يحتمل أن يكون نفس الإقرار مثبت للحقّ وبعد أن طرح هذه الثلاثة من الاحتمالات- احتمال البراءة وسقوط الحقّ بالبيّنة واليمين والإقرار- قال: لا نحتاج في تأثير الحلف إلى حكم الحاكم. والإنصاف أنّه ليس من البعيد إن لم يمكن إجماع على خلافه.

(7) فإن حلف ثبت دعواه وإلا سقطت وقد تقدّم أنّ المنكر بعد الاستحلاف إمّا أن يحلف وإمّا أن يردّ اليمين على المدّعي وإمّا أن ينكل.


1- العروة الوثقى 504: 6.

ص: 307

قد تمّ البحث عن الأوّل و يقع الكلام في الثاني؛ يعني أنّه يجوز للمنكر أن يردّ اليمين على المدّعي ولا يحلف بنفسه؛ فحينئذٍ لو حلف المدّعي يثبت حقّه، ولو نكل ولم يحلف يسقط حقّه ولا حقّ له بعد، فهنا ثلاثة مسائل؛ لا بدّ أن يستدلّ عليه.

1- جواز ردّ اليمين الذي هو وظيفة المدّعى عليه على المدّعي، وحلفه يمين المردودة.

2- أنّه لو حلف يثبت حقّه.

3- أنّه لو ردّ ولم يحلف يسقط حقّه.

والمستند فيها هي الروايات المستفيضة أو المتواترة، كما قال به «الجواهر»(1). وقد تمسّك بالإجماع أيضاً بقسميه، ولكنّه مدركيّ لاحتمال كون المستند للمجمعين نفس تلك الروايات.

وفيها: الصحيح والمعتبر والضعيف والمرسل والمضمر. وبعضها تدلّ على المسائل الثلاث بالمنطوق وبعضها على بعضها بالمنطوق وعلى بعضها بالمفهوم وبعضها تدلّ على بعض المسائل.

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما في الرجل يدّعي ولا بيّنة له قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(2).

وهي تدلّ على الاولى، والثالثة بالمنطوق، وعلى الثانيه بالمفهوم.

ومنها: صحيحة عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله (ع) في الرجل يدّعى عليه


1- جواهر الكلام 176: 40.
2- وسائل الشيعة 241: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

ص: 308

الحقّ ولا بيّنة للمدّعي قال: «يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له»(1).

عبّر عنهما في «الجواهر»(2) وفي «العروة»(3) بالصحيح وعبّر عنهما المجلسيين في «ملاذ الأخيار»(4) و «المرآة»(5) بالمجهول.

والوجه فيه أنّه وقع قاسم بن سليمان في السند؛ فإنّه لم يذكر بمدح في الرجال. ولكن قال في «بهجة الآمال»(6): أنّ للصدوق طريق إليه. وهذا يؤمي إلى اعتماده إليه مضافاً إلى نقل من كان ثقة عنه وهذا أيضاً توثيق على قوله والراوي عنه في الرواية هو نصر بن سويد ويذكر في حالاته أنّه صحيح الحديث. فالأقوى أنّها صحيحة وهذه الرواية دلالتها مثل صحيحة الاولى.

ومنها: صحيحة جميل، عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين، وإن لم يقم البيّنة، فردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين فأبى، فلا حقّ له»(7).

ودلالتها مثل ما تقدّم.

ومنها: صحيحة هشام، عن أبي عبدالله (ع) قال: «تردّ اليمين على المدّعي»(8).


1- وسائل الشيعة 241: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 2.
2- جواهر الكلام 176: 40.
3- العروة الوثقى 505: 6.
4- ملاذ الأخيار 43: 10.
5- مرآة العقول 283: 24.
6- بهجة الآمال في شرح زبدة المقال، حرف القاف.
7- وسائل الشيعة 242: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 6.
8- وسائل الشيعة 241: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 3.

ص: 309

وهي تدلّ على المسألة الاولى فقط.

ومنها: مرسلة يونس ومضمرته قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف ورد اليمين على المدّعي (فهي واجبة) عليه أن يحلف، ويأخذ حقّه، فإن أبى أن يحلف فلا شي ء له»(1).

وهي تدلّ على الثلاثة بالمنطوق. والمراد بقوله: «فهي واجبة عليه» هو الوجوب الوضعي، لا التكليفي بمعنى أنّه لو أراد استيفاء حقّه لا بدّ أن يحلف.

ومنها: مرسلة أبان عن أبي عبدالله (ع) في الرجل يدّعى عليه الحقّ، وليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: «يستحلف المدّعى عليه، فإن أبى أن يحلف» وقال: «أنا أرد اليمين عليك لصاحب الحقّ فإنّ ذلك واجب على صاحب الحقّ أن يحلف ويأخذ ماله»(2).

وهي تدلّ على الاولى والثانية.

ومنها: رواية أبي العبّاس عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا أقام الرجل البيّنة على حقّه، فليس عليه يمين، فإن لم يقم البيّنة فرد عليه الذي ادّعى عليه اليمين، فإن أبى أن يحلف فلا حقّ له»(3).

وهي تدلّ على الاولى والثالثة بالمنطوق وعلى الثانية بالمفهوم.


1- وسائل الشيعة 241: 27- 242، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 4.
2- وسائل الشيعة 242: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة 243: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 8، الحديث 2.

ص: 310

ومنها: رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: قلت للشيخ (ع): خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ فلم تكن له بيّنة بما له قال: «فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، وإن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له وإن لم يحلف فعليه وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات، فاقيمت عليه البيّنة، فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو، لقد مات فلان، وأنّ حقّه لعليه، فإن حلف، وإلا فلا حقّ له، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت، فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ، ولو كان حيّاً لألزم اليمين، أو الحقّ، أو يرد اليمين عليه، فمن ثمّ لم يثبت الحقّ»(1).

والمراد من الشيخ هو موسى بن جعفر (ع) ورواه الصدوق (ره)(2) وقال: قلت للشيخ يعني موسى بن جعفر (ع) لعلّه من الراوي؛ أو من الصدوق. وفي السند ياسين الضرير ولم يذكر بمدح. ولذا قال المجلسي (ره)(3) أنّها مجهول. وهي تدلّ على الأوّل والثالثة بالمنطوق وعلى الثانية بالمفهوم.

والحاصل: أنّ المستفاد من الروايات أنّ اليمين وإن كانت وظيفة للمدّعى عليه بمقتضى قوله البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، ولكن يجوز له أن لا يحلف ويردّ اليمين على المدّعي. وللمدّعي حالتان إمّا أن يحلف فيثبت حقّه وإمّا أن لا يحلف فيسقط حقّه.


1- وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.
2- راجع: الفقيه 63: 3/ 3343.
3- مرآة العقول 281: 24.

ص: 311

ويستظهر منها أنّ أثر اليمين لو اتي بها المدّعى عليه هو سقوط الحقّ ولو اتي به المدّعي هو ثبوت حقّه.

نعم، يستثني من جواز الردّ ما لا يصحّ للمدّعي اليمين كما لو كان الدعوى ظنّية فيما يسمع الدعوى كذلك، أو كان المدّعي وكيلًا أو وليّاً يدّعي لليتيم مالًا على غيره مثلًا، أو كان وصيّاً يدّعي على الوارث أنّ الموصي أوصي بخمس أو صدقة أو حجّ فيما لا مستحقّ خصوصاً للمال؛ لأنّه يعتبر في اليمين الجزم. وكذا لا بدّ أن يحلف من نفسه لا للغير. وذلك لظهور الأخبار الماضية فيما أمكن الردّ، ففي تلك الموارد لا دليل على جواز الردّ. ويمكن أن يقال في الوكيل و الوليّ بجواز ردّ اليمين و يتوقّف الدعوى حتّى حضور الموكّل أو رشد المولّى عليه أو بلوغه.

في المسألة فروع لا بدّ أن يبحث عنها.

الفرع الأوّل: هل يسقط حقّ المدّعي بمجرّد عدم الحلف أو بعد حكم الحاكم. قال الإمام (ره): الكلام فيه كالمسألة السابقة.

وقد تقدّم في المسألة الخامسة: أنّ فيه أربعة احتمالات، واختار الماتن (ره) احتمال الأخير، ورجّحنا الاحتمال الأوّل وهنا أيضاً نقول بسقوط حقّه بمجرّد عدم الحلف.

ويظهر من الروايات التي ذكرنا في الباب أيضاً، ذلك، فإنّ قوله (ع) في صحيحة محمّد بن مسلم: «فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1).


1- وسائل الشيعة 241: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

ص: 312

وكذا قوله (ع) في رواية أبي العبّاس «فإن أبى أن يحلف فلا حقّ له»(1) ظاهر في أنّ السقوط مترتّب على عدم الحلف. نعم، لحكم الحاكم آثار في مقام حلّ المسألة ورفع النزاع وإيجاد الفصل وهو حرمة نقضه وعدم جواز طرحه في هذه المحكمة مجدّداً أو غيره، وعدم جواز سماعه؛ فترتّب هذه الآثار يحتاج إلى حكم الحاكم.

الفرع الثاني: بعد سقوط دعواه لا يجوز له طرح الدعوى ولو في مجلس آخر أو عند حاكم آخر، سواء كان له بيّنة أم لا. وذلك لارتفاع المخاصمة بعد حكم الحاكم وسقوط حقّه وإطلاقها يشمل ما لو كان له بيّنة أيضاً.

الفرع الثالث: لو ادّعى بعد الردّ عليه وقبل الحلف أنّ له بيّنة يسمع دعواه وله إقامتها عند الحاكم؛ فإنّ الدعوى قائمة بعد. وإلى الآن لم يحلف المنكر حتّى يسقط حقّه ولا يصدق عليه بذلك أنّه لم يحلف حتّى يسقط أيضاً حقّه، بل استدعى من الحاكم إجازة إقامة البيّنة لإثبات دعواه فيكون له ذلك كما يقتضيه موازين القضاء.

الفرع الرابع: لو استمهل المدّعي في الحلف ليرى ما هو الأصلح له مثلًا، لم يسقط حقّه؛ فإنّ سقوط الحقّ إنّما يكون بالامتناع عن الحلف لا بالاستمهال. ولو قلنا أنّه لا بدّ في الاستمهال التهديد بالزمان.

قال الشهيد (ره): «وإن ذكر المدّعي لامتناعه سبباّ، فقال: اريد أن آتي بالبيّنة، أو أسأل ... الفقهاء، أو أنظر في الحساب ونحو ذلك، ترك ولم يبطل حقّه من اليمين»(2).


1- وسائل الشيعة 243: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 8، الحديث 2.
2- مسالك الأفهام 452: 13- 453.

ص: 313

واستشكل عليه في «الجواهر» بأنّ ظاهر النصوص السابقة يقتضي سقوط حقّه مطلقاً؛ بمجرّد ردّ اليمين وأبى عن وقوقها في ذلك المجلس. ودعوى أنّ المتبادر والمنساق منها ما لم يذكر عذراً، واضحة المنع(1).

وفيه: أنّ الظاهر من قوله: «فلم يحلف أو أبى أن يحلف فلا حقّ له» هو الامتناع عن الحلف بأن يقول: إنّي لا أحلف ولا يصدق على الاستمهال الإباء عن الحلف عرفاً بلا شبهة. ولذا قال السيّد (ره)(2) كما أنّه لو كان عدم حلفه استمهالًا ليرى ما هو الأصلح له لا يكون مسقطاً لحقّه.

الفرع الخامس: ليس للمدّعي بعد ردّ الحلف عليه، أن يردّ على المنكر فإنّ المستفاد من الروايات أنّ له الحلف أو النكول، فلو ردّ على المنكر يصدق عليه أنّه لم يحلف فيسقط حقّه. ولاستلزام جوازه التسلسل أحياناً.

الفرع السادس: يجوز للمنكر الرجوع عن ردّه قبل حلف المدّعي فإنّه لا دليل شرعاً على المنع فالأصل الجواز. نعم، لو حلف المدّعي فلا يجوز الردّ، فإنّ المستفاد من الروايات هو ثبوت الحقّ حينئذٍ فلا وجه لرجوعه، بل لا يجوز حلف المدّعي حينئذٍ لعدم ترتّب الأثر عليه بعد الرجوع عن الردّ. كما أنّه يجوز للمدّعي الرجوع عن الاستحلاف قبل حلف المنكر فإنّه لا دليل على اللزوم بعد طلب الحلف.

الفرع السابع: هل اليمين المردودة إذا وقعت من المدّعي تكون بمنزلة البيّنة، أو بمنزلة إقرار المنكر؟ لم يتعرّض له الماتن (ره) ولكن ذكر هذا الفرع


1- جواهر الكلام 180: 40.
2- العروة الوثقى 507: 6، مسألة 12.

ص: 314

في «الجواهر»(1) وغيره(2).

قالوا: إنّ فيه قولان:

القول الأوّل: اليمين المردودة بيّنة: وهو عن فخر المحقّقين(3)، وقواه الأكثر. وهو أنّه بمنزلة البيّنة، والوجه فيه أنّ الذي يطلب من المدّعي هو البيّنة فاليمين المردودة إليه، إذا وقعت منه فهي بمنزلة البيّنة وتقوم مقامها في الإثبات.

القول الثاني: اليمين المردودة إقرار: أنّه بمنزلة إقرار المنكر والوجه فيه أنّ في ردّ المنكر اليمين إلى المدّعي وامتناعه عن الحلف إشعار باعترافه بالحقّ مضافاً إلى أنّ إثبات الحقّ بيمين المدّعي قد جاء من قبله، وكان هو الموجب له فكأنّه أقرّ بذلك بنفسه.

وقد فرّعوا على القولين فروعاً كثيرة مذكورة في أبواب مختلفة.

منها: أنّه بعد حلف المدّعي هل يجوز للمدّعى عليه إقامة البيّنة على أداء المال، أو إبراء المدّعي إيّاه عنه ويسمع تلك البيّنة أم لا؟ فلو قلنا بالأوّل، فقد سمعت بيّنته وإن قلنا بالثاني فلا؛ لأنّ الإقرار تكذيب لبيّنته فلا يسمع.

ومنها: أنّه لو كان بمنزلة البيّنة فثبوت الحقّ يحتاج إلى حكم الحاكم، ولو كان بمنزلة الإقرار فلا يحتاج إليه وهذا بناءً على ثبوت الفرق بين البيّنة والإقرار بذلك.

ولكن يرد على التفريع الأوّل أنّ الأثر، أي عدم قبول البيّنة بعد الإقرار مترتّب


1- جواهر الكلام 178: 40.
2- مسالك الأفهام 452: 13؛ نهاية المرام 35: 1؛ إيضاح الفوائد 355: 4.
3- إيضاح الفوائد 355: 4.

ص: 315

على عنوان الإقرار ولا يمكن إسرائه إلى ما هو بمنزلته لعدم دليل على التنزيل في مقام الإثبات.

وكذا يرد على الثاني أنّ الأثر وهو الحاجة إلى حكم الحاكم مترتّب على عنوان البيّنة على القول به ولا يمكن إسراؤه إلى اليمين الذي ليست من البيّنة، بل بمنزلتها لعدم الدليل على التنزيل.

ولعلّ الوجه في الترديد المذكور في كلماتهم بأنّ اليمين المردودة إمّا بمنزلة الإقرار أو البيّنة هو الحصر المستفاد من قوله: «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان»؛(1) فإنّ الظاهر منه يمين المنكر المسقط للحقّ واليمين المردودة المثبتةللحقّ، خارجة عنها فلا بدّ من أن يرجع إلى أحدهما حتّى يصحّ للقاضي الاستناد بها.

وفيه: أنّه تقدّم أنّ الحصر هنا إضافي بلحاظ الأغلب، وإلا يصحّ القضاء بالعلم والإقرار أيضاً. مضافاً إلى أنّ ظهور الأيمان في الرواية في يمين المنكر ممنوع، بل المراد مطلق اليمين كما في اليمين مع الشاهد الواحد وغيره، فيشمل اليمين المردودة أيضاً.

المختار في المسألة: الأقوى أنّها أمر مستقلّ برأسه لا بمنزلة الإقرار ولا بمنزلة البيّنة، كما قال به السيّد (ره) في «العروة» وصاحب «الجواهر» (ره).

قال في «الجواهر»: «ومن هنا اتّجه جعلها قسماً مستقلًا برأسه»(2). وقال السيّد اليزدي (ره)(3): «والأقوى أنّها أمر مستقلّ ففي الفروع التي فرّعوها على القولين لا بدّ


1- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.
2- جواهر الكلام 179: 40.
3- العروة الوثقى 507: 6، مسألة 15.

ص: 316

مسألة 7: لو نكل المنكر فلم يحلف ولم يردّ، فهل يحكم عليه بمجرّد النكول، أو يردّ الحاكم اليمين على المدّعي؛ فإن حلف ثبت دعواه وإلا سقطت؟ قولان، والأشبه الثاني. (8)

من الرجوع إلى سائر الاصول والقواعد»(1).

أي لا بدّ في الفرع الأوّل الرجوع إلى إطلاقات حجّية البيّنة فتسمع بيّنته. إلا أن يقال: إنّ ظاهر الأدلّة في الباب هو ثبوت الحقّ باليمين، سواء كان للمنكر البيّنة على الأداء أو الإبراء أم لا، وهو مقدّم على إطلاقات حجّية البيّنة.

وأمّا في الفرع الثاني فقد تقدّم أنّ آثار اليمين والبيّنة يترتّب عليهما من دون توقّف على حكم الحاكم وما هو متوقّف عليه هو الفصل، وحلّ النزاع وحرمة نقضه أو طرحه مجدّداً.

في نكول المنكر عن الحلف والرّد

اشارة

(8) هذه المسألة هي القسم الثالث المفروض في المنكِر إذا طولب منه اليمين فإنّه إمّا أن يحلف أو يردّ اليمين على المدّعي أو ينكل. والنكول بمعنى الامتناع(2) يعني أنّه يمتنع عن الحلف وعن الردّ كليهما؛ ففيها قولان:

الأوّل: أنّه يحكم عليه بمجرّد النكول.


1- وسائل الشيعة 243: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 8، الحديث 2.
2- مجمع البحرين 373: 4.

ص: 317

الثاني: أنّه يرد الحاكم اليمين على المدّعي، وهو إمّا أن يحلف فيثبت حقّه وإمّا أن ينكل فيسقط حقّه.

القول الأوّل: حكم الحاكم بمجرّد النكول

قال المحقّق (ره): «وإن نكل المنكر، بمعنى أنّه لم يحلف ولم يرد، قال الحاكم: إن حلفت- أو رددت- وإلا جعلتك ناكلًا، ويكرّر ذلك ثلاثاً، استظهاراً لا فرضاً»(1).

أقول: لا إشكال في أنّ هذا الكلام من القاضي لا دليل على فرضه، ولا على استحبابه، بل يكون المنكر بامتناعه ناكلًا قبل جعل الحاكم إيّاه ناكلًا، ولا يحتاج إلى جعله ناكلًا. نعم، لا منع له من باب إتمام الحجّة عليه. وحصول الاطّلاع منه عن عواقب نكوله أو من باب أنّ وظيفة الحاكم إعلامه بذلك لو علم أنّه لا يعلم الحكم فحينئذٍ يكفي مرّة واحدة.

قال المحقّق- في إدامة كلامه:- «فإن أصرّ، قيل: يقضي عليه بالنكول. وقيل: بل يرد اليمين على المدّعي، فإن حلف ثبت حقّه وإن امتنع سقط، والأوّل أظهر وهو المرويّ»(2).

وقال في «المستند»: ذهب إلى هذا القول جماعة من القدماء والمتأخّرين وجماعة من متأخّري المتأخّرين وذكرهم بأسمائهم. ثمّ قال: وهو الحقّ(3) وقال


1- شرائع الإسلام 874: 4.
2- شرائع الإسلام 874: 4.
3- مستند الشيعة 231: 17.

ص: 318

الماتن (ره) «والأشبه الثاني»(1) وقال به جماعة من القدماء ومن المتأخّرين أيضاً. ونسبه بعضهم إلى أكثر المتأخّرين. وعن الشيخ في «الخلاف»(2) وعن «الغنية»(3) الإجماع عليه. وعن «السرائر»(4) أنّه مذهب أصحابنا عدا الشيخ في «النهاية».

قال العلامة: «فالأقرب أنّ الحاكم يرد اليمين على المدّعي»(5). وذكر في «مفتاح الكرامة»(6)- في شرح كتاب العلامة في أربعة خطوط- «التي اختار صاحبه هذا القول» وقال: استدلّوا بالأصل والكتاب والسنّة من طريق العامّة والخاصّة، والإجماع مع موافقته الاعتبار والاحتياط. وذكر الاستدلالات وناقش في جميعها، فراجع «مفتاح الكرامة».

وقال السيّد (ره) في «ملحقات العروة»(7)- بعد ذكر استدلال الطرفين-: وممّا ذكرنا ظهر أنّ القول الثاني لا يخلوا من قوّة».

وقال في «المسالك»- بعد الاستدلال على القول الأوّل وردّ الاستدلالات على القول الثاني-: «وعلى كلّ حال فلا ريب أنّ ردّ اليمين على المدّعي أولى»(8).

والجدير بالتوجّه أن المسألة خالية عن النصّ الصريح فليس في آية أو رواية ذكر من النكول أو حكمه. والقائلين بكلّ من القولين استندوا لما قالوا به


1- تحرير الوسيلة: 834، مسألة 7.
2- الخلاف 279: 2.
3- غنية النزوع: 446.
4- السرائر 180: 2.
5- قواعد الأحكام 439: 3.
6- راجع: مفتاح الكرامة 80: 10.
7- راجع: العروة الوثقى 510: 6.
8- مسالك الأفهام 458: 13.

ص: 319

بالأصل، وبالروايات التي استظهروا منها ذلك مع توجيهات غير نقيّة غالباً.

دليل قول الأوّل؛ أي الحكم بمجرّد النكول:

الدليل الأوّل: الأصل: وقد قرّره في ملحقات «العروة» بوجوه سبعة نذكر أربعة منها:

الوجه الأوّل: أصالة عدم مشروعية ردّ اليمين من الحاكم.

الوجه الثاني: أصالة عدم ثبوت الحلف على المدّعي.

الوجه الثالث: أصالة براءة ذمّة الحاكم من التكليف بالردّ.

الوجه الرابع: أصالة براءة المدّعي من التكليف باليمين.

وغير ذلك الوجوه في تقرير الأصل.

واستشكل عليها بأنّ شيئاً من هذه الوجوه لا يفي بإثبات كفاية النكول في الحكم على المنكر بإثبات حقّ المدّعى عليه مع أنّ الأصل عدمه. إلا على الأصل المثبت فإنّ عدم مشروعية ردّ اليمين من الحاكم، أو براءة ذمّته عن التكليف بالردّ، لا يثبت جواز الحكم عليه بمجرّد النكول؛ بلا شبهة مضافاً إلى معارضة هذه الاصول بما استدلّوا به للقول الآخر الذي سيأتي.

الدليل الثاني: قوله (ص): «البيّنة على من ادّعى، واليمين على من ادّعي عليه»(1) ولعلّ مراد المحقّق من قوله: «وهو المرويّ» هذه الرواية. بتقريب أنّه (ص) جعل البيّنة وظيفة للمدّعي، واليمين وظيفة للمنكر؛ على وجه الإطلاق والتفصيل قاطع للشركة فلا يكون المدّعى عليه شريكاً للمدّعي في وظيفته في إقامة البيّنة. ولا يكون المدّعي شريكاً للمنكر في الحلف. نعم، خرج منه اليمين المردودة من


1- وسائل الشيعة 233: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1.

ص: 320

المدّعى عليه بالدليل، وبقي الباقي تحت المنع.

وفيه: أنّه (ص) كان في مقام بيان وظيفة الأوّلية لكلّ منهما على حسب طبع موازين القضاء، فإنّ المدّعي لا بدّ أن يثبت دعواه بالبيّنة. والمنكر يحلف لبراءة ذمّته ولا ينافي ذلك الخلاف أحياناً، إذا دلّ عليه الدليل. وكذا في الشاهد واليمين والدعوى على الميّت كما ورد في ردّ المنكر الحلف على المدّعي، فلو ثبت بالدليل جواز ردّ الحاكم اليمين أيضاً، لا يكون منافياً لهذه الرواية.

الدليل الثالث: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله (ع) وسأل فيه عن كيفية حلف الأخرس فنقل (ع) عن أمير المؤمنين أنّه كتب اليمين، ثم غسله وأمر الأخرس أن يشربه فامتنع فألزمه الدين(1) والرواية صحيحة سنداً رواها المحمّدون الثلاث في كتبهم.

وتقريب الاستدلال بها، أنّ الظاهر منها أنّه بمجرّد امتناعه عن الشرب الذي هو يمينه؛ ألزمه القاضي بالدين؛ لمكان الفاء ولو أراد ردّ اليمين إلى المدّعي فلا بدّ أن يذكر، للزوم تأخير البيان عن وقت الخطاب، بل الحاجة. وفي القول باحتمال اختصاصها بالأخرس منع واضح. مع أنّ فعله (ع) حجّة كقوله (ع) فيستفاد منها أنّ الحاكم يحكم عليه بمجرّد نكوله.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ الرواية مع صحّة سندها معرض عنها، عند المشهور؛ لعدم العمل بها في كيفية تحليف الأخرس، بل قالوا بتحليفه بالإشارة المفهمة الدالّة عليه؛ كسائر


1- راجع: وسائل الشيعة 302: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1؛ تهذيب الأحكام 319: 6/ 879؛ الفقيه 112: 3/ 3432.

ص: 321

اموره. واشترط الشيخ (ره) في «النهاية»(1) مع ذلك وضع يده على اسم الله عزّ وجلّ وحمله ابن إدريس على أخرس لا يكون له إشارة مفهمة.

ثانياً: إنّ مورد البحث هو النكول عن الحلف والردّ، وليس فيها نكوله عن الردّ.

ثالثاً: إنّ السؤال في الرواية عن كيفية تحليف الأخرس فالإمام (ع) في مقام الجواب عن ذلك. ولا يكون في مقام بيان جميع ما يحتاج إليه في الحكم، فعدم ذكر الردّ على المدّعي لا يكون تأخيراً للبيان. كما لا يذكر امتناعه عن الردّ إلى المدّعي.

رابعاً: أنّها قضية في واقعة ولا يكون عامّاً حتّى جاز التمسّك بها. ولعلّ عدم ردّ اليمين إلى المدّعي لعدم إمكانه في المورد.

الدليل الرابع: خبر عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: قلت للشيخ (ع): خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ فلم تكن له بيّنة بما له. قال: «فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، وإن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له وإن لم يحلف فعليه وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات، فاقيمت عليه البيّنة، فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو، لقد مات فلان، وأنّ حقّه لعليه، فإن حلف، وإلا فلا حقّ له، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت، فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ، ولو كان حيّاً لألزم اليمين، أو الحقّ، أو


1- النهاية: 347.

ص: 322

يرداليمين عليه، فمن ثمّ لم يثبت الحقّ»(1).

في تقريب الاستدلال بالرواية احتجّوا بفقرتين منها:

الفقرة الاولى: هنا مورد الاستدلال فقرة من الرواية بنقلين:

1- بناء على نقل «التهذيب» و «الكافي»- قال (ع): «فيمين المدّعى عليه فإن حلف فلا حقّ له وإن لم يحلف فعليه»(2) فيكون الخبر مشيراً إلى نكول المدّعى عليه.

2- بناءً على نقل الصدوق (ره)(3)- ولعلّه هو الحقّ: قال (ع): «فإن حلف فلا حقّ له وإن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له»، فلا يكون الخبر مشيراً إلى نكول المدّعى عليه، كما تقدّم.

وتقريب الاستدلال به أنّ الضمير في «وإن لم يحلف» راجع إلى المنكر، كما في قوله «فإن حلف» كذلك، فقوله «فعليه» خبر لمبتداء محذوف وهو «الحقّ» يعني إن لم يحلف المنكر «فالحقّ عليه» فتدلّ على القضاء عليه بالنكول.

الفقرة الثانية قوله (ع)- في ذيل الخبر-: «ولو كان حيّاً لألزم باليمين أو الحقّ أو يرد اليمين عليه».

وتقريب الاستدلال أنّ المستفاد منه أنّ المنكر إذا امتنع عن اليمين وعن ردّه إلى المدّعي، فألزم بالحقّ يعني يقضي عليه بالنكول.

وقد اعترض على الرواية بضعف السند وعبّر عنها بالمجهول، من جهة ياسين


1- تهذيب الأحكام 229: 6/ 555؛ وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 229: 6/ 555؛ الكافي 416: 7.
3- راجع: الفقيه 64: 3.

ص: 323

الضرير؛ فإنه لم يمدح ولم يذمّ من أئمّة الرجال.

قال النجاشي: ياسين الضرير الزّيات البصري، لقي أبا الحسن موسى (ع) لما كان بالبصرة روى عنه وصنف هذا الكتاب المنسوب إليه.

وللصدوق (ره) طريق إليه حسن. وقال المحقّق الداماد (ره): «قد علم من المعهود من ديدن النجاشي أنّه إمامي مستقيم المذهب، لنقله ما نقله من غير تعرّض عليه في دينه»(1). وكذا نقل مثل حمّاد عن حريز عنه. وكذا كونه صحيح المذهب وثاقته، فالأقوى أنّ رواياته معتبرة.

مضافاً إلى أنّ الأصحاب تلقوا هذه الرواية بالقبول وأفتوا على طبقها في الدعوى على الميّت في لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة، ولا دليل لهم غير هذه الرواية فينجبر ضعف سندها بعمل الأصحاب.

ولكن يرد على الاستدلال بالفقرة الاولى بأنّ الظاهر منها أنّ الضمير في قوله: «فعليه» رجع إلى الدعوى بقرينة قوله (ع): «فإن حلف فلا حقّ له» يعني للمدّعي. وإن لم يحلف فعليه، يعني فعلى المدّعي والمبتدأ المحذوف هو الحلف يعني فالحلف عليه إمّا بردّ المنكر أو ردّ الحاكم. ولا أقلّ من الاحتمال فلا يجوز التمسّك به.

مضافاً إلى أنّ اختلاف النسخة على ما في «الكافي»(2) و «التهذيب»(3) مع ما في «الفقيه»(4) يمنع عن صحّة التمسّك به بلا إشكال.


1- بهجة الآمال في شرح زبدة المقال 213: 7.
2- راجع: الكافي 415: 7.
3- راجع: تهذيب الأحكام 229: 6/ 6.
4- راجع: الفقيه 63: 3/ 3343.

ص: 324

ويرد على الاستدلال بالفقرة الثانية أنّه يحتمل أن يكون قوله (ع): «أو يرد اليمين» بالبناء للمجهول، ويكون المراد هو المدّعى عليه أو الحاكم ويكون الإلزام بالحقّ بعد حلف المدّعي اليمين المردودة من أحدهما وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

الدليل الخامس: رواية أبي بصير قال سألت أبا عبدالله (ع) عن القسامة أين كان بدوها؟ فقال: «كان من قبل رسول الله» إلى أن قال: «لو أنّ رجلًا ادّعى على رجل عشرة آلاف درهم أو أقلّ من ذلك أو أكثر لم يكن اليمين على المدّعي وكان اليمين على المدّعى عليه»(1).

واستدلّ عليها في «المستند» بتقريب أنّ قوله (ع): «لم يكن اليمين على المدّعي» عامّ شامل لما نكل المدّعى عليه عن اليمين أو لم ينكل، ردّ اليمين على المدّعي أو لم يرد؛ فخرجت صورة الردّ بالإجماع والنصوص؛ فيبقى الباقي. ومن الباقي ما إذا نكل المدّعى عليه، فلا يمين على المدّعي بمقتضى الرواية فلا يخلو إمّا أن يحكم القاضي بالنكول ويلزم المدّعى عليه بالحقّ، أو يلزم المدّعي بترك الدعوى من جهة نكول المدّعى عليه أو يتوقّف الدعوى. والأخيران باطلان بالإجماع، فيبقى الأوّل وهو المطلوب.

قال وبتقرير آخر: إذا نكل المدّعى عليه فالأمر دائر بين أمرين:

1- ردّ اليمين إلى المدّعي.

2- إلزام المدّعى عليه بالحقّ إجماعاً. والأوّل باطل بعموم الرواية، فيبقى الباقي وهو المطلوب(2).


1- وسائل الشيعة 156: 29، كتاب القصاص، أبواب دعوى القتل، الباب 10، الحديث 5.
2- راجع: مستند الشيعة 235: 17.

ص: 325

ولكن يرد عليه: أنّ الظاهر من قوله (ع): «لم يكن اليمين على المدّعي» والمتبادر منه عرفاً نفي اليمين عليه لإثبات مدّعاه؛ يعني أنّ وظيفته إقامة البيّنة، لا اليمين؛ في قبال المدّعى عليه الذي يطلب منه اليمين. والمقصود نفيه عليه، مطلقاً؛ فلا يكون عامّاً حتّى يشمل مورد النكول أو الردّ وغيرهما بلا إشكال.

هذه كلّها عمدة الأدلّة في كلمات الأصحاب للقول الأوّل.- الحكم بمجردّ النكول- فكما ترى ليست خالية عن الإشكال فلا يصحّ الالتزام بهذا القول.

القول الثاني: ردّ الحاكم اليمين على المدّعى بعد نكول المدّعى عليه

لزوم ردّ الحاكم اليمين على المدّعي، فنقول إنّ المدّعي- بعد ردّ اليمين إليه- إمّا أن يحلف فيثبت حقّه، وإن لم يحلف يسقط حقّه.

أدلّة قول الثاني:

الدليل الأوّل: الأصل: ويقرّر الأصل إمّا بأصالة عدم ثبوت الحقّ على المنكر إلا باليمين، وإمّا بأصالة براءة ذمّة المدّعى عليه، ما لم يحلف المدّعي.

ويرد عليه: أنّ ذلك لا يثبت كون النكول مع يمين المدّعي موضوعاً تامّاً للقضاء، إلا على القول بالأصل المثبت.

الدليل الثاني: صحيحة عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله (ع) في الرجل يدّعي عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي قال: «يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحقّ فإن لم يفعل فلا حقّ له»(1).

والاستدلال بها مبنيّ على قرائة «يُرَدُّ» مبنيّاً للمجهول. والمعنى إذا لم يكن


1- وسائل الشيعة 241: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 2.

ص: 326

للمدّعي بيّنة فيستحلف المدّعى عليه أو يرد اليمين على صاحب الحقّ، وقد يكون المراد نفس المدّعى عليه. وقد يكون الحاكم فيكون نصّاً للجواز فيردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي، فلو حلف يثبت حقّه ولو لم يحلف يسقط حقّه.

ولو قُرء مبنيّاً للفاعل يصير دليلًا على المسئلة السابقة؛ يعني ردّ المدّعى عليه اليمين على المدّعي.

والظاهر منها هو أن يكون مبنيّاً للفاعل ويكون المراد المدّعى عليه؛ فإنّه في مقام بيان وظيفة المدّعى عليه بأنّه إمّا أن يحلف وإمّا أن يرد اليمين إلى المدّعي، أمّا أنّه قد يرد الحاكم اليمين فليس في مقام بيانه. والمبنى الأوّل- المبنى للمجهول- مجرّد احتمال. ولا يصحّ الاستدلال به.

وفي سندها قاسم بن سليمان فمن هذه الجهة قد عبّر بعضهم عنها بالمجهولة وقد تقدّم أنّ الأقوى وثاقته.

الدليل الثالث: صحيحة هشام، عن أبي عبدالله قال: «تردّ اليمين على المدّعي»(1) وتقريب الاستدلال هو إطلاق ترد وشموله لردّ اليمين من الحاكم أيضاً مثل السابقة.

ويرد عليها: أنّ الرواية جواب عن سؤال غير مذكور ولعلّ المورد ما إذا رضي المدّعى عليه بردّ اليمين فلا يمكن الاستدلال بها.

الدليل الرابع: إنّ المدّعى عليه مخيّر بين الحلف ورد اليمين إلى المدّعي بمقتضى الروايات فإذا امتنع عنهما فيرد الحاكم اليمين إلى المدّعي من باب أنّه وليّ الممتنع، فردّ الحاكم حينئذٍ بمنزلة ردّه؛ من باب ولايته عليه.


1- وسائل الشيعة 241: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 3.

ص: 327

ويرد عليه: أنّه لا دليل على عموم ولايته بحيث يشمل الفرض.

واستدلّ للقول المذكور- القول الثاني- أيضاً:

1- بما ورد عن العامّة من فعل النبيّ (ص) أنّه ردّ اليمين على المدّعي.

2- بما رووه عنه (ص): «المطلوب أولى باليمين من الطالب» المقتضى اشتراكهما في اليمين وإن كان المطلوب أحقّ.

لكنّها محلّ النظر والإشكال ولا يصحّ الاعتماد عليها.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه ليس في النصوص تعرّض لغرض نكول المنكر وأنّ الحكم فيه هو القضاء بالنكول، أو ردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي. وما يستدلّ به للقولين ليس خالياً عن الإشكال.

نعم، يمكن أن يقال كما يستفاد من كلمات صاحب «الجواهر» (ره) وأشار إليه بأنّ المستفاد من الأدلّة أنّ القضاء لا بدّ أن يكون مستنداً إلى حجّة وسبب توجب حكم القاضي باستنادها كما في قوله (ص): «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان»(1). وكذا في خبر أبان بن عثمان عمّن أخبره، عن أبي عبدالله (ع) قال: «في كتاب عليّ (ع) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء، فقال: كيف أقضى بما لم تر عيني ولم تسمع اذني؟ فقال: اقض بينهم بالبيّنات وأضفهم إلى إسمي يحلفون به»(2).

وكذا ما دلّ على جواز الحكم على طبق إقرار المدّعى عليه، أو جواز الحكم باستناد علمه ففيما نحن فيه كون مجرّد النكول سبباً للحكم وموجباً لثبوت الحقّ


1- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 2.

ص: 328

على المنكر مشكوك، والأصل عدم كونه سبباً للحكم، أو لثبوت الحقّ على المنكر فلا وجه، ولا مقتضى للحكم بمجرّد النكول. وبعد فرض الإجماع المركّب على أنّ وظيفة القاضي أحد الأمرين واختيار قول ثالث مثل التخيير بين الردّ والقضاء أو إلزام المنكر على اختيار الحلف أو الردّ ولو بحبسه خرق للإجماع المذكور، فينحصر الوظيفة له في ردّ اليمين إلى المدّعي، فلو حلف يحكم له بالحقّ وإن لم يحلف فيسقط حقّه ويحكم عليه بالنكول.

وهذا الفرض خرج عمّا قلنا بالدليل وفي الواقع لا يكون الحكم بالنكول. بل بما دلّ على سقوط الحقّ بالامتناع عن الحلف فإذا سقط حقّه شرعاً يحكم الحاكم بعدم ثبوت الحقّ له بمقتضى الروايات، لا بالنكول والامتناع عن الحلف.

قال في «الجواهر»: ولعلّ سير أدلّة القضاء يشرف الفقيه على القطع بأنّ الأصل في القضاء ذلك- يعني القضاء بالبيّنات واليمين- وإنّه لا قضاء بدون ذلك إلا ما خرج من نكول المدّعي.

قال- في ذيل كلامه-: «ولعلّه لذا جزم ابن إدريس بأنّ القول بالقضاء بمجرّد نكول المنكر من دون حلف المدّعي اشتباه وخطأ محض»(1).

نتيجة الكلام: أنّ الأقوى القول بلزوم ردّ الحاكم اليمين على المدّعي كما قال الماتن (ره) أنّ الأشبه الثاني.

وقال السيّد الطباطبائي: «وممّا ذكرنا ظهر أنّ القول الثاني لا يخلو عن قوّة»(2).


1- جواهر الكلام 189: 40.
2- العروة الوثقى 510: 6.

ص: 329

مسألة 8: لو رجع المنكر الناكل عن نكوله، فإن كان بعد حكم الحاكم عليه، أو بعد حلف المدّعي المردود عليه الحلف، لا يلتفت إليه، ويثبت الحقّ عليه في الفرض الأوّل، ولزم الحكم عليه في الثاني من غير فرق بين علمه بحكم النكول أو لا. (9)

في رجوع المنكر الناكل عن نكوله

(9) لو ندم المنكر الناكل عن نكوله وبذل اليمين، ففيه صور أربعة قد تعرّض الماتن (ره) لصورتين منها وهما الصورتين الاوليين من الصور التي سنذكر:

الصورة الاولى: صورة رجوعه عن النكول بعد حكم الحاكم عليه بالنكول بناءً على القول به.

الصورة الثانية: صورة رجوعه عنه بعد ردّ اليمين من الحاكم إلى المدّعي وحلفه بناءً على القول به.

الصورة الثالثة: هي رجوعه عن النكول بعد تحقّقه وقبل الحكم عليه.

الصورة الرابعة: هي ما إذا كان رجوعه بعد ردّ اليمين إلى المدّعي وقبل الحلف منه.

بيان الصور بالتفصيل.

1- في رجوع المنكر عن النكول وبذله اليمين بعد حكم الحاكم عليه بالنكول.

الصورة الاولى: لا إشكال في عدم الالتفات إلى رجوعه وبذله اليمين. لأنّه

ص: 330

بعد ثبوت الحقّ عليه ارتفع النزاع، وفصل الخصومة بسبب حكم الحاكم، فلا يبقى وجه لبذله اليمين ورجوعه عن النكول.

إن قلت: إنّ إطلاق قوله (ص): «واليمين على المدّعى عليه» دالّ على قبول البذل منه.

قلت: إنّ الإطلاق منصرف عن ذلك لأنّ الحقّ ثبت عليه بحكم الحاكم.

فلا يبقى مجال لبذل اليمين على البراءة وارتفاع النزاع بحكم الحاكم، فلا يجوز نقضه.

2- في بذل المنكر اليمين بعد النكول وردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي وحلف المدّعي.

الصورة الثانية: لا إشكال أيضاً في عدم الالتفات إلى رجوعه عن النكول وبذله اليمين، فإنّ المستفاد ممّا تقدّم من الروايات، هو ثبوت الحقّ عليه بسبب حلف المدّعي، فلا يبقى مجال أيضاً لقبول بذله اليمين.

ولا فرق في الصورتين- الاولى والثانية- بين كونه عالماً بحكم النكول من حكم الحاكم عليه، أو ردّ اليمين على المدّعي أو لا؛ لأنّ الجهل لا يكون عذراً في الأحكام الوضعية، كما في الإتلاف الموجب للضمان، فإنّه لا فرق فيه بين الصورتين- العلم بالضمان في الإتلاف أو عدم العلم بالضمان- بل لا فرق أيضاً بين كون التكليف ثابتاً عليه، أو لا، كالنائم، فما حكي عن «الرياض» من قوله: «إنّه لو ادّعى الجهل بحكم النكول ففي نفوذ القضاء إشكال، من تفريطه، وظهور عذره»(1)، ففيه ما لا يخفى، فإنّه قد تقدّم أنّه لا يجب على القاضي عرض حكم


1- رياض المسائل 112: 13.

ص: 331

النكول عليه، بل ولا يستحبّ لعدم الدليل عليه، والجهل أيضاً ليس بعذر في الأحكام الوضعية.

3- رجوع المنكر عن النكول بعد تحقّق النكول وقبل الحكم عليه.

الصورة الثالثة: ففي الالتفات إلى بذله اليمين، و رجوعه عن النكول، وعدمه، قولان: أقواهما الأوّل. لعدم ثبوت الحقّ عليه قبل حكم الحاكم وإن تحقّق موجبه، فإنّ النكول على هذا القول كان موجباً للقضاء، والحكم بثبوت الحقّ عليه مطلقاً، لا ثبوت الحقّ عليه بقيد كونه قبل حكم الحاكم.

إن قلت: إنّه قد وجب على الحاكم الحكم عليه بعد تحقّق الموجب، فيستصحب بعد البذل.

قلت: إنّ الوجوب متوقّف على عدم الرجوع عن النكول ولا أقلّ من الشكّ فيه فلا يجري الاستصحاب.

مضافاً إلى أنّ إطلاق كون الحلف عليه يشمل هذه الصورة، والقدر المتيقّن من حكم النكول ما إذا كان باقياً.

4- رجوع المنكر عن النكول قبل حلف المدّعي يمين المردودة.

الصورة الرابعة: فالظاهر لزوم الالتفات إلى رجوعه فإنّ صرف ردّ اليمين من القاضي إلى المدّعي، لم يوجب سقوط حقّ المنكر عن اليمين، فإنّه لا دليل عليه.

وقول القاضي للمدّعي: «أحلف» ليس قضاءً منه، بل تمهيد للقضاء، فما حكي في «الجواهر»(1) عن العلامة في «التحرير»(2) من جعل قول الحاكم له «أحلف»


1- راجع: جواهر الكلام 190: 40.
2- راجع: تحرير الأحكام 180: 5.

ص: 332

مسألة 9: لو استمهل المنكر في الحلف و الردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه، جاز إمهاله بمقدار لا يضرّ بالمدّعي ولا يوجب تعطيل الحقّ والتأخير الفاحش. نعم، لو أجاز المدّعي جاز مطلقاً بمقدار إجازته. (10)

كالقضاء بالنكول؛ فلا وجه له.

استمهال المنكر في الحلف أو الردّ

(10) هنا صورتان:

1- قد يكون الاستمهال من المدّعي الذي ادّعى عليه الحقّ سواء كان بواسطة الحاكم- يعني يستدعي من الحاكم أن يستمهل له من المدّعي،- أو بلا واسطته،- بأن يستدعي المنكر بنفسه منه المهلة- ويريد أن يتفكّر في ذلك، أو يريد المشاورة مع الوكيل وغيره فيما فيه صلاحه من اختيار اليمين أو الردّ.

لا إشكال في جواز الإمهال بمقدار إجازة المدّعي طويلًا أو قصيراً، لأنّ الحقّ للمدّعي على احتمال، لعدم ثبوته بعد. وإجازة الإمهال وعدمها بيده وهو صاحب الحقّ احتمالًا.

2- وقد يكون الاستمهال من الحاكم وهو يريد أن يعطيه المهلة، فهنا لا بدّ أن يقتصر على الإمهال بمدّة لا يضرّ بالمدّعي، ولا يوجب تعطيل الحقّ أو تضييعه ولا التأخير الفاحش، فإنّ القاضي لا بدّ أن يقدّم على ما فيه صلاحها، ولا بدّ له من رعاية صاحب الحقّ في وصول حقّه إليه.

ص: 333

مسألة 10: لو قال المدّعي: «لي بيّنة» لا يجوز للحاكم إلزامه بإحضارها، فله أن يحضرها أو مطالبة اليمين أو ترك الدعوى. نعم، يجوز له إرشاده بذلك أو بيان الحكم؛ من غير فرق في الموضعين بين علمه وجهله. (11)

فيما يتعلّق بالمدّعي من الأحكام

اشارة

(11) هذا شروع فيما يتعلّق بالمدّعي من الأحكام.

وهنا ثلاث مسائل ذكرها المحقّق (ره) في «الشرائع»، تبعاً لجمع من الأصحاب. وذكر الماتن (ره) واحداًمنها.

المسألة الاولى: لو قال المدّعي: أنّ لي بيّنة، فهل يجوز للحاكم أن يقول له: أحضرها- أي يأمره بإحضارها- أو لا يجوز، أو فيه تفصيل بين علم الحاكم بمعرفة المدّعي- بأنّ وظيفته إحضارها فلا يجوز، وبين جهله بذلك فيجوز؟

قال المحقّق (ره): «ولو كان للمدّعي بيّنة، لم يقل الحاكم أحضرها،- أي لا يجوز له أن يقول له ذلك- لأنّ الحقّ له- إن شاء جاء به وإلا فلا، إذ يمكن أن يريد اليمين- وقيل: يجوز وهو حسن»(1) انتهى.

قال في «الجواهر»(2) وعن العلامة في «القواعد»(3) والشهيد في «الدروس»(4).


1- شرائع الإسلام 874: 4.
2- راجع: جواهر الكلام 191: 40.
3- راجع: قواعد الأحكام 440: 3.
4- راجع: الدروس الشرعية 77: 2.

ص: 334

والوجه في الأوّل إنّ إحضار الشهود حقّ للمدّعي. وله أن يقيمها وله أن يستحلف المدّعى عليه، وله ترك الدعوى بالأصل، فلا يكون تكليفاً له حتّى يلزمه الحاكم ويأمره بإحضارها.

والوجه في الثاني أنّ الأمر هنا ليس للوجوب والإلزام، بل مجرّد إذن وإعلام وإرشاد ولا ريب أنّه جائز له.

ولا يخفى: أنّه يظهر ويكشف عن الاستدلال المذكور للقولين أنّ النزاع هنا لفظي، فإنّ من قال بعدم الجواز يريد إلزامه بإحضار الشهود، وتكليفه به، ومن قال بالجواز يريد إرشاده وإذنه في إحضار الشهود. ولذا قال في «الجواهر»: «وبذلك يكون النزاع لفظياً»(1).

وكذا قال السيّد (ره): «ولعلّ النزاع بينهم لفظي؛ فمراد القائل بعدم الجواز، عدمه على وجه الإيجاب والإلزام»(2).

والوجه للتفصيل أنّه لو علم الحاكم أنّ المدّعي عالم بالمسألة وأنّ المقام مقام إحضار البيّنة، فلا يجوز له أمره؛ ولو علم أنّه جاهل بالمسألة؛ يجب أمره وتكليفه بإحضار الشهود.

وفيه: أنّ معرفة المدّعي بالحكم وعدمها، لا مدخلية له في إلزام الحاكم بإحضار الشهود وعدمه، فإنّه لو علم جهل المدّعي يجب إرشاده بالحكم، بأنّ له إقامة البيّنة لا إلزامه بذلك. ولو علم أنّه عارف بالمسألة لا يجب عليه الإرشاد لا أنّه لا يجوز.


1- جواهر الكلام 191: 40.
2- العروة الوثقى 513: 6.

ص: 335

والماتن (ره) ذكر المسألة بوجه واضح. وصرّح بعدم جواز إلزام الحاكم المدّعي، بإحضار الشهود، لاحتمال اختياره مطالبة اليمين، أو ترك الدعوى. وجواز إرشاده وبيان الحكم عليه من غير فرق في الموضعين بين علمه وجهله.

المسألة الثانية: لو حضرت الشهود هل يجوز للحاكم السؤال عنهم وأمرهم بإقامة الشهادة قبل التماس المدّعي؟ أو يتوقّف على التماس المدّعي واستدعائه من الحاكم السؤال عنهم؟

قال المحقّق (ره): «ومع حضورها لا يسألها الحاكم، ما لم يلتمس المدّعي»(1). وعلّله في «الجواهر» بقوله: «لأنّه حقّه فلا يتصرّف فيه من غير إذنه»(2).

فعلى هذا القول لا بدّ للحاكم أن يسكت ويصبر، حتّى يلتمس منه المدّعي السؤال عن شهوده.

المسألة الثالثة: أنّه إذا أقامت البيّنة الشهادة عند الحاكم، فهل يجوز للحاكم أن يحكم على طبقها قبل سؤال المدّعي أو يتوقّف الحكم على التماس المدّعي منه؟

قال المحقّق (ره): «ومع الإقامة بالشهادة، لا يحكم إلا بمسألة المدّعي أيضاً»(3).

والحاصل: «أنّ الدليل الوحيد في المسائل الثلاث؛ هو أنّه حقّ له ولا يجوز للحاكم أن يتصرّف فيه بغير إذنه، فلا يجوز للقاضي أمره بإحضار الشهود. كما لا يجوز له السؤال منهم بعد الحضور، قبل التماسه. وكما لا يجوز له الحكم بعد


1- شرائع الإسلام 874: 4.
2- جواهر الكلام 192: 40.
3- شرائع الإسلام 874: 4.

ص: 336

الإقامة قبل التماسه، فإنّه قد لا يريد إحضارهم، بل يريد الحلف أو ترك الدعوى، كما قد لا يريد السؤال منهم، أو لا يريد الحكم عليه بعد إقامة الشهادة عليه، بل كان مقصوده صرف إثبات ادّعائه، لا محكومية المنكر.

في الاكتفاء في الإذن بشاهد الحال

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الإذن لا يشترط أن يكون صريحاً، بل يمكن أن يكون بشاهد الحال. وهو موجود في تلك الموارد عرفاً؛ فإنّ المتبادر من استدعاء المدّعي من الحاكم استيفاء حقّه. وأقلّ إقدام الحاكم في استنفاذ حقّه ووصوله من المدّعى عليه، في ابتداء المراجعة عند الحاكم، هو الإذن له في الإتيان بجميع ما يستلزم في ذلك، من موازين القضاء من الابتداء إلى أنهاء المحاكمة، ووصول الحقّ، ففي المسائل الثلاث نقول:

أوّلًا: لا يتوقّف إحضار الشهود إلى إذن صريح من الحاكم ولا يتوقّف أيضاً على السؤال والاستدعاء والالتماس في كلّ مورد من ناحية المدّعي.

ثانياً: كون إقامة البيّنة وإحضارهم والسؤال منهم والاستحلاف من المنكر من حقوق المدّعي، غير ثابت، بل يمكن أن يقال إنّها من الأحكام الشرعية الثابتة للمدّعي، أو المنكر، ويكون إعمالها من الوظائف، أو الحقوق للقاضي، فقوله (ص): «البيّنة على من ادّعى، واليمين على من ادّعي عليه»(1) لا يدلّ على أنّ البيّنة حقّ للمدّعي، بل مفاده أنّه وظيفة شرعية له، كما أنّ اليمين وظيفة شرعية، وحكم شرعي للمنكر.


1- وسائل الشيعة 233: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1.

ص: 337

وبأدلّة القضاء يجب على القاضي فصل الخصومة، وحل النزاع بعد مراجعة الخصمين عنده. ويجب عليه أيضاً فعل كلّ ما يكون مقدّمة لأمر القضاء، فالسؤال من المدّعي «هل له بيّنة أم لا؟» وأمره بإحضارها- عند وجودها- والسؤال منهم والحكم على طبقه؛ من وظائف المقرّرة للقاضي، لا ان يكون حقّاً للمدّعي. بل يمكن أن يقال: إنّ جميعها يكون حقّاً للقاضي وثابت له؛ من أدلّة وجوب الحكم عليه، فإنّه منصوب لإحقاق الحقّ وفصل الخصومة ورفع النزاع ومن مقدّماته ذلك.

قال صاحب «الجواهر» (ره)- ذيل المسألة الثانية في كلام المحقّق (ره)-: «وإن كان يكفي في سؤاله أن يقول إذا أحضرها: هذه بيّنتي أو شهودي أو نحوهما، بل قد يقال بالاكتفاء بشاهد الحال، بل قد يقال: إنّ ذلك حقّ للحاكم، فلا يتوقّف على الإذن مطلقاً كي يحتاج إلى الدلالة عليه بشاهد الحال ونحوه»(1).

وقال أيضاً ذيل المسألة الثالثة في كلام المحقّق (ره): «لكن قد يقال إنّ له الحكم وإن لم يسأله المدّعي، لأنّ ذلك منصبه ووظيفته»(2).

وقال السيّد الگلپايگاني (ره)(3)- على ما في تقريراته:- «أمّا كون التخيير بين إقامة البيّنة وبين المطالبة بيمين المنكر حقّاً له فغير معلوم، بل لا يبعد أن يكون من جملة الأحكام المقرّرة لمجلس القضاء وفصل الخصومة أن يطالب الحاكم المدّعي بإقامة البيّنة، فإن لم تكن عنده فيطالب المنكر باليمين، فليس تخيير


1- جواهر الكلام 192: 40.
2- جواهر الكلام 192: 40.
3- كتاب القضاء 333: 1.

ص: 338

مسألة 11: مع وجود البيّنة للمدّعي يجوز له عدم إقامتها- ولو كانت حاضرة- وإحلاف المنكر، فلا يتعيّن عليه إقامتها، ولو علم أنّها مقبولة عند الحاكم فهو مخيّر بين إقامتها وإحلاف المنكر، (12)

المدّعي بين الأمرين حقّاً له».

والحاصل: أنّ الدليل المذكور للمسائل الثلاث هو كون الامور المذكورة حقّاً للمدّعي، فلا يجوز للقاضي التصرّف فيه. وهذا أمر غير ثابت، بل المستفاد من الأدلّة كونها حقّاً للقاضي والأمر في المحكمة بيده فيسئل من المدّعي هل له بيّنة؟ وإذا قال: أنّ لي بيّنة يأمره بإحضارها وإذا حضرت البيّنة فيسئل منهم ويأمرهم بإقامة الشهادة ثمّ يحكم على طبقها كما هو المتعارف فعلًا في المحاكم. نعم، في كلّ مرتبة للمدّعي ادّعاء الانصراف من إدامة المحاكمة وإسقاط حقّه أو عدم إرادة إقامة الشهادة وإرادة الاستحلاف من المدّعى عليه مثلًا.

جواز التحليف للمدّعي مع وجود البيّنة له

(12) إذا كان للمدّعي بيّنة فهل يتعيّن عليه إقامتها- خصوصاً إذا كانت حاضرة وعلم أنّها مقبولة عند الحاكم- ولا تصل النوبة إلى أحلافه للمنكر؛ أوجاز له العدول عنها واستحلافه للمنكر بمعنى أنّ الأحلاف لايعلّق على عدم إمكان إقامة البيّنة، بل يكون المدّعي مخيّراً بين إقامة البيّنة والأحلاف ابتداءً.

ص: 339

ذهب المحقّق النراقي في «المستند»(1) بالثاني، وقال بكون المدّعي مخيّراً بينهما. وتبعه السيّد (ره) في ملحقات «العروة»(2) وتبعهما الماتن (ره).

واستدلّ على جواز عدم إقامة البيّنة واختيار التحليف بامور:

منها: أنّ الحقّ له فيجوز له العدول عن إقامة البيّنة واختيار الأحلاف.

وفيه: أنّه قد تقدّم أنّ كون إقامة البيّنة وأحلاف المنكر حقّاً للمدّعي غير ثابت. بل هي من الأحكام الشرعية وكونه بنحو الترتيب أو التخيير موقوفة إلى الاستظهار من الأدلّة.

ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له»، قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: «نعم وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه»(3).

والاستدلال بها، تارة تكون من جهة إطلاق صدر الرواية فإنّ قوله (ع): «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه» مطلق، أي سواء لم يكن له بيّنة أو كان ولم يرد إقامتها ورضي باليمين. واخرى من جهة إطلاق ذيلها فإنّ قول الراوي: قلت له وإن كانت عليه بيّنة عادلة، قال: «نعم»، مطلق أيضاً من جهة كون البيّنة له قبل رضاه باليمين أو تحقّق له البيّنة بعد الحلف. والاستدلال


1- مستند الشيعة 241: 17.
2- العروة الوثقى 513: 6.
3- وسائل الشيعة 244: 27- 245، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

ص: 340

بالوجهين صحيح و دلالتهما تامّة.

ومنها: رواية محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (ع) قال: «إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه كيف أقضى في امور لم أخبر ببيانها؟ قال: فقال له: ردّهم إليّ وأضفهم إلى اسمي يحلفون به»(1) تلاحظ أنّ أمره بردّهم إلى الله والحلف باسم الله مطلقاً في مورد كانت البيّنة موجودة وغيره.

وفيه: أنّ الظاهر من قوله في السؤال: لم أخبر ببيانها عدم وجود البيّنة فليس فيها إطلاق.

وقد استدلّ للقول الآخر- عدم جواز ترك إقامة البيّنة واختيار التحليف- ومناقشاتها بامور:

منها قوله (ص): «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»(2) بتقريب أنّ الظاهر منه التعيين لا التخيير.

ويرد عليه: أنّ الظاهر منه أنّ وظيفة المدّعى عليه هو اليمين ولا بدّ فيه من أحلاف المدّعي فتدلّ على أنّ على المدّعي أن يأتي بالبيّنة أو الأحلاف وأمّا توقّف الأحلاف على عدم البيّنة فلا، فنتيجته التخيير.

ومنها: صحيحة سليمان بن خالد(3)، عن أبي عبدالله (ع) فإنّ قوله في ذيل الرواية «هذا لمن لم تقم له بيّنة» دالّ على تعليق الأحلاف على عدم البيّنة فمع وجود البيّنة فهي متعيّنة ولم يشرع اليمين.


1- وسائل الشيعة 230: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 234: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

ص: 341

ويرد عليه: أنّ التعبير في الرواية ليس «هذا لمن لم يوجد له بيّنة» أو «لم يكن له بيّنة»، بل التعبير «هذا لمن لم تقم له بيّنة» وعدم إقامة البيّنة أعمّ من عدمها أو وجودها مع عدم الإقامة، فالرواية على خلاف ما استدلّوا عليه أدلّ.

ومنها: ما هو المرويّ عن تفسير العسكري، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (ع) قال: «كان رسول الله (ص) إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي: ألك حجّة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها ويعرفها، أنفذ الحكم على المدّعى عليه، وإن لم يكن له بيّنة حلف المدّعى عليه بالله، ما لهذا قبله ذلك الذي ادّعاه، ولا شي ء منه»(1).

بتقريب أنّ قوله: «وإن لم يكن له بيّنة حلف المدّعى عليه»، ظاهر في تعليق الحلف على عدم وجود البيّنة للمدّعي، فإذا كان للمدّعي بيّنة فهي المتعيّن.

ويرد عليه: أنّ المراد من قوله: «وإن لم يكن له بيّنة» هو عدم إقامتها بقرينة صدر الرواية وهو قوله: «فإن أقام بيّنة يرضاها».

ومنها: مرسلة يونس، عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه- إلى أن قال- فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه»(2).

بتقريب أنّ اليمين قد ترتّب على عدم وجود الشاهد فإذا لم يكن شاهداً في البين أصلًا فتصل النوبة إلى يمين المدّعى عليه.


1- وسائل الشيعة 239: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 6، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 242: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 4.

ص: 342

ويستمّر التخيير إلى يمين المنكر، فيسقط حينئذٍ حقّ إقامة البيّنة ولو لم يحكم الحاكم. ولو أقام البيّنة المعتبرة وقبل الحاكم، فهل يسقط التخيير أو يجوز العدول إلى الحلف؟ وجهان، أوجههما سقوطه. (13)

قال في «المستند»(1) إنّ جزاء الشرط هو تعيّن اليمين عند عدم وجود الشاهد أمّا مع وجود الشاهد فلا تدلّ على عدم جواز اليمين، بل يستظهر منه عدم تعيّنه والمدّعي بالخيار.

وتبعه في ذلك السيّد (ره) في «العروة» بقوله: «والمراد ممّا في المرسلة أيضاً أنّ تعيّن اليمين إنّما هو بعد عدم الشاهد»(2).

ولكن يرد عليه: أنّ استظهار تعيّن اليمين من الجزاء خلاف سياق الرواية، بل المراد مشروعية اليمين عند عدم الشاهد، ومع وجود الشاهد لا يصحّ اليمين.

فالمرسلة من جهة الدلالة تامّة، ولكنّها مع الإرسال والإضمار لا يقاوم صحيحة ابن أبي يعفور وغيرها، فلا بدّ من توجيهها بما قالوا جمعاً أو طرحها.

فالحقّ ما قاله الماتن (ره) من تخيير المدّعي ابتداءً بين إقامة البيّنة أو استحلاف المدّعى عليه.

(13) قد تعرّض الماتن (ره) لزمان سقوط تخيير المدّعي وأنّ التخيير بين إقامة البيّنة والتحليف مستمرّ إلى أين؟


1- راجع: مستند الشيعة 242: 17.
2- العروة الوثقى 514: 6.

ص: 343

لا إشكال في أنّه إذا استحلف المدّعي المدّعى عليه وأمره الحاكم بالحلف يجوز للمدّعي العدول عنه وإقامة البيّنة قبل حلف المدّعى عليه لعدم وجود الموجب لسقوط التخيير، ولكن إذا حلف المدّعى عليه يسقط التخيير بلا إشكال، ولو لم يحكم الحاكم بعد. وذلك لما تقدّم من صحيحة ابن أبي يعفور من قوله (ع): «ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له»، فإنّ من آثار اليمين سقوط الدعوى وذهاب الحقّ فإذا لم يبق له حقّ ودعوى؛ لايبقى مورد لإثباتها بالبيّنة. ولو أقام المدّعي البيّنة وقبلها الحاكم وحكم باستنادها فلا إشكال في سقوط التخيير أيضاً. أمّا قبل حكم الحاكم فهل التخيير باق ويجوز العدول إلى الحلف أم لا؟ قال الإمام (ره) فيه وجهان أوجههما سقوطه.

والوجه فيه: أنّ الأدلّة الدالّة على جواز الاستحلاف منصرفة عن هذه الصورة، فلا يجوز الأحلاف بعد إقامة البيّنة وقبول الحاكم.

واحتمل السيّد (ره)(1) جواز العدول عن البيّنة حينئذٍ إلى الاستحلاف وقال: نعم يشكل العدول عن البيّنة المعتبرة بعد إقامتها وقبول الحاكم إلى الحلف مع عدم البعد فيه أيضاً.

ولكنّ الأقوى ما عليه الماتن (ره) لما قلنا من انصراف الأدلّة عن ذلك.


1- العروة الوثقى 514: 6.

ص: 344

مسألة 12: لو أحضر البيّنة، فإن علم أو شهدت القرائن بأنّ المدّعي بعد حضورها لم يرد إقامتها فليس للحاكم أن يسألها، وإن علم أو شهدت الأحوال بإرادة إقامتها فله أن يسألها، ولو لم يعلم الحال وشكّ في ذلك فليس للحاكم سؤال الشهود. نعم، له السؤال من المدّعي: بأنّه أراد الإقامة أو لا. (14)

(14) إذا أحضر المدّعي البيّنة عند الحاكم فقد تصوّر هنا ثلاث صور بالنسبة إلى الحاكم؛ فإنّه قد يعلم أو شهدت القرائن بإرادته إقامة الشهادة، أو يعلم أو شهدت القرائن بعدم إرادته من إحضارها إقامة الشهادة، أو يشكّ في ذلك. وأفتى في الصورة الاولى بجواز سؤال الحاكم منهم الإقامة وبعدم جوازه في الصورتين الأخيرتين.

ولعلّ الوجه فيه ما تقدّم من أنّ الحقّ للمدّعي ولا يجوز للحاكم التصرّف والتدخّل فيه.

ويرد عليه: ما تقدّم منّا من أنّ الأمر بإقامة البيّنة والسؤال عن البيّنة من وظائف الحاكم، فله السؤال عنهم وأمرهم بإقامة الشهادة في الصورتين الأخيرتين أيضاً.

نعم، لو علم الحاكم من عدم إرادته إقامة الشهادة مع حضورهم، انصرافه عن إقامة الشهادة وعدوله إلى الحلف مثلًا؛ أو إثبات الدعوى بمستند ومدرك آخر، فلا يجوز حينئذٍ أمرهم بإقامة الشهادة والسؤال عنهم.

ص: 345

مسألة 13: إذا شهدت البيّنة فإن عرفهما الحاكم بالفسق طرح شهادتهما، وكذا لو عرف بفقدهما بعض شرائط الشهادة؛ ولو عرفهما بالعدالة وجامعيتهما للشرائط قبل شهادتهما. وإن جهل حالهما توقّف واستكشف من حالهما، وعمل بما يقتضيه. (15)

صور المسألة بعد شهادة الشهود عند الحاكم

اشارة

(15) إذا أحضر المدّعي البيّنة وشهدا عند الحاكم ففيه ثلاثة صور.

الصورة الاولى: أن يعرفهما ويعلم عدم واجديتهما للشرائط المذكورة للشاهد في باب الشهادة من العدالة وانتفاء العداوة والتهمة وغيرها، فيطرح شهادتهما من غير مطالبة التزكية من المدّعي لجواز عمله بعلمه كما تقدّم، وتقدّم الجارح كما سيأتي.

الصورة الثانية: أن يعرفهما بالعدالة وجامعيتهما للشرائط فيقبل شهادتهما ويحكم باستنادها للمدّعي. وذلك لما في المرويّ في «تفسير الإمام العسكري (ع)» المتقدّم من قوله (ع): «فإن أقام بيّنة يرضاها ويعرفها، أنفذ الحكم على المدّعى عليه»(1).

وكذا يدلّ عليه ما تقدّم من جواز عمله بعلمه في القضاء وما يرتبط به مطلقاً.

بل القائل بعدم جواز العمل بالعلم للقاضي استثني هذا المورد وأجاز العمل بالعلم للزوم الدور عند عدمه.


1- وسائل الشيعة 239: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 6، الحديث 1.

ص: 346

مسألة 14: إذا عرفهما بالفسق أو عدم جامعيتهما للشرائط طرحهما من غير انتظار التزكية، لكن لو ادّعى المدّعي خطأ الحاكم في اعتقاده تسمع منه، فإن أثبت دعواه وإلا فعلى الحاكم طرح شهادتهما. وكذا لو ثبت عدالتهما وجامعيتهما للشرائط لم يحتج إلى التزكية ويعمل بعلمه، ولو ادّعى المنكر جرحهما أو جرح أحدهما تقبل، فإن أثبت دعواه أسقطهما، وإلا حكم. ويجوز للحاكم التعويل على الاستصحاب في العدالة والفسق. (16)

وذلك لأنّ القاضي إذا شهد عنده البيّنة وعلم بعدالتهما وجامعيتهما شرائط الشهادة فإمّا أن يعمل بعلمه ويحكم على حسب شهادتهما فهو، وإلا يحتاج إلى بيّنة التعديل، فإذا قامت بيّنة التعديل فلو عرفهما بالعدالة والواجدية للشرائط وجاز له العمل بعلمه فهو.

وإلا يحتاج إلى البيّنة لتعديل بيّنة التعديل وهكذا يتسلسل.

الصورة الثالثة: أن لا يعرفهما بالفسق أو العدالة وكان حالهما مجهولًا عند الحاكم فلا يحكم أيضاً، ولا بدّ له من استكشاف حالهما بطريق يأتي إن شاء الله والعمل بما يقتضيه.

في سماع دعوى المدّعي والمدّعى عليه على خلاف معتقد القاضي

(16) قال الإمام (ره) في المسألة الماضية أنّ القاضي إذا اعتقد فسق البيّنة وعدم جامعيتها للشرائط يطرحها من دون انتظار التزكية من المدّعي، وكذا لو عرفهما

ص: 347

بالعدالة والجامعية يقبل شهادتهما من غير انتظار الجرح من جانب المدّعى عليه وفي هذه المسألة يبحث في أنّه لو قام المدّعي قبال القاضي وادّعى خطأه في اعتقاده فسق البيّنة وأنّهما رجعا عمّا كانوا عليه وتابا وصلحا مثلًا، أو كان بينهما عداوة وبغضاً سابقاً وعلمها القاضي ولكنّهما رفعا اليد عنها ووقع بينهم الصلح والاخوة مثلًا فيسمع الدعوى منه، فإن أثبت ذلك فيزول علم القاضي فيقبل الشهادة ويحكم على طبق شهادة البيّنة وإلا فيعمل القاضي أيضاً بعلمه ويطرح الشهادة.

وكذا لو اعتقد القاضي عدالتهما و واجديتهما للشرائط، ولكن المدّعى عليه يدّعي خطأ القاضي في ذلك وله جرحهما فيسمع الدعوى أيضاً منه، فإن أثبت الجرح فيهما أو أحدهما فيطرح الشهادة وإلا فيعمل القاضي بعلمه.

هذا كلّه فيما إذا كان القاضي عالماً ومعتقداً بعدالتهما أو فسقهما وأمّا لو لم يعرفهما بالعدالة أو الفسق ولم يعلم حالهما فعلًا، ولكن كان لهما حالة سابقة عند الحاكم فجاز له استصحاب الحالة السابقة من العدالة أو الفسق والعمل بمقتضاها لاعتباره شرعاً وكونه بمنزلة العلم. وجاز للمدّعي والمدّعى عليه دعوى الخلاف كما في صورة علم القاضي ويسمع دعواهما.

ولذا قال الإمام (ره) في ذيل المسألة ويجوز للحاكم التعويل على الاستصحاب في العدالة والفسق.

وقال السيّد (ره): «يجوز للحاكم الاعتماد في الفسق والعدالة على الاستصحاب للمدّعي والمدّعى عليه دعواهما الخلاف أي تسمع منهما»(1).


1- العروة الوثقى 515: 6، مسألة 7.

ص: 348

فرعان:

الفرع الأوّل: إنّه يكفي في إثبات الجرح للبيّنة من المدّعى عليه إقامة البيّنة على فسقهما بأن قالوا: رأينا منهما ما يوجب سقوطهما عن العدالة مثلًا، ولا يعتبر إثبات فسقهما بنحو يوجب الحدّ أو التعزير فإذا ادّعى المنكر أنّ أحد الشاهدين أو كليهما زان لا يحتاج إلى البيّنة المعتبرة في الزنا، بل يكفي شهادة العدلين على سقوطهما عن العدالة.

الفرع الثاني: إذا جرحهما المدّعى عليه ولم يقدر على إثباته وكان ممّا يوجب الحدّ أو التعزير لا بدّ للحاكم حدّه وتعزيره.

قال السيّد (ره): «إذا جرح ولم يقدر على إثبات جرحه وكان ممّا له حدّ أو تعزير يحدّ أو يعزر»(1).

وقال في «المستند»: «ثمّ يعزّر المدّعى عليه أو يحدّ إن كان جرحه الذي لم يقدر على إثباته ممّا يوجب أحدهما».(2)

فلو رماها أو أحدهما بالزنا مثلًا أو شرب الخمر والسرقة ولم يقدر إثباتها فيحدّ في الأوّل حدّ القذف و يعزّر في الباقي للهتك والكذب.

ولعلّ ذلك لإطلاق أدلّة القذف وأدلّة ما دون القذف. وأنّه لا نظرة ولا مهلة في إجراء الحدّ.

كما تدلّ عليه رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام): «في ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا فقال علي (ع): أين الرابع؟ قالوا: الآن يجي ء فقال


1- العروة الوثقى 515: 6، مسألة 5.
2- مستند الشيعة 246: 17.

ص: 349

مسألة 15: إذا جهل الحاكم حالهما، وجب عليه أن يبيّن للمدّعي أنّ له تزكيتهما بالشهود مع جهله به، فإن زكّاهما بالبيّنة المقبولة وجب أن يبيّن للمدّعى عليه أنّ له الجرح إن كان جاهلًا به، فإن اعترف بعدم الجارح حكم عليه، وإن أقام البيّنة المقبولة على الجرح سقطت بيّنة المدّعي. (17)

علي (ع) حدّوهم، فليس في الحدود نظر ساعة»(1).

وكذا تدلّ على ذلك ما عن عبّاد البصري، قال: سألت أبا جعفر (ع) عن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا، وقالوا: الآن نأتي بالرابع؟ قال: «يجلدون حدّ القاذف ثمانين جلدة كلّ رجل منهم»(2).

تنبيه: لا يخفى أنّ هذه المسألة من المسائل المهمّة ومورد الابتلاء في المحاكم الجارية الجنائية وغيرها والخلأ منها في القوانين محسوس وموجب للتأسّف كثيراً. ولو أجرى هذا الفرع لن يتجرّأ أحد لاتّهام الأشخاص- البري ء من العيوب- بلا وجه كما هو المتعارف الآن ويقع كثيراً ويوجب هتك حرمة أفراد محترمين وكذا إجراؤه كان موجباً لتقليل المراجعات إلى المحاكم ورفع التراكم فيها.

(17) إذا كان الحاكم جاهلًا بحالهما ولم يعرفهما بالعدالة أو بالفسق ولم يعلم جامعيتهما الشرائط الشهادة، فحينئذٍ بناءً على ما قالوا من أنّ إقامة البيّنة


1- وسائل الشيعة 96: 28، كتاب الحدود، أبواب حدّ الزنا، الباب 12، الحديث 8.
2- وسائل الشيعة 97: 28، كتاب الحدود، أبواب حد الزنا، الباب 12، الحديث 9.

