عنوان و نام پديدآور : صفوه الصحیح من سیره النبی الاعظم صلى الله عليه و آله/ محقق السیدجعفرمرتضی العاملی.
مشخصات نشر : تهران: مشعر، مرکز للطباعه و النشر، 13-
مشخصات ظاهری : ج.1
وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری
يادداشت : عربی.
موضوع : محمد (ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق. -- سرگذشتنامه
موضوع : اسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 41ق.
رده بندی کنگره : BP22/9/ع2ص3 1300ی
رده بندی دیویی : 297/93
ص: 1
ص:2
ص:3
ص:4
ص:5
ص:6
ص:7
ص:8
ص:9
ص:10
ص:11
ص:12
ص:13
ص:14
ص:15
ص:16
ص: 17
تحقق اهداف و آرمان هاى يك سازمان، به علل و عوامل مختلفى بستگى دارد. در اين ميان، به گفته كارشناسان و صاحب نظران" مديريت سازمانى" و نيز به گواهى" آموزه هاى وحيانى"،" عامل انسانى" اساسى ترين و محورى ترين نقش را در موفقيت و بالندگى سازمانى ايفا مى كند. ديگر عوامل سازمانى در پرتو عامل انسانى و حول محور او، شكل گرفته و حركت مى كنند.
سياست ها، برنامه ها، روش ها، ابزار و سخت افزارهاى سازمان، تابعى از خواست و اراده نيروى انسانى و دانش و تدبير او مى باشد. بالطبع كمّ و كيف نتايج و خروجى هاى سازمان نيز مانند" ورودى ها" و" فرآيند"، متأثر از فعاليت و تدبير نيروى انسانى است. بنابراين نيروى انسانى، افزون بر اينكه عامل موفقيت هر سازمانى است، شاخص و معيارى براى پيش بينى ميزان موفقيت آن سازمان نيز محسوب مى شود.
بى جهت نيست كه دنياى مدرن با پى ريزى علومى همچون روان شناسى كار، جامعه شناسى مشاغل و مديريت، بخش اعظمى از مباحث اين علوم را به عامل انسانى اختصاص داده است. پيش تر از اين نيز آموزه هاى وحيانى بر جايگاه و اهميت نيروى انسانى و نقش محورى آن در رستگارى و موفقيت جمعى اشاره كرده و به مؤمنان و جامعه دينى اكيداً توصيه نموده كه در واسپارى كارها و مسئوليت ها، به اهليّت و صلاحيت نيروهاى انسانى توجه كنند؛
إِنَّ اللَّهَ يأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَينَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً(1)
در آيات ديگر، اين رويه را، تدبير خداوند متعال در عالم تكوين و تشريع معرفى كرده است:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيثُ يجْعَلُ رِسالَتَهُ (2)
قالَ إِنِّى جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيتِى قالَ لاينالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ (3)
ص: 18
هدف و رسالت اساسى انبياى الهى نيز، تربيت و پرورش انسان ها بوده است:
رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يتْلُوا عَلَيهِمْ آياتِكَ وَ يعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يزَكِّيهِمْ (1)
نهادها و مؤسسات دينى نيز براى تضمين موفقيت و دستيابى به اهداف و آرمان هاى سازمان، بايد بر مبناى آموزه هاى وحيانى و يافته هاى بشرى، جذب و گزينش نيروهاى كارآمد و تعليم و تربيت آنان را در اولويت مأموريت هاى خود قرار دهند.
در همين راستا،" حوزه نمايندگى ولى فقيه در امور حج و زيارت" پس از فراغت از طراحى و اجراى فرآيند جذب و گزينش،" آموزش و ارتقاى سطح علمى و فرهنگى نيروى انسانى به ويژه روحانيون" را در كانون برنامه هاى ستادى خود قرار داد و دوره هاى آموزش بدو خدمت، ضمن خدمت و تكميلى را راه اندازى نمود. از آنجا كه تدوين متون آموزشى كاربردى متناسب با واحدها و سرفصل هاى مصوب، از مراحل و عناصر اصلى و اساسى دوره هاى آموزشى محسوب مى شود، به طور همزمان گردونه تدوين متون آموزشى نيز به حركت درآمد. نكته حائز اهميت اين كه متون آموزشى پس از تدوين توسط گروه هاى علمى و تخصصى معاونت امور روحانيون و ارزيابى ناظران محتوايى، به صورت" درسنامه" براى حداقل يك ترم، به طور آزمايشى تدريس مى شود، تا پس از نظرسنجى و گردآورى نقطه نظرات مدرّسان و دانش پژوهان، به رفع و اصلاح كاستى هاى احتمالى اقدام شود و براى آموزش در دوره هاى بعد، تدوين نهايى شود.
نوشتار حاضر، از جمله همين متون آموزشى است كه توسط" گروه علمى و تخصصى تاريخ اسلام" تهيه و تنظيم و در قالب" درسنامه" منتشر شده و در اختيار شركت كنندگان دوره هاى آموزشى روحانيون قرار مى گيرد. فرصت را مغتنم شمرده و از تدابير و تلاش هاى ارزشمند گروه علمى و تخصصى تاريخ اسلام به ويژه محقق و مؤلف گرانمايه جناب حجت الاسلام والمسلمين آقاى على رفيعي قوچاني تقدير و سپاس به عمل مى آيد.
انتظار مى رود كه مدرسان و دانش پژوهان محترم پس از طى دوره، نقطه نظرات اصلاحى خود را پيرامون متن، محتوا، منابع و ديگر بخش هاى درسنامه، جهت رفع و اصلاح نواقص و اشكالات احتمالى به كميته تدوين ارايه نمايند.
معاونت امور روحانيون
كميته تدوين متون آموزشى
بهار 1388
ص: 19
ألحمدلله ربّ العالمين، و الصّلاة و السّلام على محمّدٍ خاتم النّبيّين، و على آله الطّاهرين المنتجبين، الّذين أذهب الله الرّجس عنهم و طَهّرهم تطهيراً.
الكتاب الّذي بين يديك أيُّها القارئ و الدّارس الكريم هو تلخيص للكتاب القَيّم «الصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم (ص)»، تأليف العالم الجليل، المحقّق المدقّق في تاريخ الإسلام، العلّامة السّيّد جعفر مرتضى العاملي حفظه الله تعالى.
كتب هذا الكتاب القيّم «الصحيح من سيرة النّبيّ الأعظم (ص)» في 35 مجلّداً، و هو أفضل و أكثر ما أُلّف في عالم التّشيّع تفصيلًا و دراسةً بطريقةٍ علميّة نقديّة في التّاريخ النّبوي و سيرة النّبيّ الأعظم (ص).
تبلورت فكرة تأليف كتاب جامع في السّيرة النّبويّة في ذهن الأستاذ العلّامة العاملي قبل الثّورة الإسلاميّة، و في وقت كان فيه العلّامة مشغولًا بتدريس تاريخ الإسلام في إحدى مدارس الحوزة العلميّة بقم المقدّسة، و بعد انتصار الثّورة الإسلاميّة أينعت ثمار هذه الفكرة، فشرع السّيّد العلّامة بالتّأليف.
تمّ تأليف كتاب «الصّحيح» في عدّة مراحل، و على مدى 25 سنة، خرج منه أربعة مجلّدات عام (1361 ه. ش/ 1983 م)، فقامت بطبعها و نشرها مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدّرسين بقم المشرّفة.
و بعد مرور نحو عشر سنوات من بداية التّأليف، تمّ الفراغ من عدد آخر من
ص: 20
المجلّدات، و بعد إعادة و تجديد النّظر في المجموعة الأولى، تمّ طبع الكتاب في عشرة مجلّدات.
و في سنة (1370 ه. ش/ 1992 م) انتخبت الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة كتاب «الصّحيح» بصفته الكتاب السّنوي الأفضل في البلاد. بعد ذلك توالى طبع المجلّدات الأُخر تباعاً، و أخيراً و في عام (1385 ه. ش/ 2006 م) فرغ المؤلّف من تأليف الكتاب في وقت تزامن مع اعتداء إسرائيل الغاصبة على لبنان في حرب استغرقت 33 يوماً، خرج منها حزب الله منتصراً على العدوّ الغاشم.
يعدّ كتاب «الصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم (ص)» بلاريب عملًا رائعاً في مجال السّيرة النّبويّة، بحيث ترك أثراً على أفكار و أقلام الباحثين و علماء هذا الميدان.
إنّ هيمنة الكاتب المحترم و تسلّطه على العلوم الدينيّة بما فيها: الأدب، الفقه، الحديث، التّفسير و غيرها من العلوم، و أيضاً إشرافه التّامّ و إحاطته بمصادر التاريخ الشّيعيّة و السّنّية إلى جانب ذهنه الوقّاد، كلّ ذلك مكّنه أن يجعل من «الصّحيح» كتابا ممتازاً منقطع النّظير في موضوعه.
لقد حاول العلّامة في كتابه «الصّحيح» سحب القضايا التّاريخيّة إلى طاولة النّقد، مستفيداً في ذلك من المنهج الاجتهادي في دراسة و تحليل تلك القضايا، كما أنّه عيّن موارد التّناقض في النّصوص و الأخبار التّاريخيّة، معتمداً في ذلك على الحقايق التاريخيّة المسلّمة و المتواترة و الثابتة.
و من خصائص الكتاب الممتازة، استناد المؤلّف إلى القرآن الكريم في توثيق الأحداث التّاريخيّة، حيث جعل العلّامة المحور الأساسي في هذه الدّراسة موافقة الوقايع و الأحداث للنّص القرآني الوارد فيها، و بذلك أضحى كلام الله معياراً و فصل الخطاب؛ ذلك لأنّ القرآن نزل و على مدى 23 سنة مواكباً مرحلة رسالة النّبيّ (ص)، فكان مصوناً من التّلاعب و التّحريف، و لذا جعله المؤلّف أحد أدلّة و مستندات السّيرة، و أصدق شاهدٍ على ذلك.
ص: 21
و بناءً على هذا الأصل نجد أنّ المؤلّف جعل في كلّ موضع من كتاب «الصحيح» روايات القرآن محوراً في ترجيح الحدث على روايات المؤرّخين و أهل السّير غير المدعونة بالقرآن الكريم، و لذا يمكننا القول بأنّ روح القرآن حاكمة على الكتاب «الصّحيح».
لقد أخذ العلّامة السيّد جعفر مرتضى العاملي- إلى جانب ما استفاده كثيراً من القرآن الكريم في توثيق سيرة النّبيّ الأعظم (ص) من المصادر الحديثيّة و التّاريخيّة؛ الشيعيّة و السّنيّة كثيراً أيضاً، فا استطاع توسعة نطاق العمل، و تثبيت دعائم البحث في تاريخ الإسلام، في مرحلة الرّسالة بشكل ملفت للأنظار، و فتح آفاقاً جديدة أمام الرّاغبين في دراسة السّيرة النبويّة.
منهجنا في التّلخيص
لا يخفى على أحدٍ أنّ تلخيص كتاب «الصّحيح» بهذا الكمّ الواسع 35 مجلّداً و اختصاره في مجلّد واحدٍ عمل صعب و شاقّ للغاية، خصوصاً مع الحفاظ على مقصود المؤلّف، دون إحداث خللٍ في العبارة و المراد؛ و مع ذلك فقدتمّ هذا العمل على الرّغم من استغراقه وقتاً أطول ممّا كنّا نتوقع بتوفيق الله و عناية رسوله الكريم (ص)، فخرج التّلخيص بهذه الحلّة حيث نقدّمه بين يديك، و بهذه المناسبة نلفت نظر القرّاء الكرام إلى النّكات التّالية:
1- إنّ كتاب «الصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم (ص)» تأليف العلّامة السّيد جعفر مرتضى العاملي لم يدوّن بطريقةٍ دراسيّة، إلّا أنّنا حاولنا في تلخيصه ترتيب المطالب و الأحداث التّاريخيّة بطريقهٍ تعليميّة دراسيّة، فكان مدى تأثيره و دراسة أبحاثه المختارة بمستوى الحاجة لمرشدي الحجّاج من طلبة العلوم الدّينيّة الأفاضل في السّفر المعنوي إلى الحرمين الشّريفين لغرض هداية و إرشاد حجّاج
2-
ص: 22
بيت الله الحرام و زوّار القبر النّبوي الشّريف.
3- حاولنا قدر الإمكان الاكتفاء بنقل أقلّ ما يمكن من الأخبار و الأحداث التّاريخيّة إلى الحدّ الّذي ينسجم مع تسلسل و ترتيب تلك الأحداث و زمان وقوعها، ملقين ثقل البحث على دراسة الأحداث، و بيان صحّتها و عدم صحّتها و آثارها و نتائجها.
4- إنّ المنهج في اختيار العناوين و رئوس الفصول هو ما كانت قرّرته اللّجنة الدّراسيّة للحلقة الأولى من التّاريخ (السيّرة النّبويّة) الّذي وردت أغلب عناوينه هنا، و لم نأت ببعض العناوين الّتي تمّ ابلاغها من قِبل اللّجنة؛ لأنّه لم يتعرّض لها كتاب «الصّحيح».
5- لمّا كان أحد أبعاد هذا الكتاب هو البعد الدّراسي عن طريق الدّراسة الحُرّة و غير الحضوريّة لطلّاب العلوم الدّينيّة المبتدئين في دراسة أصول التبليغ و الإرشاد و التّوعية الدينيّة في حملات حجّاج بيت الله الحرام، فقد حاولنا بيان و شرح الألفاظ المشكلة و الغير المأنوسة، و كذا أمثلة الكتاب، و ما جاء فيه من الأمثال في حدود ما يلزم و قدر الضّرورة في الهامش، و كذلك حاولنا إعراب الألفاظ المبهمة لئلّا يشكل فهم معناها.
6- قد يجد القاري ء في بعض الموارد بالنّسبة لبعض الأحداث أنّ المطلب بالتّلخيص لم يؤدّ حقّه كما ينبغي، و قد يخطر في ذهن القارى ء بالنّسبة لبعض أبعاد و زوايا البحث سؤال، أو يجد إيهاماً؛ فإنّه سرعان مايزول ذلك بمراجعة أصل كتاب «الصّحيح» فتكون قراءة البحث بتفاصيله في الأصل مفيدة و مزيلة للشّبهات.
7- ذكر المؤلّف في مقام توثيق مطالب الكتاب مصادر كثيرة و متعدّدة في الهامش، أشرنا في كثير من الموارد- رعاية للاختصار- إلى بعضها، لذا بإمكان القاري ء الكريم مراجعة أصل الكتاب للتّعرف على جميعها.
و في الختام نرجو من الله السّلامة و طول العمر بخير و بركة لأستاذنا الكريم
ص: 23
العلّامة السّيد جعفر مرتضى العاملي و نأمل له مزيداً من التّوفيق لخدمة القرآن و العترة الطّاهرة، كما نأمل ذلك للباحث الكريم حجّة الاسلام و المسلمين الشيخ علي الرّفيعي القوچاني، الّذي بذل جهداً كبيراً في إعداد هذا الكتاب، و نرجو من الإخوة و الأخوات الأعزّاء إسعافنا بآرائهم و انتقاداتهم البنّاءة و اقتراحاتهم العلميّة لغرض إكمال هذا الأثرالخالد.
معاونيّة شئون طلبة العلوم الدّينيّة
في بعثة قائد الثّورة الإسلاميّة
1388 هش
ص:24
ص: 25
بداية
إنّ حياة المجتمعات ليست أحداثا متباينة و منفصلة بعضها عن البعض الآخر، و إنّما هي استمرارٌ، يضع الماضي كلّ ماحصل عليه من عمله الدّائب و جهاده المستمر في صميم هذا الحاضر، ليستمدّ منه الكثير من عناصر قوّته و حركته و وسائل تطوّره، ثمّ تقدّمه بخطى ثابتة و مطمئنّة نحو المستقبل الّذي يطمح له و يصبو إليه.
فمن الطّبيعي أن نجد لكثير من الأحداث التاريخيّة آثاراً بارزةً في واقع حياتنا اليوميّة الحاضرة، بل تظهر آثارها في حياة الشّعوب، على الحالة الدينيّة، والأدبيّة، والعلميّة والسّياسيّة، والإقتصادية، والعلاقات الإجتماعية، و غير ذلك؛ و إن كان تأثير هذه الأحداث يختلف شمولا و عمقاً من أمَّة لأخرى، و من شَعب لآخر.
و هذا يؤكّد لنا أهميّة التّاريخ، و يبرز مدى تأثيره في الحياة، و يعرفنا سرّ اهتمام الأمم على اختلافها به تدويناً، و درساً و بحثا، و تمحيصاً و تعليلًا.
فهي تريد أن تتعرّف من خلال ذلك على بعض الملامح الخفيّة لواقعها الّذي تعيشه؛ و لتكشف منه أيضا بعضاً من عوامل رقيها و انحطاطها، ليكون ذلك معيناً لها على بناء نفسها بناءً قويّاً سليماً، والإعداد لمستقبلها على أسس متينةٍ و قويّةٍ و راسخةٍ.
و نحن أمّة تريد أن تحيا الحياة بكلّ قوّتها و حيويّتها و فاعليّتها. ولكنّنا في الوقت الّذي نملك فيه أغنى تاريخ عرفته أمّة لا نملك من كتب التاريخ و التّراث
ص: 26
ما نستطيع أن نعوّل عليه في إعطاء صورة كاملة و شاملة و دقيقة عن كلّ ما سلف من أحداث؛ لأنّ أكثر ما كتب منه تتحكّم فيه النّظرة الضّيّقة (عمليّة ملاحظة الحدث منفصلًا عن جذوره و أسبابه، ثمّ عن نتائجه و آثاره) و يهيمن عليه التّعصّب والهوى المذهبي و يسير في اتّجاه التزّلّف للحكّام.
إذن، فلابدّ لمن يريد دراسة التّاريخ و الاستفادة من الكتب التّاريخيّة و التّراثيّة، من أن يقرأها بحذر و وعي، و بدقّة و تأمّل، حتّى لا يقع في فخّ التّضليل و التّجهيل.
و ليس ذلك بالأمر اليسير و السّهل، و لا سيّما فيما يربط بتاريخ الإسلام الأوّل الّذي هبت عليه رياح الأهواء الرّخيصة، و العصبيّات الظّالمة، و عَبَثت به أيدي الحاقدين، و ابتزّت منه رواءه و صفاءه إلى حدّ كبير و خطير.
... و نحن بدورنا في كتابنا هذا سوف نحاول استخلاص صورةٍ نقيّةٍ و واضحةٍ قدر الإمكان عن تاريخ نبيّنا الأعظم (ص).
إنّ تاريخ الإسلام المدوّن على ما فيه من هنات و نقص أغنى تاريخ مكتوب لأيّة أمّةٍ من الأمم، و هو يمتاز عن كلّ ما عداه بدقّته و شموله، حتّى إنّك لتجده كثيراً ما يسجّل لك الحركات، و اللّفتات، و اللّمحات، فضلًا عن الكلمات و المواقف و الحوادث، بدقّة متناهية و استيعاب لا نظير له.
أضف إلى ذلك أنّه يملك من الآيات القرآنيّة، ثمّ من النّصوص الصّحيحة والصّريحة الشّي ء الكثير، ممّا لا تجده في أي تاريخ آخر على الإطلاق، و لا سيّما في جزئيّات الأمور، و في التّفاصيل و الخصوصيّات.
و ميّزة أخرى يمتاز بها تاريخ الإسلام، و هي أنّه يمتلك قواعد و منطلقات تستطيع أن توفّر للباحث السّبل المأمونة، الّتي يستطيع من خلال سلوكها أن
ص: 27
يصل إلى الحقايق الّتي يريدها.
و واضح أنّ البداية الطّبيعيّة لتاريخ الإسلام، و أعظم و أهمّ ما فيه هو سيرة سيّد المرسلين محمّد ( (ص) الطّاهرين).
فلابدّ من البدء بها، ولو ببحث قضايا و أحداث رئيسة فيها، ليكون ذلك بمثابة خطوةٍ أوّلي على طريق التّصدي لبحوثٍ مستوعبةٍ و شاملة، من قِبَلِ المتخصّصين والباحثين من ذوي الكفاءات و الهمم العالية.
ص:28
ص: 29
ص:30
ص: 31
ص:32
ص: 33
هي شبه جزيرة مستطيلة يحدّها شمالًا: الفرات، و آخر قطعاتها بادية الشّام و السّماوة، و فلسطين، و شرقاً خليج فارس، و جنوباً خليج عدن و المحيط الهندي، و غرباً البحر الأحمر.(1) ولا يعنينا الوضع الجغرافي هنا إلّا في النّواحي التّالية:
الأولى: إنّه لم يكن في جزيزة العرب حتّى نحر واحد، بالمعنى الصّحيح للكلمة،(2) و أكثرها جبالٌ، و أودية و سهول جرداء، لا تصلح للزّراعة والعمل، و من ثمّ فهي لا تساعد على الاستقرار و تنظيم الحياة.
و من هنا فقد كان أكثر سكّانها، بل قيل خمسة أسداسهم من البَدو الرّحل، الّذين يمسون في مكان، و يصبحون في آخر.
الثّانية: إنّ هذا الوضع قد جَعل هذه المنطقة في مأمن من فرض السيطرة عليها من قِبَلِ الدّولتين العظيمتين آنئذ: الرّومان و الفُرس، و غيرهما، فلم تتأثّر المنطقة بمفاهيمهم و أديانهم كثيراً، بل لقد هرب اليهود من حكّامهم الرّومان إلى جزيرة العرب و اجتمعوا فيها في يثرب و غيرها.
و قد نشأت عن هذا الوضع للجزيرة العربيّة ظاهرة الدّويلات القِبَليّة، فلكلّ قبيلة حاكم و كلّ ذي قوّة له سلطان.
ص: 34
الثّالثة: إنّ هذه الحياة الصّعبة، و هذه الحكم القِبَلي، و عدم وجود روادع دينيّة أو وجدانيّة قويّةٍ، قد دفع بهذه القبائل إلى ممارسة الإغارة والسّلب ضدّ بعضها البعض، كوسيلة من وسائل العيش أحياناً، و أحياناً لفرض السّيطرة والسّلطان، و أحياناً أخرى للثّأر و إدراك الأوتار إلى آخر ما هنا لك، فَتُغيرُ هذه القبيلة على تلك؛ فتستولي على أموالها، و تسبي نساءها و أطفالها، و تقتل أوتأسر من تقدر عليه من رجالها، ثمّ تعود القبيلة المنكوبة لتتربّص بهذه الغالبة الفرصة لمثل ذلك، و هكذا.
و من هنا، فإنّ من الطّبيعي أن يكون شعور أفراد كلّ قبيلة بالنّسبة لأبناء قبيلتهم قويّاً جدّاً، بدافع من شعورهم بالحاجة إلى بعضهم البعض للدّفاع عن الحياة و الكفاح من أجلها ممّا كان سبباً قويّاً لزيادة حدّة التّعصب القِبَلي، الّذي لا يرثى و لا يرحم و لا يلين، حيث لابدّ من الوقوف إلى جانب ابن القبيلة، سواء أكان الحقّ له، أو عليه، حتّى لقد قال شاعرهم يتمدّحهم بذلك:
لا يسئلون أخاهم حين يندبهم في النّائبات على ما قال برهاناً(1) و من الجهة الأخرى، فإنّ القبيلة تتحمّل كلّ جنايةٍ أو جريمة يرتكبها أحد أبناءَها، و تحميه من كلّ مَن أراده بسوءٍ، بل يكون أخذ الثأر من غير الجاني إذا كان من قبيلته كافياً و شافياً للموتورين، الّذين يريدون شفاء ما في نفوسهم و إدراك أوتارهم.
أمّا الحضر في جزيرة العرب، و هم الّذين يسكنون المدن و يستقرّون فيها، فإنّهم و إن كانوا في حياتهم أرقى من العرب الرّحل، إلّا أنّ رقيهم هذا لم يكن
ص: 35
بحيث يجعل الفارق بينهما كبيراً.
و من هنا، فإنّنا نلاحظ تشابهاً كبيراً فيما بينهما في العقليّة و في المفاهيم و العادات و التّقاليد و أساليب الحياة و بدائيّتها.
هذا إن لم نقل: إنّ العرب الرّحل كانوا أصحَّ أبداناً، و أفصحَ لساناً، و أقوى جناناً، و أصفى نفساً و فكراً و قريحةً.
إنّ مَن يطالع كتب التّاريخ يرى بوضوحٍ إلى أي حدٍّ كانت الحالة الاجتماعيّة متردّية في العصر الجاهلي.
و قد قدّمنا أنّ السّلب و النّهب و الإغارة و التّعصب القِبَلي و غير ذلك قد كان من مميّزات الإنسان العربي، حتّى إنّه اذا لم تجد القبيلة مَن تُغيرُ عليه من أعدائها أغارت على أصدقائها، و حتّى على أبناء عمّها، يقول القطامي:
و كنّ إذا أغرن على قبيل و أعوزهنّ نهب حيث كانا
أغرن من الضّباب على حلال (1) و ضبّة إنّه من حان حاناً
و أحياناً على بكر أخيناً إذا ما لم نجد إلّا أخانا
و لقد رأينا أنّ تلك الظّروف الصّعبة، و الفقر، والجوع، و الخلافات الّتي كانوا يعانون منها، و المفاهيم الخاطئة الّتي كانت تعيش في أذهانهم و خصوصاً عن المرأة و كذلك ظروف الغزو و الإغارة الّتي تعني سبي النّساء و الأطفال، قد
ص: 36
دفعتهم إلى قتل، أو وأد أولادهم، و لا سيّما البنات، و كان ذلك في قبائل تميم و قيس و أسد و هُذيل و بكر بن وائل.(1) بل إنّنا نستطيع أن نعرف مدى شيوع الوأد بينهم مِن تعرّض القرآن لهذه المسئلة وردعه لهم عنها، حيث قال تعالي: «وَ لاتَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِياهُمْ»(2)
و قال ايضاً:
«وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَى ذَنْبٍ قُتِلَتْ»(3)
كما أنّنا نجده (ص)، قد نصّ على ذلك في بيعة العقبة و قد قال محمد بن إسماعيل التّيمي و غيره تعليقاً على هذا:
«خصّ القتل بالأولاد، لأنّه قتل و قطيعة رحمٍ؛ فالعناية بالنّهي عنه آكد و لأنّه كان شائعاً فيهم و هو وأد البنات و قتل البنين خشية الإملاق.»(4)
و قد كانت حياة المرأة في الجاهليّة أصعب حياةٍ، حيث لم يكن لها عندهم قيمة أبداً و يكفى بذلك قوله تعالى:
«وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يدُسُّهُ فِى التُّرابِ أَلا ساءَ ما يحْكُمُونَ»(5) سياق الآية الشّريفة يشير إلى كثرة ذلك و شيوعه فيهم.
ص: 37
و عن حالة العرب في الجاهلية يكفي أن نذكر بعض ما قاله أميرالمؤمنين (ع) ذلك:
«بعثه والنّاس ضلّال في حيرة و حاطبون في فتنةٍ و قد استهوتهم الأهواء، و استزلّتهم الكبرياء و استخفّتهم الجاهليّة الجهلاء، حيارى في زلزالٍ من الأمر و بلاءٍ من الجهل.»(1) و قال:
و انتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار، تنيخون (2) بين حِجارة خُشن و حَيّات صُمّ،(3) تشربون الكدرِ، و تأكلون الجَشِب،(4) و تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، و الآثام بكم معصوبة(5).»
و قال أيضاً:
«فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرقة، في بلاء أزل، و أطباق جهل، من بنات موؤودةٍ، و أصنام معبودة، و أرحام مقطوعة، و غاراتٍ مشنونةٍ.»(6) لقد أوضح لنا الإمام أميرالمؤمنين (ع) في هذه الكلمات حالة العرب و مستواهم العلمي و الثّقافي و الإقتصادي، و أنّهم كانوا يعيشون في ظلمات الجهل و الحيرة و الضّلالة.
ص: 38
هو أبوالقاسم محمّد (ص) بن عبدالله بن عبدالمطّلب «شيبة الحمد» بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قالوا: إنّ هذا هو المتّفق عليه من نسبه الشّريف؛ أمّا ما فوقه ففيه اختلاف كثير، غير أنّ ممّا لا شكّ فيه هو أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل (ع) و قد روي أنّه (ص) قال: «إذا بلغ نسبي إلى عدنان فَأمسِكوا»(1) و نحن نمسك هنا امتثالًا لأمره (ص).
ص: 39
و يضيف الصّدوق هنا: أن امّ النّبيّ (ص) آمنَه بنت وهب كانت مسلمة أيضاً.(1) و معنى ذلك هو أنّه ليس في آباء الرّسول (ص) إلّا الاستقامة على جادّة الحقّ و الخير و البركة، و هذا هو ماورثه الرّسول عنهم و يتأكّد بذلك طهارته (ص) من الأرجاس والرّذائل، حتّى ما يكون عن طريق الوراثة، والنّاس معادن كمعادن الذّهب و الفضّة، و هو ما أثبته العلم الحديث أيضاً، حيث لم يبق ثَمّة أيّة شبهة في تأثير عامل الوراثة في تكوين شخصيّة الإنسان و في خصاله و مزاياه.
