معتمد تحريرالوسيله للامام الخميني قدس سره: المسائل المستحدثه

اشارة

سرشناسه : ظهيري، عباس، 1339 - ، شارح

عنوان قراردادي : تحرير الوسيله .شرح

عنوان و نام پديدآور : معتمد تحريرالوسيله للامام الخميني قدس سره: المسائل المستحدثه/ تاليف عباس الظهيري.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني(س)، 1386-

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-335-567-5 ؛ 16000ريال: ج.1:964-335-568-3 ؛ 55000 ريال : ج.2:978-964-212-010-9 ؛ 48000ريال (ج.٬1چاپ دوم)

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : چاپ دوم.

يادداشت : ج.1(چاپ اول:1381)(فيپا).

يادداشت : ج.2 (چاپ اول: 1387) (فيپا).

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368 . تحرير الوسيله -- نقد و تفسير

موضوع : مسائل مستحدثه

موضوع : فقه جعفري -- رساله عمليه

شناسه افزوده : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368 . تحرير الوسيله.شرح

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س)

رده بندي كنگره : BP183/9/خ8ت30236 1381

رده بندي ديويي : 297/3422

شماره كتابشناسي ملي : م 81-46374

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

ص: 7

مقدّمة المؤلّف

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه المؤمّن لمن استأمنه، الواهب لمن استوهبه، الكافل لمن استكفله، المرشد إلى الصلاح، الناهي عن الفساد، وصلّى اللَّه على أشرف الأنبياء سيّدنا محمّد وآله الطاهرين المعصومين، عليهم آلاف التحية والثناء، واللعنة الأبدية على أعدائهم إلى يوم لقاء اللَّه.

أ مّا بعد: فإنّ اتّساع دائرة العلوم المادية في المجتمع العالمي وتغيّر أثواب الحياة البشري على ذلك الأساس لاسيّما في المجال الاقتصادي والطبّي والثقافي، ما زال يأتي في كلّ برهة من العمل الراهن بفروع جديدة ومسائل مستجدّة فقهية تطلب بملاحظة إبتلاء المجتمع الديني بها من الفقيه استنباط حكمها على ضوء الأدلّة الفقهية، وحيث إنّ هذه المسائل المستحدثة لم تكن معهودة في عصر التشريع بل ولا مثيل لأكثرها في عصر بدوّ الاجتهاد بشكله الرائج، فبالطبع يبدو الاستنباط فيها والبحث عنها على وفق الأدلّة والقواعد، أصعب من جلّ المسائل الفقهية المعهودة من أوّل باب الطهارة إلى آخر الديات التي بحث عنها الفقهاء العظام- أعلى اللَّه مقامهم- طول القرون منذ بدوّ الاجتهاد في عصر التشريع بشكله البسيط وفي عصر الغيبة بشكله المبسوط شكر اللَّه مساعيهم الجميلة وجهودهم المباركة الثمينة.

ص: 8

وممّن بادر بالبحث عن المسائل المستحدثة منذ ظهورها في المجتمع الديني واستخراج حكمها على ضوء الاجتهاد المألوف من المنابع الفقهية هو الإمام الراحل الفقيه الخميني الكبير أعلى اللَّه مقامه الشريف، والظاهر أنّه أوّل من عقد في كتابه الفتوائي (تحرير الوسيلة) باباً بعنوان المسائل المستحدثة وأدرج فيه هذه العناوين:

التأمين، الكمبيالات «سفته»، السرقفلية، أعمال البنوك، بطاقات اليانصيب «بخت آزمائى»، التلقيح والتوليد الصناعيّان، التشريح والترقيع، تغيير الجنسية، الراديو والتلفزيون ونحوهما، الصلاة والصوم في الطائرات، وطائفة من المسائل المتعلّقة بالحياة في السيّارات والكرات، فللّه درّه وعليه برّه.

وللَّه الحمد كلّه على ما وفّقني لإنجاز شرح قسم منها- التأمين والكمبيالة والسرقفلي- والبحث عنه في ضوء الأدلّة والقواعد على النهج المألوف، وقد بحثنا بالمناسبة في مطاويها عن بعض المسائل الهامّة كملكية الشخصيات الحقوقية من الدولة والبنوك والشركات ونحوها والحيل الشرعية للتخلّص من الربا وغيرها.

وأسأله أن يوفّقني لتتميم البحث عن بقية الأبواب، إنّه خير ناصر ومعين.

المفتقر إلى اللَّه سبحانه

عباس الظهيري

ربيع الأوّل 1423

ص: 9

التأمين

اشارة

ص: 10

ص: 11

البحث: حول المسائل المستحدثة

اشارة

منها: التأمين (1)

1- قبل التعرّض لتعريف التأمين وبيان حقيقته، ينبغي الإشارة إلى أهمّية التأمين في عصرنا الراهن في الأنظمة العالمية، ثمّ النظر إلى مساره التأريخي منذ نشأ واتّسع وتطوّر وانتهى إلى أشكاله الجديدة.

أهمّية التأمين في العصر الحاضر

التأمين في شكله الجديد من العقود المستجدّة التي حدثت على أساس اتّساع حاجات المجتمع البشري في مجاليه الاجتماعي والاقتصادي بأثوابهما الجديدة. والمنشأ الأساسي لتبنّي الدول وأبناء المجتمع لعقد التأمين بأصنافه؛ هو أنّ الإنسان- بنفسه، وأمواله، وجميع ممتلكاته- في معرض الخطر بأشكال مختلفة، ولاسيّما في عهدنا الراهن، فيرى نفسه في معرض المرض والموت الفجائي، وأموالَه تحت غائلة السرقة أو الحرق أو الغرق، وجميع وسائله في معيشته رهن حوادث شتّى. ومجرّد احتمال هذه الامور يوجب اضطراباً في نفسه، وقلقاً في

ص: 12

قلبه، فيطلب بطبعه المجبول عليه، شخصاً حقيقياً أو حقوقياً- كشركة التأمين- يمنحه أماناً مالياً بتعهّد جبران الخسائر اللاحقة به؛ ولو بتسليم مبلغ إليه دفعةً أو تدريجاً على سبيل الأقساط.

فالتأمين يمنح الإنسان في حياته الاجتماعية والاقتصادية شعوراً بالأمن والاطمئنان، ولولاه لاختلّ إقدام أصحاب رؤوس الأموال على بناء المنشآت الضخمة التي تتطلّب بطبعها رؤوس أموال كثيرة. ولشدّة الحاجة إلى التأمين في العصر الحاضر، أصبح بعض أصنافه- على ما سيأتي توضيحه- في الأنظمة العالمية إجبارياً.

التأمين ومساره التأريخي

اشارة

فكرة التأمين وإن لم يمضِ عليها- بشكلها الجديد، وقوانينها الخاصّة، وأصنافها- أكثر من قرن، ولكن لبعض أقسامه كالتأمين البحري، عهد عتيق، فإنّه بدأ في أواخر القرن الثامن من الهجرة النبوية، وقد نشأ التأمين البرّي من الحريق في خلال القرن الحادي عشر في إنجلترا، ثمّ انتشر إلى غيرها من البلاد الاروبية. وأ مّا التأمين على الحياة (بيمه عمر) فقد حدث قبيل القرن الثالث عشر.

ثمّ ولد القرن الرابع عشر أصناف اخرى من التأمين، كالتأمين من السرقة، ومن تلف المزروعات، وكذا التأمين الجوّي وغيرها.

قال السنهوري في شرحه على القانون المدني في ذلك: «ظهرت الحاجة إلى التأمين- أوّل ما ظهرت- في اروبا في أواخر القرون الوسطى؛ فبدأ التأمين البحري في الانتشار منذ أواخر القرن الرابع عشر بعد الميلاد مع انتشار التجارة البحرية بين مدن إيطاليا والبلاد الواقعة في حوض البحر الأبيض المتوسّط، وكان التأمين إذ ذاك

ص: 13

مقصوراً على البضائع التي تنقلها السفن، ولم يمتدّ إلى التأمين على حياة البحار والركّاب، فالتأمين البحري كان أوّل أنواع التأمين في الظهور.

وأعقبه بعد مدّة طويلة التأمين البرّي، إذ بدأ ظهور هذا التأمين في إنجلترا في خلال القرن السابع عشر. وأوّل صورة ظهرت منه كانت صورة التأمين من الحريق عقب حريق هائل نشب في لندن في سنة (1666) والتهم أكثر من ثلاثة عشر ألف منزل، ونحو مائة كنيسة. وانتشر التأمين من الحريق في خلال القرن الثامن عشر في كثير من البلاد غير إنجلترا، وبخاصّة من ألمانيا وفرنسا والولايات المتّحدة الأمريكية.

ثمّ ظهرت صور جديدة للتأمين أهمّها التأمين من المسؤولية.

أ مّا التأمين على الحياة فقد تأخّر في الظهور إلى اقتراب القرن التاسع عشر؛ إذ تعرّض للهجوم أكثر من غيره من أنواع التأمين الاخرى....

وظهرت صور جديدة للتأمين في غضون القرن العشرين، منها التأمين من السرقة والتبديد، والتأمين من تلف المزروعات والآلات الميكانيكية، والتأمين من موت المواشي، والتأمين من الإصابات، والتأمين من أخطار الحروب، والتأمين من حوادث النقل الجوّي، والتأمين من المسؤولية»(1).

وقد أنهى بعض الأعاظم من المعاصرين قدس سره فكرة التأمين بشكلها البدائي إلى زمن بعيد، وعدّ منها المساعدات التي يدفعها الأقارب والأصدقاء إلى الشخص عند مرضه، أو حدوث خسارة عليه، وإليك عبارة مقرّره: «والتأمين بنظرته البدائية لم يكن وليد الأيّام المتأخّرة، بل هو موجود من زمن بعيد وإن لم يكن معروفاً لدى


1- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1096 ..

ص: 14

العامّة كفكرة لها قوانينها ونظمها الخاصّة، ولنأخذ لذلك مثلًا، فإنّ هذه المساعدات التي تصل إلى الإنسان من أقاربه وأصدقائه عند مرضه أو حلول كارثة به لهي نفسها فكرة التأمين بشكلها البدائي»(1).

لكنّه لا يخلو من نقاش؛ وذلك لأنّ التأمين الذي نتتبّع مساره التأريخي، ليس كلّ أمر يوجب إعانة للشخص على رفع شدائده أو جبران الكوارث الواردة عليه؛ ولو كان بنحو الهبة أو الصلة أو الصدقة أو بأيّ عنوان عقدي غير معاوضي آخر، بل المراد به هو التأمين العقدي المعاوضي الذي هو من العقود المعاوضية المتقدّمة بالإنشاء والتعويض من الطرفين؛ قولًا، أو فعلًا، وأين هذا من التأمين المترتّب على المساعدات والموهوبات التي تصل إلى الإنسان أحياناً من أقاربه أو أصدقائه عند مرضه أو حلول كارثة به؟! فإنّها ليست عقداً، ولا معاوضة، وإنّما هي إيقاعات في جوهرها نوع من التمليك بلا عوض، وقد تكون بسبيل الصدقة، وليست أمراً بدائياً، بل هي موجودة في زماننا بنحو أوسع، والتأمين بهذا المعنى مشهود في جميع الصدقات المستحبّة، وكذا الواجبة، كالزكوات، والكفّارات، بل النذورات للفقراء والمساكين، حيث إنّها تأمين لهم في أمر معيشتهم وما يطرأ عليهم من الكوارث والحوادث المفاجئة، ولكنّها بأجمعها أجنبية عن التأمين العقدي المعاملي الذي هو محطّ بحثنا هذا.

وقد يقال- كما قيل-: «إنّ البابليين في العراق القديم أوّل من عرف عقد التأمين بشكله الابتدائي، وكان عندهم عبارة عن عقد قرض ساعد على ازدهار التجارة ما بين (4000- 3000) قبل الميلاد، وكان هدف عقد التأمين لدى


1- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره: 16 ..

ص: 15

البابليين هو ضمان درء أخطار النهب والسرقة التي تتعرّض لها قوافل التجّار، ومنهم انتقل العقد إلى الفينيقيين وإلى البحر المتوسّط. كما قيل: إنّ اليونان عرفت عقد القرض البحري في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث ساعد على ازدهار تجارتها»(1).

وتوضيح مراد هذا القائل: أنّ في عصر البابليين إذا كان صاحب مال قيّم يريد أن ينقله من بلد إلى بلد آخر ويخاف عليه من ناحية أخطار تهدّده- كسرقة قطّاع الطريق ونحوها- يطلب تاجراً أميناً قادراً على حفظ ماله، فيقرضه ماله حتّى يتّجر به ذاك التاجر، فينتفع به، ثمّ يدفع إليه بدله في البلد الذي اشترط تسليم عوض القرض فيه، فالقرض الذي حقيقته هو التمليك مع الضمان، يصير بهذا الشكل سبباً لازدهار التجارة في حقّ التاجر، ولحفظ المال في حقّ مالكه، وهذا نوع تأمين للمال من الكوارث والخسارات المحتملة.

ولكن بعد إمعان النظر يظهر: أنّ هذا القرض بالشكل المتقدّم وإن وقع بداعي استئمان المال وحفظه من الأخطار، إلّاأنّه أجنبي في جوهره عن التأمين العقدي؛ وذلك لأنّ القرض حقيقته التمليك مع الضمان؛ بحيث لا يفوت من المقرض شي ء من ماله الذي أقرضه، وأين هذا من عقد التأمين المتداول الذي حقيقته عند بعض- كالمحقّق السيّد الخوئي قدس سره- من سنخ الهبة المعوّضة(2)، وعند آخر- كالإمام الراحل قدس سره- من نوع العقود المستقلّة(3)، وعند ثالث- كالمحقّق الفقيه الشيخ حسين الحلّي- أعلى اللَّه مقامه الشريف- من سنخ الضمان(4)، وقد احتمله السيّد المحقّق


1- التأمين نظريةً وتطبيقاً، جليل قسطو: 11 ..
2- منهاج الصالحين 1: 421 ..
3- تحرير الوسيلة 2: 609 ..
4- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي: 38 ..

ص: 16

الحكيم قدس سره في ذيل (المسألة 38) من كتاب الضمان(1).

مع أنّ في التأمين العقدي المتداول على جميع المباني، ربما لا ينتفع المستأمن بشي ء إزاء الأقساط التي دفعها إلى المؤمّن (شركة التأمين) وهذا فيما إذا لم يرد على ماله المؤمّن عليه أيّة خسارة.

نعم، ذلك القرض يشبه التأمين العقدي من جهة الغاية؛ وهي تحصيل أمان مالي، إذ كما أنّ بالقرض بالشكل المتقدّم يحفظ المال من الأخطار المحتملة- كالسرقة ونحوها- وتبقى ماليته محفوظة بردّ عوضه إلى المقرض، فكذلك بالتأمين يحصل أمان مالي يوجب اطمئنان المستأمن بأنّ ماله المؤمّن عليه يبقى إمّا بعينه- وهو فيما إذا لم يطرأ عليه خسارة- أو بماليته فيما إذا طرأت عليه كارثة، فإنّ المؤمّن- أي شركة التأمين- حينئذٍ يتداركها بدفع عوضه.

والجدير في ملاحظة عهد عقد التأمين وأ نّه من أيّ زمن بدأ، هو النظر في حقيقته أوّلًا وتعيين نوعه، فهل هو من سنخ الهبة المعوّضة، أو من نوع الضمان، أو الصلح، أو هو عقد مستقلّ؟

فإن عدّ من سنخ الهبة المعوّضة أو الضمان أو الصلح، فله عهد عتيق ينتهي إلى عصر ظهور الشريعة الإسلامية، بل إلى جميع الشرائع الإلهية السابقة، بل لعلّ إلى بداية تشكّل العلائق المعاملية بين بني آدم. وإن عدّ معاملة مستقلّة- كما عليه الإمام الراحل قدس سره- فبالطبع لا عهد له أسبق على بدء حدوثه في العصور أو الأزمنة المتأخّرة.

وأشبه عقد بالتأمين- بناءً على كونه عقداً مستقلًاّ كسائر العقود التي أمضاها


1- مستمسك العروة الوثقى 13: 348 ..

ص: 17

الشرع، ولها عهد بعصر نزول القرآن، بل ما قبله- هو عقد ضمان الجريرة الذي هو السبب الوحيد في عصر الجاهلية للإرث(1)، ثمّ أمضاه الإسلام في عداد موجبات الإرث.

وبيان ذلك: أنّ للإرث موجبين: النسب، والسبب، والثاني أمران: أحدهما:

الزوجية، وثانيهما: الولاء، وهو ذو مراتب ثلاث: ولاء العتق، ثمّ ولاء ضمان الجريرة، ثمّ ولاء الإمامة. وحقيقة ضمان الجريرة أن يتولّى شخص لا وارث له شخصاً آخر ويعاقده على أن يتحمّل جريرته- جنايته- ويضمن كلّ ما يحدث منه ويوجب دية أو أرشاً، وفي قبال تحمّله لها يشترط أن يكون إرثه له.

وهو من العقود، كما صرّح به في «الجواهر» بقوله: «بل ظاهر الأصحاب أ نّه من العقود المعتبر فيها الإيجاب والقبول»(2) وصورة عقده أن يقول الشخص الذي لا وارث له لطرفه الذي رضي بأن يكون ضامناً لجريرته وجنايته ويرث منه:

«عاقدتك على أن تنصرني وتمنع عنّي وتعقل عنّي وترثني» ويقول الآخر:

«قبلت»(3).

ولا يخفى: أنّ في هذا العقد نوعاً من التأمين، ويمكن تطبيق أركان عقد التأمين عليه؛ ببيان أنّ ضامن الجريرة في الحقيقة هو المؤمّن، وطرفه المضمون عنه هو المؤمّن له، وجناياته التي تحدث فيما بعد هو المؤمّن منه، والدية هو مبلغ التأمين، والإرث هو مبلغ الاستئمان.

ولكن مع ذلك كلّه لا ينبغي عدّ ضمان الجريرة من مصاديق عقد التأمين، بل


1- جواهر الكلام 39: 255 ..
2- نفس المصدر ..
3- نفس المصدر ..

ص: 18

هو عقد خاصّ له أحكام خاصّة؛ وذلك للفروق التي بين البابين من جهات شتّى:

منها: أنّه يشترط في عقد التأمين أن تكون مدّة العقد- من حيث البداية والنهاية- معيّنة، مع أنّها في عقد ضمان الجريرة غير معيّنة؛ لعدم علم كلا الطرفين بمدّة حياة المضمون عنه.

ومنها: أنّه إن مات ضامن الجريرة قبل طرفه المضمون عنه، لا ينتقل الولاء إلى وارث الضامن، بل يصبح العقد باطلًا، ولا ينتقل شي ء من إرث المضمون عنه إلى وارث الضامن؛ وإن تحمّل الضامن شيئاً من جناياته ودفع ديته قبل موته، مع أنّ الأمر في عقد التأمين ليس كذلك.

ومنها: أنّه لا يصحّ عقد ضمان الجريرة إلّاإذا لم يكن للمضمون عنه وارث من النسب، ولا مولى معتق، مع أنّ صحّة عقد التأمين لا تدور مدار عدم وجود وارث للمستأمن؛ أي المؤمّن له.

ومنها: غير ذلك.

فهذه الفروق تشهد بأنّ عقد ضمان الجريرة وإن أفاد نوعاً من التأمين من قبل ضامن الجريرة بالنسبة إلى طرفه، إلّاأنّه عقد خاصّ له أحكام خاصّة أجنبي عن عقد التأمين الذي ألحقه بعض- كالمحقّق السيّد الخوئي- بباب الهبة المعوّضة، وبعض آخر- كالفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره- بباب الضمان، وعدّه ثالث- كالإمام الراحل قدس سره- من العقود المستقلّة.

ص: 19

مسألة 1- التأمين: عقد واقع بين المؤمِّن والمستأمن- المؤمّن له- بأن يلتزم المؤمِّن جبر خسارة كذائية إذا وردت على المستأمن في مقابل أن يدفع المؤمَّن له مبلغاً، أو يتعهّد بدفع مبلغ يتّفق عليه الطرفان (2).

2- إنّ التحقيق في مسألة التأمين وبسط الكلام في جوانبها المختلفة، يقتضي البحث عن الجهات التالية:

الاولى: في بيان حقيقة التأمين، وقد تعرّض لها الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة.

الثانية: أركان عقد التأمين، وقد ذكرها قدس سره في المسألة الثانية.

الثالثة: شرائط التأمين من حيث المتعاقدين وغيرهما، وقد تصدّى لبيانها في المسألتين الثالثة والرابعة.

الرابعة: أنواع التأمين، وستأتي في المسألة الخامسة.

الخامسة: تبيين ما عليه التخريج الفقهي لمسألة التأمين؛ وأ نّه عقد مستقلّ، أو هبة معوّضة، أو صلح، أو ضمان، وقد تعرّض الماتن المحقّق قدس سره لهذه الجهة في المسألة السادسة.

هذه هي الجهات الأساسية في مبحث التأمين، وله أحكام وفروع ذكرها في بقية المسائل الآتية.

الجهة الاولى: حقيقة التأمين

الجهة الاولى: في بيان حقيقة التأمين، عرّف الماتن المحقّق قدس سره التأمين بأ نّه «عقد واقع بين المؤمّن والمستأمن- المؤمّن له- بأن يلتزم المؤمّن جبر خسارة

ص: 20

كذائية إذا وردت على المستأمن في مقابل أن يدفع المؤمّن له مبلغاً، أو يتعهّد بدفع مبلغ يتفق عليه الطرفان».

وتوضيح ذلك: أنّ من أراد أن يؤمّن على ماله- كسيّارته مثلًا- ويتّخذ له أماناً بالنسبة إلى الحوادث والأخطار المحتملة- كالاصطدام والحريق والغرق وغيرها- يرجع إلى مؤمّن يمنحه أماناً مالياً في قبال تلك الحوادث، كشركة التأمين، فيستأمن ماله عنده، ويتعاقد معه على أن يدفع إلى الشركة مبلغاً معيّناً دفعة أو تدريجاً على سبيل الأقساط- كما هو الغالب- بعوض أن تتعهّد شركة التأمين بجبران الكارثة والخسارة المعيّنة؛ من الإصابة والحرق والغرق مثلًا، التي ربما تطرأ على ماله.

وقال المحقّق السيّد الخوئي في «المنهاج» في تعريف التأمين: «هو اتّفاق بين المؤمّن- الشركة أو الدولة- وبين المؤمّن له- شخص أو أشخاص- على أن يدفع المؤمّن له للمؤمّن مبلغاً معيّناً شهرياً أو سنوياً نصّ عليه في الوثيقة المسمّى قسط التأمين، لقاء قيام المؤمّن بتدارك الخسارة التي تحدث في المؤمّن عليه على تقدير حدوثها»(1).

ويرد على كلا التعريفين المتقدّمين: أنّهما غير جامعين لبعض أصناف التأمين، كالتأمين على الحياة؛ إذ الظاهر من التعريفين أنّ المستفيد من عقد التأمين هو نفس المؤمّن له، مع أنّ في التأمين على الحياة (بيمه عمر) تنحصر الاستفادة بوارث المؤمّن له؛ أي المستأمن، كزوجته وأولاده ممّن عيّنوا في ضمن العقد.

وقد عرّفه في القانون المدني المصري هكذا: «عقد التأمين: عقد بين طرفين، أحدهما: سمّي المؤمّن، والثاني: المؤمّن له، أو المستأمن، يلتزم فيه المؤمّن


1- منهاج الصالحين 1: 420 ..

ص: 21

بأن يؤدّي له- لمصلحته- مبلغاً من المال، أو إبراء الذمّة، أو أيّ عوض مالي آخر؛ في حالة وقوع حادث له، أو تحقّق خطر مبيّن في العقد، وذلك مقابل قسط أو أيّة دفعة مالية اخرى يؤدّيها المؤمّن له إلى المؤمّن»(1).

والإشكال المتقدّم على التعريفين الأوّلين، وارد على هذا التعريف أيضاً، بل وروده عليه أوضح منهما؛ وذلك لتصريح هذا التعريف بأنّ المؤمّن يؤدّي المبلغ المعيّن أو أيّ عوض مالي- بعد وقوع الحادثة- إلى المؤمّن له، أو يبرئ ذمّته، وهذا القيد يخرج صريحاً التأمين على الحياة الذي يرجع نفعه- بعد موت المؤمّن له- إلى وارثه الذي عيّنه في ضمن العقد.

وأشمل التعاريف السالم عن النقاش المتقدّم، ما ذكره بعض أرباب علم الحقوق بقوله: «التأمين عقد يلتزم المؤمّن بمقتضاه أن يؤدّي إلى المؤمّن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتّباً، أو أيّ عوض مالي آخر؛ في حالة وقوع الحادث، أو تحقّق الخطر المبيّن بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أيّة دفعة مالية اخرى يؤدّيها المؤمّن له للمؤمّن»(2).

حيث اضيف في هذا التعريف قيد «أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه...» وبهذا القيد يدخل في التعريف التأمين على الحياة؛ لأنّ من يستفيد في هذا النوع من التأمين بدفع المؤمّن- بعد موت المؤمّن له- مبلغ التأمين إليه، هو وارث المؤمّن له، كزوجته، أو أولاده، أو غيرهما ممّن عيّن في ضمن عقد التأمين، وهو المقصود بالقيد المتقدّم، فيشمله التعريف، وبهذا القيد يصبح التعريف جامعاً


1- التأمين نظرية وتطبيقاً، جليل قسطو: 16 ..
2- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1084 ..

ص: 22

للأفراد، ومانعاً للأغيار.

ثمّ إنّ هذه التعاريف بأجمعها متفقة على نقاط:

النقطة الاولى: أنّ التأمين من سنخ العقود لا الإيقاعات، فلا يقع بالتزام أحد الطرفين- من المؤمّن أو المستأمن- بالعمل بوظيفته المتقدّمة، بل يتقوّم بالالتزام من الطرفين، فإنّ العقد حقيقته الالتزام المرتبط بالتزام آخر، وفي المقام يكون التزام المؤمّن بجبران الخسارة الواردة على المستأمن، مرتبطاً بالتزام المستأمن بتسليم مبلغ دفعة أو تدريجاً إليه. وبهذا البيان ظهر أنّ احتمال بعض كون التأمين من الإيقاعات، ليس في محلّه.

النقطة الثانية: أنّ دفع العوض من قبل المستأمن إلى المؤمّن، منجّز غير معلّق على حدوث أيّة كارثة وخسارة، فإنّه موظّف على أساس التزامه العقدي بأن يسلّم- دفعةً، أو تدريجاً على سبيل الأقساط- مبلغاً معيّناً إلى شركة التأمين مطلقاً؛ سواء حدثت خسارة، أم لا، ولكن لا تلتزم شركة التأمين- بمقتضى ما انشئ في العقد- ولا توظّف في مقام الوفاء بأن تدفع على سبيل التنجيز عوضاً إلى المستأمن، إلّا في بعض أقسام التأمين كالتأمين على عمره بل وظيفته؛ إنشاءً ووفاءً ما زال تعليقي لأنّه تعهّد والتزم في العقد بجبران الخسارة المحتملة التي ربما تقع على المستأمن، وبالطبع إن لم تطرأ عليه فلا يكون عليه شي ء، ولا يستحقّ المستأمن أن يطلب من المؤمّن عوضاً عمّا دفعه إليه من الأقساط.

وهذه الخصوصية تصير منشأً لإشكال على التخريج الفقهي لمسألة التأمين:

وهو أنّ العقود المعاوضية- ومنها عقد التأمين- لابدّ فيها من فرض العوضين على سبيل البتّ والقطع، مع أنّ في بعض أنواع عقد التأمين كالتأمين على الأموال يكون فرض دفع العوض من قبل المؤمّن إلى المستأمن أو أيّ شخص عيّن في العقد،

ص: 23

احتمالياً معلّقاً على فرض حدوث الخسارة، وبهذا يصبح عقد التأمين من الأكل بالباطل الذي نهى اللَّه سبحانه عنه في قوله: لَاتَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُم(1).

وسيظهر الجواب عن هذا الإشكال ضمن النقطة الثالثة، كما سيأتي الجواب عنه تفصيلًا وعن سائر الإشكالات الواردة على صحّة التأمين في ذيل المسألة السادسة.

النقطة الثالثة: أنّ العوض من جانب المؤمّن في عقد التأمين الواقع على الأموال ليس هو في الحقيقة جبران الخسارة المحتملة؛ حتّى يناقش فيه تارةً: بأ نّه من الأكل بالباطل المنهيّ عنه في الآية المتقدّمة، واخرى: بأ نّه يوجب غرراً عقلائياً شديداً لا يقدمون عليه في معاملاتهم، بل هو- في الحقيقة- حفظ المال المؤمّن عليه والأمان المالي الذي يحصل بتعهّد المؤمّن بجبران الخسارة المحتملة. ولا شكّ في أنّ هذه الحيثية لها شأن من المالية يتنافس فيها العقلاء؛ فإنّ حفظ المال تارةً:

يكون بحفظ عينه، كما إذا استأجر المالك شخصاً لحفظ ماله، فإنّ المعوّض هو حفظ عين المال من قبل الأجير، واخرى: يكون حفظ المال بحفظ ماليته، كما في المقام، فإنّ شركة التأمين تتعهّد- ضمن عقد التأمين- بأن تحفظ المال الذي وقع عليه التأمين، ولكن لا بعينه، بل بماليته؛ بأن تدفع مثله أو كلّ قيمته فيما لو تلف كلّه، أو بعضها فيما إذا طرأت عليه خسارة، وهذا التعهّد يمنح المالك المستأمن أماناً مالياً واطمئناناً بأنّ ماله سيبقى محفوظاً بعينه، أو بماليته.

وحيثية الأمان المالي لها حظّ من المالية عند العقلاء تليق بأن تقع معوّضاً في


1- النساء( 4): 29 ..

ص: 24

المعاملات. والشاهد على ذلك أنّ المال الذي أمّنه صاحبه عند شركة التأمين، أكثر قيمةً عند العقلاء من نفس ذاك المال إن لم يكن مؤمّناً. وبهذا البيان يخرج عقد التأمين من الغرر والأكل بالباطل.

هذا مضافاً إلى أنّ مطلق الغرر لا دليل على كونه سبباً للبطلان، ولاسيّما في مثل عقد التأمين المبني على الغرر في الجملة. ولم يثبت من طرقنا خبر «نهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن الغرر» حتّى يشمل المقام. وما ثبت هو خبر «نهى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الغرر»(1) ومن المعلوم أنّه لا يشمل المقام.


1- دعائم الإسلام 2: 21، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 45/ 168، عوالي اللآلي 2: 248/ 17، وسائل الشيعة 17: 448، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 40، الحديث 3، الانتصار: 209، السرائر 2: 322، نهج الحق: 479، تذكرة الفقهاء 1: 485، 488، إيضاح الفوائد 1: 426، التنقيح الرائع 2: 28، القواعد والفوائد 2: 61، مجمع البحرين 3: 423، ومن طرق أهل السنة نقل في صحيح مسلم 3: 1153/ 1513، سنن أبي داود 3: 673/ 3376، سنن النسائي 7: 262، سنن ابن ماجة 2: 739/ 2194، سنن الدارقطني 3: 15/ 46، والموطأ 2: 664/ 75، مسند أحمد بن حنبل 1: 116 ..

ص: 25

مسألة 2- يحتاج هذا العقد كسائر العقود إلى إيجاب وقبول، ويمكن أن يكون الموجب المؤمّن والقابل المستأمن؛ بأن يقول المؤمّن: «عليّ جبر خسارة كذائية في مقابل كذا، أو أنا ملتزم بجبر خسارة كذائية في مقابل كذا» فيقبل المستأمن، وبالعكس، بأن يقول المستأمن: «عليّ أداء كذا في مقابل جبر خسارة على كذا» فيقبل المؤمّن، أو «في مقابل عهدتك جبرها» (3).

الجهة الثانية: أركان التأمين

3- أمّا الجهة الثانية من جهات مسألة التأمين، فهي البحث عن أركان التأمين، فانّ عقد التأمين- كسائر العقود- يتقوّم بأركان لا ينعقد بفقد بعضها؛ لأنّ التأمين من سنخ العقود لا الإيقاعات؛ لوضوح أنّه لا يتحقّق بمجرّد التزام شركة التأمين بتدارك الخسارات الواردة على المال المؤمّن عليه منفكّاً عن التزام المستأمن بدفع عوضه، كما لا يتحقّق بمجرّد التزام المستأمن بدفع مبلغ الاستئمان- دفعةً أو تدريجاً- إلى المؤمّن بإزاء جبرانه للخسارة الواردة على ماله، بل يتقوّم بالتزام كلّ من الطرفين؛ على أساس ما تقدّم في بيان حقيقة التأمين، وهذا بعينه حقيقة العقد، فإنّه- كما تقدّم- التزام مرتبط بالتزام آخر، ففي البيع مثلًا يلتزم البائع بتمليك ماله للمشتري بعوض، وهو يلتزم بدفع عوضه إلى البائع، وهذا هو الفرق الرئيسي بين العقد والإيقاع، إذ العقد متقوّم بكلا الالتزامين المرتبط أحدهما بالآخر؛ سواء قلنا:

بأنّ الإنشائيّات متقوّمة بالاعتبار في النفس، ثمّ إبراز المعتبر بالقول أو بالفعل، كما هو الحقّ، أو بالتسبيب؛ بأن يكون القول أو الفعل سبباً لإيجادهما، كما عليه

ص: 26

المشهور، أو بمقالة المحقّق الأصفهاني قدس سره من أنّها توجد بنفس وجود الألفاظ، بخلاف الإيقاع، فإنّه التزام من جانب واحد في سلطته المالية وغيرها، ولا يرتبط بالتزام آخر، كما هو واضح.

ومن هنا يكون عقد التأمين ذا أركان أربعة:

أحدها: الموجب.

ثانيها: القابل.

ثالثها: المؤمّن عليه- مورد التأمين- من الحياة، كما في التأمين على الحياة، والحوادث، والأموال.

رابعها: أقساط التأمين التي يدفعها المستأمن إلى شركة التأمين.

كما قال المحقّق السيّد الخوئي في «المنهاج»: «يشتمل عقد التأمين على أركان: 1- الإيجاب من المؤمّن له. 2- القبول من المؤمّن. 3- المؤمّن عليه:

الحياة، الأموال، الحوادث، وغيرها. 4- قسط التأمين الشهري والسنوي»(1).

وقد يعبّر في القانون المدني عن الشي ء الذي استأمنه المالك ب «المؤمّن عليه» وعن الخطر الذي استأمنه منه ب «المؤمّن عنه»(2).

وهذا التعبير أدقّ ممّا سبق، وبه تصبح أركان التأمين خمسة، وكيف كان فالأمر فيه سهل. وما تقدّم من الأركان لا كلام فيها.

وإنّما الكلام في تعيين الموجب والقابل، فهل الأوّل هو المؤمّن المسمّى ب «شركة التأمين» والثاني المستأمن؛ وهو الشخص الذي يطلب من الشركة


1- منهاج الصالحين 1: 421 ..
2- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1144 ..

ص: 27

التأمين، أو بالعكس، أو يمكن التصدّي للإيجاب لكلّ منهما وكذا القبول؟

في المسألة وجوه، فالمستفاد من الإمام الراحل قدس سره هو الأخير، كما أنّ المستفاد من الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره(1) وكذا من عبارة «المنهاج» المتقدّمة هو الثاني. ولكن ما هو الرائج الملموس في انعقاد المعاملة التأمينية بين أبناء العرف، مساعد على الوجه الأوّل، وسيأتي توضيحه.

والظاهر أنّ كلام الماتن المحقّق قدس سره ناظر إلى مرحلة الإمكان، لا الوقوع الرائج في المجتمع عند معاملتهم مع شركة التأمين؛ بمعنى أنّ في عملية التأمين يمكن أن تتصدّى شركة التأمين للإيجاب؛ بأن تقول: «عليّ جبر خسارة كذائية في مقابل كذا» أو «أنا ملتزمة بجبر خسارة كذائية في مقابل كذا» ويتصدّى المستأمن للقبول بقوله: «قبلت» كما يمكن العكس؛ بأن يتصدّى المستأمن أوّلًا للإيجاب بأن يقول: «عليّ أداء كذا من المبلغ في مقابل جبر خسارة تطرأ على هذا المال» وثانياً المؤمّن للقبول.

ولا شكّ في أنّ معاملة التأمين بكلا الشكلين، صحيحة لا ينبغي الإشكال فيها؛ وإن كان تصدّي المستأمن للإيجاب، فرضاً أجنبياً عمّا هو الرائج بين أرباب التأمين والمستأمنين.

وأ مّا مختار المحقّق السيّد الخوئي قدس سره لتعيين الموجب والقابل في عبارته المتقدّمة، فهو منسجم مع ما اصطفاه في حقيقة التأمين؛ من أنّه مندرج في باب الهبة المعوّضة؛ إذ الواهب- وهو الموجب في الهبة- يكون على هذه النظرية المستأمن، والقابل هو شركة التأمين.


1- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي: 19 ..

ص: 28

ولكن مقتضى التحقيق: أنّ عملية التأمين وإن أمكن إنشاؤها بشكل الهبة المعوّضة- بأن يدفع المستأمن إلى المؤمّن مبلغاً معيّناً على سبيل الدفعة أو التدريج؛ بشرط أن يتعهّد المؤمّن بجبر الخسارة الواردة على ماله- ولكنّ الواقعية المألوفة الرائجة في العرف العالمي لإنشاء عقد التأمين، أجنبية عن نظرية الهبة المعوّضة؛ وذلك لأنّها متقوّمة بالبذل؛ بأن يكون التمليك من جانب الواهب مجّاناً، ولا يكون بإزائه من جانب الموهوب له عوض، وإنّما يشترط عليه أمر للواهب، وعليه الوفاء به، مع أنّه في عملية التأمين لا يكون ارتكاز المستأمنين على تمليك أقساط التأمين للشركة مجّاناً وبلا عوض، بل يكون تمليكها بارتكازهم، عوضاً عن تعهّد الشركة بتدارك الخسارة المعيّنة الواردة على ماله؛ بحيث يعدّ عندهم هذا التعهّد الموجب لأمان مالي، عوضاً عن الأقساط التي يدفعها إلى شركة التأمين، ومن هنا تتصدّى شركة التأمين لإيجاب العقد، والمستأمن لقبوله؛ على ما صرّح به في «القانون المدني» على خلاف نظرية الهبة المعوّضة المقتضية لتصدّي المستأمن لإيجاب الهبة، والشركة لقبولها.

هذا، مضافاً إلى توقّف صحّة الهبة على القبض، ولازم ذلك عدم تمامية الهبة قبله، ونتيجة هذه النكتة أن تتحقّق بكلّ قسط من الأقساط التي يدفعها المستأمن إلى الشركة، هبة مستقلّة خاصّة، وبالمآل تنعقد هبات عديدة بعدد الأقساط، ويلزم أيضاً أن لا يكون المستأمن موظّفاً بدفع مبلغ الاستئمان (أقساط التأمين) إلى شركة التأمين لعدم صحّة عقد التأمين قبل قبض الأقساط على الفرض؛ ولا يخفى أنّ غرضنا من هذه النكتة ليس جعل التعارض بين حكم الشرع بأنّ صحّة الهبة المعوّضة متوقّفة على قبض الموهوب وبين القانون المدني الحاكم في العقد التأميني

ص: 29

في الأنظمة العالمية بل الغرض استكشاف نكتة موضوعية وهي أنّ عقد التأمين بشكله الرائج بين الشركات التأمينية والمستأمِن بأنواعه ليست حقيقته في ارتكازهم من سنخ الهبة المعوّضة بل هو عقد مستقلّ عندهم له آثار خاصّة قانونية، مع أنّه على خلاف المرتكز في أذهان المستأمنين وأرباب التأمين، وسيأتي مزيد تحقيق لهذا الأمر ذيل المسألة السادسة.

وأ مّا المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره فالمستفاد من كلامه- كما أشرنا إليه- أنّ المتصدّي للإيجاب ليس إلّاالمستأمن، والمتصدّي للقبول هو المؤمّن، وهذه عبارة مقرّره: «الإيجاب، ويتمّ من قِبل طالب التأمين بعد أن تقدّم الشركة له استمارة تحتوي على بيان النوع الذي يؤمّن الشخص عليه: ثروة، أو نفساً...

القبول، ويكون بتصدير الوثيقة التي تؤدّي وجود المتعاقد بين الجانبين، ومصدر هذه الوثيقة عادة الشركة لتدفعها إلى طالب التأمين»(1).

ويرد عليه أوّلًا: أنّ عملية التأمين على مسلكه- كما صرّح به- تكون من باب الضمان، ومن المعلوم أنّ المتصدّي للإيجاب في الضمان هو الضامن، وهو منطبق في المقام- على ما صرّح به- على المؤمّن، فما اختاره في عبارته المتقدّمة من أنّ الموجب هو المستأمن، يتنافي مع مقتضى ما اصطفاه في حقيقة التأمين.

وثانياً: أنّ العادة العرفية القائمة في إنشاء عقد التأمين، جارية على تصدّي شركة التأمين للإيجاب لا القبول، فما ادّعاه في ذيل كلامه المتقدّم من جعل العادة والعرف على صدور القبول من الشركة، ممنوع.


1- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي: 19 ..

ص: 30

ويقع بكلّ لفظ (4).

وكيف كان: فالأمر في هذه الجهة سهل بعد ما قلنا بجواز تقديم القبول على الإيجاب في العقود، كما هو مقتضى التحقيق، وعليه جمّ غفير من الأعاظم.

وليس لتقديم الإيجاب على القبول أو تأخّره عنه أثر عملي خاصّ، وما تشتغل به ذمّة المؤمّن والمستأمن بسبب عقد التأمين معلوم، فشركة التأمين مشغولة الذمّة- بعد إكمال عملية التأمين- بأن تجبر الخسارة المعلومة الواردة على المال المؤمّن عليه؛ سواء عدّ موجباً في عقد التأمين، أو قابلًا، كما أنّ المستأمن أيضاً موظّف بدفع المبلغ الذي التزم به ضمن العقد، إمّا دفعةً، أو تدريجاً على سبيل الأقساط، سواء عدّ موجباً أو قابلًا.

نعم، على القول بلزوم تقديم الإيجاب في العقود على القبول، تظهر الثمرة، ولكنّه على خلاف التحقيق الذي قرّر في محلّه.

4- أي بكلّ لفظ ظاهر فيما هو المقصود من الإيجاب والقبول في عقد التأمين؛ وذلك لعدم دليل على اعتبار الصراحة في ألفاظهما في جميع العقود، بل يكفي كلّ لفظ دلّ بظهوره على المقصود ولو كان بسبيل المجاز أو الكناية بل الإشارة في مثل الأخرس.

ودعوى انصراف الأدلّة المتصدّية للإمضاء عن العقود المنشأة بالكنايات والمجازات؛ وأ نّها منصرفة إلى الأسباب المتعارفة، وهي الألفاظ الصريحة.

مدفوعة بما أفاده الماتن المحقّق قدس سره في كتاب البيع بقوله: «وهي في

ص: 31

العمومات غير وجيهة؛ للزوم حمل اللام في أَوفُوا بِالعُقُودِ(1) على العهد، وهو في غاية البعد، وقد فرغنا في محلّه من عدم احتياج العمومات إلى مقدّمات الحكمة. وأ مّا الإطلاقات فانصرافها ليس بذلك البُعد وإن أمكن دفعه: بأنّ المناسبة بين الحكم والموضوع توجب التوسعة إلى كلّ تجارة وبيع؛ لأنّ ما هو موضوع الحلّ هو البيع المسبّبي والتجارة كذلك، وآلات الإنشاء لا دخالة لها في الحلّ والحرمة، كما أنّ في عرف العقلاء لا اعتناء بالآلات، بل المنظور إليه بينهم هو العهود والعقود والتجارات»(2).

كما أنّ دعوى توقيفية الأسباب المعاملية على ما صدر من الشرع من الألفاظ والعناوين الخاصّة، ممنوعة أيضاً.

والحاصل: أنّ الألفاظ التي اخذت موضوعاً للأحكام المعاملية في لسان الدليل- كلفظ «العقد» و «البيع» و تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(3) ونحوه- ناظر إلى ما هو المعهود عند العرف والعقلاء، فكلّ لفظ استعمل في الإيجاب والقبول وصدق عليه عرفاً العنوان العقدي المطلوب منهما، يكون مجزياً لإنشائه؛ سواء أكان استعماله فيهما بنحو الصراحة، أو المجاز، أو الكناية. هذا ما يناسب المقام، وتفصيل البحث موكول إلى محلّه من كتاب البيع.


1- المائدة( 5): 1 ..
2- البيع، الإمام الخميني قدس سره 1: 320 ..
3- النساء( 4): 29 ..

ص: 32

مسألة 3- يشترط في الموجب والقابل كلّ ما يشترط فيهما في سائر العقود: كالبلوغ (5)

الجهة الثالثة: شرائط المؤمّن والمستأمن
اشارة

5- أمّا الجهة الثالثة لمبحث التأمين، فهي ما تعرّض له الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة من شرائط عقد التأمين، وهي على شطرين: شطر منها يتعلّق بركني العقد؛ وهما الموجب والقابل، وقد ذكرها في هذه المسألة، وشطر آخر منها متعلّق ببقية أركانه، وسيأتي في المسألة الرابعة.

ولا يخفى: أنّ الشروط المطروحة في هذه المسألة- من البلوغ، والعقل، وعدم الحجر، والاختيار، والقصد- كلّها شرائط عامّة لجميع العقود، ولا تختصّ بعقد دون عقد، فكما أنّ عقد البيع والإجارة والصلح والشركة والمضاربة وغيرها، يبطل بالإخلال بواحد من هذه الشروط، فكذلك عقد التأمين. والبحث عن اعتبارها وملاحظة الأدلّة التي اقيمت عليها والنقض والإبرام في بعضها تفصيلًا وإن كان له محلّ آخر- كباب البيع، حيث جرى دأب الباحثين غالباً على طرحها في ذلك الباب- ولكن لا بأس بالتعرّض لها في المقام على سبيل الاختصار استيفاءً لبعض النكات.

1- اعتبار البلوغ

ما استدلّ به على اشتراط البلوغ في المتعاقدين في جميع العقود- ومنها عقد التأمين- وجوه:

ص: 33

الأوّل: الإجماع المدّعى في «الغنية» على بطلان عقد الصبي(1)، وفي «التذكرة» على محجورية الصبي(2).

وفيه: أنّ مثل هذا الإجماع لا يكشف عن رأي المعصوم عليه السلام بعد ما احتملنا بل علمنا أنّ مستند المجمعين في الحكم ببطلان معاملات الصبي، أحد الوجوه الآتية.

الثاني: قول اللَّه سبحانه: وَابتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِن آنَستُم مِنهُم رُشداً فَادفَعُوا إِلَيهِم أَموَالَهُم(3)، بتقريب أنّ الآية تدلّ على أنّ جواز دفع مال الصبي إليه، موقوف ومشروط بالبلوغ والرشد، والمتفاهم عرفاً من ذلك أنّه ما لم يبلغ ولم يرشد لا ينفذ عمله في حيطة أمواله؛ بيعاً كان، أو صلحاً، أو هبة، أو تأميناً، أو غيرها.

وفيه: أنّ الآية أجنبية عن بيان حكم معاملات الصبي، وإنّما هي بصدد بيان جواز دفع أمواله إليه بعد البلوغ والرشد، وعدم جوازه قبلهما، وهذا لا يستلزم- عقلًا ولا عرفاً- عدم نفوذ معاملاته التي يوقعها في زمن صباه.

إلّا أن تقرّب دلالة الآية على المدّعى بوجه آخر، وهو ما أفاده الماتن المحقّق قدس سره بقوله: «ويمكن أن يفهم من مفهوم الآية أنّ غير البالغ والبالغ غير الرشيد، محجوران عن التصرّف الاستقلالي؛ سواء كان بنحو الدفع إليهما وكانا كسائر المالكين، أو لم يدفع إليهما، لكن كانا مستقلّين في معاملاتهما... وذلك لما


1- غنية النزوع: 523 ..
2- تذكرة الفقهاء 2: 73 ..
3- النساء( 4): 6 ..

ص: 34

عرفت من أنّ وجوب الدفع معلول سلب الحجر ورفع ولاية الولي، وفي مقابله عدم سلبه وبقاء ولايته. مضافاً إلى أنّ المناسبة بين الصغر والسفه وعدم الاستقلال، تفيد ذلك»(1).

وبهذا التقريب تصبح الآية دليلًا على بطلان المعاملات المستقلّة من الصبي؛ سواء استقلّ فيها بغير إذن وليّه، أو بإذنه، كما إذا أمره بأن يبيع ويشتري ويتصدّى لجميع الشؤون المرتبطة بالمعاملة.

وأ مّا استقلاله في مجرّد إجراء العقد بإذن وليّه أو غيره- كموكّله- فهو أجنبي عن الآية، ولا دليل على عدم نفوذه، كما قال الماتن المحقّق قدس سره: «نعم، لا دلالة في الآية على حجره عن إجراء الصيغة بعد تمامية المقاولة بين وليّه وغيره، والظاهر عدم استفادة حجره عن الوكالة عن الغير أيضاً، فلابدّ فيهما من التماس دليل آخر»(2).

الثالث:- من الوجوه التي استدلّ بها على اعتبار البلوغ في المتعاقدين- النصوص الواردة في المقام، وهي على طوائف:

الطائفة الاولى: ما دلّت على عدم نفوذ أمر الصبي الشامل- بإطلاقه، أو عمومه- لمعاملاته:

منها: خبر حمران قال: سألت أبا جعفر عليه السلام قلت له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة ويقام عليه، ويؤخذ بها؟ قال: «إذا خرج عنه اليتم وأدرك»... إلى أن قال: «إنّ الجارية ليست مثل الغلام؛ إنّ الجارية إذا تزوّجت


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 20 ..
2- نفس المصدر 2: 15 ..

ص: 35

ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع... والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم، أو يشعر، أو ينبت قبل ذلك»(1).

بتقريب: أنّ قوله عليه السلام في ذيل الخبر: «لا يجوز أمره» بمعنى: لا ينفذ عمله في مثل الشراء والبيع، ولا شكّ في أنّ البيع والشراء لا خصوصية لهما، فالخبر يدلّ بإطلاقه على عدم نفوذ معاملات الصبي بأجمعها، ومنها عقد التأمين.

وفيه أوّلًا: أنّ الخبر مخدوش سنداً بعبد العزيز العبدي، حيث ضعّفه النجّاشي(2).

وثانياً: أنّ الظاهر من عدم جواز أمر الصبي في معاملاته، هو عدم نفوذه فيما صدر منه مستقلًاّ، وأ مّا إذا أجرى العقد بإذن وليّه فلا يشمله الخبر؛ لأنّه لا يصدق عليه أنّه أمر الصبي بقول مطلق، بل هو أمر وليّه، أو لا أقلّ من أنّه يعدّ أمر كليهما، ومقتضى القاعدة حينئذٍ، نفوذه بإذن وليّه سابقاً، أو إجازته لاحقاً.

وإلى هذا الإشكال أشار الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره بقوله: «لكنّ الإنصاف أنّ جواز الأمر في هذه الروايات ظاهر في استقلاله في التصرّف؛ لأنّ الجواز مرادف للمضي، فلا ينافي عدمه ثبوت الموقوف على الإجازة، كما يقال: بيع الفضولي غير ماضٍ، بل موقوف»(3).

ويتفرّع على ذلك أنّ غير البالغ إذا أقدم على الاستئمان من شركة التأمين


1- وسائل الشيعة 1: 43، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمات العبادات، الباب 4، الحديث 2 ..
2- رجال النجاشي: 244/ 641 ..
3- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 ..

ص: 36

بالنسبة إلى ماله وجرى عقد التأمين بينه وبين الشركة، لا يقع باطلًا بالمرّة، بل يقع معلّقاً على إجازة وليّه، فإن رأى فيه المصلحة له وأجاز يصبح صحيحاً نافذاً.

ومنها: ما أرسله الصدوق قدس سره قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا بلغت الجارية تسع سنين دفع إليها مالها، وجاز أمرها في مالها، واقيمت الحدود التامّة لها وعليها»(1).

بتقريب: أنّ الخبر يدلّ- بمقتضى مفهوم الشرط- على أنّ الجارية إذا لم تبلغ تسع سنين، لا يجوز أمرها في مالها أي لا تنفذ تصرّفاتها المالية، ومنها إقدامها على استئمان مالها من شركة التأمين.

وفيه أوّلًا: أنّ الخبر مرسل لا يصلح للاستناد إليه إلّاعلى مبنى من يقول: بأنّ مرسلات الصدوق التي صدّرها بلفظ «قال»- مسنداً لها إلى المعصوم عليه السلام- يكشف عن قطعية الصدور، وإلّا لما أسندها إليه عليه السلام على سبيل الجزم، ولكنّها مجرّد دعوى ليس عليها شاهد. مضافاً إلى أنّ قطعية الصدور عنده باجتهاده وحدسه، لا تكون حجّة لنا وعلينا.

وثانياً: أنّ الخبر لا يدلّ على بطلان معاملات الصبي مطلقاً؛ سواء وقعت مستقلّةً، أو منضمّةً إلى إذن وليّه أو إجازته، وإنّما يدلّ على عدم نفوذها فيما صدرت منه مستقلًاّ فيه؛ ببيان تقدّم في ذيل خبر حمران المتقدّم، فراجع.

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن سِنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سأله أبي وأنا حاضر عن قول اللَّه عزّوجلّ: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ..(2) قال: «الاحتلام».


1- وسائل الشيعة 18: 411، كتاب الحجر، الباب 2، الحديث 3 ..
2- الأحقاف( 46): 15 ..

ص: 37

قال: فقال: يحتلم في ستّ عشر، وسبع عشر سنة، ونحوها؟ فقال: «لا، إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات، وكتبت عليه السيّئات، وجاز أمره، إلّاأن يكون سفيهاً أو ضعيفاً».

فقال: وما السفيه؟ فقال: «الذي يشتري الدرهم بأضعافه». قال: وما الضعيف؟ قال: «الأبله»(1).

ونحوه خبر أبي الحسين الخادم بيّاع اللؤلؤ(2).

ويرد على الخبرين: أنّهما ضعيفان سنداً. مضافاً إلى أنّهما- كسابقيهما- لايدلّان على بطلان عقد الصبي بالمرّة؛ وأ نّه مسلوب العبارة. وإن أوقعه بإذن وليّه أو إجازته أو وكالة عن المالك، وإنّما يدلّان على بطلان تصرّفاته المعاملية المستقلّة ببيان تقدّم في ذيل خبر حمران.

الطائفة الثانية: ما اشتملت على رفع القلم عن الصبي:

منها: مضمرة ابن ظبيان قال: اتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت، فأمر برجمها، فقال عليّ عليه السلام: «أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتّى يحتلم، وعن المجنون حتّى يفيق، وعن النائم حتّى يستيقظ؟!»(3) والبحث في هذا الخبر تارةً يقع عن سنده، واخرى عن دلالته.

أ مّا من جهة السند فقد يناقش فيه تارةً: بإضماره، واخرى: بوقوع حسن بن محمّد السكوني في طريقه، وهو لم يوثّق.


1- وسائل الشيعة 19: 363، كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، الباب 44، الحديث 8 ..
2- وسائل الشيعة 18: 413، كتاب الحجر، الباب 2، الحديث 5 ..
3- وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4، الحديث 11 ..

ص: 38

ولكن لهذا الخبر خصوصية لا تبقي مجالًا للإشكال في سنده، وهي أنّ الشيخ المفيد أعلى اللَّه مقامه الشريف عبّر عنه بقوله: «روت العامّة والخاصّة» فبالنظر إلى هذه النكتة لا يقدح عدم توثيق بعض رجاله، ولا إضماره.

مضافاً إلى ذكر رفع القلم عن الصبي أو جريه عليه بعد البلوغ، في عدّة نصوص، كموثّقة عمّار الساباطي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن الغلام، متى يجب عليه الصلاة... إلى أن قال: «فإن احتلم قبل ذلك فقد وجب عليه الصلاة، وجرى عليه القلم...»(1).

وفي خبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام: «أنّه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقد رفع عنهما القلم»(2).

وأ مّا من جهة الدلالة، فالاستدلال بها على بطلان عقود الصبي- ومنها عقد التأمين في الجملة- مبني على أن يكون المرفوع عن الصبي هو قلم مطلق الأحكام؛ من التكليفية والوضعية، حتّى تندرج صحّة العقد الصادر منه التي هي من الأحكام الوضعية في إطلاقه؛ إذ لو بنينا على أنّ المرفوع عن الصبي: هو خصوص قلم المؤاخذة، لما أمكننا التمسّك به لإثبات بطلان عقوده؛ ضرورة أنّ رفع قلم المؤاخذة لا يستلزم عقلًا- بل ولا عرفاً- رفع الأحكام الوضعية.

ومن هنا ناقش الشيخ الأعظم قدس سره في الاستدلال بهذا الخبر على المدّعى بوجوه ثلاثة:


1- وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4، الحديث 12 ..
2- وسائل الشيعة 29: 90، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 36، الحديث 2 ..

ص: 39

الأوّل: ما ذكره بقوله: «وأ مّا حديث رفع القلم ففيه: أنّ الظاهر منه قلم المؤاخذة، لا قلم جعل الأحكام، ولذا بنينا- كالمشهور- على شرعية عبادات الصبي»(1).

وأجاب عنه المحقّق السيّد الخوئي قدس سره بقوله: «إنّ العقوبة والمؤاخذة- كالمثوبة والاجرة- من الامور التي لا صلة لها بعالم الجعل بوجه، بل هي مترتّبة على الجعل ترتّب الأثر على ذي الأثر، وعليه فلا معنى لتعلّق الرفع بما لم يتعلّق به الجعل، نعم ترتفع العقوبة بارتفاع منشئها؛ أعني به التكاليف الإلزامية، ولكنّه غير رفع المؤاخذة ابتداءً»(2).

وفيه: أنّ ما لا يمكن وضعه ولا رفعه إلّابوضع منشأ انتزاعه ورفعه، إنّما هو استحقاق العقاب، لا نفس العقاب؛ فإنّ الاستحقاق يدور مدار منشأ انتزاعه وجوداً وعدماً؛ وهو التكاليف الإلزامية، فبوضعها ينتزع استحقاق العقاب على عصيانها، وبارتفاعها يرتفع الاستحقاق، وأ مّا العقاب فهو قابل للرفع ثبوتاً مع بقاء أصل التكليف، بل يساعده إثباتاً لسان الشرع في ظاهر الحديث على مسلك الشيخ رحمه الله والمفروض في إشكاله أنّ المرفوع هو نفس المؤاخذة لا استحقاقها، ومن المعلوم أنّ رفعها لا يستلزم رفع الأحكام.

والجدير في الجواب عن إشكال الشيخ قدس سره ما أفاده شيخنا الاستاذ المحقّق الوحيد الخراساني دام ظلّه: من أنّ رفع المؤاخذة وإن كان ممكناً ثبوتاً مع بقاء أصل التكليف، إلّاأنّ في الخبر قرينة لا يمكن بالنظر إليها حمل الرفع على رفع


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 ..
2- مصباح الفقاهة 3: 250 ..

ص: 40

المؤاخذة؛ وهي عطف المجنون والنائم على الصبي، ووجه القرينية أنّ المجنون والنائم لم يجعل في حقّهما التكاليف، ولا يعقل جعلها عليهم مع عدم إمكان امتثالها حال الجنون والنوم؛ إذ لا أثر لهذا الجعل، فلا محالة يكون المرفوع بالنسبة إليهما، هي نفس الأحكام، لا المؤاخذة، ولا استحقاقها، وحينئذٍ لو قلنا: بأنّ المرفوع بالنسبة إلى الصبي هو قلم المؤاخذة- كما عليه الشيخ الأعظم قدس سره- يلزم منه التفريق بين الفقرات الثلاث من جهة تقدير متعلّق الرفع؛ بأن يكون المقدّر في الفقرة الاولى- «أنّ القلم يرفع... عن الصبي حتّى يحتلم»- قلم المؤاخذة، وفي الفقرة الثانية- «وعن المجنون حتّى يفيق» وكذا في الثالثة «وعن النائم حتّى يستيقظ»- قلم الأحكام، وهذا التفريق خلاف الظاهر جدّاً، خصوصاً بعد ملاحظة عدم تكرار رفع القلم في الموارد الثلاثة، بل جمع بينها بقوله عليه السلام: «إنّ القلم يرفع عن ثلاثة» والظاهر منه أنّ القلم المرفوع في كلّ الثلاثة بمعنى واحد.

وبالنظر إلى هذه النكتة يدفع ما أورده الماتن المحقّق قدس سره على إطلاق القلم للأحكام التكليفية والوضعية بقوله: «إلّاأن يقال: لا إطلاق لقوله عليه السلام: «أما علمت أنّ القلم يرفع...» الوارد في ذيل قضية المجنونة؛ لأنّه إشارة إلى أمر معهود وارد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ولعلّ ما هو المعهود هو رفع أمر خاصّ، كقلم التكليف اللازم منه درء الحدّ، أو قلم الحدّ، كما ورد في رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا حدّ على مجنون حتّى يفيق، ولا على صبيّ حتّى يدرك، ولا على النائم حتّى يستيقظ» وبه يفترق عن حديث الرفع؛ فإنّه في مقام البيان، دون هذا الذي ذكر لردع عمر ودرء الحدّ»(1).


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 33 ..

ص: 41

ووجه الدفع: أنّه لا قرينة داخلية في الخبر ولا خارجية، تكشف عن كون اللام في لفظ «القلم» في خطاب أمير المؤمنين عليه السلام لعمر: «أما علمت أنّ القلم يرفع» إشارةً إلى أمر معهود في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كقلم الحدّ، ومجرّد ورود خبر في عدم جريان الحدّ على المجنون والصبي والنائم، لا قرينة فيه على تعيين المراد من «القلم» في هذا الخبر.

بل لنا دعوى العكس بما تقدّم: من أنّ عطف «المجنون» و «النائم» على «الصبي»- بلحاظ أنّهما غير قابلين للتكليف- مع الجمع بينهما وبين الصبي في جملة واحدة «أنّ القلم يرفع عن ثلاثة» شاهد على أنّ رفع القلم عن الصبي على وزان المرفوع في أخويه، وهو مطلق الأحكام، وغرض الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من خطابه لعمر بقوله: «أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة» تنبيهه على أمر مسلّم مقطوع؛ وهو عدم قابلية المجنون والنائم للتكليف، وأنّ الصبي ملحق بهما.

الثاني:- من الوجوه التي أوردها الشيخ الأعظم قدس سره على دلالة خبر ابن ظبيان المتقدّم على بطلان عقد الصبي- ما ذكره بقوله: «وثانياً: أنّ المشهور على الألسنة أنّ الأحكام الوضعية، ليست مختصّة بالبالغين، فلا مانع من أن يكون عقده سبباً لوجوب الوفاء بعد البلوغ، أو على الوليّ إذا وقع بإذنه أو إجازته، كما تكون جنابته سبباً لوجوب غسله بعد البلوغ، وحرمة تمكينه من مسّ المصحف»(1).

والظاهر أنّ غرضه قدس سره من الاستناد إلى قيام الشهرة على ثبوت الأحكام الوضعية في حقّ غير البالغين، هو جعلها قرينة على تعيين المراد من الخبر؛ ببيان أنّ المرفوع- على فرض التنزّل عمّا تقدّم في الإشكال الأوّل من أنّه خصوص


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 ..

ص: 42

المؤاخذة، وقبول أنّه يعمّ الأحكام- لابدّ من التصرّف فيه بحمل الأحكام على خصوص الأحكام التكليفية؛ وذلك بقرينة فهم المشهور الذين أفتوا بثبوت الأحكام الوضعية في حقّ الصبي، وبهذا البيان يظهر أنّ الأحكام التكليفية في حقّ الصبيان مرفوعة، ولكنّ الأحكام الوضعية- ومنها صحّة العقد- باقية في حقّه.

وأجاب عن الإشكال المحقّق السيّد الخوئي قدس سره بقوله: «ولكنّه يناقض ما قد بنى عليه في اصوله؛ من أنّ الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية، وإذا فرضنا انتفاء الحكم التكليفي عن الصبي، فلا منشأ هنا لانتزاع الحكم الوضعي»(1).

وفيه أوّلًا: أنّ كلمات الشيخ الأعظم قدس سره بالنسبة إلى حال الأحكام الوضعية- من جهة استقلالها في الجعل أو عدمه، وانتزاعها من الأحكام التكليفية وكونها مجعولة بتبعها- مضطربة، فالمستفاد من بعض عباراته أنّ الأحكام الوضعية مستقلّة من حيث الجعل، ولا تكون منتزعة من الأحكام التكليفية؛ بمعنى أنّ صحّة العقد وحصول الملكية التي هي من الأحكام الوضعية، ليست منتزعة من حكم تكليفي، كوجوب الوفاء بالعقد المستفاد من قوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(2)، بل هي مجعولة مستقلّة على وزان الأحكام التكليفية، كما أنّ الظاهر من بعضها الآخر أنّها غير مجعولة مستقلًاّ، بل يكون جعلها بتبع جعل الأحكام التكليفية، ومنتزعة منها.

وثانياً:- على فرض قبول استقرار نظر الشيخ قدس سره على تبعية الأحكام الوضعية للتكليفية وانتزاعها منها- أنّه لم يقل بأ نّها منتزعة دائماً من الأحكام التكليفية المنجّزة فقط، بل يمكن عنده انتزاعها من الأحكام التكليفية المعلّقة أيضاً،


1- مصباح الفقاهة 3: 251 ..
2- المائدة( 5): 1 ..

ص: 43

كما صرّح بهذه النكتة في «فرائد الاصول» حيث قال: «ولم يدّع أحد إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف المنجّز حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص؛ حتّى يدفع ذلك بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين: من أنّه قد يتحقّق الحكم الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي، كالصبي والنائم وشبههما»(1).

فللشيخ الأعظم قدس سره على هذا المبنى- بهذه الصراحة- أن يقول في المقام:

بأنّ صحّة عقد الصبي التي هي من الأحكام الوضعية، منتزعة من حكم تكليفي- وجوب الوفاء بالعقد- معلّق على البلوغ، وبهذا البيان لا يناقض كلامه في المقام، ما اختاره في الاصول من تبعية الأحكام الوضعية للأحكام التكليفية وانتزاعها منها.

الثالث: من الوجوه التي أوردها الشيخ الأعظم على الاستدلال بخبر ابن ظبيان على بطلان عقد الصبي، ما سيأتي الإشارة إلى متانته.

إلى هنا انتهينا إلى أنّ المرفوع في الخبر، هو مطلق القلم الشامل للأحكام التكليفية والوضعية والمؤاخذة، كما عليه جماعة، خلافاً للشيخ الأعظم رحمه الله.

فما يقبل النقاش من إشكالات الشيخ الأعظم في المقام على دلالة خبر ابن ظبيان على بطلان عقد الصبي، هو ما ادعاه في إشكاله الأوّل: من أنّ المراد من «القلم» المرفوع عن الصبي هو قلم المؤاخذة، والاستدلال به على بطلان عقوده مبني على عمومية «القلم» لقلم الأحكام، وقد تقدّم في الإيراد عليه أنّ في الخبر قرينة قطعية على أنّ حمل «القلم» في حقّ الصبي على خصوص المؤاخذة، خلاف الظاهر جدّاً، والقرينة هي عطف «المجنون» و «النائم»- اللذين هما غير قابلين للتكليف- على «الصبي» مع الجمع بينهم من جهة بيان الحكم في جملة واحدة؛


1- فرائد الاصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 126 ..

ص: 44

وهي قوله عليه السلام: «إنّ القلم يرفع عن ثلاثة» فإنّ حمل هذا «القلم»- بلفظ واحد- بالنسبة إلى الصبي على قلم المؤاخذة، وعلى قلم الأحكام بالنسبة إلى أخويه من المجنون والنائم، خلاف الظاهر جدّاً.

وهذا شاهد صدق على أنّ القلم المرفوع في حقّ الصبي، من سنخ القلم المرفوع من أخويه، ولا شكّ في أنّه مطلق القلم الشامل للأحكام التكليفية والوضعية والمؤاخذة، إلّاما ثبت من الأحكام الوضعية، بدليل خاصّ أنّه لا يدور مدار التكليف، بل هو موضوع على عنوان خاصّ؛ سواء تحقّق في المكلّف، أو غيره من المجنون والنائم والصبي، كالنجاسة التي هي من الأحكام الوضعية، وجعلت على عناوين خاصّة، كالبول والدم والمنيّ وغيرها، فإنّها لا تختصّ بالمكلّفين، بل تعمّ غيرهم، ومن هنا لو لاقت يد المجنون أو الطفل عين نجاسة، تتنجّس وإن لم يجب عليهم تطهيرها لإتيان ما اشترط بالطهارة.

وهكذا إن أجنب المجنون أو الصبي أو النائم بأيّ موجب، فلا شكّ في أنّ الحكم الوضعي- وهو الجنابة- مجعول في حقّهم وإن لم يكونوا مكلّفين بحكمه التكليفي- وهو وجوب الغسل للصلاة ونحوها ممّا اشترط فيه الطهارة- قبل الإفاقة والبلوغ واليقظة؛ وذلك لأنّ موضوع الجنابة هو مطلق الوطء، أو إنزال المنيّ، ولم يقيّد بكونهما من المكلّف.

وهكذا حال الضمان بالإتلاف، وحصول الملكية بالحيازة.

بل يمكن القول: بأنّ الأحكام التكليفية التي يكون رفعها عن الصبي خلافاً للامتنان عليه وحرماناً له من تحصيل الثواب والكمال كالمستحبّات، غير مرفوعة عنه، كما قال الماتن المحقّق قدس سره: «وأ مّا المستحبّات والأفعال الحسنة عقلًا وشرعاً،

ص: 45

فلا ترفع عنه، وهذا يناسب الامتنان، بل يتلائم مع رفع القلم»(1).

ولكن بعد ذلك كلّه، في دلالة الخبر إشكال آخر لا يمكن لنا معه من الحكم بدلالته على بطلان عقود الصبي مطلقاً؛ مستقلًاّ كان، أم بإذن وليّه أو موكّله، بل لابدّ- بعد النظر إلى هذا الإشكال- من الاقتصار في مفاد الخبر على الحكم بأنّ غايته هو بطلان العقود الصادرة منه عن استقلال، لا ما صدر منه وكان مسبوقاً بإذن وليّه أو موكّله، بل ما كان ملحوقاً بإجازتهما.

وبيان الإشكال: أنّ المرفوع في الخبر وإن كان جميع الآثار التكليفية والوضعية المترتّبة على عقد الصبي؛ من الصحّة، ووجوب الوفاء، وغيرهما، إلّاأنّه فيما كانت معاملته مستقلّة غير مستندة إلى غيره من وليّه أو موكّله، وأ مّا فيما إذا أقدم على العقد بإذنهما، فلا شكّ حينئذٍ في أنّ لمعاملته إضافتين: إضافة إلى نفسه، وإضافة إلى غيره؛ من وليّه أو موكّله في إجراء العقد، كما هو الحال في كلّ عمل نيابي، فإنّ عمل النائب والوكيل له إضافة إلى الوكيل، وإضافة إلى الموكّل، ومن هنا إذا أجرى الصبي عقد البيع بإذن وليّه أو موكّله، فالمباشر في إجراء العقد وإن كان هو الصبي، إلّاأنّه لمّا صدر منه بإذنهما يسند البيع إليهما حقيقةً؛ وبلا عناية ومجاز، وحينئذٍ تلزم ملاحظة كلّ منهما من جهة العمل المعاملي الذي يسند إليه، على أساس القواعد والأدلّة، مستقلًاّ عن الآخر، وغاية ما يستفاد من الخبر- بناءً على تعميم «القلم» إلى الأحكام التكليفية والوضعية، كما تقدّم- هو رفع قلم تلك الأحكام عن الصبي في عمله بالنسبة إلى نفسه، وأ مّا بالنسبة إلى وليّه الذي أذن له في إجراء العقد أو موكّله ويسند إليهما المعاملة، فالخبر أجنبي عن حكمهما، فلابدّ


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 31 ..

ص: 46

من الرجوع إلى دليل آخر استكشافاً لحكمهما، ولا شكّ في أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الإمضاء كقوله سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ(1)، وقوله سبحانه: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(2) أو عمومها، كقوله تعالى: أَوفُوا بِالعُقُودِ(3)، هو الحكم بصحّة المعاملة التي هي حكم وضعي، ووجوب الوفاء الذي هو حكم تكليفي.

وقد أشار إلى هذا الإشكال الشيخ الأعظم قدس سره بعد تنزّله إلى قبول عمومية القلم المرفوع في خبر ابن ظبيان إلى الأحكام التكليفية والوضعية؛ حينما أورد على دلالة الخبر على بطلان عقد الصبي بقوله: «وثالثاً: لو سلّمنا اختصاص الأحكام حتّى الوضعية بالبالغين، لكن لا مانع من كون فعل غير البالغ موضوعاً للأحكام المجعولة في حقّ البالغين، فيكون الفاعل- كسائر غير البالغين- خارجاً عن ذلك الحكم إلى وقت البلوغ»(4).

وبما تقدّم انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي أنّ عقود الصبي إنّما تكون بالنظر إلى مفاد الخبر باطلة؛ فيما كان مستقلًاّ في إنشائها وتدبيرها، وأ مّا إذا كان مأذوناً في الإنشاء من قبل وليّه أو موكّله، فلا تكون باطلة، وعليهما الوفاء بمقتضى إنشائه.

وقد أشار إليه أيضاً الماتن المحقّق قدس سره بقوله: «وكيف كان لو فرض إطلاقه فلا يشمل رفع الأثر عن مجرّد عقده بعد كون تدبير المعاملة تحت نظر الوليّ أو المتعاملين، وإنّما كان الصغير وكيلًا أو مأذوناً في مجرّد إجراء الصيغة؛ لأنّ الظاهر


1- البقرة( 2): 274 ..
2- النساء( 4): 29 ..
3- المائدة( 5): 1 ..
4- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 ..

ص: 47

من رفع القلم عنه، عدم كتب الآثار التي تكتب عليه لو كان كبيراً، وفي إجراء الصيغة لا يكتب أثر على المجري؛ لا له، ولا عليه، فهو خارج عن الحديث موضوعاً. ودعوى استفادة أنّ كلّ ما صدر منه بحكم العدم وأنّ عباراته مسلوبة الأثر، ممنوعة مخالفة لظاهر الرواية»(1).

الطائفة الثالثة: ما تضمّنت أنّ عمد الصبي وخطأه واحد، وهذه الطائفة على أصناف ثلاثة:

الأوّل: ما اشتمل على هذا المضمون ولم يذيّل برفع القلم عن الصبي، ولا بتحمّل العاقلة خطأه، كصحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «عمد الصبي وخطأه واحد»(2).

الثاني: ما تضمّن الحكم بأنّ عمده خطأ، مذيّلًا بتحمّل العاقلة خطأه، كموثّقة إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: عمد الصبيان خطأ؛ يحمل على العاقلة»(3).

وفي سند الخبر غياث بن كلّوب، وقد اختلف في وثاقته، وقد ذكر الشيخ في «العدّة»: «أنّه عامّي قد عمل بأخباره الخاصّة» وهذا شهادة بتوثيقه.

ومن هذا القبيل ما عن «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «ما قتل المجنون المغلوب على عقله والصبي فعمدهما خطأ على عاقلتهما»(4).


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 33 ..
2- وسائل الشيعة 29: 400، كتاب الديات، أبواب العاقلة، الباب 11، الحديث 2 ..
3- وسائل الشيعة 29: 400، كتاب الديات، أبواب العاقلة، الباب 11، الحديث 3 ..
4- مستدرك الوسائل 18: 418، كتاب الديات، أبواب العاقلة، الباب 8، الحديث 4 ..

ص: 48

وهكذا ما عن «الجعفريات» عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ليس بين الصبيان قصاص؛ عمدهم خطأ يكون فيه العقل»(1).

الثالث: ما تضمّن الحكم بأنّ عمده خطأ، وتذيّل برفع القلم عنه، وهو خبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام: «أنّه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقد رفع عنهما القلم»(2). والخبر ضعيف بأبي البختري.

ويلاحظ على الصنف الثاني منها المذيّل بتحمّل العاقلة خطأه: أنّه لا يمكن الاستدلال به على بطلان عقود الصبي؛ وذلك لشهادة ذيل الخبر باختصاص ما في صدره- من استواء عمد الصبي وخطأه- بباب الجنايات؛ ضرورة أنّ تحمّل العاقلة خطأه ليس إلّافيها.

وأ مّا الصنف الأوّل منها- وهو صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام:

«عمد الصبي وخطأه واحد»- فهو في نفسه مطلق، فيمكن أن يتمسّك بإطلاقه على المدّعى؛ ببيان أنّ إطلاق تنزيل عمد الصبي في الصحيحة منزلة خطأه، يقتضي أن تكون جميع عقوده وإيقاعاته التي صدرت منه عن قصد وعمد، بحكم الخطأ من حيث عدم ترتّب الآثار، فكما أنّها إذا صدرت من البالغ خطأً، لا تترتّب عليها آثارها، فكذلك إذا صدرت من الصبي عمداً.

وممّن استظهر الإطلاق للصحيحة الشيخ قدس سره في «المبسوط» في مسألة ارتكاب الصبي عن عمد محرّمات الإحرام الموجبة للكفّارة، حيث ذهب إلى عدم


1- مستدرك الوسائل 18: 418، كتاب الديات، أبواب العاقلة، الباب 8، الحديث 5 ..
2- وسائل الشيعة 29: 90، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 36، الحديث 2 ..

ص: 49

وجوبها عليه في غير الصيد، وقال: «وإن قلنا: بأ نّه لا يتعلّق به شي ء- لما روي عنهم عليهم السلام: «أنّ عمد الصبي وخطأه سواء» والخطأ في هذه الأشياء لا تتعلّق به كفّارة من البالغين- كان قوياً»(1).

ومثله الحلّي في «السرائر»(2).

ولكنّ المحقّق النائيني قدس سره ناقش في إطلاق الصحيحة، وحملها على خصوص باب الجنايات، واستشهد عليه بوجهين:

أوّلهما: أنّ تذيّل هذه الجملة: «عمد الصبي وخطأه واحد» في بعض الأخبار- كموثّقة عمّار المتقدّمة- بكون ديته على عاقلته، قرينة على إرادة ذلك منه حتّى في الأخبار الغير المذيّلة بذاك الذيل، كصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة.

ثانيهما: أنّ المتعارف في التعبير عن هاتين الكلمتين- أعني «العمد» و «الخطأ»- هو باب الجنايات، وباب كفّارة الإحرام، وهذا التعارف أيضاً يوجب صرفهما عن الظهور في العموم؛ بحيث لا يمكن أن يستدلّ بالخبر المشتمل عليها على رفع القلم عن الصبي، كما لا يخفى»(3).

ولكن كلا الوجهين لا يخلو من الإشكال:

أ مّا الوجه الأوّل: فلأنّ مجرّد تذيّل بعض تلك النصوص بقيد «تحمله العاقلة» لا يوجب حمل المطلق منها على المقيّد، بعد ملاحظة أنّهما مثبتان لم يكن الحكم فيهما واحداً، ولا تنافي بينهما؛ فإنّ قوله عليه السلام: «عمد الصبي وخطأه


1- المبسوط 1: 329 ..
2- السرائر 1: 636- 637 ..
3- المكاسب والبيع( تقريرات المحقّق النائيني) الآملي 1: 401 ..

ص: 50

واحد» في الصحيحة المتقدّمة مثبت لحكم؛ وهو اتحاد عمد الصبي وخطأه مطلقاً في باب الجنايات وغيره، كما أنّ قوله عليه السلام في الموثّقة: «عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة» أيضاً مثبت لحكم آخر؛ وهو اتّحاد عمد الصبي مع خطأه في خصوص باب الجنايات، وقد قرّر في الاصول- وعليه المحقّق النائيني قدس سره- أنّ في الخطابين المثبتين اللذين لا يكون الحكم فيهما واحداً، لا يجري قانون الإطلاق والتقييد. ولو جاز التقييد في المقام، للزم منه القول بالتقييد في جميع الموارد التي ورد فيها خطابان مثبتان؛ أحدهما مطلق، والآخر مقيّد، ولم يكن الحكم فيهما واحداً، وهو قدس سره لا يقول به أبداً.

وأ مّا الوجه الثاني:- وهو أنّ تعارف هاتين الكلمتين «العمد» و «الخطأ» إنّما يكون في خصوص بابي الجنايات وكفّارات الإحرام، وهذا يوجب صرفهما عن الظهور في العموم في بقية الموارد التي استعمل فيها بلا قيد- ففيه: أنّ انصراف مطلق أو عامّ إلى فرد خاصّ منهما، لابدّ له من منشأ وموجب اقتضاه، وقد قرّر في الاصول أنّ التعارف في الوجود لا يوجب الانصراف، وما يوجبه إنّما هو التشكيك في الصدق من حيث الظهور والخفاء المنتهي إلى كثرة الاستعمال وغلبته، فكلّما كان صدق المطلق على فرد ظاهراً وعلى آخر خفياً، ينصرف إلى الأوّل ويحمل عليه، كما في قوله عليه السلام: «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» فإنّ صدق عنوان «ما لا يؤكل» على محرّم الأكل من الحيوان ظاهر، وعلى الإنسان- الذي هو من الحيوان أيضاً- خفيّ، وهذا يوجب انصرافه إلى غير الإنسان. والمقام من هذا القبيل؛ إذ صدق كلمتي «العمد» و «الخطأ» في غير باب الجنايات ليس خفياً حتّى يوجب انصرافهما إليها.

وقد أشار الشيخ الأعظم قدس سره إلى تضعيف حمل الصحيحة على خصوص باب

ص: 51

الجنايات بقوله: «والأصحاب وإن ذكروها في باب الجنايات، إلّاأنّه لا إشعار في نفس الصحيحة- بل وغيرها- بالاختصاص بالجنايات»(1).

وأورد الماتن المحقّق قدس سره على دلالة صحيحة ابن مسلم «عمد الصبي وخطأه واحد» على بطلان عقد الصبي- بعد التصريح بأ نّها مطلقة في نفسها، ومقتضى الصناعة لزوم الأخذ بإطلاقها- بقوله: «لكن ورود جميع الروايات المتقدّمة وغيرها الواردة في المجنون والأعمى في مورد الجناية وكون الحكم فيها معهوداً، يوهن الإطلاق؛ لقوّة احتمال اتكال المتكلّم على تلك المعهودية، فلم يذكر القيد»(2).

وفيه: أنّه قدس سره لم يذكر بعد قبوله إطلاق الصحيحة بالنسبة إلى غير باب الجنايات ومنه معاملات الصبي، أنّه كيف يوهن هذا الإطلاق بالروايات الواردة في المجنونة والأعمى في مورد الجناية المشتملة على أنّ عمدها خطأ؟ فهل اتكال المتكلّم على المعهودية في المقام، يكون من باب الانصراف، أو من باب اتكال المتكلّم على القدر المتيقّن في مقام التخاطب وقدحه بانعقاد الإطلاق، كما عليه المحقّق الخراساني في «الكفاية»(3)؟ وكلّ منهما ممنوع:

أ مّا الأوّل: فلما تقدّم في الإشكال على المحقّق النائيني من أنّ الانصراف المستقرّ لابدّ أن ينشأ من التشكيك في الصدق من حيث الظهور والخفاء المنتهي إلى كثرة الاستعمال وقلّته، ولا شكّ في أنّ صدق «عمد الصبي خطأ» ليس بخفيّ في غير باب الجنايات؛ لا بمفرداته، ولا بتركيبه.

وأ مّا احتمال اتكال الشارع على معهودية مفاد الأخبار الواردة في خصوص


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 115 ..
2- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 35 ..
3- كفاية الاصول: 287 ..

ص: 52

باب الجنايات، ففيه:- مضافاً إلى منع هذه المعهودية في عصر صدورها، وأ نّى لنا بإحرازها؟!- أنّ مجرّد احتمال الاتكال عليها وإن كان قوياً، إلّاأنّه لا يعتمد عليه عند العقلاء بعد قبول الإطلاق للصحيحة.

وأ مّا الثاني: فلأ نّه على فرض قبول كون المتيقّن حال التخاطب من قوله عليه السلام: «عمد الصبي وخطأه واحد» هو خصوص باب الجنايات، إلّاأنّ الكبرى- وهي قادحية وجود القدر المتيقّن بانعقاد الإطلاق- ممنوعة عنده قدس سره كما صرّح بالمنع بقلمه الشريف في «مناهج الوصول» حيث قال في موضع منه: «وأ مّا انتفاء القدر المتيقّن، فعلى ما ذكرنا في معنى الإطلاق لا ريب في عدم الاحتياج إليه، بل لا معنى له»(1).

وقال في موضع آخر منه: «لكنّ اعتبار انتفائه في مقدّمات الحكمة محلّ إشكال؛ لأنّ المتكلّم إذا كان في مقام البيان، وجعَل الطبيعة موضوع حكمه، وتكون الطبيعة- بلا قيد- مرآةً بذاتها إلى جميع الأفراد، ولا يمكن أن تصير مرآةً لبعضها إلّا مع القيد، فلا محالة يحكم العقلاء بأنّ موضوع حكمه هو الطبيعة السارية في جميع المصاديق، لا المتقيّدة، ولهذا ترى أنّ العرف لا يعتني بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب وغيره، فلا يضرّ ذلك بالإطلاق إذا لم يصل إلى حدّ الانصراف؛ قيل بمقالتنا أو لا»(2).

والحاصل: أنّ دلالة الصحيحة على بطلان عقد الصبي- بعد فرض إطلاقها كما افترضه قدس سره- سالمة عن هذا الإشكال.


1- مناهج الوصول 2: 327 ..
2- نفس المصدر 2: 327- 328 ..

ص: 53

والحقّ في الإشكال على دلالة الصحيحة على بطلان عقود الصبي: ما أورده جماعة من المحقّقين من النقاش في أصل انعقاد الإطلاق لها بالنسبة إلى المقام.

والإشكال في الإطلاق تارةً: يرجع إلى الإشكال في أصل وجود المقتضي للإطلاق، واخرى: إلى ابتلائه بالمانع:

أ مّا من جهة الإشكال في المقتضي فلوجهين:

الأوّل: أنّ الموضوع في الصحيحة هو عنوان وجودي «عمد الصبي» كما أنّ المحمول فيها عنوان وجودي آخر «خطأ» وتنزيل الأوّل منزلة الثاني، إنّما يكون في مورد قابل للتقسيم إلى العمد والخطأ، وما لا ينقسم إليهما فهو خارج عن نطاق الصحيحة، ومن المعلوم أنّ الانقسام إلى العمد والخطأ لا يتصوّر إلّافيما كان لكلّ منهما أثر خاصّ يترتّب عليه قهراً، وهذه الخصوصية موجودة في باب الجنايات، كالقتل مثلًا، حيث إنّ للعمدي منه أثراً خاصّاً؛ وهو القصاص، وللخطأي منه حكماً خاصّاً؛ وهو الدية، ولهذا يصحّ تقسيمه إلى العمدي والخطأي، وفي مثله يصحّ تنزيل الخطأ منزلة العمد من حيث ترتيب آثاره عليه، وأ مّا الأسباب المعاملية فهي لا تنقسم إلى العمدية والخطأية؛ وذلك لعدم ترتّب الأثر فيها إلّاعلى ما يقع منها عن القصد والعمد، فالأمر في المعاملة التي هي موضوع للأثر، يدور بين الوجود والعدم؛ فإن وجدت يترتّب عليها، وإلّا فلا، وأ مّا المعاملة الخطائية- وهي الواقعة لا عن قصد- فلا أثر خاصّ لها، وقد عرفت أنّ مناط صحّة التقسيم إلى العمدي والخطأي في كلّ أمر إنّما هو ترتّب أثر خاصّ على كلّ منهما، وهذا المناط غير موجود في المعاملات، وحينئذٍ لا معنى لتنزيل عمد الصبي في العقود على خطأه فيها؛ بعد أن لم يكن للمنزّل عليه أثر خاصّ.

وهذا مراد المحقّق الأصفهاني بقوله: «وفيه أنّ الظاهر مقابلة العمد مع

ص: 54

الخطأ، لا القصد مع عدمه، وإنّما يتصوّر العمد والخطأ فيما أمكن انقسامه إليهما؛ بأن يكون وقوع مسبّبه عليه قهراً معقولًا، فتارةً: يصيب القصد بالإضافة إلى ما يترتّب عليه، واخرى: يخطئ عنه، كالرمي الذي يترتّب عليه القتل المقصود به تارةً، وغير المقصود به اخرى، ولا يترتّب على الأسباب المعاملية شي ء قهراً حتّى يكون تارةً: مقصوداً من السبب، واخرى: غير مقصود منه؛ ليوصف المترتّب عليه بأ نّه عمدي تارةً، وخطأي اخرى»(1).

وقد أجاب عن هذا الإشكال الإمام الراحل بقوله: «ففيه ما لا يخفى؛ لأنّ الظاهر من قوله عليه السلام: «عمده خطأ» أو «عمده وخطأه واحد» أنّ كلّ ما صدر منه عمداً خطأٌ تنزيلًا، فالعقد الصادر منه على قسمين: قسم صدر عمداً، وقسم خطأً، كمن أراد تزويج فاطمة بزيد، فأخطأ وقال: زوّجت سكينة عمراً، أو أراد إجارة ملك فأنشأ بيعه خطأ، فكما أنّ الإنشاء الخطأي لا يترتّب عليه أثر، فكذلك العمدي، فكلّ ما صدر منه وأمكن تقسيمه إلى العمد والخطأ كان عمده بمنزلته، والاختصاص بالأفعال التي ذكرها بلا مخصّص.

نعم، لابدّ في التنزيل من أثر إمّا في المنزّل، أو المنزّل عليه، أو فيهما، فقد يكون للفعل الخطأي أثر، وفي العمدي أثر آخر، وقد يكون في العمدي أثر دون الخطأي، أو العكس، وفي جميعها يصحّ التنزيل، وأثره ثبوت الأثر تارةً، وسلبه اخرى، وثبوت وسلب ثالثة»(2).

ولكنّ الإنصاف- على ما أفاده شيخنا الاستاذ المحقّق دام ظلّه-: أنّ


1- حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني قدس سره 2: 18 ..
2- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 36 ..

ص: 55

إشكال المحقّق الأصفهاني لا يدفع بهذا الجواب؛ وذلك لأنّ كفاية أثر ما في صحّة التنزيل ولو كان بسلب أثر خاصّ، إنّما يتمّ فيما نزّل شي ء منزلة عدم نفسه، لا منزلة عدم شي ء آخر، فلو قيل: «عمد الصبي كلا عمد» يكفي في صحّة هذا التنزيل، سلب ترتّب أثر العمد على عمد الصبي، وأ مّا إذا نزّل شي ء وجودي منزلة شي ء وجودي آخر- كما في قوله عليه السلام: «عمد الصبي خطأ»- فلا يكفي ذلك في صحّة التنزيل، ويظهر ذلك بعد إلفات النظر إلى نكتتين:

النكتة الاولى: أنّ الظاهر من الصحيحة «عمد الصبي وخطأه واحد» أنّ كلًاّ من المنزّل «عمد الصبي» والمنزّل عليه «خطأه» أمر وجودي، والتنزيل بين الأمرين الوجوديين، يقتضي أن يكون للمنزّل عليه أثر يختصّ به حتّى يقوم المنزّل- بسبب التنزيل- مقامه، وهذا كقوله عليه السلام: «الطواف بالبيت صلاة» فإنّ الصلاة- وهي المنزّل عليها- أمر وجودي لها آثار خاصّة بها؛ من اعتبار الطهارة من الحدث الأكبر، والأصغر، ومن الخبث، والنية، وهكذا، وهذه الآثار تترتّب على الطواف الذي هو أمر وجودي أيضاً بسبب التنزيل، وهكذا الحال في نظائره، نعم إذا نزّل أمر وجودي على عدم نفسه، فإنّه لا يعتبر أن يكون للمنزّل عليه أثر خاصّ، بل يكفي مجرّد سلب الأثر المترتّب على وجوده، كما إذا قيل: «عمد الصبي كلا عمد».

النكتة الثانية: أنّ الأصل في كلّ عنوان اخذ في عقد الوضع أو الحمل من الدليل، هو الموضوعية؛ بمعنى أنّ الأثر والحكم يترتّب على نفس العنوان بما هو هو، لا بما أنّه طريق إلى عنوان آخر هو الموضوع للحكم حقيقةً، ومن هنا لا يجوز لنا إزالة عنوان اخذ في الدليل عن الموضوعية، وجعله طريقاً إلى عنوان آخر.

ونتيجة هذه النكتة في المقام: أنّه لا يجوز لنا أن نأخذ عنوان المنزّل عليه

ص: 56

- «خطأ»- طريقاً إلى عنوان آخر «لا عمد» حتّى يصير قوله عليه السلام في الصحيحة المتقدّمة: «عمد الصبي وخطأه واحد» مساوقاً لقولنا: «عمد الصبي كلا عمد» ويقال حينئذٍ: إنّه يكفي في صحّة تنزيل عمد الصبي منزلة خطأه، سلب أثر عمده عن خطأه، فبالنظر في هذه النكتة يجب حفظ عنوان المنزّل عليه- «خطأ»- على ما هو ظاهره من الموضوعية.

كما أنّ بالنظر إلى النكتة الاولى، يجب أن يكون للمنزّل عليه أثر يختصّ بعنوانه، ومن المعلوم أنّه ليس لعنوان الخطأ في السبب المعاملي، أثر خاصّ، وما يترتّب على هذا العنوان إنّما هو سلب أثر السبب المعاملي الصحيح الواقع عن قصد وعمد؛ بمعنى أنّ من أراد إجارة ملكه فأنشأ بيعه خطأ، يقال في حقّه: «إنّ بيعه باطل، ولا أثر له» ولكن ليس سلب آثار الصحّة عن هذه المعاملة، أثراً لعنوان البيع الخطأي، بل هو أثر لعدم قصد عنوان ذي أثر؛ وهو الإجارة الواقعة عن العمد والقصد، فلا محالة يلزم من ذلك أن يكون عنوان «البيع الخطأي» الذي هو الموضوع بحسب الظاهر للأثر- وهو سلب آثار الصحّة- طريقاً إلى ما هو الموضوع الأصيل لهذا الأثر؛ وهو عدم تحقّق الإجارة المقصودة العمدية، وقد عرفت أنّه خلاف الأصل، فلابدّ من القول بخروج مثل ذلك عن الصحيحة: «عمد الصبي وخطأه واحد» حتّى لا نرتكب خلاف الأصل المتقدّم.

ونتيجة ذلك كلّه: أنّ المعاملات والعقود بأجمعها، خارجة عن نطاق الصحيحة، فيبقى إشكال المحقّق الأصفهاني قدس سره بلا جواب.

الوجه الثاني:- من وجهي الإشكال على دلالة صحيحة محمّد بن مسلم «عمد الصبي وخطأه واحد» على بطلان عقود الصبي- ما أورده المحقّق

ص: 57

الإيرواني قدس سره(1)، وتبعه جمع من الأجلّاء، منهم المحقّق السيّد الخوئي قدس سره(2)، وملخّصه أنّ التعبير في أخبار الباب وقع هكذا: «عمد الصبي وخطأه واحد» وهذا اللسان إنّما يعبّر به فيما كان لكلّ من العمد والخطأ من البالغين، حكم في الشريعة على خلاف الآخر، ففي هذه الموارد يقصد بالتعبير المتقدّم إفادة عدم تعدّد الحكم في خصوص الصبي؛ وأنّ حكم العمد والخطأ في حقّه واحد، ولا يترتّب على عمده، حكم عمد البالغين، بل يترتّب عليه حكم خطأهم، وهذه الخصوصية لا توجد إلّافي باب الجنايات؛ لأنّها لو صدرت من الجاني البالغ عن عمد أوجبت القصاص، وإن صدرت منه خطأ أوجبت الدية على عاقلته، ففي مثله إن صدر من الصبي عمداً فحكمه حكم خطأ البالغ؛ وهو ثبوت الدية على العاقلة، بخلاف باب المعاملات؛ وذلك لعدم وجود معاملة إذا صدرت من البالغين عمداً، كان لها أثر خاصّ مغاير لما إذا صدرت منهم خطأ.

ودفع الماتن المحقّق قدس سره هذا الإشكال بقوله: «إنّ الأظهر في مثل هذا التعبير، إرادة سلب الأثر عن العمد، كما يقال: «فلان قوله وعدم قوله سواء» يراد أنّه لا يترتّب على قوله أثر، ولو منع هذا الظهور فلا أقلّ من إطلاقه لكلا الموردين، فلا وجه لاختصاصه بما ادعى»(3).

وفيه: أنّ الكلام إذا انتهى إلى الظهور والاستظهار، فللمحقّق الإيرواني أن يقول: بأنّ الظهور لابدّ له من مناط، ومناطه كون اللفظ قالباً للمراد ومبرزاً له، ومن


1- حاشية المكاسب، المحقّق الإيرواني قدس سره 2: 106 ..
2- مصباح الفقاهة 2: 255 ..
3- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 36 ..

ص: 58

المعلوم أنّ غرض المتكلّم إن كان إفادة سلب أثر العمد عن عمد الصبي، لكان عليه أن يقول: «عمد الصبي كلا عمد» ولا يجوز له أن يقول: «عمد الصبي وخطأه واحد» أو يقول: «عمد الصبي خطأ...» وإنّما يعبّر هكذا فيما إذا أراد ترتيب أثر الخطأ على عمد الصبي، فيعود الإشكال. هذا كلّه بالنسبة إلى الإشكال المتوجّه إلى إطلاق الصحيحة من جهة المقتضي.

وأ مّا الإشكال عليه من جهة ابتلائه بالمانع، فبيانه أنّ الالتزام بانعقاد الإطلاق للصحيحة: «عمد الصبي وخطأه واحد» بالنسبة إلى غير باب الجنايات من المعاملات والعبادات، يلزم منه تأسيس فقه جديد؛ إذ يلزم منه القول بجواز تكلّم الصبي عمداً في صلاته، وكذا جواز قهقهته فيها، وعدم استقراره حال القيام عمداً، وكذا جواز تركه لجميع الأجزاء غير الركنية التي لا تبطل الصلاة بالإخلال بها خطأ من البالغين. بل يلزم جواز زيادة جزء أو أجزاء في صلاته.

وهكذا يلزم منه القول بصحّة صومه مع ارتكابه لمفطراته، حيث إنّها لا تبطله إذا وقعت عن خطأ، فإذا فرض أنّ عمد الصبي في حكم خطأه مطلقاً، يجب الالتزام بصحّة صومه عند ارتكابه المفطرات.

وكذا يلزم أن يجوز له، ارتكابه جميع محرّمات الإحرام وضعاً؛ بمعنى عدم تعلّق كفّارة به، إلّافي الصيد، حيث ثبتت فيه الكفّارة مطلقاً وإن وقع لا عن عمد، وهكذا.

ومن المقطوع أنّ هذه اللوازم التي تترتّب على القول بأخذ الإطلاق من الصحيحة، تكون على خلاف ضرورة الفقه والمذهب، ولم يلتزم بها أحد.