ص: 350

والأحلاف وإقامة بيّنة التعديل من وظائف المدّعي وحقوقه فيذهبون إلى وجوب إعلام الحاكم بالمدّعي أنّ له حقّ إقامة التعديل لو كان جاهلًا به. ولذا قال الإمام (ره): وجب على الحاكم أن يبيّن للمدّعي أنّ له تزكيتهما بالشهود مع جهله به، وبناءً على ما قلنا من أنّ ذلك من وظائف الحاكم، فإنّه يجب عليه الحكم ولا بدّ له من الإتيان بمقدّماته فيجب على الحاكم التفحّص واستكشاف حالهما ومن مصاديقه أن يوظّف المدّعي بأن يزكّيهما وله أن يتفحّص من طريق آخر.

ويدلّ عليه ما في «تفسير العسكري (ع)» عن على أمير المؤمنين (ع) عن فعل رسول الله (ص)(1).

فإن لم يأت بالتزكية أو لم يستكشف للحاكم عدالتهما وجامعيّتهما يطرح البيّنة. وإن ثبت له عدالتهما وجامعيّتهما، قال الإمام (ره): وجب أن يبيّن للمدّعى عليه أنّ له الجرح إن كان جاهلًا به. هذا على مذهبه. ولكن بناءً على ما قلنا، إذا تفحّص الحاكم تفحّصاً تامّاً وأحرز عدالتهما وجامعيّتهما فلا يجب عليه الإعلام المذكور. نعم، لو أتي المدّعى عليه بالجارح يترتّب عليه الأثر لأنّه من تتميم تفحّص اللازم على الحاكم فلو ثبت عنده الجرح فيتعارض البيّنتان ويتساقطان أو يقدّم بيّنة الجارح- على ما سيجي ء إن شاء الله عزّ وجلّ- فيطرح بيّنة المدّعي، ولو لم يثبت الجرح فتبقي بيّنة المدّعي على الاعتبار فيحكم الحاكم على طبقها بنفع المدّعي.


1- راجع: وسائل الشيعة 239: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 6، الحديث 1.

ص: 351

مسألة 16: في صورة جهل الحاكم وطلبه التزكية من المدّعي لو قال: «لا طريق لي»، أو قال: «لا أفعل»، أو «يعسر عليّ»، وطلب من الحاكم الفحص، لا يجب عليه ذلك وإن كان له ذلك، بل هو راجح. ولو طلب الجرح في البيّنة المقبولة من المدّعى عليه ولم يفعل، وقال: «لا طريق لي» أو «يعسر عليّ» لا يجب عليه الفحص، ويحكم على طبق البيّنة، ولو استمهله لإحضار الجارح، فهل يجب الإمهال ثلاثة أيّام، أو بمقدار مدّة أمكنه فيها ذلك، أو لا يجب وله الحكم، أو وجب عليه الحكم فإن أتى بالجارح ينقضه؟ وجوه، لا يبعد وجوب الإمهال بالمقدار المتعارف، ولو ادّعى الإحضار في مدّة طويلة يحكم على طبق البيّنة. (18)

فيما إذا طلب المدّعي من الحاكم التفحّص للتعديل

(18) قد تعرّض الماتن (ره) في هذه المسألة إلى ثلاث مطالب.

المطلب الأوّل: إذا كان الحاكم جاهلًا بحال البيّنة التي أقامها المدّعي وطلب منه التزكية فأحال ذلك إلى عهدة الحاكم وطلب من الحاكم الفحص. وقال: «لا طريق لي إلى ذلك». أو «لا أفعل» فهل يجب على الحاكم التصدّي للفحص عن جانب المدّعي أو لا؟

قال الإمام (ره): إنّه لا يجب وإن كان له ذلك، بل هو راجح.

والوجه فيه: أنّ الحاكم يجب عليه الحكم بنفع المدّعي إذا أقام البيّنة المقبولة عند الحاكم، فإذا لم يقم ذلك لا وظيفة على الحاكم وإن كان الراجح إجابته.

ص: 352

وفيه: أنّه قلنا إنّ ذلك من وظائف الحاكم وطلبه من المدّعي الإتيان بالتزكية هو أحد الطرق التفحّص من ناحية القاضي، فإذا لم يتصدّي المدّعي لذلك تصدّاه الحاكم وان لم يطلب المدّعي منه ذلك.

المطلب الثاني: لو أحرز الحاكم عدالتهما وجامعيّتهما للشرائط إمّا بإقامةالبيّنة المقبولة عنده للتزكية، وإمّا من طريق التفحّص الذي تصدّاه بنفسه فطلب من المدّعى عليه الجرح فيها فأحاله أيضاً إلى عهدة الحاكم وطلب منه الجرح فيهما؛ قال الإمام (ره) لا يجب على الحاكم الفحص، بل يحكم على طبق البيّنة.

ونحن نقول ذلك أيضاً فإنّه إذا قامت الحجّة لديه فيحكم على طبقه من دون احتياج إلى الفحص عن المعارض والجارح بلا إشكال.

المطلب الثالث: إنّه إذا قال المدّعى عليه أنّ لي بيّنة جارحة واستمهل القاضي لإحضارها فهل يجب الإمهال أو لا؟

قد يذكر هنا وجوه لا يهمّنا البحث عنها بالتفصيل، بل نتذكّر قول الماتن (ره) كما نحن عليه أيضاً. قال الإمام (ره) لا يبعد وجوب الإمهال بالمقدار المتعارف. وذلك صحيح لأنّ فيه الجمع بين الحقّين رعاية لعدم تضرّر المدّعي بالتأخير و رعاية لحقّ المدّعى عليه لاحتمال قبول بيّنته الجارحة وطرح بيّنة المدّعي. وما في بعض كلمات الفقهاء (عج) من وجوب الإمهال ثلاثة أيّام لا دليل عليه.

ص: 353

مسألة 17: لو أقام البيّنة على حقّه ولم يعرفهما الحاكم بالعدالة، فالتمس المدّعي أن يحبس المدّعى عليه حتّى يثبت عدالتهما، قيل: يجوز حبسه، والأقوى عدم الجواز، بل لا يجوز مطالبة الكفيل منه، ولا تأمين المدّعى به، أو الرهن في مقابل المدّعى به. (19)

فيما إذا التمس المدّعي حبس المدّعى عليه حتّى يأتي بالتزكية

(19) لو أقام المدّعي البيّنة على مدّعاه، ولكن لم يعرفهما الحاكم بالعدالة والجامعية للشرائط في القبول فطلب المدّعي من الحاكم أن يحبس المدّعى عليه حتّى يأتي بالتعديل ويثبت عدالتهما، فهل يجوز الحبس أو لا، قال الإمام (ره): قيل: يجوز حبسه. والأقوى عدم الجواز، بل لا يجوز مطالبته بالكفيل ولا تأمين المدّعى به أو الرهن في قباله.

يمكن أن يفرض في المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: عدم الجواز مطلقاً.

قد تعرّض المحقّق (ره)(1) وصاحب «الجواهر»(2) لهذه المسألة فيما إذا طرح المدّعي الدعوى عند الحاكم وطلب من الحاكم حبس المدّعى عليه حتّى يأتي بالبيّنة لإثبات مدّعاه.

قال المحقّق: «ولو ذكر المدّعي أنّ له بيّنة غائبة، خيّره الحاكم بين الصبر وبين


1- راجع: شرائع الإسلام 873: 4.
2- راجع: جواهر الكلام 204: 40.

ص: 354

إحلاف الغريم، وليس له ملازمته ولا مطالبته بكفيل»(1).

والمراد من ملازمته أن يلازمه المدّعي بحيث لا يتمكّن من الفرار والخفاء والحيل.

قال في «الجواهر»(2) فضلًا عن أكثر المتأخّرين، بل عامّتهم والإسكافي(3) والشيخ في «الخلاف»(4) و «المبسوط»(5)- إلى ان قال- خلافاً للمحكيّ عن الشيخين في «المقنعة»(6) و «النهاية»(7) و «القاضي»(8) في أحد قوليه.

واستدلّ على عدم جواز الحبس والملازمة والتكفيل بامور:

الأوّل: الأصل السالم عن المعارض.

الثاني: أنّ الحبس أو الملازمة لأحد أو أخذ الكفيل عقوبة، والعقوبة لا تجوز إلا على من وجب وهنا لم يثبت حقّ عليه حتّى يوجب حبسه.

الثالث: يرد على التكفيل بالخصوص أنّ المقصود من الكفالة أنّ المكفول لو لم يحضر يلزم الكفيل بالحقّ وهنا لم يثبت الحقّ بعد؛ فلا معنى لأخذ الكفيل.


1- شرائع الإسلام 875: 4.
2- راجع: جواهر الكلام 205: 40.
3- وقال ابن الجنيد: ولو سأل المدّعي القاضي مطالبة المدّعى عليه بكفيل قبل ثبوت حقّه عليه لم يكن ذلك واجباً عليه، ولا للقاضي تكليفه بذلك، ولكن يقول له: لا آمرك بتخليته ولا آمره بالاحتباس لك.( مختلف الشيعة 360: 8)
4- راجع: الخلاف 237: 6.
5- راجع: المبسوط 159: 8.
6- راجع: المقنعة: 723.
7- راجع: النهاية: 339.
8- راجع: المهذّب 586: 2.

ص: 355

القول الثاني: الجواز مطلقاً.

واستدلّ على جواز الحبس بقاعدة لا ضرر ولا ضرار؛ فإنّه قد يهرب المدّعى عليه ولا يتمكّن المدّعي من تحصيل الحقّ فيجب مقدمةً للزوم مراعاة حقّ المسلم من الذهاب في نفس الأمر.

واستشكل عليه في «الجواهر» بأنّ هذه القاعدة لا وجه بجريانها في المقام إذا الضرر لا يدفع بالضرر؛ فإنّ الحبس والتكفيل أيضاً ضرر مع أنّ القاعدة لا يقتضي تعجيل الضرر على المسلم باحتمال ضرر آخر.

القول الثالث: التفصيل، وهو المختار.

والحقّ أن يقال: إنّ الحكم في جواز الحبس والكفالة وعدمه يختلف باختلاف الموارد واختلاف الاتهامات والغرماء، فإنّ الدعوى قد يكون مالًا والغريم يكون ذا ثروة وحشمة ومكنة ومحلّ معيّن للتجارة مثلًا ولا يحتمل فراره أو اختفائه فلا حاجة لتكفيله، بل لا يجوز. لعدم ثبوت الحقّ والأمن من ضياعه، وكذا موارد التي لا تكون الدعوى مهمّة، أو يحتمل كون المدّعي محتالًا يطلب الحبس أو التكفيل وسيلة إلى أخذ ما لا يستحقّه أو هتك المدّعى عليه. أمّا لو كان المدّعى به مالًا ويحتمل فرار المدّعى عليه أو اختفائه وليس له مال أو كان و يحتمل انتقاله إلى الغير أو تغيير محلّ مال المسروقة والاحتيال في المدارك أو كان غير المال مثل القتل وغيره فجاز الحبس والكفالة والملازمة أو أخذ الرهن على حسب ما رآه الحاكم مقدّمة لحفظ حقوق الناس وحفظها من التضييع.

ويرد على ما قيل من عدم الفائدة في الكفيل لعدم ثبوت الحقّ؛ بأنّ هذا إذا لا يحتمل ثبوت الحقّ، وأمّا مع احتمال حضور البيّنة التزكية وثبوت الحقّ بها فيلزم

ص: 356

مسألة 18: لو تبيّن فسق الشاهدين أو أحدهما حال الشهادة انتقض الحكم، وإن كان طارئاً بعد الحكم لم ينتقض، وكذا لو تبيّن فسقهما بعد الشهادة وقبل الحكم على الأشبه. (20)

الكفيل بإحضاره أو الالتزام بالحقّ.

هذا ما نقله صاحب «الجواهر» (ره)(1) عن «الرياض»(2) وهو عن الفاضل المقداد(3) من التفصيل بين ما إذا خيف هرب المنكر وعدم التمكّن من استيفاء الحقّ بعد ثبوته من ماله فيجوز الحبس أو التكفيل وبين ما لو لم يخف من ذلك فلا يجوز.

ونحن نقول: الاولى إيكال الأمر إلى القاضي وما يراه من المصلحة في كلّ مورد لحفظ الحقوق ورعاية المصالح في الجمع بين الحقوق ولا يحتاج إلى طلب المدّعي أيضاً.

أنّ شرط العدالة في الشهود في القضاء واقعي لا علمي

(20) قد يعتبر ويشترط العدالة بنحو الشرط الواقعي بمعنى أنّ الشرط نفس العدالة، فإذا علم بها ثمّ تبيّن خلافها فيكشف عن عدم تحقّق الشرط والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه.

وقد يعتبر بنحو الشرط العلمي بمعنى أنّ الشرط هو العلم بتحقّق العدالة فإذا


1- راجع: جواهر الكلام 206: 40.
2- راجع: رياض المسائل 94: 13.
3- التنقيح الرائع 252: 4.

ص: 357

علم بها ثمّ تبيّن خلافه فلا يكشف عن عدم تحقّق الشرط. بل الشرط- وهو العلم بالعدالة- كان متحقّقاً وإن لم يكن عادلًا واقعاً فلا يضرّ بالشرط كشف الخلاف.

ثمّ هل شرط العدالة في الشهود في باب القضاء من باب اشتراط الواقع وهو شرط واقعي أو هو شرط علمي.

الظاهر اتّفاق الأصحاب على أنّ شرط العدالة واقعي. واستدلّوا على ذلك:

1- بأصالة الواقعية في الشرط لقاعدة كون الأسماء للمسمّيات الواقعية.

2- وكذا يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَأشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ(1) فإنّ الظاهر منه من كان عادلًا واقعاً. والقول بأنّ المراد: «ذوي عدل عندكم» بلا دليل.

وكذا اعتبار عدالة الشهود في الطلاق فالظاهر اعتبار الواقعية فيها، لما قلنا.

نعم العدالة المعتبرة في امام الجماعة هي العلمي لا الواقعي، وذلك لما في الروايات من قوله (ع): «لا تصل إلا خلف من تثق بدينه وأمانته»(2) وكذا قوله (ع): «وإن أسرّكم أن تزكوا صلاتكم فقدّموا خياركم»(3).

قال صاحب «الجواهر» (ره): «فيكون المراد عدلًا عند المأموم وهو معنى- لا تصلّ إلا خلف من تثق به- ولذا تصحّ الصلوة ولو انكشف الفسق بعدها»(4) انتهى.

ثمّ بعد اعتبار العدالة الواقعية في باب شهود القضاء فإذا أحرز القاضي عدالة الشاهدين إما بالعلم أو بالاستصحاب ثمّ تبيّن فسقها ففي ذلك صور:


1- الطلاق( 65): 2.
2- وسائل الشيعة 309: 8، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 10، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 315: 8، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 11، الحديث 7.
4- جواهر الكلام 277: 13.

ص: 358

الصورة الاولى: تبيّن فسق الشهود حال الشهادة. لو تبيّن فسقهما أو أحدهما حال الشهادة قبل الحكم فلا شبهة في انتقاض الحكم وصيرورته كالعدم ببطلان الشهادة فيكون الحكم بلا مستند فيكون باطلًا.

الصورة الثانية: تبيّن فسق الشهود بعد الإقامة والحكم. لو تبيّن فسقها الطاري بعد الحكم، بمعنى عروض الفسق لهما أو لواحد منها بعد حكم الحاكم فلا شبهة في صحّة الحكم و عدم انتقاضه لفرض جامعيته لجميع الشرائط.

الصورة الثالثة: تبيّن فسق الشهود بعد الإقامة وقبل الحكم. لو تبيّن فسقهما بعد الإقامة وقبل حكم الحاكم بمعنى عروض الفسق في الزمان الفاصل بينهما، فهل يجوز الحكم باستناد هذه الشهادة أم لا؟ فيه قولان:

القول الأوّل: ذهب الشيخ في «الخلاف»(1) وموضع من «المبسوط»(2) وابن إدريس(3) والمحقّق(4) والعلامة في «التحرير»(5) و «القواعد»(6) إلى عدم القدح، بل قالوا بجواز الحكم باستناد شهادتهما.

قد تعرّض له المحقّق في «الشرائع» في كتاب الشهادة في القسم الثاني في الطوارئ في المسألة الثانية، وقال: «لو شهدا ثمّ فسقا قبل الحكم، حكم بهما»(7).


1- راجع: الخلاف 320: 6.
2- راجع: المبسوط 102: 8.
3- راجع: السرائر 179: 2.
4- راجع: شرائع الإسلام 927: 4.
5- راجع: تحرير الأحكام 270: 5.
6- راجع: قواعد الأحكام 515: 3.
7- شرائع الإسلام 927: 4.

ص: 359

استدلّوا للقول الأوّل:

أوّلًا: بأنّ المعتبر هو العدالة عند إقامة الشهادة لا أزيد من ذلك.

ثانياً: ولأنّ الحكم بشهادتها لو استمرّ العدالة ثابت بلا شبهة فكذا مع زوالها عملًا بالاستصحاب.

وقد أوردوا على الأوّل بأنّه عين النزاع ومصادرة على المطلوب.

وفيه: أنّ مرادهم بذلك هو أنّ القدر المتيقّن من اشتراط العدالة في الشاهد هو حال أداء الشهادة؛ لأنّه المجمع عليه فتخصيص أدلّة عمومات قبول الشهادة في الزائد على ذلك ممنوع(1).

القول الثاني: ذهب الشيخ في موضع آخر من «المبسوط»(2) والعلامة في «المختلف»(3) والشهيد في «الدروس»(4) وصاحب «الجواهر»(5) إلى عدم جواز الحكم للحاكم.

واستدلوا للثاني بامور:

الأوّل: لو جاز الحكم باستناد شهادتهما يصدق الحكم بشهادة الفاسقين.

الثاني: القياس على رجوعها قبل الحكم، فكما لا يجوز الحكم مع الرجوع فلا يجوز مع الفسق.

الثالث: القياس بموت المشهود له قبله لو كانا وارثين له، فكما لا يجوز


1- راجع: مستند الشيعه 413: 18.
2- راجع: المبسوط 244: 8.
3- راجع: مختلف الشيعة 535: 8.
4- راجع: الدروس الشرعية 133: 2.
5- راجع: جواهر الكلام 218: 41.

ص: 360

مسألة 19: الظاهر كفاية الإطلاق في الجرح والتعديل، ولا يعتبر ذكر السبب فيهما مع العلم بالأسباب وموافقة مذهبه لمذهب الحاكم، بل لا يبعد الكفاية إلا مع العلم باختلاف مذهبهما. ويكفي فيهما كلّ لفظ دالّ على الشهادة بهما، ولا يشترط ضمّ مثل: أنّه مقبول الشهادة، أو مقبولها لي وعليّ، ونحو ذلك في التعديل ولا مقابلاته في الجرح.

الحكم فحينئذٍ لوحدة المدّعي والشاهد فكذلك هنا.

الرابع: أنّ طروّ الفسق يضعّف ظنّ العدالة لبعد طروّها دفعة.

ويرد على الأوّل، أنّ الصدق المذكور ممنوع؛ فإنّ المسلّم أنّ الحكم بشهادة الفاسق وقت الأداء ممنوع، لا الزائد عليه ومطلقاً.

وعلى الثاني، أنّ القياس باطل مع أنّه مع الفارق؛ لأنّ الرجوع دلّ على عدم جزمهم عند الأداء.

وعلى الثالث، بأنّ موت المشهود له يوجب فقد طالب الحكم و صاحبه فيكون مع الفارق أيضاً.

وعلى الرابع، أنّ حصول الضعف في ظنّ العدالة ممنوع جدّاً.

ومن ذلك ظهر أنّ الحقّ هو القول الأوّل كما قال الماتن (ره): «على الأشبه» ويكون مراده أنّه لو تبيّن حدوث فسقهما بعد الإقامة بمعنى أنّ عروض الفسق كان بعد الإقامة والتبيّن بعد الحكم، فقال: لا ينقض الحكم على الأشبه، ونحن فرضنا أنّ التبيّن كان قبل الحكم فقلنا بجواز الحكم، وكذا لو حكم ثمّ تبيّن فسقها نقول بعدم نقضه فلا فرق من هذه الجهة.

ص: 361

مسألة 20: لو تعارضت بيّنة الجرح والتعديل؛ بأن قالت إحداهما: «إنّه عادل» وقالت الاخرى: «إنّه فاسق»، أو قالت إحداهما: «كان يوم كذا يشرب الخمر في مكان كذا» وقالت الاخرى: «إنّه كان في يوم كذا في غير هذا المكان» سقطتا، فعلى المنكر اليمين. نعم، لو كان له حالة سابقة من العدالة أو الفسق يؤخذ بها؛ فإن كانت عدالةً حكم على طبق الشهادة، وإن كانت فسقاً تطرح وعلى المنكر اليمين.

مسألة 21: يعتبر في الشهادة بالعدالة العلم بها إمّا بالشياع أو بمعاشرة باطنة متقادمة، ولا يكفي في الشهادة حسن الظاهر ولو أفاد الظنّ، ولاالاعتماد على البيّنة أو الاستصحاب. وكذا في الشهادة بالجرح لا بدّمن العلم بفسقه، ولا يجوز الشهادة اعتماداً على البيّنة أو الاستصحاب. نعم، يكفي الثبوت التعبّدي- كالثبوت بالبيّنة، أو الاستصحاب، أو حسن الظاهر- لترتيب الآثار، فيجوز للحاكم الحكم اعتماداً على شهادةمن ثبتت عدالته بالاستصحاب أو حسن الظاهر الكاشف تعبّداً أو البيّنة.

مسألة 22: لو شهد الشاهدان بحسن ظاهره فالظاهر جواز الحكم بشهادته بعد كون حسن الظاهر كاشفاً تعبّداً عن العدالة.

مسألة 23: لا يجوز الشهادة بالجرح بمجرّد مشاهدة ارتكاب كبيرة؛ ما لم يعلم أنّه على وجه المعصية ولا يكون له عذر، فلو احتمل أنّ ارتكابه لعذر لا يجوز جرحه ولو حصل له ظنّ بذلك بقرائن مفيدة له.

مسألة 24: لو رضي المدّعى عليه بشهادة الفاسقين أو عدل واحد لا

ص: 362

يجوز للحاكم الحكم، ولو حكم لا يترتّب عليه الأثر.

مسألة 25: لا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدين لم يحرز عدالتهما عنده؛ ولو اعترف المدّعى عليه بعدالتهما لكن أخطأهما في الشهادة.

مسألة 26: لو تعارض الجارح والمعدّل سقطا وإن كان شهود أحدهما اثنين والآخر أربعة؛ من غير فرق بين أن يشهد اثنان بالجرح وأربعة بالتعديل معاً، أو اثنان بالتعديل ثمّ بعد ذلك شهد اثنان آخران به، ومن غير فرق بين زيادة شهود الجرح أو التعديل.

مسألة 27: لا يشترط في قبول شهادة الشاهدين علم الحاكم باسمهما ونسبهما بعد إحراز مقبولية شهادتهما، كما أنّه لو شهد جماعة يعلم الحاكم أنّ فيهم عدلين كفى في الحكم، ولا يعتبر تشخيصهما بعينهما. (21)

(21) هؤلاء مسائل فرعية ذكرها الماتن هاهنا، وليست بأساسية، بل من فروع باب الشهادة وسيأتي إن شاء الله في كتاب الشهادة ونبحث عنها هناك. ولذا صرفنا النظر عن ذكرها وحوّلناها إلى محلّها. إلا أنّا أثبتنا متن هذه المسائل فقط وهي مسألة 19، 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26 و 27.

ص: 363

مسألة 28: لا يشترط في الحكم بالبيّنة ضمّ يمين المدّعي. (22)

حكم الحلف مع إقامة البيّنة

اشارة

(22) هنا يتصوّر فروع نذكرها واحداً بعد واحد.

الفرع الأوّل: في أنّ المدّعي لا يستحلف مع إقامة البيّنة

إذا أقام المدّعي لمدّعاه البيّنة القابلة لإثبات الحقّ المقبولة عند الحاكم فلا يطالب باليمين ولا يستحلف. قال المحقّق (ره): «ولا يستحلف المدّعي مع البيّنة»(1) قال في «الجواهر» بعد كلامه «بلا خلاف فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه»(2).

والدليل على ذلك:

مضافاً إلى ما يستفاد من التفصيل القاطع للشركة من الحديث النبوي المشهور: «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»(3).

صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الرجل يقيم البيّنة على حقّه، هل عليه أن يستحلف؟ قال: «لا»(4).

ورواية أبي العبّاس عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا أقام الرجل البيّنة على حقّه، فليس عليه يمين، فإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الذي ادّعى عليه


1- شرائع الإسلام 874: 4.
2- جواهر الكلام 194: 40.
3- وسائل الشيعة 234: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 5.
4- وسائل الشيعة 243: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 8، الحديث 1.

ص: 364

اليمين، فإن أبى أن يحلف، فلا حقّ له»(1).

نعم، لو ردّ المدّعى عليه اليمين على المدّعي فيلزمه الحلف وذلك بدليل يدلّ عليه كما في هذه الرواية، وكذا عند نكول المدّعى عليه لو ردّ الحاكم عليه اليمين على اختلاف فيه كما تقدّم. وهذا فيما لم يقم المدّعي البيّنة ويكون الحلف من وظائف المدّعى عليه ردّه إلى المدّعي فلا تتخلّف ما قلنا من عدم استحلافه مع البيّنة.

قال في «المسالك»: «الأصل في المدّعي أن لا يكلّف اليمين، خصوصاً إذا أقام البيّنة، للتفصيل القاطع للاشتراك في الحديث المشهور، ولكن تخلّف عنه الحكم بدليل من خارج في صورة ردّه عليه إجماعاً، و مع نكول المنكر عن اليمين على خلاف»(2).

وأمّا قول أمير المؤمنين (ع) في رواية سلمة بن كهيل في آداب القضاء: «وردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته؛ فإنّ ذلك أجلى للعمى وأثبت للقضاء»(3) فلا يصحّ لمعارضة ما ذكر لضعف سنده بسلمة بن كهيل؛ فإنّه لا يؤخذ بما تفرّد به، فلذا حمله الأصحاب على وجوه.

قال صاحب «الوسائل» (ره) بعد نقل الرواية: «أقول: هذا يمكن حمله على الاستحباب مع قبول المدّعي لليمين لتصريح الحديث الأوّل وغيره بنفي الوجوب. ويمكن حمله على الدعوى على الميّت لما مرّ.


1- وسائل الشيعة 243: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 8، الحديث 2.
2- مسالك الأفهام 460: 13.
3- وسائل الشيعة 244: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 8، الحديث 4.

ص: 365

نعم، يُستثنى منه الدعوى على الميّت، فيعتبر قيام البيّنة الشرعية مع اليمين الاستظهاري، فإن أقام البيّنة ولم يحلف سقط حقّه. (23)

ويحتمل الحمل على التقيّة لأنّه قول جماعة من العامّة. ويؤيّد الاستحباب إنّ أكثر ما اشتمل عليه الحديث المذكور مستحبّ فعلًا أو تركاً مع ما يفهم من التعليل وأفعل التفضيل». انتهى.

الفرع الثاني: في الدعوى على الميّت

(23) هذا هو الثاني من الفروع التي تصوّرنا في كلام الماتن (ره) في مسألة 28.

قال المحقّق (ره): «إلا أن تكون الشهادة على ميّت، فيستحلف على بقاء الحقّ في ذمّته استظهاراً»(1). قال في «الجواهر» بعد كلام المحقّق: «بلا خلاف أجده فيه بين من تعرّض له كما اعترف به غير واحد، بل في «الروضة» هو موضع وفاق»(2).

وقال في «المسالك»: «وإن كانت الدعوى على ميّت فالمشهور بين الأصحاب- لا يظهر فيه مخالف- أنّ المدّعي يستحلف مع قيام بيّنته على بقاء الحقّ في ذمّة الميّت»(3).

وقد عقد الصدوق (ره) في «الفقيه» باباً لهذا وقال: «باب الحكم باليمين على


1- شرائع الإسلام 874: 4.
2- جواهر الكلام 194: 40.
3- مسالك الأفهام 461: 13.

ص: 366

المدّعي على الميّت حقّاً بعد إقامة البيّنة».

وكذا صاحب «الوسائل» (ره) قال: «باب ثبوت الحقّ على المنكر إذا لم يحلف ولم يرد، وعدم ثبوت الدعوى على الميّت، إلا ببيّنة ويمين على بقاء الحقّ»(1).

وهذا شاهد على أنّ المسألة مهمّة جدّاً، فإنّها استثناء من الحكم الذي كان مورد الاتّفاق ومجمعاً عليه وهو عدم استحلاف المدّعي مع البيّنة والتفصيل القاطع للشركة فيما تواتر من رسول الله (ص) كان هو المعروف ومورداً للعمل بين الأصحاب.

والمراد من قيد الاستظهاري في اليمين هو أنّ هذا اليمين يوجب ظهور ثبوت الحقّ على الميّت وبقائه إلى حين الموت، فإنّ البيّنة يشهد على أصل ثبوت الحقّ ولكنّه يحتمل أدائه قبل موته من غير اطّلاع البيّنة أو إبرائه للميّت قبل موته فيستظهر من اليمين ثبوت الحقّ عليه وبقائه إلى حين الموت ويثبت أنّه مات مديوناً للمدّعي.

والدليل على هذا الاستثناء روايات ثلاث:

الاولى: رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله البصري قال: قلت للشيخ (ع): خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ- إلى أن قال:- «وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات فاقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو لقد مات فلان وأنّ حقّه لعليه، فإن حلف وإلا فلا حقّ له لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه بيّنة لا نعلم موضعها أو غير بيّنة قبل الموت فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة».


1- الفقيه 63: 3؛ وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4.

ص: 367

ورواها الصدوق (ره)(1) وقال بعد قوله: قلت للشيخ: يعني موسى بن جعفر (ع)(2).

وقد تقدّم الاستدلال بصدر هذه الرواية مفصّلًا، والآن محطّ نظرنا للاستدلال ذيل الرواية. وهذه الرواية على فرض كونها ضعيفة سنداً من جهة اشتمالها على محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، وياسين الضرير المهمل في الكتب الرجالية لكنّها مورد العمل للأصحاب صدراً وذيلًا. ولذا قال في «الجواهر»(3): الأصل في ذلك قويّ.

عبدالرحمن بن أبي عبدالله الذي رواه المحمّدون الثلاثة المنجبر بما عرفت.

وقال صاحب «مفتاح الكرامة» بعد ذكرها: «فهي مع صراحتها ووضوح دلالتها واشتهار مضمونها ورواية المحمّدين لها وقوّة سندها معلّلة فقد تكملت شرائط الصحّة»(4).

في مناقشات المحقّق الأردبيلي ودفعها

ولكن ناقش في دلالتها وسندها المحقّق الأردبيلي (ره)(5).

منها: ضعف سندها بمحمّد بن عيسى بن عبيد وهو العبيدي المشهور. وفيه قول وكذا ياسين الضرير.

ومنها: أنّه قد يكون الشيخ غيره (ع) وليس قول الصدوق حجّة إذ قد يكون هذا فهمه واجتهاده.


1- الفقيه 63: 3.
2- راجع: وسائل الشيعة 237: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.
3- جواهر الكلام 195: 40.
4- مفتاح الكرامة 90: 10.
5- مجمع الفائدة والبرهان 158: 12.

ص: 368

ومنها: أنّ ثبوت الحكم عندهم وفتواهم به لا يدلّ على تلقيهم هذه الرواية بالقبول حتّى يستدلّ بها عليها، إذ قد يكون للحكم دليل آخر.

ومنها: أنّ في دلالتها على المطلوب أيضاً تأمّل، لعدم التصريح بتعدّد البيّنة وإن سلم أنّها ظاهرة في ذلك، فلعلّ مراده أنّ قوله: «فاقيمت عليه البيّنة» لا يكون صريحاً في تعدّد الشاهد فيحتمل أن يراد منها شاهد واحد فيحتاج إلى اليمين منضمّاً إليه.

ومنها: أنّ ظاهرها وجوب اليمين المغلّظة ولا قائل به، فيمكن حملها على التقيّة لأنّه مذهب أكثر المخالفين أو على الاستحباب، انتهى كلامه(1).

أقول: والحقّ أنّ هذه المناقشات واضحة الدفع، بل هي دون شأن المحقّق المذكور، فإنّ ضعف السند على فرض قبوله منجبر بما قلنا وأنّ العلماء (رحمهم الله) استندوا في فتواهم بهذا الاستثناء، وبهذه الرواية فكيف لا يدلّ على تلقّيهم هذه الرواية بالقبول. ونقل الصدوق (ره) مع كونه ثقة، حجّة. ولفظ البيّنة عند عرف الشرع والمستفاد من كلام الفقهاء في غير موضع يراد منه الشاهدين بلا شبهة. وذكر الذي لا إله إلا هو بعد لفظ الجلالة كان من الإمام ولا يدلّ على لزوم ذكره في اليمين ويحتمل أن يكون ذكره من باب أحد المصاديق.

والحاصل: أنّ المناقشات ضعيفة وواضحة الدفع. لذا قال صاحب «الجواهر»(2): والمناقشة فيها بما ذكر لا تستأهل ردّاً. وهذا التعبير من مثل صاحب «الجواهر» الذي هو مقيّد بالأدب بالنسبة إلى الأعاظم مهمّ.


1- مجمع الفائدة والبرهان 160: 12.
2- راجع: جواهر الكلام 196: 40.

ص: 369

فنقول على الذي يدّعي على الميت أن يحلف يمين الاستظهاري وإلا سقط حقّه.

الثانية: صحيحة محمّد بن الحسن الصفّار عن محمّد بن يحيى قال: كتب محمّد بن الحسن الصفّار إلى أبي محمّد (ع): هل تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (ع): «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين» وكتب: أيجوز للوصيّ أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً (وهو القابض للصغير) وليس للكبير بقابض؟ فوقع (ع): «نعم، وينبغي للوصيّ أن يشهد بالحقّ ولا يكتم الشهادة» وكتب: أو تقبل شهادة الوصيّ على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقع: «نعم من بعد يمين»(1). وهو صريح في الذيل باليمين الاستظهاري.

وقد نوقش في صحيحة الصفّار:

أوّلًا: بأنّها مكاتبة في الواقعة.

وثانياً: مخالفة للقاعدة.

وثالثاً: معارضة صحيحة الاخرى قال: كتبت إلى أبي محمّد (ع) رجل أوصى إلى ولده وفيهم كبار قد أدركوا وفيهم صغار، أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيته ويقضوا دينه لمن صحّ على الميّت بشهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقع (ع): «نعم على الأكابر من الولد أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك»(2).


1- وسائل الشيعة 371: 27، كتاب الشهادات، الباب 28، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 375: 19، كتاب الوصايا، الباب 50، الحديث 1.

ص: 370

والأقوى عدم إلحاق الطفل والمجنون والغائب وأشباههم- ممّن له نحو شباهة بالميّت في عدم إمكان الدفاع لهم- به، فتثبت الدعوى عليهم بالبيّنة من دون ضمّ يمين. (24)

والجواب عن المعارضة:

أوّلًا: لا تكون صحيحة الاخرى في مقام البيان ولذا لا يتمسّك بإطلاقه.

ثانياً: ولو سلّمنا كونها في مقام البيان وفرضنا لهما الإطلاق فهو قابل للتقية بالصحيحة الاولى.

الثالثة: مكاتبة سليمان بن حفص المروزي أنّه كتب إلى أبي الحسن (ع) في رجل مات وله ورثة فجاء رجل فادّعي عليه مالًا وأنّ عنده رهناً، فكتب (ع): «إن كان له على الميّت مال ولا بيّنة له عليه فليأخذ ماله بما في يده، وليرد الباقي على ورثته، ومتى أقرّ بما عنده أخذ به وطولب بالبيّنة على دعواه، وأوفى حقّه بعد اليمين، ومتى لم يقم البيّنة والورثة ينكرون فله عليهم يمين علم، يحلفون بالله ما يعلمون أنّ له على ميّتهم حقّاً»(1).

تلاحظ أنّها تصرح بضمّ اليمين إلى البيّنة في الدعوى على الميّت.

الفرع الثالث: في إلحاق الطفل والمجنون والغيب بالميّت

(24) هذا هو الثالث من الفروع التي تصوّرنا في كلام الماتن (ره)- في مسألة 28- بعد إذ أثبتنا أنّ في الدعوى على الميّت يحتاج إلى ضمّ اليمين بالبيّنة


1- وسائل الشيعة 406: 18، كتاب رهن، الباب 20، الحديث 1.

ص: 371

فالآن يجب البحث في الإلحاق الطفل والمجنون والغائب وغيرهم بالميّت في أنّ الدعوى عليهم هل يحتاج إلى ضمّ اليمين أو لا في المسألة قولان:

القول الأوّل: الإلحاق، وبه قال الأكثر كالشيخ في «المبسوط»(1) والعلامة في «الإرشاد» حيث قال: «إلا أن تكون الشهادة على ميّت أو صبيّ أو مجنون أو غائب، فيستحلف على بقاء الحقّ استظهاراً»(2).

القول الثاني: عدم الإلحاق، قال السيّد في «العروة» في الفرع الأوّل «هل يلحق بالميّت من هو مثله في عدم اللسان كالطفل والمجنون والغائب أو لا؟ قولان. عن الأكثر بل المشهور الأوّل، وجماعة على الثاني، بل أسند إلى أكثر متأخّري المتأخّرين»(3). وقال المحقّق في «الشرائع»(4) ففي ضمّ اليمين إلى البيّنة تردّد أشبهه أنّه لا يمين. وبه قال صاحب «الجواهر»(5) و «المسالك»(6) والسيّد في «العروة»(7) والإمام (ره)(8) في المتن أيضاً.

الدليل على قول الأوّل (إلحاق).

1- عموم التعليل: أي التعليل المذكور في رواية عبدالرحمن المتقدّمة «لأنّا


1- راجع: المبسوط 129: 8.
2- إرشاد الأذهان 145: 2.
3- راجع: العروة الوثقى 527: 6.
4- راجع: شرائع الإسلام 874: 4.
5- راجع: جواهر الكلام 201: 40.
6- راجع: مسالك الأفهام 460: 13.
7- راجع: العروة الوثقى 527: 6.
8- راجع: تحرير الوسيلة 423: 2.

ص: 372

لا ندر ي لعلّه قد أوفاه»(1) والعلّة قد تكون صريحة كقوله: «لا تأكل الرمّان، لأنّه حامض»، أو «الخمر حرام لأنّه مسكر» وقد تكون بنحو الإيماء كما في نحن فيه. حيث جاء في الرواية لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه وهذا إيماء إلى أنّه ليس له لسان يتكلّم ويدفع عن نفسه. وبمقتضى عموم التعليل- يعني كلّ من كان كذلك ولا لسان له فيحتاج إلى اليمين- يلحق هؤلاء بالميّت.

2- تنقيح المناط: يعني تنقيح مناط طريق التكليف للمكلّفين، بمعنى أنّه لا خصوصية لاحتمال الوفاء في الميّت فقط، بل يصدق احتمال الوفاء في الصبيّ والمجنون وكلّ من لا لسان له أيضاً.

3- لأنّ الحكم في الأموال مبنيّ على الاحتياط التامّ، وهو يحصل بانضمام اليمين.

قال في «المسالك»: «ومن ثمّ ذهب أكثر من خالفنا إلى ذلك من غير استناد إلى نصّ فيكون أرباب النصّ أولي بالحكم»(2).

الدليل على قول الثاني (عدم الإلحاق).

1- كون الحكم على خلاف القاعدة، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المعلوم وهو خصوص الميّت.

2- ليست العلّة مجرّد عدم اللسان فعلًا، بل عدمه مطلقاً كما في الميّت لأنّ الميّت لا أمد له يرتقب، بخلاف الصبيّ والمجنون والغائب، فإنّ قدرتهم على الدفاع عن نفسهم مرقوب فيه، فلا يلحقون بالميّت.


1- وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.
2- مسالك الأفهام 462: 13.

ص: 373

3- احتمال الوفاء في الصبيّ والمجنون لا تجري لعدم احتماله، مع عدم صحّة الوفاء منهما على فرضه فطرف الدعوى فيهما وليّهما وهو حيّ له لسان.

والجواب عن الأوّل أنّه يقتصر على قدر المتيقّن إذا كان المورد مشكوك فيه، ومع وجود التعليل الدالّ على العموم لا يوجد أيّ شكّ.

والجواب عن الثاني: إنّا لا نسلم عدم اللسان مطلقاً حتّى تفرق بين الميّت وغيره، بل المشابهة ممنوع أصلًا لأنّ الصبيّ وغيره لهم أولياء وهم أحياءذو اللسان للدفاع، فالأقوى ضمّ اليمين إلى البيّنة حتّى في الصبيّ والمجنون وغيرهما، كما عليه الأكثر على ما في «المسالك»(1) وعن الشيخ في «المبسوط»(2) والعلامة في «التحرير»(3) و «إرشاد»(4) والشهيد في «الدروس» و «اللمعة»(5) وقال العلامة في «الإرشاد»(6) إلا أن تكون الشهادة على ميّت أو صبيّ أو مجنون.

أمّا الغائب فهو خارج بالنصّ فإنّه دلّ على القضاء بالبيّنة فيه بلا يمين فعطفه عليها في غالب الكلمات غير صحيح.


1- راجع: مسالك الأفهام 463: 13.
2- راجع: المبسوط 129: 8.
3- راجع: تحرير الأحكام 145: 5.
4- راجع: إرشاد الأذهان 145: 2.
5- راجع: اللمعة الدمشقية: 82.
6- راجع: إرشاد الأذهان 145: 2.

ص: 374

وهل ضمّ اليمين بالبيّنة منحصر بالدين، أو يشمل غيره كالعين والمنفعة والحقّ؟ وجهان، لا يخلو ثانيهما عن قرب. (25)

الفرع الرابع: في عدم اختصاص الحكم بالدين

(25) هذا هو الفرع الرابع من الفروع التي تصوّرنا في كلام الماتن (ره)- في مسألة 28- ويبحث فيه أنّ الحكم هل هو مختصّ بالدين أو يشمل العين أيضاً، بل يشمل كلّ دعوى على الميّت سواء كانت ديناً أو عيناً أو منفعة أو حقّاً، أي ضمّ اليمين إلى البيّنة في الدعوى على الميّت لازم مطلقاً. كما لو ادّعى أنّ الدار الفلاني مثلًا في إجارته أو العين الفلاني كانت رهناً عنده، وله حقّ استيفاء دينه منها أو له حقّ الخيار في البيع الفلاني مثلًا إلى غير ذلك.

قد يقال بالاختصاص من جهة ذكر الدين في صدر صحيحة الصفّار، وكذا في ذيلها على ما قيل في بعض النسخ من قوله: وكتب أو تقبل شهادة الوصيّ على الميّت بدين. وكذا الظاهر من رواية عبدالرحمن بقرينة لفظ «ألحق» وكلمة «عليه» في قوله (ع): وإنّ حقّه لعليه وكلمة «أوفاه» فإنّ في العين يعبّر بالردّ لا بالوفاء.

فلو كانت الدعوى عيناً في يد الميّت بعارية أو غصب دفعت إليه مع البيّنة من دون ضمّ اليمين، وكذا غيرها من المنفعة أو الحقّ وذلك من جهة عموم حجّية البيّنة بلا يمين.

ويرد عليه: أنّ محلّ الاستشهاد في الصحيحة ليس صدر المكاتبة، بل الذيل

ص: 375

أيضاً محل للاستشهاد ووجود لفظ الدين في الصدر لا يدلّ على الاختصاص، خصوصاً إذا لم يكن السؤالات في مكاتبة واحدة. وأمّا الذيل فليس فيما بأيدينا من نسخ «الفقيه» لفظ الدين. وصاحب «الوسائل» نقلهما عن «الفقيه» والشيخ (ره) ولم يتعرّض لوجود هذا اللفظ والاختلاف فيه. وذلك شاهد على عدم وجوده فيما نقل عنه أيضاً، فلا اعتناء بهذا الاحتمال.

فما يستفاد من الصحيحة هو الإطلاق، وعدم ذكر لفظ الدين في السؤال ولا في جواب الإمام (ع).

أمّا رواية عبدالرحمن وإن كان الظاهر منه- بقرينة ما تقدّم- هو الدين، لكن يمكن أن يقال: أنّه من باب المثال كما أنّ لفظ الإيفاء أيضاً من باب المثال كما تقدّم. ويكون التعليل إيماءً إلى احتمال ما يخالف الدعوى عليه، ويوجب نقضها بحيث لو كان حيّاً وذا لسان يدفع عن نفسه في المحكمة، ففي مورد الدين يقول: إنّه أوفاه أو أبرأه المدّعي. وفي مورد العين يقول: إنّه اشتراها منه أو أهداها إليه أو وهبها إليه. وفي مورد الإجارة يقول: انقضى أجلها أو فسخها مثلًا. وفي مورد الحقوق يقول بإسقاطها عنه، فمن أجل تحقّق هذا الاحتمال يلزم اليمين، فيكون الخبر منصوص العلّة ويدلّ على العموم.

والحاصل: أنّ المستفاد من الصحيحة والخبر هو العموم ولزوم ضمّ اليمين بالبيّنة في العين والمنفعة والحقّ كما في الدين.- كما قال الإمام (ره) وجهان، لا يخلو ثانيهما عن قرب.- هذا كلّه فيما لو شهدت البيّنة على كون العين ملكاً للمدّعي وكانت عارية عند الميّت أو كانت غصباًعنده سابقاً. أمّا لو شهدت ببقائها ملكاً له إلى حين الموت فلا إشكال في عدم الاحتياج إلى اليمين لما

ص: 376

تقدّم من أنّ اليمين لدفع الاحتمال واستظهار بقاء الملكية أو الدين إلى حين الموت، فإذا شهدت البيّنة بذلك فلا يبقى وجه للاحتمال المذكور فلا يحتاج إلى اليمين.

المناقشة التي طرحها السيّد (ره)

قد ادّعى السيّد (ره)(1) أنّ في ذهنه إشكالًا حيث قال: «ثمّ إنّ لي في كون دعوى العين في الدعوى على الميّت إشكالًا، وذلك لأنّ للمدّعي أن يوجه الدعوى على من بيده العين، وهو الوارث إذا كانت في يده فيكون الدعوى على الحيّ وهو الوارث دون الميّت، وكون يده مترتّبة على يد الميّت لا يوجب كون الدعوى عليه فهو نظير ما إذا غصب شخص عيناً وباعها من شخص آخر؛ فإنّ للمالك أن يدّعي على من بيده العين وهو المشتري ولا يقال- حينئذٍ- إنّ الدعوى على الغاصب لكون يد المشتري مترتّبة على يده. نعم، يجوز له أن يوجه الدعوى على الغاصب أيضاً، ففي المقام أيضاً كذلك فإن وجّه الدعوى على الميّت احتاج إلى ضمّ اليمين وأمّا إن وجّه على الوارث فلا. وكيف كان فالمسألةمشكلة والأحوط ضمّ اليمين لكن برضى المدّعي». انتهى كلامه (ره).

ويرد عليه: أنّه بعد ما قلنا من أنّ دعوى العين ملحق بدعوى الدين وسيجي ء التعليل المذكور في خبر عبدالرحمن هنا أيضاً، وقلنا إنّ الاحتمال المذكور في قوله (ع): «لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه» من باب المثال فيبدل الاحتمال باحتمال أنّه لا ندري لعلّه قد اشتراها منه أو أهداها إليه، وهذا الاحتمال لا يدفع إلا باليمين الاستظهاري الذي يستظهر منه بقاء العين على ملكيّة المدّعي، فلو طرح


1- العروة الوثقى 529: 6.

ص: 377

نعم، لا إشكال في لحوق العين المضمونة على الميّت إذا تلفت مضمونة عليه. (26)

الدعوى على الميّت وأقام البيّنة وأضاف إليها اليمين يثبت حقّه. أمّا لو طرح الدعوى على الوارث وأقام البيّنة فلا دافع للاحتمال ولا يثبت ملكية المدّعي للعين.

وما نحن فيه لا يكون نظير ما إذا غصب شخص عيناً وباعها من آخر لعدم احتمال ما ينافيه، فله طرح الدعوى على الغاصب أو المشتري، فإذا أقام البيّنة يأخذ العين ممّن في يده أو قيمتها من البائع الغاصب وفيما نحن فيه لو طرح الدعوى بلا يمين لا يثبت مدّعاه.

فيما إذا كان المدّعي على الميّت وارث صاحب الحقّ

(26) يعني لا إشكال في لحوق العين بالدين فيما إذا تلفت مضمونة عليه، وذلك لانتقال قيمتها بالذمّة فيكون مثل الدين، بل يكون من أفراده.

وقد فرّق صاحب «الجواهر»(1) بين التلف من زمن حياة الغاصب وبين التلف بعد موته، من جهة أنّه لو تلف في زمانه فهو داخل تحت الخبرين- ياسين الضرير(2) والصفّار(3)- ولو تلفت بعده فالخبران قاصران عن شموله فقد يقوي عدم اليمين عليه.


1- جواهر الكلام 200: 40.
2- راجع: وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.
3- راجع: وسائل الشيعة 371: 27، كتاب الشهادات، الباب 28، الحديث 1.

ص: 378

فروع

الأوّل: لو كان المدّعي على الميّت وارث صاحب الحقّ، فالظاهر أنّ ثبوت الحقّ محتاج إلى ضمّ اليمين إلى البيّنة، ومع عدم الحلف يسقط الحقّ. (27)

وأجاب عنه السيّد (ره)(1) بقوله: قلت: قصور الخبرين عن الشمول ممنوع فحاله حال التلف قبل الموت.

فحاصل كلام صاحب «الجواهر» (ره) أنّه إذا تلفت العين مضمونة عليه بعد موته وتعلّقت القيمة به بعد الموت، فعند الموت لا يكون على ذمّته شي ء حتّى يشمله الخبر بأنّه لعلّه أوفاه.

ويرد عليه: أنّه بعد لحوق العين بالدين، فلو احتمل أنّه اشتراها عن المدّعي فعند تلفه لا يتعلّق بالميّت دين فلدفع هذا الاحتمال لا بدّ من ضمّ اليمين.

الفرع الخامس: لو كان المدّعى على الميّت وارث صاحب الحقّ

(27) هذا هو الفرع الخامس على ترتيب ما استخرجنا من كلام الماتن (ره) في مسألة 28.

ويبحث فيه في أنّ الحكم هل هو مختصّ بما إذا كان المدّعي على الميّت هو صاحب الحقّ، أو يشمل ما إذا مات صاحب الحقّ وقام وارثه مقامه وادّعى


1- العروة الوثقى 530: 6.

ص: 379

على الميّت ديناً من أبيه، ففي مثل ذلك أيضاً يحتاج إلى ضمّ اليمين أو هو دعوى خارج عن الروايات المتقدّمة، ويكون تحت عمومات حجّية البيّنة من غير يمين؟

قد يقال بالاختصاص- اختصاص اليمين بصاحب الحقّ- وذلك لما يستظهر من خبر عبدالرحمن البصري من قوله: «فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو، لقد مات فلان، وأنّ حقّه لعليه»(1)، فإنّه ظاهر في كون المدّعي نفس صاحب الحقّ ولا يشمل غيره، فدعوى الوارث خارج عن الرواية فلا يحتاج إلى ضمّ اليمين.

ويناقش عليه أنّ صحيحة الصفّار(2) وخبر عبدالرحمن شاملان لما نحن فيه. أمّا الصحيحة فتدلّ على أنّه إذا اقيمت الشهادة على الميّت يحتاج إلى ضمّ اليمين، أمّا المدّعي هل هو كلّ صاحب الحقّ فقط، أو يمكن أن يكون وارثه؟ فهي مطلق من هذه الجهة يشمل كليهما.

وأمّا خبر عبدالرحمن فقوله: وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات فاقيمت عليه البيّنة، فهو أيضاً مطلق من جهة المدّعي وشامل للموردين، وإن كان صاحب الحقّ هو الفرد الظاهر منه. ثمّ قوله (عليهم السلام): «فعلى المدّعي يمين»(3) وإن كان ظاهراً في نفس صاحب الحقّ، لكنّه في مقام بيان كيفية اليمين من المدّعي وذكره من باب أحد أفراد المطلق وذكر الفرد الظاهر منه، فلا دلالة له على الاختصاص.


1- وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.
2- راجع: وسائل الشيعة 371: 27، كتاب الشهادات، الباب 28، الحديث 1.
3- راجع: وسائل الشيعة 371: 27، كتاب الشهادات، الباب 28، الحديث 1.

ص: 380

مضافاً إلى أنّ دعوى الوارث على الميّت أيضاً يصدق عليه الدعوى على الميّت موضوعاً. ولوجود احتمال الوفاء من جانب الميّت فإثبات الحقّ عليه يحتاج إلى اليمين، فالمورد موضوعاً وتعليلًا مشمول للرواية بلا إشكال.

إنّما الكلام في كيفية أداء اليمين من الوارث، فإنّ اليمين لا بدّ أن يكون على نحو البتّ والقطع بقوله: «لقد مات فلان وأنّ حقّه لعليه». وهذا لا يأتي من الوارث لعدم علمه بذلك غالباً، فقد يقال في ذلك وجوه أربعة على ما في كلمات الأصحاب.

الوجه الأوّل: ما في كلام صاحب «الجواهر» (ره) حيث قال: «فقد يقال: إنّ للوارث الحلف على مقتضى الاستصحاب كما يحلف على مقتضى اليد»(1). يعني إذا اقيمت الشهادة على الميّت بدين للمدّعي فيثبت الدين عليه في زمان، ثمّ إذا شكّ في أنّه هل أوفاه قبل موته أم لا فيستصحب بقاء الدين عليه إلى حين الموت.

والاستصحاب حجّة شرعية، فوارث صاحب الحقّ يحلف بتّاً ببقاء الدين على عهدة الميّت، وإلى حين موته باستناد الاستصحاب.

ويرد عليه: أنّ المستفاد من الخبر هو اليمين عن علم وهذا يمين مع الشكّ فإنّ الاستصحاب وإن كان حجّة شرعاً لكنّه حجّة للشاكّ، فلا بدّ له أن يعمل معاملة من كان على يقين، لا من يعمل حسب الوظيفة على يقينه السابق، فهذا اليمين غير ما يقتضيه الخبر فلا وجه له.

الوجه الثاني: أنّه يحلف على عدم علمه بوفاء الدين من الميّت وبراءة ذمّته،


1- جواهر الكلام 197: 40.

ص: 381

فينضمّ اليمين إلى البيّنة فيثبت الحقّ على ذمّة الميّت.

ويرد عليه: أنّ هذا اليمين غير ما أفاده النصّ فإنّ البيّنة تشهد على أصل اشتغال الذمّة فيحتاج إلى ضمّ يمين على بقاء الحقّ عليه إلى حين الموت حتّى يثبت الدين على ذمّة الميّت. واليمين على نفي العلم لا ربط له بذلك، فإنّه لو ادّعى أحد على وارث صاحب الحقّ أنّه عالم ببقاء الدين وبراءة ذمّة الميّت فيحلف على عدم علمه بذلك. أمّا بالنسبة إلى بقاء الدين المحتاج إلى اليمين فلا فائدة فيه، بل هو لغو وبلا أثر.

الوجه الثالث: أنّ المورد وإن كان من مصاديق الدعوى على الميّت ومشمولًا لأدلّتها موضوعاً وتعليلًا، لكنّه لما لم يتمكّن الوارث من الحلف على سبيل البتّ يسقط عنه اليمين ويثبت حقّه بلا يمين. وذلك لأنّ الأحكام محمولة بالإمكان، ومشروطة بالقدرة فقوله: «فعلى المدّعي اليمين بالله ...» يعني إذا قدر عليه وتمكّن من اليمين على نحو الجزم، فإذا لم يتمكّن منه لعدم علمه ببقاء الدين على ذمّة الميّت فيسقط عنه اليمين ويثبت الحقّ بأدلّة حجّية البيّنة.

وأجاب عنه المحقّق النراقي (ره) في «المستند» بأنّ الأحكام التكليفية مشروطة بالقدرة ومتعلّقة بالإمكان، فإذا لم يقدر المكلّف عليه فيسقط التكليف. أمّا الأحكام الوضعية فليس كذلك، فإذا لم يتحقّق السبب مثلًا فلا يتحقّق المسبّب لا أن يسقط السبب.

والحكم هنا من الأحكام الوضعية فقوله: «فعلى المدّعي اليمين بالله» يعني يكون اليمين سبباً لإثبات الحقّ على ذمّة الميّت فإذا لم يتمكّن من الحلف فلا

ص: 382

يأتي السبب، فينفي المسبّب فلا يثبت حقّه لا أن يسقط السبب وهو الحلف ويثبت الحقّ بلا يمين.

ثمّ أورد لذلك تمثيلًا وقال: فإنّه إذا قال الشارع: كلّ من نجس ثوبه يجب عليه غسله، يحكم بخروج من لا يتمكّن من غسله لعدم الماء؛ عن تحت الموضع، وليس الحكم له لكونه تكليفاً، بخلاف ما لو قال: كلّ من نجس ثوبه فتطهيره إنّما هو بالغسل، فإذا لم يغسل لم يطهر، فإذا لم يمكن الغسل نقول بعدم تحقّق الطهارة لا أنّ عدم الإمكان يصير سبباً لخروج غير المتمكّن عن تحت العموم وتطهر ثوبه بعدم إمكان الغسل، انتهى كلامه (ره)(1).

الوجه الرابع: ما ذهب إليه السيّد (ره) وهو قوله: «فالأقوى ما ذكرناه من أنّ حاله حال مورثه، فكما أنّه لو لم يجزم ببقاء الحقّ وعدم الوفاء، لا يجوز له أن يحلف ولا يثبت حقّه، فكذا لا يجوز له وحينئذٍ لا يثبت الحقّ لعدم تمام الحجّة»(2).

وهذا هو الحقّ، وهو المستفاد من خبر عبدالرحمن البصري المتقدّم فإنّ قوله: «فعلى المدّعي اليمين بالله ...» يراد به أنّه لا بدّ أن يحلف على البتّ واليقين ببقاء الحقّ على ذمّة الميّت إلى حين موته. ثمّ قال: «وإن لم يحلف فلا حقّ له»، يراد به أنّه لم يحلف، سواء كان لعدم الجزم بالبقاء أو لأمر آخر فلا حقّ له، فنفس صاحب الحقّ حاله ذلك.

فوارثه أيضاً كذلك فلو علم ببقاء الدين وعدم الإبراء يحلف عن بتّ ويثبت


1- مستند الشيعة 263: 17.
2- العروة الوثقى 531: 6.

ص: 383

وإن كان الوارث متعدّداً لا بدّ من حلف كلّ واحد منهم على مقدار حقّه، ولو حلف بعض ونكل بعض ثبت حقّ الحالف وسقط حقّ الناكل. (28)

الحقّ، ولو لم يعلم فلا يمكن له الحلف عن بتّ فلا يثبت الحقّ. هذا نظير ما إذا لم يتمكّن من إقامة الشهادة.

القول بعدم كفاية يمين واحدة للورّاث في الدعوى على الميّت

(28) هكذا قال السيّد (ره) أيضاً حيث قال: «ثمّ إذا كان الوارث متعدّداً لا بدّ من حلف منهم على بقاء مقدار حقّه من الإرث، ولا يكفي حلف بعض منهم عن الجميع»(1).

والوجه فيه أنّ قوله في الخبر: «فعلى المدّعي اليمين بالله» يستظهر منه أنّ وظيفة المدّعي ذلك، فإذا كان المدّعي متعدّداً فلكلّ واحد منهم يلزم الحلف.

وهذا أيضاً نظير إثبات الحقّ مع الشاهد واليمين مع تعدّد المدّعي، فإنّهم قائلون أنّ لكلّ مدّع يمين ولو لم يحلف لا يثبت حقّه، فهنا أيضاً كذلك.

واحتمل صاحب «الجواهر» (ره) كفاية يمين واحدة من أحدهم، وقال: «لأنّ مقتضى إطلاق النصّ اعتبار يمين واحدة في تمامية حجّية البيّنة التي قد عرفت ثبوت الموضوع بها لسائر الشركاء وإن أقامها أحدهم، فتأمّل فإنّه دقيق نافع»(2).


1- العروة الوثقى 531: 6.
2- جواهر الكلام 197: 40.

ص: 384

ثمّ ناقش في ذلك من جهة كون المورد نظير إقامة شاهد واحد مع اليمين، فلا يكتفي بها لغير ذي الحقّ.

المختار في كفاية يمين واحدة من أحد الوارث

ولكنّ الحقّ ما قاله من كفاية يمين واحدة فيما نحن فيه. وذلك لأنّ المراد من اليمين هنا هي يمين الاستظهاري، يعني أنّ المدّعى بعد شهادة البيّنة بأصل الاشتغال، يحتاج إلى استظهار بقائه إلى حين موت المدّعى عليه باليمين، فإذا انضمّ اليمين إلى البيّنة فنقول فقد كملت الشهادة فيثبت الحقّ في ذمّة الميّت بناء على كون اليمين شرطاً لتكميل الشهادة أو نقول تمّ الجزآن من السبب المثبت، بناءً على كونها جزءاً مثبتاً للحجّة، فيثبت الحقّ بذلك ولا يحتاج إلى يمين آخر من الوارث الآخر. ولا يكون المورد نظير إقامة شاهد واحد مع اليمين عند تعدّد المدّعين فإنّه هنا يلزم على كلّ مدّع يمين حتّى ينضمّ إلى الشاهد لإثبات حقّه، ولا يكفي يمين واحد منهم لآخر بخلاف ما نحن فيه، فإنّا لا نكون بصدد إثبات حقّ كلّ واحد من الورّاث مستقلًا، بل نحتاج إلى استظهار بقاء الدين في ذمّة المدّعى عليه إلى حين الموت، ويكفي يمين واحد من أحد الورّاث لذلك.

ص: 385

الثاني: لو شهدت البيّنة بإقراره قبل موته بمدّة لا يمكن فيها الاستيفاء عادة، فهل يجب ضمّ اليمين أو لا؟ وجهان أوجههما وجوبه، وكذا كلّ مورد يعلم أنّه على فرض ثبوت الدين سابقاً لم يحصل الوفاء من الميّت. (29)

(29) قد تقدّم هذا الفرع منّا في بيان الفرع الثاني ممّا قلنا، وقد تقدّم: أنّ في المسألة قولان، والإمام (ره) تبع المحقّق النراقي في «المستند» وذكر أنّ الأوجه وجوب الضمّ. ونحن رجّحنا القول بعدم وجوب الضمّ. وقلنا إنّ خبر عبدالرحمن البصري من قبيل المنصوص العلّة والعلّة كما تعمّ تارة، فكذلك قد يقيّد ويخصّص الموضوع، فإنّ قوله (ع): «لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه» يقتضي التعدّي من احتمال الوفاء لكلّ احتمال يوجب سقوط الدين عن عهدة الميّت بحيث لو كان حيّاً يدافع عن نفسه ويستدلّ به؛ مثل الإبراء أو الاحتساب من باب الحقوق الواجبة وغيرها. كذلك يوجب تقييد الميّت بالذي يحتمل منه الوفاء أو غيره، فإذا لم يحتمل الوفاء أو إسقاط الحقّ عنه أصلًا فهو خارج عن حكم وجوب ضمّ اليمين إلى البيّنة، فإذا علمنا من خارج عدم الوفاء، أو قامت البيّنة على ذلك أو شهدت البيّنة بإقراره قبل موته بمدّة لا يمكن فيها الاستيفاء أو الإبراء عادة، فلا يجب ضمّ اليمين فيه.

ص: 386

الثالث: لو تعدّدت ورثة الميّت، فادّعى شخص عليه و أقام البيّنة، تكفي يمين واحدة، بخلاف تعدّد ورثة المدّعي كما مرّ. (30)

الرابع: اليمين للاستظهار لا بدّ وأن تكون عند الحاكم، فإذا قامت البيّنة عنده وأحلفه ثبت حقّه، ولا أثر لحلفه بنفسه أو عند الوارث. (31)

(30) قد تقدّم من الماتن (ره) في الفرع الأوّل ممّا قاله عدم كفاية يمين واحدة فيما إذا مات صاحب الحقّ و كانت الورثة متعدّدة، بل لا بدّ لكلّ واحد من الورثة اليمين، لإثبات حقّه وقلنا هنا: أنّ الحقّ كفاية يمين واحدة من أحدهم، ولا يحتاج إلى تعدّد اليمين. أمّا إذا كانت ورثة المدّعى عليه متعدّدة فلا احتمال فيه لتعدّد اليمين، فإنّ اليمين ليست على عهدة المدّعى عليه حتّى يحتمل التعدّد فيما إذا كانت ورثته متعدّدة، فلعلّه لا وجه لذكرها.

في لزوم كون اليمين للاستظهار عند الحاكم

(31) لا إشكال في أنّ اليمين للاستظهار لا بدّ وأن يكون بتحليف من الحاكم، كما أنّه لا بدّ وأن تكون إقامة البيّنة عنده أيضاً، فإنّهما من «الوسائل» وأدوات القضاء للحاكم، كما قال النبيّ (ص): «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان» فلو حلف المدّعي بنفسه أو عند الوارث لا اعتناء بيمينه. ويؤيّده التعبير في الرواية بمعيّة اليمين بالبيّنة بقوله (ع): «فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة»(1).


1- وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

ص: 387

الخامس: اليمين للاستظهار غير قابلة للإسقاط، فلو أسقطها وارث الميّت لم تسقط، ولم يثبت حقّ المدّعي بالبيّنة بلا ضمّ الحلف. (32)

أنّ اليمين الاستظهاري غير قابلة للإسقاط

(32) لا إشكال في أنّ اليمين الاستظهاري حقّ ثابت شرعاً للمدّعي، وشرط متمّم للحجّة وهي البيّنة أو جزء لها لإثبات مدّعاه وحقّه، ولا يكون مرتبطاً بورثة الميّت فليس لهم إسقاطه، ولو أسقطوا لم يسقط ولا يثبت حقّ المدّعي بدون ضمّها إلى البيّنة. نعم، للمدّعي أن يصالح مع وارث الميّت بإسقاط بعض حقّه وأخذ البقية بدون أن يحلف مع رضى الوارث.

ص: 388

ص: 389

القول: في الشاهد واليمين

اشارة

مسألة 1: لا إشكال في جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد و يمين المدّعي، كما لا إشكال في عدم الحكم والقضاء بهما في حقوق الله تعالي، كثبوت الهلال وحدود الله. وهل يجوز القضاء بهما في حقوق الناس كلّها حتّى مثل النسب والولاية والوكالة، أو يجوز في الأموال وما يقصد به الأموال، كالغصب والقرض والوديعة، وكذا البيع والصلح والإجارة ونحوها؟ وجوه، أشبهها الاختصاص بالديون، (1)

جواز القضاء بالشاهد واليمين في الجملة

اشارة

(1) لا إشكال ولا خلاف عند علمائنا في أنّه يجوز القضاء باستناد شهادة عدل واحد ويمين المدّعي في الجملة، ووافقنا في ذلك أكثر علماء العامّة خلافاً لأبي حنيفة(1) وبعض من تبعه.


1- الشرح الكبير 8: 9.

ص: 390

والدليل على ذلك، الأخبار المستفيضة التي يحكى في جملة منها قضاء رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) على ما رواه العامّة والخاصّة في كتبهم الروائية.

منها: ما عن العبّاس بن هلال، عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: «إنّ جعفر بن محمّد قال له أبو حنيفة: كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد؟ فقال جعفر (ع): قضى به رسول الله (ص) وقضى به عليّ (ع) عندكم»(1).

ومنها: صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر (ع) فسألاه عن شاهد ويمين، فقال: «قضى به رسول الله (ص) وقضى به عليّ (ع) عندكم بالكوفة»(2) المراد عند قضية شريح وهذه الرواية طويلة أوردها في «الوسائل».

وقال صاحب «الجواهر» (ره)- بعد نقل الرواية:- «وكان اقتصاره (ع) على خطائه ثلاثاً في هذه القضيّة على فهم شريح القاصر، والا فهو مخطئ من وجوه آخر أيضاً قد أشار (ع) إلى بعضها، وبذلك ظهر لك حال قاضيهم وحال الفقيهين لهم- الحكم وسلمة- وحال إمامهم الأعظم أبي حنيفة وسوء أدبه»(3).

ومنها: رواية منصور بن حازم، عن أبي عبدالله (ع) قال: «كان رسول الله يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ»(4).


1- وسائل الشيعة 268: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 13.
2- وسائل الشيعة 265: 27- 266، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 6؛ تهذيب الأحكام 273: 6- 274.
3- جواهر الكلام 270: 40.
4- وسائل الشيعة 264: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 2.

ص: 391

ومنها: رواية أبي مريم، عن أبي جعفر (ع) قال: «أجاز رسول الله (ص) شهادة شاهد، مع يمين طالب الحقّ إذا حلف أنّه الحقّ»(1).

ومنها: رواية حمّاد بن عيسى قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «حدّثني أبي: أنّ رسول الله (ص) قد قضى بشاهد ويمين»(2).

إلى غير ذلك من الروايات.

منها: رواية محمّد بن علي بن الحسين(3).

ومنها: رواية صهيب بن عبّاد بن صهيب، عن أبيه، عن الصادق(4).

ومنها: رواية صهيب، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (ع) عن جابر بن عبدالله(5)، فراجع.

في تحديد مورد جواز القضاء بالشاهد واليمين

ثمّ إنّه وقع الخلاف بين الأصحاب قديماً وحديثاً في تعيين المورد الذي يجوز فيه القضاء بشاهد واحد ويمين المدّعي، بعد الاتّفاق على عدم جوازه في حقوق الله عزّ وجلّ من الحدود، وكذا رؤية الهلال فإنّ الإجماع والاتّفاق حاصل بعدم جواز القضاء بشاهد ويمين فيهما.

الأقوال في المسألة:


1- وسائل الشيعة 267: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 9.
2- وسائل الشيعة 267: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 7.
3- راجع: وسائل الشيعة 269: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 14.
4- راجع: وسائل الشيعة 269: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 15.
5- راجع: وسائل الشيعة 269: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 16.

ص: 392

القول الأوّل: اختصاص الجواز بالدَّين

قد يقال: بأنّ المورد هو الدين خاصّة، فإنّه إذا كان الدعوى ديناً، أي المال الكلّي المتعلّق بالذمّة يجوز فيه القضاء بشاهد ويمين بخلاف غيره، والقائل به هو الشيخ (ره) في «النهاية» والحلبي وابن زهرة(1) وادّعى في الأخير- «الغنية»- الإجماع عليه.

لإثبات القول الأوّل روايات دالّة على الاختصاص بالدين.

منها: محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله (ع) قال: «كان رسول الله (ص) يجيز في الدين شهادة رجل واحد، ويمين صاحب الدين، ولم يجز في الهلال إلا شاهدي عدل»(2).

ومنها: رواية حمّاد بن عثمان قال: سمعت أبو عبدالله (ع) يقول: «كان عليّ (ع) يجيز في الدين شهادة رجل ويمين المدّعي»(3).

وكذا رواية حمّاد بن عثمان قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «كان علي (ع) يجيز في الدين شهادة رجل ويمين المدّعي»(4). والظاهر أنّهما واحدة.

ومنها: رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ، وله شاهد واحد؟ قال: فقال: «كان رسول الله (ص) يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحقّ، وذلك في الدين»(5).


1- غنية النزوع: 439.
2- وسائل الشيعة 264: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 265: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 3.
4- وسائل الشيعة 268: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 11.
5- وسائل الشيعة 265: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 5.

ص: 393

ومنها: رواية قاسم بن سليمان قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «قضى رسول الله (ص) بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده»(1).

ومنها: ذيل رواية داود بن الحصين، عن أبي عبدالله (ع) قال: سألته عن شهادة النساء في النكاح بلا رجل معهنّ إذا كانت المرأة منكرة، فقال: «لا بأس به»، ثمّ قال: «ما يقول في ذلك فقهاؤكم؟» قلت: يقولون: لا تجوز إلا شهادة رجلين عدلين، فقال: «كذبوا- لعنهم الله- هونوا واستخفوا بعزائم الله وفرائضه، وشدّدوا وعظّموا ما هون الله، إن الله أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين، فأجازوا الطلاق بلا شاهد واحد، والنكاح لم يجئ عن الله في تحريمه، فسنّ رسول الله (ص) في ذلك الشاهدين تأديباً ونظراً لئلا ينكر الولد والميراث، وقد ثبتت عقدة النكاح (واستحلّ الفروج) ولا أن يشهد، وكان أمير المؤمنين (ع) يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار، ولا يجيز في الطلاق إلا شاهدين عدلين»، فقلت: فأنّى ذكر الله عزّ وجلّ قوله: فَرَجُلٌ وَأمْرأتَان(2) فقال: «ذلك في الدين، إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان ورجل واحد ويمين المدّعي إذا لم يكن امرأتان، قضى بذلك رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) بعده عندكم»(3).

إن قلت: إنّه هذه الروايات تدلّ على جواز القضاء بالشاهد واليمين في الدين، ولا ينافي جوازه في غير الدين أيضاً.


1- وسائل الشيعة 268: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 10.
2- البقرة( 2): 282.
3- وسائل الشيعة 360: 27، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 35.

ص: 394

قلت: إنّ ذلك في الخبر الأوّل والثاني والأخير كذلك، ولكن رواية أبي بصير دلّت على الاختصاص بالدين وهو قوله: «وذلك في الدين» وكذا رواية قاسم بن سليمان فإنّه قال: «في الدين وحده»، فالمستفاد منها أنّ جواز القضاء بهما مختصّ بالدين.

القول الثاني: الجواز مطلقاً

والمشهور على أنّ مورد القضاء بهما هو الأموال، وضابطه المال وما يقصد منه المال.

كالدين والقرض والغصب والاحتطاب والالتقاط ونحوها وما يقصد منه المال كعقود المعاوضات من البيع والصلح والإجارة والقرض والهبة والوصيّة بالمال، والجنايات الموجبة للدية، وغيرها، بل نقل السيّد (ره) في «ملحقات العروة»(1) عن الشيخ(2) والحلّي(3) الإجماع عليه وعليه الشيخ (ره) في «المبسوط»(4).

وقال به العلامة في «القواعد»(5) وكذا المحقّق في «الشرائع»(6) وغيرهما.

أمّا الاستدلال لقول المشهور:

1- قال في «المسالك» بعد قول المحقّق (ره): «ويثبت الحكم بذلك في الأموال ... وفي المعاوضات ... وضابطه ما كان مالًا أو المقصود منه المال ... وإنّما


1- راجع: العروة الوثقى 541: 6.
2- راجع: الخلاف 274: 6، مسألة 23.
3- راجع: السرائر 116: 2.
4- راجع: المبسوط 179: 8.
5- قواعد الأحكام 449: 3.
6- شرائع الإسلام 881: 4.

ص: 395

اختصّ القضاء بالشاهد واليمين بالأموال وحقوقها لما روي عن ابن عبّاس- رضي الله عنه- أنّ النبيّ (ص) قال: «استشرت جبرئيل (ع) في القضاء باليمين مع الشاهد، فأشار على بذلك في الأموال لا تعدو ذلك»»(1).

وأجاب عنه في «الجواهر»(2) بأنّ هذه الرواية ليست من طرقنا ولا معروف النقل في كتب فروعنا، بل لعلّ مضمونه لا يوافق اصول الشيعة، ويمكن أن يكون من محرّفات العامّة، لأنّك قد سمعت ما نزل به جبرئيل على النبيّ.