قال أبوحيّان الأندلسي:
«ذهبت الرّافضة إلى أنّ آباء النّبيّ (ص) كانوا مؤمنين.»(2) أمّا غير الإماميّة، فذهب أكثرهم إلى كفر والدي النّبيّ و غيرهما من آبائه (ص) و ذهب بعضهم إلى إيمانهم. و ممّن صرّح بإيمان عبدالمطّلب و غيره من آبائه المسعودي، و اليعقوبي، و هو ظاهر كلام الماوردي و الرّازي في كتابه «أسرار التّنزيل»، و السّنوسي، و التّلمساني محشي الشّفا، و السّيوطي، و قد ألّف هذا الأخير عدّة رسائل لإثبات ذلك.(3) و في المقابل، قد ألّف بعضهم رسائل لإثبات كفرهم، مثل إبراهيم الحلبي، و عليّ القاري الّذي فصّل ذلك في شرح الفقه الأكبر، و اتّهموا السّيوطي بأنّه متساهل، لا عبرة بكلامه، ما لم يوافقه كلام الأئمّة النّقّاد.
و السّبب الرّئيسي في تكفير آباء رسول الله (ص) و أعمامه من ذلك البعض هو مشاركة عليّ (ع) له فيهم، أو أنّهم يريدون أن لا يكون آباء الخلفاء من بني أميّة
ص: 40
و من غيرهم، و آباء رجالات الحكم و أعوانه كفّاراً، و يكون آباء النّبيّ و أهل بيت النّبيّ (ص) مؤمنين، فلابدّ من سلب هذه الفضيلة عنه (ص) ليستوي هو و غيره في هذا الأمر.
إنّ ثَمّة روايات كثيرة تدلّ على إيمان آبائه (ص) بالإضافة إلى إجماع الطّائفة المحقّة، و مستند ذلك هو الأخبار و هذا هو الدّليل المعتمد.(1) و استدلّوا على ذلك أيضاً:
1. بقوله (ص) «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطّاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم و لم يدنسني بدنس الجاهليّة».(2) ولو كان في آبائه، أو أمّهاته (ص) كافر لم يصفهم كلّهم بالطّهارة، مع أنّ الله تعالى يقول: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»(3).
و إطلاق قوله (ص) «لم يدنسني بدنس الجاهليّة» شامل لكلّ دنس، والكفر من هذه الأدناس، فلا وجه لتخصيص الطّهارة بالطّهارة من العَهَر، أومن الأرجاس والرّذائل فقط؛ فإنّه تخصيص بلا مخصّص.
2. و استدلوا على ذلك أيضاً بقوله تعالى: «الَّذِى يراكَ حِينَ تَقُومُ وَ تَقَلُّبَكَ فِى
ص: 41
السَّاجِدِينَ»(1).
لما روي عن ابن عبّاس، و أبي جعفر و أبي عبدالله] أنّه (ص) لم يزل ينقل من صلب نبيّ إلى نبيٍّ، و لا يجب أن يكونوا أنبياء مبعوثين فلعلّ أكثرهم كان نبيّاً لنفسه أو لبيته.
3. و يمكن أن يستدلّ على إيمان آبائه (ص) إلى إبراهيم، بقوله تعالى، حكاية لقول إبراهيم و إسماعيل: «وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَينِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيتِنا»(2) مع قوله تعالى: «وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيةً فِى عَقِبِهِ»(3) أي في عقب إبراهيم؛ فيدلّ على أنَّه لابدّ أن تبقى كلمة الله في ذريّة إبراهيم، ولو في واحدٍ واحدٍ، على سبيل التَّسلسل المستمرّ فيبقى أناس منهم على الفطرة، يعبدون الله تعالى حتّى تقوم السّاعة، و لعلّ ذلك استجابة منه تعالى لدعاء إبراهيم (ع) الّذي قال: «وَ اجْنُبْنِى وَ بَنِى أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنامَ»(4) و قوله: «رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيتِى»(5).
و واضح أنّه، لو أنّه تعالى قد استجاب لإبراهيم في جميع ذرّيته لما كان أبولهب من أعظم المشركين و أشدّهم على رسول الله (ص) و هذا ما يفسّر الإتيان ب- «مِنْ» التبعيضيّة في قوله: «وَ مِنْ ذُرِّيتِى» و لا يصحّ القول: بأنّه كما خرج أبولهب، فلعلّ بعض آباء النّبيّ (ص) قد خرج أيضاً، و ذلك لأنّ كلمة «باقِيةً فِى عَقِبِهِ» تفيد الاتّصال و الاستمرار من دون انقطاعٍ؛ أمّا خروج أبي لهب فهو لا يقطع هذا الاتّصال.
ص:42
ص: 43
ص:44
ص: 45
ولد رسول الله (ص) بمكة عام الفيل على المشهور،(1) أي قبل البعثة بأربعين سنةً. و المشهور عند الإماميّة و بعض من غيرهم أنّه ولد في السّابع عشر من شهر ربيع الأوّل؛ و المشهور عند غيرهم و وافقهم الكليني: أنّه ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت منه.(2) و ثَمّة أقوال آخر لا مجال لذكرها.
و نصّ الطّبرسي و الكليني على أنّه (ص) قد ولد في يوم الجمعة، و عند غير الإماميّة أنّه ولد في يوم الإثنين.
و امّه (ص) هي آمنة بنت سيّد بني زهرة، وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. لقد ورد أنّ امّه قد حملت به في أيّام التّشريق، و هي الحادي عشر، و الثّاني عشر، و الثّالث عشر من ذي الحجّة.(3) و لا يخلو ذلك من إشكالٍ؛ لِأنّها إن كانت ولدته في تلك السّنة، فإنّ حملها به (ص) يكون ثلاثة أشهر و تزيد قليلًا، و إن كانت ولدته في السّنة الثّانية، فمدّة حمله تكون خمسة عشر شهراً، مع أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر و أقصاها سنة عند المشهور من الإماميّة.
ص: 46
و أجيب بأنَّ ذلك مبني على النَّسي ء في الأشهر الحُرُم عند العرب، فإنّهم كانوا يقولون مثلًا: إنّ الأشهر الحُرُم توضع بعد أربعة أشهر مثلًا، ثمّ يستحلّون القتال في نفس الأشهر الّتي رفع الإعتبار عنها.
ولكن، إن لم نقل بأنّ الحمل به (ص) أربعة أشهر قد كان من خصوصيّاته، فلا يمكننا قبول تلك الرّواية حتّى ولو صحّ سندها و ذلك لأنّ كون تلك الرّواية واردة بناءاً على أشهر النّسي ء يحتاج إلى إثبات؛ إذ لم نعهد في تعبيرات المعصومين بناء كلامهم على النّسي ء الّذي هو زيادة في الكفر، كما لم نعهد ذلك في كلمات المحدّثين و والمؤرّخين و لا سيّما مع عدم نصب قرينة على ذلك.
لقد قال الإربلي بعد أن أشار إلى الإختلاف في تاريخ ولادته (ص):
إنّ اختلافهم في يوم ولادته سهل، إذ لم يكونوا عارفين به و بما يكون منه و كانوا أميّين لا يعرفون ضبط مواليد أبنائهم؛ فأمّا اختلافهم في موته فعجيب، و الأعجب من هذا، اختلافهم في الأذان و الإقامة بل اختلافهم في موته أعجب؛ فإنّ الأذان ربّما ادّعى كلّ قومٍ أنّهم رووافيه رواية، فأمّا موته فيجب أن يكون معيّناً معلوماً.»(1) فَإذن ... فما هو مدى معرفتهم بأحكام الله الّتي يقلّ الا بتلاء بها، و التّعرّض لها عادة يا تري؟!
و أيضا ... هل يصحّ اعتبار أقوال هؤلاء و أفعالهم سُنّة ماضية، و شريعة متّبعة؟- كما هو عند بعض الفرق الإسلاميّة بل تجد بعضهم ربّما يردّ الحديث الصّحيح لقول صحابي، أو لقول حاكم. إنّ ذلك عجيب و أي عجيب!
ص: 47
و إذا كانوا يختلفون حتّى في مثل هذه الأمور، فهل يعقل بعد هذا أن يصحّ قول البعض: إنّه (ص) قد ترك الأمّة هكذا هملًا بلا قائدٍ و لا رائد و لا معلّمٍ و لا مرشدٍ؟ على اعتبار أنّ الأمّة تكون مستغنيةً عن الهداية و الرّعاية. و هذا موضع هامّ جدّاً يحتاج إلى بحث و تمحيص بصورة مفصّلة.
و كانت ولادته في شِعب بني هاشم، أو شعب أبي طالب، في الدّار الّتي اشتراها محمّد بن يوسف، أخوالَحجّاج من ورثة عقيل بن أبي طالب (ره) بمائة ألف دينار، ثمّ صيّرتها الخيزران، أُمُّ الرّشيد مسجداً يصلّي فيه النّاس (1) و يزورونه، و يتبرّكون به و بقي على حالته تلك. فلمّا «أخذ الوهّابيّون مكّة في عصرنا هذا، هدموه و منعوا من زيارته، علي عادتهم في المنع من التّبرّك بآثار الأنبياء و الصّالحين و جعلوه مربطاً للدّوابّ».(2)
و يقولون: إنّ أمّه (ص) قد أرضعته يومين أو ثلاثة، ثمّ أرضعته ثَويبَة مولاة أبي
ص: 48
لهب أيّاماً.(1) ثمّ قدمت حَليمة السّعدية مكّة مع رفيقات لها بحثاً عن ولد ترضعه، لتستفيد من رعاية أهله و معوناتهم، فعُرض (ص) عليها فرفضتهُ في بادى الأمر لِيُتْمِه و لكنّها عادت فقبلته، حيث لم تجد غيره فرأت فيه كلَّ خيرٍ و بركةٍ، فأرضعته سنتين، ثم أعادته إلى أهله، و هو ابن خمس سنين و يومين كما يقولون ليكون في كفالة جدّه عبدالمطّلب، ثمّ عمّه أبي طالب.
و يقول بعض المحقّقين (2): «إنّ قولهم: إنّها رفضته في أول الأمر ليتمه إنّما يصح بالنّسبة ليتيم ضائع، لا أهميّة له، و أمّا بالنّسبة لمحمّد (ص) فإنّ كافِله عبدالمطّلب سيّد هذا الوادي، و امّه آمنه، بنت وهب من أشراف مكّة؛ بل ثَمّ من يقول: إنّه لم يكن حينئذٍ يتيماً، و إنّ أباه قد توفّي بعد ولادته بعدّة أشهر، قيل: ثمانية و عشرين شهراً و قيل: سبعة أشهر».(3) و كذلك نشكّ في قولهم: إنّ ثُويبة قد أرضعت النّبيّ (ص) أيّاماً و أن أبا سلمة كان أخاً للنبي (ص) من الرّضاعة و أخوهما منها أيضاً حمزة بن عبدالمطّلب، أرضعتهم ثُويبة بلبن ولدها مسروح،(4) وشكّنا في ذلك ناشي ء عن أمرين:
أحدهما، تناقض الرّوايات في ذلك؛ ففي بعضها أنّها أرضعته أياماً(5) و في بعض الآخر: أربعة أشهرٍ تقريباً.(6)
ص: 49
و في حين نجد بعضها يقول: إنّ امّه أرضعته ثلاثة أيّام،(1) و قيل: سبعة،(2) و قيل: تسعة(3) و قيل: سبعة أشهر،(4) و بعضها لم تحدّد مدّة إرضاعها له (5) (ص).
ثمّ إنّنا في حين نجدهم يقولون ذلك بالنّسبة لإرضاع أمّه له، نجدهم يذكرون أنّ حليمة السّعديّة أرضعته بعد سبعة أيّام من مولده فقط،(6) من دون تحديد من أرضعته مدّة الأيام السّبعة نفسها، مع العلم أنّه بعد إرضاع حليمة له، لم يرتضع من غيرها و إذا كانت أمّه قد أرضعته فيها، فمتى أرضعته ثُويبة ياتري؟؟.
و من جهة أخرى، فإنّ البعض يصرّح بأنّ أوّل من أرضعته ثويبة(7) و بعضهم بأن امّه أوّل من أرضعته.(8)
ثانيهما، عدم صحّة ارتضاع النّبيّ (ص) وحمزة من لبن ثويبة، لولدها مسروح لأنّ حمزة كان أكبر من النّبيّ (ص) بأربع سنين (9) و قيل: بسنتين.(10)
ص: 50
فإنّنا حتّى لوأخذنا بالسّنتين، فإنّ حمزة يكون قد بلغ الفطام قبل أن يولد رسول الله (ص) كما أنّها إذا كانت قد ولدت ولدها قبل فطام حمزة، فلابدّ أن يفطم قبل ولادة رسول الله (ص) فكيف تكون قد أرضعت الرّسول بلبن ولدها؟ و إن كان قد ولد بعد فطام حمزة فكيف تكون قد أرضعت حمزة بلبن ولدها مسروح.
و أمّا إذا أخذنا بالقول الأول فإن القضيّة تصبح أكثر إشكالًا و أبعد منالًا.
لقد شاءت الإرادة الإلهيّة أن يفقد النّبيّ (ص) أباه و هو لا يزال جنيناً أو طفلًا صغيراً. و ربّما يقال: إنّ الأصحّ هو الأوّل؛ لأنّ يتمه هذا كانَ هو الموجب لتردّد حليمة السَّعديّة في قبوله رضيعاً،(1) و لكن قد تقدّم بعض المناقشة في ذلك.
ثمّ فَقَد أمّه بعد عودته من بني سعد و هو في الرّابعة من عمره، أو في السّادسة، أو أكثر، حسب الرّوايات.
و لعلّ ما تقدم من إرجاع حليمة له إلى امّه، و هو في الخامسة من عمره، يؤيّد أنّ امَّه قد تُوفيّت و هو في السّادسة، إلّا أن يقال: إنّه يمكن أن يكون المراد أنّه قد أُرجع إلى أهله، ولكنّه احتمال بعيد عن مساق الكلام.
هذا ... و قد استأذن رسول الله (ص) ربّه في زيارة قبر امّه، فأذن له. فقد روي مسلم في صحيحه أنّه (ص) قال: «استأذنت ربي في زيارة أمّي، فأذن لي، فزوروا القبور تذكّركم الموت».(2)
ص: 51
و هذا الحديث حجّة دامغة على من يمنع من زيارة القبور، وله مؤيّدات كثيرة، كزيارة فاطمة (ع) لقبر حمزة (ع) و غير ذلك.
ولقد عاش (ص) في كنف جدّه عبدالمطّلب الّذي كان يرعاه خير رعاية، و لا يأكل طعاماً إلّا إذا حضر، و كان عارفاً بنبوّته حتّى لقد روي: أنّه قال عنه لمن اراد أن ينحيه عنه و هو طفل يدرج: دع ابني فإنّ الملك قد أتاه،(1) والرّواية معتبرة على الظّاهر.
و في السّنة الثّامنة من عمره (ص) توفّي جدّه عبدالمطّلب بعد أن اختار له أباطالب (ره) ليكفله و يقوم بشؤونه، و يحرص على حياته، رغم أنّ أباطالب لم يكن أكبر ولد عبدالمطّلب سنّاً و لا أكثرهم مالًا؛ لأنّ الأسنّ فيهم كانت هو الحارث، و الأكثر مالًا هو العبّاس.
ولكن عذر العباس هو أنّه كان حينئذٍ صغيراً أيضاً؛ لأنه كان أسنّ من النّبيّ (ص) بسنتين فقط، كما يقولون (2)، و إن كنّا قد قلنا: إنّه كان يكبره بأكثر من ذلك.
كما أنّ أباطالب قد كان شقيق عبدالله، والد النّبيّ (ص) لأبيه و أمّه؛ فإنّ امّهما هي فاطمة المخزوميّة، و طبيعي أن يكون لأجل ذلك أكثر حناناً و عطفاً عليه و حبّاً له.
ثمّ إنّ أباطالب الّذي كان هو و زوجته، امّ أميرالمؤمنين (ع) يحملان نور
ص: 52
الولاية، قد كانا يحملان من المكارم و الفضائل النفسيّة و المعنويّة و من الطّهارة ما يؤهّلهما لأن يكونا كفلين لرسول الله (ص) و أبوين لوصيّه و للأئمة من ذريته.
و يقولون: إنّه (ص) قد سافر إلى الشّام بصحبة عمّه أبي طالب ورآه بحيرا راهب بُصري، و أخبر عمّه أنّه نبي هذه الأمّة و أصرّ عليه بأن يُرجعه إلى مكّة، حتّى لا يغتاله اليهود الّذين يرون العلامات الّتي في كتبهم متحقّقة فيه، فخرج به عمّه أبوطالب حتّى أقدمه مكّة.
و كان عمر النّبيّ (ص) حينئذ إثني عشر سنة، و قيل: تسع سنين.(1) و للنّبي (ص) سفرة أخرى إلى الشّام للتّجارة، ستأتي الإشارة إليها إن شاءالله في موضعها.
و يذكر المؤرّخون: أنّه (ص) قد رعى الغنم في بني سعد، و أنّه رعاها لأهله، بل و يقولون: رعاها لأهل مكّة أيضاً؛ حتّى ليذكرون والبخاري منهم في كتاب الإجارة و غيره أنّه (ص) قال: «ما بعثَ الله نبيّاً الّا رعى الغنم! قال أصحابه: و أنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة».(2)
ص: 53
و فسّرت القراريط بأنّها أجزاء الدّراهم و الدّنانير يُشترى بها الحوائج الحقيرة.(1) ولكنّا نشكّ كثيراً في أن يكون (ص) قد رعى لغير أهله بأجر كهذا، تزهد به حتّى العجائز، و لا يصحّ مقابلته بذلك الوقت و الجهد الّذي يبذله في رعى الغنم، لأنّنا نجد أوّلًا؛ أنّ اليعقوبي و هو المؤرّخ الثَّبَت قد نصّ على أنّه (ص) لم يكن أجيراَ لأحدٍ قطّ.(2) و ثانياً؛ تناقض الرّوايات فبعضها يقول: لأهلي، و بعضها يقول: لأهل مكّة؛ و بعضها يقول: بالقراريط، و أخرى قد أبدلت ذلك بكلمة «بأجياد»، و إذا كان الرّاوي واحداً لم يقبل منه مثل هذه الاختلاف.
و يمكن أن يدفع هذا: بأنّ من المحتمل أن يكون قراريط إسم جبل في مكّة و قد رعى (ص) الغنم عليه.
ولكن هذا و سواه من الاحتمالات لا شاهد له و إنّما يلجأ إليه لو كانت الرّواية صحيحة السّند عن معصوم، و ليست كذلك، بل هي عن أبي هريرة و غيره ممّن لا يمكن الاعتماد عليهم.
ص:54
ص: 55
ص:56
ص: 57
و يقولون: إنّه (ص) قد سافر سفره الثّاني إلى الشّام، و هو في الخامسة و العشرين من عمره.(1)
و يقولون: إنّ سفره هذا كان في تجارة لخديجة، و إنّ أباطالب هو الّذي اقترح عليه ذلك، حينما اشتدّ الزّمان و ألحّت عليهم سنون منكرة، فلم يقبل (ص) أن يعرض نفسه على خديجة؛ فبلغ خديجة ما جرى بينه (ص) و بين أبي طالب، فبادرت هي، و بذلت للرّسول (ص) ضِعف ما كانت تبذله لغيره، لما تعرفه من صدق حديثه و عظيم أمانته و كرم أخلاقه.
و يرى بعضهم: أنّ أباطالب نفسه قد كلّم خديجة في ذلك فأظهرت سرورها و رغبتها و بذلت له ما شاء من الأجر.
فسافر (ص) إلى الشّام و ربح في تجارته أضعاف ما كان يربحه غيره، و ظهرت له في سفره بعض الكرامات الباهرة، فلمّا عادت القافلة إلى مكّة أخبر ميسرة غلام خديجة سيّدته بذلك، فذكرت ذلك بالإضافة إلى ما ظهر لها هي منه (ص)
لورقة بن نوفل، ابن عمّها كما يقولون! و إن كنّا نحن نشكّ في ذلك فقال لها: إن كان ذلك حقّاً فهو نبي هذه الأمة.(2)
ص: 58
ثمّ اهتمّت خديجة بالعمل على الاقتران به (ص) كما سنرى.
هكذا يقولون؛ ولكنّا نشكّ في بعض ما تقدم، لا سيّما و أنّ ورقة لم يُسلم حتّى بعد أن بعث رسول الله (ص). كما أنّ قولهم: إنّ خديجة قد استأجرته في تجارتها لا يمكن المساعدة عليه؛ و ذلك لأنّنا نجد المؤرّخ الأقدم، الثَّبَت، ابن واضح المعروف باليعقوبي يقول: «و إنّه ما كان ممّا يقول الناس: إنّها استأجرته بشي ءٍ، و لا كان أجيراً لأحدٍ قطّ».(1) و لعلّ في عزّة نفس النّبيّ (ص) و إبائها، و أيضاً في تسديد الله تعالى له، و أيضا في شرف أبي طالب و سؤدده ما يبعد كثيراً أن يكون قد صدر شي ءٌ ممّا نسب إلى أبي طالبٍ منه.
و على هذا، فقد يكون سفره (ص) إلى الشّام، لا لكونه كان أجيراً لخديجة، بل لأنّه كان يضارب بأموالها أو شريكاً لها و يدلّ على ذلك تصريح رواية الجنابذي بالمضاربة،(2) فراجع. و يؤيّده ما رواه المجلسي من أنّ أباطالب قد ذكر له (ص) اتّجار الناس بأموال خديجة و حثّه على أن يبادر إلى ذلك، ففعل و سافر إلى الشّام.(3)
و لقد كانت خديجة (ع) من خيرة نساء قريش شرفاً و أكثرهنّ مالًا و أحسنهنّ جمالًا و كانت تدعى في الجاهليّة ب- «الطّاهرة»(4) و يقال لها: «سيّدة قريش» و كلّ
ص: 59
قومها كان حريصاً على الإقتران بها لو يقدر عليه.(1) و قد خطبها عظماء قريش و بذلوا لها الأموال. و ممّن خطبها عقبة بن أبي معيط، و الصّلت بن أبي يهاب، و أبوجهل و أبوسفيان،(2) فرفضتهم جميعاً و اختارت النّبيّ (ص) لما عرفته فيه من كرم الأخلاق و شرف النّفس و السّجايا الكريمة العالية. و نكاد نقطع بسبب تظافر النّصوص بأنّها هي الّتي قد أبدت أوّلًا رغبتها في الاقتران به (ص).
فذهب أبوطالب في أهل بيته و نفر من قريش إلى وليّها و هو عمّها عمر و بن سعد؛ لأنّ أباها كان قد قُتل قبل ذلك في حرب الفجار أو قبلها.(3) و أمّا أنّه خطبها إلى ورقة بن نوفل و عمّها معاً، أو إلى ورقة وحده (4) فمردود بأنّه أُدّعى الإجماع على الأول.(5) نعم، إنّ أباطالب قد ذهب لِخطبة خديجة، و ليس حمزة الّذي اقتصر عليه ابن هشام في سيرته؛(6) لأنّ ذلك لا ينسجم مع ما كان لأبي طالب من المكانة و السؤدد في قريش، من جهة؛ و لأنّ حمزة كان يكبر النّبيّ (ص) بسنتين أو بأربع (7) كما قيل
ص: 60
من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى مخالفة ذلك لما يذكره عامّة المؤرّخين في المقام.
و يظهر: أنّ ثَمّة مَن يهتمّ بسلب هذه المكرمة عن أبي طالب (ع) و إعطائها لأي كان من النّاس سواه، سواء لحمزة أو لغيره.
و على كلّ حال فقد خطبها أبوطالب له (ص) قبل بعثته (ص) بخمس عشرة سنة على المشهور، و قال في خطبته على المشهور:
الحمد لربّ هذا البيت، الّذي جعلنا من زرع إبراهيم و ذريّة إسماعيل و أنزلنا حرماً آمناً و جعلنا الحكّام على النّاس و بارك لنا في بلدنا الّذي نحن فيه.
ثمّ إنّ ابن أخي هذا يعني رسول الله (ص) ممّن لا يوزن برجل من قريش إلّا حِّج به، و لا يقاس به رجل إلّا عظم عنه، و لا عدل له في الخلق، و إن كان مُقلّاً في المال؛ فإنّ المال رفد جار و ظلّ زائل، و له في خديجة رغبة، و قد جئناك لنخطبها إليك برضاها و أمرها، و المهر عليَّ في مالي الّذي سألتموه عاجله و آجله. و له و ربّ هذا البيت حظّ عظيم، و دين شائع، و رأى كامل.(1) هذه الخطبة تُظهر مكانة الرّسول الفضلي في قلوب النّاس، و هي صريحة في أنّ النّاس كانوا يجدون في الرّسول علامات النبوّة و نور الهداية و يتوقعون أن يكون هو الّذي بشّر به عيسى و موسى]، و أنّه كان لا يوزن به أحد إلّا رجّح به ولا يقاس به رجل إلّا عظم عنه.
ثمّ إنّ كلمات أبي طالب تدلّ دلالةً واضحة على ما كان يتمتّع به بنو هاشم، من
ص: 61
شرف و سؤدد، حتّى ليقول (رحمه الله): «و جَعَلَنا الحكّام على النّاس».
ثمّ إنّ حديثه عن فقر النّبيّ (ص) و إعطاء الضابطة للتفضيل بين الرّجال يدلّ على واقعيّة أبي طالب، و أنّه ينظر إلى الإنسان بمنظار سام و نبيل، كما أنّه يتعامل مع الواقع بحنكةٍ و وعي و أناة.
إنّ إباطالب قد ضمن المهر في ماله كما هو صريح خطبة و لكن خديجة (ع) عادت فضمنت المهر في مالها، فقال البعض: يا عجباً! المهر على النّساء للرّجال؟!
فغضب أبوطالب و قال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرّجال بأغلى الأثمان و أعظم المهر، و إن كانوا أمثالكم لم يزوّجوا إلّا بالمهر الغالي.
و عن مقدار المهر، قيل: إنّه عشرون بَكْرَةً،(1) و قيل: إثنا عشر أوِقِيَّةً(2) و نَشٍّ،(3) أي ما يعادل خمس مئة درهم، و قيل غير ذلك.(4)
و يلاحظ هنا مدى الاختلاف في عمر خديجة حين اقترانها بالرّسول الأعظم (ص) و هو يتراوح ما بين 25 سنة إلى 46 سنة و هو على النحو الآتي:
ص: 62
25 سنة و صحّحه البيهقي؛(1) 28 سنة و هو ما رجّحه كثيرون؛(2) 30 سنة،(3) 35 سنة(4)، 40 سنة،(5) 44 سنة،(6) 45 سنة(7) و 46 سنة.(8) و قد تقدّم أنّ الكثيرين قد رجّحوا القول الثّاني كما ذكره ابن العماد؛ فإذا كانت (ع) قد تزوّجت برسول الله قبل البعثة بخمس عشرة سنة كما جزم به البيهقي نفسه، فيكون عمرها حين زواجها خمساً و عشرين سنة. أمّا الحاكم الّذي روي لنا القول الثّاني عن ابن إسحاق، فإنّه لم يوضح لنا حقيقة ما يذهب إليه، غير أنّه حين روي عن هشام بن عروة قوله: «إنّ خديجة قد توفيّت و عمرها خمس و
ص: 63
ستون سنة» قال: هذا قول شاذّ فإنّ الّذي عندي، أنّها لم تبلغ ستّين سنة.(1) فكلامه يدل على أنّه يعتبر القول بأنّها قد تزوّجت بالنّبي (ص) و عمرها اربعون سنة شاذّ.
هذا، و قد جاء في كلمات بعض المتّهمين على الإسلام كلام باطل، تكذ به كل الشّواهد التّاريخيّة، و هو أنّه (ص) إنّما تزوج خديجةَ طمعاً في مالها.(2) ولسنا نريد الإسهاب في الإجابة على هذا الهذيان، فإنّ حياة النّبيّ (ص) من بدايتها إلى نهايتها لَخير شاهدٍ على أنّه (ص) ما كان يقيم للمال وزناً. و قد أنفقت خديجة (ع) كلَّ أموالها طائعة راغبة، ليس على النّبيّ (ص) و مَلَذّاته،(3) و إنما على الدّعوة إلى الإسلام و في سبيل هذا الدّين. و أيضاً، فإنّ خديجة هي الّتي عرضت نفسها على النّبيّ (ص) و لم يتقدّم هو (ص) بطلب يدها، ليقال: إنّه إنّما فعل ذلك طمعاً في مالها.
و يرى الشيخ محمد حسن آل ياسين أنّ حبّه (ص) و تقديره لها في أيّام حياتها، بل و بعد مماتها حتّى لقد كان ذلك منه يثير بعض زوجاته اللّواتي ما رأين و لا عشن مع خديجة دليل واضح على بطلان هذا الزّعم.(4)
ثمّ إنّه قد قيل: إنّه (ص) لم يتزوّج بِكراً غير عايشة؛ و أما خديجة، فإنّها قد
ص: 64
تزوّجت قبله (ص) برجلين و لها منهما بعض الأولاد و هما «عتيق بن عائذ بن عبدالله المخزومي» و «أبوهالة التّميمي».