ولا يمكننا- دفعاً لها- أن نقول بخروج هذه الموارد عن الصحيحة بالتخصيص؛ لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن، فلا معنى لحمل الصحيحة:

«عمد الصبي وخطأه واحد» على معنى عامّ شامل لجميع الأبواب على سبيل

ص: 59

ضرب القاعدة، ثمّ نقول بخروج أكثر الموارد وبقاء أفراد نادرة تحته؛ فإنّه مستهجن جدّاً عند العقلاء، ومخالف لما عليه الشارع في طريق تقنيناته واسلوب جعل أحكامه. وهذا شاهد صدق على عدم إرادة الإطلاق والعموم في الصحيحة لجميع الأبواب، بل المراد منها خصوص باب الجنايات التي للفرد العمدي منها أثر خاصّ مغاير للأثر الخطأي منها، وحينئذٍ يكون مفاد الصحيحة تنزيل الجنايات العمدية من الصبي، منزلة الخطائية منها، فتترتّب عليها أحكام الخطائية.

وأ مّا خبر أبي البختري المتقدّم، فقد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ ذيله «وقد رفع عنهما القلم» علّة لقوله: «تحمله العاقلة» المقتضي لعدم مؤاخذة الصبي والمجنون بمقتضى الجناية العمدية، أو أنّ الذيل معلول للحكم بكون عمدهما خطأ، المذكور في قوله: «عمدهما خطأ» وتفصيل هذا البحث موكول إلى محلّه ولا يسع هذه الرسالة. والذي يسهّل الخطب أنّ الخبر مخدوش سنداً بأبي البختري؛ فإنّه كنية وهب بن وهب بن عبداللَّه، الذي قال فيه النجاشي: «كان كذّاباً وله أحاديث مع الرشيد في الكذب»(1).

وعلى ضوء ما تقدّم ظهر: أنّه لا دليل لنا على أنّ الصبي مسلوب العبارة، ولا والعقل (6)،

أنّ العقد الذي ينشئه بإذن وليّه بل إجازته أو بإذن موكّله باطل، وما يساعد عليه الدليل إنّما هو بطلان معاملاته فيما صدرت منه مستقلًاّ فيها غير مسبوقة بإذن وليّه، ولا ملحوقة بإجازته. ومن هنا لو أقدم غير بالغ على استئمان ماله من شركة


1- رجال النجاشي: 430/ 1155 ..

ص: 60

التأمين، وأجرى العقد؛ ولو بتدوينه في الوفاقية الرائجة بين الشركة والمستأمن، فإن كان مسبوقاً بإذن وليّه أو ملحوقاً بإجازته، يكون صحيحاً، وإلّا فهو باطل.

2- اعتبار العقل

6- من شرائط المتعاقدين في جميع العقود- ومنها عقد التأمين- العقل، وهو أمر متسالم عليه بين الأصحاب، بل أرسله كثير منهم إرسال المسلّمات، فلا يحتاج إلى البحث والاستدلال. ومن هنا لم يتعرّض للبحث عنه تفصيلًا كثير منهم، بل اقتصروا على الإشارة إلى تسالم الأصحاب على اعتباره، كما في «الجواهر» حيث قال: «بل لا أجد فيه خلافاً، بل الإجماع بقسميه عليه، بل الضرورة من المذهب، بل الدين»(1). ولكن مع ذلك لا بأس بالتعرّض للوجوه التي يمكن الاستدلال بها على ذلك، وهي المنشأ لتسالمهم.

فنقول: يدلّ على اعتباره- مضافاً إلى أنّ فقد العقل في بعض مراتبه، يوجب الإخلال بالقصد الذي هو من مقوّمات العقد؛ ضرورة أنّ بعض المجانين، لا يتمشّى منهم القصد، ويكون كالبهائم- استقرار السير العقلائية العريقة في جميع معاملاتهم على عدم المعاملة مع المجنون، وعدم ترتيب الأثر المعاملي عليها لو فرض وقوعها، بل يرونه مسلوب العبارة، ودائرة هذه السيرة لا تختصّ بما كان المجنون فاقداً للقصد، بل هي سارية بالنسبة إلى المجنون الذي يتمشّى منه القصد أيضاً؛ فإنّ العرف والعقلاء- وهم المرجع الوحيد في تحديد صدق العناوين المعاملية


1- جواهر الكلام 22: 265 ..

ص: 61

وتحقّقها- لا يعدّون إنشاء المجنون لعقد البيع مثلًا، محقّقاً لعنوان «البيع» مطلقاً وإن كان قاصداً للمعنى، ومن هنا فمع قطع النظر عن قيام الدليل على بطلان عقود المجنون، تكون أدلّة الإمضاء- كقوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(1) و أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ(2)، و إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(3)- قاصرةً عن الشمول لمعاملاته؛ لأنّ هذه الآيات ناظرة إلى إمضاء ما يراه العرف مصداقاً للعقد، والبيع، والتجارة عن تراضٍ، وما صدر عن المجنون لا يرونه مصداقاً لهذه العناوين المأخوذة موضوعاً للحكم بالنفوذ في تلك الآيات المتصدّية للإمضاء.

وبهذا البيان لا تصل النوبة لإثبات ذلك إلى التمسّك بخبر ابن ظبيان قال:

«اتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت، فأمر برجمها، فقال عليّ عليه السلام: أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتّى يحتلم، وعن المجنون حتّى يفيق، وعن النائم حتّى يستيقظ؟!»(4)، حتّى يناقش فيه تارةً: بإضماره، واخرى: بما تقدّم من وعدم الحجر (7)،

الشيخ الأعظم قدس سره: من أنّ المرفوع هو خصوص قلم المؤاخذة، لا الأحكام، والاستدلال به مبني على إطلاق المرفوع للأحكام حتّى يشمل مثل صحّة العقد التي هي من الأحكام الوضعية، وقد مرّ الجواب عنه.


1- المائدة( 5): 1 ..
2- البقرة( 2): 274 ..
3- النساء( 4): 29 ..
4- وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4، الحديث 11 ..

ص: 62

3- اعتبار عدم الحجر
اشارة

7- من شرائط المتعاقدين في جميع العقود- ومنها عقد التأمين- عدم الحجر. والحجر تارةً: يكون ناشئاً من عدم البلوغ. واخرى: من الجنون، وقد تقدّم البحث عنهما، وثالثة: يكون ناشئاً من الفلس ومنع الحاكم، ورابعة: من السفه، وخامسة: من الرقّية، وسادسة: من المرض المنتهي إلى الموت، فلنبحث عن حكم عقد كلّ واحد منهم على ضوء ما تقتضيه الأدلّة والقواعد.

حجر المفلّس

أ مّا حجر المفلّس بعد حكم الحاكم ومنعه إيّاه عن التصرّف في أمواله، فهو متسالم عليه بين الأصحاب خلافاً للمحدّث البحراني قدس سره(1).

وقد ادعى المقدّس الأردبيلي قدس سره عدم الدليل عليه إلّاالإجماع(2)، ولكن يمكن الاستدلال على ذلك بمثل موثّقة عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام عن أبيه: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يفلس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثمّ يأمر به فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسّم بينهم» يعني ماله(3).

وفي معتبرة غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يفلّس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثمّ يأمر به فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى


1- الحدائق الناضرة 20: 383 ..
2- مجمع الفائدة والبرهان 9: 242 ..
3- وسائل الشيعة 18: 416، كتاب الحجر، الباب 6، ذيل الحديث 1 ..

ص: 63

باعه فقسّم بينهم» يعني ماله(1).

بتقريب: أنّ تفليس الإمام عليه السلام ليس له معنى غير منعه المديون المفلس عن التصرّف في أمواله، وهو ملازم لمحجوريته عن التصرّف.

وفي «الجواهر»: «وكيف كان فلا ينبغي الشكّ في أصل جواز الحجر بالفلس؛ على معنى منع التصرّف. ولعلّ ذلك من مقتضى نصبه حاكماً أيضاً»(2).

والحاصل: أنّ المفلّس بعد اجتماع الشروط الأربعة- ثبوت الديون عند الحاكم، وحلولها، وقصور أمواله عنها، وطلب أربابها الحجر- يكون محجوراً عن التصرّف في أمواله التي تعلّق بها حقّ الغرماء.

وأ مّا العقد الذي أجراه المفلّس على مال غيره وكالةً عنه، أو أنشأه على مال نفسه بإذن غرمائه، فلا دليل على بطلانه وأ نّه مسلوب العبارة؛ إذ مفاد الموثّقة والمعتبرة المتقدّمتين، ليس أكثر من محجوريته عن التصرّف في ماله بغير إذن من غرمائه، وأ مّا تصدّيه لعقد البيع مثلًا على ماله بإذنهم أو إجازتهم، أو مال غيره وكالة عنه، فهما أجنبيتان عن حكمه، ولا دليل على بطلانه، كما أنّه غير محجور عن التصرّفات غير المالية، كالطلاق، واللعان، والخلع، واستيفاء القصاص، بل والنكاح بشرط عدم إيقاعه العقد على المال الذي تعلّق به حقّ الغرماء.

ونتيجة ذلك في المقام: أنّه لو أقدم المفلّس بعد حجره على استئمان أمواله التي تعلّق بها حقّ الغرماء ورجع إلى شركة التأمين واستأمنها مع منع غرمائه عنه، يقع عقد التأمين باطلًا، وأ مّا إذا أوقعه بإذن غرمائه أو إجازتهم، يقع صحيحاً.


1- وسائل الشيعة 18: 416، كتاب الحجر، الباب 6، الحديث 1 ..
2- جواهر الكلام 25: 282 ..

ص: 64

حجر السفيه

مقتضى التحقيق أنّه لا دليل على محجوريته مطلقاً وأ نّه مسلوب الاعتبار حتّى بالنسبة إلى إنشاء العقود، وما يمكن دعواه على ضوء الدليل هو حجره عن التصرّف في أمواله؛ قضاءً لمفهوم الشرط في قول اللَّه سبحانه: فَإِن آنَستُم مِنهُم رُشداً فَادفَعُوا إِلَيهِم أَموَالَهُم(1)، ولقوله تعالى: وَلَا تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَموَالَكُم الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُم قِيَاماً وَارزُقُوهُم فِيهَا وَاكسُوهُم وَقُولُوا لَهُم قَولًا مَعرُوفاً(2).

بتقريب: أنّ الأموال التي نهى اللَّه سبحانه عن دفعها إلى السفهاء وإن كانت- بظاهر الآية- هي أموال المخاطبين، ولكنّ المراد- كما عليه أكثر المفسّرين أموال السفهاء؛ بقرينة قوله: وَارزُقُوهُم فِيهَا وَاكسُوهُم لما في «الجواهر» من «الإجماع على عدم وجوب الإنفاق على السفيه من غير ماله... بل يشعر بذلك أيضاً قوله: وَقُولُوا لَهُم قَولًا مَعرُوفاً بناءً على أنّ المراد الكلام الجميل، والوعد بمالهم إذا رشدوا، وتعليم حفظ المال وصيانته ونحو ذلك»(3).

وحينئذٍ يتأتّى المجال لسؤال: وهو أنّه لو كان المراد من الأموال في قوله سبحانه: وَلَا تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَموَالَكُم أموال السفهاء أنفسهم، فما هي النكتة لإسناد اللَّه تعالى إيّاها إلى المخاطبين أَموَالَكُم على سبيل الإضافة إليهم، ولِمَ لم يقل: «لا تؤتوا السفهاء أموالهم»؟! فهذا الإسناد في الحقيقة من قبيل المجاز


1- النساء( 4): 6 ..
2- النساء( 4): 5 ..
3- جواهر الكلام 26: 94 ..

ص: 65

العقلي، فلابدّ له من ملاحظة نكتة.

والجواب: ما أفاده في «الجواهر» بقوله: «ولا ينافي ذلك الإضافة إلى ضمير المخاطب؛ باعتبار رجوعها إلى الأولياء بالإرث، أو باعتبار كونهم قوّامين ومتصرّفين بها كالملّاك، أو باعتبار الإشارة إلى حفظها كحفظ أموالكم، أو باعتبار أ نّها من جنس أموالهم التي بها قوام الكلّ»(1).

ويؤيّد كون الوجه في إضافة الأموال إلى المخاطبين- أَموَالَكُم- ملاحظة رجوعها إلى الأولياء بالإرث، ما رواه العيّاشي، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه عزّوجلّ: وَلَا تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَموَالَكُم قال: «هم اليتامى؛ لا تعطوهم أموالهم حتّى تعرفوا منهم الرشد».

قلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: «إذا كنت أنت الوارث لهم»(2).

وفي تفسير «الميزان»: «وإنّما اضيفت إلى الأولياء المخاطبين؛ بعناية أنّ مجموع المال والثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها، وإنّما اختصّ بعض أفراد المجتمع ببعض منه وآخر بآخر؛ للصلاح العامّ الذي يبتني عليه أصل الملك والاختصاص، فيجب أن يتحقّق الناس بهذه الحقيقة؛ ويعلموا أنّهم مجتمع واحد، والمال كلّه لمجتمعهم، وعلى كلّ واحد منهم أن يكلأه ويتحفّظ (عليه)، ولا يدعه يضيع بتبذير نفوس (سفيهة). ففي الآية دلالة على حكم عامّ موجّه إلى المجتمع؛ وهو أنّ المجتمع ذو شخصية واحدة له كلّ المال الذي أقام اللَّه به صلبه، وجعله له معاشاً، فيلزم على المجتمع أن يدبّره ويصلحه، ويعرضه معرض النماء، ويرتزق به


1- نفس الصصدر 26: 98 ..
2- وسائل الشيعة 19: 369، كتاب الوصايا، أحكام الوصايا، الباب 45، الحديث 9 ..

ص: 66

ارتزاقاً معتدلًا مقتصداً... ومن فروع هذا الأصل أنّه يجب على الأولياء أن يتولّوا أمر السفهاء، فلا (يؤتوهم) أموالهم، فيضيّعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه، بل عليهم أن يحبسوها عنهم، ويصلحوا شأنها»(1).

ويدلّ من النصوص على حجر السفيه عن التصرّفات في أمواله، صحيحة هشام، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام، وهو أشدّه، وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيهاً أو ضعيفاً، فليمسك عنه وليّه ماله»(2).

ثمّ إنّ للأصحاب كلاماً في أنّ محجورية السفيه عن التصرّفات في أمواله، هل تتوقّف على حكم الحاكم أو لا؟ فذهب إلى كلّ جماعة، والحقّ هو الثاني؛ قضاءً لإطلاق نصوص المسألة، كالصحيحة المتقدّمة المشتمل ذيلها على وجوب إمساك وليّ السفيه إيّاه عن التصرّف في ماله مطلقاً، ولم يقيّد بما إذا منعه الحاكم عن التصرّف. وتفصيل البحث موكول إلى محلّه.

والغرض من طرح المسألة بهذا المقدار، هو استنتاج أنّ السفيه على ضوء الآيات والنصوص، إنّما يكون محجوراً عن خصوص التصرّف في أمواله، وأ مّا بالنسبة إلى بقية أعماله وأقواله- ومنها إنشاؤه العقود ومنها عقد التأمين؛ وكالة عن غيره أو بإذن وليّه- فلا دليل على بطلانه.

وبعبارة اخرى: أنّ المتعاقدين بما هما متعاقدان، لا دليل على اشتراط عدم محجوريتهما بالسفه.


1- تفسير الميزان 4: 170 ..
2- وسائل الشيعة 18: 409، كتاب الحجر، الباب 1، الحديث 1 ..

ص: 67

حجر العبد

إنّ إطلاق حجره حتّى بالنسبة إلى أقواله وعباراته الشاملة لإجراء العقد ممنوع، ومقتضى الدليل على ضوء الكتاب والسنّة، ليس إلّاحجره عن التصرّف في أموال مولاه- بل في نفسه بإيجارها- بغير إذنه، وأ مّا مجرّد إجرائه للعقد وكالةً عن غيره، فلا يعدّ تصرّفاً في ملك مولاه حتّى يوجب حجره، بل هو كبقية كلامه، فكما أنّه في تكلّمه مع غيره أو قراءته القرآن والأدعية- بما لا يزاحم حقّ مولاه- لا يعدّ متصرّفاً في ملك مولاه، ولا يجب عليه استئذانه، بل المعلوم من السيرة في زمن المعصومين عليهم السلام عدم تسلّط المولى على منع عبده من مثله، فكذلك في إنشاء العقود.

بل ذهب السيّد المحقّق الخوئي قدس سره إلى صحّة إنشائه حتّى مع نهي مولاه؛ معلّلًا بأنّ غايته العصيان، لا البطلان(1)، وهكذا في «الجواهر» مع تأ مّل حيث قال:

«إذ أقصاه الإثم في التلفّظ بذلك، وهو لا يقتضي الفساد بالنسبة إلى ترتّب الأثر، لكن لا يخلو من تأ مّل»(2).

والاختيار (8)،

وفي النصوص ما يدلّ على أنّ المملوك إن تزوّج بغير إذن مولاه ثمّ أجاز عقده، يقع صحيحاً، ففي صحيحة زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: «ذاك إلى سيِّده إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما».


1- مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة: 26 ..
2- جواهر الكلام 25: 70 ..

ص: 68

قلت: أصلحك اللَّه، إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، ولا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّه لم يعصِ اللَّه، وإنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز»(1).

وقد ظهر بذلك: أنّ إطلاق الماتن المحقّق قدس سره اشتراط العقل والبلوغ وعدم الحجر في المتعاقدين والتفريع عليه بقوله: «فلا يصحّ من الصغير والمجنون والمحجور عليه» ممنوع؛ لما تقدّم- على ضوء الأدلّة- من أنّ المحجور عن إنشاء العقد ليس إلّاالمجنون، فإنّه مسلوب العبارة بالمرّة، وكذا الصبي فيما إذا كان مستقلًاّ في المعاملة، وأ مّا الصبي المأذون من قبل وليّه أو موكّله وكذا السفيه والمفلّس، فلا دليل على أنّ إنشاءهم للعقود- ومنها عقد التأمين- باطل.

4- اعتبار الاختيار
اشارة

8- ومن الشرائط العامّة لجميع العقود- ومنها عقد التأمين- اختيار المتعاقدين. والجدير بالدقّة قبل التعرّض للاستدلال عليه؛ أنّ المراد من «الاختيار» في المقام، ليس ما هو المقابل للجبر؛ إذ «الاختيار» تارةً: يستعمل ويراد به عدم الجبر، ويكون مساوقاً للقدرة، وهو مصطلح كلامي، واخرى:

يستعمل ويقصد منه عدم الإكراه، وهذا المعنى هو المقصود في المقام.

وقد عرّفه الشيخ الأعظم قدس سره في «المكاسب» بقوله: «والمراد به القصد إلى


1- وسائل الشيعة 21: 114، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 1 ..

ص: 69

وقوع مضمون العقد عن طيب نفس في مقابل الكراهة وعدم طيب النفس»(1).

وهذا التعريف بظاهره لا يخلو من الإشكال؛ لانتقاضه بمعاملة المضطرّ الذي يقدم اختياراً على بيع داره مثلًا؛ ليصرف ثمنها في معالجة نفسه أو من يتعلّق به، مع احتياجه إليها أشدّ الحاجة، فإنّه وإن قصد وقوع مضمون العقد- أي تمليك الدار بعوض- حال إيقاعه، ولكنّه ليس عن طيب نفسه، بل عن كراهة وأسف شديد، وإنّما يقدم على هذا الأمر الذي يكرهه لترجيح حفظ نفسه أو من يتعلّق به- الموقوف على بيع الدار- على حفظ ملكيتها، فيلزم من ملاحظة قيد طيب النفس في التعريف المتقدّم، خروج بيع المضطرّ عنه، ودخوله في بيع المكره، فلا محيص من الحكم ببطلانه، مع أنّه صحيح عند الكلّ بلا ريب وإشكال.

ولو قيل: إنّ المراد من «الاختيار» هو القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج، كما يظهر من ذيل كلام الشيخ قدس سره حينما قال في شأن المكره الذي هو مقابل للمختار- توجيهاً لكلام الشهيدين القائلين: بأنّ المكره قاصد للفظ دون المعنى- ما إليك لفظه: «فالمراد بعدم قصد المكره، عدم القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج؛ وأنّ الداعي له إلى الإنشاء ليس قصد وقوع مضمونه في الخارج»(2) ومن المعلوم أنّ الاختيار بهذا المعنى، ملحوظ في بيع المضطرّ، فلا يلزم خروجه عن التعريف، ولا يرد عليه ما اورد على التعريف الأوّل.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 118 ..
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 118 ..

ص: 70

فيتوجّه عليه ما أورده الماتن المحقّق قدس سره بقوله: «إنّ مورد البحث في عقد المكره هو ما تمّ سائر شرائطه، ولا فرق بينه وبين سائر العقود إلّابأ نّه أوجده بإكراه مكره دون غيره، ففرض عدم القصد إلى تحقّق مضمونه، خروج عن محطّ البحث؛ لأنّ المختار أيضاً إن لم يقصد تحقّق مضمونه، لا يكون عقده صحيحاً، فالبطلان فيه لأجل عدم القصد المعتبر فيه، لا للإكراه، فلو فرض أنّ المكره لدهشته أوقع العقد وقصد حصول مضمونه في الخارج، يقع باطلًا بدليل نفي الإكراه. بل موضوع البحث هو ذلك، لا ما كان فاقداً لسائر الشروط، كما صرّحوا به»(1).

ومن هنا ذهب المحقّق الأصفهاني والإمام الراحل 0(2) إلى أنّ الشرط في المقام ليس اختيار المتعاقدين حتّى يرد على تعريفيه ما تقدّم، ولا عدم صدور العقد بكره منهما؛ لاشتراكه بين المكره والمضطرّ، بل الشرط عدم كونهما مكرهين على العقد، أو عدم إكراههما فيه، أو عدم مكره يكره المتعاقدين على العقد. وتفصيل ذلك- على ما أفاده المحقّق الأصفهاني أعلى اللَّه مقامه الشريف(3) بتوضيح منّا- في ضمن مقدّمات:

الاولى: أنّ الإنسان في جميع أفعاله الإرادية، لابدّ له فيها من جهة ملائمة لقوّة من قواه، وهذه الجهة توجب انقداح الشوق في نفس الإنسان، وبعد تأكّده يصير علّة تامّة لحركة العضلات، وهذه الملائمة الموجودة في الفعل مع النفس تارةً:

تكون بالإضافة إلى القوى الطبيعية، كقوّة الباصرة في المبصرات، وقوّة السامعة للنغمات، وهكذا، واخرى: تكون بالنسبة إلى القوّة العاقلة، وثالثة: يجتمع في الفعل


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 77 ..
2- نفس المصدر ..
3- حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني قدس سره 2: 40 ..

ص: 71

كلتا الجهتين من الملائمة الطبيعية والعقلية. ونتيجة ذلك: أنّ الإنسان في جميع أفعاله الإرادية يجب له من شوق طبعي أو عقلي إليهما، وما يصدر منه أيّ فعل إلّا وهو مسبوق بأحد الشوقين.

الثانية: أنّ الطيب الذي عرّفه الشيخ الأعظم قدس سره بقوله: «هو القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب نفس» ليست حقيقته إلّاالإرادة ومبادئها المساوقة للشوق المؤكّد، ومن هنا ينقسم الطيب إلى الطيب العقلي، والطبعي، ويترتّب على ذلك أنّ العمل الصادر عن إكراه حيث يكون عملًا إرادياً لا إجبارياً، لابدّ له من شوق وطيب، وهو إمّا طبعي، وإمّا عقلي، أمّا الطبعي فمحال؛ إذ الإنسان لو اشتاقت نفسه بطبعها إلى عمل، لا معنى لإكراهها عليه، فلا محالة ينحصر الشوق في العمل الصادر عن إكراه في الشوق العقلي الغالب على الكراهة الطبيعية. وهذا كشرب الدواء، فإنّه يلائم القوّة العاقلة من حيث كونه دافعاً للمرض، وينافي القوّة الذوقية لمرورتها، فإذا اشتدّ الشوق العقلي وغلب على الكراهة الذوقية، فلا محالة يشربه، وإلّا فيتركه.

وبهذا البيان ظهر: أنّ كلًاّ من الأفعال الصادرة عن الاختيار أو الاضطرار أو الإكراه، مشتركة في أمر؛ وهو الصدور عن طيب وشوق، إلّاأنّ الطيب في الفعل الاختياري تارةً: يكون طبعياً، واخرى: طبعياً وعقلياً، وأ مّا في الفعل الإكراهي وكذا الاضطراري، فلا يكون إلّاعقلياً، كما أنّهما مشتركان في الكره الطبعي.

الثالثة: أنّ مناط صحّة المعاملات لا ينحصر في الطيب الطبعي، بل يكفي العقلي منه أيضاً؛ إذ لو كان منحصراً في الطبعي، يلزم بطلان جميع معاملات المضطرّ من البيع، والإجارة، والمضاربة، والمزارعة، وغيرها؛ وذلك لأنّ من اضطرّ إلى بيع

ص: 72

داره مثلًا- تحصيلًا لثمنها وصرفه في معالجة نفسه أو من يتعلّق به- لا يوجد عنده طيب طبعي بالنسبة إلى البيع، فيلزم أن يكون باطلًا، مع أنّه صحيح بلا خلاف وإشكال، وهذا شاهد صدق على أنّ المناط في صحّة المعاملات، هو الطيب الأعمّ من الطبعي والعقلي، والمضطرّ وإن كان فاقداً للطيب الطبعي بالنسبة إلى البيع مثلًا، ويكون مكروهاً بلحاظ طبعه، ولكنّ الطيب العقلي الحاكم بتقديم حفظ النفس على حفظ ملكية الدار، موجود فيه.

الرابعة: أنّ العقد المكره عليه، ليس فاقداً لمناط الصحّة وما هو الشرط فيها؛ وهو الطيب، لما تقدّم من أنّ العمل الإكراهي يكون إرادياً، فلابدّ أن يكون- كالاضطراري وغير الإكراهي- مسبوقاً بالشوق والطيب، وإلّا لما صدر، وحينئذٍ نلتمس الفرق بين العقد الصادر عن إكراه، وما صدر عن اضطرار، وما صدر عن غير إكراه واضطرار، ونرى أنّ كلّ هذه العقود مشتركة في أمر؛ وهو الصدور عن طيب، إلّا أنّ الطيب في الأخير تارةً: يكون طبعياً، واخرى: طبعياً وعقلياً، بخلاف الأوّلين، فإنّ الطيب فيهما لا يكون إلّاعقلياً، ولكن قد عرفت أنّ كون الطيب عقلياً أو طبعياً، لا يوجب الفرق فيما هو مناط الصحّة في المعاملات؛ إذ المناط هو الطيب الأعمّ من العقلي والطبعي، وهو موجود في العقد الإكراهي، وحينئذٍ نسأل عمّا هو المائز بين هذه العقود من حيث الصحّة والبطلان، وما هو المانع عن صحّة عقد المكره دون الآخرين؟

وبعد النظر في مقتضى الأدلّة، نجد أنّ المانع عن الصحّة ليس إلّاكونه مكرهاً عليه؛ قضاءً لما في حديث الرفع من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع... ما اكرهوا عليه».

ومن هنا نستنتج هذه النكتة: وهي أنّ المناط في بطلان العقد المكره عليه، ليس فقد الاختيار والرضا، ولا وجود الكره فيه، وإلّا لزم بطلان بيع المضطرّ؛ لأنّه

ص: 73

فاقد للرضا الطبعي، وواجد للكره النفساني، مع أنّه صحيح عند الكلّ، بل المناط هو الإكراه.

ثمّ قال: «يترتّب على ذلك أنّه لا يصحّ الاستدلال على فساد عقد المكره بقوله تعالى: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(1) أو «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» لوجود الرضا والطيب في المكره، بل الصحيح الاستدلال بمثل حديث الرفع وأخبار طلاق المكره وأشباهها».

هذا تمام بيان المحقّق الأصفهاني قدس سره في المقام بتوضيح منّا، حشره اللَّه مع أوليائه المعصومين عليهم صلواته الأبدية.

أقول: ما أفاده بالنسبة إلى أصل المدّعى- من أنّ الشرط في المتعاقدين ليس الاختيار، ولا عدم الكره النفساني، بل هو عدم الإكراه- متين جدّاً لا ينبغي النقاش فيه، ولكن في مواضع من كلامه نظر، فيرد عليه:

أوّلًا: أنّه قدس سره جعل حقيقة الطيب والرضا مساوقة للإرادة، مع أنّ الرضا عبارة عن الشوق بفعل، ولا يكون مستلزماً لها، وليس كلّما رضي الإنسان بفعل لا ينفكّ عن الإقدام عليه، وهذا بخلاف الإرادة، فإنّها عبارة عن العزم على الفعل المتأخّر عن الرضا، وهو الجزء الأخير من علله؛ على ما عليه المشهور من جريان قانون العلّية في الفاعل المختار بالنسبة إلى أفعاله، أو أنّه الأمر المقارن له؛ على ما هو الحقّ من عدم جريانه فيه.

وبهذا ظهر: أنّ الحكم بتساوق حقيقة الرضا والإرادة، غير وجيه. كما أنّ تفسير الإرادة بالشوق المؤكّد وجعل الرضا من مبادئها، أيضاً غير تامّ؛ لما أفاده


1- النساء( 4): 29 ..

ص: 74

الإمام الراحل قدس سره من أنّه «مخالف للوجدان والبرهان؛ لأنّ الإرادة والشوق من مقولتين، وليس الشوق عينها، ولا من مبادئها دائماً، نعم هو من مبادئها غالباً»(1).

وثانياً: أنّه رحمه الله جعل مناط الصحّة في المعاملات، الشوق والطيب، ثمّ قسّمه إلى الشوق الطبعي، والعقلي، وادعى أنّ مناط الصحّة ليس خصوص الشوق والطيب الطبعي، بل الأعمّ منه والعقلي.

وفيه: أنّ الشوق والطيب والرضا من أوصاف النفس، كما أنّ الكراهة أيضاً من أوصافها، فما معنى اتصاف الفعل تارةً: بالشوق، واخرى: بالكراهة، وأنّ من اكره على بيع داره مثلًا فاقد للشوق الطبعي والنفسي بالنسبة إلى بيعها، وواجد للشوق العقلي، مع أنّ شأن العقل ليس إلّاالإدراك فقط، لا الاشتياق؟!

إلّا أن يقال: إنّ مراده قدس سره من الشوق العقلي، هو إدراك العقل المصلحة الموجودة فيما تعلّق به الشوق واشتاق العقل إليه.

ولكن لا يخفى: أنّه نحو تفنّن في الكلام واستعارة للفظ «الشوق»- الموضوع لابتهاج النفس- لإدراك العقل، ولا يمكننا أن نوسّع مناط الصحّة في المعاملات- وهو الرضا والطيب- إلى مثله. وسيأتي أنّ مناط الصحّة إنّما هو الطيب والرضا المعاملي والإنشائي، لا الطيب النفساني، ولا الأعمّ منه ومن الطيب العقلي.

وثالثاً: أنّه قدس سره استنتج من مقالته، عدم جواز الاستدلال على فساد عقد المكره بقوله تعالى: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(2)، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 76 ..
2- النساء( 4): 29 ..

ص: 75

يحلّ مال امرئ مسلم إلّاعن طيب نفسه»(1)، معلّلًا بوجود الرضا والطيب في عقد المكره.

وفيه: أنّ هذا الاستنتاج مبني على ما ادعاه: من أنّ المراد من «التراضي» في الآية ومن «طيب النفس» في الرواية أعمّ من التراضي والطيب الطبعي والعقلي، وهذا ممنوع بأنّ الآية والرواية- كبقية خطابات الشارع- ملقاة إلى العرف والعقلاء الذين هم المرجع الوحيد لتشخيص المفاهيم وتحديدها، فلابدّ من ملاحظة ما هو المتفاهم عندهم من لفظ «التراضي» و «الطيب» ولا شكّ في أنّهم لا يفهمون من هذين اللفظين ما هو الأعمّ من التراضي والطيب الطبعيين والعقليّين، ومن هنا لا يرون بيع المكره بيعاً وتجارة عن تراضٍ، بل يعدّونه- بلا عناية ومجاز- بيعاً وتجارة لا عن تراضٍ، بل عن إكراه.

وكيف يمكننا أن نحمل لفظ «التراضي» في الآية و «الطيب» في الرواية على المعنى الشامل للعقلي منهما، ولاسيّما بعد ملاحظة كون صدورهما في باب المعاملات التي لا يكون بناء الشرع فيها على التأسيس، بل على إمضاء ما هو الثابت الرائج عند العرف؟! مع أنّ «التراضي» و «الطيب» بهذا المعنى، لا يخطر إلّا ببال بعض الأخصّاء من الخواصّ.

والحقّ: أنّ الظاهر الذي يساعده العرف من لفظ «التراضي» في قوله سبحانه: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ هو التراضي المعاملي والإنشائي؛ بمعنى أنّ التجارة التي هي نوع خاصّ من العقود المعاملية- وهي البيع والشراء


1- عوالي اللآلي 2: 24/ 6 ..

ص: 76

بقصد تحصيل الربح، أو هي بمعنى مطلق العقود المعاملية التي يقصد بها الربح- يلزم أن يكون وقوعها المتقوّم بالإنشاء، عن تراضٍ، وأن لا يقع إنشاؤها عن إكراه.

وبهذا البيان تنقلب النتيجة على عكس ما ادعاه المحقّق الأصفهاني قدس سره وتصير الآية- على بعض التقاريب الآتية في الوجه الثاني من وجوه اعتبار الاختيار في المتعاقدين- دليلًا على بطلان عقد المكره.

فقد انتهينا بما تقدّم إلى نكتتين أساسيتين:

الاولى: أنّه لا دليل لنا على اعتبار اختيار المتعاقدين بما فسّره الشيخ قدس سره وجماعة- من أنّه «القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب نفس»- في صحّة العقد، بل الدليل على خلافه. وما يمكن إثباته على ضوء الأدلّة، هو اشتراط عدم إكراه المتعاقدين على العقد.

ولو قيل: إنّ مآل اعتبار اختيارهما إليه؛ ببيان أنّ المراد من «الاختيار» في المقام هو عدم إكراههما على العقد، فهو وإن كان صحيحاً، إلّاأنّه تبعيد للمسافة، وبعيد عن مقتضى الصناعة؛ لأنّ صناعة التفهيم تقتضي أن يعبّر عن المقصود بما يحكي عنه بلا واسطة، وما يعتبر به عن المقصود في المقام بلا واسطة، هو التعبير ب «عدم إكراه المتعاقدين» فلا موجب- بل لعلّه لا رجحان- لأن يعبّر عنه أوّلًا ب «اختيار المتعاقدين» ثمّ يفسّر بعدم إكراههما.

ومن هنا ينبغي أن يطرح البحث هكذا: «هل يعتبر في صحّة العقد، عدم إكراه المتعاقدين؟» لا هكذا: «هل يعتبر في صحّة العقد اختيار المتعاقدين؟».

الثانية: أنّ المناط في بطلان العقد المكره عليه، ليس فقد الاختيار والرضا، ولا وجود الكره النفسي فيه، وإلّا يلزم بطلان جميع معاملات المضطرّ- من البيع وغيره- لأنّه يكره بيع ماله حينما يضطرّ إليه، ويتأسّف عليه بطبعه؛ وإن أمره عقله

ص: 77

وبعثه إليه بمناط دفع الأفسد بالفاسد ببيان تقدّم تفصيله، بل المناط كلّ المناط هو الإكراه الوارد عليه من قبل غيره، وهو الفارق بين بيع المضطرّ، وبيع المكره، وهو الموضوع المأخوذ في لسان الدليل على بطلان عقد المكره؛ على ما يقتضيه قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع... ما اكرهوا عليه» في حديث الرفع، وسيأتي تقريبه.

أدلّة اشتراط عدم الإكراه في المتعاقدين

قد استدلّ على ذلك الشيخ الأعظم قدس سره بوجوه:

الأوّل: الإجماع.

وفيه: أنّه ليس إجماعاً كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام بعدما علمنا أنّ مدرك المجمعين أحد الوجوه الآتية.

الثاني: عقد المستثنى في قوله سبحانه: لَاتَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(1)؛ بتقريب أنّ الآية تدلّ- على أساس وقوع الاستثناء عقيب النفي- على حصر سبب حلّية التملّك في التجارة عن تراضٍ، ومن المعلوم أنّ بيع المكره فاقد للتراضي.

ولكن مقتضى التحقيق: أنّ الاستدلال بعقد المستثنى بمناط إفادة الحصر، لا يخلو من الإشكال؛ وذلك لأنّ الاستثناء في الآية إمّا متّصل، وإمّا منفصل، وتصوير الاتصال متوقّف على تقدير ألفاظ كثيرة؛ بأن يقال: إنّ معنى الآية هكذا: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بأيّ سبب من الأسباب؛ فإنّه باطل، إلّاأن تكون تجارة عن تراضٍ» فحينئذٍ يكون المستثنى تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ داخلًا في المستثنى منه؛


1- النساء( 4): 29 ..

ص: 78

وهو «أيّ سبب من الأسباب» وقد خرج عنه ب «إلّا» فيكون متّصلًا، وينتج حصر سبب التملّك في التجارة التي وقعت عن تراضٍ، ومن المعلوم أنّ عقد المكره وإن كان تجارة، إلّاأنّه فاقد لقيد التراضي.

ولكن لا يخفى: أنّ تصوير اتصال الاستثناء بهذا البيان، لا يتيسّر بتقدير كلمة أو كلمتين، بل يتوقّف على الالتزام بتقدير ألفاظ عديدة، وهو لا يتناسب مع شأن القرآن من حيث الفصاحة والبلاغة.

مضافاً إلى أنّ الالتزام باتصال الاستثناء في الآية وإفادته الحصر، يستلزم تخصيص الأكثر بناءً على أن تكون «التجارة» بمعنى خصوص البيع والشراء بقصد تحصيل الربح، فيجب حينئذٍ تخصيص الآية بالإجارة، والمضاربة، والمزارعة، والصلح، والمساقاة، والهبة، وغيرها من الأسباب المملّكة الشرعية، وهو مستهجن.

نعم، لو قلنا: بأنّ «التجارة» أعمّ من البيع والشراء وغيرها، لا يلزم تخصيص الأكثر، إلّاأنّ على مدّعيه إثباته.

ولكن الظاهر من الآية أنّ الاستثناء منقطع؛ وذلك لأنّ مناط انقطاع الاستثناء أن يكون المستثنى- لولا الاستثناء- خارجاً عن المستثنى منه، وهذا المناط بعينه موجود في المقام؛ إذ المستثنى- وهو «التجارة عن تراضٍ» كما تقدّم- بمعنى خصوص البيع والشراء بقصد تحصيل الربح مقروناً بالرضا من الطرفين، ومن المعلوم أنّه غير داخل في عنوان «الأكل بالباطل» الذي هو المستثنى منه بحسب ظاهر الآية؛ بلا حاجة إلى ارتكاب شي ء من التقدير، وإذا كان الاستثناء منقطعاً لا يفيد الحصر، وبالنتيجة لا تدلّ الآية حينئذٍ على بطلان عقد المكره الذي هو فاقد للتراضي.

ص: 79

إلّا أن يقال:- كما أفاده جماعة، منهم السيّد المحقّق الخوئي قدس سره(1)- بأنّ الاستثناء المتّصل وإن كان لا يفيد الحصر بنفسه، ولكن في الآية قرينة لا مناص بالنظر إليها من إفادة الحصر؛ وهي أنّ الآية في مقام بيان الأسباب المشروعة للمعاملات، وفصل صحيحها عن فاسدها، وحيث كان الإهمال مخلًاّ بالمقصود، فلا محالة يستفاد الحصر من الآية بالقرينة المقامية.

ولكن لا يخفى: أنّه لو التزمنا بإفادة الآية الحصر بهذا البيان، يجب التماس جواب للشبهة المتقدّمة؛ أعني لزوم تخصيص الأكثر، وغاية ما يمكن أن يقال دفعاً لهذه الشبهة: أنّ تخصيص الأكثر إنّما يلزم على القول بحصر التجارة في عقد المستثنى من الآية بالبيع والشراء بقصد تحصيل الربح، وأ مّا لو قلنا بعموميتها لجميع المعاملات فلا يلزم حينئذٍ تخصيص الأكثر، كما هو واضح. ولكنّ الكلام كلّ الكلام في إحراز هذه العمومية لغةً وعرفاً.

هذاكلّه بناءً على الاستدلال بعقد المستثنى من الآية.

ويمكن الاستدلال بها على بطلان عقد المكره بعقد المستثنى منه؛ بتقريب أنّ قوله تعالى: لَاتَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ يفيد قاعدة كلّية مفادها النهي عن أكل الأموال؛ أي تملّكها بأيّ سبب باطل عرفاً، وأنّ كلّ تملّك حصل بهذا السبب، فهو فاسد وغير نافذ شرعاً، ولا شكّ من حيث الصغرى في أنّ العقد المكره يعدّ عند العرف من الأسباب الباطلة، فيندرج في عقد المستثنى منه المقتضي للفساد. وبناءً على هذا التقريب لا حاجة لنا إلى ضمّ المستثنى إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ حتّى يرد عليه ما تقدّم في فرضي الاتصال والانقطاع.


1- مصباح الفقاهة 3: 288 ..

ص: 80

ولكنّ الاستدلال بعقد المستثنى منه بهذا التقريب، يتوقّف على إحراز أمرين:

الأوّل: أن يكون النهي عن الأكل المكنيّ به عن التملّك، إرشاداً إلى الفساد؛ إذ لو احتمل أنّه من قبيل النهي التكليفي، لما اقتضى الفساد؛ على ما قرّر في الاصول من أنّ النهي التحريمي عن المعاملات لا يقتضي الفساد.

الثاني: أن يكون المراد من البَاطِلِ في عقد المستثنى منه ما هو الباطل عرفاً؛ ضرورة أنّه إن اريد منه ما هو الباطل شرعاً، لا يبقى مجال للاستدلال به على بطلان عقد المكره؛ إذ مع الشكّ في صدق «الباطل الشرعي» عليه- كما هو المفروض- نشكّ في أنّه مصداق لما هو الموضوع في الآية أم لا، والتمسّك بها حينئذٍ لاستكشاف حكمه، من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية له، وهو واضح البطلان. فعلينا إحراز هذين الأمرين حتّى يتّسع المجال لنا للتمسّك بعقد المستثنى منه لإثبات فساد عقد المكره.

فنقول: أمّا الأمر الأوّل، فيمكن إثباته ببيان أنّ متعلّق النهي في الآية- وهو الأكل- كناية عن تملّك أموال الناس، والأصل في نواهي الشارع وإن كان هو الحمل على الزجر والحرمة التكليفية، إلّاأنّ للنهي الصادر في مثل المقام، ظهوراً ثانوياً في الإرشاد إلى الفساد، فكما أنّ النهي في قوله عليه السلام: «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع كذا»، ظاهر في الإرشاد إلى الفساد، فكذلك النهي في المقام.

لا يقال: إنّ النهي في الآية الشريفة من صغريات المسألة الاصولية المعروفة:

«وهي أنّ النهي عن المعاملات هل يقتضي الفساد أم لا؟» فإن قلنا بالاقتضاء أو بعدمه- كما هو الحقّ- فكذلك في المقام، وعلى كلا المبنيين لا وجه لحمل النهي في قوله تعالى: لَاتَأكُلُوا أَموَالَكُم على الإرشاد إلى الفساد وتفريقه عن بقية

ص: 81

النواهي الواردة في المعاملات.

لأ نّه يقال: إنّ محلّ النزاع في مسألة اقتضاء النهي عن المعاملات الفساد وعدمه، هو النهي التكليفي المتعلّق بها؛ فإنّه وقع الكلام بين الأعلام في أنّه هل يستلزم الفساد، كما عليه جماعة، أو الصحّة في بعض شقوقه، كما عليه الآخوند رحمه الله صاحب «الكفاية» أو لا يستلزم الفساد ولا الصحّة، كما هو مقتضى التحقيق؟ وأ مّا النهي الذي سيق إرشاداً إلى الفساد، فهو خارج عن محلّ النزاع، ولا ينكر أحد من الاصوليين لزوم الأخذ بمقتضى الإرشاد. نعم بالنسبة إلى صغريات النهي الصادر إرشاداً إلى فساد المعاملة، يمكن تصوير النزاع بينهم؛ بأن يذعن بها جمع، وينكرها آخرون، وأ مّا بعد فرض إحراز إرشادية النهي، فلا نزاع في وجوب الأخذ بمقتضاه؛ وهو الحكم بالفساد.

وأ مّا الأمر الثاني:- وهو أنّ المراد من البَاطِلِ في عقد المستثنى منه، هو الباطل العرفي- فيمكن إثباته ببيان نكتة: وهي أنّ البَاطِلِ لو حمل على الباطل الشرعي مع أنّ الشارع لم يعيّنه ولم يبيّن حدوده، يلزم منه إرجاع المخاطبين إلى أمر مجهول، وهو لغو. مضافاً إلى أنّ الآية سيقت لتمييز الأسباب المعاملية الصحيحة عن الأسباب الفاسدة على سبيل ضرب القانون، وهذا الغرض لا يتيسّر إلقاؤه بالآية على المخاطبين إلّابحمل البَاطِلِ على الباطل العرفي والعقلائي.

وبعد ملاحظة الأمرين المتقدّمين على ما بيّناهما، يتّجه التمسّك بعقد المستثنى منه من الآية لإثبات بطلان عقد المكره.

الثالث: صحيحة زيد الشحّام، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها؛ فإنّه لا يحلّ دم

ص: 82

امرئ مسلم ولا ماله إلّابطيبة نفس منه»(1).

بتقريب: أنّها تدلّ على حصر حلّية مال المسلم بطيبة نفسه، والعاقد المكره فاقد لها، ولو كان معاملته من البيع وغيره مع إكراهه عليها نافذةً، للزم أن يحلّ ماله بغير رضاه وطيب نفسه، وهو منافٍ لظاهر الحديث.

وفيه: أنّ الاستدلال بهذه الصحيحة على بطلان عقد المكره بالتقريب المتقدّم، مبني على أمرين:

أوّلهما: أن تكون الصحيحة ناظرة إلى جعل عدم الحلّية بالنسبة إلى التصرّفات الخارجية، وكذا التملّك، وهذا مبني على أن يكون المقدّر في الخبر، لفظ «التصرّف والتملّك» حتّى يكون مفاده هكذا: «لا يحلّ التصرّف في مال المسلم ولا تملّكه إلّاعن طيب نفسه» أو كان المقدّر لفظ «التصرّف» ولكن اريد منه الأعمّ من التصرّف الخارجي والاعتباري.

ثانيهما: أن يكون المراد من «الحلّ» في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يحلّ» خصوص الحلّية الوضعية، أو الأعمّ منها ومن التكليفية؛ إذ لو كان المراد منه خصوص الحلّية التكليفية، فلا محالة يكون مفاد الخبر حرمة التصرّف والتملّك لمال المسلم تكليفاً، ومن المعلوم أنّ الحرمة التكليفية لا تستلزم الحرمة الوضعية المساوقة لعدم النفوذ.

وأ نّى لنا بإثبات هذين الأمرين؟!

ولو تنزّلنا وسلّمنا الأمر الأوّل وقلنا: بأنّ المقدّر «التصرّف والتملّك»- مع عدم القرينة عليه- لما أمكننا إثبات الأمر الثاني. بل في الخبر قرينة على خلافه؛ وذلك لأنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ولا ماله»- وهو محلّ الاستشهاد- معطوف على


1- وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 3، الحديث 1 ..

ص: 83

قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «دم امرئ مسلم» ولا شكّ في أنّ المراد من عدم الحلّ في المعطوف عليه، إنّما هو عدم الحلّ التكليفي، والتفريق بين الفقرتين- بحمل عدم الحلّ في الاولى على التكليفي، وفي الثانية على الوضعي- خلاف الظاهر جدّاً، خصوصاً بعد النظر إلى عدم تكرار «لا يحلّ» في الثانية.

نعم، على نقل «عوالي اللآلي»(1) لم يذكر في الخبر لفظ «دم» بل نقل هكذا: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّابطيبة نفس» وحينئذٍ لا يتوجّه إليه الإشكال المتقدّم؛ إذ لا مانع عندئذٍ من حمل عدم الحلّ على الجامع بين الحلّ التكليفي والوضعي، وهو المعنى المساوق لقولنا في اللغة الفارسية: (روا نيست) وهو شامل لكليهما.

ولكن يرد عليه:- مضافاً إلى عدم تمامية سنده- وكذلك على الصحيحة المتقدّمة- مع الغضّ عمّا أوردناه عليها- إشكال آخر لا مفرّ منه، وهو ما أفاده المحقّق الإيرواني قدس سره(2).

وبيان الإشكال بتوضيح منّا: أنّ التمسّك بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يحلّ مال امرئٍ مسلم» لإثبات عدم نفوذ عقد المكره، هو من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية؛ وذلك لأنّ الموضوع لعدم الحلّية هو مال الغير المسلم، والمفروض أنّا نحتمل- مع قطع النظر عن بقية الأدلّة- صحّة عقد المكره؛ وأنّ ماله دخل به في ملك طرفه المعاملي، وبعدئذٍ فلا يصدق عليه أنّه مال الغير حتّى يندرج في موضوع الخبر ويشمله حكمه؛ وهو عدم الحلّ.


1- عوالي اللآلي 2: 240/ 6 ..
2- حاشية المكاسب، المحقّق الإيرواني 2: 183 ..

ص: 84

ولو تمسّكنا لإحراز الموضوع في المقام بالاستصحاب؛ ببيان أنّ المال المعقود عليه بعقد إكراهي، كان قبل إجراء عقد البيع عليه مثلًا ملكاً للغير، وبعد إكراهه على البيع نشكّ في أنّه انتقل إلى ملك المشتري أم لا، فنستصحب بقاؤه على ملك ذاك الغير، فيندرج في الخبر.

لورد عليه: أنّه مع فرض الشكّ في صحّة عقد المكره وعدم الوقوف على دليل يقتضي فساده كما هو المفروض، لا تصل النوبة إلى الاستصحاب بعد وجود العمومات القاضية بصحّة كلّ عقد، مثل قول اللَّه سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(1).

هذا مضافاً إلى أنّه مع فرض توقّف الاستدلال بالخبر على الرجوع إلى الاستصحاب المتقدّم، لا يكون الخبر بنفسه دليلًا، بل منضمّاً إلى الاستصحاب، مع أنّ الشيخ الأعظم قدس سره جعله دليلًا مستقلًاّ على المدّعى.

الرابع:- من الوجوه التي ذكرها الشيخ الأعظم قدس سره دليلًا على اعتبار الاختيار؛ بمعنى عدم الإكراه في المتعاقدين- ما دلّ على رفع الإكراه في الشريعة المقدّسة:

منها: ما رواه الصدوق في «الخصال» بسند صحيح، عن حريز بن عبداللَّه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: رفع عن امّتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما اكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»(2).


1- المائدة( 5): 1 ..
2- الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 8: 249، كتاب الصلاة، أبواب الخلل، الباب 30، الحديث 2 ..

ص: 85

وقد يناقش في سنده بأحمد بن محمّد بن يحيى، كما في «التنقيح»(1)، ولكنّ الشيخ الأعظم قدس سره وصف الخبر بأ نّه «متّفق عليه بين المسلمين»(2)، فلا ينبغي التشكيك في سنده، وتفصيل البحث لا يسعه المقام.

وأ مّا الاستدلال به على فساد عقد المكره، فمبني على أن لا يكون المرفوع في الخبر خصوص المؤاخذة الاخروية، بل المرفوع إمّا جميع الآثار، أو تعميم المؤاخذة إلى المؤاخذة الدنيوية الحاصلة بإلزام الشخص على العمل بتعهّداته والتزاماته، كالإلزام على ترتيب الآثار على الطلاق، والعتاق، والصدقة، والعقد المكره عليها، كما عليه الشيخ الأعظم قدس سره فعلى هذين المبنيين يستكشف من الخبر بطلان عقد المكره.

قال الشيخ قدس سره في تقريب دلالة الخبر على المدّعى ما إليك لفظه: «وظاهره وإن كان رفع المؤاخذة، إلّاأنّ استشهاد الإمام عليه السلام به في رفع بعض الأحكام الوضعية، يشهد لعموم المؤاخذة فيه لمطلق الإلزام عليه بشي ء، ففي صحيحة البَزَنطي، عن أبي الحسن عليه السلام: في الرجل يستكره على اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه السلام: «لا؛ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا»(3). والحلف بالطلاق والعتاق وإن لم يكن صحيحاً عندنا من دون الإكراه أيضاً، إلّاأنّ مجرّد استشهاد الإمام عليه السلام في عدم وقوع آثار ما حلف به- بوضع ما اكرهوا عليه- يدلّ على أنّ


1- التنقيح 3: 344 ..
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 118 ..
3- وسائل الشيعة 23: 226، كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث 12 ..

ص: 86

المراد بالنبوي صلى الله عليه و آله و سلم ليس خصوص المؤاخذة والعقاب الاخروي»(1).

وتوضيح مراده قدس سره: أنّ الرفع في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رُفع... ما اكرهوا عليه»- بظاهره مع قطع النظر عن صحيحة البزنطي- رفع تكويني؛ لأنّ المرفوع بظاهر الخبر هو المؤاخذة الاخروية، ومن المعلوم أنّ رفعها ليس بمثل رفع الأحكام والآثار الذي قوامه بالاعتبار، كما أنّ قوام وجودها أيضاً به، بل هو حقيقة خارجية تتحقّق بعدم تعذيب اللَّه وعدم عقابه، ولكن بعد النظر إلى صحيحة البزنطي التي هي قرينة واضحة على تعيين المرفوع في حديث الرفع، يجب الالتزام- من باب دلالة الاقتضاء- بأنّ المرفوع أمر مقدّر؛ وهو المؤاخذة الأعمّ من الاخروية والدنيوية، والمراد من المؤاخذة الدنيوية إلزام الشخص بما التزم به وتعهّد به في عقوده التي اكره عليها.

مثلًا: من اكره على أن يحلف بطلاق زوجته، أو عتاق عبده، أو صدقة ماله، لا بمعنى أن يحلف باللَّه على أن يطلّق زوجته، أو يعتق عبده، أو يتصدّق بأمواله، بل بمعنى أن يحلف بنفس الطلاق والعتاق والصدقة؛ بأن يقول: «اقسم بطلاق زوجتي» أو «بعتاق عبدي» أو «بتصدّق مالي» فلو حكم بنفوذ حلفه وترتيب أثر الصحّة عليه- وهو حصول بينونة الزوجة في الحلف بالطلاق، وتحقّق العتق في الحلف بالعتق، وصيرورة الأموال صدقة في الحلف بصدقة أمواله- فلا شكّ في أنّ هذا الحكم بالنفوذ وإلزام الشخص بترتيب الأثر على حلفه، مؤاخذة دنيوية لا اخروية، وحديث الرفع يرفعها، وهو معنى الحكم ببطلان عقد المكره؛ إذ رفع الأثر والنفوذ


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 118 ..

ص: 87

مساوق للحكم بالبطلان.

ولكن أورد المحقّق الإيرواني(1) والإمام الراحل 0(2) على تقريب الشيخ الأعظم قدس سره: بأنّ تمسّكه باستشهاد الإمام عليه السلام بحديث الرفع في صحيحة البزنطي المتقدّمة وجعله قرينة على أنّ المرفوع هو مطلق المؤاخذة الاخروية والدنيوية الشاملة لمثل إلزام المكره على البيع- بأن يعمل بمقتضاه وترتيب آثاره- ليس بتامّ؛ لأنّ استشهاد الإمام عليه السلام بالحديث إنّما وقع على سبيل التقية، لا على سبيل التصديق بصحّة التعليل.

والوجه في ذلك- بتوضيح منّا-: أنّ من اكره على أن يحلف بطلاق زوجته أو عتاق رقبته أو صدقة ماله، يكون حلفه في نفسه باطلًا عندنا وإن لم يكن إكراه في البين، ومن هنا نستنتج أنّ هذا الحلف فاقد لمقتضى الصحّة، لا أنّ مقتضى الصحّة فيه موجود، ولكنّ الإكراه يمنع عن تأثيره فيها، وبالنظر إلى هذه النكتة يصبح تعليل الإمام عليه السلام واستشهاده بحديث الرفع للحكم ببطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة، تعليلًا بغير العلّة، ولا يرى له وجه إلّاأن يكون تقية؛ إذ مع إمكان استناد البطلان إلى فقد المقتضي، لا يبقى مجال للتمسّك بوجود المانع؛ أي الإكراه، مع أنّ الإمام عليه السلام استند لبطلان الحلف إلى الإكراه، وهذا شاهد على أنّه روحي فداه في مقام التقية وإلقاء الكلام على زعم العامّة من حيث الصغرى والكبرى؛ لأنّهم قائلون: بأنّ الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة- في نفسه ومع قطع النظر عن الإكراه- صحيح، فهو واجد للمقتضي عندهم، إلّاأنّه إذا وقع عن إكراه يكون مبتلياً بالمانع، حيث إنّهم قائلون- من حيث الكبرى-: بأنّ المرفوع في حديث الرفع


1- حاشية المكاسب، المحقّق الإيرواني قدس سره 2: 183 ..
2- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 80 ..

ص: 88

مطلق الآثار، أو مطلق المؤاخذة الأعمّ من الاخروية والدنيوية، فيكون الإكراه عندهم مانعاً عن الصحّة، وحيث ظهر أنّ استشهاد الإمام عليه السلام بحديث الرفع في مورد صحيحة البَزَنطي المتقدّمة، لم يكن على سبيل التصديق، بل كان تقية في أصل الكبرى؛ أي علّية الإكراه على الحلف للبطلان، وكذا في تطبيقها على صغراها، فلا يسع الشيخ الأعظم قدس سره أن يتمسّك باستشهاد الإمام عليه السلام ويجعله قرينة على أنّ المرفوع ليس خصوص المؤاخذة.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال- على ما أفاد شيخنا الاستاذ المحقّق دام ظلّه-: بأنّ الأمر في المقام يدور بين سقوط أصالة الجدّ من جهة واحدة، وبين سقوطها من جهتين، وكلّما دار الأمر بينهما فلا شكّ في أنّ مقتضى القاعدة هو الاقتصار على الأقلّ؛ وهو رفع اليد عن الأصل من جهة واحدة والتحفّظ عليه من جهة اخرى.

وبيان ذلك: أنّ أصالة الجدّ- أعني عدم الصدور تقيّةً- من الاصول العقلائية التي يعتمد عليها العقلاء، ولا يرفعون اليد عنها إلّافيما قامت قرينة واضحة على صدور الكلام تقيّةً، وحينئذٍ نقول: لو فرضنا أنّ الإمام عليه السلام أصدر الكلام تقيّةً في تطبيق كبرى كلّية على صغراها، لا يلزم منها إلّاسقوط ذلك الأصل من جهة واحدة، ولكن لو فرضنا التقية في أصل بيان الكبرى وكذا في تطبيقها على مصداقها، يلزم خلاف الأصل من جهتين.

ومثال ذلك: قول الإمام الصادق عليه السلام للمنصور- حينما قال: يا أبا عبداللَّه، ما تقول في الصيام اليوم؟-: «ذاك إلى الإمام؛ إن صمت صمنا، وإن أفطرت

ص: 89

أفطرنا»(1)، فإنّ الأصحاب قدس سرهم حملوا هذا الكلام الشريف على أنّه تقية من حيث تطبيق الكبرى على صغراها؛ بمعنى أنّ أصل الكبرى- وهو نفوذ حكم الحاكم في رؤية الهلال، وجواز الصوم بصومه، والإفطار بإفطاره- مسلّم، ولم يتّق فيه الإمام عليه السلام وإنّما اتّقى في تطبيق هذه الكبرى على المنصور الدوانيقي، وهذا مخالف لأصالة الجدّ من جهة واحدة، ويجب الالتزام به للقرينة الواضحة في البين، ولكن لو حمل ذلك البيان الشريف على أنّه صدر تقيّةً من حيث الكبرى، للزم منه سقوط أصالة الجدّ من جهتين: إحداهما: من جهة أصل الكبرى، واخراهما: من جهة تطبيق هذه الكبرى غير الواقعية على مصداقها؛ أي المنصور الدوانيقي، فالأمر يدور بين ارتكاب خلاف أصالة الجدّ- عدم التقية- من جهتين، وبين ارتكابه من جهة واحدة، ولا شكّ في لزوم الاقتصار على الأقلّ وهو الثاني ومن هنا حمل الأصحاب قول الإمام عليه السلام: «ذاك إلى الإمام؛ إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا» على أنّه تقية من حيث تطبيقه على المنصور، وأ مّا من حيث إفادة الكبرى الكلّية فلا.

وهكذا نقول في المقام بالنسبة إلى صحيحة البزنطي المتقدّمة، فإنّ أمر استشهاد الإمام عليه السلام بحديث الرفع للحكم ببطلان حلف الرجل الذي اكره على أن يحلف بطلاق زوجته وعتاق رقبته وصدقة ماله، يدور بين أن يكون تقية من جهة واحدة، أو من جهتين، فلو فرضنا أنّ الإمام عليه السلام أصدر الكلام تقية من جهة تطبيق هذه الكبرى- عموم المرفوع في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «وضع عن امّتي... ما اكرهوا


1- وسائل الشيعة 10: 132، كتاب الصوم، أبواب مايمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 5 ..

ص: 90

عليه»- على مصداقها- الرجل يستكره على اليمين، فيحلف بالطلاق...- لما لزم سقوط أصالة الجدّ إلّامن جهة واحدة، ولكن لو فرضنا ما احتمله المحقّق الإيرواني قدس سره وقطع به الماتن المحقّق قدس سره من أنّ الإمام عليه السلام اتّقى في بيان أصل الكبرى، يلزم منه خلاف أصالة الجدّ من جهتين: اولاهما: من جهة بيان أصل الكبرى وإعطاء قاعدة كلّية على خلاف الواقع، ثانيتهما: من جهة تطبيق هذه الكبرى على صغراها، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة عند الدوران بين ارتكاب خلاف الأصل من جهة واحدة أو من جهتين، لزوم الاقتصار على الأقلّ، وهو الأوّل.

وعلى هذا الأساس يجب أن يحمل استشهاد الإمام عليه السلام بحديث الرفع على التقية بالنسبة إلى خصوص تطبيق هذه الكبرى- عمومية المرفوع في حديث الرفع- على المورد، وأ مّا بالنسبة إلى بيان أصل الكبرى فلا تقية.

وبهذا البيان يتّضح: أنّ تمسّك الشيخ الأعظم باستشهاد الإمام عليه السلام في صحيحة البزنطي المتقدّمة لاستكشاف أنّ المرفوع في النبوي مطلق المؤاخذة الأعمّ من الاخروية والدنيوية الشاملة لمثل إلزام المكره على ترتيب آثار العقد الذي اكره عليه، سالم من النقاش، ومتين جدّاً.

وأمتن منه ما أفاده المحقّق النائيني قدس سره في وجه دلالة حديث الرفع على بطلان عقد المكره(1): وهو أنّ الرفع في الحديث تشريعي وليس تكوينياً؛ ببيان تقدّم في تقرير كلام الشيخ الأعظم من أنّ المرفوع إن كان خصوص المؤاخذة الاخروية، فرفعها أمر تكويني. والرفع التشريعي عبارة عن رفع ما يترتّب على العمل المكره عليه من الآثار الشرعية، فيعمّ رفع جميع الآثار الشرعية من الوضعية والتكليفية؛ وذلك لأنّ الرفع إذا صدر من الشارع بما هو شارع لا يكون عن وعاء التكوين، بل


1- المكاسب والبيع( تقريرات المحقّق النائيني) الآملي 1: 424 ..

ص: 91

عن وعاء التشريع، ومن المعلوم أنّ رفع شي ء عن هذا الوعاء، ملازم لرفع جميع آثاره الشرعية من التكليفية والوضعية، فعلى ضوء هذا البيان يكون المرفوع جميع الآثار، ولا يتوقّف تعيين المراد من المرفوع على الرجوع إلى صحيحة البزنطي المتقدّمة، ويصبح حديث الرفع بنفسه دليلًا على بطلان عقد المكره؛ إذ الصحّة واللزوم حكمان شرعيّان مترتّبان على العقد، والمفروض أنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع... ما اكرهوا عليه» رفعهما.

الخامس: أنّ في المقام نكتة ارتكازية عقلائية تليق بأن نأخذها وجهاً آخر على عدم نفوذ عقد المكره؛ وهو أنّ بناء العقلاء في معاملاتهم استقرّ على عدم ترتيب الأثر على المعاملة الواقعة عن إكراه، ولا يلزمون العاقد المكره بالعمل بمقتضى عقده، وبارتكازهم لا يرون لعقد المكره نفوذاً وصحّةً مطلقة؛ بمعنى ترتّب آثار العقد عليه من غير أن يتوقّف على الإذن اللاحق من المالك، بل يرون أنّ ترتيب الآثار على عقد المكره، نقضاً للقانون العقلائي المسلّم؛ وهو سلطنة المالك على ماله. وهذا الارتكاز العقلائي العريق يمنع عن انعقاد الإطلاق لأدلّة الإمضاء بالنسبة إلى عقد المكره، مثل قوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، وقوله تعالى:

أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ(2)، وقوله عزّوجلّ: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(3)، ولا أقلّ من الشكّ في انعقاده، كما أنّه بعينه يمنع عن انعقاد عموم أو إطلاق لها بالإضافة إلى البيع السفهي.


1- المائدة( 5): 1 ..
2- البقرة( 2): 274 ..
3- النساء( 4): 29 ..

ص: 92

بل لنا أن نقطع بعدم الإطلاق بالنظر إلى نكتة اخرى: وهي أنّ شأن الشارع في باب المعاملات، هو إمضاء الامور العقلائية وما استقرّ عليه عملهم، لا ترويج الامور السفهية، ولا شكّ في أنّ عقد المكره- من البيع وغيره- ليس بعقلائي حتّى يندرج في عموم أدلّة الإمضاء أو إطلاقها.

وهذا الوجه ينتج: أنّه لو لم يكن- على الفرض- دليل على بطلان عقد المكره، لما أمكننا الحكم بصحّته؛ لأنّ أدلّة الإمضاء قاصرة عن الشمول له، بل لابدّ من الحكم بعدم نفوذه، ولا حاجة لنا في الحكم بعدم النفوذ إلى التمسّك بمثل أصالة الفساد في باب المعاملات.

بل لنا أن ندعي: بأنّ أدلّة الإمضاء لو فرض انعقاد إطلاق لها بالنسبة إلى عقود المكره، فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحّتها؛ وذلك لوقوع التعارض بينها وبين الأدلّة المانعة؛ ببيان أنّ مقتضى عموم قوله سبحانه أَوفُوا بِالعُقُودِ على فرض انعقاد العموم له، هو الحكم بصحّة العقود ونفوذها؛ سواء أوقعت عن تراضٍ، أم إكراه، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع... ما اكرهوا عليه» هو رفع جميع الآثار عن الشي ء الذي اكره الشخص عليه؛ سواء أكان هذا الشي ء من العقود، أم غيرها، ومن المعلوم أنّ النسبة بين الدليلين هي العموم من وجه؛ فيجتمعان في العقود المكره عليها من البيع وغيره، ومقتضى عموم الآية هو الحكم بصحّتها، بينما يكون مقتضى إطلاق حديث الرفع هو الحكم ببطلانها، ومقتضى الصناعة حينئذٍ ملاحظة المرجّح لأحد المتعارضين، والحكم بالتساقط مع فقده؛ بناءً على عدّ مثل حديث الرفع من السنّة القطعية حتّى لا يسقط بمعارضة الكتاب، مع أنّه لم يعهد عن أحد من الفقهاء العظام أعلى اللَّه مقامهم ملاحظة النسبة بين دليل الإمضاء وحديث

ص: 93

الرفع، ثمّ الحكم بتساقطهما، أو الأخذ بأحدهما، وهذا شاهد صدق على أنّهم لم يكونوا يرون بارتكازهم لدليل الإمضاء إطلاقاً بالنسبة إلى العقود المكره عليها.

هل يجوز الإكراه على عقد التأمين؟

ثمّ إنّ مناسبة المقام لما هو محطّ أصل البحث- أعني عقد التأمين- تتطلّب أن نتعرّض لمسألة تدور عليها رحى بعض أنواع عملية التأمين في عهدنا الراهن؛ وهي أنّه هل يجوز للحكومة أن تجبر أبناء المجتمع على المعاملة التأمينية، أم لا؟

ولهذه المسألة حيثيتان: حيثية تكليفية ناظرة إلى جواز الإجبار على عقد التأمين وعدمه تكليفاً، وحيثية وضعية؛ وهي جوازه وعدمه وضعاً، وهي المقصودة بالبحث فعلًا دون الحيثية الاولى؛ فإنّ لها محلّاً آخر.

فنقول: المستفاد من القانون المدني أنّ بعض أقسام التأمين إجباري، كالتأمين من حوادث العمل، وكذا التأمين من حوادث السيّارات، كما قاله المحقّق السنهوري: «ومن بين هذه المسؤوليات ما يكون التأمين منه إجبارياً، كالتأمين من حوادث العمل، والتأمين من حوادث السيّارات»(1)، فهل يمكن لنا- بملاحظة مقتضى الأدلّة- المساعدة على هذا الشطر من القانون المدني أم لا؟

مقتضى القاعدة الأوّلية- اعتبار عدم الإكراه في المتعاقدين المصطادة من الأدلّة المتقدّمة- هو بطلان عقد التأمين الذي اجبر عليه طرفاه أو أحدهما؛ من جانب الحكومة أو غيرها؛ بأيّ نحو كان. ولكن يمكن تصحيح هذا العقد- في الجملة- بطريقين:


1- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1157 ..

ص: 94

أوّلهما: أن تشترط الدولة الإسلامية نوعاً معيّناً من التأمين ضمن عقد لازم، كعقد الإجارة؛ بأن تشترط إذا استأجرت أشخاصاً واستخدمتهم ضمن العقد، أن يأمّنوا أنفسهم لدى شركة التأمين، أو من أيّ شخص حقيقي أو حقوقي، أو تشترط عند بيع السيّارة أن يستأمنها المشتري من الشركة فحينئذٍ يجب عليهم الإقدام على التأمين؛ قضاءً لوجوب الوفاء بالشرط المستفاد من قوله: «المؤمنون عند شروطهم»(1)، بل قوله سبحانه أَوفُوا بِالعُقُودِ(2) ومع التخلّف عنه يجوز للحاكم إجبارهم عليه. ولا يخفى أنّ التأمين يخرج حينئذٍ- باشتراطه ضمن عقد لازم- عن كونه إكراهياً؛ لإقدام الشخص على الالتزام به عن اختياره.

ثانيهما: أن تكون عملية التأمين في الموردين المتقدّمين أو غيرهما عند الحاكم الإسلامي، ذات مصلحة هامّة واجبة الرعاية تتوقّف على إقدام الرعية عليها، فحينئذٍ- بناءً على الولاية المطلقة للفقيه الحاكم الجامع للشرائط- يجوز له تكليفاً إجبارهم على الاستئمان من حوادث العمل، وكذا من حوادث السيّارات وغيرهما، وينفذ شرعاً عقد التأمين الواقع عن إجبار الحاكم.

بل يمكن القول: بأنّ حكمه في مثل المقام لا يدور مدار مبنى الولاية المطلقة؛ إذ لو فرض أنّ عملية التأمين- في أيّ مورد- أصبحت ذات مصلحة هامّة والقصد (9)، فلايصحّ من الصغير والمجنون والمحجور عليه والمكره والهازل


1- تهذيب الأحكام 7: 371/ 66، الاستبصار 3: 232/ 4، وفي بعض الأخبار« المسلمون»، وسائل الشيعة 18: 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 1، مستدرك الوسائل 13: 300، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 5، الحديث 1 و 3 ..
2- المائدة( 5): 1 ..

ص: 95

ونحوه.

واجبة الرعاية لمجتمع المسلمين، يجب على الحاكم الأمر بها مطلقاً ولو لم نقل بذاك المبنى. ولكنّ الكلام كلّ الكلام حينئذٍ في إحراز الصغرى؛ أعني بلوغ المصلحة إلى تلك المرتبة. نعم لو لم تبلغ مصلحة عملية التأمين إلى تلك المرتبة الهامّة، لما جاز حينئذٍ للحاكم إجبار أبناء المجتمع على الإقدام عليها إلّاعلى القول بالولاية المطلقة.

5- القصد
اشارة

9- ومن الشرائط العامّة لجميع العقود- ومنها عقد التأمين- القصد في المتعاقدين. قال الشيخ الأعظم قدس سره: «مسألة: ومن جملة شرائط المتعاقدين قصدهما لمدلول العقد الذي يتلفّظان به»(1). ولا إشكال ولا خلاف في اشتراط القصد بهذا المعنى في جميع العقود المعاملية وغيرها، بل وكذا في الإيقاعات.

ولكن لا يخفى: أنّ عدّه شرطاً من شروط المتعاقدين أو صحّة العقد، لا يخلو من تسامح واضح؛ وذلك لأنّ قصد العاقد مدلولَ عقده، من مقوّماته، ولا ينفكّ العقد في جوهره وحقيقته عن قصد مدلوله من الجدّ؛ لأنّ العقد من الامور الإنشائية، والإنشاء حقيقته إمّا إيجاد المعنى باللفظ، كما عليه المشهور، أو الاعتبار النفساني المظهر بمبرز خارجي، كما هو الحقّ، ولا شكّ في أنّه بكلا المبنيين متقوّم بالقصد:

أ مّا على الأوّل: فلأنّ إيجاد المعنى باللفظ لا يمكن بدون تعلّق القصد الجدّي


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 117 ..

ص: 96

بالمعنى، بل لا ينفكّ عنه.

وأ مّا على الثاني: فواضح؛ إذ الاعتبار النفساني لمدلول العقد، ليس إلّابمعنى قصد المدلول عن جدّ.

بل الأمر في المقام أوضح من ذلك، ولا يتوقّف إثبات تقوّم العقد بالقصد، على ملاحظة هذه النكتة، بل يكفينا الرجوع إلى العرف والعقلاء الذين هم الأصل في باب المعاملات، ودأب الشرع على إمضاء بنائهم فيها، فإنّهم لا يرون صدق أيّ عنوان من العناوين المعاملية وغيرها من العقود بمجرّد التلفّظ بالعقد من غير أن يقصد مدلوله، فمن قال: «بعت داري بكذا» ولم يقصد معناه جدّاً- وهو تمليك الدار بعوض معيّن- لا يصدق عليه عرفاً أنّه باع داره، وإنّما يصدق عليه ذلك فيما إذا قصد مدلوله عن جدّ، وهذا شاهد صدق على أنّ تحقّق عنوان «عقد البيع» من حيث المفهوم، يتقوّم بقصد مدلوله، لا من حيث الوجود حتّى يناقش فيه: بأنّ العرف هو المرجع في معرفة المفاهيم وتحديدها، لا تشخيص مصاديقها.

وكيف كان: فقد ظهر بما تقدّم وجه التسامح في جعل الشيخ الأعظم قدس سره- كغيره- قصدَ مدلول العقد عن جدّ، من شرائط المتعاقدين؛ حيث عرفت أنّ تقوّم العقد بالقصد وأنّ أصل العقد ينتفي بانتفائه، لا أنّه باقٍ وشرط صحّته مفقود.

معاني القصد وتعيين ما هو المقصود منها في المقام

ثمّ لا يخفى: أنّ «القصد» يطلق على معانٍ عديدة يجب تعيين ما هو المقصود منها في المقام:

الأوّل: قصد اللفظ عند استعماله في المعنى؛ بأن يكون التلفّظ بها مقصوداً في قبال تلفّظ النائم والساهي، فإنّهما لا يصدر التلفّظ منهما عن قصد.

ص: 97

الثاني: قصد استعمال اللفظ في المعنى عند التلفّظ به، وهذا ما يسمّى ب «الإرادة الاستعمالية».

ولا شكّ في أنّ القصد بهذين المعنيين وإن توقّف عليه العقد، بل عليه مدار التفهيم، ولكنّهما غير مقصودين في المقام.

الثالث: قصد المعنى بالإرادة الجدّية؛ بأن يقصد مدلول اللفظ عن جدّ، وهذا هو المقصود في المقام.

الرابع: القصد بمعنى الداعي إلى إيجاد الفعل، وهو المراد من «قصد القربة» في باب العبادات. ولكنّ القصد بهذا المعنى خارج عن البحث ومحطّ الكلام؛ ضرورة أنّ العاقد في جميع العقود وإن كان لا يخلو من الداعي، إلّاأنّ عنوانها لا يتقوّم به، ومن هنا لو فرض تحقّق عنوان «البيع» مثلًا من غير داعٍ، لكان صحيحاً.

إشكال ودفع

قد تقدّم: أنّ أحد ركني العقد في عملية التأمين، هي شركة التأمين التي هي من الشخصيات الحقوقية لا الحقيقية؛ وإن اختلف تعبير الأعلام بالنسبة إليها من جهة أنّها هي الموجب، كما هو الحقّ، أو القابل، كما هو الظاهر من المحقّق الشيخ حسين الحلّي والسيّد المحقّق الخوئي رضوان اللَّه عليهما أو يجوز الوجهان، كما عليه الماتن المحقّق قدس سره؟ وحينئذٍ يتسع المجال لإشكال.

وبيان الإشكال: أنّ الشرائط المتقدّمة للمتعاقدين، إنّما تتصوّر فيما إذا كان طرفا العقد من الشخصيات الحقيقية، فإنّها تليق بالاتصاف بالبلوغ، والعقل، والقصد، وعدم الحجر، والاختيار؛ بمعنى عدم الإكراه، وأ مّا شركة التأمين التي هي من الشخصيات الحقوقية، فلا معنى لملاحظة تلك الشروط فيها، إلّااشتراط عدم

ص: 98

الحجر الناشئ من الإفلاس، لا من السفه والرقّية وعدم البلوغ والجنون، فإنّها من أوصاف الإنسان، أمّا الإفلاس فهو أمر عقلائي قد تتّصف به عندهم شخصية حقوقية، فكما يقولون: «إنّ فلاناً أفلس» فكذلك يقولون بلا عناية ومجازٍ: «إنّ الشركة الكذائية أفلست» فهل لنا في المقام طريق لتوسعة دائرة لحاظ بقية الشروط بالنسبة إلى شركة التأمين أم لا؟

والجواب: أنّ بناء العقلاء العالمي منذ انشئت الشركات بأنواعها، جرت على تعيين هيئة في كلّ شركة من الشركات- بل في كلّ مركز حقوقي- كي تتصدّى إدارة شؤونها، وتباشر أعمالها، وهؤلاء يعدّون عند العقلاء قائمين مقام الشركة، فيجب حينئذٍ ملاحظة شرائط المتعاقدين- غير الحجر بالإفلاس- في حقّهم.

أ مّا الحجر بالإفلاس، فقد عرفت أنّه يلحظ بنظر العقلاء في حقّ نفس الشركة؛ وذلك لأنّ موجب حجر الحاكم على المفلّس هو إفلاسه، ولا شكّ في أنّه أمر اعتباري؛ إذ حقيقة الإفلاس عبارة عن قصور أموال المديون عن ديونه، ومن المعلوم أنّ كلّ واحد من القيدين- أعني قيد قصور الأموال، وقيد عن ديونه- اعتباري محض، كما أنّ الملكية أيضاً من الاعتباريات التي تتقوّم في جوهرها بالاعتبار، وبالنظر إلى هذه النكتة فكما يجوز للعقلاء اعتبار ملكية ملايين من الأموال لشخصية حقوقية، ومنها شركة التأمين، أو اعتبار ملايين من النقود ديناً على ذمّتها، فكذلك يجوز لهم اعتبار الإفلاس لها فيما إذا قصرت أموالها عن ديونها.

وهذا بخلاف بقية شرائط المتعاقدين من العقل والبلوغ والقصد والاختيار- بمعنى عدم الإكراه- فإنّها قيود لا يتّصف بها إلّاالشخص الحقيقي؛ وهو الإنسان، مسألة 4- يشترط في التأمين- مضافاً إلى ما تقدّم- امور: الأوّل: تعيين

ص: 99

المؤمَّن عليه من شخص، أو مال، أو مرض، ونحو ذلك (10).

فيجب في عملية التأمين ملاحظة هذه الأوصاف بالنسبة إلى أعضاء الهيئة التي قامت مقام الشركة لإدارة شؤونها، كما دارت عليه سيرة العقلاء في زماننا.

شرائط التأمين

10- تقدّم في ذيل المسألة الثالثة: أنّه تشترط في عملية التأمين امور، يتعلّق بعضها بالمتعاقدين؛ وهو البلوغ، والعقل، وعدم الحجر، والاختيار، والقصد، وقد مرّ البحث عن كلّ واحد منها هناك تفصيلًا، ويتعلّق شطر منها ببقية أركان عقد التأمين، تعرّض لها الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة، ونبحث عنها على التفصيل التالي:

وهي امور:
1- تعيين المؤمَّن عليه

من أركان عملية التأمين المؤمّن عليه؛ وهو الشي ء الذي تتعهّد شركة التأمين للمستأمن بأن تتداركه وتجبر الخسارات المحتملة الطارئة عليه، وهذا الشي ء تارةً:

يكون شخصاً بالنسبة إلى حياته، كما في التأمين على الحياة، واخرى: يكون شخصاً بالنسبة إلى الأمراض والآفات الطارئة عليه، وثالثة: تكون أمواله وممتلكاته وما يتعلّق به.

ولا يخفى: أنّ عطف «أو مرض» في المتن على قوله: «من شخص، أو مال» لا يخلو من مسامحة؛ لأنّه قدس سره ذكر هذه الامور مصداقاً للمؤمّن عليه، ومن

ص: 100

المعلوم أنّ المرض مصداق للمؤمّن منه، وهو الخطر الذي تتعهّد شركة التأمين بجبره وتداركه، وأ مّا المؤمّن عليه فهو الشي ء الذي يكون في معرض الخطر ويقع عليه عقد التأمين.

وقال المحقّق السيّد الخوئي في «المنهاج»: «يعتبر في التأمين تعيين المؤمّن عليه، وما يحدث له من خطر، كالغرق، والحرق، والسرقة، والمرض، والموت، ونحوها»(1).

وما يمكن أن يستدلّ به على وجوب تعيين المؤمّن عليه وجهان:

الأوّل: ما أفاده الفقيه المحقّق الشيخ الحلّي قدس سره: «من أنّ شركة التأمين مع عدم تعيين المؤمّن عليه، تقف مكتوفة اليد، فعلى أيٍّ ترتّب دفع الأموال؟!»(2).

وفيه: أنّه أخصّ من المدّعى؛ حيث إنّ المؤمّن عليه لو كان مالًا مردّداً بين أموال مختلفة، كالكلّي في المعيّن، وقد استأمنه مالكه بالنسبة إلى خطر خاصّ، كالحرق، أو السرقة، أو الإصابة، ولم يحدث في مدّة التأمين هذا الخطر المستأمن منه على شي ء من تلك الأموال التي بينها المؤمّن عليه المردّد، فلا تصل النوبة حينئذٍ إلى مرحلة التدارك والجبران حتّى تتوقّف الشركة في قبالها مكتوفة اليد، مع أنّ المؤمّن عليه غير معلوم، بل مردّد.

الثاني: أنّ إنشاء عقد التأمين من غير تعيين المؤمّن عليه، معاملة غير عقلائية، فإنّهم- على ما ترى من سيرتهم العريقة- لا يقدمون عليه، كما لا يقدمون على البيع أو الإجارة مع عدم تعيين العوضين، بل يعدّونه معاملة غررية غير


1- منهاج الصالحين 1: 421 ..
2- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي: 20 ..

ص: 101

عقلائية. والغرر في غير البيع وإن لم يثبت ورود النهي عنه؛ أي «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن الغرر» فإنّها مرسلة تفرّد بنقلها الصدوق قدس سره مضافاً إلى أنّ التأمين من العقود غير المبنية على المداقّة، وما زال مقروناً بشي ء من الغرر؛ بالنظر إلى أنّ الخطر الذي تتعهّد شركة التأمين أن تجبره، أمر محتمل، ومن الممكن أن لا يحدث أصلًا، إلّاأنّ الغرر ربما يبلغ إلى مرتبة لا يقدم عليه العقلاء، وهذا يوجب خروج المعاملة التأمينية- التي لم يعيّن فيها المؤمّن عليه- عن دائرة المعاملات العقلائية، ومجرّد هذا كافٍ للحكم بعدم نفوذها، ولا يتوقّف على إحراز النهي عنها أو دليل خاصّ آخر؛ وذلك لقصور أدلّة الإمضاء العامّة عن الشمول لها، مثل قوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(1) وقوله تعالى: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(2)، أو الخاصّة بباب، مثل صحيحة حفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الصلح جائز بين الناس»(3)؛ فإنّها سيقت إمضاءً لما عليه بناء العقلاء في معاملاتهم، فلا تشمل المعاملات غير العقلائية، ومنها عقد التأمين الذي لم يعيّن فيه المؤمّن عليه.

وبالنظر إلى هذه النكتة، لا يبقى مجال لدعوى اندراجها في عموم قوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ كما أنّ الآية وغيرها من أدلّة الإمضاء، قاصرة عن الشمول لما هو خارج عن طريق العقلاء في معاملاتهم، ولذا قال المحقّق المدقّق المراغي بالنسبة إلى المعاملات السفهية: «وأ مّا عموم أَوفُوا بِالعُقُودِ و «المؤمنون عند شروطهم» ونحو ذلك من العمومات ك أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ


1- المائدة( 5): 1 ..
2- النساء( 4): 29 ..
3- وسائل الشيعة 18: 443، كتاب الصلح، الباب 3، الحديث 1 ..

ص: 102

و «الصلح جائز» وغير ذلك من الأدلّة المطلقة في أبواب الفقه التي يتمسّك بها في إثبات الصحّة، فغير شامل للمقام؛ نظراً إلى انصرافها أيضاً إلى المتعارف الشائع وما عليه طريقة الناس، وما لا يقصد للعقلاء غير مندرج تحت ذلك. مضافاً إلى أنّ المعلوم من طريق الشرع، المنع عمّا لا يعتدّ به ديناً ودنياً، وما نحن فيه- المعاملات السفهية- من هذا القبيل»(1).

نعم، على المسلك غير المشهور- كمسلك المحقّق السيّد الخوئي قدس سره القائل بانعقاد الإطلاق أو العموم لأدلّة الإمضاء بالنسبة إلى المعاملات السفهية غير العقلائية، دون معاملات السفهاء- لا يكفي مجرّد اندراج عقد التأمين مع عدم تعيين المؤمّن عليه في المعاملة غير العقلائية للحكم بعدم نفوذها؛ وذلك لأنّ عموم بِالعُقُودِ في آية أَوفُوا بِالعُقُودِ وإطلاق قوله سبحانه: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ- على مبناه- شامل لجميع المعاملات؛ سواء أكانت عقلائية، أم غير عقلائية، فلا قصور في شمول دليل الإمضاء للمقام؛ وحينئذٍ فلابدّ للحكم بعدم النفوذ من التماس وجه آخر، وإلّا فمقتضى إطلاق دليل الإمضاء أو عمومه هو الحكم بالصحّة.

وقد صرّح المحقّق السيّد الخوئي قدس سره بهذا المبنى في مواضع عديدة من كلماته في أبواب المعاملات، منها ما ذكره في ردّ الاستدلال على بطلان بيع غير المقدور تسليمه بكونه بيعاً سفهياً، فقال ردّاً لهذا الوجه ما إليك لفظه: «على أنّا ذكرنا مراراً أنّه لا دليل على بطلان البيع السفهي، وإنّما الدليل على بطلان بيع الثاني: تعيين طرفي العقد من كونهما شخصاً أو شركة أو دولة مثلًا (11).


1- العناوين، المراغي 2: 372 ..

ص: 103

السفيه، ففي البيع السفهي نتمسّك بالعمومات ونحكم بصحّته»(1).

ولكن مقتضى التحقيق هو قصور أدلّة الإمضاء عن الشمول للمعاملة غير العقلائية؛ وذلك بعد النظر إلى نكتة: وهي أنّ بناء الشارع في باب المعاملات ليس على التأسيس؛ على ما هو دأبه في باب العبادات، بل على إمضاء ما هو الدارج عند العقلاء وسارت عليه سيرتهم، وبعبارة اخرى: أنّ شأن الشارع في باب المعاملات، ليس على الترويج للُامور السفهية، ولا إمضائها، ولا تنفيذ ما يحترز العقلاء عنه ولا يقدمون عليه، بل إمضاء خصوص ما دار عليه بناؤهم في معاملاتهم، وبعد إحراز هذا البناء من الشارع، لا يمكننا دعوى عموم أو إطلاق لأدلّة الإمضاء بالنسبة إلى المعاملات السفهية، ومنها المعاملة التأمينية مع عدم تعيين المؤمّن عليه فيها.

هذا، مع أنّه قدس سره عدل في كتاب الإجارة عن ذلك المبنى الذي اصطفاه في كتاب البيع وأصرّ عليه، وستأتي عبارته من الإجارة.

2- تعيين طرفي العقد

11- من شرائط عملية التأمين تعيين طرفي العقد، والمقصود بعنوان «طرفي العقد» تارةً: يكون طرفي الإيجاب والقبول، وهما الموجب والقابل إنشاءً، وهو غير مقصود الماتن المحقّق قدس سره واخرى: يكون المقصود طرفي التأمين لبّاً لا إنشاءً؛ وهما المؤمّن- كشركة التأمين- والمستأمن؛ وهو مالك المال المؤمّن عليه، وهذا


1- مصباح الفقاهة 5: 266 ..

ص: 104

هو مقصوده في هذا الشرط، فلو لم يعيّن الموجب والقابل أو أحدهما، المؤمّن أو المستأمن أو كليهما، يقع باطلًا، كما إذا أمّن وكيل شركة تأمين معيّنة سيّارة شخص، ولكن لا من قبل شركته المعيّنة، بل من جانب إحدى سائر الشركات، ولم يعيّنها حال العقد، فإنّه يقع باطلًا؛ لعدم تعيين المؤمّن، وهكذا لو استأمن شخص سيّارةً لغيره عند شركة التأمين المعيّنة، ولم يعيّن المستأمن الواقعي؛ وهو صاحب السيّارة، فإنّه يقع باطلًا أيضاً؛ لعدم تعيين المستأمن، وكذا إذا لم يعيّن كلا طرفي العقد من المؤمّن والمستأمن.

وأ مّا الدليل على اعتبار هذا الشرط فنقول: تارةً: لا يعيّن طرفا العقد أو أحدهما؛ لا في ضمن العقد، ولا بعده، ولا قبله، واخرى: يعيّن الطرفان بعد العقد.

أ مّا الصورة الاولى: فلا ينبغي الإشكال في بطلانها، والدليل عليه هو عدم إمكان الوفاء بعقد التأمين حينئذٍ، ولا إجراء أحكام الملك عليه، مع أنّ في عقد التأمين يملك كلّ من المؤمّن والمستأمن على الآخر شيئاً، فالمؤمّن وهو شركة التأمين تملك مبلغ الاستئمان، وعلى المستأمن الوفاء بردّه إليها دفعةً، أو تدريجاً على سبيل الأقساط، كما هو المألوف والمعمول به في زماننا، كما أنّ المستأمن يملك على المؤمّن، حقّ جبر الكوارث والخسارات الواردة على ماله الذي استأمنه وعلى شركة التأمين الوفاء بهذا الحقّ بالإقدام على تدارك الخسارات عند حدوثها على المال المؤمّن عليه، فلو لم يعيّن طرفا العقد- من المؤمّن، أو المستأمن، أو أحدهما؛ لا في ضمن العقد، ولا قبله، ولا بعده- فكيف يمكن الوفاء حينئذٍ بمقتضى هذا العقد؟! فيصير لغواً.

بل قد استدلّ الشيخ الأعظم قدس سره بهذا الوجه- لزوم عدم إمكان الوفاء بالعقد

ص: 105

وترتيب آثار الملك- على بطلان البيع فيما لم يعيّن طرفاه حال العقد(1).

وقد أجاب عنه الماتن المحقّق قدس سره: «بأنّ استلزام عدم التعيين لعدم الوفاء بالعقد وترتيب آثار الملك، إنّما يكون فيما لم يعيّن الطرفان أبداً، وأ مّا إذا لم يعيّن الموجب والقابل الطرفين ضمن العقد ولكن عيّناهما بعده، فلا إشكال لإمكان الوفاء حينئذٍ بمقتضى العقد»(2).

ويمكن لنا الاستدلال على بطلان عقد التأمين فيما لم يعيّن طرفاه أو أحدهما بوجه آخر: وهو أنّ مثل هذا العقد خارج عن العقود العقلائية؛ سواء قلنا: بأنّ عقد التأمين مندرج في باب الضمان، أو الصلح، أو الهبة المعوّضة، أو قلنا: بأ نّه عقد مستقلّ، وحيث إنّ أدلّة الإمضاء العامّة لجميع المعاملات، ناظرة إلى العقود العقلائية- مثل قوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(3)، وقوله عزّوجلّ: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(4)؛ بناء على عمومية التجارة لكلّ معاملة بقصد تحصيل الربح- وكذا الأدلّة الخاصّة بباب الضمان، أو الصلح، أو الهبة المعوّضة فلا محالة تكون قاصرة عن الشمول لمثل المقام؛ لخروجه عنها موضوعاً بعدما لم يكن من العقود العقلائية.

وأ مّا الصورة الثانية:- وهي ما لم يعيّن طرفا التأمين ضمن العقد، ولكن عيّنهما الموجب والقابل بعده- فهل التأمين حينئذٍ محكوم بالفساد أم لا؟

مقتضى التحقيق: أنّه لا دليل على بطلانه بعد إمكان الوفاء بالعقد وترتيب آثار الملك بتعيين طرفي العقد بعده، فيندرج في عموم أدلّة الإمضاء المتقدّمة أو


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 117 ..
2- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 59 ..
3- المائدة( 5): 1 ..
4- النساء( 4): 29 ..

ص: 106

إطلاقها.

إلّا أن يقال: إنّ المنصرف من أدلّة الإمضاء هو العقود المتعارفة، وهي العقود التي تعيّن أطرافها في ضمن العقد، فما يعيّن طرفاه بعده خارج عنها، ولا تشمله أدلّة الإمضاء، فيبقى غير نافذ.

ولكنّه مدفوع: بأنّ الانصراف إن كان بدوياً فلا عبرة به، وإن كان مستقرّاً فهو وإن كان يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم واحتجاجاتهم، إلّاأنّه لابدّ له من مناط، ومناطه- كما تقدّم- هو الظهور والخفاء من حيث الصدق، فلو كان صدق عنوان على بعض مصاديقه ظاهراً وعلى بعضها الآخر خفياً، فهو منصرف عن الثاني إلى الأوّل، والمقام ليس من هذا القبيل؛ وذلك لأنّ العنوان المأخوذ في أدلّة الإمضاء امور:

أوّلها: عنوان العُقُودِ المأخوذ في قول اللَّه سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ.

وثانيها: عنوان تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ المأخوذ في قول اللَّه عزّوجلّ: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ.

ثالثها: عنوان «الهبة المعوّضة» المأخوذ في أخبار هذا الباب؛ بناءً على القول باندراج التأمين في الهبة المعوّضة.

رابعها: عنوان «الصلح» المأخوذ في صحيحة حفص بن البختري «الصلح جائز بين الناس».

خامسها: عنوان «الضمان» المأخوذ في أخباره؛ بناءً على كون التأمين من باب الصلح أو الضمان.

الثالث: تعيين المبلغ الذي يدفع المؤمّن له إلى المؤمّن (12).

ص: 107

وصدق هذه العناوين على عقد التأمين الذي لم يعيّن في ضمن إنشائه طرفاه، وإنّما عُيّنا بعده، ليست بخفية حتّى تنصرف عنه، ومجرّد غلبة الوجود على تعيينهما ضمن الإنشاء، لا يوجب الانصراف؛ إذ المناط لاستقرار الانصراف هو الظهور والخفاء في الصدق، وقد تبيّن أنّ صدق العناوين المأخوذة في لسان أدلّة الإمضاء في المقام، ليس بخفيّ.

ثمّ لا يخفى: أنّ خلوّ عقد التأمين من تعيين الطرفين أو أحدهما في زماننا، هو مجرّد فرض؛ لأنّ ما هو الرائج والمتداول في إجراء عقد التأمين، هو تعيين الطرفين من المؤمّن والمستأمن ضمن إنشاء العقد الجاري بالكتابة من غير فرق بين أصنافه؛ سواء أوقع بين شخصيتين حقوقيتين، كشركة التأمين والدولة، أو هي وشركة اخرى، أو شخصية حقوقية وشخص حقيقي، كشركة التأمين وشخص خاصّ. ولكن لو وجد مورد لم يعيّن فيه طرفا التأمين ضمن الاتفاقية التي دوّنها الموجب والقابل- على خلاف ما هو الرائج المألوف بين أرباب التأمين والمستأمنين- فالحكم ما تقدّم.

3- تعيين مبلغ الاستئمان (قسط التأمين)

12- من شرائط عقد التأمين، تعيين مبلغ الاستئمان الذي يدفعه المستأمن إلى شركة التأمين، وقد سمّاه السنهوري في القانون المدني ب «قسط التأمين»(1).

ووزان مبلغ الاستئمان في عقد التأمين- بناءً على كونه عقداً مستقلًاّ، أو اندراجه في


1- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1144 ..

ص: 108

الصلح أو الضمان- وزان الثمن في البيع، فكما أنّ البيع يبطل بعدم تعيينه، فكذلك عقد التأمين يبطل بعدم تعيين هذا المبلغ فيه. وأ مّا بناءً على كونه من سنخ الهبة المعوّضة فلا يشترط التعيين، وسيأتي وجهه.

والدليل على اشتراط تعيين العوضين في البيع: هو النبوي المعروف «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الغرر»(1)، ونصوص خاصّة بباب البيع(2) ولا يمكننا الاستدلال بهذه الأخبار في المقام على اعتبار تعيين قسط التأمين.

نعم، ورد في بعضها تعليل الحكم بما لعلّه يعمّ- بالتقريب الآتي- غير البيع، وهو ما رواه المشايخ الثلاثة بسند صحيح عن الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: أنّه قال في رجل اشترى من رجل طعاماً عدلًا بكيل معلوم، وأنّ صاحبه قال للمشتري:

ابتع منّي من هذا الآخر بغير كيل؛ فإنّ فيه مثل ما في الآخر الذي ابتعت، قال: «لا يصلح إلّابكيل» وقال: «وما كان من طعام سمّيت فيه كيلًا فإنّه لا يصلح مجازفة، هذا ممّا يكره من بيع الطعام»(3).

فإنّ التعليل المذكور في الذيل «فإنّه لا يصلح مجازفة» بعد رجوع ضمير «فإنّه» وكذا «لا يصلح» إلى البيع، يفيد قاعدة كلّية في خصوص باب البيع؛ وهي فساد كلّ بيع جزافي، كما أفاده الماتن المحقّق قدس سره في وجه دلالته على البطلان، حيث قال: «إنّ المتفاهم عرفاً منه أنّ ما هو تمام الموضوع في البطلان وعدم الصلاح، هو الجزاف؛ من غير دخالة للمقاولة السابقة، ولا لتطبيق الصبرة على


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 24 ..
2- راجع وسائل الشيعة 17: 341، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 4 ..
3- وسائل الشيعة 17: 342، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 4، الحديث 2 ..

ص: 109

الكيل، فالسبب التامّ بنظر العرف هو البيع جزافاً»(1).

وقوله عليه السلام: «لا يصلح»- بعد النظر إلى وروده في باب البيع ورعاية المناسبة بين الحكم والموضوع- ظاهر في الإرشاد إلى الفساد.