أقول: مراده- ممّا نزل به جبرئيل- ما رواه عبّاد بن صهيب، عن جعفر بن محمد (ع)، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله قال: «جاء جبرئيل إلى النبيّ (ص) فأمره أن يأخذ باليمين مع الشاهد»(3).

2- وكذا استدلّوا برواية محمّد بن مسلم في الصحيح، عن أبي عبدالله قال: «كان رسول الله (ص) يجيز في الدين شهادة رجل واحد، ويمين صاحب الدين، ولم يجز في الهلال إلا شاهدي عدل»(4).

بتقريب أنّ المراد من الدين بقرينة المقابلة مع رؤية الهلال هو مطلق المال، فإنّ الدين مقابل للعين في كلمات الفقهاء والاصطلاح، فيستفاد من قرينة المقابلة بالهلال إرادة مطلق الأموال منه.

3- وكذا استدلّوا بما تقدّم ممّا دلّ على اختصاص الجواز بالدين، بأنّ المراد منه المال، وإذا قلنا بالجواز في المال نقول فيما يقصد منه المال أيضاً.


1- راجع: مسالك الأفهام 510: 13.
2- راجع: جواهر الكلام 275: 40.
3- وسائل الشيعة 269: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 16.
4- وسائل الشيعة 264: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.

ص: 396

قال في «الجواهر»: «ولعلّهم فهموا من نصوص الدين ذلك»؛(1) يعني ما قالوا إنّ ضابطه المال أو المقصود منه المال. وعن «مجمع البحرين»(2) يستعمل الدين بمعنى مطلق المال قوله اقض عنّي الدين، يراد حقوق الله وحقوق العباد.

ويشهد ذلك قوله تعالى: يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أوْ ضَعِيفاً أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أوْ كَبِيراً إِلَى أجَلِهِ ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأدْنَى ألا تَرْتَابُوا إِلا أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا وَأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلّمُكُمْ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ(3) فقد فسّر الدين بالسلم والقرض.

قال الطبرسي في «المجمع»: «وظاهر الآية يقع على كلّ دين مؤجّل، سلماً كان أو غيره، وعليه المفسّرون والفقهاء»(4). والسلم هو العين، فإذا شمل الدين


1- جواهر الكلام 275: 40.
2- راجع: مجمع البحرين 78: 2.
3- البقرة( 2): 282.
4- مجمع البيان 283: 2.

ص: 397

للعين فيشمل مطلق المال لعدم الخصوصية.

والعلامة (ره) رفع الخلاف بين كلمات الشيخ (ره) باختصاص الحكم بالدين وجوازه في الأموال بذلك أيضاً.

4- وكذا يستدلّ للمشهور من القضاء بهما في الحقوق المالية كلّها بما في الخبر الوارد في قضية درع طلحة من إنكار أمير المؤمنين على شريح في قوله- بعد ما شهد الحسن بأنّها درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة- «هذا شاهد واحد ولا أقضى بشهادة شاهد حتّى يكون معه آخر» فإنّه (ع) خطّأه وقال: «قد قضى رسول الله بشهادة واحد ويمين» فإنّه يدلّ على كفايتها في مثل الدرع وهي عين وليست من الدين، فيظهر منه عدم الاختصاص بالدين. ويتمّ في غيره من حقوق المالية بعدم القول بالفصل.

وقد حملوا ما دلّ على القول الثالث ممّا دلّ على مطلق حقوق الناس على الحقوق المالية.

ولكنّ الاستدلالات غير تامّة، وفيها المناقشات الواضحة.

أمّا خبر الذي تمسّك به في «المسالك»، فهو عامّي كما نقلناه عن «الجواهر» ولا ينجبر بعمل المشهور.

أمّا الاستدلال بصحيحة محمّد بن مسلم من أنّ المراد من الدين فيها مطلق المال بقرينة المقابلة بينه ورؤية الهلال.

ففيه: أنّ لمحمّد بن مسلم رواية اخرى استدلّوا بها للقول الثالث وفيها المقابلة بين مطلق حقوق الناس وبين حقوق الله ورؤية الهلال، فيكون الأنسب أن يراد من الدين في هذه الرواية مطلق حقوق الناس لا مطلق المال.

ص: 398

وأمّا حمل الدين على مطلق المال في الروايات الدالّة على اختصاص المورد بالدين، فهو خلاف ظاهر هذه الروايات؛ مثلًا في رواية أبي بصير- كان السؤال عن الحقّ- قال: سألت أبا عبدالله عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ، وله شاهد واحد؟ قال: فقال: «كان رسول الله (ص) يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحقّ وذلك في الدين»(1) ثمّ الإمام حصره في الدين فقط، فلا يمكن أن يقال: إنّ المراد من الدين مطلق الحقّ.

ولذا قال في «المستند»: «أمّا حمل الدين على مطلق المال، فهو ممّا تأباه اللغة والعرف وكلام الأصحاب طرّاً، حيث يقابلون الدين مع العين ومع المال»(2).

وكذا قال السيّد (ره): «ودعوى أنّ المراد بالدين في هذه الأخبار مطلق الحقوق المالية كما ترى»(3).

وأمّا الاستدلال بما في خبر درع طلحة:

ففيه أنّ إنكاره (ع) كان على إطلاق قول شريح: «لا أقضى بشاهد واحد حتّى يكون معه آخر»، لا على عدم حكمه في خصوص المورد، مع أنّه ممّا لا يقبل ضمّ اليمين، لأنّها على مال الغير. وكان عليّ (ع) معتقداً بعدم احتياج المورد إلى الشاهد أصلًا كما في اعتراضه على شريح بأنّ رسول الله قال يأخذ الغلول حيث ما وجد بغير بيّنة، مضافاً إلى اعتراضه الآخر عليه أنّ إمام المسلمين يؤمن من امورهم على ما هو أعظم من هذا.


1- وسائل الشيعة 265: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 5.
2- مستند الشيعة 271: 17.
3- العروة الوثقى 543: 6.

ص: 399

والحاصل: أنّ القول الثاني مع أنّه المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع لم نجد له دليلًا معتبراً من الروايات أو غيرها.

قال السيّد (ره) وأمّا القول الثاني فكذلك لا دليل عليه ولا إشارة في شي ء من الأخبار إليه ولا إلى الضابط المذكور(1).

وقال في «المستند»: «وأمّا التخصيص الوسط فلا أرى في الأدلّة منه عيناً ولا أثراً»(2).

مع أنّ كلامهم في تعيين ما يدخل في الضابط وما لا يدخل، في غاية التشويش والاختلاف، بل يختلف كلام شخص واحد في كتابين، بل في كتاب واحد؛ كما يظهر بالمراجعة، بل يمكن أن يقال في أغلب حقوق الناس ممّا أخرجوه من الضابط أنّ المقصود منه المال؛ مثل الوكالة والوصاية والنسب مثلًا فإنّ دعوى الوكالة كثيراً ما يكون بقصد أخذ حقّ الوكالة، ومن الوصاية بقصد أخذ حقّ الوصاية أو النفقة، وفي النسب بقصد أخذ الميراث.

القول الثالث: الجواز في حقوق الناس فقط

إنّ المورد هو حقوق الناس مطلقاً. وأمّا حقوق الله ورؤية الهلال فلا، فيشمل إذا كان الدعوى هو الدين أو العين أو مطلق الأموال، وما يقصد به المال والحقوق المحضة مثل حقّ الخيار وحقّ الحضانة، وكذا الطلاق والخلع والوصاية إليه وعيوب النساء وأمثال ذلك.


1- راجع: العروة الوثقى 543: 6.
2- مستند الشيعة 270: 17.

ص: 400

والقائل به المحقّق السبزواري في «الكفاية»(1) على ترديد منه ومال اليه صاحب «الجواهر» (ره)(2).

أمّا الاستدلال للقول الثالث وهو أنّ المورد للقضاء بشاهد ويمين هو مطلق حقوق الناس.

1- فقد يتمسّك بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير، مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق الله عزّ وجلّ أو رؤية الهلال فلا»(3).

بتقريب أنّ كلمة «الحقوق» جمع مضاف معرف باللام ويدلّ على العموم.

2- وكذلك يتمسّك له بصحيحة اخرى له عن أبي عبدالله قال: «كان رسول الله (ص) يجيز في الدين شهادة رجل واحد، ويمين صاحب الدين، ولم يجز في الهلال إلا شاهدي عدل»(4).

بتقريب أنّ المراد من الدين فيها بقرينة المقابلة هو مطلق حقوق الناس ويشهد له الصحيحة الاخرى له.

وهاتين الروايتين كما تدلان على القول الثالث، تدلان على ما اتّفق عليه الأصحاب من عدم جواز القضاء بالشاهد واليمين في حدود الله وفي رؤية الهلال كما هو واضح.


1- كفاية الأحكام 710: 2.
2- جواهر الكلام 272: 40.
3- وسائل الشيعة 268: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 12.
4- وسائل الشيعة 264: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.

ص: 401

3- وقد يتمسّك لهذا القول أيضاً بإطلاق ما تقدّم من الروايات الدالّة على أصل جواز القضاء بشاهد ويمين من نقل قضاء رسول الله (ص) بهما وقضاء عليّ (ع) بهما.

ويرد عليه: أنّ التمسّك بالإطلاق فيما إذا احرز أنّ المولى كان في مقام البيان من هذه الجهة، وهذه الروايات في صدد بيان أصل جواز القضاء بهما في قبال فتوى أبي حنيفة ومن تبعه فلا يكون من حيث موردها في مقام البيان بلا إشكال.

فيبقى في المقام طائفتين من الأخبار:

1- الروايات الدالّة على الاختصاص بالدين.

2- والروايات الدالّة على مطلق حقوق الناس.

والجمع بينهما بالإطلاق والتقييد ظاهر.

كما أنّ الشيخ (ره) في «الاستبصار» جمع بين ما دلّ على اختصاص الجواز بالدين وما يحكي قضاء رسول الله وقضاء على بنحو المطلق بالإطلاق والتقييد. وكذا بينهما وبين ما دلّ على مطلق حقوق الناس.

قال في «الاستبصار»: «فلا تنافي بين هذه الأخبار والأخبار الأوّلة لأنّ هذه الأخبار وإن كانت عامّة في أنّ رسول الله (ص) قضى بذلك ولم يبيّن فيما فيه قضى، فينبغي أن نحملها على الأخبار المتقدّمة المفصّلة بأن نقول: إنّه قضى بذلك في الدين على ما تضمّنته الروايات الأوّلة والحكم بالمفصّل أولى منه بالمجمل»(1).

ثمّ ذكر رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة الدالّة على مطلق حقوق الناس وقال:


1- الاستبصار 33: 3.

ص: 402

«فهذا الخبر أيضاً نحمله على أنّه يحكم بذلك في حقوق الناس الذي هو الدين دون ما عداه من الحقوق لما بيّن في الأخبار المتقدّمة»(1).

واستشكل على هذا الجمع صاحب «الجواهر» بقوله: «نعم، قد يقال: إنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما يصحّ بعد فرض التقييد وعدم قوّة المطلق من حيث كونه مطلقاً وهما معاً ممنوعان، لإمكان عدم إرادة التقييد في النصوص السابقه، ضرورة أنّ القضاء بها في الدين أو جوازه لا يقتضي عدم القضاء ولا عدم جوازه بغيره»(2).

ولكن يرد عليه: أنّ في بعض روايات الاختصاص بالدين، تصريح بالاختصاص؛ بقوله (ع): «وذلك في الدين» أو «ذلك في الدين وحده»، وهذا ينافي الإطلاق بلا شبهة.

مضافاً إلى عدم القائل الصريح للقول الثالث بحيث أفتى به في كتابه وكلماته، كما صرّح بذلك السيّد (ره)(3) حيث قال: «فلم ينقل قائل صريح به. نعم، في الكفاية الميل إليه على ترديد» وكذا صاحب «الجواهر»(4).

فتبيّن أنّ الأقوى هو القول الأوّل- أي الاختصاص بالدين فقط- كما عليه الماتن (ره) والله العالم.


1- الاستبصار 34: 3.
2- جواهر الكلام 273: 40.
3- العروة الوثقى 541: 6.
4- راجع: جواهر الكلام 274: 40.

ص: 403

ويجوز القضاء في الديون بشهادة امرأتين مع يمين المدّعي. (2)

جواز القضاء بشهادة امرأتين واليمين

(2) سيأتي في كتاب الشهادة جواز شهادة المرأتين منضمّاً إلى الرجل، فيقبل شهادة المرأتين مكان شاهد واحد فإذا قبلت شهادتهما مكان شهادة الرجل الواحد فهل تقبل شهادتهما مع اليمين مثل شهادة الرجل مع اليمين أم لا؟

قال في «المسالك» ربما قيل: «لا يثبت بالمرأتين واليمين، لأنّ المنضمّ إلى اليمين إذا شهدت المرأتان أضعف شطري الحجّة، فلا يقنع بانضمام الضعيف إلى الضعيف، كما لا يقنع بانضمام شهادة امرأتين»(1).

وفيه: أنّ هذا اجتهاد في قبال النصّ وهنا روايات دالّة على جواز القضاء بالمرأتين مع اليمين.

منها: خبر منصور بن حازم، أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر (ع) قال: «إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان ويمينه، فهو جائز»(2).

ومنها: ما عن منصور بن حازم، قال: حدّثني الثقة عن أبي الحسن (ع)(3) قال: «إذا شهد لصاحب الحقّ امرأتان ويمينه، فهو جائز».

ولا يخفى: أنّ منصور بن حازم قد يروي عن الثقة عن الإمام وقد


1- مسالك الأفهام 511: 13.
2- وسائل الشيعة 271: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 271: 27- 272، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 4.

ص: 404

يروي بالمباشرة، وهنا يمكن أنّه نقله الثقة له عن الإمام مرّة ثمّ سمعها من الإمام نفسه، ثمّ نقلها عن الإمام بلا واسطة.

ومنها: حسنة الحلبي، عن أبي عبدالله (ع): «إنّ رسول الله (ص) أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين، يحلف بالله أن حقّه لحقّ»(1).

وقد عقد صاحب «الوسائل»(2) باباً بعنوان «باب ثبوت دعوى المالية بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة امرأتين ويمين».

ومنع ابن إدريس(3) من قبول شهادة المرأتين مع اليمين في الأموال محتجّاً بانتفاء الإجماع وعدم تواتر الأخبار. وذلك على مبناه من عدم حجّية الأخبار الآحاد.

وفيه: أنّ الرواية إذا كانت معتبرة يصحّ الاستناد إليه، والدليل غير منحصر بالإجماع والأخبار المتواترة كما ذكر في محلّه.

ومورد جواز شهادة المرأتين مع اليمين هو ما تقدّم في شهادة الرجل مع اليمين، فإنّ شهادتها قائمة مقام شهادة الرجل مضافاً إلى التصريح بذلك في حسنة الحلبي، ويحمل عليه كلمة «الحقّ» في خبر المنصور.


1- وسائل الشيعة 271: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 3.
2- راجع: وسائل الشيعة 271: 27- 272، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15.
3- السرائر 116: 2.

ص: 405

مسألة 2: المراد بالدين كلّ حقّ مالي في الذمّة بأيّ سبب كان، فيشمل ما استقرضه، وثمن المبيع، ومال الإجارة، ودية الجنايات، ومهر الزوجة إذا تعلّق بالعهدة، ونفقتها، والضمان بالإتلاف والتلف إلى غير ذلك، فإذا تعلّقت الدعوى بها أو بأسبابها لأجل إثبات الدين واستتباعها ذلك فهي من الدين، وإن تعلّقت بذات الأسباب وكان الغرض نفسها لا تكون من دعوى الدين. (3)

المراد من «الدين»

(3) لما قال في المسألة الاولى باختصاص جواز القضاء بالشاهد واليمين، أو المرأتان واليمين بالدين تعرّض في هذه المسألة بأنّ المراد من الدين ما هو؟

قد يقال: «الدين»، ويراد منه المعنى الخاصّ يقال: دَان فلانٌ يَدِينُ ديناً: استقرض وصار عليه دَيْنٌ فهو دائن(1) وفي «الروضة» دان يدين ديناً: أي أعطاه مالًا إلى أجل واقرضه فيكون الدين مالًا في ذمّة شخص بسبب القرض(2).

وقد يقال: ويراد منه كلّ حقّ مالي في الذمّة بأيّ سبب كان من القرض أو غيره، فيشمل ثمن المبيع ومال الإجارة وغيرها ممّا ذكره في المتن.

فيكون الغرض أنّ المراد من الدين هو المعنى الثاني فدعوى الدين التي يصحّ


1- لسان العرب 168: 13.
2- شرح اللمعة 11: 4.

ص: 406

القضاء بالشاهد واليمين لإثباتها هو ما إذا كان المدّعى به نفس المال الذي في الذمّة بأيّ سبب كان، أو كان المدّعى به السبب ولكن كان المقصود منه إثبات المال كما إذا ادّعي البيع مثلًا، ولكن كان مقصوده إثبات ثمن المبيع على عهدته.

أمّا لو تعلّق الدعوى بالسبب وكان المقصود إثبات نفس السبب، فليس من دعوى الدين؛ مثل ما إذا اختلف الشريكان في بيع الدار وادّعى أحدهما البيع، فلا يصحّ فيه القضاء بالشاهد واليمين فإنّه لا يثبت بهما البيع، فإنّه ليس مالًا ولا يقصد هنا منها المال وهذا هو الفارق بين هذا القول وقول المشهور القائلين بجواز القضاء بهما في كلّ مورد يكون مالًا أو ما يقصد منه المال، فإنّه يشمل مثال المذكور لأنّ البيع ممّا يقصد منه المال نوعاً ولا يخفى أنّه إذا تعلّقت الدعوى بالسبب بقصد ثبوت المال، فيثبت بالشاهد واليمين المال المقصود به، لا نفس العنوان حتّى يترتّب عليه آثاره وأحكامه مثلًا إذا ادّعى على أحد السرقة وكان مقصوده أخذ المال المسروق منه الذي في ذمّته فيثبت بهما المال لا السرقة حتّى يترتّب عليه قطع اليد. أو إذا ادّعى على أحد بيع الحيوان منه يقصد أخذ الثمن فيثبت بهما المال دون بيع الحيوان، حتّى يترتّب عليه جواز الفسخ بخيار الحيوان.

ص: 407

مسألة 3: الأحوط تقديم الشاهد وإثبات عدالته ثمّ اليمين، فإن قدّم اليمين ثمّ أقام الشاهد فالأحوط عدم إثباته؛ وإن كان عدم اشتراط التقديم لا يخلو من قوّة. (4)

اشتراط الترتيب في الشاهد واليمين وتقديم الشاهد على اليمين

(4) يبحث في هذه المسألة في أنّ القضاء بالشاهد واليمين هل يشترط فيه الترتيب بأن يقدّم الشاهد على اليمين أو لا؟ فيه وجوه:

الوجه الأوّل: القول بوجوب الترتيب: (البيّنة، ثمّ الحلف) وهو المشهور.

قال الشيخ (ره) في «المبسوط»: «وقال بعضهم: الترتيب ليس شرطاً، بل هو بالخيار، إن شاء حلف قبل شاهده وإن شاء بعده كالشاهدين من شاء شهد قبل صاحبه. والصحيح أنّه على الترتيب يشهد له شاهده ثمّ يحلف»(1).

وقال المحقّق في «الشرائع»(2): «ويشترط شهادة الشاهد أوّلًا، وثبوت عدالته ثمّ اليمين، ولو بدأ باليمين وقعت لاغية، وافتقر إلى إعادتها بعد الإقامة».

وقال صاحب «الجواهر»(3)- بعد بيان كلام المحقّق-: «بلا خلاف أجده فيه»، بل في «كشف اللثام»(4) نسبته إلى قطع الأصحاب.

وقد تمسّك القائلون باشتراط الترتيب بامور غير خالية عن المناقشة.


1- المبسوط 189: 8.
2- شرائع الإسلام 880: 4- 881.
3- جواهر الكلام 270: 40.
4- راجع: كشف اللثام 139: 10.

ص: 408

منها: ما في «المسالك» قال: «لأنّ المدّعي وظيفته البيّنة لا اليمين ... بالأصالة، فإذا أقام شاهداً واحداً صارت البيّنة التي هي وظيفته ناقصة، ومتمّمها اليمين بالنصّ، بخلاف ما لو قدّم اليمين، فإنّه ابتدأ بما ليس من وظيفته»(1).

ومنها: ما نقله صاحب «الجواهر»(2) عن «كشف اللثام»: «إنّه استدلّ له بأنّ جانبه حينئذٍ يقوى، وإنّما يحلف من يقوى جانبه، كما أنّه يحلف إذا نكل المدّعى عليه، لأنّ النكول قويّ جانبه».

أقول: مراده أنّه إذا قدّم الشاهد أوّلًا فيقوى جانب المدّعي ومدّعاه مع شهادة شاهد واحد، ثمّ يأتي باليمين مثل يمين المدّعي بعد نكول المنكر، فإنّ النكول يوجب تقوية المدّعى عليه.

ويرد عليهما أنّ تتميم الشاهد باليمين أو تقوية جانب المدّعي بالشاهد الواحد هو فيما إذا قلنا بأنّ الشاهد الواحد هو الأصل في الحجّة. واليمين شرط أو متممّ لها. ولكنّ الصحيح أنّ اليمين بمنزلة الشاهد الآخر ومكانه وهو في عرض الشاهد وجزء ركين من جزئي الحجّة، وعلى هذا لا يبقى وجه للاستدلالين.

ومنها: الأصل، يعني إذا شككنا في ثبوت الحقّ بما إذا قدّم اليمين على الشاهد بعد الشكّ في إرادته من الإطلاق فالأصل عدم ثبوت الحقّ به.

ومنها: أنّ هذا الحكم مخالف للأصل فيقتصر في ثبوت الحقّ به على موضع اليقين، وهو ما إذا كان الشاهد مقدّماً على اليمين.

ويرد عليها وجود الإطلاق في بعض الروايات كما تقدّم ومع الإطلاق لا


1- مسالك الأفهام 509: 13- 510.
2- جواهر الكلام 271: 40.

ص: 409

يتمسّك بالأصل أو القدر المتيقّن كما هو واضح.

الوجه الثاني: القول بعدم وجوب الترتيب.

قال صاحب «المستند»(1) تأمّل طائفة في ذلك الحكم، كصاحبي «الكفاية»(2) و «المفاتيح»(3). واختار شارح «المفاتيح»(4) عدم اشتراط الترتيب، وهو الأقوى.

الوجه الثالث: القول بالاحتياط.

كما عن الماتن (ره) وقال السيّد (ره)(5): «وكيف كان هو الأحوط- أي وجوب تقديم الشاهد على اليمين- بل لا يترك».

أقول: يستفاد من بعض الأخبار الماضية الإطلاق وإن كان أكثرها خالية عنه من جهة حكاية قضاء رسول الله أو قضاء أمير المؤمنين، وأنّها كانت قضية في واقعة لا يمكن استظهار الإطلاق منها، وذلك مثل صحيحتي محمّد بن مسلم قال في الاولى: «كان رسول الله (ص) يجيز في الدين شهادة رجل واحد، ويمين صاحب الدين»(6).

وقال في الاخرى: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه الخير، مع يمين الخصم»(7).


1- مستند الشعية 276: 17.
2- راجع: كفاية الأحكام 709: 2.
3- راجع: مفاتيح الشرائع 264: 3.
4- راجع: الأنوار اللوامع 117: 14.
5- العروة الوثقى 546: 6.
6- وسائل الشيعة 264: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.
7- وسائل الشيعة 268: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 12.

ص: 410

وكذا رواية داود بن الحصين قال فيها: «ورجل واحد ويمين المدّعي إذا لم يكن امرأتان»(1).

فإنّ المستفاد منها الإطلاق من جهة تقديم الشاهد على اليمين أو بالعكس. نعم، في كثير من الروايات يذكر الشاهد أوّلًا ثمّ اليمين، ولكنّ الترتيب الذكري لا يدلّ على لزوم التقديم واشتراط الترتيب، مضافاً إلى وجود خلافه في بعض الروايات مثل ما في رواية صهيب بن عباد بن صهيب، عن الصادق، عن آبائه: «أنّ رسول الله قضى باليمين مع الشاهد الواحد، وأنّ عليّاً قضى به بالعراق»(2).

وكذا عن جابر قال: «جاء جبرئيل إلى النبيّ فأمره أن يأخذ باليمين مع الشاهد»(3).

إن قلت: إنّ أخذ الإطلاق مشروط بكون المولى في مقام البيان من هذه الجهة. وليست هذه واضحة فإنّها في مقام بيان أصل جواز القضاء بالشاهد واليمين دون التقديم وعدمه.

قلت: إنّ إنكار كون المتكلّم- في هذه الروايات الكثيرة- في مقام البيان واضح الضعف خصوصاً في مثل معتبرة داود بن الحصين(4). مضافاً إلى أنّه لو كان الترتيب شرطاً ولازماً لكان على القائل البيان، وليس في شي ء من الروايات ذلك.

وأمّا وجه الأخذ بالاحتياط الوجوبي ورعاية الترتيب وتقديم الشاهد على


1- وسائل الشيعة 360: 27- 361، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 35.
2- وسائل الشيعة 269: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 15.
3- وسائل الشيعة 269: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 16.
4- راجع: وسائل الشيعة 361: 27، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 35.

ص: 411

مسألة 4: إذا كان المال المدّعى به مشتركاً بين جماعة بسبب واحد كإرث ونحوه، فأقام بعضهم شاهداً على الدعوى وحلف لا يثبت به إلا حصّته، وثبوت سائر الحصص موقوف على حلف صاحب الحقّ، فكلّ من حلف ثبت حقّه مع الشاهد الواحد. (5)

اليمين فهو من جهة الشبهة في وجوه الإطلاق لأنّ كون المتكلّم في مقام البيان شرط فيه وهنا غير معلوم، فإذا لم يحرز الإطلاق فالأصل عدم ثبوت الحقّ به وكذا قال في «الجواهر»(1). لكنّ الإنصاف عدم دليل واضح على ذلك غير أصالة عدم ثبوت الحقّ بدون ذلك بعد الشكّ في إرادة غيره من الإطلاق.

وقال السيّد (ره)(2): «وكيف كان هو الأحوط، بل لا يترك، لأنّ الأصل عدم ثبوت الحقّ بعد عدم الإطلاق».

ولكنّ الأقوى وجود الإطلاق كما تقدّم ومع ذلك يحسن الاحتياط ورعاية الترتيب والله العالم.

هل يجب تعدّد اليمين مع تعدّد المدّعي؟

(5) إذا فرض أنّ لرجل على عهدة آخر مال، ثمّ مات الرجل وانتقل المال إلى ورثته فصار المدّعي متعدّداً فهل يكفي في إثبات الدين شاهد واحد مع يمين واحد، أو يلزم تعدّد اليمين على حسب تعدّد الورثة؟


1- راجع: جواهر الكلام 270: 40.
2- العروة الوثقى 546: 6.

ص: 412

لا إشكال في كفاية الشاهد الواحد للجميع فإنّ الأصل في الشاهد أن يثبت بشهادته أنّ المال للغير، ولا فرق في الغير أن يكون واحداً أو متعدّداً بخلاف اليمين فإنّ متعلّقها مال الحالف وليس للإنسان أن يحلف لإثبات مال غيره.

المعروف بين الأصحاب بلا خلاف ولا إشكال أنّه يلزم على كلّ واحد منهم اليمين لإثبات حقّه «ولا يثبت بحلفه حصّة الباقين كما أنّ ثبوت حقّه بحلفه لا يتوقّف على حلف الباقين، فكلّ من حلف يثبت حقّه مع الشاهد ومن نكل فلا يثبت حقّه لأنّها تنحلّ إلى دعاوي متعدّدة وان كانت هي واحدة بحسب الظاهر. وظاهر المستفاد ممّا تقدّم من الأخبار أنّ «لكلّ مدّع يمين لقوله» و «يمين صاحب الدين» أو «يمين صاحب الحقّ» أو «ويمين المدّعي» إلى غير ذلك من التعابير.

إنّما الكلام في أنّ ما أخذه الحالف من مال المشترك فهل يشترك فيه بقيّة الورثة الناكلين كلّ على حسب سهمهم أم لا؟ فيه وجوه:

الوجه الأوّل: التفصيل بين تصرّف الحالف وعدمه.

لا إشكال في عدم الشركة لغير الحالف فيه إذا تصرّف فيه الحالف قبل أخذه من المدّعى عليه كما إذا باعه من المدّعى عليه أو وهبه أو أبرء ذمّة الغريم عنه لأنّ المفروض ثبوت حصّته في ذمّة المدّعي عليه وجاز له التصرّف فيه مشاعاً، فلو أخذ ثمنه مثلًا فلا يكون غيره شريكاً فيه، والإقرار بالشركة في أصل الحقّ لا ينافيه.

الوجه الثاني: التفصيل بين الدين والعين.

أمّا إذا قبضها من المدّعى عليه فقد يفصل بين ما إذا كان المال المدّعى به عيناً وبين ما إذا كان ديناً. أمّا إذا كان عيناً شاركه فيه بقية الورثة، لاعترافه بكونها

ص: 413

مشتركة ولا يكون الإفراز بيد المدّعى عليه حتّى يختصّ بالحالف، فلا يجوز له التصرّف فيه بغير إذن البقية لبقاء الإشاعة. بخلاف ما إذا كان ديناً فإنّ الحقّ المدّعى به المشترك فيه الجميع هو في ذمّة المدّعى عليه، وتعيين ما في الذمّة كلًا أو جزءاً في مال معيّن خارجي بيده، والمفروض هنا أنّ ذمّته مشغولة لكلّ واحد منهم بمقدار سهمه. والمناط في تعيين الدين قصد الدافع فإذا دفعه إليه بقصد حقّه وبعنوان حصّته وقبض هو أيضاً يصير ملكاً له، ولا يشارك فيه غيره وإقراره بالاشتراك في أصل الحقّ لا يكون إقراراً بالاشتراك في هذا المقبوض.

الوجه الثالث: القول بالشركة مطلقاً.

وقد يقال(1) بالشركة مطلقاً إمّا في العين لما تقدّم، وأمّا في الدين فلاعتراف القابض بالشركة بالإشاعة، وأنّ المدّعى عليه وإن كان له تعيين ما في الذمّة في مال في الخارج لكن ليس له الاختصاص والإفراز، فلا يكون القسم صحيحة لوقوعها بغير إذن الشركاء.

الوجه الرابع: عدم الشركة مطلقاً.

وقد يقال بعدم الشركة مطلقاً حتّى في العين والوجه فيه في الدين ما تقدّم. أمّا الوجه فيه في العين، أنّ العين وإن كانت مشاعة ولم يكن للمدّعى عليه اختيار تقسيمها وإفرازها، ولكنّ الناكل لمّا امتنع عن الحلف فقد اسقط حقّه وأبطله. والحاكم إذا حكم بنفع الحالف وحكم باستناد شهادة الواحد ويمين الحالف أنّ العين له فهذا تقسيم قهري فيصير مالكاً ولا يشترك فيها غيره، مع أنّه لولاه يلزم الضرر على الحالف لعدم إمكان أخذ حقّه بدون إذن الشركاء.


1- العروة الوثقى 548: 6؛ نقله عن كشف اللثام 345: 2.

ص: 414

مسألة 5: ثبوت الحقّ بشاهد ويمين إنّما هو فيما لا يمكن إثباته بالبيّنة، ومع إمكانه بها لا يثبت بهما على الأحوط. (6)

ويظهر هذا القول من المحقّق في «الشرائع» من قوله: «ولو امتنع البعض ثبت نصيب من حلف دون الممتنع»(1).

أقول: والوجيه من بين الأقوال الأربعة التفصيل بين الدين والعين- الوجه الثاني- لما تقدّم.

متى يمكن ثبوت الحقّ بشاهد ويمين

(6) وذلك لعدم الإطلاق فيما تقدّم من الروايات من هذه الجهة، فالقدر المتيقّن من مشروعيتها ما إذا لم يمكن إثبات الحقّ بالبيّنة أو يعسر عليه. ولعلّ الوجه في تشريعهما هو تسهيل الأمر للناس، لعدم وجود البيّنة في كثير من القضايا، فيوجب تضييع حقوقهم، فشرع الشاهد و اليمين لحفظ حقوقهم فيما لم يتمكّن من إقامة البيّنة أو يعسر عليهم.

ويؤيّده مرسلة يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد، فاليمين على المدّعى عليه»(2).


1- شرائع الإسلام 881: 4.
2- الكافي 416: 7/ 3؛ تهذيب الأحكام 231: 6/ 562؛ وسائل الشيعة 271: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 2.

ص: 415

مسألة 6: إذا شهد الشاهد وحلف المدّعي وحكم الحاكم بهما، ثمّ رجع الشاهد، ضمن نصف المال. (7)

في ضمان نصف المال لو رجع الشاهد

(7) الظاهر من الأخبار المتقدّمة في القضاء بالشاهد واليمين أنّ الحجّة هنا ذو جزئين الشاهد واليمين، ففي الحقيقة قام اليمين مقام شاهد آخر. وربما يحتمل كون الحجّة هو الشاهد، واليمين شرط فيه فإذا انضمّ إليه اليمين يكون حجّة، أو يكون الحجّة هو الشاهد لكنّه ناقصة ومتمّمها ومكمّلها اليمين، ولكنّها ضعيفان ولا شاهد لهما من الأدلّة.

فعلى ما ذكرنا، فلو رجع الشاهد عن شهادته فيكون ضامناً لنصف المال لثبوت نصف المال بشهادته ونصفه الآخر باليمين فيكون نظير رجوع أحد الشاهدين فيما إذا أثبت الحقّ بالبيّنة.

كما أنّه على الاحتمال الآخر يكون ضامناً لجميع المال لكون الحجّة لإثبات الحقّ هو الشاهد، وأمّا أصل ضمان الشاهد فيما إذا رجع فهو من أبحاث رجوع الشاهد من كتاب الشهادة سيأتي إن شاء الله.

ص: 416

ص: 417

القول: في السكوت

اشارة

أو الجواب بقوله: «لا أدري»، أو «ليس لي»، أو غير ذلك.

مسألة 1: إن سكت المدّعى عليه بعد طلب الجواب عنه، فإن كان لعذر- كصمم أو خرس أو عدم فهم اللغة أو لدهشة ووحشة- أزاله الحاكم بما يناسب ذلك، وإن كان السكوت لا لعذر، بل سكت تعنّتاً ولجاجاً، أمره الحاكم بالجواب باللطف والرفق ثمّ بالغلظة والشدّة، فإن أصرّ عليه فالأحوط أن يقول الحاكم له أجب وإلا جعلتك ناكلًا، والأولى التكرار ثلاثاً، فإن أصرّ ردّ الحاكم اليمين على المدّعي، فإن حلف ثبت حقّه. (1)

في سكوت المدّعى عليه

(1) قد تقدّم أنّه إذا ادّعى على رجل في المحكمة بشي ء فالمدّعى عليه إمّا أن يقرّ أو ينكر أو يسكت. وقد تقدّم البحث عن الأوّل والثاني، فالآن نبحث عمّا إذا سكت عن الجواب فنقول: والسكوت على قسمين:

1- يسكت ولا يجيب عناداً ولجاجاً وتعنّتاً.

2- يسكت لعذر من صمم أو خرس أو جهل باللسان أو نحو ذلك.

ص: 418

أمّا الأوّل فلو كان للمدّعي البيّنة فيحكم الحاكم على طبقه ويعلمه بأنّ له الجرح في الشاهدين والحاكم يعمل بوظيفته، ولو لم يكن له البيّنة فألزمه الحاكم بالجواب، فإن أصرّ على السكوت ولم يجب ففيه أقوال:

[فيه أقوال:]

القول الأوّل: الحبس

قال المحقّق في «الشرائع»: «فإن عاند، حبس حتّى يبيّن»(1).

أقول: الأوّل- الحبس- منسوب إلى الشيخ المفيد(2) والطوسي في «النهاية»(3) و «الخلاف»(4) وجمع من الأعاظم، ونسبه في «المسالك»(5) إلى كافّة المتأخّرين(6).

والاستدلال للقول الأوّل بوجوه:

منها: ما ذكره المحقّق (ره) من أنّه المرويّ حيث قال: «والأوّل مروي»(7).

قد يقال: إنّ هذا من المحقّق ونقل الرواية مرسلًا وينجبر بعمل المشهور.

وفيه أنّه لا بدّ من نقل الرواية حتّى ينظر متنها ودلالتها ومثل هذا لا يكون معتبراً عند الأصحاب.

وقال في «الجواهر»(8) اعترف جماعة بعدم الظفر بهذه الرواية ولعلّه النبويّ


1- شرائع الإسلام 875: 4.
2- راجع: المقنعة: 725.
3- راجع: النهاية: 342.
4- راجع: الخلاف 238: 6، مسألة 37.
5- راجع: مسالك الأفهام 466: 13.
6- راجع: المراسم: 231؛ إيضاح الفوائد 332: 4؛ اللمعة الدمشقية: 51.
7- شرائع الإسلام 875: 4.
8- جواهر الكلام 208: 40.

ص: 419

المشهور «لي الواجد يحلّ عقوبته وعرضه»(1) بتقريب أنّ الساكت واجد للجواب ويماطل فيه. ويفسّر العقوبة بالحبس.

ويرد عليه: أنّ المراد من الواجد هو المديون الذي ثبت دينه، والواجد يعني المتمكّن من الأداء أي واجد المال والفرض فيما نحن فيه الساكت الذي لا يثبت الدين عليه وإرادة الواجد للجواب منه خلاف ظاهر الرواية، مع أنّ إطلاق العقوبة لا ينحصر بالحبس والرواية من طريق الخاصّة هكذا عن الرضا عن آبائه عن علي قال: قال رسول الله (ص): «ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره الله (عز و جل)»(2). وهذا أظهر في كون المراد من «أحرز دينه» ويكون المراد أيضاً واجد المال.

ومنها: ما يستدلّ أيضاً بما ورد في أنّ أمير المؤمنين كان يحبس في الدين بالليّ والمطل كما عن الأصبغ بن نباتة في حديث قال: «وقضى (ع) في الرجل يلتوي على غرمائه أنّه يحبس»(3).

وفيه: أنّ الظاهر منها هو المديون الثابت دينه أيضاً، فلا يمكن الاستدلال بها لما نحن فيه، لعدم ثبوت الدين على الساكت بعده.

ومنها: ما يستدلّ أيضاً بأنّ الجواب حقّ للمدّعي والساكت يمتنع عن إيفائه، فالحاكم يتوصّل في تحصيله إلى حبسه، كما إذا ثبت الحقّ على عهدته بالإقرار أو بالبيّنة ويمتنع عن الأداء.


1- السنن الكبرى 51: 6.
2- وسائل الشيعة 333: 18- 334، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 8، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 247: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 11، الحديث 1.

ص: 420

وفيه أنّ هذا ممنوع صغرى وكبرى. أمّا الأوّل- في الصغرى- فإنّ كون الجواب حقّاً للمدّعي على عهدة المدّعى عليه غير ثابت لعدم الدليل عليه، وأمّا الثاني- في الكبرى- فعلى فرض كون الجواب حقّاً عليه فانحصار طريق تحصيله في الحبس ممنوع، فإنّه من الممكن أن يتوصّل إليه بالرفق واللين ثمّ بالغلظة والشدّة على ترتيب مراتب النهي عن المنكر كما قال به صاحب «الرياض»(1) مع أنّ القول بالحبس يوجب الضرر على المدّعي بالتأخير، بل ربما يؤدّي إلى ضياع المال.

القول الثاني: الإجبار بالضرب وغيره حتّى يجيب

نسبه المحقّق إلى قيل، حيث قال: «وقيل: يجبر- أي بالضرب والإهانة- حتّى يجيب»(2) وقالوا: لا تعرف له من قائل.

واستدلّ للقول الثاني بأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب مراتبهما حتّى ينتهي إلى الضرب.

وفيه: أنّه لا بدّ من الابتداء بالرفق ثمّ بالشدّة إلى أعلى مراتبه، ويحتمل أن يكون الحبس أخفّاً أحياناً من الضرب والإهانة، ولم يقل به صاحب القول.

القول الثالث: في القول بأنّه يحكم على الساكت المعاند بحكم النكول

قال به الشيخ في «المبسوط»(3) والحلّي في «السرائر»(4) وبعض المتأخّرين.


1- راجع: رياض المسائل 115: 13.
2- شرائع الإسلام 875: 4.
3- المبسوط 160: 8.
4- السرائر 163: 2.

ص: 421

قال المحقّق: «وقيل: يقول الحاكم: إمّا أجبت وإلا جعلتك ناكلًا ورددت اليمين على المدّعي، فإن أصرّ ردّ الحاكم اليمين على المدّعي»(1).

واستدلّوا للقول الثالث أيضاً بامور:

منها: أنّ الإصرار على عدم الجواب نكول أو أولى منه، لأنّه امتناع عن اليمين وعن الجواب.

ويرد عليه: أنّ المراد بالنكول هو الامتناع عن الحلف، والردّ من المنكر وأنّي هو من الامتناع عن الجواب بلا إنكار. مع أنّ لفظ النكول لم يرد في شي ء من الروايات حتّى يدور الحكم مدار صدقه.

ومنها: أنّه في نفسه إمّا مقرّ أو منكر وإذا أجاب إمّا أن يجيب بالإقرار أو بالإنكار، فالأوّل مثبت للحقّ عليه والثاني يوجب إجراء حكم النكول عليه.

وفيه: أنّه يمكن أن لا يكون مقرّاً ولا منكراً، بل أدّى الحقّ وليس عنده شهود فلو ادّعى الأداء يطلب منه البيّنة فليس لها بيّنة فيحكم بالأداء ولا يحسن التورية أو لا يعلم شرعيتها.

وقد استدلّ السيّد (ره) بوجهين آخرين للقول الثالث، وقال: «والأقوى هو القول الثالث، لا لما ذكر، بل لأنّ إجراء حكم النكول من القضاء به أو بعد ردّ الحاكم الحلف على المدّعي ليس معلّقاً على صدق النكول»(2). حتّى يقال: إنّ النكول من حالات العارضة على المنكر، فإنّه إمّا أن يحلف أو يرد اليمين أو ينكل والساكت ليس منكراً حتّى يصدق له النكول، بل معلّق على عدم الحلف من غير


1- شرائع الإسلام 875: 4.
2- العروة الوثقى 560: 6.

ص: 422

تقييد بكونه بعد الإنكار وليس فيما بأيدينا من الأخبار أنّ اليمين على المنكر إلاالمرسل المعروف وهو قوله: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر». بل سائر الروايات تدلّ على أنّ اليمين على من «ادّعي عليه» وعلى «المدّعى عليه»(1).

والساكت يصدق عليه أنّه المدّعى عليه فيعرض عليه اليمين، فإذا لم يحلف فيحكم عليه أو يرد الحاكم اليمين على المدّعي، ثمّ يحكم عليه بناءً على القولين في باب النكول.

ثم قال: مع أنّه يمكن الاستدلال بصدر خبر البصري(2)- على طريق «التهذيب»(3) و «الكافي»(4) وبذيله أيضاً:

أمّا الصدر وهو قوله: «قلت: للشيخ يعني موسى بن جعفر خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ فلم تكن له بيّنة لماله. قال: «فيمين المدّعى عليه فإن حلف فلا حقّ له وإن لم يحلف فعليه». يعني فإن لم يحلف المدّعى عليه فالحقّ عليه تدلّ على أنّ الساكت المصرّ على عدم الجواب وعدم الحلف يحكم عليه من غير لزوم ردّ الحاكم اليمين على المدّعي.

وأمّا الذيل وهو قوله: «لو كان حيّاً لألزم باليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين»، فإنّه يدلّ على إلزامه بالحقّ إذا سكت ولم يحلف ولم يرد فيظهر منه أيضاً عدم


1- راجع: وسائل الشيعة 233: 27- 234، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1 و 2 و 3 و 5.
2- راجع: وسائل الشيعة 237: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.
3- راجع: تهذيب الأحكام 229: 6/ 555.
4- راجع: الكافي 415: 7- 416.

ص: 423

لزوم الردّ من الحاكم، بل يحكم عليه بمجرّد عدم الحلف وعدم الردّ. نعم، لو كان كلمة «يُرَدُّ» في جملة «يردّ اليمين» في ذيل الخبر بالبناء للمجهول، فيشمل الردّ من الحاكم. ولكنّه خلاف الظاهر، بل بناءً على ذلك لا بدّ أن يقول: تُرَدُّ اليمين بالتأنيث كما في صحيحة هشام، عن أبي عبدالله تردّ اليمين على المدّعي.

فقد ثبت بهذين الدليلين أنّ الساكت المصرّ على عدم الجواب عناداً أو لجاجاً يصدق عليه عنوان المدّعى عليه فيكون وظيفته اليمين أو ردّ اليمين إلى المدّعي، فإذا أصرّ على عدم الجواب ولم يحلف ولم يرد إذا عرض عليه الحلف يحكم عليه بالحقّ، بناءً على المستفاد من هذه الرواية أو يرد الحاكم اليمين على المدّعي، وإذا حلف فيحكم عليه بناءً على ما تقدّم من لزوم كون الحكم مستنداً بالبيّنات أو الأيمان.

والظاهر من الماتن (ره) اختيار هذا القول أيضاً ولعلّ الوجه في التعبير بالاحتياط اللزومي إعلان أنّ هذا القول مطابق للاحتياط من بين الأقوال، فإنّه ليس فيه الحبس أو الضرب والإهانة، بل الرفق واللطف والموعظة ثمّ الغلظة والشدّة لساناً، ثمّ الحكم على مقتضى القواعد من ردّ اليمين إلى المدّعي والحكم على المدّعى عليه، ولعلّه حلف المدّعي اليمين المردودة.

ص: 424

مسألة 2: لو سكت لعذر من صمم أو خرس أو جهل باللسان، توصّل إلى معرفة جوابه بالإشاره المفهمة أو المترجم، ولا بدّ من كونه اثنين عدلين، ولا يكفي العدل الواحد. (2)

فيما إذا كان السكوت لعذر

(2) إذا كان سكوت المدّعى عليه عن الجواب في المحكمة من جهة خوف ووحشة ودهشة، لا بدّ للقاضي أن يزيله بما يناسبه، وأما إذا كان لآفة من صمم أو خرس فلا بدّ من التواصل إلى الإشارة المفهمة لكونه مقرّاً أو منكراً. والإشارة قد تكون واضحة يفهمها القاضي وقد تكون مستغلقة فلا بدّ أن يتوصّل إلى المترجم ليبيّن الإشارة، وقد يكون للجهل باللسان فلا بدّ أيضاً من المترجم.

ثمّ إذا احتاج إلى المترجم هل يعتبر التعدّد والعدالة، أو يكفي الواحد من دون اعتبار العدالة أيضاً؟

قال المحقّق (ره): «ولو استغلقت إشارته، بحيث يحتاج إلى المترجم لم يكف الواحد، وافتقر في الشهادة بإشارته إلى مترجمين عدلين»(1).

وقال السيّد (ره): «واللازم كون المترجم اثنين عادلين، ولا يكفي عدل واحد لأنّه من باب الشهادة»(2).

وكذا قال الماتن (ره).


1- شرائع الإسلام 875: 4.
2- العروة الوثقى 561: 6.

ص: 425

مسألة 3: إذا ادّعى العذر واستمهل في التأخير أمهله الحاكم بما يراه مصلحة. (3)

أقول: والوجه كما يستفاد من عبارة «الشرائع» وصرّح به السيّد (ره) أنّ الترجمة من باب الشهادة فلا بدّ فيه التعدّد والعدالة.

واحتمل صاحب «الجواهر»(1) أنّ الترجمة قرينة يكشف منه مراد المتكلّم. حيث قال: وقد يحتمل في أصل الترجمة للّفظ أنّها من قرائن الظنّ بالمراد به، فلا يعتبر العدالة فضلًا عن التعدّد ولكنّه امِرَ بالتأمّل فيه، والإشكال فيه ظاهر.

والظاهر أنّ الترجمة من باب نقل كلام الغير بالمعنى وباللغة الاخرى لا من باب الشهادة على أنّ المتكلّم يراد من كلامه ذلك وإذا رأى العرف شخصاً يترجم كلام أحد للآخر لا يتلقّي منه أنّه يشهد بذلك، بل تلقيّه من ذلك أنّه ينقل كلامه لآخر بالمعنى وباللغة الاخرى بلا إشكال. واعتباره من باب الشهادة عند الأعاظم لعدم تعارف الترجمة عندهم حتّى يستظهر لهم تلقّي العرف منه، فعلى هذا لا يعتبر فيه التعدّد ولا العدالة، بل اللازم كونه ثقة وعارفاً باللغة.

(3) وذلك لعدم الدليل على فورية الجواب عند طرح الدعوى في المحكمة، فإذا ادّعى العذر من نسيان لا بدّ له من التفكّر لزواله، أو لا بدّ له من المراجعة إلى الدفاتر، أو السؤال من أحد أو غير ذلك، فجاز للحاكم إمهاله بحيث لا يوجب الضرر على المدّعي لو أثبت كونه ذا حقّ.


1- جواهر الكلام 211: 40.

ص: 426

مسألة 4: لو أجاب المدّعى عليه بقوله: «لا أدري»، فإن صدّقه المدّعي فهل تسقط دعواه مع عدم البيّنة عليها، أو يكلّف المدّعى عليه بردّ الحلف على المدّعي، أو يردّ الحاكم الحلف على المدّعي؛ فإن حلف ثبت حقّه، وإن نكل سقط، أو توقّفت الدعوى؛ والمدّعي على ادّعائه إلى أن يقيم البيّنة، أو أنكر دعوى المدّعى عليه؟ وجوه، أوجهها الأخير. وإن لم يصدّقه المدّعي في الفرض؛ وادّعى أنّه عالم بأنّي ذو حقّ، فله عليه الحلف، فإن حلف سقطت دعواه بأنّه عالم، وإن ردّ على المدّعي فحلف ثبت حقّه. (4)

فيما لو أجاب المدّعى عليه ب- «لا أدري ولا أعلم»

اشارة

(4) هذا وجه رابع في الجواب لو أجاب المدّعى عليه في المحكمة بقوله: «لا أدري» و «لا أعلم» أنّ له على شي ء. وله صورتان:

الصورة الاولى: ما إذا صدّقه المدّعي في عدم كونه عالماً وله مصاديق كما لا يخفى.

فلو كان له بيّنة فهو؛ وإلا ففيه أقوال ذكر الإمام (ره) أربعة منها في المتن، واختار الوجه الرابع منها.

القول الأوّل من الصورة الاولى: سقوط الدعوى، بل لا يكون الدعوى كذلك مسموعة، والقائل به السيّد (ره) في «ملحقات العروة»(1) وأكّد في تبيينها


1- راجع: العروة الوثقى 562: 6، مسألة 4.

ص: 427

وتحقيقها. وكذلك المحقّق النراقي (ره)(1) وذلك لأنّ الفرض عدم البيّنة للمدّعي لإثبات حقّه، ولا يمكن للمدّعى عليه اليمين لإسقاط الحقّ عليه لعدم علمه بالواقع ولا بدّ في اليمين أن يكون على البتّ وهو مشكوك عنده وإذا شكّ بحسب الظاهر في اشتغال ذمّته فيجري في حقّه أصل براءة الذمّة ومع إجراء الأصل لا يكون مكلّفاً بأداء شي ء للمدّعي، والفرض أنّ المدّعي يصدقه في عدم علمه وبراءة ذمّته بحسب الظاهر وعدم كونه مكلّفاً بشي ء، فكيف يمكن طرح الدعوى عليه؟ فعلى هذا لا يكون الدعوى مسموعة. وصرّح النراقي بعد ذلك بقوله: والتحقيق ما عرفت من عدم صحّة الدعوى عليه بعد اعتراف المدّعي في ظاهر الشرع، وكذا قال: وبالجملة لا ينبغي الإشكال في سقوط الدعوى مع عدم البيّنة واعتراف المدّعي بعدم علم المدّعى عليه وكون الأصل براءة ذمّته.

وقال في «المستند»: «فلو لم تكن بيّنة له سقطت دعواه، بمعنى عدم ترتّب أثر عليها في حقّه، إذ لم يثبت من الشارع في حقّ المدّعي سوى البيّنة أو التحليف، وهما منفيّان في المقام قطعاً»(2).

ثمّ استدلّ لذلك بروايات واردة في ادّعاء رجل زوجية امرأة لها زوج، وأنّه لا تسمع دعواه إذا لم يكن له بيّنة وإليك الآن ملاحظة الروايات.

1- صحيحة أو موثّقة سماعة قال: سألته عن رجل تزوّج جارية أو تمتّع بها فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال: إنّ هذه امرأتي وليست لي بيّنة، فقال: «إن كان ثقة فلا يقرّبها وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه»(3).


1- راجع: مستند الشيعة 286: 17.
2- مستند الشيعة 286: 17.
3- وسائل الشيعة 300: 20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 23، الحديث 2.

ص: 428

2- صحيحة أو حسنة عبدالعزيز قال: سألت الرضا (ع) قلت: جعلت فداك إنّ أخي مات وتزوّجت امرأته فجاء عمّي فادّعى أنّه كان تزوّجها سرّاً فسألتها عن ذلك فأنكرت أشدّ الإنكار وقالت: ما كان بيني وبينه شي ء قطّ، فقال: «يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها»(1).

3- خبر يونس قال: سألته عن رجل تزوّج امرأة في بلد من البلدان فسألها لك زوج فقالت: لا فتزوّجها ثمّ إنّ رجلًا أتاه فقال: هي امرأتي فأنكرت المرأة ذلك ما يلزم الزوج فقال: «هي امرأته إلا أن يقيم البيّنة»(2).

بتقريب أنّ المدّعي ليس له بيّنة، والمدّعى عليه وهو الزوج غيرعالم بالواقع، فلا يكلّفه باليمين وليترتّب على الزوجية أثر، بل قال في الثالثة- خبر يونس- «هي امرأته إلا أن يقيم البيّنة»، وقال في الثانية- صحيحة أو حسنة عبدالعزيز-: «يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها».

أمّا قوله في الاولى- صحيحة أو موثّقة سماعة- «إن كان ثقة فلا يقربها» محمول على الكراهة، بقرينة روايتين الأخيرتين واحتمال كونه خبريّاً.

ويمكن إيراد الخدشة بذاك الاستدلال بأنّه قد تقدّم شرائط سماع الدعوى وأنّها كانت تسعة شروط ولم يكن منها عدم قول المدّعى عليه لا أدري حتّى تكون الدعوى غير مسموعة، مضافاً إلى أنّه كيف يمكن سماع الدعوى إذا كانت له بيّنة، وعدم سماعها إذا لم يكن لها بيّنة مع عدم إمكان الحلف منه مع كون البيّنة والحلف متفرّعان على سماع الدعوى ومتأخّران عنه.


1- وسائل الشيعة 299: 20- 300، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 23، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 300: 20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 23، الحديث 3.

ص: 429

وسقوط الدعوى بعد كونها مسموعة خلاف مقتضى القضاء ووظائف الحاكم، فإنّ وظيفته الفصل وحلّ النزاع ورفع التخاصم.

وأمّا الروايات فليست فيها وقوع التخاصم والترافع عند القاضي، بل وقعت مشكلة للسائل أو لغيره، فيسئل الإمام عن حكمها ولا ربط له بالدعوى في المحكمة و وظيفة القاضي فيها.

القول الثاني والثالث من الصورة الاولى: هو أنّ الحاكم يكلّف المدّعى عليه بأن يرد الحلف على المدّعي- هذا هو القول الثاني- أو يرده بنفسه إلى المدّعي- هذا هو القول الثالث- فإذا حلف حكم على المدّعى عليه.

ولعلّ المحقّق الأردبيلي(1) قائل به، وأيضاً قال المحقّق الآشتياني-: «الذي يظهر من الأكثرين حتّى من كثير ممّن يقول بالقضاء بالنكول، القضاء عليه بعد ردّ اليمين إلى المدّعي، إمّا من المدّعى عليه وإمّا من الحاكم بعد امتناعه من الردّ»(2).

والدليل عليه أنّ مقتضى عموم قوله: «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان»(3) وقوله: «استخراج الحقوق بأربعة»(4) وقوله: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية»(5) وقوله في حديث: «اقض


1- راجع: مجمع الفائدة والبرهان 140: 12.
2- كتاب القضاء: 154.
3- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 241: 27- 242، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 4.
5- وسائل الشيعة 231: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 6. وفيما نقله الصدوق في الخصال في صدره« جميع أحكام المسلمين». وفي آخره« أو سنّة جارية مع أئمّة الهدى».( فراجع: الخصال: 155)

ص: 430

بينهم بالبيّنات، وأضفهم إلى اسمي»(1).

عدم قطع الدعوى مع عدم البيّنة إلا بالحلف، وحيث لا يمكن للمدّعى عليه هنا الحلف لعدم علمه بالواقع، فلا بدّ من ردّه إلى المدّعي أو ردّ الحاكم إلى المدّعى لو امتنع المدّعى عليه من ردّه.

ويرد عليه أنّ المستفاد من هذه الروايات- بقرينة ساير الروايات- أنّ المراد هو يمين المدّعى عليه وليست وظيفة المدّعي اليمين، إلا إذا دلّ دليل عليه.

ودعوى شمول إطلاق أخبار ردّ اليمين إلى المدّعي للمقام، فلا بدّ للمدّعى عليه أن يرد اليمين إليه والحاكم إن امتنع المدّعى عليه من الردّ حتّى يصحّ القضاء باليمين، مدفوعة؛ بأنّ المستفاد من الإطلاقات هو ردّ اليمين من المدّعى عليه بعد ثبوتها عليه. وفي المقام لا يمكن له اليمين فلا يثبت عليه حتّى يخيّر بين الحلف أو الردّ إلى المدّعي.

القول الرابع: توقّف الدعوى ويبقى المدّعي على ادّعائه إلى أن يقيم البيّنة، أو يحصل المدّعى عليه حالة الاطمئنان وأنكر الدعوى جزماً أو أقرّ كذلك. واختاره الماتن (ره) بقوله: وجوه، أوجهه الأخير.

وهو الحقّ فإنّ الدعوى إذا كانت واجدة للشرائط كانت مسموعة، ولا وجه للقول بعدم سماعها لو لم يكن للمدّعي بيّنة، أو لا يمكن للمدّعى عليه الحلف. وكذلك لا وجه لسقوطها لذلك فإنّ بقاء الدعوى يقتضي الوظيفة للحاكم كي يفصل ويرفع التخاصم.

والمتعارف في المحاكم أنّ وظيفة الحاكم قد تكون صدور الحكم إذا


1- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 2.

ص: 431

اجتمعت شرائط الحكم، أو صدور القرار مثل قرار ردّ الدعوى، أو قرار منع التعقيب، أو قرار موقوفية التعقيب، أو قرار استماع شهادة الشهود، أو الإرجاع إلى الخبرة وغيره ذلك.

وفي المقام إذا لم يكن للمدّعي البيّنة ولا يمكن للمدّعى عليه الحلف فيصدر الحاكم قرار توقّف الدعوى، أو موقوفية التعقيب فحينئذٍ يُلَفُّ المَلَفُّ ويخرج من المَلَفّات الجارية في المحكمة يومياً حتّى يأتي أحدهما: إمّا بالبيّنة، وإمّا بالإنكار مثلًا. وهذا بخلاف ما إذا حكم الحاكم فإنّه يصير مختومة وغير قابلة للجريان في المحكمة.

هل يمكن جعل الجواب بلا أدري من قسم المنكر؟

وهنا كلام آخر لصاحب «الجواهر» (ره)(1) في جعل المدّعى عليه الذي يجيب ب- «لا أدري» من قسم المنكر، وعليه اليمين بنفي العلم ونفي الاستحقاق فعلًا.

قال: ظاهر حصر الأصحاب حال المدّعى عليه في الثلاثة عدم حال رابع مخالف لها في الحكم، وحينئذٍ فإذا كان جوابه «لا أدري» و «لا أعلم» ونحو ذلك، فهو منكر. ضرورة عدم كونه إقراراً، كضرورة عدم كونه سكوتاً فليس إلا الإنكار. وخلاصة كلامه أنّ للمنكر فردان:

1- منه من يكون قاطعاً للواقع وأنكره.

2- ومنه من لا يعلم الواقع ولكنّه ينفي المدّعى به واستحقاق المدّعي على ذمّته ظاهراً وفعلًا، فإنّه مع شكّه في اشتغال ذمّته يجري في حقّه أصالة عدم اشتغال


1- جواهر الكلام 211: 40.

ص: 432

الذمّة، فينكر استحقاق المدّعى به عليه، فيكون منكراً وعليه اليمين بنفي العلم. ويحمل ما دلّ على أنّ اليمين لا بدّ أن يكون على البتّ على الغالب من كونه من قسم الأوّل، أمّا القسم الآخر فيكفي اليمين على عدم العلم نحو يمين الوارث.

ويرد عليه: أنّ الإنكار والادّعاء لا بدّ أن يتواردان على مورد واحد حتّى يقال: إنّه أنكر ما ادّعاه المدّعي، أو يقال: إنّه ادّعى ما ينكره الآخر، ففي المقام لو ادّعى المدّعي أنّ المدّعى عليه عالم باشتغال ذمّته وهو ينكره، ويقول: لا أعلم فحينئذٍ يتواردان على مورد واحد ويصدق عليه أنّه منكر لما ادّعاه المدّعي. ويترتّب عليه آثار المنكر. أمّا لو ادّعي عليه ديناً وهو يقول: لا أعلم فهو بقوله: لا أدري لا يثبته ولا ينفيه، فلا يكون منكراً له، وما أنكره هو العلم بالواقع الذي لا يدّعيه المدّعي، بل يصدّقه في عدم علمه بالواقع على الفرض، فلا يصدق عليه المنكر، فإذا لم يصدق عليه المنكر فلا يتوجّه إليه الحلف أيضاً بلا إشكال.

الصورة الثانية: وهي ما إذا كذبه المدّعي في قوله: لا أدري، بل يدّعي عليه أنّه عالم باشتغال ذمّته، ففي الحقيقة كان للمدّعي دعويان:

1- ادّعاء الدين على ذمّة المدّعى عليه.

2- ادّعاء أنّه عالم باشتغال ذمّته.

ففي الدعوى الثاني هو يدّعي ما ينكره المدّعى عليه، فيكون من مصاديق المدّعي والمنكر، فعلى المنكر الحلف على نفي العلم فلو حلف يسقط عليه دعوى الدراية، ولا يجوز للمدّعي تجديد الدعوى عند الحاكم أو حاكم آخر، ولا يجوز له إقامة البيّنة على الدراية. ولو لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي فيحلف المدّعي على الدراية، ولازم علمه بالواقع ثبوت اشتغال الذمّة متي يعلمه،

ص: 433

مسألة 5: حلف المدّعى عليه بأنّه لا يدري يسقط دعوى الدراية، فلا تسمع دعوى المدّعي ولا البيّنة منه عليها. وأمّا حقّه الواقعي فلا يسقط به، ولو أراد إقامة البيّنة عليه تقبل منه، بل له المقاصّة بمقدار حقّه. نعم، لو كانت الدعوى متعلّقة بعين في يده منتقلة إليه من ذي يد، وقلنا يجوز له الحلف استناداً إلى اليد على الواقع فحلف عليه، سقطت الدعوى وذهب الحلف بحقّه، ولا تسمع بيّنة منه، ولا يجوز له المقاصّة. (5)

فيثبت بحلفه الواقع أيضاً، وأمّا حلف المدّعى عليه فمسقط دعوى الدراية عليه فقط، ويبقى دعوى الواقع على حاله فلو أمكن له إقامة البيّنة جاز كما جاز له المقاصّة من ماله كما سيجي ء.

(5) قد تقدّم في ذيل المسألة السابقة أنّ المدّعى عليه الذي أجاب بقوله: لا أدري، إذا ادّعي عليه المدّعي بكونه عالماً بالواقع لو حلف على نفي العلم يسقط عنه دعوى العلم بالواقع، ويترتّب عليه آثاره ولكن دعوى الواقع على حاله ويصدر الحاكم قرار توقّف الدعوى، فإذا تمكّن من إقامة البيّنة تقبل منه، بل له المقاصّة من مال المدّعى عليه بمقدار حقّه.

هذا إذا كانت الدعوى متعلّقة بدين.

أمّا لو تعلّقت بعين في يده فتارة يعلم منشأ مالكيته- الصورة الاولى- وأنّه انتقل إليه من ذي يد آخر. إمّا بالإرث كما إذا كانت في يد أبيه، ويتصرّف فيه ثمّ مات وانتقل إليه إرثاً، وإمّا بالبيع، وإمّا بالهبة وغيرها. وتارةً اخرى- الصورة الثانية- لا يعلم كيفية مالكيته لهذا العين بل تكون فيما يتعلّق به وما يملكه.

ص: 434

ففي الصورة الاولى- العلم بمنشأ المالكية- وإن يجيب في قبال الدعوى عليه بقوله لا أعلم، ولكنّه جاز له الحلف على كونها ملكاً له. وبالنتيجه لا تكون ملكاً للمدّعي بناءً على جواز الحلف على الملكية باستناد اليد، كما جاز الشهادة عليها باستناد اليد أيضاً.

ويدلّ عليه خبر حفص بن غياث(1) فإنّ قوله: فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثمّ تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك.

يدلّ على أنّه لو اشترى عيناً من شخص كان في يده يجوز له أن يحلف أنّها ملك له، باستناد اليد الدالّة على كون الشخص مالكاً له، ثمّ صار ملكاً له بالاشتراء، كما أنّ صدر الخبر يدلّ على جواز الشهادة على كون العين ملكاً لمن في يده، مع أنّ الشهادة كانت أصعب من اليمين لعدم جوازها إلا مع العلم.

وفي الصورة الثانية- لا يعلم كيفية مالكيته- يعني إذا كانت في يده ولم يعلم من أيّ سبب انتقل إليه وأنّها له فعلًا أو لا؟

فقال السيّد (ره): إنّ الحكم منها مثل الحكم في الصورة الاولى: «فإنّه إذا ادّعى عليه مدّع وقال في جوابه: لا أدري أنّها لي أو لك، يحكم بمقتضى يده أنّها له، فإذا لم يكن للمدّعي بيّنة وادّعى عليه العلم بأنّها له جاز له أن يحلف على عدم العلم وتسقط به دعوى المدّعي وتبقي في يده محكومة بأنّها له»(2).

وقال المحقّق النراقي (ره)(3): إن لم يدّعي عليه العلم أو ادّعى وحلف على نفي


1- راجع: وسائل الشيعة 292: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.
2- العروة الوثقى 565: 6.
3- راجع: مستند الشيعة 291: 17.

ص: 435

مسألة 6: لو أجاب المدّعى عليه بقوله: «ليس لي، وهو لغيرك»، فإن أقرّ لحاضر وصدّقه الحاضر كان هو المدّعى عليه، فحينئذٍ له إقامة الدعوى على المقرّ له، فإن تمّت وصار ماله إليه فهو، وإلا له الدعوى على المقرّ بأنّه صار سبباً للغرامة، وله البدأة بالدعوى على المقرّ، فإن ثبت حقّه أخذ الغرامة منه، وله حينئذٍ الدعوى على المقرّ له لأخذ عين ماله، فإن ثبتت دعواه عليه ردّ غرامة المقرّ. وإن أقرّ لغائب يلحقه حكم الدعوى على الغائب. وإن قال: «إنّه مجهول المالك وأمره إلى الحاكم»، فإن قلنا: إنّ دعوى مدّعي الملكية تقبل إذ لا معارض له يردّ إليه، وإلا فعليه البيّنة، ومع عدمها لا يبعد إرجاع الحاكم الحلف عليه. وإن قال: «إنّه ليس لك بل وقف»، فإن ادّعى التولية ترتفع الخصومة بالنسبة إلى نفسه، وتتوجّه إليه لكونه مدّعي التولية، فإن توجّه الحلف إليه وقلنا بجواز حلف المتولّي فحلف سقطت الدعوى، وإن نفى عن نفسه التولية فأمره إلى الحاكم. وكذا لو قال المدّعى عليه:

العلم لا يحكم بكونها له، بل يقرع بينه وبين المدّعي، لأنّه يشترط في دلالة اليد على الملكية عدم اعتراف ذيها بعدم علمه بأنّه له أو لا؟

ولكنّ الظاهر عدم الدليل على هذا الشرط.

فالأقوى ما قاله السيّد (ره) من أنّه يجوز للمدّعى عليه أن يحلف على عدم كونه ملكاً للمدّعي، أو يحلف على أنّه ملك لنفسه باستناد اليد ولا يضرّ بذلك عدم علمه بمنشأ مالكيته، وأنّه من أين صارت في يده.

ص: 436

«إنّه لصبيّ أو مجنون»، ونفى الولاية عن نفسه. (6)

مسألة 7: لو أجاب المدّعى عليه: بأنّ المدّعي أبرأ ذمّتي، أو أخذ المدّعى به منّي، أو وهبني، أو باعني، أو صالحني، ونحو ذلك، انقلبت الدعوى؛ وصار المدّعى عليه مدّعياً والمدّعي منكراً. والكلام في هذه الدعوى على ما تقدّم. (7)

(6) قد فرض فروضاً كثيرة في الجواب، مثل أن يقول: هو لزيد مثلًا الحاضر، أو لغائب، أو يقول: إنّه ليس لي، بل هو مجهول المالك، أو وقف، أو قال: إنّه لصبيّ، أو لمجنون ونفي عن نفسه التولية، أو يدّعي كونه وليّاً لهما، ففي الكلّ يتوجّه الدعوى إلى غير المدّعى عليه. مثلًا في الفرض الأوّل يكون المدّعى عليه هو المقرّ له، أو يكون الدعوى على الغائب، أو يكون الدعوى لمال المجهول المالك، أو الوقف ولكلّ حكمه في بابه لم نتعرّض له في المسألة. وقد تعرّض للفروض السيّد (ره) في «ملحقات العروة» مفصّلًا، فراجع(1).

(7) هذا القسم من الجواب يرجع إلى الإقرار بالمدّعى به، وقبول مالكية المدّعى له، ولكن يدّعي الإيفاء أو الإبراء أو البيع أو الهبة أو الصلح أو غير ذلك، ففي الحقيقة ينقلب الدعوى؛ فإنّ المدّعى عليه، يصير مدّعياً، والمدّعي، مدّعى عليه، فلا بدّ لهذا المدّعي الإثبات والمدّعى عليه الجديد الجواب، ولا إشكال في أنّ الجواب منه أيضاً قد يكون بالإقرار، أو بالإنكار، أو بالسكوت، أو بلا أدري، والكلام فيها الكلام.


1- راجع: العروة الوثقى 562: 6.

ص: 437

القول: في أحكام الحلف

اشارة

مسألة 1: لا يصحّ الحلف ولا يترتّب عليه أثر من إسقاط حقّ أو إثباته إلا أن يكون بالله تعالى، أو بأسمائه الخاصّة به تعالى كالرحمان والقديم والأوّل الذي ليس قبله شي ء، وكذا الأوصاف المشتركة المنصرفة إليه تعالى كالرازق والخالق، بل الأوصاف غير المنصرفة إذا ضمّ إليها ما يجعلها مختصّة به، والأحوط عدم الاكتفاء بالأخير، وأحوط منه عدم الاكتفاء بغير الجلالة، ولا يصحّ بغيره تعالى، كالأنبياء والأوصياء والكتب المنزلة والأماكن المقدّسة، كالكعبة وغيرها. (1)

(1) عبّر السيّد (ره) أيضاً ب- «لا يصحّ» وقال: «لا يجوز ولا يصحّ الحلف إلا بالله تعالى بلا خلاف، بل بالإجماع»(1).

المراد ب- «لا يصحّ» هو الحكم الوضعي، يعني لو حلف بغير الله عزّ وجلّ لا


1- العروة الوثقى 700: 6.

ص: 438

يترتّب عليه أثر المقصود من الحلف، وهو إسقاط الحقّ عن نفسه، أو إثباته على المدّعى عليه، فلا يصحّ الحلف بالأنبياء والأوصياء والأماكن الشريفة، كالكعبة والبقاع المتبرّكة والكتب المنزلة والقرآن العظيم وغيرها.

والمراد بقوله: لا يجوز هو الحكم التكليفي، أي يحرم الحلف بغير الله عزّ وجلّ فلو حلف بغير الله عزّ وجلّ- بكلمات الشريفة التي نقلنا آنفاً- فمضافاً إلى عدم الصحّة، وعدم ترتّب الأثر عليه، يكون آثماً لارتكاب فعل محرّم. وقد تعرّض الماتن (ره) الحكم التكليفي في مسألة 4 من مسائل «القول في أحكام التكليف» هذا؛ واختار الكراهة كما سيجي ء إن شاء الله.

فيما تدلّ على عدم صحّة الحلف إلا بالله تعالى

اشارة

أمّا لزوم الحلف بالله عزّ وجلّ وعدم صحّة الحلف بغيره فدلالة كثير من الروايات عليه:

منها: صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبدالله وفيها بعد سؤال نبيّ من الأنبياء عن الله عزّ وجلّ عن كيفية الحكم بين الناس قال: «فأوحى الله عزّ وجلّ إليه احكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به»(1).

ومنها: رواية أبان بن عثمان، عمّن أخبره، عن أبي عبدالله (ع) قال: «في كتاب عليّ (ع) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء، فقال: كيف أقضى بما لم تر عيني ولم تسمع اذني؟ فقال: اقض بينهم بالبيّنات، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به، وقال: إنّ داود (ع) قال: يا ربّ أرني الحقّ كما هو عندك حتّى


1- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

ص: 439

أقضى به، فقال: إنّك لا تطيق ذلك، فألحّ على ربّه حتّى فعل، فجاءه رجل يستعدي على رجل فقال: إنّ هذا أخذ مالي، فأوحى الله إلى داود أنّ هذاالمستعدي قتل أبا هذا، وأخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل، وأخذ ماله، فدفع إلى المستعدى عليه، قال: فعجب الناس، وتحدثوا حتّى بلغ داود (ع) ودخل عليه من ذلك ما كره، فدعا ربّه أن يرفع ذلك ففعل، ثمّ أوحى الله إليه، أن احكم بينهم بالبيّنات، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به»(1).

ومنها: رواية محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (ع) قال: «إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه كيف أقضى في امور لم أخبر ببيانها؟ قال: فقال له: ردّهم إليّ وأضفهم إلى اسمي يحلفون به»(2).

دلّت هذه الأخبار على وجوب الحلف باسم الله في قطع الدعوى.

ومنها: المرويّ عن الحسن بن عليّ العسكري في تفسيره، عن آبائه في كيفيةقضاء رسول الله (ص) وفيها: «وإن لم يكن له بيّنة حلف المدّعى عليه بالله»(3).

ومنها: ما عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله وفيها: «وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات، فاقيمت عليه البيّنة، فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو»(4).

ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (ع) وفيها: «وإن أقام بعد ما


1- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 230: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 3.
3- وسائل الشيعة 239: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 6، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

ص: 440

استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه»(1).

بتقريب: أنّ المفهوم منها أنّه إن أقام البيّنة قبل الحلف بالله (سبحانه و تعالى) لا يسقط حقّه، وإن حلف بغير الله.

ومنها: رواية أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (ع) قال: «قال رسول الله (ص) لا تحلفوا إلا بالله ومن حلف بالله فليصدق، ومن لم يصدق فليس من الله، ومن حلف له بالله فليرض، ومن حلف له بالله فلم يرض فليس من الله عزّ وجلّ»(2).

وهي كما تلاحظ تدلّ على حرمة الحلف بغير الله عزّ وجلّ فيكون فاسداً وتدلّ بالمفهوم على عدم وجوب الرضا بالحلف بغير الله عزّ وجلّ.