أمّا نحن، فنشكّ في دعواهم تلك، و نحتمل جدّاً أن يكون كثير ممّا يقال في هذا الموضوع قد صنعته يد السّياسة، و لا نريد أن نسهب في الكلام عن اختلافهم في اسم أبي هالة و هل هو صحابي أولا، و هل تزوّجته قبل عتيق، أو تزوّجت
عتيقاً قبله؛(1) و لا في كون هند الّذي ولدته خديجة هو ابن هذا الزّوج أو ذاك، فإن كان ابن عتيق فهو انثي (2) و إلّا فهو ذكر،
و أنّه هل قتل مع علي (ع) في حرب الجمل أومات بالطّاعون بالبصرة.(3) لا، لا نطيل بذلك و إنّما نكتفي تبسجيل الملاحظات التّالية:
أوّلًا؛ قال ابن شهر آشوب: «و روي أحمد البلاذري، و أبوالقاسم الكوفي في كتابيهما، و المرتضي في الشّافي، و أبوجعفر في التّلخيص: أنّ النّبيّ (ص) تزوّج بها و كانت عذراء. يؤكّد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار و البدع: أنّ رقيّة و زينب كانتا ابنتي هالة اخت خديجة».(4) ثانياً؛ قال أبوالقاسم الكوفي: «إنّ الإجماع من الخاصّ و العام من أهل الآثار و نقلة الأخبار على أنّه لم يبق من أشراف قريش و من ساداتهم و ذوي النّجدة منهم،
ص: 65
إلّا من خطب خديجة و رام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك، فلمّا تزوّجها رسول الله (ص) غضب عليها نساء قريش و هجرنها و قلن لها: خطبكِ أشراف قريش و أمراؤهم فلم تتزوجي أحداً منهم، و تزوّجتِ محمداً يتيم أبي طالب، فقيراً لا مال له. فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوّجها أعرابي من تميمٍ و تمتنع من سادات قريش و أشرافها على ما وصفناه؟! ألا يعلم ذووالتّميز و النّظر أنّه من أبين المحال و أفظع المقال؟!»(1) و أمّا الرّد على ذلك بأنّه لا يمكن أن تبقى إمرأة شريفة و جميلة هذه المدّة الطّويلة بلا زواج، فليس على ما يرام؛ لأنّ ذلك لا يبرّر رفضها لعظماء قريش و قبولها بأعرابي من بني تميم.
و أمّا كيف يتركها أبوها أو وليّها بلا تزويج؟ فقد قلنا إنّ أباها قد قتل في حرب الفِجار أو قبلها، و أمّا وليّها، فلم يكن له سلطة الأب ليجبرها على الزّواج ممّن أراد. و بقاء المرأة الشّريفة و الجميلة مدّة بلا زواج ليس بعزيز إذا كانت تصبر إلى أن تجد الرّجل الفاضل الكامل الّذي كان يعزّ وجوده في تلك الفترة.
ثالثاً؛ كيف لم يعيّرها زعماء قريش الّذين خطبوها فرَدَّتهم، بزواجها من أعرابي بَوّالٍ على عقبيه كعتيق أو غيره؟!
رابعاً؛ قد ذكروا أنّ أوّلَ شهيد في الإسلام ابن لخديجة (ع) اسمه الحارث بن أبي هالة، استشهد حينما جهر رسول الله (ص) بالدّعوة.(2) و ذلك لا يمكن قبوله؛ حيث قد رُوي بسند صحيح عندهم، عن قتادة، أنّ أول شهيد في الإسلام هو سميّة والدة عمّار(3)، و كذا روي عن مجاهد.(4)
ص: 66
و عن ابن عباس: «قُتل أبوعمّار و امّ عمّار و هما أوّل قتيلتين قتلًا من المسلمين».(1) إلّا أن يدّعى: أنّ سميّة كانت أوّل من استشهد من النّساء و الحارث كان أوّل من استشهد من الرّجال، ولكنّه احتمال بعيد و مخالف لظاهر كلماتهم، لا سيّما و أنّ كلمة شهيد تطلق على الذّكر و الأنثى بلفظ واحد، مثل قتيل و جريح.
فظهر ممّا تقدم: أن هذا النّص لا يدل على وجود ابن لخديجة، مادام أنّه قد ثبت حصول الكذب في جزءٍ منه. و لعلّ هذا الكذب قد جاء لأجل الإيحاء بطريق غير مباشر بأنّ لخديجة ولداً من النّبيّ (ص) و أنّ ذلك غير قابل للنّقاش، و لكن قد قيل: لا حافظة لكذوب.
خامساً؛ لقد روي أنّه كانت لخديجة أخت اسمها «هالة»، تزوّجها رجل مخزومي، فولدت له بنتاً اسمها «هالة»، ثمّ خلّف عليها- أي على هالة الأولى- رجل تميمي يقال له: «ابو هند»، فأولدتها ولداً اسمه «هند». و كان لهذا التّميمي امرأة اخرى قد ولدت له «زينب» و «رقيّة»، فماتت و مات التّميمي، فلحق ولده «هند» بقومه، و بقيت «هالة» اخت خديجة و الطّفلتان اللّتان من التّميمي و زوجته الاخرى، فضمّتهم خديجة إليها، و بعد أن تزوّجت بالرّسول (ص) ماتت «هالة» فبقيت الطّفلتان في حِجر خديجة و الرّسول (ص). و كان العرب يزعمون أنّ الرّبيبة بنتٌ، و لأجل ذلك نُسبتا إليه (ص) مع أنّهما ابنتا أبي هند، زوج اختها و كذلك كان الحال بالنّسبة لهند نفسه.(2) و لربّما يمكن تأييد هذه الرّوايات بماورد من الإختلاف في اسم والد هند، فلتراجع المصادر الّتي ذكرناهاثَمّة.
ص: 67
ص:68
ص: 69
و يذكر المؤرّخون أنّ حرباً قد هاجت بين قيس من جهة، و قريش و كِنانة من جهة اخرى في الأشهر الحُرُم (أشهر الحج و رجب معها) و لذلك سميّت حرب الفجار. و يقال: إنّه (ص) قد حضر بعض أيّامها و شارك فيها فعلًا، بنحو من المشاركة.
و لكنّنا بدورنا لا نستطيع أن نؤكّد صحّة ذلك، بل و نشكّ كثيراً فيه و ذلك لُامور:
الأوّل؛ لقد وقعت حرب الفجار في الأشهر الحرم، في رجب، و لا نرى مبرّراً لأن يهتك أبوطالب و معه الرّسول (ص) حرمة الأشهر الحرم، كما يظهر لمن راجع سيرتهما و مدى تقيّدهما بمثل هذه الأمور؛ فإنّهما كانا مسلمين.(1) إلّا إذا وُجّهت المشاركة بأنّ حرب الفجار قد وقعت في أشهر النّسي ء، أو في شعبان، أو شوّال و كان بسببها في الأشهر الحُرُم.(2) و لكنّه توجيه لا يعتمد على أي سند تاريخي، فلا مجال للتّعويل عليه.
الثاني؛ قال اليعقوبي: «و قد روي أنّ أباطالب منع أن يكون فيها (في حرب الفجار) أحدٌ من بني هاشم، و قال: هذا ظلم و عدوان و قطيعة رحم و استحلال للشّهر الحرام، و لا أحضره، و لا أحد من أهلي؛ فأخرج الزّبير بن عبدالمطّلب
ص: 70
مستكرهاً، و قال عبدالله بن جُدعان التّميمي و حرب بن اميّة: لا نحضر أمراً تغيب عنه بنوهاشم».(1) الثّالث؛ اختلاف الرّوايات حول الدّور الّذي أدّاه النّبيّ (ص) في هذه الحرب؛(2) بل نجد البعض يناقض نفسه، فيقول: إنّ النّبيّ (ص) قد ولد عام الفيل، و أنّه حضر الفجار و عمره أربع عشرة سنة، ثمّ يقول في آخر كلامه: إنّ حرب الفجار كانت
بعد عام الفيل بعشرين سنة.(3) و التّناقض الآخر هو أنّ الكلام الّذي نقلناه عن اليعقوبي ينصّ على أنّ حرب بن اميّة قد تغيّب عن هذه الحرب؛ بينما نجد الرّوايات الأخرى تنصّ على أنّه كان قد حضرها و كان قائد قريش و كنانة.
و بعد منصرف قريش من حرب الفجار دعا الزّبير بن عبدالمطّلب (4) إلى حلف الفضول، و عقد الاجتماع في دار عبدالله بن جُدعان، و غمسوا أيديهم في ماء زمزم، و تحالفوا و تعاقدوا على نصرة المظلوم، و التّأسّي بالمعاش، و النّهي عن المنكر، و كان أشرف حِلفٍ.
ص: 71
والمتحالفون على ذلك هم: بنو هاشم و بنو المطّلب و بنو أسد بن عبدالعزّى و زهرة و تميم.(1) و قد حضر هذا الحلف نبيّنا الأعظم (ص) و أثنى عليه بعد نبوّته و أمضاه. فقد رُوي أنّه (ص) قال: «ما احبّ أنّ لي بحلفٍ حضرته في دار ابن جدعان حمر النّعم، ولو دُعيت به لأجبت».(2) و سبب هذا الحلف، أنّ رجلًا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فجلس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزّبيدي الأحلاف، الّذين كانوا يُسمّون «لعقة الدّم»؛ لأنّهم حين تحالفوا، غمسوا أيديهم بالدّم. والأحلافُ هم: عبدالدّار و مخزوم و جُمَح و سهم و عَدِيّ بن كعب. فأبى الأحلاف معونة الزّبيدي على العاص بن وائل، و انتهروه؛ و ذلك لما كان يتمتّع به العاص هذا من نفوذ.
فلمّا رأى الزّبيدي الشّر، صعد على أبي قبيس و استغاث، فقام الزّبير بن عبدالمطّلب و دعا إلى الحِلف المذكور، فعقد؛ ثم مشوا إلى العاص، و انتزعوا منه سلعة الزّبيدي، فدفعوها إليه.(3)
1. إنّ موقف النّبيّ (ص) لهذا الحلف و إمضائه ايّاه، ليدلّ على أنّ الإسلام قد أمضى هذا الحلف؛ لإنّه قائم على أساس الحقّ و العدل و الخير، و هل الإسلام إلّا
ص: 72
ذلك؟ إنّه يمضيه مع انّ الّذين قاموا به كانوا وقتها على الشّرك والكفر، و لكنّه يهدم مسجد الضّرار، مع انّ الّذين بنوه كانوا يتظاهرون بالإسلام و يتعاملون على أساسه، بحسب الظّاهر.
و هذا ما يؤكّد واقعيّة الإسلام، و أنّه إنّما ينظر إلى عمل يَدى الصيّاد لا إلى دموع عينيه و أنّه لا يغترّ بالمظاهر و لا تخدعه الشّعارات مهما كانت برّاقةً، إذا كانت تخفى وراءها الوصوليّة، و الخيانة و التآمر؛ فالحقّ حقّ و مقبول ولابدّ من الالتزام به والتّعامل على أساسه، ولو صدر من مشرك؛ و الباطل باطل و مرفوض و لا يجوز الالتزام به ولا التّعامل على أساسه، مهما كانت الشّعارات برّاقة و مُغرية.
2. إنّ اهتمام النّبيّ (ص) بحلف الفضول إنّما يدلّ على انّ الإسلام ليس منغلقاً على نفسه و إنّما هو يستجيب لكلّ عمل إيجابي فيه خيرٌ للانسان، و يشارك فيه على أعلى المستويات، انطلاقاً من الشّعور بالمسئوليّة و انسجاماً مع أهدافه العليا، و مع المقتضيات الفطريّة و أحكام العقل السليم.
3. أمّا استجابة الّذين استجابوا للزّبير بن عبدالمطّلب حينما دعا لعقد هذا الحلف، فلعلّ لهم دوافع مختلفة باختلاف الأشخاص و البيوتات و القبائل، و من هذه الدّوافع:
الف. الدّافع الفطري الإنساني؛ لانّ هذا هو ما تحكم به الفطرة و العقل السّليم، ثمّ هو ينسجم مع الشّعور الإنساني و الأخلاقي.
ب. الدّافع المصلحي، و ذلك لانّ عدم الأمن في مكّة لسوف يقلّل من رغبة التّجّار في الوفود عليها و التّعامل مع أهلها.
ج. و ثمّة دوافع أخرى ربّما تكون لدى بعضهم كالحفاظ على قدسيّة مكّة و أهلها في نفوس العرب، و غير ذلك.
يذكر البعض: أنّ فاطمة الزّهراء (ع) بنت الرّسول الأعظم (ص) قد ولدت قبل
ص: 73
البعثة، ثمّ يختلفون أولئك البعض فيما بينهم في تمديد سنة ولادتها، فبعضهم يقول: انّها ولدت سنة بناء الكعبة، أي قبل البعثة بخمس سنين،(1) و بعضهم يقول: إنّها ولدت قبل البعثة بسبع سنين،(2) و قيل: بإثنتي عشرة سنة.(3) و القائلون بأنّها ولدت بعد البعثة اختلفوا أيضاً، بين قائلٍ: إنّها ولدت سنة البعثة،(4) و قيل: في الثّانية،(5) و قيل: سنة إحدى و أربعين من عمره الشّريف.(6) والقول الحقّ هو ما عليه شيعة أهل البيت تبعاً لأئمّتهم (ع) و أهل البيت أدرى بما فيه و تابعهم عليه جماعة من غيرهم، و هو أنّها قد ولدت في السّنة الخامسة من البعثة و توفيّت و عمرها ثمانية عشر عاماً.(7) و يدلّ على ذلك و يؤيّده مايلي:
ص: 74
1. قول أميرالمؤمنين (ع) و هو يتحدّث عن بعثة النّبيّ (ص):
و لقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحدٌ يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله (ص) و خديجة و أنا ثالثهما.(1) فقد دلّت هذه الفقرة على أنّ الوحي قد نزل على النّبيّ (ص) و أصبح رسولًا و بزغ فجر الإسلام في حضور علي (ع) و كان أوّل بيت تكون في الإسلام بضمّ رسول الله (ص) و خديجة و عليّاً (ع) فقط، فلو كانت فاطمة (ع) قد ولدت قبل البعثة بخمس سنواتٍ، لم يصحّ حصره (ع) أهل ذلك البيت بهؤلاء الثّلاث.
1. تصريح بعض المؤرّخين بأنّ أولاد خديجة كلّهم قد ولدوا بعد الإسلام باستثناء عبد مناف،(2) مع العلم بأنّ فاطمة (ع) كانت أصغر أولاده (ص). و يدلّ على ذلك ما ذكر في الاستيعاب في ترجمة خديجة بأنّ الطيّب قد ولد بعد النّبوّة، و ولدت بعده أمّ كلثوم، ثمّ فاطمة (ع).
2. و تدلّ على أنّها قد ولدت بعد البعثة روايات كثيرة أوردها جماعة من العلماء على اختلاف نِحَلهم و مشار بهم، تدلّ على أنّ نطفتها قد انعقدت من ثمر جاء به جبرئيل (ع) إلى النّبيّ (ص) من الجنّة، حين الإسراء و المعراج، و ذلك مروي عن عدد من الصّحابة، منهم عايشة و عمر بن الخطّاب و سعد بن مالك و ابن عبّاس و غيرهم.(3) و إذا أمكن المناقشة في بعض تلك الرّوايات فإنّ البعض الأخر لا
3.
ص: 75
مجال للنّقاش فيه.
و يؤيّد ذلك أيضا ما روي من أنّ خديجة (ع) كانت قد هجرتها نساء قريش؛ فلمّا حملت بفاطمة (ع) كانت تحدّثها من بطنها و تصبّرها.(1) بقي هنا شى ء و هو استبعاد حمل خديجة بفاطمة (ع) في السّنة الخامسة من البعثة، لأنّ سنّ خديجة كان حينئذٍ عالياً. و فيه أنّ سنّ خديجة حينئذٍ كان ما بين 45 حتّى 50 سنة بناءً على عدد من الأقوال في مقدار عمرها، و لعلّ من بينها ما هو الأقوى و إن كان المشهور خلافه.
و حتّى على هذا المشهور، فانّ عمر خديجة حينئذ كان لا يأبى عن الحمل؛ فإنّ القرشيّة يستمرّ حيضها إلى السّتّين، كما هو مقرّر في الفقه، و هذا يعني: أنّ قابليّة الحمل موجودة أيضاً، كما هو ظاهرٌ.(2) و بعد كلّ ما تقدّم، فإنّه إذا كانت فاطمة (ع) قد ولدت في السّنة الخامسة من البعثة، فإنّها تكون قد توفيّت و عمرها ثمانية عشر عاماً فقط، كما هو ظاهرٌ.
إنّ إيمان النّبيّ (ص) و توحيده قبل بعثته يعتبر من المسلّمات؛ ولكن يبقى أنّهم قد اختلفوا في أنّه (ص) هل كان متعبّداً بشرع أحدٍ من الأنبياء قبله أولا؟ فهل هو متعبّد بشرع نوح، أو إبراهيم، أو عيسى، أو بما ثبت أنّه شرع، أو لم يكن متعبّداً
ص: 76
بشرع أحدٍ؟ ذهب إلى كلٍّ فريقٌ،(1) و توقّف في ذلك بعض، منهم عبدالجبّار و الغزّالي و السيّد المرتضى.
و ذهب المجلسي إلى أنّه (ص) حسب ما صرّحت به الرّوايات كان قبل البعثة، مذ أكمل الله عقله في بدو سنّه نبياً مؤيّداً بروح القدس،(2) يكلّمه المَلَك و يسمع الصّوت، و يرى في المنام، ثمّ بعد أربعين سنة صار رسولًا، و كلّمه الملك معاينةً، و نزل عليه القرآن و أمر بالتّبليغ. إنّ ذلك ظهر له من الآثار المعتبرة و الأخبار المستفيضة.(3)
و قد استدلّوا على نبوّته (ص) منذ صِغَره بأنّ الله تعالى قد قال حكايةً عن عيسى:
«قالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتانِى الْكِتابَ وَ جَعَلَنِى نَبِيا وَ جَعَلَنِى مُبارَكاً أَينَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِى بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيا»(4) و يقول الله تعالى عن يحيى (ع): «وَ آتَيناهُ الْحُكْمَ صَبِيا»(5) فاذا أضفنا إلى ذلك: أنّه قد ورد في أخبار كثيرة بعضها صحيح كما في رواية يزيد الكناسي في الكافي إنّ الله لم يعط نبيّاً فضيلة و لا كرامة و لا معجرة، إلّا أعطاها نبيّنا الأكرم (ص).
فالنّتيجة: هي أنّ الله تعالى قد أعطى نبيّنا محمّداً (ص) الحكم و النّبوة منذ صغره أو قل: منذولد-(6) ثمّ أرسله للنّاس كافّةً، حينما بلغ الأربعين من عمره، و
ص:78
ص: 77
قد أيّد المجلسي هذا الدّليل بوجوه كثيرة.(1) و أشار العلّامة الأميني أيضاً إلى حديث: إنّه (ص) كان نبيّاً و آدم بين الرّوح و الجسد، و رواه عن العديد من المصادر من غير الشّيعة.(2) والمتحصّل من مجموع الرّوايات: أنّه (ص) كان مؤمناً موحّداً، يعبد الله و يلتزم بما ثبت له أنّه شرع الله تعالى ممّا هو من دين الحنيفيّة شريعة إبراهيم (ع) و بما يؤدّي إليه عقله الفطري السّليم، و أنّه كان مؤيّداً و مسدّداً، و أنّه كان أفضل الخلق و أكملهم خَلقاً و خُلقاً و عقلًا، و كان المَلَك يعلّمه و يدلّه على محاسن الأخلاق.
ص: 79
ص:80
ص: 81
ص:82
ص: 83
لقد بعث الله تعالى محمداً (ص) رسولا للنّاس أجمعين بعد عام الفيل بأربعين عاماً، أي حينما بلغ الأربعين من عمره الشّريف على قول أكثر أهل السّير و العلم بالأثر، و كان قبل ذلك يسمع الصّوت و لا يرى الشّخص حتّى تراءى له جبرئيل و هو في سنّ الأربعين.(1) و المروي عن أهل البيت (ع) أنّ بعثته (ص) كانت في السّابع و العشرين من رجب، و هذا هو المشهور، بل ادّعى المجلسي الإجماع عليه عند الشّيعة، و رُوي عن غيرهم أيضاً.(2)
ص: 84
و كان بدء الوحي في غار حِراء(1)، و كان (ص) يتعبّد في حِراء هذا، على النّحو الّذي ثبتت له مشروعيّتهُ، و كان قبل ذلك يتعبّد فيه عبدالمطّلب.
و أوّل ما نزل عليه (ص) هو قوله تعالى: «بسم الله الرّحمن الرّحيم إقرأ باسم ربك الّذي خلق».(2) و هذا هو المروي عن أهل البيت (ع)(3) و روي أيضاً عن غيرهم بكثرة.(4) فرجع (ص) إلى أهله مستبشراً مسروراً بما أكرمه الله به، مطمئناً إلى المهمّة الّتي أوكلت إليه، فشاركه أهله في السّرور و أسلموا، و قد روي هذا المعنى عن أهل البيت (ع)، فعن زرارة أنّه سئل الإمام الصّادق (ع): كيف لم يخف رسول الله (ص) فيما يأتيه من قِبَل الله: أن يكون مما ينزع به الشّيطان؟ فقال: «إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولًا، أنزل عليه السّكينة والوقار، فكان الّذي يأتيه من قِبل الله مثل الّذي يراه بعينه».(5)
ص: 85
إنّ أوّل من أسلم، و اتّبع و صدّق، و آزر و ناصر، هو أميرالمؤمنين، و إمام المتّقين، علي بن ابي طالب (ع). و أورد العلّامة الأميني في كتابه القيّم،(1) أقوالًا عن العشرات من كبار الصّحابة و التّابعين و غيرهم من الأعلام، و عن العشرات من المصادر غير الشّيعة، تؤيّد و تؤكّد على أنّ أميرالمؤمنين (ع) هو أول الأمّة إسلاماً.
هذا، عداعن الكثير من الرّوايات الوارة عن النّبيّ الأعظم (ص) و كلمات أميرالمؤمنين (ع) نفسه و عداعن كلمات الصّحابة و التّابعين و أشعارهم؛ بل لقد ادّعى البعض الإجماع عليه.(2) فإنّهم يقولون: لقد بعث النّبيّ (ص) يوم الإثنين و أسلم علي (ع) يوم الثّلاثاء.(3) و ممّا ورد عن النّبيّ الأعظم (ص) بسند صحيح قوله: «أوّ لكم وروداً على الحوض، أولّكم إسلاماً علي بن أبي طالب»(4).
و عنه (ص): «هذا أوّل من آمن بي، و صدّقني، و صلّى معي».(5) و على نفسه يصرّح في كثير من المناسبات بذلك، بأنّه لم يسبقه أحد في
ص: 86
الصّلاة مع رسول الله، و أنّه أوّل من أسلم مع رسول الله (ص)، و أنّه الصّديق الأكبر، و أنّه لا يعرف أحداً في هذه الأمّة عَبَد الله قبله غير النّبيّ (ص) و أنّه صلّى قبل أن يصلّي الناس سبع سنين.(1) و نجد في مقابل ذلك قولًا آخر مفاده أنّ خديجة كانت هي السّباقة إلى الإسلام و أنّها أوّل مخلوق آمن به، بل لقد ادّعى البعض الاجماعَ على هذا القول.(2) و لكنّه قول مردود؛ لانّ العديد من الرّوايات عن النّبيّ (ص) و عن علي (ع) و عن الصّحابة و التّابعين تعبّر بأنّ عليّاً (ع) أوّل من صلّى، أو أوّل من آمن، أو أوّل الأمّة، أو النّاس إسلاماً، و لا يمكن أن يكون المقصود بالأمّة أو النّاس خصوص الرّجال.
و أمّا القول بأوَّليّة إسلام أبي بكر، المروي عن ابن عبّاس و الشّعبي و أبي ذر و بعض آخر، فإنّه أيضاً مردود و موضوع في وقت متأخّر عن عهد الخلفاء الأربعة و لربّما يكون قد حصل ذلك حينما كتب معاويةإلى الأقطار يأمرهم أن لا يدعوا
ص: 87
فضيلةً لعلي إلّا و يأتوه بمثلها لغيره من الصّحابة.(1) مع أنّ ابن عباس و الشّعبي و أباذر الّذين رُوي عنهم القول بأَوّليّة أبي بكر، هم أنفسهم يقولون: إنّ أميرالمؤمنين (ع) هو أوّل من أسلم. و يقول الإسكافي: «إنّ حديثهم في عليّ أقوى سنداً و أشهر من الحديث الآخر المنسوب إليهم في أبي بكر.»(2) أضف إلى ذلك اعتراف عايشه بأنّ أباها كان رابعاً في الإسلام و قد سبقه إلى ذلك خديجة و زيد بن حارثة و علي (ع).(3) و أيضاً أنّنا لم نجد أحداً يعترض على الصّحابة و لا على التّابعين و لا على أميرالمؤمنين (ع) في احتجاجاتهم المتعدّدة على معاوية و غيره بأنّ عليّاً (ع) و هو أوّل الأمّة إسلاماً، يعترض و يقول: بل أبوبكر هو الأوّل. بل إنّنا لم نجد أبابكر و لا أحداً من أنصاره و محبّيه يحتجّ له بانّه أوّل من أسلم، رغم احتياجاتهم الشّديدة إلى ذلك و لا سيّما في السّقيفة.
فاتّضح أنّ القول بأنّ أبابكر هو أوّل من أسلم لا يمكن إلّا أن يكون من القول الجزاف، و الدّعوي الفارغة، و من المختلقات الّتي افتعلت في وقت متأخّر، تزلُّفاً للأمويّين.
يرى البعض أنّ الدّعوة قد مرّت بمراحل أربع:
الأولى؛ المرحلة السّرّية و استمرّت ثلاث أو خمس سنواتٍ.
الثّانية: الإعلان بالدّعوة إلى الله بالقول فقط، دون اللجوء إلى العنف، و استمرّت
ص: 88
حتّى الهجرة.
الثّالثة؛ مرحلة الدّفاع عن الدّعوة بالسّيف، و استمرّت إلى صلح الحديبيّة.
الرّابعة؛ قتال كلّ من وقف في سبيل الإسلام، من الوثنيّين و المشركين و غيرهم، و هو ما استقرّ عليه أمر الدّعوة و حكم الجهاد.(1) و لكنّنا لا نوافق على استعمال مصطلح «الفترة السّريّة» هنا؛ إذ إنّ الظّاهر هو أنّ النّبيّ (ص) لم يكن حينما بُعث. مأموراً بدعوة عموم النّاس، و لكنّه كان يعرض هذا الدّين بصورة طوعيّة و عفوية، و بدون أن يوجّه الأنظار إلى ذلك، فكان هناك أفراد يسلمون تباعاً.
و قد كان هذا الأسلوب في تلك الفترة ضروريّاً من أجل الحفاظ إلى مستقبل الدّعوة، حتّى لا تتعرّض لعمل مسلّح يقضى عليها في مهدها، حيث لابدّ من إيجاد ثلّة من المؤمنين، و من مختلف القبائل، يحملون هذه العقيدة و يدافعون عنها، حتّى لا يبقى مجال لتصفيتهم السّريعة و الحاسمة من قِبَل أعدائهم الأشرار.
كما أنّه (ص) أراد أن لا تهدر الطّاقات و تذهب الجهود سدي، و ينتهي الأمر إلى تمزّق، و توزّع في الثّلّة المؤمنة، ثمّ إلى ضياءٍ مُدمَّرٍ.
و أيضاً، فقد كانت هذه الفترة بمثابة إعدادٍ نفسي و تربية عقيديّة و روحيّة لتلك الصّفوة المؤمنة بربّها، و برسالة نبيّه الأكرم (ص) تمكّنهم من الصّمود في وجه التهديدات الّتي تنتظرهم.
و إذا كان (ص) يريد أن يقود عمليّة تغيير شاملة، فلابدّ له من إتاحة الفرصة لتهيئة و إعداد القوي الّتي تستطيع أن تحقّق هدفاً كبيراً كهذا، و تتمكّن من الحفاظ و الاحتفاظ بالوجود الفعّال و المؤثّر في بقاء ذلك الهدف.
ص: 89
كان المشركون قد عرفوا بتنبّؤا النّبيّ (ص) من أوّل الأمر، و لكنّهم لم يهتمّوا كثيراً بالأمر بادى ء ذي بدء ربّما لأنّهم اعتبروا أنّ القضيّة ليست بذات أهميّة كبيرة إلّا من جهة قِبليّة بالدّرجة الأولى؛ ولكنّهم ظلّوا يتنَسَّمون (1) الأخبار، و يستطلعونها و كانوا يقولون: إنّ فتى عبدالمطّلب ليكلّم من السّماء.
ص:90
ص: 91
ص:92
ص: 93
إنّه بعد السّنوات الثّلاث الأولى، بدأت مرحلة جديدة و خطيرة و صعبة، هي مرحلة الدّعوة العلنيّة إلى الله تعالى.
و قد بدأت أوّلًا على نطاق ضيّق نسبيّاً، حيث نزل عليه (ص) قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ»(1) فيقول المؤرّخون ما ملخّصه:(2) إنّه لمّا نزلت هذه الآية دعا عليّاً (ع)، فأمره أن يصنع طعاماً و يدعو له بني عبدالمطّلب ليكلّمهم و يبلّغهم ما أُمر به.