وأ مّا دعوى: بعض دلالة الصحيحة على الكراهة لا الفساد بقرينة ما في ذيلها من قوله عليه السلام: «هذا ممّا يكره من بيع الطعام» فمدفوعة بأ نّها مبنية على إحراز استعمال الكراهة في لسان الأئمّة عليهم السلام في المعنى المصطلح؛ أي قسيم الحرمة، وهو غير ثابت، بل هي مستعملة في لسانهم عليهم السلام في الأعمّ من الكراهة المصطلحة عند الفقهاء، وحينما يطلق يكون ظاهراً في الحرمة، كما ورد في الكتاب الكريم: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكرُوهاً(2).

وكيف كان: فالتعليل بقوله: «فإنّه لا يصلح مجازفة» مختصّ بحسب الظاهر بالبيع؛ بالنظر إلى رجوع الضمير في «فإنّه» و «لا يصلح» إليه، ولكن يمكن إلغاء الخصوصية عن البيع وتعميمه إلى جميع المعاملات المبنية على المداقّة؛ وذلك بعد ضمّ التعليل المذكور إلى ما استقرّ عليه ارتكاز العرف والعقلاء من عدم الإقدام على المعاملة الجزافية، وعدم ترتيب الآثار عليها، فالجزاف بما هو هو عند العرف في أيّ عقد كان، يوجب البطلان؛ من غير فرق بين أن يكون في عقد البيع، أو غيره من العقود كالضمان والعقد المستقلّ والهبة المعوّضة، كما خرّجت على هذه العقود حقيقة التأمين عند الأعلام المتعرّضين للمسألة.

ولكن يمكن النقاش في ذلك: بأنّ التعدّي عن منع المجازفة في البيع إلى عقد


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 3: 356.
2- الإسراء( 17): 38 ..

ص: 110

التأمين، ممنوع حتّى على فرض إلغاء الخصوصية عن البيع؛ وذلك لأنّ البيع من المعاملات المبنية عند العقلاء على المداقّة، بخلاف التأمين، فإنّه غير مبني عليها، ولاسيّما بالنسبة إلى الأقساط التي يدفعها المستأمن إلى المؤمّن عوضاً عن تعهّده لتدارك الخسارة المحتملة التي ربما لا تقع أصلًا، ومن هنا لا يمكننا التمسّك لاعتبار تعيين أقساط التأمين بالنبوي المعروف: «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الغرر» بدعوى إلغاء الخصوصية عن الغرر في البيع بالاعتماد على ما هو المرتكز عند العقلاء من سببية الغرر للبطلان في كلّ عقد؛ وذلك لأنّ عقد التأمين ما زال مبنياً عند العقلاء على مرتبة من الغرر؛ بعد النظر إلى أنّ المؤمّن عليه ربما لا يطرأ عليه أيّ خطر ولا خسارة حتّى يجب على المؤمّن الإقدام على تداركه عوضاً عمّا أخذه من الأقساط.

فقد ظهر بما تقدّم: أنّ الوجوه المقتضية لوجوب تعيين العوضين في البيع، لا يجوز التعدّي منها إلى مثل عقد التأمين.

ومن هنا ينحصر الدليل في اشتراط تعيين قسط التأمين في وجه آخر: وهو ما تقدّم في الشرطين الأوّل والثاني من أنّ أدلّة الإمضاء ناظرة إلى إمضاء ما هو المتعارف بين العقلاء مطلقاً؛ سواء كانت شاملة لجميع المعاملات، كقوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، وقوله عزّوجلّ: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(2)، بناءً على عمومية «التجارة» لكلّ معاملة تقع بقصد تحصيل الربح، وعدم اختصاصها بالبيع والشراء، أو خاصّة ببعضها، كأدلّة الضمان والصلح، فهي قاصرة عن الشمول


1- المائدة( 5): 1 ..
2- النساء( 4): 29 ..

ص: 111

للمعاملة التي ليست بعقلائية؛ لما تقدّم من عدم بناء الشارع في تلك الأدلّة على تأسيس حكم، بل على إمضاء ما هو المألوف الرائج عند العقلاء، ولا شكّ في أنّ عملية التأمين من غير تعيين قسط التأمين، معاملة لا يقدم عليها العقلاء، ولا يلزمون طرفيها- لو وقعت- بترتيب الآثار عليها، وبهذا البيان تخرج عن نطاق أدلّة الإمضاء، وتصبح غير نافذة.

وقد تمسّك بهذا الوجه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره لاشتراط تعيين العوضين في باب الإجارة، وعدل به عمّا اصطفاه في البيع، حيث قال في الإجارة: «ولا يبعد أن يقال: إنّ أساس المعاملات العقلائية- من البيع والإجارة ونحوها- مبني على التحفّظ على اصول الأموال، والتبدّل في أنواعها، فلدى التصدّي لتبديل عين أو منفعة بعوض، يرون التساوي بين مالية العوضين كشرط أساسي مرتكز قد بني عليه العقد؛ بمثابة يغني وضوحه عن التصريح به في متنه، وعلى هذا الشرط الارتكازي يبتني خيار الغبن، كما هو موضح في محلّه، وعليه فالمعاملة على المجهول المتضمّنة للغرر- كبيع جسم أصفر مردّد بين الذهب وغيره، أو جعله اجرة- خارج عن حدود المعاملات الدارجة بين العقلاء، وما هذا شأنه لا يكون مشمولًا لدليل النفوذ والإمضاء من وجوب الوفاء بالعقود، وحلّية البيع، ونحو ذلك، فإنّ دعوى انصراف هذه الأدلّة عن مثل ذلك غير بعيدة، كما لا يخفى، وكيفما كان فإن تمّت هذه الدعوى- والظاهر أنّها تامّة- عمّ مناطها الإجارة»(1).

وقد عدل قدس سره بهذه الصراحة عمّا اختاره وأصرّ عليه في باب البيع من تمامية الرابع: تعيين الخطر الموجب للخسارة، كالحرق والغرق والسرقة


1- مستند العروة، كتاب الإجارة: 33 ..

ص: 112

والمرض والوفاة ونحو ذلك (13).

عموم أدلّة الإمضاء وإطلاقها للمعاملات السفهية، كما قال: «على أنّا ذكرنا مراراً أنّه لا دليل على بطلان البيع السفهي، وإنّما الدليل على بطلان بيع السفيه، ففي البيع السفهي نتمسّك بالعمومات ونحكم بصحّته»(1). هذا كلّه بناءً على كون التأمين عقداً مستقلًاّ، كما عليه الماتن المحقّق قدس سره أو مندرجاً في باب الصلح أو الضمان.

وأ مّا بناءً على كون تخريجه الفقهي من باب الهبة المعوّضة، كما عليه المحقّق السيّد الخوئي قدس سره فلا يشترط تعيين قسط التأمين ضمن العقد؛ وذلك لأنّ صحّة الهبة مشروطة بالقبض، فما لم يقبض الموهوب لا تنعقد الهبة النافذة حتّى يشترط تعيينه في ضمن عقدها، وبناءً على هذا تتحقّق الهبة المعوّضة في المقام بدفع كلّ قسط من الأقساط إلى شركة التأمين، ومن المعلوم أنّ مبلغ القسط عند الدفع إليها معلوم.

4- تعيين الخطر

13- ومن شرائط عقد التأمين، تعيين الخطر الذي استأمن المال عند شركة التأمين لتجبره عند حدوثه؛ وهل أنّه الحرق، كما في التأمين على السيّارات والطائرات، أو الغرق، كما في التأمين على السفينة، أو السرقة، كما في التأمين على الأموال المنقولة، أو المرض، كما في التأمين على الإنسان وعياله، أو الوفاة، كما


1- مصباح الفقاهة 5: 266 ..

ص: 113

في التأمين على الحياة.

وقال المحقّق السيّد الخوئي قدس سره في «المنهاج»: «يعتبر في التأمين تعيين المؤمّن عليه، وما يحدث له من خطر، كالغرق، والحرق، والسرقة، والمرض، والموت، ونحوها»(1).

وقال السنهوري في «الوسيط في شرح القانون المدني»: «فالخطر إذن هو من وراء القسط ومبلغ التأمين، وهو المقياس الذي يُقاس به كلّ منهما، ولذلك نقف عند الخطر وحده»(2).

وداعي الطرفين إلى تعيين الخطر في عملية التأمين واضح:

أ مّا من جانب المستأمن، فلأ نّه تارةً: يقلق على ماله بلحاظ خطر السرقة، فيطلب من شركة التأمين أماناً له منها، ووليدة تأمين المال على السرقة هو اطمئنان المالك بأ نّه لو سرق، تتداركه الشركة، فيبقى ماله محفوظاً إمّا بعينه إن لم يسرق، وإمّا بماليته لو سرق.

واخرى: بلحاظ خطر الحرق، أو الغرق، أو الإصابة، فيقدم بالطبع على استئمانه من الشركة بلحاظ هذه الجهات. هذا من جانب.

ومن جانب آخر فإنّ مبلغ الاستئمان- قسط التأمين- بالنسبة إلى نوع الخطر مختلف، فتعيين الأقساط تابع لتعيين الخطر، فلابدّ من تعيينه.

وأ مّا من جانب شركة التأمين، فلأنّ مبلغ التأمين- وهو المبلغ الذي تدفعه الشركة إلى المستأمن عند حدوث الخطر جبراً له- بالنسبة إلى جميع الأخطار،


1- منهاج الصالحين 1: 421 ..
2- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1218 ..

ص: 114

ليس على حدّ واحد، بل هو يختلف باختلافها، فلابدّ أن يعيّن نوع الخطر حتّى يعيّن بإزائه مبلغ التأمين عند طروّ الخطر على المال المؤمّن عليه.

وبالنظر إلى هذه النكتة يلزم عند العقلاء تعيين نوع الخطر في عقد التأمين، ومن هنا تصبح المعاملة التأمينية التي لم يعيّن فيها نوع الخطر، معاملة غير عقلائية، وحينئذٍ لا يشملها عموم أدلّة الإمضاء، كقوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، ولا إطلاقها، كقوله عزّوجلّ: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(2)؛ بناءً على تعميم التجارة إلى مطلق المعاملة الواقعة بقصد الاسترباح، وكذا إطلاق ما ورد في الصلح مثل قوله عليه السلام في صحيحة حفص بن البختري: «الصلح جائز بين الناس»(3)، وكذا إطلاق ما ورد في الهبة المعوّضة؛ بناءً على اندراج التأمين فيهما، لما مرّ مراراً من أنّ أدلّة الإمضاء ناظرة إلى تنفيذ المعاملات المتعارفة العقلائية فقط، ومع عدم شمول أدلّة الإمضاء تصبح غير نافذة.

وببيان فنّي صناعي نقول: لا شكّ ولا إشكال بين الأعلام في وجوب تعيين العوضين في جميع المعاملات والمعاوضات من البيع والإجارة وغيرهما؛ وإن اختلفوا في وجهه، والتأمين- سواء قلنا: بأنّ تخريجه الفقهي كونه من باب الهبة المعوّضة، كما عليه السيّد المحقّق الخوئي، أو من باب الضمان، كما عليه الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي، أو هوعقد مستقلّ، كما عليه الماتن المحقّق- لا يخلو


1- المائدة( 5): 1 ..
2- النساء( 4): 29 ..
3- وسائل الشيعة 18: 443، كتاب الصلح، الباب 3، الحديث 1 ..

ص: 115

من العوضين، فهو من العقود المعاوضية التي يلزم تعيين عوضيها بلاخلاف وإشكال.

والعوض من قبل المستأمن هو المبلغ الذي يدفعه تدريجاً على سبيل الأقساط إلى شركة التأمين، وأ مّا العوض من جانب شركة التأمين، فليس ما يدفعه بدلًا عن الخطر الذي ربما يطرأ على مورد التأمين من السيّارة والسفينة والدار وغيرها؛ فإنّ تدارك الخطر والخسارة ليس أمراً منجّزاً مقطوعاً، بل هو مشروط بطروّها، ومن الممكن أن لا تطرأ خسارة أصلًا، وحينئذٍ يلزم أن يكون عقد التأمين من قبل المؤمّن بلا عوض، بل العوض من جانب شركة التأمين في الحقيقة، هو الأمان المالي الحاصل بتعهّد الشركة بجبر الخسارة الواردة، وهو الموجب لحفظ المال الذي استأمنه المالك، ولكن لا بعينه، بل بماليته، وإن شئت قلت: إنّ العوض من جانب الشركة هو نفس التعهّد المذكور المقتضي للأمان المالي والحفظ، ولا شكّ في أنّ هذه الحيثية- أعني حيثية الأمان المالي- لها شأن من المالية عند العقلاء، وهم يتنافسون فيها، فإنّ حفظ المال تارةً: يتحقّق بحفظ عينه، واخرى: بحفظ ماليته، وهو حاصل في المقام بتعهّد الشركة بتدارك الخسارة الواردة.

وبهذا البيان اتّضح وجه كون عقد التأمين من العقود المعاوضية، ولذا قال السنهوري في «شرحه على القانون المدني»: «وهو من عقود المعاوضة؛ إذ كلّ من المتعاقدين يأخذ مقابلًا لما أعطى، فالمؤمّن يأخذ مقابلًا؛ هو أقساط التأمين التي يدفعها المؤمّن له، وكذلك المؤمّن له يأخذ مقابلًا لما يدفعه؛ هو مبلغ التأمين إذا وقعت الكارثة. وقد يبدو أنّ المؤمّن له لا يأخذ مقابلًا إذا لم تقع الكارثة؛ إذ يكون المؤمّن غير ملتزم بشي ء ونحوه.

ولكنّ الواقع أنّ المقابل الذي يأخذه المؤمّن له في نظير دفع أقساط التأمين،

ص: 116

هو مبلغ التأمين بالذات، فقد يأخذه، وقد لا يأخذه، ولكنّ المقابل هو تحمّل المؤمّن لتبعة الخطر المؤمّن منه؛ سواء تحقّق الخطر، أو لم يتحقّق، وتحمّل المؤمّن لهذه التبعة ثابت في الحالتين(1).

ثمّ إنّ العوض من قبل المؤمّن- سواء كان هو الأمان المالي الحاصل بتعهّد الشركة بجبران الخسارات المحتملة، أو كان نفس التعهّد المذكور الموجب للأمان المالي؛ على ما تقدّم توضيحه- يجب أن يكون معيّناً عند العرف والعقلاء، كما هو الحال عندهم في جميع المعاوضات، ومن المعلوم أنّ حيثية الأمان المالي أو التعهّد الموجب لها، لا تتعيّن إلّاإذا كان متعلّق الأمان والتعهّد معلوماً من ناحيتين: من ناحية المال المؤمّن عليه، ومن ناحية الخطر والكارثة المؤمّن منها التي قد تطرأ عليه؛ إذ التعهّد أو الأمان المهملان غير موجودين في الخارج، فلابدّ من تعيين متعلّقهما في ضمن العقد بذكر المال المؤمّن عليه، ونوع الخسارة التي تتعهّد الشركة بتداركها، ولو لم يعيّن كلاهما أو أحدهما في عملية التأمين، تعدّ عند العقلاء معاملة فاقدة للعوض، وهي عندهم من الأسباب المعاملية الباطلة، فتندرج في عموم المستثنى منه من الآية الكريمة: وَلَا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(2)، وهي إرشاد إلى أنّ كلّ سبب معاملي يعدّ باطلًا عند العرف، هو باطل عند الشرع.

الخامس: تعيين الأقساط التي يدفعها المؤمّن له لو كان الدفع أقساطاً،


1- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1139 ..
2- النساء( 4): 29 ..

ص: 117

وكذا تعيين أزمانها (14).

وعلى الأقلّ تخرج هذه المعاملة الفاقدة للعوض عن عموم أدلّة الإمضاء، كقوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ وإطلاقها، كقوله تعالى: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ وهذا بالنظر إلى النكتة المتقدّمة مراراً؛ من أنّ أدلّة الإمضاء سيقت لتنفيذ ما هو الرائج والمتداول من الأسباب المعاملية عند العقلاء، ولا شكّ في أنّ عقد التأمين الذي لم يعيّن فيه المال المؤمّن عليه أو الكارثة المؤمّن بلحاظها، ليس عقلائياً قطعاً، فيخرج عن نطاق أدلّة الإمضاء، ويصبح غير نافذ.

5- تعيين الأقساط

14- من شرائط عقد التأمين، تعيين أقساط التأمين التي يدفعها المؤمّن له إلى المؤمّن على سبيل التدريج. وهذا الشرط يرجع إلى الشرط الثالث المتصدّي لبيان وجوب تعيين مبلغ الاستئمان. وتوضيح ذلك: أنّ مبلغ الاستئمان الذي يدفعه المستأمن إلى المؤمّن تارةً: يكون تسليمه إليه دفعةً، فلا يشترط فيه إلّاأمر واحد؛ وهو تعيين مقداره، والشرط الثالث ناظر إلى هذه الجهة، واخرى: يكون دفعه إليه تدريجياً على سبيل الأقساط، فحينئذٍ يشترط فيه- مضافاً إلى ذلك- تعيين أقساطه، وبالطبع تعيين زمانها، والشرط الخامس ناظر إلى بيان هذه الجهة.

والدليل على اشتراط تعيين الأقساط في عقد التأمين، هو ما تقدّم في الشرط الثالث، فراجع.

السادس: تعيين زمان التأمين ابتداءً وانتهاءً (15)،

ص: 118

6- تعيين تأريخ التأمين بدايةً ونهايةً

15- من الشرائط التي تبتني عليها صحّة عقد التأمين، أن تتعيّن مدّته ضمن العقد ابتداءً وانتهاءً. وفي «منهاج الصالحين»: «يعتبر في التأمين...؟ وتعيين المدّة بدايةً ونهايةً»(1).

وقال السنهوري في «شرحه على القانون المدني»: «وهو من العقود الزمنية؛ لأنّه يعقد لزمن معيّن، والزمن عنصر جوهري فيه، ويلتزم المؤمّن لمدّة معيّنة، فيتحمّل تبعة الخطر المؤمّن منه ابتداءً من تأريخ معيّن إلى نهاية تأريخ معيّن، وكذلك المؤمّن له يلتزم للمدّة التي يلتزم لها المؤمّن»(2).

والدليل على اشتراط ذلك في صحّة عقد التأمين، ما تقدّم في الشرائط السابقة من قصور أدلّة الإمضاء عن الشمول لفاقد الشرط. وتطبيقه على المقام بأن يقال: إنّ إهمال عقد التأمين من جهة ابتدائه وانتهائه، يكون على خلاف ما استقرّ عليه بناء العرف والعقلاء في عملية التأمين؛ فإنّهم يعدّون المعاملة التأمينية الخالية من تعيين هذه الجهة، معاملةً غير عقلائية، وهم لا يقدمون عليها، ولا يلتزمون بترتيب الآثار عليها، وقد تقدّم أنّ القانون المدني أشرب في التأمين، الزمان؛ بحيث عدّه من العقود الزمنية.

وأ مّا تعيين مبلغ التأمين- بأن يعيّن ألف دينار مثلًا- فغير لازم (16)، فلو


1- منهاج الصالحين 1: 421 ..
2- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1141 ..

ص: 119

عيّن المؤمَّن عليه، والتزم المؤمِّن؛ بأنّ كلّ خسارة وردت عليه فعليّ، أو أنا ملتزم بدفعها، كفى.

ولا نقصد بهذه السيرة التي نشأت في الأزمنة الأخيرة، استكشاف قول المعصوم عليه السلام حتّى يناقش فيها: بأنّ من شرائط السيرة الكاشفة عنه اتصالها بزمان المعصوم عليه السلام والمفروض في هذه السيرة القطع بعدم الاتصال، بل الغرض التوسّل بها إلى إثبات أنّ المعاملة التأمينية الخالية من جهة تعيين المدّة بدايةً ونهايةً، معاملة غير عقلائية، وحينئذٍ تخرج من نطاق أدلّة الإمضاء الواردة لتنفيذ جميع العقود، كقول اللَّه سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ أو لبعضها، كأخبار الصلح، والضمان، والهبة المعوّضة؛ بناءً على اندراج التأمين في هذه الأبواب؛ وذلك لما مرّ مراراً من أنّ أدلّة الإمضاء ناظرة إلى تنفيذ العقود العقلائية، فلا تشمل بعمومها أو إطلاقها العقد الذي هو خارج عمّا استقرّ عليه بناؤهم، كعقد التأمين الذي لم تعيّن فيه مدّة التأمين بدايةً ونهايةً.

عدم اشتراط تعيين مبلغ التأمين

16- لا يخفى: أنّ المراد ب «مبلغ التأمين» ليس الأقساط التي يدفعها المؤمّن له إلى شركة التأمين تدريجاً؛ فإنّها في الحقيقة مبلغ الاستئمان لا التأمين، وقد تقدّم اشتراط تعيينها في الشرط الخامس، بل المراد به المبلغ الذي تدفعه شركة التأمين إلى المستأمن عوضاً عن الخسارة الواردة على ماله التي شرط تداركها على

ص: 120

المؤمّن ضمن عقد التأمين، فهل يشترط تعيين ذاك المبلغ ضمن العقد كمبلغ الاستئمان، أم لا؟

صرّح الماتن المحقّق قدس سره بعدم اشتراطه؛ وذلك لأنّ الغرض العقلائي من عملية التأمين- وهو الأمان المالي- يحصل بمجرّد تعيين المال المؤمّن عليه، والتزام المؤمّن بجبر المؤمّن منه؛ أي الخسارة المعيّنة، كالحرق والإصابة ونحوهما، التي قد تطرأ على المؤمّن عليه، كما يحصل بتعيين مبلغ التأمين؛ بأن يذكر ضمن عقد التأمين أنّ هذه السيّارة مثلًا إذا طرأت عليها خسارة بالإصابة، فعلى شركة التأمين أن تدفع مبلغاً معيّناً إلى المستأمن.

بل لنا أن ندّعي أنّ الاكتفاء بتعيين نوع الخسارة- من الإصابة، والحرق، والسرقة، وغيرها- في عقد التأمين، يكون أقرب إلى الغرض العقلائي المقصود للمستأمنين وأرباب التأمين؛ وذلك لأنّ الغرض من الاستئمان كما تقدّم، هو تحصيل الأمان المالي وحفظ المال المؤمّن عليه؛ لا بعينه، بل بماليته، وبعد ملاحظة كون الخسارة الواحدة المعيّنة- كالإصابة- ذات مراتب وقيمها مختلفة، يعلم أنّ تحصيل هذا الغرض بالاكتفاء بتعهّد الشركة بتداركها، يكون أوفى وأدقّ من تعهّدها بدفع مبلغ معيّن، فإنّه ربما يكون أقلّ من قيمة الخسارة، كما قد يكون أكثر منها، وهذه النكتة قد تقتضي عدم كفاية تعيين مبلغ جبراً للخسارة الواردة على المال المؤمّن عليه.

ولكن لا يخفى: أنّ عدم كفايته يختصّ بما إذا كان مورد وفاق الطرفين؛ أي المؤمّن والمستأمن، تحمّل المؤمّن لنفس الخسارة المعيّنة وإنّما جعل مبلغ التأمين طريقاً إليه، وأ مّا إذا كان ما اتّفقا عليه دفع نفس المبلغ المعيّن عند حدوث الكارثة،

ص: 121

فهو كافٍ بلا إشكال وريب، وإن كان ذاك المبلغ أقلّ من قيمة الكارثة التي طرأت على المال المؤمّن عليه؛ لأنّ تراضي المؤمّن والمستأمن حينئذٍ إنّما استقرّ على جبر بعض الكارثة، لا كلّها.

شرط آخر لصحّة عقد التأمين

ما تقدّم من الشروط الستّة المذكورة في المتن- مضافاً إلى شروط المتعاقدين- معتبر في صحّة عقد التأمين على جميع المباني في تخريجه الفقهي؛ سواء قلنا: بأ نّه من باب الصلح، أو الضمان، أو الهبة المعوّضة، أو قلنا: بأ نّه عقد مستقلّ. ولكن في المقام شرط آخر لصحّة عقد التأمين، وهو مبني على نظرية الهبة المعوّضة في التأمين، كما عليه المحقّق السيّد الخوئي قدس سره وقد أهمله في باب التأمين من «المنهاج» ولعلّه اعتماداً على ذكره في باب الهبة، وهذا الشرط هو اعتبار القبض، فإنّه شرط في صحّة مطلق الهبة حتّى المعوّضة منها، وعليه جلّ القدماء أو كلّهم، وكذا مشهور المتأخرين، قال في «الجواهر»: «ولا حكم للهبة من ملك وغيره ما لم يقبض الموهوب؛ على ما هو المعروف من مذهب الأصحاب، كما في جامع المقاصد، وعليه المتأخرون إلّاالفاضل في المختلف، والشهيد في الدروس»(1).

وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في كتاب الهبة: «يشترط في صحّة الهبة


1- جواهر الكلام 28: 166 ..

ص: 122

القبض... ومتى تحقّق القبض صحّت الهبة من حينه»(1).

وتفصيل البحث- من جهة ملاحظة الوجوه التي اقيمت على اشتراط القبض في صحّة الهبة- موكول إلى محلّه.

ويترتّب على نظرية الهبة المعوّضة- بعد النظر إلى اعتبار القبض في صحّتها- أنّ كلّ قسط من الأقساط التي يدفعها المستأمن إلى شركة التأمين، يكون هبة مستقلّة، فتصبح دفع الأقساط هبات عديدة بعددها، والالتزام بهذا الأمر وإن كان لابدّ منه فيما وقع عقد التأمين بنحو الهبة المعوّضة؛ بأن يملّك المستأمن الأقساط لشركة التأمين مجّاناً بشرط أن تتعهّد الشركة بتدارك الخسارة المعلومة الواردة على المال المؤمّن عليه، ولكنّه مجرّد فرض أجنبي عمّا هو الرائج المتداول من عمل العرف في إجراء عقد التأمين، فإنّ المعهود والمرتكز بينهم أنّ المستأمن لا يملّك الأقساط لشركة التأمين مجّاناً بشرط أن تتعهّد الشركة بتدارك الخسارة المعلومة الواردة على المال المؤمّن عليه، بل إنّما يملّكها إيّاها في قبال عوض؛ وهو نفس تعهّد الشركة بتدارك الكارثة المعلومة متى طرأت على المال المؤمّن عليه، وهذا التعهّد لم يأخذ في عقد الشركة بنحو الشرط مع كون تمليك الأقساط مجّاناً؛ حتّى يكون العقد من سنخ الهبة المعوّضة، بل اخذ فيه عوضاً عن الأقساط، وقد تقدّم مراراً أنّ هذا التعهّد يمنح المستأمن أماناً مالياً بالنسبة إلى المال المؤمّن عليه، وله عند العقلاء شأن من المالية.


1- منهاج الصالحين 2: 204 ..

ص: 123

مسألة 5- الظاهر صحّة التأمين مع الشرائط المتقدّمة من غير فرق بين أنواعه من التأمين على الحياة أو على السيّارات والطائرات والسفن ونحوها، أو على المنقولات برّاً وجوّاً وبحراً، بل على عمّال شركة أو دولة، أو على أهل بيت أو قرية، أو على نفس القرية أو البلد أو أهلهما (17)، وكان المستأمن- حينئذٍ- الشركاء أو رئيس الشركة أو الدولة أو صاحب البيت أو القرية، بل للدول أن يستأمنوا أهل بلد أو قطر أو مملكة.

الجهة الرابعة: أنواع التأمين

17- قسّم التأمين في المصادر الحقوقية المتصدّية للبحث عنه على أساس القانون المدني تارةً: إلى تأمين خاصّ، وتأمين عامّ، واخرى: إلى تأمين خاصّ، وتأمين اجتماعي.

ولا يخفى: أنّ مآل التقسيمين إلى أمر واحد، وإنّما الاختلاف في التعبير تارةً:

ب «التأمين الاجتماعي» واخرى: ب «التأمين العامّ». وما ذكره الماتن المحقّق قدس سره من أصناف التأمين داخل في القسم الثاني.

ولقد أجاد السنهوري في تقسيمات التأمين وتعريفها، حيث قال ما إليك ملخّصه: «التأمين: إمّا تأمين اجتماعي، وإمّا تأمين خاصّ، فالتأمين الاجتماعي ينتظم العمّال ويؤ مّنهم من إصابات العمل، ومن المرض والعجز والشيخوخة، ويساهم فيه إلى جانب العمّال أصحاب العمل والدولة ذاتها، وتتولّى الدولة تنظيمه وإدارة شؤونه، ولا شأن لنا به هنا.

ص: 124

أ مّا التأمين الخاصّ فتقوم به الشركات والجمعيات التبادلية، وإذا كانت شركات التأمين في مصر قد امّمت جميعاً وأصبحت تابعة للقطّاع العامّ، وصارت المؤسّسات العامّة هي التي تُدير شؤونها، إلّاأنّ شركات التأمين المؤمّمة بقيت تدار على النحو الذي كانت تُدار به قبل التأميم، ومن ثمّ لا مانع من أن نستبقي لها اسم «التأمين الخاصّ» للمقابلة بينها وبين التأمينات الاجتماعية.

والتأمين الخاصّ: إمّا أن يكون تأميناً بحرياً، ويتعلّق بالنقل عن طريق البحر، ويكون تأميناً على البضائع أو على السفن ذاتها، ويلحق به النقل عن طريق الأنهار والترع والقنوات، ويلحق به في كثير من أحكامه التأمين الجوّي... والتأمين الخاصّ البرّي الذي نقف عنده هنا ينقسم إلى قسمين رئيسيّين:

التأمين على الأشخاص.

والتأمين من الأضرار.

فالتأمين على الأشخاص: هو تأمين يتعلّق بشخص المؤمّن له، فيؤمّن نفسه من الأخطار التي تهدّد حياته، أو سلامة جسمه، أو صحّته، أو قدرته على العمل...

ويتفرّع هذا القسم إلى فرعين:

1- التأمين على الحياة، ويكون تأميناً لحالة الوفاة، أو تأميناً لحالة البقاء، أو تأميناً مختلطاً.

2- التأمين من الإصابات، ويكون تأميناً من الإصابات التي تقع بحياة الإنسان أو بجسمه نتيجة لسبب خارجي مفاجئ، فيستولي المؤمّن له على مبلغ التأمين إذا تحقّقت الإصابة المؤمّن منها، كأن يموت في حادث مفاجئ، أو يصاب في جسمه بما يسبّب عجزه عن العمل؛ عجزاً دائماً، أو عجزاً موقّتاً. ويلحق

ص: 125

بالتأمين من الإصابات، التأمين من المرض، فيؤمّن الشخص نفسه من العجز عن العمل الذي يترتّب على المرض، وتدخل في ذلك نفقات العلاج.

والتأمين من الأضرار: هو تأمين لا يتعلّق بشخص المؤمّن له، بل بما له، فيؤمّن نفسه من الأضرار التي تصيبه في المال، ويتقاضى من شركة التأمين تعويضاً عن هذا الضرر ويتفرّع هذا القسم أيضاً إلى فرعين:

1- التأمين على الأشياء، ويكون تأميناً من الأضرار التي تقع بشي ء معيّن، كتأمين المنزل من الحريق، والمزروعات من التلف، والمواشي من الموت، والتأمين من السرقة والتبديد، وتأمين الدين.

2- التأمين من المسؤولية، فيؤمّن الشخص نفسه من الضرر الذي يصيبه في ماله فيما إذا تحقّقت مسؤولية قبل المضرور، ورجع عليه هذا بالتعويض، فشركة التأمين لا تعوّض المضرور نفسه، والذي يعوّضه وهو المؤمّن له، ثمّ تأتي شركة التأمين بعد ذلك لتعوّض المؤمَّن له ما غرمه لتعويض المضرور.

والمسؤوليات التي يؤمّن الشخص نفسه منها كثيرة متفرّعة، فقد يؤمّن نفسه من مسؤوليته عن حوادث سيّارته، أو من مسؤوليته عن الحريق، أو من مسؤوليته المهنية، أو من مسؤوليته عن حوادث النقل. أمّا مسؤولية ربّ العمل عن حوادث العمل، فهذه تدخل ضمن التأمين الاجتماعي. ومن بين هذه المسؤوليات ما يكون التأمين منه إجبارياً، كالتأمين من حوادث العمل، والتأمين من حوادث السيّارات»(1).

والدليل على صحّة التأمين في جميع تلك الأقسام وعدم الفرق بينها، هو ما


1- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1156 ..

ص: 126

تقدّم مراراً من إطلاق أدلّة إمضاء العقود والمعاملات على جميع المباني في التأمين؛ سواء قلنا: بأ نّه داخل في باب الهبة المعوّضة، أو الصلح، أو الضمان، أو قلنا: بأ نّه عقد مستقلّ، مثل عموم قول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، وإطلاق قول اللَّه عزّوجلّ: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(2) بناءً على كون «التجارة» بمعنى مطلق المعاملة بقصد الاسترباح، لا خصوص البيع والشراء.

كما يجوز للقائل بنظرية الصلح أن يتمسّك بخصوص إطلاق دليل إمضائه، مثل معتبرة حفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الصلح جائز بين الناس»(3)، ومن يقول باندراجه في الهبة المعوّضة- كالسيّد المحقّق الخوئي قدس سره- أن يتمسّك بإطلاق مثل صحيحة أبي بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الهبة جائزة...»(4).

نعم، ما في القانون المدني- على ما ذكره السنهوري في ذيل كلامه المتقدّم- من الحكم بإجبارية التأمين بالنسبة إلى صنفين منه: وهما التأمين من حوادث العمل، والتأمين من حوادث السيّارات- لا يمكن المساعدة على إطلاقه؛ وذلك لما تقدّم في شروط المتعاقدين من اعتبار الاختيار- بمعنى عدم الإكراه على العقد- في كلّ واحد من المؤمّن والمستأمن، فلا يجوز إجبار أحد على الإقدام بالاستئمان من حوادث العمل، ولا من حوادث السيّارات، كما لا يجوز في غيرهما، إلّافي موردين تقدّم البحث عنهما عند التعرّض للشرط الرابع من شروط المتعاقدين، وهو


1- المائدة( 5): 1 ..
2- النساء( 4): 29 ..
3- وسائل الشيعة 18: 443، كتاب الصلح، الباب 3، الحديث 1 ..
4- وسائل الشيعة 19: 233، كتاب الهبات، الباب 4، الحديث 4 ..

ص: 127

الاختيار، فراجع.

مسألة 6- الظاهر أنّ التأمين عقد مستقلّ. وما هو الرائج ليس صلحاً ولا هبة معوّضة بلا شبهة، ويحتمل أن يكون ضماناً بعوض، والأظهر أنّه مستقلّ ليس من باب ضمان العهدة، بل من باب الالتزام بجبران الخسارة؛ وإن أمكن الإيقاع بنحو الصلح والهبة المعوّضة والضمان المعوّض (18)،

الجهة الخامسة: تبيين ما عليه التخريج الفقهي لمسألة التأمين
اشارة

18- هذه المسألة هي المسألة الرئيسة في باب التأمين؛ لأنّها تتصدّى لبيان ما عليه التخريج الفقهي للتأمين، وهي التي أصبحت معركة للآراء في عهدنا الراهن بين أرباب الفتوى. والغرض الأساسي في هذه المسألة هو تعيين العنوان المعاملي الذي تدخل فيه المعاملة التأمينية، ويمكننا بسبب دخولها فيه تصحيحها وتنفيذها الذي هو الغاية القصوى من هذه المباحث.

تعيين محلّ النزاع في المعاملة التأمينية

ويجب علينا في بدء الأمر تعيين محلّ النزاع بين الأعلام المتعرّضين للمسألة فنقول:

إنّ البحث في التخريج الفقهي لمسألة التأمين تارةً: يقع بالنظر إلى مقام

ص: 128

الثبوت؛ أعني مع قطع النظر عمّا هو الرائج والمتداول بين العرف في إجراء عملية التأمين، واخرى: يقع بالنظر إلى مقام الإثبات وما هو المتداول بين أرباب التأمين والمستأمنين وما هو المركوز بينهم:

أ مّا المقام الأوّل، فلا إشكال ولا خلاف بين المتعرّضين للمسألة في كتبهم المعدّة للفتوى؛ في أنّ عملية التأمين يمكن ثبوتاً إيقاعها بأحد الأشكال التالية:

1- الهبة المعوّضة.

2- الصلح.

3- الضمان.

وأ مّا المقام الثاني، ففيه خلاف بين أصحاب الفتوى في عهدنا الراهن؛ فذهب بعضهم- كالإمام الراحل قدس سره- إلى أنّ ما هو المتداول من عقد التأمين في زماننا عقد مستقلّ، وآخر- كالمحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره- إلى أنّه من باب الضمان؛ حيث قال: «إذن ممّا تقدّم عرفت: أنّ معاملتنا التأمينية قابلة للاندراج في باب الضمان ليجري عليها ما يجري على الضمان من الأحكام»(1)، وقد احتمله السيّد المحقّق الحكيم قدس سره في ذيل (مسألة 38) من كتاب الضمان ودونك عبارته:

«ولعلّ من ذلك (أي: الضمان بمعنى اشتغال الذمة) ضمان شركة التأمين المتعارف في هذا العصر، وإن كان ضمانها في مقابل المال لا تبرّعاً، فصاحب المال يعطي الشركة مالًا في قبال أن تضمن أو في قبال أن تنشأ الضمان، فتنشأ الضمان ويلزمها ذلك؛ لعموم الوفاء بالعهد وإن كان الجاري بينهم الأوّل»(2).


1- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره: 38 ..
2- مستمسك العروة الوثقى 13: 348 ..

ص: 129

وثالث- كالمحقّق السيّد الخوئي قدس سره- إلى أنّه من نوع الهبة المعوّضة(1).

وهذه المباني وإن كانت مشتركة في جهة واحدة؛ وهي تصحيح المعاملة التأمينية ونفوذها بتطبيق أحد العناوين المعاملية الممضاة شرعاً عليه، إلّاأنّها تفترق من جهتين: من جهة علمية، وجهة عملية:

أ مّا من الجهة العلمية، فيظهر الفرق بين تلك المباني بالنظر إلى نوع الدليل الذي نلتمسه وجهاً على إمضاء هذه المعاملة؛ إذ لو قلنا: بأنّ عقد التأمين عقد مستقلّ، فما يمكن أن نتّخذه وجهاً على إمضائه هو عموم قول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(2)، وكذا إطلاق قوله عزّوجلّ: إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ(3)؛ بناءً على عمومية «التجارة» لغير البيع والشراء من جميع العقود المعاوضية. كما أنّه لو قلنا باندراج التأمين في باب الهبة المعوّضة أو الضمان بما لهما من الأحكام الخاصّة، تجب ملاحظة نصوص البابين والتماس عموم أو إطلاق منها يشمل المقام؛ على ما سيأتي تفصيله.

وأ مّا من الجهة العملية، فيظهر الفرق بين تلك المباني بالنظر إلى الآثار المترتّبة على خصوص كلّ واحد من تلك العناوين؛ إذ لو بنينا على أنّ التأمين عقد مستقلّ فلا يترتّب عليه إلّاالأحكام العامّة لجميع العقود؛ من اللزوم والوفاء، وبعض الخيارات، كخيار تخلّف الشرط والمجلس، وإن كان من سنخ الهبة المعوّضة فلا محالة تترتّب عليه أحكامها، ومنها توقّف صحّة العقد على القبض، ومنها جواز الرجوع قبله.


1- منهاج الصالحين 1: 421 ..
2- المائدة( 5): 1 ..
3- النساء( 4): 29 ..

ص: 130

كما أنّه إن كان من قبيل الضمان ترتّبت عليه أحكامه.

التأمين الرائج عقد مستقلّ

صرّح الماتن المحقّق قدس سره بأنّ عقد التأمين وإن أمكن إيقاعه بنحو الهبة المعوّضة أو الصلح أو الضمان، ولكنّ الرائج منه في زماننا بين المستأمنين وأرباب التأمين ليس من هذه الأبواب، بل هو عقد مستقلّ. والوجه في ذلك أنّه لا ينطبق شي ء من تلك العناوين المعاملية- بما لها من المقوّمات- على ما هو المألوف الرائج بين العرف من المعاملة التأمينية.

وجه عدم كون التأمين الرائج هبة معوّضة

أ مّا الهبة المعوّضة- أي المشروط فيها العوض- فلأ نّها متقوّمة بالبذل؛ بأن يكون التمليك من جانب الواهب مجّاناً ولا يقع بإزائه عوض من الموهوب له، وإنّما يشترط الواهب عليه أن يدفع مالًا، أو يأتي بعمل له، ومن المعلوم أنّ ارتكاز المستأمنين وكذا أرباب شركة التأمين، ليس على تسليم المستأمن مبلغ الاستئمان إلى الشركة- دفعة، أو تدريجاً على سبيل الأقساط- بقصد التمليك المجّاني والبذلي؛ بحيث لا يقع بإزائه شي ء، بل يكون تمليكه للشركة في ارتكازهم عوضاً عن تعهّدها بتدارك الكوارث والخسارات المعيّنة التي ربما تطرأ على ماله المؤمّن عليه؛ بحيث يعدّ في ارتكازهم نفس هذا التعهّد الموجب لأمان مالي، عوضاً عن الأقساط التي يدفعها المستأمن إلى المؤمّن ومن هنا تتصدّى الشركة عند تنظيم الوثاقة والوفاقية، بإيجاب عقد التأمين، كما أنّ المستأمن يتصدّى لقبوله، مع أنّه لو

ص: 131

كان عندهم من سنخ الهبة المعوّضة للزم أن يكون الأمر بالعكس؛ إذ الموجب في عقد الهبة هو الواهب، وهو في المقام- على الفرض- المستأمن.

وممّا يشهد بأنّ عقد التأمين بشكله الرائج أجنبي عن الهبة المعوّضة، أنّه لو كان من سنخها، للزم الحكم بعدم تماميته قبل قبض أقساط التأمين؛ إذ من شرائط صحّة الهبة بأقسامها- ومنها الهبة المعوّضة- القبض، وعليه جلّ القدماء أو كلّهم، كما في «الجواهر»: «ولا حكم للهبة من ملك وغيره ما لم يقبض الموهوب؛ على ما هو المعروف من مذهب الأصحاب، كما في جامع المقاصد، وعليه المتأخّرون، إلّا الفاضل في المختلف، والشهيد في الدروس»(1)، وهكذا قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في «المنهاج»: «يشترط في صحّة الهبة القبض... ومتى تحقّق القبض صحّت الهبة من حينه»(2).

ولازم اشتراط القبض في صحّة الهبة أوّلًا أنّ كلّ قسط من الأقساط التي يدفعها المستأمن إلى المؤمّن، يكون هبة مستقلّة، فيصبح دفع الأقساط هبات عديدة بعددها.

وثانياً: أن لا يكون المستأمن موظّفاً بدفع مبلغ الاستئمان- أي أقساط التأمين- إلى المؤمّن؛ إذ المفروض عدم صحّة عقد التأمين قبل قبض الأقساط، فكيف يجب عليه الوفاء بما تتوقّف عليه الصحّة؟! والالتزام بهذه النكتة وإن وجب فيما لو فرضنا أنّ عقد التأمين انشئ بنحو الهبة المعوّضة، ولكنّه مجرّد فرض أجنبي عمّا هو المتداول والمألوف بين شركات التأمين والمستأمنين، فإنّهم يرون عقد


1- جواهر الكلام 28: 166 ..
2- منهاج الصالحين 2: 204 ..

ص: 132

التأمين تامّاً بعد إنشائه؛ من غير أن تكون لهم حالة انتظارية، ولم يجعل للمستأمن في القوانين المدنية العالمية المتعلّقة بالتأمين، التخيير بين دفع الأقساط إلى الشركة، والاستنكاف عنه.

نعم، في خصوص التأمين على الحياة، بين القانونين المدنيّين الفرنسي والمصري خلاف، فالأوّل أجاز للمستأمن عدم دفع الأقساط قبل انتهاء مدّة التأمين، والثاني منعه، وإنّما رخّص للمستأمن فسخ العقد وإعلانه إلى المؤمّن.

وهذا متن القانون المدني المصري المادة (759): «يجوز للمؤمّن له الذي التزم بدفع أقساط دورية، أن يتحلّل في أيّ وقت من العقد بإخطار كتابي يرسله إلى المؤمّن قبل انتهاء الفترة الجارية، وفي هذه الحالة تبرأ ذمّته من الأقساط اللاحقة»(1).

ولا يخفى: أنّ غرضنا من ذلك كلّه، ليس جعل التعارض بين حكم الشرع بتوقّف صحّة الهبة المعوّضة على قبض الموهوب، وبين القانون المدني الحاكم في العقد التأميني في الأنظمة العالمية، بل الغرض كلّ الغرض استنتاج نكتة موضوعية؛ وهي أنّ عقد التأمين بشكله الرائج بين الشركات التأمينية والمستأمنين- بأنواعه من التأمين على السيّارات والدور والسفن والمزارع من السرقة والحرق ونحوهما، وكذا تأمين الإنسان على الحياة أو مرض خاصّ وغيرها- ليست حقيقته في ارتكازهم من سنخ الهبة المعوّضة، بل يرونه عقداً مستقلًاّ ذا آثار خاصّة، ومن هنا جزم الماتن المحقّق قدس سره بعدم كون التأمين من الهبة المعوّضة، وقال: «ولا هبة معوّضة بلا شبهة».


1- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1289 ..

ص: 133

لا يقال: إنّ تحقّق الهبة- بل كلّ عنوان معاملي- لا يدور مدار قصد المتعاملين للعنوان بما هو، بل لو التفتا إلى واقع العنوان وقصداه لكفى، وفي المقام لم يقصد المستأمن عند دفع الأقساط إلى شركة التأمين، عنوان البذل والهبة، ولكنّه قاصد لواقع الهبة؛ إذ ليس قصده وراء تمليك الأقساط إليها بلا عوض، كما أنّ المؤمّن لا يتعهّد في ضمن عقد التأمين بأن يدفع إلى المستأمن عوضاً بإزاء تمليكه الأقساط، وإنّما يشترط عليه أن يجبر الخسارة المحتملة، وهذا بعينه هو حقيقة الهبة المعوّضة وواقعها.

لأ نّه يقال: لا كلام في أنّ تحقّق الهبة لا يدور مدار قصد نفس عنوانها بما هو، بل يكفي قصد واقعها الذي هو التمليك مجّاناً وبلا عوض، كما لا كلام في أنّ المستأمن لا يقصد بتسليم الأقساط إلى الشركة إلّاتمليكها إيّاها، ولكنّ الكلام كلّ الكلام في أنّ هذا التمليك، هل يكون بلا عوض في نظر المستأمن والمؤمّن؛ بحيث لا يقع بإزائه شي ء من جانب المؤمّن حتّى ينطبق عليه واقع الهبة، أم لا؟

مقتضى التحقيق المبتني على ملاحظة ارتكاز أرباب التأمين والمستأمنين عند إجراء عملية عقد التأمين، أنّ في قبال هذا التمليك عوضاً؛ وهو نفس تعهّد المؤمّن والتزامه بجبران الخسارة التي ربما تطرأ على ماله، فالمستأمن يملّك الأقساط للشركة بإزاء التعهّد المذكور؛ بحيث لو سُئل: «هل ملّكتَ الأقساط إيّاها مجّاناً وبلا عوض؟» لأجاب: «لا، وإنّما ملّكتُها في قبال تعهّدها بجبران الكارثة المحتملة» وإذا كان بإزاء التمليك عوض، فلا محالة يخرج عن حقيقة الهبة المعوّضة وواقعها.

لا يقال: إنّ التعهّد المذكور ليس له شأن من المالية عند العقلاء، فكيف يصلح

ص: 134

أن يقع عوضاً عن التمليك، مع أنّ العوض في العقود المعاوضية لابدّ أن يكون ذا مالية عقلائية؟!

لأ نّه يقال: إنّ نفي المالية عنه عند العقلاء ممنوع؛ وذلك لأنّ تعهّد المؤمّن بتدارك الخسارة المحتملة التي ربما تطرأ على المال المؤمّن عليه، يمنح المستأمن أماناً مالياً؛ بحيث يطمئنّ بأنّ ذاك المال يبقى محفوظاً، إمّا بعينه فيما إذا لم تحدث الخسارة، أو بماليته فيما إذا طرأت عليه خسارة، حيث إنّ المؤمّن حينئذٍ على أساس تعهّده يقدم على تداركها، وهذا الأمان المالي له عند العرف شأن من المالية، والشاهد على ذلك أنّ المال الذي استأمنه مالكه لدى شركة التأمين، تكون قيمته عند العرف أكثر من قيمة نفس ذاك المال في صورة عدم استئمانه.

والحاصل: أنّ المناط في انطباق الهبة المعوّضة على عقد التأمين نفياً وإثباتاً، كلمة واحدة لها نظر صغروي إلى البحث؛ وهي أنّ تعهّد الشركة بجبر الكارثة والخسارة، هل يكون عوضاً عن تمليك المستأمن للأقساط إيّاها، فحينئذٍ لا يكون التمليك مجّاناً، أو هو مجرّد شرط، والتمليك ليس بإزائه عوض، فيكون بذلًا ومجّاناً؟ فمن اختار الأوّل- كالماتن المحقّق قدس سره- جزم بأنّ التأمين الرائج عقد مستقلّ، ومن اصطفى الثاني- كالسيّد المحقّق الخوئي قدس سره- عدّه هبةً معوّضةً، فإذا انتهى الأمر إلى هذه النكتة انسدّ باب الاستدلال وإقامة البرهان.

وجه عدم كون التأمين صلحاً

وأ مّا وجه عدم اندراج المعاملة التأمينية الرائجة في عقد الصلح؛ فلأنّ

ص: 135

حقيقته التسالم من الطرفين على تمليك عين أو منفعة، أو إسقاط عين أو حقّ، مجّاناً أو بعوض(1)، ولا يشترط فيه على مقتضى التحقيق كونه مسبوقاً بالنزاع، والصلح بهذا المعنى وإن شمل إطلاق دليله المقام، مثل صحيحة حفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «الصلح جائز بين الناس»(2)، فيمكن أن يقع عقد التأمين على شكل الصلح، بأن تتصالح وتتسالم شركة التأمين مع المستأمن على أن يدفع المستأمن مبلغاً معيّناً على سبيل الأقساط إلى الشركة، وهي تتحمّل الكارثة التي ربما تطرأ على المال المؤمّن عليه؛ ولا ننكر إمكان إيقاع عقد التأمين بشكل الصلح، وأنّ إطلاق دليل نفوذ الصلح يشمله، ولكن ما هو المألوف عند العرف الرائج بينهم من المعاملة التأمينية، أجنبي عن الصلح أيضاً؛ وذلك لأنّ المستأمن عندما يرجع إلى شركة التأمين يستأمن مالًا ويوقّع وفاقية التأمين، لا يخطر بباله ما هو روح الصلح وحقيقته من التسالم بالشكل المذكور، بل هو يرى في قرارة نفسه وارتكازه، أنّه يملّك مبلغاً تدريجاً لشركة التأمين بإزاء أن تتعهّد الشركة بجبران الخسارة المحتملة المعيّنة؛ من الحرق، والغرق، والسرقة، ونحوها، بحيث يقع نفس هذا التعهّد بإزاء ذاك المبلغ، ويجلب بهذا الطريق أماناً مالياً بالنسبة إلى المال المؤمّن عليه، ومن المعلوم أنّ إيقاع المعاملة التأمينية بهذا الشكل، لا يعدّه العرف والعقلاء- الذين هم المرجع الوحيد في إحراز العناوين المعاملية- صلحاً، بل يعدّونه معاملة مستقلّة.


1- تحرير الوسيلة 1: 516، منهاج الصالحين 2: 192 ..
2- وسائل الشيعة 18: 443، كتاب الصلح، الباب 3، الحديث 1 ..

ص: 136

وجه عدم كون التأمين الرائج ضماناً

وأ مّا وجه عدم اندراج المعاملة التأمينية الرائجة المتداولة بين العرف في باب الضمان وأ نّها عقد مستقلّ؛ فلأنّ الضمان على أقسام؛ حيث إنّه إمّا يكون إنشائياً، وإمّا غير إنشائي؛ بمعنى أنّ الضمان مستند إلى أمر خارجي، وهذا الأمر الخارجي على قسمين:

فتارةً: يكون هو التلف، فيسمّى ب «ضمان التلف» وهو متّفق عليه، ومستنده قاعدة «من أتلف مال غيره فهو له ضامن».

واخرى: يكون هو اليد والاستيلاء على مال الغير، فيسمّى ب «ضمان اليد» وهو أيضاً مجمع عليه، ومستنده النبوي صلى الله عليه و آله و سلم المعروف: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»(1)، ومقتضاه اعتبار العهدة والضمان على اليد المستولية العادية بالنسبة إلى العين المستولية عليها، فيجب ردّها إلى صاحبها مع بقائها، ومثلها أو قيمتها مع تلفها.

ولا ريب في أنّ هذين القسمين من الضمان، أجنبيّان عن المعاملة التأمينية؛ إذ المؤمّن لا يد له على ذاك المال أصلًا، كما أنّ تلفه ليس مستنداً إليه، وهذا واضح.

وأ مّا الضمان الإنشائي- الذي هو من العقود، ويكون متقوّماً بالإيجاب من الضامن، والقبول من المضمون عنه- فهو على أقسام:


1- مستدرك الوسائل 17: 88، كتاب الغصب، الباب 1، الحديث 4، السنن الكبرى، البيهقي 6: 9 ..

ص: 137

فتارةً: يكون المنشأ به ضمان ما في ذمّة المديون بأيّ سبب اشتغلت به، وهو المتيقّن من الضمان الإنشائي، وهو المقصود من تعريف الضمان عند الإمامية:

«بأ نّه نقل ما في ذمّة إلى ذمّة اخرى» لا ضمّ ذمّة إلى اخرى، كما عليه العامّة، وعقد التأمين أجنبي عن هذا القسم من الضمان أيضاً؛ ضرورة أنّ المؤمّن لا يضمن شيئاً على ذمّة المستأمن.

واخرى: يكون ما انشئ به ضمان العين المغصوبة، كما إذا غصب شخص متاع غيره، ثمّ ضمن آخر ذاك المتاع عن الغاصب لصاحبه. وفي صحّة هذا الصنف من الضمان خلاف بين الأصحاب، فذهبت جماعة- منهم الشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والعلّامة الحلّي(1)، والمحقّق الحلّي(2)- إلى جوازه، وخالفهم جماعة اخرى، فذهبوا إلى عدم الجواز، ومنهم الفقيه الجواهري قدس سره(3)، والإمام الراحل، حيث قال: «الأقوى عدم جواز ضمان الأعيان المضمونة- كالغصب، والمقبوض بالعقد الفاسد- لمالكها عمّن كانت هي بيده»(4)، وتفصيل البحث عن المسألة بالتعرّض لأدلّة القولين والنقض والإبرام فيها موكول إلى محلّه من كتاب الضمان، والغرض من التعرّض بهذا المقدار هو استنتاج نكتة، وهي: أنّ عقد التأمين بجميع أصنافه لا مساس له بهذا الصنف من الضمان أيضاً.

نعم، يمكن أن يتوهّم: أنّ بعض أصناف التأمين ليست له حقيقة وراء ضمان العين المغصوبة؛ وهو تأمين المال من السرقة؛ حيث إنّ شركة التأمين تتعهّد- على


1- مفتاح الكرامة 5: 372 ..
2- شرائع الإسلام 2: 167 ..
3- جواهر الكلام 26: 140 ..
4- تحرير الوسيلة 2: 29 ..

ص: 138

أساس وفاقية تدوّن بينها وبين المستأمن- أن تجبر الخسارة الناشئة من السرقة بردّ قيمة المال المؤمّن عليه أو مثله، فالشركة هي الضامن للمستأمن والمضمون له، والمال المؤمّن هو العين المغصوبة، وهذا بعينه ضمان العين المغصوبة.

ولكنّه مدفوع: بأنّ التأمين من السرقة يفترق عن ضمان العين المغصوبة من جهات شتّى:

اولاها: أنّ السرقة الموجبة لاشتغال ذمّة المضمون عنه- أي الغاصب- قبل ضمان شخص للعين المغصوبة، موجودة بالفعل، مع أنّ السرقة المفروضة في التأمين من السرقة، أمر محتمل غير واقع حال إنشاء عقد التأمين، ولعلّها لا تقع فيما بعد أصلًا.

ثانيها: أنّ نتيجة الضمان في ضمان العين المغصوبة- على القول بصحّته- هي فراغ ذمّة الغاصب، واشتغال ذمّة الضامن، مع أنّ في التأمين من السرقة لا تفرغ ذمّة الغاصب شرعاً، وليس فراغها مقصوداً لطرفي العقد، وإنّما الغرض جبران المال المؤمّن عليه- لو سرق- بردّ قيمته أو مثله.

ثالثها: أنّ المستأمن في التأمين من السرقة، يلتزم ضمن العقد بأن يدفع إلى شركة التأمين- بإزاء تعهّدها بجبران كارثة السرقة- مبلغاً؛ دفعةً، أو على سبيل التدريج، مع أنّ المضمون له في ضمان العين المغصوبة، لا يلتزم بدفع شي ء إلى الضامن.

وبهذا البيان ظهر: أنّه لا ينبغي عرض المعاملة التأمينية على ضمان العين المغصوبة؛ فإنّها أجنبية عنه بالمرّة.

وثالثة: يكون المنشأ به ضمان الأمانة؛ بأن يضمن شخص المال الذي هو أمانة عند آخر؛ سواء كان من سنخ الوديعة أو لا، كمال المضاربة والرهن؛ وفي

ص: 139

صحّته قولان:

فمن القائلين بالبطلان المحقّق قدس سره في «الشرائع» حيث قال: «ولو ضمن ما هو أمانة- كالمضاربة والوديعة- لم يصحّ؛ لأنّها ليست مضمونة في الأصل»(1)، ومنهم العلّامة الحلّي حيث قال: «ولا ضمان الأمانة، كالوديعة والمضاربة»(2)، وقال في «مفتاح الكرامة» عقيب العبارة المتقدّمة من العلّامة: «كما في الشرائع، والتحرير، والإرشاد، وجامع المقاصد، والمسالك، ومجمع البرهان، والكفاية»(3).

ومن القائلين بالصحّة صاحب «العروة» حيث قال: «وأ مّا ضمان الأعيان غير المضمونة- كمال المضاربة والرهن والوديعة قبل تحقّق سبب ضمانها من تعدٍّ أو تفريط- فلا خلاف بينهم في عدم صحّته، والأقوى بمقتضى العمومات، صحّته أيضاً»(4). وقد علّق الإمام الراحل على ذيل العبارة بقوله: «بل الأقوى بطلانه».

واستدلّ للفساد أوّلًا: بالإجماع المدّعى في «التذكرة».

وفيه: أنّه على فرض تماميته، لا يستكشف به قول المعصوم عليه السلام بعد كون مستند المجمعين- على سبيل القطع أو الاحتمال- أحد الوجهين التاليين.

وثانياً: بما استند إليه المحقّق قدس سره في عبارته المتقدّمة: من أنّ الوديعة ليست مضمونة في الأصل على الودعي، فلا يصحّ ضمان شخص آخر لها.

وفيه: أنّ عدم ضمان الوديعة بنفسها على الودعي، لا ينافي قبولها الضمان بالعقد من جانب شخص آخر؛ إذ لا ملازمة بين عدم ضمان شي ء بالأصالة، وبين


1- شرائع الإسلام 2: 90 ..
2- قواعد الأحكام 2: 157 ..
3- مفتاح الكرامة 5: 371 ..
4- العروة الوثقى 2: 777/ مسألة 38 ..

ص: 140

عدم قبوله الضمان بالعرض، فالأمانة- كمال المضاربة والرهن والوديعة- ليست مضمونة شرعاً على العامل والمرتهن والودعي مع عدم الإفراط والتفريط، ولكن لا مانع من أن تصير مضمونةً على شخص بضمانه، ومن هنا إذا تلفت العين، لا يكون الأمين- من العامل والمرتهن والودعي- ضامناً، ولكنّ الضامن مأخوذ بمقتضى ضمانه.

وثالثاً: بعدم وجود المضمون عنه في ضمان الأمانة بأصنافه المتقدّمة، وهو من أركان الضمان، فكيف يتصوّر فيه بعد فقد بعض أركانه.

وفيه: أنّ وجود المضمون عنه إنّما هو ركن في الضمان المصطلح، وأ مّا في غيره- وهو الضمان العرفي المنتج لاشتغال الذمّة فقط- فلا دليل عليه.

وأ مّا القول بالصحّة فقد استدلّ عليه- كما تقدّم عن صاحب «العروة»- بالعمومات المقتضية للصحّة، مثل قوله تعالى: أَوفُوا بِالعُقُودِ وقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«المؤمنون عند شروطهم».

ولكنّه لا يخلو من نقاش؛ وذلك لأنّ الغرض من التمسّك بهذه العمومات إن كان إثبات أنّ المقام من باب الضمان المصطلح، فلا يمكن المساعدة عليه بعد عدم إحراز صدقه في المقام، بل احرز عدمه بفقد المضمون عنه الذي هو من أركانه، وإن اريد إثباته من باب الضمان العرفي الذي هو محض اشتغال الذمّة، فهو متين.

فالحقّ في المقام- كما عليه السيّد الحكيم- هو التفصيل بين عدّ ضمان الأمانة من الضمان المصطلح، فيكون غير ثابت، ولا دليل عليه، ويكفي لعدم جواز ترتيب آثاره عليه، الشكّ في صدقه عليه، وبين جعله من الضمان العرفي المنتج لمجرّد اشتغال الذمّة، فيكون صحيحاً، ويمكن إثباته بالنظر في عموم أدلّة الإمضاء، كقوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «المؤمنون عند شروطهم». هذا

ص: 141

كلّه بالنسبة إلى ضمان الأمانة ماهيةً ودليلًا.

ثمّ هل يمكن إدراج المعاملة التأمينية- بشكلها الرائج- في هذا النوع من الضمان، أم لا؟

مقتضى التحقيق عدم إمكان المساعدة على إلحاق عقد التأمين بضمان الأمانة مقيّداً بها؛ بداهة أنّ المال المؤمّن عليه، لا يكون عند المستأمن أمانة شرعية ولا عرفية لغيره؛ حتّى تضمنه شركة التأمين، بل المستأمن بنفسه صاحب المال، وهو تحت يده، فلا معنى لأن تضمنه الشركة ضمان الأمانة، كما هو واضح.

نعم، لو ألغينا قيد الأمانة ولاحظنا الضمان بالنسبة إلى المال المؤمّن عليه من حيث هو ضمان، لا مقيّداً بقيد الأمانة، فحينئذٍ لا مانع من إدراج المعاملة التأمينية الرائجة فيه؛ وذلك لأنّ المراد من «الضمان المطلق» ليس إلّامجرّد التعهّد بمال واشتغال الذمّة به بسبيل مطلق أو في ظرف خاصّ، وهذا التعهّد تارةً: يكون بلا عوض، واخرى: يكون مع العوض، والمقام من الثاني، وتطبيقه على عملية التأمين بأن يقال: إنّ الشركة تتعهّد بجبران الخسارة المعيّنة المحتملة- عند طروّها على المال المؤمّن عليه- بعوض مبلغ يدفعه المستأمن إلى الشركة على سبيل الأقساط على النحو المألوف.

وهذا ما احتمله الماتن المحقّق قدس سره بقوله: «ويحتمل أن يكون ضماناً بعوض» وكذا احتمله السيّد الحكيم، حيث قال في ذيل المسألة الثامنة والثلاثين من كتاب الضمان: «ولعلّ من ذلك ضمان شركة التأمين المتعارف في هذا العصر»(1).

ولا يخفى: أنّ الضمان بهذا المعنى، أجنبي عن الضمان المصطلح الذي هو


1- مستمسك العروة 13: 348 ..

ص: 142

نقل ما في ذمّة إلى ذمّة اخرى، وله أحكام خاصّة، بل هو في الحقيقة، عقد مستقلّ، ويصحّ على جميع التقادير على الأقوى (19).

وهو المطلوب، كما أشار إليه الماتن المحقّق بقوله: «والأظهر أنّه مستقلّ؛ ليس من باب ضمان العهدة».

19- تقدّم آنفاً: أنّ المعاملة التأمينية يمكن إدراجها تحت عناوين مختلفة من العناوين المعاملية المشروعة، كالصلح، والهبة المعوّضة، والضمان المعوّض؛ بمعنى أ نّها إن اوقعت بكلّ واحد من هذه الأشكال المعاملية، تكون صحيحةً، وتترتّب عليها الآثار المختصّة بالعنوان العقدي الذي انشئت بشكله، ولكن مرّ أنّ المعاملة التأمينية الرائجة المألوفة بين المستأمنين وأرباب التأمين في عرفنا الراهن، أجنبية عن تلك العناوين، وإنّما هي معاملة مستقلّة بتقريب تقدّم بما لا مزيد عليه. ولكن النتيجة على جميع التقادير- سواء انشئت بشكل الهبة المعوّضة، أو الصلح، أو الضمان، أو المعاملة المستقلّة- تكون هي الصحّة بالتقاريب المتقدّمة.

إشكالات على المعاملة التأمينية وأجوبة عنها

ولكن بعد اللتيا والتي، في المقام إشكالات ربما تقال أو تخطر بالبال تتوجّه إلى تصحيح المعاملة التأمينية؛ فينبغي ذكرها والإجابة عنها، وهي على طائفتين:

فطائفة منها: تهدف إلى المناقشة في تصحيح عقد التأمين بما أنّه عقد مستقلّ.

واخرى: مفادها النقاش في تصحيحه بما أنّه مندرج في العناوين المعاملية المتقدّمة.

الإشكال الأوّل: أنّ المعاملة التأمينية مقرونة بالغرر؛ حيث إنّ الكارثة

ص: 143

والخسارة المؤمّن منها التي توجب على شركة التأمين إقدامها على جبرانها، ليست معلومة الوقوع، بل ما زالت منذ وقوع العقد محتملة، وبالطبع تستلزم هذه النكتة غرراً بيّناً على المستأمن؛ فإنّه يدفع- على حسب الوفاقية الواقعة بينه وبين شركة التأمين- مبلغ التأمين على سبيل الأقساط إلى الشركة من غير أن يجلب إلى نفسه بإزائه أمراً مالياً قطعياً؛ إذ من المحتمل أن لا يقع الخطر المؤمّن منه أصلًا، وبهذا البيان تندرج المعاملة التأمينية في النبوي صلى الله عليه و آله و سلم: «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن الغرر» الظاهر في الإرشاد إلى فساد المعاملة الغررية. وهذه المناقشة- كما ترى- تستهدف تصحيح هذه المعاملة على جميع التقادير؛ سواء انشئت بشكل الهبة المعوّضة، أو الصلح، أو الضمان، أو العقد المستقلّ.

والجواب أوّلًا: أنّ العوض في عقد التأمين من جانب شركة التأمين- كما تقدّم مراراً- ليس جبران الخسارة الواردة على المال المؤمّن عليه؛ حتّى يقال: بأ نّها غير معلومة الوقوع، فيصبح العقد غررياً، بل العوض من جانبه هو التعهّد بالإقدام على جبرانها بعد وقوعها، وهذا التعهّد- الذي يعطي المستأمن أماناً مالياً بالفعل، ويدفع خوفه بالإضافة إلى الكوارث والخسارات المحتملة على ماله- أمر قطعي موجود عند العقد، فلا موجب للغرر.

ولو قيل: إنّ متعلّق ذاك التعهّد، يجب أن يكون معلوم الوقوع حال العقد؛ حتّى يخرج إيجاب التعهّد من المؤمّن بعوض مبلغ معيّن أقساطاً وقبوله من المؤمّن له، عن الغررية، وحيث إنّ وقوع الكارثة التي تعلّق تعهّد المؤمّن بجبرانها، غير معلوم، فبالطبع يصبح عقد التأمين غررياً.

لقيل جواباً عنه:- مضافاً إلى منع تحقّق الغرر في المقام- إنّ هذا لو أوجب صدق «الغرر» عليه، لم يضرّ بالصحّة بعدما كان عقد التأمين مبنياً على هذا المقدار

ص: 144

من الغرر، والعقلاء في جميع العالم يقدمون على استئمان أموالهم من شركات التأمين بالنسبة إلى الخسارات التي ما زالت غير معلومة الوقوع، ولا دليل لنا على أنّ مطلق الغرر يقتضي الفساد.

وثانياً: أنّ النبوي: «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن الغرر» لم يثبت من طرقنا في المجاميع الروائية، وإنّما ذكره العلّامة في «التذكرة»(1) وما ثبت من طريقنا واعتمد عليه الأصحاب قوله عليه السلام: «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الغرر»(2) ومن المعلوم أنّه لا يشمل المقام.

الإشكال الثاني: أنّ المعاملة التأمينية الرائجة، من أكل المال بالباطل المنهيّ عنه في قول اللَّه سبحانه: لَاتَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ(3)؛ وذلك لأنّ العوض في هذه المعاملة من المستأمن بتّي، ومن المؤمّن احتمالي؛ حيث إنّ المستأمن يلتزم في عقد التأمين بأن يدفع مبلغاً معيّناً على سبيل الأقساط إلى المؤمّن، ولكنّ المؤمّن لا يدفع عوضاً إليه، وإنّما يلتزم بأن يتحمّل الخسارة المعيّنة المحتملة بعد وقوعها، وبالطبع لو لم تقع في المستقبل هذه الخسارة التي استئمن المال عنها، يلزم خلوّ المعاملة التأمينية من العوض من جانب المؤمّن، وتبقى الأقساط التي يدفعها المستأمن إليه بلا عوض، وهذا هو أكل المال بالباطل الموجب للفساد.


1- تذكرة الفقهاء 1: 466، المسألة الثانية من الركن الثالث من الفصل الثاني من الإجارة، وذكره ابن الأثير في نهايته مادّة غرر ..
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 24 ..
3- النساء( 4): 29 ..

ص: 145

والجواب عنه: أنّ هذا الإشكال إنّما يلزم على تقدير كون العوض من جانب شركة التأمين، تحمّل الخسارة، مع أنّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّ العوض من جانبها هو التعهّد بتحمّل الخسارة والالتزام بجبرانها بعد وقوعها، ونفس هذا التعهّد يمنح المالك المستأمن أماناً مالياً بالنسبة إلى المال المؤمّن عليه، ولهذا الأمان عند العقلاء شأن من المالية، فيليق التعهّد المعطي للأمان المالي، بأن يقع عوضاً في المعاملة التأمينية.

وبعبارة اخرى: أنّ حفظ المال تارةً: يكون بحفظ عينه، كما إذا استأجر المالك شخصاً لحفظ ماله باجرة معيّنة، واخرى: بحفظ ماليته، كالمقام حيث إنّ المالك يستأمن ماله عند شركة التأمين بعوض مبلغ معيّن يدفعه إليها أقساطاً، والشركة تتعهّد بحفظ المال من الخطر المعيّن أو الأخطار المعيّنة، ولكن لا بعينه، بل بماليته؛ بأن تجبر الخسارة بدفع المثل أو القيمة، فكما أنّ العوض في الأوّل من قبل الأجير، عبارة عن حفظ المال من الأخطار التي هي غير معلومة الوقوع، فكذلك في الثاني، حيث يكون العوض من جانب شركة التأمين عبارة عن التعهّد بحفظ مالية المال بجبران الخسارة بعد الوقوع، وهذا التعهّد بتّي الوجود حال العقد، وليس باحتمالي، فلا يندرج في أكل المال بالباطل الموجب للفساد.

هذا كلّه بناءً على القول: بأنّ عقد التأمين بشكله الرائج، عقد مستقلّ متقوّم بالعوض من الطرفين، كما هو المختار، وأ مّا على القول: بأ نّه من سنخ الهبة المعوّضة أو الضمان أو الصلح، فالجواب عن الإشكال أوضح، كما لا يخفى.

الثالث: أنّ بعض أنواع التأمين يتضمّن نحو جهالة، كالتأمين على الحياة، حيث إنّ المستأمن يلتزم فيه بدفع مبلغ أقساطاً لشركة التأمين ما دامت حياته، وهي

ص: 146

غير معلومة عند طرفي العقد؛ أي المؤمّن والمستأمن، فتلزم الجهالة؛ وهي مخلّة بصحّة العقد؛ ضرورة أنّ من شرائط صحّة العقد، خلوّه من الجهالة.

والجواب عنه:- مضافاً إلى أنّ عقد التأمين مبني على شي ء من الجهالة والغرر- أنّه لا دليل على اشتراط خلوّ جميع العقود من الجهالة، نعم هي شرط في بعض العقود كالبيع؛ قضاءً للنبوي المعروف «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الغرر»(1)، وما في ذيل صحيحة الحلبي من قوله عليه السلام: «وما كان من طعام سمّيت فيه كيلًا، فإنّه لا يصلح مجازفة»(2). والأخذ بالتعليل في ذيل الخبر، مدفوع بما تقدّم تفصيله في الشرط الثالث من شرائط التأمين ضمن المسألة الرابعة، فراجع.

والحاصل: أنّ مجرّد لزوم الجهالة، لا دليل على أنّه موجب للفساد في جميع العقود.

نعم، لو كانت الجهالة بحيث لا يقدم العقلاء على إنشاء عقد مشتمل عليها، فهي توجب الفساد؛ لقصور دليل إمضاء العقد عن الشمول لعقد غير عقلائي، كما مرّ تفصيله في تلك المسألة، والمقام ممّا يقدم عليه العقلاء، فلا مانع من شمول دليل إمضاء العقود كقوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ له.

الرابع: أنّ عموم دليل الإمضاء كقول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(3) ناظر إلى تنفيذ العقود المتعارفة والمعمولة في عصر النزول،


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 45/ 168، وسائل الشيعة 17: 448، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 40، الحديث 3 ..
2- وسائل الشيعة 17: 342، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 4، الحديث 2 ..
3- المائدة( 5): 1 ..

ص: 147

فدليل الإمضاء قاصر عن الشمول لعقد مستحدث، ومجرّد شيوعه بين أبناء العرف وإقدام العقلاء عليه، غير كافٍ للحكم بصحّته ونفوذه عند الشرع؛ بعدما لم يحرز بيان منه على تنفيذه، وبهذا البيان تصبح المعاملة التأمينية، معاملة غير مشروعة.

والجواب أوّلًا: أنّ هذا الإشكال- على فرض تماميته- إنّما يتوجّه إلى عقد التأمين بناءً على كونه عقداً مستقلًاّ غير مندرج في أيّ عنوان من العناوين المعاملية المعروفة، وأ مّا بناءً على القول باندراجه في الهبة المعوّضة أو الضمان أو الصلح، فلا محالة تشمله أدلّة إمضاء هذه العناوين؛ لأنّ عقد التأمين حينئذٍ وإن كان بعنوانه أمراً مستحدثاً غير معهود في عصر صدور أدلّة الإمضاء، ولكنّ المفروض على تلك المباني عدم شمول أدلّة الإمضاء له بعنوان أنّه عقد التأمين، بل بعنوان أنّه مصداق للهبة المعوّضة، أو الضمان، أو الصلح، ويترتّب عليه آثارها الخاصّة.

والحاصل: أنّ إطلاق دعوى قصور أدلّة الإمضاء عن شمولها لعقد التأمين، ممنوع إذ على القول باندراجه في أحد تلك العناوين، لا مانع من شمول دليلها له، كما أنّه إذا أنشأ المؤمّن والمستأمن عقد التأمين بعنوان الهبة المعوّضة أو الضمان أو الصلح، لا مانع أيضاً من شمول دليل نفوذ كلّ منها لعقد التأمين الذي انشئ بعنوانها، وبه يصبح عقد التأمين مشروعاً، ويخرج عن أكل المال بالباطل الموجب للفساد.

وثانياً: أنّ أصل دعوى كون أدلّة الإمضاء ناظرةً إلى تنفيذ خصوص العقود المعهودة والمألوفة عند العرف في عصر الصدور، ممنوع فإنّ قول اللَّه سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ قضية حقيقية سيقت لبيان نفوذ كلّ عقد عقلائي انشئ بين الطرفين في كلّ زمن، وأيّ مكان؛ سواء كان من العقود الرائجة بين أبناء العرف في عصر الصدور، أو كان من العقود المستحدثة التي مسّت حاجة المجتمع في حياتهم

ص: 148

الاقتصادية وروابطهم المعاملية إلى إحداثها، كعقد التأمين بأشكاله المختلفة.

وعقد التأمين لازم (20)؛ ليس لأحد الطرفين فسخه إلّامع الشرط، ولهما التقايل.

نعم، العقود التي لا يقدم عليها العقلاء ويعدّونها سفهية، خارجة من نطاق أدلّة الإمضاء؛ وذلك لما علمناه من بناء الشرع في باب المعاملات على تنفيذ ما هو الدارج عند العقلاء وسارت عليه سيرتهم، وليس من شأنه الترويج للُامور السفهية، ولا إمضاؤها، ولا تنفيذ ما يحترز العقلاء عنه، وإنّما بناؤه على إمضاء خصوص ما دار عليه بناؤهم في معاملاتهم.

التأمين عقد لازم

20- تعرّض الماتن المحقّق قدس سره في هذا الشطر من المسألة لجهة اخرى من الجهات المرتبطة بعقد التأمين؛ وهي أنّه عقد لازم، فلا يجوز لأحد طرفي العقد فسخه إلّاإذا شرط له الفسخ ضمن عقد التأمين، كما يجوز لهما التقايل؛ أي توافقهما على حلّ العقد، كما هو الحال في جميع العقود اللازمة. وما اختاره هو المختار على ضوء القواعد والأدلّة؛ سواء قلنا: بأنّ عقد التأمين من سنخ الضمان بعوض، كما احتمله السيّد الحكيم(1)، أو الصلح، أو العقد المستقلّ، كما استظهره الماتن المحقّق، وقوّيناه بما تقدّم في صدر المسألة؛ وذلك لأنّ الأصل في كلّ عقد هو اللزوم، والحكم بالجواز يحتاج إلى دليل خاصّ، وهذا الأصل تامّ بكلا شقّيه:

اللفظي، والعملي.


1- مستمسك العروة 13: 348 ..

ص: 149

أ مّا الأصل اللفظي المقتضي للّزوم بالنسبة إلى كلّ عقد، فهو المستفاد من قول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، فإنّ العُقُودِ جمع محلّى باللام مفيد للعموم، فيشمل جميع العقود المعهودة المتعارفة في عصر النزول، ومنها عقد الضمان بعوض، والصلح، بل يعمّ العقود المستحدثة غير المعهودة في عصر الصدور، ومنها عقد التأمين.

وأ مّا الأصل العملي- وهو المرجع عند الشكّ في تمامية الأصل اللفظي المتقدّم- فهو أيضاً يقتضي لزوم كلّ عقد قضاءً للاستصحاب، وهو تارةً: يجري بالنسبة إلى بقاء العقد عند الشكّ في زواله بفسخ أحد طرفي العقد، واخرى:

بالإضافة إلى تأثير الفسخ من أحدهما، فعند الشكّ في تأثيره يستصحب عدمه، ونتيجة كلا الاستصحابين بقاء العقد وعدم ارتفاعه بفسخ أحد الطرفين، وهذا مساوق للزوم العقد. ويساعد على لزوم عقد التأمين، القانون المدني في الأنظمة العالمية، الذي صدر في عقد التأمين، فإنّه صريح في لزومه، إلّاموارد خاصّة لا بأس بالإشارة إلى بعضها:

منها: التأمين على الحياة، فيجوز فيه للمستأمن فسخ العقد قبل انتهاء مدّته، ففي القانون المدني المصري المادّة (759): «يجوز للمؤمّن له الذي التزم بدفع أقساط دورية، أن يتحلّل في أيّ وقت من العقد بإخطار كتابي يرسله إلى المؤمّن من قبل انتهاء الفترة الجارية، وفي هذه الحالة تبرأ ذمّته من الأقساط اللاحقة»(2).


1- المائدة( 5): 1 ..
2- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1289 ..

ص: 150

ومنها: ما إذا انتقل المال المؤمّن عليه إلى شخص آخر غير المستأمن بالشراء، أو الإرث، أو سبب آخر، فحينئذٍ ينتقل مع ذاك المال ما تعلّق به من حقّ التأمين، ولكن يجوز لكلّ من المؤمّن والمالك الجديد فسخ عقد التأمين، كما قال السنهوري: «إذا كان هناك مثلًا منزل مؤمّن عليه من الحريق وانتقلت ملكية هذا المنزل إلى وارث أو إلى مشترٍ فالأصل أنّ عقد التأمين- بحقوقه والتزاماته- تنتقل مع المنزل إلى الوارث أو المشتري، ومع ذلك يحتفظ عادة كلّ من المؤمّن ومن انتقلت إليه الملكية بحقّ الفسخ بشروط معيّنة»(1).

ومنها: ما إذا أخلّ المستأمن بتعهّده وبدفع الأقساط إلى الشركة، فيجوز حينئذٍ لشركة التأمين فسخ العقد، ولا يستحقّ المستأمن بعد فسخ الشركة للعقد، المطالبة بالأقساط التي دفعها إليها.

ومنها: غيرها.

وفي غير هذه الموارد، حكمت القوانين المدنية العالمية بلزوم عقد التأمين، بل جعلت فيها جرائم مالية على المستأمن عند مخالفته وعدم التزامه بدفع أقساط التأمين.

ومقتضى القاعدة في الموارد التي حكم القانون المدني بجواز فسخ عقد التأمين فيها أنّ طرفي العقد- المؤمّن والمستأمن- إن أوقعا العقد مبنياً على ذاك القانون ولو بوجه الشرط الارتكازي، فبالتبع يقع العقد شرعاً جائزاً وإلّا فحكمه هو اللزوم؛ قضاءً لأصلي اللفظي والعملي المتقدّمين. وبهذا البيان ظهر أنّ إطلاق المتن


1- نفس المصدر: 1553 ..

ص: 151

في الحكم بلزوم عقد التأمين ممنوع بل لابدّ من التفصيل بهذا الوجه.

ثمّ لا يخفى: أنّه لو قلنا بأنّ المعاملة التأمينية من سنخ الهبة المعوّضة- كما عليه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره- فيمكن النقاش في لزومها؛ إذ من شرائط صحّة الهبة بأقسامها ومنها الهبة المعوّضة، قبض المال الموهوب، كما عليه جلّ القدماء، أو كلّهم(1)، وكذا مشهور المتأخّرين، منهم السيّد المحقّق الخوئي قدس سره حيث قال في كتاب الهبة من «المنهاج»: «يشترط في صحّة الهبة القبض... ومتى تحقّق القبض صحّت الهبة من حينه»(2).

ومن هنا لو بنينا على أنّ المعاملة التأمينية داخلة تحت عنوان الهبة المعوّضة، فلا محالة تتوقّف على قبض شركة التأمين الأقساط من المستأمن، وبالطبع لا يكون مجرّد عقد التأمين لازم الوفاء على كلّ واحد من طرفيه؛ أي الشركة والمستأمن. بل قد عرفت أنّه بدفع كلّ قسط من أقساط التأمين للشركة، تتحقّق هبة مستقلّة، وينتهي عقد التأمين إلى هبات عديدة؛ إذ المفروض- على هذا المبنى- أنّ صحّة عقد التأمين وترتّب الأثر عليه، تتوقّف على حصول قبض الموهوب؛ وهو أقساط التأمين، فإذا دفع المستأمن إلى شركة التأمين أوّل الأقساط، تتحقّق هبة صحيحة فعلية بالنسبة إلى المبلغ المقبوض، وإذا دفع إليها ثاني الأقساط، تتحقّق هبة صحيحة اخرى بالإضافة إليه، وهكذا. ومقتضى ذلك كلّه عدم لزوم الوفاء بالعقد التأميني. ولكن تقدّم في صدر المسألة السادسة ما يرد على هذا المبنى؛ وأنّ المعاملة التأمينية بشكلها الرائج المتعارف بين شركات التأمين


1- جواهر الكلام 28: 166 ..
2- منهاج الصالحين 2: 204 ..

ص: 152

والمستأمنين في العهد الراهن، أجنبية عن الهبة المعوّضة، فراجع ما هناك.

مسألة 7- الظاهر صحّة التأمين بالتقابل؛ وذلك بأن تتّفق جماعة على تكوين مؤسّسة فيها رأس مال مشترك لجبر خسارة ترد على أحدهم (21)،

ما هو التأمين التقابلي أو التبادلي؟
اشارة

21- تعرّض الماتن المحقّق في هذه المسألة لنوع آخر من التأمين، وهو تارةً: يسمّى ب «التأمين التقابلي» واخرى: ب «التأمين التبادلي». وابتدأ بتعريفه ثمّ بتخريجه على عنوان معاملي شرعي يقتضي صحّته، فالبحث في هذه المسألة يقع عن جهتين:

أ مّا الجهة الاولى: فقد عرّف الماتن المحقّق قدس سره التأمين بالتقابل: «بأن تتّفق جماعة على تكوين مؤسّسة فيها رأس مال مشترك لجبر خسارة ترد على أحدهم».

وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «إذا اتّفق جماعة على تأسيس شركة يتكوّن رأس مالها من أموالهم على نحو الاشتراك، واشترط كلّ منهم على الآخر في ضمن عقد الشركة أنّه على تقدير حدوث حادثة حدّد نوعها في ضمن الشرط- على ماله، أو حياته، أو داره، أو سيّارته، أو نحو ذلك- أن تقوم الشركة بتدارك خسارته في تلك الحادثة من أرباحها، وجب على الشركة القيام بذلك»(1).


1- منهاج الصالحين 1: 422 ..

ص: 153

وقال بعض أرباب علم الحقوق في تعريفه: «وقد يكون التأمين بالتقابل تفادياً لكارثة قد تلمّ بأحد أطراف التأمين، وصورة ذلك أن تتّفق جماعة من التجّار على تكوين رأس مال مشترك لتعويض ما يحيق بأحدهم من الخسارة، وظاهر أنّ هذا النوع من التأمين يعدّ تجارياً أيضاً؛ لأنّه يؤدّي إلى تجنّب الخسائر»(1).

فالتأمين التقابلي يتقوّم بعناصر ثلاثة:

أوّلها: جماعة من التجّار أو الملّاك، ولا أقلّ من اثنين.

ثانيها: توافقهم على تكوين رأس مال مشترك.

ثالثها: التزامهم بتدارك أيّ خسارة أو خسارة معيّنة تعرض على أحدهم، من ذلك المال المشترك.

والجدير بالدقّة: أنّ في التأمين التقابلي يكون بالمآل كلّ واحد من الشركاء، مؤمّناً ومستأمناً:

أ مّا كونه مؤمّناً، فلأ نّه يؤمّن مال غيره بالتزامه بجبران الخسارة التي ربما تعرض عليه، وبتداركها من رأس المال الذي هو شريك فيه.

وأ مّا كونه مستأمناً، فلأ نّه استأمن مال نفسه من الخسارة المحتملة بدفع مبلغ معيّن إلى المؤسّسة التي أسّسوها، وبدفعه يصبح شريكاً في رأس ماله.

ثمّ إنّ التأمين التقابلي تارةً: يتحقّق بإقدام أشخاص حقيقيّين، واخرى:

بتوسّط شركة مساهمة، والتي هي شخصية حقوقية، كما قال السنهوري: «فالمؤمّن يجمع بين أكثر عدد ممكن من المؤمّن لهم يشتركون جميعاً في التعرّض لخطر معيّن، كالحريق، أو السرقة، أو المسؤولية عن الحوادث، أو الوفاة، أو غير ذلك من


1- التأمين، صالح حمود علوش: 11 ..

ص: 154

الأخطار، فيضعون ما يتعرّضون له جميعاً له من خطر في وفاء واحد؛ حتّى إذا تحقّق الخطر بالنسبة إلى بعضهم، ساهموا جميعاً في الخسائر التي تنجم عن ذلك، وهذا أيضاً صحيح على الأظهر، وهو معاملة مستقلّة أيضاً مرجعها الالتزام بجبر خسارة من المال المشترك في مقابل جبر خسارة كذلك (22).

فالتأمين يقوم إذن أوّل ما يقوم على فكرة تبادل المساهمة في الخسائر.

وهذا التبادل واضح كلّ الوضوح في الجمعيات التبادلية للتأمين، وهو واضح كذلك حتّى لو كانت الهيئة التي تقوم بالتأمين، شركة مساهمة.

فهذه الشركة ليست إلّاوسيطاً بين المؤمّن لهم جميعاً تقوم بجمعهم، ويتقاضى ما يقدّمه كلّ منهم من المساهمة في الخسائر المحتملة، ويدفع التعويض لمن اصيب منهم بالخسارة من جراء تحقّق الخطر، فالمؤمّن لهم هم الذين يقومون في الواقع بتعويض الخسائر عن طريق المساهمة فيها؛ كلٌّ بما يدفعه للشركة من مقابل التأمين، ففكرة تبادل المساهمة في الخسائر، قائمة حتّى عندما يكون المؤمّن شركة مساهمة، وليست هذه الشركة- كما قدّمنا- إلّاوسيطاً ينظّم هذه المساهمة»(1).

العنوان المعاملي الذي يمكن تخريج التأمين التقابلي عليه

22- هذه الفقرة من المسألة ناظرة إلى الجهة الثانية من البحث؛ وهي تعيين العنوان المعاملي الذي يمكن تخريج التأمين التقابلي عليه. وملخّص كلامه إلى آخر


1- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1289 ..

ص: 155

المسألة: أنّ هنا طرقاً ثلاثاً لتصحيح التأمين التقابلي:

أوّلها: تخريجه على المعاملة المستقلّة، كالتأمين غير التقابلي.

ثانيها: تخريجه على عقد الضمان.

ثالثها: تخريجه على عقد الشركة بنحو خاصّ وقد ذكره على سبيل الاحتمال لا الجزم.

وهنا طريق رابع اختاره المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره سوف نتعرّض له في ختام هذه المسألة.

وتفصيل ذلك: أنّ عقد التأمين بشكله الرائج بين شركات التأمين والمستأمنين في المجتمعات العالمية، ليست حقيقته من سنخ الضمان بعوض؛ وإن أمكن إنشاؤه خارجاً عمّا هو الرائج بنحوه، كما أنّها ليست من سنخ الهبة المعوّضة ولا الصلح؛ وإن أمكن إنشاؤه كذلك بنحوهما، بل حقيقته أنّه معاملة مستقلّة مستحدثة لا ينطبق عليها واحد من تلك العناوين المعاملية ولا غيرها.

وهكذا حال التأمين التقابلي الذي هو قسم من التأمين، فإنّه أيضاً معاملة مستقلّة، كالتأمين غير التقابلي الذي هو تأمين من جانب واحد، وإنّما يمتاز التقابلي عن غيره بأنّ التأمين في التقابلي وإعطاء الأمان المالي- بالتعهّد بجبران الخسارة الواردة على مال شخص- لا يكون من جانب واحد، كشركة التأمين، بل هو مقابل لتأمين آخر؛ وهو تعهّد نفس ذلك الشخص بأن يجبر الخسارة الواردة على مال المتعهّد الأوّل، ولكن لا بأجمعها، بل ببعضها؛ إذ المفروض أنّ الخسارة إنّما تتدارك من رأس المال الذي هو مشترك بين الطرفين.

وبعبارة اخرى: أنّ في التأمين التقابلي- كما أشرنا آنفاً- يكون كلّ واحد من

ص: 156

طرفي العقد أو أطرافه، مؤمّناً ومستأمناً: أمّا كونه مؤمّناً فلأ نّه يؤمّن مال غيره بتعهّده بتدارك الخسارة التي ربما ترد عليه، وأ مّا كونه مستأمناً فلأ نّه استأمن مال ويمكن أن يقع العقد بنحو عقد الضمان (23)؛ بأن يضمن كلّ خسارة شركائه بالنسبة في مقابل ضمان الآخر، إلّاأنّ الأداء من المال المشترك،

نفسه من الخسارة المحتملة بدفع مبلغ معيّن إلى المؤسّسة التي أسّسوها، ورأس مالها مشترك بينهم. والحاصل: أنّ التأمين التقابلي أيضاً معاملة مستقلّة؛ لا يندرج في أيّ عنوان من العناوين المعاملية الجارية في عصر التشريع، كالضمان، والهبة المعوّضة، والصلح، وغيرها.

هذا بالنظر إلى ما يرتبط بحقيقته المعاملية.

وأ مّا وجه صحّته، فيكفينا- كما تقدّم مراراً- عموم قول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، فإنّه سيق إمضاءً لجميع العقود العقلائية من عتيقها، كالبيع، والصلح، والهبة، والضمان، وجديدها كعقد التأمين، وحمل الآية على خصوص العقود المتعارفة المعمول بها في عصر الصدور، دعوى بلا دليل، بل الدليل على خلافها. وقد تقدّم البحث عن هذه الجهة تفصيلًا في صدر المسألة السادسة، فمن أراده فليراجع ما هناك.

23- هذا هو الطريق الثاني لتخريج التأمين التقابلي على عنوان معاملي مشروع؛ وهو أنّ التأمين التقابلي وإن كان- بالنظر إلى ما هو المألوف والرائج منه بين العرف- عقداً مستقلًاّ، ولكن إن أراد المتعاقدان أن يوقعاه بنحو عقد الضمان، لا


1- المائدة( 5): 1 ..

ص: 157

مانع منه. وصورته أن يضمن كلّ واحد من الشركاء- الذين أقدموا على تأسيس رأس مال مشترك- أيّ خسارة ترد على أموال شركائه؛ في قبال ضمانهم كلّ ولكن الأظهر فيه الالتزام بجبر الخسارة في مقابل جبر بنسبة مالهم المشترك من ذلك المال. وهذا (24) العقد لازم،

خسارة تطرأ على أمواله، وهم متعهّدون بأنّ الخسارة التي ترد على أيّ منهم، لا تتدارك إلّامن رأس المال المشترك.

24- المشار إليه ب «هذا» ليس خصوص عقد التأمين التقابلي المنشأ بشكل الضمان، بل الأعمّ منه وممّا كان عقداً مستقلًاّ، والدليل على اللزوم عموم دليل الإمضاء، وهو قول اللَّه سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ؛ ببيان تقدّم آنفاً في ذيل المسألة السادسة.

وأ مّا الاستدلال على ذلك بالنبوي المعروف: «المؤمنون عند شروطهم»، فهو مبني على شموله للشروط الابتدائية، كما عليه الفاضل المدقّق النراقي قدس سره، بل ادّعى في «العوائد»(1) أنّ الشرط اللغوي هو «ما يلزم به الغير ويلتزم به»، ثمّ استشهد عليه بما في القاموس «الشرط إلزام الشي ء والتزامه في البيع ونحوه كالشريطة» والظاهر أنّه قدس سره حمل جملة «في البيع» على أنّه مثال لإلزام الشي ء والتزامه، وحينئذٍ لا يتقوّم الشرط بالربطية وكونه في ضمن شي ء آخر، وإلّا فلا وجه لاستشهاده بما في القاموس. والإنصاف أنّه خلاف الظاهر، إذ الظاهر أنّ جملة «في البيع» قيد لما قبله، ونتيجة هذه القيدية أنّ الشرط ليس مطلق الإلزام


1- عوائد الأيام، العائدة( 15): 128 ..

ص: 158

والالتزام، بل هو الإلزام والالتزام الواقعان في ضمن العقد من البيع ونحوه.

وكيف كان: فإنّ الشرط إمّا ظاهر في الالتزام المنشأ في ضمن التزام آخر، ويحتمل أن يكون عقد شركة (25) التزم كلّ في ضمنه خسارة كلّ واحد منهم، وحينئذٍ يكون جائزاً لا لازماً.

وإمّا مجمل، والمتيقّن منه ذلك، ولا شاهد في البين يطمأنّ به على وضعه للأعمّ منه ومن الشروط الابتدائية، أو ظهوره فيه.

25- هذا هو الطريق الثالث لتصحيح التأمين التقابلي على ضوء الأدلّة، وهو تطبيق عنوان «عقد الشركة» عليه، وصورتها أن يتعاقد جماعة على تأسيس رأس مال مشترك، ويلتزمون في ضمن العقد بأن تتدارك كلّ خسارة ترد على أيّ منهم، من ذاك المال المشترك.

ولكن لا يخفى: أنّ الماتن المحقّق قدس سره احتمل اندراج التأمين التقابلي في الشركة بهذا النحو، لا على سبيل الجزم والبتّ. والوجه في ذلك أنّ العرف والعقلاء- الذين هم المرجع الوحيد في تعيين العناوين المعاملية- لا يرون التأمين التقابلي من سنخ عقد الشركة، بل يرونه عقداً مستقلًاّ ببيان تقدّم آنفاً. وقد جزم الماتن المحقّق بأ نّه لو كان من قبيل الشركة، فلا محالة يكون عقداً جائزاً، فيجوز لكلّ واحد من الشركاء فسخ العقد، وأثره- على ما اختاره الماتن المحقّق قدس سره في حاشيته على «العروة»(1)- ليس مجرّد رجوع كلّ من الشركاء عن الإذن في التصرّف، أو مجرّد مطالبة القسمة، كما اختاره صاحب «العروة» بل الأثر هو بطلان عقد


1- العروة الوثقى 2: 703 ..

ص: 159

الشركة، ورجوع سهم كلّ منهم من المال المشترك إلى ملكه، إلّاأن يكون المال ممتزجاً، فإنّه تتحقّق- بعد بطلان عقد الشركة بالفسخ- شركة اخرى قهرية بالامتزاج.

ولكن للإشكال في الحكم بجواز عقد الشركة بإطلاقه- حتّى لمثل المقام- مجال واسع؛ وذلك لأنّ عمدة الدليل على جوازه، إنّما هو الإجماع المستفيض نقله في كلمات المتأخّرين.

والجدير بالدقّة أنّ معقد هذا الإجماع- على فرض تماميته- هو الشركة العقدية التجارية التي انشئت بشرط التجارة برأس المال المشترك، ومن المعلوم أنّ الشركة في المقام ليست تجارية، بل إنّما انشئت بشرط تدارك الخسارة- التي ترد على أموال الشركاء- من المال المشترك حتّى وإن أمكن الاتّجار به، بل ربما يتّجر به ويستربح، إلّاأنّه غير مقوّم لهذه الشركة، ومن هنا فلو لم ندع العلم بخروجها عن معقد الإجماع، فلا أقلّ من الشكّ فيه، وحيث إنّ الإجماع دليل لبّي لا إطلاق له حتّى يأخذ به، فيبقى شمول عموم دليل الإمضاء- أَوفُوا بِالعُقُودِ- له بلا مخصّص، فلابدّ من الحكم بلزومه وعدم تأثير الفسخ من أحد الشركاء قبل مضيّ المدّة التي توافقوا على بقاء الشركة إليها.

طريق آخر لتصحيح التأمين التقابلي

قد أشرنا في صدر المسألة إلى أنّ في المقام طريقاً آخر لتصحيح التأمين التقابلي لم يتعرّض له الماتن المحقّق قدس سره وقد اختاره العلّامة المحقّق الشيخ حسين

ص: 160

الحلّي(1)، وهو تخريجه على عنوان الصلح، وصورته أنّ الشركاء يتسالمون ويتراضون على تأسيس رأس مال مشترك لتدارك الخسارة- التي ربما ترد على أموالهم- من ذلك المال المشترك، فيندرج في إطلاق دليل نفوذ الصلح، كصحيحة ابن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «الصلح جائز بين الناس»(2).

ولكن لا يخفى: أنّ إيقاع التأمين التقابلي بشكل الصلح وإن كان ممكناً، إلّا أنّ شمول إطلاق دليل الصلح له، مبني على عدم تقوّم حقيقته بالتنازع بين المتصالحين؛ إذ لو قلنا: بأ نّها متقوّمة به- كما عليه جماعة، منهم المحقّق قدس سره في «الشرائع» حيث قال في تعريفه: «عقد شُرّع لقطع التجاذب(3) أي التنازع»- فلا يبقى حينئذٍ مجال لتطبيق الصلح على التأمين التقابلي؛ لأنّ التسالم المفروض فيه ببيان تقدّم، تسالم ابتدائي غير مسبوق بالتجاذب والتنازع.