ومنها: ما عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر فيها: «إن لله عزّ وجلّ أن يقسم من خلقه بما شاء وليس لخلقه أن يقسموا إلا به»(3).

ومنها: صحيحة حلبي عن أبي عبدالله (ع) وفيها: «لا أرى للرجل أن يحلف إلا بالله»(4).

في عدم اختصاص الحلف بلفظ الجلالة

ثمّ إنّ المستفاد من هذه الأخبار لزوم كون الحلف بالله عزّ وجلّ في قبال


1- وسائل الشيعة 244: 27- 245، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 211: 23، كتاب الأيمان، الباب 6، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 259: 23- 260، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 3.
4- وسائل الشيعة 260: 23، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 4.

ص: 441

الحلف بغيره، لا أن يكون الحلف بلفظ الجلالة فقط. ويدلّ عليه قوله في رواية محمّد بن مسلم، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به. يعني بذاته (سبحانه و تعالى) وذكره.

وكذا قوله في صحيحة سليمان بن خالد: «أضفهم إلى اسمي تحلفهم به»، فإنّ الاسم لا يختصّ بلفظ «الله»، بل يشمل الأسماء الخاصّة به (سبحانه و تعالى) كالرحمن والرحيم، وكذا الأوصاف المشتركة المنصرفة إليه (سبحانه و تعالى) كالرّزاق والخالق، بل الأوصاف غير المنصرفة إذا انضمّ إليها ما يجعلها مختصّة به ك- «العالم بجميع الأشياء» و «القادر على كلّ شي ء»، فإنّ كلّها أسماء الله عزّ وجلّ ويصحّ الحلف بها لصدق الحلف بالله عزّ وجلّ. مضافاً إلى أنّ الغاية هو الارتداع عن الحلف كاذباً، وهو موجود في جميع الأسماء. نعم، الأحوط الحلف بلفظ الجلالة بلا إشكال.

الحلف بالله بغير ألفاظ العربية

وقال السيّد (ره): «لا يشترط في الحلف العربية، بل يكفي ترجمته بأيّ لغة كانت لصدق الحلف بالله»(1).

أقول: وذلك صحيح، لما قلنا من أنّ المراد من لفظة «الله» في الروايات هو ذاته المقدّسة، فلا بدّ من كون الحلف به عزّ اسمه وفي كلّ لغة يكون اللفظ الدالّ على ذاته المقدّسة كافياً في الحلف به، كما تعرّض له الماتن (ره) في المسألة 6 الآتيه.


1- العروة الوثقى 705: 6.

ص: 442

مسألة 2: لا فرق في لزوم الحلف بالله بين أن يكون الحالف والمستحلف مسلمين أو كافرين أو مختلفين، بل ولا بين كون الكافر ممّن يعتقد بالله أو يجحده. (2) ولا يجب في إحلاف المجوس ضمّ قوله:

في لزوم إحلاف الكفّار بالله عزّ وجلّ

اشارة

(2) قد استفدنا من الأخبار المتقدّمة الكثيرة أنّ الحلف لا بدّ وأن يكون بالله عزّ وجلّ وهو المؤثّر إسقاطاً وإثباتاً، وإنّ الحلف بغيره (سبحانه و تعالى) غير صحيح وغير مؤثّر، وإن كان بامور ذات حرمة وشرافة وعظمة كالأنبياء والملائكة والكتب المنزلة والأماكن الشريفة والأئمّة الأطهار (عليهم السلام).

وهذه الأخبار من جهة الحالف والمستحلف مطلق يشمل المسلم وغيره. وكمثال نقول، جاء في صحيحة محمّد بن مسلم. قال: «وليس لخلقه أن يقسموا إلا به»، فهو مطلق بلا إشكال وكذا قوله: «أضفهم إلى اسمي يحلفون به».

مضافاً إلى أنّ بعض الروايات تدلّ على لزوم حلف اليهود والنصارى والمجوس بالله عزّ وجلّ، وهم من الكفّار المعتقدون بالله عزّ وجلّ وبنبوّة غير نبيّنا (ص).

نحو رواية سليمان بن خالد عن أبي عبدالله (ع) قال: «لا يحلف اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي بغير الله، إنّ الله (عز و جل) يقول: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنزَلَ اللهُ(1)»(2).


1- المائدة( 5): 48.
2- وسائل الشيعة 265: 23- 266، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 1.

ص: 443

وكذا رواية جرّاح المدائني عن أبي عبدالله (ع) قال: «لا يحلف بغير الله، وقال: اليهودي والنصراني والمجوسي لا تحلفوهم إلا بالله عزّ وجلّ»(1). ورواية الحلبي، قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن أهل الملل يستحلفون؟ فقال: «لا تحلفوهم إلا بالله عزّ وجلّ»(2).

وموثّقه سماعة، عن أبي عبدالله (ع) قال: سألته هل يصلح لأحد أن يحلف أحداً من اليهود والنصارى والمجوس بآلهتهم؟ قال: «لا يصلح لأحد أن يحلف أحداً إلا بالله (عز و جل)»(3).

حول جواز إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه

نعم، قد وردت أخبار دالّة على جواز حلف اليهود والنصارى والمجوس بغير الله عزّ وجلّ.

مثل رواية السكوني، عن أبي عبدالله (ع): «إنّ أمير المؤمنين (ع) استحلف يهوديّاً بالتوراة التي أنزلت على موسى (ع)»(4).

وكذا رواية محمّد بن مسلم، عن أحدهما قال: سألته عن الأحكام؟ فقال: «في كلّ دين ما يستحلفون به»(5). ولكن يراد بها السؤال عن الأحكام في الشرائع السابقة فقال: «في كلّ دين ما يستحلفون به». وعن محمّد بن مسلم في


1- وسائل الشيعة 266: 23، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 266: 23، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 3.
3- وسائل الشيعة 267: 23، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 5.
4- وسائل الشيعة 266: 23، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 4.
5- وسائل الشيعة 267: 23، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 7.

ص: 444

الخبر الآخر قال: سألته عن الأحكام؟ فقال: «تجوز على كلّ دين بما يستحلفون»(1).

وكذا رواية محمّد بن قيس قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: «قضى علىّ (ع) فيمن استحلف أهل الكتاب بيمين صبر أن يستحلف بكتابه وملّته»(2).

عبّر عن هذا الحلف في «القاموس» بيمين الصبر وقال: «يمين الصبر التي يمسكك الحكم عليها حتّى تحلف، أو التي لزم ويجبر عليها حالفها»(3).

وقد تمسّك بهذه الأخبار جمع من الأصحاب مثل الشيخ (ره) في «النهاية»(4) والعلامة (ره) في «التحرير»(5) والمحقّق في «الشرائع»(6) وغيرهم فجوّزوا إحلاف الذمّي، بل مطلق الكافر- كما قيل- بما يقضيه دينه إذا رآه الحاكم أردع له من الباطل وأوفق لإثبات الحقّ.

قال في «الشرائع»: «ولو رأى الحاكم إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه أردع، جاز»(7).

وقد اجيب عن هذه الأخبار بوجوه:

منها: أنّها قضية في واقعة.

أو لعلّ أمير المؤمنين (ع) حلفهم بالله عزّ وجلّ وبالتوراة.


1- وسائل الشيعة 268: 23، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 9.
2- وسائل الشيعة 267: 23- 268، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 8.
3- القاموس المحيط 66: 2.
4- راجع: النهاية: 347.
5- راجع: تحرير الأحكام 165: 5.
6- راجع: شرائع الإسلام 876: 4.
7- شرائع الإسلام 876: 4.

ص: 445

أو أنّها مختصّه بالإمام؛ وغيرها كما ذكرها المحقّق النراقي(1) وكذا صاحب «الوسائل» (ره) ذيل خبر السكوني(2).

إلى هنا قرئنا طائفتان من الروايات وحاولنا في توجيه الروايات الدالّة على جواز إحلاف الكفّار بآلهتهم.

طائفة تدلّ بإطلاقها على لزوم إحلاف الكفّار بالله عزّ وجلّ.

طائفة تدلّ على جواز حلف اليهود أو النصارى أو المجوس بآلهتهم.

لكنّ الظاهر عدم تمامية الوجوه المذكورة كما ذكر النراقي (ره) وقال في ذيل كلامه «والصواب أن يقال: إنّها معارضة للأخبار المتقدّمة»(3).

والأولى ذلك، فإنّ قوله في موثّقة سماعة بعد سؤال السائل عن جواز حلف اليهود أو النصارى أو المجوس بآلهتهم، أنّه: «لا يصلح لأحد أن يحلف أحداً إلا بالله (عز و جل)»(4) يدلّ على الحصر، يعني أنّ الحلف بغير الله عزّ وجلّ باطل، والحلف منحصر بالله عزّ وجلّ فهذه الروايات الثلاثة يعارضها بلا إشكال.

فإذا حصل التعارض بينها وبين ما تقدّم من عدم جواز إحلاف اليهود والنصارى والمجوس بغير الله عزّ وجلّ فلا بدّ من الرجوع إلى العلاج لرفع التعارض.

وقال في «المستند» أنّ الأخبار المتقدّمة راجحة:

1- بالأشهرية، رواية وفتوى، والأصرحية.


1- مستند الشيعة 469: 17.
2- راجع: وسائل الشيعة 266: 23، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 4.
3- مستند الشيعة 470: 17.
4- وسائل الشيعة 267: 23، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 5.

ص: 446

«خالق النور والظلمة» إلى «الله». ولو رأى الحاكم أنّ إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه أردع، هل يجوز الاكتفاء به كالإحلاف بالتوراة التي انزلت على موسى (ع)؟ قيل: نعم، والأشبه عدم الصحّة. ولا بأس بضمّ ما ذُكر إلى اسم الله إذا لم يكن أمراً باطلًا. (3)

2- وبموافقة الكتاب حيث قال (سبحانه و تعالى) في آية الوصيّة في السفر فَيُقْسِمَان بِاللهِ(1).

3- وبموافقة الاحتياط والأصل.

4- وبالمخالفة لمذاهب العامّة.

5- وبالأحدثية(2).

فكلام الماتن (ره) حيث قال: «ولو رأى الحاكم أنّ إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه أردع، هل يجوز الاكتفاء به كالإحلاف بالتوراة التي أنزلت على موسى قيل: نعم، والأشبه عدم الصحّة» هو الأقوى. والمستند هو إطلاق الروايات وخصوص ما دلّ على لزوم إحلاف أهل الذمّة بالله عزّ وجلّ، كما تقدّم بعد ترجيحها على ما يعارضها.

عدم لزوم ضمّ الضميمة في إحلاف المجوس بلفظ الجلالة

(3) نقل عن جماعة كالشيخ (ره) في «المبسوط»(3) وفخر المحقّقين في


1- المائدة( 5): 106 و 107.
2- مستند الشيعة 470: 17.
3- راجع: المبسوط 205: 8.

ص: 447

«الإيضاح»(1) والشهيد في «الدروس»(2) لزوم ضمّ «الذي خلقني» أو «خالق النور والظلمة» إلى لفظ الجلالة في إحلاف المجوس وذلك لأنّهم قائلون بأنّ النور إله، فإذا حلف بالله يحتمل أن يقصد منه معتقده وهو النور، فلا بدّ لرفع الإبهام أن يضيف إلى لفظ الجلالة قوله «الذي خلقني» أو «خالق الظلمة والنور».

واستدلّ المحقّق الآشتياني(3) لذلك بما حاصله: إنّ المستفاد من الأخبار عدم كفاية الحلف بغير الله، فبمقتضاها يجب إحراز وقوع الحلف بها، إمّا بالعلم أو بالظنّ القائم مقامه شرعاً كظواهر الألفاظ فالذي يحلف بالرزّاق والخالق وإن احتمل أنّه أراد غيره (سبحانه و تعالى) إلا أنّ ظاهر اللفظ خلافه فيؤخذ به، وكذا لو احتمل التورية في مورد. أمّا إذا فقد الأمران بأن لا يكون هنا علم ولا ظنّ معتبر مثل المقام فإنّ لله (سبحانه و تعالى) عند الحالف المجوسي معنى غير الذات المقدّسة، فلا يكفي الحلف به ما لم ينضمّ إليه ما يصرفه ولو بحسب الظاهر إلى الذات المقدّسة.

وفيه أوّلًا: إنّه اجتهاد في مقابل النصّ لصراحة الروايات بكفاية الإحلاف في اليهود والنصارى والمجوس بلفظ الجلالة وحده.

ثانياً: إنّه لو حلف بلفظ الإله يحتمل إرادته النور منه وأمّا لفظ الجلالة فهو علم للذات المجتمع لجميع صفات الكمال، فلا يمكن إرادة غيره منه، فالحلف بالله عزّ وجلّ ظاهر في الذات المقدّسة وهو حجّة شرعاً على قوله، فيكفي من دون ضمّ الضميمة.


1- راجع: إيضاح الفوائد 335: 4.
2- راجع: الدروس الشرعية 96: 2.
3- راجع: كتاب القضاء: 170.

ص: 448

ثمّ إنّه يبقى الكلام في الكافر الملحد الجاحد لله (سبحانه و تعالى)، فهل يجب إحلافه بالله عزّ وجلّ أيضاً وإن جحده ولم يعتقد له احترام حتّى كون الحلف به رادعاً عن الكذب؟

الظاهر ذلك؛ لإطلاق ما تقدّم من الروايات، كما ذهب إليه الماتن (ره). وكذا قال السيّد (ره) بقوله: «مضافاً إلى الإطلاقات التي مقتضاها عدم الفرق في الكافر بين من يعتقد بالله وبين من يجحده»(1). نعم، قد يقال بسقوط الحلف حينئذٍ، فإنّ الغرض من الحلف هو إيجاد الرادع في نفس الحالف عن الإنكار كذباً إمّا من جهة الاحترام العظيم الذي كان قائلًا للمحلوف به فلا يحلف به كذباً فإنّه هتك لاحترامه عنده، وإمّا من جهة الخوف من المؤاخذة عند الحلف كذباً. وكلاهما مفقودان عند الكافر الجاحد لله (سبحانه و تعالى)، فيكون الإحلاف به لغواً لعدم احترام له عنده، وعدم خوفه منه لعدم اعتقاده بوجوده (سبحانه و تعالى)، فيكون نظير الدعوى على الميّت إذا لم يكن للمدّعي البيّنة.

وفيه: إنّه ليس لغواً وبلا فائدة، بل يحتمل التأثير في نفسه إذا وعظه الحاكم، وبين له عقوبة الحلف بالله عزّ وجلّ كذباً فلا يحلف كذباً، ولو لم يؤثر ولم يخف عن الحلف وحلف؛ فلا أقلّ من كونه سبباً للمؤاخذة عليه وعقوبته حتّى في الدنيا على ما في بعض الروايات.

بخلاف ما إذا قلنا بسقوط الحلف فلا يصل المدّعي بحقّه أيضاً من دون إيجاب سبب لعقوبة الكافر المنكر لحقّه، فللحلف أثر على أيّ حال، فلا يكون لغواً.


1- العروة الوثقى 700: 6.

ص: 449

مسألة 3: لا يترتّب أثر على الحلف بغير الله تعالى وإن رضي الخصمان الحلف بغيره، كما أنّه لا أثر لضمّ غير اسم الله تعالى إليه، فإذا حلف بالله كفى؛ ضمّ إليه سائر الصفات أو لا، كما يكفي الواحد من الأسماء الخاصّة؛ ضمّ إليه شي ء آخر أو لا. (4)

وقد يقال بلزوم ردّ اليمين إلى المدّعي من الحاكم. وفيه: أنّ ردّ الحاكم اليمين فيما إذا امتنع المدّعى عليه من الحلف، وهنا لا يكون المدّعى عليه ممتنعاً فلا وجه للردّ من الحاكم.

عدم ترتّب الأثر على الحلف بغير الله وإن رضي به الخصمان

(4) قد تقدّم أنّ الحلف بغير الله لا يكون صحيحاً، ولا يترتّب عليه الأثر من إسقاطه الحقّ أو إثباته. ولكن هنا يقع البحث في أنّه إذا رضي المدّعي مثلًا بحلف المدّعى عليه بغير الله من المقدّسات الدينية في الإسلام، كما أنّه كان معروفاً أنّ رجلًا حلف بالله عزّ وجلّ فلم يقبل منه الخصم والتمس إحلافه بأبي الفضل العباس (ع) باعتقاده أنّ الحلف به كذباً يوجب استحقاقه العذاب عاجلًا، فهل يصلح الحلف بغير الله أو لا؟

الظاهر عدم الصحّة وإن رضي به الخصم، وذلك لإطلاق الأخبار المتقدّمة، فيكون نظير أن يرضي المدّعي عليه بإقامة شاهد واحد للمدّعي في المحكمة.

كما أنّه لا أثر لضمّ غير الله عزّ وجلّ إليه في الحلف، فإنّه كالحجر جنب الإنسان. وكذا لأثر لضمّ أسمائه الخاصّة إلى لفظ الجلالة مثل قوله: والله، والرحمن، والرحيم وغير ذلك، لكفاية الأوّل بلا إشكال.

ص: 450

مسألة 4: لا إشكال في عدم ترتّب أثر على الحلف بغير الله تعالى، فهل الحلف بغيره محرّم تكليفاً في إثبات أمر أو إبطاله- مثلًا- كما هو المتعارف بين الناس؟ الأقوى عدم الحرمة. نعم، هو مكروه، سيّما إذا صار ذلك سبباً لترك الحلف بالله تعالى، (5)

في حرمة الحلف بغير الله تعالى تكليفاً وعدمها

اشارة

(5) قد تقدّم البحث عن حكم الحلف بغير الله عزّ وجلّ وضعاً، وهو عدم الصحّة وعدم ترتّب الأثر عليه.

إنّما الكلام في حكمه تكليفاً بمعنى أنّه هل هو حرام أو لا؟ ففيه قولان:

قد يقال بالحرمة كما عن المحقّق النراقي في «المستند» قال: «كما لا يصحّ الحلف إلا بالله (سبحانه و تعالى) ولا يترتّب الأثر إلا عليه ولا ينعقد في باب الأيمان إلا به كذلك لا يجوز الحلف إلا به، فيأثم الحالف بغيره من المخلوقات كالأنبياء والأئمّة والملائكة والكتب المعظّمة والكعبة والحرم والمشاهد المشرّفة والآباء والأصدقاء ونحوها، على الأشهر بين الطائفة، بل قيل: إنّه مقتضى الإجماعات المنقولة(1)، وصرّح به جماعة منهم المحقّق الأردبيلي(2) وصاحب «المفاتيح»(3) وشارحه(4)


1- رياض المسائل 119: 13.
2- مجمع الفائدة والبرهان 180: 12.
3- مفاتيح الشرائع 39: 2.
4- الأنوار اللوامع 125: 14.

ص: 451

وبعض مشايخنا المعاصرين»(1). انتهى.

وقال المحقّق في «الشرائع»: «ولا يجوز الإحلاف بغير أسماء الله عزّ وجلّ كالكتب المنزّلة والرسل المعظّمة والأماكن المشرّفة»(2).

واحتمل في كلامه أمران:

1- الحرمة تكليفاً كما استظهرها صاحب «الجواهر» (ره) من العبارة فإنّه قال: «بل ظاهر العبارة وغيرها ترتب الاثم بذلك زيادة على عدم انقطاع الدعوى»(3).

2- عدم الصحّة وضعاً كما استظهره صاحب «المسالك» من العبارة حيث قال: «والمراد بعدم الجواز هنا بالنظر إلى الاعتداد به في إثبات الحقّ»(4).

أمّا جواز الحلف في نفسه بمعنى عدم الإثم به ففيه وجهان: والوجه الثاني: هو الجواز، يعني جواز الحلف بغير الله عزّ وجلّ ممّا تقدّم في إثبات أمر اخبر به، أو إبطاله وهو المشهور. وهو كلام الآشتياني أيضاً حيث قال: «ولكن المشهور هو الجواز وهو الحقّ»(5).

وقال به صاحب «الجواهر» (ره) وتمسّك في القول بالجواز بالسيرة المستمرّة في سائر الأعصار والأمصار، من العلماء والعوامّ من القسم بغير الله عزّ وجلّ في نحو ذلك. وتمسّك أيضاً بالقرآن والنصوص كما سيأتي(6) وقال السيّد (ره)- بعد نقل


1- مستند الشيعة 472: 17.
2- شرائع الإسلام 876: 4.
3- جواهر الكلام 227: 40.
4- مسالك الأفهام 473: 13.
5- كتاب القضاء: 169.
6- راجع: جواهر الكلام 228: 40.

ص: 452

كلام صاحب «الجواهر» واستدلاله-: «قلت: والأقوى عدم الحرمة كما قال لما قال»(1).

وذهب الماتن (ره) أيضاً إلى الجواز وقال: «الأقوى عدم الحرمة».

فقد استدلّوا بروايات:

منها: ما عن الحسين بن زيد، عن الصادق (ع) عن آبائه، عن النبيّ (ص) في حديث المناهي: «إنّه نهى أن يحلف الرجل بغير الله، وقال: من حلف بغير الله فليس من الله في شي ء ... ونهى أن يقول الرجل للرجل: لا وحياتك وحياة فلان»(2).

ومنها: رواية الحلبي عن أبي عبدالله (ع) قال: «لا أرى للرجل أن يحلف إلا بالله»(3).

ومنها: ما رواه العيّاشي في تفسيره عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله عزّ وجلّ: وَمَا يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(4) قال: «من ذلك قول الرجل: لا وحياتك»(5).

ومنها: ما روي عن أبي جعفر شرك طاعة قول الرجل: «لا والله وفلان»(6).

وعن العلاء قال: سألته عن قوله تعالى: فَلا اقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(7) قال:


1- العروة الوثقى 703: 6.
2- وسائل الشيعة 259: 23، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 260: 23، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 4.
4- يوسف( 12): 106.
5- وسائل الشيعة 263: 23، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 11.
6- وسائل الشيعة 263: 23، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 12.
7- الواقعة( 56): 75.

ص: 453

«أعظم إثم من حلف بها»(1).

ومنها: ما روى العيّاشي، عن محمّد بن مسلم «... كلّ يمين بغير الله فهي من خطوات الشيطان»(2).

ومنها: عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن رجل حلف أن ينحر ولده، قال: «هذا من خطوات الشيطان»، وقال: «كلّ يمين بغير الله عزّ وجلّ فهي من خطوات الشيطان»(3).

ومنها ما عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال سألته عن قول تعالى: فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أوْ أشَدَّ ذِكْراً(4) قال: «إنّ أهل الجاهلية كان من قولهم: كلا وأبيك وبلى وأبيك فأمروا أن يقولوا لا والله وبلى والله» انتهى(5).

فدلالتها على الحرمة ظاهرة، وسند بعضها وإن كانت ضعيفة لكنّها منجبرة بعمل الأصحاب.

الاستدلال على جواز الحلف بغير الله

أمّا القائلين بالجواز فقد استدلّوا بوجود القسم بغير الله عزّ وجلّ في كلمات النبيّ والأئمّة، وكذا الحلف بغير الله من كثير من أصحابهم عندهم وبحضرتهم مع عدم النهي عنه. وهو موجود في الروايات.


1- وسائل الشيعة 264: 23، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 15.
2- وسائل الشيعة 234: 23، كتاب الأيمان، الباب 15، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 235: 23، كتاب الأيمان، الباب 15، الحديث 5.
4- البقرة( 2): 200.
5- وسائل الشيعة 235: 23، كتاب الأيمان، الباب 15، الحديث 6.

ص: 454

1- الحلف في أحاديث النبيّ على ما في كتب العامّة:

منها: ما في صحيح مسلم جاء رجل إلى النبيّ فقال يا رسول الله: أيّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: «امّاً وأبيك لتنبأنّه أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمّل البقاء»(1).

ومنها: عنه فلعمري ما أتم الله عزّ وجلّ حجّ من لم يطف بين الصفا والمروة(2).

2- الحلف في كلام أمير المؤمنين حيث قال: «ولعمري ما على من قتال من خالف الحقّ، وخابط الغيّ، من إدهان ولا إيهان، فاتّقوا الله عباد الله، وفِرّوا إلى الله من الله»(3).

وكذا قال (ع) في كتاب له إلى معاوية: «ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرء الناس من دم عثمان»(4).

3- الحلف من كلامهم بمحضرهم مع عدم نهيهم عنه.

ففي خبر أبي جرير القمّي قال: قلت لأبي الحسن (ع): جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلى أبيك ثمّ إليك ثمّ حلفت له، وحقّ رسول الله (ص) وحقّ فلان وفلان حتّى انتهيت إليه أنّه لا يخرج منّي ما تخبرني به إلى أحد من الناس(5).

وعن محمّد بن يزيد الطبري قال: كنت قائماً على رأس الرضا (ع) بخراسان- إلى أن قال- فقال: «بلغني أنّ الناس يقولون: إنّا نزعم أنّ الناس عبيد لنا، لا


1- صحيح مسلم 93: 3- 94.
2- مسند أحمد 231: 2.
3- نهج البلاغة 63: 1، خطبة 24.
4- نهج البلاغة 7: 3.
5- وسائل الشيعة 261: 23، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 6.

ص: 455

وقرابتي من رسول الله (ص) ما قلته قطّ ولا سمعت أحداً من آبائي قاله ولا بلغني من أحد من آبائي قاله: ولكنّي أقول: إنّ الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب»(1).

ولعلّ هذا كان مراد صاحب «الجواهر» (ره) من قوله: «بل يخطر في بالي وجود القسم في النصوص بغير الله تعالى شأنه»(2).

فقد ظهر من هذه الروايات أنّ الحلف بغير الله كان موجوداً في كلماتهم، وكان النبيّ يحلف بغير الله، وكذا أمير المؤمنين وسائر الأئمّه (عليهم السلام) وكذا يحلف بغير الله في حضرتهم وهم لا يمنعون عنه وكذا تمسّك صاحب «الجواهر» (ره)- كما مرّ آنفاً- بالسيرة المستمرّة من زماننا هذا إلى زمن الأئمّه (عليهم السلام) وزمن الرسول (ص) من العلماء والعوامّ فإنّهم يحلفون في مقام إثبات كلامهم أو التأكيد لما أخبر به أو لنفي أمر مثلًا.

وأورد عليه المحقّق الآشتياني بقوله: وفي هذا الاستدلال نظر لا يخفى وجهه، وقال في تعليقته عليه في ذيل الصفحة: والوجه فيه أنّ اعتبار السيرة إنّما هو من حيث كشفها عن تقرير الحجّة بعد ما لم يردع وقد ردع بما قد عرفته من الأخبار، فلا بدّ من نقل الكلام في دلالة تلك الأخبار(3).

الجمع بين الروايات

ويلاحظ عليه أنّ وجود الحلف بغير الله في محضرهم أو حلف النبيّ والعلوي


1- وسائل الشيعة 261: 23- 262، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 7.
2- جواهر الكلام 228: 40.
3- كتاب القضاء: 169، الهامش 2.

ص: 456

وأمّا مثل قوله: «سألتك بالقرآن أو بالنبي (ص) أن تفعل كذا» فلا إشكال في عدم حرمته. (6)

وسائر الأئمّة (عليهم السلام) بغير الله كما تقدّم بعضها في الروايات دليل على صحّة السيرة وحجّيتها، ومن ذلك يكشف عدم كون تلك الروايات في مقام الردع، بل لا بدّ من حملها على الكراهة كما صنعها جمع من المحقّقين (عج) من القدماء والمتأخّرين، فإنّه مقتضى الجمع بين الأخبار كما في سائر المقامات.

ويشهد لهذا الجمع ما في خبر الحلبي من التعليل فإنّه- قال بعد قوله: لا أرى للرجل أن يحلف إلا بالله ...- «ولو حلف الرجل بهذا وأشباهه لترك الحلف بالله»(1) فإنّه شاهد لوجه النهي من الحلف بغير الله.

وكذا يشهد له ما عن النبيّ من طرق العامّة من حلف بغير الله فقد أشرك أو فقد كفر. ومعلوم أنّ الحلف بالنبيّ، أو بأحد من الأئمّة، أو بالقرآن العظيم لا يوجب الشرك، أو الكفر، بل المراد التحذير وترك اليمين بغير الله.

فمن هذه الجهة قال الإمام (ره)- بعد قوله: الأقوى عدم الحرمة-: «نعم هو مكروه، سيّما إذا صار ذلك سبباً لترك الحلف بالله تعالي»(2).

حكم الحلف بجملة «سألتك بالقرآن» أو بالنبي وغيره

(6) وذلك لاستدلال السيّد (ره) حيث قال: «لأنّه ليس حلفاً، بل هو من باب


1- وسائل الشيعة 260: 23، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 4.
2- تحرير الوسيلة: 841، مسألة 4.

ص: 457

الاستشفاع والتوسيط»(1). يعني يتوصّل بحرمة النبيّ أو أمير المؤمنين عنده أن يفعل له ما يستدعيه.

فقد تحصّل ممّا تقدّم: أنّ الحلف الذي يكون مؤثّراً في إسقاط الحقّ بحيث لا يجوز للمدّعي طرح الدعوى مجدّداً أو التقاصّ من مال المدّعى عليه بعد اليمين وإن اعتقد كونه ذا حقّ لما تقدّم من قوله ذهبت اليمين بحقّه، وكذا في إثبات الحقّ لو ردّ اليمين إلى المدّعي فحلف؛ فإنّه إذا حلف يثبت حقّه، وكذا فيما إذا حلف لإلزام نفسه على فعل أمر أو تركه، بحيث لو خالف يلزم عليه الكفّارة هو الحلف بالله عزّ وجلّ؛ أي بذاته المقدّسة وله الأسماء الحسنى، سواء كان بلفظ الجلالة أو غيره، من سائر أسماء المختصّة أو المشتركة المنصرفة إليه (سبحانه و تعالى) ولو بالقرينة، ويشمل ما كان بغير اللغة العربية.

وقلنا أنّ الحلف بغير الله لا يصحّ وضعاً يعني لا يترتّب عليه الأثر أصلًا.

وإنّما الكلام في حرمته تكليفاً بحيث كما لا يترتّب عليه الأثر المطلوب من اليمين كذلك ارتكب محرّماً ويكون آثماً أو لا يكون حراماً، بل كان مكروهاً كما قوّيناها.

في كراهة الحلف بالله عزّ وجلّ واستحباب تركه

ثمّ يقع الكلام في أنّ اليمين بالله عزّ وجلّ مكروه ويستحبّ تركه ولو كان صادقاً، سواء في الدعاوي وفي المحكمة لإثبات براءته ممّا ادّعي عليه، أو في غيرها كما في التأكيد فيما أخبر به من الإقدام بأمر أو عدمه مثلًا، إلا أن يكون


1- العروة الوثقى 703: 6.

ص: 458

ضرورة تقتضي ذلك، أو كان من الامور المهمّة لا بدّ له من الحلف فيها.

وذلك لما ورد في روايات كثيرة فيها الصحيح وغيره المنجبر بالشهرة.

منها: صحيحة على بن مهزيار فقوله: «وإنّي لأكره أن أقول والله على حال من الأحوال ولكنّه غمني أن يقال ما لم يكن»(1) يدلّ على الكراهة مطلقاً إلا عند الاضطرار أو أمر لازم.

ومنها: رواية السكوني عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال رسول الله (ص): من أجل الله أن يحلف به أعطاه الله خيراً ممّا ذهب منه»(2). تدلّ على الترغيب في ترك الحلف بالله إجلالًا له (سبحانه و تعالى) فيستفاد منها استحباب ترك الحلف بالله عزّ وجلّ.

ومنها: موثّقة أبي أيّوب الخزّاز قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين فإنّه (عز و جل) يقول: وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ(3)»(4).

فقوله (سبحانه و تعالى): وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(5) العرضة يقال للمعرض للأمر، مثلًا المتاع عرضة للبيع، يعني يقع معرضاً للبيع، فمعنى الآية: لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتبدلوه بكثرة الحلف به، لأن تكونوا باراً ومتّقياً وتقدّروا على الإصلاح بين الناس، فإنّ من حلف بالله كثيراً في الامور الجزئية وابتلائه لا يعتمد بقوله ولا يعتني به.


1- وسائل الشيعة 197: 23، كتاب الأيمان، الباب 1، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 198: 23، كتاب الأيمان، الباب 1، الحديث 3.
3- البقرة( 2): 224.
4- وسائل الشيعة 198: 23، كتاب الأيمان، الباب 1، الحديث 5.
5- البقرة( 2): 224.

ص: 459

والنهي يحمل على الكراهة، كما أنّ قوله لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فيرفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة في اليمين الصادقة فقط، بما يدلّ على الجواز صريحاً، كما في المستفيضة عن النبيّ (ص): «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان».

ويستفاد من الأخبار أنّه لو ترك الحلف بالله عزّ وجلّ إجلالًا له، فيترتّب عليها أداء الحقّ الذي ادّعي عليه أعطاه الله عزّ وجلّ خيراً ممّا ذهب به.

كما تدلّ عليه خبر السكوني عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال رسول الله (ص): من أجل الله أن يحلف به أعطاه الله خيراً ممّا ذهب منه»(1). كما تقدّم.

وكذا عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع): «أنّ أباه كانت عنده امرأة من الخوارج أظنّه قال: من بني حنيفة، فقال له مولى له: يا بن رسول الله! إنّ عندك امرأة تبرأ من جدّك فقضى لأبي أنّه طلّقها فادّعت عليه صداقها فجاءت به إلى أمير المدينة تستعديه فقال له أمير المدينة: يا علي! إمّا أن تحلف وإمّا أن تعطيها، فقال لي: يا بنىّ! قم فأعطها أربعمائة دينار، فقلت له: يا أبة! جعلت فداك ألست محقّاً؟! قال: بلى يا بنىّ! ولكنّي أجللت الله أن أحلف به يمين صبر»(2).

وكما يستحبّ ترك الحلف بالله عزّ وجلّ، كذلك يستحبّ ترك الإحلاف أيضاً. وذلك لرواية عبدالحميد الطائي عن أبي الحسن الأوّل (ع) قال: «قال النبيّ (ص): من قدم غريماً إلى السلطان يستحلفه وهو يعلم أنّه يحلف ثمّ


1- وسائل الشيعة 198: 23، كتاب الأيمان، الباب 1، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 200: 23، كتاب الأيمان، الباب 2، الحديث 1.

ص: 460

تركه تعظيماً لله (عز و جل) لم يرض الله له بمنزلة يوم القيامة إلا منزلة إبراهيم خليل الرحمن (ع)»(1).

هذا كلّه في الحلف بالله عزّ وجلّ صادقاً.

حكم الحلف بالله كاذباً

أمّا الحلف بالله عزّ وجلّ كاذباً فهو من المحرّمات الشديدة، بل من الكبائر الموبقة ووردت فيها تهديدات شديدة في أخبار عديدة.

منها: ما عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (ع) قال: «قال رسول الله (ص): إيّاكم واليمين الفاجرة فإنّها تدع الديار من أهلها بلاقع»(2).

ومنها: عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال رسول الله (ص): صلة الرحم تزيد في العمر وصدقة السرّ تطفئ غضب الربّ، وأنّ قطيعة الرحم واليمين الكاذبة لتذران الديار بلاقع من أهلها، وتثقلان الرحم، وإن ثقل الرحم انقطاع النسل»(3).

ومنها: عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (ع) قال: «في كتاب عليّ (ع): ثلاث خصال لا يموت صاحبهنّ أبداً حتّى يرى وبالهن: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وإن أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم، وإنّ القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمى أموالهم ويبرون فتزاد أعمارهم، وإنّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم ليذران الديار بلاقع من أهلها وتثقلان


1- وسائل الشيعة 289: 23- 290، كتاب الأيمان، الباب 52، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 204: 23، كتاب الأيمان، الباب 4، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 207: 23، كتاب الأيمان، الباب 4، الحديث 15.

ص: 461

الرحم، وإن ثقل الرحم انقطاع النسل»(1).

وكما قال به النراقي(2) يستحبّ للقاضي وعظ الحالف قبله، ويتذكّر له أنّ الحلف بالله كاذباً كان بمنزلة المبارزة لله (سبحانه و تعالى) وأنّه تدع الديار بلاقع- جمع بلقع وهي الأرض القفر التي لاشي بها- فيريد أنّ الحالف بها يفتقر ويذهب ماله وما في بيته من الرزق وقيل: «هو أن يفرق الله شمله ويقتر عليه ما أولاه من نعمه»(3).

تنبيه: بحّث الإمام (ره) عن استحباب وعظ القاضي قبل الحلف، والاستحلاف في المسألة 14 من هذا المبحث- القول في أحكام الحلف- ولكن نحن نتعرّض المسألة هنا- مسألة 4- بالمناسبة ونترك البحث هناك.

قال الإمام (ره) في مسألة 14: «يستحبّ للقاضي وعظ الحالف قبله، وترغيبه في ترك اليمين إجلالًا لله تعالى ولو كان صادقاً، وأخافه من عذاب الله تعالى إن حلف كاذباً»(4).

وقال المحقّق (ره)(5): ويستحبّ للحاكم تقديم العظة على اليمين والتخويف من عاقبتها.

وقال في «الجواهر» بعد قول المحقّق: «بذكر ما ورد من ذلك له من الترغيب في الترك والتخويف من الفعل، وأنّها إذا وقعت كاذبة تدع الديار بلاقع وأنّه


1- وسائل الشيعة 207: 23، كتاب الأيمان، الباب 4، الحديث 16.
2- راجع: مستند الشيعة 476: 17.
3- النهاية في غريب الحديث والأثر 153: 1.
4- تحرير الوسيلة: 842، مسألة 14.
5- راجع: شرائع الإسلام 876: 4.

ص: 462

مسألة 5: حلف الأخرس بالإشارة المفهمة، ولا بأس بأن تكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد إعلامه، فإن شرب كان حالفاً، وإلا الزم بالحقّ، ولعلّ بعد الإعلام كان ذلك نحو إشارة. والأحوط الجمع بينهما. (7)

مبارز لله تعالى ويخشي عليه انقطاع النسل والفقر عقبة»(1). انتهى.

والدليل عليه ما تقدّم من الروايات.

وكذلك روايتان في باب 5 من الأبواب(2) ما ينبغي التوجّه إليه والتذكّر له دائماً للاجتناب ممّا يتعارف بين الناس من قولهم «الله يعلم» في كلماتهم كثيراً مع قوله لو كان كاذباً يوجب إهزاز العرش إعظاماً له.

الأقوال في حلف الأخرس

(7) في حلف الأخرس أقوال:

أحدها: أنّ حلفه بالإشارة المفهمة كسائر اموره، لأنّ الشارع أقام إشارته مقام الكلام في العقود والإيقاعات والعبادات، فكذلك في باب الدعوى وهو المشهور.

ثانيها: ما عن الشيخ (ره) في «النهاية»(3) وهو الإشارة والإيماء إلى اسم الله


1- جواهر الكلام 229: 40.
2- راجع: وسائل الشيعة 209: 23، كتاب الأيمان، الباب 4، الحديث 1 و: 210، الحديث 3 و 4.
3- النهاية: 347.

ص: 463

عزّوجلّ ويضع يده على اسم الله في المصحف، وإن لم يكن يكتب اسم الله عزّ وجلّ ويضع يده عليه.

فما يظهر من كلامه هو الجمع بين الإشارة ووضع اليد على اسم الله عزّ وجلّ في المصحف أو غيره.

ثالثها: ما عن ابن حمزة في «الوسيلة»(1) وهو أن تكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد إعلامه.

ومستند هذا رواية صحيحة رواها المشايخ الثلاث عن محمّد بن مسلم قال سألت أبا عبدالله (ع) عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين (وأنكره) ولم يكن للمدّعي بيّنة؟ فقال: «إنّ أمير المؤمنين (ع) أتي بأخرس وادّعي عليه دين ولم يكن للمدّعي بيّنة، فقال أمير المؤمنين (ع): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتّى بيّنت للُامّة جميع ما تحتاج إليه، ثمّ قال: ائتوني بمصحف، فاتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السماء، وأشار أنّه كتاب الله (عز و جل)، ثمّ قال: ائتوني بوليّه، فأتي بأخ له فأقعده إلى جنبه، ثمّ قال: يا قنبر على بدواة وصحيفة، فأتاه بهما، ثمّ قال لأخي الأخرس: قل لأخيك: هذا بينك وبينه (إنّه علي)، فتقدم إليه بذلك، ثمّ كتب أمير المؤمنين (ع): والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم الطالب الغالب، الضارّ النافع، المهلك المدرك، الذي يعلم السرّ والعلانية، إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني الأخرس حقّ ولا طلبة بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، ثمّ


1- الوسيلة: 228.

ص: 464

غسله، وأمر الأخرس أن يشربه، فامتنع، فألزمه الدين»(1).

ولمّا كان مفاد هذه الرواية الصحيحة العالية سنداً، أنّ لحلف الأخرس كيفية خاصّة وهذا مخالف لما قاله المشهور من أنّ حلفه بالإشارة، فلذا قد تصدّى لتوجيه الرواية بوجوه:

منها: نقل عن العلامة (ره)(2) أنّها قضية في واقعة ولا يمكن التعدّي عن موردها والسراية إلى غيرها، بأن يستند إليها في باب حلف الأخرس في توجيه الروايات الدالّة على كيفية حلف الأخرس.

ويرد عليه أوّلًا: أنّ الإمام نقل القضية جواباً عمّا سأله محمّد بن مسلم عن كيفية حلف الأخرس فلا جرم يكون كلام الإمام (ع) حكم المسألة، لا أنّه قضية نقلها من دون التعرّض للجواب.

وثانياً: هذا ينافي مع ما في متن الرواية من قول أمير المؤمنين: «الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتّى بيّنت للُامّة جميع ما تحتاج إليه»؛ فإنّه دالّ على أنّ حلفه هكذا.

ومنها: ما عن ابن إدريس في «السرائر»(3) من حملها على أخرسٍ لا إشارة مفهمة له، فلمّا لم يكن له إشارة جعل أمير المؤمنين حلفه بهذه الكيفية.

وفيه: أنّه مناف لما في الرواية أيضاً، لأنّ أمير المؤمنين سئل عن الأخرس بعدالإتيان بالمصحف ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السماء، وأشار أنّه كتاب


1- تهذيب الأحكام 319: 6/ 879؛ الفقيه 112: 3/ 3432؛ وسائل الشيعة 302: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.
2- تحرير الأحكام 167: 5.
3- السرائر 183: 2.

ص: 465

الله (عز و جل) فمعلوم أنّه كان يفهم الإشارة.

ومنها: أنّه من باب التغليظ فإنّه أراد الحلف مع التغليظ فأتي بهذه الكيفية فكتبها وغسلها وأمره بشربه.

ويرد عليه: أنّه مناف لقوله في ذيل الحديث فامتنع فألزمه الدين فإنّ له أن يمتنع عن الحلف مع التغليظ فلا وجه لإلزامه الدين بمجرّد الامتناع.

ومنها: أنّه لا منافاة بين قول المشهور مع الرواية، فإنّ ما في الرواية من طرق الإشارة ومن مصاديقها.

قاله السيّد (ره)(1) مع أنّ الظاهر حصول الإشارة بهذا أيضاً فلا ينافي ما ذكره المشهور.

ويناقش فيه أنّ الكيفية الخاصّة التي صنعها أمير المؤمنين كان في مقابل الإشارة، لا من مصاديقها، فإنّه تكتب اليمين فيشربها، فيكون الشرب هو الحلف ولا ربط له بالإشارة.

ومنها: أنّ الرواية معرض عنها فيسقط عن الاعتبار، فإنّ الرواية مع نقلها في الكتب الروائي وكان في مرءى ومنظر المشهور معذلك لم يفتوا بها.

ولعلّ كلام المحقّق الأردبيلي ناظر إلى ردّه حيث قال: «وإن الذي نجده رجحان ما في الرواية، لصحتّها، وعدم ظهور دليل غيرها ومجرّد كون الإشارة معتبرة في مواضع، لا يوجب كونها كلّية، وعدم جواز العمل بالرواية»(2).

ولذا اختار الأردبيلي التخيير بين الإشارة وبين ما في الرواية وقال: «التخيير


1- العروة الوثقي 704: 6.
2- مجمع الفائدة والبرهان 187: 12.

ص: 466

مسألة 6: لا يشترط في الحلف العربية، بل يكفي بأيّ لغة إذا كان باسم الله أو صفاته المختصّة به. (8)

بينهما أولى من تعيين الإشارة».

واختار في «المستند» قول ابن حمزة باستناد الرواية وقال: «فهذا القول أتقن وأظهر»(1).

أقول: والأولى أن يقال إنّ مقتضى كلام المشهور أنّ المستفاد من مذاق الشرع أنّ إشارة الأخرس بمنزلة كلامه، وقائمة مقام كلامه في جميع الامور من العبادات والعقود والإيقاعات وغيرها، وأمّا الرواية فهي صحيحة أيضاً وقابلة للعمل، فحينئذٍ الأحوط الجمع بينهما. كما قال به صاحب «الجواهر» (ره) قال: «ولكن معذلك كلّه فالأحوط الجمع بينهما مع رضا الأخرس وإلا فالإشارة»(2).

وكذا قال الإمام (ره) في المتن «الأحوط الجمع بينهما» فإنّ في الجمع بينهما عمل بقول المشهور وبما في الرواية، فهو أولى.

في كفاية الحلف بذاته المقدّسة بأيّ لغة كانت

(8) قد تقدّم أنّ المستفاد من الروايات اعتبار كون الحلف بذاته المقدّسة، من غير دخالة لاسم خاصّ ولا شبهة في أنّه إذا حلف بما يدلّ على الذات المقدّسة بأيّ لغة كانت يصدق أنّه حلف بالله عزّ وجلّ، ويشملها قوله في معتبرة محمّد بن


1- مستند الشيعة 482: 17.
2- جواهر الكلام 239: 40.

ص: 467

مسألة 7: لا إشكال في تحقّق الحلف إن اقتصر على اسم الله، كقوله: «والله ليس لفلان على كذا»، ولا يجب التغليظ بالقول، مثل أن يقول: «والله الغالب القاهر المهلك»، ولا بالزمان كيوم الجمعة والعيد، ولا بالمكان كالأمكنة المشرّفة، ولا بالأفعال كالقيام مستقبل القبلة آخذاً المصحف الشريف بيده. والمعروف أنّ التغليظ مستحبّ للحاكم، وله وجه. (9)

مسلم قال: قلت لأبي جعفر (ع): قول الله (عز و جل): وَالّيْلِ إذَا يَغْشَى(1) وَالنّجْمِ إذَا هَوَى(2) وما أشبه ذلك، فقال: «إن لله عزّ وجلّ أن يقسم من خلقه بما شاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به»(3). وكذا قوله في معتبرة سليمان بن خالد «... وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به»(4).

ولا دليل على اعتبار العربيّة، ومع وجود الإطلاق في هذه الروايات فلا مجال للتمسّك بأصالة عدم ترتّب الأثر على الحلف بالله بغير العربية إذا شكّ في ترتّب الأثر عليه.

في استحباب التغليظ للحاكم

(9) لا إشكال في أنّ المدّعى عليه في مقام الحلف إذا حلف بالله عزّ وجلّ من غير زيادة عليه ومن دون تغليظ يكفي ذلك منه. ويصدق أنّه حلف واتي


1- الليل( 92): 1.
2- النجم( 53): 1.
3- وسائل الشيعة 303: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 34، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

ص: 468

بوظيفته ويترتّب عليه جميع الآثار، فإذا قال: والله ليس لفلان على كذا يكفي سقوط الحقّ عنه، ورفع الخصومة لإطلاق الأدلّة ويشمله قوله: واليمين على المدّعى عليه وغيره من الروايات كقوله في صحيحة الخزّاز المتقدّمة «... ومن حلف له بالله فليرض»(1).

نعم، ذكروا أنّه يستحبّ للحاكم التغليظ وهو المعروف بين الأصحاب، بل نفي بعضهم الخلاف فيه.

والتغليظ قد يكون بالقول؛ مثل ما في خبر إحلاف أمير المؤمنين الأخرس كتب «والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، الضارّ النافع، الملك المدرك، الذي يعلم من السرّ ما يعلمه من العلانية».

وقد يكون بالمكان كالمسجد الحرام أو سائر المساجد أو المشاهد المشرّفة وغيرها.

وقد يكون بالزمان كالجمعة والعيد وبعد الزوال وبعد العصر وغيرها.

وقد يكون بالفعل كالقيام مستقبل القبلة وآخذاً المصحف بيده، أو وضع اليد على اسم الله عزّ وجلّ وغيرها.

واستدلّوا لذلك بوجوه:

منها: أنّ التغليظ بذلك أردع له عن الحلف كاذباً لخوفه من العقوبة، وكان أقرب إلى التأثير في مؤاخذته وعقوبته لو تجرّأ وحلف كاذباً وكان أوقع في تعظيم الحلف وتجليل اسم الله عزّ وجلّ.


1- وسائل الشيعة 211: 23، كتاب الأيمان، الباب 6، الحديث 3.

ص: 469

ومنها: ما في صحيحة الأخرس، عن حمّاد، عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين (وأنكره) ولم يكن للمدّعي بيّنة؟ فقال: «إنّ أمير المؤمنين (ع) اتي بأخرس فادّعي عليه دين ولم يكن للمدّعي بيّنة، فقال أمير المؤمنين (ع): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتّى بيّنت للُامّة جميع ما تحتاج إليه، ثمّ قال: ائتوني بمصحف، فاتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السماء، وأشار أنّه كتاب الله عزّ وجلّ، ثمّ قال: ائتوني بوليّه، فاتي بأخ له فأقعده إلى جنبه، ثمّ قال: يا قنبر على بدواة وصحيفة، فأتاه بهما ثمّ قال لأخي الأخرس: قل لأخيك هذا بينك وبينه (إنّه عليّ)، فتقدّم إليه بذلك، ثمّ كتب أمير المؤمنين (ع): والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم الطالب الغالب، الضارّ النافع، المهلك المدرك، الذي يعلم السرّ والعلانية، إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني الأخرس حقّ ولا طلبة بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب، ثمّ غسله، وأمر الأخرس أن يشربه، فامتنع، فألزمه الدين»(1).

ومنها: ما في رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله في باب الدعوى على الميّت من قوله: «... فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو»(2).

ومنها: خبر الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه: «أنّ عليا كان يستحلف والنصارى واليهود في بيعهم وكنائسهم و المجوس في بيوت


1- وسائل الشيعة 302: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 236: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

ص: 470

نيرانهم ويقول: شدّدوا عليهم احتياطاً للمسلمين»(1).

ومنها: ما روى الشهيد عن طرق العامّة(2) أنّ النبيّ (ص) قال له- يعني: ابن صوريا-: «أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون، وأقطعكم البحر، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنّ والسلوى، وأنزل التوراة على موسى، أتجدون في كتابكم الرجم». قال: «ذكرتني بعظيم ولا يسعني أن أكذبك». وساق الحديث(3).

وهذه الوجوه وإن كانت قابلة للخدشة والإيراد، ولكن الظاهر كفاية ذلك في الدلالة على الرجحان والاستحباب.

قال في «المستند»: «وفي الكلّ نظر، لعدم نهوضها لإثبات العموم، وورودها في موارد خاصّة. نعم، لا بأس بالقول به، لاشتهاره بين الأصحاب، بل نفي بعضهم الخلاف فيه. وهذا القدر كاف في مقام الاستحباب»(4).

ولذا قال الإمام (ره): والمعروف أنّ التغليظ مستحبّ للحاكم وله وجه.

والاستحباب مختصّ بالحاكم دون الحالف، لعدم الدليل عليه وعدم القائل به. ولذا قال في «المستند»- بعد ما نقلنا عنه بقوله وهذا القدر كاف في مقام الاستحباب-: «ولذا يخصّ ذلك بالحاكم دون الغريم، لاختصاص فتاويهم به»(5).


1- وسائل الشيعة 298: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 29، الحديث 2.
2- راجع: سنن أبي داود 171: 2.
3- مسالك الأفهام 477: 13.
4- مستند الشيعة 480: 17.
5- مستند الشيعة 480: 17.

ص: 471

فلا يستحبّ للحالف التغليظ، بل يمكن أن يقال باستحباب ترك التغليظ له، لأنّ أصل الحلف بالله عزّ وجلّ مرجوح كما تقدّم، فالتغليظ فيه مرجوح بطريق أولى.

قال في «المسالك»: «أمّا التغليظ فظاهر النصّ والفتوى أنّه من وظائف الحاكم، وأنّ استحبابه مختصّ به، وأمّا الحالف فالتخفيف في جانبه أولى، لأنّ اليمين مطلقاً مرغوب عنها فكلّما خففت كان أولى»(1).

وقال الإمام (ره) أيضاً: «بل لا يبعد أن يكون الأرجح له ترك التغليظ؛ وإن استحبّ للحاكم التغليظ احتياطاً على أموال الناس»(2).

واستبعد السيّد (ره)(3) الجمع بين استحباب التغليظ للحاكم مع كونه مرجوحاً بالنسبة إلى الحالف. قال ويبعد رجحان الأمر للحاكم مع كونه مرجوحاً ومكروهاً عليه.

وفيه: عدم الاستبعاد، فإنّ القاضي وظيفته إحقاق الحقّ والمنع عن تضييع الحقوق، فكلّما كان أردع للإنكار كذباً؛ كان أولى وأرجح. وأمّا الحالف فوظيفته اليمين فكلّما كان أخفّ، كان أولى وأرجح.

وقد يقال: إنّ له موارد مشابهة في الفقه، كاستحباب أن يكون المضيف يسعي في الضيافة ويصرف غاية إمكاناته، ويستحبّ للضيف أن لا يصير موجباً لزحمة المضيف ومشقّته.


1- مسالك الأفهام 477: 13.
2- تحرير الوسيلة: 841، مسألة 8.
3- العروة الوثقى 707: 6.

ص: 472

مسألة 8: لا يجب على الحالف قبول التغليظ، ولا يجوز إجباره عليه، ولو امتنع عنه لم يكن ناكلًا، بل لا يبعد أن يكون الأرجح له ترك التغليظ؛ وإن استحبّ للحاكم التغليظ احتياطاً على أموال الناس، ويستحبّ التغليظ في جميع الحقوق إلا الأموال، فإنّه لايغلّظ فيها بما دون نصاب القطع. (10)

في لزوم إطاعة الحالف الحاكم في التغليظ

اشارة

(10) وقال المحقّق: «لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر ولم يتحقّق بامتناعه النكول»(1).

قال في «الجواهر» بعد كلام المحقّق: «بلا خلاف أجده فيه إلا عند من ستعرف»(2).

مراده بعض العامّة كما سيجي ء.

واستدلّ لذلك بالأصل بعد إطلاق ما دلّ على كون الواجب الحلف بالله من قوله: «من حلف بالله فليصدق ... ومن حلف له بالله فليرض»(3).

ومراده بالأصل هو عدم وجوب القبول وعدم جواز إجباره على التغليظ.

ومراده من الإطلاق هو أنّ قوله: «ومن حلف له بالله فليرض» مطلق من جهة إلزام الحاكم عليه بالتغليظ وعدمه.

وتأمّل في ذلك السيّد (ره) حيث قال: «وهل يجب على الحالف إجابة الحاكم


1- شرائع الإسلام 877: 4.
2- جواهر الكلام 234: 40.
3- وسائل الشيعة 211: 23، كتاب الأيمان، الباب 6، الحديث 3.

ص: 473

إلى التغليظ أو لا؟ المشهور عدم الوجوب، وعدم إجباره عليه وأنّه لا يتحقّق النكول بامتناعه منه، ولكنّه محلّ تأمّل»(1).

والحقّ أنّ للتأمّل وجه؛ فإنّ الحاكم إذا رأى المصلحة في التغليظ وأنّه كان أردع للحالف فأمره بإتيان الحلف مغلظة بالقول، أو بالفعل، أو بالزمان، أو بالمكان فيجب عليه الإطاعة لأنّ للحاكم الولاية عليه في القضاء ولو امتنع كان له إجباره، ولو أصرّ على الامتناع يحكم عليه بمقتضى النكول.

وبذلك يخرج عن الأصل، بعد عدم ثبوت الإطلاق في الأدلّة من هذه الجهة ولا تكون في مقام البيان من جهة أمر الحاكم بالتغليظ وعدمه بلا إشكال.

ونقل في «الجواهر»(2) عن بعض العامّة(3) ذلك وقال: «خلافاً لبعض العامّة من وجوب الإجابة عليه وتحقّق النكول بالامتناع لو طلبه الحاكم منه، وذكر في بيان الوجه له أنّه مضافاً إلى استمراره السيرة على توجيه اليمين مغلظة على المنكر مثلًا؛ مع عدم إجباره بعدم وجوبه عليه وإجراء حكم النكول عليه مع احتمال كونه لتغليظه لا لأصله.

وكلام بعض العامّة صحيح و الوجه فيه عدم جواز مخالفة الحاكم فيما إذا أمره باليمين المغلظة، والسيرة أيضاً شاهدة له. ويشهد لذلك أيضاً تخصيص بعض آخر منهم وجوب الإجابة وتحقّق النكول بالامتناع، بالتغليظ المكاني والزماني دون القولي فإنّ تركه في القولي لا يعد مخالفة للحاكم؛ فإنّ التغليظ


1- العروة الوثقى 706: 6.
2- جواهر الكلام 234: 40.
3- حاشية الدسوقي 228: 4.

ص: 474

من جنس المأتيّ به بخلاف الآخرين؛ فإنّ امتناعه عن التغليظ فيهما يعد مخالفة لأمر الحاكم.

وكلام بعض العامّة دقيق عميق، فإنّ علمائهم كانوا داخلين في الحكومة وبيدهم القضاء والامور الإجرائية، فكان نظرياتهم أصوب للواقع والتحقّق في الخارج.

ووافقهم صاحب «كشف اللثام» في التفصيل الأخير بين التغليظ القولي والأخيرين، فلم يجوز الجبر في التغليظ القولي. قال: «أمّا بالزمان والمكان فيجبر عليهما»(1).

حكم التغليظ في الحلف في الأموال

قال في «الشرايع»: «ويستحبّ التغليظ في الحقوق كلّها وإن قلت عدا المال فإنّه لا يغلظ فيه، بمادون نصاب القطع»(2).

وقال في «المسالك»: «هذا التفصيل هو المشهور بين الأصحاب، وذكروا أنّه مرويّ، وما وقفت على مستنده»(3).

لعلّ مرادهم من الرواية ما عن حريز- أو عمّن رواه عن حريز- عن محمّد بن مسلم وزرارة عنهما جميعاً قالا: «لايحلف أحد عند قبر النبيّ على أقلّ ممّا يجب فيه القطع»(4). وهي صحيحة لو كان عن حريز. وأمّا لو كان


1- كشف اللثام 116: 10.
2- شرائع الإسلام 876: 4.
3- مسالك الأفهام 478: 13.
4- وسائل الشيعة 298: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 29، الحديث 1.

ص: 475

مسألة 9: لا يجوز التوكيل في الحلف ولا النيابة فيه، فلو وكّل غيره وحلف عنه بوكالته أو نيابته لم يترتّب عليه أثر، ولا يفصل به خصومة. (11)

عمّن رواه عن حريز فهي مرسلة.

والاستدلال بها متوقّفة على إلغاء الخصوصية فيهما من جهتين:

الجهة الاولى: من قوله عند قبر النبيّ (ص) إلى مطلق التغليظ المكاني.

الجهة الثانية: ومنه إلى مطلق التغليظ.

فيقال: إنّ التغليظ في الحقوق المالي أقلّ من النصاب في قطع اليد، وهو ربع الدينار غير مشروع، وهو كما ترى، فإنّ استفادة هذا الحكم الكلّي من الرواية مشكل.

ولكن لما لم يكن دليل واضح لأصل الاستحباب، بل كان استحباب التغليظ للحاكم معروفاً بين الأصحاب ومشتهراً عندهم، وهذا الاشتهار في الأقلّ ممّا يجب فيه القطع غير ثابت فالاستثناء صحيح والاستحباب فيه أيضاً غير ثابت.

عدم جواز التوكيل والنيابة في الحلف

(11) الظاهر من قوله: «واليمين على المدّعى عليه» وسائر أدلّة الاستحلاف، هو المباشرة، يعني أنّ اليمين وظيفة للمدّعى عليه ولا بدّ أن يأتي بها بنفسه حتّى يترتّب عليها الأثر. وجواز الوكالة والنيابة فيها يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه، فلو وكّل غيره وحلف عنه بوكالته أو نيابته لم يترتّب عليه أثر ولا يفصل به الخصومة.

ص: 476

مسألة 10: لا بدّ وأن يكون الحلف في مجلس القضاء، وليس للحاكم الاستنابة فيه إلا لعذر كمرض أو حيض والمجلس في المسجد، أو كون المرأة مخدّرة حضورها في المجلس نقص عليها، أو غير ذلك، فيجوز الاستنابة. بل الظاهر عدم جواز الاستنابة في مجلس القضاء وبحضور الحاكم، فما يترتّب عليه الأثر- في غير مورد العذر- أن يكون الحلف بأمر الحاكم واستحلافه. (12)

فيما يستدلّ به على عدم جواز الاستنابة للحاكم في الاستحلاف

(12) وقال المحقّق: «ولا يستحلف الحاكم أحداً، إلا في مجلس قضائه، إلا مع العذر كالمرض المانع وشبهه، فحينئذٍ يستنيب للحاكم أن يحلّفه في منزله»(1).

وقال السيّد (ره) في ملحقات «العروة»: «المشهور المدّعى عليه الإجماع أنّه يجب أن يكون الحلف في مجلس القضاء، وأنّه لا يجوز للحاكم الاستنابة فيه إلا لعذر من مرض مانع»(2).

لا إشكال في أنّه ليس المراد من كلماتهم- قدس الله أسرارهم- اعتبار وحدة مجلس الحكم والإحلاف، بحيث لو أحلفه اليوم في المحكمة أو في يوم آخر، أو أحلفه في المسجد أو مكان شريف غيره لرعاية التغليظ، ثمّ حكم في المحكمة كان غير صحيح وغير مؤثّر، بل مرادهم لزوم إتيان المدّعى عليه في


1- شرائع الإسلام 877: 4.
2- العروة الوثقى 707: 6.

ص: 477

المحكمة ومجلس القضاء للحلف، حتّى لا يحتاج الحاكم إلى الاستنابة، فإنّ الاستنابة للحاكم بأنّ يستنيب أحداً لإحلاف المدّعى عليه خارج المحكمة غير جائز إلا إذا كان معذوراً عن الحضور في المحكمة لعذر شرعي أو عرفي.

وكذا لا يجوز الاستنابةفي مجلس القضاء وحضور الحاكم، بأن يستنيب أحداً كان عارفاً بموازين القضاء أن يحلف المدّعى عليه.

واستدلّوا لذلك:

1- بالأصل: يعني أنّ الأصل عدم ترتّب الأثر على اليمين، الذي اتي بها باستحلاف غير الحاكم نيابة عن الحاكم.

2- بالتبادر: يعني أنّ المتبادر من أدلّة موازين القضاء، وهو أنّ الاستحلاف كان وظيفة للقاضي، كما أنّ أصل القضاء كذلك، فلا يجوز الاستنابة فيه كما لا يجوز في أصل القضاء وباستظهار المباشرة من قوله تعالى جواباً لما شكى به نبيّ من الأنبياء من القضاء بما لم تر العين، ولم تسمع الاذن: «إقض بينهم بالبيّنات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به»؛ فإنّ الظاهر منه مباشرته في ذلك بنفسه فلا تصحّ الاستنابة فيه.

وأورد السيّد (ره)(1) على الأصل بأنّه مقطوع بالإطلاقات، وعلى دعوى التبادر. ودعوى استظهار المباشرة بأنّهما ممنوعتان، ثمّ قال: ومن هنا ذهب بعضهم إلى عدم الاشتراط، أي عدم اشتراط المباشرة، بل جوّزوا الاستنابة للحاكم.

مضافاً إلى أنّ الاستحلاف ليس مثل أصل القضاء، فإنّه من مقدّمات القضاء، مثل إحضار الشهود واستماع شهادتهم، وكسب نظر الخبراء في المورد، وغيره


1- العروة الوثقى 708: 6.

ص: 478

مسألة 11: يجب أن يكون الحلف على البتّ؛ سواء كان في فعل نفسه أو فعل غيره، وسواء كان في نفي أو إثبات، فمع علمه بالواقعة يجوز الحلف، ومع عدم علمه لا يجوز إلا على عدم العلم. (13)

ممّا لا يلزم تصدّيها للحاكم مباشرة، بل يجوز الاستنابة فيها كما هو المتعارف.

في وجوب كون الحالف على علم وجزم

اشارة

(13) إنّ المسألة ذات صور:

الصورة الاولى: الحلف في فعل نفس الحالف إثباتاً.

الصورة الثانية: الحلف في فعل نفس الحالف نفياً.

الصورة الثالثة: الحلف في فعل غير الحالف إثباتاً.

الصورة الرابعة: الحلف في فعل غير الحالف نفياً.

قد وقع البحث في هذه المسألة في كيفية الحلف وأنّه لا بدّ أن يكون الحالف على علم وعلى البتّ، فنقول:

لا إشكال في أنّ الأصل في اليمين أن يكون متوجّهاً إلى المدّعى عليه، وذلك لدلالة الأخبار المستفيضة عليه والإجماع بقسميه عليه أيضاً. نعم، قد يخرج عن الأصل المذكور وبتوجّه اليمين إلى المدّعي لدلالة دليل على المورد مثل ما إذا ردّ المدّعى عليه اليمين إلى المدّعي فله أن يحلف ويثبت حقّه كما تقدّم، لدلالة الأخبار عليه، وكذا إذا نكل المنكر عن اليمين، وعن الردّ فردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي، أو كانت الدعوى على الميّت فيلزم على المدّعي مع إقامة البيّنة اليمين

ص: 479

استظهاراً، أو كان له شاهد واحد في الدعاوي المالية، فله أن ينضمّ إليه اليمين فيثبت حقّه بالشاهد الواحد مع اليمين، وكذا غيرها من الموارد التي دلّ الدليل على ذلك. ولا فرق في الحكم بوجوب كون الحلف على العلم والبتّ، بين أن يكون الحالف هو المدّعي نفسه، وبين أن يكون المدّعى عليه فيجب على الحالف أن يحلف على علم وجزم بما يحلف عليه.

والدليل على ذلك:

1- الاتّفاق والإجماع من الأصحاب، فإنّه لا خلاف بينهم في ذلك.

2- وكذا يستدلّ بصحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) قال: «لا يحلف الرجل إلا على علمه»(1).

3- وقد يستدلّ أيضاً بصحيحة محمّد بن مسلم في قضية الأخرس فإنّ أمير المؤمنين كتب بعد ذكر الجلالة مع التغليظ: «إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني الأخرس حقّ ولا طلبة بوجه من الوجوه»(2).

4- وكذا يستدلّ بخبر البصري في الدعوى على الميّت بقوله: «فعلى المدّعي اليمين بالله ... لقد مات فلان وإنّ حقّه لعليه»(3). وفي هذه الرواية يكون الحالف المدّعي.

5- وكذا يستدلّ بخبر ابن أبي يعفور بقوله: «فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي»(4).


1- وسائل الشيعة 246: 23، كتاب الأيمان، الباب 22، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 302: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 237: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 244: 27- 245، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

ص: 480

في وجوب كون الحلف على البتّ في جميع الصور من غير استثناء

والحالف قد يحلف على فعل نفسه إثباتاً أو نفياً، وقد يحلف على فعل غيره إثباتاً أو نفياً فعلى الأوّل- الحلف على فعل نفسه- فلا بدّ أن يحلف على البتّ والقطع، لأنّه علم بفعل نفسه أو عدمه، فإذا كان عالماً يحلف على علم.

وعلى الثاني- الحلف على فعل غيره- لو كان الحلف على فعل الغير إثباتاً، فيحلف أيضاً على علم وبتّ، فإنّ الاطّلاع على فعل الغير إثباتاً ممكن بالمشاهدة وغيرها، وأمّا إذا كان الحلف على نفي فعل الغير قالوا: إنّه يحلف على عدم العلم فإنّه لا يطّلع على جميع أفعال الغير حتّى يحلف على نفيه جزماً.

وفي «المسالك» قرّر المسألة بتقريرين ثمّ قال: «وقد يختصر ويقال: اليمين على البتّ أبداً، إلا إذا حلف على نفي فعل الغير»(1).

مثال ذلك:

1- لو ادّعى رجل على أحد ديناً بعنوان القرض مثلًا، فأنكره المدّعى عليه وحلف على نفي الاستقراض منه، ولو ردّ الحلف على المدّعي فحلف على إثبات الفرض، فهناك يكون الحالف على علم وجزم على فعل نفسه نفياً كما في الأوّل وإثباتاً كما في الثاني.

2- ولو ادّعى رجل على آخر بغصب ماله أو سرقته وأنكره الآخر ولم يحلف، بل ردّ اليمين على المدّعي فإنّه يحلف جزماً وعلى بتّ بغصب المال أو سرقته منه، فهذا حلف على فعل الغير إثباتاً ويكون على علم وبتّ.


1- مسالك الأفهام 485: 13.

ص: 481

أمّا الصورة الاخرى، وهي الحلف على نفي فعل الغير، مثل أن يدّعي رجل على مورّث أحد بدين، فقال: الوارث إنّي لا أعلم.

فقالوا: إنّه لا يمكن له الحلف على بتّ على عدم كون موّرثه مديوناً فإنّه من الممكن أن لا يطّلع عليه وكان مديوناً واقعاً، فحينئذٍ له الحلف على عدم العلم.

ويرد عليه: أنّ فعل الغير قد يكون مقيّداً بقيود زماني أو مكاني أو غيره، بحيث لو فعله كان يطّلع عليه الآخر قطعاً، فإذا ادّعي عليه المورّث في المثال أمكن أن يحلف الوارث على نفيه عن مورّثه على بتّ وجزم، فحينئذٍ في هذه الصورة أيضاً لو كان عالماً بنفي الفعل عن الآخر يحلف عن جزم وبتّ على عدم تحقّق الفعل من الآخر، لا الحلف على عدم العلم، فإنّ الحلف على عدم العلم مؤثّر فيما إذا ادّعى على الوارث العلم بكون مورّثه مديوناً، ويسقط به الدعوى ويكون الحلف أيضاً على بتّ وعلم. أمّا فيما لم يدّع عليه العلم، فالحلف على عدم العلم بالنسبة إلى الواقع لا أثر له أصلًا.

فالحقّ أنّ في جميع الصور الأربعة لا بدّ أن يكون الحلف على البتّ من غير استثناء.

قال العلامه (ره): «والضابط أنّ اليمين على علم دائماً»(1).

وقال السيّد (ره): «قالوا: يجب الحلف على البتّ في فعل نفسه نفياً وإثباتاً، وفي فعل غيره إثباتاً. وأمّا في نفي فعل غيره فيحلف على عدم العلم، والأقوى عدم الفرق بين فعل نفسه وغيره فمع علمه بالحال يحلف على البتّ ولو في نفي فعل


1- قواعد الأحكام 447: 3.

ص: 482

مسألة 12: لا يجوز الحلف على مال الغير أو حقّه- إثباتاً أو إسقاطاً- إذا كان أجنبيّاً عن الدعوى، كما لو حلف زيد على براءة عمرو. وفي مثل الوليّ الإجباري أو القيّم على الصغير أو المتولّي للوقف تردّد، والأشبه عدم الجواز. (14)

غيره، وإن لم يكن عالماً وادّعى المدّعى عليه العلم حلف على نفيه»(1).

وكلام الماتن (ره) أيضاً كذلك وهو الحقّ كما قلنا.

أقول: ويرد على ما قالوا من الضابطة إشكال آخر، وهو أنّ الحلف على فعل نفسه أو نفي فعل نفسه لا يكون على الجزم وعلى البتّ دائماً، فإنّه من الممكن أن يفعل عملًا ثمّ نسيه أو لم يفعل ونسي وتخيّل الفعل فإذا ادّعى عليه يقول: لا أعلم.

مثلًا إذا ادّعى عليه أنّه باعه شيئاً وهو نسيه فلا يمكن له الحلف على نفيه جزماً، وإن كان فعل نفسه، بل يقول: لا أعلم فتكون الضابطة أنّه إذا ادّعى عليه أمر، فلو تذكّر حلف على البتّ وإلا حلف على نفي العلم ولو كان فعل نفسه إثباتاً أو نفياً.

عدم جواز الحلف على مال الغير إلا في الوليّ والمتولّي للوقف

(14) لا إشكال في أنّ الحلف على إثبات مال الغير أو حقّه أو على نفيه وإسقاطه فيما إذا كان الحالف أجنبيّاً عن الدعوى وغير مرتبط بها،


1- العروة الوثقى 708: 6، مسألة 11.

ص: 483

لايصحّ ولا يترتّب عليه آثار الحلف.

قال السيّد (ره): «بل يرسلونه إرسال المسلّمات»(1).

والدليل على ذلك ثلاثة- أو أربعة-:

الأوّل: الإجماع.

الثاني: الأصل، يعني أنّ الأصل عدم ترتّب الأثر على هذا اليمين من ذهاب حقّ المدّعي، وسقوط دعواه وعدم جواز التقاصّ وغيره.

الثالث: ظهور الروايات في اعتبار كون الحلف على مال نفسه.

الرابع: وأضاف إلى ذلك في «المستند»(2) أمراً رابعاً، وهو أنّ الحلف ثابت فيما إذا نكل عنه يثبت الحقّ عليه أو إذا أقرّ بالحقّ ثبت على عهدته، ولا يتحقّق شي ء منهما في حقّ الغير إذا كان الحالف أجنبيّاً عنه.

أقول: هذا الاستدلال- الرابع-؛ فيما إذا كان الحالف أجنبيّاً عن الدعوى والمال وغير مرتبط بها صحيح تامّ. أمّا فيما لو فرضنا كونه وليّاً قهريّاً للمالك الصغير كالأب مثلًا، أو قيّماً منصوباً من طرف أبيه بحيث يتصرّفان في المال كتصرّف الملاك وكان المال في اختيارهما وبيدهما. وكذلك متولّي الوقف؛ فالظاهر صدق كونهم طرفاً للدعوى عرفاً ويصدق عليهم المنكر فيشملهم إطلاق قوله: «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات والأيمان» وكذا قوله: «واليمين على المنكر».

ففي هذه الموارد لا تكون الاستدلالات تامّة للُامور التالية.


1- العروة الوثقى 709: 6، مسألة 14.
2- راجع: مستند الشيعة 491: 17.

ص: 484

مسألة 13: تثبت اليمين في الدعاوي الماليّة وغيرها كالنكاح والطلاق والقتل، ولا تثبت في الحدود فإنّها لا تثبت إلا بالإقرار أو البيّنة بالشرائط المقرّرة في محلّها، (15)

1- فإنّ الإجماع في الموارد الثلاث غير محقّق.

2- والأصل مقطوع بالإطلاقات الماضية.

3- وظهور الروايات أيضاً ممنوع.

4- واختصاص الحلف بما ذكره في «المستند»(1) لا شاهد له.

ولذا قال الإمام (ره): «وفي مثل الوليّ الإجباري أو القيّم على الصغير أو المتولّي للوقف تردّد»(2) ولكنه خرج عن الترديد حيث قال (ره) «والأشبه عدم الجواز» وذلك لترجيحه استدلال المشهور. ولكنّ الأقوى صحّة الحلف منهم- الولي الإجباري أو القيم على الصغير أو المتولّي للوقف- لصدق المنكر عليهم عرفاً وهم طرف الدعوى في المحكمة بلا إشكال.

في عدم توجّه اليمين في الحدود

اشارة

(15) لا إشكال في ثبوت القسم في جميع الدعاوي، مالية كانت أو غيرها كالنكاح والطلاق والقتل وغيرها، ولكن يستثني من ذلك الحدود فإنّه لا يثبت فيها اليمين، بل كانت طريق إثباتها البيّنة أو الإقرار بلا إشكال.