فصنع علي (ع) صاعاً من طعام، و جعل عليه رِجلَ شاة، و مِلأَعَساً من لبن، ثمّ دعاهم، و هم يومئذٍ أربعون رجلًا، يزيدون رجلًا، أو ينقصونه؛ فيهم أعمام النّبيّ (ص): أبوطالب، حمزة، العبّاس و أبولهب، فأكلوا.
قال علي (ع): فأكل القوم، حتّى ما لهم بشى ءٍ من حاجة، و ما أرى إلّا موضع أيديهم، و أيم الله الّذي نفس عليّ بيده، و إن كان الرّجل الواحد منهم ليأكل ما قُدّمت لجميعهم.
ثمّ قال: إسقِ القوم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه، حتّى رووامنه جميعاً، و أيم الله، إن كان الرّجل الواحد منهم ليشرب مثله. فلمّا أراد رسول الله (ص) أن يكلّمهم، بَدَرَه أبولهب، فقال: لَقَدِماً سَحَركم صاحبكم، فتفرّق القوم و لم يكلّمهم الرّسول (ص) فأمر (ص) عليّاً (ع) في اليوم الثّاني أن يفعل كما فعل آنفاً، و بعد أن
ص: 94
أكلوا و شربوا، قال لهم رسول الله (ص): يا بني عبدالمطّلب! إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدّنيا و الآخرة. و قد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه؛ فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟
قال: فأحجم (1) القوم عنها جميعاً، و قال علي: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثمّ قال: إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فسمعوا له و أطيعوا.
قال: فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لا بنك و تطيع.(2)
لا يخفى أنّ الاهتمام بدعوة عشيرته الأقربين كان خير وسيلة لتثبيت دعائم دعوته و نشر رسالته؛ لأنّ الإصلاح يجب أن يبدأ من الدّاخل، حتّى إذا ما استجاب له أهله و قومه، اتّجه إلى غيرهم بقَدم ثابتةٍ و عزم راسخٍ و مطمئن.
كما أنّ دعوته لهم سوف تمنحه الفرصة لاكتشاف عوامل الضّعف و القوّة في البنية الدّاخليّة، من حيث ارتباطاته و علاقاته الطّبيعيّة، و ليعرف مقدار الدّعم الّذي سوف يلاقية؛ فيقدر موافقه و إقدامه على أساسه.
أضف إلى ذلك: أنّه حين يبدأ بالأقربين من عشيرته و لا يبدو أنّه على
ص: 95
استعداد لتقديم أي تنازل أو مُساوَمة حتّى بالنّسبة إلى هؤلاء فإنّ معنى ذلك هو أنّ على الآخرين أن يقتنعوا بأنّه منسجم مع نفسه، و مقتنع بصحّة ما جاء به، و يريد لأحبّ الناس إليه، الذين لا يريد لهم إلّا الخير، أن يكونوا في طليعة المؤمنين الّذين يضحون بكلّ غالٍ و نفيسٍ في سبيل هذا الدّين. و قد رأينا أنّ النّصارى قد تنبّهوا إلى ذلك في قضيّة المباهلة، فراجع.
و من الجهة الأخرى؛ فإنّه يعيش في مجتمع يقيم علاقاته على أساس قِبلي فحين يريد أن يقدم على مواقف أساسيّة و مصيريّة و حين لا يكون هو نفسه يرضى بالاعتماد على القِبليّه كعنصر فعّال في حماية مواقفه و تحقيق أهدافه؛ فإنّ من اللّازم، أن يتّخذ من ذوي قرباه موقفاً صريحاً، و يضعهم في الصّورة الواضحة، و أن يهيّى ء لهم الفرصة ليحدّدوا مسئوليّاتهم بحريّة و صراحة و صفاء، بعيداً عن أي ضغط و ابتزازٍ و لو كان هذا الضّغط من قبيل العرف القِبلي فيما بينهم؛ لأنّه عرفٌ مرفوض إسلاميّاً.
و هنا تبرز واقعيّة الإسلام في تعامله مع الأمور، و في معالجته للقضايا؛ الإسلام الّذي لا يرضى أن يستغلّ جهل النّاس و بساطتهم، و حتّى أعرافهم الخاطئة الّتي ارتضوها لأنفسهم في سبيل منافعه و تحقيق أهدافه.
و على كلّ حال، فقد خرج (ص) من ذلك الاجتماع بوعدٍ أكيد من شيخ الأبطح؛ أبي طالب (ع) بالنّصر والعون؛ فإنّه لمّا رأى موقف أبي لهب اللّا إنساني، و اللّا معقول، قال له: «يا عورة، والله لننصرنّه، ثم لنعيننّه!! يا ابن أخي، إذا أردت أن تدعو إلى ربّك فأعلِمنا، حتّى نخرج معك بالسّلاح».(1)
و نجد في يوم الإنذار، أنّ اختيار النّبيّ (ص) يقع علي أميرالمؤمنين (ع) ليكون المضيف لجماعة يناهز عددها الأربعين رجلًا، فيأمره بأن يصنع طعاماً و
ص: 96
ى
دعوهم إليه.
والظّاهر أنّ ذلك قد كان في بيت النّبيّ (ص) نفسه؛ لأنّ عليّاً (ع) كان عند رسول الله (ص) في بيته على ما يظهر، و قد كان بإمكانه (ص) أن يطلب من خديجة أن تصنع لهم الطّعام، هذا مع وجود آخرين، اكثر وجاهة و معروفيّة من علي (ع) كأبي طالب، و كجعفر الّذي كان يكبر عليّاً في العمر، و غيرهما ممّن يمكن أن يستفيد من نفوذه و شخصيّته في التأثير على الحاضرين، و لكنّه قد اختار عليّاً بالذّات ليتفادي أي إحراج يبعد القضيّة عن مجالها الطّبيعي، الّذي يرتكز على القناعة الفكريّة و الوجدانّية بالدّرجة الأولى؛ و لأنّ عليّاً و إن كان حينئذٍ صغير السنّ، إلّا أنّه كان في الواقع كبيراً في عقله و في فضائله و ملكاته؛ كبيراً في روحه و نفسه؛ كبيراً في آماله و أهدافه؛ و لا أدلَّ على ذلك من كونه هو المجيب للرّسول دون كلّ من حضر، ليؤازره و يعاونه على هذا الأمر.
و قد رآه النّبيّ (ص) منذئِذٍ أهلًا لأن يكون أخاه و وصيّه و خليفته من بعده، و هي الدّرجة الّتي قصرت همم الرجال عن أن تنالها، بل و حتّى عن أن يدخل في وهمها، أن تصل ولو في يومٍ ما إليها و تحصل عليها.
ولكن عليّاً كان منذ نعومة أظفاره هو السّباق إليها دون كلّ أحدٍ، لأنّه عاش في كنف الرّسول و كان (ص) كفيله و مربّيه، و كان يبرد له الطّعام، و يشمّة عرفه، و كان يتّبع الرّسول اتّباع الفصيل أثر امّه، و كان كأنّه ولده.
«ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يؤْتِيهِ مَنْ يشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.»(1)
و أمّا أبوطالب (ع) فكان موقفه الرّاعي لهذا الأمر، و المحامي عنه، و الحريص عليه. و كان يعلم أنّه لم يكن هو المقصود بهذا الخطاب؛ لأنّه لم يكن يرى أنّه يعيش إلى ما بعد وفاة النّبيّ (ص) ليكون وصيّه و وزيره و خليفته من بعده.
ص: 97
و لقد أدرك أبولهب مغزى تلك الدّعوة، و رأى أنّ الأمر قد بلغ مرحلة الجدّ، و ها هو يرى بأمّ عينيه معجزةً أخرى تضاف إلى الكثير ممّا رآه من معاجز و كرامات للنّبي (ص) طيلة السّنوات الكثيرة الّتي عرف فيها النّبيّ (ص) و أحواله، فيرى أنّ فخذ شاة و عساً من لبن، يكفى أربعين رجلًا، و أبولهب هو ذلك الرّجل الّذي يعرف أهداف هذا الدّين الّذي يبشّر فيه محمّد (ص) و أنّه لا يقيم وزناً لأي امتياز أو مكسب شخصي حصل عليه الإنسان من طريق الابتزاز و الظّلم، و سائر أنواع التعدّي و الإنحراف.
إذن، فلابدّ لأبي لهب بحسب منطقه اللّا منطقي أن يقف في وجه هذا الدّين و يمنعه من تحقيق أهدافه بكلّ وسيلةٍ ممكنة.
و لابدّ من تضييع الفرصة على النّبيّ (ص)، و ذلك حفاظاً علي ما يراه أنّه مصلحته أوّلًا، و ليرضى حقده و حسده الّذي يعتمل في صدره ثانياً؛ ذلك الحقد الّذي لا مبرّر له إلّا أنّه يرى في شخصيّة النّبيّ الأعظم (ص) الصّفات الحميدة و الأخلاق الرزيّة و السّجايا الفاضلة، فإنّ ذلك يعتبر عنده ذنباً، و أي ذنب.
فبادر إلى المواجهة الصّريحة، والقبيحة، حيث استغلّ معجزة الطّعام الّتي يراها الجميع بأمّ أعينهم، فرمى النّبيّ الأكرم (ص) بالسّحر و قال: لَقَدِماً سحركم صاحبكم، فتفرّق الجمع في اليوم الأوّل، و لم يستطع الرّسول (ص) أن يقول كلمته حتّى اليوم التّالي؛ حيث استطاع النّبيّ (ص) أن يصدع بما أمره الله تعالى و يقيم عليهم الحجّة.
أنّه (ص) قد أمر من قِبَل الله تعالى بالإنذار أوّلًا لعشيرته، و كذلك الحال بالنسبة لغيرهم من سائر النّاس، كما جاء في سورة المدّثر، الّتي هي من العتائق النّازلة في أوائل البعثة: «قم فأنذر» مع أنّه (ص) قد أُرسل مبشّراً و نذيراً، و مع أنّ القرآن هدى
ص: 98
و بشرى أيضاً؛ لأنّ النّاس لم يكونوا على واقع الفطرة و الغفلة و عدم الالتفات؛ بل كانوا في أوّل البعثة كفّاراً، معاندين، و منغمسين في الظّلم و الإنحراف إلى أبعد مدى؛ فلابدّ من إنذارهم أوّلًا؛ ليلتفتوا إلى عواقب ما هم عليه من واقع سىّ ءٍ يعيشونه، و إلى العواقب المدمّرة و المرعبة، الّتي تنتظرهم نتيجة لذلك. و التفاتهم هذا، لسوف يؤثّر فيهم للتّطلّع، ثمّ الحركة نحو الخروج من ذلك الواقع و التّخلّص منه.
ثمّ يأتي بعد ذلك دور تخليص المجتمع من رواسبه، و من حركاته و أعماله و مواقفه السّيئة، على مستوى الفرد، و على مستوى الجماعة، و تطهيره من كلّ غريب و مريض. و هذا الّذي ذكرناه في أسلوب الإسلام في دعوته، هو التحرّك الطّبيعي لأيّة دعوةٍ تستهدف الإصلاح الجَذري،(1) والتّغلّب على مشاكل الحياة و التّخطيط لمستقبل مشرق سعيد.
ص: 99
ص:100
ص: 101
و بعد أن أنذر (ص) عشيرته الأقربين، و انتشر أمر نبوّته في مكّة، بدأت قريش تتعرّض لشخص النّبيّ (ص) بالاستهزاء و السخريّة و أنواع التّهم، إذ أنّهم قد عرفوا جدّيّة القضيّة و أدركوا أبعادها.
و كان لذلك الاستهزاء تأثير على إقبال النّاس على الدّخول في الإسلام؛ فاغتنم النّبيّ (ص) لذلك جدّاً، و اعتبر ذلك عائقاً في سبيل انتشار دعوته و أداء مهمّته.
فأنزل الله عليه قرآناً يأمره بإظهار الدّعوة و الطّلب من كلّ أحدٍ، حتّى من جبابرة قريش و من جميع القبائل و الفئات، أن تُسلم لربّها، مشعوفاً ذلك بوعد أكيد، بأنّ الله سوف يكفيه المستهزئين، فيجب أن لا يهتمّ لهم، و أن يتجاهلهم، و ذلك حين نزل قوله تعالى:
«فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ».(1)
فامتثل النّبيّ (ص) أمر الله و أظهر دعوته و طلب من النّاس جميعاً أن يسلموا لربّهم و يقولون: إنّه قام على الحجر، فقال:
«يا معشر قريش، يا معشر العرب! أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، و أنّي رسول الله و آمركم بخلع الأنداد و الأصنام؛ فأجيبوني تملكون بها العرب، و تدين لكم العجم، و تكونون ملوكاً في الجنّة.
ص: 102
فاستهزؤوا به و قالوا: جنّ محمد بن عبدالله، و لم يجسروا عليه لموضع أبي طالب».(1) و جاء أيضاً: أنّه (ص) قام على الصّفا و نادى قريشاً، فاجتمعوا له، فقال لهم:
أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلًا في سفح هذا الجبل قد طلعت عليكم، أكنتم مصدّقى؟ قالوا: نعم، أنت عندنا غير متّهم و ما جرينا عليك كذباً قطّ. فقال: فإنّي «نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يدَى عَذابٍ شَدِيدٍ»(2) فنهض أبولهب، و صاح به: تبّاً لك سائر اليوم،(3) ألِهذا جمعت النّاس؟ و تفرّقوا عنه؛ فأنزل الله تعالى: «تَبَّتْ يدا أَبِى لَهَبٍ وَ تَبَّ» إلى آخر السورة.
فلمّا بادي رسول الله (ص) قومه بالإسلام و صدع به، أعظموه و ناكروه و أجمعوا على خلافه و عداوته، إلّا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام و هم قليل مستخفّون.
و حدب على رسول الله (ص) عمّه أبوطالب، و منعه، و قام دونه، و مضى رسول الله (ص) على أمر الله مُظهراً لا يردّه شى ءٌ.
فلمّا رأت قريش أنّ رسول الله (ص) لا يعتبهم من شى ء أنكروه عليه، من فراقهم و عيب آلهتهم، و رأوا أنّ عمّه أباطالب قد حدب عليه، و قام دونه، فلم يُسلّمه لهم، حاولوا مفاوضة أبي طالب و هذه المفاوضات كما يرى ابن إسحاق و غيره قد مرّت بثلاث مراحل، انتهت كلّها بالفشل الذّريع.
الأولى؛ إنّه مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أباطالب، إنّ
ص: 103
ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، و عاب ديننا، و سفه أحلامنا، و ضلّل آباءنا؛ فإمّا أن تكفّه عنّا، و إمّا أن تخلّي بيننا و بينه؛ فإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبوطالب قولًا رفيقاً، و ردّهم ردّاً جميلا، فانصرفوا عنه.
الثّانية؛ إنّهم رأوا أنّ رسول الله (ص) قد استمرّ على ما هو عليه، يُظهر دينه، و يدعوا إليه، حتّى شَرَى الأمر بينه و بينهم، و حتّى تباعد الرّجال، و تضاغنوا، و أكثرت قريش ذكر رسول الله (ص) بينها، ذهبوا إلى أبي طالب، فتهدّدوه: إن لم يكفّ ابن أخيه عن شتم آبائهم، و تسفية أحلامهم، و شتم آلهتهم، فلسوف ينازلونه و إيّاه، حتّى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا.
فأرسل أبوطالب إلى رسول الله (ص)، فأخبره، و طلب إليه أن يبقى على نفسه و عليه، و لا يحمله ما لا يطيق. فظنّ أنّه قد بدى لعمّه فيه بداءٌ، و أنّه قد ضعف عن نصرته و القيام دونه، فقال له (ص):
«يا عمّ! والله لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته.»
فوعده أبوطالب النّصر.
الثّالثة؛ عرضوا علي أبي طالب أن يتّخذ «عمارةَ بن الوليد» ولداً له، و يسلّمهم النّبيّ (ص) الّذي فارق دين أبي طالب و دين آبائه، و فرّق جماعتهم و سفه أحلامهم، ليقتلوه؛ فإنّما هو رجلٌ برجلٍ.
فقال أبوطالب: والله، لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم آخذوه لكم، و أعطيكم ابني تقتلونه، هذا و الله ما لا يكون أبداً.
فقال المطعم بن عدي: والله يا أباطالب! لقد أنصفك قومك و جهدوا على التّخلّص ممّا تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً.
فقال أبوطالب: والله ما أنصفوني، ولكنّك قد أجمعتَ على خذلاني، و مظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدالك. أو كما قال: فحقب الأمر، و حميت الحرب، و تنابذ
ص: 104
القوم، و بادى بعضهم بعضاً.(1) و ربّما تكون هذه المراحل متداخلة، أو مترتّبة؛ فإنّ ما ذكرناه لا يعدوا عن أن يكون فهماً منّا للسّير الطّبيعي للأحداث، لا أكثرو لا أقلّ.
و بعد فشل المفاوضات، فقد ظهر لأبي طالب أنّ السّيل قد بلغ الزُّبي،(2) و أنّه على وَشك الدّخول في صراع مكشوف مع المشركين؛ فلابدّ من الحذر، و الإحتياط للأمر؛ فجمع بني هاشم، و بني المطّلب و دعاهم إلى منع الرّسول، و القيام دونه. فأجابوه، و قاموا معه، باستثناء أبي لهب لعنه الله؛ و منع الله عزّوجلّ رسوله، فلم يكن لهم إلى أن يضرّوه في شَعرِه و بَشَرِه سبيلٌ، غير أنّهم يرمونه بالجنون، و السّحر، والكهانة، و الشّعر؛ والقرآن ينزل عليه (ص) بتكذيبهم، و رسول الله (ص) قائم بالحقّ، ما يثنيه ذلك عن الدّعاء إلى الله تعالى سرّاً و جهراً.
و ذلك لأنّ المشركين بعد أن أدركوا أنّ الاعتداء على شخصه (ص) سوف يتسبّب في صِراعٍ مسلّح لم يعدوا له عُدَّته، و ليسوا على يقين من أن تكون نتائجه لصالحهم، خصوصاً مع ما كان لبني هاشم من علاقات و أحلاف مع القبائل كحِلف المُطَيِّبين (3) و حِلف عبدالمطّلب مع خزاعة الّتي كانت تَقطُن (4) خارج مكة. بل قد
ص: 105
توجب هذه الحرب- لو نشبت التّمكين لمحمد (ص) من نشر دعوته.(1) فمن أجل كلّ ذلك آثر المشركون أن يبتعدوا عن الحرب، و يتّبعوا أساليب أخرى لتضعيف أمر محمّد (ص) و الوقوف في وجه دعوته فنجدهم:
أ. ينهون النّاس عن الالتقاء بالنّبي (ص)، و عن أن يسمعوا ما جاء به من قرآن.
قال تعالى: «وَ هُمْ ينْهَوْنَ عَنْهُ وَ ينْأَوْنَ عَنْهُ»(2).
و قال تعالى: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ»(3).
ب. يتّبعون أسلوب السّخريّة و الاستهزاء، و إلصاق التّهم الباطلة بهدف:
1. التأثير على شخص النّبيّ الأعظم (ص)، عَلَّه (4) ينهزم نفسيّاً و جعله يعيش عقدة الحقارة و الضّعة فلربّما يتخلّى عن هذاالأمر، و يكذب نفسه.
2. الحطّ من كرامة النّبيّ (ص)، و ابتذال شخصيّته، بهدف تنفير أصحاب النّفوس الضّعيفة من متابعته، و صرفهم عن الدّخول فيما جاء به.
و لهذا نجدهم يغرّون سفهاءهم بإيذائه و تكذيبه، و أحياناً كان يتولّى ذلك منه سادتُهم و كبراؤهم، بل لقد رأيناهم يأمرون غلاماً منهم بأن يلقى عليه سَلى (5)
ص: 106
جزوروفرثه، و هو قائم يصلّي، فيلقيه بين كتفيه، فيغضب أبوطالب، و يأتي فيمرّ السَّلي على سبالهم (1) جميعاً و قد ألقى الله الرّعب في قلوبهم.(2)
و كانوا أيضاً يلقون عليه التّراب (3)، و رَحِمَ الشّاةِ،(4) و غير ذلك و قد أثّر ذلك إلى حدّ ما في صرف النّاس، و إبعادهم عن الدّخول في الإسلام، حتّى ليقول «عروة بن زبير» و غيره: «وكرهوا ما قال لهم، و أغروا به مَن أطاعَهم؛ فانصفق عنه (5) عامّة النّاس.».(6)
كما أنّهم قد تذامروا(7) بينهم على من في القبائل منهم، من أصحاب رسول الله (ص) الّذين أسلموا معه؛ فو ثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم، و يفتنونهم عن دينهم، و يعذّبونهم بالحبس و الضّرب و الجوع و برمضاء مكّة و بغير ذلك من الأساليب الوحشيّة و اللّا انسانيّة.
فعذّب عمرُ بن الخطّاب الّذي أسلم قبيل الهجرة جاريةَ بني مؤمّل (حي من بني عدي) و كانت مسلمة، فكان يضربها، حتّى إذا ملّ،(8) قال: إنّي أعتذر إليك،
ص: 107
إنّي لم أترككِ إلّا ملالة.(1) و عذّب المشركون أيضا خَبّاب بن الأرَتّ، و أمّ شريك، و مصعب بن عمير، و بلال الحبشي و عامر بن فهيرة و كذلك آل ياسر، أشدَّ العذاب، بحيث استشهدت سميّةُ أمّ عمّار علي يد فرعون قريش أبي جهل لعنه الله، فكانت أوّل شهيدة في الإسلام،(2) ثم استشهد ياسر (رحمه الله). و عُذّب عمّار أيضا عذاباً شديداً من قِبَل بني مخزوم، حتّى أُكره على التّفوُّه بما يعجب المشركون، فتركوه، فأتى النّبيّ (ص) باكياً و قال له: لم أترك يا رسول الله، و قد أكرهوني حتّى نلت منك و ذكرتُ آلهتم بخير. فقال له النّبيّ (ص): كيف تجد قلبك يا عمّار؟ قال: إنّه مطمئنّ بالإيمان يا رسول الله. قال: لا عليك فإن عادوا إليك فعُد لما يريدون؛ فقد أنزل الله فيك: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمانِ»(3).
و قد ضرب هؤلاء لنا المثل الأعلى في الصّمود و الجهاد من أجل المبدأ و العقيدة مع معرفتهم بأنّهم لا يملكون قوّة تستطيع أن تردّ عنهم، غير إرادة الله تعالى، و أنّهم إنّما يتّحدون بإسلامهم العالم كلّه، الّذي كان بكلّ ما فيه ضدّهم.
و هنا تَكمُن عظمتهم،(4) و هذا هو سرّ امتيازهم على غيرهم.
ص:108
ص: 109
ص:110
ص: 111
لقد استمرّت قريش في تعذيب من يدخل دين الإسلام ممّن لم يكن لهم عشيرة تمنعهم. و كان الاستمرار في هذا الوضع غير ممكن.
و من جهة ثانية، فإنّ استمرار هذا الوضع الّذي يواجهه المسلمون، الملى ء بالآلام و المشاقّ، لسوف يقلّل من إقبال النّاس على الدّخول في الإسلام، مادام أنّ هذا الدّخول لا حصاد له سوى الرّعب و التّعذيب و المصائب.
و من جهة ثالثة، فقد كان لابدّ من تسديد ضربة لكبرياء قريش و جبروتها ولو نفسيّاً لتدرك أنّ قضيّة الدّين تتجاوز حدود تصوّراتها و قدراتها، و أنّ عليها أن تفكّر بموضوعيّة و عقلانيّة أكثر؛ فكان أن اختار رسول الله (ص) للمسلمين الهجرة إلى الحبشة.
و أمّا عن سرّ اختيار رسول الله (ص) الحبشة مهاجراً للمسلمين، فقد أشار إليه بقوله: «إنّ بها مَلِكاً لا يُظلم عنده أحدٌ و هي أرض صدق» و «إنّه يحسن. الجوار».
و قد كان من الواضح أنّه.
1. كان لابدّ لقريش من أن تبذل محاولاتها لاسترجاع المسلمين، لتبقى هي المهيمنة و صاحبة الاختيار الأوّل و الأخير في مصير هذا الدّين، الّذي تراه يتهدّد كبرياءها و شركها و إنحرافها.
ص: 112
2. لقد كان لقريش نفوذ في بلاد الرّوم و الشّام، لما كان لها من علاقات تجاريّة و اقتصادية معها. فالهجرة إلى هذا البلاد إذن سوف تسهّل على قريش استرجاع المهاجرين، أو على الأقل، إلحاق الأذى بهم؛ و لا سيّما إذا كان ملوك تلك البلاد لا يلتزمون بأي من الأصول الأخلاقيّة و الإنسانيّة، و لم يكن لديهم مانع من ممارسة أي نوع من أنواع الظّلم و الجور، و على الأخصّ بالنّسبة لمن ينتسب إلى دعوة يرون أنّها تضرّ بمصالحهم الشّخصيّة و تهدّد كيانهم و جبروتهم.
و أمّا بلاد اليمن، و بعض المناطق العربيّة و القِبليّة الأخرى، فقد كانت تحت نفوذ النّظام الفارسي، المتجبّر و الظّالم.
و يذكر هنا: أنّ بعض القبائل عند ما عرض عليها النّبيّ (ص) دعوته و طلب منها حمايتها له، قبلت بذلك، و لكن ممّا دون كسرى، أمّا من كسرى فلا.(1) 3. قد كان لقريش نفوذ قويّ في مختلف القبائل العربيّة، حتّى ما كان منها تحت نفوذ الفرس و الرّوم.
4. ما ذكره النّبيّ (ص) من أنّ بها مَلِكاً لا يظلم عنده أحدٌ، فإنّ كلّ ذلك يجعلنا نضع أيدينا على السرّ الحقيقي لاختيار بلاد الحبشة، البعيدة عن النّفوذ الفارسي و الرّومي و القريشي، و الّتي لا يمكن لقريش أن تصل إليها على ظهر جواد أو راحلة، و إنّما بالسّفن عبر البحار، و لم تكن قريش تعرف حرب السّفن. فاختار رسول الله (ص) هذه البلاد بالذّات لتكون أرضاً لهجرة المسلمين، الّذين لا يزالون ضعافاً أمام قوّة قريش وجبروتها.
ثمّ انّنا نستفيد من قوله (ص) عن أرض الحبشة: «إنّها أرض صدق» أنّه قد كان فيها شعبٌ يعيش على الفطرة و يتعامل بالصّدق و الصّفاء، و ربّما كان النّاس في تلك المنطقة أقرب من غيرهم إلى الالتزام بما تبقى لديهم من تعاليم السّيد المسيح (ع)، كما ربّما يستفاد مما جرى لجعفر مع مَلِك الحبشة في أمر
ص: 113
عيسى (ع)، فيمكن لهؤلاء الثلّة من المسلمين المهاجرين أن يعيشوا مع هؤلاء النّاس و أن يتعاملوا معهم، لا سيّما و أنّها بلاد لم يكن فيها من الإنحرافات و الأفكار و الشّبهات ما كان في بلاد الرّوم و الفرس، فكانت أقرب إلى الفطرة و ألحق من غيرها.
و هاجر المسلمون بأمرٍ من رسول الله (ص) إلى الحبشة؛ ذهبوا إليها أرسالًا على حسب رواية أمّ سلمة.(1) و يقال:
إنّه سافر أوّلًا عشرة رجالٍ و أربع نساء عليهم عثمان بن مظعون (2)، ثمّ خرج آخرون حتّى تكاملوا في الحبشة ثنين أو ثلاثاً و ثمانين رجلًا، إن قلنا إنّ عمّار بن ياسر كان معهم، و تسع عشرة إمرأة عدا الأطفال.
و قد كانت هذه الهجرة في السّنة الخامسة من البعثة كما نصّ عليه عامّة المؤرّخين، و لكن عند الحاكم: أنّ هجرة الحبشة قد كانت بعد وفات أبي طالب،(3) و هو إنّما توفّى في السّنة العاشرة من البعثة. إلّا إذا كان الحاكم يتحدّث عن هجرة جديدة قام بها بعض المسلمين في هذا الوقت، لعلّها عودة الرّاجعين إلى مكّة هو سماعهم بالهدنة، ففوجئوا بالعكس، فعادوا أدراجهم، و لكنّنا لا نملك شواهد تؤيّد أنّ ذلك كان في تلك السّنة بالذّات.
ص: 114
و كيف كان فإنّنا نقول: إنّنا نرجّح أنّه لم يكن سوى هجرة واحدة للجميع، عليها جعفر بن أبي طالب (ع)، الّذي لم يكن غيره من بني هاشم، فلم يكن ثمّة هجرتان، عشرة أوّلًا، ثُمّ الباقون ثانياً، و إن كان خروجهم إنّما كان أرسالًا حفاظاً على عنصر السّريّة، و ذلك بدليل الرّسالة الّتي وجّهها الرّسول (ص) إلى مَلِكِ الحبشة مع عمرو بن أميّة الضّمري، و الّتي جاء فيها. «قد بعثت إليكم ابن عمّي جعفر بن أبي طالب، معه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرهم ...».(1) و هذا هو الظّاهر من رواية أخرى عن أبي موسى، قال: «أمرنا رسول الله (ص) أن ننطلق. جعفر بن أبي طالب إلى أرض النّجاشي ...»(2) و إن كانت هجرة أبي موسى هذه محلّ شك، فإنّه لم يسلم إلّا في المدينة في السّنة السّابعة من الهجرة.