ولكن مقتضى التحقيق- كما عليه جماعة من الأعاظم، منهم صاحب «الجواهر»(4)، وكذا الإمام الراحل(5)، والسيّد المحقّق الخوئي(6) قدّست أسرارهم- عدم تقوّم حقيقته بالتجاذب والتنازع، بل هي متقوّمة بمجرّد التسالم والتراضي من الطرفين على أمر؛ سواء كان مسبوقاً بالتخاصم، أو لم يكن كذلك. والدليل عليه: أنّ


1- بحوث فقهية من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره: 43 ..
2- وسائل الشيعة 18: 443، كتاب الصلح، الباب 3، الحديث 1 ..
3- شرائع الإسلام 2: 121 ..
4- جواهر الكلام 26: 211 ..
5- تحرير الوسيلة 1: 516 ..
6- منهاج الصالحين 2: 192 ..

ص: 161

الصلح من المفاهيم المعاملية التي يكون المرجع الوحيد في تعريفه وتحديده العرف، وهم لا يرونه متقوّماً بالتنازع، والعناوين المعاملية المأخوذة في الخطابات الشرعية ناظرة إلى ما يفهمه العرف منها، وليس في البين دليل شرعي على أخذ ذاك القيد في حقيقته وتحديده به، وبهذا البيان يظهر أنّه لا مانع من شمول إطلاق الصحيحة المتقدّمة «الصلح جائز بين الناس» لمثل المقام.

مسألة 8- الظاهر صحّة التأمين المختلط مع الاشتراك في الأرباح، التي تحصل للشركة من الاستفادة بالاتّجار بتلك المبالغ المجتمعة من المشتركين؛ سواء كان التأمين على الحياة؛ بأن يدفع مبلغ التأمين عند وفاة المؤمّن عليه، أو عند انتهاء مدّة التأمين- وللمؤمّن الحقّ في الاشتراك في الأرباح حسب القرار، فيضاف نصيب كلّ من الأرباح إلى مبلغ التأمين- أو على جبر الخسارة مع الاشتراك في الأرباح كما ذكر (26)،

التأمين المختلط مع الاشتراك في الأرباح

26- تعرّض الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة لقسم آخر من التأمين المتعلّق بخصوص التأمين على الحياة، وإن ظهر من بعض كلماته في خلال المسألة- أو على جبر الخسارة- عدم اختصاصه به، وهو ما سمّي في القانون المدني المصري ب «التأمين المختلط مع الاشتراك في الأرباح».

والبحث في المقام على وفق المتن يقع عن جهتين:

الاولى: في حقيقة التأمين المختلط.

ص: 162

الثانية: في العنوان المعاملي الذي يخرّج عليه هذا التأمين.

حقيقة التأمين المختلط

عرّف التأمين المختلط مع الاشتراك في الأرباح في بعض المصادر الحقوقية بما يلي: «يدفع مبلغ التأمين عند وفاة المؤمّن عليه أو عند انتهاء مدّة التأمين، وتدفع الأقساط لغاية الوفاة، وعلى الأكثر حتّى انتهاء مدّة التأمين، وللمؤمّن الحقّ في الاشتراك والاشتراط في الأرباح؛ بناءً على نتيجة عملية تقدير الأرباح، ويضاف نصيب كلّ وثيقة في الأرباح إلى مبلغ التأمين، ويدفع مع مبلغ التأمين عند استحقاقه؛ سواء بالوفاة، أو عند انتهاء التأمين»(1).

وقد اشير في هذا المتن الحقوقي وكذا في عبارة الماتن المحقّق قدس سره إلى عنوان «عند وفاة المؤمّن عليه» وكذا عنوان «عند انتهاء مدّة التأمين» والوجه في ذلك أنّ التأمين المختلط بالاشتراك في الأرباح، إنّما هو من شقوق التأمين على الحياة، وهو على أقسام:

منها: أن تؤمّن شركة التأمين على حياة شخص إلى مدّة معيّنة، قبل وفاته، وبالطبع تصل منفعة التأمين حينئذٍ إلى نفس الشخص المستأمن.

ومنها: أن تؤمّن الشركة على حياة شخص إلى وفاته، والمستفيد من حقّ التأمين هو ورثة الشخص المستأمن.

ثمّ بعد ملاحظة هذه النكتة، نقول توضيحاً لذاك المتن الحقوقي ولعبارة


1- كتاب التأمين على الحياة، الصادر من شركة مصر للتأمين، التعريفة: 3 ..

ص: 163

الماتن المحقّق قدس سره: إنّ حقيقة التأمين المختلط مع الاشتراك في الأرباح، عبارة عن أن يستأمن شخص لدى شركة التأمين على حياته بأحد نحوين: إمّا إلى مدّة معيّنة قبل وفاته، وإمّا إلى وفاته؛ بأن تتعاقد الشركة وهذا الشخص على أن يدفع في كلّ شهر مثلًا مبلغاً لها، والشركة تتعهّد بأن تدفع لذاك الشخص المستأمن أو ورثته ذلك فإنّ ذلك شركة عقدية مع شرط أو شرائط سائغة (27).

المبلغ مع زيادة، وبهذا المقدار يتحقّق التأمين على الحياة فقط، وأ مّا اختلاط التأمين بالأرباح، فإنّما يحصل فيما إذا شرط المستأمن على شركة التأمين ضمن عقد التأمين، أن يدفع إليها أقساط التأمين على كيفية خاصّة؛ وهي أن يكون شريكاً في ربح أقساط التأمين الحاصل باتجار الشركة بالمبالغ التأمينية التي يدفعها المستأمنون لها، وتجتمع عندها، ومنها هذا المبلغ، فإنّ الشركة لا تجعل هذه الثروة الضخمة راكدة، بل تسيّرها في صنوف التجارة، وتستربح بها.

وكيفية مشاركة كلّ من شركة التأمين والمستأمن في الربح، تدور مدار قرارهما وتوافقهما، فقد يتوافقان على التنصيف، أو التثليث، أو التربيع، وهكذا.

ونتيجة هذا الشكل من التأمين: أنّ شركة التأمين حينما تدفع إلى المستأمن أو وارثه مبلغ التأمين، تُضيف إليه- على حسب الشرط بينهما- ربح المبالغ التي دفعها المستأمن إلى الشركة أقساطاً، وبهذا البيان ظهرت كيفية اشتراك المستأمن مع المؤمّن في الأرباح التي يحصّلها المؤمّن بالاتجار بمبالغ التأمين التي تتمركز عندها في هذا النوع من التأمين على الحياة.

ص: 164

العنوان المعاملي الذي يخرّج عليه هذا التأمين

27- تعرّض الماتن المحقّق قدس سره في المقام لتعيين العنوان المعاملي الذي يمكن تخريج هذا النوع من التأمين عليه وحاصل كلامه: أنّها تارةً: تكون من قبيل الشركة العقدية مع شرط أو شرائط سائغة، واخرى: تقع بشكل المضاربة في ضمن عقد التأمين، وسيأتي التعرّض له بقوله: «ولو كان من بعضهم العمل...».

أ مّا تصوير الشركة العقدية في المقام، فتوضيحه أنّ الشركة تارةً: تكون قهرية، كشركة الورثة بالنسبة إلى التركة، فإنّها تحصل بمجرّد موت المورّث، ولا تتوقّف على أيّ عمل إنشائي وغير إنشائي، وهذا النوع من الشركة أجنبي عن المقام. واخرى: تكون غير قهرية، بل تتحقّق إمّا بعمل مشترك بين شخصين، كحيازة المباحات، وإمّا بأمر خارجي، كامتزاج مالين لشخصين عن اختيارهما، أو بغير اختيارهما، وهذا القسم أيضاً أجنبي عن المقام، وثالثة: تكون عقدية، والمقام من هذا القبيل.

ولكنّ الجدير بالدقّة: أنّ المراد في المقام من «الشركة العقدية الحاصلة في ضمن التأمين» ليس معناها المعروف؛ وهو توافق شخصين على تأسيس رأس مال يتجر به، والربح يقسّم بينهما إمّا على حسب نسبة سهم كلّ منهما من رأس المال، أو على أساس توافقهم، بل بمعنى اشتراك الطرفين- من المؤمّن والمستأمن- في الأرباح؛ وإن كان أصل رأس المال ملكاً للمؤمّن بدفع المستأمن إيّاه إليه؛ قضاءً لعقد التأمين.

وبعبارة اخرى: أنّ عقد التأمين المختلط مع اشتراك المؤمّن والمستأمن في

ص: 165

الأرباح، يستبطن في الحقيقة عقدين:

أوّلهما:- وهو الأصل والمقصود بالذات من الإنشاء- عقد التأمين الحاصل بتأمين شركة التأمين على حياة شخص إلى مدّة معيّنة، أو إلى وفاته، ومعنى تأمينها أن تتعهّد بدفع مبلغ- دفعةً، أو تدريجاً شهرياً- إلى المستأمن؛ فيما إذا كان التأمين ولو كان من بعضهم العمل ومن بعضهم النقود، وكان القرار نحو المضاربة، صحّ أيضاً عندي (28)؛ لعدم اعتبار كون المدفوع في مال المضاربة الذهب والفضّة المسكوكين،

على الحياة إلى مدّة معلومة قبل الفوت، أو وارثه؛ فيما إذا كان التأمين على الحياة إلى الوفاة، مع تعهّد المستأمن بدفع مبلغ الاستئمان إلى الشركة أقساطاً.

ثانيهما:- وهو الفرع- عقد الشركة التي تتحقّق في ضمن عقد التأمين المذكور بسبب اشتراط المستأمن، أن يكون شريكاً مع المؤمّن في الأرباح التي تحصل للمؤمّن من الاتجار بتلك المبالغ المجتمعة من المشتركين المستأمنين لديها، وأثر هذا العقد أنّ سهم المستأمن من الربح، يضاف إلى مبلغ التأمين الذي هو أثر العقد التأميني، ويدفعان معاً من جانب شركة التأمين إلى المستأمن بعد وصول المدّة التي هي أمد التأمين على الحياة، أو إلى وارثه بعد وفاته؛ إن كان تأمينه على الحياة إلى الوفاة.

28- أشار الماتن المحقّق قدس سره هنا إلى شكل آخر من التأمين المختلط مع الاشتراك في الأرباح، وهو الشكل المضاربي منه؛ بمعنى أنّ الشركة تؤمّن على حياة أشخاص مثلًا، بمعناه المتقدّم آنفاً، ويتعهّد بعض هؤلاء المستأمنين بدفع مبالغ

ص: 166

إلى الشركة، وبعضهم بالعمل التجاري بالمبالغ التي تجتمع من المستأمنين عندها، والربح يقسّم بينهم على حسب قرارهم؛ على نحو ما هو المألوف في عقد المضاربة من أنّ رأس المال من جانب شخص، والعمل من جانب آخر، فالعقد المطوي في عقد التأمين بالشكل المذكور، يصبح عقداً مضاربياً.

ولا إشكال في صحّته على القول بعدم اشتراط كون رأس المال في المضاربة، من الذهب والفضّة المسكوكين، كما هو مختار الماتن المحقّق قدس سره وهو الموافق لمقتضى التحقيق؛ إذ لا دليل على اعتبار ذلك إلّاالإجماع المدّعى في كلام ابن البرّاج حينما قال: «إذا دفع إنسان إلى حائك غزلًا وقال له: انسج ثوباً أو إزاراً على أن يكون الفضل بيننا، هل يكون ذلك مضاربة صحيحة أم لا؟ الجواب:

لا يكون ذلك مضاربة صحيحة؛ لأنّ المضاربة لا تكون إلّابالأثمان التي هي الدنانير والدراهم، ويختلط المالان، وإنّما قلنا هذا لأنّه لا خلاف في أنّ ما ذكرناه مضاربة صحيحة، وليس كذلك ما يخالفه»(1).

وقد ادّعى هذا الإجماع المحقّق الكركي أيضاً، حيث قال في ذيل قول العلّامة في القواعد: «الأوّل: أن يكون نقداً، فلا يصحّ القراض بالعروض، ولا النقرة، ولا بالفلوس، ولا بالدراهم المغشوشة» ما إليك لفظه: «والمراد بالنقد الدراهم والدنانير المضروبة المسكوكة... وما عدا ذلك لا تصحّ المضاربة عليه بإجماعنا واتفاق أكثر العامّة»(2).


1- جواهر الفقه: 124 ..
2- جامع المقاصد 8: 66 ..

ص: 167

وقد نبّه الشهيد الثاني قدس سره على حصر الدليل على اعتبار ذلك بالإجماع في «الروضة» حيث قال في ذيل قول الشهيد الأوّل قدس سره: «وإنّما تجوز بالدراهم والدنانير» ما إليك لفظه: «إجماعاً، وليس ثمّة علّة مقنعة غيره»(1).

وقال أيضاً ذيل قول المحقّق في «الشرائع»: «ومن شرط أن يكون عيناً، وأن يكون دراهم أو دنانير» ما هذا متنه: «اشتراط ذلك في المال موضع وفاق نقله في التذكرة، وهو العمدة»(2).

وفيه أوّلًا: أنّ الأصل في تلك الإجماعات المنقولة هو الإجماع المدّعى في كلام ابن البرّاج المتقدّم، وهو ليس صريحاً ولا ظاهراً في قيام الإجماع على اشتراط كون رأس المال، الدرهم والدينار المسكوكين، وأنّ المضاربة بغيرهما باطلة، بل هو ظاهر في صحّة المضاربة بلا خلاف فيما إذا كان رأس المال من الدرهم والدينار المسكوكين، وأ مّا إذا لم يكن كذلك فلا تكون صحّته متّفقاً عليها، بل فيها خلاف، فلاحظ عبارته: «... لأنّه لا خلاف في أنّ ما ذكرنا مضاربة صحيحة، وليس كذلك ما يخالفه» وهي كما ترى ظاهرة فيما ذكرناه.

وثانياً: أنّ هذا الإجماع- على فرض قبوله صغروياً- هو من سنخ الإجماعات التي يحتمل كونها مدركية؛ لاحتمال استناد المجمعين في المقام إلى بعض الوجوه المذكورة في كلمات بعضهم؛ من قبيل ما علّل به ابن البرّاج رضوان اللَّه عليه في كلامه «ولا يجوز بغيرهما، ولا يصحّ بالنقرة؛ لأنّها معتبرة بالقيمة،


1- الروضة البهية 4: 219 ..
2- مسالك الأفهام 4: 355 ..

ص: 168

كالحيوان والثياب»(1)، وبعد احتمال استناد المجمعين لمثل هذا التعليل، لا يمكننا أن نستكشف منه قول المعصوم عليه السلام الذي هو تمام الملاك في حجّية الإجماع.

وبعد أن ظهر عدم تمامية الاستناد إلى الإجماع الذي هو عمدة الدليل على وهذا العقد (29) لازم إن لم يرجع إلى المضاربة، وإن كان عقد مضاربة في ضمنه التأمين فجائز من الطرفين.

تبار كون رأس المال في المضاربة من الدرهم والدينار المسكوكين، يبقى شمول إطلاقات باب المضاربة لِما إذا كان رأس المال فيها من النقود الرائجة، سليماً عن المقيّد.

وهذا هو الدليل على ما ادّعاه الماتن المحقّق قدس سره بقوله: «وكان القرار نحو المضاربة صحّ أيضاً عندي؛ لعدم اعتبار كون المدفوع في مال المضاربة الذهب والفضّة المسكوكين، بل المعتبر كونه من المنقول في مقابل العروض».

عقد التأمين المختلط جائز أو لازم؟

29- أي أنّ هذا العقد التأميني المشتمل على شرط المضاربة لازم؛ لما تقدّم من أصالة اللزوم في كلّ عقد المتخذة من الأمر بالوفاء في قول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(2)، فإنّه إرشاد إلى أنّ جميع العقود لازمة؛ من


1- المهذّب 1: 460 ..
2- المائدة( 5): 1 ..

ص: 169

عتيقها الرائجة في عصر الصدور، وجديدها، كالعقد التأميني المستحدث في هذا العصر، فيجب الوفاء- بمقتضى العقد التأميني المشتمل على شرط المضاربة- على كلّ من طرفي العقد، ولا يزول بفسخ أحدهما.

هذا كلّه إذا انشئ العقد بين شركة التأمين والمستأمن بنحو كان عقد التأمين أصلًا، واشترط في ضمنه مضاربة المستأمن بالمبالغ التي اجتمعت عند الشركة من المشتركين، فإنّ المضاربة وإن كانت برأسها عقداً جائزاً، إلّاأنّها لمّا اشترطت في ضمن عقد لازم- وهو التأمين- وجب الوفاء بها. وهذا هو مراد الماتن المحقّق قدس سره بقوله: «وهذا العقد لازم إن لم يرجع إلى المضاربة».

وأ مّا إذا انعكس الأمر- بأن وقع العقد بين شركة التأمين والمستأمن بشكل المضاربة المتضمّنة لشرط التأمين- فهو جائز من الطرفين. وصورة العقد المضاربي أن تدفع الشركة إلى من يطلب التأمين منها، مبلغاً بعنوان رأس مال التجارة، وهو يلتزم بأن يتجر به ويستربح، والربح بينهما يقسم على حسب توافقهما، ويشترط هذا العامل على الشركة في ضمن هذا العقد، أن تؤمّن على حياته إلى الوفاة مثلًا على وجه خاصّ؛ بأن تدفع الشركة بعد موت هذا الشخص إلى ورّاثه إلى سنين معيّنة مبلغاً شهرياً، أو سنوياً، وإذا انشئ العقد كذلك، يكون المنشأ بالأصالة عقداً مضاربياً، إلّاأنّه متضمّن لشرط؛ هو التأمين، فيصبح حينئذٍ جائزاً من الطرفين؛ لما ثبت في محلّه من أنّ عقد المضاربة جائز، للإجماع المحصّل والمنقول(1).

وقد تلقّى الإجماع بالقبول من ليس من دأبه قبول الإجماع، كالمحقّق


1- المهذّب 1: 460، مسالك الأفهام 4: 344، جواهر الكلام 26: 340 ..

ص: 170

الأردبيلي، حيث قال: «الظاهر أن لا خلاف في عدم لزومها، فهي مختصّة من بين العقود بالجواز»(1). وبهذا الإجماع يخرج المقام عن عموم دليل اللزوم: أَوفُوا بِالعُقُودِ ويخصّص عموم الآية به.

مسألة 9- لو التزم المؤمّن بدفع إضافة على مبلغ التأمين فالظاهر أنّه لابأس به، كمن ا مّن على حياته عند شركة التأمين لمدّة معلومة على مبلغ معلوم، واستوفت الشركة أقساطاً شهرية مقدّرة في قبال التأمين، وتلتزم الشركة بدفع مبلغ إضافة على مبلغ التأمين ترغيباً لأهل التأمين (30)،

التأمين على الحياة مع شرط الزيادة على المؤمّن
اشارة

30- غرض الماتن المحقّق قدس سره من تدوين هذه المسألة في مبحث التأمين، هو دفع توهّم وإزاحة شبهة ربما تختلج في بعض الأذهان.

وبيان الشبهة: أنّ بعض المعاملات التأمينية يستلزم الربا المحرّم وهي ما إذا التزم المؤمّن بأن يدفع إلى المستأمن مبلغاً زائداً على ما دفع إليه المستأمن من الأقساط الشهرية، فإنّ التزام المؤمّن في ضمن عقد التأمين بدفع هذا المقدار الزائد- بأيّ داعٍ كان ولو لترغيب أهل التأمين- يكون من قبيل شرط الزيادة في القرض الذي هو رباً محرّم؛ إذ حقيقة القرض التمليك مع الضمان، وهي بعينها تنطبق على


1- مجمع الفائدة والبرهان 10: 240 ..

ص: 171

هذا النوع من التأمين على الحياة.

ولتوضيح ذلك نذكر له مثالًا: افرض أنّ زيداً أراد أن يستأمن على حياته، فطلب من شركة التأمين أن تعقد له تأميناً على حياته إلى عشرين سنة، وهو قسم من أقسام التأمين على الحياة، وبعد طلبه هذا من الشركة وتوافقها معه، تعاقدا على أن يدفع زيد المستأمن إلى الشركة طيلة مدّة التأمين في كلّ شهر، عشرة آلاف فإنّ تلك الزيادة ليست من الربا القرضي؛ لعدم كون أداء الأقساط قرضاً (31)،

تومان، والتزمت الشركة بأن تدفع لزيد بعد انتهاء أمد التأمين في مدّة معادلة لتلك المدّة في كلّ شهر، خمسة عشر ألف تومان، فتلزم حينئذٍ زيادة المبلغ الذي تدفعه الشركة إلى زيد، على مبلغ التأمين الذي أخذه منها أقساطاً في المدّة المذكورة، وهذا بروحه وجوهره لا يخرج عن حقيقة القرض الربوي.

أ مّا كونه قرضاً؛ فلأنّ ما يدفعه المستأمن إلى المؤمّن، إنّما يملّكه له بشرط ضمان المؤمّن دفعَ ذاك المبلغ إليه بعد مدّة التأمين، وهذا عين القرض الذي هو التمليك مع الضمان.

وأ مّا لزوم الربا والزيادة؛ فلأ نّه اشترط ضمن العقد أن يدفع المؤمّن إلى المستأمن مبلغاً زائداً على ما دفعه إليه.

31- والجواب عن هذه الشبهة: أنّها إنّما ترد على المعاملة التأمينية المذكورة لو قلنا: بأنّ مآلها إلى أنّ أداء الأقساط من جانب المستأمن، يكون في الحقيقة قرضاً للمؤمّن، فحينئذٍ يلزم الربا، ولكن قد تقدّم مراراً أنّ العقد التأميني بشكله الرائج، عقد مستقلّ خارج من العناوين المعاملية المعهودة الحقيقة في عصر

ص: 172

التشريع، فهو عقد مستقلّ التزم فيه المستأمن بأن يدفع مبلغاً معيّناً تدريجاً على سبيل الأقساط إلى شركة التأمين، وبإزائها تتعهّد له الشركة بدفع مبلغ التأمين في وقته، فتمنحه اطمئناناً فكرياً وراحةً قلبيّةً بالنسبة إلى نفقاته واحتياجاته في أواخر عمره؛ أي الأزمنة التي يعجز فيها عن العمل، ويبقى غير مستربح بأيّ طريق من الطرق المألوفة من الحرف والصنائع والاكتساب، وهذا فيما إذا كان التأمين على بل التأمين معاملة مستقلّة اشترط في ضمنها ذلك، والشرط سائغ نافذ لازم العمل (32).

الحياة إلى مدّة معيّنة قبل موته بسنين التي يبقى إليها عادة، أو تعطيه اطمئناناً بالإضافة إلى نفقات أهله وعياله بعد موته، وهذا فيما إذا كان التأمين على الحياة إلى وفاته.

32- وذلك لأنّ المعاوضة في المقام، ليست بين مبلغ الاستئمان الذي يدفعه المستأمن أقساطاً إلى شركة التأمين، وبين مبلغ التأمين الذي تدفعه الشركة مع زيادة في وقته إلى المستأمن أو ورثته؛ حتّى يستلزم شبهة اندراجها في القرض الربوي، بل المعاوضة في الحقيقة بين أقساط الاستئمان من جانب المستأمن، وبين تعهّد الشركة بتأمين احتياجاته ونفقاته ونفقات عياله في المستقبل؛ وذلك لعلمه في الحال بأنّ الشركة تلتزم بتعهّداتها في المستقبل وبعد مضيّ مدّة التأمين.

وحيث إنّ تعهّد الشركة هذا يمنح المستأمن اطمئناناً فكرياً ويحفظه من القلق والاضطراب بالنسبة إلى مستقبله ومستقبل عياله، صار له عند العقلاء شأن من المالية، فيليق بأن يقع عوضاً في المعاملة التأمينية.

ص: 173

وبملاحظة هذه النكتة يظهر: أنّ حقيقة التأمين، مباينة لحقيقة القرض، وإذا لم يكن قرضاً بل كان معاملة مستقلّة، يصبح اشتراط دفع الشركة مبلغاً زائداً على مبلغ التأمين، شرطاً جائزاً لازم الوفاء؛ قضاءً لوجوب الوفاء المدلول عليه بقول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، ولعموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«المؤمنون عند شروطهم»(2).

هذا غاية ما يمكن أن يقال في الجواب عن شبهة الربا المتقدّمة.

عدم قلع الشبهة بالوجه المذكور

ولكن بعد ذلك كلّه في النفس شي ء من دفع شبهة الربا في المسألة بهذا البيان؛ وذلك لأنّ شركة التأمين وإن منحت المستأمن اطمئناناً فكرياً وراحةً قلبيةً بالنسبة إلى مستقبله ببيان تقدّم، إلّاأنّ الكلام كلّ الكلام في أنّ هذا الاطمئنان هل هو عوض في المعاملة التأمينية عن أقساط الاستئمان التي يدفعها المستأمن إلى الشركة، أو هو داعٍ للمستأمن على أن يقوم بتمليك هذا المبلغ لشركة التأمين طيلة مدّة معيّنة؛ بإزاء أن تدفع الشركة إليه ذلك المبلغ بزيادة بعد انتهاء مدّة التأمين؟ هذه هي الحلقة المفقودة في بحثنا هذا، فإن كانت المعاوضة في المقام في ارتكاز العقلاء


1- المائدة( 5): 1 ..
2- الكافي 5: 404/ 8، تهذيب الأحكام 7: 371/ 66، الاستبصار 3: 232/ 4، وسائل الشيعة 18: 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 1 و 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 19، الحديث 4، مستدرك الوسائل 13: 300، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 5، الحديث 1 و 3 ..

ص: 174

بالشكل الأوّل، كما هو الحال في بقية أنواع التأمين، فالمعاملة التأمينية معاملة مستقلّة مشتملة على اشتراط زيادة، فتكون صحيحة بأصلها وفرعها؛ أي الشرط، وإن كانت عندهم من سنخ الثاني فهو قرض ربوي قطعاً:

أ مّا كونه قرضاً؛ فلأنّ حقيقته التمليك مع الضمان، والمفروض في التقدير مسألة 10- لابأس بإعادة التأمين؛ بأن طلب بعض شركات التأمين لدى شركات عظيمة أوسع منها التأمين لشركته التأمينية (33).

الثاني، أنّ المستأمن يملّك أقساط الاستئمان للشركة بشرط تعهّدها بدفع ذاك المبلغ بعد انتهاء مدّة التأمين، وهذا بعينه حقيقة القرض، وهذا هو الفارق بين هذا النوع من التأمين وسائر الأنواع.

وأ مّا كونه ربوياً؛ فلاشتراط المستأمن على شركة التأمين أن تدفع إليه مبلغاً زائداً على ذلك المبلغ.

والحقّ: أنّ تعيين حقيقة المعاملة التأمينية الرائجة في نوع التأمين على الحياة والحكمَ البتّي بأ نّها من السنخ الأوّل حتّى تكون معاملة مستقلّة، مشكل جدّاً، واللَّه سبحانه هو العالم.

إعادة التأمين، أو التأمين المضاعف

33- التأمين بلحاظ المستأمن تارةً: يكون ابتدائياً؛ وهو ما إذا استأمن شخص ماله لدى شركة التأمين من غير أن يكون ذلك الشخص مؤمّناً لغيره،

ص: 175

واخرى: يكون إعادياً، أو تأميناً بالإعادة، كما في المتن، أو التأمين المضاعف، كما سمّي به في اصطلاح مصادر التأمين(1)، وبأيّ اسم سمّيته وعنوان عنونته، فهو عبارة عن طلب شركة تأمينية من شركة عظيمة أوسع منها، أن تأ مّنها بالنسبة إلى الخسارات التي أمّنت مشتركيها عنها وتعهّدت بجبرانها عند عروضها.

والغرض الاقتصادي الأساسي من استئمان شركة تأمينية عند شركة عظمى منها، هو إلقاء عهدة جبران الخسارات- التي تعهّدت بتداركها لمشتركيها- على رقبة تلك الشركة العظمى.

ثمّ لا بأس بالإشارة الإجمالية إلى مساره التأريخي، فقد صرّح بعض أرباب علم الحقوق المدني- «بأنّ أقدم وثيقة لإعادة التأمين، ترجع إلى عام (1370 م) وفي أوائل القرن التاسع عشر بدأت إعادة التأمين، وكان أوّل اتفاق عقد صدر في سنة (1821 م) ومن ثمّ توسّع نطاق التعامل بالاتفاقات، وفي عام (1853 م) تكوّنت أوّل شركة مستقلّة متخصّصة في إعادة التأمين، وكانت شركة ألمانية؛ هي شركة (كولونيا) لإعادة التأمين»(2).

أنواع إعادة التأمين والدليل على صحّتها

ثمّ إنّ المعاملة التأمينية بالإعادة اتّسعت وتطوّرت بأشكال جديدة، ولاسيّما في الأزمنة الأخيرة، وباتساع الشركات التأمينية، أصبحت ذات أقسام


1- التأمين علماً وعملًا: 523 ..
2- التأمين علماً وعملًا: 523 ..

ص: 176

وأنواع مختلفة.

إنّ مصادر التأمين أهمّها أربع صور نقتصر في شرحها على كلام السنهوري، حيث قال:

«الصورة الاولى: إعادة التأمين بالمحاصّة، وفي هذه الصورة يشترك المؤمّن المعيد مع المؤمّن بالمحاصّة- في جميع عمليات التأمين التي يقوم بها هذا الأخير، أو في مجموع العمليات الخاصّة بنوع من أنواع التأمين التي يباشرها- بالنصف، أو بالثلث، أو بالربع، أو بأية نسبة اخرى، ولذلك سمّيت: إعادة التأمين بالمحاصّة، مثل ذلك أن يتفق المؤمّن مع المؤمّن المعيد على أن يشترك هذا الأخير معه في جميع وثائق التأمين التي يعقدها متعلّقة بنوع معيّن بنسبة الربع مثلًا في كلّ منها، فإذا عقد المؤمّن وثيقة تأمين مبلغ التأمين فيها ألفان، ومقدار القسط عشرون، كان للمؤمّن المعيد في هذه الوثيقة الربع، فيكون نصيبه في القسط خمسة يتقاضاها من المؤمّن، ويكون نصيبه من مبلغ التأمين خمسمائة يدفعها للمؤمّن إذا وقعت الكارثة.

ومعنى ذلك أن يكون المؤمّن المعيد، شريكاً للمؤمّن في جميع عمليات التأمين التي يعقدها متعلّقة بهذا النوع من التأمين؛ سواء ما كان منها كبير القيمة لا يستطيع المؤمّن وحده أن يتحمّل مخاطره، فتكون مشاركة المؤمّن المعيد له نافعة، أو كان محدود القيمة يستطيع وحده أن يتحمّل مخاطره دون مشقّة... ولذلك ليست هذه الصورة هي الصورة المناسبة للغرض من إعادة التأمين، ولا هي في مصلحة المؤمّن... إلى آخره.

الصورة الثانية: إعادة التأمين فيما جاوز حدّ الطاقة، وهذه الصورة تعالج

ص: 177

العيب الجوهري الموجود في الصورة الاولى، ولذلك كانت أوسع الصور الأربع انتشاراً، فالمؤمّن لا يعيد التأمين في جميع وثائق التأمين التي يعقدها؛ حتّى بالنسبة إلى نوع معيّن، بل يستقلّ بالعمليات التي يستطيع تحمّل مخاطرها دون مشقّة؛ أي العمليات التي لا تزيد على طاقته، فلا يعيد التأمين فيها، وما جاوز هذه الطاقة من العمليات يعيد فيه التأمين في حدود القدر الذي جاوزت به العملية الطاقة، وفي هذه الحدود فقط.

الصورة الثالثة: إعادة التأمين فيما جاوز حدّاً معيّناً من الكوارث، وفي هذه الصورة لا يعيد المؤمّن التأمين فيما جاوز حدود طاقة معيّنة يحدّدها؛ بحيث تكون واحدة لجميع وثائق التأمين التي شملتها إعادة التأمين، كما رأينا في الصورة السابقة، بل هو يعيد التأمين بالنسبة إلى كلّ وثيقة فيما يجاوز حدّاً معيّناً من التعويض الفعلي الذي يدفعه إذا تحقّقت الكارثة، ويسمّى هذا الحدّ المعيّن: بالجزء الواجب الدفع أوّلًا، وأكثر ما يكون ذلك في التأمين عن المسؤولية..

الصورة الرابعة: إعادة التأمين فيما جاوز حدّاً معيّناً من الخسارة، وفي هذه الصورة يتّفق المؤمّن مع المؤمّن المعيد على نسبة مئوية معيّنة من مجموع الأقساط التي يتقاضاها المؤمّن في فرع معيّن من فروع التأمين- التأمين من الصقيع، أو التأمين من المسؤولية، أو التأمين على الحياة- ولتكن مثلًا 70% ويجعلها حدّاً أقصى لمجموع التعويضات التي يدفعها في هذا النوع من التأمين في خلال العام بأكمله... والصورة الرابعة هذه حديثة الظهور، ولكنّها آخذة في

ص: 178

الانتشار السريع، وبخاصّة في إنجلترا وأمريكا...»(1).

ثمّ إنّ إعادة التأمين- بجميع أنواعها- معاملة مستقلّة؛ فإنّها بأشكالها الرائجة خارجة عن جميع العناوين المعاملية؛ من الصلح بشرط تحمّل الكوارث والخسارات، والهبة المعوّضة، والضمان، والدليل على ذلك ما ذكرناه وجهاً على عدّ الماتن المحقّق التأمين الابتدائي معاملةً مستقلّةً في المسألة السادسة، فراجع.

وإذا كانت المعاملة التأمينية بالإعادة معاملة مستقلّة، اندرجت في عموم دليل الإمضاء، مثل قول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(2) الدالّ بالمطابقة على لزوم جميع العقود، وبالالتزام على صحّتها.


1- الوسيط في شرح القانون المدني 7: 1124 ..
2- المائدة( 5): 1 ..

ص: 179

الكمبيالات: (سفته)

اشارة

ص: 180

ص: 181

[ومنها: الكمبيالات (سفته) «1»]

السفتجة وتطوّر استعمالها

1- إنّ في المقام ألفاظاً أربعة مترادفة يستخدمها أرباب علم الحقوق:

«السفتجة» وهي فارسية الأصل معرّبة «سفته» و «الكِمْبيالة» وهي إيطالية الأصل، و «البُوليصة» و «البُولِصة» وهي أيضاً إيطالية الأصل، و «سند السحب» وهي عربية.

ربما يبدو لمن يمرّ بلفظ «السفتجة»- في أوّل وهلة خلال المسائل المستحدثة التي تتعلّق بها- أنّها من الألفاظ الحديثة التي وضعها العرف الخاصّ أو العامّ، واستخدمها في الأزمنة الأخيرة على أساس اتساع مناسباتهم التجارية وروابطهم المعاملية. ولكن بعد ملاحظة الروايات وكلمات اللغويين، يظهر أنّ هذا اللفظ ليس بجديد الوضع والاستخدام، بل له جذور تأريخية في اللغة العربية، وينتهي عهده إلى عصر التشريع، بل ولعلّه قبله، وإليك نموذج ما يشهد بذلك من الأخبار وكلام أرباب اللغة:

ص: 182

أ مّا الروايات، فقد روى المحدّث الكليني قدس سره عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام:

لا بأس بأن يأخذ الرجل الدراهم بمكّة، ويكتب لهم سفاتج أن يعطوها بالكوفة»(1).

قوله عليه السلام: «سفاتج» جمع سفتجة، معرّب (سفته) وسند الخبر لا بأس به إلّا من ناحية الحسين بن يزيد النوفلي، فإنّه لم يوثّق(2)، ولكنّه كثير الرواية جدّاً، ولم يرد فيه قدح ولا ذمّ مضافاً إلى أنّ الشيخ قدس سره شهد في العدّة(3) بأنّ الأصحاب عملوا بروايات السكوني مع أنّ أكثرها نقلت من طريق النوفلي مع أنّه لو لم يثبت وثاقته لا يضرّ بالمقصود في المقام؛ إذ الغرض من الاستناد إلى خبره في المقام، ليس إلّاإثبات أنّ لفظ «السفتجة» ومشتقّاته، كان مستعملًا في المحاورة العربية في عصر الأئمّة عليهم السلام وهذا لا يتوقّف على إحراز صحّة السند، كما لا يخفى.

وفي «البحار» عن الحسن بن عليّ عليهما السلام- في حديث طويل-: «وأتى


1- الكافي 5: 256/ 2، وسائل الشيعة 18: 196، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 14، الحديث 3 ..
2- جامع الرواة 1: 258 ..
3- قال قدس سره في عدة الاصول عند البحث عن حجّية الخبر عند تعارضه ما إليك لفظه:« ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلّوب ونوح بن درّاج والسكوني وغيرهم من العامّة عن أئمتنا عليهم السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه». العدة في الاصول 1: 149 ..

ص: 183

محمّد وعليّ عليهما السلام هذا المؤثر لقرابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في منامه، فقالا له: كيف رأيت صنع اللَّه لك قد أمرنا من بمصر أن يعجّل إليك مالك، أفتأمر حاكمها بأن يبيع عقارك وأملاكك ويُسفتِجُ إليك بأثمانها لتشتري بدلها من المدينة؟ قال: بلى، فأتى محمّد وعليّ عليهما السلام حاكم مصر في منامه، فأمراه أن يبيع عقاره والسفتجة بثمنه إليه...» الخبر(1).

قوله: «يُسَفْتِجُ»- كيدحرج- فعل مضارع رباعي مجرّد، وماضيه «سَفْتَجَ» ومصدره «سفتجة» ولا يضرّ عدم صحّة سند الخبر بعد ملاحظة النكتة المتقدّمة في ذيل خبر السكوني.

وأ مّا كلمات اللغويين، ففي «المصباح المنير» للفيومي: «السفتجة: قيل بضمّ السين، وقيل بفتحها، وأ مّا التاء فمفتوحة فيهما، فارسي معرّب، وفسّرها بعضهم فقال: هي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالًا قرضاً يأمن به من خطر الطريق، والجمع: السفاتج»(2).

وفي «القاموس»: «السفْتَجَة- كقرطَقَة- أن تعطي مالًا لأحد، وللآخذ مال في بلد المعطي، فيوفّيه إيّاه ثَمّ، فيستفيد أمن الطريق، وفعله: السفتجة، بالفتح»(3).

وفي «مجمع البحرين»: «في حديث محمّد بن صالح: إلّارجل واحد كانت عليه سفتجة بأربع مائة دينار. سفتجة: قيل بضمّ السين، وقيل بفتحها، وأ مّا التاء


1- بحار الأنوار 23: 264 ..
2- المصباح المنير: 328، مادّة سفتجه ..
3- القاموس المحيط 1: 201، مادّة سفتجة ..

ص: 184

فمفتوحة فيهما، فارسي معرّب، وفسّرها بعضهم فقال: هي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالًا قراضاً يأمن به خطر الطريق، وفي الدرّ: السفتجة- كقرطبة- أن تعطي مالًا لأحد، ولآخذه مال في بلد، فيوفّيه إيّاها ثَمّ، فيستفيد أمن الطريق، وفعله: السفتجة، بالفتح» انتهى. والجمع: السفاتج، ومنه الحديث: «كان لأبي سفاتج من مال الغريم؛ أي صاحب الأمر. وأبو السفاتج من رواة الحديث، اسمه عبد العزيز، وفي نسخة: ابن أبي السفاتج»(1).

ولكن لا يخفى: أنّ لفظ «السفتجة» أو (سفته) ومشتقّاته وإن كان ذا عهد قديم؛ حسبما لاحظته في الأخبار وكلمات أرباب اللغة، وكان أهل اللغة العربية يستخدمونه في عصر الأئمّة عليهم السلام بل قبله، إلّاأنّه لم يكن يراد به في ذلك العصر المعنى المقصود في عهدنا الراهن، بل كان بمعنى أنّ الشخص إذا أراد أن ينقل دنانيره ودراهمه من مكان بعيد إلى بلده، وكان يخاف من خطر قطّاع الطريق، ولا يقدر هو على حفظه، فبالطبع يستدعي ملجأً يقي ماله، فيطلب شخصاً قادراً على حفظه من الأخطار كي يقرضه ذلك المال؛ حتّى يتّجر به من هذا البلد إلى البلد الذي هو وطن المقرض، ويستربح به، وهو يتعهّد بأ نّه إذا وصل إلى البلد يدفع إليه قرضه، ولاطمئنان صاحب المال بعمل هذا الشخص المقترض بتعهّده، كان يأخذ منه سنداً يكتب فيه ذلك كلّه، وهذا السند كان يسمّى عندهم ب «السفتجة»، كما فسّره به الفيّومي في عبارته المتقدّمة، أو يسمّى نفس ذلك العمل به، كما ظهر من عبارة «القاموس» المتقدّمة.


1- مجمع البحرين 2: 377، مادّة سَفتَجَ ..

ص: 185

وأ مّا «السفتجة» أو (سفته) أو (الكمبيالة) في زماننا هذا، فقد أصبح ذا معنى جديد وإن كان مشابهاً لذلك المعنى العتيق؛ حيث صار في عهدنا الراهن من الأوراق التجارية التي تقع بها معاملات مستحدثة.

وقد عرّف السفتجة في قانون التجارة الإيراني المصوّب في (13) ارديبهشت من سنة (1311) الشمسية بعد الهجرة النبوية بما إليك ترجمته:

«المادّة (307) السفتجة: سند يتعهّد على أساسه من أمضاه أن يدفع مبلغاً معيّناً في وقت معيّن أو عند المطالبة إلى حامله، أو شخص معيّن، أو من أحاله عليه ذلك الشخص»(1).

والجدير بالذكر: أنّ السفتجة ليست من سنخ الأوراق النقدية التي لها مالية اعتبارية عند العقلاء، كالإسكناس، والدينار، والدولار، بل هي- كما صرّح به في المتن القانوني المتقدّم- سند يعبّر عن اشتغال ذمّة من أصدر الكمبيالة وأمضاها بمبلغ معيّن من الدين لمن كتبت باسمه، ونتيجة ذلك أنّه لا يترتّب على دفع المديون الكمبيالة إلى دائنه، آثار دفع الأوراق النقدية، كفراغ الذمّة، وقبض الثمن ونحوهما، ومن هنا لو ضاعت عند الدائن لا تفرغ به ذمّة المديون، وسيأتي تفصيل الكلام في هذه الجهة بتبع الماتن المحقّق قدس سره في ذيل المسألة الخامسة.


1- وإليك نصّ قانون التجارة الإيراني المصوّب في 13 ارديبهشت من سنة 1311 الشمسية: مادّة( 307):« فته طلب( سفته): سندى است كه به موجب آن امضاء كننده تعهّد مى كند مبلغى در موعد معيّن يا عند المطالبه در وجه حامل يا شخص معيّن و يا به حواله كرد آن شخص كارسازى نمايد» ..

ص: 186

السفتجة ومسارها التأريخي

السفتجة بأشكالها المختلفة، ليست وليدة القرن الأخير، بل لها عرق عريق لا بأس بالإشارة إليه وإلى مبدأ حدوثها في الروابط التجارية العالمية «فقد ظهرت أوّل ورقة تجارية- وهي سند السحب، أو البوليصة، أو السفتجة- كورقة أو رسالة صرف؛ أي كوسيلة أو أداة لنقل النقود تنفيذاً لعقد صرف مسحوب... ومنها تسميتها في عدد من الأقطار العربية، كالمغرب، وليبيا، وتونس، ومصر، والكويت: الكمبيالة، وتسميتها من قبل العثمانيين: سند التأمين، كما يفسّر تسميتها في بعض الأقطار العربية، كلبنان، وسوريا، والاردن، والسعودية: سند السحب.

وقد نشأت الأوراق التجارية- وفي مقدّمتها سند السحب- في ظلّ القواعد العرفية، وفيما عدا القواعد المكتوبة في برشلونة بإسبانيا سنة (1394) لم يعنَ أيّ مشروع بها، إلّافي أواخر القرن السادس عشر، حيث بدأت تظهر اولى التشريعات الخاصّة بها، كما في جنوه بإيطاليا، وفي انتوربن أو انفرس في بلجيكا سنة (1588) وفي أواسط القرن السابع عشر كما في روتردام في هولندا سنتي (1635) و (1660) ومرّة اخرى في انتوربن أو انفرس سنة (1667) وفي السويد سنة (1671) ثمّ في فرنسا في عهد الملك لويس الرابع عشر ووزيره كولبير ضمن قانون التجارة البرّية الصادر سنة (1673) وفي الدانمارك وكذلك في لايبزك بألمانيا سنة (1681) وفي القرن التاسع عشر ابتداءً من التقنين التجاري الفرنسي

ص: 187

الصادر في عهد الإمبراطور نابليون برنابارت سنة (1807)...»(1).

وأ مّا السفتجة في إيران، فلعلّ استخدامها في الروابط المعاملية بالشكل العامّ على القواعد العرفية، أقدم من استعمالها في جميع البلاد، ويشهد به الروايات وكلمات اللغويّين المتقدّمة في أوّل المسألة؛ حيث إنّها تحكي عن ورود لفظ «السفتجة»- الذي هو معرّب لفظ فارسي (سفته)- في اللغة العربية منذ عصر التشريع، بل وقبله، وأ مّا بشكله الخاصّ الجاري على وفق قانون التجارة، فقد نشأ في سنة (1311) شمسية بعد الهجرة النبوية؛ على ما يشهد به قانون التجارة الإيراني مادّة (307) التي تقدّمت آنفاً.

ثمّ إنّ اعتبار السفتجة القانوني يتوقّف على اشتمالها على امور ذكرت في قانون التجارة الإيراني على ما يلي:

ففي المادّة (308) منه ما إليك ترجمته: «يلزم في السفتجة- مضافاً إلى اشتمالها على إمضاء المتعهّد الذي أصدر السفتجة أو ختمها- أن يعيّن فيها أوّلًا:

تأريخ صدورها، وثانياً: المبلغ الذي يجب تأديته على شخص المتعهّد بتمام حروفه؛ وبصراحة من غير إجمال وإبهام، وثالثاً: من يقبض هذا المبلغ، ورابعاً:

تأريخ تأدية المبلغ»(2).


1- الأوراق التجارية والعمليات المصرفية، الدكتور أكرم ياملكي: 10- 14 ..
2- ونصّ هذه المادّة من قانون التجارة الإيراني المصوّبة في ارديبهشت 1311 هكذا: مادّة 308:« فته طلب علاوه بر امضاء يا مهر بايد داراى تاريخ و متضمّن مراتب ذيل باشد 1- مبلغى كه بايد تأديه شود با تمام حروف. 2- گيرنده وجه. 3- تاريخ پرداخت» ..

ص: 188

وهي على قسمين: أحدهما: ما يعبّر عن وجود قرض حقيقيّ؛ بأن كان لشخص على آخر دين- كمائة دينار- على مدّة معلومة، فيأخذ الدائن من المديون الورقة. ثانيهما: ما يعبّر عن قرض صوري، ويُسمّى بالمجاملة، فلايكون دين على شخص (2).

ما هي الكمبيالة الحقيقية والصورية؟

2- الكمبيالات بشكلها الرائج الذي تدور عليه رحى كثير من المعاملات بين الأشخاص الحقيقيّين أو بينهم وبين الشخصيات الحقوقية كالبنوك، على نوعين، ولكلّ منهما أصناف سوف يأتي شرحها وحكمها في المسائل الآتية:

النوع الأوّل: الكمبيالات الحقيقية، وهي التي تحكي عن وجود قرض حقيقي يكون على ذمّة من تعهّد في ضمن الكمبيالة- بإمضائه، أو ختمه- بأن يدفعه في وقت معلوم إلى شخص معيّن من حامله، أو من أحاله ذاك الشخص إليه، ومثاله أن يكون زيد مديوناً لعمرو بمائة ألف تومان، وكان أجَله إلى ستّة أشهر، وأراد الدائن أن يستفيد من هذا الدين بجعله ثمناً في معاملة، أو يستوثق ذاك الدين بحيث لا ينكره نفس المديون أو ورثته عند المطالبة، فيطالب زيداً بورقة الكمبيالة الحاوية على اسم المديون، ومبلغ الدين، وتأريخ وقت صدورها، وكذا وقت أدائها، فهذه السفتجة تحكي عن ثبوت دين حقيقي على من أصدرها ووقّع عليها.

النوع الثاني: الكمبيالات الصورية، وقد تسمّى ب «كمبيالة المجاملة» (سفته دوستانه) وهي التي لا تحكي عن وجود قرض حقيقي على ذمّة من أصدر

ص: 189

الكمبيالة وختمها، وإنّما تعبّر عن قرض صوري على ذمّته لمن يعطيه ورقة الكمبيالة.

والداعي لإصدار هذا النوع من السفتجة والكمبيالة، أن يطلب زيد مثلًا من عمرو أن يقرضه مبلغاً، وهو لا يتمكّن من إقراضه أو لا يريد أن يقرضه نقداً، ومع ذلك لا يحبّ أن يرد حاجته بالمرّة ويتركه وحاله، ومن ثَمّ يعطيه عمرو كمبيالة حاوية لثبوت هذا المبلغ على عهدته، وعليه الأداء في أجل معيّن، فيصبح عمرو الذي أصدر السفتجة باسمه، مديوناً صورياً لزيد، وبعدها يتمكّن زيد من أن يبيع هذه السفتجة لشخص ثالث بأقلّ من هذا المبلغ، أو يشتري بها متاعاً، وبهذا الشكل ينال زيد ما رامه من المبلغ.

ثمّ إنّ الشخص الثالث الذي بيده السفتجة، يرجع بعد حلول أجلها إلى زيد، ويأخذ منه ما تعهّد به في ضمنها من أنّه مديون بهذا المبلغ، ويؤدّيه عند حلول أجلها.

ص: 190

مسألة 1- في النوع الأوّل إذا أخذ الورقة لينزّلها عند شخص ثالث بمبلغ أقلّ؛ بأن يبيع ما في ذمّة المدين بأقلّ منه، لا إشكال فيه (3)، إذا لم يكن العوضان من المكيل والموزون، كالإسكناس الإيراني والدينار العراقي والدلار وسائر الأوراق النقدية، فإنّها غير مكيلة ولا موزونة،

الكمبيالة الحقيقية وأحكامها

اشارة

3- تعرّض الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة لحكم المعاملة بالكمبيالة الحقيقية التي تقدّم تعريفها، وقد فرض طاب ثراه لها صوراً ثلاثاً.

وقبل الورود فيها ينبغي الإشارة إلى أنّ محلّ الكلام في حكم الكمبيالة، إنّما هو المعاملة الواقعة عليها بعد صدورها من المديون؛ سواء كانت بشكل البيع، أو القرض، أو غيرهما، وأ مّا مجرّد إصدار الكمبيالة من جانب المديون وإعطائها إلى الدائن وكذا أخذها منه، فلا ينبغي البحث عن جوازه وعدمه، فإنّه جائز قطعاً؛ ضرورة أنّ ورقة الكمبيالة ليست في حقيقتها إلّاسنداً يعبّر عن اشتغال ذمّة من وقّع عليها بمبلغ معيّن لشخص معيّن، وعليه التأدية في وقت خاصّ، ولا شكّ في أنّ إعطاء المديون لمثل هذا السند إلى دائنه، أمر جائز شرعاً، بل لعلّه مستحبّ طريقي، كما امر به في قول اللَّه سبحانه: وَليَكتُب بَينَكُم كاتِبٌ بِالعَدلِ(1).

وبعد هذا نقول: إنّ المعاملة بالكمبيالة الحقيقية، يمكن أن تقع على صورةٍ من الصور الثلاث التالية:


1- البقرة( 2): 282 ..

ص: 191

الصورة الاولى من المعاملة بالكمبيالة

اشارة

الصورة الاولى: أن يأخذ الدائن ورقة السفتجة من المديون، ويذهب إلى شخص ثالث لينقدها، وبالطبع ينزّلها بمبلغ أقلّ من الدين المذكور فيها؛ إذ المفروض أنّ الدين الذي تحكي عنه السفتجة مؤجّل، فلا منفعة للشخص الثالث في شرائها نقداً بمبلغ معادل لذلك الدين.

بيع الدين بالأقلّ نقداً

وهذه الصورة ترجع حقيقتها إلى بيع ما في ذمّة المدين بغيره قبل حلول أجله، بأقل منه نقداً، وقد صرّح بجوازه في مسألة الكمبيالة المحقّق الماتن قدس سره والسيّد الفقيه الميلاني قدس سره على ما ذكر في وجيزة مشتملة على فتاواه في السفتجة والسرقفلي(1) والسيّد المحقّق الخوئي قدس سره(2).

وحيث إنّ مسألتنا هذه، من صغريات تلك المسألة فيلزم البحث عنها، حتّى يظهر الحكم في المقام أيضاً، فنقول: إنّ للأصحاب أعلى اللَّه مقامهم في المسألة أقوالًا:

أقوال الفقهاء في المسألة:

الأوّل: الحكم بالصحة، وعليه العلّامة في «التذكرة»(3) والشهيد في


1- أحكام سفته وسرقفلي: 9 ..
2- منهاج الصالحين 1: 418 ..
3- تذكرة الفقهاء 2: 3 ..

ص: 192

«المسالك»(1) وصاحب «الجواهر»(2) والسيّد المحقّق الحكيم(3) والمحقّق الماتن قدس سره والسيّد الفقيه الميلاني والسيّد المحقّق الخوئي وكذا العلّامة الشهيد الصدر في حاشيته على «المنهاج»(4)، وإن توقّف في المسألة في البنك اللاربوي(5).

الثاني: التفصيل بين ما كان الدين حالًاّ فيجوز بيعه وبين ما كان مؤجّلًا فلا، واختاره العلّامة في «التحرير»(6) ويحيى بن سعيد في «الجامع للشرائع»(7) وصاحب «الحدائق» بل نسبه إلى المشهور(8).

الثالث: التوقف في نفوذ بيع الدين بأقلّ منه نقداً بغير المدين، بحيث يجب عليه دفع كلّ الدين إلى المشتري، وعليه المحقّق قدس سره في «المختصر النافع»، حيث قال: «ولو بيع الدين بأقلّ منه، لم يلزم الغريم أن يدفع إليه أكثر ممّا دفع، على تردّد»(9).

الرابع: التفصيل بين بيع الدين بأقلّ منه نقداً، إلى من هو عليه، فجائز وبين بيعه إلى ثالث فغير جائز وعليه ابن إدريس قدس سره(10).


1- مسالك الأفهام 3: 432 ..
2- جواهر الكلام 24: 347 ..
3- منهاج الصالحين 2: 187 ..
4- نفس المصدر ..
5- البنك اللاربوي: 160 ..
6- تحرير الأحكام 1: 201 ..
7- الجامع للشرائع: 351 ..
8- الحدائق الناضرة 22: 202 ..
9- المختصر النافع: 136 ..
10- السرائر 2: 40 ..

ص: 193

الخامس: أنّ بيع الدين بالأقلّ منه نقداً صحيح ولكنّ المشتري لا يستحقّ أكثر ممّا دفعه إلى الدائن، وعليه الشيخ قدس سره في «النهاية»، حيث قال: «ومن باع الدين بأقلّ ممّا له على المدين، لم يلزم المدين أكثر ممّا وَزَنَ المشتري من المال»(1)، وكذا الشهيد قدس سره في «الدروس» ودونك عبارته: «ولو بيع الدين، وجب على المديون إقباض الغريم وإن لم يأذن البائع في الإقباض وإن كان الثمن أقلّ في غير الربوي قاله المتأخّرون وروى محمّد بن الفضيل وابن حمزة لا يدفع المديون أكثر ممّا دفع المشتري ولا معارض لها»(2).

مقتضى التحقيق في المقام

ومقتضى التحقيق ما اختاره المشهور، وهو الحكم بالصحة قضاءً لإطلاق دليل إمضاء البيع، كقول اللَّه سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ(3)، وعموم إنفاذ العقود مثل قوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(4)، ولا مانع في البين من الأخذ بهما إلّامن ناحية وجوه:

أحدها: أنّ الدائن لا يستحقّ دينه المؤجّل قبل حلول أجله، فلا يجوز له بيعه.

ثانيها: أنّ مقتضى خبري ابن حمزة ومحمّد بن الفضيل الآتيين هو الحكم


1- النهاية: 311 ..
2- الدروس الشرعية 2: 313 ..
3- البقرة( 2): 274 ..
4- المائدة( 5): 1 ..

ص: 194

بعدم استحقاق من اشترى الدين بأقلّ منه، أكثر ممّا دفعه إلى البائع، وهما مستند الشيخ والشهيد الأوّل 0.

ثالثها: أنّ بيع الدين بأقلّ منه نقداً، يستلزم الربا فيكون باطلًا.

ولكن جميع هذه الوجوه قابل للدفع:

أ مّا الأوّل: ففيه أنّه إن اريد من عدم استحقاق الدائن للدين المؤجّل قبل حلول أجله، نفي ملكيته له، فهو مدفوع بأنّ ما هو المعلوم قبل حلول الأجل هو عدم استحقاق الدائن للمطالبة وهو لا يستلزم نفي الملكية؛ فإنّ الدائن مالك قبل الأجل لما على ذمة المدين، إلّاأنّه لا يستحقّ المطالبة حالئذٍ.

وإن اريد من ذلك، نفي القدرة للدائن على تسليم المبيع (الدين) قبل حلول أجله، ففيه أوّلًا: أنّه لا دليل على اعتبار القدرة على التسليم عند البيع، بل يكفي القدرة عليه في ظرف استحقاق المطالبة وهو في المقام زمان حلول الأجل، واحتمال إنكار المدين للدين عند حلوله أو نسيانه له أو إفلاسه في ذاك الوقت، لا أثر له.

مضافاً إلى ذلك: أنّ من صور بيع الدين المؤجّل قبل حلوله هو بيعه على من هو عليه، ومن المعلوم أنّ القدرة على التسليم فيه محفوظة قطعاً، وبه يصبح ذلك الدليل على فرض تماميته أخصّ من المدّعى.

وأ مّا الثاني- وهو العمدة- ففيه: أنّ الخبرين مخدوشان سنداً ودلالة وإليك متن الخبرين بجميع رجال سندهما:

أحدهما: ما رواه الكليني، عن محمّد بن يحيى وغيره، عن محمّد بن أحمد، عن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن الفضيل قال: قلت للرضا عليه السلام: رجل اشترى ديناً على رجل ثمّ ذهب إلى صاحب الدين فقال له: ادفع إليّ ما لفلان عليك، فقد

ص: 195

اشتريته منه، قال: «يدفع إليه قيمة ما دفع إلى صاحب الدين وبري ء الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه»(1).

ولا يخفى أنّ المراد من «صاحب الدين» في السؤال هو المديون ومن «صاحب الدين» في جواب الإمام عليه السلام هو الدائن.

ثانيهما: ما رواه الكليني، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن علي، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل كان له على رجل دين، فجاءه رجل فاشتراه منه بعرض، ثمّ انطلق إلى الذي عليه الدين، فقال له: أعطني ما لفلان عليك فإنّي قد اشتريته منه، كيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: «يردّ الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل الذي له الدين»(2).

والبحث حول الخبرين يقع تارةً في سندهما واخرى في دلالتهما:

أ مّا من جهة السند: فقد ناقش فيه جماعة من الفقهاء أعلى اللَّه مقامهم، منهم العلّامة في «التذكرة»؛ حيث قال بعد نقل رواية أبي حمزة المتقدّمة دليلًا لقول الشيخ قدس سره، ما إليك لفظه: «وهو مع ضعف سنده غير صريح فيما ادعاه الشيخ...»(3)، ومنهم صاحب «الجواهر» حيث قال: «وإلّا أنّهما كما ترى ضعيفتان ولا جابر لهما بل شهرة الأصحاب بقسميها على خلافهما»(4)، وكذا المحقّق الكركي قدس سره حيث قال: دليلًا لقول الشيخ قدس سره «خلافاً للشيخ؛ حيث أوجب قيمة ما


1- وسائل الشيعة 18: 348، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 15، الحديث 3 ..
2- وسائل الشيعة 18: 347، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 15، الحديث 2،.
3- تذكرة الفقهاء 2: 3 ..
4- جواهر الكلام 25: 60 ..

ص: 196

دفعه المشتري إلى صاحب الدين تعويلًا على رواية ضعيفة، والأكثر خلافه»(1).

والظاهر أنّ رجال سند الخبرين لا بأس بهم إلّامن ناحية محمّد بن الفضيل المذكور في سند كلا الخبرين؛ فإنّه مختلف فيه؛ إذ من جانب ذكره الشيخ في رجاله وتارةً عدّه من أصحاب الرضا عليه السلام قال: «محمّد بن الفضيل الأزدي صيرفي يرمى بالغلو، له كتاب من أصحاب الرضا عليه السلام(2)، واخرى عدّه من أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام وضعّفه بقوله: «محمّد بن الفضيل الكوفي الأزدي ضعيف»(3)، وثالثة عدّه من أصحاب الصادق عليه السلام مقتصراً على ذكر اسمه «محمّد بن الفضيل بن كثير الأزدي الكوفي الصيرفي»(4)، ولم يذكر فيه مدحاً ولا ذمّاً.

ومن جانب آخر عدّه النجاشي من أصحاب أبي الحسن موسى والرضا عليهما السلام وقال: «له كتاب ومسائل أخبرنا علي بن أحمد، قال: حدّثنا ابن الوليد عن الحميري، قال: حدّثنا محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن الفضيل بكتابه وهذه النسخة يرويها جماعة»(5)، وهذه شهادة باعتبار كتابه لو لم يلازم الشهادة على وثاقته.

وقد وثّقه الشيخ المفيد قدس سره في رسالته العددية، حيث عدّه من الفقهاء والرؤساء الأعلام الذين يؤخذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام ولا يطعن


1- جامع المقاصد 5: 18 ..
2- رجال الشيخ الطوسي: 389 ..
3- نفس المصدر: 360 ..
4- نفس المصدر: 297 ..
5- رجال النجاشي: 367/ 995 ..

ص: 197

عليهم بشي ء ولا طريق لذمّ واحد منهم»(1)، والظاهر أنّه هو محمّد بن الفضيل الأزدي الصيرفي.

وبالنتيجة يقع التعارض بين توثيق الشيخ المفيد بل النجاشي 0، بناء على صحّة استظهار الوثاقة من شهادته بأنّ كتابه يرويه جماعة، وبين تضعيف الشيخ قدس سره إيّاه عندما عدّه من أصحاب الكاظم عليه السلام. وأ مّا قوله عندما عدّه من أصحاب الرضا عليه السلام «يرمى بالغلوّ» فلا يدلّ على تضعيفه؛ لأنّه ليس شهادة بغلوّه، وغاية دلالته أنّه منسوب بالغلوّ، بل فيه إشارة إلى عدم ثبوت غلوّه عنده. مضافاً إلى أنّ الغلوّ في مقامات النبي صلى الله عليه و آله و سلم والأئمّة عليهم السلام لا يلازم عدم الوثاقة في القول.

والحاصل: أنّ توثيق الشيخ المفيد قدس سره للرجل معارض بتضعيف الشيخ قدس سره إيّاه. ومن هنا انتهى السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في نهاية المطاف حول هذا الرجل إلى عدم اعتباره؛ حيث قال: «إذن لم تثبت وثاقة الرجل فلا يعتمد على روايته»(2).

ولكن في المقام جهات ربما توهن تضعيف الشيخ قدس سره للرجل:

إحداها: أنّه قدس سره مع تضعيفه له في رجاله، استند إلى خبريه المتقدّمين في مقام الفتوى وأفتى بمضمونهما في مسألتنا هذه- بيع الدين بالأقلّ منه نقداً- حيث قال في «النهاية»: «ومن باع الدين بأقلّ ممّا له على المدين، لم يلزم المدين أكثر ممّا وَزَنَ المشتري من المال»(3)، وهل استناده في هذه الفتوى بخبري محمّد بن الفضيل المتقدّمين يكشف عن عدوله عن تضعيفه له، أو قيام قرينة قطعية عنده على


1- جوابات أهل الموصل، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 9: 25 ..
2- معجم رجال الحديث 17: 163 ..
3- النهاية: 311 ..

ص: 198

صدورهما في المقام؟ فهذا سؤال وإن لم نكن جازماً في مقام الجواب بتعيين أحد شقّيه، ولكن نكشف على أيّ تقدير أنّ الخبر كان حجّة عنده وإلّا لما أفتى بمضمونه.

ثانيتها: أنّ محمّد بن الفضيل ممّن روى عنه أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي وصفوان بن يحيى، وهما بشهادة الشيخ في العدّة من الذين لا يروون ولا يرسلون إلّاعن ثقة.

ثالثتها: أنّ الكليني قدس سره روى عنه في الكافي- الذي التزم في ديباجته بنقل الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام فيه(1)- روايات كثيرة، وكذا الصدوق قدس سره روى عنه في الفقيه- الذي قال في ديباجته: «بل قصدت إلى إيراد ما أفتى به وأحكم بصحّته واعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي...»(2)- روايات كثيرة، والحقّ أنّ كثرة رواية مثل الكليني والصدوق 0 ليست أقلّ اعتباراً من توثيق أرباب الرجال، فتأ مّل.

ثمّ إنّ الرجالي الشهير الأردبيلي قدس سره(3) جزم بأنّ المراد من محمّد بن الفضيل في إسناد طائفة من الروايات، هو محمّد بن القاسم بن الفضيل بن يسار النهدي البصري الثقة المعاصر له، وهي الروايات التي اشترك الرجلان في عدّة من الرواة عنهما، وكذا فيمن يرويان عنه، وقال: إنّ إطلاق ابن الفضيل عليه من باب الإسناد إلى الجدّ، لكنه في غير محلّه، كما نبّه عليه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره؛ لأنّ محمّد بن الفضيل الأزدي الصيرفي هو رجل معروف ذو كتاب وله روايات كثيرة، فإطلاق


1- الكافي 1: 8 ..
2- الفقيه 1: 3 ..
3- جامع الرواة 2: 175 ..

ص: 199

محمّد بن الفضيل الأزدي وإرادة محمّد بن القاسم بن الفضيل من دون قرينة، إطلاق على خلاف قانون المحاورة، فلا يصار إليه.

وللسيّد المحقّق التفريشي قدس سره بيان آخر؛ لأنّ المراد من محمّد بن الفضيل، هو محمّد بن القاسم بن الفضيل الثقة، وردّه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في معجم رجال الحديث(1) فراجع.

وبالجملة: فإن ثبت عدول الشيخ قدس سره عن تضعيفه للرجل من جهة استناده في فتواه المتقدّم إلى روايته، فهو وإلّا فالحكم بوثاقته مشكل.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما يرتبط بسند الخبرين.

وأ مّا من جهة الدلالة: فقد ناقش فيها جماعة- منهم صاحب «الجواهر» قدس سره- بأنّ روايتي محمّد بن الفضيل وأبي حمزة مخالفتان لُاصول المذهب وقواعده(2)، وبيان مخالفة الخبرين لُاصول المذهب وقواعده: أنّه من القواعد المسلّمة في البيع هو دخول كلّ المبيع في ملك المشتري، مع أنّ مقتضى الخبرين في فرض ابتياع كلّ الدين بأقلّ منه نقداً، هو عدم استحقاق المشتري أكثر من الثمن الذي دفعه إلى الدائن واشترى به الدين، وهذا خلاف مقتضى ماهية البيع.

ولو حمل الخبران على فساد بيع الدين بأقلّ منه نقداً، فكذلك يلزم المخالفة للقاعدة المسلّمة من جهتين:

إحداهما: أنّ مقتضى ذيل خبر محمّد بن الفضيل «وبري ء الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه» حصول براءة ذمّة المدين بالنسبة إلى ما زاد على ما دفعه


1- معجم رجال الحديث 17: 163 ..
2- جواهر الكلام 25: 60 ..

ص: 200

مشتري الدين إلى الدائن، من المدين، مع أنّ بيع الدين لو كان فاسداً، لكانت ذمّة المدين باقية على الاشتغال بكلّ الدين.

ثانيتهما: أنّ مقتضى الخبرين، رجوع من اشترى الدين إلى المدين واستحقاقه منه مقدار ما دفعه إلى بائع الدين، مع أنّ البيع لو كان فاسداً، لا وجه لجواز رجوع المشتري إلى المدين، بل له الرجوع إلى البائع (الدائن) وأخذ ما دفعه إليه.

وبالجملة: إنّ الخبرين في كلا الفرضين من الحمل على صحّة بيع الدين بأقلّ منه نقداً أو فساده، مخالفان للقواعد المسلّمة. وبعبارة اخرى: إنّ الخبرين بالحصر العقلي إمّا ناظران إلى فرض صحّة بيع الدين بالأقلّ منه، وإمّا ناظران إلى فرض بطلانه ولا ثالث، وفي كلا الفرضين يلزم المحذور من جهة المخالفة للقواعد المذكورة المسلّمة.

لا يقال: إنّ اقتضاء القواعد لما ذكر، إنّما هو بالعموم والإطلاق والخبران أخصّ منها، فلا مانع من تخصيصها أو تقييدها بهما.

لأ نّه يقال: إنّ القواعد المذكورة مأخوذة من اقتضاء نفس ماهية البيع والدين فلا مجال للتخصيص؛ فإنّ مقتضى ماهية البيع دخول كلّ ما هو المثمن في افق الإنشاء في ملك المشتري، سواء قلنا: إنّ البيع «تمليك عين بمال»(1)، كما عليه الشيخ الأعظم قدس سره ومن تبعه، أو «جعل شي ء بإزاء شي ء»(2)، كما عليه المحقّق الأصفهاني قدس سره، أو «مبادلة مال بمال»(3)، كما عليه الماتن المحقّق قدس سره. وهكذا


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 79 ..
2- حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني قدس سره 1: 66 ..
3- البيع، الإمام الخميني قدس سره 1: 10 ..

ص: 201

مقتضى حقيقة الدين، ثبوت جميع ما على ذمّة المدين، ما لم يحدث موجب شرعي لزواله من العقود كالبيع أو الإيقاعات كالإبراء.

فما ذكر في ذيل خبر محمّد بن الفضيل «وبري ء الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه» مخالف للقاعدة الأوّلية المسلّمة المأخوذة من ماهية الدين، ولا معنى لتخصيصها بذاك الخبر بعد كون النسبة بين الطرفين تباينياً، اللهمّ إلّاأن يقال: بأنّ للخبرين حكومة على تلك القواعد، بمعنى أنّ مفادهما أنّ الشارع أمضى بيع الدين بالأقلّ منه، ولكن لا بالنسبة إلى كلّ المبيع (الدين) بل بالنسبة إلى مقدار الثمن منه وهو الأقلّ. وجعل أيضاً بإعمال التعبّد بيع الدين بالأقلّ من جانب الدائن مسقطاً تعبدياً لجميع دينه وبراءة ذمّة المدين بدفع مقدار الثمن إلى مشتري الدين.

ولكن لا يخفى أنّ هذا البيان على فرض قبوله، إنّما يأتي لو لم يكن للخبرين معارض وهو صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتّى تقبضه، إلّاأن توليه فإن لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه»(1)؛ فإنّ مفاد إطلاق ذيل الصحيحة جواز بيع ما لم يكن مكيلًا ولا موزوناً، سواء كان المبيع حاضراً أو ديناً- بناءً على إطلاق لفظ «متاعاً» في الصدر، للمتاع الحاضر والكلّي في الذمّة كما ليس ببعيد- وحينئذٍ يقع التعارض بين ذيل هذه الصحيحة وخبري محمّد بن الفضيل وأبي حمزة المتقدّمين مع الإغماض عن ضعف سندهما، تعارض العموم من وجه، حيث إنّ ذيل صحيحة منصور أعمّ من الخبرين من جهة كون المبيع ديناً أو حاضراً وأخصّ منهما من جهة تقييد المبيع فيها بأن لا يكون مكيلًا ولا موزوناً بل معدوداً.


1- وسائل الشيعة 18: 168، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 16، الحديث 12 ..

ص: 202

كما أنّ الخبرين أعمّ من الصحيحة من جهة كون المبيع مكيلًا أو موزوناً أو معدوداً وأخصّ منه منها جهة فرض المبيع فيهما ديناً، فيتعارضان في مورد اجتماعهما وهو ما كان المبيع ديناً ولم يكن مكيلًا ولا موزوناً بل معدوداً كالأوراق النقدية والأمتعة التي تباع عدداً، وبعد التعارض لو لم نقل بتقدّم الصحيحة من جهة موافقتها مع الشهرة فيتساقط كلا الطرفين والمرجع بعد تساقطهما، عموم دليل الإمضاء كقوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ، أو إطلاقه كقوله سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ، فيثبت بالمآل صحّة بيع الدين بالأقلّ منه نقداً.

ثمّ إنّ تلقّي الأصحاب أعلى اللَّه مقامهم من خبري محمّد بن الفضيل وأبي حمزة المتقدّمين لمّا استقرّ على أنّهما مخالفان للقواعد المسلّمة المذكورة، أعرضوا- ما عدا الشيخ وابن البرّاج والشهيد الأوّل قدس سرهم- عن العمل بمضمونهما وقاموا بتوجيه الخبرين عن ظاهرهما، وحملهما على محامل شتّى ستأتي عن قريب؛ حتّى أنّ العلّامة الشهيد الصدر قدس سره، مع أنّه لم يرض في «البنك اللاربوي» عند التعرّض للخبرين، بالإعراض عنهما وعقّبهما بقوله: «وبالرغم من بعض الثغرات في الاستدلال بهاتين الروايتين، فإنّي لا أنسجم نفسياً ولا فقهياً مع الأخذ بالرأي المعاكس ولا أجد في نفسي وحدسي الفقهي ما يبرر لي بوضوح ترك هاتين الروايتين والأخذ برأي يناقضهما»(1).

ولكنه قدس سره عدل عن هذا التوقّف وأعرض عن العمل بالخبرين، بالصراحة في حاشيته على المنهاج حيث قال ذيل قول الماتن قدس سره: «مسألة 7: يصح بيع الدين بالحاضر وإن كان أقلّ منه» ما إليك لفظه: وفي هذه الحالة الأحوط استحباباً


1- البنك اللاربوي: 160 ..

ص: 203

للمشتري أن لا يأخذ من المدين إلّاما يعادل ما دفعه إلى الدائن في القيمة»(1).

وكيف كان: فقد ذكر في الكلمات توجيهاً للخبرين عن ظاهرهما المعرض عنه، محامل شتّى:

الأوّل: ما احتمله العلّامة قدس سره في «المختلف» من حمل الخبرين على الضمان. حيث قال: «ولابّد حينئذٍ من محمل للروايتين وليس ببعيد أن يحمل على الأمرين الأوّل الضمان ويكون إطلاق البيع عليه والشراء بنوع من المجاز؛ إذ الضامن إذا أدى عن المضمون عنه بإذنه عوضاً من الدين كان له مطالبته بالقيمة، وهو نوع من المعاوضة يشبه البيع، بل هو في الحقيقة وإنّما ينفصل عنه بمجرد اللفظ لا غير»(2). ومراده قدس سره من الضمان، هو ضمان من اشترى الدين، للدائن عن المديون فيكون مشتري الدين ضامناً وبائعه مضموناً له والمدين مضمون عنه.

ولكن يرد على هذا التوجيه:- كما في «الجواهر»(3)- أوّلًا: أنّ لفظ الشراء لم يعهد استعماله في الضمان ولو مجازاً، فلا وجه لحمله عليه.

وثانياً: أنّ ظاهر الخبرين عدم علم المديون قبل رجوع مشتري الدين إليه بما وقع من اشتراء الدين بأقلّ منه نقداً، فلو حمل الاشتراء على الضمان فهو ضامن لما على ذمّة المدين بغير إذنه، ومن المعلوم أنّ الضامن لا يجوز له حينئذٍ أن يرجع إلى المضمون عنه.

وثالثاً: أنّ خبر أبي حمزة لم يذكر فيه أنّه أدى إلى الدائن حتّى يستحقّ


1- منهاج الصالحين 2: 187 ..
2- مختلف الشيعة 5: 391 ..
3- جواهر الكلام 25: 60 ..

ص: 204

الرجوع إلى المديون، بل فيه أنّه اشترى منه بعرض، وهذا لا يوافق الضمان.

الثاني: ما احتمله العلّامة قدس سره أيضاً، من حمل الخبرين على فرض فساد البيع، وإليك عبارته: «المحمل الثاني: أن يكون البيع وقع فاسداً؛ فإنّه يجب على المديون دفع ما يساوي مال المشتري إليه بالإذن الصادر من صاحب الدين ويبرأ من جميع ما بقي عليه من المشتري لا من البائع، ويجب عليه دفع الباقي إلى البائع لبراءته من المشتري»(1).

وقد تلقّى الشهيد قدس سره في الروضة(2) هذا الاحتمال لسابقه بالقبول؛ حيث إنّه لم يناقش عليهما بعد ذكرهما.

وفيه أوّلًا: أنّ مقتضى ذيل خبر محمّد بن الفضيل المتقدّم، أنّ ذمّة المدين تبرأ بالنسبة إلى كلّ الدين بعدما دفع إلى مشتري الدين ما دفعه إلى البائع بعنون الثمن، مع أنّ هذا البيع لو كان فاسداً لكانت ذمّة المدين باقية على الاشتغال بكلّ الدين.

وثانياً: أنّ مفاد الخبر المذكور جواز رجوع مشتري الدين إلى المدين واستحقاقه منه مطالبة مقدار ما دفعه إلى الدائن واشترى به الدين، مع أنّ البيع لو كان فاسداً لما كان وجه لجواز رجوعه إلى المدين، بل مقتضى القاعدة أن يرجع إلى البائع ويأخذ منه ما دفعه إليه بعنوان الثمن.

الثالث: ما احتمله صاحب «الجواهر» قدس سره وعدّه أقرب الاحتمالات، وهو حمل الخبرين على الشراء للمديون نفسه ولو بصيغة الصلح بإذن من المديون أو بإجازة لاحقة، فيكون من صلح الحطيطة، إذا فرض كون العوض من الجنس»(3).


1- مختلف الشيعة 5: 391 ..
2- الروضة البهية 1: 410 ..
3- جواهر الكلام 25: 61 ..

ص: 205

ولا يخفى: أنّ ظاهر قول مشتري الدين للمدين في خبر محمّد بن الفضيل «ادفع إليّ ما لفلان عليك، فقد اشتريته منه» وكذا قوله له في خبر أبي حمزة «أعطني ما لفلان عليك فإنّي قد اشتريته منه» أنّ مشتري الدين إنّما اشتراه لنفسه لا للمدين وكالة عنه أو فضولة مع لحوق إجازته.

ومن هنا لم يعدّ صاحب «الجواهر» قدس سره هذا الاحتمال متعيناً، بل عدّه أقرب الاحتمالات، وهو كذلك؛ فإنّه أقرب من الاحتمالين السابقين من جهة أنّه أقلّ محذوراً منهما.

ثمّ لا يخفى: أنّ مجرّد إعراض المشهور عن خبر، فيما كان وجهه معلوماً أو محتملًا لا يكون- على ما قرّر في محلّه من الاصول- موهناً له، وإنّما يوهن فيما لم يحتمل استناده إلى وجه مطروح في البين، وحيث إنّ إعراض المشهور عن خبري محمّد بن الفضيل وأبي حمزة المتقدّمين مستند احتمالًا بل يقيناً إلى النقاش في سندهما أو دلالتهما- بالبيان المتقدّم- أو كليهما، فلا يوجب بنفسه وهناً عليهما، فمجرّد إعراضهم لا يسقطهما عن الاعتبار. والعمدة في خروج الخبرين عن حيّز الاعتبار والاعتماد للفتوى بمضمونهما، ما تقدّم تفصيلًا من الإشكال السندي من جهة تعارض توثيق المفيد قدس سره لمحمّد بن الفضيل الواقع في طريقهما، مع تضعيف الشيخ قدس سره له وعدم إحراز عدوله عن تضعيفه، وكذا الإشكال الدلالي من جهة مخالفة الخبرين للقواعد المسلّمة بالتفصيل المتقدّم، وكذا معارضتهما مع صحيحة منصور بن حازم المتقدّمة، بناءً على وجه تقدّم. ومن هنا لا يصلح الخبران للاستناد إليهما في الفتوى ورفع اليد بهما عن إطلاق دليل إمضاء البيع وعموم تنفيذ العقود، المقتضيين لصحّة بيع الدين بأقلّ منه نقداً فيما لم يكن العوضان جنساً ربوياً، كالأوراق النقدية حيث إنّها ليست من المكيل ولا الموزون.

ص: 206

والاعتبار من الدول جعلها أثماناً، وليست أمثالها معبّرة عن الذهب والفضة (4)، بل قابليتها للتبديل بها موجبة لاعتبارها، والمعاملة تقع بنفسها، والكمبيالات معبّرة عن الأوراق النقدية، وبعد المعاملة على ذمّة المدين يصير هو مديوناً للشخص الثالث.

وأ مّا الثالث من الوجوه التي يمكن أن يدّعى أنّها مانعة عن جواز بيع الدين بالأقلّ منه نقداً، هو أنّه يستلزم الربا فيكون فاسداً، ففيه: أنّه مخدوش كالوجه الأوّل والثاني؛ وذلك لأنّ الربا إمّا معاملي وإمّا قرضي وكلاهما غير موجود في المقام.

أ مّا الربا المعاملي- فلا يلزم لأنّه متقوّم بكون العوضين من المكيل أو الموزون، والمفروض أنّ أحد العوضين في المقام ما تضمّنته الكمبيالة من الدين، والآخر المبلغ الذي بيع به ذاك الدين، وكلاهما ليسا من سنخ المكيل أو الموزون، بل من جنس الإسكناس، أو الدينار، أو الدولار، وغيرها من الأوراق النقدية التي لا تعدّ عند العقلاء من المكيل ولا الموزون، فلا يلزم رباً معاملي من بيع مبلغ معيّن من الإسكناس الثابت على ذمّة المديون المذكور في الكمبيالة لشخص ثالث بمبلغ أقلّ منه نقداً. وأمّا وجه عدم استلزامه رباً قرضياً، فسيأتي بيانه ذيل التعليقة الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

بيان فنّي لشبهة لزوم الربا المعاملي في المقام والجواب عنه

4- ثمّ إنّ في المقام شبهة تستهدف إثبات لزوم الربا المعاملي في المقام، وقد أشار الماتن المحقّق قدس سره إلى الجواب عنها بقوله: «والاعتبار من الدول...».

ص: 207

وبيان الشبهة: أنّ الأوراق النقدية ليست لها مالية عند العقلاء إلّامن جهة أنّها تعبّر عن مقدار من الذهب أو الفضّة أو غيرهما ممّا هو معتمد (پشتوانه) لتلك الأوراق؛ وذلك لأنّ مالية الشي ء تارةً: تكون حقيقية لا تدور مدار اعتبار عقلائي، وهي في الأشياء التي لها منافع وخواصّ هي مورد رغبة العقلاء فيها، وبالنظر إلى ما فيها من المنفعة يتنافسون عليها، كالأمتعة التي يستفيد منها الإنسان بأيّ شكل في حياته من الأطعمة، والأشربة، والملبوسات، والمسكونات، واخرى: تكون اعتبارية، وهي في الأشياء التي ليس لها بالنظر إلى حقيقتها، منفعة مترقّبة يتنافس فيها العقلاء، وإنّما تكون ماليتها متقوّمة بالاعتبار العقلائي. والأوراق النقدية من هذا القبيل.

ومن المعلوم: أنّ اعتبار العقلاء لابدّ له من مصحّح، وهو في المقام ليس إلّا حكاية الأوراق عن شي ء من الأموال الحقيقية؛ أي الذهب، والفضّة، والنفط، وبقية المعادن التي تعدّ ثروة للدولة، وهذا المال الحقيقي يكون في الحقيقة معتمد الأوراق (پشتوانه) ومن هنا فالورق النقدي كالإسكناس إذا يشترى به متاع وإن اعتبرت له عند المعاوضة مالية معادلة لمالية ذاك المتاع المشترى به، أو قريب منها، إلّاأنّها مالية صورية طريقية، والمالية الحقيقية إنّما هي لشي ء من مثل الذهب أو الفضّة ونحوهما الموجودة في خزينة الدولة، أو البنك المركزي، أو أيّ موضع آخر، وهذا الورق النقدي يحكي عن ذاك المقدار من المال الحقيقي، ويكون طريقاً وسنداً له.

وإذا ثبت أنّ مالية الأوراق النقدية طريقية، وأنّ المعاوضة لابدّ أن تقع بين العوضين الذين لهما مالية حقيقية، فيلزم حينئذٍ الربا المعاملي في بيع الدين الذي تضمّنته الكمبيالة بأقلّ منه نقداً؛ لأنّ البيع في الحقيقة- بالنظر إلى تلك النكتة- لم يقع بين المبلغين من الإسكناس حتّى يقال: بأ نّه ليس من المكيل ولا الموزون، بل

ص: 208

وقع بين مقدار معيّن من الذهب مثلًا- وهو ما يعبّر عنه الدين المذكور في الكمبيالة- وبين مقدار معيّن من الذهب أو الفضّة أقلّ منه؛ وهو ما يعبّر عنه المبلغ من الإسكناس الذي بيعت به الكمبيالة، فيرجع بيع الكمبيالة بمبلغ أقلّ منها إلى معاوضة شي ء من الذهب أو الفضّة مؤجّلًا بشي ء أقلّ منه نقداً، وهو غير جائز قطعاً.

وقد أجاب الماتن المحقّق قدس سره عن هذه الشبهة بقوله: «والاعتبار من الدول جعلها أثماناً...».

وتفصيل الجواب: أنّ تلك الشبهة مبنية على نظرية منسوخة في زماننا عند أرباب علم الاقتصاد، بل عند الخواصّ من العوامّ؛ وهي أنّ مالية الأوراق النقدية نشأت من معتمدها (پشتوانه) وهي حاكية عنه؛ بحيث لو لم يكن لها معتمد فلا مالية لها. ولكنّ هذه الفكرة تعود إلى أوّل زمن ظهور الإسكناس، فإنّه في ذلك الوقت لم يكن إلّاسنداً حاكياً عن مقدار معيّن من الذهب أو الفضّة، ولا ينظر إليه إلّا نظراً آليّاً طريقياً، وكان البنك الناشر للإسكناس ودعياً أميناً يحفظ مسكوكات الناس من الذهب والفضّة، وكان كلّما يرجع إليه صاحب الإسكناس وطلب منه أن يدفع إليه ماله من الذهب أو الفضّة المسكوكين، يدفعه إليه.

وبعبارة اخرى: كان وِزان الإسكناس في أوائل أيّام ظهوره، وزان الصكّ التضميني في عهدنا الراهن، فكما أنّه سند يعبّر عن مبلغ معيّن من الإسكناس، ولا ينظر إليه إلّانظراً آلياً طريقياً، فكذلك كان الإسكناس في تلك الأيّام، سنداً يحكي عن مقدار معيّن من الذهب أو الفضّة المسكوكين.

وأ مّا الإسكناس في الأزمنة المتأخّرة عن تلك الفترة، ولاسيّما في زماننا، فقد اتّسعت حاجة المجتمع إلى المعاملة به كثيراً بمقدار هو أضعاف الذهب الموجود في خزينة الدولة، أو أيّ موضع آخر، فقد اصطبغ الإسكناس وأيّ ورق نقديّ آخر

ص: 209

بصبغة اخرى من مالية، وأصبح ذا مالية مستقلّة لا آليّة؛ وإن كانت متقوّمة بالاعتبار، وذلك لأنّ مالية الأوراق النقدية في جميع الأنظمة العالمية في عهدنا الراهن، لا تدور مدار وجود معتمد لها من الذهب، أو الفضّة، أو المعادن، بل هي ما زالت متقوّمة بمجرّد اعتبار الدولة؛ بمعنى أنّ الدولة- أيّة دولة كانت؛ دينية أو غيرها- إذا اعتبرت لورق فلزيّ أو قرطاسي متّصف بأوصاف خاصّة من حيث اللون والشكل والعلامة، مقداراً من المالية، وعدّته ثمناً رائجاً، يصبح ذا مالية؛ من غير أن تتوقّف هذه المرتبة من المالية على وجود معتمد (پشتوانه) لها من الذهب أو الفضّة، أو أيّ شي ء آخر؛ في البنك المركزي، أو أيّ موضع آخر.

والشاهد على ذلك ملاحظة ما إذا أسقطت الدولة، الأوراق النقدية عن الاعتبار، وألغت التعامل بها معاملة الأثمان الرائجة، فلا ريب حينئذٍ في أنّها تفقد ماليتها السابقة بالمرّة، وتصبح قرطاساً عادياً.

نعم، للذهب والفضّة- بل أيّة ثروة كانت تحت يد الدولة، كالمعادن بأنواعها، ونحوها- تأثير في ازدياد مالية أوراقها النقدية بالنسبة إلى الأوراق النقدية لدولة أو دول اخرى هي دونها في الرفاه الاقتصادي، كما أنّ لاقتدار الدولة وثباتها الداخلي وشدّة ارتباطاتها مع الأنظمة العالمية، أيضاً أثر عظيم في قيمة أوراقها.

ويترتّب على ذلك، أنّه في بيع الكمبيالة بمبلغ أقلّ، لا تقع المعاملة بين مقدارين من الذهب أو الفضّة، بل بين ما على ذمّة المديون من الإسكناس الذي تعبّر عنه الكمبيالة، وبين نفس الأوراق النقدية التي تباع بها الكمبيالة، وقد تقدّم أنّ الأوراق النقدية ليست من المكيل ولا الموزون حتّى يوجب التفاوت بين العوضين منها، رباً معاملياً.

هذا كلّه بالنسبة إلى عدم استلزام بيع الكمبيالة بأقلّ منها نقداً، رباً معاملياً.

ص: 210

هذا إذا قصدا بذلك البيع حقيقةً، لا الفرار من الربا القرضي (5)،

وأ مّا وجه عدم استلزامه رباً قرضياً؛ فلأنّ المفروض أنّ صاحب الكمبيالة، لا يقصد بالمعاملة المذكورة استقراض مبلغ نقدي أقلّ ممّا تضمّنته الكمبيالة من الدين، كما أنّ من يأخذ الكمبيالة ويدفع إلى صاحبها مبلغاً نقداً، لا يُقصد به إقراضه حتّى يلزم الربا القرضي، بل المعاملة تُنشأ بينهما لبّاً وصورةً بوجه البيع، وقد عرفت أنّه لا مانع من بيع الدين بأقلّ منه نقداً.

5- وممّا ذكرنا في التعليقة السابقة يظهر وجه ما اشترطه الماتن المحقّق قدس سره لجواز بيع الكمبيالة بقوله: «هذا إذا قصدا بذلك البيع حقيقةً، لا الفرار من الربا القرضي» إذ لو فرض أنّ المعاملة وقعت بين صاحب الكمبيالة ومشتريها بشكل البيع صورةً، وغرضهما لبّاً الفرار به من الربا القرضي، فهو من حيل باب الربا التي لا يقول الماتن المحقّق قدس سره بجوازها؛ وذلك لأنّ مآل بيع الكمبيالة حينئذٍ إلى أنّ من يشتريها صورةً بأقلّ من الدين المذكور فيها، يقرض في الحقيقة صاحب الكمبيالة ذلك المبلغ الأقلّ إلى أجل معيّن- وهو وقت استيفاء الكمبيالة- بمبلغ أكثر من القرض؛ وهو المبلغ المذكور فيها، فهذه المعاملة بيع صورةً، وقرض بشرط الزيادة لبّاً.

ولا يخفى: أنّ الماتن المحقّق قدس سره كان يقول في برهة من الزمان بمقالة المشهور من جواز الفرار من الربا بحيلها التي ذكرت في النصوص.

والشاهد عليه أنّه قدس سره لم يذكر في هذه المسألة من الطبع الأوّل من «تحرير الوسيلة» هذه الفقرة «هذا إذا قصدا بذاك البيع حقيقة، لا الفرار من الربا القرضي» بل قال فيه: «وكذا يجوز بيعها إذا كانت ربوية لو تخلّص عن الربا بوجه، كأن باعها

ص: 211

بغير الجنس» وهذه العبارة- كما ترى- صريحة في الحكم بجواز الفرار من الربا بإعمال الحيلة.

ثمّ عدل عن هذا المبنى وذهب إلى عدم جواز التخلّص من الربا القرضي بأية حيلة، على ما صرّح به في كتاب «البيع»(1)، وفي مسألتنا هذه من الطبعة الأخيرة ل «تحرير الوسيلة» حيث قال: «هذا إذا قصدا بذلك البيع حقيقةً، لا الفرار من الربا القرضي، ولا يجوز ذلك إذا كانت ربوية وإن قصدا به البيع حقيقةً».

وأصرح من ذلك كلّه ما ذكره في باب البيع من «تحرير الوسيلة» ودونك لفظه: «مسألة- ذكروا للتخلّص من الربا وجوهاً مذكورة في الكتب، وقد جدّدت النظر في المسألة فوجدت أنّ التخلّص من الربا غير جائز بوجه من الوجوه، والجائز هو التخلّص من المماثلة مع التفاضل، كبيع منّ من الحنطة المساوي في القيمة لمنّين من الشعير، أو الحنطة الرديّة، فلو اريد التخلّص من مبايعة المماثلين بالتفاضل يضمّ إلى الناقص شي ء فراراً من الحرام إلى الحلال، وليس هذا تخلّصاً من الربا حقيقة، وأ مّا التخلّص منه فغير جائز بوجه من وجوه الحيل»(2).

ما هو حكم الحيل للتخلّص عن الربا

وتفصيل ذلك- بما يسعه المقام-: أنّ ما ذكر في كلمات الفقهاء العظام أعلى اللَّه مقامهم من الحيل للفرار من الربا، لم يتلقّها الإمام الراحل قدس سره على إطلاقها بالقبول، بل فصّل بين ما يتخلّص به من الربا بالنسبة إلى خصوص معاملة المماثل


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 544 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 512 ..

ص: 212

بالمماثل مع الزيادة، فهو جائز، وبين ما يتخلّص به من الربا القرضي، فهو حرام، وحيث إنّ مستند المجوّزين هي الأخبار، فيجب ذكرها وملاحظة سندها ودلالتها.

فنقول: أمّا النصوص الواردة في جواز الاحتيال لمعاملة المثل بالمثل مع الزيادة بضمّ شي ء من غير جنسهما، فهي كثيرة:

منها: صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج قال: سألته عن الصرف فقلت له:

الرفقة ربما عجّلت فخرجت، فلم نقدر على الدمشقية والبصرية، وإنّما يجوز بنيسابور الدمشقية والبصرية، فقال: «وما الرفقة؟» فقلت: القوم يترافقون ويجتمعون للخروج، فإذا عجّلوا فربما لم يقدروا على الدمشقية والبصرية، فبعثنا بالغلّة فصرفوا ألفاً وخمسين منها بألف من الدمشقية والبصرية، فقال: «لا خير في هذا، أفلا يجعلون فيها ذهباً لمكان زيادتها؟!».

فقلت له: أشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم، فقال: «لا بأس بذلك؛ إنّ أبي كان أجرأ على أهل المدينة منّي، فكان يقول هذا، فيقولون: إنّما هذا الفرار، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يعطَ ألف دينار، وكان يقول لهم: نِعم الشي ء الفرار من الحرام إلى الحلال»(1).

ومنها: صحيحة إسماعيل بن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يجي ء إلى صيرفي ومعه دراهم يطلب أجود منها، فيقاوله على دراهمه، فيزيده كذا وكذا بشي ء قد تراضيا عليه، ثمّ يعطيه بعد بدراهمه دنانير، ثمّ يبيعه الدنانير بتلك الدراهم على ما تقاولا عليه مرّة، قال: «أليس ذلك برضا منهما


1- وسائل الشيعة 18: 178، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 6، الحديث 1 ..

ص: 213

جميعاً؟» قلت: بلى، قال: «لا بأس»(1).

ومنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودينارين؛ إذا دخل فيها ديناران أو أقلّ أو أكثر فلا بأس به»(2).

ومنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن الدراهم بالدراهم، وعن فضل ما بينهما، فقال: «إذا كان بينهما نحاس أو ذهب فلا بأس»(3).

ولكنّ الجدير بالدقة: أنّ ما ذكر في تلك النصوص من الطريق لتحليل بيع المماثل بأزيد من مماثله، ليس في الحقيقة حيلة للتخلّص من الربا مع حفظ الموضوع الربوي، بل هو طريق لتبديل موضوع حرمة معاملة المثل بمثله- المستفاد من النصوص- إلى موضوع آخر؛ إذ بعدما يضمّ إلى المماثل الناقص شي ء من غير جنسه، يخرج به الموضوع من عنوان بيع المثل بمثله مع زيادة، كما قال الإمام الراحل قدس سره:

«فالسؤال في تلك الروايات عن العلاج والتخلّص من مبادلة المثل بالمثلين مثلًا بعد كون القيمة السوقية كذلك، فعلّموهم الأئمّة عليهم السلام طريق التخلّص بضمّ شي ء من غير الجنس يخرج به من معاملة المثل بالمثل؛ لأنّ المجموع غير مماثل لمقابله، والمعاملة واقعة بين المجموع والمجموع.

فقوله عليه السلام في ذيل بعضها: «نعم الشي ء الفرار من الحرام إلى الحلال» وفي بعضها: «فرار من باطل إلى حقّ» صحيح؛ لأنّ المحرّم والباطل هاهنا هو


1- وسائل الشيعة 18: 180، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 6، الحديث 6 ..
2- وسائل الشيعة 18: 180، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 6، الحديث 4 ..
3- وسائل الشيعة 18: 181، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 6، الحديث 7 ..

ص: 214

تبادل المماثل بالمماثل مع زيادة، لا الربا المنتفي في هذا القسم عرفاً وعقلًا، فمعنى الفرار من الباطل إلى الحقّ، هو الفرار من تبادل المماثلين مع الزيادة إلى تبادل غير المماثلين كذلك، فلا ينبغي أن يُقال: إنّها وردت للتخلّص من الربا، بل ينبغي أن يقال: إنّها وردت للتخلّص من معاملة المثل بالمثل بزيادة؛ لأنّ تحصيل ربح القرض بالحيلة، فرار من الباطل إلى الباطل، لا إلى الحقّ؛ لترتّب المفاسد التي في القرض بالربح عليه بالحيلة»(1).

والحاصل: أنّ النصوص المتقدّمة الدالّة على جواز معاملة المثل بالمثل مع الزيادة- فيما ضمّ إلى المماثل الناقص شي ء من غير جنسه- قد عمل بها الأصحاب، كما في «الجواهر»: «بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منه مستفيض جدّاً إن لم يكن متواتراً»(2)، وكذا أفتى الماتن المحقّق قدس سره بمضمونها، إلّا أ نّه أنكر تخصيص تلك النصوص للروايات المانعة عن بيع المثل بالمثل مع الزيادة، وذهب إلى أنّ خروج موضوعها عن النصوص المانعة، خروج تخصّصي فيكون جواز بيع المماثل بالمماثل مع الزيادة مع ضمّ شي ء إلى الناقص منهما، على القاعدة؛ لأنّ الموضوع في الأخبار المانعة، مقيّد بالزيادة مع عدم ضمّ شي ء إلى الناقص، فما فرض مع ضمّه خارج عنه.

وأ مّا الحيل التي يتخلّص بها من الربا القرضي- كبيع شي ء بأضعاف قيمته، واشتراط قرض أو تأجيل دين في ضمنه- فقد نسب إلى المشهور جوازه، واستندوا إلى روايات.

منها: خبر محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إنّ


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 548 ..
2- جواهر الكلام 23: 391 ..

ص: 215

سلسبيل «سلسيل خ ل» طلبت منّي مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة آلاف، فاقرضها تسعين ألفاً وأبيعها ثوباً وشيئاً تقوّم بألف درهم بعشره آلاف درهم؟ قال:

«لا بأس»(1).

والخبر ضعيف؛ لوقوع عليّ بن حديد في سنده، فإنّه «ضعّفه الشيخ في كتابي الحديث، لا يعوّل على ما يتفرّد بنقله»(2).