1- مستند الشيعة 491: 17.
2- تحرير الوسيلة: 842، مسألة 12.

ص: 485

قال المحقّق (ره): «لا تسمع الدعوى في الحدود، مجرّدة عن البيّنة ولا يتوجّه اليمين على المنكر»(1).

فقد تعرّض للمسألة من جهتين:

الجهة الاولى: عدم سماع الدعوى في الحدود من دون أن يكون للمدّعي البيّنة وذلك لما تقدّم في شرائط سماع الدعوى أنّه لا بدّ أن يكون الدعوى مرتبطة به، ولا يكون أجنبيّاً عنها، كما إذا كان مالكاً أو ذا حقّ أو كان وكيلًا أو وليّاً أو قيّماً أو متولّياً وأمثالها، وفي الحدود لا يكون كذلك، فإنّها حقّ الله عزّ وجلّ وهو مستحقّها، ولا يكون المدّعي مستحقّاً لها ولا يكون مرتبط بها، فلا يسمع دعواه فيها مجرّدة عن البيّنة.

والمستحقّ وهو الله عزّ وجلّ لم يأذن في الدعوى ولم يطلب الإثبات، بل الظاهر هو أمره بخلاف ذلك لأمره بدرء الحدود بالشبهات كما في حديث محمّد بن علي بن الحسين، قال: «قال رسول الله (ص): ادرؤوا الحدود بالشبهات، ولا شفاعة، ولا كفالة، ولا يمين في حدّ»(2).

وكذا أمره بالتوبة من موجبها من غير أن يظهره للحاكم كما نقل عن أمير المؤمنين (ع) في حديث: «الزاني الذي أقرّ أربع مرّات أنّه قال لقنبر: احتفظ به ثمّ غضب وقال: ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملأ أفلا تاب في بيته فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ»(3).


1- شرائع الإسلام 879: 4.
2- وسائل الشيعة 47: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 36: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 16، الحديث 2.

ص: 486

وفي رواية أتى النبيّ (ص) رجل فقال إنّي زنيت- إلى أن قال-: فقال رسول الله: «لو استتر ثمّ تاب كان خيراً له»(1).

وفي رواية أتى رجل أمير المؤمنين فقال يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني- إلى أن قال- فقال: «وما دعاك إلى ما قلت: قال: طلب الطهارة قال: وأيّ طهارة أفضل من التوبة»(2).

بل نقل في «المسالك»(3): عن طرق العامّة(4)؛ أنّه وقد قال (ص) لمن حمل رجلًا على الإقرار عنده بالزنا «هلا سترته بثوبك».

والمراد من سماع الدعوى في الحدود مع البيّنة أنّ الحدود تثبت بالبيّنة من غير دخالة في الدعوى فيها، بل ولو لم يكن مدّعي أصلًا وأقامت البيّنة تبرّعاً.

الجهة الثانيه: أنّه لا تتوجّه اليمين في الحدود على المنكر وذلك لما دلّ عليه من الروايات:

منها: مرسلة صدوق (ره) قال: «قال رسول الله (ص): ادرؤوا الحدود بالشبهات ولا شفاعة ولا كفالة ولا يمين في حدّ»(5).

ومنها: رواية غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام): «لا يستحلف صاحب الحدّ»(6) المراد منه من يجب إجراء الحدّ عليه.


1- وسائل الشيعة 37: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 16، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 38: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 16، الحديث 6.
3- مسالك الأفهام 497: 13.
4- مسند أحمد 217: 5؛ سنن أبي داود 333: 2/ 4377؛ السنن الكبرى 331: 8.
5- وسائل الشيعة 47: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 4.
6- وسائل الشيعة 46: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 2.

ص: 487

ومنها: ما عن أبي عبدالله (ع) قال: «أتى رجل أمير المؤمنين برجل فقال: هذا قذفني ولم تكن له بيّنة فقال: يا أمير المؤمنين استحلفه فقال: لا يمين في حدّ ولا قصاص في عظم»(1).

ومنها: نظير ذلك قال: «فأحلفه لي قال عليّ (ع): ما عليه يمين»(2).

والحاصل أنّ الدعوى في الحدود غير مسموعة، ولا تتوجّه اليمين فيها إلى المنكر.

وقال في «الجواهر»(3) بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد ومرسلة الصدوق (ره)(4) مورداً للاعتماد لانتسابه إلى النبيّ بقوله: «قال: قال رسول الله ...».

ورواية غياث بن إبراهيم(5) منجبر بعمل الأصحاب كما قاله في «الجواهر»(6) وكذا رواية الثالثة وهي مرسلة محمّد بن أبي نصر(7) قال في «الجواهر»(8) في المرسل الذي كالصحيح بابن أبي عمير على نقل «التهذيب»(9) والبزنطي على نقل «الكافي»(10) من أصحاب الإجماع أيضاً. وسهل بن زياد من شيوخ الإجازة ولذا


1- وسائل الشيعة 46: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 46: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 3.
3- جواهر الكلام 257: 40.
4- راجع: وسائل الشيعة 47: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 4.
5- راجع: وسائل الشيعة 46: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 2.
6- جواهر الكلام 258: 40.
7- راجع: وسائل الشيعة 46: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 1.
8- جواهر الكلام 258: 40.
9- راجع: تهذيب الأحكام 79: 10/ 310.
10- راجع: الكافي 255: 7.

ص: 488

قالوا: والأمر في سهل، سهل.

لا بدّ هنا من التنبيه على امور:

التنبيه الأوّل: في تعميم عدم ثبوت اليمين في الحدّ للتعزير

أنّ المراد من الحدود في قولهم لا تسمع الدعوى في الحدود، أو قولهم لا تثبت اليمين في الحدود أعمّ من التعزير فإنّ الحدّ في الروايات، وكذا في كلمات بعض الفقهاء قد يطلق ويراد منه الأعمّ. وإليك الآن أمثلة من الروايات:

1- صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج، عن أبي إبراهيم في قول الله (عز و جل): يُحْيِى الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قال: «ليس يحييها بالقطر ولكن يبعث الله رجالًا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل ولإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً»(1).

2- وكذا في رواية ابن رباط عن أبي عبدالله قال: قال رسول الله (ص): «إنّ الله (عز و جل) جعل لكلّ شي ء حدّاً وجعل على من تعدّى حدّاً من حدود الله (عز و جل) حدّاً»(2).

3- وكذا رواية سماعة، قال سألته عن شهود زور فقال: «يجلدون حدّاً ليس له وقت و ذلك إلى الإمام ...»(3).

بناءً على ذلك فقوله (ص): «ادرؤوا الحدود بالشبهات». وكذا قوله: «لا يمين في حدّ»، وسائر الأحكام المترتّبة على الحدود مثل عفو الإمام عن الحدّ


1- وسائل الشيعة 12: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 1، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 15: 28، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 2، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 376: 28، كتاب الحدود، أبواب بقية الحدود، الباب 11، الحديث 1.

ص: 489

إذا ثبت بالإقرار مثلًا، يشمل التعزيرات أيضاً.

ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بعدم إطلاق الحدّ على التعزير في هذه الروايات يمكن أيضاً ترتّب هذه الأحكام على التعزيرات بالأوّلوية، فإنّه إذا إدرء الحدّ بالشبهة ففي التعزير بطريق أولى، أو إذا قلنا بأنّه لا يمين في الحدّ، بل المنكر يخلي سبيله من غير يمين لو لم يقم عليه البيّنة ففي التعزير بطريق أولى أيضاً.

التنبيه الثاني: سماع الدعوى من المحتسبين في حقوق الله عزّ وجلّ

أنّه لا بدّ للحاكم الإسلامي وسلطان العادل في الحكومة الإسلامية من نصب أفراد لإصلاح المجتمع وتطهيره وتزكية الامّة من الفساد والغيّ والانحرافات الأخلاقي كما أنّ الرسول كان له عيون في المجتمع ليخبره ما يجري بين الامّة حتّى يجنبهم عن الفساد. وكذا أمير المؤمنين (ع) كان له عيون وكان أيضاً بنفسه يمشي في الأسواق ويمنع أهل السوق من الإجحاف والغلاء والاحتكاروالغشّ، وحتّي يجلد المتخلّفون في السوق. ويعبّر عن هذا الأفراد المنصوبين لذلك، «المحتسب» وباب الحسبة معروف في الكتب العامّة يبحث فيه عن وظائف المحتسبين. وكان من وظائفهم ردع المفسدين والمتجاوزين عن الفساد والتجاوز وإيجاد الفضاء الأمن للناس من أموالهم ونفوسهم وأعراضهم.

فلو رأى أحد منهم شخصاً مرتكباً للزنا أو شرب الخمر فكانت وظيفته اطّلاع الحاكم وطرح الدعوى عليه وكان للحاكم سماع تلك الدعوى وترتيب الأثر عليه بلا إشكال.

ص: 490

فإذا شهد عليه الشهود، أو أمكن أخذا الإقرار منه بحيل شرعية. كما نقل عن أمير المؤمنين ذلك فيحكم عليه. وإلا فلا يمين عليه، بل يخلي سبيله من غير يمين.

ا قاله المحقّق (ره)(1) من عدم سماع الدعوى مجرّدة عن البيّنة في الحدود راجع إلى الدعوى من أشخاص عادي وأفراد غير مسؤول، فإنّ الحدود من حقوق الله عزّ وجلّ وهذه الأفراد أجنبيّ عن الدعوى، فلا تسمع دعواهم في ذلك. أمّا المحتسب ومن كانت وظيفته حفظ النظام وإصلاح الامّة وفي الحقيقة كانوا من امناء الله وعيون الحكّام، فطرح الدعوى منهم حقّ ومسموع ويترتّب عليه الأثر ولكن لا يمين على المنكر على أيّ حال.

التنبيه الثالث: في سماع الدعوى في حقوق الله من الزوج

كما أنّ للإنسان أن يحفظ نفسه وماله وجاز له الدفاع عنهما كذلك له حفظ عرضه وناموسه ويجب عليه الدفاع عنها، فلو رأى إنساناً متجاوزاً يريد التعدّي إلى عياليه فيدفع عنها ولو بقتله. وكذلك له طرح الدعوى عليه عند الحاكم بالتجاوز والزنا مثلًا ويسمع دعواه، فكان الجناية على زوجته جناية عليه ولا يكون أجنبيّاً عن الدعوى، فكون الزنا من حقوق الله عزّ وجلّ لا يمنع الزوج عن إقامة الدعوى على الزاني في المحاكم، فلا بدّ من استثنائه عن عدم سماع الدعوى أيضاً.


1- شرائع الإسلام 879: 4.

ص: 491

ولا فرق في عدم ثبوت الحلف بين أن يكون المورد من حقّ الله محضاً كالزنا، أو مشتركاً بينه وبين حقّ الناس كالقذف، فإذا ادّعى عليه أنّه قذفه بالزنا فأنكر لم يتوجّه عليه يمين، ولو حلف المدّعي لم يثبت عليه حدّ القذف. نعم، لو كانت الدعوى مركّبة من حقّ الله وحقّ الناس كالسرقة فبالنسبة إلى حقّ الناس تثبت اليمين، دون القطع الذي هو حقّ الله تعالى. (16)

ترجيح حقّ الله على حقّ الناس في الحقّ المشترك

(16) أنّ الحقوق التي تكون لله (سبحانه و تعالى) على أقسام قد تكون لله محضاً كالزنا وشرب الخمر، فإنّه (سبحانه و تعالى) حرّمهما بقوله: وَلا تَقْرَبُواْ الزّنَي(1) أو إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ(2) فإذا ارتكب شخص الزنا أو شرب الخمر فقد تعرّض لما حرّمه (سبحانه و تعالى) محضاً فقد قلنا: إنّه لا تسمع الدعوى فيه ولا يثبت اليمين، وقد تكون مشتركاً بينه (سبحانه و تعالى) وبين الناس مثل القذف، فإنّ القاذف كما أنّه ارتكب لما حرّمه الله عزّ وجلّ فقد تعرّض لهتك عرض شخص آخر واتّهمه بالزنا مثلًا، فهل هذا الحقّ أيضاً يكون مثل حقّ الله المحض في عدم سماع الدعوى فيه مجرّدة عن البيّنة وعدم ثبوت اليمين فيه على المنكر أو لا؟


1- الإسراء( 17): 32.
2- المائدة( 5): 90.

ص: 492

قال الشهيد (ره): «ففي سماع الدعوى بها من المقذوف قولان»(1).

القول الأوّل: وهو الذي اختاره الشيخ في «المبسوط»(2) أنّها تسمع ترجيحاً لجانب حقّ الاولى وهو المقذوف فبناءً على قوله: لو ادّعى على الآخر أنّه قذفه بالزنا تسمع الدعوى، ولو لم يكن له بيّنة فيحلف المنكر القاذف فيسقط عنه الدعوى، ولو لم يحلف وردّ الحلف إلى المقذوف وحلف ثبت الحدّ عليه.

ولكن عبارة الشيخ (ره) على ما نقله عنه في «الشرائع» هكذا: «قال في «المبسوط»: جاز أن يحلف ليثبت الحدّ على القاذف»(3).

وفيه احتمالان:

الأوّل: أنّ المراد حلف المقذوف اليمين المردودة من المنكر فيثبت الحدّ على القاذف.

الثاني: أنّ المراد أنّه يدّعي رجل أنّ الآخر قذفه بالزنا، يعني قال له: يا زان وليس له بيّنة. ولكنّ الآخر ادّعى على المقذوف أنّه زان وأنكره المقذوف ولم يكن للقاذف البيّنة فحلف المقذوف المنكر للزنا فيثبت الحدّ على القاذف فيكون الحلف ابتدائياً، لكن في الدعوى الاخرى التي ادّعاها عليه القاذف المنكر في الدعوى الاولى.

واستحسن في «الدروس» قول الشيخ (ره) من حيث تعلّقه بحقّ الاولى وحمل نفي اليمين في الحدّ على ما إذا لم يتعلّق بحقّ الاولى.


1- مسالك الأفهام 497: 13.
2- راجع: المبسوط 215: 8.
3- شرائع الإسلام 879: 4.

ص: 493

والقول الثاني وهو الأكثر: أنّها لا تسمع ترجيحاً لحقّ الله عزّ وجلّ ولإطلاق ما تقدّم من الروايات وعمومها، فقوله (ع): «لا يمين في حدّ» يدلّ بعمومه على نفي اليمين في الحدّ، سواء كان حقّ الله المحض أو المشترك. وكذا مرسلة البزنطي المتقدّمة ومع وجود هذه الروايات المعتبرة كما تقدّم لا مجال لقول الشيخ (ره)، فالأقوى عدم السماع كما عليه الماتن (ره)، وقد تكون الحقّ مركّباً من حقّ الله عزّ وجلّ وحقّ الناس؛ يعني يكون فيه حقّان أحدهما لله (سبحانه و تعالى) والآخر للناس كما في السرقة فإنّ فيها القطع وهو حقّ الله عزّ وجلّ لقوله عزّ وجلّ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا(1) وردّ المال أو الغرامة مثلًا أو قيمةً وهو حقّ الناس.

فعندئذٍ يسمع الدعوى ويثبت اليمين بالنسبة إلى حقّ الناس، ولا يسمع الدعوى ولا يثبت اليمين فيها بالنسبة إلى حقّ الله عزّ وجلّ.

ثبوت اليمين في السرقة بالنسبة إلى ردّ المال دون القطع

فلو ادّعى رجل على آخر بسرقة ماله تسمع الدعوى بالنسبة إلى المال، ولو لم يكن له بيّنة لا بدّ للمنكر اليمين فلو حلف يسقط عنه الدعوى ولو ردّ اليمين إلى المدّعي وحلف يثبت المال على المدّعى عليه دون القطع.

إن قلت: كيف يمكن التفكيك بين القطع وبين ردّ المال مع كونها متلازمين، فلو ثبت السرقة وألزم المدّعى عليه بردّ المال فلا بدّ من قطع اليد أيضاً ولو لم تثبت ولم يلزم يقطع، فلا يلزم بردّ المال.


1- المائدة( 5): 38.

ص: 494

قلت: التفكيك بين المتلازمين تكويناً غير جائز، بل محال مثل التفكيك بين الشمس وضوءها أو النار وحرارتها. أمّا في الامور الاعتبارية فلا يكون محالًا بل جائز، ولها نظائر ففي ما نحن فيه فكلّ من القطع وردّ المال موقوف على ثبوت موضوعه، فلو لم يثبت عنوان السارق مع اليمين فلا يترتّب عليه القطع وإن حلف المدّعي اليمين المردودة، فإذا ثبت السرقة بالنسبة إلى المال مع اليمين فيترتّب عليه ردّ المال.

ونظير ذلك ما إذا توضّأ بالماء المشتبه بالنجاسة، يحكم بعدم حصول الطهارة مع الحكم بطهارة أعضاء الوضوء، فإنّه إذا شكّ في حصول الطهارة مع هذا الماء المشتبه وعدمه، فيحكم بعدم حصولها لاستصحاب بقاء الحدث وإذا شكّ في نجاسة أعضاء الوضوء يحكم بطهارتها لاستصحاب الطهارة فيها مع أنّ هذا يوجب التفكيك بين المتلازمين، فإنّه لو كان الأعضاء طاهراً فلا بدّ من حصول الطهارة، ولو لم يحصل الطهارة فلا بدّ من نجاسة الماء ويلزم منها نجاسة أعضاء الوضوء ولكن الاستصحابين جاريين هنا؛ ولا يلزم محذور أصلًا.

ومنه يظهر حكم ما إذا أقام لإثبات السرقة شاهداً واحداً مع يمين المدّعي، فإنّه لا يكفي لإثبات القطع ولكن يثبت بها ردّ المال.

وعلى هذا المبنى قال الإمام (ره) في ذيل المسألة: نعم لو كانت الدعوى مركّبة من حقّ الله وحقّ الناس كالسرقة فبالنسبة إلى حقّ الناس تثبت اليمين دون القطع الذي هو حقّ الله عزّ وجلّ.

ص: 495

مسألة 14: يستحبّ للقاضي وعظ الحالف قبله، وترغيبه في ترك اليمين إجلالًا لله تعالى ولو كان صادقاً، وأخافه من عذاب الله تعالى إن حلف كاذباً، وقد روي أنّه «من حلف بالله كاذباً كفر»، وفي بعض الروايات: «من حلف على يمين وهو يعلم أنّه كاذب فقد بارز الله» و «أنّ اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع من أهلها». (17)

(17) قد تقدّم منّا هذا البحث في ذيل مسألة 4 من هذه السلسلة من المسائل- أحكام الحلف- مفصّلًا، فراجع.

ص: 496

ص: 497

القول: في أحكام اليد

اشارة

مسألة 1: كلّ ما كان تحت استيلاء شخص وفي يده بنحو من الأنحاء، فهو محكوم بملكيّته وأنّه له؛ سواء كان من الأعيان أو المنافع أو الحقوق أو غيرها، (1) فلو كان في يده مزرعة موقوفة ويدّعي أنّه المتولّي يحكم بكونه كذلك، ولا يشترط في دلالة اليد على الملكية ونحوها التصرّفات الموقوفة على الملك فلو كان شي ء في يده يحكم بأنّه ملكه ولو لم يتصرّف فيه فعلًا، ولا دعوى ذي اليد الملكية. ولو كان في يده شي ء فمات ولم يعلم أنّه له ولم يسمع منه دعوى الملكية، يحكم بأنّه له وهو لوارثه. نعم، يشترط عدم اعترافه بعدمها، بل الظاهر الحكم بملكية ما في يده ولو لم يعلم أنّه له، فإن اعترف بأنّي لا أعلم أنّ ما في يدي لي أم لا، يحكم بكونه له بالنسبة إلى نفسه وغيره.

(1) قد تعرّض الأصحاب لأحكام اليد في الأبواب المختلفة من الفقه. ومنها كتاب القضاء وذكروا فيه فروعاً متعدّدة؛ مثل ما إذا ادّعى رجل على آخر بما

ص: 498

تحت يده، أو على اثنين أو أكثر بما تحت يدهما، أو ادّعى مالًا لا يد عليه أصلًا. ومثل ما إذا وقع التنازع بين رجلين بما تحت يدهما أو تحت يد ثالث، وكذا لو وقع التعارض بين اليد السابقة والحالية وغيرها من الفروع.

وقد تصدّى بعض من المتأخّرين لجمع أحكام اليد تحت عنوان قاعدة اليد وتعرّض للقاعدة في كتاب القواعد الفقهية.

وهنا قاعدة اخرى تحت عنوان قاعدة على اليد وهي يدلّ على ضمان صاحب اليد.

ونحن نتعرّض للقاعدة بمقدار يناسب الفروع التي ذكرها الإمام (ره) في المتن وتوضيح ما يبتني عليه الفروع، فنقول: لا بدّ أن يقع البحث من جهات:

[يقع البحث من جهات:]

الاولى: في مدرك القاعدة ودليل اعتبارها

فقد استدلّوا لذلك بامور ثلاثة:

الدليل الأوّل: الإجماع والاتّفاق: من الكلّ على أنّ من كان عنده مال وكان بيده وتحت استيلائه فهو له.

ويرد عليه أنّ الإجماع حجّة وهو أحد الأدلّة الشرعية فيما إذا كان كاشفاً عن رأى المعصوم أو وجود دليل عند المجمعين لم يصل إلينا. وأمّا إذا كان هناك دليل أو أدلّة يحتمل أن يكون مدركاً للمجمعين، فليس هو حجّة، بل لا بدّ من مراجعة المدرك والاستظهار منه. وهنا روايات ستأتي.

الدليل الثاني: السيرة و بناء العقلاء: كانت في كلّ عصر وزمان وفي كلّ مصر ومكان من جميع الملل من كلّ الأديان، بل من الملحدين والكفّار على

ص: 499

اعتبار اليد وكونها أمارة لملكية ما في يده سيرة من العقلاء ولا يتوقّفون في ترتيب آثار الملكية عليه من غير تفحّص وتحقيق في كيفية وقوعه تحت يده وأنّ المال هل هو له أو لغيره من سرقة أو غصب أو غيرها. ولا يخفى أنّ الشارع المقدّس لم يردع عن هذه السيرة والبناء أصلًا ولو كان لوصل إلينا، ويوجب كثرة السؤال عنه من الأئمّة (عليهم السلام) لكثرة الدواعي فيه بل أمضاها الشارع وأيدّها بما سيجي ء من الروايات من قوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(1). أو قال: «من استولى على شي ء منه فهو له»(2) لما يأتي وهذا البناء والسيرة من العقلاء أمر محقّق، بل السيرة من المسلمين والمتديّنين والمتشرّعين موجودة ومتّصلة بزمن الأئمّة (عليهم السلام) وكانت في مرءى ومنظرهم ولم يردعوا عنه، بل إمضاء السيرة منهم موجود.

ودعوى أنّ السيرة وترتيب آثار الملكية على ما في اليد كانت من جهة حصول الاطمينان الشخصي بها، فالميزان هو الاطمينان لا أمارية اليد، مدفوعة بأنّ المقطوع من السيرة أنّها قائمة على ترتيب آثار الملكية على ما في يد الرجل ولو لم يحصل لهم الاطمينان الشخصي فإنّهم يدخلون السوق مثلًا ويشترون الأجناس من كلّ أحد من غير معرفة له وسابقة معه.

نعم يمكن أن يقال الاطمينان حاصل من جهة الغلبة على أنّ الاستيلاء بلحاظ الملكية وهو اطمينان نوعي لا الاطمينان في آحاد الموارد.


1- الكافي 387: 7.
2- وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

ص: 500

الدليل الثالث: الروايات:

منها: رواية حفص بن غياث عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره فقال أبو عبدالله (ع): أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبدالله (ع): فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك؟ ثمّ تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمّ قال أبو عبدالله (ع): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(1).

وهي وإن كانت ضعيفة سنداً لكنّها منجبرة بعمل الأصحاب بلا إشكال.

وتقريب الاستدلال بها أنّ السؤال فيها وإن كان راجعاً إلى جواز الشهادة على ما في يد رجل أنّه له، ولكنّه يظهر من كلام الإمام (ع) أنّ اليد أمارة للملكية ويترتّب على ما في يد رجل آثار الملكية له، و من جملته جواز الشراء منه. ثمّ يقول بعد الشراء: أنّه ملك له ويحلف عليه. ومعلوم أنّه لو لم يترتّب عليه آثار الملكية فلا يصير ملكاً للمشتري ولا يجوز له أن يحلف أنّه صار ملكاً له. ثمّ قال: كما يجوز الاشتراء منه يجوز أن ينسب المال إليه ويقول: أنّه ملك له ولو لم يجز ذلك ولم يترتّب على ما تحت اليد آثار الملكية لم يقم للمسلمين سوق ولم يستقرّ حجر على حجر. وهذا يدلّ بالصراحة العالية على كون اليد أمارة على الملك.

ومنها: رواية يونس بن يعقوب، عن أبي عبدالله (ع): في امرأة تموت قبل


1- وسائل الشيعة 292: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.

ص: 501

الرجل أو رجل قبل المرأة قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شي ء منه فهو له»(1).

والرواية من حيث السند موثّقة فلا إشكال في اعتبارها. ودلالتها أيضاً تامّة. فإنّه جعل ما كان من متاع النساء أمارة على كونه تحت يد المرأة، وجعل يدها أمارة للملكية فقال: فهو للمرأة، وكذا ما كان مشتركاً فهو تحت يدهما وكان لهما ويقسّم بينهما. ثمّ صرّح بما يظهر منه أنّ الاستيلاء على شي ء دليل على الملكية بأعلى ظهور.

ولا يخفى أنّ إرجاع الضمير في- منه- إلى متاع البيت لا يوجب الاختصاص في الكلام بأن يكون الاستيلاء على متاع البيت يكشف عن كونه ملكاً له، فإنّ المورد لا يكون مخصّصاً ولا وجه له.

ومنها: معتبرة عبدالرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبدالله (ع) قال: «سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟» فقلت له: بلغني أنّه قضى في متاع الرجل والمرأة إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحيّ وورثة الميّت، أو طلّقها فادّعاه الرجل وادّعته المرأة بأربع قضايا، فقال: «وما ذاك؟» قلت: أمّا أوّلُهنّ: فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي، كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة، ومتاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل، وما كان للرجال والنساء بينهما نصفان، ثمّ بلغني: أنّه قال: إنّهما مدّعيان جميعاً فالذي بأيديهما جميعاً (يدّعيان جميعاً) بينهما نصفان، ثمّ قال: الرجل صاحب البيت والمرأة الداخلة


1- وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

ص: 502

عليه وهي المدّعية، فالمتاع كلّه للرجل إلا متاع النساء الذي لا يكون للرجال فهو للمرأة، ثمّ قضى بقضاء بعد ذلك لولا أنّى شهدته (لم أروه عنه): ماتت امرأة منّا ولها زوج وتركت متاعاً فرفعته إليه فقال: اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال والمرأة فقد جعلناه للمرأة إلا الميزان، فإنّه من متاع الرجل فهو لك، فقال (ع) لي: «فعلى أيّ شي ء هو اليوم؟» فقلت: رجع- إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي:- أن جعل البيت للرجل، ثمّ سألته (ع) عن ذلك، فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: «القول الذي أخبرتني: أنّك شهدته وإن كان قد رجع عنه» فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: «أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت: شاهدين فقال: «لو سألت من بين لابتيها- يعني: الجبلين ونحن يومئذٍ بمكّة- لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به وهذا المدّعى فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة»(1).

وتقريب الاستدلال أنّ الرواية تدلّ على اختصاص متاع البيت بالمرأة وأنّ الرجل إن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً وكان مالكاً له يكون مدّعياً ولا بدّ له الإثبات بالبيّنة. والوجه فيه أنّ المرأة هي التي جاءت به من بيتها، فتكون مستولية على المتاع والاستيلاء كاشف عن كونها مالكه فإنّه لا طريق على كشف مالكيتها للمتاع إلا الاستيلاء واليد.

ومنها: معتبرة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (ع) قال: سألته عن الدار يوجد


1- وسائل الشيعة 213: 26- 214، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 1.

ص: 503

فيها الورق؟ فقال: «إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به»(1)، فحكم الإمام بأنّ الورق إذا وجد في الدار المعمورة كانت لهم، ومعلوم أنّ الوجه فيه هو الاستيلاء على الدار وما وجد فيها وهذا الاستيلاء كاشف عن الملكية.

ومنها: معتبرة جميل بن صالح قال: قلت لأبي عبدالله (ع): رجل وجد في منزله ديناراً قال: «يدخل منزله غيره؟» قلت: نعم كثير، قال: «هذا لقطة»، قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً، قال: «يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟» قلت: لا، قال: «فهو له»(2).

وهذا الرواية كسابقتها في الدلالة على اعتبار اليد وكاشفيته عن الملكية، وكذا تدلّ على اعتبار اليد بالنسبة إلى صاحب اليد أيضاً فلو شكّ في مال كانت تحت يده واستيلائه، هل هو ملك له أو لغيره فنفس استيلائه عليه أمارة على كونه ملكاً له.

ومنها: رواية «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين (ع)، أنّه سئل عن الورق توجد في الدار فقال: «إن كانت عامرة فهي لأهلها، وإن كانت خراباً فسبيلها سبيل اللقطة»(3).

ودلالتها واضحة كسابقتيها ولكنّها مرسلة سنداً.

ومنها: رواية محمّد بن الحسين قال: كتبت إلى أبي محمّد (ع): رجل كانت


1- وسائل الشيعة 447: 25، كتاب اللقطة، الباب 5، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 446: 25، كتاب اللقطة، الباب 3، الحديث 1.
3- مستدرك الوسائل 128: 17، أبواب كتاب اللقطة، الباب 4، الحديث 1.

ص: 504

له رحى على نهر قرية والقرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟ فوقّع (ع): «يتّقى الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن»(1).

تقريب الاستدلال بها أنّه إذا كانت القرية لرجل فالظاهر أنّ طريق الماء ونهر القرية أيضاً كان ملكاً له. ولكن الرجل الآخر كان له رحي على نهر هذه القرية ولم يعلم أنّه اشترى من مالك القرية أو كان بإذنه من دون أن يكون مالكاً للرحي، فنهي الإمام (ع) في التوقيع الشريف عن الإضرار بأخيه المؤمن يكشف عن اعتبار يده واستيلائه على الرحي وكانت يده أمارة للملكية له.

ومنها: رواية العيص بن القاسم، عن أبي عبدالله (ع) قال: سألته عن مملوك ادّعى أنّه حرّ ولم يأت ببيّنة على ذلك أشتريه؟ قال: «نعم»(2).

ومنها: رواية حمزة بن حمران قال: قلت لأبي عبدالله (ع)، أدخل السوق واريد أشترى جارية فتقول: إنّى حرّة، فقال: «اشترها إلا أن يكون لها بيّنة»(3).

تقريب الاستدلال بهما: أنّه يجوز اشتراء المملوك أو الحرّة من دون التوجّه إلى ادّعائهما الحرّية إلا أن يأتيا بالبيّنة عليهما، وذلك لاعتبار اليد عليهما وأنّها أمارة الملكية إلا أن يثبت خلافها.

ومنها: رواية عثمان بن عيسى وحمّاد بن عثمان جميعاً عن أبي عبدالله (ع)- في حديث فدك-: «أنّ أمير المؤمنين (ع) قال لأبي بكر: أتحكم فينا


1- وسائل الشيعة 431: 25، كتاب إحياء الموات، الباب 15، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 250: 18، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 5، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 250: 18، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 5، الحديث 2.

ص: 505

بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه، ادّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون، تسألني البيّنة على ما في يدي؟ وقد ملكته في حياة رسول الله (ص) وبعده، ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا على كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم»- إلى أن قال:- «وقد قال رسول الله (ص): البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر»(1).

وتقريب الاستدلال عليها أنّ قوله (ع): «فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه» يعني كان في يدهم شي ء يتصرّفون فيه، ويعاملون معه معاملة الملكيةمن جهة كاشفية يدهم عن الملكية لا أن يعرف ملكيتهم عليهم من طريق آخر.

ومنها: رواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله (ع) قال: سمعته يقول: «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(2).

وتقريب الاستدلال بها أنّ قوله (ع): «وذلك مثل الثوب يكون عليك قد


1- وسائل الشيعة 293: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 89: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

ص: 506

اشتريته وهو سرقة» يدلّ على عدم الاعتناء باحتمال السرقة فيما إذا اشترى الثوب ممّن كان في يده لأمارية اليد على الملكية. ولا بدّ أن يعامل معه معاملةالملكية ويلغى احتمال الخلاف، وكذلك في المملوك إذ اشتراه مع احتمال كونه حرّاً.

ولا يخفى قوله (ع): «وذلك مثل الثوب ...» لا يكون من باب ذكر بعض المصاديق لقاعدة الحلّ التي في صدر الرواية؛ حتّى يدلّ على أنّ اعتبار اليد من باب أنّها أصل لا أمارة؛ يعني أنّه إذا شكّ في الثوب المشتري هل هو حلال أو حرام من جهة احتمال السرقة، فيحكم أنّه حلالًا، أو العبد المشتري هل هو حلال أو حرام من جهة احتمال كونه حرّاً فيحكم تعبّداً أنّه حلال من باب القاعدة؛ فإنّه يرد عليه أنّه لا مجال للقاعدة، بل يكون مجرى استصحاب عدم تحقّق الملكية الحاكم على أصالة الحلّ. بل يكون من باب التنظير والمثال في عدم الاعتناء باحتمال الخلاف وإن كان في الأوّل من باب التعبّد، والحكم بالحلّية في مشكوك الحلّية والحرمة. وفي الثاني من باب إلغاء احتمال الخلاف والحكم بكون ذي اليد مالكاً.

قال المحقّق النراقي (ره)(1)- بعد ذكر الروايات-: وبعض هذه الروايات وإن كان ضعيفاً إلا أنّ جميعاً معتبرة لوجودها في الاصول المعتبرة، ومع ذلك منجبرة بعمل الأصحاب. وبغير ما ذكر من الأخبار معتضدة، فلا كلام في أصل القاعدة يعني كون اليد مقتضياً للملكية، فلا وجه للمناقشة في الروايات من حيث السند لكون بعضها معتبرة بلا إشكال.


1- عوائد الأيام: 739.

ص: 507

الثانية: هل اعتبار اليد، هو من باب أنّها أصل أو أمارة
اشارة

في الفرق بين اعتبار اليد من باب الأصل أو الأمارة نقول: إنّه ان كان اعتبار اليد وحجّيتها عند الشارع من جهة أنّ الشي ء الذي كان تحت يد إنسان يحتمل أن يكون ملكاً له ويحتمل العدم، فيكون مشكوك الملكية، فالشارع جعل اليد حجّة تعبّداً لرفع التحيّر في مقام العمل مع قطع النظر عن جهة كشفه عن الواقع. يعني عامل الشارع مع مشكوك الملكية معاملةالملك ظاهراً فهو أصل نظير قوله: «كلّ شي لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه»، فإنّ الظاهر منه بقرينة الغاية أنّ كلّ شي ء شكّ في حلّيته وحرمته فهو حلال، فموضوع الحكم هو الشي ء المشكوك بوصف أنّه مشكوك، فالحلّية حكم ظاهري مجعول لرفع تحيّر المكلّف في مقام العمل ويعبّر عنها بالأصل العملي في مقام الظاهر.

وإن كان اعتبار اليد من جهة كشفها عن الملكية وأماريتها لها، بما أنّ الغالب في من له يد على مال أنّه مالك له، فمعنى حجّيتها واعتبارها إلغاء احتمال الخلاف فيه، فتصير كاشفاً تامّاً عن الملكية وطريقاً إليها نظير العلم بالملكية، فيترتّب عليها آثار الملكية فإنّه مالك واقعاً فيكون أمارة.

ثمّ هل المستفاد من مدرك القاعدة اعتبار اليد من باب الأصل أو الأمارة؟

قال المحقّق البجنوردي (ره): «والحقّ في هذا المقام هو أنّه لو كان المدرك لهاهو الإجماع أو هذه الأخبار فلا يمكن إثبات أماريتها ... وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء كما هو كذلك، حيث قلنا أنّ الأخبار إمضاء للبناء

ص: 508

وسيرةالعقلائية فالحقّ أماريتها»(1).

ومحصّل نظره (ره) أنّ مفاد الأخبار قد يكون جواز الشراء والشهادة مستنداً إلى اليد كما في رواية حفص بن غياث(2).

وقد يكون جواز الشراء من ذي اليد وعدم الاعتناء بقول الجارية والعبد ما لم يأتيا بالبيّنة. كما في رواية حمزة بن حمران(3)، والعيص(4). وهذا المعنى أعمّ من الأمارية والأصلية، ويجتمع مع كلّ واحد منهما، فلا يمكن إثبات خصوص أحدهما بها. وكذا قوله في موثّقة يونس بن يعقوب «ومن استولى على شي ء منه فهو له»(5) لا يدلّ إلا على ترتيب آثار الملكية على ما استولى عليه، وقد بيّنّا أنّ مثل هذا المعنى أعمّ من خصوص أحد هذين الأمرين.

والحاصل أنّ نظره أنّ الأخبار تدلّ على حجّية اليد، أمّا أنّ الوجه فيها هو الأمارية فلا.

وأمّا بناء العقلاء فحيث إنّ بناء العقلاء ليس من جهة التعبّد بترتيب آثارالملكية عند الشكّ فيها، بل من جهة كشفها عن الملكية الحاصل من غلبةكون ما تحت اليد ملكاً لذي اليد، فيرون اليد طريقاً وكاشفاً عن مالكية ذي اليد ما لم يعترف بأنّه ليس له كسائر الظنون النوعية والطرق والأمارات العقلانية.


1- القواعد الفقهية 140: 1- 141.
2- راجع: وسائل الشيعة 292: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.
3- راجع: وسائل الشيعة 250: 18، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 5، الحديث 2.
4- راجع: وسائل الشيعة 250: 18، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 5، الحديث 1.
5- وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

ص: 509

المناقشة في ما استظهره البجنوردي من الأخبار

ويمكن المناقشة فيما استظهره من الأخبار بأنّ اليد إذا كانت معتبرة عند العرف والعقلاء بنحو الطريقية والأمارية وكان بنائهم على ترتيب آثار الملكية على ما في يد الآخر من غير تفحّص وتحقيق، وعدم الاعتناء باحتمال خلافه وكان هذا البناء منهم في مرءى ومنظر من الشارع الأقدس؛ فإذا وقع في كلام السائلين عنهم عن مصاديق هذا البناء واعتبار اليد فاعتبرها الشارع وجعلها حجّة يستظهر منه أنّ اعتباره عنده كان على النحو الذي يعتبره العقلاء من ترتيب آثار الملكية عليه لا أن يكون حجّة عند الشكّ تعبّداً، فإذا قال: «من استولى على شي ء منه فهو له» يراد منه أنّه ملك له باعتبار الاستيلاء، ويستفاد منه أنّ الاستيلاء على شي ء أمارة على كونه ملكاً له.

وكذا قوله في رواية حفص بن غياث: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(1) يدلّ على اعتبار اليد شرعاً على نحو اعتبارها عند العقلاء. وكذا سائر الروايات.

وبالجملة لا إشكال في أنّ اعتبار اليد- سواء كان مدركه الأخبار أو بناء العقلاء- كان من جهة كونها طريقاً وامارة لملكية ما كان تحت يد ذي اليد ويترتّب عليها آثار الملكية.

ولا يخفى: أنّ ثمرة النزاع تظهر في تقدّم اليد على الاستصحاب الجاري في أكثر مواردها وعلى سائر الاصول لما تقرّر في محلّه من تقدّم الأمارة على الأصل الموافق أو المخالف.


1- وسائل الشيعة 292: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.

ص: 510

الثالثة: ما هو المراد من اليد؟

في المراد من اليد هنا إذا قيل باقتضاء اليد الملكية، أو قيل بأمارية اليد للملكية، فما المراد منها؟ ذكر اللغويون لليد معاني متعدّدة:

منها: من أطراف الأصابع إلى الكتف وهي مؤنّثة لامها محذوفة والأصل يَدَئ ومثنّاها يدان والجمع الأيدي والأيادي جمع الجمع لها.

يقال: «له يد بيضاء في هذا الأمر»، أي أنّه حاذق.

يقال: «لعبة يداً بيد»، أي نقداً حاضراً بحاضر.

أو يقال: «مالك عليه يد»، أي ولاية.

أو يقال: «هذا في يدي»، أي في ملكي.

أو يقال: «الأمر بيد فلان»، أي في تصرّفه.

أو يقال: «يد الله مع الجماعة»، أي حفظه ووقايته.

أو يقال: «المسلون يد واحدة على من سواهم»، أي مجتمعون على عداوته، إلى غير ذلك من المعاني.

ولا يهمّنا أنّها حقيقة في الجميع أو مجاز في الجميع أو حقيقة في البعض، ومجاز في البعض الآخر، بل إنّما المهمّ أنّه ما المراد منها في المتفاهم العرفي في محلّ البحث، فنقول:

لا إشكال في أنّ المراد منها في محلّ البحث هو الاستيلاء والسلطة الخارجية على شي ء في أنّ القاعدة هل تجري في المنافع أو تختصّ بالأعيان، والاستيلاء والسلطة أمر عرفي يختلف في نظرهم بحسب ما استولى عليه مثلًا الاستيلاء على

ص: 511

الدار فهو بأن يكون ساكناً فيها أو يكون مفتاحها في يده والاستيلاء على الدكّان بأن يكتب فيه والاستيلاء على الأرض بالزراعة فيه والاستيلاء على الثوب والخاتم بلبسهما أو يكون في صندوقه وغير ذلك.

فإذا كان شي ء تحت استيلاء شخص- بأحد أنحاء الاستيلاء المناسب له عرفاً- ولا ندري هل هو ملك له أو لا؟ فنفس اليد عليه والاستيلاء الخارجي عليه يكون أمارة للملكية، ويترتّب عليه آثارها.

الرابعة: أنّ قاعدة اليد هل تجري في المنافع أم تختصّ بالأعيان
اشارة

في موارد جريان القاعدة ومقدار حجّيتها فقد اختلف في جملة من الموارد، بعد الاتّفاق على جريانها في الأعيان فإنّها القدر المتيقّن من الأخبار وبناء العقلاء.

قال الإمام (ره):- بعد الحكم بكاشفية اليد عن الملكية وأماريتها عنها «كلّ ما كان تحت استيلاء شخص وفي يده بنحو من الأنحاء، فهو محكوم بملكيّته وأنّه له؛ سواء كان من الأعيان أو المنافع أو الحقوق أو غيرها»(1) فمن جملة موارد الاختلاف جريان القاعدة في المنافع وأنّ الاستيلاء على المنافع هل يقتضي الملكية لذي اليد أم لا. مثل ما إذا كان الدار تحت يد شخص مدّعياً استيجاره سنة مثلًا.

ذهب المحقّق النراقي(2) باختصاص القاعدة في الأعيان ولا تجري في المنافع.


1- تحرير الوسيلة: 843، مسألة 1.
2- عوائد الأيام: 745.

ص: 512

واستدلّ على ذلك بالأصل، وعدم ثبوت الإجماع في غير الأعيان، واختصاص الأخبار بالأعيان؛ فإنّ مورد بعضها الأعيان وبعضها الآخر وإن كان فيه لفظ الشي ء وهو عامّ يشمل المنافع أيضاً، ولكن في كلّ واحد منها قرينة مانعة عن حملها على العموم. مثلًا في رواية حفص بن غياث(1) فلفظ «شيئاً» في أوّلها وإن كان نكرة في سياق الشرط المفيدة للعموم، إلا أنّ رجوع الضمير في قوله (ع): «الشراء منه» و «إن يشتريه» يوجب إمّا تخصيصه بالأعيان، أو التوقّف.

وكذا موثّقة يونس بن يعقوب(2) فلرجوع الضمير المجرور فيها إلى المتاع الذي هو من الأعيان.

ثمّ قال المحقّق النراقي: نعم ظاهر حديث الفدك العموم، إلا أنّه يمكن دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان فإنّها المتبادر عرفاً من لفظ ما في اليد، بل المتبادر من الاستيلاء أيضاً هكذا. وصدقهما على المنافع غير معلوم.

ثمّ قال في آخر كلامه: بل هنا كلام آخر وهو أنّ اليد والاستيلاء إنّما هو في الأشياء الموجودة في الخارج القارّة، وأمّا الامور التدريجية الوجود الغير القارّة كالمنافع فلو سلّم صدق اليد والاستيلاء عليها؛ فإنّما هو فيما تحقّق ومضى لا في المنافع المستقبلة التي هي المراد هاهنا(3).

وقال المحقّق البجنوردي (ره)(4): أنّ التحقيق في هذا المقام هو التفصيل بين ما


1- راجع: وسائل الشيعة 292: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.
2- راجع: وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.
3- عوائد الأيام: 745.
4- راجع: القواعد الفقهية 150: 1.

ص: 513

كان المدّعي في قبال ذي اليد هو المالك، يعني كان رجل يسكن داراً، ومثلًا يعترف أنّه ليس بمالك للدار، بل هو مستأجر والمالك يدّعي عدم الإجارة وأنّ الدار والمنفعة كانت له. وبين ما إذا كان المدّعي أجنبيّاًأي ليس بمالك ويدّعي أنّ الدار كانت في إجارته لا في إجارة ذي اليد، فاليد حجّة في الثاني دون الأوّل.

قال البجنوردي: «والسرّ في ذلك أنّ المنفعة أمر معدوم، فإنّها غالباً يكون أمراً غير قارّ لا يوجد جزء منه إلا بعد انعدام الجزء الآخر، فلا يمكن وقوعها استقلالًا تحت اليد التي عرفت أنّها سيطرة واستيلاء خارجي، سواء كان معتبراً في العالم أو لا يكون؛ إذ اليد بالمعنى المذكور من الامور التكوينية الخارجية، وليست من الامور الاعتبارية، فمعنى كون المنفعة تحت اليد ليس أنّها استقلالًا وبنفسها تحت اليد، بل معناه أنّها تحت اليد بتبع العين لأنّ المنفعة من شؤون العين ونسبتها إلى العين كنسبة العرض إلى موضوعه، فالاستيلاء والسيطرة على العين استيلاء على منافعها، لا بمعنى أنّه هناك استيلاءان وسيطرتان في الخارج: أحدهما على العين والاخرى على المنفعة، بل ليس في الخارج إلا الاستيلاء على العين، وهذا الاستيلاء الموجود في الخارج استيلاء على المنفعة بالتبع، فليس في حال النزاع شي ء موجود حتّى نقول بأنّه تحت اليد مستقلًا. نعم، أنّها تحت اليد بتبع العين بمعنى أنّ اليد على العين يد أيضاً عليها.

ثمّ قال: وبعد ما ظهر ما قلنا فتقول: لوكان المدّعي هو المالك فحيث إنّ ذا اليد معترف بأنّ يده أماني ومن قبل المالك، فقد أسقط يده عن الاعتبار، فإنّ يده في الحقيقة يد المالك فلا يبقى مجال للمخاصمة مع المالك بمثل هذه اليد. وأمّا

ص: 514

بالنسبة إلى الأجنبيّ فلا يسقط يده عن الاعتبار، بل اليد موجود على العين وبالتبع على المنفعة ولم يصدر عن ذي اليد اعتراف يضرّ بأماريتها بالنسبة إلى الأجنبيّ(1).

ثمّ قال: أمّا الدليل على اعتبار مثل هذه اليد فنقول: يمكن أن يكون مدرك هذه القاعدة أحد الأشياء:

1- لو كان المدرك لهذه القاعدة الأخبار، فالإنصاف أنّ إثبات حجّيتها مشكل، لأنّ أغلب الأخبار موردها الأعيان والخروج عنها إلى المنفعة يحتاج إلى دليل. وموثّقة يونس بن يعقوب، وإن كان فيه عموم بالنسبة إلى المنفعة والعين باعتبار لفظ «شي ء» ولكن ضمير «منه» الراجع إلى متاع البيت يقيّد هذا الإطلاق.

2- وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع فمعلوم أنّه لا حجّية له في محلّ الخلاف.

3- وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء فالحقّ شموله للمنافع فيما قلنا بالتفصيل، لأنّه من الواضح أنّ العقلاء يفرّقون بين أن يكون المدّعي هو المالك أو الأجنبيّ.

ويرد على ما استدلا به على الترتيب:

أوّلًا: بأنّ الأصل- الذي استدلّ به النراقي (ره)- لا مجال للاستدلال به مع وجود الدليل كما سيأتي. والأصل دليل حيث لا دليل.

ثانياً: الإجماع- الذي تعرّض له المحقّق البجنوردي (ره)- فلا يصحّ الاستدلال به كما تقدّم، كيف ولا يكون موجوداً فيما نحن فيه.

ثالثاً: أمّا الأخبار فكما أنّ مورد بعضها الأعيان ولا يمكن التعدّي عنها إلى


1- راجع: القواعد الفقهية 150: 1- 151.

ص: 515

المنافع، كذلك كان مورد بعضها الآخر المنافع، وهو كما يلي مع بعض من المناقشات.

1- رواية محمّد بن الحسين «في رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل»(1)، فإنّ الظاهر منها أنّ يده كانت كاشفة عن ملكيته لمنفعة الماء. وتغيير مسير الماء يوجب تعطيل الرحي فوقّع (ع) بأن يتّق الله ويعمل بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن فتدلّ على أنّ اليد على المنافع أيضاً لها اعتبار.

2- موثّقة يونس بن يعقوب(2) فقوله: «ومن استولى على شي ء منه فهو له» ظاهر في أنّ الموجب للحكم بالملكية هو الاستيلاء، والاستيلاء على شي ء كاشف عن ملكيته له ولا خصوصية لمتاع البيت في ذلك، فقوله «منه» الراجع إلى متاع البيت كان بملاحظة أنّ الكلام هو في مورد المتاع لا لذكر الخصوصية بلا إشكال. والشي ء في الرواية مطلق يشمل العين والمنفعة؛ يعني من استولى على شي ء من العين أو المنفعة فنفس استيلائه عليه يكشف عن كونه مالكاً له.

3- وما قال في حديث الفدك(3) من أنّ المتبادر من كلمة «ما في اليد» في قوله: «إن كان في يد المسلمين شي ء» هو الأعيان. ويختصّ صدق اليد والاستيلاء حقيقة بالأعيان واستعماله في المنافع يحتاج إلى قرينة.

فيناقش عليه أنّ دعوى التبادر ممنوع. وإطلاقها على الأعيان والمنافع سواء


1- راجع: وسائل الشيعة 431: 25، كتاب الإحياء الموات، الباب 15، الحديث 1.
2- راجع: وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.
3- راجع: وسائل الشيعة 293: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.

ص: 516

عند العرف وإن كان موارد الأعيان أكثر، فقوله: «إن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه» يشمل الأعيان والمنافع بلا إشكال.

4- وما قال النراقي (ره) والبجنوردي (ره) من أنّ المنفعة أمر تدريجي الوجود وغير قارّ، بل أمر معدوم في الخارج فلا يصدق اليد عليها.

فيرد عليه أنّ العرف يراها أمراً موجوداً اعتباراً ومستمرّاً ويعتبرها ملكاً لزيد مثلًا؛ ويصحّ له تمليكها بالغير بأن يوجر الدار له. والإجارة تمليك المنفعة ويقدّر في قبالها القيمة وهي مال الإجارة، فلو كان معدوماً فكيف يتعلّق بها الملكية وكيف يملكها للغير ويأخذ في قبالها العوض. ويصير المستأجر مالكاً للمنفعة كما أنّ الموجر يصير مالكاً لمال الإجارة، فليس هذا إلا بأن يعتبرها العرف موجوداً مستمرّاً، فكما يتعلّق به الملكية يقع عليها اليد والاستيلاء أيضاً. غاية الأمر أنّه إذا كان العين في يد المالك لم يكن له استيلائان مستقلان، بل استيلاء واحد على العين واستيلاء على المنفعة بالتبع، أمّا لو آجر العين فيكون يد المستأجر على العين يد المالك بالنسبة إلى ملكية العين، أمّا بالنسبة إلى المنفعة فكانت يده عليها مستقلًا وكان مالكاً لها.

فإذا صدق للمستأجر الاستيلاء على المنفعة واليد عليها مستقلًا، فلا فرق بين أن يكون المدّعي في قباله هو المالك أو الأجنبيّ، فإنّ يده على المنفعة كانت كاشفة عن الملكية فالمدّعي في قباله لا بدّ له من إثبات ادّعائه، سواء كان هو المالك أو الأجنبيّ.

فالتفصيل الذي ذهب إليه المحقّق البجنوردي لا وجه له كما لا يخفى.

5- وأمّا ما قاله البجنوردي (ره) بأنّ اليد والاستيلاء أمر خارجي واعتباره لا

ص: 517

يحتاج إلى معتبر خاصّ، إذ اليد بالمعنى المذكور من الامور التكوينية الخارجية وليست من الامور الاعتبارية، ولذلك يتحقّق اليد من الغاصب مع أنّه لا اعتبار ليده لا من طرف الشارع ولا من طرف العقلاء.

ففيه: أنّ الظاهر أنّ الاستيلاء أمر اعتباري يعتبره العقلاء، ولذا يختلف في أنظارهم على حسب ما استولى عليه فإنّ الاستيلاء على الثوب أمر والاستيلاء على الدار أو على المزرعة أمر آخر على خلافه. وهذا الاعتبار في الغصب أيضاً موجود، واعتبر المال تحت يده واستيلائه بعد أخذه، ولذا يكون ضامناً لما أخذه واستولى عليه. وما هو مفقود هو اعتبار الملكية فلا يكون يد الغاصب أمارة للملكية لا عند الشارع ولا عند العقلاء.

6- وأمّا ما قال: من أنّ دليل اعتبار اليد على المنافع- فيما إذا كان طرف الدعوى الأجنبيّ-، هو بناء العقلاء، فإنّ الإجماع والأخبار لا يشملان المنافع، ولكن بناء العقلاء على اعتبار اليد فيما إذا كان المدّعي في قبال ذو اليد الأجنبيّ دون المالك.

ففيه: أنّ بناء العقلاء مستقرّ على اعتبار اليد على مطلق المنافع، سواء كان المدّعي هو المالك أو الأجنبيّ، فإذا كان رجل يسكن داراً ويقول: إنّه ليس بمالك لها، بل هو مستأجر فيعامل العقلاء معه معاملة المستأجر المالك للمنفعة ويده على المنافع معتبرة عندهم إلا أن يثبت خلافه، سواء كان المدّعي في قباله المالك أو الأجنبيّ الذي يدّعي كونه مستأجراً.

والحاصل: أنّ الحقّ هو ما قاله الماتن (ره) من أنّ اليد على المنافع أيضاً معتبرة نظير اليد على الأعيان بلا فرق بينهما. والدليل عليه الأخبار كما تقدّم وبناء العقلاء على ما استظهرناه.

ص: 518

جريان قاعدة اليد في الحقوق

ومن جملة موارد الاختلاف في جريان قاعدة اليد وعدمه فيه، هي الحقوق المتعلّقة بالأعيان، سواء كانت الأعيان متموّلة مثل حقّ الرهانة أو حقّ التوليه، أو لم يكن متموّلة كحقّ الاختصاص في الخمر والميتة.

فلو كان عيناً تحت يد رجل و يعترف أنّه ليس مالكاً له، بل هو لزيد ولكنّه جعله عنده رهناً لدينه فله فيه حقّ الرهانة، أو كان دكّاناً تحت يده يكتب فيه ويعترف أنّه موقوفة وهو متولّي لها، فهل كانت اليد أمارة على كونه ذا حقّ فيه أو كونه متولّياً للموقوفة أم لا؟

اختار الإمام (ره) في المتن جريان القاعدة فيها وقال: فلو كان في يده مزرعة موقوفة ويدّعي أنّه المتولّي يحكم بكونه كذلك.

وقال المحقّق البجنوردي(1) فيه بالتفصيل المتقدّم منه في المنافع. وقال: لأنّ الحقوق لا يمكن وقوعها تحت اليد ابتداءً، بل تقع تحت اليد بتبع العين، وحالها من هذه الجهة حال المنافع بل أنزل؛ لأنّ الحقّ أمر اعتباري. إذ ليس هو إلاسلطنة اعتبارية مجعولة في عالم الاعتبار من طرف العقلاء أو الشارع على شي ء أو على شخص. ومن آثاره أنّه يسقط بإسقاطه بخلاف المنفعة، فإنّهامن الامور الواقعية المحمولة بالضميمة فالتفصيل الذي بيّنّاه في باب المنافع آت هنا بطريق أولى فاليد هنا- في الحقوق- على تقدير حجّيتها، مخصوصةبالنسبة إلى الأجنبيّ لا بالنسبة إلى المالك. والدليل على اعتبارها


1- راجع: القواعد الفقهية 152: 1.

ص: 519

بناءالعقلاء، فإنّ الظاهر استقرار بنائهم بثبوت هذه الحقوق إذا كان المدّعي غير مالك العين.

ويرد عليه: أنّ الحقّ وإن كان أمراً اعتبارياً يعتبره العقلاء أو الشارع على شي ء أو شخص، لكن يعتبر العقلاء الاستيلاء واليد عليه فيما إذا كان متعلّق الحقّ تحت يد أحد كما يعتبرون اليد على المنافع في يد المستأجر، فإنّ الاستيلاء أيضاً أمر اعتباري يعتبره العقلاء على شي ء لا أنّه أمر تكويني خارجي، فإذا كان في يد شخص مزرعة موقوفة ويدّعي كونه متولّياً عليها فلا إشكال في تحقّق الاستيلاء بنظر العرف. واليد على هذا الحقّ للمستولي فيكون يده عليه كاشفاً عن كونه ذا حقّ التولية، فلو ادّعى أحد أنّه المتولّي على العين الموقوفة يكون عندهم مدّعيان لا بدّ له من الإثبات، ولو لم يكن له البيّنة فالقول قول ذي اليد باليمين. وكذا في حقّ الرهانة مثلًا، ولا فرق في ذلك بين أن يكون طرف الدعوى هو المالك أو الأجنبيّ كما تقدّم في المنافع، ودعوى تحقّق البناء منهم في الأوّل دون الثاني بلا دليل.

فالأقوى ما قاله السيّد الماتن الإمام (ره) من جريان القاعدة في الحقوق كما قال به الفاضل النراقي حيث قال: «الرابع: كما أنّ مقتضى اليد أصالة الملكية فيما يملك؛ فكذلك مقتضاها أصالة الاختصاص بذي اليد فيما ليس ملكاً كالوقف، فلو كان شي ء في يد أحد مدّعياً وقفيته عليه فادّعاه غيره ولا بيّنة له، يقدم قول ذي اليد»(1).

والدليل على ذلك: إطلاق بعض الروايات وبناء العقلاء.


1- عوائد الأيام: 744.

ص: 520

1- أمّا الأوّل- إطلاق الروايات- فلموثّقة يونس بن يعقوب(1) فإنّ قوله (ع): «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة» فإذا كانت المرأة حيّة وتدّعي أنّ المتاع ملك لها، فيقال: أنّه ملك لها وإن تدّعي أنّه في إجارته ولها منفعة، فيقال إنّها ملك لها وإن تدّعي أنّ لها حقّ الانتفاع منه فيقال أيضاً أنّه لها، فالجامع بينهما كون اللام للاختصاص الذي يشمل الجميع فقوله (ع) في ذيل الحديث: «ومن استولى على شي ء منه فهو له» ظاهر في أنّ اللام للاختصاص ويعمّ الملكية والاختصاص كليهما.

وكذا مكاتبة محمّد بن الحسين: فإنّ قوله في السؤال رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل؛ يحتمل أن يكون صاحب الرحى مالك سهم من الماء أو استيجارها من المالك، وهو مالك للمنفعة، أو كان له حقّ الانتفاع من الماء بإذن المالك ولو بإعطاء مال فنهى الإمام (ع) عن تغيير مسير الماء الموجب لتعطيل الرحى بقوله (ع): «يتّق الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن» يكشف عن اعتبار اليد لصاحب الرحي على الإطلاق وترك الاستفصال يفيد العموم، فتدلّ الرواية على اعتبار اليد وإن كان على حقّ الانتفاع بعمومها.

2- أمّا الثاني- بناء العقلاء- فلا شبهة في تحقّق بناء العقلاء على اعتبار اليد في الحقوق، ولا يعتنون باحتمال الخلاف فيها. من غير فرق بين كون المدّعي في قبال صاحب اليد، المالك أو غيره.


1- راجع: وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

ص: 521

جريان قاعدة اليد في الأنساب والأعراض

ومن جملة موارد الاختلاف في جريان القاعدة فيه وعدمه الأنساب والأعراض ولعلّ مراد الإمام (ره) من قوله «أو غيرها»(1)- بعد تعميم جريان القاعدة بالأعيان والمنافع والحقوق- هو ذلك. مثلًا إذا تنازع شخص- ألف- مع آخر- ب- في زوجة تحت يد أحدهما، بمعنى أنّها تكون في بيته مثلًا- في بيت ب- ويعامل- ب- معها معاملة الزوج مع زوجته فيدّعي- ألف- أنّها زوجته و الآخر- ب- أغفلها أو أكرهها أو سرقها. أو في صبيّ تحت يد أحدها والآخر يدّعي أنّه صبيّة فهل تجري قاعدة اليد هنا أم لا؟

قال المحقّق البجنوردي (ره)(2): والأقوال في المسألة مضطربة. واختار جريان القاعدة فيها، بناءً على كون مدركها هو بناء العقلاء لاستقرار سيرتهم وبنائهم على أمارية اليد في هذه المواضع. وقال: لأنّ الظنّ الحاصل من الغلبة ها هنا أقوى بمراتب من الظنّ الحاصل في باب الأملاك، لأنّ الغصب في باب الأملاك كثير بخلافه هنا، فإنّ غصب أحدهم زوجة الآخر أو ولده في غاية القلّة، بل الندرة.

أمّا بناء على كون مدرك القاعدة الإجماع أو الأخبار فلا، أي فلا يجري القاعدة فيها، لاختصاص الأخبار حسب ظهورها العرفي بأعيان الأملاك وعدم شمول الإجماع لمورد الخلاف.


1- تحرير الوسيلة: 843، مسألة 1.
2- القواعد الفقهية 153: 1.

ص: 522

أقول: والأقوى جريان القاعدة في هذه المواضع واعتبار اليد فيها كما يظهر من كلام الإمام (ره) والمحقّق البجنوردي (ره).

والدليل على ذلك من الأخبار:

1- موثّقة يونس بن يعقوب(1) بناءً على ما استظهرنا منه بكون اللام للاختصاص، فقوله (ع): «ومن استولى على شي ء منه فهو له» يشمل استيلاء الزوج على زوجته أو الأب للصبيّ، فإذا وقعت علقة الزوجية بين الرجل والمرأة فيقال أنّ هذه المرأة زوجة لزيد أو هذا الصبيّ لزيد. والمفروض أنّ اللام للاختصاص فيكون مشمولًا للرواية.

2- وأمّا بناء العقلاء فهو مستقرّ في المورد و- كما قال به البجنوردي- يكون الاستيلاء المذكور أمارة عندهم على الزوجية أو الأبنية حتّى يثبت خلافه. ولكن يشترط في أمارية اليد هنا أمر لا يشترط في غيره من الأعيان والمنافع والحقوق. وهو عدم إنكار الزوجة الزوجية له، فإنّها إذا أنكرتها وقالت لا أكون زوجة له ولا أعرفه فلا يكون الاستيلاء واليد أمارة للزوجية، إذ لم يثبت في هذه الحالة بناء العقلاء على ترتيب الأثر على اليد والأصل يقتضي العدم. هذه هي الجهات الأربعة من البحث في بيان قاعدة اليد المناسب لما قاله الإمام (ره) في المتن.

ثمّ ذكر الإمام (ره) في هذه المسألة فروعاً نبحث فيها:

الفرع الأوّل: عدم اشتراط التصرّف الموقوف على الملك في أمارية اليد.

هل يشترط في دلالة اليد على الملكية ونحوها وقوع التصرّفات الموقوفة على


1- راجع: وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

ص: 523

الملك من ذي اليد بحيث لو كان تحت يده واستيلائه ولكنّه لم يتصرّف فيه، فلا أمارية لليد على الملك أم لا؟ الظاهر الثاني.

وقال الإمام (ره): ولا يشترط في دلالة اليد على الملكية ونحوها التصرّفات الموقوفة على الملك، فلو كان شي ء في يده يحكم بأنّه ملكه ولو لم يتصرّف فيه فعلًا.

وذلك لأنّ المستفاد من الأخبار و من بناء العقلاء أنّ المناط في أمارية اليد ودلالتها على الملكية هو كون الشي ء تحت سلطنته واستيلائه وإن لم يتصرّف فيه فعلًا، فالتصرف الفعلي ليس دخيلًا في ترتيب الأثر على اليد أصلًا.

فقوله (ع): «ومن استولى على شي ء منه فهو له» يشمل ما لو لم يتصرّف فيما استولى عليه بلا إشكال، وكذا السيرة قائمة على اعتبار اليد بمحض السلطنة على الشي ء بلا توقّف على التصرّف الفعلي من ذي اليد فيه، فلو كانت داراً مقفولة ومفتاحها في يده ولا يدخلها أحد بغير إذنه، وكذا سيّارة في بيته مقفولة لا يركبها هو ولا يركبها غيره أيضاً بغير إذنه، فالعرف حاكم بأنّهما له ويشملهما الموثّقة بإطلاقها.

الفرع الثاني: في عدم اشتراط دعوى الملكية من ذي اليد في أمارية يده.

هل يشترط في أمارية اليد ودلالتها على الملكية ونحوها ادّعاء ذي اليد الملكية، بحيث لو كان تحت يده واستيلائه ولكنّه لا يدّعي أنّه ملكه ولا يسمع منه دعوى الملكية، فلا يحكم بملكيته له أم لا؟ الظاهر الثاني أيضاً.

وقال الإمام (ره): «ولا دعوى ذي اليد الملكية ولو كان في يده شي ء فمات ولم

ص: 524

يعلم أنّه له ولم يسمع منه دعوى الملكيّة، يحكم بأنّه له وهو لوارثه»(1).

وقال الفاضل النراقي (ره)(2): وهل يشترط انضمام ادّعائه الملكية أم لا؟ الظاهر الثاني.

ثمّ استدلّ بصدر رواية حفص بن غياث(3) المتقدّمة، فإنّ الإمام (ره) حكم بجواز الشهادة على ملكية ما رآه في يد رجل وجواز الشراء منه مع عدم ادّعاء الرجل على ملكية ما في يده. وترك الاستفصال يدلّ على العموم، يعني يكون اليد أمارة ومعتبرة، سواء ادّعى ذو اليد ملكية ما في يده أم لا.

وكذا استدلّ بموثّقة يونس بن يعقوب(4) المتقدّمة؛ فإنّ إطلاقها شامل للمورد. ولذا يحكم بملكية ما كان في يد المتوفّى له وإن لم يسمع منه دعوى الملكية ويحكم بكونه لوارثه وكذا يحكم بملكية ما في يد الغائب ولو لم يسمع منه أنّه له.

ولا يخفى: أنّ بناء العقلاء أيضاً على ذلك، فإنّهم يترتّبون آثار الملكية على شي ء في يد الرجل وإن لم يسمع منه دعوى ملكية له.

نعم، يشترط عدم اعترافه بعدم كونه ملكاً له، فإنّ إقراره نافذ عليه ومعه لا مجال لأمارية اليد الملكية.


1- تحرير الوسيلة: 843، مسألة 1.
2- عوائد الأيام: 742.
3- راجع: وسائل الشيعة 292: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.
4- راجع: وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

ص: 525

الفرع الثالث: هل تجري قاعدة أمارية اليد بالنسبة إلى من لا يعلم بمالكية ما في يده؟

إذا اعترف ذو اليد بعدم علمه بكون ما في يده ملكاً له، ويشكّ في ذلك، تجري القاعدة بالنسبة إلى نفسه، بأن يترتّب آثار الملك عليه باعتبار يده عليه وكذا بالنسبة إلى غيره فيترتّبون على ما في يده آثار الملكية له، ولو لم يعلم أنّه له، فان اعترف بأنّي لا أعلم أنّ ما في يدي لي أم لا، يحكم بكونه له بالنسبة إلى نفسه وغيره.

والوجه في ذلك إطلاق موثّقة يونس بن يعقوب(1) المتقدّمة فإنّ قوله (ع): «ومن استولى على شي ء منه فهو له» ضابطة كلّية وميزان عام تشمل صاحب اليد أيضاً إذا لم يكن عالماً بملكية ما فيه يده. وكذا يمكن الاستدلال عليه بصحيحة جميل بن صالح(2) بتقريب أنّ استفصال الإمام (ع) في الصدر من دخول غيره في المنزل وعدمه يكشف عن اختلاف حكمهما، فإذا أجاب بقوله نعم كثير. قال (ع): «هذا لقطة» والوجه فيه سقوط أمارية يد صاحب المنزل لغلبة الداخلين، فيستظهر منه أنّه لو لم يدخل فيه غيره، فأمارية يده باقية ودالّة على كونه له.

وكذا يستظهر من ذيل الرواية أمارية يد صاحب الصندوق لما يوجد فيه إذا لم يكن عالماً بكونه ملكاً له، فإنّه إذا أجاب بعدم إدخال أحد يده في الصندوق قال: «فهو له» ولا إشكال في أنّ مفروض الكلام هو الشكّ في أنّ الدينار له أو لغيره، مع عدم دخول يد غيره فيه وإلا لا وجه للسؤال، فالوجه لحكم الإمام (ع) بأنّ الدينار له، ليس إلا أمارية اليد واعتبارها لذي اليد أيضاً عند الشكّ.


1- راجع: وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.
2- راجع: وسائل الشيعة 446: 25، كتاب اللقطة، الباب 3، الحديث 1.

ص: 526

مسألة 2: لو كان شي ء تحت يد وكيله أو أمينه أو مستأجره فهو محكوم بملكيته، فيدهم يده. وأمّا لو كان شي ء بيد غاصب معترف بغصبيته من زيد، فهل هو محكوم بكونه تحت يد زيد أو لا؟ فلو ادّعى أحد ملكيته وأكذب الغاصب في اعترافه، يحكم بأنّه لمن يعترف الغاصب أنّه له، أم يحكم بعدم يده عليه، فتكون الدعوى من الموارد التي لا يد لأحدهما عليه؟ فيه إشكال وتأمّل وإن لا يخلو الأوّل من قوّة. نعم، الظاهر فيما إذا لم يعترف بالغصبية أو لم تكن يده غصباً واعترف بأنّه لزيد يصير بحكم ثبوت يده عليه.

وخالف في ذلك الفاضل النراقي (ره) وذهب إلى عدم جريان القاعدة بالنسبة إلى ذي اليد، حيث قال: «نعم، الظاهر اشتراط عدم انضمام ادّعاء عدم العلم بملكيته أيضاً، فلو قال ذو اليد: إنّي لا اعلم أنّه ملكي أم لا؛ لا يحكم بملكيته لأنّ الثابت من اقتضاء اليد الملكية غير ذلك المورد»(1).

وقال في موضع آخر من كلامه: «فلو كان متاع في دكّة أحد ولم يعلم أنّه ممّا ورثه أو اشتراه أو وضعه غيره؛ لا يجوز له التصرّف فيه»(2).

وكذا لا يجوز شراء شي ء عن شخص كان في يده ويقول: «إنّي لا أعلم أنّه من أموالي أو من الغير، بل يلزم على ذي اليد الفحص، فإن لم يتعيّن مالكه يكون مجهول المالك»(3).


1- عوائد الأيّام: 742.
2- عوائد الأيّام: 744؛ مستند الشيعة 340: 17.
3- مستند الشيعة 340: 17.

ص: 527

مسألة 3: لو كان شي ء تحت يد اثنين فيد كلّ منهما على نصفه، فهو محكوم بمملوكيته لهما. وقيل: يمكن أن تكون يد كلّ منهما على تمامه، بل يمكن أن يكون شي ء واحد لمالكين على نحو الاستقلال، وهو ضعيف. (2)

في أمارية اليد المشتركة على الملك

(2) قد قلنا في المسائل الماضية- وبالمناسبة- أنّ اليد على شي ء أمارة الملكية على الشي ء بمعنى أنّ الاستيلاء على الشي ء دليل على مالكية الشي ء. والآن نبحث- في هذه المسألة الثالثة- في الاشتراك في اليد على الشي ء، فنقول:

إن اشترك يدان أو أكثر على شي ء. وكمثال نقول: سكنا في دار ويتصرّفان متساوياً فيها وكلاهما يدّعيان مالكية الدار، فهل يد كلّ واحد منهما أمارة مالكية الدار؟ مقتضى القاعدة هي الأمارية بمعنى أنّ لكلّ واحد منهما مالكية تمام الدار وربما يقال(1) أنّ الأمارتين يتعارضان ويتساقطان ويبقى المال كأنّه بلا صاحب ولا يد عليه.

ولكن المشهور- والماتن (ره) أيضاً- قال بالأمارية مشاعاً أي كلّ يد أمارة على مالكية نصف الدار مشاعاً وقال الماتن (ره)- بعد قبول قول المشهور- وقيل بإمكان اجتماع يدين مستقلّتين على تمام المال، والمراد من القيل هو السيّد (ره) كما قال- في «ملحقات العروة»(2)- لا مانع من اجتماع يدين مستقلّتين على مال واحد، أي


1- القائل هو السيّد البجنوردي؛ في القواعد الفقهية 174: 1.
2- العروة الوثقى 588: 6.

ص: 528

لا مانع أن يكون لكلّ واحد من الشريكين الاستيلاء التامّ المستقلّ على تمام الدار.

بل الأقوى جواز اجتماع المالكين المستقلّين لمال واحد كالزكاة والخمس والوقف، الذين يملكونهم الفقراء كلّهم مستقلّتين، بل لا مانع من اجتماع مالكين الشخصيين أيضاً- كالوقف على زيد وعمرو أو الوصيّة لهما، فدعوى عدم المعقولية لا وجه له كما لا مانع من جواز كون حقّ واحد لكلّ من الشخصين مستقلًا- كخيار الفسخ والولاية- ولاية الأب والجدّ- لكلّ من الشخصين مستقلًا.

غاية الأمر: أنّه إذا استفاد أحدهما من حقّ الولاية أو الخيار وغيره يسقط عن الآخر أيضاً.

ودعوى- أنّ مقتضى الملكية المستقلّة جواز منع الغير وإلا لا يكون مستقلًا- مدفوعة، بأنّ هذا أيضاً نحو من الملكية، ونظيره الوجوب الكفائي والتخييري مع أنّه واجب جاز تركه.

إلى هنا خلاصة كلام السيّد (ره).

يمكن أن يقال في الجواب عمّا قال:

أوّلًا: حقيقة الملكية عند العقلاء هي إضافة خاصّة بين المالك والمملوك التي يستلزم الاختصاص، ولا يمكن تحقّق الملكية بدون الاختصاص، مع أنّ الاختصاص والاشتراك ضدّان مغايران. كلّما جاء واحد منهما يذهب الاخرى، أي يستحيل تحقّق الجمع بينهما.

إذ في فرض اجتماع المالكين مستقلّين على شي ء واحد- كما قال به السيّد (ره)- يلزم من وجود أحد عدم الآخر، لأنّه لا يمكن فرض الاختصاص وعدم

ص: 529

الاختصاص معاً في زمان واحد.

ثانياً: لا يمكن فرض استيلائين مستقلّين على مال واحد، لأنّ معنى الاستيلاء مستقلًا هو جواز المنع عن تصرّف الغير، أي يتصرّف الشخص هو بنفسه بالعقد الإيجابي، ويمنع عن تصرّف الغير بالعقد السلبي، فلا يمكن استيلائين مستقلّين في شي ء واحد.