و نعتقد أنّ هجرة جعفر إلى الحبشة لم تكن بسبب تعرّضه للتّعذيب من قِبَل قريش، فقد كانت قريش تخشى مكانة أبي طالب و تراعى جانبه و جانب بني هاشم بصورة عامّة؛ و إنّما أرسله النّبيّ (ص) مع المهاجرين ليكون أميراً عليهم، و مدبّراً لأمورهم، و مشرفاً على شؤونهم و مصالحهم، و حافظاً من أن يذوبوا في هذا المجتمع الجديد، كما كان الحال بالنّسبة إلى ابن جحش الّذي تنصر في الحبشة.
و بعد أن صَحا(3) مشركو مكّة من عنف الصّدمة و رأت قريش استقرارهم في
ص: 115
الحبشة و أمنهم، ائتمرت فيما بينها و قرّرت إرسال رجلين من قِبلها إلى الحبشة لاسترداد المهاجرين، و وقع اختيارهم على عمرو بن العاص،(1) فأرسلو هما إلى النّجاشي بهدايا له و لبطارقته.(2) و ادّعيا أَمام النّجاشي أنّه قد ضَوى (3) إلى بلدك منّا غلمان سفهاء فارقوا دينهم و لم يدخلوا في دينك، و جاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن و لا أنت، و قد بَعَثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم و أعمامهم و عشائرهم لتردّهم إليهم ....
فرفض تسليمهم إليهم حتّى يسئلهم عن صحّة ما جاء به عمرو و عمارة. فجاء المسلمون، فسئلهم. فقال جعفر:
«أيّها الملك! كنّا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسى ء الجوار، و يأكل منّا القوي الضعيفَ، فكنّا على ذلك، حتّى بعث الله إلينا رسولًا منّا، نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده و نعبده و نخلع ما كنّا نعبد نحن و أباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحديث، و أداء الامانة، و صلة الرّحم، و حسن الجوار، و الكفّ عن المحارم و الدّماء؛ و نهانا عن الفواحش، و قول الزّور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات؛ و أمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، و أمرنا بالصّلاة، و الزّكاة و الصّيام و ...».(4)
ص: 116
و قرأ عليه جعفر بعض سورة الكهف، فبكى النّجاشي حتّى اخضلّت لحيته و كذلك أساقفته. ثمّ قال: إنّ هذا والّذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة؛ انطلقا. فو الله لا أسلّمهم إليكما، و لا يكادون.
ثمّ غدا عمرو في اليوم التّالي ليخبر النّجاشي بأنّ المسلمين يقولون: إنّ عيسى بن مريم عبدٌ؛ فأرسل إليهم، فسئلهم، فقال له جعفر: نقول فيه الّذي جاء به نبيّنا (ص) هو عبدالله و رسوله، و روحه، و كلمته الّتي ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فتناول النّجاشي عوداً و قال: والله، ماعدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود.
فتناخرت بطارقته،(1) فقال: و إن نخرتم، اذهبوا فأنتم شيوم (2)، مَن سبّكم غَرِم قالها ثلاثاً ما احبّ أنّ لي دَبراً(3) من ذهب و أنّي آذيت رجلًا منكم، ثمّ ردّ هدايا قريش.(4)
حقّاً لقد كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة ضربةً قاسيةً لقريش، أفقدَتها
ص: 117
صوابها و زعزعت وجودها و كيانها؛ فحاولت أن تتدارك الأمر، فلحقت بهم بهدف إرجاعهم و إبقائهم تحت سلطتها و لكن بعد فوات الأوان.
و كان أن اضطرّت قريش للمرّة الأولى لمراجعة حساباتها من جديد، بعد أن أدركت أنّ زمام المبادرة لم يعد بيدها، و ذلك لأنّها:
1. أدركت أنّ الاستمرار في تعذيب المسلمين الّذين أصبحوا متفرّقين في مختلف القبائل لم يعدله كبير جدوى و لا جليل أثر، إن لم يكن سبباً في إثارة حرب داخليّة، تكون عواقبها السّيئة على سمعتها و كرامتها كبيرة و خطيرة.
2. رأت أنّ محمداً (ص) يريد أن تكون دعوته إنسانيّة عالميّة، لا تختصّ بعرب مكّة و الحجاز، و أدركت أنّ هجرة هؤلاء إلى الحبشة لم تكن متمحضّة في الهروب من التّعذيب، لانّ الكثيرين من هؤلاء لم يكن ممن يعذّب.
3. ترى أنّ معنى هجرة المسلمين هذه، و خروجهم من تحت سلطتها، هو أنّها سوف تكون أمام مواجهة شاملة، و أنّ مصالحها في معرض التّهديد و البوار.
إذن فإنّ وجود المسلمين و هم من قريش في الصّميم في منطقة بعيدة عن نفوذ القرشيّين و سلطانهم، و في ملجأ أمين، و منطلق مطمئن، ليشكل أعظم الأخطار على قريش و مصالحها؛ الأمر الّذي يحتم عليها التّريث (1) و الصّبر، و أحكام التّدبير، لا سيّما و أنّها لا تجد إلى تصفية النّبيّ (ص) جسديّاً حيلةً، و لا إلى إسكاته سبيلًا، ما دام في حمايةشيخ الأبطح، أبي طالب (ع) و الهاشميّين، عدا أبي لهب. فأرسلت إلى النّجاشي ممثّلين عنها لاسترداد المهاجرين، فرجعها إليها بالفشل الذّريع و الخيبة القاتلة؛ فأفقدها ذلك صوابها و أصبحت تتصرّف بدون وَعى و لا تدبّرٍ، فعدّت من جديد على من تبقى من المسلمين بالعذاب و التّنكيل، و جعلت تتعرض للنّبي (ص) بالسّخريّة و الاستهزاء، و الاتّهام بالجنون و السّحر و الكهانة و بأنواع مختلفة من الحرب النفسيّة و الأذى.
ص: 118
و تسرّبت (1) أنباء الهدنة القصيرة و العفويّة غير المعلنة الّتي حصلت في مكّة إلى مسامع المسلمين في الحبشة، و رأى المسلمون ما جرى للنّجاشي بسببهم،(2) فارتأى فريق منهم العودة إلى مكّة، بعد شهرين، أو ثلاثة أشهر، و عاد منهم أكثر من ثلاثين رجلًا، و دخل عثمان بن مظعون بجوار الوليد بن المغيرة، و كان ما كان من ردّه جوارَه و رضاه بجوار الله تعالى.
نعم، هذا هو السرّ في رجوع بعض المهاجرين من الحبشة، و ليس ما ذكره أعداء الإسلام من قصّة الغرانيق الّتي لا شكّ في كذبها.(3)
ص: 119
ص:120
ص: 121
لمّا رأت قريش عزّة النّبيّ (ص) بمن معه و عزّة أصحابه في الحبشة و فشو الإسلام في القبائل، و أنّ جميع جهودها في محاربة الإسلام قد باءت بالفشل، حاولت أن تقوم بتجربة جديدةٍ، و هي الحصار الاقتصادي و الاجتماعي ضدّ الهاشميين، و أبي طالب؛ فإمّا أن يرضخوا(1) لمطالبها في تسليم محمّد لها للقتل، و إمّا أن يتراجع محمد (ص) نفسه عن دعوته، و إمّا أن يموتوا جوعاً و ذلّاً، مع عدم ثبوت مسؤوليّة محدّدة على أحدٍ في ذلك، يمكن أن تجر عليهم حربا أهليّة، ربّما لا يمكن لأحد التّكهنّ (2) بنتائجها و عواقبها السيّئة.
فكتبوا صحيفة تعاقدوا فيها على عدم التزوّج و التّزويج لبني هاشم و بني المطّلب، و أن لا يبيعوهم شيئاً، و لا يبتاعوا منهم، و أن لا يجتمعوا معهم على أمرٍ من الأمور، أو يسلّموا لهم رسولَ الله (ص) ليقتلوه.
و قد وقع على هذه الصّحيفة أربعون رجلًا من وجوه قريش و ختموها بخواتيمهم، و علّقت الوثيقة في الكعبة مدّة و يقال: أنّهم خافوا عليها السّرقة؛ فنقلوها إلى بيت أمّ أبي جهل.(3)
ص: 122
و كان ذلك في سنة سبع من البعثة على أشهر الرّوايات، و قيل ستّ.
و أمر أبوطالب بني هاشم أن يدخلوا برسول الله (ص) الشّعب الّذي عُرّف بشعب أبي طالب و معهم بنو المطّلب بن عبد مناف باستثناء أبي لهب لعنه الله و أخزاه.(1)
و استمرّوا فيها إلى السنّة العاشرة، و وصغت قريش عليهم الرّقباء حتّى لا يأتيهم أحدٌ بالطّعام، و كانوا ينفقون من أموال خديجة و أبي طالب، حتّى نفدت، حتّى اضطرّوا إلى أن يقتاتوا(2) بورق الشّجر.
و كان صِبيَتُهم يتضاغون جوعاً،(3) و يسمعهم المشركون من وراء الشّعب، و يتذاكرون ذلك فيما بينهم، فبعضهم يفرح، و بعضهم يتذمّم (4) من ذلك.
و لم يكونوا يجسرون على الخروج من الشّعب إلّا في موسم العمرة في رجب، و موسم الحجّ في ذي الحجّة، فكانوا يشترون حينئذٍو يبيعون ضمن ظروف صعبة جدّاً، حيث أنّ المشركين كانوا يلتقون بكلّ من يقدم مكّة أوّلًا، و يطمعونه بمبالغ خياليّة ثمناً لسلعته، بشرط أن لا يبيعها للمسلمين.
و كان أبو لهب هو رائدهم في ذلك، فكان يوصي التّجّار بالمغالاة عليهم، حتّى لا يدركوا معهم شيئاً، و يضمن لهم، و يعوّضهم من ماله كلّ زيادة تبذل لهم؛ بل لقد كان المشركون يتهدّدون كلّ من يبيع المسليمن شيئاً بنهب أمواله، و يحذّرون كلّ قادم إلى مكّة من التّعامل معهم، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله (ص).(5)
ص: 123
و قد استمرّت هذه المحنة سنتين أو ثلاثاً، و كان أميرالمؤمنين (ع) أثناءها يأتيهم بالطّعام سرّاً من مكّة، من حيث يمكن، و لو أنّهم ظفروا به لم يبقوا عليه، كما يقول الإسكافي و غيره.(1) و كان أبوطالب كثيراً ما يخاف على النّبيّ (ص) البيات؛ فإذا أخذ النّاس مضاجعهم، اضطجع النّبيّ (ص) على فراشه، حتّى يرى ذلك جميع مَن في الشّعب، فإذا نام النّاس، جاء و أقامه، و أضجع ابنه عليّاً مكانه.(2)
من المعروف أنّ الإسلام قد قام بسيف علىٍ (3) (ع) و بأموال خديجة (ع) الّتي انفقتها في سبيل الله؛ فهل معنى ذلك أنّ خديجة كانت ترشو النّاس من أجل أن يدخلوا في الإسلام؟
و هل يمكن العثور على مورد واحد من هذا القبيل في التاريخ؟!
لعلّك تقول: إنّ النّبيّ (ص) كان يتألّف كثيرين على الإسلام، فيعطيهم الأموال ترغيباً لهم في ذلك، و قضيّة غنائم حنين الآتية إن شاءالله أوضح دليل على ذلك، و لا يجهل أحدٌ سهم المؤلّفة قلوبهم في الإسلام.
و الجواب: أنّ هذا ليس معناه أنّهم كانوا يأخذون الرّشوة على الإسلام؛ و إنّما يريد الإسلام لهؤلاء أن يعيشوا في الأجواء الإسلاميّة و يتفاعلوا معها، و ينظروا لها نظرة سليمةً؛ فكان هذا المال المعطي لهم يساعد على التّغلّب على تلك الحواجز
ص: 124
الوهميّة في أكثرها، و يجعلهم يعيشون في الأجواء و المناخات الإسلامية، و يتعرّفون على خصائص الإسلام و أهدافه؛ و لتحصل لهم من ثَمّ القناعات الوجدانيّة و الفكريّة بأحقّية الإسلام و سمُّوِ أهدافه.
و أمّا أموال خديجة، فلم تكن تُعطي كرشوة على الإسلام، و لا كانت تنفق على المؤلّفة قلوبهم؛ و إنّما كانت تسدّ رمق ذلك المسلم، الّذي يعاني أعظم المشاقّ و الآلام، في سبيل إسلامه و عقيدته؛ هذا المسلم، الّذي لم تتورّع قريش عن محاربته بكلّ ما تملكه من أسلحة لا انسانيّة و لا اخلاقيّة، حتّى بالفقر و الجوع.
فكانت تلك الأموال تسدّ رمق مَن يتعرّض للأخطار الكبيرة، و تخدم الإسلام عن هذا الطّريق؛ و هذا معنى قولهم: «إنّ الإسلام قام بأموال خديجة». فإنّ أموالها، الّتي أنفقت في المقاطعة، كانت في غالبها، من النّوع الّذي يمكن الانتفاع به في سدّ رمق الجائع، و كسوة العاري؛ و أمّا ما سواه، فلربّما لم يتعرّض لذلك، بسبب عدم القدرة على البيع و الشّراء في غالب الأحيان.
و بعد ثلاث سنوات تقريباً من الحصر في الشّعب، أخبر النّبيّ (ص) عمّه أباطالب بأنّ الأَرَضَةَ(1) قد أكلت كلّ ما في صحيفتهم من ظلم و قطيعة رحم و لم يبق فيها إلّا ما كان اسماً لله.
فخرج أبوطالب من شعبه و معه بنوهاشم إلى قريش. فقال المشركون: الجوع أخرجهم. و قالوا له: يا أباطالب، قد آن لك أن تصالح قومك. قال: قد جئتكم بخير؛ ابعثوا إلى صحيفتكم، لعلّه أن يكون بيننا و بينكم صلح فيها. فبعثوا، فأتوا بها، فلمّا وضعت و عليها أختامهم، قال لهم أبوطالب: هل تنكرون منها شيئاً؟ قالوا: لا. قال:
ص: 125
إنّ ابن أخي حدّثني و لم يكذبني قطّ: أنّ الله قد بعث على هذه الصّحيفة الأَرَضَة، فأكلت كلّ قطيعة و إثم، و تركت كلّ اسم هو للّه؛ فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا، و إن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه.
فصاح النّاس: أنصفتنا يا أباطالب، ففتحت، ثمّ أخرجت، فإذا هي كما قال (ص)، فكبّر المسلمون، وَ امتِقُعَت (1) وجوه المشركين. فقال أبوطالب: أتبيّن لكم، أيّنا أولى بالسّحر و الكهانة؟ فأسلم يومئذٍ عالَم من الناس.
ولكنّ المشركين لم يقنعوا بذلك، بل استمرّوا على العمل بمضمون الصحيفة، حتّى قام جماعة منهم: هشام بن عمرو بن ربيعه، و زهير بن أميّة بن المغيرة، و المطعم بن عدي، و أبان البختري بن هشام، و زمعة بن الأسود و كلّهم رحم ببني هاشم و المطّلب و تكلّموا في نقضها؛ فعارضهم أبوجهل فلم يلتفتوا إلى معارضته، و مُزّقت الصّحيفة، و بطل مفعولها، و خرج الهاشميّون حينئذٍ من شعب أبي طالب (ع).(2)
إنّ المطالع لأحداث ما قبل الهجرة ليجد عشرات الشّواهد الدّالة على حُنكة(3) أبي طالب (ع). و خير شاهد نسوقه الآن على ذلك، هو ما ذكرناه آنفاً، حيث رأيناه
ص: 126
ى
طلب منهم أن يحضروا صحيفتهم، و يمزج ذلك بالتّعريض بإمكان أن يكون ثَمّة صلح فيما بينهم و بنيه.
و ما ذلك إلّا من أجل أن لا تُفتَحَ الصّحيفةُ إلّا علناً، يراها كلّ أحدٍ، و أيضاً، حتّى يهيئّهم للمفاجاة الكبرى، و يمهّد السّبيل أَمام طرح الخيار المنطقي عليهم، ليسهل عليهم تقبّله، ثمّ الالتزام به، و لا سيّما إذا استطاع أن ينتزع منهم وعداً بما يريد، و يضعهم أمام شرف الكلمة، و على محك قواعد النَّبل و احترام الذّات، حسب المعايير الّتي كانوا يتعاملون على أساسها. و قد نجح في ذلك إلى حدٍّ بعيد، حتّى ليصيح النّاس: أنصفتنا يا أباطالب.
ثمّ تبرز لنا من النّصوص المتقدّمة حقيقةٌ أخرى، لها أهميّتها و انعكاساتها، و هي تدلّ على مدى ثقة أبي طالب بصدق النّبيّ الأعظم (ص)، و بسداد أمره، و واقعيّة ما جاء به، حتّى قال: «إنّ ابن أخي حدّثني و لم يكذبني قطّ».
و كان يتألّم جدّاً من اتّهام ابن أخيه بالسّحر والكهانة، و يعتبر ذلك افتراءً ظاهراً و يغتنم الفرصة السّانحة للتعبير عن خَطَل رأيهم، و سفه أحلامهم، فيقول لهم: «أتبيّن لكم أيّنا أولى بالسّحر و الكهانة؟». و كانت النّتيجة: أن أسلم بسبب هذه المعجزة يومئذٍ عالَم من الناس.
و استمرّ الرّسول الأعظم (ص) يعمل على نشر دينه، و أداء رسالته؛ و استمرّت قريش تضع في طريقه العراقيل (1)، و تحاول أن تمنع الناس من الاجتماع به، و الاستماع إليه، بكلّ الوسائل الّتي تقع تحت اختيارها، و النّبيّ (ص) يتحمّل و يصبر، لا يكلّ و لا يملّ، و لم تفلح قريش في ذلك و لا وصلت إلى نتيجة، و الأحداث
ص: 127
الّتي في هذا السّبيل كثيرة لو أردنا استقصاءها لطال المقام و لا محيص لناعن تجاوزها إلى غيرها.
و في السّنة العاشرة من البعثة كانت وفاة الرّجل العظيم، أبي طالب (ع)، ففقد النّبيّ (ص) بفقده نصيراً قويّاً و عزيزاً وفيّاً، كان هو الحامي له و الدّافع عنه و عن دينه و رسالته، منذ طفولته و حتّى الآن، و واجه المصائب الكبيرة، و المشاقّ العظيمة في سبيل الدّفع عنه، و الذَّود عن دينه و رسالته.
و هو أيضاً الّذي كان يُقدّمه على أولاده جميعاً، و رضى بعداء قريش له، و بمعاناة الجوع و الفقر، و النّبذ الاجتماعي، و وقف ذلك الموقف العظيم من جبابرة قريش و فراعنتها.
و في الشّعب كان يحرس النّبيّ (ص) بنفسه و ينقله من مكان إلى آخر، و يجعل ولده عليّاً (ع) في موضع النّبيّ (ص)، حتّى إذا كان أمرٌ، أصيب ولده دونه. كلّ ذلك في سبيل الدّفع عن الرّسول الأعظم (ص) و نصر دينه، و إعلاء كلمته، و رفعة شأنه.
ثمّ توفيّت بعده بمدة و جيزة قيل: بثلاثة أيامٍ، و قيل: بعده بحوالي شهر(1)- خديجة أمّ المؤمنين (ع) أفضل أزواج النّبيّ (ص) و أحسنهنّ سيرةً و أخلاقاً مع النّبيّ (ص) و قد كانت عايشة تغار منها غيرةً شديدةً، رغم أنّها لم تجتمع معها في بيت الزّوجيّة؛ لأنّ النّبيّ (ص) قد تزوّجها بعد وفاة خديجة بزمان.(2) و نستطيع أن نعرف: كم كان لأبي طالب و لخديجة] من خدمات جليّ في
ص: 128
سبيل هذا الدّين، من تسمية النّبيّ (ص) عام وفاتهما ب- «عام الحَزن».(1) و من الواضح: أنّ النّبيّ (ص) لم يكن ينطلق في حبّه لهما، و حزنه عليهما من مصلحته الشّخصيّة، أو من عاطفةٍ رَحِميّة، و إنّما هو في سبيل الحبّ في الله و البغض في الله فقط.
فإنّه (ص) لم يتأثّر علي أبي طالب و خديجة، لأنّ هذه زوجته و ذاك عمّه، و إلّا فقد كان أبولهب عمّه أيضا، و إنّما لِمالمسه فيهما من قوّة إيمان، و صلابة في الدّين، و تضحيات و تفانٍ في سبيل الله، و العقيدة، و في سبيل المستضعفين في الأرض، و لِما خسرته الأمّة فيهما، من جهاد و إخلاص، قلّ نظيره في تلك الظّروف الصّعبة و المصيريّة.
و قد ألمح النّبيّ (ص) إلى ذلك حينما جَعَل موتَ أبي طالب و خديجةَ مصيبة للامّة بأسرها، كما هو صريح قوله في هذه المناسبة: «اجتمعت على هذه الأمّة مصيبتان، لا أدري بأيّهما أنا أشدّ جزعاً».(2)
ص: 129
ص:130
ص: 131
لقد فقد النّبيّ (ص) بوفاة أبي طالب نصيراً قويّاً، دافع عنه (ص) دعوته الإلهيّة بيده و لسانه كما قدّمنا فاعتقدت قريش أنّه (ص) سيضعف عزمه عن مواصلة جهوده، بعد أن مات ناصره؛ فنالته بعد وفاة شيخ الأبطح بأنواع الأذى، ممّا عجزت عنه في حياة عمّه العظيم، و وجدت الفرصة للتّنفيس عن حقدها، و صبّ جام غضبها عن ذلك الّذي ترى فيه سبباً لكلّ مشاكلها و متاعبها.
و رأى (ص) أنّ الدّعوة الإسلاميّة تتعرّض لضغوط قويّة تمنع من انتشارها، و من دخول الآخرين فيها، ماداموا لا يرون في ذلك الدّخول إلّا العذاب و النّكال.
و من هنا، فقد كان لابدّ من تحرّك جديد، يعطي للدّعوة دفعةً جديدة، و يجعلها أكثر حيويّة و اكثر قدرة على مواجهة الأخطار المحتملة، و إذا كان بقاؤه (ص) في مكّة إن لم يكن فيه خطر على الدّعوة معناه جمودها و شلّ حركتها، فإنّ من الطّبيعي أن يبحث عن مكان آخر، تتوفّر فيه له حريّة الحركة، و الدّعوة إلى الله، بعيداً عن أذايا قريش و مكائدها. فكان كلّ ذلك و سواه دافعاً إلى الهجرة إلى الطّائف.
بعد أن أذن الله له (ص) بالخروج من مكّة، إذ قدمات ناصره، خرج إلى الطّائف و
ص: 132
معه علي (ع)، أو زيد بن حارثة، أو هما معاً(1)- على اختلاف النّقل و ذلك لليال بقين من شوّال سنة عشر.
فأقام في الطّائف عشرة أيّام و قيل شهراً لا يدع من أشرافهم أحداً إلّا جاءه و كلّمه، فلم يجيبوه، و خافوا على أحداثهم، فطلبوا منه أن يخرج عنهم، و أعزّوا به سفهاءهم، فجلسوا له في الطريق، يرمونه بالحجارة، و على يدافع عنه، حتى شجّ في رأسه.(2) ثمّ انصرف (ص) راجعاً إلى مكّة، فاستعدّ أعداؤه للقائه بأنواع من الأذى لم يعرفها من قبل؛ ولكنّه (ص) كان مصمّماً على مواجهة كلّ الاحتمالات، حيث قال لرفيقة علي (ع) أو زيد: «إنّ الله جاعلٌ لما ترى فرجاً و مخرجا، و إنّ الله ناصر دينه و مظهر نبيّه».
إنّ أهل الطّائف كانوا مرتبطين اقتصاديّاً بأهل مكّة و من حولهم؛ لأنّهم كانوا يصدرون الفاكهة الّتي هي عمدة محاصيلهم إلى مكّة و غيرها من الأطراف المحيطة بهم.
فهم يرون مصيرهم مرتبطاً اقتصاديّاً و اجتماعيّاً بغيرهم، و هم بحاجة إلى التّقرّب و التّزلّف إلى هؤلاء، و استجلاب محبّتهم و رضاهم، حتّى لا يتعرّضوا للضّغط الاجتماعي، أو إلى حصار اقتصادي، لا سيّما مع المكّيّين، حيث السّوق الرئيس لمنتجاتهم.
ص: 133
ثمّ إنّه قد كان لهم صنم يقال له اللّات، و كانت له سَدَنة(1) و يزوره العرب،(2) إذ كانت لهم مكانة دينيّة أيضاً بين العرب، يهتمّون جدّاً بالمحافظة عليه.
و من هذا و ذاك، نعرف السرّ في أنّهم كانوا أشدّاء في مواجهة النّبيّ (ص) و حريصين على إخراجه من بينهم بسرعة.(3)
إنّنا نلاحظ، أنّ أهل الطّائف قد خافوا على أحداثهم من دعوة النّبيّ (ص)، رغم أنّه (ص) لم يقم بينهم سوى فترة قصيرة؛ الأمر الّذي يؤكّد على أنّ الإسلام كان يجد سبيله بيسر و سهولة إلى العقول الصّافية و النّفوس البريئة و ينسجم مع الفطرة السّليمة، الّتي لم تتلوّث بعد بالمفاهيم المنحرفة و العصبيّة القِبليّة و غير ذلك.
و كيف لا يجد سبيله إليها بيسر، و هو الدّين القائم على الدّليل و البرهان العقلي، و المنسجم مع الفطرة، و هو دين الضّمير و الوجدان الحي.
و من هنا، فإنّنا نلاحظ أنّهم لم يمكنهم الردّ عليه و مناقشته، بل طلبوا منه أن يخرج من بينهم، و حاولوا أن يشوّهوا صورته في أذهان أولئك الّذين استمعوا إليه و في أذهان الصّغار الّذين أغروهم به (ص) و الّذين يمكن أن تؤثّر فيهم دعوته
ص: 134
بما استعملوه ضدّه من أساليب غير منطقيّة، و إنّما تتميّز بالإهانة و الأذى، ثمّ السّخريّة و الاستهزاء الجارح و المهين.
و لربّما يتساءل البعض عن الفائدة لهذه الرّحلة الفاشلة؟ فنقول: إنّ هذه الرّحلة لم تكن فاشلة؛ فإنّ من الطّبيعي أن تترك هذه الحادثة آثاراً إيجابيّة من نوع ما في أذهان مَنِ التقى بهم و كلّمهم و أن تثمر فيما بعد ثمارها المطلوبة و المرجوّة منها، حيث قد أثرّت بشكل واضح في تهيئة الجوّ لإيمان ثقيف فيما بعد ذلك عندما قويت شوكة الإسلام، و لم تعد تخشى الضّغوط الاقتصادية و الاجتماعية عليها ممّن حولها، و لا سيّما من قريش؛ بل أصبح الضّغط من جانب المسلمين؛ لأنّ القبائل كانت تفد إلى النّبيّ (ص) فتعلن عن إسلامها، و يكتب لها كتاباً، و يشترط قطع العلاقات مع المشركين فأخافهم ذلك و أرعبهم.
و قد كانت قريش تَشيع عن النّبيّ (ص) أنّه مجنون، أو ساحر، أو كاهن، أو ... فها هو (ص) يتّصل بالنّاس مباشرة، و يلمسون بأنفسهم حقيقة الأمر، و يتعرّفون عن قربٍ على شخصيّته و خصائصه، بحيث تسقط كل الإشاعات الكاذبة و المغرضة، و ليصير الإيمان به و برسالته و بنبوّته أسهل و أيسر، و ليصبح أكثر قوّةً و عمقاً و رسوخاً.
لقد كان النّبيّ الأكرم (ص) يغتنم الفرصة في مواسم الحجّ؛ فيعرض على القبائل، قبيلة قبيلة، أن تعتنق الإسلام، و تعمل على نشره و تأييده، و حمايته و نصرته، بل كان لا يسمع بقادم إلى مكّة، له اسم و شرف إلّا تصدّى له و دعاه إلى الإسلام.
ولكن عمّه أبا لهب كان يتبعه أنّى توجّه، و يعقب على كلامه، و يطلب منهم أن لا يقبلوا منه و لا يطيعوه في شى ءٍ. هذا بالإضافة إلى اتّهامه بالجنون و السّحر و
ص: 135
الكهانة و الشّعر و غير ذلك.
و كان النّاس في الغالب يسمعون من قريش، إمّا خشيةً من سلطانها و نفوذها، و إمّا حفاظاً على مصالحهم الاقتصادية في مكّة، لا سيّما في مواسم الحجّ و عُكاظ.
كما أنّ تصدّى أبي لهب، عمّ النّبيّ (ص) بالذّات لإفساد الأمر عليه (ص) كان أبعد تأثيراً في ذلك، على اعتبار أنّه عمّه و أعرف النّاس به.
و قد صرّح المؤرّخون بأنّ العرب كانوا ينتظرون بإسلامهم قريشاً و كانوا إمامَ النّاس، و أهلَ الحرم، و صريح ولد اسماعيل لا تنكر العرب ذلك.