ومنها: خبر مسعدة بن صدقة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سئل عن رجل له مال على رجل من قبل عينة عيّنها إيّاه، فلمّا حلّ عليه المال لم يكن عنده ما يعطيه، فأراد أن يقلب عليه ويربح، أيبيعه لؤلؤاً أو غير ذلك ما يسوي مائة درهم بألف درهم ويؤخّره؟ قال: «لا بأس بذلك؛ قد فعل ذلك أبي رضى الله عنه وأمرني أن أفعل ذلك في شي ء كان عليه»(3). والخبر ضعيف بمسعدة بن صدقة؛ فإنّه لم يوثّق عند أرباب الرجال(4).

ومنها: خبر عبد الملك بن عتبة قال: سألته عن الرجل يريد «اريد خ» أن اعينه المال، أو يكون لي عليه مال قبل ذلك، فيطلب منّي مالًا أزيده على مالي الذي لي عليه، أيستقيم أن أزيده مالًا وأبيعه لؤلؤة تسوي مائة درهم بألف درهم، فأقول:

أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن ا ؤخّرك بثمنها وبمالي عليك كذا وكذا شهراً؟

قال: «لا بأس»(5).


1- وسائل الشيعة 18: 54، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 1 ..
2- جامع الرواة 1: 564 ..
3- وسائل الشيعة 18: 54، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 3 ..
4- جامع الرواة 2: 228 ..
5- وسائل الشيعة 18: 55، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 5 ..

ص: 216

والخبر ضعيف بعبد الملك بن عتبة؛ فإنّه مشترك بين الثقة؛ وهو عبد الملك بن عتبة الصيرفي، ومن لم تثبت وثاقته أي عبد الملك بن عتبة الهاشمي، وفيما كان الراوي عن عبد الملك بن عتبة من غير تقييد بالهاشمي أو الصيرفي، علي بن الحكم كهذا الخبر، فالمراد به هو الهاشمي الذي لم يوثق(1).

ومنها: خبر محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت للرضا عليه السلام: الرجل يكون له المال، فيدخل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تسوي مائة درهم بألف درهم، ويؤخّر عنه المال إلى وقت، قال: «لا بأس به؛ قد أمرني أبي ففعلت ذلك» وزعم أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام عنها فقال مثل ذلك(2).

والخبر مجهول بمحمّد بن عبداللَّه. وفي «الوسائل» بدله: «محمّد بن أبي عبداللَّه» وهو ليس بصحيح(3).

ومنها: خبر محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن رجل كتب إلى العبد الصالح عليه السلام يسأله: إنّي اعامل قوماً أبيعهم الدقيق؛ أربح عليهم في القفيز درهمين إلى أجلٍ معلوم، وإنّهم سألوني أن اعطيهم عن نصف الدقيق دراهم، فهل عن حيلة لا أدخل في الحرام؟ فكتب إليه: «أقرضهم الدراهم قرضاً، وازدد عليهم في نصف القفيز بقدر ما كنت تربح عليهم»(4).

والخبر ضعيف بإرساله، وبمحمّد بن سليمان الديلمي الذي لم يوثّق(5).


1- معجم رجال الحديث 11: 211 ..
2- وسائل الشيعة 18: 55، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 6 ..
3- راجع الكافي 5: 205 ..
4- وسائل الشيعة 18: 56، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 7 ..
5- جامع الرواة 2: 120 ..

ص: 217

ومنها: معتبرة محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: يكون لي على الرجل دراهم فيقول: أخّرني بها وأنا اربحك، فأبيعه جبّة «حبّة خ ل» تقوّم عَليّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم- أو قال: بعشرين ألفاً- واؤخّره بالمال، قال:

«لا بأس»(1).

هذه هي النصوص التي استدلّ بها على جواز التخلّص من الربا القرضي ببيع شي ء بأضعاف قيمته، ويشترط في ضمنه قرض، أو تأجيل دين. وقد ناقش الماتن المحقّق قدس سره في الاستدلال بها على هذه الدعوى بوجوه:

فأوّلًا: هذه النصوص روايات ضعاف إلّارواية واحدة منها، وهي الرواية الأخيرة، أي رواية محمّد بن إسحاق بن عمّار، ومحمّد بن إسحاق «وإن وثّقه النجاشي، لكنّ العلّامة توقّف فيه؛ لما نقل عن الصدوق من أنّه واقفي، ويظهر من محكيّ كلام ابن داود أيضاً التوقّف، ولقد تصدّى بعضهم لإثبات عدم كونه واقفياً، وكيف كان فهو إمّا واقفي ثقة، أو إمامي كذلك. وسائر الروايات ضعاف، بل بعضها مشتمل على ما لا يليق بساحة الإمام عليه السلام كرواية محمّد بن إسحاق بطريق مجهول(2) عن الرضا عليه السلام وفيها- بعد السؤال عن الحيلة- قال: «لا بأس به؛ قد أمرني أبي ففعلت ذلك»(3)؛ وفي «الفقيه»: روى محمّد بن إسحاق بن عمّار: أنّه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام عن ذلك، فقال له مثل ذلك(4)، وفي رواية


1- وسائل الشيعة 18: 55، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 4 ..
2- تقدّم في الصفحة 214 أنّ هذا الطريق مجهول بمحمّد بن عبداللَّه ..
3- وسائل الشيعة 18: 55، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 6 ..
4- الفقيه 3: 183/ 824 ..

ص: 218

مسعدة بن صدقة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام- بعد السؤال عن الحيلة- قال: «لا بأس بذلك؛ قد فعل ذلك أبي، وأمرني أن أفعل ذلك في شي ء كان عليه»(1).

وأنت خبير: بأنّ بعض الأعمال وإن كان مباحاً، لكن لا يرتكبه المعصوم عليه السلام المنزّه عن ارتكاب ما هو موجب لتنفّر الطباع، كتحصيل النفع بالحيلة، وكإتيان النساء من الخلف، فهذا وأشباهه لو كان مباحاً لما ارتكبه الإمام عليه السلام ولهذا ففي نفسي شي ء من محمّد بن إسحاق الصرّاف الواقفي بقول الصدوق، الذي هو أخبر من متأخّري أصحابنا بحال الرجال، ومقتضى تلك الروايات أنّه كان تحصيل النفع كذلك عملًا لعدّة من المعصومين؛ وهم الباقر، والصادق، والكاظم، والرضا عليهم السلام...

وأنا لا أرضى بذلك، فهذه الروايات نظير روايات بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمراً(2)، حيث اشتملت على أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يفعلون ذلك، فمثل هذه الروايات غير قابلة للعمل بها؛ لاشتمالها على أمر منكر».

وثانياً: «أنّ طبع القضية في مورد تلك الروايات، كون القرض أو تأخيره، مبنياً على بيع شي ء بأكثر من قيمته، وهذا لا يخرج الموضوع عن الربا، فإنّه بمنزلة الشرط... وهو عين الربا، وعين القرض بالشرط، ففي رواية الشيباني قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: الرجل يبيع البيع، والبائع يعلم أنّه لا يسوي، والمشتري يعلم أنّه لا يسوي، إلّاأنّه يعلم أنّه سيرجع فيه فيشتريه منه، قال: فقال: «يا يونس، إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لجابر بن عبداللَّه: كيف أنت إذا ظهر الجور واورثتم الذلّ؟

قال: فقال له جابر: لا بقيت إلى ذلك الزمان، ومتى يكون ذلك بأبي أنت وامّي؟

قال: إذا ظهر الربا، يا يونس وهذا الربا، فإن لم تشتره ردّه عليك؟» قال: قلت:


1- وسائل الشيعة 18: 54، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 3 ..
2- وسائل الشيعة 17: 231، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به، الباب 59، الحديث 6، 8، 10 ..

ص: 219

نعم، قال: «فلا تقربنّه»(1)، وفي «التهذيب»(2) و «الوافي» عنه قال: «لا تقربنّه، فلا تقربنّه»(3)، مع أنّ المورد في تلك الروايات أوضح في كونه رباً، وعن «نهج البلاغة» عن عليّ عليه السلام في كلام له: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال له: «يا عليّ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم..» إلى أن قال: «ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع»(4).

وثالثاً: ناقش فيها بقوله: «إن صدق على أمثال تلك الحيل الربا ولم تخرجها الحيل عن الموضوع، فتكون تلك الروايات وأمثالها، مخالفةً للكتاب والسنّة القطعية. ولو منع عن ذلك وقيل: بأ نّه عنوان آخر، وكان البيع داعياً للتأخير أو القرض، فالتخالف والتنافي بينها وبين الأخبار الصحيحة المتقدّمة والكتاب بحاله.

بيانه: أنّ قوله تعالى: وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لَاتَظلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ(5)، ظاهر في أنّ أخذ الزيادة عن رأس المال، ظلم في نظر الشارع الأقدس وحكمة في الجعل؛ إن لم نقل بالعلّية، وظاهر أنّ الظلم لا يرتفع بتبديل العنوان مع بقاء الأخذ على حاله، وقد مرّ أنّ الروايات الصحيحة وغيرها، علّلت حرمة الربا بأ نّه موجب لانصراف الناس عن التجارات واصطناع المعروف؛ وأنّ العلّة كونه فساداً وظلماً، ومعلوم أنّه إذا قيل: إنّ أخذ الزيادة بالربا ظلم، وقيل: خذ


1- وسائل الشيعة 18: 42، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 5، الحديث 5 ..
2- تهذيب الأحكام 7: 19/ 82 ..
3- الوافي 3: 98، وفيه:« لا تقربنّه، ولا تقربنّه» ..
4- نهج البلاغة: 220/ 156 ..
5- البقرة( 2): 279 ..

ص: 220

الزيادة بالحيلة وبتغيير العنوان، يرى العرف التنافي بينهما، والتدافع في المقال نظير أن يقول: إنّ شرب الخمر حرام، ولعن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم شاربه وساقيه... إلى آخره، وقال أيضاً: إنّ شربها لفسادها وسكرها، ثمّ قال: لا بأس بإلقائها في كبسولة وأكلها، مع ترتّب الفساد والسكر، فإنّه يعدّ ذلك تناقضاً في المقال، وتنافياً في الحكم... إلى أن قال: والمقام كذلك؛ فإنّ اللَّه تعالى سمّى الربا ظلماً، والأخبار ناطقة بأنّ علّة تحريمه ذاك وذلك، ثمّ وردت عدّة أخبار بأن لا بأس بأكل هذه الزيادة بحيلة(1)، مع أنّ المفاسد تترتّب عليه عيناً وبلا فرق بينهما، فهل يكون ذلك إلّا تهافتاً في الجعل، وتناقضاً في القانون، بل لغوية فيه مع تلك الاستنكارات والتشديدات؟! وهل ترضى بالقول بارتكاب الأئمّة عليهم السلام ما يترتّب عليه تلك المفاسد بحيلة؟! فتلك الروايات وما هي لازم مفادها تحصيل الربا والحيلة في أكل الربا، ممّا قال المعصوم عليه السلام في حقّها: «ما خالف قول ربّنا لم نقله»(2) أو «زخرف»(3) أو «باطل»(4)... إلى غير ذلك»(5).

ثمّ تعرّض قدس سره للجواب عن شبهة ربما تورد على مسلكه الاصولي من حجّية


1- وسائل الشيعة 18: 162، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 20 ..
2- المحاسن: 221/ 130- 131، الكافي 1: 69/ 5، وسائل الشيعة 27: 111، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 15 ..
3- المحاسن: 220/ 128، الكافي 1: 69/ 3 و 4، وسائل الشيعة 27: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 12 و 14 ..
4- تفسير العيّاشي 1: 9/ 5 و 7، وسائل الشيعة 27: 124، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 48 ..
5- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 549- 554 ..

ص: 221

الشهرة وانجبار ضعف الخبر بعمل المشهور، والشبهة هي أنّ النصوص المتقدّمة بعد عمل المشهور بمضمونها، لا وجه للنقاش فيها- في الوجه الأوّل المتقدّم- بضعف سندها على المسلك المختار. بل يمكن دعوى حجّية نفس الشهرة القائمة على جواز التخلّص من الربا القرضي بالحيل في المقام؛ مع قطع النظر عن استنادها إلى تلك النصوص.

وأجاب قدس سره عن الشبهة بقوله: «وأ مّا الاشتهار في الفتوى، فإن اريد بالتشبّث به تصحيح إسناد هذه الروايات، فمع عدم معلومية استنادهم إليها- بل يمكن أن تكون فتوى جمع منهم لأجل توهّم كونه موافقاً للقاعدة؛ فإنّه بيع وعقد وتجارة، وفتوى جمع منهم للاستناد إلى الصحاح المتقدّمة التي وردت في تبادل الدراهم بالدراهم مع الزيادة، التي قد عرفت مفادها، وقد نرى أنّ المحقّقين قدس سرهم تمسّكوا بتلك الروايات للتخلّص من الربا- قد عرفت أنّه على فرض صحّتها أيضاً، لا يصحّ العمل بها.

وإن اريد بالتشبّث به أنّ الشهرة معتبرة وحجّة، ففيه أنّ الشهرة إذا حصلت من تخلّل الاجتهاد فلا اعتبار بها، بل الإجماع الحاصل بتخلّل الاجتهاد لا حاصل له، ولا اعتبار به، وليست هذه المسألة في تخلّل الاجتهاد فيها إلّاكمسألة منزوحات البئر، بل تخلّل الاجتهاد هاهنا أقرب...

وبالجملة: لا حجّية في الإجماع ولا في الشهرة في مثل تلك المسائل الاجتهادية، الواردة فيها الأخبار والآيات»(1).


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 554 ..

ص: 222

الجواب عن شبهات الماتن المحقّق على حيل باب الربا

وفي مواضع من كلامه نظر:

منها: ما ضعّف به طائفة من روايات حيل باب الربا الواردة في بيع العينة وبيع المحاباتي من أنّها مشتملة على ما لا يليق بساحة الإمام المعصوم عليه السلام وهو تصريح الإمام الرضا عليه السلام في خبر محمّد بن إسحاق المتقدّم بجواز الاحتيال للفرار من الربا بقوله: «لا بأس به قد أمرني أبي ففعلت» وكذا قول الإمام الصادق عليه السلام في خبر مسعدة بن صدقة في جواب السؤال عن حكم الحيلة للتخلّص عن الربا «لا بأس بذلك قد فعل ذلك أبي رضي اللَّه عنه وأمرني أن أفعل ذلك في شي ء كان عليه» فإنّ المعصوم عليه السلام منزّه عن ارتكاب ما هو موجب لتنفّر الطباع كتحصيل النفع بالحيلة ولو كان مباحاً، لا يرتكبه المعصوم عليه السلام مع أنّ مقتضى تلك الروايات أ نّه كان تحصيل النفع كذلك عملًا لعدّة من المعصومين وهم الباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام وهو بعيد عن ساحتهم كمال البُعد.

وفيه: أنّ ما هو بعيد عن ساحة العصمة أن يكون أعمال الحيلة لتحصيل المنفعة من جانب الإمام المعصوم عليه السلام بأن يفرض أنّه أقرض شخصاً مبلغاً إلى أجلٍ معيّن ثمّ إذا حلّ الأجل ولم يتمكّن المقترض من أدائه، أجّله الإمام عليه السلام بشرط أن يبيعه متاعاً يسوى مائة درهم بألف درهم فهذا احتيال لجلب المنفعة وبعيد عن ساحة العصمة، ولكنّ الجدير بالدقّة أنّ في أخبار الحيل المتقدّمة ليس ما يدلّ على صدور ذلك عن الإمام المعصوم عليه السلام وما ذكر فيها أنّ الإمام عليه السلام كان مقترضاً ورضى بعد حلول أجل القرض أن يؤجّله المقرض بشرط أن يبيعه شيئاً يسوي مائة درهم مثلًا بألف درهم كما يشهد به ذيل خبر مسعدة المتقدّم «قد فعل ذلك

ص: 223

أبي رضى الله عنه وأمرني أن أفعل ذلك في شي ء كان عليه» قضاءً لقوله «كان عليه» الظاهر في أنّ الإمام عليه السلام كان مديوناً لا دائناً. فالإمام عليه السلام هو المفيد للمنفعة لا المستفيد وهذا غير بعيد عن ساحته عليه السلام ولا وجه لاستبعاده عنها.

ومنها: تشكيكه في وثاقة محمّد بن إسحاق الذي ينتهي إليه السند في طائفة من أخبار الحيل المتقدّمة «بأ نّه صرّاف واقفي بقول الصدوق» والظاهر أنّ مراده من رميه إيّاه إلى الصرف أنّه بطبيعة شغله يتطلّب طريقاً لتحليل الربا ومن هنا يكون متّهماً في نقل الأحاديث المشتملة على الحيلة للتخلّص من الربا.

وفيه أوّلًا: أنّ محمّد بن إسحاق الصيرفي وثّقه النجاشي قدس سره بقوله: «ثقة عين روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام له كتاب كثير الرواية» وكذا المفيد قدس سره في إرشاده حيث عدّه: «من خاصّة الكاظم عليه السلام وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته»(1).

وثانياً: أنّ كونه واقفياً غير ثابت وذلك لأنّ العلّامة وإن قال في حقّه بعد نقل توثيق النجاشي إيّاه «وقال أبو جعفر بن بابويه أنّه واقفي فأنا في روايته من المتوقّفين»(2) وكذا قال ابن داود في القسم الأوّل «ثقة عين واقفي».

ولكن كما ذكر السيّد المحقّق الخوئي قدس سره، مستندهما في ذلك ما رواه أبوجعفر بن بابويه عن علي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقاق رضى الله عنه قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبداللَّه الكوفي قال: حدّثني جرير بن حازم عن أبي مسروق، قال:

دخل على الرضا جماعة من الواقفية فيهم علي بن أبي حمزة البطائني ومحمّد بن إسحاق بن عمّار والحسين بن مهران والحسن بن أبي سعيد المكاري الحديث(3)،


1- الإرشاد، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 11: 248 ..
2- رجال العلّامة الحلّي: 262 ..
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 213/ 20 ..

ص: 224

وهذه الرواية ضعيفة لا يمكن الاستدلال بها على شي ء فإنّ في سندها جرير بن حازم وهو مجهول.

ثمّ إنّ الصدوق قدس سره لم يحكم بأنّ الرجل واقفي وإنّما ذكر هذه الرواية ولم يعلم اعتماده عليها فنسبة القول بوقفه إلى ابن بابويه كما عن العلّامة وابن داود لا نعرف لها وجهاً»(1).

وممّا يشهد بعدم واقفية محمّد بن إسحاق، أنّ المفيد قدس سره صرّح في «الإرشاد» ضمن الفصل الذي اختصّه بمن روى النصّ على الرضا علي بن موسى عليهما السلام بأنّ منهم محمّد بن إسحاق الصيرفي وكذا ابن شهرآشوب عدّه من رواة النصّ على الرضا عليه السلام(2).

وثالثاً: على فرض كونه واقفياً، لا يضرّ وقفه بوثاقته إذ لا تلازم بين فساد المذهب وبين عدم الوثاقة في القول.

ورابعاً: أنّ كونه صرّافاً وإن يوهم أنّه كان بمقتضى شغله، بصدد احتيال طريق لتحليل الربا القرضي فهو بموضع التهمة إلّاأنّ الإنصاف أنّه مجرّد احتمال لا كاشف له بل يدفعه وثاقته الثابتة بشهادة النجاشي والمفيد 0 ومن الممكن جدّاً أنّ الموجب لسؤاله من الإمام عليه السلام حكم الحيلة التي يتخلّص بها من الربا ونقله الروايات الدالّة على حلّيتها أنّ المسألة كانت مورداً لابتلائه فبالطبع يسئل حكمها من الإمام عليه السلام ويهتمّ به.

وكيف كان فالخبر الأخير من أخبار إسحاق بن عمّار تامٌّ سنداً ودلالةً وقد أفتى بمضمونه الفقهاء قديماً وحديثاً ولا يبقى بملاحظة ما تقدّم مجال للتشكيك في


1- معجم رجال الحديث 15: 80 ..
2- المناقب 4: 367 ..

ص: 225

اعتباره وبقية الأخبار المتقدّمة، مؤيّدة له.

ومنها: ما أورده قدس سره على روايات الحيل المتقدّمة بقوله: «إنّ طبع القضية في مورد تلك الروايات، كون القرض أو تأخيره مبنياً على بيع شي ء بأكثر من قيمته وهذا لا يخرج الموضوع عن الربا فإنّه بمنزلة الشرط، فإذا قال المقترض اقرضني كذا أو أخّرني إلى كذا فقال المقرض: بع كذا بكذا حتّى أفعل، يكون القرض والتأخير مبنياً عليه لا داعياً لذلك وهو عين الربا وعين القرض بالشرط»(1)، ثمّ استشهد على ذلك برواية الشيباني ورواية «نهج البلاغة» المتقدّمتين.

وفيه: أنّ دعوى عدم تبدل الموضوع باعمال الحيلة التي يتخلّص بها عن الربا، ممنوعة وذلك لأنّ الموضوع في أدلّة حرمة الربا هو نفس عنوان الربا وهو في المعاملات عبارة عن مبادلة المتماثلين مع زيادة أحدهما على الآخر وفي القرض عبارة عن كلّ زيادة اشترطت في القرض ابتداءً في قبال الأجل أو هي وكذا الزيادة بإزاء تأجيل الدين- كما هو مقتضى التحقيق وعليه المحقّق الماتن قدس سره- وكما أنّ في الربا المعاملي يتبدّل الموضوع بضمّ شي ء إلى المماثل الناقص من غير جنسه كما اعترف به في محلّه، فكذلك في الربا القرضي، يتبدّل الموضوع باشتراط تأجيل الدين، في ضمن بيع المقرض شيئاً إلى المقترض بأضعاف قيمته، وذلك لأنّ الأحكام المعاملية إنّما تترتّب على الانشاءات كما يدلّ عليه قول الإمام عليه السلام «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» في خبر خالد بن الحجّاج(2) وقوله عليه السلام: «فإنّما يحرّم الكلام» في أخبار مستفيضة معتبرة منها صحيحة الحلبي(3)، وصحيحة


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 551 ..
2- وسائل الشيعة 18: 50، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 8، الحديث 4 ..
3- وسائل الشيعة 19: 41، كتاب المزارعة، الباب 8، الحديث 4 ..

ص: 226

سليمان بن خالد(1) والمفروض أنّ الإنشاء في المقام ليس بعنوان القرض بشرطها الزيادة ولا التأجيل بشرطها حتّى يندرج في موضوع أدلة حرمة الربا القرضي بل بعنوان بيع شي ء بأضعاف قيمته وفي ضمنه يشترط تأجيل القرض وأ نّى هذا من ذاك. فإنّ مصبّ الإنشاء ليس القرض أو تأجيل الدين بشرط البيع الموجب للربح، للمقرض بل المصبّ هو البيع الكذائي بشرط القرض أو تأجيل الدين وهذا موضوع مغاير لما هو الموضوع في أدلّة حرمة الربا. ولا مانع من الفرار عن الربا المحرّم بتبديل الموضوع إلى عنوان معاملي محلّل ويشير إلى هذه النكتة ما في ذيل صحيحة عبد الرحمان الحجّاج «نعم الشي ء الفرار من الحرام إلى الحلال»(2).

وأ مّا استشهاده قدس سره على عدم حلّية الحيل للتخلّص من الربا برواية يونس الشيباني المتقدّمة.

ففيه أوّلًا: أنّ الخبر ضعيف بيونس بن شيبان الذي لم يوثّقه الرجاليّون وبصالح بن عقبة فإنّه إمّا صالح بن عقبة بن خالد الذي لم يوثّق وإمّا صالح بن عقبة بن قيس وهو لم أيضاً يوثّق بل قال ابن داود عن ابن الغضائري «ليس حديثه بشي ء كذّاب غال كثير المناكير»(3) وإن وثّقه السيّد الخوئي قدس سره اعتماداً على وقوعه في أسناد كامل الزيارات وأنّ نسبة كتاب الرجال إلى ابن الغضائري لم تثبت(4) ولكن مقتضى التحقيق أنّ مجرّد وقوع الراوي في أسناد كامل الزيارات لا


1- وسائل الشيعة 19: 41، كتاب المزارعة، الباب 8، الحديث 6 ..
2- وسائل الشيعة 18: 178، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 6، الحديث 1 ..
3- معجم رجال الحديث 9: 82 ..
4- نفس المصدر ..

ص: 227

يثبت وثاقته ومن هنا عدل ذلك القائل العظيم قدس سره عن المبنى أخيراً وتفصيل البحث موكول إلى محلّه.

وثانياً: أنّ موضوع الخبر بقرينة قوله عليه السلام: «وهذا الربا فإن لم تشتره ردّه عليك»(1) ما إذا اشترط في البيع الأوّل، البيع الثاني، بمعنى أن يشترط البائع في ضمن البيع الأوّل أن يبيع المشتري المتاع إليه بأقلّ منه. فغاية مفاد الخبر هو عدم جواز الاحتيال للفرار من الربا بهذا الوجه، فلا يشمل ما إذا وقع الاحتيال له بالبيع المحاباتي المذكور في معتبرة محمّد بن إسحاق المتقدّمة وهو بيع شي ء بأضعاف قيمته واشتراط تأجيل القرض في ضمنه أو ببيع العينة وهو أن يبيع الشخص متاعه بثمن إلى أجلٍ معلوم ثمّ يشتريه لنفسه نقداً بثمن أقلّ فإنّ هذه العملية وإن كانت مشتملة على بيعين إلّاأنّ الثاني لم يشترط في ضمن الأوّل حتّى يندرج في الخبر المذكور.

والحاصل أنّ خبر يونس بن شيبان بعد إعراض الأصحاب عمّا يوهمه ظاهره إمّا محمول على ما ذكرنا بالقرينة المتقدّمة وإمّا على الكراهة كما حكاه صاحب الحدائق قدس سره عن بعض مشايخه(2) وإمّا على صورة عدم قصد المتبايعين إلى البيع حقيقة كما اختاره المحدّث الكاشاني قدس سره حيث قال: «لا منافاة بين هذا الخبر والأخبار المتقدّمة لأنّ المتبايعين هاهنا لم يقصدا البيع ولم يوجباه في الحقيقة وهناك اشترطا ذلك في جوازه»(3)، وكذا احتمله صاحب الجواهر قدس سره(4)، وإمّا محمول على التقية لما عن العامّة من تشديد المنع في هذه الصورة.


1- وسائل الشيعة 18: 42، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 6، الحديث 5 ..
2- الحدائق الناضرة 19: 137 ..
3- الوافي 18: 725 ..
4- جواهر الكلام 25: 35 ..

ص: 228

وأ مّا استشهاده قدس سره بخبر نهج البلاغة عن عليّ عليه السلام في كلام له أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال له: «يا علي إنّ القوم سيفتنون بأموالهم- إلى أن قال- ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية فيستحلّون الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع»(1).

ففيه أوّلًا: أنّ في ذيل الخبر احتمالين:

أحدهما: أن يراد به تحليل الربا بمطلق البيع ولو كان من سنخ بيع العينة أو المحاباتي.

ثانيهما: أن يراد به تحليل الربا بنوع خاصّ من البيع وهو البيع بالنحو الذي حملنا عليه خبر يونس الشيباني المتقدّم وهو أن يبيع المقرض شيئاً إلى المقترض بأكثر من قيمته ويشترط عليه أن يبيعه إليه بأقلّ من ذاك الثمن، وبعد تطرّق هذين الاحتمالين إلى الخبر، يصبح مجملًا فيجب الأخذ بالقدر المتيقّن منه وهو الثاني سيّما بعد ملاحظة أنّ البيع الذي يتخلّص به من الربا بنحو العينة أو المحاباتي لا يصدق عليه بالنظر إلى ورود النصّ المعتبر فيه أنّه من «الشبهات الكاذبة والأهواء الساهية» المذكورة في الصدر.

وثانياً: مع فرض ظهوره في الاحتمال الأوّل فهو ليس أكثر من الإطلاق فيقيّد بالأخبار الواردة في الحيل التي يتخلّص بها من الربا.

ومنها: ما أورده أيضاً على حلّية الحيل التي يتخلّص بها من الربا من أنّ تلك الحيل لو منع عن صدق الربا عليها «وقيل بأ نّه عنوان آخر وكان البيع داعياً للتأخير أو القرض فالتخالف والتنافي بينهما وبين الأخبار الصحيحة المتقدّمة والكتاب


1- وسائل الشيعة 18: 163، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 20، الحديث 4 ..

ص: 229

بحاله بيانه أنّ قوله تعالى: وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لَاتَظلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ(1) ظاهر في أنّ أخذ الزيادة عن رأس المال ظلم في نظر الشارع الأقدس وحكمة في الجعل إن لم نقل بالعلية وظاهر أنّ الظلم لا يرتفع بتبديل العنوان مع بقاء الأخذ على حاله»(2).

وفيه: أنّه بعد تسلّم عدم صدق عنوان الربا على الحيل المذكورة في النصوص وتبدّل الموضوع فيها من الربا إلى عنوان آخر، لا وجه لدعوى تخالف تلك الحيل مع الكتاب والأخبار الدالّة على حرمة الربا فإنّ مصبّ الحرمة في الكتاب والسنّة عنوان الربا والظلم كما في قوله سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(3) وقوله سبحانه: وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لَاتَظلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ وكلا العنوانين لا ينطبق على الحيل التي يتخلّص بها من الربا فلا يبقى وجه لتعارض أخبارها مع الكتاب والسنّة.

أ مّا الربا فوجه عدم انطباقه، على تلك الحيل ما تقدّم آنفاً من أنّه بإعمال الحيل الشرعية، يتبدّل من حيث الإنشاء، عنوان الربا إلى عنوان آخر بلا عناية ومجاز كبيع العينة أو البيع المحاباتي إذ الربا ليس بمعنى مطلق الزيادة الحاصلة للمقرض بأيّ طريق بل هو الزيادة التي تقع في الإنشاء بإزاء الأجل ومن المعلوم أنّ في تلك الحيل، لا تقع بإزائه بما تقدّم توضيحه، مضافاً إلى أنّ الماتن المحقّق قدس سره بنى في هذا الإشكال على عدم صدق الربا على الحيل.


1- البقرة( 2): 279 ..
2- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 553 ..
3- البقرة( 2): 275 ..

ص: 230

وأ مّا الظلم فوجه عدم انطباقه على الحيل التخلّصية أنّه إمّا يراد به الظلم العرفي أو الشرعي.

فإن اريد به الأوّل فيرد عليه أنّ الربا بكلا قسميه المعاملي والقرضي لا يعدّه العرف العالمي ظلماً.

أ مّا الربا المعاملي فواضح ضرورة أنّه إذا بيع منٌّ من الأرز الجيّد إلى منّين من الردي ء منه- مع تساوي العوضين في القيمة- لا يرى العرف ظلماً في البين بل ربما يرون بيع المنّ من الردي ء إلى المنّ من الجيّد خلاف الإنصاف- كما أنّ صدق الربا والزيادة في هذا النوع ممنوع عندهم ومن هنا يكون إطلاق الربا في لسان الشرع على المعاملي منه تعبّداً من باب الحكومة.

وأ مّا الربا القرضي فكذلك لا يعدّه العرف العام غير المتأثّر من الشرع، ظلماً، إذ لا شكّ في أنّه إذا اقترض شخص من آخر مبلغاً واشترط عليه المقرض زيادةً معيّنة على القرض وهو قبل الشرط عن رضاه ولو إنشاءً، لا يصدق عليه عند العرف العام- لا خصوص المتشرّعة- أنّه ظلمه إذ الظلم متقوّم لديهم بالتعدّي والتجاوز إلى حقوق الآخرين من جهة النفس أو العرض أو المال ودفع المقترض الزيادة التي اتّفق عليها مع المقرض لا يعدّ عندهم ظلماً وأبناء العرف العام في جميع أنحاء العالم لا يرون بين هذه الزيادة المتّفق عليها من الطرفين وبين بيع الشي ء بأضعاف قيمته، فرقاً من جهة عدم صدق الظلم ولا يعدّون كلتا الزيادتين، ظلماً، ويشير إليه قول اللَّه سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(1).

نعم عند العرف المتشرّع ربما يعدّ الربا القرضي ظلماً وما هذا إلّالتأثّرهم


1- البقرة( 2): 275 ..

ص: 231

من الشرع ولكنّه لا مطلقاً بل فيما لم يفرض إعمال الحيل التي رخّصها الشرع فراراً من الربا.

وإن اريد به الثاني أي الظلم الشرعي فيرد عليه أنّ الشرع إنّما عدّ الربا ظلماً، فيما لم يتبدّل إلى موضوع آخر بإعمال الحيل المرخّصة لما تقدّم من أنّ الربا الموضوع للحرمة في أدلّة حرمة الربا القرضي ليس بمعنى مطلق الزيادة التي تصل إلى المقرض بأيّ وجه كان بل هي الزيادة التي تقع بحسب الإنشاء بإزاء الأجل سواء كانت كذلك عند حدوث القرض أو عند تأجيله وإدامته. ومن هنا لو حصلت الزيادة للمقرض بإعمال حيلة من تلك الحيل المشروعة كبيعه متاعاً إلى المقترض بأضعاف قيمته بشرط أن يؤجّل قرضه إلى مدّة معيّنة لا يصدق عليه الربا حتّى يكون ظلماً.

وبعبارة اخرى أنّ الروايات المبيّنة للحيل التي يتخلّص بها من الربا، حاكمة على أدلّة حرمة الربا بمعنى أنّا نستكشف على ضوء تلك الأخبار أنّ الزيادة التي تحصل للمقرض بإعمال تلك الحيل، لا تكون من الربا المحرّم ولا ظلماً عند الشرع لا أنّها ظلم عقلًا أو شرعاً وقد خرجت من أدلّة حرمته بالتخصيص إذ من المعلوم أنّ قبح الظلم ذاتي لا يعقل فرض صدقه على مورد ولو على نحو الحكومة وتنزيل الشرع ثمّ خروجه عن أدلّة حرمته. وهذا نظير بيع المعدود بالأكثر من جنسه فإنّه جائز عند المشهور منهم الماتن المحقّق قدس سره ويستكشف من الأخبار الدالّة على ترخيص الشارع له، أنّه ليس ظلماً عنده فكذلك في المقام تكشف بأخبار الحيل التي يتخلّص بها من الربا، أنّها ليست ظلماً عند الشرع كما لا تكون ظلماً عند العرف.

ص: 232

وبهذا البيان ظهر الجواب أيضاً عمّا أفاده في وجه تخالف أخبار الحيل مع الكتاب والسنّة بقوله: «ومعلوم أنّه إذا قيل إنّ أخذ الزيادة بالربا ظلم وقيل خذ الزيادة بالحيلة وبتغيير العنوان، يرى العرف التنافي بينهما»(1) إذ العرف بعدما التفت إلى أنّ أخذ الربا برضاية المقترض ليس عنده ظلماً وإنّما عدّه الشرع ظلماً ونزّله منزلته وأنّ موضوع حكمه هو الربا الذي ليس بمعنى مطلق الزيادة الحاصلة للدائن بل هو خصوص الزيادة الواقعة بإزاء الأجل وهذا الموضوع يتبدّل بإعمال الحيلة، فلا محالة لا يرى بين الخطابين تنافياً.

ومنها: ما ادّعاه قدس سره في مطاوي كلماته كراراً من أنّ حرمة الربا عُلّلت في الأخبار بأ نّه فساد وموجب لانصراف الناس عن التجارات واصطناع المعروف وهذه الامور بعينها تترتّب على الحيل التي يتخلّص بها من الربا فلا مجال لتحليلها.

وفيه: مضافاً إلى منع كلّية ترتّب تلك الامور على الحيل كبيع العينة والبيع المحاباتي، أنّ ما ذكر في الأخبار على وجه التعليل لحرمة الربا ليس تمام الملاك لحرمته وإنّما هو بعضه وباب العلم بما هو تمام الملاك للأحكام مسدود علينا، فعلى فرض قبول ترتّب تلك الامور على الحيل، لا يمكن لنا أن نستكشف به ثبوت حرمتها بحيث يسقط بترتّبها عليه، الأخبار الدالّة على حلّية إعمال الحيل المذكورة عن الحجّية.

هذا وسيأتي مزيد توضيح للحيل التي يتخلّص بها من الربا في شرح المسألة الرابعة من مسائل الكمبيالة إن شاء اللَّه تعالى.


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 553 ..

ص: 233

شرط آخر لصحّة بيع الكمبيالة

إلى هنا انتهينا إلى أنّ جواز بيع الكمبيالة لشخص ثالث بمبلغ أقلّ منها، مشروط عند الماتن المحقّق بقصد طرفي المعاملة، البيع حقيقةً، لا الفرار من الربا.

ولكن في المقام شرط آخر لجوازه لم يتعرّض له الماتن المحقّق قدس سره في المقام:

وهو أنّ المبلغ الذي تباع به السفتجة يعتبر أن يكون نقداً؛ إذ لو كان مؤجّلًا فقهراً يندرج في بيع الدين بالدين المؤجّلين، وهو غير جائز بلا خلاف بين الأصحاب، كما في «الحدائق»(1).

وقد صرّح به الماتن المحقّق قدس سره في المسألة السابعة من كتاب الدين، حيث قال: «لا يجوز بيع الدين بالدين على الأقوى فيما إذا كانا مؤجّلين وإن حلّ أجلهما»(2).

وقد صرّح ببطلان بيع السفتجة فيما لم يكن المبلغ الذي تباع به نقداً وأ نّه من قبيل بيع الدين بالدين، السيّد المحقّق الميلاني قدس سره في المسألة التاسعة من وجيزته(3).

وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في المسائل المستحدثة من «المنهاج»:

«فيجوز للدائن أن يبيع دينه المؤجّل الثابت في ذمّة المدين بأقلّ منه حالّاً، كما لو كان دينه مائة دينار، فباعه بثمانية وتسعين ديناراً نقداً، نعم لا يجوز- على الأحوط لزوماً- بيعه مؤجّلًا؛ لأنّه من بيع الدين بالدين»(4).


1- الحدائق الناضرة 20: 201 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 597 ..
3- أحكام سفته وسرقفلى: 10 ..
4- منهاج الصالحين 1: 418 ..

ص: 234

واستدلّ على بطلان بيع الدين بالدين المؤجّلين تارةً: بالإجماع، كما في «الجواهر»(1)، واخرى: برواية طلحة بن زيد(2)، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: لا يباع الدين بالدين»(3).

ومن طريق العامّة ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يجوز بيع الكالي بالكالي»(4).

قال ابن الأثير في «النهاية» في توضيح هذا الحديث: «أي النسيئة بالنسيئة، وذلك أن يشتري الرجل شيئاً إلى أجل، فإذا حلّ الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى آخر بزيادة شي ء، فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض»(5).

ولكنّ هذه الوجوه لا تخلو من النقاش:

أ مّا الإجماع، فلأ نّه مستند إلى الخبرين المتقدّمين آنفاً، ولا أقلّ من احتماله، وبه يصبح من الإجماعات المدركية التي لا يكشف بها رأي المعصوم عليه السلام الذي هو تمام المناط لحجّية الإجماع.

وأ مّا خبر طلحة بن زيد، فلأ نّه أوّلًا: ضعيف بعدم وثاقة طلحة، وثانياً:

- على فرض اعتبار الخبر استناداً إلى ما قاله الشيخ قدس سره في حقّه: «له كتاب، وهو


1- جواهر الكلام 24: 346 ..
2- في الكافي« طلحة بن يزيد» ولكن في تهذيب الأحكام 6: 189، باب الديون وأحكامها، الحديث 400« طلحة بن زيد» وهو الصحيح، معجم رجال الحديث 9: 172 ..
3- الكافي 5: 100، وسائل الشيعة 18: 398، كتاب التجارة، أبواب السلف، الباب 8، الحديث 2 ..
4- المستدرك على الصحيحين 2: 57، كنز العمّال 4: 77/ 960 ..
5- النهاية، ابن الأثير 4: 194، مادّة كلأ ..

ص: 235

عامّي، إلّاأنّ كتابه معتمد»(1)- أنّه ليس بتامّ الدلالة على منع الدين بالدين الذي يتحقّق بنفس البيع، وهو محلّ بحثنا؛ إذ الظاهر من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يباع الدين بالدين» أنّ كلّ واحد من الدينين مقدّم على عقد البيع، فلا يشمل ما لو باع من له دين مؤجّل على شخص لشخص ثالث بمبلغ إلى أجل معيّن، حيث إنّ هذا المبلغ وإن صار ديناً مؤجّلًا بمجرّد بيع ذاك الدين به، إلّاأنّه لا يصدق عليه عرفاً أنّه باع دينه بدين.

ولعلّ الوجه في احتياط السيّد المحقّق الخوئي قدس سره وعدم إفتائه بتّاً بمنع بيع الدين بالدين مؤجّلًا: أنّه رأى من جانب أنّ الاستناد إلى مجرّد خبر طلحة غير تامّ؛ لما تقدّم، ومن جانب آخر قام الإجماع على المنع، وهو أيضاً غير تامّ بعد احتمال استناد المجمعين إلى ذاك الخبر، فاحتاط في المسألة تحفّظاً من مخالفة الإجماع والخبر.

نعم، للماتن المحقّق قدس سره أن يحكم بالمنع بتّاً- كما حكم به- لما بنى عليه من حجّية الشهرة الفتوائية القدمائية، وكذا انجبار ضعف الخبر بالشهرة العملية.

ولكن في المقام رواية اخرى تامّة السند والدلالة تصلح أن تكون مستنداً للحكم بالمنع، ولعلّها مستند الماتن المحقّق قدس سره في حكمه به في عبارته المتقدّمة من كتاب الدين، وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يكون له على الرجل طعام أو بقر أو غنم أو غير ذلك، فأتى المطلوب الطالب ليبتاع منه شيئاً، قال:

«لا يبيعه نسياً، فأ مّا نقداً فليبعه بما شاء»(2).


1- معجم رجال الحديث 9: 169 ..
2- وسائل الشيعة 18: 45، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 6، الحديث 8 ..

ص: 236

ولايجوز ذلك إذا كانت ربوية وإن قصدا به البيع حقيقةً (6).

فإنّ ذيل الخبر كالصريح في عدم جواز بيع الدين بثمن نسيئة؛ أي بدين مؤجّل، إذ ثمن النسيئة يصير بنفس عقد البيع ديناً مؤجّلًا.

وبهذا كلّه ظهر: أنّ من شرائط بيع الدين المذكور في السفتجة بأقلّ منها، أن لا يكون الثمن ديناً مؤجّلًا، بل يعتبر أن يكون نقداً.

الصورة الثانية من المعاملة بالكمبيالة

6- هذه هي الصورة الثانية من صور المعاملة بالكمبيالة، وهي ما إذا لم يكن الدين المذكور في الكمبيالة من الأوراق النقدية، بل من الأمتعة المكيلة أو الموزونة، وحينئذٍ إذا بيعت بأقلّ منها تصبح المعاملة، معاملة ربوية، كما إذا كان الدين الذي تحكي عنه السفتجة ألف كيلو من الأرز، وهو مؤجّل إلى ستّة أشهر، فباعه صاحب السفتجة بثمان مائة كيلو منه نقداً، وهذا بيع مماثل بأقلّ من مماثله نقداً، وهو حرام باتفاق الأصحاب؛ قضاءً للنصوص حتّى وإن لم يقصد المتعاقدان بهذا البيع الفرار من الربا، بل قصدا البيع حقيقةً؛ وذلك لمنع النصوص من معاملة المماثل من المكيل أو الموزون بأقلّ من مماثله، كموثّقة منصور بن حازم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام وفيها: «كلّ شي ء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد، فإذا كان لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد»(1).

والمراد من قوله عليه السلام: «فلا يصلح»- بقرينة المقابلة مع قوله عليه السلام: «فلا


1- وسائل الشيعة 18: 153، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 16، الحديث 3 ..

ص: 237

بأس»- هو البأس والمنع.

وأظهر منها صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبداللَّه قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أيجوز قفيز من حنطة بقفيزين من شعير؟ فقال: «لا يجوز إلّامثلًا بمثل» ثمّ قال: «إنّ الشعير من الحنطة»(1)، فإنّها صريحة في عدم جواز بيع الحنطة بأزيد منها مطلقاً؛ نقداً، أو نسيئةً. ولا يحتمل الفرق بين الحنطة وبقية الأمتعة المتماثلة.

بل يجري في هذه الصورة من بيع السفتجة، النصّ المتقدّم في الصورة السابقة المانع عن بيع الدين بالدين، بل المقام- من حيث الثمن والمثمن- مورد ذاك النصّ، وهو صحيحة منصور بن حازم قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يكون له على الرجل طعام، أو بقر، أو غنم، أو غير ذلك، فأتى المطلوب الطالب ليبتاع منه شيئاً، قال: «لا يبيعه نسياً، فأ مّا نقداً فليبعه بما شاء»(2).

ثمّ إنّ مقتضى التحقيق- على ضوء الأدلّة- هو بطلان هذه المعاملة الربوية من رأسها، دون خصوص الزيادة، كما هو الحال في كلّ معاملة ربوية. وما يمكن أن يستدلّ به على بطلانها وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ مقتضى المقابلة بين قول اللَّه سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وبين قوله: حَرَّمَ الرِّبَا أنّ البيع الذي أحلّه اللَّه تعالى وأمضاه، هو البيع الذي لا ربا فيه، وأنّ ما فيه رباً من البيع فهو محرّم؛ إذ الخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف، وهم يأبون جدّاً عن حمل البَيعَ في فقرة أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ المتّصلة بفقرة


1- وسائل الشيعة 18: 138، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 8، الحديث 2 ..
2- وسائل الشيعة 18: 45، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 6، الحديث 8 ..

ص: 238

حَرَّمَ الرِّبَا على المعنى المطلق الشامل للبيع الذي فيه الربا، بل يستظهرون من الآية الكريمة أنّ الربا بأيّ شكل كان- قرضياً أو معاملياً- فهو محرّم، وأنّ البيع الربوي ممّا حرّمه اللَّه، ولاسيّما بعد ملاحظة أنّ الفقرتين ردّ لقول آكلي الربا: إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، فإنّ قرينة السياق تقتضي حمل هذه الحرمة على الحرمة الوضعية؛ حيث إنّ الفقرة الاولى أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ إرشاد إلى الحلّية الوضعية المساوقة للصحّة، فلتحمل الفقرة الثانية وَحَرَّمَ الرِّبَا على الحرمة الوضعية المساوقة للبطلان. ولو قلنا: بأنّ الحلّية في الآية الكريمة اريد بها المعنى الجامع بين الوضعية والتكليفية، وهو معناه اللغوي؛ أي الإطلاق والإرسال، فكذلك نقول في جانب التحريم: إنّ المراد منه معناه اللغوي أي المنع والحجر الشامل للتحريم التكليفي والوضعي- كما حمل الحلّ والتحريم في الفقرتين على هذا المعنى، المحقّق الخوئي قدس سره(1)، فتدلّ الآية بهذا التقريب كذلك على المقصود، وهو بطلان المعاملة الربوية أيضاً.

ولو أبيت دلالة الآية الكريمة على بطلان المعاملة الربوية بهذا البيان- بدعوى أنّها لا تدلّ على أكثر من حرمة أصل الربا والزيادة؛ سواء كانت في القرض، أم في البيع، وغاية مفادها أنّ البيع بالنسبة إلى الزيادة باطل، وأ مّا بالإضافة إلى أصل البيع فالآية ساكتة عنه- فحينئذٍ ينحصر الدليل على بطلان البيع بالمرّة بالوجه الثاني.

الوجه الثاني: ما اعتمد عليه الفقيه الجواهري أعلى اللَّه مقامه من أنّ مقتضى


1- مصباح الفقاهة 2: 94 ..

ص: 239

قاعدة تبعية العقود للقصود، هو فساد المعاملة الربوية برأسها «ضرورة أنّ البائع أو المشتري إنّما بذل المثل في مقابلة المثلين، فإن لم يتمّ له بطل العقد. وليس هو كبيع الشاة والخنزير التي يبطل من الثمن ما قابلها، فيبقى الآخر بما قابله منه؛ لأنّ البطلان في الزيادة هنا بلا مقابل، وهو أمر غير مقصود للمتعاملين، فلو صحّ العقد وقع ما لم يقصد، وما قصد لم يقع، كما هو واضح»(1).

وبعبارة اخرى: أنّه ليس للمتعاقدين في المعاملة الربوية تعدّد المطلوب بأن يكون النقل والانتقال بالنسبة إلى مقدار الزيادة مطلوباً لهما، وبالنسبة إلى غيرها مطلوباً آخر، بل مطلوبهما واحد؛ وهو النقل والانتقال بالنسبة إلى الجميع، والمفروض أنّه لم يقع.

لا يقال: إنّ مقتضى إطلاق دليل إمضاء المعاملات أو عمومه كقول اللَّه سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ هي صحّة المعاملة الربوية بالنسبة إلى غير الربا.

لأ نّه يقال: إنّ إطلاقات باب الإمضاء وعمومها، لا تتصدّى لتصحيح العقود الواقعة على خلاف القواعد، وقد تقدّم أنّ مقتضى قاعدة تبعية العقود للقصود، هو عدم جواز التبعيض في المعاملة الربوية؛ بحملها على البطلان بالنسبة إلى مقدار الزيادة، وعلى الصحّة بالنسبة إلى غيرها، وحيث إنّها باطلة بالإضافة إلى الزيادة بلا إشكال وخلاف(2)، فلا محالة يصبح حملها على الصحّة في حقّ غيرها على خلاف القاعدة، فيتوقّف على دليل خاصّ وهو غير موجود في المقام. نعم سيأتي في معاملة الكمبيالة على شكل القرض الربوي، صحّة أصل القرض، وبطلانه بالنسبة


1- جواهر الكلام 23: 335 ..
2- نفس المصدر: 334 ..

ص: 240

وأمّا إذا أخذ الدائن عن الثالث قرضاً وحوّله على ذمّة المدين أكثر ممّا أخذ فهو حرام مطلقاً؛ سواء كان من المكيل أو الموزون أولا (7)؛

إلى الزيادة؛ لما فيه من دليل خاصّ.

ثمّ إنّه يمكن التخلّص من الربا في المقام بضمّ شي ء إلى المماثل الذي تباع به الكمبيالة الحاكية عن دين هو من غير الأوراق النقدية.

الصورة الثالثة من المعاملة بالكمبيالة الحقيقية

اشارة

7- هذه الصورة هي الصورة الثالثة من صور المعاملة بالسفتجة، وهي أن يقترض الدائن الذي بيده السفتجة التي هي سند دينه، مبلغاً أو متاعاً من شخص ثالث إلى أجل معلوم، ويدفع إليه بإزاء قرضه هذه الكمبيالة الحاكية عن مبلغ أو متاع مماثل أكثر ممّا اقترضه، فإذا كان لزيد على ذمّة عمرو مائة ألف تومان ديناً، وطلب زيد من عمرو كمبيالة حاكية عن خصوصيات دينه من جهة المبلغ والأجل والدائن والمديون، فكتب (عمرو) (لزيد) كمبيالة متضمّنةً لتلك الخصوصيات، ثمّ اقترض الدائن من شخص ثالث تسعين ألف تومان بشرط أن يدفع إليه الكمبيالة المتضمّنة لمائة ألف تومان من الدين على عمرو، فهذا قرض ربوي حرام. وهكذا الحال فيما كان دين عمرو مائة كيلو من الأرز، وأقرض زيد من شخص ثالث تسعين كيلواً منه، وحوّله بدفع الكمبيالة إليه على عمرو المديون. وهكذا الحال فيما لو كان كلّ من الدين والقرض من الأمتعة المعدودة.

والحاصل: أنّ معاملة الكمبيالة بهذه الأشكال، قرض ربوي، وحرمته- كما

ص: 241

في «الجواهر»- من ضروريات الدين(1) ولا ريب أنّ ضروريّتها متّخذة من الكتاب والسنّة:

أ مّا الكتاب، فمنه قول اللَّه سبحانه: الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لَايَقُومُونَ إِلّا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِن المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَن عَادَ فَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ* يَمحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُربِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(2).

ومنه قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَأكُلُوا الرِّبَا أَضعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ(3).

ومنه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِن الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ* فَإِن لَم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ مِن اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لَاتَظلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ(4).

وأ مّا السنّة، فمنها صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «درهم ربا عند اللَّه أشدّ من سبعين زنية كلّها بذات محرم»(5).

ومنها: معتبرة سعد بن طريف، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «أخبث المكاسب كسب الربا»(6).


1- جواهر الكلام 23: 332 ..
2- البقرة( 2): 274- 275 ..
3- آل عمران( 3): 129 ..
4- البقرة( 2): 279 ..
5- وسائل الشيعة 18: 117، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 1 ..
6- وسائل الشيعة 18: 117، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 2 ..

ص: 242

وإن كان القرض صحيحاً (8).

ومنها: غيرهما من النصوص المذكورة في الباب الأوّل من أبواب الربا من «الوسائل».

8- تقدّم في التعليقة السابقة: أنّ الصورة الثالثة من معاملة الكمبيالة الحقيقية قرض ربوي، كما أنّ الصورة الثانية المتقدّمة- وهي بيع السفتجة المتضمّنة لدين من الأمتعة المكيلة أو الموزونة لشخص ثالث، بأقلّ منه نقداً- معاملة ربوية، ولكن هنا فرق بين الصورتين؛ وهو أنّ المعاملة في الصورة الثانية باطلة برأسها، دون خصوص مقدار الزيادة، بخلاف الصورة الثالثة، فإنّ القرض الربوي حرام تكليفاً، وباطل وضعاً بالنسبة إلى خصوص مقدار الزيادة، وأ مّا أصل القرض فهو صحيح، وتترتّب عليه آثار الصحّة، كانتقال المال المقروض- سواء كان من الأوراق النقدية، أو من الأمتعة المكيلة أو الموزونة- إلى صاحب السفتجة، واشتغال ذمّة المديون المذكور فيها للمقرض.

هل القرض بشرط الزيادة فاسد برأسه، أو أنّ خصوص الشرط فاسد؟

وتحقيق المسألة يتطلّب بسط الكلام في أقوال الفقهاء فيها أوّلًا، ثمّ النظر إلى مستنداتهم على مختارهم ثانياً.

فنقول: لو شرط المقرض على المقترض ضمن القرض زيادةً، فلا إشكال ولا كلام بين الفقهاء أعلى اللَّه مقامهم في أنّ الشرط حرام تكليفاً ووضعاً، قال المحقّق في «الشرائع»: «والاقتصار على ردّ العوض، فلو شرط النفع حرم، ولم

ص: 243

يفد الملك»(1).

والعلّامة قدس سره في «القواعد»: «وشرطه عدم الزيادة في القدر أو الصفة، فلو شرطها فسد، ولم يفد جواز التصرّف وإن لم يكن ربوياً»(2).

وكما ترى قد اقتصر قدس سره على الحكم الوضعي؛ أي الفساد.

والشهيد الأوّل في «الدروس»: «ولا يجوز فيه اشتراط الزيادة في العين أو الصفة؛ سواء كان ربوياً أم لا؛ للنهي عن قرض جرّ نفعاً، فلو شرط فسد، ولم يفد الملك، ويكون مضموناً مع القبض، خلافاً لابن حمزة»(3).

لشهيد الثاني في «المسالك» في ذيل قول المحقّق 0: «فلو شرط النفع حرم، ولم يفد الملك» قال: «هذا الحكم إجماعي»(4).

والمحقّق الأردبيلي في «مجمع الفائدة»: «فمع اشتراط الزيادة تصير الزيادة والإقراض والاقتراض حراماً»(5).

وفي «الجواهر» بعد العبارة المتقدّمة من المحقّق: «بلا خلاف فيه، بل الإجماع منّا بقسميه عليه، بل ربما قيل: إنّه إجماع المسلمين؛ لأنّه ربا»(6).

ولا ريب في أنّ مستند المجمعين على حرمة شرط الزيادة تكليفاً، هي الآيات والنصوص المتقدّمة في التعليقة السابقة وغيرها من أخبار الباب.


1- شرائع الإسلام 2: 61 ..
2- قواعد الأحكام 2: 103 ..
3- الدروس الشرعية 3: 318 ..
4- مسالك الأفهام 3: 443 ..
5- مجمع الفائدة والبرهان 9: 61 ..
6- جواهر الكلام 25: 5 ..

ص: 244

وأ مّا مستندهم على حرمة الزيادة المشروطة وضعاً؛ وأ نّها باقية على ملك المقترض، فمن الكتاب قول اللَّه سبحانه: وَحَرَّمَ الرِّبَا(1) بالتقريب المتقدّم آنفاً؛ من أنّه إرشاد إلى الحكم الوضعي، أو ناظر إلى الأعمّ منه والتكليفي، فراجع.

ومن السنّة أخبار:

منها: موثّقة إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً، فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منه منفعة، فينيله الرجل كراهة أن يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة، يحلّ ذلك له؟ قال:

«لابأس إذا لم يكونا شرطاه»(2)؛ فإنّ الظاهر من مفهوم الجملة الشرطية في الذيل، هو عدم حلّية الزيادة المشروطة في القرض.

ومنها: معتبرة الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا أقرضت الدراهم ثمّ جاءك بخير منها، فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط»(3)، ووجه دلالتها كسابقتها.

ومنها: معتبرته الاخرى، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن الرجل يستقرض الدراهم البيض عدداً، ثمّ يعطي سوداً وزناً وقد عرف أنّها أثقل ممّا أخذ، وتطيب به نفسه أن يجعل له فضلها، فقال: «لا بأس به إذا لم يكن فيه شرط، ولو وهبها له كلّها صلح»(4).

ومنها: خبر خالد بن الحجّاج قال: سألته عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عدداً قضانيها مائة وزناً، قال: «لا بأس ما لم يشترط» قال وقال: «جاء الربا


1- البقرة( 2): 275 ..
2- وسائل الشيعة 18: 358، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 13 ..
3- وسائل الشيعة 18: 360، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 20، الحديث 1 ..
4- وسائل الشيعة 18: 191، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 12، الحديث 2 ..

ص: 245

من قبل الشروط؛ إنّما يفسده الشروط»(1).

ومنها: غيرها من الروايات الواردة في ذلك.

هذا كلّه لا كلام فيه.

القرض الربوي صحيح أو باطل؟

إنّما الكلام كلّ الكلام في أنّ القرض المشتمل على شرط الزيادة، هل يكون برأسه فاسداً، أو أنّ الفاسد هو خصوص الشرط؟ فالمستفاد من كلمات جماعة من الفقهاء بل معظمهم هو الأوّل:

منهم: ابن إدريس في «السرائر» قال: «وإن شرط الزيادة كان حراماً، ولم ينعقد العقد، وكان فاسداً، والملك باقياً على المقرض، ولم ينتقل عنه إلى ملك المستقرض»(2).

ومنهم: الشهيد الثاني قدس سره في «المسالك» حيث قال: «ومتى فسد العقد لم يجز للمقترض أخذه، فلو قبضه كان مضموناً عليه- كالبيع الفاسد- للقاعدة المشهورة: من أنّ كلّ ما يضمن بصحيحه ضمن بفاسده، خلافاً لابن حمزة هنا، فإنّه ذهب إلى كونه أمانة، وهو ضعيف»(3).

ومنهم: المحقّق الكركي، حيث قال في ذيل قول العلّامة: «فلو شرطها فسد» ما إليك لفظه: «ولا تفيد المقترض جواز التصرّف؛ لأنّ العقد المتضمّن للإذن


1- وسائل الشيعة 18: 191، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 12، الحديث 1 ..
2- السرائر 2: 59 ..
3- مسالك الأفهام 3: 444 ..

ص: 246

في التصرّف بجهة القرض قد فسد، فانتفت جهة الإذن، فانتفى الإذن»(1).

ومنهم: السيّد المجاهد في «المناهل» حيث قال: «أمّا فساد العقد فقد صرّح به في السرائر، والشرائع، والتحرير، والقواعد، والدروس، واللمعة، وجامع المقاصد، والمسالك، والروضة، ولهم وجوه، أحدها: ظهور الاتفاق عليه»(2).

ومنهم: صاحب «الجواهر» قدس سره حيث قال: «بل منه يعلم فساد القرض بهذا الشرط، لا الشرط خاصّة، فيكون الشرط في صحّة القرض عدم هذا الشرط»(3).

ومنهم: العلّامة المامقاني في «مناهج المتّقين» حيث قال: «ويحرم اشتراط النفع فيه، ويفسد به القرض»(4).

ومنهم: السيّد المحقّق الحكيم، قال: «فإنّه يحرم ويبطل القرض بذلك»(5).

بل ادّعى العلّامة عليه الإجماع، حيث قال: «وللإجماع على أنّه إذا أقرضه شيئاً وشرط عليه أن يرد خيراً ممّا اقترض، كان حراماً وبطل القرض»(6).

ولكن ذهب جماعة من الأعاظم إلى عدم فساد عقد القرض بشرط الزيادة؛ وأنّ الفاسد هو نفس الشرط، فيصير أصل المال المقروض ملكاً للمقترض، دون الزيادة:


1- جامع المقاصد 5: 21 ..
2- المناهل: 4 ..
3- جواهر الكلام 25: 6 ..
4- مناهج المتقين: 254 ..
5- منهاج الصالحين 2: 185 ..
6- مختلف الشيعة 5: 408 ..

ص: 247

منهم: السيّد الفقيه اليزدي طاب ثراه حيث قال في «ملحقات العروة»:

«ومن هنا يمكن أن يقال بعدم بطلان أصل القرض باشتراط الزيادة؛ فإنّ النهي فيه متعلّق بخصوص الزيادة، ولا ينفع سرايته إلى أصل القرض على فرض تسليمه، فلا يدلّ على بطلان أصل القرض، فيشكل الحكم بفساده... فبطلان القرض مبني على كون الشرط الفاسد مفسداً، وهو ممنوع»(1).

ومنهم: المحقّق الماتن، حيث قال في كتاب الدين والقرض: «مسألة 13- القرض المشروط بالزيادة صحيح، لكنّ الشرط باطل وحرام، فيجوز الاقتراض ممّن لا يقرض إلّابالزيادة- كالبنك وغيره- مع عدم قبول الشرط على نحو الجدّ، وقبول القرض فقط، ولا يحرم إظهار قبول الشرط من دون جدّ وقصد حقيقي به، فيصحّ القرض، ويبطل الشرط من دون ارتكاب حرام»(2).

ومنهم: السيّد المحقّق الخونساري قدس سره فإنّه عند إيراده على المستدلّ بالأخبار- كصاحب «الجواهر»- على فساد عقد القرض بشرط الزيادة، قال «ولا يستفاد منها فساد القرض»(3).

ومنهم: السيّد المحقّق الخوئي قدس سره حيث قال في المسألة (796): «يحرم اشتراط زيادة في القدر أو الصفة على المقترض، لكنّ الظاهر أنّ القرض لا يبطل بذلك، بل يبطل الشرط فقط...»(4).


1- ملحقات العروة 2: 8 ..
2- تحرير الوسيلة 2: 621 ..
3- جامع المدارك 3: 329 ..
4- منهاج الصالحين 2: 170 ..

ص: 248

وما يمكن أن يستدلّ به على بطلان عقد القرض بشرط الزيادة وجوه:

الأوّل: الإجماع المدّعى في «المختلف» حيث قال: «وللإجماع على أنّه إذا أقرضه شيئاً وشرط عليه أن يرد خيراً ممّا اقترض، كان حراماً، وبطل القرض»(1)، وفي «المسالك»: «هذا الحكم إجماعي»(2)، وقال في «المناهل»: «ظهور الاتفاق عليه»(3).

وفيه: أنّ هذا الإجماع منقول، والمحصّل منه في مثل المقام- بعدما علمنا أنّ مستند المجمعين أحد الوجوه الآتية- لا عبرة به، ولا يكشف به قول المعصوم عليه السلام فكيف بالمنقول منه؟!

الثاني: أنّ شرط الزيادة في ضمن عقد القرض، فاسد بنفسه باتفاق الأصحاب بلا كلام وإشكال، والشرط الفاسد مفسد للعقد المتضمّن له، فيفسد عقد القرض المشتمل على شرط الزيادة.

وفيه: أنّ هذا الوجه مبني على أنّ كلّ شرط فاسد مفسد للعقد، وهو ممنوع على التحقيق، وقد تعرّض لوجه منعه- بما لا مزيد عليه- جماعة من الأعاظم أعلى اللَّه مقامهم الشريف(4) إن شئت فراجع.


1- مختلف الشيعة 5: 408 ..
2- مسالك الأفهام 3: 443 ..
3- المناهل: 4 ..
4- راجع المكاسب، الشيخ الأنصاري: 287، حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 4: 177، البيع، الإمام الخميني قدس سره 5: 359، مصباح الفقاهة 7: 389 ..

ص: 249

الثالث: الروايات:

منها: النبوي المعروف «كلّ قرض يجرّ منفعة فهو حرام»(1).

وإطلاقه مقيّد بكون المنفعة مشروطة في عقد القرض؛ للأخبار الدالّة على جوازها فيما إذا تبرّع المقترض بها. وقد استدلّ الشهيد الثاني بالخبر على بطلان القرض المشروطة فيه الزيادة، حيث إنّه في ذيل قول المحقّق قدس سره: «فلو شرط النفع حرم، ولم يفد الملك» قال: «هذا الحكم إجماعي، ومستنده ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «كلّ قرض يجرّ منفعة فهو حرام» والمراد مع الشرط؛ إذ لا خلاف في جواز التبرّع بالزائد، وغيره من الأخبار»(2).

وكذا اعتمد عليه المقدّس الأردبيلي قدس سره(3).

وفيه: أنّ الخبر عامّي الطريق لم يرد في مجاميعنا الروائية، واستناد المشهور إلى خصوصه غير معلوم إن لم يكن معلوم العدم، فلا يمكننا دعوى انجبار ضعفه بعملهم، وبالتالي لا يبقى مجال لما في «مجمع الفائدة والبرهان» من قوله:

«ولا يضرّ عدم صحّة سندها»(4).

ومنها: طائفة من الأخبار استند إليها في المقام، وقد تقدّم آنفاً ثلاثة منها؛ أعني موثّقة إسحاق بن عمّار، ومعتبرتي الحلبي. وقد استظهر صاحب «الجواهر» بطلان القرض بشرط الزيادة من معتبرته الثانية، وكذا من صحيحة محمّد بن قيس،


1- السنن الكبرى، البيهقي 5: 350، كنز العمال 6: 238/ 15516 ..
2- مسالك الأفهام 3: 444 ..
3- مجمع الفائدة والبرهان 9: 61 ..
4- نفس المصدر ..

ص: 250

عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من أقرض رجلًا ورقاً فلا يشترط إلّامثلها، فإن جُوزي أجود منها فليقبل، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابّة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه»(1) وذيّلها في وجه دلالتها على مدّعاه بقوله: «ضرورة ظهور النهي فيه في الشرطية، كما في نظائره»(2).

وتوضيح مراده: أنّ النهي في قوله عليه السلام: «فلا يشترك إلّامثلها... ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابّة أو...» ظاهر في الإرشاد إلى شرطية عدم أخذ أيّ منفعة شرطاً في عقد القرض؛ حتّى مثل ركوب دابّة، أو عارية متاع، فصحّة القرض مشروطة بعدم شرط الزيادة فيه، والحمل على الإرشادية هو الأصل في كلّ أمر أو نهي تعلّق بالعناوين المعاملية، أو ما يتعلّق بها، مثل المقام.

ولكن بعدما كرّرنا النظر في تلك الأخبار، لم نجد قرينة ولا ظهوراً لها في الدلالة على بطلان أصل القرض المشروطة فيه الزيادة؛ وذلك لأنّ قوله عليه السلام في موثّقة إسحاق بن عمّار(3): «لا بأس إذا لم يكونا شرطاه» ناظر إلى نفي البأس عن المنفعة والزيادة التي يدفعها المقترض إلى المقرض؛ على ما فرضه السائل بقوله:

«الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً، فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منه منفعة، فينيله الرجل كراهة أن يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة، يحلّ ذلك له؟».

وبعبارة اخرى: أنّ المشار إليه في سؤال السائل «يحلّ ذلك له؟» ليس أصل


1- وسائل الشيعة 18: 357، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 11 ..
2- جواهر الكلام 25: 6 ..
3- وسائل الشيعة 18: 358، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 13 ..

ص: 251

القرض، بل دفع المنفعة والزيادة إلى المقرض، وهذا قرينة على أنّ جواب الإمام عليه السلام: «لا بأس إذا لم يكونا شرطاه» بصدد نفي البأس عن دفع الزيادة تبرّعاً؛ من غير أن يشترطه المقرض والمقترض في عقد القرض، ومفهومه ثبوت البأس فيما لو كانت الزيادة عن شرطهما لها، وبهذا البيان ظهر أنّ الموثّقة، ساكتة عن حكم أصل القرض المشروطة فيه الزيادة.

وهكذا الحال في قوله عليه السلام: «لا بأس إذا لم يكن فيه شرط» في المعتبرة الاولى للحلبي(1).

كما أنّ الظاهر من قول الإمام عليه السلام في معتبرته الثانية: «إذا أقرضت الدراهم ثمّ جاءك بخير منها، فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط»(2)، ليس نفي البأس عن أصل القرض إذا لم يشترط فيه الخير؛ أي المال الزائد على القرض، حتّى يكون مفهوم الجملة الشرطية، ثبوت البأس والمنع بالنسبة إلى أصل القرض فيما شرطت الزيادة فيه، بل ظاهر المعتبرة هو عدم البأس بدفع المقدار الزائد على القرض إذا لم يشترط في عقده، ومفهوم الجملة الشرطية هو البأس والمنع عن هذه الزيادة إذا اشترطت فيه، ولا أقلّ من أنّ المعتبرة محتملة لبيان هذه الجهة، فلا ينعقد لها ظهور فيما ادّعاه صاحب «الجواهر».

وأ مّا صحيحة محمّد بن قيس المتقدّمة، فما استظهره منها صاحب «الجواهر» من حمل النهي فيها على الإرشاد إلى أنّ عدم شرط الزيادة في القرض شرط في صحّته، ممنوع؛ وذلك لأنّ في المقام خصوصية يفترق بها عن نظائره،


1- وسائل الشيعة 18: 191، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 12، الحديث 2 ..
2- وسائل الشيعة 18: 360، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 20، الحديث 1 ..

ص: 252

ولا يقاس بها؛ وهي أنّ اشتراط الزيادة في عقد القرض- مع قطع النظر عن جهة أنّ صحّة القرض، مشروطة بعدمه أم لا- أمر محرّم قطعاً، وحينئذٍ فيمكن أن يكون النهي عن شرط الزيادة في قول الإمام عليه السلام: «فلا يشترك إلّامثلها... ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابّة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه» ناظراً إلى بيان الحرمة التكليفية لشرط الزيادة، لا الإرشاد إلى شرطية عدمه في صحّة القرض، وحديث حمل النهي على الإرشادية، إنّما هو فيما لم يكن لمتعلّق النهي بدليل آخر حرمة تكليفية بتّية، والمقام ممّا احرزت- بدليل آخر- الحرمة التكليفية لمتعلّق النهي؛ أي أخذ ركوب الدابّة وعارية المتاع ونحوهما، شرطاً في القرض، ولو كان النهي في المقام إرشاداً، فهو إرشاد إلى حرمة شرط الزيادة في قرض الورق وفساده، لا إلى فساد أصل القرض.

وهذا المعنى لو لم يكن ظاهر الصحيحة، فلا أقلّ من احتماله، فلا يبقى حينئذٍ مجال لدعوى ظهور الصحيحة فيما ادّعاه ذلك الفحل أعلى اللَّه مقامه من أنّ عدم اشتراط الزيادة في القرض، شرط لصحّته.

فقد تبيّن ممّا تقدّم: أنّ الوجوه التي اقيمت على بطلان القرض بشرط الزيادة، غير تامّة، وأنّ الفاسد والحرام هو نفس شرط الزيادة، فيبقى اندراج أصل القرض تحت العمومات المتصدّية لإمضائه، سليماً عن المانع.

وبهذا البيان يصبح مبرهناً ما اختاره المحقّق الماتن وغيره؛ من صحّة أصل القرض وبطلان شرط الزيادة في جميع موارد القرض بشرط الزيادة، ومنها المقام؛ أي المعاملة بالكمبيالة بشكل القرض بالبيان المتقدّم.

ص: 253

مسألة 2- لا تجوز المعاملة بالكمبيالات الصورية المعبّر عنها بالمجاملة «سفته دوستانه» إلّاأن ترجع إلى أحد الوجوه الآتية:

منها: أن يقال: إنّ دفع الورقة إلى الآخر لينزّلها عند شخص ثالث، ويرجع الثالث في الموعد المقرّر إلى المدين الصوري، يرجع في الحقيقة إلى توكيله بأن يوقع المعاوضة مع الثالث في ذمّة المدين الصوري، فيصير المدين الصوري بعد المعاملة بوكالته مديوناً حقيقة للثالث، ولمّا كان المفروض بيع غير الأجناس الربوية صحّت المبايعة بالأقلّ والأكثر (9).

السفتجة الصورية والمعاملة بها

اشارة

9- تقدّم في صدر مسألة الكمبيالة: أنّ السفتجة على قسمين:

أوّلهما: السفتجة الحقيقية، وقد تقدّم البحث عنها بأشكالها المختلفة في شرح المسألة الاولى.

ثانيهما: السفتجة الصورية التي قد يعبّر عنها بسفتجة المجاملة (سفته دوستانه) وقد خصّص الماتن المحقّق المسألة الثانية هذه ببيان حكمها. وهي التي لا تحكي عن وجود قرض حقيقي على ذمّة من أصدرها ووقّع عليها، بل إنّما تعبّر عن قرض صوري على ذمّته لمن يعطيه ورقة السفتجة، ومن هنا تسمّى تارةً:

ب «السفتجة الصورية» واخرى: ب «سفتجة المجاملة».

ولمّا كانت المعاملة بالسفتجة الصورية في بعض أشكالها يؤول إلى المعاملة الربوية، وفي بعضها إلى القرض الربوي، وفي قسم منها تكون سالمة عن كلّ واحد من الربوين، فلذا أفتى الماتن المحقّق قدس سره بأ نّها غير جائزة إلّاأن ترجع إلى أحد

ص: 254

الوجوه التالية، وهي ما لو كانت سليمة عن كلا الربوين.

والصور الجائزة من المعاملة بالسفتجة الصورية أو بسفتجة المجاملة، على ما ذكر الماتن المحقّق قدس سره ثلاثة:

الصورة الاولى

وهي أن يطلب شخص من آخر مبلغاً على سبيل القرض، وهو لا يتمكّن من إقراضه، أو لا يريد أن يقرضه وقتئذٍ، ولكن مع ذلك لا يحبّ أن يدعه بحاله، فيقدم على إصدار سفتجة له حتّى ينزّلها- أي يبيعها بأقلّ منها- عند شخص ثالث، وحينئذٍ يصبح كاتب السفتجة مديناً صورياً، ومن يأخذها منه دائناً صورياً، ثمّ يبيع الدائن السفتجة الصورية لشخص ثالث بأقلّ منها نقداً، فإن كانت عملية إصدار السفتجة من المدين الصوري بهذا المقدار، ولم ترجع إلى توكيل كاتب السفتجة آخذها لأن يقترض له من الشخص الثالث، فالبيع الواقع بعد تلك العملية باطل قطعاً؛ لأنّه من قبيل بيع الدين بأقلّ منه نقداً، وهو صحيح فيما كان أصل الدين حقيقياً لا صورياً، والمفروض في المقام أنّ الدين الذي تعبّر عنه السفتجة صوري لا حقيقة له. بل هذه المعاملة ليست بيعاً في الحقيقة؛ إذ من المعلوم أنّ من مقوّمات البيع وجود العوضين من الثمن والمثمن، والثاني مفقود في المقام.

وأ مّا إن رجعت تلك العملية في حقيقتها إلى أنّ كاتب السفتجة يوكّل عملًا آخذها- بدفعه ورقة السفتجة إليه- كي يوقع المعاوضة مع الثالث في ذمّة نفس الكاتب الذي هو مدين صوري، فحينئذٍ يصبح آخذ السفتجة وكيلًا في بيعها لشخص ثالث، وبعد البيع يصير المديون الصوري، مديوناً حقيقياً للشخص الثالث، ولا إشكال في صحّة هذا البيع؛ لأنّ كاتب السفتجة وإن كان مديوناً صورياً بالنسبة

ص: 255

وأيضاً ذلك العمل إذن له في اقتراض الدائن الصوري ما يأخذه لنفسه (10)،

إلى آخذها، ولكن بعدما فرضنا أنّ دفع ورقة السفتجة توكيل عملي من كاتب السفتجة لآخذها بأن يبيعها بأقلّ منها، يصبح البيع حقيقياً، ونتيجته اشتغال ذمّة كاتبها بالدين المذكور فيها حقيقة.

ولكن صحّة هذا البيع مشروطة بأن لا يكون المبيع- وهو الدين المذكور في السفتجة- من الأجناس الربوية، كما أشار إليه الماتن المحقّق بقوله: «ولمّا كان المفروض بيع غير الأجناس الربوية، صحّت المبايعة» إذ لو كان الدين المذكور في السفتجة من الأجناس المكيلة أو الموزونة وباعها آخذ السفتجة بالأقلّ المماثل لذاك الدين، فهو بيع ربوي، فيندرج في الأدلّة المقتضية لحرمته وفساده.

10- ثمّ إنّ لعملية دفع سفتجة المجاملة من المدين الصوري أي كاتب السفتجة إلى الدائن الصوري وهو آخذ السفتجة- التي فرضنا أنّ مآلها عملًا إلى توكيل كاتب السفتجة آخذَها في بيعها لشخص ثالث- دلالةً عملية اخرى على أمر:

وهو أنّ كاتبها أذن عملًا لآخذها حينما دفعها إليه بأن يقترض لنفسه، المبلغ الذي يأخذه عوضاً عن بيع السفتجة به، وهو ملك لنفس الكاتب بعد البيع، وهذا ما أشار إليه الماتن المحقّق قدس سره بقوله: «وأيضاً ذلك العمل إذن له في اقتراض الدائن الصوري ما يأخذه لنفسه».

ووجه تلك الدلالة العملية على الإذن في الاقتراض: أنّ غرض كاتب السفتجة من إصدارها ودفعها إلى طرفه على سبيل المجاملة، هو أن يمكّنه من الوصول إلى المبلغ المذكور فيها أو أقلّ منه ببيعها لشخص ثالث، ومن المعلوم أنّ هذا الغرض لا يتيسّر إلّابإقراض الدائن الصوري- أي آخذ السفتجة- المبلغَ الذي

ص: 256

ولابدّ من عدم اشتراط الربح، ويدفع الزيادة مجّاناً أو عملًا بالاستحباب الشرعي (11)،

أخذه عوضاً عن بيعها به من جانب المدين الصوري- كاتب السفتجة- لنفسه، ثمّ إنّه بعدما اقترضه لنفسه ينقلب الأمر، فيصير المدين الصوري دائناً حقيقياً بالنسبة إليه، كما أنّ الدائن الصوري يصير بالاقتراض لنفسه، مديناً حقيقياً بالنسبة إلى كاتب السفتجة.

إن قلت: لِمَ لا يبيع آخذ سفتجة المجاملة، السفتجة لنفسه، ويدخل ثمنها في ملكه؛ من غير أن يتوقّف على إقراضه من جانب كاتب السفتجة لنفسه؟!

قلت: إنّ حقيقة البيع متقوّمة بدخول الثمن في ملك من خرج منه المثمن، والمفروض أنّ الدين المذكور في السفتجة دين صوري، وليس ملكاً حقيقةً لآخذها؛ حتّى يدخل الثمن في ملكه عند بيعها، ومن هنا فبيع السفتجة يقتضي بروحه وحقيقته، أن يدخل الثمن في ملك من أصدرها ووقّع عليها، فلا يبقى طريق لاستمتاع ملكي من الثمن للدائن الصوري- أي آخذ السفتجة- إلّابأن يقرض ذاك الثمن من قبل مالكه- كاتب السفتجة- لنفسه.

حكم الزيادة مع عدم اشتراطها في القرض

11- بعدما فرضنا في الصورة الاولى أنّ آخذ سفتجة المجاملة، يبيعها بمبلغ أقلّ منها؛ أي من الدين المذكور فيها، ثمّ يقترض هذا المبلغ لنفسه بإذن عملي من كاتب السفتجة؛ على ما تقدّم توضيحه، فلا محالة يصير آخذها بعد البيع والاقتراض لنفسه، مديوناً لكاتبها حقيقةً، وحينئذٍ يبقى هنا سؤال أجاب عنه الماتن

ص: 257

المحقّق في هذه الفقرة من متنه: وهو أنّ آخذ السفتجة بعدما باع الدين المذكور فيها بمبلغ أقلّ منه نقداً، واقترضه لنفسه، فهل تشتغل ذمّته بذاك المبلغ الأقلّ، أو بالمبلغ الأكثر المذكور في السفتجة ديناً؟

والجواب: أنّ ذمّته لا تشتغل إلّابالمبلغ الأقلّ الذي اقترضه لنفسه، ومن هنا لو شرط كاتب السفتجة عليه أن يدفع إليه زيادة على ذلك المبلغ، يكون رباً محرّماً.

نعم، يجوز لهذا المقترض- كبقية المقترضين- أن يدفع إلى كاتب السفتجة زيادة على ما اقترضه مجّاناً؛ من غير اشتراط عليه فإنّها لا تكون حينئذٍ رباً محرّماً؛ فإنّ المحرّم هي الزيادة المشروطة، دون المتبرّعة، فإنّها جائزة، بل مستحبّة:

أ مّا جوازها، فهو ممّا لا خلاف فيه، قال ابن زهرة في «الغنية»: «ويجوز أن يأخذ المقرض خيراً ممّا كان له من غير شرط، ولا فرق بين ذلك أن يكون عادة من المقترض أم لم يكن؛ بدليل الإجماع المشار إليه»(1).

وقال ابن حمزة في «الوسيلة»: «فإن ردّ أجود منه زائداً عليه في النوع أو القدر أو بالعكس منه، صحّ إذا تراضيا... والفاسد ما يؤدّي إلى الربا، مثل شرط الزيادة في الصفة، أو القدر، أو إباحة ما على الرهن»(2).

وقال شيخ الطائفة في «النهاية»: «وإذا أقرض الإنسان مالًا فردّ عليه أجودَ منه من غير شرط، كان ذلك جائزاً»(3).

وقال ابن إدريس في «السرائر»: «وإذا أقرض الإنسان مالًا فردّ عليه أجود


1- غنية النزوع 1: 239 ..
2- الوسيلة: 272- 273 ..
3- النهاية: 312 ..

ص: 258

منه من غير شرط، كان ذلك جائزاً»(1).

وقال العلّامة في «القواعد»: «ولو تبرّع المقترض بالزيادة جاز»(2).

وقال المحقّق في «الشرائع»: «نعم لو تبرّع المقترض بزيادة في العين أو الصفة جاز»(3).

وقال الشهيد الأوّل في «الدروس»: «نعم، لو تبرّع الآخذ بردّ أزيد عيناً أو وصفاً جاز؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أقرض بكراً فردّ بازلًا»(4).

وقال الشهيد الثاني في «المسالك» في ذيل عبارة «الشرائع» المتقدّمة ما هذا لفظه: «لا فرق في الجواز بين كون ذلك من نيتهما وعدمه، ولا بين كونه معتاداً وعدمه، بل لا يكره قبوله»(5).

وعلّق في «الجواهر» على عبارة «الشرائع» المتقدّمة بقوله: «بل لا أجد فيها خلافاً بيننا»(6).

ولا شكّ في أنّ اتفاقهم على جواز الزيادة مع عدم شرطها في القرض وتبرّع المقترض بها، مستند إلى نصوص الباب:

منها: موثّقة إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً، فيطول مكثه عند الرجل ما يدخل على صاحبه منفعة،


1- السرائر 2: 61 ..
2- قواعد الأحكام 2: 103 ..
3- شرائع الإسلام 2: 61 ..
4- الدروس الشرعية 3: 318 ..
5- مسالك الأفهام 3: 444 ..
6- جواهر الكلام 25: 7 ..

ص: 259

فينيله الرجل الشي ء بعد الشي ء كراهية أن يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة، أيحلّ ذلك؟ قال: «لا بأس إذا لم يكن بشرط»(1).

ومنها: معتبرة الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا أقرضت الدراهم ثمّ جاءك بخير منها، فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط»(2).

ومنها: قول الإمام عليه السلام في معتبرته الاخرى: «لا بأس به إذا لم يكن فيه شرط، ولو وهبها له كلّها أصلح»(3).

ومنها: صحيحة محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليهما السلام: «من أقرض رجلًا ورقاً فلا يشترط إلّامثلها، فإن جوزي أجود منها فليقبل، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابّة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه»(4).

ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضاً، ويعطيه الرهن؛ إمّا خادماً، وإمّا آنية، وإمّا ثياباً، فيحتاج إلى شي ء من منفعته فيستأذن فيه، فيأذن له، قال: «إذا طابت نفسه فلا بأس».

قلت: إنّ من عندنا يروون: «أنّ كلّ قرض يجرّ منفعة فهو فاسد» فقال:

«أَوَليس خير القرض ما جرّ منفعة؟!»(5). وإطلاق الذيل يقيّد بما لم تكن المنفعة مشروطة في القرض. إلى غير ذلك من النصوص الواردة في الباب التاسع عشر من


1- وسائل الشيعة 18: 358، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 13 ..
2- وسائل الشيعة 18: 360، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 20، الحديث 1 ..
3- وسائل الشيعة 18: 191، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 12، الحديث 2 ..
4- وسائل الشيعة 18: 357، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 11 ..
5- وسائل الشيعة 18: 354، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 4 ..

ص: 260

أبواب الدين والقرض من «الوسائل» والباب الثاني عشر من أبواب الصرف منها.

نعم، في بعض الأخبار أمر المقرض باحتساب الزيادة- التي يدفعها المقترض إليه هديةً- من الدين، وهو ما رواه الكليني، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ رجلًا أتى عليّاً عليه السلام فقال: إنّ لي على رجل ديناً، فأهدى إليّ هدية، قال:

احسبه من دينك عليه»(1).

ومحمّد بن يحيى الأوّل هو محمّد بن يحيى أبو جعفر العطّار القمّي الذي قال فيه النجاشي: «شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة، عين، كثير الحديث»(2).

والثاني هو محمّد بن يحيى الخزّاز الذي قال في حقّه النجاشي أيضاً:

«كوفي، روى عن أصحاب أبي عبداللَّه عليه السلام ثقة، عين»(3).

وأحمد بن محمّد مشترك بين أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، وأحمد بن محمّد بن خالد البرقي، وكلاهما معتمد على حديثهما.

ولكن الخبر محمول على الاستحباب بقرينة الأخبار المتقدّمة الدالّة على جواز الزيادة التي لم تشترط في القرض. وهذا من قبيل الجمع بين النصّ والظاهر عرفاً برفع اليد عن الثاني بقرينة الأوّل؛ حيث إنّ قوله عليه السلام: «احسبه من دينك عليه» في معتبرة غياث بن إبراهيم، ظاهر وضعاً أو إطلاقاً في وجوب احتساب الدائن هدية المديون إليه من دينه، والأخبار المعتبرة المتقدّمة نصّ في جواز أخذ الزيادة من غير احتسابها من الدين، ومقتضى الجمع العرفي هو رفع اليد بهذا النصّ


1- وسائل الشيعة 18: 353، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 1 ..
2- جامع الرواة 2: 213 ..
3- رجال النجاشي: 359/ 964 ..

ص: 261

عن ذلك الظهور، وحمله على الاستحباب.

هذا كلّه بالنسبة إلى أصل جواز الزيادة المتبرّعة من غير اشتراطها في القرض.

وأ مّا استحباب دفع المقترض زيادة على القرض، الذي أشار إليه الماتن المحقّق بقوله: «أو عملًا بالاستحباب الشرعي» فهو مختلف فيه، فقد ذهب بعض الأعاظم- كالشهيد الأوّل قدس سره في «الدروس»- إلى كراهته إذا كان تبرّع الزيادة في نية المقرض والمقترض من غير تلفّظهما به، حيث قال: «ويكره لو كان ذلك في نيتهما ولم يذكراه لفظاً»(1).

وذهب آخر منهم- كالشهيد الثاني قدس سره- إلى عدم الكراهة مطلقاً، حيث قال:

«لا فرق في الجواز بين كون ذلك من نيتهما وعدمه، ولا بين كونه معتاداً وعدمه، بل لا يكره قبوله»(2).

وثالث منهم إلى استحبابه، كالمقدّس الأردبيلي قدس سره، حيث قال في ذيل قول الشهيد في «الإرشاد»: «ولو تبرّع المقترض بالزيادة جاز» ما إليك نصّه: «قد عرفت جوازها له، ويمكن فهم استحبابها»(3) بل ذهب إلى استحباب قبولها من جانب المقرض، حيث قال: «ويدلّ على استحسان القبول حسن القضاء والاقتضاء، كما هو ظاهر»(4).

وكصاحب «مفتاح الكرامة» قدس سره حيث قال: «وفي أخبار الخاصّة والعامّة ما


1- الدروس الشرعية: 375 ..
2- مسالك الأفهام 3: 444 ..
3- مجمع الفائدة والبرهان 9: 67 ..
4- نفس المصدر ..

ص: 262

يدلّ على عدم كراهية الإعطاء، بل على استحبابه»(1).

وكالعلّامة المامقاني قدس سره، حيث قال: «بل ظاهر جملة من الأخبار رجحان إعطاء المقترض الزيادة»(2).

ولكن اختار السيّد الفقيه الأصفهاني في «وسيلة النجاة»(3) وتبعه الماتن المحقّق 0 في «تحرير الوسيلة»(4) استحباب تبرّع المقترض بالزيادة، وكراهة قبولها للمقرض، حيث قالا: «مسألة 11- إنّما تحرم الزيادة مع الشرط، وأ مّا بدونه فلا بأس، بل تستحبّ للمقترض، حيث إنّه من حسن القضاء، وخير الناس أحسنهم قضاءً... نعم، يكره أخذه للمقرض، خصوصاً إذا كان إقراضه لأجل ذلك، بل يستحبّ أنّه إذا أعطاه شيئاً بعنوان الهدية ونحوها يحسبه عوض طلبه؛ بمعنى أنّه يسقط منه بمقداره».

واستدلّ على استحباب تبرّع المقترض بالزيادة بأمرين:

فتارةً(5): بما روته العامّة من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم اقترض قرضاً من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فرجع أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلّاجملًا خياراً رباعياً، فقال: «أعطه إيّاه؛ إنّ خير الناس أحسنهم قضاءً»(6).


1- مفتاح الكرامة 5: 36 ..
2- مناهج المتقين: 254 ..
3- وسيلة النجاة 2: 122 ..
4- تحرير الوسيلة 1: 654 ..
5- مجمع الفائدة والبرهان 9: 67 ..
6- صحيح مسلم 3: 1224/ 1600 ..

ص: 263

وفيه: أنّ الخبر عامّي الطريق، ولم يرد من طرقنا، فلا يليق لإستناد الفتوى بالاستحباب إليه، إلّاعلى مبنى التسامح في أدلّة السنن، وهو خلاف مقتضى التحقيق، والماتن المحقّق لا يقول به.

واخرى: بالأخبار الدالّة على حسن الإحسان(1)، ومن المعلوم أنّ تبرّع المقترض بزيادة للمقرض إحسان إليه.

وأظهر من جميع تلك الأخبار وأجدرها بالاستناد إليه، صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يقترض من الرجل الدراهم، فيردّ عليه المثقال، أو يستقرض المثقال، فيردّ عليه الدراهم، فقال: «إذا لم يكن بشرط فلا بأس، وذلك هو الفضل؛ إنّ أبي عليه السلام- رحمه اللَّه خ ل- كان يستقرض الدراهم الفسولة، فيدخل عليه الدراهم الجياد الجلال، فيقول: يا بنيّ ردّها على الذي استقرضتها منه، فأقول: يا أبه، إنّ دراهمه كانت فسولة، وهذه خير- أجود خ ل- منها!! فيقول: يا بنيّ، إنّ هذا هو الفضل، فأعطه إيّاها»(2).

ولا يبعد أن يكون قوله عليه السلام في ذيلها: «إنّ هذا هو الفضل» إشارة إلى قول اللَّه سبحانه: وَلَا تَنسَوا الفَضلَ بَينَكُم(3)، وبناءً عليه يكون كلّ واحد من الآية والصحيحة، دليلًا مستقلًاّ على استحباب التبرّع بالزيادة.

ولا ينافي الاستحباب ما في ذيل صحيحة يعقوب بن شعيب، عن


1- وسائل الشيعة 16: 285، كتاب الأمر والنهي، أبواب فعل المعروف، الباب 1- 4 ..
2- وسائل الشيعة 18: 193، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 12، الحديث 7 ..
3- البقرة( 2): 237 ..

ص: 264

أبي عبداللَّه عليه السلام قال: وسألته عن رجل يأتي حريفه وخليطه فيستقرض منه الدنانير فيقرضه، ولولا أن يخالطه ويحارفه ويصيب عليه لم يقرضه، فقال: «إن كان معروفاً بينهما فلا بأس، وإن كان إنّما يقرضه من أجل أنّه يصيب عليه فلا يصلح»(1) وذلك لأنّ ذيل الصحيحة- بعد حمله على ما إذا كان الإقراض بداعي وصول منفعة إليه من غير شرط- ناظر إلى بيان حكم المقرض؛ وأ نّه إذا كان من نيته حين الإقراض وصول منفعة من المقترض إليه من غير شرط، فلا يصلح له، بل هو مكروه، وهذا لا ينافي استحباب تبرّع المقترض له بشي ء زائد على القرض.

ولا ينافي الاستحباب أيضاً قول الإمام عليه السلام: «ما احبّ له أن يفعل» في موثّقة إسحاق بن عمّار، عن العبد الصالح عليه السلام قال: سألته عن رجل يرهن العبد، أو الثوب، أو الحليّ، أو المتاع من متاع البيت، فيقول صاحب الرهن للمرتهن: أنت في حلّ من لبس هذا الثوب، فالبس الثوب، وانتفع بالمتاع، واستخدم الخادم، قال:

«هو له حلال إذا أحلّه، وما احبّ له أن يفعل»(2).

وذلك لأنّ قوله عليه السلام: «وما احبّ له أن يفعل» وإن كان دالّاً على الكراهة، إلّا أنّه بيان لحكم المقرض؛ الذي لديه عين المرهونة وأ نّه يكره له التصرّف فيها وإن تبرّع المقترض بالإذن له في التصرّف.

وأ مّا صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج المتقدّمة، فهي بيان لحكم المقترض؛ وأ نّه يستحبّ له التبرّع بالزيادة، ومن المعلوم أنّه لا تنافي بين أن يكون التبرّع بها مستحبّاً على المقترض، وبين أن يكون قبولها مكروهاً على المقرض.

ولكن لا يخفى: أنّ هذا كلّه مبني على أن لا يكون للزيادة المذكورة في


1- وسائل الشيعة 18: 356، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 9 ..
2- وسائل الشيعة 18: 385، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 15 ..

ص: 265

الموثّقة- وهي التصرّف في العين المرهونة- خصوصية؛ بدعوى أنّ تصرّف المقرض فيها إذا كان مكروهاً مع إذن المقترض، فقبوله تمليك الزيادة مكروه بطريق أولى.

وبهذا البيان ظهر وجه ما اختاره السيّد الفقيه الأصفهاني والماتن المحقّق 0 من استحباب التبرّع بالزيادة للمقترض، وكراهة قبولها على المقرض.

ولكن بعد اللتيا والتي، الحكم بكراهة القبول له مطلقاً حتّى بالنسبة إلى غير مورد الموثّقة المتقدّمة مشكل؛ لأنّ احتمال الخصوصية له غير منفي، والأولوية المذكورة ممنوعة، ولم نعثر على مستند آخر للكراهة، بل يمكن استئناس عدمها من قول المعصوم عليه السلام في طائفة من الأخبار: «خير القرض ما جرّ منفعةً»(1) ولكنّ الجدير بالدقّة أنّ الخيرية ليست لمطلق المنفعة في المقام، بل للمنفعة التي جرّها القرض على سيره العادي من غير أن تكون المنفعة داعية للمقرض؛ إذ لو كان داعيه على الإقراض جلب المنفعة (من غير شرط) لا يصدق على هذه المنفعة أنّ القرض جرّها، بل يصدق عليه أنّ المقرض جرّها.

وشتّان بين مختار هذين العملين من كراهة القبول على المقرض، وبين ما اختاره المحقّق الأردبيلي قدس سره من استحباب قبوله عليه، واستدلّ عليه بوجهين:

فتارةً: بما دلّ من الأخبار على استحباب حسن القضاء والاقتضاء(2) كخبر حنّان، عن أبيه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:


1- وسائل الشيعة 18: 354، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 4 و 5 و 6 و 8 ..
2- مجمع الفائدة والبرهان 9: 67 ..

ص: 266

بارك اللَّه على سهل البيع، سهل الشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء»(1).

واخرى: بما دلّ من الأخبار على استحباب قبول الإحسان(2) ومحصّل هذا الوجه أنّ تبرّع المقترض بالزيادة على المقرض، إحسان إليه، وقبول الإحسان مستحبّ؛ قضاءً للنصوص(3) الواردة فيه.

ولكن كلا الوجهين لا يخلو بإطلاقهما من الإشكال.

أ مّا الأوّل: فيرد عليه أوّلًا: أنّ المستفاد من تلك الأخبار، استحباب حسن اقتضاء الدين وسهولته على الدائن، وهذا ليس إلّابمعنى سهولته في استيفاء الدين وعدم تشدّده على المديون في استيفائه، ومن المعلوم أنّ هذا أمر، وقبول الدائن تبرّع المديون بالزيادة أمر آخر؛ ضرورة أنّ الدائن إن لم يقبل الزيادة، لا يصدق عليه أنّه شدّد في اقتضاء دينه، وليس بسهل الاقتضاء.

وثانياً:- على فرض تمامية دلالة تلك الأخبار على استحباب قبول الزيادة على المقرض- أنّها ليست إلّابالإطلاق، فليقيّد بمثل موثّقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة المقتضية للكراهية بناءً على تمامية إلغاء الخصوصية عن موردها، بل بمعتبرة غياث بن إبراهيم الآتية الدالّة على استحباب احتساب الهدية- التي يدفعها المقترض إلى المقرض- عوضاً عن الدين.

وأ مّا الثاني: فلأنّ قبول المقرض الزيادة التي يتبرّع بها المقترض، وإن كان نحو قبول للإحسان، وهو مستحبّ بملاحظة تلك الأخبار، إلّاأنّ دلالتها على


1- وسائل الشيعة 17: 450، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 42، الحديث 1 ..
2- مجمع الفائدة والبرهان 9: 67 ..
3- وسائل الشيعة 17: 285، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 88 ..

ص: 267

استحبابه أيضاً ليست إلّابالإطلاق، فيقيّد بمعتبرة غياث بن إبراهيم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ رجلًا أتى عليّاً عليه السلام فقال: إنّ لي على رجل ديناً، فأهدى إليّ هدية، قال: أحسبه من دينك عليه»(1).