ثالثاً: وفي الأمثلة المذكورة التي تمسّك السيّد (ره) بها مدار الملكية هي الملكية النوعية، أي أنّ عنوان الفقير أو ذوى القربى أو العلماء هم الذين يملكون الزكاة والخمس والوقف وغيره وإلا أفراد الفقراء بما هم أفراد، وكذلك غيرهم ليسوا بمالكين للزكاة وغيرها.

رابعاً: وفي الوقف على خصوص الشخصين أو الوصيّة لهما إن كان المراد صرف المورد في كلّ واحد منهما فالموقوف عليه أحدهما خاصّة على البدلية.

وإن كان المراد من الوقف صرف المورد في كلا الشخصين فالموقوف عليه يجعل تنصيفاً بينهما، أي أنّهما مشتركان في العين وينتفعان منها بالتساوي نصفاً.

خامساً: لا نسلم كلّية لحاظ الاختصاص في معنى الحقّ عرفاً، بل العرف يرى الاختصاص في بعض من الحقوق كحقّ التحجير وغيره وفي بعض آخر لا يرى الاختصاص، بل لا يمنع من الاجتماع كحقّ الفسخ وغيره.

سادساً: لا بأس بالقول بأنّ ولاية الأب والجدّ على مال الصغير هي الولاية في التصرّف ولا نمنع من اجتماع حقّين. غاية الأمر: أنّه تصرّف أحدهما يسقط حقّ تصرّف الآخر، أي لا يبقى موضوع لحقّ التصرّف للآخر بعد تصرّف أحدهما.

سابعاً: لا نسلم ملكية خاصّة على البدلية حتّى تكون واجباً لأحدهما من

ص: 530

مسألة 4: لو تنازعا في عين- مثلًا- فإن كانت تحت يد أحدهما فالقول قوله بيمينه، وعلى غير ذي اليد البيّنة. وإن كانت تحت يدهما فكلّ بالنسبة إلى النصف مدّع ومنكر؛ حيث إنّ يد كلّ منهما على النصف، فإن ادّعى كلّ منهما تمامها يطالب بالبيّنة بالنسبة إلى نصفها، والقول قوله بيمينه بالنسبة إلى النصف.

ناحية، وجائز الترك بعد إتيان البدل من ناحية الاخرى، لأنّ العرف لا يرى المالكية الكذائية ليكون شخصين مالكين بالاستقلال، ولا يكون تصرّف أحدهما مانعاً عن تصرّف الآخر.

فبالنتيجة: نقول هناك احتمالات:

1- نفرض الاستيلاء التامّ واليد الكاملة المستقلّة لشخصين مستقلّين وكانت اليد أمارة مستقلّة لكلا الشخصين في شي ء واحد، وهذا غير معقول جدّاً.

2- نفرض أنّ اليد أمارة على الاستيلاء على جميع المال لشخصين بنحو ناقص، ولا معنى للملكية الناقصة.

3- لا محيص إلا أن نقول أنّ اليد أمارة على الاستيلاء لكلا الشخصين على النصف المشاع من المال الكاشف عن مالكية كلّ واحد للنصف المشاع، بحيث يجوز له التصرّف في نصفه الخاصّ بالبيع والصلح وغيره، غاية الأمر أنّه يثبت لشريكه حقّ الشفعة. نعم، لا يجوز لكلّ منهما التصرّف في العين بدون رضا الآخر، لا لأجل النقص في الملكية أو في الاستيلاء، بل لاستلزامه التصرّف في مال الغير.

ص: 531

وإن كانت بيد ثالث فإن صدّق أحدهما المعيّن يصير بمنزلة ذي اليد، فيكون مُنكراً والآخر مدّعياً، ولو صدّقهما ورجع تصديقه بأنّ تمام العين لكلّ منهما، يلغى تصديقه ويكون المورد ممّا لا يد لهما. وإن رجع إلى أنّها لهما- بمعنى اشتراكهما فيها- يكون بمنزلة ما تكون في يدهما. وإن صدّق أحدهما لا بعينه لا تبعد القرعة، فمن خرجت له حلف. وإن كذّبهما وقال: هي لي تبقى في يده ولكلّ منهما عليه اليمين. ولو لم تكن في يدهما ولا يد غيرهما ولم تكن بيّنة فالأقرب الاقتراع بينهما. (3)

الفروض في تنازع اليدين في العين

(3) إذا تنازعا في عين فباعتبار اختلاف اليد عليها يتصوّر أربعة فروض وفي بعض الفروض صور وأقسام، فإنّه قد تكون العين تارة في يد أحدهما، واخرى في يدهما، وثالثة في يد ثالث، وفي الرابعة لا يد عليها أصلًا.

الفرض الأوّل

وهو ما إذا تنازعا في عين وكانت العين تحت يد أحدهما، فهو من أوضح مصاديق قاعدة المدّعي والمنكر؛ فإنّ الذي يدّعي على ذي اليد فهو مدّع، فإنّه الذي لو تَرَكَ تُرِكَ، لأنّ قوله: كان مخالفاً للأصل، فهو المدّعي. والذي كانت العين تحت يده، فهو منكر، لكون قوله موافقاً للأصل، فحينئذٍ لو كان للمدّعي بيّنة فهو، وإلا فيحلف المنكر.

ويدلّ عليه ما عن ابن أبي عمير، عن عثمان بن عيسى وحمّاد بن عثمان

ص: 532

جميعاً، عن أبي عبدالله في حديث فدك(1).

فإنّ قول علي لأبي بكر: فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة قال إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما لا تدّعيه على المسلمين. ثمّ استشهاده في ذيله بقوله (ص): «البيّنة على من ادّعي واليمين على من أنكر».

يستفاد منه أنّ المورد من مصاديق قاعدة المدّعي والمنكر، فإنّ معنى قوله: «فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه» هو أنّهم يتصرّفون فيه كتصرّف الملاك، ويعاملون معه معامله الملكية، لا أنّه يعلم أنّهم مالك له، فإنّه لا وجه للدعوى عليه عند العلم بالملكية.

فبالنتيجة لو تنازعا في عين كانت تحت يد أحدهما فهو من موارد هذه القاعدة، فإن كان للمدّعي البيّنة فيحكم له، وإلا فلو طالب الحلف من المدّعى عليه وحلف سقطت الدعوى.

ولو ردّ الحلف على المدّعي فحلف على الإثبات يثبت حقّه، وإلا يسقط حقّه ولو نكل المدّعى عليه فيقضي عليه بالنكول أو يرد الحاكم الحلف على القولين في المسألة.

الفرض الثاني

وهو أن يكون العين تحت يدهما، ففيه ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: ما قاله المشهور، بل الأكثر على ما في «الجواهر»(2) ولم ينقل


1- راجع: وسائل الشيعة 293: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.
2- جواهر الكلام 403: 40.

ص: 533

الأكثر فيه خلافاً كما في «المسالك»(1) وتبعهم الإمام (ره) في المتن، وهو أنّ المورد أيضاً من مصاديق المدّعي والمنكر، فإنّ اقتضاء يد كلّ واحد منهما على الجميع هو مالكية كلّ واحد منهما على النصف المشاع على ما تقدّم في المسألة الثالثة(2)، فكلّ واحد منهما هو المدّعى عليه بالنسبة إلى النصف المشاع التي هو مالكه باقتضاء اليد وبالنسبة إلى النصف الآخر، الذي تحت يد الآخر فهو مدّع، فكلّ واحد منهما مدّعى عليه ومدّع فيحلف كلّ واحد منهما للآخر على عدم استحقاقه للنصف الذي هو مالكه فيحكم عليهما بالتنصيف، فكانت العين بينهما نصفين بعد الحلف.

نقل هذا القول في «الشرائع» بقوله «وقيل: يحلف كلّ منهما لصاحبه»(3). وقال في «المسالك»(4) ونقله الحلف قولًا يشعر بردّه. والمذهب ثبوته عملًا بالعموم انتهى.

فهو أيضاً ذهب إلى هذا القول، وتمسّك بعموم ما دلّ على أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه(5).

واستدلّ لهذا القول صاحب «الجواهر»(6) بفحوى ما دلّ على تحليفهما مع البيّنة، فمع عدم البيّنة بطريق أولى ومراده من النصوص هو بعض الروايات(7).


1- مسالك الأفهام 78: 14.
2- من هذه السلسلة من المسائل في القول في أحكام اليد.
3- شرائع الإسلام 896: 4.
4- راجع: مسالك الأفهام 78: 14.
5- راجع: وسائل الشيعة 233: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1- 3 و 5.
6- راجع: جواهر الكلام 403: 40.
7- راجع: وسائل الشيعة 249: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12.

ص: 534

منها: حديث إسحاق بن عمّار(1)، عن أبي عبدالله فإنّ أمير المؤمنين أحلف كلّ واحد من المتخاصمين في دابّة تكون في يدهما بعد إقامتهما البيّنة، فإذا حلف الواحد وأبي الآخر قضى للحالف وفي مورد التخاصم فيما لا يكون تحت يدهما وإقامتهما البيّنة أيضاً أحلفهما، فإذا حلفا جعل بينهما نصفين.

فيستفاد منها أنّه إذا أحلفهما مع إقامتهما البيّنة ففي مورد عدم إقامتها البيّنة يكون مورداً للإحلاف بطريق أولى.

القول الثاني: قال المحقّق (ره): «لو تنازعا عيناً في يدهما ولا بيّنة قضى بها بينهما نصفين من غير احتياج إلى الحلف»(2).

وحكي في «الجواهر»(3) هذا القول عن «الخلاف»(4) و «الغنية»(5) و «الكافي»(6) و «الإصباح»، بل عن الأوّلين الإجماع عليه.

واستدلّوا لذلك بأنّ المورد من مصاديق قاعدة التداعي على العين، لا من مصاديق قاعدة المدّعي والمنكر.

قال في «الجواهر»: «إذ الفرض أنّ يد كلّ واحد منهما على العين لا نصفها، ضرورة عدم تعقّل كونها على النصف المشاع إلا بكونها على العين أجمع في كلّ منهما، وحينئذٍ فلا مدّعي ولا مدّعى عليه منهما، ضرورة تساويهما في ذلك


1- راجع: وسائل الشيعة 250: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 2.
2- شرائع الإسلام 896: 4.
3- راجع: جواهر الكلام 403: 40.
4- راجع: الخلاف 329: 6.
5- راجع: غنية النزوع: 444.
6- راجع: الكافي 419: 7/ 6.

ص: 535

إلا أنّ الشارع قد جعل القضاء في ذلك بأنّ العين بينهما- إلى أن قال- ويكون كما لو تداعيا عيناً لا يد لأحد عليها ولا بيّنة لكلّ منهما، فإنّ القضاء حينئذٍ بالحكم بكونها بينهما، لكون الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد تعذّر إعماله في الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على مسبّب واحد»(1).

وكذا استدلّوا بمرسلة المنقولة عن النبيّ (ص): إنّ رجلين تنازعا دابّة ليس لأحدهما بيّنة فجعلها بينهما نصفين»(2).

ويرد على الأوّل أنّ يد كلّ واحد منهما وإن كان على الجميع كما قال ولكنّها كاشفة عن الملكية للنصف المشاع لا للجميع، وذلك لوجود المعارض كما تقدّم في المسألة الثالثة، فإذا كانت مقتضى يد كلّ واحد منهما ملكية النصف وادّعى الجميع، فيكون كلّ واحد منهما مدّعى عليه بالنسبة إلى ما تحت يده، ومدّع بالنسبة إلى النصف الآخر فلا بدّ لهما من الحلف للآخر.

وأمّا الثاني- مرسلة المنقولة- فهي خارجة عن صحّة الاستدلال بها لإرسالها وكانت من طرق العامّة.

القول الثالث: القول بالتفصيل: قال السيّد (ره): «والتحقيق: التفصيل بين ما إذا كانت يد كلّ منهما على النصف وبين ما إذا كانت على الكلّ مستقلًا، إذ قد عرفت اختلاف الموارد في ذلك، ففي الصورة الاولى تجري قاعدة المدّعي والمنكر إذ يصدق على كلّ منهما أنّه مدّع في النصف ومنكر في النصف الآخر،


1- جواهر الكلام 403: 40.
2- السنن الكبرى 255: 10.

ص: 536

ولا ينفع كون كلّ جزء يفرض يد كلّ منهما عليه لأنّها ليست يداً مستقلّة. وفي صورة الثانية التنصيف لما ذكر من كونه من التداعي لا المدّعي والمنكر»(1).

والظاهر أنّ مراده (ره) من الصورة الاولى هو أن يتصرّف كلّ واحد منهما في النصف، مثل أن يسكنان في الدار معاً مثلًا ففي تلك الصورة وإن كانت يد كلّ واحد منهما على الجميع إلا أنّه ليست مستقلّة، بل بالإشاعة على النصف، والمراد بالصورة الثانية هو أن يقسمان بينهما التصرّف في الزمان، مثل أن يسكن أحدهما الدار ستّة أشهر والآخر في ستّة أشهر اخرى، فحينئذٍ تكون يد كلّ واحد منهما على الجميع مستقلًا، فلذا فصل في ذلك وجعل الصورة الاولى من باب المدّعي والمنكر والصورة الثانية من باب التداعي.

ويرد عليه أنّه في الصورة الثالثة التي فرضها السيّد للتفصيل أيضاً تكون اليدعلى الجميع بالإشاعة وإن كان يتصرّف في الجميع مستقلًا، فإنّ الفرض أنّ لكلّ واحد منهما اليد على العين وأنّ كلّ واحد مالك للعين بالإشاعة، ولا فرق بين أن يكون متصرّفاً في العين أم لا، فإنّ في صدق اليد لا يشترط التصرّف في العين.

الفرض الثالث

ما إذا كانت العين المتنازع فيهما في يد ثالث ففيه أربعة صور على ما في المتن.

فإنّه قد يصدّق أحدهما المعين، أو يصدق كليهما، أو يصدق أحدهما لا


1- العروة الوثقى 592: 6، مسألة 1.

ص: 537

بعينه، أو يكذبهما. وقد يفرض فيها صورة خامسة وهو أن يقول: لا أدري أنّها لهما أو لا؟ فلنبحث الآن في الصور.

الصورة الاولى: فيما إذا صدّق أحدهما المعين.

وهو ما إذا صدّق الثالث الذي بيده المال واحداً منهما بخصوصه، وقال: هذا الدار مثلًا لزيد فيصير زيد مثلًا في حكم ذي اليد باعتبار هذا التصديق والإقرار ومدّعى عليه ويكون الآخر مدّعياً، فيكون نظير الفرض الأوّل وهو أن تنازعا في عين في يد أحدهما وحكمه ما تقدّم.

فلو ادّعى الآخر على المصدِّق أنّه كان عالماً أنّ الدار كانت لي وبتصديقه لزيد ضاعت عنّي وطلب منه الغرامة، فله الحلف على عدم العلم لدفع الغرامة عن نفسه، ولو نكل ولم يحلف فيلزم بأداء قيمة تمام العين للآخر غرامة لتضييعه المال عنه بادّعائه.

والظاهر اتّفاق الأصحاب على اعتبار تصديق الثالث، بأن يجعله ذا اليد ومدّعياً عليه ولم يظهر منهم خلاف في ذلك. بل صرح جماعة منهم الشهيد (ره)(1) في «الدروس» بأنّ ذا اليد من صدقه الثالث. وقالوا بأنّ: من أقرّ بشي ء في يده لأحد فهو له.

ليس الوجه فيه عموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، فإنّه يستفاد منه أنّ نفوذ الإقرار متوقّف على أمرين. الأوّل كونه على الضرر بقرينة لفظ «علي» والثاني كون الضرر على نفسه لا على الغير، فالإقرار إذا كان بنفع الغير أو نفسه لا يكون نافذاً، وكذا إذا كان على ضرر الغير. وهنا يقرّ على كون المال لزيد مثلًا، فلا


1- الدروس الشرعية 100: 2.

ص: 538

يكون نافذاً بهذا الدليل. نعم، هذا الإقرار يستلزم الإقرار بعدم كون المال لنفسه وهو نافذ أيضاً.

بل الوجه فيه روايات مستفيضة دالّة على أنّ من أقرّ بعين لأحد فهو له.

منها: مرسلة جميل وهي ما في «التهذيب» عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما في رجل أقرّ أنّه غصب رجلًا على جاريته وقد ولدت الجارية من الغاصب. قال: «تردّ الجارية وولدها على المغصوب إذا أقرّ بذلك أو كانت له بيّنة»(1). وقال المجلسي (ره)(2) في شرحه عليه أنّها مرسلة، كالصحيح من جهة ابن أبي عمير وجميل، وفي «الوسائل» عن «الكافي»(3) في رجل أقرّ على نفسه بأنّه غصب جارية رجل فولدت الجارية من الغاصب قال: «تردّ الجارية والولد على المغصوب منه إذا أقرّ بذلك الغاصب»(4).

وترك الاستفصال من أنّ مالك الجارية ادّعى على الغاصب أم لا؟ يفيد العموم فتدلّ على أنّ من أقرّ بعين لأحد فلا بدّ عليه أن يردّه إليه وهو له.

ومنها: صحيحة سعد بن سعد، عن الرضا (ع) قال: سألته عن رجل مسافر حضره الموت، فدفع مالًا إلى رجل من التجّار فقال له: إنّ هذا المال لفلان بن فلان، ليس لي فيه قليل ولا كثير فادفعه إليه يصرفه حيث يشاء فمات ولم يأمر


1- تهذيب الأحكام 482: 7.
2- ملاذ الأخيار 499: 12.
3- الكافي 556: 5/ 9.
4- وسائل الشيعة 177: 21، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 61، الحديث 1؛ الكافي 556: 5/ 9.

ص: 539

فيه صاحبه الذي جعله له بأمر ولا يدري صاحبه ما الّذي حمله على ذلك كيف يصنع قال: «يضعه حيث شاء»(1).

ومثلها صحيحة سعد بن إسماعيل الأحوص عن أبيه كما في «الوسائل»(2) ذيل صحيحة سعد.

وإن كان يحتمل فيه أنّ المراد أنّ الرجل المسافر كان غرضه الوصيّة بماله للصرف في وجوه الخير وأرسله إلى صاحبه. ولكن الظاهر منها ما قلنا فإنّ قوله: هذا المال لفلان بن فلان ليس لي فيه قليل ولا كثير يدفع هذا الاحتمال.

فتدلّ على ثبوت المال لصاحبه بمجرّد الإقرار. وقول الإمام (ع): «يضعه حيث شاء»، يعني أنّه ماله يصرفه حيث يشاء.

ومنها: صحيحة أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال: سألته عن رجل معه مال مضاربة فمات وعليه دين وأوصي أنّ هذا الذي ترك لأهل المضاربة أيجوز ذلك؟ قال: «نعم إذا كان مصدّقاً»(3).

قوله «إذا كان مصدّقاً»، يعني لم يكن متّهماً في تضييع حقّ الديّان.

الصورة الثانية: فيما إذا صدّق كليهما.

وهي ما إذا أصدقهما الثالث وقال: إنّ المال لهما فيصيران بمنزلة ذي اليد، فيكون نظير ما إذا تنازعا في عين كانت في يدهما، فيجري فيه حكمه كما تقدّم.

وللمتنازعين المصدَّق لهما طرح الدعوى على الثالث بتضييعه نصف المال


1- وسائل الشيعة 293: 19، كتاب الوصايا، الباب 16، الحديث 6.
2- وسائل الشيعة 293: 19، كتاب الوصايا، الباب 16، ذيل الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 296: 19، كتاب الوصايا، الباب 16، الحديث 14.

ص: 540

لكلّ واحد منهما وأخذ الغرامة إذا ادّعيا عليه العلم بكون المال لهما، فلو حلف على عدم علمه بكون كلّ المال لكلّ واحد منهما فهو، وإلا فلو ردّ اليمين عليهما وحلفا على علمه وتضييعه المال عنهما بتصديقه لهما فلا بدّ من أداء تمام قيمة المال غرامة فينصفان بينهما.

وقد فرض الماتن (ره) في هذه الصورة أمراً آخر، وهو ما لو رجع تصديقه لهما بأنّ تمام المال لكلّ واحد منهما وقال بأنّه يلغى تصديقه، وذلك لأنّ مالكية شخصين لمال واحد بتمامه غير ممكن ومحال، فيكون التصديق لغواً ويصير المورد ممّا لا يد للمتنازعين عليه وبتصديقه لهما ألغى اعتبار يد نفسه أيضاً، فيكون المورد ممّا لا يد عليه.

الصورة الثالثة: فيما إذا صدّق أحدهما لا بعينه.

وهي ما إذا صدق أحدهما لا بعينه بأن يقول: العين كانت لأحدهما ولا أعرفه بعينه، ففيه أقوال:

الأوّل: القرعة والحلف، قد يقال بأنّه يقرع بينهما فمن خرجت له أحلف ويقضي له. أمّا القرعة فلأنّها لكلّ أمر مشكل. وهنا كان المقرّ له هو أحدهما لا بعينه وتشخيصه من بينهما مشكل فيعيّن بالقرعة. أمّا الحلف فلأنّه بعد تعيينه بالقرعة يصير كمن أقرّ له معيّناً وصدقه بشخصه، فيكون بعد القرعة كالمدّعى عليه وفي حكمه الآخر مدّعياً فعليه الحلف للآخر. ونفي الإمام (ره) في المتن البعد عن هذا القول- القول الأوّل من الصورة الثانية- وقال: لا تبعد القرعة فمن خرجت له حلف.

ص: 541

وقال في «المسالك»(1): احتمل قويّاً القرعة فيحلف من خرجت له.

الثاني: القرعة بلا حلف، قال به العلامه (ره) في «القواعد»(2). ولعلّ الوجه فيه: أنّ الثالث صدّق أحدهما لا بعينه، يعني أنّ المال كان له فإذا استخرج المالك بالقرعة فيدفع إليه المال بلا احتياج إلى الحلف.

ويرد عليه: أنّ المال كان عليه ادّعاء، فإذا تعيّن المالك لا بدّ له من الحلف لدفع الدعوى عن المال.

الثالث: حلفان بلا قرعة، أي أنّهما يحلفان ويقضي بينهما نصفين من غير احتياج إلى القرعة كما لو كان المال بيدهما. احتمله في «المستند»(3). وقال السيّد (ره)(4) في «ملحقات العروة» والأقرب التنصيف بينهما بعد حلفهما أو نكولهما من دون قرعة.

ويرد عليه: أنّ الحلف لا بدّ له من دليل شرعي وإذا كان المال تحت يدهما فإمّا أن يكون من مصاديق المدّعي والمنكر أو التداعي كما تقدّم. وهنا ليس كذلك ولا دليل على الحلف.

الرابع: التنصيف من دون القرعة والحلف، نقله في «المستند»(5) وكذا السيّد (ره)(6).


1- مسالك الأفهام 80: 14.
2- قواعد الأحكام 468: 3.
3- مستند الشيعة 354: 17.
4- العروة الوثقى 594: 6.
5- مستند الشيعة 354: 17.
6- العروة الوثقى 593: 6.

ص: 542

وذلك لرواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (ع) في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان لأحدهما عندي ألف درهم ثمّ مات على تلك الحال فقال علي (ع): «أيّهما أقام البيّنة فله المال وإن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان»(1).

وقال الفاضل النراقي في «المستند»- بعد احتمال القضاء بينهما نصفين بعد حلفهما أو نكولها بدليل الرواية- ولكنّ الظاهر من الرواية التنصيف بدون الإحلاف، بل هو مقتضى إطلاقها فالقول به كما فيما إذا كان في يديهما معاً- أوجه(2).

ولكن الرواية ضعيفة سنداً لا يعتمد عليها وتشبيهه بما إذا كان في يديهما بلا وجه، كما لا يخفى.

الصورة الرابعة: فيما إذا كذبهما مع اعترافه بأنّ المال لنفسه أو الاعتراف بعدمه.

وهي ما إذا كذّبهما الثالث وقال: المال لي فيكون بنفسه منكراً ومدّعى عليه والمتنازعان مدّعيين فلهما الحلف. وكذلك لو لم ينتسبه لنفسه، بل نفي المال عنهما فقط وذلك لكونه ذا اليد فيصير منكراً أيضاً.

الصورة الخامسة

وهنا يفرض صورة خامسة للفرض الثالث، وهي أن يقول: لا أدري أنّ المال لهما أو لغيرهما مع اعترافه بأنّ المال ليس له أيضاً فيكون كما لا يد لأحد عليه كما في الفرض الآتي.


1- وسائل الشيعة 183: 23- 184، كتاب الإقرار، الباب 2، الحديث 1.
2- مستند الشيعة 354: 17.

ص: 543

الفرض الرابع: فيما لو تنازعا على عين لا يد عليها

إذا تنازعا في عين لا يد لأحدهما عليها ولا لغيرهما، ففيه أيضاً أقوال:

القول الأوّل: التنصيف مع الحلف، أي التنصيف بينهما بإجراء ميزان القضاء فيه لكون كلّ واحد منهما مدّعياً ومنكراً، فلو حلفا أو نكلا يقسمان المال بالتنصيف ولو حلف واحد منهما فالمال له.

لقوله (ص): «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»(1).

ولرواية إسحاق بن عمّار وفيها: «فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة فقال احلفهما فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً، جعلتها بينهما نصفين»(2).

القائل بهذا القول هو المحقّق الأردبيلي (ره) مع أنّه حكي عنه السيّد (ره)(3) مع اختلاف يسير في العبارة والاستدلال عن ما في «مجمع الفائدة»(4).

ويرد عليه: أنّ صدق المدّعى عليه أو المنكر على كلّ واحد منهما ممنوع، فإنّ الظاهر من المدّعى والمنكر ادّعاء كلّ واحد على الآخر، فيقال: إنّه ادّعي عليه بكذا أو هو منكر لما ادّعي عليه، وهنا لا يدّعي كلّ واحد منهما على الآخر بشي ء، بل يتعلّق الادّعاء بذات المال فكلّ واحد منهما يدّعي أنّه له. نعم، لازمه عدم كونه للآخر، وعلى هذا اللزوم لا يصدق عليه المنكر عرفاً.


1- وسائل الشيعة 234: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 250: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 2.
3- راجع: العروة الوثقى 594: 6.
4- راجع: مجمع الفائدة والبرهان 227: 12.

ص: 544

ولو سلّمنا جريان موازين القضاء هنا، وصدّق المدّعي والمنكر عليهما، لكن نقول لا يستلزم ذلك التنصيف بعد الحلف لكلّ واحد منهما. بل النتيجة عدم استحقاقهما للمال، فإنّ مقتضى حلف كلّ واحد عدم استحقاق الآخر للمال.

وأمّا الرواية- موثّقة إسحاق بن عمّار- فموردها إقامة البيّنة. وتسري حكمه إلى مورد عدم البيّنة غير جائز، فلا تشمل المقام.

القول الثاني: التنصيف بلا حلف، وهو من حيث إنّ الأخذ بكلّ واحد من الدعويين ولو في الجملة أولى من طرحهما. مضافاً إلى ما ورد في الدرهم والدينار الودعيين بالتنصيف بينهما بلا حلف، وهو مرسلة عبدالله بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبدالله (ع) في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك فقال: «أمّا الذي قال هما بيني وبينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له وإنّه لصاحبه ويقسم الآخر بينهما»(1). ورواه الشيخ (ره) أيضاً إلا أنّه قال: ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين.

وكذا عن السكوني عن الصادق عن أبيه (ع) في رجل استودع رجلًا دينارين فاستودعه آخر ديناراً فضاع دينار منها قال: «يعطي صاحب الدينارين ديناراً ويقسم الآخر بينهما نصفين»(2).

ويرد عليه: أنّ الحكم بالتنصيف لا دليل عليه بالكلّية وما ذكر لا يصلح وجهاً


1- وسائل الشيعة 450: 18، كتاب الصلح، الباب 9، الحديث 1؛ راجع: تهذيب الأحكام 208: 6.
2- وسائل الشيعة 452: 18، كتاب الصلح، الباب 12، الحديث 1.

ص: 545

له. بل الظاهر أنّ مقتضى تعارض الأسباب والمعرّفات الشرعية هو التساقط، فإنّ كلّ واحد من الدعويين موجب للحكم بمقتضاه لو لا الآخر وإذا تعارضا تساقطا لا أن يؤثّر كلّ واحد في النصف، مع أنّ الراويان ضعيفان سنداً وموردهما الودعي ولا دليل على إلغاء الخصوصية عن موردها.

القول الثالث: الرجوع إلى القرعة، واختاره الإمام (ره) بقوله: «فالأقرب الاقتراع بينهما» وكذا صاحب «المستند» حيث قال: «والقرعة لكلّ أمر مجهول فالرجوع إليها أظهر»(1).

فالوجه فيه: ما قال من أنّ القرعة لكلّ أمر مجهول أو لكلّ أمر مشكل. واستند في «المستند» إلى رواية أبي بصير(2) وابن عمّار(3).

وأورد على الاستدلال بها السيّد (ره) بقوله: «وفيه أنّه لا واقع مجهول في المقام حتّى يعيّن بالقرعة لعدم كون العين في يدهما واحتمل كونها لثالث غيرهما، والروايتان مخصوصتان بموردها»(4).

أقول: ويمكن إيراد الخدشة في كلام السيد (ره) بأنّه لا يشترط في القرعة وجود الواقع المعيّن كما ورد أيضاً في ذيل الرواية الاولى- بعد نقل أمير المؤمنين القضيّة- فقال رسول الله (ص): «ليس من قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحقّ»(5). وهو مطلق يشمل ما إذا كان مورد


1- مستند الشيعة 355: 17.
2- راجع: وسائل الشيعة 258: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 5.
3- راجع: وسائل الشيعة 261: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 14.
4- العروة الوثقى 594: 6.
5- وسائل الشيعة 258: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 5.

ص: 546

النزاع امراً فيه واقع مجهول يستخرج بالقرعة وغيره.

مضافاً إلى أنّ ما ورد عن أبي جعفر (ع) في بيان لنا: «أوّل من سوهم عليه مريم بنت عمران- وهو قول الله (عز و جل): وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ(1)»(2) ثمّ في يونس لما ركب السفينة فوقعت في اللجّة فاستهوا فوقع على يونس. ثمّ في قضية نذر عبدالمطّلب وليس في تلك الموارد واقع معيّن مجهول.

وما قال السيّد (ره) من الاختصاص بموردها، خلاف ما في ذيل رواية أبي بصير كما قلنا فظهر أنّ الأقرب ما قرّبه الماتن (ره) من الرجوع إلى القرعة في الفرض وهو القول الثالث من الفرض الرابع.

ولا يخفى: أنّ تضمين سهام البقية على من خرج الولد له بالقرعة- في رواية أبي بصير(3)- كان من جهة أنّ الجارية كانت مشتركة بينهم، فإذا جعل الولد لواحد منهم بالقرعة وعين أنّه الوالد وأنّ الولد خلق من مائه ودفع إليه فقد استوفي جميع منفعة الجارية وفوّت نصيب البقية، فلذا ضمّنه الإمام سهم كلّ واحد من الشركاء بالقيمة. وكذا الحكم بردّ قيمة الولد لصاحب الجارية بعد خروج واحد منهم بالقرعة، وتعيينه بكون الولد له كان من جهة استيفائه منفعة الجارية التي كانت للغير وهو لا يستحقّها، فكان الولد له بالقرعة وله بدله من أداء غرامة منفعة الجارية التي استوفاها من غير استحقاق.


1- آل عمران( 3): 44.
2- وسائل الشيعة 260: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 12.
3- راجع: وسائل الشيعة 258: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 5.

ص: 547

مسألة 5: إذا ادّعى شخص عيناً في يد آخر وأقام بيّنة وانتزعها منه بحكم الحاكم، ثمّ أقام المدّعى عليه بيّنة على أنّها له، فإن ادّعى أنّها فعلًا له وأقام البيّنة عليه، تنتزع العين وتردّ إلى المدّعي الثاني، وإن ادّعى أنّها له حين الدعوى وأقام البيّنة على ذلك، فهل ينتقض الحكم وتردّ العين إليه أو لا؟ قولان، ولا يبعد عدم النقض. (4)

إقامة البيّنة من المدّعى عليه بعد حكم الحاكم عليه

(4) لو ادّعى زيد على عمرو داراً كانت في يده ويسكنه مثلًا وأقام- زيد- البيّنة، وحكم الحاكم له باستناد البيّنة وانتزعها من عمرو ودفعها إلى زيد وتمّت الخصومة، ثمّ أقام عمرو البيّنة على كون الدار له- أي لعمرو- ففي ذلك ثلاث صور.

الصورة الاولى: أن يقيم البيّنة على الملكيّة فعلًا، لا إشكال في سماع دعواه وقبول بيّنته لعدم التنافي بين دعواه الملكية للدار فعلًا مع دعوى زيد الملكية في السابق لاحتمال حدوثها بعداً وتقبل بيّنة عمرو أيضاً؛ لعدم التعارض بينها وبين بيّنة زيد التي تشهد بكون الدار لزيد في السابق.

ونتيجة الترافع تصير هكذا كما تلي: يحكم الحاكم لعمرو باستناد بيّنته، وينزع الدار من يد زيد ويدفعها إلى عمرو بلا إشكال ولا خلاف.

الصورة الثانية: أن يقيم البيّنة على ملكيته للدار سابقاً حين دعوى زيد ملكية الدار قبل حكم الحاكم، فهل تقبل البيّنة وتوجب نقض الحكم واسترداد الدار

ص: 548

لعمرو، أو لا ينقص الحكم وتبقي الدار في يد زيد؟ ففيه قولان:

القول الأوّل: على ما في «الشرائع» حيث قال- بعد طرح المسألة- «قال الشيخ: ينقض الحكم وتعاد وهو بناء على القضاء لصاحب اليد مع التعارض، والأولى أنّه لا ينقض»(1).

أمّا وجه قول الشيخ (ره) لتعارض البيّنتين وتقديم بيّنة عمرو على مبناه- مبنى الشيخ- من تقديم بيّنة الداخل، كما وجّه المحقّق كلام الشيخ بذلك، ثمّ قال: وهو بناءً على القضاء لصاحب اليد.

واعلم: أنّ المدّعي وكذا المدّعى عليه إذا أقام كلّ واحد البيّنة مستقلّة فهنا تعارض البيّنتان، ويقال: لبيّنة المدّعى عليه بيّنة الداخل، لكونه ذا اليد ويقال لبيّنة المدّعي بيّنة الخارج، لكون المال خارجاً عن يده واختلف الأصحاب في تقديم بيّنة الداخل لتأثيرها باليد، أو تقديم بيّنة الخارج لكون البيّنة وظيفته، فتقلب وليست وظيفة المدّعى عليه البيّنة حتّى تقبل، وفيما نحن فيه يعني إقامة البيّنة بعد حكم الحاكم وبعد انتزاع العين من يد المدّعى عليه ودفعها إلى المدّعي يأتي اختلاف آخر، وهو أنّ ميزان تشخيص الداخل من الخارج حينئذٍ هل هو عند التعارض يعني عند إقامة البيّنة، أو عند ادّعاء الملك ويختلف الداخل والخارج فيه أيضاً، وكان نظر الشيخ (ره) تقديم بيّنة الداخل عند دعوى الملك وهي بيّنة عمرو ولذا قال: ينقض الحكم وتعاد العين إلى عمرو.

واعتقد الشهيد في «المسالك»(2) بانتقاض الحكم أيضاً، وبني المسألة في تقديم


1- شرائع الإسلام 902: 4.
2- مسالك الأفهام 119: 14.

ص: 549

الداخل أو الخارج على أنّ المدار في الدخول والخروج على حال الملك أو على حال التعارض، واختار نفسه تقديم بيّنة الخارج كما عليه المشهور، وأنّ الميزان حال التعارض فيقدّم بيّنة عمرو لأنّها بيّنة الخارج لكون العين في يد زيد بعد حكم الحاكم، ودفع العين إلى زيد فبالنتيجة ينقض الحكم وترد العين إلى عمرو كما قاله الشيخ (ره).

القول الثاني: وهو ما اختاره المحقّق في «الشرائع» بقوله: «والاولى أنّه لاينقض»(1) ولم يبيّن الوجه له و لعلّ وجهه ما قاله السيّد (ره) في «ملحقات العروة» فإنّه أيضاً قائل بعدم نقض الحكم، وقال في وجهه: «والأقرب بناء المسألة على تقديم بيّنة الخارج أو الداخل والمدار في الدخول والخروج على حال الملك لا حال المعارضة، وهي وإن كانت حادثة ومتأخّرة عن بيّنة المدّعي إلا أنّها متعلّقة بالسابق وفي السابق كان المدّعي خارجاً لكون العين في يد المدّعى عليه»(2).

ولكن صاحب «الجواهر»(3) علّل لقول المحقّق (ره) بوجه آخر أسدّ وأدقّ ومطابق لمقتضى القواعد وظواهر الأدلّة. وهو أنّ بناء المسألة ليس على تقديم الداخل أو الخارج أصلًا، فإنّ ذلك فيما إذا وقع التنازع بين شخصين وأقام المدّعي البيّنة على مدّعاه وأقام المدّعى عليه أيضاً البيّنة على خلافه، فحينئذٍ يقع الكلام في تقديم بيّنة الداخل أو الخارج على ما سيجي ء في كلام الإمام (ره).

أمّا لو ادّعى المدّعي مالًا في يد آخر وأقام البيّنة على مدّعاه وحكم الحاكم


1- شرائع الإسلام 902: 4.
2- العروة الوثقى 597: 6.
3- جواهر الكلام 480: 40.

ص: 550

على طبقه ودفع المال إلى المدّعي وانقطع النزاع وفصلت الخصومة فلا وجه لسماع دعواه وقبول بيّنته، فإنّ الحكومة مبنيّة على الدوام، للأصل المؤيّد بالحكمة. وظاهر الأدلّة وبعد انقطاع الخصومة ورفع النزاع فلا تسمع أي دعوى تتعلّق بها، حتّى بناءً على القول بتقديم بيّنة الخارج وكون بيّنته خارجاً، لفرض كون المال تحت يد زيد لعدم كون المقام من مصاديق هذا البحث، فليس القول بعدم انتقاض الحكم وبقاء المال في يد زيد من جهة تقديم بيّنة الخارج و كون المدار حين الملك حتّى يقال: إنّ بيّنة زيد تكون خارجاً حين الدعوى لفرض كون المال تحت يد عمرو، بل من جهة عدم سماع الدعوى وعدم قبول البيّنة بعد انقطاع الخصومة ورفع النزاع بحكم الحاكم بنفع زيد ودفع المال إليه.

إن قلت: كون الحكم مبنيّاً على الدوام و نقضه غير صحيح أمر معلوم لا نخالفه، ولكن قد يحصل بعد الحكم أمر يكشف عن عدم تمامية مبنى الحكم، ومستنده كما لو أثبت المدّعى عليه فسق الشهود، أو كان الحكم على الغائب وحضر وأقام الحجّة على خلاف مبنى الحكم، فحينئذٍ يبطل الحكم لبطلان مستنده، وهذا لا يكون نقضاً للحكم وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ المدّعى عليه إذا أقام البيّنة على أنّ العين كانت له تكون حينئذٍ له بيّنة معارضة لبيّنة المدّعي فلا بدّ للحاكم من العمل على قاعدة المعارضة، والحال أنّه حكم باستناد بيّنة المدّعي فقط.

قلت: قياس ما نحن فيه بالموردين مع الفارق، فإنّه ورد الدليل على جواز جرح الشهود من جانب المدّعى عليه، وكذا قامت الحجّة على أنّ الغائب على حجّيته ففي الحقيقة يكون الحكم متزلزلًا من هذه الجهة بخلاف المقام، فإنّ

ص: 551

مسألة 6: لو تنازع الزوجان في متاع البيت- سواء حال زوجيتهما أو بعدها- ففيه أقوال، أرجحها أنّ ما يكون من المتاع للرجال فهو للرجل، كالسيف والسلاح وألبسة الرجال، وما يكون للنساء فللمرأة كألبسة النساء ومكينة الخياطة التي تستعملها النساء ونحو ذلك، وما يكون للرجال والنساء فهو بينهما، فإن ادّعى الرجل ما يكون للنساء كانت المرأة مدّعىً عليها، وعليها الحلف لو لم يكن للرجل بيّنة،

إقامة البيّنة من جانب المدّعى عليه، ودعواه الملكية أمر مرتبط بالمخاصمة والنزاع وقد فصّلت الخصومة وارتفع النزاع ولا تبقى مخاصمة حتّى تسمع الدعوى بالنسبة إليها. ولا دليل على استماع دعويه وقبول بيّنته.

نعم، لو أقامها حين الدعوى كانت مقبولة، ولعلّه كان نافعاً بحاله دون إقامتها بعد ختم النزاع وحكم الحاكم.

ولعلّ نظر الماتن (ره) من قوله: «ولا يبعد عدم النقض» لهذا الوجه.

الصورة الثالثة: أن يطلق الدعوى ويقيم البيّنة من غير تصريح بادّعاء الملكية فعلًا أو سابقاً، والظاهر أنّ هذه الدعوى يرجع إلى إحدى الصورتين المتقدّمتين.

بناءً على ما قالوا من بناء المسألة على البيّنة الداخل والخارج؛ يحمل الإطلاق على الصورة الاولى؛ يعني إرادة الملكية فعلًا دفعاً لحصول التعارض بين البيّنتين.

وبناءً على ما قلنا يحمل أيضاً عليها حفظاً للبيّنة والدعوى عن عدم السماع واللغوية.

ص: 552

وإن ادّعت المرأة ما للرجال فهي مدّعية، عليها البيّنة وعلى الرجل الحلف، وما بينهما فمع عدم البيّنة وحلفهما يقسّم بينهما. هذا إذا لم يتبيّن كون الأمتعة تحت يد أحدهما، وإلا فلو فرض أنّ المتاع الخاصّ بالنساء كان في صندوق الرجل وتحت يده أو العكس، يحكم بملكية ذي اليد، وعلى غيره البيّنة. ولا يعتبر فيما للرجال أو ما للنساء العلم بأنّ كلًا منهما استعمل ماله أو انتفع به، ولا إحراز أن يكون لكلّ منهما يد مختصّة بالنسبة إلى مختصّات الطائفتين. وهل يجري الحكم بالنسبة إلى شريكين في دار: أحدهما من أهل العلم والفقه، والثاني من أهل التجارة والكسب، فيحكم بأنّ ما للعلماء للعالم وما للتجّار للتاجر، فيستكشف المدّعي من المدّعى عليه؟ وجهان، لا يبعد الإلحاق. (5)

في تنازع الزوج والزوجة في متاع البيت

اشارة

(5) هنا جهتان للبحث:

الجهة الاولى

لو تنازع الزوجان- مع بقاء الزوجية، أو تفارقهما- في متاع البيت، ففي المسألة أقوال:

القول الأوّل: ما للرجال للزوج وما للنساء للزوجة والمشترك بينهما يقسم بينهما سواء. هذا قول المشهور ورجّهها الماتن (ره) أيضاً، بل ادّعي الإجماع عليه

ص: 553

كما عن الشيخ في «الخلاف»(1) وابن حمزة في «الوسيلة»(2) وابن إدريس في «السرائر»(3) وعليه فروع- متفرّعة على القول الأوّل- نذكرها قبل بيان الأدلّة.

الفرع الأوّل: لو ادّعى الزوج ما يكون معمولًا للزوجة ولم يكن المال تحت يد أحدهما.

فإن كان للزوج بيّنة يأتي بها ويأخذ ما ادّعاه. وإلا فالزوجة بما أنّها هي المدّعى عليها تحلف ويكون المال لها. وإن لم يكن له البيّنة وهي لم تحلف يقسّم المال بينهما.

الفرع الثاني: لو ادّعت الزوجة ما يكون معمولًا للرجال ولم يكن المال تحت يد أحدهما.

فإن كانت لها بيّنة تأتي بها وتأخذ المال وإلا فالزوج بما أنّه المدّعى عليه يحلف ويكون المال له. وإن لم تكن لها البيّنة وهو لم يحلف يقسّم المال بينهما.

الفرع الثالث: لو ادّعى الزوج على الزوجة مالًا كان في صندوق الزوجة وتحت يده- سواء كان المال خاصّة بالنساء أو بالرجال- يحكم بملكية ذي اليد، أي الزوجة وعلى الزوج البيّنة.

الفرع الرابع: لو ادّعت الزوجة مالًا كان في صندوق الرجل وتحت يده، سواء كان المال خاصّة بالرجال أو بالنساء يحكم بملكية ذي اليد أي الزوج، وعلى الزوجة البيّنة.


1- الخلاف 352: 6- 354، مسألة 27.
2- الوسيلة: 227.
3- السرائر 193: 2.

ص: 554

الفرع الخامس: لا يعتبر في المال المختصّ بالزوج أو الزوجة العلم بالاستعمال أو الانتفاع من المال، بل يكفي وجود اليد على المال ولو لم يحرز أنّ للزوج مثلًا يد مختصّة على مختصّات الزوج وللزوجة يد مختصّة على مختصّات الزوجة.

مضافاً إلى الإجماعات المنقولة(1) هناك روايات كثيرة نذكر بعضها.

1- صحيحة رفاعة عن الصادق (ع) قال: «إذا طلّق الرجل امرأته وفي بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما. قال: وإذا طلّق الرجل المرأة فادّعت أنّ المتاع لها وادّعى الرجل أنّ المتاع له كان له ما للرجال ولها ما يكون للنساء، وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما»(2).

تلاحظ أنّ الظاهر من الرواية مطلق المفارقة، وذكر عنوان الطلاق لبيان المثال، ولذا نرى أنّ الرواية تشمل مطلق المفارقة والادّعاء في الأموال المشتركة والمختصّة. وعدم التعرّض لحكم ما يختصّ للرجال لا يقدح في دلالة الرواية.

2- موثّقة يونس بن يعقوب عن أبي عبدالله (ع) في امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شي ء منه فهو له»(3).

كيفية الاستدلال بالرواية:


1- جدير بالذكر أنّ بعض الناقلين للإجماع اختصّوه بحال الطلاق وافتراق الزوج والزوجة فراجع تفصيل الشريعة، كتاب القضاء: 290.
2- وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 216: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

ص: 555

يستفاد من أنّه يلي حيث قال (ع): «ومن استولى على شي ء منه فهو له» الذي كالتعليل للحكم، أنّ حكم ذا اليد واضح والمشتركات لكلاهما.

3- مضمرة زرعة عن سماعة قال: سألته عن رجل يموت ما له من متاع البيت؟ قال: «السيف والسلاح والرحل وثياب جلده»(1).

وفي كيفية الاستدلال نقول: ظهور الرواية واضح كما اعترف به صاحب «الجواهر» (ره)(2).

القول الثاني: الحكم بأنّ متاع البيت للمرأة، الف- قال الشيخ (ره)(3) ما حاصله: إنّ المرأة تأتي بالمتاع من بيت أهلها إلى بيت الزوج، فالمتاع لها في موارد الشكّ.

ب- هنا روايات دالّة على أنّ المتاع للزوجة.

1- رواية عبدالرحمن بن حجّاج عن أبي عبدالله (ع) قال: «سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟» فقلت له: بلغني: أنّه قضى في متاع الرجل والمرأة إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحيّ وورثة الميّت أو طلّقها فادّعاه الرجل وادّعته المرأة بأربع قضايا فقال: «وما ذاك؟» قلت: أمّا أوّلهنّ: فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي، كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة، ومتاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل، وما كان للرجال والنساء بينهما نصفان، ثمّ بلغني أنّه قال: إنّهما مدّعيان جميعاً فالذي بأيديهما جميعاً- يدّعيان جميعاً- بينهما نصفان، ثمّ قال: الرجل صاحب البيت والمرأة الداخلة عليه وهي المدّعية فالمتاع كلّه للرجل إلا متاع النساء الذي لا يكون للرجال فهو للمرأة، ثمّ


1- وسائل الشيعة 215: 26، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 2.
2- راجع: جواهر الكلام 495: 40.
3- الاستبصار 45: 3.

ص: 556

قضى بقضاء بعد ذلك لولا أنّى شهدته- لم أروه عنه-: ماتت امرأة منّا ولها زوج وتركت متاعاً فرفعته إليه فقال: «اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال والمرأة فقد جعلناه للمرأة إلا الميزان، فإنّه من متاع الرجل فهو لك، فقال (ع) لي: «فعلى أيّ شي ء هو اليوم؟» فقلت: رجع- إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي-: أن جعل البيت للرجل، ثمّ سألته (ع) عن ذلك فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: «القول الذي أخبرتني: أنّك شهدته وإن كان قد رجع عنه» فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: «أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت: شاهدين فقال: «لو سألت من بين لابتيها- يعني: الجبلين ونحن يومئذٍ بمكة- لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها فهي التي جاءت به وهذا المدّعى فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة»(1).

هذه الرواية نقلت من طرق متعدّدة وفي بعض الطرق تصير الرواية صحيحة وفي بعض الطرق تصير موثّقة.

ذهب صاحب «الجواهر»(2) إلى القول بالتعدّد في رواية عبدالرحمن، كما قال السيّد(3) أيضاً له ثلاث روايات. ولكن الظاهر عدم تعدّد الرواية ولو كانت العبارات مختلفة.

فنقول: ولو قال السيّد أنّ المراد منه مطلق مختصّات الرجال ولكن ربما يقال:


1- وسائل الشيعة 213: 26- 214، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 1.
2- راجع: جواهر الكلام 495: 40- 496.
3- راجع: العروة الوثقى 617: 6.

ص: 557

جاء في رواية الصدوق(1) أنّ المرأة تنقل من بيتها المتاع- تنقل إلى بيت زوجها- وحملها الصدوق على متاع النساء، إذا لا تنطبق هذه الرواية دليلًا على القول الثاني.

القول الثالث: قال الشيخ: إن لم تكن لهما بيّنة فلكلّ واحد النصف مطلقاً، سواء كانت الزوجية باقية أم لا، وسواء في المتاع المختصّة أم مشتركة، وسواء فيما عليه اليد أم لا، وذلك للعمومات الدالّة على أن البيّنة للمدّعي واليمين لمن أنكر(2).

أقول: لا مجال لهذا القول بعد وجود روايات خاصّة في المسألة وفي التعارض نتوجّه إلى العلاج.

القول الرابع: إن لم يكن للمدّعي بيّنة يحكم بعد اليمين وإلا كان الحكم كما في غيره من الدعاوي.

اختاره الشهيد في «المسالك»(3) ونسبه إلى العلامة(4) وغيره.

قال العلامة و «المعتمد» أن نقول: إن كان هناك قضاء عرفي يرجع إليه وحكم به بعد اليمين وإلا كان الحكم كما في سائر الدعاوي.

أقول: والتحقيق أن يقال: ليس للقول الثالث والرابع مدرك روائي.

ويمكن الجمع بين الروايات الدالّة على القول الثاني والقول الأوّل وحملها على القول الأوّل.


1- راجع: الفقيه 111: 3/ 3430، الهامش رقم 3.
2- راجع: المبسوط 310: 8.
3- مسالك الأفهام 138: 14.
4- مختلف الشيعة 391: 8.

ص: 558

أوّلًا: بأنّ التعليل الذي جاء في الرواية، بأنّ النساء تأتون الأساس من أهلهنّ إلى بيت الزوج ليس مرسوماً عادياً في كلّ البلاد.

ثانياً: هذه الرواية المستدلّة بها على القول الثاني ليست معمول بها عند المشهور، فالترجيح عندنا للروايات الدالّة على القول الأوّل الذي اختاره الماتن (ره) وهو قول المشهور أيضاً.

الجهة الثانية

سراية حكم الزوج والزوجة إلى غيرهما من الشريكين في متاع أو دار أو غيره، فيه وجهان:

الوجه الأوّل: أي عدم إلحاق الشريكين من الطلاب والنجّار والأب والأخ وغيره.

لاختصاص الروايات بالزوجين.

الوجه الثاني: الإلحاق، لعدم الخصوصية بين زوجين، بل الميزان الاختصاص الكاشف عن اليد، فيجري في الأب والبنت أو الابن والأخ والامّ وغيرها من القرابات من العطّار والنجّار وغيرهم.

والأولى كما قال به الماتن (ره) أيضاً الإلحاق. ذلك لأنّ المتفاهم العرفي من الروايات ذلك، ولذا قال السيّد (ره): «ومن هنا يمكن أنّ يدّعي جواز التعدّي عن مورد الأخبار إلى مثل الأخ والاخت والامّ والابن، إذا كانا في بيت واحد وتنازعا في الأمتعة التي فيه، بل جواز، التعدّي إلى مثل النجّار والعطّار إذا كانا في بيت واحد وتنازعا فيما فيه»(1).


1- العروة الوثقى 620: 6.

ص: 559

مسألة 7: لو تعارضت اليد الحالية مع اليد السابقة أو الملكية السابقة تقدّم اليد الحالية، فلو كان شي ء في يد زيد فعلًا، وكان هذا الشي ء تحت يد عمرو سابقاً أو كان ملكاً له، يحكم بأنّه لزيد، وعلى عمرو إقامة البيّنة، ومع عدمها فله الحلف على زيد. (6)

تعارض اليد الحالية واليد السابقه أو الملكية السابقه

(6) هناك فروض لا بدّ أن نبحث عنه:

الفرض الأوّل:

تنازع زيد وعمرو في ملكية دار تحت يد زيد ويسكنها فعلًا، وكانت تحت يد عمرو في الشهر الماضي، أو يعلم القاضي أنّها كانت ملكاً له في الشهر الماضي أو أقام البيّنة على ذلك، فهل يقدم اليد الحالية لكونها أمارة على الملكية فعلًا، أو يقدّم اليد السابقة أو الملكية السابقة المعلومة أو التي قامت عليها البيّنة، فيه قولان:

القول الأوّل: تقديم يد الحالية. الأكثرون على الأوّل كما عليه الماتن (ره).

والأقوى هو الأوّل؛ لأنّ اليد الحالية أمارة وكاشفة عن الملكية الفعلية لزيد، فهو مالك فعلًا واليد السابقة لعمرو، كانت كاشفة عن ملكيته في الشهرالماضي. وكذا العلم تعلّق بملكية السابقة وكذا البيّنة. واستمرار حكم اليد والملكية إلى الآن يحتاج إلى الاستصحاب وهو أصل لا يعارض الأمارة، ففي الحقيقة ليست التعارض بين اليد الحالية واليد السابقة، بل التعارض

ص: 560

بين الاستصحاب واليد الحالية واليد مقدّم عليه.

وقال السيّد (ره): «ودعوى أنّ اعتبارها مشروطة بعدم كون الاستصحاب على خلافها ممنوعة؛ بعموم أدلّتها مع أنّها في غالب الموارد مخالفة للأصل، وأمّا ما يمكن أن يقال: من أنّه إذا ثبتت الملكية السابقة للسابق فلا بدّ لذي اليد الحالية من إثبات الانتقال إليه والأصل عدم مدفوع؛ بأنّ حال هذا الأصل أيضاً حال الاستصحاب في عدم صلاحيته للمعارضة مع اليد، ودعوى أنّه يعد حينئذٍ مدّعياً وصاحب اليد السابقة منكراً كما ترى»(1).

ومراده من قوله «كما ترى» أنّ صيرورته مدّعياً يحتاج إلى دعوى انتقال اليد صريحاً وهو منتفية، ويرد على الشهادة مضافاً إلى ما تقدّم بعدم تطابق الشهادة، والدعوى لأنّ الدعوى هي الملكية الآن والشهادة على الملكية في السابق.

فبالنتيجة يعلم أنّ دعوى عمرو الملكية فعلًا بلا دليل، فلو أقام المدّعي البيّنة على الملكية الفعلية، فهو وإلا فالقول قول ذي اليد الحالية، مع الحلف.

القول الثاني: تقديم يد السابقة. واختار المحقّق في «الشرائع»، الثاني(2).

واستدلّ للقول الثاني: بأنّ اليد الحالية تدلّ على الملكية فعلًا فقط، ولكن اليد السابقة أو الملكية السابقة المعلومة أو التي قامت عليها البيّنة تدلّ على الملكية الحالية والسابقة، فيكون أولى وأرجح لمشاركتها لها في الدلالة على الملك الآن وانفرادها على الدلالة على الملكية السابقة.

وفيه أنّ دلالتها على الملك الحالي لا تكون إلا بضميمة الاستصحاب كما


1- العروة الوثقى 622: 6.
2- راجع: شرائع الإسلام 899: 4.

ص: 561

نعم لو أقرّ زيد بأنّ ما في يده كان لعمرو وانتقل إليه بناقل، انقلبت الدعوى وصار زيد مدّعياً، والقول قول عمرو بيمينه، (7) وكذا لو أقرّ بأنّه كان لعمرو أو في يده وسكت عن الانتقال إليه، فإنّ لازم ذلك دعوى الانتقال، وفي مثله يشكل جعله منكراً لأجل يده. (8)

تقدّم وإذا سقط الاستصحاب في قبال اليد فلا يبقى وجه للترجيح، بل تقع الدعوى للملكية الحالية بلا دليل.

فالأقوى هو القول الأوّل لما تقدّم كما عليه الأكثر من تقديم اليد الحالية.

الفرض الثاني:

(7) يعني وكما في الفرض السابق لو أقرّ زيد بأنّ الدار كانت في يد عمرو في الشهر الماضي، لكنّها انتقلت إليه بناقل شرعي يسقط يده عن الاعتبار، فإنّ اليد يصير مستنداً إلى انتقال الدار إليه وهو مشكوك فانقلبت الدعوى ويصير زيد مدّعياً للانتقال وعمرو منكراً فلا بدّ له من الإثبات وإلا فيقدّم قول عمرو مع الحلف.

الفرض الثالث:

(8) وذلك لأنّ إقراره بأنّ الدار كانت في يد عمرو في الماضي، وادّعائه أنّها كانت له فعلًا يستلزم انتقال الدار إليه وهو مشكوك فاعتبار يده حينئذٍ مورد الشبهة، فكونه منكراً باستناد كونه ذا اليد أيضاً مشكل فلا بدّ له من إثبات الانتقال

ص: 562

وأمّا لو قامت البيّنة على أنّه كان لعمرو سابقاً، أو علم الحاكم بذلك، فاليد محكّمة، ويكون ذو اليد منكراً والقول قوله. (9)

أيضاً. ولذا قال في المتن وفي مثله يشكل جعله منكراً لأجل يده. ولكن السيّد اختار في هذا الفرض أيضاً تقدّم اليد الحالية وقال: «وأمّا إذا قال هذا كان سابقاً له والآن هو لي ولم يذكر أنّي اشتريته، أو انتقل إليّ بأن كان مصبّ الدعوى له أو ليس له؛ فلا يكون مدّعياً. نعم، يكون مدّعياً للملكية وحجّته على ذلك يده الفعلية»(1).

ولعلّ الأظهر ما قال: فإنّ ذا اليد الحالية لم يصرح بالانتقال إليه. وكونه لازم إقراره بكونه ملكاً للسابق لا ينافي ذلك بعد عدم كونه مصبّاً للنفي والإثبات، ولا تنافي بين إقراره وادّعائه الملكية فعلًا، فيكون يده معتبراً وكاشفاً فيكون منكراً.

الفرض الرابع:

(9) هذا رابع الفروض وهو نفس الفرض الأوّل، فإنّه قال في الفرض الأوّل: تعارض اليد الحالية مع اليد السابقة أو الملكية السابقة، وقلنا أنّ الملكية السابقة قد يحرز بالعلم أو بالبيّنة، فالحكم فيه مثل الأوّل.


1- العروة الوثقى 625: 6.

ص: 563

نعم، لو قامت البيّنة بأنّ يد زيد على هذا الشي ء؛ كان غصباً من عمرو أو عارية أو أمانة ونحوها، فالظاهر سقوط يده، والقول قول ذي البيّنة. (10)

الفرض الخامس:

(10) هذا فرض خامس في كلام الماتن (ره) في هذه المسألة، وهي أنّه لو أقام المدّعي البيّنة على أنّ الدار كانت له في الشهر الماضي أو في يده وأنّ ذا اليد أخذها منه غصباً أو عارية أو أمانة أو إجارة ونحوها؛ فيسقط اعتبار يد ذي اليد الحالية ويقدّم قول ذي البيّنة؛ لأنّ استصحاب كون يده على المال غصباً أو عارية أو أمانة يقدّم على اليد. ولا تكون اليد حينئذٍ كاشفة وأمارة على الملكية، لأنّ هذا الاستصحاب موضوعي ويبيّن حال اليد وكيفيتها من كونها غصباً أو أمانة فتسقط عن الاعتبار فتقدّم البيّنة على الملكية أو اليد السابقتين بضميمة استصحابها إلى حال الدعوى.

قد يتوهّم في كلام بعض شراح المتن أنّ المراد قيام البيّنة على غصبية يد زيد على الدار والمورد من باب تعارض الأمارتين- البيّنة واليد- والبيّنة مقدّمة على اليد.

ويرد عليه أنّ هذا خلاف الفرض كما هو ظاهر كلام الماتن (ره) فإنّه فرض أنّ البيّنة قامت على أنّ يد زيد على الدار كان غصباً من عمرو. يعني كانت ملكاً لعمرو وغصبه زيد بعد أن كان الدعوى أنّها كانت له في الشهر الماضي.

ص: 564

مسألة 8: لو تعارضت البيّنات في شي ء، فإن كان في يد أحد الطرفين، فمقتضى القاعدة تقديم بيّنة الخارج ورفض بيّنة الداخل؛ وإن كانت أكثر أو أعدل وأرجح. وإن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضى بيّنة الخارج وعدم اعتبار الداخل. وإن كان في يد ثالث أو لا يد لأحد عليه، فالظاهر سقوط البيّنتين والرجوع إلى الحلف أو إلى التنصيف أو القرعة. لكن المسألة بشقوقها في غاية الإشكال من حيث الأخبار والأقوال، وترجيح أحد الأقوال مشكل وإن لا يبعد في الصورة الاولى ما ذكرناه. (11)

تعارض البيّنات

اشارة

(11) البحث عن تعارض البيّنات من المسائل المهمّة وكانت مورداً للاختلاف بين الأعاظم من القدماء والمتأخّرين وكثرت فيها الروايات المختلفة.

قال السيّد (ره): «وللعلماء فيها ... أقوال مختلفة وآراء متشتّة، جملة منها غيرمنطبقة على أخبار المقام، ولا على القواعد العامّة، بل قد يختلف فتوى واحد منهم فيفتي في مقام، ويفتي بخلاف في مقام آخر. وربما يدّعي الإجماع في مورد ويدّعي على خلافه الإجماع في مقام آخر. وقد يحكم بضعف خبر، ويعمل به في مورد آخر- إلى ان قال- وليس الغرض الازراء(1) عليهم، بل بيان الحال مقدّمة لتوضيح الحقّ من الأقوال، فإنّ المسألة في


1- الازراء- ازري به و ازراه: عابه ووضع من حقه- .( المنجد)

ص: 565

غاية الإشكال وليست محرّرة»(1). انتهى.

وكذا قال الإمام (ره) في ذيل المسألة ولكن المسألة بشقوقها في غاية الإشكال من حيث الأخبار والأقوال، وترجيح أحد الأقوال مشكل.

ذكرنا ذلك للاهتمام بها والتوجّه بالدقّة والتأمّل فيها.

أقول: وقبل الورود في المسألة نذكر معنى التعارض في البيّنات ومتى تتحقّق التعارض بينها.

قال المحقّق (ره)(2): يتحقّق التعارض في الشهادة مع تحقّق التضادّ؛ يعني كان على وجه يقتضي تصديق كلّ منهما تكذيب الاخرى، مثل أن يشهد شاهدان بعين أنّها لزيد ويشهد آخران أنّها لعمرو، أو يشهد شاهدان أنّه باع عيناً مخصوصة لزيد اليوم، ويشهد شاهدان آخران أنّه باع هذه العين بخصوصها لعمرو في هذا اليوم.

الصور الموجودة في تعارض البينات

ثمّ إنّه لو تنازع رجلان في عين وأقاما البيّنة فقد تكون العين في يد أحدهما، أو تكون في يديهما، أو تكون في يد ثالث، أو لا يد عليها لأحدهما كما تقدّم في المسألة الرابعة، ولكن كان الفرض فيها عدم البيّنة لهما. وهنا يفرض لكلّ واحد منهما البيّنة بحيث يتعارضان في المورد.

الصورة الاولى: فيما لو تعارض البينتان وكانت العين في يد أحدهما

وهي أن تكون العين في يد أحدهما وأقاما البيّنة على مال، فللأصحاب فيها


1- العروة الوثقى 625: 6.
2- شرائع الإسلام 897: 4.

ص: 566

أقوال وقد أنهاها في «المستند»(1) إلى تسعة أقوال وقال في ذيلها وربما توجد أقوال اخر.

القول الأوّل: تقديم بيّنة الخارج مطلقاً سواء شهدتا بالملك المطلق أو المقيّد بالسبب أو بالتفريق. قال في «الجواهر»(2) وهو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل عن «الخلاف»(3) و «الغنية»(4) و «السرائر»(5) الإجماع عليه، بل عن الأوّل- «الخلاف»- نسبته إلى أخبار الفرقة.

وقال الإمام (ره) في هذه الصورة: «فمقتضى القاعدة تقديم بيّنة الخارج ورفض بيّنة الداخل؛ وإن كانت أكثر أو أعدل وأرجح»(6).

وقال في «الرياض»: «إنّ وظيفة ذي اليد اليمين دون البيّنة فوجودها في حقّه كعدمها بلا شبهة»(7).

ولذا لو أقامها بدلًا عن يمينه لم تقبل منه إجماعاًإن لم يقمها المدّعي.

والدليل على هذا القول- من الصورة الاولى- روايات:

منها: المستفيضة عن النبيّ (ص) إنّه قال: «البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(8) أو «على من أنكر».


1- راجع: مستند الشيعة 394: 17.
2- راجع: جواهر الكلام 416: 40.
3- راجع: الخلاف 330: 6.
4- راجع: غنية النزوع: 443.
5- راجع: السرائر 168: 2.
6- تحرير الوسيلة: 845، مسألة 8.
7- رياض المسائل 207: 13.
8- وسائل الشيعة 233: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1.

ص: 567

وتقريب الاستدلال أنّه جعل لكلّ واحد منهما حجّة، فكما لا يمين على المدّعي لا بيّنة على المدّعى عليه، والتفصيل قاطع للشركة ففي المحكمة يلاحظأوّلًا بيّنة المدّعي لإثبات حقّه، وتقدّم على المدّعى عليه سواء كانت له البيّنة أم لا.

ومنها: رواية محمّد بن فحص عن منصور قال: قلت لأبي عبدالله (ع): رجل في يده شاة فجاء رجل فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده، ولم يهب، ولم يبع، وجاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده، لم يبع ولم يهب، فقال أبو عبدالله (ع): «حقّها للمدّعي ولا أقبل من الذي في يده بيّنة، لأنّ الله (عز و جل) إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، وإلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر الله عزّ وجلّ»(1).

وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة بمنصور، لكونه مشتركاً بين الثقة وغير الثقة، ولكنّها منجبرة بما تقدّم من الشهرة العظيمة، وكونها على مقتضى القاعدة و دلالتها على المطلوب واضحة.

ومنها: ما عن «فقه الرضا (ع)» أنّه قال (ع): «فإذا ادّعى رجل على رجل عقاراً أو حيواناً أو غيره وأقام بذلك بيّنة وأقام الذي في يده شاهدين فإنّ الحكم فيه أن يخرج الشي ء من يد مالكه إلى المدّعي لأنّ البيّنة عليه»(2).

وأجاب السيّد (ره)(3) عن هذه الأدلّة واستشكل فيها:


1- وسائل الشيعة 255: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 14.
2- مستدرك الوسائل 372: 17، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 3.
3- راجع: العروة الوثقى 634: 6.

ص: 568

1- أمّا عن النبوي قال: إنّ المراد من قوله البيّنة للمدّعي إلى آخره بيان الوظيفة الأوّلية للمدّعي والمنكر وإلا فلا مانع من سماع البيّنة للمنكر أيضاً؛ كما أنّ للمدّعي أيضاً اليمين المردودة، واليمين الذي هي جزء البيّنة، واليمين الاستظهاري. ثمّ قال: وأيضاً يمكن أن يقال: القدر المعلوم من الخبر أنّه لا يلزم المنكر بالبيّنة وإنّما يلزم باليمين لا أنّه لا تقبل منه البيّنة.

2- وأمّا عن خبر المنصور بضعف السند وموافقته لما يحكي عن أحمد الحنبل من العامّة وعدم مقاومته للأخبار الدالّة على حجّية بيّنة المنكر وتقديمها على بيّنة المدّعي.

3- وأمّا عن الرضوي بعدم معلومية كونه خبراً.

4- وأمّا الإجماع الذي ادّعاه السيّد صاحب «الرياض»(1)؛ أوّلًا: بالمنع من ثبوته. ثانياً: لو سلمنا فرض ثبوته يحتمل اختصاصه بصورة عدم التعارض، انتهى.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ الظاهر من النبوي هو بيان الحكم الوضعي التوقيفي المجعول من الله عزّ وجلّ للمدّعي والمنكر، بحيث يكون المطلوب من المدّعي والثابت عليه شرعاً البيّنة، والمطلوب من المدّعى عليه والثابت عليه شرعاً هو اليمين. ولا إشكال في أنّ التفصيل قاطع للشركة فلا يصحّ للمدّعي غير البيّنة كما لا يصحّ للمدّعى عليه غير اليمين فلا يكون النبيّ في مقام بيان الحكم التكليفي من الوجوب والجواز، أو بيان وظيفة الأوّلية لهما. نعم، لو دلّ الدليل على إتيان المدّعي باليمين كما في اليمين المردودة، أو اليمين الاستظهاري، أو اليمين مع


1- راجع: رياض المسائل 207: 13.

ص: 569

الشاهد الواحد، فهو استثناء ومورد للقبول. كما نتبع لو دلّ الدليل على إقامة المنكر البيّنة في بعض الموارد.

ثانياً: يرد على جوابه عن الخبر المنصور بأنّا نقبل ضعفه بمنصور، فإنّه مشترك بين الثقة وغيرها. وكذا بمحمّد بن حفص، فإنّه قال الخوئي (ره) في «مباني التكملة»(1) ليس هو محمّد بن فحص العمري وكيل الناحية كما توهّمه محقّق الأردبيلي في «مجمع الفائدة»(2)، فإنّه من أصحاب العسكري كيف يروي هو عن منصور الذي هو من أصحاب الصادق (ع) وأدرك الكاظم (ع)، فمحمّد بن حفص الذي في سند الرواية رجل آخر مجهول.

ولكنّا نقول بجبر السند بالشهرة العظيمة على طبقها ودلالتها صريحة في المطلوب وفيها مبالغة حيث ذكر فيها العلّة مرّتين.

ثالثاً: ويرد على جوابه عن الرضوي بأنّه وإن لم يذكر فيه الإمام المرويّ عنه ولكنّه ذكره في «الفقه الرضا (ع)» بصورة الرواية، يعلم أنّه عن الرضا (ع) وهو أيضاً منجبر بالشهرة العظيمة.

فقد ظهر ممّا قلنا إنّ الصورة الاولى مشهور بين الأصحاب ومطابق للقواعد، وما استدلّ عليه خال عن الإشكال.

القول الثاني: تقديم البيّنة مطلقاً: قال به الشيخ (ره) في «الخلاف»(3) في كتاب الدعاوي، واختاره السيّد (ره) في «العروة» وقال: «ثمّ إنّ الأقوى سماع البيّنة من المنكر في صورة التعارض، بل مطلقاً ولو مع عدمه، فيجوز للمنكر مع عدم البيّنة


1- مباني تكملة المنهاج 50: 1، مسأله 59.
2- مجمع الفائدة والبرهان 235: 12.
3- راجع: الخلاف 330: 6.

ص: 570

للمدّعي أن يقيم البيّنة فراراً من اليمين»(1)، فهو قائل بتقديم بيّنة المنكر عند التعارض مع بيّنة المدّعي، وكذا جواز إقامة البيّنة للمنكر عند عدم إقامة البيّنة من المدّعي بدلًا عن الحلف، خلافاً للإجماع الذي نقله في «الرياض»(2).

واستدلّ على ذلك بعد منع الإجماع وعدم ثبوته بامور.

منها: عموم ما دلّ على حجّية الشهادة من الكتاب(3) والروايات(4).

ومنها: عموم مثل قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(5).

ومنها: رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله في ذيل الرواية قيل: «فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البيّنة قال أقضي بها للحالف الذي هي في يده»(6).

ومنها: موثّقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبدالله (ع): «أنّ أمير المؤمنين (ع) اختصم إليه رجلان في دابّة وكلاهما أقام البيّنة أنّه أنتجها فقضى بها للذي في يده وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(7).

ومنها: ما عن طريق العامّة عن جابر أنّ رجلين تداعيا دابّة فأقام كلّ منهما البيّنة أنّها دابّته أنتجها، فقضى رسول الله للذي في يده(8).


1- العروة الوثقى 632: 6.
2- راجع: رياض المسائل 207: 13.
3- \i وَأشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ\E.( الطلاق( 65): 2)
4- راجع: وسائل الشيعة 239: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 6، الحديث 1.
5- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.
6- وسائل الشيعة 250: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 2.
7- وسائل الشيعة 250: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 3.
8- السنن الكبرى 256: 10.

ص: 571

قال السيّد في «العروة»: «وهو مقتضى إطلاق جملة منها»(1).

أقول: لعلّ مراده عموم قول أمير المؤمنين (ع) حيث قال (ع): «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى»(2) وكذا قوله (سبحانه و تعالى) لنبيّ من الأنبياء- «اقض بينهم بالبيّنات وأضفهم إلى اسمي»(3). ولعلّ قوله- قول السيّد- «بجواز إقامة البيّنة للمنكر عند عدم إقامة المدّعي للبيّنة فراراً من الحلف» هو استظهاره من هذه العمومات.

وقال السيّد (ره)- في إدامة الاستدلالات-(4): «وأيضاً خصوص خبر حفص بن غياث حيث قال: إذا رأيت شيئاً في يد رجل أيجوز أن أشهد أنّه له فقال: «نعم»(5) فإنّه يدلّ على جواز الشهادة لذي اليد وصحّتها.

وخصوص صحيحة حمّاد الحاكية لأمر عيسى بن موسى المسعى: إذ رأى أبا الحسن موسى (ع) مقبلًا من المروة على بغلة فأمر ابن هيّاج- رجل من همدان منقطعاً إليه- أن يتعلّق بلجامه ويدّعي البغلة فأتاه فتعلّق باللجام وادّعى البغلة فثنى أبو الحسن (ع) رجله ونزل عنها وقال لغلمانه: «خذوا سرجها وادفعوها إليه»، فقال: «والسرج أيضاً لي»، فقال أبوالحسن (ع): «كذبت عندنا البيّنة بأنّه سرج محمّد بن علي وأمّا البغلة فإنّا اشتريناها منذ قريب وأنت أعلم وما قلت»(6)،


1- العروة الوثقى 627: 6.
2- وسائل الشيعة 231: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 229: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 2.
4- العروة الوثقى 633: 6.
5- وسائل الشيعة 292: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.
6- وسائل الشيعة 291: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 24، الحديث 1.

ص: 572

فإنّ السرج كان بيده ومع ذلك قال عندنا البيّنة بأنّه سرج محمّد بن علي.

وإشعار خبر فدك فإنّ أمير المؤمنين (ع) أنكر على أبي بكر في طلبه البيّنة منه في الدعوى عليه- مع أنّه لا يطلب من غيره إذا ادّعى هو على ذلك الغيرفحاصل إنكاره (ع) أنّه لم يفرق بينه (ع) وبين غيره من الناس في طلب البيّنة، ولو كان لا يقبل من المدّعى عليه البيّنة لكان أولى بالإنكار عليه في مقام المجادلة(1).