فَلمّا فتحت مكّة و استسلمت قريش، عرفت العرب أنّها لا طاقة لها بحرب رسول الله، و لا عداوته، فدخلوا في الدّين أفواجاً.(1) بل إنّه (ص) حينما كان يعرض دعوته على القبائل، كانوا يردّون عليه أقبح الرّد، و يقولون: أُسرتك و عشيرتك أعلم بك حيث لم يتّبعوك.(2) و هذا يدلّ على أنّ الخوف من قريش لم يكن هو الدّافع الوحيد للامتناع عن الدّخول في الإسلام، لا سيّما و أنّ الكثيرين من العرب كانوا بعيدين عن مكّة و لا يخشون سطوتها.
و نقطة أخرى لابدّ من الإشارة إليها و هي أنّ تحرّك النّبيّ (ص) و عرض دين الله على القبائل، و هجراته المتعدّدة في سبيله ليعتبر إدانة للمنطق القائل: إنّ على صاحب الدّعوة أن يجلس في بيته، و لا يتحرّك، و على النّاس أن يقصدوه و يسئلوه عمّا يهمّهم، و يحتاجون إليه.
و نشير هنا إلى واقعة هامّة حدثت في خلال عرض النّبيّ (ص) دعوته على القبائل و هي: أنّ رسول الله (ص) قد أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله.
ص: 136
فقال لهم رجل منهم، اسمه «بيحرة بن فراس» و الله لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.
ثمّ قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال (ص): الأمر لله يضعه حيث يشاء. فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك؛ فأبوا عليه.(1) و نحن نسجّل هنا مايلي:
لقد نصّت الرّواية على أن الأمر لله يضعه حيث يشاء، و نستفيد من ذلك:
أ. إنّ الرّسول لم يعط هؤلاء وعداً بما طلبوه منه، من جعل الأمر لهم بعده، بل أجابهم بأنّ الأمر لله، يضعه حيث يشاء؛ أي أنّه لا يمكن أن يَعِدَ بما لا يعلم قدرته على الوفاء به تماماً، على العكس من السّياسيّين، الّذين عرفناهم في عصرنا الحاضر، و على مُرّ العصور، الّذين لا يتورّعون عن إغداق الوعود المعسولة على النّاس،(2) حتّى إذا وصلوا إلى غايتهم و جلسوا على كرسي الزّعامة، فإنّهم ينسون كلّ ما قالوه وما وعدوا به.
ولكن نبي الإسلام (ص) رغم أنّه كان بأَمَسِّ الحاجة(3) إلى مَن يمدّ له يدالعون، لا سيّما من قبيلة كبيرة تملك من العدد و العُدّة ما يمكّنها من حمايته، و الرّد عنه،
ص: 137
إلا أنّه يرفض أن يَعِدَ بما لا يملك الوفاء به، حتّى و لو كان هذا الوعد يجر عليه الرّبح الكثير فعلًا.
ب. إنّ جواب النّبيّ (ص) لهم بقوله: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» يؤيّد ما يذهب إليه أهل البيت (ع) و شيعتهم الأبرار من أنّ خلافة النّبوّة ليست من المناصب الّتي يرجع البتّ فيها إلى النّاس، بل هي منصب إلهي، و الأمر لله فيها، يضعه حيث يشاء.
و قد لاحظ بعض المحقّقين هنا أنّ هذا العربي من بني عامر لَمّا أخبروه بما يدعوا إليه النّبيّ (ص)، قد أدرك أنّ هذا الدّين ليس مجرّد ترهّب في الصّوامع و صلاة و دعاء و أوراد و أذكار؛ بل هو دين يشتمل على التّدبير و السّياسة و الحكم، و لأجل هذا قال: «لو أنّي أخذت هذا الفتى (يعني محمّداً بمالَه من الدّعوة الشّاملة) لأكلت به العرب»؛ و اشترطوا على النّبيّ (ص) أن يكون لهم الأمر من بعده، فرفض (ص) طلبهم.
فما أبعد ما بين فهم هؤلاء للإسلام و لِدعوة القرآن حتّى إنّ هذا الفهم هو الّذي مهّد لإسلام الأنصار، ثمّ الهجرة، و كذلك لبيعتهم (بيعة العقبة الأولى و الثّانية) و اختيار النّقباء و الكفلاء على المبايعين و بين ذلك الّذين يعتبر الدّين منفصلًا عن السّياسة، و أنّ السّياسة أمر غريب من الدّين، فإنّ ذلك و لا شكّ من إلقاءات الإستعمار و من الفكر المسيحي الغريب المستورد، كما هو ظاهرٌ.
و يمكننا أن نستفيد ممّا تقدم:
أ. ما تقدّمت الإشارة إليه، من أنّ مقابلة النّبيّ الأعظم (ص) للنّاس و التّحدّث معهم مباشرة، كان من شأنه أن يعطى النّاس الانطباع الحقيقي عن شخصيّة الرّسول الأكرم (ص) و حقيقة ما جاء به، و يدفع كلّ الدّعايات و الإشاعات الكاذبة و
ص: 138
المغرضة، الّتي كانت تبثّها قريش و أعوانها، ككونه ساحراً، أو كاهنا، أو شاعراً، أو مجنوناً، أو غير ذلك من تُرَّهات.(1) ب. إنّ ما جرى في قضيّة بني عامر لَيدلُّ دلالةً واضحة على أنّ عرضه (ص) دعوتَه على القبائل. قد أسهم في الدّعاية لهذا الدّين، و نشر صيته في مختلف الأنحاء و الأرجاء؛ فقد كان من الطّبيعي أن يتحدّث النّاس إذا رجعوا إلى بلادهم بما رأوه و سمعوه في سفرهم ذاك، و لم يكن ثَمّة خبر أكثر إثارة لهم من خبر ظهور هذا الدّين الجديد، و في مكّة بالذّات.
و ثَمّة خلاف بين المؤرّخين في مَن؟ و متى؟ و كيفيّة إسلام أوّل دفعة من أهل المدينة. و لكنّنا نستطيع أن نؤكّد على أنّ الإسلام قد دخل المدينة على مراحل؛ فأسلم أوّلًا؛ أسعدُ بن زرارة و ذَكوان بن عبد القيس، حينما كان المسلمون محصورين في الشّعب؛ ثمّ أسلم خمسةٌ، أو ثمانيةٌ، أو ستّة نفر بعد ذلك؛ ثمّ كانت بيعة العقبة الأولى؛ ثمّ كانت بيعة العقبة الثّانية. و هذا هو ما يظهر من مغلطاي و غيره.(2) فهم يقولون: إنّ أسعد بن زرارة و ذكوان بن عبدالقيس الخزرجَيّين قَدِ ما مكّة في أحد المواسم، حينما كانت قريش تحاصر الهاشميّين في الشّعب، بهدف طلب الحلف من عتبة بن ربيعة على الأوس.
فرفض عتبة ذلك و قال: بعدت دارنا عن داركم، و لنا شغل لا نتفرّغ لشى ءٍ. فسئله عن هذا الشّغل؛ فأخبره بخروج النّبيّ (ص) فيهم و أنّه أفسد شبابهم، و فرّق
ص: 139
جماعتهم؛ ثمّ حذّره من الاتّصال به، فإنّه ساحرٌ يسحره بكلامه.
و أمره إذا أراد الطّواف أن يضع القطن في أذنيه، حتّى لا يسمع ما يقوله النّبيّ (ص)، الّذي كان آنئذٍ يجلس في الحِجْر مع طائفة من بني هاشم.
و كانوا قد خرجوا من شعبهم ليشهدوا الموسم.
و جاء أسعد للطوّاف، و رأى النّبيّ (ص) جالساً في الحِجْر، فقال في نفسه: ما أجد أجهلَ منّي، أن يكون هذا الحديث في مكّه فلا أتعرّفه، حتّى أرجع إلى قومي، فأخبرهم. ثمّ أخذ القطن من أذنيه، فرمى به، و جاء إلى النّبيّ (ص)، فسلّم عليه و كلّمه، فعرض عليه (ص) ما جاء به، فأسلم و أسلم بعده ذكوان.
ثمّ في سنة إحدى عشرة من النّبوّة خرج النّبيّ (ص) في الموسم، يعرض على القبائل دعوته، و يطلب منهم نصرته؛ فالتقى على العَقَبة برهط من الخزرج؛ فدعاهم إلى الله و الإسلام، و قرأ عليهم القرآن؛ فآمنوا به، و كانوا ستّة نفروهم: أسعد بن زرارة، و جابر بن عبدالله بن رئاب، و عوف بن حارث، و رافع بن مالك، و عُقبة و قُطبة ابنا عامر.(1) و رجع أولئك النّفر إلى قومهم في المدينة، فذكروا لهم رسولَ الله (ص) و دعوهم إلى الاسلام.
ثم كانت بيعة العقبة الأولى في سنة اثنتي عشرة من البعثة، أي قبل الهجرةبسنة.(2) و نحن قبل أن نمضي في الحديث نشير إلى مايلي:
إنّ أهل المدينة، كانوا يسمعون من اليهود خبر ظهور النّبيّ (ص) عن قريب، و
ص: 140
إنّ ذلك قد جعلهم مهيّئين نفسيّاً بقبول الدّين الّذي جاء به هذا النّبيّ (ص)؛ ففي رواية: أنّه لمّا التقى النّبيّ (ص) بأسعد و ذكوان، قال أسعد للنّبي (ص):
و الله يا رسول الله، لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك و يبشّروننا بمخرجك، و يخبروننا بصفتك، و أرجو أن يكون دارنا دار هجرتك عندنا؛ فقد أعلَمَنا اليهود ذلك.
ثمّ أقبل ذكوان، فقال له أسعد، هذا رسول الله الّذي كانت اليهود تبشّرنا به، و تخبرنا بصفته، فهلّم فأسلم، فأسلم ذكوان.(1)
لقد كانت ثَمّة حروب هائلة بين الأوس و الخزرج، كانت آخرها وقعة بُعاث الّتي انتصرت فيها قبيلة الأوس، حينما كان الهاشميّون و النّبيّ (ص) محصورين في الشّعب.
لقد كان واضحاً: أنّهم كانوا يتطلّعون بشوق إلى الخروج من هذه الحالة المأساة، و يأملون في وصل الحبال المقطوعة فيما بينهم، كما عبّر عنه أسعد الّذي كان يعمل من أجل عقد حِلْفٍ مع عتبة بن ربيعة ضدّ الأوس حينما التقى هو و ذكوان بالنّبي (ص):
يا رسول الله، بأبي أنت و أمّي، أنا من أهل يثرب، من الخزرج، و بيننا و بين أخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، و لا أجد أعزّ منك، و معي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرنا فيك.(2)
إنّ تعاليم الإسلام لهي التّعاليم الموافقة للفطرة السّليمة، و بلا تعقيد، أو إبهام فيها؛ فهي بسيطة و سهلة، لا يحتاج إدراك حقّانيّتها إلى تفكير عميق، أو إجهاد
ص: 141
في فهم مراميها و التَّكَهُّن بنتائجها.
و لذلك نجد أهل المدينة يدركون بسرعة قدرة هذه الدّعوة على حلّ مشاكلهم، فيسارعون إلى قبولها بمجرّد سماعهم لأهدافها و مبادئها.
و من الواضح أنّ أهل المدينة كانوا لا يعانون من ظروف أهل مكّة، الّذين يحاربون الإسلام؛ لأنّهم يروا فيه خطراً على مصالحهم الشّخصيّة، و امتيازاتهم الظّالمة الّتي فرضوها لأنفسهم و أهوائهم و انحرافاتهم.
إنّ الوثنيّة الّتي كان أهل المدينة يدينون بها لم تستطع أن تحلّ مشاكلهم الدّاخليّة، على اختلافها، و لا حتّى أن تخفّف من حدّتها؛ كما أنّها لم تكن تجلب لهم امتيازات اجتماعيّة و لا اقتصادية و لا غيرها؛ و لذلك فقد ضعفت و وهنت، و زاد في ضعفها و وهنها مخالفتها للفطرة السّليمة و العقل القويم. ثمّ جاءت إخبارات اليهود لهم بقرب ظهور نبي يخبر عن الله لتزيد من ذلك الضّعف و الوهن إلى حدّ بعيد.
و هذا تماماً على عكس الحال في مشركي مكّة؛ فإنّهم كانوا يستفيدون من وثنيّتهم اجتماعيّاً و اقتصادياً و جعلوا من أنفسهم محوراً تلتقى عليه سائر الفئات و القبائل في المنطقة، و كرسوا لأنفسهم الكثير من الامتيازات الظّالمة، و لم يكونوا على استعدادٍ للتّخلّي عن هذه الامتيازات من أجل خدمة الحقّ و الإنسان، بل كانوا يضحون بالإنسان و الحقّ في سبيل امتيازاتهم و انحرافاتهم و مصالحهم تلك.
كلّ ذلك و سواه قد أسهم في إقبال أهل المدينة على الإسلام، و تقبّل دعوته و التّضحية في سبيله.
ص:142
ص: 143
ص:144
ص: 145
يقول المؤرّخون: إنّه حينما عاد أولئك النّفر المدنيّون الّذين أسلموا، إلى المدينة ذكروا لأهلها رسولَ الله (ص) و دعوهم إلى الإسلام، حتّى فشا فيهم، فلم يبق دارٌ من دور الأنصار إلّا و فيها ذكر من رسول الله (ص).
حتّى إذا كان العام المقبل (أي السّنة الثّانية عشرة من البعثة) وافَى الموسم اثنا عشر رجلًا؛ اثنان منهم أوسيان و الباقون من الخزرج؛ فالتقوا مع الرّسول (ص) في العقبة، و بايعوه على بيعة النّساء.(1) و لما رجعوا إلى المدينة أرسل النّبيّ (ص) معهم (مُصعب بن عمير) ليقرء هم القرآن، و يعلّمهم الإسلام، و يفقّههم في الدّين، فكان يسمّى المُقري.
و قد نَجَح مُصعب و من معه ممّن أسلم في الدّعوة إلى الله تعالى و أسلم سعد بن معاذ، الّذي كان السّبب في إسلام قومه بني عمير بن عبدالأشهل.
و أقام مصعب بن عمير يدعوا النّاس إلى الإسلام، حتّى أسلم الرّجال و النّساء من الأنصار باستثناء جماعة من الأوس، اتّبعوا في ذلك أحدَ زعمائهم، الّذي تأخّر
ص: 146
إسلامه إلى ما بعد هجرة الرّسول الأعظم. (ص).(1)
و نجد أنّ نصّ البيعة قد تضمّن الخطوط العريضة، و أهمّ المبادي الّتي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، و هي تتضمنّ جانباً عقائديّاً، و آخر عمليّاً، و قد حملهم (ص) مسئوليّات معيّنة في علاقاتهم مع بعضهم بعضاً؛ و جعل التزامهم هذا قائماً على إعطاء تعهّدٍ من قِبَلهم، يرون مخالفته تتنافى مع شرف الكلمة و قُد سيّتها؛ و ذلك تحت عنوان «البيعة» الّتي تعنى إعطاء كلمة الشّرف بالالتزام بتلك المبادي، ولكنّه لم يقرّر عقاباً عنيفاً لمن ينقض هذا العهد و يتجاوز و يغشّ فيه؛ فإنّ الوقت حينئذٍ لم يكن مناسباً لقرارٍ كهذا. بل أو كل ذلك إلى الوجدان و الضّمير الشّخصي لكلّ منهم، مع ربطه بالمبدأ العقيدي، و مع إعطاء الفرصة له للعودة لإصلاح الخطأ إن كان؛ حيث أبقى الأمل حيّاً لدى ذلك الّذي يمكن أن يغشّ و أوكل أمره إلى الله، إن شاء عذّب و إن شاء غفر.
و عاد مُصعب بن عمير من المدينة إلى مكّة، فعرض على النّبيّ (ص) نتائج عمله، فسرّ بذلك نبي الإسلام سروراً عظيماً.(2) و في موسم حجّ السّنة الثّالثة عشرة من البعثة أتى من أهل المدينة جماعة
ص: 147
كبير بقصد الحج، ربما تقدّر عِدّتهم بخمس مئة؛(1) فيهم المشركون، و فيهم المسلمون، المستخفّون من حُجّاج المشركين من قومهم تقيّة منهم.
و التقى بعض مسلميهم بالرّسول (ص) و وعدهم اللّقاء في العَقَبة في أواسط أيام التّشريق ليلًا، و أمرهم أن لا ينبّهوا نائماً و لا ينتظروا غائباً.(2) و في تلك اللّيلة بالذّات ناموا مع قومهم في رحالهم؛ حتّى إذا مضى ثلث اللّيل، بدؤوا يتسلّلون (3) إلى مكان الموعد، واحداً بعد الآخر، و لا يشعر بهم أحدٌ، حتّى اجتمعوا في الشّعب عند العقبة و هم سبعون، أو ثلاثة و سبعون رجلًا و امرأتان.
و التقوا بالرّسول (ص) هناك في الدّار الّتي كان (ص) نازلًا فيها و هي دار عبدالمطّلب، و كان معه حمزة و عليّ والعبّاس.(4) و بايعوه على أن يمنعوه و أهلَه ممّا يمنعون منه أنفسهم و أهليهم و أولادهم، و أن يُؤوُوهم و ينصروهم، و على السّمع و الطّاعة في النّشاط و الكسل، و النّفقة في العسر و اليسر، و على الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و أن يقولوا في الله، و لا يخافوا لومة لائمٍ، و تدين لهم العجم، و يكونون ملوكاً.(5)
ص: 148
و قد أدرك العبّاس بن نضلة خطورة الموقف، و لا سيّما من قوله (ص): «و تدين لكم العجم و تكونون ملوكاً» و أنّهم مقدمون على مواجهة و مقاومة، ليس فقط مشركي مكّة، أو الجزيرة العربيّة، و إنّما العالَم بأسره؛ فأحبّ أن يستوثق من الأمر و يفتح عيون المبايعين ليكونوا على بصيرة من أمرهم، حتّى لا يقولوا في يومٍ ما: لو كنّا نعلم أن الأمر ينتهي إلى هذا لم نقدم.
فقال لهم: يا معشر الأوس و الخزرج، تعلمون على ما تُقدمون عليه؟ إنّما تُقدمون على حرب الأحمر و الأبيض و على حرب ملوك الدّنيا؛ فإن علمتم أنّه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه و تركتموه، فلا تغرّوه؛ فإنّ رسول الله و إن كان قومه خالفوه فهو في عزّ و منعة.
فقال عبدالله بن حِزام والد جابر و أسعد بن زرارة و أبو الهيثم بن الَتّيّهان: مالَكَ و للكلام؟ يا رسول الله! بل دَمُنا بدمك و أنفسنا بنفسك، فاشترط لنفسك و لربّك ما شئت.(1) و يذكر المؤرّخون: أنّ العبّاس بن عبدالمطّلب قد حضر بيعة العقبة، و أنّه أراد أن يستوثق لابن أخيه، فبدأ بالكلام و قال:
يا معشر الخزرج! إنّ محمّداً منّا حيث قد علمتم، و قد منعناه من قومنا، ممّن هو على مثل رأينا، فهو في عزّ من قومه و منعة في بلده؛ و قد أبى إلّا الانحياز إليكم (2) و اللّحوق بكم؛ فإن كنتم ترون أنّكم وافون بما دعوتموه إليه، و ما نعوه ممّن خالفه، فأنتم و ما تحمّلتم من ذلك؛ و إن كنتم ترون أنّكم مسلّموه و خاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنّه في عزّ و مَنَعَة من قومه و بلده.(3)
ص: 149
و بعد أن استمع إلى إجابتهم طلب (ص) منهم: أن يخرجوا له اثني عشر نقيباً؛(1) فأخرجوا له تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس، فكانوا نقباءَ و كفلاءَ قومِهم. و عرفت قريش بالاجتماع، فهاجت، و أقبلوا بالسّلاح، و سمع الرّسول (ص) النّداء، فَأمر الأنصار بالتّفرق، فقالوا: يا رسول الله، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا، فعلنا. فقال (ص): لم أؤمَر بذلك، و لم يأذن الله لي في محاربتهم؛ فقالوا: يا رسول الله، فتخرج معنا؟ قال: أنتظر أمر الله.
فجاءت قريش على بكرة أبيها، قد حملوا السّلاح، و خرج حمزة، و معه السّيف، هو و علي بن أبي طالب (ع). فلمّا نظروا إلى حمزة قالوا: ما هذا الّذي اجتمعتم له؟
فعمل حمزة بالتّقية من أجل الحفاظ على النّبيّ (ص) و المسلمين و الإسلام، فقال: ما اجتمعنا، و ما ههنا أحدٌ، والله لا يجوز أحدٌ هذه العقبة إلّا ضربته بسيفي، فرجعوا.
ولكن قريشاً قد تأكّدت بعد ذلك من صحّة الخبر؛ فخرجت في طلب الأنصار، فأدركوا سعد بن عبادة و المنذر بن عمير؛ فأمّا المنذر فأعجزهم، و أما سعد، فأخذوه و عذّبوه. فبلغ خبره جبير بن مطعم و الحارث بن حرب بن أميّة، فأتياه و خلّصاه؛ لأنّه كان يجير لهما تجارتهما، و يمنع الناس من التّعدي عليهما.(2)
ص: 150
و كانت بيعة العقبة الثّانية قبل هجرة الرّسول (ص) إلى المدينة بثلاثة أشهر.(1)
لماذا النقباء؟!
إنّ من طبيعة العربي الالتزام بالعهد، و الوفاء بالذّمار، و تعتبر كلّ قبيلة: أنّها مسؤولة عن الوفاء بما يلتزم به أحد أفرادها، أو حلفائها عليها.
و عندما بايع الأنصار النّبيّ (ص) على الإيمان والنّصرة، أراد أن يُلزمهم ذلك بشكل مُحدّد، بحيث يستطيع أن يجد في المستقبل مَن يطالبه بالوفاء بالالتزامات و العهود، و كان أولئك النّقباء هم الّذين يتحمّلون مسؤوليّة الوفاء بتلك الالتزامات؛ و هم الّذين يمكن مطالبتهم بذلك؛ لأنّهم هم الكفلاء لقومهم، برضى منهم و من قومهم على حدّ سواء.
أمّا إذا ترك الأمور في مجاريها العامّة، فلربّما يمكن لكلّ فرد أن يتملّص (2) و يتخلّص من التزاماته، و يلقى التّبعة على غيره و يعتبر أنّ ذلك غير مطلوب منه، و لا يمكن بحسب تصوّره أن يكون هو كفردٍ مسؤولًا عنه؛ و أمّا بعد أن التزم ذلك أفراد معيّنون، كلّ واحد منهم من قبيلة، فإنّ المسؤوليّة قد أصبحت مُحَدَّدةً، و يمكن مطالبتهم بالوفاء بالتزاماتهم، كلّما دعت الحاجة إلى ذلك، لا سيّما في مواقف الحرب و الدّفاع.
ص: 151
ص:152
ص: 153
يقول المؤرّخون: إنّه بعد أن عقد النّبيّ (ص) بيعة العقبة الأولى على الظّاهر مع أهل المدينة و لم يقدر أصحابه أن يقيموا بمكّة بسبب إيذاء المشركين، رخّص لهم بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالًا،(1) و بقي (ص) بمكّة ينتظر أن يؤذن له.
و جدير بالتّسجيل هنا أن نشير إلى دوافع الهجرة من مكّة إلى المدينة بمايلي:
أوّلًا: إنّ مكّة لم تعد أرضاً صالحة للدّعوة، فقد حصل النّبيّ (ص) منها على أقصى ما يمكن الحصول عليه، و لم يبق بعد أي عمل في دخول فئات جديدة في الدّين الجديد، في المستقبل القريب على الأقلّ، و قد كان ثَمّة مبرّر لتحمّل الأذى و المصاعب، حينما كان يؤمّل أن تدخل في الإسلام جماعات تقويه و تشدّ من أزره.
أمّا بعد أن أعطت مكّة كلّ مالديها، فأخرجت جماعات من شبّان المؤمنين و من المستضعفين، و لم يبق فيها إلّا ما يوجب الصدّ عن سبيل الله، فإنّ البقاء في مكّة ليس فقط لا مبرّر له، بل هو خيانة للدّعوة الإسلاميّة و مساعدة على حربها و القضاء عليها، و لا سيّما بعد أن جَنَّدت (2) قريش كلّ طاقاتها للصدّ عن سبيل الله و إطفاء نوره، و يأبى الله إلّا أن يتمّ نوره و لو كره المشركون.
نعم، لقد كان لابدّ من الانتقال إلى مركز آخر تَضْمَن الدّعوة فيه لنفسها حرّيّة
ص: 154
الحركة في القول و العمل بإطمئنان خاطر، بعيداً عن ضغوط(1) المشركين و في منأي عن مناطق سيطرتهم و نفوذهم.
و لقد رأينا أنّهم كانوا يلاحقون تحرّكات النّبيّ (ص) و يرصدونها بدقّة، و يتهدّدون، بل و يعذّبون كلّ من يدخل في هذا الدّين الجديد، و يُخيفون كلّ من يحتمل دخولهم فيه.
ثانياً؛ إنّ الإسلام و ممثّله و داعيته الرّسول الأعظم (ص) لا يمكن له أن يقتنع بهذا النّصيب المحدود من التّقدّم؛ لأنّ دينه دين البشريّة جمعاء: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ»(2).
و ما حصل عليه حتّى الآن لا يمكّنه من تطبيق تشريعات الإسلام كافّة، و تحقيق كامل أهدافه، و لا سيّما بالنّسبة إلى ذلك الجانب، الّذي يعالج مشاكل النّاس الاجتماعيّة و غيرها ممّا يحتاج إلى القوّة و المنعة في مجال فرض القانون و النّظام.
ثالثاً؛ و لقد صمد أولئك الّذين أسلموا سنوات طويلة في مواجهة التّعذيب و الظّلم و الاضطهاد، حتّى لقد فرّ قسم منهم بدينه إلى بلاد الغربة، و بقي الباقون يواجهون محاولات فتنتهم عن دينهم بمختلف وسائل القهر تارة و بأساليب متنوّعة من الإغراء أخرى.
و إذا استثنينا أشخاصاً معدودين، كحمزة، أسد الله و أسد رسوله، و بعض من كانت لهم عشائر تمنعهم (3)، فإنّ بقيّة المسلمين كانوا غالباً من ضعفاء النّاس، الّذين لا يستطيعون حيلةً، و لا يجدون سبيلًا إلّا الصّبر و تحمّل الأذى.
ص: 155
و إذا فرض عليهم أن يستمرّوا في مواجهة هذه الآلام و المشاقّ، دو نما أملٍ أو رجاءٍ، فمهما كانت قناعتهم بهذا الدّين قويّةً و راسخةً؛ فإنّ من الطّبيعي و الحالة هذه أن يتطرّق اليأس إلى نفوسهم، ثمّ الهروب و الملل من حياة كهذه.
رابعاً؛ لقد رأت قريش أخيراً أنّها قد اهتدت للطّريقة الّتي تستطيع بواسطتها أن تقتل النّبيّ (ص) دون أن تكون مسؤولةً أَمام الهاشميين بشكل مُحدّد، أو بالأخرى، دون أن يستطيع الهاشميوّن أن يطالبوا بدم النّبيّ (ص) و ذلك بأن يقتله عشرة، كلّ واحد منهم من قبيلة، فيضيع دمه في القبائل، و لا يستطيع الهاشميوّن مقاومتها جميعاً، لأنّهم إمّا أن يقاتل القبائل كلّها، و تكون الدّائرة عليهم، و إمّا يقبلوا بالدّية، و هو الأرجح.
و إذا قُتل النّبيّ (ص) فإنّ القضاء على غيره من أتباعه يكون أسهل و أيسر؛ بل و حتّى لو تركوهم على ما هم عليه، فإنّ أمرهم لسوف يصير إلى التّلاشي و الاضمحلال. و بعد كلّ ما تقدم يتضّح: أنّه كان لابدّ للنّبي الأعظم (ص) و لمن معه من المسلمين من الخروج من مكّة إلى مكان أمن و سلام، لا يشعرون فيه بأي ضغط، يملكون فيه حريّة الحركة و حريّة التخطيط لبناء مجتمع إسلامي يكون فيه النّبيّ (ص) قادراً على القيام بنشر دعوته و إبلاغ رسالته على النّحو الأفضل و الأكمل.
و أمّا عن سرّ اختيار النّبيّ (ص) للمدينة بالذّات داراً لهجرته، و منطلقاً لدعوته دون غيرها كالحبشة مثلًا فذلك يرجع إلى عدّة عوامل، نذكر منها مايلي:
1. إنّ مكّة كانت تتمتّع بمكانة خاصّة في نفوس النّاس و بدون السّيطرة عليها و القضاء على نفوذها الوثني، و استبداله بالنّفوذ الإسلامي، فانّ الدعوة كانت بحاجة إلى مكّة بنفس القدر الّذي كانت مكّة بحاجة فيه إلى الدّعوة.
ص: 156
فلابدّ من اختيار مكان قريب منها، يمكن أن يمارس منه عليها رقابة و نوعاً من الضّغط السّياسي و الاقتصادي، و حتّى العسكري، إن لزم الأمر في الوقت المناسب، حينما لابدّ له من أن يفرض سلطته عليها.