ولكن هل لهذه المعتبرة إطلاق بالنسبة إلى ما أهدى المدين عند وفاء الدين أو بعده بزيادة أو أنّها مختصّة بما أهدى هدية قبل ادائه وحينما كان مديوناً؟ لا يبعد ظهورها في الثاني وقد أفتى بمضمونها جماعة منهم الماتن المحقّق قدس سره حيث قال:

«إذا أعطاه المقترض شيئاً بعنوان الهدية ونحوها يحسبه عوض طلبه، بمعنى أنّه يسقط منه بمقداره»(2). وحينئذٍ يبقى إطلاق ما دلّ على استحباب قبول الإحسان تامّاً بالنسبة إلى ما تبرّع المدين جدّاً عند أداء الدين بزيادة بحيث لم يكن في قلبه أدنى كراهة وثقل على التبرّع بها بل هو مسرور بقبول الدائن لها فإنّه حينئذٍ إحسان حقيقةً فيشمله إطلاق الأخبار الدالّة على استحباب قبوله ولا مقيّد في البين بعدما احتملنا اختصاص موثّقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة بموردها وعدم جواز إلغاء الخصوصية عنه.

ونتيجة ذلك كلّه أنّ التبرّع بالزيادة وإن كان مستحبّاً على المقترض ولكن قبولها من جانب المقرض ليس بمستحبّ مطلقاً بل فيما احرز أنّ المقترض بصدد الإحسان إليه جدّاً بحيث لا يكون في قلبه شي ء من الكراهة في تبرّعه ويصبح مسروراً بقبول إحسانه.


1- وسائل الشيعة 18: 353، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 19، الحديث 1 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 654، وسيلة النجاة 2: 122 ..

ص: 268

وللدافع الرجوع إلى الدائن الصوري للقرار الضمني وعدم كونه متبرّعاً (12).

ومنها: أنّ دفع الورقة إليه لينزّلها ويرجع الثالث إليه موجب لأمرين:

أحدهما: صيرورة الدائن الصوري ذا اعتبار بمقدار الورقة لدى الثالث- البنك أو غيره- ولذلك يعامل على ذمّة الدائن الصوري، فيصير هو مديوناً للشخص الثالث.

12- قد تقدّم: أنّ كاتب سفتجة المجاملة والموقّع عليها مدين صوري، والذي يأخذها منه دائن صوري، ولكن بعدما يبيع الدائن الصوري السفتجة لشخص ثالث ويقترض ثمنها لنفسه، ينقلب الأمر؛ فمن كان عند كتابة السفتجة ودفعها إلى الآخر مديناً صورياً، يصير بعد البيع والاقتراض دائناً حقيقياً بالنسبة إلى آخذها؛ وإن كان مديوناً حقيقياً بالإضافة إلى الشخص الثالث الذي اشتراها، كما أنّ الدائن الصوري- آخذ السفتجة- يصير ببيعها واقتراض ثمنها لنفسه، مديناً حقيقياً بالنسبة إلى كاتبها، وحيث إنّ الكاتب الذي أصدر السفتجة ووقّع عليها، لم يقصد التبرّع عند دفعه ورقتها إلى الدائن الصوري وتوكيله له في بيعها واقتراض ثمنها لنفسه، فلا محالة هو مالك لما اقترضه هذا الشخص لنفسه، وهذا هو القرار الضمني بينهما، فيجوز له الرجوع إليه بالنسبة إلى مقدار ما اقترضه لنفسه من ثمن السفتجة بلا زيادة، إلّاأن يدفعها إليه تبرّعاً، فحينئذٍ لا بأس رغم كون قبولها مكروهاً له عند الماتن المحقّق قدس سره وإن كان لنا كلام فيه كما تقدّم آنفاً.

ص: 269

ثانيهما: التزام من المديون الصوري بأداء المقدار المذكور لو لم يؤدّ الدائن الصوري- الذي صار مديوناً حقيقة- للشخص الثالث (13). وهذا التزام ضمنيّ لأجل معهودية الرجوع إليه عند عدم دفع المدين،

الصورة الثانية

13- هذه هي الصورة الثانية من الصور الجائزة من المعاملة بالسفتجة الصورية؛ وهي أنّ الإنسان ربما يريد أن يستقرض مبلغاً من شخص حقيقي، أو شخصية حقوقية، كالبنك، ومؤسّسة الإقراض بلا فائدة، أو يشتري متاعاً نسيئةً، ولكنّه في نفس الوقت فاقد للاعتبار المالي عند طرفه من البنك وغيره، فيطلب بالطبع من صديقه مثلًا أن يمنحه اعتباراً مالياً، وهذا بأن يكتب سفتجة؛ ويتقبّل فيها- صورةً- مبلغاً معيّناً من الدين على ذمّته لذلك الشخص الفاقد للاعتبار، ثمّ يدفع إليه ورقة السفتجة ليتعامل بها مع الثالث من البنك وغيره، ثمّ يرجع الثالث- على تفصيل سوف يأتي- إلى كاتب السفتجة الذي هو دائن صوري بالنسبة إلى ذلك الشخص، ومديون حقيقي بالنسبة إلى الثالث، وحينئذٍ تقع هذه العملية بقصد أمرين:

أوّلهما: أن يصير الدائن الصوري- آخذ السفتجة- ذا اعتبار بمقدار المبلغ المذكور في ورقة السفتجة عند ثالث يتعامل معه، ولهذا يتعامل الثالث على ذمّة الدائن الصوري- بخلاف الصورة الاولى- بأن يقرضه بهذا المقدار المذكور في الورقة، أو يبيع إليه متاعاً بثمن يساوي ذاك المقدار، وبعدئذٍ يصير الدائن الصوري مديوناً حقيقياً للثالث.

ص: 270

ثانيهما: أنّ عملية إصدار السفتجة بالشكل المذكور، تستهدف أمراً آخر:

وهو أنّ المدين الصوري الذي كتب السفتجة وأصدرها، يلتزم بأنّ الدائن الصوري إن لم يؤدّ إلى الثالث دينه، فهو يؤدّي دينه بالمقدار المذكور في السفتجة، فهذه العملية ترجع بروحها إلى معاملة وإلى التزام وضمان:

أ مّا المعاملة، فهي ما تقع بين الدائن الصوري والثالث بشكل القرض أو البيع نسيئة، وهذه لا إشكال في صحّتها بعدما فرضنا خلوّها من الربا. نعم، لو كان الدين المذكور في السفتجة الصورية مائة وعشرة آلاف تومان، واقترض الدائن الصوري من الشخص الثالث مائة ألف تومان بالاعتماد على هذه السفتجة، ودفعها إلى المقرض، ثمّ رجع المقرض إلى موقّع السفتجة وأخذ منه جميع ما اشتملت عليه- أعني المائة والعشرة آلاف تومان- فلا ريب في أنّه قرض ربوي محرّم.

وأ مّا الضمان، فهو التزام المدين الصوري- أي كاتب السفتجة- بأنّ من دفع إليه السفتجة إن لم يؤدّ في تلك المعاملة ما على ذمّته إلى الثالث، فهو يؤدّيه على وفق ما ذكر في الورقة، وهذا نوع ضمان.

وبعبارة اخرى: بعدما تعامل الدائن الصوري مع ثالث- اعتماداً على السفتجة- بالاقتراض منه، أو الشراء منه نسيئة، تشتغل ذمّة كلّ من المدين الصوري والدائن الصوري بالنسبة إلى الثالث، ومن هنا يصبح كلّ منهما بعد المعاملة مديوناً حقيقياً للثالث، إلّاأنّ جواز رجوعه إلى الأوّل في طول عدم أداء الثاني لدينه.

وقد ظهر بما ذكرنا: أنّ التزام المدين الصوري بالشكل المتقدّم، من قبيل الضمان؛ بمعنى ضمّ الذمّة (ذمّة المدين الصوري الذي هو كاتب السفتجة) إلى ذمّة اخرى (ذمّة الدائن الصوري الذي استقرض أو اشترى متاعاً اعتماداً على

ص: 271

السفتجة). وهذا النوع من الضمان وإن لم يكن من سنخ الضمان المعروف عند مذهب الإمامية؛ أي نقل ذمّة إلى ذمّة اخرى، ولكنّه صحيح على حسب القواعد بالبيان التالي.

ما يطلق عليه الضمان وتعيين ماهيته في المقام

وبيان ذلك أنّ للضمان إطلاقات:

فتارةً: يطلق ويراد به المعنى العامّ الشامل للضمان بالمعنى الأخصّ، والحوالة، والكفالة، وهذا المعنى العامّ هو التعهّد والالتزام على وجه خاصّ؛ سواء أكان متعلّقه نفساً، أم مالًا، فإن كان نفساً فهو الكفالة، وإن كان مالًا فتارةً:

يكون في ذمّة المتعهّد مال للمضمون عنه، فهو الحوالة.

واخرى: لا يكون كذلك، فهو الضمان بالمعنى الأخصّ، كما قال المحقّق في «الشرائع»: «هو عقد يشرع للتعهّد بمال أو نفس، والتعهّد بالمال قد يكون ممّن عليه للمضمون عنه مال، وقد لا يكون، فهنا ثلاثة أقسام»(1).

واخرى: يطلق ويراد به الضمان بالمعنى الأخصّ، وهو الذي وضع الفقهاء له باباً مستقلًاّ باسم «باب الضمان» وقد اتّفق الإمامية على أنّه يوجب نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، قال الشيخ في «الخلاف»: «مسألة 3- إذا صحّ الضمان فإنّه ينتقل الدين من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، ولا يكون له أن يطالب أحداً غير الضامن»(2).


1- شرائع الإسلام 2: 88 ..
2- الخلاف 3: 133 ..

ص: 272

وقال المحقّق الحلّي قدس سره الذي هو لسان القدماء: «ومع تحقّق الضمان ينتقل المال إلى ذمّة الضامن، ويبرأ المضمون عنه، وتسقط المطالبة عنه»(1).

وعقّبه في «الجواهر» بقوله: «بلا خلاف في شي ء من ذلك عندنا، ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه، بل لعلّه من ضروريات الفقه»(2).

وقال الشهيد الثاني قدس سره: «الضمان عندنا مشتقّ من الضمن؛ لأنّه يجعل ما كان في ذمّته من المال في ضمن ذمّة اخرى، أو لأنّ ذمة الضامن تتضمّن الحقّ، فالنون فيه أصلية بناءً على أنّه ينقل المال من الذمّة إلى الذمّة»(3).

وقال الماتن المحقّق قدس سره في تعريفه: «هو التعهّد بمال ثابت في ذمّة شخص لآخر»(4).

وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره: «الضمان: هو نقل المال عن ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن للمضمون له»(5).

ولا يخلو هذا التعريف من مسامحة؛ لأنّ الضمان ليس نفس نقل المال بالشكل المذكور، بل حقيقته التعهّد والالتزام بنقل المال بهذا الشكل.

وكيف كان: فكلمات الأصحاب في المقام، متّفقة على أنّ الضمان بالمعنى الأخصّ عند الإمامية، يوجب شرعاً نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن؛


1- شرائع الإسلام 2: 88 ..
2- جواهر الكلام 26: 127 ..
3- مسالك الأفهام 4: 171 ..
4- تحرير الوسيلة 2: 25 ..
5- منهاج الصالحين 2: 182 ..

ص: 273

بحيث لا يستحقّ المضمون له بعد الضمان على عهدة المضمون عنه شيئاً.

وعلى هذا المعنى استقرّ رأي بعض العامّة أيضاً، كما قال الشيخ رضوان اللَّه عليه في ذيل عبارته المتقدّمة «وبه قال أبو ثور، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وداود»(1)، خلافاً لما عليه أكثرهم؛ من أنّ الضمان لا ينقل ما على ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، بل يوجب اشتراك الذمّتين، كما في كتاب «رحمة الامّة»:

«اتّفق الأئمّة على جواز الضمان، وأ نّه لا ينتقل الحقّ من المضمون عنه الحيّ بنفس الضمان، بل الدّين باقٍ على ذمّة المضمون عنه، ولا يسقط عن ذمّته إلّا بالأداء»(2).

واستدلّوا على المدّعى: بأنّ «الضمان» مشتقّ من «الضمّ» والنون فيه زائدة، وحينئذٍ يفيد ضمّ ذمّة (ذمّة المضمون عنه) إلى ذمّة اخرى (ذمّة الضامن) فيتخيّر المضمون له في المطالبة.

وردّه في «الجواهر» بوجوه، ودونك عبارته: «وفيه ما لا يخفى: من منافاة وجود النون في جميع تصاريفه إلّابدعوى اشتقاق ما فيه النون من الخالي عنها، وهو كما ترى، ومن صعوبة تحقّقه في نحو ضمان النفس، وظهور قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«الزعيم غارم»(3) في اختصاص الغرم به، ولغير ذلك ممّا هو في مذهب الخصم، بعد الغضّ عن عدم تصوّر شغل ذمّتين فصاعداً بمال واحد. وقد بيّنا أنّ المشغول به في تعاقب الأيدي على المغصوب، ذمّة واحدة، وهو من تلف في يده المال مثلًا؛


1- الخلاف 2: 133 ..
2- رحمة الامّة 1: 194 ..
3- مستدرك الوسائل 13: 393، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 4، الحديث 4 ..

ص: 274

وإن جاز له الرجوع على كلّ واحد، وإلّا فهو منافٍ للمقطوع به من مذهبنا»(1).

وما أفاده من وجوه الإشكال عليهم متين جدّاً، إلّاأنّ دعواه عدم تصوّر شغل ذمّتين فصاعداً بمال واحد ممنوعة؛ لما سيأتي في ذيل المعنى الثالث للضمان.

وثالثة: يطلق «الضمان» ويراد به تعهّد الشخص والتزامه بما في ذمّة غيره وأدائه له؛ فيما إذا لم يؤدّه بعد حلول أجله، والضمان بهذا المعنى يوجب ضمّ ذمّة (ذمّة المضمون عنه) إلى ذمّة اخرى (ذمّة الضامن) وهو وإن لم يكن من سنخ الضمان المصطلح المعروف بين الإمامية المتقدّم في القسم الثاني، ولكنّه شائع بين المتشرّعة، بل العقلاء؛ فإنّ جلّ الضمانات الرائجة في زماننا في البنوك والمؤسّسات المختلفة- بل وغيرها من الأشخاص الحقيقيين- تكون من هذا القبيل.

والضمان الحاصل في المقام من هذا القسم، كما أشار إليه الماتن المحقّق قدس سره بقوله: «فإنّه من قبيل ضمّ الذمّة إلى الذمّة» وذلك لأنّ المفروض في هذا القسم من سفتجة المجاملة الصورية، أنّ غرض كاتبها الذي أصدرها- مضافاً إلى منح من يدفع إليه الورقة، اعتباراً مالياً بمقدار الدين الذي تقبّله على ذمّة نفسه صورةً- أنّه يلتزم ويتعهّد بأنّ آخذ السفتجة بعدما استقرض مثلًا من البنك وغيره مبلغاً معادلًا لذلك الدين الصوري ولم يؤدّ قرضه، فهو يؤدّيه، ونتيجة هذه العملية اشتغال ذمّتين للبنك بالنسبة إلى ما أقرضه: إحداهما: ذمّة المقترض، والاخرى: ذمّة كاتب السفتجة، وهذا معنى ضمّ ذمّة إلى ذمّة اخرى. إلّاأنّ جواز رجوع البنك على كاتبها ومطالبته بذاك القرض، طولي معلّق على تخلّف المقترض من الأداء.

والجدير بالدقّة: أنّ الضمان في المقام ليس معلّقاً؛ وإن أوهمه قول الماتن


1- جواهر الكلام 26: 113 ..

ص: 275

المحقّق قدس سره في صدر هذه الصورة: «التزام من المديون الصوري بأداء المقدار المذكور لو لم يؤدّ الدائن الصوري» فإنّ التعليق في الضمان باطل عنده على الأحوط(1)، بل منجّز فعلي، كما صرّح به في ذيلها بقوله: «فإنّه من قبيل ضمّ الذمّة إلى الذمّة».

نعم، إنّما التعليق في رجوع المضمون له كالبنك؛ إلى الضامن- كاتب السفتجة- وأدائه لما على ذمّة المضمون عنه؛ أي المقترض من البنك، حيث إنّه معلّق على عدم أدائه لما على ذمّته.

وبهذا البيان ظهر: أنّ صحّة الضمان بالشكل المذكور عند الماتن المحقّق قدس سره في المقام، لا تنافي تصريحه في كتاب الضمان ببطلان التعليق في الضمان على الأحوط؛ فإنّ الضمان في المقام لا يؤول إلى التعليق فيه، بل إلى التعليق في الأداء بذلك البيان.

وقد صرّح السيّد الفقيه صاحب «العروة» بصحّة الضمان بهذا الشكل، حيث قال: «نعم في المثال الثاني (أنا ضامن إن لم يفِ المديون إلى زمان كذا، أو إن لم يفِ أصلًا) يمكن أن يقال بإمكان تحقّق الضمان منجّزاً مع كون الوفاء معلّقاً على عدم وفاء المضمون له؛ لأنّه يصدق أنّه ضمن الدين على نحو الضمان...»(2) وقد تلقّاه أكثر المحشّين على «العروة» بالقبول، ومنهم الإمام الراحل قدس سره.


1- قال قدس سره في كتاب الضمان:« مسألة 2- يشترط في صحّة الضمان امور: منها: التنجيز على الأحوط، فلو علّق على أمر- كأن يقول: أنا ضامن إن أذن أبي، أو أنا ضامن إن لم يفِ المديون إلى زمان كذا، أو إن لم يفِ أصلًا- بطل». تحرير الوسيلة 2: 25 ..
2- العروة الوثقى 2: 761 ..

ص: 276

نعم، لبعض الأجلّة توجيه لهذه العبارة بوجه لا يخلو نفس الوجه عن القوّة؛ وإن كان توجيهها به على خلاف ظاهرها(1).

إن قلت: إنّ تصوير الضمان بالمعنى الثالث المتقدّم في المقام، يؤول إلى اشتغال ذمّتين في عَرض واحد بالنسبة إلى مال واحد، وهو غير ممكن، كما قال صاحب «الجواهر»: «عدم تصوّر شغل ذمّتين فصاعداً بمال واحد»(2).

قلت: هذه الدعوى ممنوعة؛ لأنّ اشتغال الذمّة بالمال ليس إلّاأمراً اعتبارياً عقلائياً، ولا استحالة في اعتبار اشتغال ذمّتين أو أكثر بمال واحد؛ فإنّه أمر سهل لا يتوقّف إلّاعلى مصحّح عقلائي لاعتباره، فكما أنّ في الواجب الكفائي يبعث الشارع المكلّفين إلى عمل واحد، ويعتبر على ذممهم ذاك العمل، إلّاأنّ إتيان بعضهم له يوجب سقوط ما على ذمّة الآخرين، فكذلك في المقام لا مانع من اعتبار العقلاء اشتغال ذمّتين- ذمّة المدين الصوري الذي هو كاتب السفتجة، وذمّة الدائن الصوري الذي اقترض من البنك مثلًا باعتبارها- بالنسبة إلى دين واحد، إلّاأنّه بدفع أحدهما الدين، تفرغ ذمّة الآخر أيضاً.


1- قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في ذيل تلك العبارة من« العروة» ما إليك لفظه:« لعلّه يريد بذلك أنّ الضمان- في مورد تعليق الوفاء على عدم وفاء المديون- ليس بمعنى النقل إلى الذمّة ليرجع تعليق الوفاء عليه إلى تعليق الضمان، بل هو بمعنى تعهّد ما في ذمّة الغير، على حذو تعهّد العين الخارجية، وعليه فالضمان فعليّ، وأثره الانتقال إلى الذمّة على تقدير عدم وفاء المديون، كما أنّ أثره في ضمان العين الخارجية ذلك على تقدير تلفها، وعلى هذا فلا بأس بما أفاده قدس سره ولا يبعد أن يكون الضمان بالمعنى المزبور من المرتكزات العرفية». العروة الوثقى 2: 761، الهامش 5 ..
2- جواهر الكلام 26: 113 ..

ص: 277

ما هو الدليل على صحّة الضمان بالمعنى الثالث؟

ثمّ إنّ الضمان بالمعنى الثالث- الذي عرفت أنّ المقام من صغرياته- وإن لم تشمله الإطلاقات الواردة في باب الضمان؛ لأنّها ناظرة إلى الضمان الشرعي المصطلح المعروف بين الإمامية، وقد تقدّم تفصيله ضمن المعنى الثاني، ولكن يمكن الاستدلال عليه بوجهين:

الأوّل: الإطلاقات والعمومات المتصدّية لإمضاء المعاملات، كقول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، فإنّ الضمان بالمعنى الثالث أيضاً من العقود، فيندرج في عموم الآية الكريمة.

الثاني: السيرة المتشرّعية بل العقلائية المستقرّة جيلًا بعد جيل إلى زمن المعصومين عليهم السلام على الضمان بذلك المعنى، مع عدم ردعهم عنها. بل الظاهر أنّ جلّ الضمانات من هذا القبيل؛ بمعنى أنّ أرباب الضمان- غالباً- لا يتعهّدون بنقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّتهم على الشكل المعهود من معناه الشرعي المصطلح عليه بين الإمامية؛ أي نقل ذمّة إلى ذمّة اخرى، بل يتعهّد الضامن منهم غالباً بما في ذمّة المضمون عنه مع تعليق في الأداء؛ بأ نّه لو لم يؤدّ ما في ذمّته فهو يؤدّيه.

ولكنّ الكلام كلّ الكلام في أنّ المرتكز عند العقلاء، هل هو الضمان بمعنى نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، وإنّما التعليق في الأداء، أو أنّ المرتكز عندهم هو الضمان؛ بمعنى التعهّد بما في ذمّة الغير وتقبّل مسؤوليته؛ بحيث


1- المائدة( 5): 1 ..

ص: 278

لو لم يؤدّ ما على ذمّته فعندئذٍ ينتقل إلى ذمّة الضامن؟

لا يبعد دعوى أنّ المرتكز بين العقلاء- ولاسيّما في الضمانات الجارية في البنوك والمؤسّسات- هو الثاني؛ فإنّ من يقترض من البنك أو أيّ شخصية حقوقية أو حقيقية ويضمنه لدى الاقتراض بدفع سفتجة مساوية لمبلغ القرض، ليس معنى ضمانه في ارتكاز العقلاء أنّه يتعهّد بنقل ذاك المبلغ في ذات الوقت إلى ذمّته؛ بحيث يكون للبنك مديونان: أحدهما: المقترض، والآخر: الضامن، بل معناه أنّه يتعهّد بما في ذمّة المقترض ويتعهّد بمسؤوليته؛ بحيث لو تخلّف عن أدائه فهو يؤدّيه. وبالنظر لهذه النكتة ينحصر تخريج الضمان بالمعنى الثالث على الوجه الأوّل.

لا يقال: إنّ الحكم بصحّة الضمان بالمعنى الثالث- الذي حملنا عليه الصورة الثانية من المعاملة بالسفتجة الصورية- منافٍ لما هو المعروف من مذهب الإمامية؛ من أنّ الضمان نقل ذمّة إلى ذمّة اخرى؛ حيث إنّ الضمان بذلك المعنى مآله إلى ضمّ ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، إلّاأنّ وجوب الوفاء عليه معلّق على تخلّف المضمون عنه عن الوفاء، وهذا على خلاف ما هو المعروف بينهم.

لأ نّه يقال: إنّ الضمان الشرعي بالمعنى المعروف عند الإمامية، هو الضمان المطلق، لا مطلق الضمان؛ أعني أنّ الضمان حينما يطلق ولا يقيّد الضامن بقرينة لفظية أو مقامية دالّة على خلاف ما هو المعروف منهم، يحمل على المعروف، وأ مّا إذا فرضنا أنّ الضامن يتعهّد- بالصراحة أو الظهور- بما في ذمّة غيره؛ وأ نّه لو تخلّف عن أدائه فحينئذٍ يؤدّه، فلا وجه لحمله على المعنى المعروف، أو القول ببطلانه؛ بعد شمول عمومات الإمضاء له.

ص: 279

ويجوز للدافع الرجوع إلى المدفوع عنه لو لم يكن متبرّعاً، وكان ذلك- أيضاً- لازم القرار المذكور (14). والظاهر صحّة المعاملة بعد عدم كونها ربوية وصحّة الالتزام المذكور، فإنّه من قبيل ضمّ الذمّة إلى الذمّة، ويصحّ بحسب القواعد وإن لم يرجع إلى الضمان على المذهب الحقّ (15).

ومنها: الصورة السابقة بحالها إلّاأنّ الدائن الصوري بعمله يصير ضامناً على فرض عدم أداء صاحبه؛ بمعنى نقل الذمّة إلى الذمّة في فرض عدم الأداء (16).

14- إنّ الدائن الصوري- بعدما يقترض من البنك مثلًا باعتبار السفتجة- إن لم يؤدّ دينه عند حلول أجله ورجع البنك إلى كاتب السفتجة؛ أي المدين الصوري، وهو دفع الدين إليه، يجوز للدافع الرجوع إلى المدفوع عنه؛ أي الدائن الصوري الآخذ للسفتجة؛ بشرط أن لا يكون دافع الدين متبرّعاً في دفعه؛ وذلك لأنّ آخذ السفتجة وإن كان عند أخذها، دائناً صورياً على الفرض، كما أنّ كاتبها في ذات الوقت كان مديوناً صورياً، ولكن بعدما رجع البنك إلى المديون الصوري وأخذ منه الدين، ينقلب الأمر؛ فيصير المديون الصوري دائناً حقيقياً، كما أنّ الدائن الصوري يصبح مديوناً حقيقياً بالنسبة إليه، فيجوز رجوع ذاك إلى هذا ومطالبته بما أدّاه إلى البنك من غير زيادة؛ فإنّها رباً محرّم.

15- تقدّم البحث عن جميع تلك الجهات بالتفصيل في التعليقة السابقة على الأخيرة، في ذيل الصورة الثانية من صور المعاملة بالسفتجة الصورية، فراجع.

الصورة الثالثة

16- هذه هي الصورة الثالثة من صور المعاملة الجائزة بالكمبيالة، وهي عين

ص: 280

الصورة الثانية، إلّاأنّا افترضنا في الثانية أنّ كاتب السفتجة- أي المدين الصوري- يقصد بعملية تقبّل دين صوري لصاحبه على ذمّته ودفع ورقة السفتجة المشتملة على هذا الدين إليه، أن يلتزم ويضمن ما اشتغلت به ذمّة الدائن الصوري بالمعاملة مع الثالث بمثل الاقتراض منه، ولكن بوجه خاصّ؛ وهو أنّه لو لم يؤدّ ما في ذمّته للثالث فهو يؤدّيه، ومن هنا كان الضمان فعلياً منجّزاً، وإنّما التعليق في أداء الضامن وهو صاحب السفتجة الذي كان مديناً صورياً، لما في ذمّة الدائن الصوري، ولهذا كان الضمان هناك من قبيل ضمّ الذمّة إلى الذمّة بالتفصيل المتقدّم في محلّه.

ولكن المفروض في هذه الصورة أنّ غرض موقّع السفتجة من عملية كتابة السفتجة ودفعها إلى الدائن الصوري، أن يلتزم ويضمن ضماناً شرعياً- بالمعنى المعروف بين الإمامية؛ أي نقل الذمّة إلى الذمّة- للدين الذي في ذمّة آخذ السفتجة؛ أي الدائن الصوري؛ بشرط عدم أدائه لما في ذمّته، بمعنى أنّ الضمان هنا معلّق على عدم أداء المضمون عنه لما في ذمّته، فبعد حلول أجل الدين وتخلّف المضمون عنه عن أدائه، ينتقل إلى ذمّة الضامن.

وبهذا البيان ظهر: أنّ الصورة الثالثة تفترق عن الصورة السابقة من جهتين:

الاولى: أنّ الضمان في الصورة الثانية منجّز، وإنّما التعليق في الأداء، وفي الصورة الثالثة نفس الضمان معلّق.

الثانية: أنّ الضمان في الصورة الثانية كان بمعنى ضمّ الذمّة إلى الذمّة؛ بالبيان المبسوط المتقدّم هناك، ولكنّه في هذه الصورة بمعنى نقل الذمّة (ذمّة الدائن الصوري) إلى الذمّة (ذمّة المدين الصوري).

ثمّ لا يخفى: أنّ لفظ «الدائن» في قوله: «إلّاأنّ الدائن الصوري بعمله...» تصحيف، والصحيح هو «المدين» ولعلّه من غلط مطبعي، والشاهد عليه ما سيأتي

ص: 281

وهذا- أيضاً- له وجه صحّة؛ وإن لا يخلو من إشكال (17).

في ذيل المسألة: «ثمّ لو دفع المدين الصوري إلى الثالث...».

17- أمّا وجه الصحّة، فهو أنّ الضمان بالشكل المفروض في الصورة الثالثة بعدما يصدق عليه الضمان- بالمعنى المعروف عند الإمامية-؛ أي نقل الذمّة إلى الذمّة- يندرج في إطلاقات الأخبار التي سيقت لإمضاء الضمان، فيترتّب عليه أحكامه، كما تشمله الإطلاقات والعمومات المتصدّية لإمضاء جميع العقود، كقول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(1).

وأ مّا الإشكال فبيانه: أنّ الضمان بالشكل المفروض في هذه الصورة، مضافاً إلى أنّه من قبيل ضمان ما لم يجب، ضمان تعليقي، حيث إنّه معلّق على عدم أداء المضمون عنه لما في ذمّته؛ بالبيان المتقدّم في التعليقة السابقة، والإجماع قائم على بطلان العقود بالتعليق، فهذا دليل لبّي على تخصيص أدلّة الإمضاء بالنسبة إلى أيّ عقد تعليقي، ومنه الضمان في المقام. وهذا الإجماع- وهو عمدة الدليل على اعتبار التنجيز- ادّعاه جماعة من المتأخّرين، قال العلّامة في باب الضمان من «التذكرة»:

«يشترط في الضمان التنجيز، فلو علّقه بمجي ء الشهر أو قدوم زيد، لم يصحّ... ولو قال: إن لم يؤدّ إليك غداً فأنا ضامن، لم يصحّ عندنا، وبه قال الشافعي، لأنّه عقد من العقود، فلا يقبل التعليق، كالبيع ونحوه»(2).

وادّعى الشهيد الثاني قدس سره في «تمهيد القواعد» الإجماع على عدم صحّة


1- المائدة( 5): 1 ..
2- تذكرة الفقهاء 2: 85- 86 ..

ص: 282

التعليق في العقود على الشرط(1).

وقد أورد الماتن المحقّق قدس سره على الاستدلال بالإجماع على اشتراط التنجيز في جميع العقود- بعد ردّه للوجوه العقلية- بما إليك لفظه: «وأ مّا تحصيل الإجماع أو الشهرة المعتبرة في هذه المسألة التي للعقل فيها قدم راسخ، فغير ممكن، ولهذا ترى تشبّثهم بالدليل العقلي أو العرفي(2). مع ما يقال: من أنّ المسألة لم تكن معنونة، وإنّما استندوا إلى باب الوكالة والوقف ونحوهما، فالتحقيق عدم اعتبار التنجيز في المعاملات مطلقاً؛ سواء كانت معلّقة على معلوم في الحال، أو الاستقبال، أو مجهول كذلك، بل أو معلوم العدم كذلك، ثمّ بان تحقّقه»(3).

والحاصل: أنّ هذا الإجماع أوّلًا منقول.

وثانياً:- على فرض تماميته- مستند إلى بقية الوجوه التي استند المجمعون إليها، فلا يكشف عن رأي المعصوم عليه السلام.

ولكنّه قدس سره مع ردّه الإجماع وبقية الوجوه التي اقيمت على اعتبار التنجيز في العقود، لم يرضَ بمخالفة المشهور والإجماع المنقول في مقام الإفتاء، فاحتاط لزوماً في اعتبار التنجيز في جميع العقود؛ من البيع، والإجارة، والمضاربة، والضمان، وغيرها، فقال في باب الضمان- وهو محلّ بحثنا الآن-: «يشترط في صحّة الضمان امور: منها: التنجيز على الأحوط، فلو علّق على أمر- كأن يقول: أنا ضامن إن أذن أبي، أو أنا ضامن إن لم يفِ المديون إلى زمان كذا، أو إن لم يفِ


1- تمهيد القواعد: 533 ..
2- التنقيح الرائع 2: 69، حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 1: 71 ..
3- البيع، الإمام الخميني قدس سره 1: 351 ..

ص: 283

أصلًا- بطل»(1).

إن قلت: إنّ المحقّق الماتن قدس سره ممّن يقول بحجّية الشهرة الفتوائية؛ على ما صرّح به في مواضع من آثاره الاصولية والفقهية، فكيف لم يعتمد في المقام على الشهرة المحقّقة على اعتبار التنجيز في العقود، ولم يفتِ به بتّاً، بل على سبيل الاحتياط؟!

قلت: إنّه رحمه الله وإن قال بحجّية الشهرة الفتوائية، ولكنّه لم يقل بها مطلقاً، بل إذا كانت الشهرة أوّلًا: قدمائية؛ أي متقدّمة على شيخ الطائفة الطوسي قدس سره وثانياً: غير مستندة إلى وجه عقلي اجتهادي أو نقلي ممّا هو بأيدينا:

أ مّا القيد الأوّل: فقد صرّح قدس سره به كما في تقريرات درسه الشريف: «لا إشكال في عدم حجّية الشهرة الفتوائية في التفريعات الفقهية الدائرة بين المتأخّرين من زمن شيخ الطائفة إلى زماننا هذا... وإنّما الكلام في الشهرة المتقدّمة على الشيخ؛ أعني الشهرة الدائرة بين قدماء أصحابنا- الذين كان ديدنهم التحفّظ على الاصول والإفتاء بمتون الرواية- إلى أن ينتهي الأمر إلى أصحاب الفتوى والاجتهاد، فالظاهر وجود مناط الإجماع فيه، وكونه موجباً للحدس القطعي على وجود نصّ معتبر دائر بينهم، أو معروفية الحكم من لدن عصر الأئمّة عليهم السلام كما أشرنا إليه»(2).

أ مّا القيد الثاني: فقد صرّح به بقلمه الشريف في كتاب البيع؛ حيث قال عند الردّ على التمسّك بالشهرة الفتوائية لتحليل حيل باب الربا: «وإن اريد بالتشبّث به أنّ الشهرة معتبرة وحجّة، ففيه أنّ الشهرة إذا حصلت من تخلّل الاجتهاد فلا اعتبار


1- تحرير الوسيلة 2: 25، المسألة 2 ..
2- تهذيب الاصول 2: 169، وفي تنقيح الاصول 3: 148 نحوه ..

ص: 284

ثمّ لو دفع المدين الصوري إلى الثالث ما التزمه أو ضمنه، فله الرجوع إلى الدائن الصوري وأخذ ما دفعه عنه (18).

بها، بل الإجماع الحاصل بتخلّل الاجتهاد لا حاصل له، ولا اعتبار به، وليست هذه المسألة في تخلّل الاجتهاد فيها إلّاكمسألة منزوحات البئر، بل تخلّل الاجتهاد هاهنا أقرب»(1). مضافاً إلى أنّ اعتبار هذا القيد، هو مقتضى الفرق بين الشهرة الفتوائية والعملية.

والحاصل: أنّ الشهرة الفتوائية التي يقول الماتن المحقّق طاب ثراه باعتبارها، هي الشهرة القدمائية التي لم تكن مستندة إلى وجه اجتهادي عقلي أو نقلي، مع أنّ الشهرة المدعاة على اعتبار التنجيز في العقود وبطلانها بالتعليق، فاقدة لكلا القيدين، فإنّها أوّلًا: ليست قدمائية؛ لما تقدّم آنفاً من أنّ المسألة لم تكن معنونة بينهم، وثانياً: مستندة إلى الوجوه العقلية أو العرفية التي ذكرت في كلمات المتأخّرين، وبهذا البيان ظهر أنّ المقام ليس ممّا التزم الماتن المحقّق قدس سره على مبناه الاصولي بحجّية الشهرة فيه.

18- تقدّم البحث عنه تفصيلًا في الصورة الثانية من صور المعاملة الجائزة بالسفتجة الصورية في ذيل قول الماتن المحقّق قدس سره: «ويجوز للدافع الرجوع إلى المدفوع عنه لو لم يكن متبرّعاً» فراجع؛ فإنّ ما ذكرنا هناك جارٍ في المقام بعينه.

ثمّ لا يخفى: أنّ ما تقدّم في شرح المسألة الثانية هذه من بدئها إلى ختامها، كلّه يبحث عن الصور الثلاث من المعاملة الجائزة بالسفتجة الصورية التي وضع لها الماتن المحقّق قدس سره هذه المسألة. ولكن في المقام صور اخرى من المعاملة بها كلّها


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 555 ..

ص: 285

باطلة، لم يتعرّض لها الماتن، بل اقتصر على التنبيه على بطلانها بوجه عامّ، حيث إنّه رحمه الله حصر في صدر المسألة المعاملة الجائزة بالسفتجة الصورية؛ بأن ترجع إلى أحد الصور الثلاث المتقدّمة، حيث قال: «لا تجوز المعاملة بالكمبيالة الصورية المعبّر عنها بالمجاملة (سفته دوستانه) إلّاأن ترجع إلى أحد الوجوه الآتية».

الصور الباطلة من المعاملة بالسفتجة الصورية

ولا بأس بالإشارة إلى بعض الصور الباطلة من المعاملة بالسفتجة الصورية:

فمنها: أن يوكّل المدين الصوري الدائن الصوري في أن يستقرض له من الشخص الثالث مبلغاً أقلّ من مبلغ الدين الصوري المذكور فيها، كما لو كان مثلًا الدين الصوري مائة ألف تومان مؤجّلًا إلى خمسة أشهر، وأقرضه الثالث ثمانين ألف تومان بعوض ذاك المبلغ، وأخذ السفتجة، ثمّ أقرض الدائن الصوري الثمانين ألف تومان- من جانب مالكه أعني المدين الصوري- لنفسه بخمسة أشهر أو أكثر أو أقلّ بعوض مائة ألف تومان، فهذه المعاملة ربوية محرّمة من جهتين:

الاولى: مرحلة اقتراض الدائن الصوري ثمانين ألف تومان من الثالث للمدين الصوري بعوض مبلغ أكثر منه، وهو المذكور في السفتجة، وهذا رباً بين الثالث والمدين الصوري.

الثانية: مرحلة اقتراض الدائن الصوري من المدين الصوري الثمانين ألف تومان بشرط دفع المائة ألف تومان، فإنّه رباً بين الدائن والمدين الصوريّين.

ولا يخفى: أنّ القرض الربوي وإن كان حراماً تكليفاً، ولكن من جهة الحكم الوضعي، نفس القرض صحيح والباطل هو الزيادة، كما تقدّم البحث عنه تفصيلًا(1).


1- تقدّم في الصفحة 231 ..

ص: 286

ومنها: نفس الصورة السابقة، إلّاأنّ المدين الصوري لم يشترط على الدائن الصوري زيادة على المبلغ الذي أقرضه كثمانين ألف تومان، بل الشخص الثالث أقرض المدين الصوري ثمانين ألف تومان بمبلغ أكثر منه كمائة ألف تومان المذكور في السفتجة، وهذه الصورة أيضاً- كالسابقة- غير جائزة، إلّاأنّ هذه الصورة تستلزم الربا القرضي من جهة واحدة، وتلك الصورة من جهتين.

ومنها: أن يستقرض الدائن الصوري لنفسه من الثالث مبلغاً أقلّ من المذكور في السفتجة؛ بأن يقترض منه مثلًا ثمانين ألف تومان بعوض المبلغ المؤجّل المذكور فيها؛ وهو المائة ألف تومان، ثمّ يحوّله- بدفع السفتجة إليه- على المدين الصوري حتّى يدفع هذا المبلغ بعد حلول أجله، فهذه الصورة أيضاً قرض ربوي ظهر حكمها ممّا تقدّم في الصورتين السابقتين.

وفي هاتين الصورتين أيضاً وإن كان شرط الزيادة رباً محرّماً على كلّ واحد من المقرض والمقترض، بل يكون باطلًا، فلا يملكه المقرض، ولو أخذها يجب عليه ردّها على المقترض، ولكن أصل القرض- على ما اختاره الماتن المحقّق قدس سره وقوّيناه بالوجوه المتقدّمة في محلّها(1) جائز تكليفاً ووضعاً، فراجع.

ملكية الشخصية الحقوقية كالدولة والبنوك

ثمّ إنّ للسيّد المحقّق الخوئي قدس سره تفصيلًا في تنزيل السفتة الصورية بأقلّ منها عند الثالث، بين ما كان الثالث من البنوك الحكومية (وهي التي تقوم الدولة بتمويلها) فلا بأس بتنزيلها عندها بالأقل، وبين ما كان من البنوك الأهلية (وهي


1- تقدّم في الصفحة 231 ..

ص: 287

التي يتكون رأس مالها من شخص واحد وأشخاص مشتركين)، أو شخصاً حقيقاً، فلا يجوز ودونك عبارته في كتاب البيع من المنهاج:

«مسألة 221: ما يتعارف في زماننا من إعطاء سندٍ بمبلغٍ من الأوراق النقدية، من دون أن يكون في ذمّته شي ء فيأخذه آخر، فينزّله عند شخص ثالث بأقلّ منه، فالظاهر عدم جواز ذلك، نعم لا بأس به في المصارف غير الأهلية بجعل ذلك وسيلة إلى أخذ مجهول المالك، والتصرّف فيه بعد إصلاحه بمراجعة الحاكم الشرعي(1).

وهذا التفصيل مبني على ما اختاره من إنكار مالكية الدولة، وكذا البنك وغيرها من العناوين الحاكية عن الشخصيات الحقوقية، التي لم تكن تحت ولاية الحاكم الشرعي.

فبناءً على هذه النظرية، تصبح الأوراق النقدية، التي تكون عند البنوك الحكومية، من الأموال المجهول مالكها، ويكون أمرها بيد الحاكم الشرعي، فيجوز لمن كان بيده ورق السفتة الصورية أن يرجع إلى البنك الحكومي، ويبيعها صورة إليه بمبلغ أقلّ منها، ويجعل هذه المعاملة الصورية، وسيلةً لأخذ هذا المبلغ الذي هو مجهول المالك، ثمّ يصلح أمره بالرجوع إلى الحاكم الشرعي.

وقد صرّح بهذا المبنى في مواضع عديدة من المنهاج.

منها: فصل المصارف والبنوك من المسائل المستحدثة، حيث إنّه بعد تقسيم البنوك إلى البنك الأهلي والحكومي والمشترك، وبيان حكم الاقتراض من الأهلي بشرط الزيادة، تعرّض لحكم التصرف في المال المقبوض من البنك الحكومي


1- منهاج الصالحين 2: 55 ..

ص: 288

والاقتراض منه وقال:

«مسألة 3: لا يجوز التصرّف في المال المقبوض منه (البنك الحكومي) بدون إذن من الحاكم الشرعي أو وكيله»(1).

وقال في المسألة الرابعة: «لا يجوز الاقتراض منه بشرط الزيادة؛ لأنّه رباً، بلا فرق بين كون الاقتراض مع الرهن أو بدونه. نعم يجوز قبض المال منه بعنوان مجهول المالك، لا القرض بإذن الحاكم الشرعي أو وكيله»(2)، ومنها غيرها.

وقد فرّع قدس سره على هذا المبنى فروعاً كثيرةً من المسائل البنكية وغيرها من باب البيع والخمس والمضاربة ونحوها.

والكلام كلّ الكلام في المستند الفقهي الذي عليه تخريج هذا المبنى، وقبل التعرّض له يلزم تعيين محلّ النزاع في المقام.

تعيين محلّ النزاع

ولتعيين محلّ النزاع ينبغي التنبيه على امور:

الأوّل: أنّ السيّد المحقّق الخوئي قدس سره على خلاف ما ينسب إليه في ألسنة الأكثر، لم ينكر ملكية مطلق الدولة والبنوك المتعلّقة بها، ولو يتولاها حقيقةً الفقيه الجامع للشرائط فيما له الولاية، بل و إنّما هو أنكر ملكية الدولة، التي ليست مشروعة، ولم تكن تحت ولايته. وسوف يظهر ذلك بملاحظة الوجه الثاني الآتي على عدم ملكية الدولة والبنوك الحكومية، وإنّ الوجه الوحيد فيه هو عدم ثبوت


1- منهاج الصالحين 1: 407 ..
2- نفس المصدر ..

ص: 289

الولاية الشرعية لها على التصرّف في الاموال التي تحت يدها.

ولا يقال: إنّه قدس سره لا يقول بولاية الفقيه بهذه السعة.

لأ نّه يقال: إنّه قدس سره وإنّ أنكر الولاية المطلقة للفقيه ولكن من المعلوم أنّ ادارة العمليات البنكية في مثل زماننا، تكون بملاحظة شدّة ابتلاء الناس بها، من الامور الحسبية، التي لا يرضى الشارع بإهمالها.

ولاشكّ أنّ السيّد المحقّق الخوئي قدس سره، لا ينكر نفوذ تصرّفات الفقيه الجامع للشرائط بالنسبة إلى الامور الحسبية بنطاقها الواسع، كيف وهو أفتى أخيراً على خلاف المشهور، بوجوب الجهاد الابتدائي، بعد توفّر شرائطه في عصر الغيبة، تحت ولاية الفقيه الجامع للشرائط استناداً إلى أنّه من الامور الحسبية، حيث قال في كتاب الجهاد من المنهاج: «وبما أنّ عملية هذا الأمر المهم في الخارج بحاجة إلى قائد وآمر، يرى المسلمين نفوذ أمره عليهم، فلا محالة يتعين ذلك في الفقيه الجامع للشرائط فإنّه يتصدّى لتنفيذ هذا الأمر المهم من باب الحسبة»(1).

وكذا نصب قدس سره في أواخر عمره الشريف في حركة الانتفاضة الإسلامية في العراق، ضدّاً للحكومة الشيطانية العفلقية، جماعة من رجال العلم والتقوى، متولّية على الامور، وهذا شاهد على أنّ ولاية الفقيه عنده لا تنحصر بمثل امور الغُيّب والمقُصّر.

نعم، هنا فرق عنده قدس سره بين القول بأنّ نفوذ تصرّفات الفقيه من باب الولاية أو الحسبة، فعلى الأوّل: يجوز له تولية غيره ونصبه قيّماً فيها وهو لا ينعزل بموت الفقيه، ولكن على الثاني: ليس له تولية غيره فيها وإنّما له توكيله وهو ينعزل وكالة


1- منهاج الصالحين 1: 367 ..

ص: 290

بموت الفقيه، ولكن لا دخل لهذا المطلب فيما هو مهمّنا في المقام وهو إثبات نفوذ تصرّفات الفقيه في جميع الامور الحسبية بنطاقها الواسع عنده قدس سره، وإن كان اطلاق ذاك الفرق ممنوعاً؛ لأنّ نفوذ التصرّف في بعض الامور الحسبية لا ينفكّ عن الولاية.

الثاني: أنّ السيّد المحقّق الخوئي قدس سره أنكر ملكية البنوك والشركات الحكومية دون الأهلية منها وسيأتي الوجه الفنّي الفارق بينهما. وقد تبعه في هذا التفصيل جمع من تلامذه خلافاً للأكثر من الفقهاء المعاصرين، منهم الماتن المحقّق قدس سره على ما صرّح به في المسألة الاولى من مسائل أعمال البنوك، حيث قال: «لا فرق في البنوك وأنواعها من الداخلية والخارجية والحكومية وغيرها في الأحكام الآتية»(1).

ويأتي البحث عن هذا المبنى وما يمكن أن يقال دليلًا عليه تفصيلًا في ذيل المسألة الاولى من مسائل أعمال البنوك إن شاء اللَّه تعالى.

الثالث: أنّ السيّد المحقّق الخوئي قدس سره لا يقول بمعاملة مجهول المالك بما له من الحكم بوجوب التصدّق مع جميع الأوراق النقدية، التي تؤخذ من البنوك الحكومية بأيّ وجه كان، بل هو يفصّل بين ما يؤخذ من البنك الحكومي عوضاً عمّا هو ملك للآخذ أو من أحاله إليه، كما إذا كان معادل الأوراق النقدية المأخوذة من البنك وديعةً عنده مثلًا أو قرضاً له وبين ما يؤخذ من الأوراق النقدية بعنوان مملّك بلا عوض من البنك إلى غيره كالربح أو الجائزة.

فبالنسبة إلى النوع الأوّل من الأوراق النقدية، يقول قدس سره بأ نّها يجوز اخذها عوضاً عمّا له من الأوراق النقدية المختلطة ببقية الأوراق الموجودة في البنك،


1- تحرير الوسيلة 2: 586 ..

ص: 291

ولكنّه يتوقّف على إذن الفقيه الجامع للشرائط، وذلك لأنّ الأوراق النقدية المعلوم مالكها بعدما دفعها مالكها إلى البنك الحكومي، واختلطت ببقية الأوراق الموجودة فيها للأشخاص ولنفس البنك والدولة، تشتبه من بينها، فهي وإن كانت في نفسها متميّزة، ولكن بعد اختلاطها لا يمكن عادةً تعيينها، ويتوقّف إفرازها على إذن الحاكم الشرعي، وقد صرّح قدس سره به في بعض أجوبته عن الاستفتاءات وسيأتي تفصيله.

وأ مّا النوع الثاني من الأوراق النقدية، فهي التي يتعامل معها معاملة مجهول المالك، ويجب إصلاح أمرها بالرجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط. وسيأتي كيفية إصلاح أمرها بوجوب أداء نصفها إليه كما عليه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره، أو خمسها كما عليه شيخنا الاستاذ المحقّق التبريزي دام ظلّه، وسيأتي الوجه الفارق بين هذا النوع من مجهول المالك، وبين بقية الأموال المجهول مالكها.

ما الدليل على عدم ملكية البنوك الحكومية؟

ما يمكن أن يستند إليه لعدم ملكية البنوك الحكومية، ومعاملة مجهول المالك من الأموال المقبوضة منها على وجه التمليك وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ تصوير الملكية الشرعية لعنوان البنك قابل للتشكيك، ولا طريق لنا إلى إثباته، وهذا الوجه بهذا المقدار ربما يبدو على الذهن في بدء الأمر وهيناً، ولكن بعد الفات النظر إلى نكتة قانونية، سوف يتخّذ صيغة برهانية، وهي أنّ البنك كبقية العناوين الحقوقية كالشركات والمؤسسات، ليس شخصاً حقيقياً ذا شعور و إرادة كالإنسان، ولا عنواناً ذا مصداق أو مصاديق فعلًا أو شأناً كعنوان الفقير والهاشمي، بل هو عنوان ليس في جوهره وحقيقته إلّاشخصية قانونية حقوقية

ص: 292

باعتبار العقلاء، إذ البنك ليس واقعه البناية، التي سمّيت باسمه، ويجري فيها العمليات البنكية حتّى يقال إنّه نظير عنوان المسجد الذي اعتبر اسماً لمكان خاصّ معدّ للعبادة، أو بتعبير أدقّ انتزع منه ولا المتصدّون لاجرائها ولا رئيس البنك وعمله، بل و الدولة الحاكمة، و إنّما هو شخصية حقوقية متقوّمة باعتبار العقلاء فإنّهم بعد تشكيل النظام الأساسي والهيئة الإدارية، وتمويل الدولة له مقداراً معتدّاً به من المال، يعتبرونه بنكاً وهو لا يوجد بعدئذٍ إلّافي عالم الاعتبار، وإن كان محلّ عملياته هو الخارج.

وهذا النحو من الوجود لا يختصّ بالبنك، بل هو سارٍ في جميع الشخصيات الحقوقية من المؤسسات والشركات وغيرها، واعتبار الملكية للبنك بما أنّه شخصية حقوقية لا واقعية ولا خارجية لها وراء اعتبار العقلاء، وإن كان أمراً ممكناً، لكنّه عديم النظير في أقسام الملكية المعهودة في عصر التشريع، التي أمضاها الشارع.

وذلك لأنّ الملكية الممضاة من قبله:

إمّا تتّصف بها الأشخاص الحقيقية.

و إمّا العناوين، التي لها مصاديق خارجية من الأشخاص الحقيقية كعنوان الفقير الذي هو مالك الزكاة، وعنوان الهاشمي الذي هو مالك للنصف من الخمس؛ بناءً على كونهما مالكين لهما لا مصرفاً لهما، كما هو ليس ببعيد، وكعنوان الإمام الذي هو مالك للنصف الآخر من الخمس والأنفال والفي ء.

وأ مّا يتّصف بها جهة خاصة كجهة سبل الخير، أو زيارة مولى الكونين أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام.

و إمّا يتّصف بها (الملكية الممضاة شرعاً) العنوان الذي ينتزع من الشي ء الموجود في الخارج، الفاقد للشعور والإرادة، كعنوان المسجد الذي ينتزع من

ص: 293

مكان خاصّ وهو المكان المعدّ للعبادة بعد وقفه لها بشرائطه، وقد أمضى ملكيته لجميع ما يُملّك إليه.

هذه هي الملكيات التي أمضاها الشارع، ومن المعلوم أنّ ملكية عنوان البنك الذي لا يكون موجوداً إلّافي وعاء الاعتبار، خارجة عن جميع تلك الأقسام المعمولة الرائجة في عصر التشريع، وليس فيها مثيل لها، إذ الشخصية الحقوقية بأشكالها ومنها البنك، ليس لها عهد في عصر التشريع، و إنّما هي- كما صرح به أرباب علم القانون- وليدة القرن الثامن عشر بعد الميلاد، المقارن للقرن الثاني عشر من الهجرة النبوية صلى الله عليه و آله و سلم، فلا يمكننا استكشاف إمضاء الشارع لها باندراجها في بعض تلك الأقسام حتّى تشملها أدلّة الإمضاء الواردة فيه، وليس في الكتاب والسنّة عموم أو إطلاق يشمل هذه الملكية؛ لأنّ العمومات والإطلاقات المتصدّية لامضاء المعاملات مثل قول اللَّه سبحانه: يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «المؤمنون عند شروطهم»(2) وغيرهما، آبية عن الشمول للشخصيات الحقوقية ومنها البنك، لأنّها عناوين فاقدة للشعور والإرادة والعمل، وليس لها وراء الاعتبار حقيقة. فلا تصلح لتوجيه الأمر بالوفاء بالعقد أو الشرط إليها حتّى يستفاد منه بالملازمة، الصحة والإمضاء لملكيتها، كما لا تصلح لتوجيه النواهي التحريمية كالنهي عن أخذ الربا إليها، بل ولا أيّ حكم قانوني مشتمل على الأمر والنهي.

وبعبارة اخرى: أنّ فرض الملكية للبنك الحكومي، لا يتوجه إليه إشكال


1- المائدة( 5): 1 ..
2- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..

ص: 294

ثبوتي، فإنّ اعتبارها له أمر سهل، لا محذور فيه بعدما كان قوام الملكية بالاعتبار العقلائي، الذي هو خفيف المؤونة، ولا يتوقّف إلّاعلى وجود مصحّح له، والشاهد عليه أنّ العقلاء في جميع الأنظمة العالمية، يعاملون البنوك الحكومية، معاملة المالك.

و إنّما الإشكال في مرحلة الإثبات، وكشف الإمضاء الشرعي لهذا السنخ من الملكية، التي لا نظير لها في أصناف الملكية الممضاة شرعاً. والسيرة العقلائية المستقرة في زماننا على معاملة المالك مع البنوك، وترتيب آثار الملكية لها بالنسبة إلى ما يدفع إليها أو يقبض منها، حادثة في القرون الأخيرة وليست بلا ريب، متصلةً إلى عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام حتّى يستكشف من عدم ردعهم عنها الإمضاء لها.

ويترتّب على ذلك أنّ المبالغ التي تملّكها البنوك الحكومية إلى الأشخاص، تكون مجهول المالك، ولا يجوز التصرف فيها إلّابالرجوع إلى الحاكم الشرعي وإصلاح أمرها.

والجواب أولًا: أنّ عنوان البنك كبقية الشخصيات الحقوقية و إن كان أمراً اعتبارياً يتقوّم باعتبار العقلاء، إلّاأنّ عدّه فاقداً للمصداق الخارجي حتّى بأجزائه المقوّمة له ممنوع، وذلك لأنّ عنوانه، و إن لا يصدق على كلّ واحد من البناية، التي تجري فيها العمليات البنكية والهيئة الإدارية والنظام الأساسي والعمّال والمبالغ الموجودة فيه، ولكن مجموع هذه الامور بعد انضمام بعضها إلى بعض، مصداق لعنوان البنك ومنشأ لانتزاعه أو (بتعبير ادقّ) لاعتباره، نعم لا دخل لكلّ واحد من هذه الامور بشخصها الحقيقي في تحقيق مصداق البنك، بل بصنفها الحقوقي دخيل فيه، بمعنى أنّه لا يتقوّم بوجود شخص معيّن بعنوان المدير، ولا بناية معيّنة بعنوان

ص: 295

المركز للعمليات البنكية، ولا عمّال معينيين لسائر شؤونه، بل إنّما يتقوّم بهذه الامور على البدل.

وبهذا البيان ظهر أنّ عنوان البنك يكون كعنوان المسجد، الذي هو اسم على مكان خاصّ معدّ للعبادة مع وقفه قولًا أو فعلًا لها، و إنّما يفترق عنه من جهتين:

إحداهما: أنّ عنوان المسجد متقوّم بالانتزاع، والبنك متقوّم بالاعتبار العقلائي.

ثانيهما: أنّ مصداق المسجد بعد تحقيقه في الخارج لا ينقلب عمّا هو عليه من المصداقية له بخلاف مصداق البنك، فإنّ أركانه ما زال يقبل التبديل من مكان إلى آخر، ومن مدير إلى آخر، ومن عمّال إلى عمّال آخرين وهكذا.

وثانياً: على فرض التنزّل من الجواب الأوّل وقبول أنّ عنوان البنك لا مثيل له في العناوين المعهودة في عصر التشريع، أنّ الشخصيات الحقوقية ومنها البنك وإن لا يمكن توجيه الخطابات الشرعية ك أَوفُوا بِالعُقُودِ، الكاشفة عن الأحكام الوضعية كالملكية والصحة واللزوم، إليها بعدما كانت في جوهرها، متقوّمة بالاعتبار، ولكن يمكن استكشاف ترتّب هذه الأحكام عليها بتوجيه تلك الخطابات الحاملة للأحكام إلى المتولّين عليها كمدير البنك، أو من ينصبه رئيساً عليه كالوزير، أو الهيئة العملية الموظّفة لإدارة شؤون البنك، فكما إنّ في جميع المعاملات البنكية تجري الأحكام القانونية المعاملية المتضمنة للأمر والنهي، والمسؤول عقلًا وقانوناً لامتثالهما هي الهيئة العملية أو مدير البنك أو الوزير، فكذلك حال الأحكام الشرعية كوجوب الوفاء بالعقود تكليفاً الملازم للصحة واللزوم وحرمة أخذ الربا ونحوهما، إلّاأن نقول بعدم نفوذ ولاية المتولّين على البنك ولا الدولة وهو وجه آخر لنفي ملكية الدولة، وجميع الدوائر الحكومية سيأتي

ص: 296

تقريبه في الوجه الثاني.

مضافاً إلى ذلك أنّ ترتّب الأحكام الوضعية على الشخصيات الحقوقية المعنوية والإمضاء الشرعي لها، لا يتوقّف على القابلية لتوجيه الأمر والنهي إليها؛ وذلك لأنّا علمنا من العمومات والإطلاقات، الواردة في الأبواب المختلفة من المعاملات، أنّ بناء الشارع فيها ليس على التأسيس، والردع عمّا استقرّ عليه بناء العرف والعقلاء، بل على الإمضاء، وتنفيذ ما هو الدارج بينهم. ومن المعلوم أنّ من جانب ليست الأبنية العقلائية منحصرة بما استقرّت عليه في عصر التشريع، بل نفس الشارع واقف بأنّ العقلاء سوف يحدث لهم في الأزمنة المستقبلة إلى يوم القيامية أبنية اخرى على استواء حاجاتهم في إدارة شؤونهم المعاملية، ومن جانب آخر قد أعلن بأنّ دينه مستمر إلى يوم القيامة، وأنّ أحكامه لا يختصّ بزمان دون زمان، فلا محالة لو لم تكن تلك الأبنية العقلائية المستحدثة بعد عصر التشريع، ومنه بناؤهم على معاملة المالك مع البنوك، ممضاة له؛ لوجب عليه الردع عنه، كما ردع عن بعض السِير العقلائية، المستقرّة في عصر التشريع كبيع الخمر والخنزير فتأ مّل.

فبعد ملاحظة هذه النكتة ننتهي إلى نتيجة بيّنة، وهي أنّ عدم ورود الردع حتّى بعموم أو إطلاق من الشارع عن ملكية الشخصيات الحقوقية مثل البنوك والشركات والمؤسسات كاشف عن إمضائه لها. هذا.

ولكن مقتضى التحقيق أنّ هذه السيرة بذلك البيان، لا يمكننا إحراز إمضائه وعهدة إثباته على مدّعيه، مضافاً إلى ذلك أنّ لمنكر ملكية الدولة أن يدّعي أنّ هذه السيرة بالنسبة إلى البنوك الحكومية والدوائر المتعلّقة بالدولة مردوع عنها، وسيأتي بيان الردع في الوجه الثاني إن شاء اللَّه تعالى، فالعمدة هو الجواب الأوّل والثاني.

ص: 297

وبما تقدّم ظهر أنّ مستند السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في فتواه المتقدّمة بترتّب حكم مجهول المالك على الوجوه، التي تقبض من البنوك الحكومية، ليس هذا الوجه، كيف وهو قد صرّح بملكية العناوين والجهات في مواضع شتّى من كلماته في باب الزكاة والخمس، بل في الشخصيات الحقوقية الأهلية كالبنك الأهلي والشركات الأهلية.

وإليك نموذج من كلماته الصريحة في أنّ الجهة قابلة للملكية، وإنّما الإشكال من ناحية عدم ثبوت الولاية لها ولا لغيرها عليها إلّاالحاكم الشرعي، ومن هنا إن كانت تحت ولايته يتمّ ملكيته؛ حيث استفتى السائل عن سماحته بقوله: «الجهات العامّة كالجمعيات الخيرية والتكتّلات الاجتماعية والسياسية هل تعامل أموالها- بنظركم سيّدي- معاملة المجهول مالكها كالمؤسسات الحكومية، أم أنّها تملك الأموال كالأفراد والأشخاص؟».

وأفاد قدس سره في الجواب عنه ما إليك لفظه:

«إن كان المال ملكاً للفرد أو الأفراد بالشركة بحيث إذا مات انتقل إلى وارثه فهو مالكه دون الجهة، وإن أعطى المال للجهة نفسها دون أشخاصها بحيث لا تتبدّل أشخاصها، كعنوان العلماء مثلًا، فبما أنّ تملّك المتبرّع له يتوقّف على قبوله وقبضه، وقبض الفرد أو الأفراد ليس قبضاً للجهة، بل لابدّ من قبول الولي الشرعي وقبضه كحاكم الشرع، فإن حصل ذلك أصبح المال ملكاً للعنوان، وإلّا بقي على ملك مالكه الأوّل، فإن عرف ردّ إليه وإلّا فالمال المتبرّع به يعتبر مجهول المالك، نعم إذا عيّن المتبرّع مصرفاً لتبرعه لزم صرفه فيه ولا حاجة إلى قبول أحد، ولا يكون حينئذٍ من

ص: 298

مجهول المالك في بعض صوره الآنفة الذكر»(1).

وبما ذكرنا، ظهر أنّ ما ادّعاه المحقّق الشهيد المطهري قدس سره «من أنّ دليل منكر الملكية للدولة والبنوك هو أنّها ليس لها وجود حقيقي وما لم يكن ذا وجود حقيقي غير قابل للإتصاف بالملكية»(2)، ليس في محلّه.

ما هي حقيقة الشخصية الحقوقية؟

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا في بيان حقيقة ملكية البنك وبنينا عليها الجواب عن الوجه الأوّل، مبني على المبنى المعروف في حقيقة الشخصية الحقوقية بين ارباب علم الحقوق.

وتفصيل ذلك أنّ علماء علم القانون، قد تضاربت آراؤهم في جوهرة الشخصية الحقوقية منذ حدثت في أوائل القرن الثامن عشر من الميلاد، المقارن للقرن الثاني عشر من الهجرة النبوية، على مسالك ثلاثة نبيّنها على ما يلي:

المسلك الأوّل: مسلك الحقيقية: (في قبال مسلك المجازية والاعتبارية) ومغزى هذا المسلك ولبّه أنّ الشخصية الحقوقية كالبنوك والشركات بأشكالها من السهامية والتجارية والتضامنية وغيرها لها وجود خارجي مستقل وراء المؤسّسين له، ولها إرادة وراء إرادة كلّ واحد منهم. وهذا الوجود الحقيقي عبارة عن هيئة المؤسّسين، ولكن لا بأنفراد كلّ واحد منهم بما أنّه شخص حقيقي وراء حقوقي، بل بوصف اجتماعهم، والهيئة المؤسّسة بهذا الوصف لها وجود خارجي وراء وجود


1- صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 1: 412 ..
2- مسأله ربا: 140 ..

ص: 299

أفرادها. والسبب الأساسي لاتخاذ هذا المسلك الذي هو عمدة الدليل على اختياره، هو أنّ القائلين به رأوا من جانب أنّ القواعد الحقوقية متضمّنة للأوامر والنواهي، ضرورة أنّ قاعدة الضمان والدين مثلًا تتضمن وجوب أداء ما على ذمة الضامن والمدين، ومن جانب آخر رأوا أنّ من يصلح لتوجيه الأمر والنهي إليه ليس إلّامن كان ذا شعور و إرادة، وهو منحصر في الإنسان الذي يسمّى في اصطلاحهم بالشخص الحقيقي، ويترتّب على هذين الأمرين أنّ الشخصية الحقيقية لا يتعقّل أن تكون عنواناً مجعولًا فاقداً للشعور والإرادة كنفس عنوان البنك أو الشركة غير صالح لتوجيه القواعد الحقوقية إليه.

ومن هنا ذهبوا إلى أنّ الشخصية الحقوقية ليست من سنخ العناوين العقلائية، التي ليس لها شي ء من الوجود الحقيقي الخارجي، بل هي حقيقة اخرى لها حظّ من الوجود الخارجي، وهي هيئة المؤسّسين بوصف اجتماعهم، واعتقدوا أنّ الهيئة بهذا الوصف لها وجود أصيل وراء وجود كلّ فرد منهم بشخصه، ولها إرادة وراء إرادة كلّ منهم بانفراد، ولها حياة اشتراكية وآثار جمّة في الامور الاقتصادية والاجتماعية بل السياسية. والهيئة بهذا الوصف قابلة لتوجيه الأمر والنهي القانونيين إليها.

هذا ملخّص مغزى هذا المسلك، وقد اختاره جماعة من متقدمي علم القانون كالكيرك من آلمانيا والهورنيو من فرنسا.

ولكن مقتضى التحقيق أنّ هذا المسلك وهين جدّاً، لا يمكننا الالتزام به.

وذلك لأنّه مبني أوّلًا على القول بأنّ هيئة المؤسّسين، لها وجود خارجي مغاير لوجود أفرادهم، وهو محلّ إشكال بل منع؛ لأنّ الهيئة إن لوحظت بالنظر إلى وجودها الخارجي، فهي مركبة من نفس الأفراد، وليست خارجيتها وراء وجودهم، وإن لوحظت بالنظر إلى أنّها تحكي عن وصف الاجتماع، فلا شك في

ص: 300

أ نّها وإن كانت حينئذٍ أمراً آخر مغايراً لوجود الأفراد، إلّاأنّ وصف الاجتماع عنوان اعتباري، لا يفيد ما استهدفه القائلون بهذا المسلك من إثبات وجود خارجي لها.

وثانياً: أنّه مبني على عدم إمكان تصحيح توجّه الأوامر والنواهي، التي تشملها القواعد الحقوقية إلى الشخصية الحقوقية، إلّابافتراض نحو وجود خارجي له، قابل لتوجيه تلك الخطابات إليه، مع أنّه يمكن تصحيحه بوجه آخر مع عدم افتراضها ذا حقيقة خارجية، وهو أنّ الشخصية الحقوقية وإن كانت في جوهرها هو العنوان المتقوّم باعتبار العقلاء، ولكن من مقوّماتها وأركانها في اعتبارهم وجود شخص حقوقيّ، أو أشخاص حقوقية يتصدّون لشؤونها (كرئيس البنك ومدير الشركة أو الهيئة الإدارية) والقواعد الحقوقية المشتملة على الأمر والنهي، وكذا الأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة إنّما تتوجّه إلى ذلك المتصدي والمتولّي لشؤون الشخصية الحقوقية. وسيأتي توضيحه في بيان المسالك الثالث (اعتبارية الشخصية الحقوقية).

الثاني: مسلك المجازية، ويستهدف هذه النظرية أنّ الشخصية الحقوقية أمر مجازي، إنشاؤها بيد الدولة، كما أنّ إزالتها بيدها بمعنى أنّ في جميع العناوين، التي لها شخصية حقوقية، ويترتّب عليها أحكام وآثار حقوقية كالملكية والدين واشتغال الذمّة له أو عليه والضمان وغيرها، الذي يكون له تلك الأحكام الحقوقية وتسند إليه عند العقلاء، بلا عناية ومجاز، هي الأشخاص الحقيقية، ولكن تسهيلًا للأمر تجعل الدولة، وتعتبر عناوين حقوقية كعنوان الشركة السهامية، أو التجارية، أو التضامنية أو البنك ونحوها، مالكاً للأموال المتعلّقة بها، وبالطبع تستند إلى هذه العناوين، تلك الأحكام بنحو المجاز- أي المجاز في الاسناد الذي هو مجاز عقلي لا المجاز في الكلمة، الذي هو مجاز لغوي- فيقال: الشركة ربحت أو خسرت، أو هي دائنة أو

ص: 301

مدينة، مع أنّ من يتّصف بحسب الواقع إلى الربح أو الخسران، أو الدين له أو عليه، إنّما هي الأشخاص الحقيقية المؤسّسة للشركة، إلّاأنّ الدولة لغرض التسهيل في الامور، تعتبر للشركة وصف الملكية، فيسند إلى الشركة، بسبب هذا الاعتبار، تلك الأوصاف الحقوقية بالعناية والمجاز.

ولكن مقتضى التحقيق أنّ هذه الفكرة، وإن كانت ممكنةً ثبوتاً، إلّاأنّه لا طريق لنا إلى استكشافها إثباتاً، وذلك لأنّ هذه الفكرة يعني مجازية الشخصية الحقوقية مهجورة عند العرف الخاصّ والعامّ:

أ مّا العرف الخاصّ فلأنّ جمهور المتأخرين من علماء القانون متفقون على ردّها.

وأ مّا العرف العامّ والعقلاء، الذين هم المرجع الوحيد لاستكشاف المفاهيم المعاملية، فإنّهم يأبون عن قبول كون الشخصيات الحقوقية، ذات وجود مجازي، وافتراض الأحكام الحقوقية لها مجازاً، فإنّهم يرون البنك مثلًا مالكاً للأموال والممتلكات المتعلقة به، حقيقةً كما يرونه دائناً أو مديوناً أو مضموناً عنه أو مضموناً له حقيقةً، كما أنّ الأموال المتعلّقة بالشركات بأشكالها من السهامية، أو التضامنية، أو التجارية، لا تعدّ عندهم ملكاً لمؤسّسها حقيقةً، مع كون استنادها إليها مجازاً، بل هم يرونها في اعتبارهم ملكاً لها حقيقةً، ويسندون إليها آثار الملكية من الإقراض والاقتراض والغرامة والربح والخسران بلا عناية ومجاز.

مضافاً إلى ذلك أنّ هذا المسلك ينتقض بنفس عنوان الدولة؛ ضرورة أنّه من الشخصيات الحقوقية، والمفروض على ذلك المسلك أنّ قوام الشخصية الحقوقية إنّما هو بإنشاء الدولة، فيلزم أن يتوقف وجود عنوان الدولة بما له من الشخصية الحقوقية على إنشاء الدولة، وهذا دور واضح باطل.

ص: 302

الثالث: مسلك الاعتبارية: وهذا المسلك الحقوقي رزح بين المسلك الأوّل القائل بأنّ الشخصية الحقوقية لها وجود حقيقي خارجي بالتقريب المتقدّم، وبين المسلك الثاني، القائل بأ نّها مجاز، ليس لها حظّ من الحقيقة تعتبرها الدولة لغرض تسهيل الامور.

وبيان هذه الفكرة هو أنّ الشخصية الحقوقية لها وجود حقيقي لا مجازي، ولكنّه ليس من سنخ الواقعيات الخارجية، التي لها تأصّل في الخارج، ولا تدور مدار أيّ اعتبار ولحاظ، بل هي من سنخ الاعتباريات، التي تتقوّم باعتبار العقلاء، وليس لها وراءه حقيقة اخرى، فلاحظ البنك مثلًا الذي هو من أبرز مصاديق الشخصية الحقوقية، فإنّه ليس في جوهره البناية، التي تدار فيها العمليات البنكية، ولا الهيئة المتصدّية لأدارته ولا رئيس البنك بشخصه الحقيقي، بل ولا بشخصه الحقوقي، وإنّما هو عنوان قانوني اعتبره العقلاء لمركز ذي نظام أساسي، وهيئة متصدّية للعمليات البنكية، وتمويل من الدولة بمقدار معتدّ به من الأوراق النقدية، ورئيس معيّن من قبل الدولة. وإن شئت قلت: إنّ البنك عنوان اعتباري عقلائي متقوّم بهذه الامور بأجمعها، بعد انضمام بعضها إلى بعض، ولكن لا بشخصها، بل بصنفها بالتوضيح المتقدّم في الجواب والأوّل عن الوجه الأوّل، ويترتّب عليه عناوين حقوقية، كالملكية والضمان والدين والإقراض، وغيرها من الأحكام الوضعية، ولا تتّصف بهذه الأوصاف على نحو المجاز، بل على وجه الحقيقة، كما أنّه قابل لتوجيه الأحكام القانونية، وكذا الأحكام الشرعية من الواجب والحرام إليه، إلّاأنّ المخاطب بها والمسؤول عنها هو المتصدّي والمتولّي عليه كرئيس البنك.

وهذه النظرية يساعدها العرف العام كما عليه أكثر أرباب عالم الحقوق، وسيأتي مزيد تحقيق حول هذا المبحث في فصل أحكام البنوك إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 303

الوجه الثاني على إنكار ملكية الدولة والبنوك

الوجه الثاني على إنكار ملكية الدولة وأيّ شخصية حقوقية متعلّقة بها كالبنوك والشركات الحكومية، ومعاملة مجهول المالك مع الأموال المقبوضة منها على وجه التمليك، إنّ تصرّفات الدولة، ومنها العمليات البنكية، وغيرها من الدوائر الحكومية، غير مشروعة وضعاً، لأنّ مشروعية هذه التصرفات، متفرّعة على شرعية ولاية الدولة، وهي غير ثابة، بل الثابت عدمها، إلّاأن يكون رأس الدولة، فقيهاً جامعاً للشرائط، فحينئذٍ يصير بنفوذ ولايته، جميعُ التصرفات الحكومية مشروعة، ويترتّب عليها آثارها الوضعية من صحة التمليك والتملّك والضمان والدين لها أو عليها ونحوها.

وتوضيح ذلك أنّ من الشخصيات الحقوقية المتعلّقة بالدولة، هي البنوك غير الأهلية، ومن المعلوم أنّ لها عمليات معاملية مختلفة من المراجعين إليها تتحقّق بأيدي متولّيها وعمّالها.

فتارةً: يقبض البنك الوجوه المتعلّقة بالدولة، ويتملكها من قبلها.

واخرى: يدفع مبلغاً إلى غيره على وجه القرض.

وثالثةً: يقبض أقساطه.

ورابعةً: تدفع إليه وجوه مالية من أشخاص عديدة على وجه التوكيل للمضاربة.

وخامسةً: يدفع هذه الوجوه إلى العمّال المضاربين للاتّجاز بها من الشخصيات الحقيقية أو الحقوقية كالشركات بشتّى أشكالها.

وسادسةً: يقبض البنك أرباح تلك المضاربات.

وسابعةً: يودع لديه الأشخاص نقودهم.

ص: 304

وثامنةً: يدفع ودائعهم، وهكذا.

وهذه العمليات البنكية بأشكالها المختلفة، لا تقع في الحقيقة بين المراجعين إلى البنك وبين عمّال البنك بأشخاصهم الحقيقية، ولا بينهم وبين رئيس البنك بشخصه، بل ولا الهيئة الإدارية بأشخاصهم، و إنّما تقع بين المراجعين إلى البنك ونفس البنك بوساطة العمّال، الذين نصبوا متولّين ومتصدّين لشؤونه المختلفة، والمالك الحقيقي عند العقلاء للمبالغ، التي تدفع إلى البنك على وجه التمليك هو نفس البنك، كما أنّ الموصوف بالعناوين المعاملية الأخرى كالضامن والمضمون عنه والمضمون له والمقرض والودعي ونحوها، هو نفس البنك لا عمّاله، هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ عمّال البنك إنّما يعملون العمليات البنكية بعنوانهم الحقوقي الحاصل بولايتهم المجعولة من قبل رئيس البنك مثلًا أو أي مقام قانوني آخر وهو أيضاً يعمل بولايته المجعولة من جانب مثل الوزير، وهكذا إلى أن تنتهي سلسلة الحلقات إلى مثل الوالي أو أي مقام قانوني، وحينئذٍ فإن لم يكن الوالي ذا ولاية شرعية كالفقيه الجامع للشرائط أو وكيله من باب الحسبة أو أي دليل آخر، فلا محالة يكون جميع التصرفات الواقعة في جميع الدوائر الحكومية ومنها البنوك، فاسدة وضعاً، ولا يترتّب عليها أي أثر شرعي يتوقع منها إذا كانت صحيحة.

وهذا مراد السيّد المحقّق الخوئي قدس سره بقوله- في الجواب عن السؤال من حكم التمليك للجهات العامّة كالجمعيات الخيرية والتكتلات الاجتماعية والسياسية-: «فبما أنّ تملّك المتبرع له يتوقّف على قبوله وقبضه وقبض الفرد أو الأفراد ليس قبضاً للجهة، بل لابدّ من قبول الولي الشرعي وقبضه- كحاكم الشرع- فإن حصل ذلك، أصبح المال ملكاً للعنوان وإلّا بقي على ملك مالكه الأوّل، فإن

ص: 305

عرف ردّ إليه وإلّا فالمال المتبرع به يعتبر مجهول المالك(1).

ومن هنا يظهر الإشكال في مقالة المحقّق الفيّاض سلمه اللَّه تعالى في التفريق بين ملكية الدولة والبنوك، من أنّ الدولة لمّا تتملّك الأموال بعنوان الوكالة عن غيره أو الولاية عليه فلا محالة يتوقّف جواز تملّكها على نفوذ وكالتها أو ولايتها، وأ مّا البنوك فهي ذات شخصية مستقلّة لا تتملّك الأموال بعنوان الوكالة عن الغير أو الولاية عليه حتّى يتوقّف نفوذ تملّكها على إحراز نفوذهما، وإليك نصّ كلامه:

«وقد تسأل أنّ البنك إذا كان حكومياً فيرتبط تملّكه للمال بتملك الحكومة على أساس أنّه فرع من فروعها، والمفروض أنّ الحكومة لا تملك ولا نقول بذلك.

والجواب: أنّ البنك من جهة مالية ذات شخصية مستقلّة فيملك المال بنفسه وباسمه لا بعنوان الوكالة عن غيره أو الولاية عليه لكي يتوقّف نفوذ تصرّفه وتملّكه على إثبات الوكالة أو الولاية، وعلى هذا، فلا يتوقّف تملّك البنك للمال على أيّ مقدّمة. وبكلمة أنّ البنك في نفسه قابل لأن يتملّك شيئاً سواء أكان بالتمليك أم بالاستيلاء وبذل الجهد ولا يكون ذلك مشروطاً بشي ء ولا هناك مانع يمنع عنه.

وهذا بخلاف الحكومة؛ فإنّها شخصية آلية تعمل بعنوان الوكالة عن الملّة والرعية والممثلة لهم أو بعنوان الولاية عليهم، فمن أجل ذلك يتوقّف إمّا على أساس أنّ الحكومة وكيلة من قبلهم جميعاً، أو على أساس أنّها ولية عليهم كذلك نفوذ تصرّفاتها وتملّكها للمال سواء أكان بالتمليك من قبل الغير أم بالاستيلاء من الإحياء أو الحيازة ونحوهما يتوقّف على توفّر أحد هذين العنصرين فيها، إمّا الوكالة أو الولاية، وحيث إنّ شيئاً منهما غير متوفّر في الحكومات الحاضرة في البلاد


1- صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 1: 412 ..

ص: 306

الإسلامية فعلًا فلا تكون تصرّفاتها نافذة...»(1) إلى آخره.

ووجه ظهور الإشكال عليه: أنّ البنك الحكومي وإن كان ذا شخصية قانونية مستقلّة في اعتبار العقلاء مبائنة مع الشخصية القانونية التي للدولة، ولكنّها ليست أجنبية عن الدولة وغير محتاجة في تكوّنها إليها بالمرّة؛ لأنّ البنك متقوّم على حسب القانون في الأنظمة العالمية برئيس البنك والهيئة الإدارية، ولاشكّ في أنّ تعيين هؤلاء بما لهم من العناوين الحقوقية وتعينهم في مناصبهم القانونية ينتهي إلى الدولة، كما أنّ من مقوّماته أيضاً تمويل مقدار معتدّ به من رأس ماله من قبل الدولة، وحينئذٍ لو فرضنا أنّ ولاية الدولة غير نافذة، فلا محالة يصبح بتبع عدم نفودها جميع الحلقات من الشخصيات الحقوقية التي ينتهي اعتبارها إلى الدولة ومنها البنوك غير نافذة.

ولا يمكن فرض استقلال البنك عن الدولة بمعنى عدم تقوّمه بها بالمرّة، حتّى يسع المجال لقوله: «إنّ البنك جهة مالية ذات شخصية مستقلّة فيملك المال بنفسه وباسمه».

نعم البنك الأهلي مستقلّ عن الدولة ولا يتقوّم بها ولا يتوقّف شي ء من الامور المكوّنة له على الدولة، ولا إشكال في نفوذ جميع تصرّفاته المشروعة المورثة للتمليك أو التملّك له ولكنه خارج عن محلّ النزاع.

ثمّ إنّه يترتّب على ما ذكرنا في تقريب الوجه الثاني، أنّ العمليات البنكية إذا وقعت بغير ولاية شرعية لعمّالها، كما هو الحال في جميع الأنظمة العمالية في البلاد الإسلامية وغيرها، إلّاما كان حاكمه، الفقيه الجامع للشرائط، فلا تصير البنوك


1- أحكام البنوك: 14 ..

ص: 307

مالكةً للوجوه المالية، التي تدفع إليها على وجه التمليك بأيّ عنوام معاملي كما لا تكون مالكة لما يؤخذ منها على وجه القرض أو الربح أو الجائزة، بل هي في الأولى باقية على ملك صاحبها، يتوقّف إفرازها له على إجازة الحاكم الشرعي، وفي الثانية مجهول المالك، لا يجوز أخذها إلّابإصلاح أمرها بالرجوع إلى الحاكم الشرعي.

وهذا الوجه لو تمّ، يقتضي الحكم بمعاملة مجهول المالك مع جميع الأموال المقبوضة من الدول الإسلامية، التي ليس على رأسها حاكم شرعي.

والظاهر هو أنّ هذا الوجه هو المستند الوحيد في فتوى السيّد المحقّق الخوئي قدس سره، بأنّ المبالغ التي تُقبض من البنوك، في حكم مجهول المالك، لا يصلح أمرها إلّابالرجوع إلى حاكم شرعي، وإن لم يذكر مستنده لهذه الفتوى في كتبه الفتوائية، ولا كتبه الاجتهادية المفصّلة.

ما هو الفارق بين البنوك الحكومية والأهلية؟

وما ذكرنا وجهاً لفتواه هو الفارق الأساسي لتفصيله بين البنوك الحكومية والأهلية، فإنّ الاولى غير مشروعة في تصرفاتها بعد عدم شرعية ولاية متولّيها فيما لم تكن عملياتها تحت ولاية حاكم شرعي، بخلاف الثانية فإنّ تصرفاتها تقع تحت ولاية أشخاص حقيقية، أقدموا أنفسهم على تأسيس البنك بتمويل رأس ماله من أموالهم وتولية امورها، وجميع الشؤون المتعلق بها ولاشكّ في أنّ ولاية الأشخاص الحقيقية على أموالهم وممتلكاتهم وما يتعلّق بهم، شرعية كما هي مقتضى القاعدة المعروفة المسلّمة ب «الناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم».

ومن هنا تصير الوجوه، التي تملّك إلى البنوك الأهلية، ملكاً لها من دون أن

ص: 308

يلزم منه أيّ محذور فقهي، كما أنّ المبالغ التي تجعل وديعةً عندها، تكون وديعةً شرعية.

نعم لو كان مستنده في القول بعدم ملكية الدولة والشخصيات الحقوقية الحكومية، عدم تعقّل تصوير الملكية لها عقلًا كما قد يتوهّم، لما كان وجه لتفصيله بين البنوك الحكومية والأهلية، بعد اشتراكهما في أنّ جوهرهما من سنخ الشخصيات الحقوقية. ولكن تقدّم تفصيلًا في الجواب عن الوجه الأوّل، أنّ هذا الكلام غير تامّ من جهات شتّى، وفتوى السيّد المحقّق الخوئي قدس سره غير مبنية عليه، بل مستندها ليس إلّاالوجه الثاني، وقد عرفت أنّ التفصيل بين البنوك الحكومية والأهلية على ضوء هذا الوجه تامّ وجيه.

المناقشات على الوجه الثاني والجواب عنها

ويمكن أن يجاب عن هذا الوجه بوجوه:

الجواب الأوّل

إنّ القول بعدم ملكية الشخصيات الحقوقية، ومنها الدولة، والبنوك الحكومية، يستلزم العسر والحرج المنفي في الإسلام، كما قال اللَّه سبحانه: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1) الناظر إلى نفي الحكم الحرجي في عالم التشريع، لأنّ الأوراق النقدية، التي بأيدي الناس في البلاد الإسلامية إنّما تأخذ بالمآل من البنوك الحكومية، وحينئذٍ، لو حكمنا بعدم كونها ملكاً للبنوك الحكومية وأ نّها يعامل معها


1- الحج( 22): 78 ..

ص: 309

معاملة مجهول المالك، يلزم منه العسر والحرج الشديد، والحكم الحرجي منفي في الشرع، فيكشف به إمضاء الدولة والشخصيات الحقوقية، التي تدار تحت ولايتها كالبنوك، ولا أقلّ يستكشف به إمضاء ملكية المسلمين بالنسبة إلى الأموال، ولا سيّما الأوراق النقدية، التي يأخذونها من البنوك أو أيّ دائرة حكومية.

ويرد عليه: أنّ دليل نفي الحرج، كما عليه أرباب أهل التحقيق، لا يتصدّى إلّا لنفي الحكم الحرجي، وأ مّا الإثبات فلا، ومن هنا فعلى فرض لزوم الحرج، وعدم التخلّص عنه بالمراجعة إلى الفقيه الجامع للشرائط، لا يبقى مجال لاستكشاف ملكية الدولة ولا البنوك الحكومية، بل ولا ملكية من يأخذ الأوراق النقدية أو أيّ مال آخر على وجه أيّة معاملة شرعية.

الجواب الثاني

وهو العمدة، أنّ الإسلام على ما نطقت به نصوص معتبرة هو الشريعة السهلة السمحاء، ففي موثّقة ابن القدّاح (هو عبداللَّه بن ميمون الثقة) عن أبي عبداللَّه عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في حديث: «لم يرسلني اللَّه بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السمحة»(1).

ومن المعلوم أنّ الحكم بعدم ملكية الدولة وغيرها من الشخصيات الحقوقية المتعلّقة بها كالبنوك الحكومية، مستلزم للعسر والحرج الشديد، بل ينتهي إلى الإخلال في النظام للمؤمنين، ولا يمكن الالتزام به ضرورة أنّ معاملاتهم بشتّى أشكالها من البيع والصلح والإجارة والمضاربة والشركات بأصنافها، ما زالت تدور


1- وسائل الشيعة 20: 106، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 1 ..

ص: 310

على الأثمان الرائجة من الأوراق النقدية، وهي في أوّل وهلة حدوثها إنّما تصدر من قبل الدولة والبنوك، فيلزم على مبنى إنكار ملكية الدولة والبنوك، أن تكون جميع الأوراق النقدية من الاسكناس والدولار والدينار والريال واليُورُ وغيرها، الجارية في أيدي الناس، مجهول المالك، ويترتّب عليه فساد معاملاتهم أو كلّها، بل يلزم من فسادها، فساد بعض عباداتهم التي اشترط فيها ما يتوقف على الملكية كالصلاة والطواف والإحرام المشروط فيها إباحة الستر وفي الأوّلين إباحة الماء للوضوء لهما، بل في الاولى إباحة المكان أيضاً.

وهكذا النذورات والصدقات، التي تتوقف صحتها على ملكية المال المنذور به أو المتصدّق به، والمفروض أنّ جميع هذه الامور إنّما تتملّك بلا واسطة أو مع واسطة بعوضية الأوراق النقدية غالباً المأخوذة في أوّل حدوثها من البنوك.

والوجه في استلزام ذلك المبنى بطلان المعاملات أنّها تارةً: تقع شخصية ثمناً أو مثمناً، واخرى: تقع كلّيةً كذلك، وكلا القسمين إمّا يكون على ذلك المبنى باطلًا، و إمّا يستلزم عدم إمكان إفراغ الذمة أبداً.

أ مّا المعاملات الشخصية التي تقع بين المبيع الجزئي المعيّن مثلًا وبين الورق النقدي المعيّن، فوجه فسادها واضح، إذ المفروض أنّ البيع ينشأ على عوض معين ليس ملكاً للمشتري، هذا إذا كان المبيع ملكاً للبائع بمثل الحيازة، وأ مّا إذا ملكه أيضاً بالتملك من الدولة، أو باشترائه بورق نقدي معيّن، فيكون البيع حينئذٍ باطلًا من الجانبين ثمناً ومثمناً.

وأ مّا المعاملات الكلّية الواقعة على العوضين الكلّيين، أو على المبيع الجزئي مثلًا، وبين الورق النقدي الكلّي فهي، و إن لم تكن فاسدة حتّى على ذلك المبنى، لأنّ الثمن هو الكلّي الثابت على الذمة، ولكن يلزم من ذلك المبنى عدم إمكان إفراغ

ص: 311

المشتري ذمته بأداء مصداق الثمن الكلّي، إذا المفروض أنّ جميع مصاديقه مجهول المالك.

فصوناً من هذه المعضلة العظيمة- التي لا توافق سهولة الإسلام- يعني لزوم إخلال النظام المعاملي بل العبادي، يجب الحكم بملكية الدولة، والعناوين الحقوقية المتعلّق بها كالبنوك، ولا أقلّ من أن نستكشف بها أنّ مجتمع المؤمنين يملكون الأموال، التي تصل إليهم من جانب الدولة، أو البنوك الحكومية من الأوراق النقدية وغيرها، على وجه أيّة معاملة شرعية من القرض أو المضاربة ونحوهما.

ويرد عليه: أنّ دفع إخلال النظام المعاملي والعبادي، لا يتوقف على إمضاء الشارع لملكية الدولة، التي ليست ولايتها مشروعة بحسب الفرض، إذ يمكن رفع إخلال النظام بالإذن العام من الفقيه الجامع للشرائط، لتملّك جميع المؤمنين الأموال التي يأخذونها من الدولة على وجه معاملة شرعية من المضاربة أو القرض أو البيع ونحوها. سواء أكانت من الأوراق النقدية أم من غيرها. كما أنّ المعاملات الواقعة على الأموال التي تعلّق بها الخمس ولم يدفعه صاحبها، إنّما تنفذ بالنسبة إلى الخمس من تلك الأموال بإجازة الفقيه.

وهذا طريق الجمع بين عدم مشروعية ولاية الدولة، وعدم نفوذ تصرفات دوائر الدولة، ومنها البنوك الحكومية، وبين حفظ الأمّة عن إخلال النظام المعاملي، بل العبادي المتقدّم بيانه.

إن قلت: إنّ أكثر المؤمنين غافلون عن كون الأموال، التي يأخذونها من الدولة، ليست ملكاً لها، بل هي مجهولة المالك، ويجب إصلاح أمرها بالرجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط؛ لأنّ كثيراً منهم لا يلتزمون بالتقليد، والمقلّدون منهم إمّا يقلّدون فقيهاً يقول بملكية الدولة، وإمّا غافلون عن هذه المسألة، و إمّا يرسلون

ص: 312

ملكيتها إرسال المسلمات، وحينئذٍ لا يعقل رجوعهم إلى الفقيه الجامع للشرائط القائل بعدم الملكية، والاستئذان منه لتملّك الأموال، التي يأخذونها من الدوائر الحكومية ومنها البنوك؛ لكي يرتفع بإذنه إخلال النظام المذكور.

قلت: إنّ نفوذ إذن الفقيه الجامع للشرائط في حقّ مجتمع المؤمنين، لا يتوقّف على رجوعهم إليه والاستئذان منه، بل له إصدار الإذن العام، صوناً لإخلال النظام المذكور، وهو نافذ في حقّ جميهم حتّى الغافلون منهم عن كون الأموال، التي تصل إلى أيديهم من البنوك الحكومية وغيرها من دوائر الدولة، مجهولة المالك.

إن قلت: إنّ الفقيه الجامع للشرائط ليس له إذن العام للمجتمع بالشكل المذكور، لتملّك ما يأخذون من أية دائرة للدولة من البنوك وغيرها، إلّاعلى القول بولاية الفقيه بهذا النطاق الواسع، والسيّد المحقّق الخوئي قدس سره لا يقول بها بهذه السعة.

قلت: بعدما فرضنا أنّ الحكم بعدم ملكية الدولة والبنوك الحكومية، ينتهي إلى اختلال النظام المعاملي بل العبادي بالبيان المتقدّم، فلا محالة يصير هذا الأمر من الامور الحسبية الهامة، التي لا يرضى الشارع بإهمالها، ويترتّب عليه أنّ اهتمام إقدام الفقيه الجامع للشرائط على تصحيح جميع معاملات مجتمع المؤمنين بإعمال الولاية، وذلك بإصدار الإذن العامّ لهم، ليس أقلّ من اهتمام التولية على امور الغيّب والقصّر من الأيتام والمجانين والسيّد المحقّق الخوئي قدس سره لا ينكر نفوذ تصرّفات بالنسبة إلى الامور الحسبية بنطاقها الواسع، بل هو قائل بأنّ دائرة الامور الحسبية تتسع إلى الجهاد الابتدائي، حيث إنّه أفتى أخيراً على خلاف المشهور بوجوب الجهاد الابتدائي تحت ولاية الفقيه الجامع للشرائط، وهذه عبارته في كتاب الجهاد من منهاج الصالحين:

ص: 313

«وقد تحصّل من ذلك أنّ الظاهر هو عدم سقوط وجوب الجهاد في عصر الغيبة وثبوته في الأعصار كافّة لدى توفّر شرائطه، وهو في زمن الغيبة منوط بتشخيص من ذوي الخبرة في الموضوع أنّ في الجهاد معهم مصلحة للإسلام على أساس أنّ لديهم قوّة كافية من حيث العدد والعدّة لدحرهم بشكل لا يحتمل عادة أن يخسروا في المعركة، فإذا توفّرت هذه الشرائط عندهم، وجب عليهم الجهاد ومقاتلتهم... فهل يعتبر فيها إذن الفقيه الجامع للشرائط أم لا؟ يظهر من صاحب الجواهر قدس سره اعتباره بدعوى عدم ولايته بمثل ذلك في زمن الغيبة، وهذا الكلام غير بعيد بالتقريب الآتي، وهو أنّ على الفقيه أن يشاور في هذا الأمر المهمّ أهل الخبرة والبصيرة من المسلمين، حتّى يطمئن بأنّ لدى المسلمين من العدّة والعدد ما يكفي للغلبة على الكفار الحربيين، وبما أنّ عملية هذا الأمر المهمّ في الخارج بحاجة إلى قائد وآمر، يرى المسلمون نفوذ أمره عليهم، فلا محالة يتعيّن ذلك في الفقيه الجامع للشرائط، فإنّه يتصدّى لتنفيذ هذا الأمر المهمّ من باب الحسبة على أنّ تصدّي غيره لذلك يوجب الهرج والمرج، ويؤدّي إلى عدم تنفيذه بشكل مطلوب وكامل»(1).

فقد ظهر بما تقدّم أنّ الامور الحسبية، التي للفقيه الجامع للشرائط فيها الولاية لا تنحصر عند السيّد المحقّق الخوئي قدس سره بمثل امور الغيّب والقصّر والأوقاف الجزئية، بل تعمّ لمثل النظارة على الجهاد الابتدائي إذا اجتمعت شرائطه، وكذا لإصدار الإذن العامّ لمجتمع المؤمنين بالنسبة إلى الأموال التي يأخذون من الدوائر الحكومية ومنها البنوك.


1- منهاج الصالحين 1: 366- 367 ..

ص: 314

الجواب الثالث

عن الوجه الثاني؛ لنفي ملكية الدولة والشخصيات الحقوقية المتعلّق بها كالبنوك الحكومية.

إنّ المستفاد من النصوص المستفيضة المعتبرة أنّ الأموال التي تؤخذ من ذوي الولايات غير الشرعية وعمّالهم محلّلة، يجوز شراؤها وبيعها وهبتها والحجّ والتصدّق بها، بل جميع التصرفات المعاملية فيها نافذة شرعاً، وهذا يكشف عن عدم معاملة الشارع مع الأموال التي تقبض من الحكومة والدوائر المتعلّقة بها كالبنوك، معاملة مجهول المالك. وإليك طائفة من تلك النصوص:

منها: صحيحة أبي ولّاد، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان، ليس له مكسب إلّامن أعمالهم، وأنا أمرّ به فأنزل عليه، فيضيفني ويحسن إليّ، وربما أمر إليّ بالدرهم والكسوة، وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي: «كل وخذ منه فلك المهنا (الحظ) وعليه الوزر»(1).

ومنها: صحيحة أبي بكر الحضرمي، قال: دخلت على أبي عبداللَّه عليه السلام وعنده إسماعيل ابنه فقال: «ما يمنع ابن أبي السمال «السماك خ ل، الشمال» أن يخرخ شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطي الناس؟» ثمّ قال لي:

«لم تركت عطاءك؟» قال: مخافةً علي ديني، قال: ما منع ابن أبي السمال «السماك الشمال خ ل» أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أنّ لك في بيت المال


1- وسائل الشيعة 17: 213، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 51، الحديث 1 ..

ص: 315

نصيباً»(1).

ومنها: صحيحة ابي المغرا (كنية حميد بن المثنّى الصيرفي الثقة) قال: سأل رجل أبا عبداللَّه عليه السلام وأنا عنده، فقال: أصلحك اللَّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم آخذها؟ قال: «نعم»، قلت: وأحجّ بها؟ قال: «نعم». ورواه الصدوق بإسناده، عن أبي المغرا مثله وزاد: قال: «نعم وحجّ بها»(2).

ومنها: صحيحة أبي همّام (اسمه اسماعيل بن همّام(3)) قال: قلت للرضا عليه السلام: الرجل يكون عليه الدين ويحضره الشي ء أيقضي دينه أو يحجّ؟ قال «يقضي ببعض ويحجّ ببعض»، قلت: فإنّه لا يكون إلّابقدر نفقة الحجّ، فقال:

«يقضي سنة، ويحجّ سنة»، قلت: اعطي المال من ناحية السلطان؟ قال: «لا بأس عليكم»(4).

ومنها: موثّقة إسحاق بن عمّار، قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم، قال: «يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً»(5).