وأضاف صاحب «المستند» (ره) بما قاله السيّد (ره) من الاستدلالات بقوله.

ومنها: ما ذكروا في مقام التعارض بين البيّنات بأنّهما تعارضتا فتساقطا والتساقط لا يكون إلا مع حجّيتهما. وقالوا أيضاً في مقام الترجيح بأنّ لذي اليد دليلين: اليد والبيّنة وبتقديم الأعدل والأكثر منهما.

ويمكن إيراد الخدشة في جميع ما استدلّ بها لترجيح بيّنة الداخل، فإنّ ما استدلّ به على أنحاء.

منها: العموم والمطلقات الدالّة على حجّية الشهادة والبيّنة من الآيات والروايات وقول عليّ (ع) شهادة عادلة.

ويرد عليها أنّها قابلة للتخصيص أو التقييد، فلو دلّ دليل على عدم صحّة البيّنة لذي اليد فيقدّم عليها.

ومنها: ما دلّ على قضاء النبيّ (ص) أو نبيّ من أنبياء السابق بالبيّنات.

ويرد عليه أنّه ليس المراد منها القضاء بالبيّنات والأيمان مطلقاً، فإنّه يلزم جواز اليمين للمدّعي ابتداءً أو الجمع بين البيّنة واليمين في مورد واحد، بل المراد


1- راجع: وسائل الشيعة 293: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.

ص: 573

القضاء بالبيّنات واليمين على طبق ما قرّره في الشرع من أنّ البيّنة وظيفة من؟ واليمين وظيفة من؟

ومنها: خصوص ما دلّ على حجّية بيّنة المنكر وصحّتها مثل خبر حفص بن غياث.

ويرد عليه:

أوّلًا: قوله: «أيجوز لي أن أشهد أنّه له» يكون المراد الشهادة بأنّ ما في يده كان ملكاً من باب حجّية اليد وأماريته للملكية ولا يكون في مقام المنازعة والمرافعة وإقامة البيّنة عندها ولا يلازم من قوله (ع): «نعم» قبولها في المحكمة بلا شبهة.

ثانياً: غاية ما يدلّ عليه هو حجّية بيّنة ذي اليد وصحّتها وليس الكلام فيه، بل مورد الكلام الاستدلال على ترجيح بيّنة الداخل على بيّنة الخارج عند التعارض، وهذا لا تدلّ على ذلك بلا شبهة.

وكذا خصوص صحيحة حمّاد(1) فإنّه قال إنّ عندنا البيّنة بأنّه سرج محمّد بن عليّ (ع) مع كونه ذا اليد ومنكراً.

ويرد عليه أنّ الإمام لم يكن في المحكمة أو عند القاضي، بل لعلّه لا يريد أن يحلف لهم أصلًا، ولعلّه لم يقبل منه اليمين لعدم اعتقادهم بإمامته (ع) فأراد إقناعهم برفع اليد عن الدعوى بأنّ عنده البيّنة للسرج فقط. وعلى فرض تسليم دلالتها على صحّة البيّنة لذي اليد فخارج عن محلّ النزاع أيضاً، لعدم كون البحث في صحّتها كما قلنا.


1- راجع: وسائل الشيعة 291: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 24، الحديث 1.

ص: 574

وكذا خصوص ما يشعر به خبر فدك من إنكار أمير المؤمنين (ع) على أبي بكر بالفرق بينه وبين غيره من المسلمين لا عدم قبول البيّنة من المدّعى عليه.

فيرد عليه:

أوّلًا: باحتمال اعتقادهم صحّة البيّنة من المدّعي عليه في الوقت.

ثانياً: على فرض الإشعار بذلك، فغاية ما يفيد هي صحّة بيّنة المدّعي عليه، أمّا ترجيحها على بيّنة المدّعي عند التعارض فلا.

بقي ممّا استدلّ به السيّد (ره) على القول الثاني ثلاثة روايات الدالّة على تقديم بيّنة الداخل وهي 1- خبر إسحاق بن عمّار، 2- وموثّقة غياث بن إبراهيم، 3- وخبر جابر المتقدّمات.

ولا يبعد أن يكون اختصام رجلين إلى أمير المؤمنين في دابّة كان مورداً واحداً نقل بطريقين لا أن يكون متعدّداً، فلا تكون موثّقة غياث بن إبراهيم رواية اخرى وإن جعلها في «الوسائل» كذلك وفي غياث بن إبراهيم، قيل إنّه بتري- قوم من الزيدية- وفاسد العقيدة وقيل إنّه ثقة. ورواية جابر أيضاً عامّي غير معتمد عليها.

فانحصر الدليل للقول الثاني من الصورة الاولى رواية إسحاق بن عمّار ويعارض مع رواية منصور الدالّة على تقديم بيّنةالخارج.

قال السيّد الخوئي (ره) هذه الرواية- أي رواية منصور- وإن كانت واضحة الدلالة على اختصاص الحجّية ببيّنة المدّعي ولا أثر لبيّنة المنكر أصلًا إلا أنّه ضعيفة سنداً وغير قابلة لمعارضة معتبرة إسحاق بن عمّار.

ص: 575

أقول: هذا على مبنى السيّد الخوئي (ره)(1) من عدم اعتقاده بجبر ضعف سند الرواية بالشهرة، فإن يعتقد بحجّية خبر الثقه لا الخبر الموثوق الصدور، فلا يصحّ الاعتماد على خبر الضعيف وإن كان عمل المشهور على طبقه.

أمّا على المختار كما عليه المشهور من كون الشهرة جابرة لضعف السند، فيكون خبر المنصور معتبراً و قابلًا للاستناد للشهرة العظيمة عليه، بل ادّعي الإجماع كما تقدّم.

وسند رواية إسحاق أيضاً فيه إشكال كما قال به صاحب «الجواهر» (ره) حيث قال وفي سنده ما فيه(2).

وبعد اعتبار سند خبر المنصور فالترجيح له ويقدّم على خبر إسحاق بن عمّار بلا شبهة.

قال المحقّق الأردبيلي في- ترجيح خبر منصور على خبر إسحاق بن عمّار- «وهذه صريحة في المطلوب، وهو تقديم بيّنة الخارج وفيها مبالغة حيث ذكر العلّة مرّتين فهي معلّلة مقدّمة على تقدير التعارض، فهي إشارة إلى خبر المستفيض: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، فهو أيضاً دليل هذا الحكم، فهذا وحده دليل مقدّم على ذاك، فكيف إذا فهم منه دليل آخر وهو الخبر المستفيض وكأنّه لذلك اختار جماعة كثيرة تقديم بيّنة الخارج»(3) وكلامه (ره) دالّة على ترجيح رواية المنصور من حيث الدلالة على رواية إسحاق


1- مباني تكملة المنهاج 50: 1.
2- جواهر الكلام 412: 40.
3- مجمع الفائدة والبرهان 234: 12.

ص: 576

بن عمّار وإن استشكل عليه من حيث السند. ولكن قلنا إنّ ضعف السند منجبر بالشهرة والدلالة صريحة وكانت على مقتضى القاعدة والشهرة على طبقه وهي من أوّل المرجّحات في المتعارضين(1).

الصورة الثانية: فيما لو تعارض البينتان وكان العين في يدهما

وهي أن تكون العين في يدهما معاً وأقام كلّ واحد منهما البيّنة على الجميع ففيه أقوال أيضاً.

والأشهر أن يقضي بهما بينهما نصفين تساوت البيّنتان عدداً وعدالة وإطلاقاً وتقييداً أم اختلفا. قال في «الجواهر»(2): بلاخلاف أجده، وفي «المسالك»(3) بلا إشكال في أصل الحكم، وفي «الكفاية»(4): على المعروف بينهم، وفي «الرياض»(5) على الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر إلا من ندر.

ولكن اختلفوا في وجه التنصيف.

1- قال المحقّق (ره) في «الشرائع»: «لأنّ يد كلّ واحد على النصف وقد أقام الآخر البيّنة فيقضي له بما في يد غريمة»(6)، وتبعه الإمام (ره) في المسألة حيث قال: «وإن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضى بيّنة الخارج وعدم اعتبار الداخل»(7).


1- كما قلنا آنفاً هناك أقوال جمع المسالك تسعة منها ولكن لا يهمّنا التعرّض لها.
2- راجع: جواهر الكلام 414: 40.
3- راجع: مسالك الأفهام 81: 14.
4- راجع: كفاية الأحكام 727: 2.
5- راجع: رياض المسائل 216: 13.
6- شرائع الإسلام 897: 4.
7- تحرير الوسيلة: 845، مسألة 8.

ص: 577

توضيح ذلك أنّ مقتضى يد كلّ واحد منهما على العين مالكيته لنصف المشاع، فكلّ واحد منهما مدّع لما في يد الآخر ويصير مدّعى عليه بالنسبة إلى ما في يده، فإذا أقاما البيّنة على الجميع فبيّنة كلّ واحد بالنسبة إلى ما في يده بيّنة الداخل وبالنسبة إلى ما في يد الآخر بيّنة الخارج، فبمقتضى تقديم بيّنة الخارج يحكم لكلّ واحد منهما بما في غريمه وبالنتيجة ينتصف المال بينهما.

2- وقيل إنّ الوجه للتنصيف أنّ لكلّ منهما مرجّحاً باليد على نصفها، فقدّمت بيّنته على ما في يده ترجيحاً للبيّنة الداخل.

3- وقيل: إنّ الوجه فيه تساقط البيّنتين بسبب التساوي وبقي الحكم كما لو لم يكن هناك البيّنة.

وتظهر الثمرة بين الوجوه عدم الاحتياج إلى الحلف في الوجه الأوّل، الرقم 1، والثاني الرقم 2، لاستناد التنصيف إلى البيّنة، فمع الاستناد بالبيّنة لا وجه للحلف بخلاف الوجه الثالث، الرقم 3، فإنّه بعد التساقط يحتاج القضاء لكلّ واحد باليمين على نفي استحقاق الآخر على نصفه.

المختار من الوجوه

والأقوى هو الوجه الأوّل لما قلنا من أنّ يد كلّ واحد منهما كاشف على الملكية للنصف المشاع، وبمقتضى تقديم بيّنة الخارج يحكم لكلّ واحد منهما بما في يد غريمه، وهذا على مقتضى القواعد كما تقدّم.

وقد يستدلّ لذلك بروايات منها المرسل كالصحيح عن عبدالله بن المغيرة، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي عبدالله (ع) في رجلين كان معهما درهمان فقال: أحدهما الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال: «أمّا الذي قال

ص: 578

هما بيني وبينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، وأنّه لصاحبه ويقسم الآخر بينهما»(1).

ومنها: ما عن السكوني عن الصادق عن أبيه في رجل استودع رجلًا دينارين فاستودعه آخر ديناراً فضاع دينار منها قال: «يعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقسم الآخر بينهما نصفين»(2).

ولم يذكر فيهما إقامة البيّنة من المتنازعين ولكن ترك الاستفصال عن إقامة البيّنة وعدمها يفيد التعميم لمحلّ البحث أيضاً.

ومنها: رواية تميم بن طرفة(3): «أنّ رجلين عرفا بعيراً فأقام كلّ واحد منهما بيّنة فجعله أمير المؤمنين (ع) بينهما»(4).

ومنها: موثّقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبدالله (ع): «أنّ أمير المؤمنين (ع) اختصم إليه رجلان في دابّة وكلاهما أقام البيّنة أنّه انتجها فقضى بها للذي في يده وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(5).

فقوله (ع): «لو لم تكن في يده» أعمّ من كونه في يدهما أو لم يكن في يدهما أصلًا. قال في «المستند» بل صرّح بعضهم بأنّ المراد من قوله (ع): «لو لم تكن في يده» أي لو لم تكن في يده فقط، بل تكون في يديهما.


1- وسائل الشيعة 450: 18، كتاب الصلح، الباب 9، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 452: 18، كتاب الصلح، الباب 12، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 251: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 4.
4- راجع: مستند الشيعة 17: ص 400. الهامش الرقم 3:( في الفقيه بدل عرفا قال: ادّعيا. و المراد من قوله عرفا: أنّهما أحضره عرفة و كان في أيديهما)
5- وسائل الشيعة 250: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 3.

ص: 579

والحاصل: أنّ هذا القول أي التنصيف بلا حلف هو الموافق للمشهور والمعروف بين الفقهاء قديماً وحديثاً، والموافق لمقتضى القاعدة ويؤيّده ما استدلّ به من الروايات.

وفي المسألة أقوال اخر:

منها: ما عن ابن أبي عقيل من الرجوع إلى القرعة لأنّها لكلّ أمر مشكل وفيما نحن فيه التنصيف تكذيب للبيّنتين.

وفيه: أنّه اجتهاد في مقابل النصّ، فإنّ التنصيف كما قلنا على مقتضى القاعدة ويؤيّد بما تقدّم من النصوص.

ومنها: ما في «الرياض»(1) بعد نسبة القول المختار إلى الأشهر، بل عامّة المتأخرّين إلا نادراً قال: خلافاً «للمهذّب»(2) وبه قال جماعة من القدماء فخصّوا ذلك بما إذا تساويا في الامور المتقدّمة كلّها وحكموا مع الاختلاف فيها لأرجحها واختلفوا في بيان المرجّح، فعن المفيد(3) اعتبار الأعدلية خاصّة. وعن الإسكافي اعتبار الأكثرية خاصّة، وفي «المهذّب»(4) اعتبارهما مرتّباً بين الأعدلية فالأكثرية وعن ابن حمزة(5) اعتباره التقييد أيضاً مردّداً بين الثلاثة(6).

ثمّ قال في «الجواهر»- بعد نقل بعض الاستدلالات لهما-: «وعلى كلّ حال


1- راجع: رياض المسائل 216: 13.
2- راجع: المهذّب البارع 492: 4.
3- راجع: المقنعة: 730.
4- راجع: المهذب البارع 492: 4.
5- راجع: الوسيلة: 223.
6- راجع: جواهر الكلام 414: 40.

ص: 580

لا أعرف دليلًا يعتدّ به على شي ء منها، على وجه يصلح لمعارضة ما عرفت»(1).

الصورة الثالثة: في تعارض البيّنتين وكان المال في يد ثالث

وهي ما إذا كانت العين في يد ثالث، ومثلها.

الصورة الرابعة: وهي ما إذا لم تكن في يد أحدهما أصلًا

قال المحقّق في «الشرائع»(2) ولو كانت في يد ثالث قضى بأرجح البيّنتين عدالة، فإن تساويا قضى لأكثرهما شهوداً ومع التساوي عدداً وعدالة يقرع بينهما فمن خرج اسمه أحلف وقضى له، ولو امتنع أحلف الأخير وقضى له وإن نكلا قضى بينهما بالسويّة.

قال في «الجواهر»(3): بل في «المسالك»(4) وغيرها نسبته إلى الشهرة، بل في «الغنية» الإجماع عليه، بل في «الرياض»(5) نسبته إلى الأشهر، بل عامّة المتأخّرين من أصحابنا.

قال في «المسالك»(6): اختصاص هذا القسم بالترجيح بهذين المرجّحين- وهما العدالة والعدد- دون باقي أقسام التعارض هو المشهور بين الأصحاب خصوصاً المتأخّرين منهم تبعاً للشيخ (ره)(7) فإنّه جعل ذلك جامعاً بين الأخبار.

ونحن نذكر بعض ما يدلّ على الترجيح من الروايات:


1- جواهر الكلام 415: 40.
2- شرائع الإسلام 898: 4.
3- راجع: جواهر الكلام 424: 40.
4- راجع: مسالك الأفهام 87: 14.
5- راجع: رياض المسائل 220: 13.
6- راجع: مسالك الأفهام 87: 14.
7- راجع: تهذيب الأحكام 237: 6، ذيل الحديث 583.

ص: 581

منها: رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله قال: «كان علي (ع) إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء وعددهم أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين وكان يقول:" اللهمّ ربّ السماوات السبع أيّهم كان له الحقّ فأدّاه إليه" ثمّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف»(1).

فيها إشعار بالترجيح بالأعدلية لو كانت وبالأكثر عدداً لو كان، وتدلّ على أنّ القرعة لإخراج من عليه اليمين لا الواقع، وما قاله المحقّق (ره)(2) مطابق مع هذه الرواية تقريباً.

ومنها: رواية أبي بصير قال سألت أبا عبدالله (ع) عن الرجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم ويقيم البيّنة ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه ولا يدري كيف كان أمرها قال: «أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه»(3).

ومنها: موثّقة سماعة قال: «إنّ رجلين اختصما إلى علي (ع) في دابّة فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده وأقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد فأقرع بينهما سهمين، فعلم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمّ قال:" اللهمّ ربّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وربّ العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة، وهو أولى بها فأسألك أن (يقرع، و) يخرج سهمه" فخرج سهم أحدهما فقضى له بها»(4).

تدلّ على الترجيح بالعدد لو كان أحدهما أكثر عدداً، وكذا تأخير القرعة عنه


1- وسائل الشيعة 251: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 5.
2- راجع: شرائع الإسلام 898: 4.
3- وسائل الشيعة 249: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 254: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 12.

ص: 582

وترتّبها عليه وتدلّ على القضاء لمن خرج سهمه بل حلف.

ومنها: صحيحة الحلبي(1) و رواية داود بن سرحان عن أبي عبدالله (ع) عن رجلين شهدا على أمر وجاء آخران فشهدا على غير الذي- شهدا عليه- واختلفوا قال: «يقرع بينهم فأيّهم قرع عليه اليمين وهو أولى بالقضاء»(2).

ترى كثرة الاختلاف والاضطراب في هذه الروايات، بحيث تدلّ كلّ واحدة أو طائفة على أمر لا يمكن الجمع بينها بوجه أصلًا. وإليك خلاصة دلالات الروايات:

1- الإشعار بالترجيح بالأعدلية: ففي بعضها مثل رواية عبدالرحمن البصري إشعار بالترجيح بالأعدلية وكذا غيرها أيضاً مع أنّه لم يتعرّض لها في بقيّة ما ذكرنا من الروايات.

2- ترتيب الترجيح بالعدد على الترجيح بالأعدلية: ويستفاد منها أيضاً ترتيب الترجيح بالعدد على الترجيح بالأعدلية، مع أنّه في رواية أبي بصير اكتفى بالأكثر عدداً.

3- عدم التعرّض للترجيح: وفي رواية أبي بصير أيضاً شهدت البيّنة أنّ ذي اليد ورثها من أبيه فأتي بالقيد مع أنّه لم يتعرّض للترجيح به فيهما.

4- الحلف بعد الترجيح: مع أنّ في بعض الروايات ذكر الترجيح بالقيد، وكذا في هذه الرواية- أبو بصير- قال الإمام بعد الترجيح بالأكثر عدداً يستحلف ويدفع إليه مع أنّه ليس في بعضها الاستحلاف بعد إقامة البيّنة.


1- راجع: وسائل الشيعة 254: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 11.
2- وسائل الشيعة 251: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 6.

ص: 583

5- القرعة بعد مساوات البينتين في العدالة والعدد: وكذا في بعضها جعل القرعة بعد مساوات البيّنتين في العدالة والعدد.

6- القرعة ابتداءً: وفي بعضها لم يتعرّض لذلك أصلًا، مثل رواية داود بن سرحان قال: فاختلفوا قال: «يقرع بينهم». وكذا يستفاد من بعضها أنّ القرعة لاستخراج من عليه اليمين وفي بعضها: لاستخراج من له المال.

وبالجملة: مع تشتّت الأخبار واضطراب الأقوال لا يمكن الاعتماد بما قاله المحقّق(1) في «الشرائع» وهو القول المشهور الذي اختاروا ذلك تبعاً للشيخ (ره) من جهة كونه جامعاً بين الأخبار.

ولذا قال في «المسالك» في ذيل المسألة: «وبالجملة فالحكم في هذين القسمين لا يخلو من إشكال، لاختلاف الأخبار على وجه يعسر الجمع بينها، وضعف ما ذكروه من طريق الجمع، وضعف سند أكثرها، وعدم عمل الأصحاب بما اعتبر أسناده مقتصرين عليه. ولأجل ما ذكرنا اقتصر الشهيد في «الدروس» على مجرّد نقل الأقوال من غير ترجيح لأحدها»(2).

ولعلّ الأقوى ما قاله الماتن (ره) من سقوط البيّنتين من غير المراجعة إلى المرجّحات كما في الصورتين الاوليين. قال: «وإن كان في يد ثالث أو لا يد لأحد عليه، فالظاهر سقوط البيّنتين والرجوع إلى الحلف أو إلى التنصيف أو القرعة لكن المسألة بشقوقها في غاية الإشكال من حيث الأخبار والأقوال، وترجيح أحد الأقوال مشكل»(3).


1- راجع: شرائع الإسلام 897: 4.
2- مسالك الأفهام 88: 14.
3- تحرير الوسيلة: 845، مسألة 8.

ص: 584

أمّا وجه سقوط البيّنتين أنّ كلّ واحد منهما حجّة شرعية ومشمولة للعمومات وإن كان في أحدهما أعدل أو كان أكثر عدداً أو ذكر فيه السبب مثلًا؛ فإنّ الترجيح بها بلا ملاك ولا دليل فيتعارضان ويتساقطان، فحينئذٍ يكون القاضي مخيّراً بين الرجوع إلى الحلف أو التنصيف ابتداءً أو القرعة، فإنّ لكلّ منها وجه ولا ترجيح لأحدها على الآخر.

وهذا القول وإن كان مخالفاً لقول المحقّق (ره) الذي قالوا: أنّه المشهور والمعروف بين الأصحاب. ولكن الشهرة مع كثرة الاختلاف غير واضحة، كما قال السيّد (ره)، وحيث إنّ المسألة في غاية الاختلاف والتشويش، فلا عبرة فيها بالشهرة والشذوذ ومخالفة الإجماعات المنقوله خصوصاً مع اختلافها ومخالفة جماعة بالنسبة إلى كلّ واحد منها ...، فلا بأس بمخالفتنا لهم في المسألة(1).


1- العروة الوثقى 639: 6.

ص: 585

خاتمة فيها فصلان:

اشارة

الأوّل: في كتاب قاضٍ إلى قاضٍ

اشارة

مسألة 1: لا ينفذ الحكم ولا تفصل الخصومة إلا بالإنشاء لفظاً، ولا عبرة بالإنشاء كتباً، فلو كتب قاضٍ إلى قاضٍ آخر بالحكم وأراد الإنشاء بالكتابة، لا يجوز للثاني إنفاذه وإن علم بأنّ الكتابة له وعلم بقصده. (1)

وجوب إنشاء الحكم للقاضي وكونه باللفظ فقط

(1) قد وقع البحث في الفصل الأوّل في كتاب قاض إلى قاض.

وكمثال نقول يكتب أحد من القضاة إلى قاض آخر أنّ زيداً جاء في المحكمة وادّعى على عمرو بمال وأقام على ذلك بيّنة وثبت لي أنّ عمرواً كان مديوناً له فحكمت بذلك وأرسلت الحكم إلى قاض آخر، فهل جاز للآخر إنفاذه والحكم بصحّته مع عدم علمه بالشهود وكيفية ثبوت الدعوى وهل له الأمر بإجرائه أم لا؟

ص: 586

فقبل الشروع في البحث عن ذلك نقول: أشار الماتن (ره) إلى مسألة ذكرها في المسألة الثالثة من القول في الجواب بالإقرار، وهي معنى إنشاء الحكم وأنّه لا بدّ للإنشاء كونه باللفظ، ولكن أعادها هنا تأكيداً لعدم العبرة بالكتابة في إنشاء الحكم، وأنّ المكتوب لا يكون حكماً إنشائياً. وإن علم القاضي الآخر أنّ الكتابة كانت له وعلم أنّه كتبه لإنشاء الحكم.

لا يقال: هذا من اصول البحث في القضاء فلم جعله في الخاتمة.

لأنّه يقال: ففي الحقيقة المسألة الاولى كانت مقدّمة للبحث.

قال الماتن (ره): «لا ينفذ الحكم ولا تفصل الخصومة إلا بالإنشاء».

مقصوده أنّ القاضي إذا طرح الدعوى عنده في المحكمة وأحضر المدّعى عليه وأنكر الدعوى ثمّ أقام المدّعي البيّنة المقبولة عند الحاكم، بحيث ثبت عند القاضي كونه مديوناً مثلًا وثبت الحقّ عنده لا يصدق على ثبوت الحقّ ووضوحه عنده الحكم. ولا يكون نافذاً، ولا تفصل به الخصومة. مثلًا إذا علم قاضي إجراء الأحكام ذلك من القاضي لا يجوز له إجرائه وترتيب الأثر عليه فإنّه ليس بحكم، بل لا بدّ للقاضي من إبراز الحكم وإنشائه. والإنشاء مقابل الأخبار، والمراد من الأخبار حكاية أمر تحقّق في السابق أو يأتي، ويتحقّق في اللاحق مثل الأخبار بمجي ء زيد أمس أو مجيئه غداً، والإنشاء إيجاد أمر لا يكون موجوداً ومتحقّقاً قبلًا؛ مثل إيجاد البيع وإنشائه بقوله بعت فمبادلة المال بالمال لا يكون موجوداً، بل أوجده بهذا اللفظ، فصار المبيع للمشتري والثمن للبايع في وعاء الاعتبار، فقوله بعت إخباراً؛ أو أنكحت بقصد الإخبار؛ معناه تحقّق البيع منه أو النكاح قبلًا في الماضي. أمّا قوله بعت أو أنكحت إنشاءً يراد به إيجاد البيع والنكاح في وعاء

ص: 587

الاعتبار أمراً لا يكون متحقّقاً قبلًا، فإنشاء الحكم من القاضي يعني إنشاء ما ثبت عنده من الحقّ في المحكمة وإيجاده في عالم الاعتبار مثل الحكم بتحقّق بيع أو عقد أو إيقاع أو الإلزام بأداء دين وثبوت حقّ على عهدة شخص وأمثال ذلك.

وقال الإمام (ره) بما حاصله أنّه يعتبر في الإنشاء أن يكون باللفظ؛ يعني يعتبر الإنشاء القولي ولا عبرة بالإنشاء الكتبي أو الإنشاء الفعلي.

فلعلّ الوجه فيه أنّ قوله (ع): «وإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه إنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ» منصرف إلى الإنشاء باللفظ بأن يقول: «حكمت بذلك»، أو «قضيت» أو «ألزمت» وغير ذلك ممّا يفيد إنشاء ما ثبت عنده من الحقّ، ولو شككنا شموله للكتابة أو الفعل فالأصل عدمه.

ولذا قال الماتن (ره): «فلو كتب قاضٍ إلى قاضٍ آخر بالحكم وأراد الإنشاء بالكتابة، لا يجوز للثاني إنفاذه وإن علم بأنّ الكتابة له وعلم بقصده».

مقصوده أنّ عدم العبرة بالكتابة ليس من جهة احتمال الجعل والتزوير فيها، أو من جهة احتمال عدم قصد القاضي للإنشاء، بل لا عبرة لها وإن علم أنّ المكتوب بخطّ القاضي الأوّل ولا تزوير فيه وعلم أنّه كتب بقصد إنشاء الحكم، بل الوجه فيه أنّ الإنشاء الكتبي ليس بإنشاء وليس بحكم فلا يترتّب عليها الأثر.

ويمكن الخدشة فيه: بأنّ إنشاء الكتبي أيضاً إنشاء وحكم عرفاً ويصدق عليه أنّه حكم بذلك عند العرف وكذلك الفعلي. مثلًا إذا كان جمع حاضراً في مجلس القضاء وكان المتنازعين جالساً في مقابله وتمّت القضاء وأقام الشهادة أو اليمين واستدعيا منه الحكم فأخذ القاضي ورقة وكتب عليه أنّه ثبت عندي الحقّ بكذا وحكمت بكذا وأعطاه الطرفين، فهل يصدق عليه أنّه حكم في القضيّة

ص: 588

وتمّت المحاكمة أو لا؟ وهل الجالسين المنتظرين لأن يقول القاضي: «حكمت» يرضون بذلك؛ أو يكتفون بالكتابة ويتلقونه حكماً ويترتّبون عليه الأثر؟

وكذا لو كان النزاع على عين بين يدي الحاكم فبعد ثبوت الحقّ عنده إذا أخذ الحاكم العين وأعطاها المدّعي فهل يصدق أنّه حكم بكون العين للمدّعي أم لا؟

الظاهر الصدق العرفي ويصدق على هذا الفعل من الحاكم أنّه حكم بكون المال لزيد مثلًا. كما أنّه لو اختلف في آخر شهر رمضان وجمع حاضرون عند الفقيه وهو سيعلم منهم الشهادة على رؤية الهلال، ويتحقّق له ذلك فبعد شهادة جمع منهم بالرؤية إن أخذ الفقيه تمرة ووضعه في فمه عندهم وأكل، فهل ترى أنّهم يكبّرون ويصلّون ويفرحون ويبارك بعضهم ببعض بحضور العيد. ويكتفون من القضيّة بإنشاء الحكم بثبوت العيد عنده بالفعل أم ينتظرون الإنشاء القولي؟

قال السيّد (ره): «بل يكفي فيه الفعل الدالّ إذا قصد به الإنشاء كما إذا أمر ببيع مال المحكوم عليه أو أخذ ماله ودفعه إلى المحكوم له»(1).

ولا يخفى: أنّ المتعارف في المحاكم القانوني الآن هو أن يكتب القاضي ما ثبت عنده ووصل إليه من الحقّ من ثبوت دين أو خسارة على شخص أو ثبوت الحدّ أو القصاص على أحد أو البراءة من الاتّهام مثلًا؛ وأبلغه إلى طرفي النزاع أو المحكوم عليه، أو أرسله إلى قاضي إجراء الأحكام، وهو أجراه بلا تفحّص وتحقيق ولم يسئل أنّه حكم أم لا ولا يعترّض أحد بذلك بأن يستشكل عليه أنّه ليس بحكم مثلًا، فيعلم من ذلك أنّه متعارف وصدق الحكم على الكتاب متعارف عندهم.


1- العروة الوثقى 484: 6.

ص: 589

مسألة 2: إنهاء حكم الحاكم- بعد فرض الإنشاء لفظاً- إلى حاكم آخر: إمّا بالكتابة أو القول أو الشهادة، فإن كان بالكتابة؛ بأن يكتب إلى حاكم آخر بحكمه، فلا عبرة بها حتّى مع العلم بأنّها له وأراد مفادها. وأمّا القول مشافهة؛ فإن كان شهادة على إنشائه السابق فلا يقبل إلا مع شهادة عادل آخر، وأولى بذلك ما إذا قال: «ثبت عندي كذا»، وإن كان الإنشاء بحضور الثاني؛ بأن كان الثاني حاضراً في مجلس الحكم فقضى الأوّل، فهو خارج عن محطّ البحث، لكن يجب إنفاذه. وأمّا شهادة البيّنة على حكمه فمقبولة يجب الإنفاذ على حاكم آخر. وكذا لو علم حكم الحاكم بالتواتر أو قرائن قطعية أو إقرار المتخاصمين.

مسألة 3: الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبيّ عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة؛ لأنّ قطع الخصومة حصل بحكم الأوّل، وإنّما أنفذه وأمضاه الحاكم الآخر ليجريه الولاة والامراء، ولا أثر له بحسب الواقعة، فإنّ إنفاذه وعدم إنفاذه بعد تمامية موازين القضاء في الأوّل سواء، وليس له الحكم في الواقعة لعدم علمه وعدم تحقّق موازين القضاء عنده.

مسألة 4: لا فرق فيما ذكرناه بين حقوق الله تعالى وحقوق الناس، إلا في الثبوت بالبيّنة، فإنّ الإنفاذ بها فيها محلّ إشكال والأشبه عدمه.

مسألة 5: لا يعتبر في جواز شهادة البيّنة ولا في قبولها هنا، غير ما يعتبر فيهما في سائر المقامات، فلا يعتبر إشهادهما على حكمه وقضائه في التحمّل. وكذا لا يعتبر في قبول شهادتهما إشهادهما على الحكم، ولا حضورهما في مجلس الخصومة وسماعهما شهادة الشهود، بل المعتبر

ص: 590

شهودهما: أنّ الحاكم حكم بذلك، بل يكفي علمهما بذلك.

مسألة 6: قيل: إن لم يحضر الشاهدان الخصومة، فحكى الحاكم لهما الواقعة وصورة الحكم، وسمّى المتحاكمين بأسمائهما وآبائهما وصفاتهما، وأشهدهما على الحكم، فالأولى القبول؛ لأنّ إخباره كحكمه ماضٍ، والأشبه عدم القبول إلا بضمّ عادل آخر. بل لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة، فجواز الشهادة بالحكم بنحو الإطلاق مشكل بل ممنوع، والشهادة بنحو التقييد- بأنّه لم يكن إنشاء مجلس الخصومة ولا إنشاء الرافع لها- جائزة، لكن إنفاذه للحاكم الآخر مشكل بل ممنوع.

مسألة 7: لا فرق- في جميع ما مرّ- بين أن يكون حكم الحاكم بين المتخاصمين مع حضورهما، وبين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعي البيّنة، فالتحمّل فيهما والشهادة وشرائط القبول واحد، ولا بدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعي والمدّعى عليه بما يخرجهما عن الإبهام، وحفظ المدّعى به بخصوصياته المخرجة عن الإبهام، وحفظ الشاهدين وخصوصياتهما كذلك فيما يحتاج إليه، كالحكم على الغائب وأنّه على حجّته.

مسألة 8: لو اشتبه الأمر على الحاكم الثاني- لعدم ضبط الشهود له ما يرفع به الإبهام- أوقف الحكم حتّى يتّضح الأمر بتذكّرهما أو بشهادة غيرهما.

مسألة 9: لو تغيّرت حال الحاكم الأوّل بعد حكمه بموت أو جنون، لم

ص: 591

يقدح ذلك في العمل بحكمه وفي لزوم إنفاذه على حاكم آخر؛ لو توقّف استيفاء الحقّ عليه. ولو تغيّرت بفسق فقد يقال: لم يعمل بحكمه، أو يفصّل بين ظهور الفسق قبل إنفاذه فلم يعمل أو بعده فيعمل، والأشبه العمل مطلقاً كسائر العوارض وجواز إنفاذه أو وجوبه.

مسألة 10: لو أقرّ المدّعى عليه عند الحاكم الثاني بأنّه المحكوم عليه وهو المشهود عليه، ألزمه الحاكم. ولو أنكر، فإن كانت شهادة الشهود على عينه لم يسمع منه والزم، وكذا لو كانت على وصف لا ينطبق إلا عليه، وكذا فيما ينطبق عليه إلا نادراً؛ بحيث لا يعتني باحتماله العقلاء، وكان الانطباق عليه ممّا يطمأنّ به. وإن كان الوصف على وجه قابل للانطباق على غيره وعليه فالقول قوله بيمينه، وعلى المدّعي إقامة البيّنة بأنّه هو. ويحتمل في هذه الصورة عدم صحّة الحكم؛ لكونه من قبيل القضاء بالمبهم. وفيه تأمّل. (2)

في كتاب قاضٍ إلى قاضٍ وبيان الوجه فيه
اشارة

(2) قالوا إنّ إنهاء حكم الحاكم بعد صدوره منه لفظاً بناءً على اختصاصه بالقولي أو بغيره من الكتبي أو الفعلي بناءً على ما قلنا من صحّتهما إلى حاكم آخر، بأحد طرق الثلاث: إمّا بالكتابة، وإمّا بالقول، وإمّا بالشهادة.

قبل الورود في بيان الطرق الثلاث ولتوضيحها لا بدّ لنا من بيان أمرين:

الأمر الأوّل: في بيان وجه الحاجة إلى إنهاء حكم الحاكم إلى حاكم آخر.

ص: 592

قال المحقّق (ره)(1): لأنّ ذلك ممّا تمسّ الحاجة إليه، إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالباً، وتكليف شهود الأصل التنقّل إلى تلك البلاد- لو فرض حاكم فيها وأمكن تزكية الشهود فيها- متعذّر أو متعسّر، فلا بدّ من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء، ولا وسيلة إلى رفع الأحكام إلى الحكّام، ولأنّه لو لم يشرع إنهاء الأحكام- إلى الحكّام لينفذوها- بطلت الحجج مع تطاول المدد التي يموت فيها الحاكم وشهود الأصل وفروعهم.

ولأنّ المنع من ذلك يؤدّي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الأوّل اتّصلت المنازعة، انتهى(2).

خلاصة الكلام: أنّ الحاجة قد تمسّ إلى ذلك وبدونه لا يمكن استيفاء الحقوق. وكمثال نقول: إذا ادّعى زيد على عمرو في المحكمة بدين وأقام بذلك البيّنة وثبت عند الحاكم الدين فحكم على عمرو بذلك ولكن عمرو سافر إلى بلد آخر وأقام فيه وله في تلك البلد مال كثير.

فحينئذٍ لا طريق لزيد إلى الوصول إلى حقّه إلا أن يكتب القاضي ما وقع في المحكمة وحكمه على عمرو بدين، وإرساله إلى القاضي في ذلك البلد لينفذه، ويأمر بإجرائه واستيفائه حقّ زيد منه. وكذلك لو ثبت في المحكمة أنّ زيداً قاتل عمرو مثلًا وحكم بالقصاص، ثمّ فرّ زيد إلى بلد آخر وأقام فيه، فلا بدّ أيضاً من إنهاء القاضي كتابة إلى قاضي ذاك البلد ببيان الحكم حتّى ينفذه ويجريه في


1- شرائع الإسلام 884: 4.
2- جواهر الكلام 306: 40- 307.

ص: 593

ذاك البلد، وكذا في الحكم على الغائب مثلًا.

الأمر الثاني: القضاء التنفيذي: في بيان أنّ الهدف والغرض من الإنهاء هل هو إنفاذ الحاكم الثاني حكم الحاكم الأوّل والأمر بإجرائه، أو إنشاء الحكم من الحاكم الثاني مستقلًا طبق حكم الحاكم الأوّل وهذا يسمّي بالقضاء التنفيذي.

ما يظهر من كلمات الأعلام والمشهور من التعبير بالإنفاذ هو الأوّل يعني يكون الهدف إنفاذ الحاكم الثاني حكم الحاكم الأوّل.

قال المحقّق الأردبيلي (ره): «فإذا ثبت- بأيّ وجه كان- أنّ القاضي الفلاني- الذي حكمه مقبول- حكم بكذا يجب إنفاده وإجراؤه من غير توقّف»(1).

ولا يخفى: أنّ المراد من الإنفاذ ليس الإرشاد إلى العمل بحكم حاكم الأوّل، كما هو شأن نقلة فتاوى الفقهاء إلى العوامّ فإنّهم يرشدون المقلّدين إلى العمل بفتاوى مقلّديهم، بل المراد من الإنفاذ الحكم ثانياً بوجوب إطاعة حكم الأوّل ولزوم تطبيقه حتّى ينقطع النزاع. مع غضّ النظر عن صحّته وسقمه، فله أن يقول: يجب امتثال الحكم بكون المال لزيد ويأمر بأخذ المال من عمرو ودفعه إلى زيد وإن كان لا علم له بصحّة هذا الحكم، بل لعلّه كان مخالفاً لنظره الاجتهادي مثلًا.

والدليل عليه قوله: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»(2)؛ فإنّ مفاده أنّ حكمه حكمهم (عليهم السلام) ويجب اطاعته ولا يجوز ردّه.


1- مجمع الفائدة والبرهان 209: 12.
2- وسائل الشيعة 136: 27- 137، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

ص: 594

في عدم جواز الحكم من الثاني باستناد حكم الأوّل

وقد يقال: إنّ الحاكم الثاني يحكم في أصل القضيّة حكماً مستقلًا من عنده بكون المال لزيد مثلًا وكان مستنده حكم الحاكم الأوّل ونظره. كما يجوز له أن يستند إلى البيّنة مثلًا ولا ينافي ظاهر الحصر في قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» بجواز حمله على الحصر الإضافي.

لأنّه يقال: منعه المشهور: مستدلّين بأنّ هذا الحكم قول بغير علم، إذ المفروض عدم علمه بكون المال لزيد مثلًا وبأنّ المفروض جهله بملاك حكم الأوّل، فمن الجائز أن يقال: إنّه لو علم به لخالفه، وعلى هذا فليس له الحكم به كما لا يجوز له الحكم بصحّته أو موافقته للواقع.

وأجاب عنه الفاضل النراقي بأنّ حكم الحاكم الثاني ليس قولًا بغير علم، بل حكم مستند إلى حجّة وهي حكم الحاكم الأوّل في الواقعة، فإنّه بمنزلة حكم الله وحكم الأئمّة فهو حجّة، فحينئذٍ فكما يجوز للحاكم الثاني أن يستند إلى البيّنة أو اليمين ونحوهما من الحجج، كذلك له أن يستند إلى هذه الحجّة فيحكم على طبق حكم حاكم الأوّل حكماً مستقلًا له(1).

وقد يقال في توجيه هذا المبنى والافتقار إلى حكم الحاكم الثاني بأنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى حكمه لأجل شدّة اقتداره وقوّته على إجراء حكمه دون القاضي الأوّل. أو لأجل أنّ المتخاصمين لهما أو لأحدهما مناقشة في الحكم الأوّل من جهة عدالة القاضي أو علمه مثلًا مع ثبوت كلاهما عند القاضي


1- كتاب القضاء 24: 2.

ص: 595

التنفيذي. أو لأجل ضعف القاضي الأوّل وعدم بناء الثاني الأعلى إجراء حكم نفسه أو لغير ذلك(1).

ويرد على هذا القول:

أوّلًا: إنّ المراد من قوله: «إذا حكم بحكمنا ...»، أنّ حكمه بمنزلة حكمهم (عليهم السلام) في وجوب إطاعته وعدم جواز نقضه وردّه لتحقّق الفصل ورفع النزاع، أمّا كونه حجّة يصحّ الاستناد به في القضاء والحكم غير معلوم، مع عدم علم القاضي الثاني بكونه مطابقاً للواقع وعدم علمه بصحّته وكونه مطابقاً لنظره الاجتهادي، فيشمله النهي عن القول بغير العلم. نظير فتوى المجتهد التي تكون حجّة له ولمقلّديه، ويجب امتثاله واطاعته ولكن لا يصحّ للمجتهد الآخر الفتوى باستناده بلا إشكال.

ثانياً: بكونه لغواً لعدم الاحتياج إليه، فإنّه إذا ثبت عند القاضي الثاني حكم القاضي الأوّل وأنفذه وأمر بإجرائه فيتمّ المقصود ولا حاجة إلى تشكيل المحكمة، والحكم في القضية بمحكومية زيد مثلًا بكذا أو ببرائته عن كذا باستناد حكم الأوّل. وهذا هو الذي اختاره الماتن (ره) في المسألة الثالثة التي أردفها بعد هذه المسألة الثانية حيث قال: «الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبيّ عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة»(2)، يعني أنّ إنفاذ الحكم غير الحكم في الواقعة والشأن للحاكم الثاني هو إنفاذ حكم الأوّل دون أن يحكم حكماً مستقلًا في الواقعة، ولو كان مطابقاً لحكم الأوّل. وعلّله بقوله: «لأنّ قطع الخصومة حصل


1- تفصيل الشريعة، كتاب القضاء: 331.
2- تحرير الوسيلة: 846، مسألة 3.

ص: 596

بحكم الأوّل، و إنّما أنفذه وأمضاه الحاكم الآخر ليجريه الولاة والامراء، ولا أثر له بحسب الواقعة، فإنّ إنفاذه وعدم إنفاذه بعد تماميّة موازين القضاء في الأوّل سواء، وليس له الحكم في الواقعة لعدم علمه وعدم تحقّق موازين القضاء عنده»(1).

عدم الثمرة في البحث عن طرق إنهاء حكم الحاكم إلى حاكم آخر

ثمّ بعد وضوح الأمرين في المسألة الثانية شرع الماتن (ره) في بيان أنّ إنهاء حكم الحاكم إلى حاكم آخر إمّا بالكتاب أو بالقول أو بالشهادة:

أقول: البحث عن إنهاء حكم حاكم إلى حاكم آخر بأحد الطرق الثلاثة- بالكتاب، أو بالقول، أو بالشهادة- مربوط بعصر ينصب القضاة في كلّ بلد من جانب الوالي في هذا البلد، ويحكم كلّ واحد منهم باجتهاده ونظره، ولا يرتبط قاضي هذا البلد مع القاضي في البلد الآخر، فإذا مسّت الحاجة إلى استيفاء حقّ أو إجراء حكم في بلد آخر، لا بدّ للقاضي في المحكمة أن أنهى حكمه إلى حاكم تلك البلد بأحد الطرق الثلاثة، لينفذه ويجريه استيفاءً للحقوق، فيبحث في كلّ واحد من الطرق في أصل حجّيته وشرائطها أو عدم حجّيته، وكذا سائر المباحث المربوط بذلك.

وأمّا في عصر استقرار النظام القضائي المنسجم والمدوّن والمرتبط في البلاد المربوطة فلا حاجة إلى ذلك، فإنّ القوانين الجارية في هذا النظام واحد والقضاة كانوا في أحكامهم مستندين إلى هذا القانون المدوّن الجاري والحكم بعد


1- تحرير الوسيلة: 846، مسألة 3.

ص: 597

صدوره في المحكمة يرسل إلى متولّي الإجراء فلو احتاج استيفاء حقّ إلى إجرائه في بلد آخر يرسل هذا الحكم إلى متولّي الإجراء في ذلك، فهو يجريه كما يجري أحكامه الصادرة من قضاة بلده بلاحاجة إلى إنفاذ الحاكم في ذاك البلد والمرسلات محفوظة مختومة مكتومة لا يصل إليها يد الجعل والتشبيه فتكون مثل الخبر المحفوف بالقرائن.

بل وكذا لو كان المحكوم عليه في البلد الأجنبيّ فمن أجل ارتباط النظام القضائي الحاكم في البلد مع البلاد الأجنبيّ يرسلون الأحكام إلى الشرطة العالمية- اينترپل- فيرون الحساب البنكي من المتّهم أو المحكوم عليه ويأخذون من حسابه بمقدار المدّعى به، بل يأخذونه ويسجنونه عند الحاجة ويرسلونه إلى بلد الحكم، فمع هذا النظام القضائي المدوّن المعلوم لكلّ البلاد حتّى البلاد الأجانب والمرتبط معها لا يبقى مورد لأنهاء حكم قاض إلى قاض بأحد طرق المذكورة فلا فائدة للبحث عنها بلا شبهة، فالأولى الانصراف من طرحه. وشرح ما طرحه الماتن (ره) طي مسألة 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9 و 10، بل أثبتنا نفس المسائل للاطّلاع على ما تفضل به الماتن (ره).

ص: 598

ص: 599

الفصل الثاني: في المقاصّة

اشارة

الفصل الثاني: في المقاصّة(1)

مسألة 1: لا إشكال في عدم جواز المقاصّة مع عدم جحود الطرف ولا مماطلته وأدائه عند مطالبته. كما لا إشكال في جوازها إذا كان له حقّ على غيره من عين أو دين أو منفعة أو حقّ، وكان جاحداً أو مماطلًا. وأمّا إذا كان منكراً لاعتقاد المحقّية، أو كان لا يدري محقّية المدّعي، ففي جواز المقاصّة إشكال، بل الأشبه عدم الجواز. ولو كان غاصباً وأنكر لنسيانه فالظاهر جواز المقاصّة. (1)

(1) قد عنون البحث في «الشرائع»(2) وبعض الكتب(3) الاخرى الفقهية تحت عنوان «في التواصل إلى الحقّ» وهو عنوان عام بالنسبة إلى عنوان المقاصّة ويبحث فيه عن التمييز بين الموارد التي لا بدّ للمستحقّ والمدّعي لاستيفاء حقّه


1- قاصّ مقاصّةً: الرجل بما كان له- قبله: حبس عن مثله.( المنجد)
2- شرائع الإسلام 895: 4.
3- كفاية الأحكام 721: 2.

ص: 600

بالمراجعة إلى الحاكم عن الموارد التي جاز له الاستيفاء مستقلًا من غير المراجعة إلى الحاكم. وتفصيله أنّ الحقّ على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: العقوبة. القسم الثاني: المال. وهو قسمان إمّا دين، أو عين.

القسم الأوّل: فيما إذا كان الحقّ عقوبة
اشارة

أمّا إذا كان الحقّ عقوبة؛ مثل ما إذا كان لرجل على آخر حقّ القصاص والقذف.

فقد اتّفق الفقهاء على أنّ المدّعي لا بدّ له من رفع الأمر إلى الحاكم ولا يجوز له الاستقلال في الاستيفاء. قال في «المسالك»(1) لعظم خطره والاحتياط في إثباته، ولأنّ استيفائه وظيفة الحاكم على ما تقتضيه السياسة وزجر الناس. ومعلوم أنّه لو حوّل ذلك إلى الناس ينتهي الأمر إلى فساد عظيم والهرج والمرج في الاجتماع وربما تراق الدماء من الابرياء باتّهام القصاص وغيره أو وقوع المقاتلة بين طائفتين من المسلمين وينجر إلى إراقة الدماء المحرّمة.

ويظهر من صاحب «الجواهر»(2) الميل إلى خلاف ذلك، فقد جوّز لوليّ الدم الاستقلال في إجراء القصاص من دون المراجعة إلى الحاكم، بشرط أن يكون الحال معلوماً وكان الخصم مقرّاً بالقتل.

واستدلّ بقوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً(3).


1- مسالك الأفهام 68: 14.
2- جواهر الكلام 387: 40.
3- الإسراء( 17): 33.

ص: 601

بتقريب أنّ جعل السلطان لوليّ الدم شامل لقيامه بالمباشرة أو بالتسبيب، وكذا مقتضى إطلاق تسلّط الناس على استيفاء حقوقهم.

ويرد عليه: أنّ الآية المباركة في مقام جعل السلطان للوليّ، وبيان أنّ له حقّ القصاص أمّا الدلالة على الكيفية بأن يعمل الولاية والسلطان بالمباشرة أو بالتسبيب فلا، فلو دلّ دليل على جعل إقامة الحدود والقصاص من وظائف الحاكم فلا ينافي الآية أصلًا، وكذلك قاعدة السلطنة فإنّ سلطنة الناس على استيفاء حقوقهم ليس فيها إطلاق من حيث المباشرة والتسبيب.

فالحقّ هو المعروف والمتّفق عليه بين الفقهاء من عدم جواز استيفاء القصاص أو حدّ القذف له من دون المراجعة إلى الحاكم.

فلو بدر ذو الحقّ إلى استيفاء القصاص من القاتل وقتله فلا يمكن أن يقال: إنّ القتل كان عدواناً وظلماً، وعليه القصاص؛ لأنّه قد استوفى حقّه لكنّه فعل حراماً من جهة إجرائه من دون المراجعة إلى الحاكم والإذن منه، فيعزّر من هذه الجهة.

في موارد الاستثناء عن الضابطة

وقد خرجت من هذا الحكم الكلّي المتّفق عليه موارد جزئية تحت شرائط خاصّة.

منها: ما إذا رأى شخص رجلًا يزني بزوجته فله قتلهما.

قال الشهيد (ره)(1): روي: «أنّ من رأى زوجته تزني فله قتلهما»(2).


1- شرح اللمعة 121: 9.
2- وسائل الشيعة 149: 28، كتاب الحدود، أبواب حدّ الزنا، الباب 45، الحديث 2.

ص: 602

ولكن في رواية عبدالله بن القاسم الجعفري، عن أبي عبدالله (ع) عن أبيه قال: «قال سعد بن عبادة: أرأيت يا رسول الله إن رأيت مع أهلي رجلًا فاقتله قال: يا سعد فأين الشهود الأربعة»(1)، فيظهر منها أنّه لم ينهه عن القتل ولكن قال أين الشهود الأربعة.

قال صاحب «الوسائل» في ذيل الحديث: أقول: وقد حمله الأصحاب على أنّه لا يثبت ذلك في الظاهر ولا تقبل دعوى الزوج إلا ببيّنة أو باللعان كما مرّ. وإن جاز ذلك فيما بينه وبين الله. ولو لم يستطع أن يثبت دعواه يقتل.

ومنها: في مورد من سبّ النبيّ فقد وردت في بعض الروايات أنّه جاز قتله لمن سمعه مطلقاً وفي بعضها إذا لم يخف على نفسه. وما يلي نموذجان من الكثير.

1- ففي رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: «إنّ رجلًا من هذيل كان يسبّ رسول الله (ص) فبلغ ذلك النبيّ (ص) فقال: من لهذا؟ فقام رجلان من الأنصار، فقال: نحن يا رسول الله، فانطلقا حتّى أتيا عربة فسألا عنه فإذا هو يتلقّى غنمه، فقال: من أنتما وما اسمكما؟ فقالا له: أنت فلان بن فلان. قال: نعم، فنزلا فضربا عنقه». قال محمّد بن مسلم: فقلت لأبي جعفر (ع): أرأيت لو أنّ رجلًا الآن سبّ النبيّ (ع) أيقتل؟ قال: «إن لم تخف على نفسك فاقتله»(2).

2- وفي ذيل رواية علي بن جعفر ... فقال أبو عبدالله (ع): «أخبرني أبي أنّ


1- وسائل الشيعة 148: 28، كتاب الحدود، أبواب حدّ الزنا، الباب 45، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 213: 28، كتاب الحدود، أبواب حدّ القذف، الباب 25، الحديث 3.

ص: 603

رسول الله (ص) قال: الناس في اسوة سواء من سمع أحداً يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني ولا يرفع إلى السلطان والواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل من نال منّي»(1).

وعلى أيّ حال خروج هذين الموردين لا يضرّ بالضابطة، والحكم الكلّي وهو أنّ إجراء الحدود من وظائف الحكّام. مع أنّه من هذين الموردين يلزم المراجعة إلى الحاكم ليقدم مع إذنه وحكمه على القتل، وإلا فلو لم يستطع على إثبات الزنا في المورد الأوّل، يقتل قصاصاً وفي الثاني الخوف على النفس في زماننا هذا قطعي بلا إشكال، فلا بدّ له لحفظ نفسه أن يرجع إلى الحاكم.

القسم الثاني: فيما إذا كان الحقّ ديناً
اشارة

أمّا إذا كان الحقّ مالًا وكان ديناً على عهدة شخص: فله صور:

1- إذا كان المديون معترفاً بالدين و كان باذلًا متي أراد.

2- إذا كان معترفاً غير باذل، بل كان مماطلًا أو كان جاحداً.

3- إذا كان منكراً لاعتقاد المحقّية للمدّعي أو كان لايدري محقّيته.

4- إذا كان غاصباً وأنكر لنسيانه.

في بيان الأدلّة الدالّة على مشروعية المقاصّة

ولا بدّ لنا قبل الورود في بيان الصور لذكر ما يستدلّ به لأصل مشروعية المقاصّة من الآيات والروايات فنقول:

لا إشكال في أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز المقاصّة، لأنّها تصرّف في مال


1- وسائل الشيعة 212: 28- 213، كتاب الحدود، أبواب حدّ القذف، الباب 25، الحديث 2.

ص: 604

الغير بغير إذنه إلا أن يثبت بالدليل جوازها، فكلّ مورد أثبتها الدليل فهو وإلا يبقى تحت القاعدة.

فقد استدلّ لمشروعية المقاصّة من الكتاب بآيات:

منها: قولها: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ(1) اعتدى عليه وعدّى عليه بمعنى واحد وهو التجاوز والظلم، فمن اعتدى عليكم، أي ظلمكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم؛ أي فجاوزوه باعتدائه وقابلوه بمثله.

قال في «مجمع البيان»(2) والثاني ليس باعتداء على الحقيقة ولكن سمّاه اعتداءً لأنّه مجازاة اعتداء وجعله مثله وإن كان ذلك جوراً وهذا عدلًا؛ لأنّه مثله في الجنس وفي مقدار الاستحقاق. لأنّه ضرر كما أنّ ذاك ضرر؛ فهو مثله في الجنس والمقدار والصفة.

ومنها: قوله تعالى: والْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ(3). صدر الآية الماضية أي كلّ حرمة وهي أنّ ما يجب أن يحترم ويحافظ عليها فيه قصاص. يعني لمّا هتكوا حرمة شهركم الحرام فافعلوا بهم مثله.

ومنها: قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(4)؛ أي إن أردتم معاقبة غيركم على وجه المجازاة والمكافاة، فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به، ولا تزيدوا عليه.


1- البقرة( 2): 194.
2- مجمع البيان 514: 2.
3- البقرة( 2): 194.
4- النحل( 16): 126.

ص: 605

قال في «المجمع»(1): إنّ المشركين لمّا مثّلوا بقتلي احد وبحمزة بن عبدالمطّلب فشقّوا بطنه، وأخذت هند كبده، فجعلت تلوكه وجدعوا(2) أنفه واذنه وقطعوا مذاكيره. قال المسلمون: لئن أمكننا الله منهم لنمثّلنّ بالأحياء فضلًا عن الأموات فنزلت الآية.

واستدلّوا أيضاً بروايات:

منها: رواية محمّد بن جعفر عن أبيه أبي عبدالله (ع) ومن المجاشعي عن الرضا عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله: ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه وعقوبته»(3).

هذا بناءً على شمول العقوبة للتقاصّ، فمن كان معترفاً بالدين ولكنّه يماطل في الأداء فيحلّ التقاصّ من ماله. ويحتمل شمول الرواية للجاحد أيضاً بالفحوى، بمعنى أنّه إذا كان عنوان الليّ والمماطلة يُحِلُّ العقوبةَ فَيَحِلُّ عقوبة الجاحد بطريق أولى.

فتشمل الرواية المعترف بالدين الممتنع وكذا يشمل الجاحد أيضاً.

ومنها: ما عن طريق العامّة عن النبيّ لمّا قالت له هند يا رسول الله أنّ أبا سفيان رجل شحيح وأنّه لا يعطيني ما يكفيني و ولدي إلا ما أخذت منه سرّاً وهو لا يعلم فهل على في ذلك فقال: «خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف»(4).


1- مجمع البيان 211: 6.
2- الجَدْعُ: قطعُ الأنفِ.( الصحاح 193: 3)
3- وسائل الشيعة 334: 18، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 8، الحديث 4.
4- صحيح البخاري 193: 7.

ص: 606

بناءً على أنّ قوله في مقام بيان الحكم لا الإذن بالأخذ بمقدار ما يكفيها.

ومنها: رواية جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبدالله (ع)، عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: «نعم»(1).

ومنها: صحيحة داود بن رزين(2) قال: قلت لأبي الحسن موسى (ع): إنّي اخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، والدابّة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك ولا تزد عليه».

ومنها: صحيحة أبي بكر الحضرمي قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال: «نعم، ولكن لهذا كلام»، قلت: وما هو؟ قال: «تقول: اللهمّ إنّي لا آخذه ظلماً ولا خيانة وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً»(3).

قوله «فجحدني وحلف» يراد منه الحلف عند هذا الرجل من غير استحلاف حتّى لا ينافي ما إذا حلف بعد استحلاف الحاكم؛ فإنّه ذهبت اليمين بحقّه فلا يصحّ له المقاصّة ظاهراً وإن كان مستحقّاً واقعاً.

ونقل صاحب «الوسائل» عن الحضرمي روايتين اخريين:

عن أبي بكر حضرمي عن أبي عبدالله (ع) قال: قلت له: رجل كان له على


1- وسائل الشيعة 275: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 10.
2- وسائل الشيعة 272: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 273: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 4.

ص: 607

رجل مال فجحده إيّاه وذهب به، ثمّ صار بعد ذلك للرجل الّذي ذهب بماله مال قبله، أيأخذه مكان ماله الّذي ذهب به منه ذلك الرجل؟ قال: «نعم، ولكن لهذا كلام يقول: اللّهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي وإنّي لم آخذ الّذي أخذته خيانة ولا ظلماً»(1).

وزاد: وفي خبر آخر: «إن استحلفه على ما أخذ منه فجائز أن يحلف إذا قال هذه الكلمة».

وفي قبال هذه الروايات الدالّة على مشروعية المقاصّة رواية ظاهرة في عدم الجواز. كموثّقة سليمان بن خالد(2) قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمّ وقع له عندي مال آخذه لمكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع قال: «إن خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عبته عليه».

ولكنّها تحمل على الكراهة، فإنّ الروايات المتقدّمة صريحة في الجواز، وهذه ظاهرة في الحرمة لأجل النهي فلا بدّ من حمل الظاهر على الصريح.

قال في «الجواهر»(3): إنّ مراد الإمام بيان نوع من المرجوحيّة بسبب كونها صورة الخيانة التي قد تأكدّ النهي عنها.

ثمّ بعد ذكر الأدلّة الدالّة على مشروعية المقاصّة نحاول في بيان الصور الذي ذكر الماتن (ره).


1- وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 7.
3- راجع: جواهر الكلام 392: 40.

ص: 608

الصورة الاولى: في عدم جواز المقاصّة لو كان المديون معترفاً باذلًا.

إذا كان المديون معترفاً باذلًا، فلا إشكال في عدم جواز التقاصّ من ماله إذا وقع ماله عنده.

وذلك لما قلنا من أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز التقاصّ لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه وهو حرام وما تقدّم من الأدلّة موردها ما إذا كان المدين مماطلًا أو جاحداً، ولا يشمل الفرض مضافاً إلى أنّ الدين كان كلّياً في ذمّة المدين، ولا يتشخّص في مصداق في الخارج إلا بتعيينه أو تعيين الحاكم أو امتنع المديون من التعيين. وهذا خلاف الفرض فيما نحن فيه، فإنّه معترف وباذل إذا أراد منه فإذا وقع مال من المديون في يد الدائن وأراد أخذه تقاصّاً فلا يتعيّن في الدين بتعيينه فهو مال الغير عنده لا يجوز له التصرّف فيه ولو قصد كونه عوضاً من ماله.

الصورة الثانية: في جواز المقاصة مطلقاً لو كان المديون مماطلًا أو جاحداً.

إذا كان المدين مماطلًا أو جاحداً، اختار الإمام جواز المقاصّة بلا إشكال، حيث تعرّض لهذه الصورة في المسألة الخامسة التي ستأتي.

ويظهر من المحقّق (ره)(1) التفصيل. قال: ولو كان المدين جاحداً وللغريم بيّنة تثبت عند الحاكم والوصول إليه ممكن، ففي جواز الأخذ تردّد أشبهه الجواز. وهو الذي ذكره الشيخ في «الخلاف»(2) و «المبسوط»(3) وعليه دلّ عموم الإذن في


1- شرائع الإسلام 895: 4.
2- الخلاف 355: 6، مسألة 28.
3- ولكن ذكر ذلك فيما إذا لم يقدر على إثباته عند الحاكم.( المبسوط 311: 8)

ص: 609

الاقتصاص. ولو لم تكن له بيّنة أو تعذّر الوصول إلى الحاكم ووجد الغريم من جنس ماله اقتصّ مستقلًا بالاستيفاء. انتهى.

والقول الآخر للمحقّق أيضاً في «النافع»(1) وتلميذه الآبي في «كشف الرموز»(2) وفخر المحقّقين في «الإيضاح».

واستدلّوا بأنّ المنصرف من الروايات، بل الظاهر من بعضها خصوص ما إذا لم يتمكّن من الرجوع إلى الحاكم، أو لم يكن له بيّنة بحيث يكون الطريق إلى وصول حقّه بالمقاصّة فقط، فبعد عدم شمول الروايات للمورد فمقتضى القاعدة عدم جواز التصرّف في مال الغير وعدم جواز المقاصّة.

ويرد عليه: أنّ الانصراف ممنوع؛ فإنّ الظاهر من الآيات والروايات الدالّة على مشروعية المقاصّة مطلقة من هذه الجهة؛ فإن قوله (ص): «ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه»(3) بناء على شمول العقوبة للمقاصّة من ماله ظاهر في أنّ المماطلة يحلّ للدائن التعرّض للتقاصّ من ماله وللتعرّض بعرضه، سواء كان له التمكّن من الوصول إلى الحاكم وكانت له البيّنة أم لا.

وكذا في رواية جميل بن درّاج فقوله في جواب السؤال: «نعم» أعمّ من أن يكون له البيّنة وأمكن له التواصل إلى حقّه بالرجوع إلى الحاكم أم لا. مضافاً إلى ترك الاستفصال من الإمام؛ فإنّه لو كان بين وجود البيّنة وإمكان الرجوع وبين عدمه فرق لا بدّ للإمام من الاستفصال عنهما، وترك الاستفصال دليل على


1- المختصر النافع 284: 2.
2- كشف الرموز 505: 2.
3- عوالي اللئالي 72: 4.

ص: 610

عدم الفرق بينهما في الحكم. يعني جاز له التقاصّ، سواء أمكن له الترافع أم لا. وكذا غيرها من الروايات.

والحاصل: أنّ الحقّ مع الأكثر من جواز التقاصّ عند مماطلة المديون أو جحده مطلقاً.

الصورة الثالثة: حكم التقاصّ إذا كان المديون منكراً لمحقّية المدّعى أو لا يدري محقّيته.

إذا كان المديون منكراً لاعتقاد المحقّية للمدّعي، أو كان لا يدري محقّيته ففي جواز المقاصّة إشكال من جهة شمول المماطل أو الجاحد له أيضاً. ومن جهة أنّ المماطل هو المعترف بالدين الممتنع عن الأداء وهذا لا يكون معترفاً، بل كان منكراً للدين وكذا الجاحد هو الذي يعلم باطناً أنّه مديون، ولكنّه أنكره ظاهراً وأمّا هنا إمّا معتقد بعدم كونه مديوناً أو يقول: لا أدري فلا يشمله المماطل والجاحد الموضوعان في الروايات. ولذا استشكل الماتن (ره) أوّلًا في جواز المقاصّة هنا. ثمّ قال: «بل الأشبه عدم الجواز».

الصورة الرابعة: حكم التقاصّ في إنكاره لنسيان الغصب.

إذا أنكر الغاصب الحقّ لنسيانه الغصب، قال المصنّف (ره) فالظاهر جواز المقاصّة. والوجه فيه أنّ إطلاق الروايات خصوصاً رواية داود بن رزين يشمله. مضافاً إلى ندرة نسيان الغاصب غصبه ولو قلنا بعدم جواز المقاصّة يوجب تضييع الحقّ.

ص: 611

مسألة 2: إذا كان له عين عند غيره؛ فإن كان يمكن أخذها بلا مشقّة ولا ارتكاب محذور فلا يجوز المقاصّة من ماله، وإن لم يمكن أخذها منه أصلًا جاز المقاصّة من ماله الآخر، فإن كان من جنس ماله جاز الأخذ بمقداره، وإن لم يكن جاز الأخذ بمقدار قيمته، وإن لم يمكن إلا ببيعه جاز بيعه وأخذ مقدار قيمة ماله وردّ الزائد. (2)

القسم الثالث: فيما إذا كان الحقّ الذي على غيره عيناً
اشارة

(2) هذا هو القسم الثالث فيمن له حقّ على غيره، فإنّه إمّا عقوبة أو دين أو عين. وقد تقدّم الأوّلان والآن نبحث عن ثالث الأقسام؛ يعني إذا كان له عين في يد آخر وأنكره فهل يجوز له التقاصّ من ماله أو لا، فيه ثلاثة صور:

الصورة الاولى: ما إذا أمكن له أخذها من غير تحمّل مشقّة أو ارتكاب محذور كما إذا أمكن له أخذها من دكّانه علناً وبلا محذور أصلًا، فلا شبهة في عدم جوازه لانصراف أدلّة المشروعية عنه، فإنّ صرف الجحود والإنكار لا يسوغ المقاصّة مع إمكان أخذها بلا مشقّة.

الصورة الثانية: ما إذا لم يمكن أخذها منه أصلًا، فلا إشكال في جواز المقاصّة وشمول الأخبار له.

ثمّ عند التقاصّ لو كان المال من جنس ماله فيأخذ منه بمقدار طلبه. وإن كان من غير جنسه فيأخذ منه بمقدار قيمة ماله. كما إذا كان مطالباً للحنطة فيأخذ العدس بمقدار قيمتها، ولو كان المال الآخر قيميّاً فيأخذه بمقدار قيمة ماله. ولو احتاج إلى البيع يبيعه ويأخذ من ثمنه بمقدار ماله ويرد الزائد عليه إن كان.

ص: 612

مسألة 3: لو كان المطلوب مثلياً، وأمكن له المقاصّة من ماله المثلي وغيره، فهل يجوز له أخذ غير المثلي تقاصّاً بقدر قيمة ماله، أو يجب الأخذ من المثلي، وكذا لو أمكن الأخذ من جنس ماله ومن مثلي آخر بمقدار قيمته؛ مثلًا: لو كان المطلوب حنطة، وأمكنه أخذ حنطة منه بمقدار حنطته وأخذ مقدار من العدس بقدر قيمتها، فهل يجب الاقتصار على الحنطة أو جاز الأخذ من العدس؟ لا يبعد جواز التقاصّ مطلقاً فيما إذا لم يلزم منه بيع مال الغاصب وأخذ القيمة، ومع لزومه وامكان التقاصّ بشي ء لم يلزم منه ذلك، فالأحوط بل الأقوى الاقتصار على ذلك، بل الأحوط الاقتصار على أخذ جنسه مع الإمكان بلا مشقّة ومحذور. (3)

(3) كلّ ذلك من جهة الإطلاق في الروايات؛ فإنّ قوله في رواية جميل: «فيظفر من ماله بقدر الّذي جحده»(1) يشمل من الجنس أو غيره والغير مثليّاً كان أو قيميّاً.

وكذا قوله (ع) في صحيحة داود بن رزين: «خذ مثل ذلك ولا تزد عليه»(2) وكان موردها القيمي ويراد منه القيمة يعني بمقدار قيمة ماله بلا زيادة، فيجوز الأخذ من ماله المثلي أو القيمي بمقدار قيمة ماله. ولو احتاج إلى بيعه وأخذ القيمة جاز ذلك.

والحاصل: أنّ الإمام جعل المقاصّ قائماً مقام المالك في الأخذ من ماله من


1- وسائل الشيعة 275: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 10.
2- وسائل الشيعة 272: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 1.

ص: 613

مسألة 4: لو أمكن أخذ ماله بمشقّة فالظاهر جواز التقاصّ، ولو أمكن ذلك مع محذور- كالدخول في داره بلا إذنه أو كسر قفله ونحو ذلك- ففي جواز المقاصّة إشكال. هذا إذا جاز ارتكاب المحذور وأخذ ماله ولو أضرّ ذلك بالغاصب. وأمّا مع عدم جوازه- كما لو كان المطلوب منه غير غاصب، وأنكر المال بعذر- فالظاهر جواز التقاصّ من ماله إن قلنا بجواز المقاصّة في صورة الإنكار لعذر. (4)

المثلي أو القيمي وجواز البيع لو احتاج إليه، كما أنّ الحاكم مأذون من قبل الإمام في ذلك. نعم لو أمكن التقاصّ ممّا لايحتاج إلى بيعه وأخذ ثمنه بمقدار ماله وممّا يحتاج إلى بيع مال المقاصّ منه وأخذ ثمنه، فالأحوط بل الأقوى الاقتصار على الأوّل. لأنّه لا إطلاق من هذه الجهة حتّى تشمل الثاني وإن يحتمل شمول الإطلاق لذلك أيضاً. ولكن المسألة على خلاف القاعدة فلا بدّ من الأخذ بمقدار المتيقّن.

وقد تعرّض الماتن (ره) لذلك في المسألة السابقة.

الصورة الثالثة: إذا أمكن أخذها بمشقّة أو ارتكاب محذور من حكم تكليفي كدخول داره بغير إذنه أو حكم وضعي لإيجاد ضرر عليه من تخريب أو كسر قفل وأمثال ذلك، فحكمها يأتي في المسألة الرابعة الآتية.

(4) يتصوّر في المسألة صور للبحث. ولكن لا بدّ أن تلاحظ بعض القيود قبل بيان الصور:

1- المشقّة وعدمه.

ص: 614

2- المحذور وعدمه.

3- جواز الارتكاب المحذور وعدمه.

4- جواز التقاص وعدمه في المنكر لعذر.

فالآن ناظراً إلى هذه الامور الأربعة نبين الصور وحكمه.

الصورة الاولى: لو لم يكن في أخذ المال تقاصّاً مشقّة ولا محذور، فالحكم كما قلنا في الصورة الاولى من المسألة الثانية التي تفضّل بها الماتن (ره).

الصورة الثانية: لو كان في أخذ المال تقاصّاً مشقّة ولكن بلا محذور حرام من كسر قفل وغيره، فقال الماتن (ره): «الظاهر جواز التقاصّ».

واختار السيّد التخيير وقال: «ولو أمكنه أخذ ماله لكن بمشقّة أو ارتكاب محذور مثل الدخول في داره أو كسر قفله أو نحو ذلك، فالظاهر جواز المقاصّة من ماله الآخر أيضاً كما يجوز له أخذ ماله»(1) انتهى.

ولعلّ كلام الماتن (ره) أيضاً يراد منه التخيير؛ فإنّ قوله فالظاهر جواز التقاصّ مراده أنّه كما يجوز أخذه المال مع تحمّل المشقّة يجوز الأخذ من ماله الآخر أيضاً.

وقال في «الشرائع»: «من كانت دعواه عيناً في يد، فله انتزاعها ولو قهراً، ما لم يكن فتنة، ولا يقف ذلك على إذن الحاكم»(2).

وقال في «الجواهر»(3)- بعد قول المحقّق- «ولو قهراً»: بمساعدة ظالم أو بنفسه


1- العروة الوثقى 716: 6.
2- شرائع الإسلام 895: 4.
3- جواهر الكلام 387: 40.

ص: 615

وإن استلزم ضرراً بتمزيق ثوب أو كسر قفل أو نحو ذلك. وقال- بعد قوله ما لم تثر فتنة:- بل وإن ثارت ما لم تصل إلى حدّ وجوب الكفّ عن الحقّ له لترتّب تلف الأنفس والأموال وغيره من الفساد الذي يمكن دعوى العلم من مذاق الشرع بعدم جواز فعل ما يترتّب عليه ذلك. وإن كان مباحاً في نفسه أو مستحبّاً، بل أو واجباً. ثمّ مثّل لذلك بجواز بيع الوقف لو حصل الاختلاف الموجب لتلف الأنفس والأموال بدليل الكتاب والروايات.

وقال المحقّق الگلپايگاني: «بل قيل إنّ له أن يطالب بحقّه ويحاول انتزاعه ممّن وضع يده عليه وهو يعلم بكونه لمن يدّعيه. مهما بلغ الأمر، إذ لا فرق بين هذه المسألة ومسألة دفع اللصّ عن المال حيث يجوز للإنسان أن يدافع عن ماله ويحفظه عن اللصّ حتّى لو انتهى إلى قتل اللصّ ولو قتل هو كان شهيداً كما في الروايات»(1).

أقول: ومراده من الروايات؛ منها عن أبا عبدالله (ع) عن النبيّ (ص): «من قتل دون ماله فهو شهيد»(2) وكذا غيرها. ولكن الظاهر شمول إطلاق روايات المقاصّة للمورد، فلا يحتاج إلى تحمّل المشقّة خصوصاً لو قيل مهما بلغ، بل له أن يأخذ من ماله تقاصّاً من دون تحمّل المشاقّ إلا أن يكون متهيأ لذلك فله ذلك أيضاً.

هذا كلّه فيما إذا أمكن له أخذ ماله بمشقّة.

الصورة الثالثة: لو كان في أخذ المال مشقّة مع ارتكاب محذور وحرام وقلنا


1- كتاب القضاء 99: 2.
2- وسائل الشيعة 121: 15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدوّ، الباب 16، الحديث 10.

ص: 616

بجواز الإضرار بالغاصب- المطلوب منه- فقال الماتن (ره) ففي جواز المقاصّة إشكال.