و المدينة، هي ذلك الموقع الّذي تتوفّر فيه مقوّمات هذا الضّغط، فهي تستطيع مضايقة مكّة اقتصاديّاً، لوقوعها على طريق القوافل التّجاريّة المكيّة، و قريش تعيش على التّجارة بالدرجة الأولى.
كما أنّ ذلك يهيّى ء للنّبي (ص) الفرصة لعرض دعوته على القوافل الّتي تتجّه من بلاد الشّام و الأردن و فلسطين و غيرها إلى مكّة، و التّمهيد لإفشال كثير من الدّعايات الّتي يمكن للمكّيين أن يطلقوها ضدّ الإسلام و أهله.
2. إنّ الهجرة إلى المدينة هي الحلّ المفروض، الّذي لاخيار معه؛ و ذلك لأنّ الهجرة إلى الطّائف لم تكن بالّتي تجدي نفعاً، بعد أن رأينا: أنّ أهلها رفضوا الاستجابة إلى النّبيّ (ص) حينما هاجر إليهم.
و أمّا اليمن، و فارس، و الرّوم، و بلاد الشّام و غيرها، فقد كانت خاضعة لسلطة الدّولتين العظيمتين، اللّتين لن يكون نصيب الرّسول والرّسالة منهما سوى المتاعب و الأخطار الجسيمة، و لسوف نرى أنّ كسرى قد حاول أن يقوم بعمليّة خطيرةٍ تجاه الرّسول و رسالته حينما أرسل إليه (ص) يدعوه إلى الإسلام.
و امّا الحبشة فهي بحكم موقعها الجغرافي مفصولة عن مكّة؛ كما أنّها بحكم واقعها الاجتماعي، و السياسي، و البشري، و العنصري، و بحكم كونها بلداً أفريقيّاً، فإنّها ليست بلداً قادراً على أن يقود عمليّة التغيير العالميّة الشّاملة، لا اقتصادياً، و لا سياسيّاً، و لا عسكريّاَ، و لا حتّى فكريّاً و اجتماعيّاً.
3. إنّ أهل المدينة أنفسهم قد طلبوا ذلك من النّبيّ (ص) و بايعوه بيعة العقبة، و وعدوه النّصر؛ و النّبيّ (ص) إنّما يتصرّف وفق الإرادة الإلهيّة الّتي لاتغيب عنها تلك المصالح و سواها؛ فالله هو الّذي يرعاه و يسدّده.
و هكذا يتّضح: أنّه ليس ثَمّة إلّا المدينة، و المدينة فقط، موقعاً مناسباً للهجرة، فكانت الهجرة إليها.
ص:157
ص:158
ص:159
ص:160
ص: 161
و اجتمع أشراف قريش في دار النّدوة(1) و لم يتخلّف منهم أحدٌ من بني عبد شمس، و نوفل، و عبد الدّار، و جمح، و سهم، و أسد، و مخزوم و غيرهم، و شرطوا أن لا يدخل معهم تهامّي؛ لأنّ هواهم كان مع محمّد (ص).(2) كما أنّهم قد حرصوا على أن لا يكون عليهم من الهاشميّين، أو مَن يتّصل بهم عين أو رقيبٌ.(3) و تذكر الرّوايات: أنّ إبليس قد دخل معهم بصفة شيخ نجدي؛(4) و تشاوروا فيما بينهم مايصنعون بمحمّدٍ؟ فذكروا الحبس في الحديد؛ فرأوا أنّ من الممكن أن يتّصل بأنصاره و يطلقوا سراحه؛ و ذكروا النّفي إلى بعض البلاد؛ فرأوا أنّ ذلك يمكّن الرّسول من نشر دينه؛ فاستقرّ رأيهم أخيراً على اقتراح أبي جهل، أو إبليس
ص: 162
بأن يأخذوا من كلّ قبيلة شابّاً جَلَداً(1) قويّاً، حسيباً في قومه، نسيباً و سيطاً،(2) و يعطى كلّ منهم سيفاً صارماً، و يدخلوا على النّبيّ (ص) بأسيافهم، فيضربونه ضربة رجلٍ واحد، فيقتلونه و يتفرّق دمه في القبائل؛ لأنّ بني عبد مناف لا يقدرون على حرب قومهم جميعاً، فيضطرّون إلى القبول بالدّية، فيعطونهم إيّاها، و ينتهى الأمر.
و لكنّه قد أخبر الله تعالى نبيّه بهذه المؤامرة عن طريق الوحي: «وَ إِذْ يمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيثْبِتُوكَ أَوْ يقْتُلُوكَ أَوْ يخْرِجُوكَ وَ يمْكُرُونَ وَ يمْكُرُ اللَّهُ (3) وَ اللَّهُ خَيرُ الْماكِرِينَ»(4).
إنّ أولئك القوم الّذين انتدبتهم قريش من قبائلها العشر، أو الخمس عشرة، اجتمعوا على باب النّبيّ (ص) و هو باب عبدالمطّلب على ما في بعض الرّوايات (5)- يرصدونه، يريدون بياته، و كانوا عشرة، أو خمسة عشر رجلًا، بل أكثر على اختلاف النّقل، بل قيل: إنّهم كانوا مئة رجلٍ.(6) فأمر (ص) أميرالمؤمنين، عليّاً (ع) بالمبيت على فراشه، بعد أن أخبره بمكر
ص: 163
قريش، فقال علي (ع): أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم. فتبسّم علي (ع) ضاحكاً و أهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً لله، فنام على فراش النّبيّ (ص)، و اشتمل ببُرده الحضرمي. ثمّ خرج النّبيّ في فحمة العشاء،(1) و الرّصد من قريش قد أطافوا بداره ينتظرون، و هو يقرأ هذه الآية: «وَ جَعَلْنا مِنْ بَينِ أَيدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيناهُمْ فَهُمْ لا يبْصِرُونَ»(2).
و كان بيده قبضة من تراب فرمى بها في رؤوسهم و مَرَّمِن بينهم، فما شعروا به،(3) و أخذ طريقه إلى غار ثور؛(4) فلقى أبابكر في الطّريق، و كان أبوبكر قد خرج ليتنسّم الأخبار، و ربّما يكون استصحبه معه، لكي لا يَسْئله سائل إن كان قد رأى رسولَ الله (ص)، فيقرّ لهم بأنّه رآه، ثمّ يدلّهم على الطّريق الّتي سلكها خوفاً من أن يتعرّض لأذاهم، أو خطأ، أو لأي داع آخر.
و ذكر الرّاوندي: «أنّه (ص) مشى و هم لا يرونه، فرأى أبابكر قد خرج في اللّيل يتجسّس من خبره، و قد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم، فأخرجه معه إلى الغار».(5)
ص: 164
قالوا: و جعل المشركون يرمون عليّاً (ع) بالحجارة كما كانوا يرمون رسولَ الله (ص) و هو يتضوّر(1)، و قد لفّ رأسه في الثّوب لا يخرجه حتّى أصبح، فهجموا عليه، فلمّا بصر بهم على قد انتضوا السّيوف (2) و أقبلوا عليه، يقدمهم خالد بن وليد، وثب له علي (ع) فختله،(3) و همز يده (4)، فجعل خالد يقمص قِماص البَكر(5)، و يَرغوا رغاء الجمل،(6) و أخذ من يده السّيف، و شدّ عليهم بسيف خالد، فأجفلوا أمامه إجفال النّعم (7) إلى خارج الدّار، و تبصّروه، فإذاً علي (ع).
قالوا: و إنّك لعلىّ؟
قال: أنا علي.
قالوا: فإنّا لم نردك؛ فما فعل صاحبك؟
قال: لا علم لي به.(8) فكان من الطّبيعي أن يتراجعوا عنه، و أن يسرعوا إلى قومهم لإخبارهم بما جرى ليتدبّروا الأمر قبل فوات الأوان.
فَأَذَكَتْ (9) قريش العيونَ و ركبوا في طلب النّبيّ (ص) الصّعب و الذّلول، و اقتفوا
ص: 165
أثره، حتّى وصل القائف (1) إلى نقطة لحوق أبي بكر به، فأخبرهم أنّ من يطلبوه صار معه هنا رجل آخر.
و استمرّوا يقتفون الأثر، حتّى وصلوا إلى باب الغار، الّذي كان مغطّى بأغصان الشّجرة، فصرفهم الله عنه، حيث كانت العنكبوت قد نسجت على باب الغار و باضت في مدخله حمامة و حشيّة، كما يذكرون؛ فاستدلّوا من ذلك من أنّ الغار مهجورٌ، لم يدخله أحد و إلّا لتخرّق النّسج و تكسّر البيض، و لم تستقرّ الحمامة الوحشيّة على بابه.
و أمهل أميرالمؤمنين (ع) إلى اللّيلة القادمة، فانطلق تحت جنح الظّلام، هو و هند بن أبي هالة حتّى دخلا الغار على رسول الله (ص) فأمر الرّسول هنداً أن يبتاع له و لصاحبه بعيرين. فقال أبوبكر: قد كنت أعددت لي و لك يا نبي الله راحلتين ترتحلهما إلى يثرب. فقال: إنّي لا آخذهما، و لا أحدهما إلّا بالثّمن. قال فهي لك بذلك. فأمر عليّاً (ع) فأقبضه الثّمن.(2) ثمّ أوصاه بحفظ ذمّته و أداء أماناته و كانت قريش و من يقدم مكّة من العرب في الموسم يستودعون النّبيّ (ص) و يستحفظونه أموالهم و أمتعتهم و أمره أن ينادي صارخاً بالأبطح غُدوةً و عشيّاً: «من كان له قِبَل محمدٍ أمانة فليأت، فلنؤدّ إليه أمانته». ثمّ استخلفه على ابنته فاطمة (ع) و قال: إنّي مستخلفك على فاطمة ابنتي و مستخلف ربّي عليكما و مستحفظه فيكما.
ص: 166
و بعد أن أقام (ص) في الغار ثلاثا، انطلق يؤمّ المدينة.(1)
قد ورد: أنّ الله تعالى أوحى إلى جبرائيل و ميكائيل: إنّي أخيت بينكما و جعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة. فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه و بين محمّد (ص) فبات على فراشه يفديه بنفسه، و يؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه. فنزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، و ميكائيل عند رجله، و جبرائيل ينادي: بخٍّ بخٍ من مثلك يابن أبي طالب، يباهي الله به الملائكة. فأنزل الله عزّوجلّ: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ(2)»(3).
قال الإسكافي: و قد روي المفسّرون كلّهم: أنّ الآية نزلت في علي (ع) ليلة المبيت على الفراش.(4)
ص: 167
ص:168
ص: 169
عن أبي عبدالله (ع): إنّ رسول الله (ص) لمّا خرج من الغار متوجّهاً إلى المدينة. و قد كانت قريش جعلت لمن أخذه مئة من الإبل، خرج سراقة بن جُشْعُم (1) فيمن يطلب، فلحق رسول الله، فقال (ص): أللّهم اكفني سراقة بما شئت؛ فساخت قوائم فرسه، فثنى رجله ثم اشتدّ. فقال: يا محمّد، إني علمت أنّ الّذي أصاب قوائم فرسي إنّما هو من قِبَلِك، فادع الله أن يُطلق إلى فرسي، فلعمري إن لم يصبكم خير منّي لم يصبكم منّي شرٌّ.
فدعا رسولُ الله (ص) فأطلق الله عزّوجلّ فرسه؛ فعاد في طلب رسول الله، حتّى فعل ذلك ثلاث مرّات؛ فلمّا أطلقت قوائم فرسه في الثّالثة، قال: يا محمّد، هذه إبلي بين يديك، فيها غلامي؛ فإن احتجت إلى ظهر أو لبن فخذ منه؛ و هذا سهم من كنانتي علامةٌ و أنا أرجع فأردّ عنك الطّلب. فقال (ص): لا حاجة لي فيما عندك.(2) و سار (ص) حتّى بلغ خيمة أمّ معبد، فنزل بها و طلبوا عندها قرى، فقالت: ما يحضرني شى ءٌ، فنظر رسول الله (ص) إلى شاةٍ في ناحيةٍ قد تخلّفت من الغنم لضرّها، فقال: أتأذنين في حلبها؟ قالت: نعم، لا خير فيها.
فمسح يده على ظهرها، فصارت من أسمن ما يكون من الغنم، ثم مسح يده
ص: 170
على ضرعها، فأرخت ضرعاً عجيباً، و درت لبناً كثيراً، فطلب (ص) العس و حلب لهم فشربوا جميعاً حتّى رووا ....(1)
و ليس ذلك كلّه بكثير على النّبيّ الأعظم (ص) و كراماته الظّاهرة، و معجزاته الباهرة، فهو أشرف الخلق و أكرمهم على الله من الأوّلين و الآخرين إلى يوم الدّين.
و استمرّ (ص) في هجرته المباركة حتّى قرب من المدينة، فنزل بادئ ذي بدء في قُباء في بيت عمرو بن عوف، فأراده أبوبكر على دخول المدينة، و ألاصَه،(2) فأبى، و قال: ما أنا بداخلها حتّى يقدم ابن أمّي و أخي، و ابنتي، يعني عليّاً و فاطمة (ع).(3) فلمّا أمسى فارقه أبوبكر و دخل المدينة، و نزل على بعض الأنصار، و بقي رسول الله (ص) بقباء نازلًا على كلثوم بن الهِدْم (4) ينتظر أميرالمؤمنين (ع).
ثمّ كتب إلى أخيه علي (ع) كتاباً يأمره بالمسير إليه و قلّة التلوّم (5) و أرسل الكتاب مع أبي واقد اللّيثي. فلمّا أتاه كتاب النّبيّ (ص) تهيّأ للخروج و الهجرة، فأعلم من كان معه من ضعفاء المؤمنين و أمرهم أن يتسلّلوا و يَتَخَفُّوا(6) تحت جنح اللّيل إلى ذي طوى؛ و خرج بفاطمة، بنت الرّسول، و أمّه فاطمة بنت أسد، و فاطمة، بنت
ص: 171
الزّبير بن عبدالمطّلب و تبعهم أيمن ابن أمّ أيمن مولى رسول الله و أبو واقد، فجعل يسوق بالرّواحل، فأعنف بهم، فأمره (ع) بالرّفق فاعتذر بخوفه من الطّلب ....
و لمّا بلغ النّبيّ (ص) قدوم علي (ع)، قال: ادعوا لي عليّاً. قيل: يا رسول الله لا يقدر أن يمشي. فأتاه بنفسه، فلمّا رآه اعتنقه و بكى رحمة لما بقدميه من الورم و كانت تقطران دماً، فتفل النّبيّ (ص) في يديه و مسح بهما رجليه و دعاله بالعافيةِ، فلم يعد يشتكي منهما حتّى استشهد.
ثم قال لعلي: «يا علي، أنت أوّل هذه الأمّة إيماناً بالله و رسوله، و أوّلهم هجرةً إلى الله و رسوله، و آخرهم عهداً برسوله؛ لا يحبّك و الّذي نفسي بيده إلّا مؤمن قد امتحن قلبه للايمان و لا يبغضك إلّا منافق أو كافر».(1) و كان نزول علي (ع) بقباء في النّصف من ربيع الاول (2)و كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين.(3)
و خلال إقامته (ص) في قباء أسّس مسجد قباء المعروف، و يبدوا أنّ صاحب الفكرة، و المباشر أوّلًا في وضع المسجد هو عمّار بن ياسر.(4) و مسجد قباء هو المسجد الّذي نزل فيه قوله تعالى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
ص: 172
التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ...»(1).
و هو أوّل مسجدٍ بني في الإسلام، كما صرّح به ابن الجوزي و غيره،(2) و الظّاهر أنّ تأسيسه كان بعد قدوم أميرالمؤمنين (ع)؛ إذ قد ورد: أنّه (ص) قد أمر أبابكر بأن يركب النّاقة و يسير بها ليخطّ المسجد على ما تدور عليه، فلم تنبعث به؛ فأمر عمر، فكذلك؛ فأمر عليّاً (ع) فانبعثت به، ودارت به، فأسّس المسجد على حسب ما دارت عليه، و قال (ص): إنّها مأمورة.(3)
ص: 173
ص:174
ص: 175
بعد خمسة عشر يوماً(1) من إقامته (ص) في قُباء تحرّك إلى داخل المدينة، و قد اختلف المؤرّخون في التّاريخ الدّقيق لخروجه (ص) من مكّة و دخوله قباء ثمّ المدينة اختلافاً كثيراً، مع اتّفاقهم على أنّه قد دخلها في أوائل ربيع الاول.(2) و قد حقّق العلّامة المجلسي: أنّ هجرته كانت في يوم الإثنين أوّل ربيع الأوّل، و وروده المدينة في يوم الجمعة الثّاني عشر منه، كما ذهب إليه المفيد، و ادّعى البعض الإجماع عليه.(3) و في يوم الجمعة ركب راحلته و توجّه إلى المدينة و صلّى الجمعة و هو في طريقه إلى المدينة.(4) و لا يمرّ ببطن من بطون الأنصار إلّا قاموا إليه يسئلونه أن ينزل عليهم، فيقول: خلّوا سبيل النّاقة فإنّها مأمورة.
فانطلقت به و رسول الله (ص) واضع لها زمامها حتّى انتهت إلى موضع مسجد
ص: 176
النّبيّ (ص)، فوقفت هناك، و بركت، و وضعت جِرانها(1) على الأرض، و ذلك بالقرب من باب أبي أيّوب الأنصاري، أفقر رجل بالمدينة.(2) فأدخل أبو أيّوب أو أمّه الرّحلَ إلى منزلهم، و نزل (ص) عنده و علي (ع) معه، لا يفارقه، حتّى بنى مسجده و منازله.(3)
فقيل: مكث عند أبي أيّوب سنة تقريباً، و قيل سبعة أشهر.(4) أمّا سائر المهاجرين، فقد تنافس فيهم الأنصار، حتّى اقترعوا فيهم بالسُّهمان،(5) فما نزل أحد من المهاجرين إلى أحد من الأنصار إلّا بقرعة بينهم.(6)
فور وصوله (ص) إلى المدينة باشر بالقيام بأعمال تأسيسّية ترتبط بمستقبل الدّعوة الإسلاميه و هي كثيرة متنوّعة، و لكنّنا نكتفي هنا بالإشارة إلى مايلي:
و اشترى النّبيّ (ص) أو وهب له موضع المسجد، الّذي يقال: إنّه كان مربداً(7) ليتيمين من الخزرج، بعشرة دنانير على ما قيل-.
فأسّس المسجد في ذلك الموضع، و نقلوا إليه الحجارة من منطقة الحَرَّة، و
ص: 177
شارك (ص) بنفسه في نقلها؛ الأمر الّذي دفع الصّحابة إلى الدّأب في العمل و الجدّ فيه، حتّى قال قائلهم:
لئن قعدنا و النّبيّ يعمل لذاك منا العمل المضلّل
و ارتجز المسلمون و هم يبنونه، يقولون:
أللّهم إنّ الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار و المهاجرة(1) و جعل طوله مئة ذراع في مثلها، أو قريباً من ذلك. و قيل: جعله سبعين في ستّين.(2) و ابتني (ص) مساكنه، و كذا الأصحاب مساكنهم حول المسجد، و كلّ قد شرع له إلى المسجد باباً، و قد سُدّت الأبواب كلّها فيما بعد، سوى باب أميرالمؤمنين (ع).
إنّ من الملاحظ، أنّ أوّل عملٍ بدأ به (ص) في المدينة هو بناء المسجد، و هو عمل له دلالته و أهميّته البالغة؛ و ذلك لأنّ المسلمين كانوا فئتين: مهاجرين و أنصاراً، و تختلف ظروف كلّ من الفئتين و أوضاعها النفسيّة و المعنويّة و المعيشيّة و غير ذلك عن الفئة الأخرى.
و المهاجرون أيضاً كانوا من قبائل شتّى، و مستويات مختلفة؛ فكريّاً و اجتماعيّاً، ماديّاً و معنويّاً، كما و يختلفون في مشاعرهم و في علاقاتهم، ثمّ في نظرة النّاس إليهم، و مواقفهم منهم و تعاملهم معهم إلى غير ذلك من وجوه التّباين و الاختلاف و قد ترك الجميع أوطانهم و أصبحوا بلا أموالٍ و بلا مسكن، و كذلك الأنصار؛ فإنّهم أيضا كانوا فئتين متنافستين، لم تزل الحرب بينهما قائمة على
ص: 178
ساق (1) إلى عهدٍ قريب.
و قد أراد الإسلام أن يَنْصَهِر(2) الجميع في بوتقة(3) الإسلام ليصبحوا كالجسد الواحد في توادّهم و في تراحمهم و تعاونهم، و أن تتوحّد جهودهم و أهدافهم و حركتهم و مواقفهم؛ الأمر الّذي يؤكّد الحاجة إلى إعداد و تربية نفسيّة و خُلقيّة و فكريّة لكلّ هذه الفئات، لتستطيع أن تتعايش مع بعضها البعض، و لتكون في مستوى المسؤوليّة الّتي يؤهلّها لها في عمليّة بناء للمجتمع الّذي له ربّ واحد و هدف و مصير واحد.
و ليصبح هذا المجتمع قادراً على تحمّل مسؤوليّة حماية الرّسالة و الدّفاع عنها، حينما يفرض عليه أن يواجه تحدّي اليهود في المدينة، و العرب و المشركين، بل و العالم بأسره، لابدّ أن تنصهر كلّ الطّاقات و القدرات الفكريّة و الماديّة لهذا المجتمع في سبيل خدمة الهدف: الرّسالة فقط.
و المسجد هو الّذي يمكن فيه تحقيق كلّ ذلك؛ إذ لم يكن مجرّد محلّ للعبادة فقط و لا غير؛ بل كان هو الوسيلة الفضلى للتّثقيف الفكري، إن لم نقل: إنّه لا يزال حتّى الآن أفضل وسيلة لوحدة الثّقافة و الفكر و الرّأي، حينما يفترض فيها أن تكون من مصدر واحد، و تخدم هدفاً واحداً في جميع مراحل الحياة، مع الشّعور بالقدسيّة و الارتباط بالله تعالى.
و هو من الجهة الأخرى وسيلة لشيوع الصّداقات (4) و بثّ روح المحبّة و المودّة بين المسلمين؛ فإنّه حينما يلتقي المسلمون ببعضهم البعض عِدّة مرّات يوميّاً في جوّ من الشّعور عملًا بالمساواة و العدل، و حينما تتساقط كلّ فوارق الجاه و المال و غيرها و يبتعد شبح الأنانيّة و الغرور عن أفق هذا الإنسان، فانّه لابدّ أن
ص: 179
تترسّخ حينئذٍ فيما بين هذا المجتمع أواصر(1) المحبّة و التّآخي و التآلّف و يشعر كلّ من أفراده بأنّه في مجتمع يبادله الحبّ و الحَنان،(2) و أنّ له إخواناً يهتّمون به، و يعيشون قضاياه و مشاكله و يمكنه أن يستند إليهم و يعتمد عليهم.
والمسجد هو أجلى و أفضل موضع لتبسيط العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، و تقليل مشاكل التّعامل الرّسمي، و التكلّفات البغيضة، الّتي توحى بوجود فوارق و مميّزات، بل و حدود تفصّل هذا عن ذاك و بالعكس.
و الخلاصة: لقد كان المسجد موضع عبادة و تعلّم و تفهّم لما يفيد في أمور الدّين و الدّنيا، و تربية نفسيّة و خُلقية، و محلّاً للبحث في كلّ المشاكل الّتي تهمّ الفرد و المجتمع، و مكاناً مناسباً للتّعارف و التّآلف بين المسلمين، و مركزاً للقيادة و الرّيادة؛ ففيه كان (ص) يستقبل الوفود، و يبتّ (3) في أمور الحرب و السّلم، و يفصل الخصومات، و فيه كان يتمّ البحث عن كلّ ما يهمّ الدّولة و شؤونها، و النّاس و معاملاتهم و ارتباطاتهم؛ و فيه كان يجد الضّعيف قوّته، و المهموم المغموم سلوته (4) و الّذي لا عشيرة له ينسى بل يجد فيه عشيرته، والمحروم من العطف و الحَنان بُغيَتَه.
و بعد خمسة أو ثمانية أشهر أو أقلّ أو أكثر(5)- من مقدمه (ص) المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار على الحقّ و المواساة، و كان المسلمون حين المؤاخاة على ما يقولون تسعين رجلًا، منهم خمسة و أربعون رجلًا من
ص: 180
الأنصار، و مثلهم من المهاجرين. و يدّعى ابن الجوزي: أنّه أحصاهم فكانوا جميعاً ستّة و ثمانين رجلا. و قيلَ: مئة رجل.(1) و لربّما يكون هذا هو العدد الّذي وقعت المؤاخاة بين أفراده حسبما توفّر من عدد المهاجرين، لا أنّ عدد المسلمين كان هو ذلك، و إلّا فإنّها تكون صُدفةً نادرة أن يكون عدد من أسلم من المهاجرين مساوياً لعدد من أسلم من الأنصار بلا زيادة و لا نقيصةٍ!!
و لقد كان (ص) يؤاخي بين الرّجل و نظيره، كما يظهر من ملاحظة المؤاخاة قبل الهجرة و بعدها؛ فقد آخى قبل الهجرة على الظّاهر بين أبي بكر و عمر، و بين طلحة و زبير، و بين عثمان و عبدالرّحمان بن عوف و بين نفسه و علي (ع).(2) و في المدينة آخى بين أبي بكر و خارجة بن زهير، و بين عمر و عتبان بن مالك، و بين حمزة و زيد بن حارثة، و بين جعفر بن أبي طالب و معاذ بن جبل،(3) و هكذا ...
وروي أحمد بن حنبل و غيره: أنّه (ص) آخى بين النّاس و ترك عليّاً حتّى
ص: 181
الأخير، حتّى لا يرى له أخاً؛ فقال: يا رسول الله، آخيت بين أصحابك و تركتنى؟ فقال: إنّما تركتك لنفسي؛ أنت أخي، و أنا أخوك؛ فإن ذكرك أحدٌ، فقل: أنا عبدالله و أخو رسوله، لا يدّعيهابعدك إلّا كذّاب، و الّذي بعثني بالحقّ، ما أخّرتك إلّا لنفسي، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسي، إلّا أنّه لا نبي بعدي، و أنت أخي و وارثي.(1) و التّأمّل في عمليّة المؤاخاة يعطينا: أنّه قد لو حظ فيها المسانخة بين الأشخاص و تشابه و تلاؤم نفسيّاتهم و إلى ذلك أشار الأزري رحمه الله حينما قال مخاطباً عليّاً (ع):
لك ذاتٌ كذاته حيث لو لا أنّها مثلها لمّا آخاها
إنّ حديث المؤاخاة متواتر لا يمكن إنكاره، و لا التّشكيك فيه، و لا سيما مؤاخاة النّبيّ (ص) لعلي (ع) سواء في المؤاخاة الأولى في مكّة، أم في الثّانية في المدينة، و هو مروي عن عشرات من الصّحابة و التّابعين كما يتّضح للمراجع.(2)
ص: 182
و قد روي: أنّ النّبيّ (ص) قال لعلي (ع): إذا كان يوم القيامة نوديتُ من بطنان العرش: نعم الأب أبوك إبراهيم و نعم الأخ أخوك علي بن أبي طالب.(1)
إنّ من الواضح: أنّ هؤلاء الّذين أسلموا قد انفصلوا عن قومهم، و عن إخوانهم، و عن عشائرهم بصورة حقيقيّة و عميقة، و قد واجههم حتّى أحبّ النّاس إليهم بأنواع التّحدّي و الأذى، فأصبحوا و قد انقطعت علائقهم بذوي رحمهم و صاروا كأنّهم لا عَصَبَة(2) لهم، و قد يشعر بعضهم أنّه قد أصبح وحيداً فريداً، و بلا نصيرٍ و لا عشيرةٍ؛ فجاءت الإخوة الإسلامية لتسدّ هذا الفراغ بالنّسبة إليهم، و لتبعد عنهم الشعور بالوحدة، و تبعث في نفوسهم الأمل و الثّقة بالمستقبل، و قد بلغ عمق تأثير هذه المؤاخاة فيهم أن توهّموا عموم المنزلة حتّى في الإرث.(3)
صفوة الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله ؛ ؛ ص182
لقد أريد للمسلمين المؤمنين أن يكونوا إخوة، و ذلك بهدف السموّ بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحي و جعلها علاقة الهيّة خالصة تصل إلى درجة الإخوة، و ليكون أثرها في التّعامل بين المسلمين أكثر طبيعيّة، و انسجاماً، و بعيداً عن النّوازع النّفسيّة الّتي ربّما توحي للأخوين المتعاونين بأمور من شأنها أن تعقد العلاقات بينهما و لو نفسيّاً على أقلّ تقديرٍ.
و رغم أنّ الإسلام قد قرّر ذلك، و أكدّ على أنّ المؤمن أخو المؤمن، إلّا أنّه قد كان ثَمّة حاجة إلى إظهار ذلك عمليّاً بهدف توثيق عرى المحبّة و ترسيخ أواصر الصّداقة و المودّة كما هو معلوم، و ليكون الهدف السّامي قد انطلق من العمل
ص: 183
السّامي أيضا.