ومنها: ما ورد في جواز شراء ما يأخذ الظالم من الغلّات باسم المقاسمة كصحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج، قال: قال لي أبو الحسن موسى عليه السلام: «ما لك لا تدخل مع عليّ في شراء الطعام إنّي أظنّك ضيّقاً؟» قال: قلت: نعم فإن شئت


1- وسائل الشيعة 17: 214، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 51، الحديث 6 ..
2- وسائل الشيعة 17: 213، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 51، الحديث 2- 5 ..
3- جامع الرواة 2: 423 ..
4- الكافي 4: 279/ 4، باب الرجل يستدين ويحجّ ..
5- وسائل الشيعة 17: 221، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 53، الحديث 2 ..

ص: 316

وسّعت عليّ، قال: «اشتره»(1).

وتقريب الاستدلال بهذه الأخبار المعتبرة على ردّ نظرية إنكار ملكية الدولة والشخصيات الحقوقية المتعلّقة بها كالبنوك. إنّ المستفاد منها بأجمعها أنّ الأموال التي تؤخذ من ولاة الجور وعمّالهم على وجه الصلة، أو البيع، أو الشراء، أو الإجارة، أو أي عنوان معاملي آخر، تكون محلّلة وملكاً لآخذها، ولا يعامل معها معاملة مجهول المالك. ومن المعلوم أنّ الحكومات غير الشرعية الموجودة في زماننا، التي لا يتولّاها فقيه جامع للشرائط، ليست أسوء حالًا من تلك الحكومات الجائرة في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام.

ولكن يرد على هذا الجواب، أنّ دلالة تلك النصوص المعتبرة على حلّية الأموال التي تؤخذ من ولاة الجور وعمّالهم وجواز تملّكها، وإن كانت تامة، ولكن الكلام كلّ الكلام في أنّ هذه الحلّية، هل تكشف عن ملكية هؤلاء الحكّام غير الشرعيين؟ وهل جواز تملّك ما يؤخذ منهم يعمّ جميع المؤمنين في جميع الأزمنة على وزان بقية الأحكام الشرعية، أو أنّ الحلّية تكون ناشئة من إذن الإمام عليه السلام بالنسبة إلى خصوص المؤمنين في ذلك العصر، مع عدم كون هؤلاء الحكّام مالكين لما تحت ولايتهم؟ وكيف يكونون مالكين مع عدم شرعية ولايتهم وضعاً وتكليفاً؟

والحاصل أنّ في تلك النصوص يجي ء هذان الاحتمالان، ولا قرينة فيها على تعيّن الاحتمال الأوّل، فإنّ قوله عليه السلام في صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة: «كل وخذ منه فلك المهنا وعليه الوزر» كما يحتمل أن يكون بياناً للحلّية الكلّية، فكذلك يحتمل أن يكون إذناً ولائياً من الإمام عليه السلام، الذي هو صاحب الولاية المطلقة الشرعية على


1- وسائل الشيعة 17: 218، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 52، الحديث 1 ..

ص: 317

جميع ما يتعلّق بشؤون الحكومة، ومنها أموال ولاة الجور وعمّالهم، التي فرض السائل ابتلاءه بها. وهكذا حال بقية تلك النصوص.

بل في بعض تلك النصوص ما هو قرينة على الظهور في أنّ جواز تملّك ما يؤخذ من الدولة غير المشروعة وعمّالهم، ناشٍ من إذن الإمام عليه السلام، وليس حكماً كلّياً شرعياً، وهو ما في ذيل صحيحة أبي همّام المتقدّمة من قول الإمام الرضا عليه السلام:

«لا بأس عليكم» فإنّه ظاهر في إصدار الإذن الخاصّ لخصوص الشيعة.

بل في نصوص الباب ما هو كالصريح في ذلك، وهو صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج المتقدّمة، فإنّ قول السائل في ذيلها: «فإن شئت وسّعت عليّ» كالصريح في الاستئذان من الإمام عليه السلام لشراء الطعام- أي الحنطة والشعير من الأراضي الخراجية- من علي بن يقطين، الذي هو وزير هارون، وقد أذن الإمام عليه السلام بقوله: «اشتره».

الجواب الرابع

عن الوجه الثاني؛ لنفي ملكية الدولة:

إنّ السيرة العقلائية قد استقرّت في جميع الأعصار السابقة على عصر التشريع والمقارنة واللاحقة له على المعاملة المالكية مع الدولة وعمّالها في جميع المعاملات والعقود بالنسبة إلى ما يؤخذ منها، أو يدفع إليها، وهذه السيرة مستمرة إلى عصر التشريع، ولم يردع عنها الأئمة المعصومون عليهم السلام.

ويرد عليه أوّلًا: أنّ هذه السيرة تشكلّت من طوائف ثلاثة من الناس:

فطائفة منهم أبناء العامة، ولاشكّ في أنّ منشأ معاملتهم مع الحكومات في عصر الأئمة عليهم السلام معاملة المالكين، هو اعتقادهم بأنّ ولاية هؤلاء الطواغيت شرعية بل

ص: 318

يجب طاعتهم.

وطائفة اخرى منهم، هم الكفار ولاشكّ في أنّهم غير معتقدين بالشرع، ولم يكن الأئمة عليهم السلام بصدد ردع سيرهم، فلا يمكننا استكشاف رأي المعصوم عليه السلام بسيرتهم.

وطائفة ثالثة منهم، هم الشيعة، ولم يثبت قيام سيرتهم على معاملة المالك مع الحكّام غير الشرعية، بل سوف يظهر في الإشكال التالي أنّهم يستأذنون للتصرّف في الأموال المأخوذة منهم من الأئمة عليهم السلام الذين هم ذوي الولاية الحقّة.

وثانياً: أنّ الظاهر من طائفة معتبرة من أخبار الباب أنّ هذه السيرة، على فرض قبولها صغراً مردوع عنها، ففي ذيل صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة: «فقال لي كل وخذ منه فلك المهنا (الحظ) وعليه الوزر» فإنّ الإمام عليه السلام في ضمن إصدار الإذن للسائل؛ لاستفادته من المال الذي دفعه إليه بعض عمّال السلطان، ردع عن معاملة المالك معه بقوله: «وعليه الوزر».

والشاهد القطعي على ردعهم عليهم السلام عن معاملة المالك مع الحكّام غير الشرعيين، هو استئذان أصحابهم عليهم السلام منهم للتصرّف في الأموال، التي تصل إليهم من هؤلاء الحكّام أو من عمّالهم، ففي صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو الحسن موسى عليه السلام: «مالك لا تدخل مع عليّ في شراء الطعام، إنّي أظنّك ضيّقاً؟» قال: قلت: نعم فإن شئت وسّعت عليّ، قال: «اشتره»(1)، والظاهر أنّ المراد من علي، هو علي بن يقطين الوزير لهارون ومن شراء الطعام، شراء مثل


1- وسائل الشيعة 17: 218، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 52، الحديث 1 ..

ص: 319

الحنطة من الزكاة، أو الأراضي الخراجية التي كان توليتها ظاهراً بيد علي بن يقطين، والسائل عبدالرحمن بن الحجّاج الذي هو من كبار أصحاب الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام يريد بقوله: «فإن شئت وسّعت عليّ» الاستئذان من الإمام عليه السلام لشراء الطعام من علي بن يقطين، وليس هذا إلّامن جهة علمه بأنّ ولاية هارون وعمّاله على أموال بيت المال، ليست مشروعة، ولا يعامل معها معاملة المالك والولي الشرعي.

ويؤيّد ذلك خبر أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سمعته يقول: «من احللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، وما حرّمناه من ذلك فهو له حرام»(1).

مضافاً إلى ذلك أنّ محلّ الكلام إنّما هو ملكية الدولة، التي ليست مشروعة، فما يدل من النصوص على عدم مشروعيتها يصلح دليلًا على عدم نفوذ تصرفاتها، ومنها أي تملّك أو تمليك يقع بعنوان الدولة، أو أيّة شخصية حقوقية متعلّقة بها كالبنوك الحكومية، إذ لا معنى لعدم مشروعيتها، إلّاعدم نفوذ تصرفاتها، ضرورة أنّ المراد من عدم مشروعيتها ليس مجرّد الحرمة التكليفية المتعلّقة بتدخل رئيس الدولة وعمّاله في ما هو من شؤون الحكومة، مع ترتّب آثار النفوذ على تصرفاتهم.

وقد ظهر بذلك كلّه أنّ الوجه الثاني، الذي ذكرناه مستنداً لفتوى السيّد المحقّق الخوئي قدس سره بعدم ملكية الدولة غير الشرعية، وجميع الشخصيات الحقوقية المتعلّقة بها، ومنها البنوك الحكومية، تامّ سليم عن الإشكال، وجميع الوجوه، التي يمكن أن تقال جواباً عن ذلك الوجه، غير تامّ ولا تصلح دليلًا للقول بملكيتها.


1- وسائل الشيعة 17: 198، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 15 ..

ص: 320

مناقشات اخرى على معاملة مجهول المالك مع الأوراق النقدية التي في البنوك والجواب عنها

بقي في المقام مناقشات اخرى، ربما يدّعي أنّها من التوالي الفاسدة المترتّبة على القول بعدم ملكية الدولة والبنوك الحكومية:

منها: أنّه يلزم منه عدم وجوب الخمس على من له ملايين من الأوراق النقدية في البنك الحكومي، إذ المفروض أنّ البنوك الحكومية لا تكون مالكةً لأيّ من الأوراق النقدية الموجودة فيها، كما أنّ ما كان من المبالغ في الحساب البنكي للأشخاص، لا يكون ملكاً لهم، بل جميعها مجهول المالك، فليزم منه أن لا يتعلّق الخمس بأيّ شخص له في البنك وجوه مالية كثيرة، لاسيّما إن كان من التجار، الذين لا يأخذون عين الأوراق النقدية ثمناً في معاملاتهم، بل ما زال يأخذونها على سبيل السكّ إلى حسابهم البنكي.

والجواب عنها:

أوّلًا: أنّ هذه المناقشات إنّما تردّ على القول بمعاملة مجهول المالك مع المبالغ الموجودة في البنوك، لو لم يصدر الفقيه الجامع للشرائط الإذن العامّ لمجتمع المؤمنين بالنسبة إلى تصرفاتهم فيها، وأ مّا بعد إذنه فلا تتوجّه هذه المناقشة، وذلك لأنّ انتقال أيّ مبلغ من الأوراق النقدية إلى حساب الشخص في البنك يعدّ عرفاً قبضاً له، ولا يتوقّف قبض المبلغ على أخذه خارجاً، والمفروض أنّ الفقيه الجامع للشرائط حفظاً للنظام المعاملي- بالتقريب المتقدّم تفصيلًا في الجواب عن الوجه الثاني- يصدر الإذن العامّ لجميع المعاملات البنكية للمؤمنين، إلّاما لم يكن بوجه

ص: 321

شرعي، ويترتّب على إذنه صحة ذلك القبض، فيتحقق بها ملكية الربح التي هي الموضوع في أدلّة وجوب خمس أرباح المكاسب.

نعم لا يشمل إذنه للعمليات البنكية الربوية، أو أخذ الاجرة من البنك بحوالة صاحب الحساب، على عمل محرم كتعليم بعض مصاديق الموسيقى، أو أيّ عمل محرّم آخر، كما قال في الجواب عن استفتاء حكم العمل في البنوك ما إليك نصه:

«التوظيف في المعاملات الربوية وما يتعلّق بها محرّم وليس لنا طريق حلّ لذلك، بلا فرق فيه بين أقسام البنوك واللَّه العالم»(1).

وثانياً: أنّ فيما دفع المالك للأوراق النقدية- التي تعلّق بها الخمس كالتي حصلت له ربحاً للتجارة- إلى البنك، يعدّ عرفاً إتلافاً لها على القول بأ نّها تصير مجهول المالك بدفعها إليه، ولا شكّ في أنّ إتلاف المال الذي تعلّق به الخمس يوجب الضمان بالنسبة إليه.

ومنها: أنّ حكم مجهول المالك المعلوم نصّاً وفتوىً، هو وجوب التصدّق به إلى الفقير من قبل مالكه، ولا خلاف ولا إشكال في هذه الكبرى، وحينئذٍ لو قلنا بمعاملة مجهول المالك مع الأوراق النقدية، التي في البنوك، فلا مناص من الالتزام بلازمه، وهو وجوب التصدّق به، مع أنّ السيّد المحقّق الخوئي قدس سره القائل بهذه المقالة، لم يلتزم به، بل حكم- على ما ذكر في أجوبة الاستفتاءات من صراط النجاة- بأنّ المال المأخوذ من البنك إن كان ربحاً أو قرضاً أو جائزة منه ونحوها يجب دفع نصفه إلى الحاكم الشرعي، وإن لم يكن كذلك، بأن كان المأخوذ ملكاً للآخذ، فلا يجب عليه دفع شي ء، فما هو الفارق بينهما؟ وما هو الفارق بين مجهول


1- صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 2: 317 ..

ص: 322

المالك في المقام وبينه في سائر الموارد؟

والجواب أنّ السيّد المحقّق الخوئي قدس سره، لا يقول بمعاملة مجهول المالك وترتّب وجوب التصدّق، مع جميع الأوراق النقدية، التي تؤخذ من البنوك بأيّ وجه كان، بل هو يفصّل بأنّ الأوراق النقدية التي تقبض من البنوك الحكومية، وهي بعينها أو مثلها ملك للقابض- بأن كانت وديعة عند البنوك أو قرضاً إليه- أو ملك لمن أحال القابض إلى البنك فلا يثبت فيه حكم مجهول المالك من وجوب التصدّق؛ لأنّ المفروض أنّ الأوراق النقدية المأخوذة من البنك في هذه الصورة عوض عن مال القابض، أو من أحاله إليه، ولاشكّ في أنّ مجرد دفع الأوراق النقدية من مالكها إلى البنك الحكومي بأيّ عنوان كان بعنوان الوديعة أو القرض أو أي عنوان معاملي آخر، لا يوجب خروجها عن ملكه، بل هي باقية على ملك مالكها بعدما بنى قدس سره على أنّ ولاية البنك على عملية هذه العقود غير مشروعة، غاية الأمر أنّها يشتبه في الظاهر مالكها باختلاطها ببقية الأوراق النقدية الموجودة في البنك، التي هي شطر منها للبنك والبقية للأشخاص الذين هو ذوو الحساب فيه.

ومن المعلوم أنّ حكم الأموال المختلطة مع تميّزها في نفسها واشتباها ظاهراً هو الصلح القهري أو القرعة، كما قال في كتاب الشركة من العروة الوثقى: «وأ مّا الاختلاط مع التميّز فلا يوجب الشركة ولو ظاهراً، إذ مع الاشتباه مرجعه الصلح القهري أو القرعة»(1).

نعم يجوز أخذ ما يدفعه البنك إليه عوضاً عن ماله، لكنّه يتوقّف على إذن الحاكم الشرعي، وذلك لأنّ إفراز ماله المختلط مع أموال الآخرين يتوقّف على


1- العروة الوثقى 2: 698 ..

ص: 323

تراضيهم بالتصالح، ومع عدمه فالقرعة، وحيث إنّهم غائبون، والحاكم وليّ الغائب، فله الإذن في أخذ ما يدفعه البنك إليه عوضاً عن ماله.

وهذا هو الوجه فيما صرّح به قدس سره في الجواب عن الاستفتاء من حكم هذه الصورة وإليك متن السؤال:

«إذا أودع الشخص في أحد البنوك مالًا وعند استرجاعه، لا يرجع عليه عين ذلك المال الذي أودعه، ويتعذّر معرفة صاحب هذا المال، الذي استلمه من البنك عوضاً عن ماله الذي أودعه، فهل يجوز أخذ هذا المال؟».

فقال قدس سره في الجواب عن هذا الاستفتاء بما هذا لفظه:

«نعم مأذون في أخذه عوضاً عن ماله، واللَّه العالم»(1).

وكما ترى هذه العبارة صريحة في الإذن لأخذ ما يدفعه البنك إلى من كان له وديعة عنده، عوضاً عنها، ولا خصوصية له، بل في حكمه ما يأخذه عوضاً عن أصل قرضه للبنك، أو عوضاً عن دين له على من له حساب بنكي أو اجرة لعمله، ففي جميع هذه الصور يتوقّف إفراز المبلغ من بين الأوراق النقدية الموجودة في البنك على إذن الفقيه، لأنفاذ ما يأخذه من البنك، عوضاً عن ماله ولم يشر قدس سره في هذا القسم إلى وجوب التصدّق بجزء ممّا يأخذه امتثالًا لحكم مجهول المالك، بل صرّح في بعض أجوبته عن الاستفتاءات بجواز تملك المجموع للآخذ وعدم وجوب شي ء عليه حيث قال: «وفيما هو عوض عن شراء أو بدل وظيفة يتوظّف بها فلا شي ء عليه فيها يملك المجموع لنفسه بالإجازة»(2).


1- صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 2: 313 ..
2- صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 1: 410 ..

ص: 324

وهذا بخلاف القسم التالي حيث إنّه قدس سره حكم بوجوب التصدّق بنصفه وسيأتي وجهه.

وأمّا الأوراق النقدية التي تقبض من البنوك الحكومية ولا تدفعها إلى القابض بعنوان أنّها ملك له، أو لمن أحاله، بل هي تمليك من البنوك إلى القابض إمّا بعنوان أ نّها ربح لماله في الحساب البنكي أو جائزة أو أيّ عنوان مملّك بلا عوض، فهي التي يعامل معها معاملة مجهول المالك؛ لأنّ البنك الحكومي ليس مالكاً شرعياً للمبلغ الذي يدفعه إلى الأشخاص على وجه الربح أو الجائزة ونحوهما؛ للدليل المتقدّم تفصيلًا- في الوجه الثاني- وإذا لم يكن ملكاً شرعياً للبنك، ولا لشخص معيّن آخر، ولا لشخصية حقوقية اخرى، فلا محالة يكون مجهول المالك، ومجهول المالك وإن كان حكمه وجوب التصدّق بأجمعه من قبل مالكه إلى الفقير، ولكن في المقام خصوصية تقتضي عدم تصدّقه بأجمعه، وهو أنّ أخذ ذلك المبلغ المجهول مالكه من البنك بعنوان الربح أو الجائزة ونحوهما، يتوقّف على عملية أو عمليات لها اجرة عند العقلاء، إذ البنك لا يدفع ذلك المبلغ إلى كلّ أحد، و إنّما يدفعه إلى أشخاص معيّنين لهم شرائط خاصة من افتتاح الحساب البنكي المشتمل على مبلغ معيّن طيلة مدّة معيّنة وغيره، فبإزاء عمل قابض المبلغ المجهول مالكه من البنك، يدفع الحاكم الشرعي إليه مقداراً لعمله وهو النصف عند السيّد المحقّق الخوئي قدس سره، وعند بعض الأعاظم من تلاميذه الخمس، وهذا هو الفارق بين مجهول المالك في المقام وبين بقية المجهول مالكها.

وقد صرّح قدس سره بهذه الجهة في موارد عديدة من أجوبته عن الاستفتاءات.

منها: ما سأله بعض المؤمنين هكذا: «شخص أودع ماله في البنك في

ص: 325

الحساب الذي يدر عليه بالأرباح قاصداً ذلك، وعالماً النسبة الموضحة لدى البنك، فما حكم الأرباح التي يستملها الشخص، علماً بأ نّه لم يشترط عليهم، إنّما طُلب منه التوقيع على النسبة بالقلم؟».

فأفاد قدس سره في الجواب عنه هكذا: «لا بأس عليه إذا لم يشترط، وليستلم الأرباح بقصد مجهول المالك نيابةً عنّا، وليدفع نصفه إلى الفقراء صدقةً عن مالكها، وله التصرف في الباقي»(1).

ومن هنا لو كان آخذ المبلغ من البنك في هذا القسم فقيراً، يجوز له أن يقبل لنفسه صدقةً النصف الآخر أيضاً، كما صرّح قدس سره به حينما أجاب عن السؤال من حكم شراء المال، الذي سرقه البائع من حقوق للناس، قد كُلّف بالتوزيع عليهم بقوله: «في مفروض السؤال يعامل معها حكم مجهول المالك، فيتصدّق بها على الفقير من طرف صاحبها المجهول، فإذا كان هو فقيراً يقبلها صدقةً لنفسه، وإن كان غنياً يتصدّق بنصفه على الفقير، ويتصرف في الباقي، هذا كلّه يجري في نفس العين، أو في قيمتها، واللَّه العالم»(2).

وبذلك كلّه ظهر مراده قدس سره في عبارته المتقدّمة في أوّل البحث بالنسبة إلى تنزيل السفتجة الصورية عند البنك الحكومي بأقلّ منها حيث قال: «نعم لا بأس به في المصارف غير الأهلية، يجعل ذلك وسيلة إلى أخذ مجهول المالك، والتصرف فيه بعد إصلاحه بمراجعة الحاكم الشرعي»(3).


1- صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 2: 316 ..
2- نفس المصدر 2: 321 ..
3- منهاج الصالحين 2: 55 ..

ص: 326

مسألة 3- بعد ما كان المتعارف في عمل البنوك ونحوها، الرجوع إلى بائع «الكمبيالة» وإلى كلّ من كان توقيعه عليها لدى عدم أداء دافعها؛ لأجل القوانين الجارية عرفاً، وكان هذا أمراً معهوداً عند جميعهم، كان ذلك التزاماً ضمنياً منهم بعهدة الأداء عند المطالبة. وهذا- أيضاً- شرط في ضمن القرار وهو لازم المراعاة (19).

فإنّ إصلاح أمرها إنّما يتحقّق بمجرّد إجازة الفقيه من غير أن يتوقف على دفع نصف المبلغ إليه، فإنّه حكم ما يؤخذ من البنك الحكومي بلا عوض كالربح والجائزة.

هذا كلّه مقتضى التحقيق على نظرية إنكار الملكية للدولة وجميع الدوائر المتعلّقة بها، وأ مّا البحث عن مسلك الماتن المحقّق قدس سره من نفوذ ملكية الدولة والبنوك بأصنافها من الحكومية والمشتركة والأهلية وغيرها من دوائر الدولة، وما يمكن أن يقام دليلًا عليه، فيأتي تفصيلًا في ذيل المسألة الاولى من فصل أعمال البنوك، إن شاء اللَّه تعالى.

19- من العمليات المتداولة المتعارفة البنكية، أنّ من يتعامل مع البنك بمعاملة تشتغل بها ذمّته بدين، كما إذا اقترض منه مبلغاً إلى أجل معيّن يدفعه أقساطاً أو دفعةً، يطلب منه البنك حين الاقتراض سفتجة من شخص معتبر عنده هي في حكم الضمان، فيشتري المقترض منه سفتجة حاوية لمبلغ الدين، وقد يطلب البنك من المقترض أو شخص آخر أن يوقّع خلف ورقة السفتجة، ثمّ بعدما يحلّ أجل الدين يرجع البنك- على حسب قانونه المألوف- في الوهلة الاولى إلى دافع

ص: 327

السفتجة؛ أي المقترض، فإن لم يدفع الدين يرجع إلى بائع السفتجة ومن كان توقيعه خلفها، وحينئذٍ يأتي المجال لسؤال، حاصله: أنّ البنك بأيّ وجه فقهي يجوز له الرجوع إلى بائعها أو من وقّع عليها، وهل هما ملزمان شرعاً بدفع الدين أم لا؟

وحاصل الجواب: أنّ بائع السفتجة والموقّع عليها تارةً: يكونان عالمين بالقانون البنكي المذكور عند بيعها أو التوقيع عليها، واخرى: يكونان جاهلين به، فالمسألة ذات صورتين:

الاولى: ما إذا كانا عالمين به، وهو معهود عندهما، فلا ينبغي الإشكال حينئذٍ في جواز رجوع البنك إليهما لدى عدم أداء المقترض الدين، ويجب عليهما الوفاء بالأداء، ولو تخلّفا يلزمهما الحاكم بأدائه؛ وذلك لأنّ إقدام صاحب السفتجة على بيعها وكذا الموقّع على توقيعها مع التفاتهما- على الفرض- إلى أنّ البنك يرجع إليهما عند تخلّف المقترض عن الأداء، التزام وضمان عملي ضمني منهما بعهدة الأداء عند مطالبة البنك.

وإن شئت قلت: إنّ إقدامهما المذكور في تلك الحال، التزام ضمني عملي بقانون البنك الذي مفاده وجوب أداء الدين عند مطالبته منهما، ومن المعلوم أنّه لا يطالبه إلّامع تخلّف المقترض عن الأداء، وهذا مآله إلى الضمان العملي بالأداء، فيندرج في الأدلّة العامّة المقتضية لوجوب وفاء الضامن بتعهّده.

مضافاً إلى أنّه شرط ضمني، فيشمله عموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم في موثّقة منصور بن يونس: «المؤمنون عند شروطهم»(1)، فتجب مراعاته. وهذا ما أشار إليه الماتن المحقّق بقوله: «وهذا أيضاً شرط في ضمن القرار، وهو لازم المراعاة».


1- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..

ص: 328

نعم مع عدم العلم بذلك وعدم معهوديته لم يكن قراراً ولم يلزم بشي ء (20).

مسألة 4- ما يأخذه البنك أو غيره من المديون- عند تأخّر الدفع بعد حلول الأجل وعدم تسليم المبلغ من قبل المديون الصوري- حرام لايجوز أخذه وإن كان بمراضاة المتعاملين (21).

20- هذه الصورة هي الصورة الثانية من المسألة؛ وهي أن يكون بائع السفتجة وكذا من وقّع خلفها، جاهلين بالقانون البانكي المتقدّم؛ أعني رجوع البنك إليهما فيما إذا تخلّف المديون عن أداء الدين، فحينئذٍ لا يجوز للبنك الرجوع إليهما؛ إذ لم ينعقد منهما التزام لفظي أو عملي بعهدة الأداء عند المطالبة:

أ مّا اللفظي، فمنفي بحسب الفرض.

وأ مّا العملي، فكذلك؛ إذ الدالّ العملي على ذاك الالتزام، ليس مجرّد بيع السفتجة أو التوقيع عليها، بل الدالّ هو الإقدام عليهما مقارناً للعلم والالتفات للقانون البنكي المتقدّم، والمفروض جهلهما به، فلا قرار ولا التزام منهما بالأداء، ومن هنا لا يجوز للبنك الرجوع إليهما فيما إذا تخلّف المديون عن الأداء، ولا يجوز إجبارهما عليه. ولا يخفى أنّ هذه الصورة، فرض نادر جدّاً.

ما هو حكم جريمة التأخير؟

اشارة

21- من القوانين البنكية ما يسمّى ب «قانون جريمة التأخير» أو «فائدة التأخير» ومفاده أنّ من كان مديوناً لبنك وعوّق أداء الدين بعد حلول موعده إلى مدّة أكثر ممّا اتّفق عليه، يلزمه أن يدفع للبنك مبلغاً بعنوان جريمة التأخير (جريمه دير كرد).

ص: 329

ومن مصاديقه ما أشار إليه الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة؛ وهو ما إذا اقترض الشخص مثلًا من البنك أو غيره مبلغاً، ودفع إليه المقترض- على وجه الضمان- سفتجة صورية أخذها من شخص معتبر، ولكن لا يدفعه المقترض بعد حلول أجل القرض، ولا المديون الصوري الذي صار ضامناً بتوقيعه على السفتجة، فحينئذٍ يأخذ البنك من المقترض- مضافاً إلى أصل الدين- جريمة زائدة بإزاء تأخيره في دفع الدين.

وقد حكم الماتن المحقّق قدس سره بحرمة أخذ هذه الجريمة بأيّ وجه كان؛ سواء كان بوجه العمل بالشرط الضمني المعهود في البنوك، أو بوجه التراضي والتصالح من جانب البنك والمقترض. والدليل على حرمته، أنّ جريمة التأخير ليست في حقيقتها إلّاتأجيل الدين بشرط زيادة، وهذا رباً محرّم تكليفاً ووضعاً، فلا يملكها البنك لو أخذها من المقترض بالإجبار، أو برضاه.

وما قد يدّعى: من أنّ ما تأخذه البنوك جريمة على تأخير الدين، ليس نفعاً من جهة القرض حتّى يصدق عليه الربا، بل هو جريمة على التأخير، فلا موجب لحرمته.

فهو مدفوع بأنّ عنوان «الجريمة» لا يمنع عن صدق النفع والزيادة؛ فإنّهما ليسا من الضدّين حتّى يمنع صدق أحدهما عن صدق الآخر، بل هما عنوانان متخالفان يمكن اجتماعهما على محلّ واحد، كما هو الحال في كلّ أمرين بينهما تقابل التخالف، كالسواد والحلاوة.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الجريمة التي يأخذها البنك، هي في الحقيقة تعزير ماليّ من قبل الحاكم الجامع للشرائط على من يقصّر في أداء دينه إلى البنك في موعده؛

ص: 330

دفعاً للمفاسد التي تترتّب على إهمال المدينين لأداء ديونهم، حيث إنّهم لو كانوا مرخّصين في تأخير أدائها بما شاؤوا ولم يمنعهم عن التعويق حاجز قانوني لاختلّت الأنظمة البنكية، ولحدثت مفاسد شتّى، كما هو الحال في بقية الجرائم المالية الموضوعة من قبل الحكومة لدفع المفاسد، ومن هنا لا يجوز أخذ جريمة التأخير لغير البنوك الحكومية.

ثمّ إنّ حرمة التأجيل في الدين بشرط الزيادة- بحيث تكون الزيادة في مقابل ازدياد الأجل ابتداءً، لا في ضمن معاملة، كالهبة، والصلح، ونحوهما- ممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب، كما صرّح به في «الحدائق»(1) و «الجواهر»(2).

قال شيخ الطائفة في «الخلاف»: «وإن أجّله لم يصر مؤجّلًا... وإن اتّفقا على الزيادة لم يصحّ، ولم يثبت»(3).

وقال العلّامة في «القواعد»: «وكذا لا يلزم لو أجّل الحالّ بزيادة فيه، ولا تثبت الزيادة»(4)، وهذه العبارة- كما ترى- ناظرة إلى بيان الحكم الوضعي بالنسبة إلى الزيادة.

وعقّبه المحقّق الكركي قدس سره ببيان حكمها التكليفي أيضاً فقال: «ولا يحلّ أخذها لو بذلت بمجرّد جعلها في مقابل التأجيل. نعم، لو شرط التأجيل مع الزيادة في عقد لازم صحّ»(5).


1- الحدائق الناضرة 19: 134 ..
2- جواهر الكلام 25: 34 ..
3- الخلاف 2: 78 ..
4- قواعد الأحكام 2: 104 ..
5- جامع المقاصد 5: 26 ..

ص: 331

وقال المحقّق قدس سره في «الشرائع»: «ولو أخّره بزيادة لم تثبت الزيادة، ولا الأجل»(1). وعقّبه في «الجواهر» بقوله: «بل هو الربا المحرّم بلا خلاف ولا إشكال»(2).

وقال الماتن المحقّق قدس سره في كتاب الدين من «تحرير الوسيلة»:

«مسألة 8:... ولا يجوز تأجيل الحالّ، ولا زيادة أجل المؤجّل بزيادة»(3).

وقال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره في «المنهاج»: «لا يتأجّل الدين الحالّ إلّا باشتراطه في ضمن عقد لازم، ويصحّ تعجيل المؤجّل بإسقاط بعضه، ولا يصحّ تأجيل الحالّ بإضافة شي ء»(4).

والحاصل: أنّ أخذ الدائن زيادة على الدين من المدين بإزاء تأجيل الدين، ربا محرّم؛ من غير فرق بين أن تشترط في ضمن عقد القرض، أو تأخذ بعده، بل وإن كانت على وجه التراضي من الطرفين.

وقد نبّه عليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره بقوله: «فالزيادة الواقعة بإزاء تأخير المطالبة رباً عرفاً؛ فإنّ أهل العرف لا يفرّقون في إطلاق الربا بين الزيادة التي تراضيا عليها في أوّل المداينة- كأن يقرضه عشرة بأحد عشر إلى شهر- وبين أن يتراضيا بعد الشهر إلى تأخيره شهراً آخر بزيادة واحد، وهكذا. بل طريقة معاملة الربا مستقرّة على ذلك»(5).


1- شرائع الإسلام 2: 62 ..
2- جواهر الكلام 25: 34 ..
3- تحرير الوسيلة 1: 616 ..
4- منهاج الصالحين 2: 170 ..
5- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 306 ..

ص: 332

وتدلّ على ذلك أيضاً الأخبار الواردة في تعليم طريق الحيلة الشرعية للتخلّص من الربا في هذه المسألة؛ إذ لو جاز التراضي من الطرفين على تأجيل الدين بزيادة، لم يكن وجه لتعليم الحيلة من الإمام عليه السلام ولا لإعمالها من الطرفين، وسيأتي التعرّض لهذه الأخبار عن قريب.

بل يظهر من بعض الأخبار أنّ مورد نزول قول اللَّه سبحانه: قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(1)، هو تراضي الدائن والمدين- بعد حلول الدين- على تأخيره إلى أجل بزيادة، وهو ما رواه أمين الإسلام في «مجمع البيان» عن ابن عبّاس: «كان الرجل منهم إذا حلّ دينه على غريمه فطالبه به، قال المطلوب منه له: زدني في الأجل وأزيدك في المال، فيتراضيان عليه، ويعملان به، فإذا قيل لهم: هذا ربا!! قالوا: هما سواء، يعنون بذلك أنّ الزيادة في الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الأجل عند محلّ الدين سواء، فذمّهم اللَّه به، وألحق الوعيد بهم، وخطّأهم في ذلك بقوله سبحانه: وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(2).

ولكنّ الخبر ضعيف بإرساله وإن تمّت دلالته، فلا يليق لأكثر من التأييد. هذا كلّه لا كلام فيه.

حول جواز التخلّص من الربا بالحيل الشرعية

إنّما الكلام في أنّه هل يمكن التخلّص من الربا في المقام بإعمال حيلة أو حيل شرعية، أم لا؟


1- البقرة( 2): 275 ..
2- مجمع البيان 2: 389 ..

ص: 333

ما يمكن أن يتّخذ طريقاً وحيلة للتخلّص من الربا في مسألة تأجيل الدين بزيادة- التي تكون مسألة جريمة التأخير من صغرياتها- وجوه عديدة ينبغي التعرّض لها؛ وإن كانت لا تنفعنا بالنسبة إلى جريمة التأخير التي تأخذها البنوك الحكومية بالقهر والإجبار؛ فإنّها منوطة- بحسب قانونها- بمجرّد تأخير أداء الدين؛ من غير سبق التصالح من البنك والمديون، أو هبتها من جانب المدين، أو جعالتها منه، أو أيّة حيلة اخرى.

نعم، في البنوك الأهلية أو الدين الشخصي، يمكن إعمال تلك الحيل.

وهي ما يلي:

منها: ما ذكره بعض الأعاظم(1) من التخلّص من الربا بطريق الهبة «بأن يهب المدين مبلغاً إلى الدائن ويشترط عليه بنحو شرط الفعل أن لا يطالب دينه الحالّ إلى مدّة معيّنة، أو بوجه شرط النتيجة أن يكون الدين مؤجّلًا إلى وقت معيّن، أو بنحو شرط السبب أن يؤجّل دينه إلى مدّة معلومة».

والظاهر أنّ مستنده إطلاق دليل نفوذ الهبة، وكذا عموم دليل نفوذ الشروط، مثل صحيحة عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «المسلمون عند شروطهم، إلّاكلّ شرط خالف كتاب اللَّه عزّوجلّ، فلا يجوز»(2).

وفيه: أنّ إطلاق هذا الطريق ممنوع؛ وذلك لأنّ هبة المدين مبلغاً إلى الدائن بشرط تأجيل الدين- على سبيل شرط النتيجة أو شرط السبب- تؤول بحقيقتها إلى جعل الزيادة في قبال ازدياد أجل الدين، وهذا هو الربا القرضي المحرّم؛ لما تقدّم


1- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي: 128 ..
2- وسائل الشيعة 18: 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 2 ..

ص: 334

من أنّ العرف لا يرى فرقاً في صدق الربا بين الزيادة التي يتراضى عليها الطرفان في أوّل المداينة، وبين الزيادة التي يتراضيان عليها بعد حلول أجل الدين في قبال الأجل الزائد، وبالنظر إلى هذه النكتة يندرج شرط التأجيل- بأحد الشكلين المذكورين- في عقد المستثنى من الصحيحة المتقدّمة.

نعم، هبة المبلغ من المدين إلى الدائن بشرط أن لا يطالب دينه إلى أجل معيّن على نحو شرط الفعل، لا بأس بها؛ لأنّها خارجة من حقيقة الربا، إذ الزيادة لم تقع حينئذٍ في قبال الأجل الزائد، بل في قبال عدم المطالبة، وهو أمر جائز، فيشمله إطلاق دليل نفوذ الهبة، بل وكذا عموم دليل نفوذ الشروط.

ومنها: التخلّص بطريق الجعالة؛ بأن يجعل المدين للدائن مبلغاً يتّفق عليه الطرفان في قبال أمر وجودي؛ وهو تأجيل الدين إلى مدّة معيّنة، أو أمر عدمي؛ وهو عدم مطالبة الدين إلى مدّة معلومة.

وقد ظهر ممّا أوردناه على الطريق السابق: أنّ الصورة الاولى من هذا الطريق أيضاً لا تخلو من شبهة الربا، وأ مّا الصورة الثانية منه فلا بأس بها.

لا يقال: إنّ الجعالة على عدم المطالبة، جعالة على أمر عدمي، وهو باطل؛ إذ الأمر العدمي لا يليق بأن يجعل في قباله جُعل.

لأ نّه يقال: لا دليل على اشتراط كون الجُعل بإزاء أمر وجودي وعمل خارجي، بل المعتبر أن يكون في قبال أمر فيه نفع عقلائي للجاعل أو غيره ممّن يقصده؛ وجودياً كان، أو عدمياً.

ومنها: التخلّص من الربا بطريق المصالحة، وهي تارةً: تقع على إبراء الدائن الدينَ الحالّ بمبلغ أزيد منه مؤجّلًا، واخرى: تقع على ازدياد أجل الدين بإزاء مبلغ زائد عليه.

ص: 335

والتحقيق: أنّه لا إشكال في الصورة الاولى؛ حيث إنّ المبلغ الزائد على الدين، لم يقع في هذه الصورة بإزاء الأجل الزائد حتّى تؤول إلى الربا، بل الدين الحالّ ابري بالمرّة بعوض مبلغ أزيد منه إلى أجل معيّن، فلا يستلزم الربا.

وأ مّا الصورة الثانية فمآلها إلى الربا، إذ المفروض أنّ المصالحة وقعت على أن يكون المبلغ الزائد على الدين، في قبال الأجل الزائد، وهذا هو الربا المحرّم؛ لما تقدّم من أنّ العرف لا يرى فرقاً في صدق الربا بين الزيادة التي تراضى عليه الدائن والمدين في أوّل المداينة، وبين الزيادة التي تراضيا عليها بعد حلول أجل الدين في قبال ازدياد الأجل.

ومنها: ما ذكره صاحب «الجواهر» قدس سره من التخلّص عن الربا في المقام بالبيع، ببيان أنّ الدائن يبيع إلى المدين شيئاً بضعفين من قيمته أو أضعافها، ويشترط عليه المدين في ضمن البيع أن يؤخّر أجل الدين إلى مدّة معلومة، وهذا ما يسمّى ب «البيع المحاباتي».

والتوسّل بهذه الحيلة للتخلّص من الربا منصوص في خبرين معتبرين:

أوّلهما: موثّقة محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت للرضا عليه السلام: الرجل يكون له المال، فيدخل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تَسوَى مائة درهم بألف درهم، ويؤخّر عنه المال إلى وقت، قال: «لا بأس به؛ قد أمرني أبي ففعلت ذلك» وزعم أ نّه سأل أبا الحسن عليه السلام عنها، فقال مثل ذلك(1).

ثانيهما: موثّقته الاخرى قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: يكون لي على الرجل دراهم فيقول: أخّرني بها وأنا اربحك، فأبيعه جبّة (حبّة خ ل) تقوّم عليّ بألف درهم


1- وسائل الشيعة 18: 55، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 6 ..

ص: 336

بعشرة آلاف درهم- أو قال: بعشرين ألفاً- واؤخّره بالمال، قال: «لا بأس»(1).

ويؤيّدهما مضمرة عبد الملك بن عتبة قال: سألته عن الرجل يريد (اريد خ) أن اعينه المال، أو يكون لي عليه مال قبل ذلك، فيطلب منّي مالًا أزيده على مالي الذي لي عليه، أيستقيم أن أزيده مالًا وأبيعه لؤلؤة تسوى مائة درهم بألف درهم فأقول: أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن اؤخّرك بثمنها وبما لي عليك كذا وكذا شهراً؟ قال: «لا بأس»(2).

ثمّ إنّ في المقام خبرين ربما يستظهر منهما منع التخلّص من الربا بالطريق المذكور، فيكونان معارضين لتلك النصوص: أحدهما: ما رواه الشيخ قدس سره بسنده عن يونس الشيباني قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: الرجل يبيع البيع والبائع يعلم أنّه لا يَسوَى، والمشتري يعلم أنّه لا يَسْوَى، إلّاأنّه يعلم أنّه سيرجع فيه فيشتريه منه، قال: فقال: «يا يونس، إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لجابر بن عبداللَّه: كيف أنت إذا ظهر الجور واورثهم الذلّ!! قال: فقال له جابر: لا بقيت إلى ذلك الزمان، ومتى يكون ذلك بأبي أنت وامّي؟ قال: إذا ظهر الربا، يا يونس وهذا الربا، فإن لم تشتره ردّه عليك» قال قلت: نعم، قال: «فلا تقربنّه، فلا تقربنّه»(3).

ولكن الخبر أوّلًا: ضعيف السند بوقوع صالح بن عقبة بن قيس الذي لم يوثّق، بل نقل ابن داود عن ابن الغضائري قوله: «ليس حديثه بشي ء، كذّاب غال، كثير المناكير»(4). ومع ذلك فقد وثّقه السيّد المحقّق الخوئي قدس سره اعتماداً على وقوعه


1- وسائل الشيعة 18: 55، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 4 ..
2- وسائل الشيعة 18: 55، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 9، الحديث 5 ..
3- وسائل الشيعة 18: 42، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 5، الحديث 5 ..
4- معجم رجال الحديث 9: 82 و 83 ..

ص: 337

في أسناد «كامل الزيارات» ولأنّ نسبة كتاب الرجال إلى ابن الغضائري لم تثبت(1).

ولكن مقتضى التحقيق: أنّ مجرّد وقوع الراوي في أسناد «كامل الزيارات» لا يثبت وثاقته، ومن هنا عدل ذلك القائل العظيم قدس سره عن المبنى أخيراً، وتفصيل البحث موكول إلى محلّه.

وثانياً: أنّ الخبر موهون بإعراض الأصحاب عن ظاهره.

وثالثاً: أنّه تحتمل فيه وجوه:

أوّلها: الحمل على الكراهة، كما حكاه صاحب «الحدائق» عن بعض مشايخه(2).

ثانيها: الحمل على صورة عدم قصد المتبايعين إلى البيع حقيقةً، وقد اختاره المحدّث الكاشاني قدس سره حيث قال: «لا منافاة بين هذا الخبر والأخبار المتقدّمة؛ لأنّ المتبايعين هاهنا لم يقصدا البيع، ولم يوجباه في الحقيقة، وهناك اشترط ذلك في جوازه»(3).

وكذا احتمله صاحب «الجواهر»(4).

ثالثها: الحمل على التقية؛ لما عن العامّة من تشديد المنع عن هذه الحيلة.

رابعها: أنّه لا يبعد أن يكون موضوع الخبر- بقرينة قوله عليه السلام: «وهذا الربا، فإن لم تشتره ردّه عليك؟»- ما إذا اشترط في البيع الأوّل البيع الثاني؛ بمعنى أن يشترط البائع في ضمن البيع الأوّل، أن يبيعه المشتري المتاع بأقلّ منه، فغاية مفاد


1- نفس المصدر ..
2- الحدائق الناضرة 19: 137 ..
3- الوافي 18: 725 ..
4- جواهر الكلام 25: 35 ..

ص: 338

الخبر هو عدم جواز الاحتيال للفرار من الربا بهذا الوجه، فلا يشمل ما إذا وقع الاحتيال له بالحيل المتقدّمة. وبهذا البيان ظهر أنّ الخبر حتّى لو كان صحيح السند، لا يعارض الأخبار المتقدّمة.

ثانيهما: ما في «نهج البلاغة» عن علي عليه السلام: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال له:

«يا علي، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم...» إلى أن قال: «ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنبيذ، والسّحْت بالهدية، والربا بالبيع»(1).

وفيه أوّلًا: منع ظهور الخبر في تحريم الاحتيال للتخلّص عن الربا بأيّة حيلة ولو كانت بشكل البيع المحاباتي؛ إذ من الممكن أن يكون ناظراً إلى المنع عن تحليل الربا بنوع خاصّ من البيع؛ وهو البيع بالنحو الذي حملنا عليه خبر يونس الشيباني في الوجه الرابع المتقدّم.

وثانياً: أنّ الخبر- على فرض ظهوره في المنع عن الاحتيال للفرار من الربا بمطلق البيع ولو كان بنحو البيع المحاباتي- فهو ليس أكثر من الإطلاق، فيقيّد بالأخبار المتقدّمة الواردة في حلّية الاحتيال للتخلّص من الربا بالبيع المحاباتي.

ثمّ لا يخفى: أنّ هذا كلّه مبني على مسلك المشهور من الالتزام بالنصوص والأدلّة المقتضية لجواز الفرار من الربا بالاحتيال بالحيل الشرعية المذكورة؛ وأ نّها مخصّصة لما دلّ من الكتاب والسنّة على حرمة الربا.

وأ مّا على مسلك الماتن المحقّق قدس سره من إنكار اعتبار تلك الأخبار، وعدم مشروعية تلك الحيل وغيرها، وأنّ الربا حرام لا يمكن الفرار منه بأيّ طريق، فلا


1- نهج البلاغة: 220، الخطبة 156 ..

ص: 339

يبقى طريق لتجويز كبرى تأجيل الدين بشرط الزيادة، ولا أخذ جريمة التأخير التي هي من صغرياتها، كما صرّح بذلك في تلك المسألة، حيث قال: «لا ينبغي الإشكال في عدم جواز تأجيل الثمن الحالّ- بل مطلق الدين- بأزيد منه؛ فإنّه رباً محرّم، وكذا لو كان القرض إلى أجل، فزاد فيه مقابل زيادة عينية أو حكمية؛ لأنّه من الربا عرفاً، ولا يحلّل الربا بالتخلّص عنه بالحيلة بأن يصالحه في مقابل الإمهال بشي ء، أو بغير ذلك، فمن تأ مّل في الآيات(1) والروايات(2) الواردة في باب الربا- هذا السحت الذي يستجلب من المفاسد والمشاكل ما لا يحصى، ولقد عدّه اللَّه تعالى في كتابه من الظلم، فقال: فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لَاتَظلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ(3) وما ورد في الروايات عنهم عليهم السلام من التشديد عليه؛ وأنّ الدرهم منه كذا وكذا- لعلم أنّه لا يحلّ ولا يجوز بالتخلّص منه بتغيير العبارة أو العنوان مع بقاء واقع الربا بحاله.

مثلًا: لو وهبه عشرين ديناراً ليقرضه ألفاً إلى شهر، حرم ولو لم يكن في القرض شرط الزيادة.

ففي المقام وإن لم يكن شرط الزيادة في القرض، وإنّما زاد شيئاً لتأخير الثمن أو القرض، لكنّه محرّم إمّا لصدق الربا عليه، كما هو كذلك عرفاً، أو لانسحاب مفسدة الربا فيه. وبالجملة: لا يجوز بوجه من الوجوه التخلّص منه بالحيل التي ذكروها.

وما ذكرناه إنّما في الربا القرضي، وأ مّا قضية بيع المثل بالمثل فهو أمر آخر


1- البقرة( 2): 275 و 276 و 278، آل عمران( 3): 130، النساء( 4): 161 ..
2- وسائل الشيعة 18: 117، كتاب التجارة، أبواب الربا ..
3- البقرة( 2): 279 ..

ص: 340

مسألة 5- الكمبيالات وسائر الأوراق التجارية لا مالية لها، وليست من النقود (22)،

غير مربوط بالربا وإن اطلق عليه السمة، والتفصيل في محلّه»(1).

وقد تقدّم الجواب عن شبهات الماتن المحقّق قدس سره على حلّية حيل باب الربا في المسألة الاولى من الكمبيالة عند البحث عن مستنده في قوله: «هذا إذا قصدا بذلك البيع حقيقةً، لا الفرار من الربا القرضي» فراجع.

ثمّ لا يخفى كما أشرنا آنفاً: أنّ إعمال الحيل المتقدّمة- على القول بمشروعيتها- إنّما ينفع فيما إذا كان الدائن غير البنوك الحكومية المتعارفة، وأ مّا بالنسبة إليها فلا؛ وذلك لأنّها تأخذ الزيادة على حسب قانونها بعد تأخير المديون في أداء الدين بعنوان جريمة التأخير، لا بعنوان الهبة من جانب المديون بإزاء التأجيل، ولا الصلح، ولا الجعالة، ولا غيرها من العناوين العقدية المحلّلة. نعم، إعمال تلك الحيل في التعامل مع البنوك الحكومية وتخريج فوائد التأخير عليها، أمر ممكن، إلّاأنّه على خلاف ما هو المفروض الرائج في العملية البنكية؛ من أنّها تأخذ جبراً بعنوان الجريمة، لا بتلك العناوين.

22- هذه المسألة ناظرة إلى بيان جهتين:

الاولى: الفرق الجوهري العقلائي بين الأوراق التجارية والأوراق النقدية.

الثانية: الآثار المترتّبة على ذلك الفرق.


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 5: 527 ..

ص: 341

الفروق بين الأوراق التجارية والأوراق النقدية

اشارة

أ مّا الجهة الاولى: فالأوراق التجارية- بأصنافها المختلفة من ورقة الكمبيالة، والحوالات، والصك، وأوراق السهام وغيرها- تمتاز عن الأوراق النقدية بوجوه شتّى:

منها: ما ذكره الماتن المحقّق قدس سره- وهو الفرق الرئيسي بينهما- وهو أنّ الأوراق التجارية ومنها الكمبيالة، لا مالية لها عند العقلاء، بل هي أسانيد تحكي عمّا له المالية العقلائية؛ أعني النقود، ومن هنا لا يتعاملون بها معاملة النقود، بل يتخذونها معبّرة عنها.

ومثله ما أفاده السيّد المحقّق الخوئي في المسائل المستحدثة من «المنهاج»:

«مسألة 20: الكمبيالات المتداولة بين التجّار في الأسواق، لم تعتبر لها مالية كالأوراق النقدية، بل هي مجرّد وثيقة وسند لإثبات أنّ المبلغ الذي تتضمّنه، دين في ذمّة موقّعها لمن كتبت باسمه، فالمشتري عندما يدفع كمبيالة للبائع لم يدفع ثمن البضاعة، ولذا لو ضاعت الكمبيالة أو تلفت عند البائع، لم يتلف منه مال، ولم تفرغ ذمّة المشتري، بخلاف ما إذا دفع له ورقة نقدية وتلفت عنده أو ضاعت»(1).

وتوضيح ذلك: أنّ مالية الشي ء تتقوّم بأحد أمرين:

الأوّل: أن يكون الشي ء ذا منفعة تتنافس عليها العقلاء، كمنفعة الأكل


1- منهاج الصالحين 1: 417 ..

ص: 342

والشرب واللبس والسكن، ونحوها ممّا يرغب فيه العقلاء، وهذا النوع من المالية ذاتية لا تدور وجوداً وعدماً مدار اعتبار العقلاء، بل هي متقوّمة بالمنفعة والأثر المترتّب على الشي ء الموجب لرغبة العقلاء فيه.

الثاني: الاعتبار، ولكن لا مطلق الاعتبار، بل الاعتبار ممّن هو أهل له ويكون من شأنه؛ بحيث يعطي الشي ء باعتباره وجعله، ماليةً عقلائية، كاعتبار المالية للأوراق النقدية والطوابع من قبل الحكومات في جميع الأنظمة العالمية.

والأوراق التجارية فاقدة لكلتا الماليتين:

أ مّا الاولى: فواضح.

وأ مّا الثانية: فلأنّ الأوراق التجارية لم يعتبر لها في جميع الحكومات العالمية مرتبة من المالية، وإنّما اتّخذت سنداً يعبّر عن مبلغ معيّن من النقود، فالكمبيالة مثلًا سند يحكي عن ثبوت دين لمن بيده ورقتها على ذمّة الموقّع عليها، ونفس الورقة لا مالية حقيقية لها عند العقلاء إلّابمقدار أنّها شي ء من القرطاس.

هذا هو الفرق الجوهري الرئيسي بين الأوراق النقدية والتجارية.

ومنها: فروق اخرى ذكرها أرباب علم الحقوق ينبغي التعرّض لها، ولنقتصر على بيان بعضهم حيث قال: «بالرغم من اعتبار الأوراق التجارية أداة وتسميتها:

العملة التجارية، واقترابها بذلك من الأوراق النقدية؛ أي العملة الورقية، فإنّ هناك فروقاً عديدة بين النوعين من الأوراق أو بين العملتين، وخصوصاً من حيث كون الأوراق النقدية صادرة بالضرورة عن الدولة ممثّلة عادةً بالبنك المركزي فيها وبضمانتها، وبالتالي عدم جواز رفض التعامل بها، في حين أنّ الأوراق التجارية يمكن أن تصدر عن أيّ شخص كان من أشخاص القانون العامّ، أو أشخاص القانون

ص: 343

الخاصّ، وبضمانة خصوص الأشخاص الملتزمين بموجبها. وفيما عدا أحوال استثنائية منصوص عليها في بعض القوانين والأنظمة، لا يمكن إجبار أحد على قبولها في معاملاتهم الخاصّة أو المهنية.

هذا بالإضافة إلى أنّ بالإمكان اشتراط الفائدة بشروط خاصّة في كلّ من سند السحب والكمبيالة، بينما ليس من ثمّة فائدة في الأوراق النقدية.

ثمّ إنّ الأوراق التجارية ذات أجل قصير عادةً، بينما الأوراق النقدية غير محدّدة بمدّة. كما أنّ التقادم غير متصوّر في هذه الأخيرة، بعكس الأوراق التجارية التي تخضع لمدّة تقادم قصير عادة لا تتجاوز الخمس سنوات، وأحياناً السنتين، أو السنة الواحدة، أو حتّى الستّة أشهر»(1).

ثمّ إنّ للأوراق التجارية- على ما صرّح به بعض أرباب علم الحقوق- خصائص شكلية قانونية لا بأس بالإشارة إليها وهي- على ما ذكره بعضهم- عبارة عن الخصائص التالية:

ألف- إنّ الأوراق التجارية وثائق أو محرّرات شكلية، فلا يمكن تصوّرها إلّا وهي مكتوبة. كما أنّ لكلّ منها شكلها الخاصّ المحدّد قانوناً من حيث تسميتها باسم أو أسماء معيّنة، ووجوب احتوائها- بالإضافة إلى ذلك- على عدد آخر من البيانات الإلزامية؛ لا تعتبر الورقة من دونها صحيحة مستجمعة لشروطها.

ب- الأوراق التجارية لا يمكن أن تتضمّن إلّاأمراً، كما في سند السحب والشيك، أو تعهّداً- كما في السند لأمر- بدفع مبلغ معيّن من النقود، وهذا الأمر أو


1- الأوراق المالية والعمليات المصرفية: 11 ..

ص: 344

التعهّد ينبغي أن يكون مطلقاً غير معلّق على شرط واقف أو فاسخ، والمعلّق واجب الأداء في وقت معيّن، أو لدى الاطلاع.

ج- تخضع الأوراق التجارية في مجموعها لقواعد قانونية خاصّة تسمّى:

«قانون الصرف» أو «القانون الصرفي» تتميّز من ناحية بتسهيلها عمليات تداولها بالتظهير، أو بالمناولة البدوية، دون حاجة لاتّباع طريقة حوالة الحقّ الواجبة الاتّباع في غيرها من السندات الدينية أو التجارية. وتتصف من ناحية اخرى بالتشديد على المدينين فيها.

د- الأوراق التجارية وبصورة خاصّة سند السحب- كما يستدلّ على ذلك من تسميتها في اللغة العربية: «الأوراق» أو «الأسناد» أو «السندات» أو «المستندات التجارية»- من الوسائل اللصيقة بعالم التجارة، فلا مناص لذلك من إخضاع العمليات المتصلة بها في جملتها إلى أحكام القانون التجاري(1).

هذه هي الخصائص الشكلية القانونية للأوراق التجارية، ومنها السفتجة، ولكنّ الخاصّة الجوهرية الفريدة التي تمتاز بها عن الأوراق النقدية، ما تقدّم في أوّل الكلام من أنّ الأوراق التجارية، فاقدة للمالية بكلا نوعيها، ولا يراها العقلاء إلّا سنداً يعبّر عن مقدار معيّن من النقود، بخلاف الأوراق النقدية، فإنّها بنفسها ذات مالية اعتبارية.


1- الأوراق المالية والعمليات المصرفية: 13 ..

ص: 345

والمعاملات الواقعة بها لم تقع بنفسها، بل بالنقود وغيرها التي تلك الأوراق معبّرة عنها، ودفعها إلى الدائن لايسقط ذمّة المدين، ولو تلف شي ء منها في يد غاصب ونحوه أو أتلفه شخص لم يضمنه ضمان التلف أو الإتلاف (23).

الآثار المترتّبة على عدم المالية للأوراق التجارية

23- هذه هي الجهة الثانية من البحث، وتتصدّى لبيان الآثار المترتّبة على عدم المالية للأوراق التجارية:

منها: أنّ الأوراق التجارية لا تقع بنفسها عوضاً ولا معوّضاً في أيّة معاملة من المعاملات من البيع والإجارة وغيرهما؛ لأنّ العوضين متقوّمان بالمالية، فما لا مالية له- ومنه الأوراق التجارية- لا يمكن أن يقع عوضاً أو معوّضاً في جميع المعاملات، ومن هنا إذا وقعت معاملة على ورقة تجارية، فهي لم تقع في الحقيقة على نفسها، بل وقعت على النقد الذي تعبّر عنه تلك الورقة التجارية، فالكمبيالة المتضمّنة مثلًا لكون زيد مديوناً لعمرو بمائة ألف تومان مؤجّل إلى ستّة أشهر إذا بيعت لشخص ثالث بثمانين ألف تومان نقداً، فالمعاوضة وإن وقعت صورة بين الكمبيالة والثمانين ألف تومان، ولكنّها في الحقيقة تقع بين هذا المبلغ نقداً، وبين المبلغ المؤجّل من الأوراق النقدية؛ أي المائة ألف تومان الذي تحكي عنه ورقة الكمبيالة.

ومنها: أنّ المدين إذا دفع ورقةً تجارية إلى الدائن، لا يسقط به الدين الثابت

ص: 346

وأمّا الأوراق النقدية- كالإسكناس والدينار والدلار وغيرها- فلها مالية اعتبارية، وهي نقود كالدينار والدرهم المسكوكين من الذهب والفضّة (24)،

على ذمّته، وهذا ليس إلّامن جهة عدم كون الأوراق التجارية ذات مالية، ومن هنا لا تبرأ ذمّة المدين بمجرّد دفع صكّ متضمّن لمقدار الدين إلى الدائن، وهكذا لا تبرأ بمجرّد دفع سفتجة إليه، بخلاف الأوراق النقدية من الإسكناس وغيره، فإنّها لمّا كانت ذات مالية عقلائية، فدفعها إلى الدائن مسقط لما في ذمّة المدين من الدين.

ومنها: أنّ الأوراق التجارية بعدما لم تكن ذات مالية، لا يوجب تلفها في يد غاصب ولا إتلافها بغيره ضماناً؛ إذ الضمان يدور مدار المالية، والمفروض أنّ تلك الأوراق لا مالية لها، ومن هنا لو غصب شخص ورقة سفتجة من غيره ثمّ تلفت في يده، فلا ضمان عليه بالنسبة إلى المبلغ المذكور فيها، وكذا إن كانت في يد صاحبها فأتلفه شخص آخر، فإنّ إتلافه لها لا يوجب الضمان؛ إذ الدين- الذي له المالية والسفتجة معبّرة عنه- باقٍ، ولم يتلف بتلفها، وورقة السفتجة التالفة ليست لها تلك المالية.

نعم، بالنسبة إلى مالية ورقة السفتجة بما أنّها قرطاس خاصّ، يكون ضامناً؛ لصدق إتلاف المال على إتلافها. وهذا بخلاف الأوراق النقدية على ما سيأتي توضيحه في التعليقة التالية.

24- الأوراق النقدية، كالإسكناس، والدولار، وغيرهما، لمّا كانت ذات

ص: 347

دفعها إلى الدائن مسقط لذمّته، وفي تلفها وإتلافها ضمان كسائر الأموال (25).

مالية عقلائية، وتكون كالدرهم والدينار المسكوكين من النقود الرائجة، فلا محالة يكون تلفها في يد غاصبها بأيّ سبب- ولو لآفة سماوية أو أرضية غير مستندة إلى الغاصب- موجباً لضمانه، كما أنّ إتلافها بسبب غيره أيضاً يوجب الضمان.

نعم، هنا فرق بين الدرهم والدينار المسكوكين والأوراق النقدية من الإسكناس والدولار وغيرهما: وهو أنّهما لمّا كانا من جنس الذهب والفضّة، لم تكن ماليتهما بالاعتبار؛ وإن كانت صيرورتهما من النقود الرائجة متوقّفاً على اعتبار الدولة الحاكمة، بخلاف الأوراق النقدية، فإنّ أصل ماليتها متقوّمة باعتبار الحكومة؛ بحيث لو لم تعتبر لها المالية لم تكن لها مالية عند العقلاء أصلًا.

ثمّ لا يخفى: أنّ النكتة في تعبير الماتن المحقّق قدس سره تارةً: ب «ضمان التلف» واخرى: ب «ضمان الإتلاف» أنّ الأوّل ناظر إلى ضمان مثل الغاصب، فإنّ ثبوت ضمانه للمال بعد كون يده عدوانية، لا يتوقّف على صدق الإتلاف في حقّه، بل هو ضامن للمغصوب ولو تلف عنده بآفة أرضية أو سماوية، ولكنّ التعبير الثاني ناظر إلى الضمان الإتلافي الذي يدور مدار صدق الإتلاف واستناد التلف إلى الشخص، كما في غير الغاصب.

25- تقدّم شرح هذه الفقرة في التعليقة السابقة فلا نعيده، إن شئت فراجع.

ص: 348

مسألة 6- قد تقدّم: أنّ الأوراق النقدية لايجري فيها الربا غير القرضي، فيجوز تبديل بعضها ببعض بالزيادة والنقيصة؛ سواء كان المتبادلان من نقد مملكتين كتبديل الدينار بالإسكناس، أو لا كتبديل الإسكناس بمثله والدينار بمثله (26)؛

معاملة الأوراق النقدية بعضها ببعض

26- تعرّض الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة لحكم المعاوضة بين الأوراق النقدية بالبيع والصلح ومطلق المبادلة بينها، وقد تقدّم في ضمن المسألة الاولى من مسائل هذا الباب- الكمبيالات- أنّ الأوراق النقدية- كالإسكناس، والدولار، وغيرهما من الأوراق النقدية الرائجة- ليست من المكيل، ولا الموزون، ويترتّب على هذه الجهة أنّه لا يجري فيها الربا المعاملي؛ لأنّه مشروط بكون العوضين المجانسين من المكيل أو الموزون، والمفروض أنّ الأوراق النقدية من المعدود، لا منهما، ومن هنا يجوز تبديل بعضها ببعض بالزيادة والنقيصة بشكل البيع، أو الصلح، أو مطلق المبادلة؛ من غير فرق بين أن يكون المتبادَلان من نقد دولتين، كتبديل الدينار أو الدولار بالإسكناس، أو من نقد دولة واحدة، كتبديل الإسكناس بالإسكناس، أو الدولار بالدولار. نعم في بيع الورق النقدي بمماثله كالأخيرين يعتبر أن يكون بينهما ميز، بأن يبيع الشخص- مثلًا- مائة ورقة من الإسكناس كلّ واحدة منها مائة تومان بعشر أوراق كلّ منها ألف تومان، أو بتسع أوراق كذائية، أو بأزيد منها.

وكيف كان فأصل الجواز لا ينبغي الإشكال فيه، كما قال السيّد الفقيه

ص: 349

الطباطبائي اليزدي قدس سره في محلقات العروة، ما إليك لفظه: «مسألة 56: الإسكناس معدود من جنس غير النقدين له قيمة معينة ولا يجري عليه حكمهما فيجوز بيع بعضه ببعض أو بالنقدين متفاضلًا، وكذا لا يجري عليه حكم العرف من وجوب القبض في المجلس، وكذا النوط»(1).

وذكر نحوه السيّد المحقّق الميلاني قدس سره في المسألة الرابعة من أحكام السفتجة(2).

بل يجوز لمن كان له على شخص دين من ورق نقدي خاصّ- كمائة ألف دولار- أن يبيعه له بمبلغ أقلّ منه نقداً من نفس ذاك الورق، كما قال السيّد المحقّق الخوئي قدس سره أيضاً في المسائل المستحدثة من «المنهاج»: «مسألة 19: الأوراق النقدية بما أنّها ليست من المكيل أو الموزون، فإنّه يجوز للدائن أن يبيع دينه منها بأقلّ منه نقداً، كأن يبيع العشرة بتسعة أو المائة بتسعين مثلًا، وهكذا»(3).

والحاصل: أنّ الزيادة والنقصان في أحد العوضين بالنسبة إلى الآخر- فيما إذا وقعت المعاوضة بين الأوراق النقدية- لا يوجب رباً معاملياً؛ بعدما افترضنا أنّها ليست من المكيل، ولا الموزون، بل من المعدود، وقد دلّت نصوص على أنّ من شرائط الربا المعاملي كون العوضين من المكيل أو الموزون، فقد روى المشايخ الثلاثة بطرق معتبرة عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول:

«لا يكون الربا إلّافيما يكال أو يوزن»(4).


1- ملحقات العروة الوثقى 1: 48 ..
2- أحكام سفته وسرقفلى: 6 ..
3- منهاج الصالحين 1: 417 ..
4- وسائل الشيعة 18: 133، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 6، الحديث 3 ..

ص: 350

من غير فرق بين كون معتمدها (پشتوانه) ذهباً وفضّة، أو غيرهما من المعادن كالأحجار الكريمة والنفط (27). نعم لو فرض في مورد تكون الأوراق المذكورة كالأوراق التجارية، كان حكمها كتلك الأوراق، لكنّه مجرّد فرض.

ولا يخفى أنّ جواز مبادلة الأوراق النقدية عند الماتن المحقّق قدس سره مختصّ بما قصد المتعاملان، البيع حقيقةً لا القرض حقيقةً للفرار من الربا، وسيأتي تصريحه في ذيل هذه المسألة.

وهم ودفع

27- هذا إشارة إلى دفع ما قد يتوهّم: من أنّ الأوراق النقدية وإن اعتبرت لها الحكومات مالية، إلّاأنّ اعتبارها وجعلها لها ليس على الإطلاق، بل يكون مقيّداً بما لتلك الأوراق من المعتمد (پشتوانه) وهو المصحّح لاعتبار المالية لها، والمعتمد هو المال الحقيقي الذي في خزينة الدولة من الذهب والفضّة، أو في غيرها، كالمعادن من النفط والأحجار الكريمة ونحوهما، فالأوراق النقدية بما أنّها أوراق نقدية لا مالية لها حقيقةً، وإنّما هي كالإسناد المعبّر عن مقدار معيّن من مال حقيقي من الذهب والفضّة ونحوهما.

ونتيجة هذه الفكرة: أنّ المعاوضة والمبادلة حينما يباع مثلًا شي ء من الإسكناس بشي ء منه أو بورق نقدي آخر كالدولار، لم تقع بين الأوراق النقدية الإسكناسية أو الدولارية، بل وقعت في الحقيقة بين مقدار من الذهب أو الفضّة وبين مقدار آخر منه، اللذين هما معتمدان لهذه الأوراق، وهي حاكية عنهما، ومرآة لهما، وإذا كانت حقيقة المعاملة كذلك، فلا محالة يتطرّق إليها الربا المعاملي؛ لأنّ المعاملة

ص: 351

بين الورقين على هذه الفكرة، تؤول بحقيقتها إلى معاملة الذهب بالذهب أو الفضّة بالفضّة، ومن المعلوم أنّ هذا هو بيع الصرف الذي لا يجوز فيه التفاضل بلا خلاف وإشكال، كما قال المحقّق الحلّي قدس سره في بيع الصرف: «ولا يجوز التفاضل في الجنس الواحد ولو تقابضا»(1)، وعقّبه في «الجواهر» بقوله: «إجماعاً ونصّاً؛ للرّبا»(2). هذا كلّه بيان التوهّم.

والجواب عنه: أنّ الأوراق النقدية وإن كانت في بدء حدوثها- ووقوعها موضع الدرهم والدينار واتخاذ العرف لها أثماناً في معاملاتهم وتجاراتهم- تدور ماليتها مدار معتمدها من الذهب والفضّة، بل العرف يرونها أسانيد حاكية عن مقدار معيّن منهما، ولكن ذكر في تأريخ حدوث الأوراق النقدية: أنّه بعد مضيّ مدّة قصيرة من ظهورها في عالم التجارة والبيع والشراء، خرجت عن وصف التعبير والحكاية عن مقدار معيّن من الذهب والفضّة، وأصبحت ذات مالية اعتبارية مستقلّة عنهما، واتّخذها العرف في معاملاتهم أثماناً برأسها، لا بما أنّها أسانيد لهما.

ويترتّب على ذلك أنّ بيع الأوراق النقدية من الإسكناس مثلًا بعضه ببعض لا يؤول إلى المعاوضة بين شي ء من الذهب مع شي ء آخر منه، كما ادّعاه المتوهّم؛ حتّى يسري إليه الربا المعاملي الصرفي، بل المعاوضة واقعة بين مقدارين من الإسكناس، والمفروض أنّه ليس من المكيل، ولا الموزون، فلا يجري فيه الربا المعاملي.

نعم، لو فرض في مورد، صيرورة الأوراق المذكورة- من الإسكناس


1- شرائع الإسلام.
2- جواهر الكلام 26: 13 ..

ص: 352

هذا إذا قصد بذلك البيع دون القرض، وإلّا فلايجوز (28).

والدولار والدينار- كالأوراق التجارية أسانيد حاكية عن مبلغ معيّن من الذهب أو الفضّة أو أيّ مال حقيقي آخر، فلا محالة يكون حكمها كحكم هذه الأوراق من جهة أنّ أحكام المعاملة من الربا وغيره، تلاحظ حينئذٍ بالنسبة إلى الذهب أو الفضّة اللذين تحكي عنهما تلك الأوراق، وعندئذٍ يتطرّق لدى مبادلة بعض الإسكناس بأزيد من جنسه، الربا المعاملي.

ولكنّ هذا مجرّد فرض لا واقعية له في عهدنا الراهن؛ إذ عرفت (على ما ذكر أرباب علم الاقتصاد في تطوّر حدوث الأوراق النقدية) أنّه بعد مضيّ مدّة قصيرة من زمان ظهور الأوراق النقدية، أصبحت ذات مالية اعتبارية عقلائية مستقلّة، لا بما أنّها حاكية عن مقدار معيّن من الذهب أو الفضّة، وحيث إنّها خارجة عن المكيل والموزون، فلا يجري الربا المعاملي في تبادل بعضها ببعض منها مع الزيادة والنقصان.

28- ما ذكرنا من جواز مبادلة الأوراق النقدية بعضها ببعض- سواء كان المتبادلان من نقد دولتين، كتبديل الإسكناس بالدولار، أو من نقد دولة واحدة، كتبديل الإسكناس بالإسكناس- إنّما يجوز فيما إذا قصد المتعاقدان بذلك البيع حقيقةً، لا القرض، كما إذا باع لغرض عقلائي مائة ورقة من الإسكناس كلّ منها مائة تومان بتسع أوراق منه كلّ منها ألف تومان، ففي هذه المعاملة وإن كان أحد العوضين أزيد من الآخر بألف تومان، ولكن وقعت المعاوضة بعنوان البيع إنشاءً وداعياً، فتكون جائزةً.

وأ مّا إذا قصد القرض بذلك فلا يجوز، كما إذا عوّضه تسعة آلاف تومان نقداً

ص: 353

بعشرة آلاف تومان مؤجّلةً إلى خمسة أشهر، فهو لبّاً قرض ربوي محرّم. والتخلّص عن الربا بطريق تبديل الإنشاء القرضي إلى الإنشاء البيعي ممنوع عند الماتن المحقّق قدس سره، وقد تقدّم ذيل المسألة الاولى من الكمبيالات أنّ أعمال الحيلة للفرار من الربا القرضي، بأيّ وجه كان غير جائز عنده.

ثمّ لا يخفى: أنّ ظاهر عبارة الماتن المحقّق قدس سره وإن يوهم الجواز فيما إذا وقعت المعاوضة في هذا المثال بقصد البيع إنشاءً حتّى وإن كان الداعي الفرار من الربا القرضي، ولكن بعد ملاحظة أنّ هذه الفقرة من المتن موافقة لرأيه الأخير؛ وهو عدم جواز جميع الحيل في باب الربا القرضي، وقد عدل بها عن رأيه السابق، ولهذا لم تذكر تلك الفقرة في الطبعة الاولى من «تحرير الوسيلة» يظهر أنّ مراده قدس سره من «القصد» في قوله: «هذا إذا قصد بذلك البيع دون القرض» ليس مجرّد القصد الإنشائي، بل مراده الداعي إلى إيقاع المبادلة، فإنّ الداعي إلى مبادلة مبلغ من الإسكناس بأقلّ منه تارةً: يكون البيع حقيقةً، كما في المثال الأوّل، وهو جائز، واخرى: يكون القرض، وإنّما ينشئه بشكل البيع فراراً من القرض الربوي، وهو غير جائز.

نعم، على مسلك المشهور من جواز الفرار من الربا بالحيل، يختلف الحكم جوازاً ومنعاً في المثال الثاني باختلاف الإنشاء؛ فإن انشئت المبادلة بين تسعة آلاف تومان نقداً وعشرة آلاف تومان مؤجّلةً بعقد البيع، تكون جائزة، ولا تخلّ زيادة أحد العوضين بصحّتها وضعاً، ولا توجب الحرمة تكليفاً، وإن انشئت بعقد القرض فهو رباً محرّم.

وفي المقام قول ثالث: وهو ما اختاره السيّد المحقّق الخوئي قدس سره من التفصيل بين بيع العُملة بغير مماثلها، كبيع مبلغ من الدولار نقداً، بمبلغ من الإسكناس

ص: 354

مؤجّلًا، فهو جائز، وبين بيعها بمماثلها بالوجه المذكور فليس بجائز، ودونك عبارته في «المنهاج»:

«مسألة 220- الأوراق النقدية لمّا لم تكن من المكيل والموزون لا يجري فيها الربا، فيجوز التفاضل في البيع بها، لكن إذا لم تكن المعاملة شخصية لابدّ في صحّة المعاملة من امتياز الثمن عن المثمن، كبيع الدينار العراقي في الذمّة بالدينار الكويتي أو بالريال الإيراني مثلًا، ولا يجوز بيع الدينار العراقي بمثله في الذمّة...»(1) إلى آخره.

والمستند في هذا التفصيل: أنّ بيع مبلغ من الورق النقدي كالإسكناس نقداً بمبلغ أزيد منه مؤجّلًا، قرض ربوي لبّاً؛ إذ القرض هو تمليك العين مع تضمين مثلها وبيع الورق النقدي بالوجه المذكور ليس في جوهره إلّاتمليك ذاك المبلغ مع التضمين بمثله، فهو أجنبي عن روح البيع، وكيف يكون بيعاً حقيقةً مع أنّه متقوّم بالعوض والمعوّض المتمايز كلّ منهما عن الآخر، والمفروض في المقام أنّ كلا العوضين هو الورق النقدي المعيّن كالإسكناس ولا تمايز بينهما.

ولكن يمكن أن يناقش في هذا الوجه بأنّ العقود- ومنها البيع والقرض- من الامور الاعتبارية التي تتقوّم بالاعتبار والإبراز وإنّما تتمايز باختلافهما. والمفروض في المقام أنّ قصد المتعاملين هو إنشاء المعاملة واعتبارها بوجه البيع، فكيف ينقلب لبّاً إلى ما هو خلاف قصدهما واعتبارهما وإبرازهما.

ويمكن الجواب عن هذه المناقشة: بأنّ البيع والقرض وإن كانا من الامور الإنشائية المتقوّمة بالاعتبار، ولكنّه ليس بمعنى جواز إنشائهما في وعاء الاعتبار


1- منهاج الصالحين 2: 54 ..

ص: 355

بمجرّد القصد واللحاظ بأيّ وجه كان، بل لابدّ من قصد ما هو واقعهما وروحهما في افق الاعتبار عند العقلاء؛ فإنّ حقيقة القرض عندهم هو تمليك عين مع التضمين بمثلها، ومقتضاه جواز ردّ نفس العين المقترضة إلى المقرض بعنوان أداء القرض، مع أنّ البيع عندهم هو تمليك مال بعوض ومقتضاه عدم إمكان دفع نفس المثمن بعنوان الوفاء بالثمن، ومن المعلوم في المقام أنّ من يشتري صورةً مبلغاً من الإسكناس نقداً بأزيد منه مؤجّلًا، يجوز له أن يدفع نفس ذاك المبلغ شرعاً وعقلًا بعنوان الوفاء بما هو ثمن صوري، مع أنّه لو كان بيعاً في جوهره ولبّه، لا يمكن ردّ نفس المثمن بعنوان الوفاء بالثمن، فهذا شاهد صدق على أنّ المعاملة المذكورة روحها وواقعها ليست إلّامن سنخ القرض لا البيع وإن كان قصد المتعاقدين إنشاءه؛ وذلك لأنّهما اعتبرا بارتكازهما ما هو عند العقلاء في وعائه الاعتباري روح القرض وحقيقته وإن خطأا في تسميته بالبيع.

ولكن يرد على هذا الجواب: أنّ القرض كالبيع من المعاوضات، والعوض فيه متمايز دائماً من المعوّض؛ حيث إنّ المعوّض في القرض هو المبلغ المعيّن من الورق النقدي الشخصي وعوضه هو المبلغ المعيّن الكلّي من جنسه على ذمّة المقترض، ومن هنا يجوز أداء القرض بنفس ذاك المبلغ؛ لأنّه مصداق لهذا العوض الكلّي، لا أنّه عين العوض المسمّى في عقد القرض؛ ضرورة أنّه كلّي وهذا شخصي.

مضافاً إلى ذلك، إنّ لزوم تغاير العوض مع المعوّض في البيع منقوض ببيع العريّة- وهو بيع رطب النخلة بمقدار من تمرها بطريق الخرص- فإنّه بيع بلا عناية ومجاز وهو صحيح عند المشهور، منهم السيّد المحقّق الخوئي قدس سره، وقد صرّح بصحّته بذاك المعنى في المنهاج بعنوان أنّه بيع؛ حيث قال: «مسألة 280- لا بأس

ص: 356

مسألة 7- الأوراق النقدية لا تتعلّق بها الزكاة، ولايجري فيها حكم بيع الصرف (29).

ببيع العريّة وهي النخلة الواحدة لشخص في دار غيره فيبيع ثمرتها قبل أن تكون تمراً منه بخرصها تمراً»(1)، ولا موجب لإرجاع بيع العريّة إلى الإجارة على سقي النخلة واجتذاذ تمرها بإزاء مقدار منه، فتأمّل.

نعم على قول من ذهب إلى جواز بيع العريّة لا بمعنى بيع رطبها بمقدار من تمرها خرصاً، بل بمعنى بيع رطبها كذلك بمقدار من تمر غيرها- كما عليه الشهيد الأوّل قدس سره في اللمعة(2)، والشهيد الثاني قدس سره في شرحها(3)- لا يرد النقض به؛ لتغاير العوضين حينئذٍ كما هو واضح.

ولكن بعد اللتيا والتي، في النفس شي ء بالنسبة إلى الحكم بجواز بيع الأوراق النقدية نقداً بالأزيد من مماثلها مؤجّلًا فلا يترك الاحتياط.

29- لما ذكرنا آنفاً: من أنّ مالية الأوراق النقدية- كالإسكناس والدولار وغيرهما- ليست من جهة أنّها تعبّر عن مقدار من الذهب أو الفضّة وهو معتمد لها، بل ماليتها العقلائية أمر اعتباري متقوّم بجعل أرباب الحكومة واعتبار الدولة، كما أنّ سقوطها عن المالية أيضاً يدور مداره، ويترتّب على هذه النكتة أنّ الأوراق النقدية لا تتعلّق بها الزكاة، ولا يجري فيها حكم بيع الصرف؛ أي بيع الذهب بمثله، والفضّة بمثلها، إذ المفروض أنّها بنفسها ليست من جنس الذهب والفضّة اللّذين هما


1- منهاج الصالحين 2: 66 ..
2- اللمعة الدمشقية: 113 ..
3- الروضة البيهيّة 1: 350 ..

ص: 357

نعم الأقوى جواز المضاربة بها (30).

الموضوع في بيع الصرف، ولا من الأشياء المتعلّقة بها الزكاة مع توفّر شروطها، ولا كأوراق الأسناد حاكية عن مقدار من الذهب أو الفضّة؛ حتّى إذا وقعت معاملة بها تؤول إلى المعاملة بهما، وتندرج في معاملة الصرف، ومن هنا تكون الأوراق النقدية خارجة عن موضوع زكاة النقدين، فلا تتعلّق بها، وكذا عن موضوع بيع الصرف، فلا يجري فيها حكمه من عدم جواز زيادة أحد العوضين على الآخر ولزوم التقابض في المجلس.

جواز المضاربة بالأوراق النقدية

اشارة

30- محلّ البحث عن هذه الجهة وإن كان كتاب المضاربة، ولكن ينبغي التعرّض له بما يسع المقام:

فنقول: المشهور قديماً اشتراط كون رأس المضاربة من الدرهم والدينار، بل ادّعى عليه المحقّق الثاني قدس سره الإجماع، وستأتي عبارته في «جامع المقاصد» ولا بأس بالتعرّض لكلمات الفقهاء العظام أعلى اللَّه مقامهم ثمّ للوجوه التي استدلّ بها على اعتبار ذلك، وملاحظة النقض أو الإبرام فيها:

قال الشيخ الطوسي قدس سره في «الخلاف»: «مسألة 1: لا يجوز القراض إلّا بالأثمان التي هي الدراهم والدنانير، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي...»(1).

وفيه أيضاً: «مسألة 2: القراض بالفلوس لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة،


1- الخلاف 3: 459 ..

ص: 358

وأبو يوسف، والشافعي. وقال محمّد: هو القياس، إلّاأنّي اجيزه استحساناً؛ لأنّها ثمن الأشياء في بعض البلاد. دليلنا: أنّ ما قلناه مجمع على جواز القراض به، وما ذكروه ليس عليه دليل، والاستحسان عندنا باطل»(1).

ولا يخفى: أنّه رحمه الله لم يدّع الإجماع على اعتبار كون رأس المال من الدرهم والدينار وبطلان المضاربة بغيرهما الذي هو محلّ البحث، بل على صحّة المضاربة فيما كان رأس المال منهما، ومن الواضح أنّ الإجماع على الثاني لا يستلزم الإجماع على الأوّل.

وفي «جواهر الفقه» لابن البرّاج قدس سره: «إذا دفع إنسان إلى حائك غزلًا وقال له: انسج ثوباً أو إزاراً على أن يكون الفضل بيننا، هل يكون ذلك مضاربة صحيحة، أم لا؟ الجواب: لا يكون ذلك مضاربة صحيحة؛ لأنّ المضاربة لا تكون إلّابالأثمان التي هي الدنانير والدراهم، ويختلط المالان، وإنّما قلنا هذا لأنّه لا خلاف في أنّ ما ذكرناه مضاربة صحيحة، وليس كذلك ما يخالفه»(2).

والظاهر من هذه العبارة اعتبار الدرهم والدينار في رأس المال؛ سليمين كانا، أو مغشوشين. ولكنّ المستفاد من جماعة اشتراط كونه من الدرهم والدينار السليمين:

وقال ابن زهرة قدس سره: «ومن شرط صحّة ذلك أن يكون رأس المال فيه دراهم أو دنانير معلومة مسلّمة إلى العامل، ولا يجوز القراض بالفلوس، ولا بالورق المغشوش؛ لأنّه لا خلاف في جواز القراض مع حصول ما ذكرناه، وليس على


1- الخلاف: 460 ..
2- جواهر الفقه: 124 ..

ص: 359

صحّته إذا لم يحصل دليل»(1).

ولا يخفى: أنّ معقد هذا الإجماع- كالإجماع المدّعى في «الخلاف»- ليس اشتراط الدرهم والدينار في رأس المال، بل صحّة المضاربة فيما كان منهما.

وقال ابن حمزة قدس سره في «الوسيلة»: «فالصحيح ما اجتمع فيه شروط ثلاثة:

العقد على الأثمان من الدراهم والدنانير، غير المغشوشة»(2).

وقال ابن إدريس في «السرائر»: «من شروط صحّة ذلك أن يكون رأس المال معلومة مسلّمة إلى العامل، ولا يجوز القراض بغير الدنانير والدراهم من سائر العروض، فعلى هذا لا يجوز القراض بالفلوس، ولا بالورق المغشوش»(3).

وقال المحقّق قدس سره: «ومن شرطه أن يكون عيناً، وأن يكون دراهم أو دنانير»(4).

وقال العلّامة قدس سره في «القواعد»: «الأوّل: أن يكون نقداً، فلا يصحّ القراض بالعروض، ولا بالنقرة، ولا بالفلوس، ولا بالدراهم المغشوشة»(5).

وقال الشهيد الأوّل قدس سره في «اللمعة»: «وإنّما تجوز بالدراهم والدنانير».

وعقّبه الشهيد الثاني قدس سره في «الروضة» بقوله: «إجماعاً، وليس ثمّة علّة مقنعة غيره، فلا تصحّ بالعروض، ولا الفلوس، ولا الدين، ولا غيرهما»(6).


1- غنية النزوع: 266 ..
2- الوسيلة: 266 ..
3- السرائر 2: 407 ..
4- شرائع الإسلام 2: 112 ..
5- قواعد الأحكام 2: 333 ..
6- الروضة البهية 1: 439 ..

ص: 360

وفي «المسالك»: «اشتراط ذلك في المال موضع وفاق نقله في التذكرة، وهو العمدة»(1).

وقال المحقّق الكركي قدس سره في «جامع المقاصد» في ذيل العبارة المتقدّمة من «القواعد» ما إليك لفظه: «والمراد بالنقد الدراهم والدنانير المضروبة المسكوكة...

وما عدا ذلك لا تصحّ المضاربة عليه بإجماعنا واتفاق أكثر العامّة»(2).

وفي «الجواهر» في ذيل قول المحقّق: «ومن شرطه أن يكون عيناً، وأن يكون دراهم أو دنانير» قال قدس سره: «بلا خلاف أجده في شي ء منه، بل الإجماع بقسميه عليه»(3).

وقد ذهب جماعة من الأعاظم المعاصرين أعلى اللَّه مقامهم إلى اشتراط ذلك؛ وأنّ المضاربة بالأوراق النقدية غير صحيحة:

منهم: السيّد صاحب «العروة» فإنّه اشترط ذلك على الأحوط الوجوبي، ونفى البُعد عن تمامية الإجماع المدّعى، حيث قال في شروط صحّة المضاربة:

«الثاني: أن يكون من الذهب أو الفضّة المسكوكين بسكّة المعاملة؛ بأن يكون درهماً أو ديناراً... إلّاأن يتحقّق الإجماع، وليس ببعيد، فلا يترك الاحتياط»(4).

ومنهم: السيّد الفقيه الحكيم، حيث قال: «ولا تصحّ إلّابالأثمان من الذهب والفضّة، فلا تصحّ بالأوراق النقدية»(5).


1- مسالك الأفهام 4: 355 ..
2- جامع المقاصد 8: 66 ..
3- جواهر الكلام 26: 356 ..
4- العروة الوثقى 2: 639 ..
5- منهاج الصالحين 2: 159 ..

ص: 361

ومنهم: جماعة من المحشّين على «العروة» حيث إنّهم لم يعلّقوا على العبارة المتقدّمة من «العروة» وتلقّوها بالقبول.

خلافاً لجماعة اخرى، منهم المحقّقين الماتن والخوئي 0 حيث صرّحا في التعليقة على «العروة» بعدم تمامية الإجماع المدّعى في المقام(1)، وأفتيا- كصاحب «الحدائق»- بجواز المضاربة بجميع الأوراق النقدية، كما هو صريح عبارة الماتن المحقّق في مسألتنا هذه: «نعم الأقوى جواز المضاربة بها».

وقال المحقّق الخوئي في «المنهاج»: «الأقوى صحّة المضاربة بغير الذهب والفضّة المسكوكين بسكّة المعاملة، من الأوراق النقدية ونحوها»(2).

هذا كلّه بالنسبة إلى أقوال الفقهاء أعلى اللَّه مقامهم قديماً وحديثاً.

واستدلّ على اعتبار كون رأس المال من الدرهم والدينار وعدم جواز المضاربة بغيرهما من الأوراق النقدية بوجوه:

الأوّل:- وهو العمدة- الإجماع، واستند إلى منقوله الشهيد الثاني في «المسالك» وإلى محصّله في «الروضة» على ما نطقت به عبارتاه المتقدّمتان، وكذا المحقّق الكركي وصاحب «الجواهر» 0 في عبارتيهما المتقدّمتين وغيرهم.

وفيه أوّلًا: أنّ انعقاد الإجماع القدمائي في المسألة غير ثابت؛ إذ الإجماعات المدّعيات في كلمات المتأخّرين- كالشهيد(3)، والمحقّق الكركي(4) 0- تنتهي إلى الإجماع الذي ادّعاه ابن البرّاج في عبارته المتقدّمة، حيث قال: «وإنّما قلنا هذا


1- العروة الوثقى 2: 639، الهامش 2 ..
2- منهاج الصالحين 2: 125 ..
3- الروضة البهية 4: 219 ..
4- جامع المقاصد 8: 66 ..

ص: 362

لأ نّه لا خلاف في أنّ ما ذكرناه مضاربة صحيحة، وليس كذلك ما يخالفه»(1)، وكذا قول الشيخ قدس سره في «الخلاف»: «القراض بالفلوس لا يجوز... دليلنا: أنّ ما قلناه مجمع على جواز القراض به، وما ذكروه ليس عليه دليل»(2).

ولكنّ الجدير بالدقّة: أنّ هذين العلمين القديمين 0 لم يدّعيا في عبارتيهما، قيام الإجماع على اشتراط كون رأس المال من الدرهم والدينار، أو على بطلان المضاربة بغيرهما، كما هو مدّعى المستنِد بالإجماع، بل ادّعيا قيامه على صحّة المضاربة بهما، فمعقد الإجماع ليس بطلان المضاربة بغير الدرهم والدينار؛ حتّى يستدلّ به على عدم جواز المضاربة بالأوراق النقدية.

بل يمكن دعوى: أنّ في عبارتيهما إشارةً إلى وجود الخلاف في بطلان المضاربة بغير الدرهم والدينار؛ إذ لو كان بطلانها مجمعاً عليه في ذلك العصر، لما كان وجه لاقتصارهما على دعوى الإجماع على صحّة المضاربة بالدرهم والدينار، بل كان عليهما دعوى الإجماع على بطلان المضاربة بغيرهما.

وغاية ما يمكن أن يدّعى: هو عدم الخلاف بين القدماء في اشتراط كون رأس المال من الدرهم والدينار؛ إذ لم نعثر في كتب القدماء التي بأيدينا على رأي مخالف لذلك. ولكن مجرّد عدم الخلاف لا يستلزم الإجماع؛ ضرورة احتمال وجود مخالف لم يذكر رأيه فيما بأيدينا من الكتب.

وثانياً: أنّ هذا الإجماع- على فرض تماميته- يحتمل استناده إلى أحد الوجهين التاليين، وحينئذٍ لا يكشف به رأي المعصوم عليه السلام الذي هو روح الإجماع


1- جواهر الفقه: 124 ..
2- الخلاف 3: 459 ..

ص: 363

وتمام الملاك لحجّيته.

الثاني: ما استند إليه السيّد المحقّق الحكيم قدس سره من التشكيك في صدق المضاربة عرفاً فيما إذا كان رأس المال غير الدرهم والدينار، ويترتّب عليه عدم شمول أخبار المضاربة له، قال قدس سره: «قد عرفت أنّ مراد الأصحاب إن كان عدم صحّة المضاربة بغير الدينار والدرهم، فهو في محلّه؛ للأصل بعد عدم ثبوت كون المعاملة حينئذٍ مضاربة عند العرف، ولا حاجة إلى دعوى الإجماع في ذلك»(1)، فمع عدم ثبوت صدق المضاربة لا تترتّب أحكامها.

وفيه: أنّ عدم صدق المضاربة عرفاً فيما إذا كان رأس المال غير الدرهم والدينار من الأوراق النقدية، إنّما هو مجرّد دعوى لا يساعدها العرف واللغة؛ فإنّهم لا يأبون عن حمل المضاربة على ذلك بلا عناية ومجاز.

الثالث: أصالة الفساد؛ ببيان أنّ المرجع عند الشكّ في اعتبار شي ء في عقد، هو أصالة الفساد وعدم ترتّب آثاره، فحينما نشكّ في اعتبار كون رأس المال من الدرهم والدينار، يجري ذاك الأصل المبنيّ على استصحاب عدم ترتّب الآثار، ونتيجته الحكم بفساد المضاربة التي يكون رأس المال فيها الأوراق النقدية.

وفيه: أنّ أصالة الفساد إنّما تكون مرجعاً؛ فيما إذا انتهى الشكّ في اعتبار شي ء في عقد إلى الشكّ في صدق عنوانه، وأ مّا إذا احرز صدق العنوان، وكان الشكّ في الصحّة والفساد، فالمرجع حينئذٍ هو أصالة العموم أو الإطلاق الجارية في دليل إمضاء ذاك العقد، أو دليل إمضاء مطلق العقود، كقول اللَّه سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(2)، والمقام من هذا القبيل؛ إذ- كما تقدّم آنفاً- مع فرض الشكّ في اعتبار


1- مستمسك العروة الوثقى 12: 245 ..
2- المائدة( 5): 1 ..

ص: 364

كون رأس المال من الدرهم والدينار، لا نشكّ في صدق عنوان «المضاربة» عرفاً، بل نجزم به، وإنّما نشكّ في صحّتها، ومقتضى القاعدة حينئذٍ التمسّك بالإطلاقات الواردة في خصوص باب المضاربة المشتملة على عنوان «المال» الشامل لغير الدرهم والدينار من الأوراق النقدية الرائجة، كالإسكناس، والدولار، والليرة، ونحوها.

نعم، عنوان «المال» وإن شمل بنفسه العروض والأمتعة أيضاً، ولكن بعد النظر إلى نكتة يظهر أنّها خارجة عنه: وهي أنّ المضاربة لا تخلو إمّا من الربح، أو الخسران، أو عدمهما، ومن المعلوم أنّ هذه العناوين إنّما تلاحظ بالنسبة إلى ما هو متمحّض في المالية وتلاحظ به مالية جميع الأشياء؛ وهو الثمن الرائج؛ سواء كان درهماً، أو ديناراً، أو أوراقاً نقدية، ومن الواضح أنّ الأمتعة والعروض ليست لها تلك الصفة، فهي خارجة عن عنوان «المال» الذي اتّخذ موضوعاً لرأس المال في المضاربة. كما أنّ الدراهم والدنانير في زماننا، تندرج بهذا الملاك في حكم العروض والأمتعة.

والحاصل: أنّ المعتبر في رأس المال- بعد النظر إلى هذه النكتة، وبعدما ظهر عدم تمامية الوجوه التي استدلّ بها على اعتبار كونه من الدرهم والدينار- أن يكون ثمناً رائجاً؛ سواء كان درهماً وديناراً، كما في الأزمنة القديمة قبل ظهور الأوراق النقدية، أو كان غيرهما من الأوراق النقدية، كما في زماننا هذا، ومن هنا لمّا خرج الدرهم والدينار عن دائرة الأثمان الرائجة في مثل عهدنا الراهن، وصارا كالعروض والأمتعة- من جهة أنّ قيمتها تلاحظ بثمن رائج من الأوراق النقدية- لا يجوز جعلهما رأس المال في المضاربة. ولو أراد مالكهما أن يتّخذهما رأس المال، فلا طريق له إلّاأن يوكّل العامل بأن يبيعهما ويجعل ثمنهما رأس المال.

ص: 365

السرقفلية

ص: 366

ص: 367

ومنها: السرقفلية «1»

السرقفلية وتطوّر استعمالها

اشارة

1- من المسائل المستجدّة في القرن الأخير، مسألة السرقفلية بشكلها الحديث، وهي كلمة فارسية، ويعبّر عنها في اللغة العربية بالخلوّ؛ وهو مأخوذ من تخلية ما تحت اليد إلى الغير.

والبحث عنها تارةً يقع عن حقيقتها، واخرى عن مشروعيتها.

أ مّا الاولى: فالماتن المحقّق قدس سره لم يتعرّض لها بالصراحة، فينبغي قبل التعرّض لحكمها، بيان حقيقتها وتطوّر استعمالها، فنقول:

قد عُرّفت لكلمة السرقفلية في كتب اللغة الفارسية تعاريف شتّى:

ففي بعضها عُرّفت هكذا: «السرقفلية هي المبلغ الذي يؤخذ من مستأجر الدار أو الدكان زائداً على مال الإجارة، وهو اجرةُ فتح القفل»(1).

وفي بعضها الآخر عُرّفت هكذا: «السرقفلية حقّ يحصل للتاجر والكاسب


1- فرهنگ نفيسى 3: 1884 ..

ص: 368

بالنسبة إلى محلّ استأجره، بسبب تقدّمه في الإجارة أو لشهرته في كسبه أو جذبه للمشترين وغيره»(1).

وفي ثالث منها عرّفت هكذا: «السرقفلية حقّ يحصل لمستأجر الدكان أو الحمّام أو الخان ونحوها، وله أن يبيعه إلى المستأجر التالي الذي يستأجرها منه».

ولا يخفى أنّ التعريف الأوّل ناظرٌ إلى ما هو المعهود من لفظ السرقفلية في العهد المتقدّم على القانون الموضوع لروابط المالك والمستأجر المصوّب في مجلس النوّاب في إيران سنة 1339، كما أنّ التعريفين الأخيرين ناظران إلى ما هو المعهود منها بعد وضع هذا القانون.

وفي تعريف رابع: «السرقفلية لها معنيان: تارةً: يراد بها عوض المبلغ الذي يأخذه المستأجر لمحل الكسب ممن ينتقل إليه ذلك المحلّ من جهة سبق كسبه فيه، مع الخصوصيات الموجبة لجذب المشترين إليه. واخرى: يراد بها عوض المبلغ الذي يأخذه المالك من المستأجر عند الإجارة الاولى، زائداً على مال الإجارة»(2).

ويرد على هذا التعريف- مضافاً إلى إجمال صدره (عوض المبلغ)- أنّه ليس بجامع للأفراد ولا بمانع للأغيار، وسيظهر وجهه.

وفي خامس عرّفت بأ نّها «حقّ الكسب والحرفة والتجارة».

ومقتضى التحقيق: أنّ حقّ السرقفلية إمّا أمر مغاير لهذه الامور الثلاثة المذكورة في التعريف الأخير (وهذا على القول بعدم مشروعية هذه الامور، كما عليه الماتن المحقّق قدس سره في المسألة الاولى)، وإمّا أعمّ منها، (وهذا على القول


1- فرهنگ معين 2: 1869 ..
2- مبسوط در ترمينولوژى حقوق 3: 161 ..