ولعلّ وجه الإشكال أنّ امتناع الغاصب عن أداء العين وتأخير الأداء ضرر على مالكها و «لا ضرر ولا ضرار» يرفع الحرمة التكليفي من الدخول في داره بغير إذنه، أو الحرمة الوضعي من كسر قفله، أو تخريب باب داره مثلًا فيصير؛ مثل ما إذا لم يكن محذور أصلًا فلا تشمل أدلّة مشروعية التقاصّ للمورد لجواز الدخول أو كسر القفل وأخذ العين له.

هذا إذا كان من بيده المال عالماً بكون المال لمن يدّعيه وهو غاصب وظالم ولذا جاز ارتكاب المحذور من جهة حكومة قاعدة اللاضرار.

الصورة الرابعة: لو كان في أخذ المال تقاصّاً مشقّة وارتكاب محذور كالدخول في الدار أو كسر القفل وغيره، وقلنا بجواز المقاصّة من المنكر لعذر.

كما إذا لم يكن عالماً بذلك، بل اعتقد محقّية نفسه في ملكية المال أو كان جاهلًا بذلك، فلا تسقط الحرمة عن ماله، فلا يجوز الدخول بغير إذنه ولا يجوز الإضرار بماله فيكون المحذور باقياً.

ولعلّه لهذا استظهر الماتن (ره) جواز المقاصّة ولم يكن قاطعاً.

هنا نكتة وهي: أنّه قال الإمام (ره)- هنا- فالظاهر جواز التقاصّ من ماله. ولكن قد تقدّم منه الإشكال في شمول أدلّة القصاص لمورد الإنكار مع اعتقاد المحقّية لنفسه وقال الأشبه عدم الجواز.

فيكون مراده من جواز التقاصّ هنا من جهة بقاء المحذور. ولذا قيّده بقوله إن قلنا بجواز المقاصّة الأشبه عدم الجواز فلا يجوز التقاصّ فيما نحن فيه فتأمّل

ص: 617

مسألة 5: لو كان الحقّ ديناً وكان المديون جاحداً أو مماطلًا، جازت المقاصّة من ماله وإن أمكن الأخذ منه بالرجوع إلى الحاكم. (5)

مسألة 6: لو توقّف أخذ حقّه على التصرّف في الأزيد جاز، والزائد يردّ إلى المقتصّ منه، ولو تلف الزائد في يده من غير إفراط وتفريط ولا تأخير في ردّه لم يضمن. (6)

حتّى تعرف عدم التهافت في كلامه (ره) هنا وهناك.

الصورة الخامسة: لو كان في أخذ المال تقاصّاً مشقّة وارتكاب محذور وكان الإنكار لعذر كاعتقاد الغاصب لمحقّية نفسه في الإنكار. وقلنا بجواز ارتكاب المحذور في التقاصّ ولكن لم نقل بجواز التقاصّ في الإنكار عن عذر.

لم يصرّح الماتن (ره) بهذه الصورة ولعلّه لمّا استظهر التقاصّ في صورة جواز التقاصّ عن المنكر لعذر، فعدم جواز المقاصّة في صورة القول بعدم جواز التقاصّ عن المنكر لعذر مفروغ عنه.

(5) قد مرّت البحث عمّا في هذه المسألة في الصورة الثانية من المسألة الاولى من المسائل الخاتمة في الفصل الثاني في المقاصّة، فراجع.

(6) أشار الماتن (ره) إلى بعض أحكام هذه المسألة في الصورة الثانية من المسألة الثانية عن سلسلة المسائل في الخاتمة في الفصل الثاني في التقاصّ.

وهو أنّه لو احتاج في أخذ ماله إلى البيع والمال أزيد من الدين قيمة؛ يبيعه ويأخذ من ثمنه بمقدار ماله ويرد الزائد. وأضاف هنا أنّه لم يضمن لو تلف الزائد في يده بغير إفراط ولا تفريط؛ لأنّ يده أمانية رخّص الشارع له في التصرّف.

ص: 618

قد صرّح بذلك جملة من الروايات:

1- رواية محمّد بن عيسى، عن علي بن سليمان قال: كتبت إليه: رجل غصب مالًا أو جارية ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل خيانة أو غصب. أيحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب: «نعم، يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلّم الباقي إليه إن شاء الله»(1).

2- ورواية عبدالله بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألته عن الرجل الجحود أيحلّ أن أجحده مثل ما جحد؟ قال: «نعم، ولا تزداد»(2).

3- ورواية الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن داود بن رزين قال: قلت: لأبي الحسن موسى (ع): إنّي اخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، والدابّة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك ولا تزد عليه»(3).

وفي بعض الدعاء الوارد صرّح بأنّي لم أزدد عليه شيئاً(4).


1- وسائل الشيعة 275: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 9.
2- وسائل الشيعة 276: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 13.
3- وسائل الشيعة 272: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 1.
4- عن ابن مسكان، عن أبي بكر قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال:« نعم ولكن لهذا كلام»، قلت: وما هو؟ قال:« تقول: اللهمّ إنّي لا آخذه ظلماً ولا خيانة وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً».( وسائل الشيعة 273: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 4)

ص: 619

مسألة 7: لو توقّف أخذ حقّه على بيع مال المقتصّ منه جاز بيعه وصحّ، ويجب ردّ الزائد من حقّه، وأمّا لو لم يتوقّف على البيع- بأن كان قيمة المال بمقدار حقّه- فلا إشكال في جواز أخذه مقاصّة، وأمّا في جواز بيعه وأخذ قيمته مقاصّة، أو جواز بيعه واشتراء شي ء من جنس ماله ثمّ أخذه مقاصّة، إشكال، والأشبه عدم الجواز. (7)

مسألة 8: لا إشكال في أنّ ما إذا كان حقّه ديناً على عهدة المماطل فاقتصّ منه بمقداره برئت ذمّته، سيّما إذا كان المأخوذ مثل ما عهدته، كما إذا كان عليه مقدار من الحنطة فأخذ بمقدارها تقاصّاً، وكذا في ضمان القيميات إذا اقتصّ القيمة بمقدارها.

(7) إذا أراد أن يأخذ حقّه تقاصّاً فهل يجوز بيعه ليأخذ حقّه، سواء كان قيمة المال بقدر الحقّ أو أزيد، أم لا؟

قال الماتن (ره): إذا كان المال بمقدار حقّه يأخذه تقاصّاً، ولكن تردّد في جواز بيعه وأخذ القيمة تقاصّاً أو جواز بيعه واشتراء شي ء من جنس ماله ثمّ أخذه مقاصّة، فقال الأشبه عدم الجواز.

ولعلّه بملاحظة أنّه لا بدّ أن يكون التقاصّ من جنس حقّه وبإذن الحاكم.

ولكن يظهر من الشيخ في «المبسوط» أنّ جواز البيع لغير المالك والأخذ تقاصّاً عند الإمامية إجماعي(1).


1- راجع: المبسوط 311: 8.

ص: 620

وأمّا إذا كان عيناً فإن كانت مثلية واقتصّ مثلها فلا يبعد حصول المعاوضة قهراً على تأمّل. وأمّا إذا كانت من القيميات- كفرس مثلًا- واقتصّ بمقدار قيمتها، فهل كان الحكم كما ذكر من المعاوضة القهرية، أو كان الاقتصاص بمنزلة بدل الحيلولة، فإذا تمكّن من العين جاز أخذها بل وجب، ويجب عليه ردّ ما أخذ، وكذا يجب على الغاصب ردّها بعد الاقتصاص وأخذ ماله؟ فيه إشكال وتردّد؛ وإن لا يبعد جريان حكم بدل الحيلولة فيه. (8)

براءة ذمّة المقتصّ منه من الدين بعد التقاصّ

(8) قد تقدّم أنّ المال الذي على عهدة شخص أو كان عنده وماطل في أدائه أو جاحده قد يكون ديناً على ذمّته وقد يكون عيناً عنده.

ففي الأوّل: إذا اقتصّ الدائن من ماله بمقدار الدين ذهب الماتن (ره) ببراءة ذمّة المقتصّ منه، سواء اقتصّ من جنس ما عليه، أو من مثله بمقدار قيمة ماله. وقال: وكذا في ضمان القيميات كما إذا تلفت العين عنده وتلفت القيمة بعهدته، فإذا اقتصّ بمقدارها برئت ذمّته.

وفي الثاني: إذا كانت مثليّاً واقتصّ مثلها لا يبعد حصول المعاوضة قهراً بين المثليّين على تأمّل، يعني صار المقتصّ مالكاً لما أخذه والمقتصّ منه مالكاً لما عنده. وإذا كانت من القيميّات واقتصّ منه بمقدار قيمتها فهل تحصل المعاوضة القهريّة أيضاً أو كان الاقتصاص من باب بدل الحيلولة قال (ره) فيه إشكال وتردّد

ص: 621

ثمّ قال وإن لا يبعد جريان حكم بدل الحيلولة فيه.

وقال المحقّق العراقي آقا ضياء الدين(1) لا شبهة في أنّ بالتقاصّ تفرغ ذمّة المقتصّ منه. إنّما الكلام في أنّ العين الموجودة في فرض كون المال المجحود عيناً ينتقل إلى الجاحد بالتقاصّ من ماله؛ أو يبقى العين على ملكية المقاصّ؟ قال: فيه وجهان:

1- مبنيّان على أنّ باب التقاصّ من قبيل المعاوضة وحقيقته التملّك بالعوض.

2- أو من باب بدل الحيلولة؛ يعني وفاء مرتبة من مراتب المال مع بقاء خصوصية العين على ملك المالك الأوّل.

ثمّ قال: الأقوى هو الثاني، لأنّه المرتكز في الذهن لا أنّه معاملة مستقلّة ولا أقلّ من الشكّ فيبقى استصحاب بقاء ملكية شخص العين بحاله. انتهى.

فترى أنّه اختار أنّ باب التقاصّ نظير باب البدل الحيلولة واستدلّ بأنّه المرتكز في الذهن ويخطر بالبال من الروايات لا المعاوضة والتملّك.

وقال الفاضل النراقي: «يمكن أن يقال: إنّ الثابت من أدلّة التقاصّ ليس أزيد من جواز أخذه والتصرّف فيه ما دام غريمه جاحداً أو مماطلًا، وأمّا بعد الإقرار والبذل فيستصحب عدم جواز التصرّف، فإنّه قبل التقاصّ لم يكن جائز التصرّف، وبعده لم يثبت الزائد عن الجواز ما لم يبذل، فيستصحب العدم بعد البذل»(2).

ولكن المتأمّل في الروايات والذي ينظر في الروايات مع الدقّة يظهر له أنّ مراد السائل فيها الوصول إلى حقّه الذي على ذمّة الجاهد أو المماطل أو إلى


1- كتاب القضاء، آغاضياء: 165.
2- مستند الشيعة 459: 17.

ص: 622

قيمة ماله الذي كان عنده وجاحده. وكذا أنّ مراد الإمام (ع) في الجواب مع التأكيد في بعضها أن يأخذ بمقدار حقّه لا أزيد أن يتمّ الدعوى، يعني يأخذ الدائن طلبه أو قيمة ماله ويسقط الحقّ عن المقتصّ منه ويرفع الدعوى، ولازم ذلك وقوع التعارض قهراً بين ما أخذه وبين ما طلبه منه فيصير المقتصّ مالكاً لما أخذ ويصير المقتصّ منه مالكاً لما في ذمّته فتبرء ذمّته، أو مالكاً للعين التي كانت عنده وأمّا استظهار أنّ ما أخذه كان بعنوان بدل الحيلولة أو يجوز له التصرّف ما دام غريمه جاحداً فغير صحيح وخارج عن المستفاد من الروايات.

مضافاً إلى أنّه لو كان كذلك فلا وجه لبراءة ذمّة المقتصّ منه فيما إذا كان الحقّ ديناً؛ فإنّ المقتصّ لا يصير مالكاً لما أخذ، بل هو مال عنده من المقتصّ منه بدل حيلولته بينه وحقّه وجاز له التصرّف فيه ما دام كذلك، والحال أنّهم اتّفقوا على براءة ذمّته.

وهذا أيضاً ما استظهره صاحب «الجواهر» حيث قال: «بل ظاهرها ملك المقاصّ العوض الذي يأخذه، وينبغي أن يلزمه انتقال مقابله إلى ملك الغاصب، لقاعدة عدم الجمع بين العوض والمعوّض عنه»(1).

وكذا استظهر السيّد (ره) بقوله: «الظاهر حصول التعاوض بين ما أخذه مقاصّة وبين حقّه الذي عند المقتصّ منه أو في ذمّته فتبرأ ذمّته إذا كان المال ديناً عليه ويملكه إذا كان عيناً، لأنّ المفروض أنّ المقاصّ يملك ما يأخذه عوض ماله فلا يبقى المعوّض في ملكه وإلا لزم الجمع بين العوض والمعوّض. ثمّ قال ولا وجه


1- جواهر الكلام 396: 40.

ص: 623

لما يظهر من «المستند»(1) من بقاء العين على ملك المقاصّ ومنع كون ما يأخذه عوضاً عن ماله، بل هو أمر جوّزه الشارع عقوبة- أي عقوبة جحده ومماطلته- إذ المفروض أنّه يأخذه بعنوان العوضية من ماله لا بعنوان العقوبة. ثمّ قال: مع أنّ لازم ما ذكره جواز عتقه للمقاصّ إذا كان عبداً أو جارية وجواز نقله إلى الغير ولا يمكن الالتزام به»(2).

ثمّ إنّ ثمرة البحث أنّ المقتصّ منه، الجاهد أو المماطل لو ندم وأقدم بعد ذلك إلى أداء دينه أو بذل العين التي كانت عنده، فلا يجوز للمقاصّ القبول. كما أنّه لا يستحقّ المقاصّ أن يطلب دينه من المقتصّ منه أو يطلب عينه منه بعد الإقدام بالمقاصّة من ماله لحصول المعاوضة القهرية بحكم الشرع وبقاعدة أصالة اللزوم.

قال في «الجواهر»(3) واحتمال كون الملك متزلزلًا- نحو ما ذكروه في القيمة التي يدفعها الغاصب للحيلولة- مناف لقاعدة اللزوم بعد ظهور النصوص في الملك.

فلا وجه لما ذكره صاحب «المستند»(4) من جواز أخذ المقاصّ لو أتي الغريم بالمال المجحود أو المماطل فيه، إذا كانت عين ما اقتصّه باقية وردّ المقتصّ به. وكذا جواز انتزاع المقاصّ حقّه بعد التقاصّ بالبيّنة وردّ المقتصّ به مع بقاء عينه لأصالة عدم اللزوم.


1- مستند الشيعة 452: 17.
2- العروة الوثقى 718: 6.
3- راجع: جواهر الكلام 396: 40.
4- مستند الشيعة 452: 17.

ص: 624

مسألة 9: الأقوى جواز المقاصّة من المال الذي جعل عنده وديعة على كراهية، والأحوط عدمه. (9)

وذلك لحصول التعاوض وصيرورة ما أخذ المقاصّ ملكاً له وبراءة ذمّة المقتصّ منه عن الدين وصيرورته مالكاً للعين التي عنده والأصل في المعاوضة اللزوم.

جواز المقاصّة من الوديعة على كراهية

(9) في جواز المقاصّة من الوديعة قولان.

القول الأوّل: الجواز: ذهب الشيخ(1) في «الاستبصار» وجمع من الأصحاب إلى الجواز على كراهية. قال المحقّق في «الشرائع»: «نعم لو كان المال وديعة عنده ففي جواز الاقتصاص تردّد أشبهه الكراهة»(2). وفي «الجواهر»(3) وفاقاً لأكثر المتأخّرين، بل الظاهر أنّه المشهور.

القول الثاني: الحرمة: ذهب الشيخ في «الخلاف»، و «النهاية» وجماعة إلى التحريم.

ومنشأ الاختلاف هو اختلاف الأخبار فإنّها على طائفتين:

الطائفة الاولى: ما دلّ على جواز المقاصّة ممّا تقدّم من الروايات خصوصاً


1- راجع: الاستبصار 53: 3.
2- شرائع الإسلام 896: 4.
3- جواهر الكلام 391: 40.

ص: 625

صحيحة أبي العبّاس البقباق، أنّ شهاباً ما رآه(1) في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العبّاس فقلت له: خذها مكان الألف الّتي أخذ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبدالله (ع) فذكر له ذلك، فقال: «أمّا أنا فاحبّ أن تأخذ وتحلف»(2).

قال في «المسالك»: «وهذا الخبر يدلّ على الجواز من غير كراهة، لأنّه (ع) لا يحبّ المكروه وقوله (ع): «وتحلف» أراد به أنّه إذا طلب منه المودع الوديعة جاز له الإنكار، فإن أحلفه حلف له على عدم الاستحقاق، أو على عدم الاستيداع مع التورية»(3).

ورواية على بن سليمان قال: كتبت إليه: رجل غصب مالًا أو جارية، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل خيانة أو غصب. أيحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب: «نعم يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلّم الباقي إليه إن شاء الله»(4).

والطائفة الثانية: ما دلّ على الحرمة والمنع.

منها: رواية ابن أخي الفضيل بن يسار قال: كنت عند أبي عبدالله (ع) ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها، فقالت لي: أسأله، فقلت: عمّا ذا؟ فقالت: إنّ ابني مات وترك مالًا كان في يد أخي فأتلفه، ثمّ أفاد مالًا فأودعنيه، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي ء؟ فأخبرته بذلك فقال: «لا، قال: رسول الله (ص): أدّ


1- قوله( ع):« ما رأه» أي جادله ونازعه.
2- وسائل الشيعة 272: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 2.
3- مسالك الأفهام 72: 14.
4- وسائل الشيعة 275: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 9.

ص: 626

الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»(1).

وهذا الخبر يدلّ على المنع من ثلاثة مواضع:

أحدها: من قوله: «لا» في جواب قولها فلي أن آخذ منه.

وثانيها: من قوله: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك» فإنّ الأمر بأدائها إليه ينافي جواز الأخذ.

وثالثها: من قوله: «ولا تخن من خانك» وهو ظاهر.

ومنها: رواية سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمّ وقع له عندي مال آخذه لمكان مالي الّذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع قال: «إن خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عبته عليه»(2).

ومنها: رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (ع) قال: قلت له: الرجل يكون لي عليه حقّ فيجحدنيه ثمّ يستودعني مالًا، أ لي أن آخذ مالي عنده؟ قال: «لا، هذه الخيانة»(3).

هذا مضافاً إلى عموم قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أهْلِهَا(4).

وإطلاقات الواردة في وجوب ردّ الأمانة وأدائها إلى صاحبها مثل ما في خبر عبدالله بن إسماعيل عن الصادق (ع): «أدّ الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك


1- وسائل الشيعة 273: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 7.
3- وسائل الشيعة 275: 17- 276، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 11.
4- النساء( 4): 58.

ص: 627

النصيحة ولو إلى قاتل الحسين (ع)»(1).

وكذا ما في خبر عمّار بن مروان قال قال أبو عبدالله في وصيّته له: «اعلم أنّ ضارب عليّ (ع) بالسيف وقاتله لو ائتمنني على سيف واستشارني ثمّ قبلت ذلك منه لأدّيت إليه الأمانة»(2) وغيرهما ممّا فيه تأكيد بالأمر بأداء الأمانة إلى أهلها.

يمكن أن يقال:- في حلّ الاختلافات- أنّ عمومات وجوب ردّ الأمانة تخصّص بما دلّ على جواز المقاصّة من الوديعة بالخصوص.

وأمّا الأدلّة الخاصّة من الطرفين فتحمل ما دلّ على الحرمة على الكراهة جمعاً بينها وبين ما دلّ على الجواز؛ فإنّ الأدلّة المجوّزة صريحة في الجواز والمانعة ظاهرة في الحرمة من جهة ظهور النهي في الحرمة فمقتضى القاعدة حمل الظاهر على النصّ والصريح فتدلان على الجواز مع الكراهة جمعاً.

بل يمكن استفادة الكراهة ممّا دلّ على كون التقاص خيانة، فإنّه في الحقيقة ليس خيانة. بل هو استيفاء الحقّ من ماله ومع كونه مأذوناً في الأخذ شرعاً وله الولاية شرعاً للتصرّف في مال المقتصّ منه وأخذ حقّه منه يصير التقاصّ بمنزلة أداء الأمانة إلى المقتصّ منه وقبوله عنه عوض حقّه. لكن لما كان ذلك في صورة التصرّف والخيانة في الأمانة نهي عنه كراهية. وقال: «إن خانك فلا تخنه»، أو قال في رواية اخرى: «هذه خيانة».

وكذلك يستفاد من قوله: ولا تدخل فيما عليه الكراهة- بتقريب المتقدّم-


1- وسائل الشيعة 73: 19، كتاب الوديعة، الباب 2، الحديث 4.
2- تهذيب الأحكام 351: 6؛ وسائل الشيعة 74: 19، كتاب الوديعة، الباب 2، الحديث 8.

ص: 628

مسألة 10: جواز المقاصّة في صورة عدم علمه بالحقّ مشكل، فلو كان عليه دين واحتمل أداءه، يشكل المقاصّة، فالأحوط رفعه إلى الحاكم، كما أنّه مع جهل المديون مشكل ولو علم الدائن، بل ممنوع كما مرّ، فلا بدّ من الرفع إلى الحاكم. (10)

فالنهي فيها محمول على الكراهة من هذه الجهة أيضاً.

إن قلت: إنّ الظاهر من صحيح البقباق هو استحباب التقاصّ، فإنّ قوله: «أمّا أنا فاحبّ أن تأخذ وتحلف» مع معلومية عدم حبّه (ع) المكروه ظاهر في الاستحباب فتعارض هذه الرواية ما تدلّ على الكراهة.

قلت: شهرة الكراهة بين الأصحاب تدلّ على إعراضهم عن تلك الرواية فلا يمكن الاعتماد عليه.

والحاصل: أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار هو الجواز مع الكراهة كما عليه المشهور، وأكثر المتأخّرين، فما قاله الماتن (ره) من أنّ الأحوط عدم الجواز فلا وجه له. وإن كان استحبابياً، كما أنّه لا وجه لما يستظهر من كلام السيّد من الجواز بلا كراهة لوجود الأدلّة المانعة ولزوم حملها على الكراهة.

حكم التقاصّ فيما لو كان اعتقاد المحقّية لحجّة شرعية

(10) قد يكون صاحب الحقّ عالماً بطلبه على عهدة زيد مثلًا وكونه مديوناً فلا شبهة في جواز المقاصّة من ماله.

أمّا إذا لم يكن عالماً بذلك بل له حجّة شرعية عليه، كما إذا كان عالماً بالدين

ص: 629

ولكن المديون يدّعي وفائه وهو يحتمل صدقه في ادّعائه فحينئذٍ يتمسّك باستصحاب بقاء الدين وأصالة عدم وفائه، فهل جاز له المقاصّة من ماله باستناد الاستصحاب والأصل أم لا؟ وكذا لو قام عنده البيّنة على بقاء الدين.

قال في «المستند» بجواز المقاصّة فيه مع العلم الشرعي الحاصل بالاصول الشرعية لقيام مقتضى الاصول الشرعية مقام الواقع(1).

ويرد عليه: أنّ الظاهر من أخبار مشروعية المقاصّة هو صورة العلم بالحقّ بحيث يكون صاحب الحقّ عالماً واقعاً بوجود الحقّ على ذمّة المديون الجاهد أو المماطل أو عنده. مثلًا قال في معتبرة أبي بكر الحضرمي «رجل لي عليه دراهم فجحدني»(2)، أو قال في رواية سليمان بن خالد «عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني»(3)، أو قال في رواية أبي العبّاس البقباق «في رجل ذهب له بألف درهم»(4) إلى غير ذلك ممّا يستظهر منها حصول العلم الوجداني لصاحب الحقّ، فلا تشمل ما إذا استند إلى أصل عملي أو أمارة لا يوجب الاطمئنان جزماً، فلو أراد استيفاء حقّه فلا بدّ له من رفع الأمر إلى الحاكم وإثبات حقّه عنده. ولذا قال الإمام (ره) فلو كان عليه دين واحتمل أدائه يشكل المقاصّة، فالأحوط رفعه إلى الحاكم.

وقال أيضاً في «المستند»: «لو كان له على شخص حقّ، ولم يعلم به الغريم أو نسيه؛ يجوز له التقاصّ، من غير وجوب الإعلام والمطالبة، للعمومات»(5).


1- مستند الشيعة 459: 17.
2- راجع: وسائل الشيعة 273: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 4.
3- راجع: وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 7.
4- راجع: وسائل الشيعة 272: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 2.
5- مستند الشيعة 460: 17.

ص: 630

مسألة 11: لا يجوز التقاصّ من المال المشترك بين المديون وغيره إلا بإذن شريكه، لكن لو أخذ وقع التقاصّ وإن أثم، فإذا اقتصّ من المال المشاع، صار شريكاً لذلك الشريك إن كان المال بقدر حقّه أو أنقص منه، وإلا صار شريكاً مع المديون وشريكه، فهل يجوز له أخذ حقّه وإفرازه بغير إذن المديون؟ الظاهر جوازه مع رضا الشريك. (11)

وقال السيّد(1): «إذا ادّعى على زيد وهو يقول: لا أدري أنّي مديون أو لا، فمع علمه بالحقّ يجوز له المقاصّة كما يجوز له المرافعة».

ويرد عليهما: أنّ المستفاد من أغلب الروايات المتقدّمة صورة الجحد والمماطلة، ففي رواية أبي بكر الحضرمي قال: «فجحدني» وعطف عليها. وفي الاخرى قال: «فجحده إيّاه وذهب به»(2) وفي رواية سليمان بن خالد قال: فكابرني عليه وحلف. وفي رواية النبوي «ليّ الواجد» وهو المماطلة.

فلا تشمل ما إذا قال الغريم: لا أدري مع أنّ المقاصّة على خلاف القاعدة ولا بدّ من الأخذ على قدر المتيقّن. نعم له أن يرفع الأمر إلى الحاكم والقضاء بما إذا كان الجواب من الغريم قوله: لا أدري كما تقدّم.

ولذا منعه الإمام (ره) وقال فلا بدّ من الرفع إلى الحاكم.

عدم جواز التقاصّ من مال المشترك

(11) لو كان المال الذي عثر عليه ذو الحقّ وأراد المقاصّة منه مشتركاً بين


1- العروة الوثقى 721: 6.
2- راجع: وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 5.

ص: 631

المديون وغيره، هل يجوز الاقتصاص منه أو لا؟

ذهب النراقي إلى جواز الاقتصاص منه من دون إذن الشريك. حيث قال: «يجوز التقاصّ من مال الغريم المشترك بينه وبين غيره، وعليه أداء مال الغير وإيصاله إليه، للعمومات، وأدلّة نفي الضرر، ولأنّ حرمة مال الشريك ليس بأزيد من حرمة الزائد على الحقّ من مال الغريم»(1).

وقال السيّد في «ملحقات العروة»: «إذا عثر على مال مشترك بين الغريم وغيره، فإن أذن له الشريك في التقاصّ يأخذ مقدار حقّه منه جاز وإلا فلا»(2).

أقول: والحقّ أنّ التقاصّ من المال المشترك بدون إذن الشريك غير جائز؛ فإنّ العمومات لا يفيد جواز التصرّف في مال غير المقتصّ منه بدون إذنه وكذا أدلّة لا ضرر.

نعم، لو ارتكب الحرام وأخذ من مال المشترك وقع التقاصّ، ويصير سهم المقتصّ منه ملكاً له ويصير المال مشتركاً بينه وبين الشريك إن كان بقدر حقّه، أو انقص وإن كان أكثر يصير المال مشتركاً بينه وبين الشريك وبين المديون. مثلًا لو كان له على المديون عشرين كيلو حنطة وعثر على ظرف فيه أربعين كيلو حنطة فأخذه تقاصّاً عن ماله، فيصير مالكاً لعشرين كيلو حنطة ويكون البقيّة ملكاً للشريك فيكون الجميع مشتركاً بينهما بالإشاعة. ولو كان فيه خمسين كيلو حنطة مثلًا فيصير مالكاً لعشرين منه تقاصّاً وخمس وعشرين منها ملكاً للشريك ويبقى خمسة كيلو منها ملكاً للمقتصّ منه.


1- مستند الشيعة 460: 17.
2- العروة الوثقى 721: 6.

ص: 632

مسألة 12: لو كان له حقّ ومنعه الحياء أو الخوف أو غيرهما من المطالبة، فلا يجوز له التقاصّ. وكذا لو شكّ في أنّ الغريم جاحد أو مماطل لا يجوز التقاصّ. (12)

والوجه في ذلك أنّ أدلّة جواز التقاصّ لا يكون مشروطاً بجواز التصرّف وإذن الشريك بل هي مطلقة. نعم، التصرّف فيه مشروط بإذن الشريك، فإذا أخذ المال تقاصّاً وقع التقاصّ وإن كان التصرّف فيه محرماً بغير إذن الشريك.

ثمّ إنّ المستفاد من الروايات الدالّة على جواز أخذ مال المقتصّ منه تقاصّاً وردّ مازاد عن حقّه إلى ماله، هو جواز إفراز المال بدون إذن المديون، فإنّه لو كان الإفراز متوقّفاً على إذن المديون، يكون نقضاً للغرض مع فرض جحوده أو مماطلته.

نعم، بعد أخذ المال وصيرورته شريكاً في المال مع الشريك لا يجوز الإفراز بدون إذن الشريك، لعدم دلالة أدلّة مشروعية المقاصّة على ذلك بلا شبهة، فالإفراز بعد التقاصّ يحتاج إلى إذن الشريك.

(12) لو كان حقّ ثابت معلوم والغريم باذل غير مماطل، بحيث لو تذكّره وطلب منه يدفعه إليه ولكن منعه الحياء أو الخوف أو مصلحة اخرى عن المطالبة، فهل يجوز التقاصّ من ماله؟

ذهب الفاضل النراقي إلى القول بالجواز. حيث قال: «وكذا لو كان له حقّ، ومنعه الحياء أو الخوف أو مصلحة اخرى عن المطالبة»(1).


1- مستند الشيعة 460: 17.

ص: 633

مسألة 13: لا يجوز التقاصّ من مال تعلّق به حقّ الغير، كحقّ الرهانة وحقّ الغرماء في مال المحجور عليه، وفي مال الميّت الذي لا تفي تركته بديونه. (13)

ويرد عليه: أوّلًا، بعدم صدق عنوان الجحود والمماطل عليه، فلا تشمله الروايات فلا يجوز له التقاصّ.

ثانياً، كما ردّ على النراقي (ره) السيّد اليزدي أيضاً حيث قال: «لا يخفى ما فيه من الإشكال وهو عدم شمول الجحود والمماطلة هنا»(1).

وكذا لو شكّ في أنّ الغريم جاحد أو مماطل أم لا؟ ذهب النراقي إلى جواز التقاصّ حيث قال: «لو كان الغريم غائباً ولم يعلم جحوده أو عدم بذله يجوز التقاصّ من ماله الحاضر»(2).

للعمومات وإطلاق بعض الروايات.

ولكن يرد عليه بعدم صدق الجحود والمماطلة حينئذٍ، فيكون خارجاً عن مورد الروايات، ولا يشمله العموم أو الإطلاق في الروايات.

عدم جواز التقاصّ من مال تعلّق به حقّ الغير

(13) إذا كان المال الذي أراد المقاصّة منه، متعلّقاً لحقّ الغير، كما إذا كان رهناً لدين مثلًا، فلا إشكال في عدم جواز التقاصّ منه، فإنّه يكون وثيقة للدين


1- العروة الوثقى 722: 6، مسألة 16.
2- مستند الشيعة 460: 17.

ص: 634

بحيث لو لم يؤدّي المديون الدين استوفي دينه منه فيكون متعلّقاً لحقّ الغير فلا يشمله الأدلّة، لإيجابه تضييع الحقّ.

وهكذا لو تعلّق حقّ الغرماء بمال المحجور عليه. قال السيّد: «فإن كان قبل حجر الحاكم له عن التصرّف جاز لصاحب الحقّ المقاصّة بتمام حقّه، وإن كان بعده فالظاهر عدم جوازها حتّى بمقدار حقّه»(1).

وذلك لأنّه قبل حكم الحاكم بالحجر عليه لا يكون أمواله متعلّقاً لحقّ الغرماء وإن كان مديوناً ولم يف أمواله بديونه. ولكن إذا اجتمع شرائط الحجر وحكم الحاكم به تعلّق حقّ الغرماء بأمواله ولا يجوز له التصرّف فيها، فكذلك لا يجوز لصاحب الحقّ المقاصّة منها وإن كان هو أيضاً دائناً وغريماً إلا أن يدّعي عند الحاكم وأثبت الدين عنده فيكون شريكاً مع سائر الغرماء فيقسم الأموال بينهم على السهم.

وهكذا لو تعلّق حقّ الغرماء بمال الميّت الذي لا تفي تركته بديونه؛ فإنّ المقاصّة توجب تضييع حقوق الغرماء فلا تشمله الأدلّة، بل لا بدّ له من إثبات حقّه عند الحاكم، حتّى يصير شريكاً مع سائر الغرماء وقسّم المال بينهم على السهم.


1- العروة الوثقى 723: 6.

ص: 635

مسألة 14: لا يجوز لغير ذي الحقّ التقاصّ إلا إذا كان وليّاً أو وكيلًا عن ذي الحقّ، فللأب التقاصّ لولده الصغير أو المجنون أو السفيه في مورد له الولاية، وللحاكم أيضاً ذلك في مورد ولايته. (14)

عدم جواز التقاصّ لغير صاحب الحقّ إلا إذا كان وكيلًا أو وليّاً

(14) لا إشكال في أنّ المستفاد من أدلّة مشروعية التقاصّ إعطاء الحقّ لصاحب الحقّ في المقاصّة من مال الغريم، فلا يجوز التقاصّ لغير صاحب المقاصّة من مال الجاهد أو المماطل من جانب صاحب الحقّ كما أنّ حقّ القصاص ثابت لوليّ الدم لقوله عزّ وجلّ: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً(1)، فلا يجوز لغيره قصاص القاتل، فلو أقدم غير الوليّ لقصاص القاتل وقتله يقاصّ منه؛ فإنّ القاتل بالنسبة إليه محقون الدم ويقاد عن قاتله ففي ما نحن فيه أيضاً لو أقدم الغير للتقاصّ من مال المقتصّ منه كان عمله حراماً، ولا يتحقّق عنوان التقاصّ به.

فما قاله صاحب «المستند»(2) من جوازه للغير بعنوان رفع الظلم بل وجوبه إذا علم مطالبته وجحد المديون ففيه ما لا يخفى.

نعم إذا كان وكيلًا عن صاحب الحقّ أو وليّاً له فجاز منه التقاصّ لأنّه من الامور القابلة للتوكيل، وكذا للولاية فللأب أو الجدّ له جاز التقاصّ عن ولده الصغير أو المجنون أو السفيه في مورد الولاية، وكذا الحاكم فيما له الولاية عليه.


1- الإسراء( 17): 33.
2- مستند الشيعة 460: 17.

ص: 636

مسألة 15: إذا كان للغريم الجاحد أو المماطل عليه دين، جاز احتسابه عوضاً عمّا عليه مقاصّة إذا كان بقدره أو أقلّ، وإلا فبقدره وتبرأ ذمّته بمقداره. (15)

مسألة 16: ليس للفقراء والسادة المقاصّة من مال من عليه الزكاة أو الخمس أو في ماله إلا بإذن الحاكم الشرعي، وللحاكم التقاصّ ممّن عليه أو في ماله نحو ذلك وجحد أو ماطل. وكذا لو كان شي ء وقفاً على الجهات العامّة أو العناوين الكلّية وليس لها متولّ لا يجوز التقاصّ لغير الحاكم، وأمّا الحاكم فلا إشكال في جواز مقاصّته منافع الوقف، وهل يجوز المقاصّة بمقدار عينه إذا كان الغاصب جاهلًا أو مماطلًا؛ لا يمكن أخذها منه وجعل المأخوذ وقفاً على تلك العناوين؟ وجهان، وعلى الجواز لو رجع عن الجحود والمماطلة، فهل ترجع العين وقفاً وتردّ ما جعله وقفاً إلى صاحبه أو بقي ذلك على الوقفية وصار الوقف ملكاً للغاصب؟

(15) لعلّ الماتن (ره) قال بجواز الاحتساب تهاتراً، أي إذا كان على الدائن عند المماطل أو الجاحد ألف درهم ومقدار الدين أيضاً هو ألف درهم يحاسب الدائن الدين بما له عند المديون. وربما يمكن أن يقال لا نحتاج إلى المحاسبة، بل يقع التهاتر قهراً وفي النتيجة سواء قلنا بالاحتساب أو التهاتر تبرء ذمّة المقتصّ منه بمقدار التقاصّ.

ص: 637

الأقوى هو الأوّل، والظاهر أنّ الواقف من منقطع الآخر، فيصحّ إلى زمان الرجوع. (16)

(16) هنا جهات للبحث:

الجهة الاولى: إذا كان الزكوة والخمس بعهدة شخص وهو منكر أو مماطل فهل يجوز للفقراء والسادة أن يأخذوا تقاصّاً أو لا، بل يحتاج التصرّف تقاصّاً إلى إذن الحاكم؟

قال الماتن (ره) بعدم الجواز إلا بإذن الحاكم.

ولكن النراقي قائل بالجواز حيث قال: في المسألة السابعة عشرة من «المستند»: «الحقّ الذي يجوز تقاصّه أعمّ من أن يكون ذو الحقّ معيناً أو أحدالأفراد، فلو أوصي أحد بشي ء لواحد من أولاد زيد، يجوز لأحدهم مقاصّته بعد الجحود أو المماطلة، لصدق كون حقّه عليه، لأنّ ذلك أيضاً نوع حقّ، وعلى هذا، فيجوز للفقير تقاصّ الزكوة والخمس وردّ المظالم عن الغني المماطل»(1).

ولكن يرد عليه أنّ هذا يصير سبباً للهرج والمرج في المجتمع.

الجهة الثانية: لو تعلّق بمال شخص زكوة أو تعلّق به الخمس وجاهد أو ماطل فهل يجوز للحاكم أخذها تقاصّاً؟

قال الماتن (ره) بالجواز للحاكم.


1- مستند الشيعة 462: 17.

ص: 638

وقال النراقي(1) بل على الحاكم الأخذ تقاصّاً لما مرّ من وجوب دفع الظلم عن المظلوم.

الجهة الثالثة: إذا كان شي ء وقفاً على جهات العامّة أو العناوين الكلّية من الخيرات؛ بدون أن يكون لها متولّ وغصبهم الغاصبون ثمّ حصل الفقراء وغيره على أموال للغاصبين، فهل يجوز للفقراء والمستحقّين التصرّف فيه بنفسهم تقاصّاً أو يحتاج إلى إذن الحاكم.

قال الماتن (ره) بعدم الجواز.

وأمّا الحاكم فيجوز له مقاصّة منافع الوقف، فإن أمكن للحاكم أخذ عين الوقف والردّ إلى ما قبل الغصب إلى الوقف فهو. وإلا فإن كان الغاصب جاهداً أو مماطلًا وكان بإمكان الحاكم التقاصّ من منافع العين الموقوفة وصرفها على العناوين فيفعل. وإلا فيأخذ تقاصّاً المال الغاصب الذي بيد الحاكم فيجعله وقفاً في العناوين.

بقي نكتة: وهي أنّه لو رجع الغاصب المقتصّ منه عن الجحود أو المماطلة، فهل يرد المال المقاصّ إلى الغاصب وترجع العين الموقوفة وقفاً كما كان أو لا؟ أو يبقى المقاصّ على الوقفية ويصير الوقف ملكاً للغاصب فيه وجهان:

قال الماتن (ره) الأقوى هو الأوّل، أي ترجع العين الموقوفة إلى الوقف والمقاصّ يصير ملكاً للغاصب كما كان أو لا.

وفي المسألة نكات لا يهمّنا البحث عنه.


1- راجع: مستند الشيعة 462: 17.

ص: 639

مسألة 17: لا تتحقّق المقاصّة بمجرّد النيّة بدون الأخذ والتسلّط على مال الغريم. نعم، يجوز احتساب الدين تقاصّاً كما مرّ، فلو كان مال الغريم في يده أو يد غيره، فنوى الغارم تملّكه تقاصّاً، لا يصير ملكاً له، وكذا لا يجوز بيع ما بيد الغير منه بعنوان التقاصّ من الغريم. (17)

(17) لا بدّ في التقاصّ من الأخذ والتسلّط على مال الغريم ولا تكفي مجرّد النية في التقاصّ.

فلو كان مال من المدين في يد الدائن فنوي الدائن الأخذ تقاصّاً لا يصير المال ملكاً للدائن، بل يلزم الأخذ والتصرّف.

وكذا لو كان المال في يد ثالث لا يجوز بيع من ثالث تقاصّاً، هكذا قال الماتن (ره).

ولكن يمكن أن يناقش في الفقرة الأخيرة بأنّه إذا جاز التصرّف مع نية التقاصّ بالأخذ فلماذا لا يجوز التصرّف مع نية التقاصّ بالبيع؟

ولذا يمكن القول بجواز التصرّف مع نية التقاصّ بأي نوع من التصرّف. ولكن نقول قال الإمام في هذه المسألة- مسألة 17-: «نعم يجوز احتساب الدين تقاصّاً» فإنّ ما كان عليه وعلى ذمّته إذا قصد التقاصّ فهو بمنزلة الأخذ عنده.

وفي هذا المسألة كلام للسيّد وللفاضل النراقي لا يخلو من الفائدة.

قال السيّد (ره)(1): لا تتحقّق المقاصّة بدون الأخذ والتسلّط على مال الغريم فلا


1- العروة الوثقى 723: 6.

ص: 640

مسألة 18: الظاهر أنّ التقاصّ لا يتوقّف على إذن الحاكم، وكذا لو توقّف على بيعه أو إفرازه يجوز كلّ ذلك بلا إذن الحاكم. (18)

يجوز تملّك داره أو عبده أو أمته مع كونها بعد في يده، فلا تتحقّق بمجرّد النيّة.

نعم، لو كان ماله في يد شخص لا يبعد جواز بيعه عليه بعنوان المقاصّة عن حقّه الذي عليه وإن كان لا يخلو عن إشكال، لأنّه لم يصر ملكاً له إلا بعد المقاصّة ولا بيع إلا في ملك.

قال في «المستند» مسألة 21: «الظاهر عدم حصول التقاصّ بدون التصرّف؛ للأصل، وعدم شمول العمومات، فلا يجوز قبول أمة الغريم التي في بيته أو عبده مقاصّة، وعتقه من كفّارة، ولا قبول داره التي يسكن فيها الغريم، أو ضيعته التي في تصرّفه، ووقفها أو بيعها للغير، من غير أن يتصرّف الغير فيها»(1).

(18) والدليل على ذلك إطلاق الروايات الدالّة على جواز التقاصّ:

1- رواية جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبدالله (ع)، عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الّذي جحده أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: «نعم»(2).

حيث إنّ ترك الاستفصال دليل العموم من جهة إذن الحاكم وإمكانه أو عدمه.

2- صحيحة داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن موسى (ع): إنّي اخالط


1- مستند الشيعة 463: 17.
2- وسائل الشيعة 275: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 10.

ص: 641

السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، والدابّة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك ولا تزد عليه»(1).

والظاهر منه أنّ المال الذي وقع عنده غير الجارية أو الدابّة والغالب لا بدّ أن يبيعه وأخذ قيمة، فإجازة الإمام بقوله: «خذ مثل ذلك ولا تزد عليه» يشمله، فلا حاجة إلى الحاكم.

3- وكذا رواية على بن سليمان قال: كتبت إليه: رجل غصب مالًا أو جارية ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل خيانة أو غصب، أيحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب: «نعم، يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلّم الباقي إليه إن شاء الله»(2).

فتدلّ على جواز الإفراز من غير حاجة إلى الحاكم.

وقال السيّد (ره) في مسألة 1 من فروع المقاصّة: «إذا كان الحقّ المطلوب عيناً، فإن كان يمكن أخذه بلا مشقّة ولا ارتكاب محذور، فلا يجوز المقاصّة من ماله الآخر وإن لم يمكن أخذه أصلًا جاز له المقاصّة من ماله الآخر إن كان من جنس ماله، وإن لم يكن من جنسه جاز أن يأخذ بمقدار قيمة ماله ولايجوز أن يبيعه ويأخذ ثمنه عوض ماله ويجوز أن يشتري به من جنس ماله ولايأخذه ولا حاجة إلى الاستئذان من الحاكم الشرعي لإطلاق الأخبار»(3).

قد يقال: ليس في الأخبار إطلاق يعول عليه في المقام، غاية الأمر أنّ عدم


1- وسائل الشيعة 272: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 275: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 9.
3- العروة الوثقى 716: 6.

ص: 642

مسألة 19: لو تبيّن بعد المقاصّة خطاؤه في دعواه، يجب عليه ردّ ما أخذه أو ردّ عوضه مثلًا أو قيمة لو تلف، وعليه غرامة ما أضرّه؛ من غير فرق بين الخطأ في الحكم أو الموضوع. ولو تبيّن أنّ ما أخذه كان ملكاً لغير الغريم، يجب ردّه أو ردّ عوضه لو تلف. (19)

جواز البيع أو الإفراز يوجب الضرر عليه، فيرجع إلى أدلّة ولاية الحاكم المقتضية لأخذ الإذن فيه في مثل هذه التصرّفات وفيه وجود الإطلاق وترك الاستفصال.

بيان في الخطاء في الموضوع أو الحكم

(19) لو زعم أنّ له على فلان حقّ مالي وهو جاهد أو مماطل، وكان عند الدائن من الجاهد أو المماطل مال فأخذ المال تقاصّاً، ثمّ ظهر له أحد الأمرين:

الأمر الأوّل: بعد مدّة علم بخطائه في المحاسبة وفهم أنّ الذي كان مديناً قد أدّي دينه وما كان التقاصّ صحيحاً ولم يتحقّق الملكية بالنسبة إلى المقاصّ، إذن لو كان المال المقاصّ موجوداً فعليه ردّ المال إلى صاحبه وإلا فليؤدّي المثل أو القيمة، وكذا عليه جبران الخسارة- لو كانت- سواء كان الخطاء في الحكم أو في الموضوع. والخطاء في الموضوع، مثل أن يزعم أنّ له على فلان ألف تومان ثمّ كشف الخلاف. والخطاء في الحكم، مثل أن تزعم المرأة أنّها ترث من الأعيان وزعمت أنّ الوارث لم يعطوا حقّه وأخذ ما عندها تقاصّاً ثمّ كشف الخلاف وعلمت بعدم إرث المرأة من الأعيان.

ص: 643

مسألة 20: يجوز المقاصّة من العين أو المنفعة أو الحقّ في مقابل حقّه من أيّ نوع كان، فلو كان المطلوب عيناً، يجوز التقاصّ من المنفعة إذا عثر عليها أو الحقّ كذلك وبالعكس. (20)

الأمر الثاني: لو زعم أنّه له على فلان ألف دينار مثلًا وهو جاحد أو مماطل وكان عنده من فلان ألف دينار فأخذها تقاصّاً، ثمّ كشف الخلاف وعلم أنّ الألف دينار التي كانت عنده لم تكن لفلان، بل كان فلان أميناً عليها فبالنتيجة لم يتحقّق التقاص فحينئذٍ عليه ردّ العين أو المثل أو القيمة وعليه جبران الخسارة أيضاً.

(20) لو كان لشخص على غيره حقّ كحقّ التحجير أو حقّ الطريق وغيرهما، ويكون الغير جاحداً أو مماطلًا يجوز التقاصّ من حقّه، سواء كان من العين أو من الدين أو المنفعة. ولا فرق فيما يأخذه تقاصّاً أن يكون عيناً أو ديناً أو المنفعة.

لكن هناك إشكال طرحها بعض الأفاضل(1) وقال: إنّ الأصل في التقاصّ عدم الجواز فلا بدّ في موارد الجواز الاكتفاء على قدر المتيقّن، أي لا يصحّ أن يقتصّ جنساً- عيناً كان أو ديناً- أو منفعةً مقابل الحقّ؛ يعني إذا كان له على الغير حقّ يجوز له التقاصّ فقط من الحقّ الذي عنده وإن كان له على الغير عيناً، فيجوز له التقاصّ من العين الذي تحت يده وإن كان له على الغير المنفعة، فيجوز التقاصّ من المنفعة. وذلك لأنّ عمدة دليل التقاصّ رواية أبي بكر الحضرمي(2) في


1- هو صاحب مباني القضاء في كتابه: 328.
2- راجع: وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 5.

ص: 644

مسألة 21: إنّما يجوز التقاصّ إذا لم يرفعه إلى الحاكم فحلّفه، وإلا فلا يجوز بعد الحلف، ولو اقتصّ منه بعده لم يملكه. (21)

الدراهم أو رواية داود بن رزين حيث قال: «خذ مثل ذلك»(1) أو آية الشريفة وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ(2) الدالات على التقاصّ من المثل، ولا تكون دليلًا على الانتقال من العين إلى المنفعة أو الحقّ وغيره وبالعكس.

ويرد على الإشكال المطروحة بأنّ المراد من المثلية في الآية الشريفة هي المثلية في المقدار المالية مثلًا عند ما يقول (ع): «خذ مثل ذلك ولا تزد عليه»؛ أي لا تزد في الأخذ على المقدار الذي لك عليه؛ يعني لا تأخذ الزائد من حقّك. إذن لا بأس أن نأخذ المنفعة مثلًا في التقاصّ عن العين أو الحقّ أو غير ذلك. ولذا قال النراقي (ره) في «المستند» في المسألة الثالثة: «مقتضى عموم الأخبار خصوصاً صحيحة داود و على بن سليمان جواز المقاصّة من غير الجنس»(3).

(21) لو ترافعا إلى الحاكم ولم يكن للمدّعي الدائن بيّنة وحلف المدّعى عليه وحكم الحاكم بعدم ثبوت الحقّ وفصل الخصومة ظاهراً، ثمّ بعد مدّة وقع مال من المديون بيد الدائن، فلا يجوز للدائن أخذه تقاصّاً وإن أخذه تقاصّاً لا يملك ولو كان دائناً إلى الآن واقعاً والحالف مديون واقعاً.


1- راجع: وسائل الشيعة 272: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 1.
2- النحل( 16): 126.
3- مستند الشيعة 453: 17.

ص: 645

دليل المسألة:

1- لا يجوز طرح الدعوى مجدّداً بعد حكم الحاكم وفصل الخصومة ولو طرحت لم تكن مؤثّراً في الظاهر.

2- عن أبي عبدالله قال: «قال رسول الله (ص) إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1).

كلمة «ألحن» يعني أفطن، أي الذي بإمكانه أن يطرح خلاف الواقع كواقع مورد للقبول، فإذا حكم الحاكم بلحاظ ألحنية أحدهما في الدعوى لا يتغير شي ء في الواقع ولكن بعد الحلف وحكم الحاكم لا يمكن التقاصّ.

وذلك لدلالة الروايات التي تدلّ على آثار لليمين؛ اللاتي نقلنا بعضها آنفاً وننقل الآن بعضها الآخر.

3- حديث خضر النخعي عن أبي عبدالله (ع) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه، فهو على حقّه»(2).

4- حديث ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له»، قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: «نعم وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت


1- وسائل الشيعة 232: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 246: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 1.

ص: 646

كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه»(1).

فقوله (ع): «فليس له أن يأخذ شيئاً» أو «فلا دعوى له» يريد إبطال ظاهر الدعوى، ولا يؤثّر في الواقع، وشرحناه في المسألة الثالثة في القول في الجواب بالإنكار.

ولكن هناك رواية واحدة تدلّ على جواز التقاصّ بعد الحلف وفصل الخصومة. وهي رواية أبي بكر الحضرمي حيث قال: قلت له رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال: «نعم ولكن لهذا كلام»، قلت: وما هو؟ قال: «تقول: اللّهم إنّي لا آخذه ظلماً ولا خيانة وإنّما أخذته مكان مالي الّذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً»(2).

في توجيه الرواية نقول: قال السيّد (ره): «إنّما يجوز التقاصّ من ماله إذا لم يحلفه الحاكم الشرعي وإلا فلا يجوز كما مرّ سابقاً، وما في خبر الحضرمي من الجواز إذا حلف بعد جحوده فمنزّل على الحلف من عنده أو باستحلاف المدّعي من دون تحليف الحاكم الشرعي»(3).

فبالنتيجة لو لم يكن الحلف من أمر من الحاكم لم يكن مؤثّراً في عدم جواز التقاصّ، وأمّا رواية عبدالله بن وضّاح(4) فهي ضعيفة سنداً مضافاً إلى أنّ الحلف كان عند الوالي لا عند حاكم الشرعي.


1- وسائل الشيعة 245: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 273: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 4.
3- العروة الوثقى 725: 6.
4- راجع: وسائل الشيعة 246: 27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 2.

ص: 647

مسألة 22: يستحبّ أن يقول عند التقاصّ: «اللّهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي، وإنّي لم آخذ الذي أخذته خيانةً ولا ظلماً». وقيل: يجب، وهو أحوط. (22)

مسألة 23: لو غصب عيناً مشتركاً بين شريكين، فلكلّ منهما التقاصّ منه بمقدار حصّته. وكذا إذا كان دين مشتركاً بينهما؛ من غير فرق بين التقاصّ بجنسه أو بغير جنسه، فإذا كان عليه ألفان من زيد، فمات وورثه ابنان، فإن جحد حقّ أحدهما دون الآخر، فلا إشكال في أنّ له التقاصّ بمقدار حقّه، وإن جحد حقّهما فالظاهر أنّه كذلك،

حكم الدعاء عند التقاصّ

(22) جاء في رواية أبي بكر الحضرمي كلمات من الدعاء عند التقاصّ وإليك الآن متن الرواية.

عن أبي عبدالله قال: قلت له: رجل كان له على رجل مال فجحده إيّاه وذهب به ثمّ صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله، أيأخذه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرجل؟ قال: «نعم، ولكن لهذا كلام يقول: اللّهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي ...»(1) على ما نقله الماتن (ره).

هناك قولان:

القول الأوّل: الوجوب، ظاهر هذه الرواية وجوب الدعاء كما قال به


1- وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 5.

ص: 648

الماتن (ره) والمحقّق(1) في «النافع». وفخر المحقّقين في «الإيضاح» وجمع من الفقهاء.

دليل المسألة:

أوّلًا: رواية أبي بكر الحضرمي(2) التي نقلناه آنفاً.

ثانياً: رواية جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبدالله (ع)، عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الّذي جحده أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: «نعم»(3).

ثالثاً: رواية داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن موسى (ع): إنّي اخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، والدابّة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك ولا تزد عليه»(4).

رابعاً: الأصل عدم تحقّق المقاصّة بدون ذكر الدعاء.

القول الثاني: الاستحباب، وهو قول المشهور، فحملوا الروايات على الاستحباب، أمّا رواية أبي بكر الحضرمي فصيغ الدعاء فيها مختلفة، وهذا دليل على عدم الوجوب وكمثال نقول جاء في الوسائل «تقول اللّهمّ إنّي لا آخذه- وفي بعض النسخ لم آخذه- وفي بعض آخر- لن آخذه- ظلماً ولا خيانة وإنّما أخذته مكان مالي الّذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً»(5).


1- المختصر النافع 281: 2.
2- راجع: وسائل الشيعة 274: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة 275: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 10.
4- وسائل الشيعة 272: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 1.
5- وسائل الشيعة 273: 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 4.

ص: 649

ويرد على المشهور:

أوّلًا: إنّه لم يكن اختلاف صيغ الدعاء في روايتين؛ حتّى لا يمكن الاستدلال بالوجوب، بل اختلاف الصيغ وقع في رواية واحدة إذن يمكن الاستدلال.

ثانياً: إنّ الإطلاقات آب عن التخصيص، فلا يحمل المطلق على المقيد.

ثالثاً: بقي عمدة الإشكال على القول الأوّل- القول بالوجوب- وهي عمل المشهور طبق المطلقات، حيث حملوا الإطلاقات على الاستحباب مضافاً إلى أنّه كما قال السيّد (ره) القصد إلى أنّه لا يريد الخيانة والظلم وليس المقصود، الألفاظ الخاصّة للدعاء، فالأقوى القول بالاستحباب كما ذهب إليه صاحب «الجواهر» (ره) وقال: «لا ريب في استحباب القول المزبور وإن طلب بعض الناس بدعوى الوجوب الذي يمكن تحصيل الإجماع على خلافها»(1).

ويؤيد القول بالاستحباب أيضاً أنّه لو كانت ألفاظ الدعاء مرادة فغير العرب بما أنّه لا يعرف مفهوم الدعاء العربي لا يؤثّر تلفّظه بالدعاء في تحقّق القصاص، لأنّه لا يفهم شيئاً حتّى يقصده.

ثمّ إنّ القائل بوجوب الدعاء هل يدّعي الوجوب الشرطي حتّى يكون دخيلًا في صحّة المقاصّة وهذا في غاية البعد؛ أم يدّعي الوجوب النفسي عند إرادة المقاصّة، وهذا لا يؤثّر شيئاً؟ وعلى كلّ حال مقتضى الاحتياط استحباب الدعاء كما قال به الماتن (ره).


1- جواهر الكلام 390: 40.

ص: 650

فلكلّ منهما التقاصّ بمقدار حقّه، ومع الأخذ لا يكون الآخر شريكاً، بل لا يجوز لكلّ المقاصّة لحقّ شريكه. (23)

حكم مقاصّة الشريكين في العين أو الدين

(23) تعرّض الإمام إلى نكتتين:

النكتة الاولى: لو كانا مشتركاً في عين على شخص وهو جاهد أو مماطل، وعثر على مال من المديون فيجوز لهما التقاصّ كلّ بقدر سهمه.

النكتة الثانية: لو كانا شريكين في دين لهما على شخص وكمثال نقول باعاً دراهما لفلان وهو جحد في الثمن أو يماطل وهما عثرا على مال له، فيجوز لكلّ منهما الأخذ بقدر سهمهما، أو كما مثل الإمام (ره) نقول كان لفلان على شخص ألفان، ثمّ مات فلان وله وارثان ورثا كلّ منهما ألف درهم مثلًا وجهد أو ماطل المديون دين كلاهما، أو أحدهما ثمّ عثرا على مال للمديون، فيجوز لهما الأخذ تقاصّاً ولا يجوز منهما الأخذ بأزيد من سهم كلّ واحد إلا إذا كان وكيلًا أو ولياً.

هذا حاصل ما قال به الماتن (ره).

ولكن السيّد (ره) جعل المسألة على ثلاثة أقسام:

1- لو كان الحقّ عيناً وأخذ كلّ واحد سهمه فهو يملكه، ولا يأتي الشركة فيما يأخذه لأنّ أخذه بمنزلة بيع حقّه بما يأخذه من مال المديون فيختصّ به.

2- لو كان الطلب ديناً وأخذه تقاصّاً بغير الجنس، وكمثال نقول كان يطلب الحنطة وأخذ الشعير تقاصّاً فهنا أيضاً يملك ما أخذ تقاصّاً؛ لأنّ أخذه بمنزلة البيع أي أنّه باع دينه بما أخذه تقاصّاً.

ص: 651

3- لو كان الطلب ديناً واخذه تقاصّاً بالجنس مثلًا؛ كان يطلب الحنطة فأخذ تقاصّاً الحنطة، فهذا من باب وفاء الدين فكلّما أخذ يكون مشتركاً بينهما.

ثمّ احتمل السيّد أن يكون المأخوذ في الصورة الثانية أيضاً من باب وفاء الدين بغير جنس ويكون ما أخذ مشتركاً بينهما.

ثمّ قال: لم أر من تعرّض للمسألة(1).

تنبيه: تعرّض السيّد هنا فرعاً لم يتعرّضه الإمام (ره) نذكره للبحث فيه باختصار. قال السيّد (ره): «مسألة 12: إذا عثر على مال مشترك بين الغريم وغيره، فإن أذن له الشريك في التقاصّ بالأخذ بمقدار حقّه منه جاز وإلا فلا»(2).

ووجهه أنّ كلّ جزء من مال المشترك هو جزء مشاع فإذا أخذ الشريكين منه ولو تقاصّاً، يكون لهما مشتركاً إلا إذا أجاز شريكه في أخذه سهمه.

وقال النراقي (ره) أيضاً: «المسألة السابعة: يجوز التقاصّ من مال الغريم المشترك بينه وبين غيره، وعليه أداء مال الغير وإيصاله إليه.

والدليل عليه: 1- للعمومات، 2- وأدلّة نفي الضرر، 3- ولأنّ حرمة مال الشريك ليس بأزيد من حرمة الزائد على الحقّ من مال الغريم»(3).

وفيه: أوّلًا: أنّ العمومات غيرشاملة للتصرّف في مال الغير لأجل التقاصّ.

ثانياً: ودليل نفي الضرر لا يجوّز التصرّف في مال الغير لأجل دفع الضرر عن نفسه.


1- العروة الوثقى 727: 6.
2- العروة الوثقى 721: 6.
3- مستند الشيعة 460: 17.

ص: 652

مسألة 24: لا فرق في جواز التقاصّ بين أقسام الحقوق المالية، فلو كان عنده وثيقة لدينه فغصبها، جاز له أخذ عين له وثيقة لدينه وبيعها لأخذ حقّه في مورده. وكذا لا فرق بين الديون الحاصلة من الاقتراض أو الضمانات أو الديات، فيجوز المقاصّة في كلّها. (24)

ثالثاً: جواز الأخذ من مال المقتصّ منه، مستند إلى الروايات فلا يقاصّ بمال المشترك.

(24) كما قلنا سابقاً أنّه يجوز الأخذ من مال المديون تقاصّاً لو أنكر حقّ الدائن أو ماطل في أداء حقّه، كذلك نقول الآن: لا فرق بين الحقوق المالية من حقّ التحجير وغيره في جواز الأخذ تقاصّاً.

والدليل عليه إطلاق الأدلّة وعدم الفرق بين الحقوق، فمنها: حقّ الرهن، أي إذا غصب حقّ رهنه يجوز التقاصّ من مال الغاصب بمقدار حقّ الرهن والاستيفاء من مال الغاصب بمقدار حقّ رهنه.

ثمّ قال الإمام (ره): وكذا لا فرق بين الديون بأن يكون اقتراضاً أو إتلاف مال، وكذا لا فرق بأن يكون مثلياً أو قيمياً، فيجوز المقاصّة في كلّها وقال النراقي (ره) يجوز التقاصّ ممّا أعطاه لغيره رشوة محرّمة أو رباً إذا كان مضطرّاً في الإعطاء، بل غير مضطرّ أيضاً إذا علم الآخذ كونه رشوة أو رباً.

والوجه فيه أن آخذ الرشوة أو الربا لم يملك المال، فيجوز للمعطي أن يأخذه تقاصّاً، وكذا لو كان محكوماً بدية الطرف أو النفس ويكون جاهداً أو مماطلًا وعثر المجني عليه على مال للجاني يجوز أخذها تقاصّاً، ولا يحتاج إلى إذن

ص: 653

الحاكم على مختار بعض الفقهاء من السيّد (ره)(1) وصاحب «الجواهر» وغيره.

ولكن كما ذكر آنفاً قال المشهور بالتوقّف على إذن الحاكم.

وفي الدليل عليه قال النراقي لعظم خطره والاحتياط في إثباته ولأنّ استيفائه وظيفة الحاكم. مضافاً إلى أنّه لو أخذوا رأساً لانجرّ إلى الهرج والمرج في المجتمع، وربما يسبب فساداً في الأرض ويراق الدماء الكثيرة. ولذا نقول: الحقّ هو قول المشهور، والآية الشريفة وقاعدة «الناس» في مقام أصل جعل الولاية لولي الدم ولا يكونان في بيان الكيفية، فبالنتيجة لو بادر شخص إلى التقاصّ بلا إذن من الحاكم يعزّر.


1- العروة الوثقى 729: 6.

ص: 654

ص: 655

فهرس المصادر

1. الاحتجاج، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، تعليقات وملاحظات السيّد محمد باقر الخرسان، دارالنعمان نجف، 1386.

2. إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، حسن بن يوسف بن مطهّر أسدي، علامه حلّي، جماعة المدرّسين، قم، 1410.

3. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

4. إصباح الشيعة بمصباح الشريعة، محمّد بن حسين قطب الدين كيدري، مؤسّسة الإمام الصادق (ع)، قم، 1416.

5. الانتصار، الشريف المرتضى علم الهدى، جماعة المدرّسين، قم، 1415.

6. الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، حسين بن محمّد بحراني آل عصفور، مجمع البحوث العلمية، قم، 1216.

7. إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد، محمّد بن حسن بن يوسف حلّي فخر المحقّقين، إسماعيليان، قم، 1387.

ص: 656

8. بحار الانوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشيخ محمد باقر المجلسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403.

9. التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، مكتب الأعلام الإسلامي، قم، 1209.

10. تحرير الأحكام الشرعية، العلامة الحلّي، مؤسسة الإمام الصادق (ع)، قم، 1420.

11. تحرير الوسيلة، الإمام الخميني، إسماعيليان، النجف، 1390.

12. تحرير الوسيله، الإمام الخميني، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، 1421.

13. تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحرّاني، جماعة المدرسين، قم، 1404.

14. التفسير الصافي، الفيض الكاشاني، الصدر، طهران، 1416.

15. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دارالفكر، بيروت، 1412.

16. تفصيل الشريعة (القضاء والشهادات)، مركز فقه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، قم.

17. التنقيح الرائع، جمال الدين المقداد بن عبدالله السيوري الحلّي، مكتبة آية الله المرعشي، قم، 1404.

18. تنقيح المقال، الشيخ عبدالله بن محمّد حسن المامقاني، المطبعة المرتضوية، قم، 1352.

19. تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1364 ش.

ص: 657

20. جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، دارالنعمان، نجف.

21. جواهر الكلام، محمد حسن النجفي، دارالكتب الإسلامية، طهران، 1365 ش.

22. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، الشيخ محمّد عرفه الدسوقي، دار إحياء الكتب العربية.

23. الحاوي الكبير، أبوالحسن الماوردي، دار الفكر، بيروت.

24. حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، أبو بكر محمّد بن أحمد الشاشي القفال، دار الأرقم، بيروت، 1980 م.

25. الخصال، الشيخ الصدوق، جماعة المدرّسين، قم، 1403.

26. الخلاف، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، جماعة المدرّسين، قم، 1407.

27. الدروس الشرعية، الشهيد الأوّل، جماعة المدرّسين، قم.

28. دعائم الإسلام في ذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، القاضي النعمان المغربي، دارالمعارف، قاهرة، 1383.

29. رجال ابن الغضائري، أحمد أبي عبدالله ابن غضائري، قم.

30. رجال البرقي، الطبقات، أبو جعفر البرقي، انتشارات دانشگاه تهران، طهران، 1383.

31. رجال الشيخ الطوسي، الأبواب، محمّد بن الحسن الطوسي، جماعة المدرسين، قم، 1427.

32. رجال العلامة الحلّي، خلاصة الأقوال في معرفة أحوال الرجال، حسن بن

ص: 658

33. يوسف بن مطهّر أسدي، العلامة الحلّي، المطبعة الحيدرية، نجف اشرف، 1381.

34. رجال الكشّي (مع تعليقات الميرداماد)، عبدالعزيز كشّي، قم.

35. رجال النجاشي، أحمد بن على النجاشي، جماعة المدرّسين، قم، 1407.

36. روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه، محمّد تقي أصفهاني، مجلسي أوّل، كوشانبور، قم، 1406.

37. رياض المسائل، السيّد علي الطباطبائي، جماعة المدرسين، قم، 1412.

38. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، ابن إدريس حلّي، جماعة المدرّسين، قم، 1410.

39. سلسلة الينابيع الفقهية، على أصغر مرواريد، الدار الإسلامية، بيروت، 1410.

40. سنن ابن ماجة، محمّد بن يزيد القزويني، دار الفكر.

41. سنن أبي داود، ابن الأشعث السجستاني، دار الفكر، 1410.

42. سنن الترمذي، ابن سورة الترمذي، دارالفكر، بيروت، 1403.

43. سنن الدار قطني، علي بن عمر الدار قطني، دارالكتب العلمية، بيروت، 1417.

44. السنن الكبرى، البيهقي، دار الفكر.

45. السنن الكبرى، النسائي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411.

46. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقّق الحلّي، استقلال، طهران، 1409.

47. الشرح الكبير، عبدالرحمن بن قدامة، دار الكتاب العربي، بيروت.

ص: 659

48. شرح اللمعة، الشهيد الثاني، جامعة النجف الدينية، افست مطعبة أمير، قم، 1410.

49. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية، 1378.

50. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حمّاد الجوهري، دار العلم، بيروت، 1407.

51. صحيح البخاري، ابن بردزبة البخاري الجعفي، دار الفكر، افست العامرة، استانبول، 1401.

52. صحيح مسلم، مسلم النيشابوري، دار الفكر، بيروت.

53. العروة الوثقى، السيّد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، جماعة المدرّسين، قم، 1417.

54. عمدة القاري، العيني، دار احياء التراث العربي، بيروت.

55. عوائد الأيّام، المحقّق الأحمد النراقي، مكتب الأعلام الإسلامي، قم، 1417.

56. عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الإحسائي، سيّدالشهداء، قم، 1403.

57. غنائم الأيّام (رسالة القضاء)، ميرزاي قمّي.

58. غنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع، مؤسّسة الإمام الصادق (ع)، قم، 1417.

59. الغيبة، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، المعارف الإسلامية، قم، 1411.

60. فتح الباري شرح صحيح البخاري، شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت.

61. فرائد الاصول، الشيخ الأنصاري، جماعة المدرّسين، قم.

ص: 660

62. الفهرست، محمّد بن الحسن الطوسي، المكتبة الرضوية، نجف أشرف.

63. القاموس المحيط، الفيروزآبادي، دار الجيل، بيروت.

64. قرب الإسناد، أبو العبّاس عبدالله بن جعفر الحميري القمّي، آل البيت، قم، 1413.

65. القضاء والشهادات، الشيخ الأنصاري، تراث الشيخ الأعظم، قم، 1415.

66. قواعد الأحكام، حسن بن يوسف بن مطهّر أسدي، علامه حلّي، جماعة المدرّسين، قم، 1413.

67. القواعد الفقهية، السيّد محمّد حسن البجنوردي، الهادي، قم، 1419.

68. الكافي في الفقه، أبو الصلاح الحلبي، مكتبة الإمام أميرالمؤمنين علي (ع) العامّة، أصفهان.

69. كتاب القضاء للآغاضياء، علي كزازي عراقي، مهر، قم.

70. كتاب المكاسب المحرّمة والبيع والخيارات، الشيخ الأنصاري، الحديثة (تراث الشيخ الأعظم)، قم، 1415.

71. الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، دار الكتاب العربي، 1407.

72. كشف الرموز في شرح المختصر النافع، الفاضل الآبي، جماعة المدرّسين، قم، 1408.

73. كشف اللثام عن قواعد الأحكام، الفاضل الهندي، جماعة المدرّسين، قم، 1416.

74. كفاية الأحكام، محمّد باقر السبزواري، جماعة المدرّسين، قم، 1423.

ص: 661

75. كفاية الاصول، آخوند خراساني، آل البيت، قم، 1409.

76. كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، جماعة المدرّسين، قم، 1405.

77. كنز العمّال، الفاضل الهندي، الرسالة، بيروت، 1409.

78. الكافي، الشيخ الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1363 ش.

79. كتاب القضاء، الحاج ميرزا محمّد حسن الآشتياني، دار الهجرة، قم، 1404.

80. كتاب القضاء، السيّد محمّد رضا الموسوي الگلپايگاني، دار القرآن الكريم.

81. كتاب القضاء، السيّد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني، مطبعة الخيام، قم، 1401.

82. لسان العرب، ابن منظور، دار الفكر ودار صادر، بيروت، 1414.

83. اللمعة الدمشقية، الشهيد الأوّل، دار الفكر، قم، 1411.

84. مباني تكملة المنهاج، السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئي، العلمية، قم، 1396.

85. المبسوط في فقه الإمامية، أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، المرتضوية، طهران، 1387.

86. مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، الثقافة الإسلامية، 1408.

87. مجمع البيان في تفسير القرآن، فضل بن حسن طبرسي، ناصر خسرو، طهران، 1372 ش.

88. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، أبي بكر الهيثمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408.

89. مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، أحمد الأردبيلي، جماعة المدرّسين، قم.

ص: 662

90. المختصر النافع في فقه الإمامية، المطبوعات الدينية، قم، 1418.

91. مختلف الشيعة، حسن بن يوسف بن مطهّر أسدي، علامه حلّي، جماعة المدرّسين، قم، 1413.

92. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، محمّد باقر بن محمّد تقي أصفهاني، مجلسي دوم، دار الكتب الإسلامية، تهران، 1404.

93. المراسم العلوية في الأحكام النبوية، سلار ابن عبدالعزيز، المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)، قم، 1414.

94. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، الشهيد الثاني، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، 1413.

95. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي، آل البيت، بيروت، 1408.

96. مستند الشيعة في أحكام الشريعة، محمد مهدي النراقي، آل البيت، قم، 1415.

97. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بيروت.

98. مصباح الفقاهة، السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي، الداوري، قم.

99. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمّد مقري فيومي، منشورات دار الرضي، قم.

100. المعجم الوسيط، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الرابعة، 1372 ش.

101. معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي، 1413.

ص: 663

102. مغني المحتاج إلى معرفة المعاني ألفاظ المنهاج، محمّد بن أحمد الشربيني، دارالإحياء التراث العربي، بيروت، 1377.

103. المغني، عبدالله بن قدامة، دارالكتاب العربي، بيروت.

104. مفاتيح الشرائع، فيض كاشاني، المكتبة آية الله مرعشي نجفي (ره)، قم.

105. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، سيّد جواد بن محمّد حسيني عاملي، دار إحياء التراث العربي (القديمة)، بيروت.

106. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دارالعلم الدار الشامية، لبنان، 1412.

107. المقنع، الشيخ الصدوق، مؤسسة الإمام الهادي (ع)، 1415.

108. المقنعة، الشيخ المفيد، جماعة المدرّسين، قم، 1410.

109. مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، منشورات الشريف الرضي، 1392.

110. ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، محمّد باقر بن محمّد تقي أصفهاني، مجلسي دوم، كتابخانه آية الله مرعشي نجفي (ره)، قم، 1406.

111. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، جماعة المدرّسين، قم.

112. المنجد، اسماعيليان، الطبعة الرابعة، 1366 ش.

113. المهذّب البارع في شرح المختصر النافع، أحمد بن محمّد بن فهد حلّي، جماعة المدرّسين، قم، 1407.

114. المهذّب، القاضي ابن البرّاج الطرابلسي، جماعة المدرّسين، قم، 1406.

115. الميزان في تفسير القرآن، سيّد محمّد حسين طباطبائي، جماعة المدرّسين، قم، 1417.

ص: 664

116. نظام القضاء والشهادة في الشريعة الإسلامية الغرّاء، مؤسّسة الإمام الصادق (ع)، قم، 1418.

117. نهاية المرام، السيّد محمّد العاملي، جماعة المدرّسين، قم، 1419.

118. النهاية في غريب الحديث، ابن اثير، إسماعيليان، قم، 1364 ش.

119. النهاية، الشيخ الطوسي، قدس محمّدي، قم.

120. الوافي، الفيض الكاشاني، مكتبة الأمير المؤمنين (ع)، أصفهان، 1406.

121. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، آل البيت، قم، 1404.

122. الوسيلة إلى نيل الفضيلة، ابن حمزة الطوسي، مكتبة آية الله المرعشي النجفي (ره)، قم، 1408.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.