ص: 369

بشرعيتها ولو في الجملة كما هو الحقّ)، وإن اطلق على خصوصها لفظ السرقفلية في لسان جماعة من علماء القانون، تبعاً لبعض المواد القانونية المصوّبة في السنة 1339 الشمسية بعد الهجرة النبوية، وذلك لأنّ هذه الامور متقوّمة بالاشتغال بالكسب أو الحرفة أو التجارة في المحلّ الذي استأجره مدّة طويلة، بحيث أوجب جذب المشترين إليه، مع أنّ السرقفلية لا يتوقّف على ورود المستأجر في المحلّ الذي استأجره، فضلًا عن طول اشتغاله فيه بالعمل، بل للمالك أن ينقل السرقفلية إلى المستأجر عند ايجار المحلّ له، بوجه البيع، أو الشرط، أو الهبة، أو الصلح. كما يجوز للمستأجر- على ما سيأتي تحقيقه في ذيل المسألة الرابعة- نقله إلى غيره فيما كان واجداً لحقّ السرقفلية.

والحاصل: أنّه لا وجه لحصر السرقفلية بما كان موجب الحقّ، تلك الامور الثلاثة، بل يعمّ ما فوّض المالك إلى المستأجر الأوّل جميع الشؤون المتعلّقة بالعين المستأجرة، من حقّ الإيجار إلى الغير وتخليتها له بأيّ مبلغ شاء، من دون إذن المؤجر، وكذا ما نقل المستأجر الأوّل ذلك الحقّ إلى الثاني، بل يعمّ ما كان للمستأجر حقّ الامتناع من تخلية المحلّ، بأيّ سبب شرعي من الشرط الضمني ارتكازاً أو صراحةً، وغيرهما من الوجوه التي سيأتي تفصيلها.

مقتضى التحقيق في المقام

وتفصيل ذلك أنّ المؤجر:

تارةً: يؤجر مكاناً من الدكان وغيره، ممّا هو محل الكسب لشخص إلى مدّة معيّنة ولا يملّكه إلّامنافعه، فحينئذٍ يجوز له إخراج المستأجر عن ذاك المكان، وعليه تخليته بعد انتهاء مدّة الإجارة، كما يجوز له تمديدها بمبلغ أزيد. وفي هذه

ص: 370

الصورة لا يتحقّق للمستأجر حقّ السرقفلية، ومن هنا يحرم عليه إيجاره إلى شخص آخر من غير رضا المالك، كما يحرم عليه تصرّفه فيه بعد انتهاء أمد الإجارة من غير رضا المالك.

واخرى: يؤجر المحلّ إلى شخص بمبلغ زائد على عوض الإجارة، بشرط عدم إخراج المستأجر من المحلّ، وعدم زيادة اجرة على الاجرة المسمّاة. ففي هذه الصورة يملك المستأجر، مضافاً إلى منافع المحلّ، حقّ الامتناع عن تخليته، كما له الامتناع عن أداء اجرة زائدة على الاجرة المسمّاة، ولو بلغت اجرة مثله أضعافاً، وهذا أحد القسمين من السرقفلية.

وثالثة: يؤجر المالك المحلّ بجميع شؤونه بمبلغ زائد على عوض الإجارة؛ بحيث يُبقي لنفسه ملكية أصل العين، وينقل جميع الشؤون المتعلّقة بها، حتّى مثل حقّ الإيجار والتخلية لغيره، إلى المستأجر، وهذا قسم آخر من السرقفلية.

فللمستأجر في هذه الصورة الانتفاع بالعين، كما له أن يؤجر المحلّ إلى شخص آخر، ويخلّيه له مسلوباً عن حقّ السرقفلية، كما له أن يؤجره بما له من حقّ السرقفلية.

وبهذا البيان ظهر أنّ الجدير في تعريفها أن يقال:

«السرقفلية حقّ للمستأجر، إمّا يجوز له بمقتضاه أن ينتفع من العين المستأجرة من الدكان ونحوه، وعلى المالك تجديد الإجارة له بعد انتهاء أمدها، وليس له إخراجه عنها. ولا زيادة مال الإجارة على المبلغ المسمّى (وهذا في الصورة الثانية المتقدّمة). وإمّا يجوز له بمقتضاه- مضافاً إلى ذلك- تخلية العين المستأجرة للغير بإزاء مبلغ يأخذه منه وعلى المالك أن يتعامل معه بما كان يتعامل مع المستأجر الأوّل، (وهذا في الصورة الثالثة المتقدّمة).

ص: 371

نعم، يجوز للمالك أن يشترط على المستأجر مبلغاً معيّناً عند إجارته المحلّ لشخص آخر وتخليته له.

ثمّ إنّ الموجب العقلائي لإقدام المالك على إيجار ملكه مع السرقفلية هو أنّه يلاحظ أنّ القانون الحكومي المصوّب سنة 1339 يمنعه عن إخراج المستأجر بعد انتهاء مدّة الإجارة؛ ولذا يمنعه عن زيادة مال الإجارة على وفق القيمة السوقية، فبالطبع يرى أنّ الأنفع له أن يؤجر العين مع السرقفلية، ويجلب بإزائها مبلغاً معتدّاً به زائداً على مال الإجارة، جابراً لما منع عنه من توفير مال الإجارة.

وأ مّا منشأ ذلك الحقّ، فالمستفاد من القانون المدني الإيراني المصوّب في السنة 1339 الشمسية بعد الهجرة المعمول به إلى زماننا هذا، أنّه: تارةً: يكون حقّ الكسب المتعلّق بالمحلّ.

واخرى: يكون حقّ الحرفة.

وثالثة: حقّ التجارة.

وسيأتي من الماتن المحقّق قدس سره في المسألة الاولى، أنّ مجرّد زيادة مدّة الإجارة، واكتساب المستأجر، وتجارته في المحلّ مدّة طويلة، وكذا وجاهته وقدرته التجارية الموجبتين لتوجّه النفوس إلى ذلك المحلّ، لا يقتضيان شرعاً حقّاً للمستأجر.

وسوف يظهر من المباحث الآتية أنّ منشأه الشرعي إمّا هو الشرط في ضمن العقد، أو وقوعه مبنيّاً عليه ارتكازاً، أو انتقال ذلك الحقّ إلى المستأجر بوجه البيع، أو الهبة، أو الصلح، أو الجعالة.

ثمّ لا يخفى أنّ لفظ السرقفلية، تارةً: يطلق ويراد به الحقّ المذكور.

واخرى: يطلق ويراد به المبلغ، الذي يدفع إلى المالك بإزاء ذلك الحقّ،

ص: 372

مسألة 1- استئجار الأعيان المستأجرة- دكّةً كان أو داراً أو غيرهما- لا يوجب حدوث حقّ للمستأجر فيها، بحيث لا يكون للمؤجر إخراجه بعد تمام الإجارة، وكذا طول مدّة بقائه وتجارته في محلّ الكسب، أو كون وجاهته وقدرته التجارية الموجبتين لتوجه النفوس إلى مكسبه، لا يوجب شي ء منها حدوث حقّ له على الأعيان (2).

ومعادله في اللغة العربية «الخُلُوّ وحقّ الخُلُوّ».

ولا يخفى أيضاً أنّ حقّ السرقفلية- وإن يمكن إيجاد سببه الشرعي من الشرط الضمني والصلح والبيع والهبة والتوكيل في الإيجار- لأيّ مكان له منفعة محلّلة من الدكان، ومحلّ التجارة والدار والفندق، ولكنه في عهدنا الراهن بحسب القانون والعرف يجري في محلّ الكسب والحرفة والتجارة دون غيرها.

هل لحقّ الكسب والحرفة والتجارة وجه شرعي؟

اشارة

2- تعرّض الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة لردّ مشروعية الامور، التي ادّعى في القانون المدني الإيراني المصوّب في سنة 1339، أنّها موجبة لحدوث حقّ السرقفلية للمستأجر، وهذه الامور عبارة عن:

1- التقدّم في الإجارة، كما عدّ موجباً له في بعض التعاريف المتقدّمة:

«السرقفلية حقّ يحصل للتاجر والكاسب بالنسبة إلى محلّ استأجره بسبب تقدّمه في الإجارة أو لشهرته في كسبه أو جذبه للمشترين وغيره».

2- ما يسمّى في العرف بحقّ الكسب الحاصل ببقاء الإجارة مدّة طويلة.

3- ما يسمّى في العرف بحقّ الحرفة كذلك.

ص: 373

4- ما يسمّى في العرف بحقّ التجارة الحاصل بكون المستأجر ذا وجاهة وقدرة تجارية في المحلّ الذي استأجره؛ بحيث أوجبت توجّه المشترين إليه. كما عدّ موجباً له في التعريف المتقدّم للسرقفلية.

وقد صرّح الماتن المحقّق قدس سره بأنّ هذه الامور لا توجب شرعاً لحدوث حقّ للمستأجر؛ بحيث لا يجوز للمؤجر إخراجه عن المحلّ الذي استأجره بعد انتهاء مدّة الإجارة، من غير فرق بين ما إذا كانت الإجارة بعد جعل قانون منع المالك عن إجبار المستأجر على تخلية المحلّ، أو قبله.

وقد فصّل السيّد المحقّق الخوئي قدس سره بين ما إذا وقعت الإجارة قبل صدور قانون منع المالك عن إجبار المستأجر على تخلية المحلّ الذي استأجره، أو عن الزيادة في بدل الإيجار، فلا يثبت حينئذٍ للمستأجر حقّ السرقفلية، وبين ما إذا وقعت الإجارة بعد صدوره، فيثبت له ذلك الحقّ، حيث قال في المسائل المستحدثة من المنهاج:

«مسألة 33: قبل صدور قانون منع المالك عن إجبار المستأجر على التخلية، أو عن الزيادة في بدل الإيجار، كان للمالك الحقّ في ذلك، فإن كانت الإجارة قد وقعت قبل صدور القانون المذكور، ولم يكن هناك شرط متّفق عليه بين الطرفين بخصوص الزيادة أو التخلية، إلّاأنّ المستأجر استغل صدور القانون فامتنع عن دفع الزيادة أو التخلية، وقد زاد بدل إيجار أمثال المحلّ إلى حدّ كبير، بحيث إنّ المحلّ تدفع السرقفلية على تخليته، فإنّه لا يجوز للمستأجر حينئذٍ أخذ السرقفلية، ويكون تصرّفه في المحلّ بدون رضا المالك غصباً وحراماً»(1).


1- منهاج الصالحين 1: 422 ..

ص: 374

والوجه في هذا التفصيل: إنّما هو استقرار ارتكاز عقلائي بعد صدور القانون المذكور على حصول حقّ الامتناع عن التخلية للمستأجر بعد انتهاء أمد الإجارة، وعدم أخذ الزيادة منه في عوض الإجارة على المبلغ المعيّن أوّلًا، فكما أنّه إذا اشترط ذلك بالصراحة في متن العقد، يكون نافذاً، ويصير به المستأجر ذا حقّ السرقفلية، فكذلك المقام، إلّاأنّ الدالّ على الاشتراط هناك لفظيّ، وفي المقام هي القرينة العامّة المبنية على الارتكاز العقلائي.

وهذا الوجه وإن كان متيناً في الجملة إلّاأنّ إطلاقه بالنسبة إلى ما كان كلّ من المالك والمستأجر أو أحدهما، جاهلًا بوضع القانون المذكور، لا يبقى مجال لدعوى حصول حقّ السرقفلية للمستأجر بمجرّد وقوع الإجارة بعد صدور ذلك القانون؛ ضرورة أنّ الشرط الضمني المعتمد على الارتكاز إنّما يتحقّق فيما إذا كان الشرط أمراً مرتكزاً بين أبناء العرف- الذين منهم المتعاقدان- بحيث يغنيهما عن ذكره، فلا يعقل تحقّقه في مثل المقام. والمفروض أنّ القانون المذكور مجهول لكليهما أو لأحدهما.

نعم فيما إذا كان كلاهما عالمين كسائر العرف بصدور قانون منع المالك عن إجبار المستأجر على تخلية المحلّ الذي استأجره، وكذا عن الزيادة في بدل الإيجار، ولم يصرّحا في متن العقد على خلاف هذا القانون بحيث أوقعا عقد الإجارة مبنيّاً على ذلك بارتكازهما، لا يبعد أن يتحقّق للمستأجر حقّ السرقفلية، فوقوع الإجارة قبل صدور القانون أو بعده، لا موضوعية له، ولا يدور مداره الحكم نفياً وإثباتاً، وإنّما يدور مدار وقوع الإجارة مقرونة بذلك الارتكاز وعدمه.

وبهذا البيان ظهر أنّه كما لا يمكننا المساعدة على إطلاق حكم الماتن

ص: 375

المحقّق قدس سره بعدم حصول حقّ السرقفلية للمستأجر مطلقاً، سواء وقعت الإجارة قبل صدور ذلك القانون أو بعده، فكذلك لا يمكننا المساعدة على إطلاق عبارة المنهاج الحاكمة بحصول حقّ السرقفلية للمستأجر فيما وقعت الإجارة بعد صدور ذلك القانون، إلّاأن يقال: إنّ كلامه قدس سره، وإن كان بظاهره مطلقاً، ولكنّه بمراده الجدّي ناظر إلى خصوص ما كان ذلك القانون شائعاً بين العرف، بحيث كان معلوماً للكلّ.

ثمّ لا يخفى بعد ذلك كلّه أنّ في عبارة المنهاج شيئاً من الاضطراب، حيث إنّ المسألة المتقدّمة منه (مسألة 33) ظاهرها نفي حقّ السرقفلية، فيما وقعت الإجارة قبل القانون المذكور، ومقتضى مفهومها ثبوته فيما وقعت بعده، ولكنّ الظاهر من المسألة التالية (مسألة 34) أنّه قدس سره جمع في تحقّق حقّ السرقفلية بين وقوع الإجارة بعد صدور ذلك القانون، وبين اشتراطه في ضمن العقد، وهذه عبارته:

«مسألة 34: المحلّات المستأجرة بعد صدور القانون المذكور، قد يكون بدل إيجارها السنوي مائة دينار مثلًا، إلّاأنّ المالك- لغرضٍ ما- يؤجرها برضىً منه ورغبة بأقلّ من ذلك، ولكنّه يقبض من المستأجر مبلغاً كخمسمائة دينار مثلًا، ويشترط على نفسه- في ضمن العقد- أن يجدّد الإيجار لهذا المستأجر، أو لمن يتنازل له المستأجر سنوياً بدون زيادة ونقيصة، وإذا أراد المستأجر التنازل عن المحلّ لثالث أن يعامله نفس معاملة المستأجر، فحينئذٍ يجوز للمستأجر أن يأخذ- لقاء تنازله عن حقّه- مبلغاً يساوي ما دفعه إلى المالك نقداً أو أكثر أو أقلّ، وليس للمالك مخالفته حسب الشرط المقرّر»(1).


1- منهاج الصالحين 1: 422 ..

ص: 376

فإذا تمّت هذه الإجارة، يجب عليه تخلية المحلّ وتسليمه إلى صاحبه، فلو بقي في المكان المذكور مع عدم رضا المالك، كان غاصباً عاصياً (3)، وعليه ضمان المكان لو تلف، ولو بآفة سماوية، كما عليه اجرة مثل المكان ما دام كونه تحت يده.

3- هذا الحكم وما بعده متفرّع على ما تقدّم من الماتن المحقّق قدس سره، من عدم حدوث حقّ للمستأجر بمجرّد طول مدّة الإجارة، أو كون المستأجر ذا وجاهة وقدرة تجارية، توجب توجّه المشترين إلى محلّ التجارة الذي استأجره، وعدم مشروعية حقّ الكسب والحرفة والتجارة.

فإذا لم يحدث حقّ للمستأجر بالنسبة إلى المحلّ الذي استأجره، يجب عليه أن يخلّيه ويسلّمه إلى مالكه، إلّاأن يكون المالك راضياً ببقائه فيه، ولو بقي فيه بغير رضاه يكون غاصباً، ويترتّب على يده عليه ما يترتّب على اليد العادية في بقية الموارد من الضمان بالنسبة إلى نفس العين، ولو تلفت بغير تعدٍّ وتفريط كآفة سماوية، قضاءً لقاعدة: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»، وكذا يثبت عليه الضمان بالنسبة إلى منفعة المحلّ، وعليه اجرة مثله في المدّة التي استولى عليه، ولم يسلّمه إلى مالكه، سواء انتفع به في هذه المدّة، أو لم ينتفع به؛ لأنّه أتلف في هذه المدّة منافع المحلّ على مالكه، فيندرج في قاعدة: «من أتلف مال الغير فهو له ضامن».

ولكن لا يخفى أنّ ذلك كلّه مبني على ما اختاره المحقّق الماتن قدس سره، من عدم حدوث حقّ للمستأجر بالإضافة إلى المحلّ الذي استأجره، بأيّ سبب من الأسباب المتقدّمة. وأ مّا على ما قوّيناه من حدوث حقّ البقاء في المحلّ له، فيما وقعت

ص: 377

مسألة 2: لو آجر هذا الشخص ذلك المكان المغصوب، كانت الإجارة فاسدة (4)، ولو أخذ شيئاً بعنوان مال الإجارة فهو حرام، فإن تلف أو أتلفه كان ضامناً للدافع، كما أنّ الدافع إذا قبض المحلّ صار ضامناً لمالكه، وعليه اجرة مثله له، وعدم تسليمه إلى مالكه.

الإجارة بعد صدور قانون منع المالك عن إجبار المستأجر على التخلية، وكان مفاد القانون شرطاً ضمنياً ارتكازياً بينهما، فلا يكون بقاء المستأجر في المحلّ بعد انتهاء مدّة الإجارة، غصباً ولا يترتّب عليه ضمانه بالنسبة إلى العين المستأجرة فيما تلفت، ولا بالإضافة إلى اجرة المثل.

4- وذلك لأنّ من شرائط صحّة الإجارة أن يكون المؤجر مالكاً لمنافع العين المستأجرة، إمّا بتبع ملكيته لنفسها أو لخصوص المنافع، والمفروض عند الماتن المحقّق قدس سره- على ما صرّح به في المسألة السابقة- أنّ المستأجر لم يحدث له حقّ السرقفلية بالنسبة إلى المحلّ الذي استأجره، ومن ثمّ يكون المحلّ بعد انتهاء مدّة الإجارة مغصوباً في يده، ولا تصحّ إجارته له إلى غيره إلّاعلى وجه الفضولية، فللمالك إجازتها كما له ردّها.

ومقتضى فساد الإجارة أنّ ما يأخذه بعنوان مال الإجارة، حرامٌ عليه؛ لأنّه أكلٌ للمال بالباطل المنهيّ عنه في قول اللَّه سبحانه: وَلَا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ(1). كما أنّه إن تلف هذا المال بآفة سماوية أو أرضية، أو أتلفه نفس ذلك


1- البقرة( 2): 188 ..

ص: 378

المستأجر الأوّل المؤجر لغيره، فهو ضامن لدافعه، وهو المستأجر الثاني الذي دفع مال الإجارة إليه؛ لأنّه باقٍ على ملكه، وسيأتي أنّ إطلاق الضمان حتّى بالنسبة إلى ما كان المستأجر عالماً ببطلان الإجارة، مورد الخلاف والإشكال.

كما أنّ هذا الدافع (المستأجر الثاني) إن قبض المحلّ الذي استأجره بإجارة فاسدة، يصير ضامناً لمالكه، وعلى ذمّته اجرة مثل المحلّ، كما هو الحال في بقية الموارد من الغصب، وذلك لأنّه أتلف منافع المحلّ على مالكه بحيلولته بينه وبين المحلّ، ومنعه عن التصرّف فيه، فيندرج في قاعدة الإتلاف وكذا قاعدة: «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، وكذا قاعدة: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»، من غير فرق بين ما استوفى منفعة المحلّ أو لم يستوفها.

كما قال العلّامة قدس سره في القواعد: «أو أتلف منفعة كسكنى الدار وركوب الدابة، وإن لم يكن هناك غصب ضمن»(1). وقال في التذكرة: «منافع الأموال من العبيد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات، فلو غصب عبداً أو جاريةً أو ثوباً أو عقاراً أو حيواناً مملوكاً ضمن منافعه، سواء أتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده، بأن بقيت في يده مدّة ولا يستعملها، عند علمائنا أجمع»(2).

وظاهره أنّ الضمان بالنسبة إلى المنافع المستوفاة والتالفة مجمع عليه، والمستند هي القواعد المتقدّمة.

وكذا لا فرق في كون ذلك المستأجر عالماً بفساد الإجارة أو جاهلًا بها، إذ


1- قواعد الأحكام 2: 223 ..
2- تذكرة الفقهاء 2: 381 ..

ص: 379

الضمان الذي هو حكم وضعي مستند إلى موجبه، من غير دخل للعلم والجهل فيه.

ثمّ لا يخفى: أنّ إطلاق ضمان المؤجر في الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى مال الإجارة، الذي دفعه إليه المستأجر، مختلف فيه، فذهبت جماعة- منهم: المحقّق الأردبيلي والسيّد صاحب العروة وطائفة من محشّيها- إلى اختصاص الضمان بما كان دافع الاجرة أي المستأجر، جاهلًا ببطلان الإجارة دون ما كان عالماً به، فإنّه حينئذٍ إن كانت عين الاجرة باقيةً فله أخذها، وإن تلفت أو أتلفها المؤجر، فليس له شي ء على ذمّته.

واستدلّ عليه المحقّق الأردبيلي قدس سره، بأنّ دفع الاجرة من جانب المستأجر إلى المؤجر مع علمه بفساد الإجارة، يكون هبةً منه إليه وإذناً له في إتلافه، حيث قال: «وكذا إذا علم المستأجر أنّ العامل لا يستحق بعمله هذا هذه الاجرة فسلّمها إليه، فكأ نّه يوهبها له ويأذن له في إتلافها، فيمكن أن لا يكون له الرجوع إلى عوضه بعد إتلافه بإذنه عالماً»(1).

وفي العروة: «ومن هنا يظهر حال الاجرة أيضاً، فإنّها لو تلفت في يد المؤجر يضمن عوضها، إلّاإذا كان المستأجر عالماً ببطلان الإجارة، ومع ذلك دفعها إليه، نعم إذا كانت موجودة، له أن يستردّها»(2).

واستدلّ على عدم الضمان فيما إذا كان المستأجر عالماً ببطلان الإجارة، بأ نّه مع علمه بالبطلان قد هتك حرمة ماله بتسليمه إلى المؤجر، ومن هنا يخرج عمّا دلّ


1- مجمع الفائدة والبرهان 10: 50 ..
2- العروة الوثقى 2: 598 ..

ص: 380

على أنّ لمال المسلم حرمة.

ولكن ذهبت جماعة اخرى من الفقهاء العظام، ومنهم صاحب الجواهر(1)، وجماعة من أرباب التعاليق على العروة، منهم: الماتن المحقّق والسيّد المحقّق الخوئي 0، إلى الضمان مطلقاً، سواء كان المستأجر جاهلًا بفساد الإجارة أو عالماً به، وهو الحقّ؛ لأنّ المستأجر لم يدفع الاجرة إلى المؤجر على وجه التبرّع، ولم يسلّطه عليها مجاناً، إذ علمه بفساد الإجارة شرعاً، وعدم وقوع الاجرة عوضاً عن منفعة العين المستأجرة، لا يستلزم قصد المستأجر من دفع الاجرة المجانية إلى المؤجر، بل يقصد بدفعها إليه، الوفاء بمقتضى الإجارة في اعتقاده. فالدفع وقع على وجه التضمين المالكي، وإن لم يكن تضميناً شرعياً، كما أنّ المؤجر أيضاً يأخذ الاجرة على وجه التضمين، لا على وجه المجانية.

وبهذا البيان ظهر الجواب عمّا استدلّ به المحقّق الأردبيلي قدس سره، من أنّ دفع المستأجر الاجرة إلى المؤجر- مع علمه بفساد الإجارة- يكون هبةً منه إليه؛ لما تقدّم من أنّ العلم بفسادها شرعاً، لا يستلزم قصد المجانية.

وكذا اندفع به ما استدلّ به صاحب العروة قدس سره، من أنّ المستأجر العالم بفساد الإجارة قد هتك حرمة ماله بدفعه إلى المؤجر، ووجه الاندفاع: أنّ هتك حرمة المال إنّما يتحقّق فيما إذا لم يقع دفعه على وجه التضمين المالكي، بل على وجه المجانية، ومن المعلوم أنّ مجرّد علم المستأجر بفساد الإجارة، لا يقتضي قصد المجانية حتّى يخرج عن قواعد الضمان: «قاعدة الإتلاف»، قاعدة: «حرمة مال المسلم» وقاعدة: «ما يضمن بصحيحه، يضمن بفاسده».


1- جواهر الكلام 27: 251 ..

ص: 381

مسألة 3: السرقفلية التي يأخذها الغاصب في هذه الصورة حرام، ولو تلف ما أخذه عنده، أو أتلفه فهو ضامن لمالكه (5).

5- قد تقدّم في المسألة الاولى: أنّ مجرّد طول مدّة الإجارة، أو كون المستأجر ذا وجاهة وقدرة تجارية، يجلب بها توجّه المشترين إلى محلّ التجارة، لا يوجب مطلقاً حقّاً للمستأجر بالنسبة إليه، وإنّ ما يسمّى في عهدنا الراهن بحقّ الكسب والحرفة والتجارة، لا شرعية له عند الماتن المحقّق قدس سره.

ويترتّب على هذا، أنّ العين المستأجرة تبقى بعد انتهاء مدّة الإجارة مغصوبة في يد المستأجر وهو غاصب لها، ومن الأحكام المتفرّعة على غصبيتها أنّه لو آجرها لشخص ثالث، وأخذ منه مبلغاً على وجه السرقفلية، فالمعاملة من حيث الحكم الوضعي فاسدة، ويترتّب على فسادها تكليفاً حرمة أخذ ذلك المبلغ؛ لأنّه من أكلِ المال بالباطل، المنهي عنه في قول اللَّه سبحانه: وَلَا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ(1) ووضعاً ثبوت الضمان للشخص الثالث، فيما إذا تلف ما أخذه منه على وجه السرقفلية أو أتلفه، أمّا الضمان في صورة التلف؛ فلأ نّه مقتضى قاعدة: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»، وكذا قاعدة: «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

وأ مّا في الإتلاف؛ فلأ نّه مقتضى هذه القاعدة ولقاعدة: «من أتلف مال الغير فهو له ضامن».


1- البقرة( 2): 188 ..

ص: 382

مسألة 4: لو استأجر محلّاً للتجارة في مدّة طويلة كعشرين سنة مثلًا، وكان له حقّ إيجاره من غيره، واتّفق ترقّي اجرة مثل المحلّ في أثناء المدّة، فله إجارته بالمقدار الذي استأجره، وأخذ مقدار بعنوان السرقفلية؛ لأن يؤجره منه على حسب توافقهما (6).

6- تعرّض الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة والمسائل التالية إلى المسألة السابعة للصور التي يجوز فيها أخذ المستأجر السرقفلية من المالك أو المستأجر الجديد. وفي المسألة الثامنة التي تنتهي بها مسائل هذا الباب، للصور التي يجوز للمالك أخذ السرقفلية من المستأجر.

وقبل التعرّض لهذه الصور، يلزم بسط الكلام فيما هو ملاك جواز السرقفلية، وبيان ما يمكن تخريج المسألة عليه، فنقول:

البحث تارةً: يقع بالنسبة إلى جواز أخذ المالك السرقفلية. واخرى: بالنسبة إلى أخذ المستأجر لها، ولاستيفاء جميع جوانب المسألة يقع البحث في مقامين:

المقام الأوّل: أخذ المالك السرقفلية

اشارة

إنّ أخذ المالك للسرقفلية يمكن تخريجه على ضوء الأدلّة، على وجوه عديدة:

الوجه الأوّل: اشتراط السرقفلية في ضمن العقد

من تلك الوجوه: اشتراط السرقفلية بالصراحة في ضمن عقد الإجارة، بتقريب: أنّ المالك يرى من جانب: أنّه لا يتمكن من إخراج المستأجر من المحلّ، الذي آجره إيّاه، بعد انتهاء أمد الإجارة، لاسيّما بعد صدور القانون

ص: 383

الحكومي في سنة 1339 ه. ش، المقتضي لمنع المالك عن إخراج المستأجر من المحلّ، وهذا القانون معمول به إلى يومنا هذا.

ويرى من جانب آخر: أنّ وجه الإجارة، الذي يدفع عرفاً لمثل ذلك المحلّ، الذي ما زال في حال الإزدياد بحسب الاجرة السوقية بأضعاف من الاجرة المسمّاة والمالك مع ذلك لا يتمكن من أخذ مال الإجارة زائداً على ما عيّنه في عقد الإجارة، فلا محالة لا يرى طريقاً لجبران هذه الخسارة الناشئة من عدم تمكّنه من إخراج المستأجر بعد انتهاء مدّة الإجارة عن المحلّ، وعدم تمكّنه من زيادة وجه الإجارة، إلّابأخذ السرقفلية، بأن يؤجر المحلّ إلى شخص بمبلغ معيّن (كخمسة آلاف تومان في كلّ شهر إلى مدّة معيّنة) ويشترط عليه أن يدفع إليه مبلغاً معيّناً (كعشرين مليون تومان) بعنوان السرقفلية، والمالك يتعهد بإزائها أن لا يخرجه من ذلك المحلّ، ولا يزيد في وجه الإجارة، وأن يجدّد الإجارة بعد انتهاء مدّتها بذلك الوجه، بل- في بعض أقسامها- لا يمنعه عن إجارة المحلّ لشخص ثالث، ولا يأخذ منه أكثر من ذلك الوجه (مبلغ الإجارة).

وأخذ المالك السرقفلية بهذا الشكل لا بأس به؛ لأنّه من قبيل الشرط في ضمن العقد، وهو نافذ قضاءً لعموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم في موثّقة منصور بن يونس:

«المؤمنون عند شروطهم»(1).

والمفروض أنّ شرط السرقفلية بذلك التقريب، ليس مخالفاً للكتاب ولا للسنّة، حتّى يندرج في عقد المستثنى من صحيحة عبد اللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «المسلمون عند شروطهم إلّاكلّ شرط خالف كتاب اللَّه عزّوجلّ


1- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..

ص: 384

فلا يجوز»(1).

وهذه العملية إن وقعت بوجه شرط الفعل فهي جائزة بلا إشكال، وأ مّا إن وقعت بنحو شرط النتيجة فكذلك، إلّاعلى القول بعدم نفوذ شرط النتيجة بالمرّة، ومقتضى التحقيق نفوذه والتفصيل موكول إلى محلّه.

ثمّ إنّ في المقام للفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي أعلى اللَّه مقامه وجهاً آخر لتصوير اشتراط السرقفلية في ضمن عقد الإجارة، وهو اشتراطها على المستأجر، بأن يدفعها إلى المالك بوجه القرض، وإليك عبارة المقرّر:

«وأ مّا صورة الصحّة فهي كما لو أوقع المستأجرون الإيجار على النحو التالي: كأن يقول المالك للمستأجر: آجرتك المحلّ بخمسين دينار سنوياً وشرطت عليك أن تقرضني مائتي دينار، وفي الوقت نفسه فقد شرطت على نفسي بأن لا أمنعك من إيجار المحلّ لمن تشاء عند انتهاء مدّتك أو قبلها، فيكون هذا الشرط الذي يعود نفعه إلى المستأجر شرطاً في عقد الإجارة، لا في عقد القرض، وإنّما أخذ هذا الشرط ونفس القرض شرطاً في عقد الإجارة، فلا مانع منه من هذه الجهة»(2).

وهذا الوجه وإن كان وجيهاً في نفسه، ولكنّه مجرّد فرض أجنبي عمّا هو المألوف والرائج من السرقفلية بين العقلاء؛ لأنّ المعمول بينهم بالنسبة إلى السرقفلية، التي يأخذها المالك من المستأجر، هو أخذها منه على وجه العوضية لا على وجه القرض.


1- وسائل الشيعة 18: 16، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 2 ..
2- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره: 154 ..

ص: 385

الوجه الثاني: اشتراط السرقفلية بإزاء التوكيل في الإيجار

وتقريبه: أن يؤجر المالك المحلّ لشخص بمبلغ سنوياً، كمائة ألف تومان، ويشترط على نحو شرط النتيجة في ضمن عقد الإجارة، أن يكون المستأجر وكيلًا لإيجار ذلك المحلّ بهذا المبلغ إلى نفسه، أو غيره بعد انتهاء أمد الإجارة، وكذا يكون وكيلًا في توكيل الشخص الثالث، الذي يستأجره منه للإيجار إلى نفسه أو غيره، ويجعل المالك في قبال جعل الوكالة والتوكيل للمستأجر بالشكل المذكور، مبلغاً كعشرة ملايين تومان، بعنوان السرقفلية. ونتيجة إنشاء العقد بالكيفية المذكورة أنّ المالك، لا يحقّ له إخراج المستأجر عن المحلّ بعد انتهاء مدّة الإجارة، وليس له أن يمنعه عن إيجار المحلّ إلى شخص ثالث، بل هو وكيل شرعاً من قبله أن يؤجر المحلّ بعد انتهاء مدّة الإجارة إلى نفسه أو غيره، بمبلغ الإجارة المسمّى في عقد الإجارة. والوكالة وإن كانت في نفسها من العقود الجائزة، ولكنّها حيث اشترطت في المقام في ضمن عقد الإجارة، الذي هو من العقود اللازمة، فلا تكون جائزة بل هي لازمة بتبع العقد، الذي اشترطت في ضمنه.

والدليل على جواز السرقفلية بهذا الوجه: عموم قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في موثّقة منصور بن يونس (المعروف بمنصور بزرج) عن العبد الصالح عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «المؤمنون عند شروطهم»(1)، وهذا لا كلام فيه.

إنّما الكلام كلّ الكلام في أنّ الوكالة في إيجار المحلّ إلى نفسه أو غيره، هل ينتقل إلى وارث المستأجر الوكيل بعد موته أو لا؟


1- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..

ص: 386

ولقائل أن يقول: إنّ هذه الوكالة لها مالية عقلائية، وما هذا شأنه قابل للإرث، كما هو الحال في جميع الامور، التي لها مالية عقلائية.

ولكن يرد عليه: أنّ الوكالة وإن كانت لازمة باشتراطها في ضمن عقد لازم كالإجارة وتعدّ ذات مالية عند العقلاء، لكنّها تبطل بموت الوكيل أو الموكّل، إذ الوكالة ليست في حقيقتها إلّاالنيابة في العمل من قبل المستنيب، فهي متقوّمة بالنائب (الوكيل) والمستنيب (الموكّل)، فإذا مات أحدهما تبطل النيابة، مع أنّ غرض المستأجر من تحصيل حقّ السرقفلية الرائجة انتقاله من بعده إلى ورثته.

أ مّا لزوم بطلان الوكالة بموت الوكيل الذي شرط الوكالة لنفسه في إيجار المحلّ إلى نفسه أو غيره بإزاء مبلغ السرقفلية، فلا مفرّ منه إلّابدعوى أنّ مآل هذا الشرط ارتكازاً إلى اشتراط الوكالة لنفسه ووارثه من بعده، ولكنّها مدفوعة بأنّ من شرائط الوكالة كون الوكيل معيّناً، مع أنّ الوارث ربما لا يكون موجوداً حال العقد، والموجود منه قد يكون مردّداً بين أفراد من طبقات الإرث لا يعلم من هو باقٍ منهم بعد موت الوكيل المورّث، حتّى يكون وارثاً لوكالته.

وأ مّا لزوم بطلان الوكالة في المقام بموت الموكّل، فقد أجاب عنه صاحب الجواهر قدس سره في نظير هذه المسألة من باب الرهن، وهو ما شرط المرتهن على الراهن ضمن العقد أن يكون وكيلًا عنه في بيع العين المرهونة، ولو بعد موت الراهن، فيرد على هذا الشرط- حينئذٍ- الإشكال: بأنّ الوكالة من العقود التي تبطل بموت الموكّل، فكيف اشترط بقاءها بعد موته؟ وأجاب قدس سره عن ذلك الإشكال: بأنّ مآل هذا الشرط من قبل الراهن على نفسه، إلى الوصية العهدية من جانبه على ورّاثه، بأن يوكّلوا المرتهن لبيع العين المرهونة، وهذه عبارته:

ص: 387

«كما أنّ اشتراطها على الراهن بعد موته لابدّ من تنزيله على الوصية؛ ضرورة عدم صحّة الوكالة بعد الموت»(1).

وهكذا يقال في المقام على ضوء ذلك الجواب في باب الرهن، بأنّ اشتراط مالك المحلّ على نفسه التوكيل للمستأجر في إجارته لنفسه أو غيره بعد انتهاء مدّة الإجارة، وبقاء الوكالة بعد موته، مآله إلى الوصية العهدية من جانب المالك على ورّاثه؛ لأن يوكّلوا بعد موته المستأجر لهذه الجهة.

ولكن يرد عليه: أوّلًا: أنّ تنزيل اشتراط بقاء الوكالة- في كلّ من بابي الرهن والإجارة- بعد موت الموكّل على الوصية العهدية بالمعنى المذكور، لا يساعده العرف والعقلاء؛ لأنّ الوصية أمر إنشائي متقوّم بالاعتبار في النفس، ثمّ إبراز الأمر المعتبر بمبرِز قولي أو فعلي. والإنصاف أنّ مجرّد اشتراط بقاء الوكالة بعد موت الموكّل، لا يفيد عند العقلاء هذا المعنى، كما لا يخفى.

وثانياً: أنّ نفوذ الوصية العهدية فيما كان متعلقها أمراً مالياً زائداً على ثلث التركة، غير ثابت، وحينئذٍ يتوقف على إجازة الورثة، ومع عدمها ليست بنافذة، وعلى فرض نفوذها لا يستتبع حكماً وضعياً، بل حكماً تكليفياً، وهو وجوب العمل بمقتضاها على الورثة.

ثمّ لا يخفى: أنّ اشتراط وكالة المستأجر عن المؤجر ولو بعد موته بإزاء السرقفلية بالمعنى المتقدّم، أجنبي عمّا هو الرائج والمألوف من السرقفلية بين العرف.


1- جواهر الكلام 25: 168 ..

ص: 388

الوجه الثالث: أخذ المالك السرقفلية بوجه البيع

من وجوه أخذ المالك السرقفلية أن يبيع إلى المستأجر حقّ إيجار المحلّ بإزاء مبلغ يسمّى مبلغ الخلوّ، أو مبلغ السرقفلية، وهذا بتقريب أنّ المالك يؤجر محلّاً لشخص إلى مدّة معيّنة، ولمّا يرى أنّه لا يتمكن من إخراجه عنه بعد انتهاء مدّة الإجارة؛ بملاحظة القانون الحكومي، المقتضي لمنع المالك من إخراج المستأجر عن المحلّ، كما لا يتمكّن من أخذ مال الإجارة زائداً على المبلغ المعيّن في عقد الإجارة، فبالطبع يطلب طريقاً يجبر هذه الخسارة المالية الناشئة من عدم تمكّنه من إخراج المستأجر عن المحلّ، بعد انتهاء أمد الإجارة، ولا من توفير مال الإجارة. وبهذا السبب يتراضى المالك مع المستأجر على أن يبيع إليه ماله شرعاً من حقّ الإيجار لكلّ شخص بأيّ مبلغ، بإزاء مبلغ معتدّ به جابر لتلك الخسارة بعنوان السرقفلية، وبعد البيع ينتقل إلى المستأجر حقّ الإيجار، فله الانتفاع بنفسه من العين المستأجرة أو إيجارها إلى غيره، مع أخذ السرقفلية منه، أو على وجه الشهرية، أو السنوية من غير أخذها.

ولكن مقتضى التحقيق: أنّ هذا الوجه لا يخلو عن الإشكال؛ لأنّ صحّته تتوقّف على إحراز أمرين:

أحدهما: أنّ حقّ الإيجار في جوهره حقّ شرعي للمالك، وليس حكماً شرعياً محضاً.

ثانيهما: أنّه بعد فرض كونه حقاً في قبال الحكم، يكون من الحقوق القابلة للنقل.

ص: 389

ولكن كلا الأمرين غير معلوم، بل معلوم العدم.

أ مّا الأوّل؛ فلأنّ المالك ليس له وراء ملكية العين ومنافعها وجواز تمليكهما، حقّ باسم حقّ الإيجار، إذ لا منشأ لتوهّمه، إلّاأنّ المالك له السلطنة على إيجار العين المملوكة لأي شخص بأي مبلغ إلى أيّة مدّة شاء، وهذه السلطنة بعينها هي حقّ الإيجار.

ولكنّه مدفوع: بأنّ الحقّ المالي له خصائص ثلاثة يمتاز بها عن الحكم، منها: القابلية للإسقاط، ومنها: القابلية للإرث، ومنها: جواز النقل. وهي غير ثابتة في المقام لو لم يثبت عدمها، واستحقاق الورّاث لإيجار العين الموروثة، ليس من جهة تورّثهم له، بل من جهة إرثهم لنفس العين، المستتبع لجواز الإيجار له.

ومن هنا ينبغي أن يقال: إنّ السلطنة المذكورة للمالك ليست في جوهرها إلّا حكماً شرعياً، وهو جواز الإيجار ونفوذها.

وأ مّا الثاني؛ فلأ نّه على فرض كونه قابلًا للإسقاط، لا دليل على كونه من الحقوق المالية القابلة للنقل بمثل البيع ونحوه، بل هو مشكوك القابلية له، وليس في البين أصل لفظي أو عملي يقتضي القابلية له. وحينئذٍ تبقى أصالة عدم القابلية للنقل بلا معارض.

وتفصيل ذلك: أنّ الحقّ إذا شُكّ في قابليته للنقل:

فتارةً: يكون منشؤه الشكّ في اعتبار قيد فيه عرفاً، فيكون الشكّ في القابلية العرفية.

واخرى: يكون منشؤه الشكّ في اعتبار قيد فيه شرعاً، فيكون الشكّ في القابلية الشرعية.

ص: 390

أ مّا في الصورة الاولى: فلا ينبغي الإشكال في عدم جواز التمسّك؛ لإثبات النفوذ بعموم أدلّة الإمضاء، كقوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«المؤمنون عند شروطهم»(2)، وإطلاقها كقوله سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ(3)، وقوله عليه السلام: «الصلح جائز بين المسلمين»(4)؛ لأنّ الشكّ على الفرض في اعتبار قيد في نقل الحقّ عرفاً، ومرجعه إلى الشكّ في صدق العنوان المأخوذ موضوعاً في دليل الإمضاء.

فالتمسّك- حينئذٍ- بعموم دليل الإمضاء أو إطلاقه يصبح من التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية له، وهو غير جائز بالاتفاق، وهذا نظير ما إذا شكّ في اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول في البيع عرفاً، فإنّه يوجب الشكّ في صدق عنوان البيع على الفاقد للموالاة، والتمسّك لنفي اعتبارها بإطلاق: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ، من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وهذا مراد الماتن المحقّق قدس سره في كتاب البيع من قوله: «أمّا لو شكّ في كون حقّ قابلًا للإسقاط أو النقل، فإن كان الشكّ لأجل الشكّ في القابلية العرفية، فلا يصحّ إحرازها بالعمومات؛ لرجوع الشكّ إلى الصدق»(5).


1- المائدة( 5): 1 ..
2- تهذيب الأحكام 7: 371/ 1503، الاستبصار 3: 232/ 835، وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..
3- البقرة( 2): 274 ..
4- الفقيه 3: 20/ 52، وسائل الشيعة 18: 443، كتاب الصلح، الباب 3، الحديث 2 ..
5- البيع، الإمام الخميني قدس سره 1: 49 ..

ص: 391

وأ مّا في الصورة الثانية: ففي جواز التمسّك لإثبات النفوذ بعموم أدلّة الإمضاء وعدمه، خلاف بين المحقّقين، فذهبت جماعة، بل المشهور على ما نسب إليهم المحقّق الأصفهاني قدس سره(1) إلى جواز التمسّك بالعمومات؛ ببيان أنّه إذا فرضنا حقّاً، قابلًا للنقل عرفاً، وشككنا في قابليته له شرعاً، يتمسّك بإطلاق مثل: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ، «الصلح جائز»؛ لإنفاذ نقله بيعاً فيما وقع على وجه البيع، أو صلحاً فيما وقع على وجه الصلح، وهذا ليس من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية. إذ المفروض أنّ عنواني البيع والصلح الموضوعين في الدليلين للحكم صادقان عليه عرفاً، وإنّما الشكّ في اعتبار قيد في قبوله للنقل شرعاً، ومن هنا يرجع الشكّ إلى الشكّ في التخصيص أو التقييد، وهما منفيّان بما هو المعلوم من أنّ الأصل في العامّ بالنسبة إلى الفرد المشكوك هو العموم، وفي المطلق هو الإطلاق.

وبناءً على هذا المبنى نقول في المقام: إنّ حقّ الإيجار (على فرض كونه حقّاً بلا مسامحة ومجاز) قابل عند العرف؛ لنقل المالك إيّاه إلى غيره بشكل البيع، فإذا باعه بإزاء مبلغ معيّن يصدق عليه البيع عرفاً بلا مسامحة، وإنّما الشكّ في أنّه بيع نافذ شرعاً من جهة الشكّ في أنّ المبيع- حقّ الإيجار- قابل للنقل شرعاً، وهو منفي باندراجه في إطلاق قول اللَّه سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ، الذي سيق، لإمضاء جميع البيوع ومنها هذا البيع.

ولكنّ أصل ذلك المبنى لا يخلو عن نقاش، وذلك لأنّ انعقاد الإطلاق بالنسبة إلى أمر، متوقّف على إحراز مقدّمات الحكمة بالنسبة إليه، ومنها كون الكلام مسوقاً


1- حاشية المكاسب 1: 12، طبع قديم ..

ص: 392

لبيان حكم ذلك الأمر.

وفي المقام الجهة التي سيق لها الكلام- أدلّة الإمضاء- هي جهة جواز النقل والانتقال بالأسباب الخاصة، بعد إحراز أصل القابلية للنقل.

وبعبارة اخرى: الجهة التي تكون أدلّة الإمضاء بصدد بيانها، هي جهة إنفاذ الأسباب، لا جهة القابلية للنقل. ويترتّب عليه أنّ في كلّ مورد شكّ في أنّه سبب شرعي للنقل، أم لا؟ يأخذ بإطلاق دليل الإمضاء ويحكم بسببيته له شرعاً، كما إذا شكّ في أنّ المعاطاة، هل هي سبب شرعي للبيع، فيتمسّك بإطلاق قول اللَّه سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ، ويحكم بكونه سبباً شرعياً له.

وأ مّا إذا كان منشأ الشكّ في النفوذ، الشكّ في قابلية المورد للنقل، فلا مجال حينئذٍ للتمسّك بإطلاق دليل الإمضاء؛ لأنّه ليس بصدد البيان من هذه الجهة حتّى يتمّ الإطلاق.

ولا يخفى: أنّ هذا الإشكال إنّما يرد على العملية المعاملية المذكورة، لو أردنا تصحيحها على وجه البيع، (كما هو المفروض). وأ مّا لو أردنا تصحيحها بعنوان أنّها عقد من العقود، فلا يتوجّه إليها إشكال؛ لاندراجها في عموم قول اللَّه سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)، حيث إنّ دلالته على تنفيذ العقود ليست بوجه الإطلاق، حتّى يناقش فيه بعموم إحراز كونه بصدد البيان من جهة القابلية للنقل، بل على وجه العموم المستفاد من الجمع المحلّى باللام (العقود)، الشامل لهذا العقد بلا شكّ وإشكال، وحينئذٍ تترتّب عليه الأحكام العامّة للعقود: من النفوذ، ووجوب الوفاء ونحوهما، أمّا أحكام البيع من الخيارات المختصّة به وغيرها، فلا تجري فيه.


1- المائدة( 5): 1 ..

ص: 393

الوجه الرائج لبيع المالك السرقفلية

ومقتضى التحقيق: أنّ في المقام وجهاً آخر، يمكن تخريج أخذ المالك السرقفلية بشكل البيع عليه، وهو الموافق مع ما هو المألوف والرائج من بيع حقّ الخلوّ والسرقفلية بين العرف.

وتقريبه: أنّ المحلّ الذي يريد المالك أن يبيع حقّ خلوّه منه، له شؤون مختلفة عند العرف، من حيث المنافع وكيفية الانتفاع بها، وهي بأجمعها للمالك، فله ملكية عين المحلّ، وكذا منافعه، وأمر إيجاره، وأخذ مبلغ الإجارة، وتعيين مقداره ومدّتها، وإخراج المستأجر بعد انتهاء أمدها، وإمهاله إلى ما شاء، والإذن في إيجار المستأجر المحلّ لشخص ثالث. ولا شكّ في أنّ هذه الشؤون بأجمعها للمالك وله السلطنة عليها، فله أن يُبقي لنفسه ملكية المحلّ والمنفعة، ويفوّض السلطنة على جميع الشؤون المتعلّقة به، التي هي حقّ عقلائي، بوجه البيع إلى غيره بأيّ مبلغ توافقا عليه.

وأ مّا منفعة المحلّ فإنّما ينقله إليه بالإجارة لا بعنوان السرقفلية؛ لئلا يلغي ملكيته لرقبة المحلّ؛ ضرورة أنّ المالك لو نقل منافعه في ضمن حقّ السرقفلية إلى غيره، فلا يبقى حينئذٍ لملكيته لرقبة المحلّ أثر.

والظاهر أنّ المعمول والرائج من بيع حقّ السرقفلية والخلوّ بين العرف هذا المعنى؛ فإنّ المعهود من هذا الحقّ عندهم، ليس خصوص حقّ الإيجار حتّى يرد عليه ما تقدّم من النقاش: تارةً: في أصل حقّيته.

ص: 394

واخرى: في قبوله للنقل. ولا خصوص حقّ الامتناع من تخلية المحلّ، ولا حقّ تنزيله لشخص آخر، ولا خصوص شأن آخر من تلك الشؤون، بل المعهود بينهم من حقّ الخلوّ هو الحقّ المتضمن لجميع تلك الشؤون المتعلّقة بالمحلّ، حتّى لو قلنا بأنّ كلّ واحد من هذه الشؤون في حقيقته حكم شرعي.

ولكن من المعلوم أنّ إعمالها ليس إلّاباختيار المالك وفي سلطنته.

والإنصاف أنّ السلطنة على هذه الشؤون حقّ عقلائي لها المالية، وقابلة للتفويض والنقل، فيندرج في إطلاق قوله سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ.

ولو نوقش في إطلاقه للمقام بالإشكال المتقدّم على الوجه السابق، فيمكن تصحيحه بوجه آخر، وهو ما سيأتي من الدليل على أنّه ليس بعديم النظير من بين العقود الرائجة في عصر التشريع، بل هو نظير بيع من بيده الأرض الخراجية حقّه منها، إلى غيره المدلول على جوازه في طائفة من النصوص، وسيأتي التعرّض لها بالتفصيل.

هذا كلّه بالنسبة إلى تصحيح ذلك العقد بوجه البيع.

وأ مّا تصحيحه بما أنّه عقد من العقود، فيكفيه عموم قوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ وهو سليم عن الإشكال المتقدّم، ولكنّه حينئذٍ لا يترتّب عليه أحكام البيع، من الخيارات المختصّة به وغيرها، بل يترتّب عليه الأحكام العامة للعقود من النفوذ واللزوم ونحوهما.

ص: 395

الوجه الرابع والخامس والسادس أخذ المالك السرقفلية بوجه الصلح والجعالة والهبة

ومما ذكرنا في وجه جواز أخذ المالك السرقفلية من المستأجر بطريق البيع، ظهر وجه جواز أخذه لها، بوجه الصلح: بأن يتصالح مع المستأجر على أن ينقل إليه سلطنته على جميع الشؤون المتعلّقة بالمحلّ- ما عدا ملكيته للمحلّ ومنافعه- التي هي حقّ عقلائي للمالك، بإزاء مبلغ معيّن بعنوان السرقفلية. أو بوجه الجعالة: بأن يجعل المالك للمستأجر هذه الشؤون، وينقلها إليه بعوض مبلغ معيّن يدفعه المستأجر إليه، أو بوجه الهبة المشروطة: بأن يهب المستأجر مبلغاً إلى المالك، بشرط أن يفوّض إليه تلك الشؤون. فإنّ هذه الوجوه، جائزة شرعاً قضاءً لإطلاق نصوص الصلح والجعالة والهبة، ولا محذور فيها، إلّامن جهة التشكيك في قابلية السلطنة على تلك الشؤون للنقل.

ولكنّه مدفوع: بإطلاق نصوص هذه الأبواب، بعدما افترضنا قابلية هذه السلطنة للنقل عرفاً، ومع النقاش في إطلاقها يمكن التمسّك لإثباتها بما سيأتي من النصوص الدالّة على الجواز في نظير المسألة، وهو بيع الحقّ المتعلّق بالأرض الخراجية لمن كانت في يده.

ثمّ لا يخفى: أنّ الماتن المحقّق قدس سره لم يتعرّض في هذا الباب (السرقفلية) لجواز أخذ السرقفلية للمالك، إلّافي المسألة الثامنة، وهي آخر مسائل الباب، ولم يشر إلى وجه جوازه، بل اقتصر على قوله: «للمالك أن يأخذ أيّ مقدار شاء بعنوان السرقفلية من شخص؛ ليؤجر المحلّ منه» وهو لا يخلو من الوجوه التي ذكرناها.

ص: 396

المقام الثاني: أخذ المستأجر السرقفلية

اشارة

إنّ أخذ المستأجر السرقفلية، تارةً: يلاحظ بالنسبة إلى المالك. واخرى: بالنسبة إلى المستأجر الجديد.

فالبحث يقع في جهتين:

أ مّا الجهة الاولى: أخذ المستأجر السرقفلية من المالك

فمقتضى التحقيق أنّه لا وجه لجواز أخذ المستأجر حقّ الخُلُوّ من المالك، إلّا إذا تملّك سابقاً من المالك حقّ الخلوّ والسرقفلية على وجه الشرط، ضمن عقد الإجارة أو الشراء منه، ببيان تقدّم تفصيلًا. فهو مالك- حينئذٍ- للسرقفلية والخلوّ، فيجوز له بيعه إلى المالك إذا أراد الشراء، بمبلغ تراضيا عليه، كما له أن ينقله إليه على وجه الهبة المعوضة، أو الصلح، أو الجعالة.

وأ مّا أخذ المستأجر السرقفلية من المالك بعنوان حقّ الكسب الحاصل بطول الإجارة مدّة طويلة، أو حقّ التجارة الحاصل بكون المستأجر ذو وجاهة وقدرة تجارية في المحلّ الذي استأجره، بحيث جذبت توجّه المشترين إليه، فلا شرعية له مطلقاً عند الماتن المحقّق قدس سره، كما تقدّم منه التصريح به في المسألة الاولى من هذا الفصل.

ولكن ذكرنا هناك أنّ مقتضى التحقيق في تلك الموارد وغيرها، هو التفصيل بين وقوع الإجارة بعد صدور القانون الحكومي، المانع من إخراج المالك المستأجر عن المحلّ بعد انتهاء مدّة الإجارة، وكذا عن زيادة مال الإجارة، بحيث استقرّ

ص: 397

- بعد صدور هذا القانون- ارتكاز عقلائي بين العرف على وقوع عقد الإجارة، مبنيّاً على حقّ الامتناع من التخلية للمستأجر وإبقائه الإجارة بما شاء، مع عدم زيادة مبلغ الإجارة، فحينئذٍ يتحقّق له حقّ السرقفلية، قضاءً لعموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«المؤمنون عند شروطهم»(1)، في موثّقة منصور بن يونس، الشامل للشروط البنائية الارتكازية كالشروط الضمنية المصرّحة، وبين وقوع الإجارة قبل صدور ذلك القانون أو بعده، مع عدم استقرار ارتكاز عقلائي عليه، فلا يتحقّق له، حينئذٍ ذلك الحقّ.

وبناءً على هذا التفصيل المختار، يجوز للمستأجر أخذ السرقفلية من المالك في الصورة الاولى دون الثانية.

نعم يجوز للمستأجر قبل انتهاء مدّة الإجارة أن يسقط حقّه الباقي من المدّة؛ بالنسبة إلى منفعة العين المستأجرة، بإزاء مبلغ يدفعه إليه المالك، ولكنّه ليس من باب السرقفلية، بل من باب إسقاط الحقّ بعوض، وهو جائز بلا إشكال.

أ مّا الجهة الثانية: أخذ المستأجر القديم السرقفلية من المستأجر الجديد
اشارة

فمقتضى التحقيق: أنّ المستأجر القديم، تارةً: يكون واجداً لحقّ السرقفلية، إمّا بانتقاله إليه من المالك على وجه البيع، أو الصلح، أو الهبة المعوّضة، أو باشتراطه له في ضمن عقد الإجارة بالصراحة، أو بالارتكاز العقلائي، المتقدّم تفصيله في الجهة الاولى. واخرى: يكون فاقداً.

فإن كان فاقداً له، فلا ينبغي الإشكال في عدم جواز أخذه السرقفلية من


1- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..

ص: 398

المستأجر الجديد بأيّ وجه كان أخذها، من البيع، أو الصلح، أو الهبة، أو الشرط في ضمن العقد بالصراحة، فإنّ أخذه السرقفلية منه، بجميع هذه الوجوه، غير جائز كما هو واضح؛ ضرورة أنّ فاقد الحقّ لا يمكن أن يكون معطيه. ومن هنا يكون غاصباً في استيلائه على حقّ الخلوّ، ونقله إلى المستأجر الجديد، ويكون ضامناً للمالك، وكذا للمستأجر الجديد بالنسبة إلى ما يأخذه منه بعنوان السرقفلية.

نعم للمستأجر القديم في هذه الصورة، قبل انتهاء مدّة الإجارة أن يأخذ مبلغاً من المستأجر الجديد، ويسقط حقّه بالنسبة إلى بقية المدّة، ويخلّي المحلّ له، ولكنّه ليس من باب السرقفلية، بل من باب إسقاط الحقّ بعوض، وهو جائز بلا إشكال.

كما يجوز لمن أراد أن يستأجر المحلّ، الذي تحت يد المستأجر القديم، أن يدفع إليه بعد انتهاء مدّة إجارته، مبلغاً بعنوان الهبة، بشرط أن لا يزاحمه في استئجار المحلّ من مالكه، فإنّه من قبيل الهبة المشروطة، وهي جائزة بلا خلاف وإشكال.

ثمّ إنّ العلّامة المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره(1)، استدلّ لنفوذ هذه الهبة بصحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يرشوه الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه، قال: «لا بأس به»(2).

وفيه: أنّ الظاهر من السؤال، هو السؤال عن حكم من سبق إلى مكان من المشتركات، كالمسجد والسوق والأوقاف العامّة ونحوها، فنزله، وأراد شخص آخر أن يسكن ذلك المكان، فيدفع إليه مبلغاً بشرط أن يخلّي ذلك المكان له، وهذا


1- بحوث فقهية، من محاضرات الفقيه المحقّق الشيخ حسين الحلّي قدس سره: 150 ..
2- وسائل الشيعة 17: 278، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 85، الحديث 2 ..

ص: 399

أجنبي عن المقام.

وأ مّا إن كان واجداً لحقّ الخلوّ والسرقفلية، إمّا بشرائه من المالك، أو هبته منه إليه، أو صلحه له، أو باشتراطه له ضمن العقد صراحةً أو ارتكازاً، فلا ينبغي الإشكال في جواز أخذه السرقفلية من المستأجر الجديد بأحد الوجوه التالية:

الوجه الأوّل: تخريجه على البيع

بأن يبيع المستأجر القديم، حقّ الخلوّ والسرقفلية- الذي انتقل إليه من المالك، أو استحقّه بالشرط الارتكازي المتقدّم بيانه ومورده- إلى المستأجر الجديد بإزاء مبلغ هو السرقفلية، ولا محذور فيه، لما تقدّم من أنّ حقّ السرقفلية في التخريج على البيع ليس خصوص حقّ الإيجار، حتّى يناقش فيه، بأنّ جوهره ليس إلّا جواز الإيجار، وهو حكم شرعي وليس بحقّ، وعلى فرض كونه حقّاً، لا دليل على قبوله للنقل، ولا خصوص حقّ امتناع المستأجر عن تخلية المحلّ ولا غيره، من أيّ شأن متعلّق بالمحلّ المستأجَر، بل هو عبارة عن الولاية على جميع الشؤون المتعلّقة بالمحلّ، ما عدا ملكية عينه ومنفعته من الانتفاع به، وعدم التخلية بعد انتهاء أمد الإجارة، وإيجاره إلى شخص ثالث، وتعيين مدّته ومبلغه وغيرها. ومن المعلوم أنّ الولاية والسلطنة على هذه الشؤون لها مالية عقلائية قابلة للنقل، فتليق بأن تقع أحد العوضين في البيع، ولا مانع من بيع السرقفلية بهذا المعنى من المستأجر القديم إلى الجديد، بعد رواجه بين العقلاء، واندراجه في إطلاق قول اللَّه سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ، بناءً على كونه بصدد تنفيذ البيع مطلقاً، حتّى من جهة الشكّ في قابلية المعوّض للنقل، وكذا في عموم قوله سبحانه: أَوفُوا بِالعُقُودِ.

نعم، هنا قسم آخر من حقّ الخلوّ والسرقفلية، لا يتضمّن جميع الشؤون

ص: 400

المذكورة، وإنّما يتضمّن خصوص حقّ الامتناع للمستأجر من تخلية المحلّ، واستحقاقه لتجديد الإجارة بعد انتهاء أمدها بالاجرة السابقة، أو مع زيادة قليلة، وهذا فيما إذا استأجر شخص محلّاً من مالكه بمبلغ زائد على مال الإجارة، بشرط عدم إخراج المستأجر من المحلّ، وعدم زيادة اجرة على الاجرة المسمّاة.

ففي هذه الصورة: لايجوز للمستأجرالقديم نقل حقّ الخلوّ إلى غيره، لابوجه البيع، ولا بوجه آخر كالهبة والصلح والجعالة؛ لتقيّد هذا الحقّ بحسب اشتراط المتعاقدين ضمن العقد، بنفس المستأجر، ومقتضاه عدم جواز نقله إلى غيره.

نعم، يجوز له أن يأخذ مبلغاً بعنوان السرقفلية من المالك في قبال إسقاط حقّه، ويخلّي المحلّ له. كما يجوز له أيضاً أخذ مبلغ من المستأجر الجديد، بإزاء إسقاط حقّه وتخلية المحلّ له. وهذا بخلاف القسم الأوّل، إذ المفروض فيه انتقال جميع الشؤون المتعلّقة بالمحلّ- ما عدا ملكية عينه- إلى المستأجر القديم. فله بيع حقّ الخلوّ المتضمّن لهذه الشؤون إلى المستأجر الجديد.

وبيع حقّ الخلوّ بهذا المعنى ليس عديم النظير في العقود المتداولة في عصر التشريع، فإنّه نظير بيع من كان في يده الأرض الخراجية- على وجه القبالة- حقّه منها إلى غيره، وقد دلّ على جوازه طائفة من النصوص.

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، وعن الساباطي، وعن زرارة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، أنّهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين من أرض الجزية، فقال: «إنّه إذا كان ذلك انتزعت منك، أو تؤدّي عنها ما عليها من الخراج»، قال عمّار: ثمّ أقبل عليّ، فقال: «اشترها، فإنّ لك من الحقّ ما هو أكثر من ذلك»(1).


1- وسائل الشيعة 17: 368، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 21، الحديث 1 ..

ص: 401

فإنّ المراد من أرض الجزية التي سأل هؤلاء الفضلاء عن حكم شرائها، هي الأرض الخراجية؛ بقرينة ما في جواب الإمام عليه السلام من قوله: «... ما عليها من الخراج»، ومن المعلوم أنّها ملك للمسلمين، لا يجوز بيعها، وهذا قرينة واضحة على أنّ مراد الإمام عليه السلام من قوله: «اشترها»، ليس الحكم بجواز شراء رقبة الأرض، بل بدلالة الاقتضاء هو الحكم بجواز شراء حقّ متعلّق بها، للدهاقين الذين بأيديهم تلك الأراضي، وهذا الحقّ ليس إلّاحقّ الأولوية للانتفاع من الأرض، وإبقاء قبالة الأرض، وكذا إيجارها إلى شخص آخر.

واحتمال كون المراد من شراء الأرض، هو خصوص شراء ما عمله مَن بيده الأرض فيها من حفر أنهارها وتسويتها وغرس الأشجار فيها، ونحوها، مدفوع: بأنّ إطلاق السؤال «أنّهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين» وترك استفصال الإمام عليه السلام في جوابه، يمنع عن الحمل على خصوص ذلك.

ومثلها: صحيحة محمّد الحلبي، قال: سئل أبوعبداللَّه عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يُخلق بعد»، فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: «لا يصلح، إلّاأن تشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين، فإذا شاء وليُّ الأمر أن يأخذها أخذها»، قلت: فإن أخذها منه؟ قال: «يردّ عليه رأس ماله، وله ما أكل من غلّتها بما عمل»(1).

وأظهر دلالة من كلتا الصحيحتين المتقدّمتين، صحيحة أبي بردة بن رجا،


1- وسائل الشيعة 17: 369، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 21، الحديث 4 ..

ص: 402

قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: «ومن يبيع ذلك! هي أرض المسلمين»، قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده، فقال: «ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟»، ثمّ قال: «لا بأس اشتري حقّه منها، ويحوّل حقّ المسلمين عليه، ولعلّه يكون أقوى عليها وأملى بخراجهم منه»(1).

ولا يخفى أنّ صحّة سند الخبر مبني على مقالة الشيخ الطوسي- أعلى اللَّه مقامه الشريف- في العدّة(2)، من أنّ صفوان بن يحيى من الثقاة الذين عرفوا بأ نّهم لا يروون ولا يرسلون إلّاعن ثقة، وذلك لأنّ الخبر رواه صفوان بن يحيى، عن أبي بردة بن رجا، وهو لم يوثق في الكتب الرجالية، ولم يذكر بمدح ولا ذمّ، وإنّما اقتصر فيها على ذكر كنيته ولم يذكر اسمه.

ومن هنا لو قلنا: بأنّ هذه المقالة ليست شهادة حسّ من الشيخ قدس سره على وثاقة من يروي أو يرسل عنه هؤلاء الثلاثة، بل هو حدس واجتهاد منه، فلا تثبت حينئذٍ صحّة السند، ويصبح مؤيّداً لما سيأتي من الدليل، وهو صحيحة محمّد بن مسلم الآتية.

وأ مّا وجه دلالة الخبر على المدّعى فبيانه: أنّ مورد السؤال في الخبر (شراء الأرض الخراجية) التي هي ملك للمسلمين ممّن هي في يده، وقد دلّت بالصراحة على عدم جواز بيع رقبتها، وأ نّه يجوز له بيع حقّه منها، وهذا الحقّ «اشتري حقّه منها»، المفروض لمن كانت الأرض تحت يده، ليس إلّاالحقّ الحاصل من جهة قبالة الأرض إليه من قبل الحاكم بإزاء دفع خراجها؛ حيث إنّه بعد تقبّله الأرض


1- وسائل الشيعة 15: 156، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدوّ، الباب 72، الحديث 1 ..
2- العدّة في الاصول 1: 154 ..

ص: 403

منه، يستحقّ الانتفاع بها بالمباشرة، ولا يجوز له إخراجه منها، مع قيامه بدفع خراجها، لاسيّما بعد النظر إلى ما هو المألوف في تلك الأزمنة؛ من أنّ غرض متقبّل الأرض هو انتفاعه بها في مدّة طويلة، بل إلى آخر عمره، وانتفاع ورّاثه بها بعد موته، فبالطبع يتحقّق له حقّ الأولوية في إبقاء قبالة الأرض والانتفاع بها.

وقد حكم الإمام عليه السلام بجواز شراء هذا الحقّ منه، وهذا نظير حقّ الأولوية، الحاصلة في حقّ الخلوّ للمستأجر القديم؛ بسبب نقل المالك- بشرط النتيجة، أو البيع، أو الصلح- جميع الشؤون المتعلّقة بالمحلّ ما عدا ملكيته إليه، كما هو مقتضى بعض أقسام حقّ الخلوّ، وقد تقدّم توضيحه. أو بسبب اشتراط عدم إخراج المالك إيّاه من المحلّ- على وجه شرط النتيجة- بعد انتهاء مدّة الإجارة، وتقدّمه على غيره للاستئجار بالاجرة السابقة، كما هو مقتضى بعض أقسامه الاخر. ففي كلا القسمين يحصل للمستأجر حقّ بالنسبة إلى المحلّ الذي استأجره، فله أن يبيعه إلى المستأجر الجديد؛ لأنّ هذا الحقّ، والحقّ الذي لمن كانت بيده الأرض الخراجية، من سنخ واحد.

لا يقال: إنّ الحقّ المذكور في الخبر المتقدّم، المحكوم بجواز شرائه ممّن بيده الأرض الخراجية مجمل، إذ من المحتمل، أن يكون المراد به، حقّ المنفعة المملوكة لمن كانت بيده الأرض بالإجارة، والمراد من جواز شرائه هو جواز استئجاره. ومن المعلوم أنّ هذا الحقّ مغاير مع حقّ الخلوّ والسرقفلية.

لأ نّه يقال: إنّ هذا الاحتمال مدفوع:

أوّلًا: بظهور الشراء في قوله عليه السلام: «لا بأس اشتري حقّه منها»، في أنّ هذه المعاملة (نقل الحقّ) إنّما هي من سنخ البيع والشراء دون الإجارة والاستئجار، مع

ص: 404

أ نّه لو أراد الإمام عليه السلام من الحقّ، حقّ المنفعة؛ لكان المناسب لإفادة نقله أن يقول:

«لا بأس استأجر حقّه منها» أو «لا بأس استأجر منه الأرض».

وثانياً: بأنّ ذلك الاحتمال لا يوافق ما في ذيل الخبر- ويحوّل حقّ المسلمين عليه- الدالّ على انتقال حقّ المسلمين- وهو خراج الأرض- إلى ذمّة من اشترى حقّ من كانت بيده الأرض؛ لأنّ مقتضى كون قبالة الأرض له، أن يكون الخراج على ذمّته، لا ذمّة من استأجرها منه.

ودعوى: احتمال كون المراد من الحقّ- في الخبر المتقدّم- الحقّ الناشئ لمن كانت تحت يده الأرض الخراجية، من جهة تعميره الأرض، بحفر النهر لها وتسويتها ونحوهما، لا حقّ التقدّم والأولوية في استئجار الأرض، وحقّ الامتناع عن تخليتها بعد انتهاء أمد الإجارة، المطلوب في حقّ الخلُوّ.

مدفوعة: بأنّ إطلاق لفظ الحقّ في قوله عليه السلام: «لا بأس اشتري حقّه منها»، شامل لحقّ الأولوية أيضاً، مضافاً إلى إمكان دعوى ظهوره في خصوصه؛ بقرينة قوله عليه السلام: «منها»، إذ لو كان مراده عليه السلام الحقّ الحاصل بمثل حفر النهر؛ لكان المناسب أن يقول: «فيها»، فتدبّر.

ثمّ لا يخفى: أنّ هذه الصحيحة، يمكن استفادة نكتة اخرى منها، وهي عدم اعتبار كون المعوّض في البيع عيناً، وجواز كونه حقّاً، حيث إنّ الإمام عليه السلام حكم في قوله: «لا بأس اشتري حقّه منها» بجواز ابتياع الحقّ بلا عناية ومجاز، وحمله على أنّ المراد به إسقاط الحقّ مدفوع، بأ نّه خلاف الظهور. ومع الشكّ في المراد، فأصالة الحقيقة- التي هي أصل عقلائي عند الشكّ في المراد، دون كيفية الإرادة مع العلم به- تقتضي أن نحكم بكون المراد من الاشتراء في الصحيحة هو

ص: 405

معناه الحقيقي.

وبهذا البيان تندفع مناقشة اخرى، ربما يمكن أن تورد على جواز بيع حقّ الخلوّ (السرقفلية)، وهي أنّ البيع يتقوّم بكون المعوّض فيه من الأعيان، استناداً إلى أ نّه المتبادر منه، أو إلى صحّة سلب البيع عن تمليك الحقّ، ويترتّب عليه أنّ الحقوق القابلة للنقل بأجمعها- ومنها حقّ الخلوّ- لا تصلح للوقوع معوّضاً في البيع، فلا يجوز نقلها به.

ووجه الاندفاع: أنّ الإمام عليه السلام في هذه الصحيحة، حكم بجواز ابتياع الحقّ بلا عناية ومجاز، ولا قرينة داخلية أو خارجية، على أنّ كلمة «اشتري» في كلامه عليه السلام استعمل في معنى مجازي، مضافاً إلى ذلك: أنّ المرجع الوحيد في تحديد مفاهيم الألفاظ ومقوّماته هو العرف، وهم يحملون لفظ البيع على نقل الحقوق بإنشاء البيع، من غير أن يروا في هذا الحمل مسامحةً. فيقولون مثلًا: إنّ فلاناً باع حقّ السرقفلية، وفلاناً اشترى منه، بلا عناية ومجاز، كما قال الماتن المحقّق قدس سره في كتاب البيع:

«وقد تعارف في عصرنا بيع حقّ عقلائي، أو اعتبار كذلك، يتخيّلون في الدكاكين وغيرها، يسمّونه: «سرقفلى»، أو «حقّ الماء والطين»، ولا أظنّ بأحدهم عدّ ذلك غير البيع، ولا الشبهة في صدق مفهوم البيع عليه»(1).

وقد ظهر بما تقدّم أنّ دعوى كون المتبادر من لفظ البيع، هو تمليك العين، كدعوى صحّة سلبه عن تمليك الحقّ، ممنوعة.


1- البيع، الإمام الخميني قدس سره 1: 32 ..

ص: 406

الوجه الثاني والثالث: تخريجه على الصلح والهبة

قد ذكرنا في الوجه الأوّل: أنّ الرائج المعمول بين العرف في نقل المستأجر القديم حقّ الخُلُوّ إلى المستأجر الجديد، هو نقله إليه بوجه البيع، ولكن في المقام وجوه اخرى، يمكن تخريج نقله إليه شرعاً عليها، وإن كانت غير رائجة في عصرنا الراهن.

من تلك الوجوه: الصلح، بأن يصالح المستأجر القديم مع الجديد على أن يعقل إليه حقّ الخلوّ، الذي تملّكه بأحد الوجوه الجائزة المتقدّمة في محلّه، بإزاء مبلغ- بعنوان السرقفلية- يدفعه إليه المستأجر الجديد، وهذا جائز بمقتضى إطلاق صحيحة حفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «الصلح جائز بين الناس»(1).

كما يجوز له أن يهب هذا الحقّ إلى المستأجر الجديد، بشرط أن يدفع إليه مبلغاً زائداً على مايدفعه إلى المالك بعنوان مبلغ الإجارة قضاءً لإطلاق نصوص الهبة.

وأثر هذا التصالح والهبة المشروطة للمستأجر الجديد، انتقال حقّ الخلُوّ إليه وانقطاع المستأجر القديم عن المحلّ والحقّ المتعلّق به بالمرّة.

فله الانتفاع من المحلّ التجاري، أو الدكان الذي اشترى حقّ خلوّه، وله الامتناع عن تخلية المحلّ بعد انتهاء أمد الإجارة، ولا يجوز للمالك إخراجه عنه، ولا مزاحمته له، وإنّما يجوز له تجديد الإجارة بعد انتهاء أمدها، ولكن لا باجرة جديدة متناسبة مع الاجرة السوقية حينئذٍ، بل بالاجرة القديمة المسمّاة في عقد الإجارة مع المستأجر القديم.


1- وسائل الشيعة 18: 442، كتاب الصلح، الباب 3، الحديث 1 ..

ص: 407

الوجه الرابع والخامس: تخريجه على الشرط والجعالة

من الوجوه التي يمكن تخريج أخذ المستأجر القديم السرقفلية من المستأجر الجديد عليها، هو طريق الشرط والجعالة، وإن كان الطريقان غير رائجين بين العرف في عهدنا الراهن.

أ مّا طريق الشرط: فبأن يشترط- بوجه شرط النتيجة- المستأجر الجديد لنفسه على المستأجر القديم في ضمن عقد لازم، حقّ خلوّه من العين المستأجرة، الذي تملّكه بأحد الوجوه الجائزة. وهذا الشرط نافذ بمقتضى إطلاق قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في موثّقة منصور بن يونس: «المؤمنون عند شروطهم»(1). نعم، على القول بعدم نفوذ شرط النتيجة، لا يتمّ هذا الطريق، ولكنّه ليس بسديد، وتفصيل البحث موكول إلى محلّه.

وأ مّا اشتراط ذلك ابتداءً- لا في ضمن عقد لازم- فهو على المبنى المشهور المختار من عدم نفوذ الشروط الابتدائية، يكون فاسداً.

وأ مّا طريق الجعالة، (وإن كان غير رائج في نقل حقّ الخلوّ): فبأن يجعل وينقل المستأجر القديم حقّ خلوّه الذي تملّكه بأحد الوجوه الجائزة المتقدّمة، للمستأجر الجديد، بإزاء مبلغ يدفعه إليه بعنوان السرقفلية، زائداً على مبلغ الإجارة الذي يدفعه إلى المالك. وهذا الطريق أيضاً نافذ بمقتضى عموم دليل الإمضاء وإطلاقه.


1- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..

ص: 408

ولا محذور في هذين الطريقين، إلّامن جهة الإشكال عليهما، بأنّ شمول دليل الشرط والجعالة للمقام متوقّف على إحراز قابلية حقّ الخلوّ للنقل، وهو أوّل الكلام. ولكن تقدّم الجواب عنه، بأ نّه حقّ عقلائي له شأن من المالية، قابل للنقل عندهم، وباندراجه في إطلاق دليل نفوذ الشرط والجعالة، يكشف قبوله للنقل ويحكم بصحّته.

مضافاً إلى أنّه نظير الحقّ الحاصل لمن تقبّل الأرض الخراجية من الحاكم، إمّا بوجه القبالة أو الإجارة، فإنّه يجوز له بيعه بمقتضى النصوص الواردة، وقد تقدّم الكلام حول وجه دلالتها على المقام، فراجع.

الوجه السادس: تخريجه على الشرط في ضمن الإجارة

من الطرق التي يمكن للمستأجر القديم أن يأخذ السرقفلية من المستأجر الجديد على ضوئها، هو الإجارة بشكل خاصّ، وهو ما تعرّض له الماتن المحقّق قدس سره في المسألة الرابعة- التي تقدّم متنها في صدر هذا المبحث- ودونك لفظها:

«مسألة 4: لو استأجر محلّاً للتجارة في مدّة طويلة كعشرين سنة مثلًا، وكان له حقّ إيجاره من غيره، واتّفق ترقّي اجرة مثل المحلّ في أثناء المدّة، فله إجارته بالمقدار الذي استأجره، وأخذ مقدارٍ بعنوان السرقفلية؛ لأن يؤجره منه على حسب توافقهما».

هذه المسألة ناظرة إلى بيان نوع رائج من السرقفلية، التي يأخذها المستأجر القديم من المستأجر الجديد والتقييد بقوله: «محلّاً للتجارة» وكذا بقوله: «مدّة

ص: 409

طويلة»، ليس للاحتراز عن غيرهما، وقصر الحكم عليهما، بل هما قيدان غالبيان، حيث إنّ الرائج من السرقفلية، التي يأخذها المستأجر القديم من الجديد، على شكل الشرط في ضمن عقد الإجارة، إنّما هو فيما كانت العين المستأجرة محلّاً تجارياً، وكانت مدّة الإجارة طويلة، حتّى يتنافس في استئجاره لبقية المدّة المستأجر الجديد. بخلاف قوله: «وكان له حقّ إيجاره إلى غيره»، فإنّه قيد احترازي، وسوف يظهر ما احترز به عنه.

وتقريب هذا الطريق: أنّ المستأجر القديم، بعدما استأجر محلّاً تجارياً- كالدكان ونحوه- إلى مدّة طويلة كعشرين سنة مثلًا، ربما يرى أنّ الاجرة السوقية لمثل المحلّ قد ازدادت على الاجرة المسمّاة قبل أن ينتهي أمد الإجارة، وهو يريد تحصيل الزيادة بإيجاره إلى غيره، فحينئذٍ:

تارةً: يفرض أنّ المستأجر ليس له حقّ الإيجار، وهذا فيما اشترط عليه المالك أن يستوفي منفعة المحلّ بالمباشرة، ففي هذه الصورة، لا يجوز للمستأجر إيجار المحلّ إلى غيره، حتّى بالاجرة المسمّاة في عقد الإجارة، فضلًا عن أخذه السرقفلية من المستأجر الجديد.

واخرى: يفرض أنّ ذلك المستأجر له حقّ إيجار المحلّ إلى غيره، وهذا فيما لم يشترط المالك عليه أن يستوفي المنفعة بالمباشرة، ولم يكن العقد منصرفاً إليه، أو اشترط له حقّ الإيجار إلى غيره، فحينئذٍ، يجوز له قبل انتهاء مدّة الإجارة، أن يؤجر المحلّ إلى غيره، بالنسبة إلى بقية المدّة، بالاجرة المسمّاة في عقد الإجارة الاولى، بشرط أن يدفع إليه المستأجر الجديد مبلغاً معيّناً بحسب توافقهما، بعنوان السرقفلية. ووجه جواز أخذها له بهذا الطريق، أنّه من قبيل الشرط في ضمن عقد

ص: 410

الإجارة، وهو جائز قضاءً لعموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم في موثّقة منصور بن يونس:

«المؤمنون عند شروطهم»(1).

والجدير بالدّقة أنّ في هذا القسم من السرقفلية، التي يأخذها المستأجر القديم من الجديد، لا ينقل بإزائها إليه حقّ الخلوّ والسرقفلية بالمعنى المتقدّم في الوجوه السابقة، وإنّما هو طريق شرعي للتخلّص من حرمة أخذ الاجرة السوقية الزائدة على الاجرة المسمّاة بأضعافها، حيث إنّ في مثل الدار والدكان لا يجوز للمستأجر إيجارهما بأكثر من الاجرة المسمّاة، إلّاإذا أحدث فيهما حدثاً من تعمير، أو تبييض، أو تلوين ونحوها، أو كانت الاجرة من غير جنس الاجرة السابقة. كما صرّح به الماتن المحقّق قدس سره في كتاب الإجارة، حيث قال:

«مسألة 25: لو استأجر عيناً، ولم يشترط عليه استيفاء منفعتها بالمباشرة، يجوز أن يؤجرها بأقلّ ممّا استأجر وبالمساوي وبالأكثر، هذا في غير البيت والدار والدكان والأجير، وأ مّا فيها، فلا تجوز إجارتها بأكثر منه، إلّاإذا أحدث فيها حدثاً من تعمير، أو تبييض، أو نحو ذلك، ولا يبعد جوازها- أيضاً- إن كانت الاجرة من غير جنس الاجرة السابقة»(2). بل جواز الإيجار بأكثر من الاجرة المسمّاة في هاتين الصورتين مجمع عليه، كما في «الجواهر»(3) والمستند نصوص الباب(4) وتفصيل البحث موكول إلى محلّه.


1- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..
2- تحرير الوسيلة 1: 551 ..
3- جواهر الكلام 27: 223، 224 ..
4- راجع وسائل الشيعة 19: 130، كتاب الإجارة، الباب 22، الحديث 3، 4 ..

ص: 411

مسألة 5: لو استأجر دكّة- مثلًا- وشرط على المؤجر أن لا يزيد على مبلغ الإجارة إلى مدّة طويلة- مثلًا- وشرط- أيضاً- أنّه لو حوّل المحلّ إلى غيره، وهو إلى غيره وهكذا، يعمل المؤجر معه معاملته، ثمّ اتّفق ارتفاع اجرته، فله أن يحوّل المحلّ إلى غيره؛ ليعمل المؤجر معه معاملته معه، ويأخذ مقداراً بعنوان السرقفلية (7)؛ ليحوّل المحلّ إليه، ويحلّ السرقفلية بهذا العنوان.

الصورة الثانية

7- تعرّض الماتن المحقّق قدس سره في هذه المسألة لصورة اخرى من صور السرقفلية الجائزة، التي يأخذها المستأجر القديم من المستأجر الجديد، أو المالك، وقد تقدّمت الصورة الاولى في المسألة الرابعة، وهي تشتمل على مرحلتين:

الاولى: كيفية استحقاق المستأجر القديم، لحقّ السرقفلية من المالك.

الثانية: كيفية تعامل المستأجر القديم مع الجديد.

أ مّا المرحلة الاولى: فالسبب الشرعي لاستحقاق المستأجر القديم لحقّ الخلوّ والسرقفلية على ما افترضه الماتن المحقّق قدس سره في المقام، هو اشتراطه في عقد الإجارة على المالك، أن لا يخرجه عن المحلّ الذي استأجره عند انتهاء أمد الإجارة، وأن لا يزيد على مبلغ الإجارة إلى مدّة طويلة معيّنة، وأن يعامل مع من يخلّي ذلك المستأجر المحلّ له، معاملته معه؛ بمعنى أنّه لو أراد بعد انتهاء مدّة إجارته، أن يخلّي المحلّ، ويفوّضه إلى مستأجر جديد، لا يمنعه المالك، بل يوافقه،

ص: 412

ويؤجره بالاجرة التي كان يأخذها من المستأجر القديم، وكذا لا يخرجه عن المحلّ بعد انتهاء أمد الإجارة، بل يجدّد الإيجار له وهكذا.

وقد تقدّم- عند البحث عن وجوه جواز أخذ المالك السرقفلية من المستأجر القديم- أنّ ذلك الشرط الواقع بين المالك والمستأجر القديم، على نحو شرط الفعل، نافذ شرعاً؛ لأنّه القدر المتيقن من قوله صلى الله عليه و آله و سلم في موثّقة منصور بن يونس:

«المؤمنون عند شروطهم»(1)، وإن كان شموله لشرط النتيجة أيضاً تامّاً.

ومن هنا، ظهر أنّ تعبيرنا المتقدّم في المقام عمّا يحصل للمستأجر القديم في تعامله مع المؤجر، بحقّ السرقفلية لا يخلو عن تسامح على المشهور، حيث إنّ شرط الفعل لا يقتضي أكثر من وجوب العمل على المشروط عليه، بمقتضى الشرط، ولا يولّد حقّاً للمشروط له، إلّاعلى القول باستلزام ذلك الوجوب حقّاً له وهو المختار، وسيأتي وجهه.

وهذا هو الفارق بين هذه المسألة والمسألة الآتية، المفروض فيها أنّ الشرط وقع بين المالك والمستأجر بنحو شرط النتيجة وسيأتي توضيحه.

وأ مّا المرحلة الثانية: فالوجه الذي يمكن أن يُخرّج عليه أخذ المستأجر القديم من الجديد السرقفلية بالشكل الذي افترضه الماتن المحقّق قدس سره هو إسقاط الحقّ بعوض، حيث إنّ المستأجر القديم يخلّي المحلّ ويحوّله إلى المستأجر الجديد؛ ليعمل المؤجر معه بما اشترطه على نفسه في ضمن عقد الإجارة، من عدم إخراج المستأجر عند انتهاء أمد الإجارة، وعدم توفير مبلغ الإجارة، ويأخذ بإزاء هذه العملية من المستأجر الجديد مبلغاً بعنوان السرقفلية. ومن المعلوم أنّ هذا من


1- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4 ..

ص: 413

مسألة 6: لو شرط على المؤجر في ضمن عقد الإجارة أن لا يزيد على مبلغ الإجارة ما دام المستأجر فيه، ولا يكون له حقّ إخراجه، وعليه إيجاره كلّ سنة بالمقدار المذكور، فله أخذ مقدار- بعنوان السرقفلية- من المؤجر أو من شخص آخر ليسقط حقّه أو لتخلية المحلّ (8).

قبيل رفع اليد من الحقّ بإزاء مال معين، وهو جائز بلا إشكال، كما صرّح به السيّد المحقّق الميلاني قدس سره في المسألة الثالثة من وجيزته(1).

هذا كلّه بالنسبة إلى شرح ما افترضه الماتن المحقّق قدس سره في المسألة، وتخريج وجهه الفقهي.

ولكن في المقام صور اخرى؛ لأخذ المستأجر القديم السرقفلية من المستأجر الجديد، تقدّم البحث عنها بالتفصيل في ذيل المسألة الرابعة، فراجع.

الصورة الثالثة

8- هذه المسألة ناظرة إلى بيان صورة اخرى من السرقفلية، التي يجوز للمستأجر القديم أخذها من الجديد، وهي تكون مبنية على الشرط في ضمن العقد.

كالمفروضة منها في المسألة السابقة، إلّاأنّها كانت على وجه شرط الفعل بالنسبة إلى جميع الامور المشروط فيها، وهذه على نحو شرط النتيجة، بالنسبة إلى بعضها (ولا يكون له حقّ إخراجه)، ومن هنا يقتضي الاشتراط في المقام حقّاً للمستأجر القديم على المؤجر، على القول بمشروعية شرط النتيجة؛ ولهذا رتّب الماتن


1- أحكام سفته وسرقفلى: 17 ..

ص: 414

المحقّق قدس سره على هذا الاشتراط، جواز أخذ المستأجر السرقفلية بإزاء إسقاط حقّه، وهذا بخلاف المفروض في المسألة السابقة، فإنّه من قبيل شرط الفعل، واستلزامه حقّاً للمشروط له محلّ خلاف.

وبيان المفروض في هذه المسألة: أنّه ربما يستأجر شخص محلّاً تجارياً، ويشترط في ضمن عقد الإجارة أن لا يزيد على مبلغ الإجارة ما دام المستأجر فيه، وأن لا يكون له حقّ إخراجه (وللمستأجر الامتناع عن تخلية المحلّ)، ويشترط عليه أيضاً أن يجدّد الإجارة له في كلّ سنة بالمبلغ المذكور في عقد إجارة السنة الاولى، فحينئذٍ يتحقّق للمستأجر حقّ الخلوّ المشتمل على هذه الامور، قضاءً لعموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «المؤمنون عند شروطهم»، بناءً على شموله لشرط النتيجة- وعدم اختصاصه بشرط الفعل- كما هو الحقّ. ويترتّب على ثبوت هذا الحقّ، أنّ له جواز أحد الأمرين:

أحدهما: أنّ المستأجر يجوز له أن يأخذ مبلغاً من المؤجر بعنوان السرقفلية، بإزاء أن يسقط حقّ الخلوّ، وبعدئذٍ ينقطع حقّه من المحلّ وينطلق عنانه للمالك، فله أن يؤجره إلى أيّ شخص بأيّ مبلغ شاء، كما له أن يترك الإيجار بالمرّة.

ثانيهما: أنّ المستأجر يجوز له أن يأخذ مبلغاً من شخص يريد أن يستأجر ذلك المحلّ، أو يشتريه بإزاء أن يخليه له، ويرفع يده عنه، ويفتح له باب الاستئجار من المالك، أو باب الشراء منه. ووجهه واضح، ضرورة أنّ كلّ ذي يد على شي ء له حقّ فيه، يجوز له أن يرفع يده عنه، ويخليه لغيره بإزاء مبلغ تراضيا عليه، ومن هنا يجوز لمن سبق إلى مكان مباح للعموم، كالمسجد والسوق والأوقاف العامّة ونحوها، أن يأخذ من غيره مبلغاً ويرفع يده عن المكان ويخليه له. وهو المراد من صحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يرشو الرجل

ص: 415

مسألة 7: لو شرط على المؤجر في ضمن عقد أن لا يؤجر المحلّ من غيره، ويؤجره منه سنوياً بالإجارة المتعارفة في كلّ سنة، فله أخذ مقدار بعنوان السرقفلية؛ لإسقاط حقّه أو لتخلية المحلّ (9).

الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه، قال عليه السلام: «لا بأس به»(1).

إذ الظاهر من المنزل، هو المكان المباح للعموم- كالمسجد والموقوفات العامّة- فنزل فيه شخص، وحصلت له الأولوية، فيجوز لغيره أن يدفع إليه مبلغاً بإزاء أن يسقط حقّه بالنسبة إلى ذلك المكان ويخليه له، وهو يسكنه.

واحتمال عود ضمير (منزله) إلى الرجل الراشي، وكون المراد من «منزله» المنزل الذي ملك له، بعيد عن الظهور، إذ لا وجه- حينئذٍ- لذكر قيد «فيسكنه».

هذا كلّه بالنسبة إلى شرح ما افترضه الماتن المحقّق قدس سره في المسألة، وبيان تخريجه الفقهي.

وقد ذكرنا في ذيل المسألة الرابعة وجوهاً شرعية اخرى (كالبيع والصلح والهبة والجعالة)؛ لأخذ المستأجر السرقفلية من المالك، فراجع.

الصورة الرابعة

9- هذه الصورة هي أضعف صور استحقاق المستأجر السرقفلية؛ لابتنائها على اشتراط أمر واحد في عقد الإجارة، وهو مجرّد عدم إيجار المحلّ المستأجَر بعد انتهاء أمد إجارته لغير المستأجر.


1- وسائل الشيعة 17: 278، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 85، الحديث 2 ..

ص: 416

وتوضيح ذلك: أنّ المستأجر ربما يشترط في ضمن عقد الإجارة على المؤجر، أن لا يؤجر المحلّ إلى غيره، ولا يخرجه عنه، بل يجدّد الإجارة له في كلّ سنة، لا بالاجرة المسمّاة في الإجارة الاولى، بل بالاجرة السوقية المتعارفة في كلّ سنة.

وحينئذٍ، فإن قلنا: بأنّ شرط الفعل يقتضي- مضافاً إلى وجوب العمل بمقتضى الشرط- على المشروط عليه (المؤجر) حقاً للمشروط له (المستأجر)، فيجوز حينئذٍ للمستأجر أن يأخذ مبلغاً من المؤجر بعنوان السرقفلية، ويسقط بإزائه حقّه عليه.

وإن قلنا: بأنّ شرط الفعل لا يقتضي أكثر من وجوب العمل تكليفاً بمقتضى الشرط على المشروط عليه، فلا يحصل حينئذٍ حقّ للمشروط له (المستأجر) حتّى يجوز له أخذ مبلغ بإزاء إسقاطه، وإنّما يجوز له أخذه في قبال تخلية المحلّ، حيث إنّه يجوز له شرعاً- بمقتضى الشرط المتقدّم- أن لا يخلّي المحلّ، فله أن يرفع يده عن الانتفاع بهذا الجواز الشرعي، بتخلية المحلّ، ويأخذ السرقفلية من المؤجر بإزاء التخلية.

ثمّ إنّ مقتضى التحقيق في المقام، ما اختاره جماعة من الفقهاء، منهم:

الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره(1)، والمحقّق الماتن قدس سره في باب الشروط من كتاب البيع، من أنّ شرط الفعل يستتبع- مضافاً إلى وجوب العمل بمقتضاه، على المشروط عليه- حقّاً شرعياً للمشروط له، ولكنّه لا من جهة جواز الأمر بالمعروف في المرتبة الأخيرة منه، المتوقّفة على التمسّك بالقهر والإجبار، ولا للنبوي صلى الله عليه و آله و سلم


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 285 ..

ص: 417

المعروف: «المؤمنون عند شروطهم»، فإنّ غاية دلالته وجوب العمل تكليفاً بمقتضى الشرط على المشروط عليه، ولا يدلّ على أنّ الشرط حقّ ثابت على ذمّته، ولا لوجوب الوفاء بالعقد بما اشتمل عليه من الشرط؛ لما تقدّم في النبوي صلى الله عليه و آله و سلم، بل لوجهين تاليين:

الأوّل: قيام السيرة العقلائية على استحقاق المشروط له، حقّاً على المشروط عليه، فإنّهم يرون في موارد شرط الفعل، زائداً على وجوب العمل على المشروط عليه، نوع حقّ للمشروط له، والشاهد عليه أنّهم يطالبون به في المحاكم العرفية، وهذه السيرة مستمرة إلى عصر التشريع، ولم يردع عنها من قبل صاحبي الشريعة: النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعترته المعصومين عليهم السلام.

الثاني: أنّ للمشروط عليه إسقاط حقّ المطالبة، بل وكذلك تأجيله إلى زمان تراضيا عليه، ويترتّب عليه عدم جواز المطالبة له بعدئذٍ بالمرّة، أو قبل مضيّ الأجل، وهذا شاهد صدق على أنّ وجوب الوفاء بمقتضى الشرط، يستلزم حقّاً وضعياً للمشروط له.

وإلى هذين الوجهين أشار الماتن المحقّق قدس سره بقوله:

«لأنّ الاستحقاق، وثبوت الحقّ، أمر عقلائي في الشروط العقلائية، والشارع الأقدس لم يأتِ فيها بأمر مخالف لما في أيدي العقلاء، وإن تصرّف فيها بعض التصرّفات، وقضية جواز مطالبة المشروط عليه بالعمل بشرطه، بل وجواز إلزامه عليه، وصحّة إسقاط حقّه وتأجيله، كلّها عقلائية»(1).


1- كتاب البيع، الإمام الخميني قدس سره 5: 327 ..

ص: 418

مسألة 8: للمالك أن يأخذ أيّ مقدار شاء بعنوان السرقفلية من شخص؛ ليؤجر المحلّ منه (10).

10- هذه المسألة ناظرة إلى جواز أخذ المالك السرقفلية من المستأجر، كما أنّ المسائل السابقة عليها، ناظرة إلى موارد جواز أخذ المستأجر السرقفلية، من المالك، أو المستأجر الجديد.

ثمّ إنّ الماتن المحقّق قدس سره لم يتعرّض في المقام للوجه الفني، الذي يمكن تخريج أخذ المالك السرقفلية من المستأجر عليه، من الشرط الضمني صراحة أو ارتكازاً، والبيع والصلح والهبة المشروطة وغيرها، وقد بحثنا عنه تفصيلًا في ذيل المسألة الرابعة، وذكرنا هناك أنّه يمكن تخريجه على أحد الوجوه التالية:

الأوّل: اشتراط السرقفلية للمالك، في ضمن عقد الإجارة صراحةً، أو ارتكازاً.

الثاني: اشتراطها للمالك، بإزاء التوكيل في الإيجار للمستأجر.

الثالث: أخذ المالك لها على وجه البيع.

الرابع: أخذه لها على وجه الصلح.

الخامس: أخذه لها على وجه الهبة المشروطة.

السادس: أخذه لها على وجه الجعالة.

وقد تقدّم البحث عن دليل نفوذ كلّ واحد من هذه الوجوه، والمناقشات الواردة عليها، والجواب عنها، ولا نعيدها هنا صوناً عن التكرار، فراجع.

ص: 419

كما أنّ للمستأجر- في أثناء مدّة الإجارة- أن يأخذ السرقفلية من ثالث للإيجار منه إذا كان له حقّ الإيجار (11).

11- هذه الفقرة ناظرة إلى بيان وجه آخر لجواز أخذ المستأجر القديم، السرقفلية من المستأجر الجديد، وهو اشتراطها في ضمن عقد الإجارة، وهذا تكرار لما تقدّم من الماتن المحقّق قدس سره في المسألة الرابعة، وقد بحثناه تفصيلًا في الوجه السادس من وجوه أخذ المستأجر القديم، السرقفلية من المستأجر الجديد، وهو «تخريجه على الشرط في ضمن الإجارة» ولا نعيده، فراجع.

وقد فرغنا عن ذلك في المساء من اليوم الرابع من شهر ربيع الأوّل في السنة 1423 من الهجرة النبوية

وآخر دعوانا أن الحمدُ للَّه ربّ العالمين.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.