لقد كان الرّسول الأعظم (ص) بصدد بناء مجتمع جديد يكون المثل الأعلى للصّلاح و الفلاح، قادراً على القيام بأعباء الدّعوة إلى الله و نصرة دينه، في أي من الظّروف و الأحوال. و قد تقدّمت عند البحث عن عمليّة بناء المسجد الإشارة إلى واقع وجود الفوارق الكبيرة بين المهاجرين و الأنصار أنفسهما و معاً، الاجتماعيّة، و القِبليّة، و الثّقافيّة، و غير ذلك.
فكان لابدّ من إيجاد روابط وثيقة تشدّ هذا المجتمع بعضه إلى بعض.
و كانت تلك الرّابطة الوثيقة هي: «المؤاخاة» الّتي روعيت فيها الرّقة، إلى الحدّ الّذي يضمن معه أن يحفظ في هذا المجتمع الجديد معها التّماسك و التّعاضد إلى أبعد مدى ممكن، و أقصى غاية تستطاع؛ لا سيّما و أنّه كان يؤاخي بين الرّجل و نظيره، كما أشرنا إليه. و قد كانت لهذه المؤاخاة نتائج هامّة في تاريخ النّضال و الجهاد.(1)
و يذكر المؤرّخون: أنّه بعد مدّة و جيزة من قدومه (ص) المدينة، و على رأى البعض: بعد خمسة أشهر،(2) كتب (ص) كتاباً أو وثيقة بينه و بين اليهود، أقرّهم فيها على دينهم و أموالهم، و اشترط عليهم: أن لا يعينوا عليه أحداً، و إن دهم أمر فعليهم النّصر، كما أنّ على المسلمين ذلك في المقابل.
إنّ هذه الوثيقة لم تقتصر على تنظيم علاقات المسلمين مع غيرهم، و إنّما
ص: 184
تعرّض جانب كبير بل هو الجانب الأكبر منها إلى تقرير قواعد كليّة، و أسس عمليّة للعلاقات بين المسلمين أنفسهم، كان لابدّ منها لتلافى الأخطاء المحتملة قبل أن تقع.
فهذه الوثيقة بمثابة دستور عمل، يتضمّن أسس العلاقات في الدّولة النّاشئة، سواءٌ في الدّاخل أم في الخارج.
و هذه الوثيقة هي بحث من أهمّ الوثائق القانونيّة، الّتي لابدّ أن يدرسها علماء القانون و التّشريع بدقّة متناهية، لاستخلاص الدّلائل و الأحكام منها، و أيضاً لمعرفة الغايات الّتي يرمى إليها الإسلام، و الضّوابط الّتي يرتضيها، و مقارنتها بغيرها ممّا يتهالك المستضعفون فكريّاً من هذه الأمّة عليه من القوانين القاصرة عن تلبية الحاجات الفطريّة و غيرها للإنسان.
و قد أورد المؤرّخون نصّ هذه الوثيقة في كتبهم بالتّفصيل أو الاختصار(1) و نحن نشير رعاية للاختصار إلى أهمّ قراراتها في مجال بناء العلاقات في هذا المجتمع الجديد، إلى مايلي:
1. إنّها قد قرّرت أنّ المسلمين أمَّة واحدة، رغم اختلاف قبائلهم، و تفاوت مستوياتهم، و اختلاف حالاتهم المعيشيّة و الاجتماعيّة، و غير ذلك. و لهذا الإقرار أبعاده السياسيّة و آثاره الحقوقيّة، ولسنا هنا بصدد الخوض في تفاصيلها و جزئيّاتها.
2. قد تضمّنت إقرار المهاجرين من قريش على عاداتهم و سننهم في الدّيات و الدّماء.
3. إنّ مسؤوليّة المهاجرين عن فداء أَسْراهم، ثم مسؤوليّة جميع القبائل عن فداء أسراها أيضا بالقسط و المعروف، إنّما تعنى أن تعيش كلّ قبيلة حالة التّكافل و الإحساس الجماعي، بالإضافة إلى أنّ ذلك يضمن نوعاً من التّرابط بين هؤلاء
ص: 185
النّاس، و الذّب عن بعضهم، و المعونة في مواقع الخطر.
4. لقد قرّرت الوثيقة أيضا: أنّ من كان عليه دين، و لم يكن له عشيرة تعينه في فداء أسيره، فعلى المسلمين إعانته في فداء ذلك الأسير.
5. و جاء في الوثيقة أيضاً: أنّ مسؤوليّة دفع الظّلم تقع على عاتق الجميع و لا تختصّ بمن وقع عليه الظّلم؛ و لعلّ هذا من أهمّ القرارات الّتي تضمّنتها الوثيقة.
6. و هناك القرار الّذي ينصّ على عدم قَوَد(1) المسلم بالكافر، و في هذا تأكيد على أنّ شرف الإنسان إنّما هو بالإسلام، كما أنّ الوثيقة تؤكّد: بأنّه يجير على المسلمين أدناهم و لا يجير كافرٌ على مسلم؛ لأنّ الإسلام لا يرى الشّرف بالمال و لا بالقبيلة و لا بغير ذلك من أمور، و إنّما انسانيّته هي الّتي تعطيه القيمة.
7. و قد تقرّر أيضاً: أن لا ينصر المسلمون من أحدث و ابتدع، بل يجب عليهم مقاومته و التّصدي له و لبدعته بكلّ صلابة و حزم. و في هذا تتجلّى الأهميّة البالغة الّتي يولّيها الإسلام للسّلامة الفكريّة، و يؤكّد أهميّة الصّيانة في المجال الثّقافي و العقيدي.
8. في هذه الوثيقة أيضاً تكريس للسّلطة الإسلاميّة و اعتراف مسجّل بها من قِبَل أَلَدّ أعدائها أعني اليهود و قد كانوا يعتبرون أنفسهم وحدهم دون كلّ مَن عداهم أصحاب كلّ الامتيازات و إنّ كلّ قرار يجب أن يكون صادراً عنهم و منهم و إليهم، فهم الحكّام على النّاس، و النّاس كلّهم يجب أن يكونوا تحت سلطتهم و قدخُلقوا ليكونوا لهم خدماً كما يزعمون.
فقد قرّرت الوثيقة: أن لا يخرج أحدٌ من اليهود إلّا بأذن رسول الله (ص) و أنّ الحاكميّة انّما هي لدين الله و لرسول الله (ص) لا لأحد سواه.
9. و قد أكدّ ما ذكرناه آنفا و عمّقه ذلك القرار الّذي اعترف به اليهود و سجّلوه على أنفسهم، والّذي ينصّ على أنّ رسول الله (ص) هو المرجع الّذي يتولّى حلّ
ص: 186
المشكلات، الّتي تنشأ فيما بينهم و بين المسلمين.
ولسنا بحاجة إلى التّذكير بما لهذه المادّة من مدلول سياسي، و من أثر نفسي و اجتماعي عليهم و على غيرهم ممّن يعيشون في المدينة، و كذا ما لهذا القرار من أثر كذلك على المنطقة بأسرها.
10. هذا كلّه، عدا عن أنّ هذه الوثيقة قد تضمّنت لمن تهوّد من الأنصار حقوقهم العامّة، و ذلك من قبيل حق «الأمن» و «الحريّة» بشرط أن لا يفسدوا.
و هذان الحقّان و لا سيّما حقّ الحريّة، يؤكّدان على أنّ الإسلام لا يخشى شيئاً إذا كان منطلقاً من الواقع و قائماً على أساس الحقّ و الصّدق، ولكنّه يخشى من الإفساد.
11. ثمّ تضنّمت الوثيقة اعترافاً من المنافقين و المشركين و من اليهود أيضاً بأنّ المؤمنين على أحسن هدًي و أقومه، مع أنّ ما كان يشيعه هؤلاء الأعداء إنّما هو: أنّ هذا النّبيّ قد جاء ليفرّق جماعتهم، و يسفه أحلامهم و ... كما ذكره عمرو بن العاص للنّجاشي مَلِكِ الحبشة.
12. ثمّ إنّ هذه الوثيقة قد أعطت للمسلمين الحقّ في التّصدّي لأخذ أموال قريش (و ليس المشركين)؛ لأنّ قريشاً هي الّتي سلبتهم أموالهم، و أخرجتهم من ديارهم، ليكون ذلك عوضاً عمّا أُخذ منهم. و قد اعترف لهم بهذا الحقّ حتّى المشركون، الّذين هم طرف في هذه المعاهدة.
13. إنّ الوثيقة قد نصّت على أنّ كلّ من يعترف بما في هذه الصّحيفة لا يحقّ له نصر محدث و لا إيواؤه؛ و هذا من شأنه أن يشيع الأمن العام، و يجعل النّاس يطمئنّون نوعاً ما، و يخفّف من الخوف الّذي كان سائداً(1) بين الأوس و الخزرج؛ كما أنّ فيه إنذاراً مبطناً للآخرين من اليهود و المشركين الّذين يعيشون مع المسلمين في بلد واحد.
ص: 187
14. و يلاحظ أخيراً أنّ الوثيقة لم تعط للمشركين حقوقاً ولكنّها فرضت عليهم قيوداً؛ فليس للمشرك أن يجير مالًا لقريش و لا نفساً و لا يحول دونه على مؤمن.
هذا ما أحببنا الإلماح إليه في هذه العجالة و ثَمّ أمور كثيرة أخرى نأمل أن نوفّق لدراستها في فرصة أخرى.
و جاءت يهود قريظة و النضير و قينقاع و طلبوا الهدنة من رسول الله (ص): فكتب لهم بذلك، على أن لا يعينوا عليه أحداً، و لا يتعرّضوا لأحدٍ من أصحابه بلسان و لا يد ولا بسلاح و لا بكُراع،(1) في السرّ و لا في العلانية، لابليل و لا بنهار؛ فإن فعلوا، فرسول الله (ص) في حلٍّ من سفك دمائهم، و سبي ذراريهم و نسائهم و أخذ أموالهم، و كتب لكلّ قبيلة كتاباً على حدة.(2)
ص:188
ص: 189
ص:190
ص: 191
هنا يبدأ المؤرّخون بذكر غزواته و سراياه (ص) و يقصدون ب- (الغزوة): الجيش الّذي يخرج فيه (ص) بنفسه، و ب- «السّريّة»: البعث الّذي لا يكون رسول الله (ص) فيه.
و قد اختلفت كلماتهم في عدد غزواته و سراياه اختلافاً كثيراً و لا نرى حاجة لإطالة الكلام في تحقيق ذلك و نكتفي بما ذكره ابن سعد في طبقاته بأنّ مغازيه كانت سبعة و عشرين غزوة و عدد سراياه الّتي كانت تتألّف من الثّلاثين و الأربعين و الخمسين و ما يزيد على المئتين إحياناً، كانت سبعاً و أربعين سريّة.(1) و نسوق الكلام من غزواته إلى ماهي أهمّ و نفعها أعمّ و نبتدي بغزوة بدر الكبرى.
و بعد مضيّ مدّة على وجود النّبيّ الأعظم (ص) في المدينة كتب كفّار قريش إلى عبدالله بن أُبي بن سلول و من كان يعبد الأوثان من الأوس و الخزرج:
إنّكم آويتم صاحبنا، و إنّكم أكثر أهل المدينة عدداً، و إنّا نُقسم بالله، لتقتلنّه، أو
ص: 192
لتخرجنّه، أو لنستعنّ (1) عليكم العرب، أو لنسيرنّ إليكم بأجمعنا، حتّى نقتل مقاتلتكم و نستبيح نساءكم.
فلمّا بلغ ذلك ابن أُبَيّ و من معه، تراسلوا؛ فاجتمعوا، و أجمعوا لقتال النّبيّ (ص)؛ فلمّا بلغ ذلك النّبيّ (ص) و أصحابه لقيهم في جماعة، فقال:
لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت لتكيدكم بأكثر ممّا تريدون أن تكيدوا به أنفسكم. فأنتم هؤلاء تريدون أن تقتلوا أبناءكم و إخوانكم.
فلمّا سمعوا ذلك من النّبيّ (ص) تفرّقوا، فبلغ ذلك كفّار قريش، و كانت وقعة بدر.(2)
و في السّنة الثّانية، في السّابع عشر من شهر رمضان المبارك كانت حرب بدر العظمى بين المسلمين و مشركي مكة.
و ذلك أنّ العير الّتي طلبها المسلمون في غزوة العُشَيْرَة(3)، و أفلتت منهم إلى الشّام، ظلّ النّبيّ (ص) يترقّبها، حتّى علم بعودتها، و كانت بقيادة أبي سفيان مع ثلاثين، أو أقلّ، أو أربعين، أو سبعين راكباً.
و فيها أموال قريش، حتّى قيل: إنّ فيها ما قيمته خمسون ألف دينار في ذلك الوقت الّذي كان فيه للمال قيمة كبيرة.
فندب رسول الله (ص) المسلمين للخروج إليها، فانتدب النّاس، فخفّ بعضهم
ص: 193
وثقل آخرون، و لعلّهم تخوّفوا من كَرّة قريش عليهم حينما لابدّ لها من محاولة الانتقام لهذا الإجراء الّذي يستهدف مصالحها الحيويّة.
قال الواقدي: كره خروج رسول الله (ص) أقوامٌ من أصحابه إلى بدر، قالوا: نحن قليل، و ما الخروج برأي، حتّى كان في ذلك اختلاف كثير.(1) و قد حكى الله تعالى ذلك، فقال: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يجادِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَينَ كَأَنَّما يساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ ينْظُرُونَ»(2).
نعم لقد كرهوا ذلك لعلمهم بأنّ قريشاً لن تسكت على أمر خطير كهذا. و من هنا نعرف: أنّ قول بعضهم: إنّ من تخلّف لم يكن يظنّ أنّ النّبيّ (ص) يلقى حرباً(3) في غير محلّه، بل هو محاولة إيجاد عذر للمتخلّفين مهما كان فاشلًا و غير معقولٍ. و إلّا فالآية الكريمة خير دليل على عدم صحّة هذا القول.
و خرج المسلمون يريدون العير، و علم أبوسفيان بالأمر، فأرسل إلى قريش يستنفرهم لنجاة العير. فلمّا جاء هم النّذير يناديهم: يا معشر قريش! اللّطيمة، اللّطيمة،(4) أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمّد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها ....
فتجهّز النّاس سراعاً و ما بقى أحد من عظماء قريش إلّا أخرج مالًا لتجهيز الجيش، و قالوا: من لم يخرج، نهدم داره، فلم يتخلّف رجلٌ إلّا أخرج مكانَه رجلًا. و بعث أبولهب العاصي بن هشام مكانه على أربعة آلاف درهم كانت له عليه من مال المقامرة على ما قيل-.(5)
ص: 194
و خرج مع المشركين من بني هاشم: العبّاس و عقيل و نوفل بن حارث و طالب بن أبي طالب. فأمّا طالب، فخرج مكرهاً، فجرت بينه و بين القرشيّين ملاحاة و قالوا: و الله، لقد عرفنا أنّ هواكم مع محمّد. فرجع طالب فيمن رجع إلى مكّة، و لم يوجد في القتلى، و لا في الأسرى و لا فيمن رجع إلى مكّة.(1) و حينما خالف أبوسفيان في الطّريق و نجا بالعير، أرسل يطلب من قريش الرّجوع، فأبى أبوجهل إلّا أن يرد بدراً(2) و يقيم ثلاثة أيامٍ، و يأكل و يشرب الخمور، حتّى تسمع العرب بمسيرهم و جمعهم؛ فيها بونهم أبداً.
و أراد بنو هاشم الرّجوع، فاشتدّ عليهم أبوجهل، و قال: لا تفارقنا هذه العصابة حتّى نرجع.(3)
لمّا كان المسلمون قرب بدر و عرفوا بجمع قريش و مجيئها، خافوا و جزعوا من ذلك، فاستشار النّبيّ (ص) أصحابَه في الحرب أوطلب العير. فقام أبوبكر و قال: يا
ص: 195
رسول الله، إنّها قريش و خُيَلاؤُها(1) ما آمنت منذ كفرت، و ما ذلّت منذ عزّت، و لم تخرج على هيئة الحرب. فقال له رسول الله (ص) اجلس، فجلس؛ فقال (ص): أشيروا عليَّ. فقام عمر، فقال مثل مقالة أبي بكر، فأمره النّبيّ بالجلوس، فجلس.(2) ثمّ قام المقداد، فقال: يا رسول الله، إنّها قريش و خُيَلاؤُها، و قد آمنّا بك و صدّقناك و شهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله، و الله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا(3) و شوك الهَراس لخضناه معك و لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: «قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ»(4).
ولكنّا نقول: إذهب أنت و ربّك، فقاتلا، إنّا معكم مقاتلون. والله لنقاتلنّ عن يمينك و شمالك و من بين يديك ....
فأشرق وجه النّبيّ (ص) و دعاله و سرّ لذلك.(5) ثمّ قال: أشيروا عليَّ. و إنّما يريد الأنصار لانّ أكثر النّاس منهم، و لأنّه كان يخشى أن يكونوا يرون أنّ عليهم نصرته في المدينة، إن دهمه عدوّ، لا في خارجها فقام سعد بن معاذ، فقال: بأبي أنت و أمّي يا رسول الله، كأنّك أردتنا؟ فقال: نعم. فقال: فلعلّك قد خرجت على أمرٍ قد أُمرت بغيره؟ قال: نعم.
قال: بأبي أنت و أمّي يا رسول الله، إنّا قد آمنّا بك و صدّقناك و شهدنا أنّ ما جئت به من حقّ من عند الله، فمرنا بما شئت؛ والله، لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر
ص: 196
لخضناه معك، و لعلّ الله يُريك ما تقرّ به عينك، فسر بنا إلى بركة الله.
فسرّ النّبيّ (ص) و أمرهم بالمسير، و أخبرهم بأنّ الله تعالى قد وعد إحدى الطّائفتين، و لن يخلف الله وعده: ثمّ قال: والله، لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و شيبة و ... و سار حتّى نزل بدراً.
و كان رسول الله (ص) قد خرج في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلًا، عدد أصحاب الطّالوت و هو قول عامّة السّلف.(1) و كان معهم من الإبل سبعون بعيراً يتعاقبون عليها، الإثنان و الثّلاثة. فكان النّبيّ (ص) و علي (ع) و مِرثد بن أبي مِرثد و قيل: زيد بن حارثة يعتقبون بعيراً.
و كان معه من الخيل: فرس للمقداد قطعاً بإجماع المؤرّخين. و روي ذلك عن أميرالمؤمنين (ع).(2) و قيل: و فرس للزبير، أو لمِرثد، أو هما معاً.
و معهم من السّلاح ستّة أدرع و ثمانية سيوفٍ.(3) أمّا المشركون، فخرجوا و هم يشربون الخمور و معهم القيان يضربن بالدّفوف و قد أرجعوهنّ من الطّريق، و كان معم سبعمائة بعير(4)، و من الخيل أربعمائة(5) و قيل: مئتان و قيل: مئة فرس،(6) و كلّهم دارع و مجموع الدّارعين فيهم ستّمائة.
ص: 197
مواقع الجيشين
و سبق المشركون إلى بدرٍ فنزلوا في العُدوة القُصوى، في جانب الوادي ممّايلي مكّة، حيث الماء و كانت العير خلف المشركين.(1) قال تعالى: «وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ»(2) و محلّ نزولهم كان صلباً.
و نزل المسلمون في العُدوة الدّنيا، أي جانب الوادي ممايلي المدينة، حيث لا ماء، و حيث الأرض رخوة، لا تستقرّ عليها قدم؛ ممّا يعني أنّ منزل المسلمين كان من وجهة نظر عسكريّة غير مناسب، و لكنّ الله أيّد عباده و نصرهم على عدوّهم،
و جاء المطر ليلًا على المشركين، فأوحلت (3) أرضهم؛ و على المسلمين، فلبَّدها(4) و جعلها صُلَبَةً و جعلوا الماء في الحياض.(5)
و لمّا أصبح رسول الله (ص) عَبّأ أصحابه و كانت رايته مع أميرالمؤمنين (ع)(6)و
ص: 198
كان (ع) صاحبَ لواء رسول الله (ص) في بدر و في كلّ مشهد.(1) فما يقال: من أنّه كان لرسول الله (ص) في بدر أكثر من لواءٍ، مع مُصعَب بن عُمير، او الحُباب بن المُنذر، في غير محلّه؛ إلّا أن يكون مرادهم: أنّ لواء المهاجرين كان مع مُصعب و لواء الأنصار كان مع الحُباب، و نحو ذلك.
و أرسل رسول الله (ص) إلى المشركين، يقول لهم: «معاشر قريش، إنّي أكره أن أبدأكم بقتال، فخلّوني و العرب و ارجعوا؛ فان أَكُ صادقا فأنتم أعلى بي عيناً و إن أكُ كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري».
و يقال: إنّ عتبة رجّح للمشركين قبول ذلك، فرماه أبوجهل بالجبن، و أنّه انتفخ سَحْرُه (2) لمّا رأى محمّداً و أصحابه، كلّا و الله لا نرجع حتّى يحكم الله بيننا و بين محمّد، و استوسقوا(3) على ماهم عليه من الشرّ و تقدّموا يطلبون البراز.
و كان أوّل من برز للقتال عُتبة، و شيبة، و الوليد. فبرز إليهم ثلاثة من الأنصار، فقالوا لهم: ارجعوا فإنّا لسنا إيّاكم نريد؛ إنّما نريد الأكفاء من قريش، فأرجعهم النّبيّ (ص) و بدأ بأهل بيته؛ لأنّه كره أن تكون البدأة بالأنصار(4)، و ندب عُبيدةَ بن الحارث، و حمزةَ، و عليّاً، قائلًا: قوموا يا عُبيدة، يا عمّ و يا علي، فاطلبوا بحقّكم الّذي جعله الله لكم ....
فقتل علي (ع) الوليد، و جاء فوجد حمزةَ معتنقاً شيبةَ، بعد أن تثلّمت (5) في أيديهما السّيوف؛ فقال: يا عمّ طَأطِئ رأسك و كان حمزةُ طويلًا فأدخل رأسه
ص: 199
في صدر شيبة، فاعترضه علي (ع) بالسّيف فطير نصف رأسه. و كان عتبة قد قطع رِجل عبيدة، و فلق عبيدة هامته، فجاء علي (ع)، فأجهز على عتبة أيضاً. فيكون أميرالمؤمنين (ع) قد شرك في قتل الثّلاثة.(1) و ممّا يدل على أنّه شرك في قتلهم جميعاً، كتابه لمعاوية: «فأنا أبوالحسن حقّاً، قاتل جدّك عتبة، و عمّك شيبة، و خالك الوليد، و أخيك حنظلة، الّذين سفك الله دماءهم على يدي في يوم بدر ...».(2) و لمّا رأى أبوجهل مقتل عتبة و شيبة و الوليد، حاول إنقاذ الموقف؛ فقال: لا تعجلوا و لا تبطروا كما بطر ابنا ربيعة. عليكم بأهل يثرب، فاجزروهم جزراً، و عليكم بقريش، فخذوهم أخذاً، حتّى نُدخلهم مكّة، فنعرّفهم ضلالتهم الّتي هم عليها.
و يذكر ابن عباس في قوله تعالى: «وَ ما رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى»(3):
إنّ النّبيّ (ص) بأمرٍ من جبرائيل قال لعلي (ع): ناوِلْني كفّاً من حصباء، فناوله، فرمى به في وجوه القوم، فما بقى أحدٌ إلّا امتلأت عينه من الحصى. ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم.(4)
و قد أمَدَّ الله المسلمين بالملائكة لتثبيت قلوبهم؛ و في كونهم حاربوا، خلافٌ، ظاهر القرآن ربّما لا يساعد عليه، حيث يقول تعالى: «وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَ
ص: 200
لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ»(1).
ولكن ثَمّة آية أخرى تشير إلى اشتراكهم بالقتال و هي قوله تعالى: «إِذْ يوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ»(2).
هذا إذا كان قوله تعالى: «فاضربوا» خطاباً للملائكة، كما لعلّه الظّاهر، و إن كان خطاباً للمقاتلين من النّاس، فلا دلالة في الآية على ذلك أيضا.
و مهما يكن من أمر، فإنّ الملائكة كانوا يتشبّهون بأميرالمؤمنين (ع)(3)و لربّما كانوا هم الوسيلة لتكثير المسلمين في أعين المشركين أثناء القتال، كما قال تعالى: «وَ يقَلِّلُكُمْ فِى أَعْينِهِم (4)»(5).
وهزم الله المشركين شرّ هزيمة، و قُتل أبوجهل، و كان رسول الله (ص) قد أوعده أن يقتله الله بأضعف أصحابه، بل أخبر (ص) بكلّ ما جرى في بدر قبل وقوعه،(6) فقتله رجل أنصاري، و احتزّ رأسه ابن مسعود.
و كان أوّل من انهزم في بدر إبليس لعنه الله؛ فإنّه كان قد تبدّي للمشركين كما جاء في الرّواية بصورة سراقة بن مالك المُدْلِجي، من أشراف كنانة؛ فلمّا رأى ما جرى للمشركين، و رأى الملائكة مع المسلمين، نكص على عقبيه، فانهزم المشركون.
ص: 201
و روي: أنّ أباسفيان لمّا أبلغ العير إلى مكّة رجع و لحق بجيش قريش، فمضى معهم إلى بدر، فجرح يومئذ جراحات، و أفلت هارباً، و لحق بمكّة راجلًا.(1)
و قُتل في بدر سبعون، و أُسر مثلهم. و استشهد من المسلمين تسعة و قيل أحد عشر، و قيل أربعة عشر؛ ستّه من المهاجرين و ثمانية من الأنصار. و لم يؤسر من المسلمين أحدٌ. و غنموا من المشركين مئة و خمسين بعيراً و عشرة أفراس، و عند ابن الأثير ثلاثين فرساً، و متاعاً، و سلاحاً، و أنطاعاً،(2) و ثياباً، و أُدُماً(3) كثيراً.
و أكثر قتلى المشركين قُتلوا على أيدي المهاجرين، و بالتّحديد على يد أهل بيت النّبيّ (ص) و بالذّات على يد علي (ع). و قد سمّاه الكفّار يوم بدر ب- (الموت الأحمر) لعظم بلائه و نكايته.(4) و كيف لا، و نحن نرى الشّعبي يقول: «كان علي أشجع النّاس تقرّ بذلك العرب.»(5) و لماذا لا يسمّى (ع) بالموت الأحمر؟ و هو الّذي تقول في حقّه بعض الرّوايات: إنّ جبرائيل قد نادى بين السماء و الأرض في بدر:
ص: 202
لا فتى إلّا علي لا سيف إلّا ذوالفقار
و يقال: إنّ هذه المناداة كانت في أحد، و ستأتي مع بعض الكلام حولها إن شاء الله. و قد قَتَل (ع) من المشركين في بدر نصفَ السّبعين و شارك في قتل النّصف الآخر.(1) و قد عدّ الشيخ المفيد ستّةً و ثلاثين بأسمائهم ممّن قتلهم أميرالمؤمنين (ع).(2) و قال ابن إسحاق: أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي.(3) و قال الطّبرسي و القمي: إنّه قَتَل منهم سبعة و عشرين.(4) و يلاحظ: أنّ حرب بدر و أُحُد و غيرهما قد أثّرت في قلوب القرشيين أثراً بعيداً حتّى قيل: كانت قريش و إذا رأت أميرالمؤمنين في كتيبة، تواصت خوفاً منه، و نظر إليه رجلٌ و قد شقّ العسكر، فقال: قد علمت أنّ ملك الموت في جانب الّذي فيه عليٌّ.(5) و من هنا نجد قريش لم تستطع أن تحبّ عليّاً و أهل بيته، رغم أنّها تتظاهر بالإسلام، و رغم النّصوص القرآنيّة و النّبويّة الآمرة بمحبّتهم و مودّتهم.
و عن ابن عباس: قال عثمان لعليّ: «ما ذنبي إذا لم تحبّك قريش، و قد قتلت منهم سبعين رجلًا، كأنّ وجوهُهُم سيوف (أو شنوف) الذّهب».(6) هذا و قد ظلّ الأحلاف يتحيّنون الفرص للأخذ بثارات بدر و أُحدٌ و غيرهما، و قد فشلوا في حرب الجمل و صفّين، إلى أن سنحت لهم الفرصة، بزعمهم في
ص: 203
واقعة كربلاء المشهورة، ثمّ ما أعقبها من ظلم و اضطهاد لأهل البيت و شيعتهم.
و نجد أنّ يزيد الطّاغية لم يستطع أن يُخفى دوافعه و كفره، و أنّه يريد الثأر لأشياخه في بدر، فتمثّل بأبيات ابن الزّبعري، و أضاف إليها إنكاره الوحي و النّبوّة، فقال و هو ينكت ثنايا سيّد شباب أهل الجنّة بالقضيب:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا و استهلّوا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيد لاتشل
قد قتلنا القوم من أشياخهم وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالمُلك فلا خبر جاء و لا وحي نزل
لست من خِنْدِفَ إن لم أنتقم من بنى أحمد ما كان فعل (1)
جمع النّبيّ (ص) الغنائم و سلّمها لعبد الله بن كعب، و أمرهم بمعاونته في حملها و حفظها، و لم يُقسَّمها إلّا و هو في طريقة إلى المدينة، و ذلك من أجل أن تَخِفَّ حِدّةُ الخلاف فيما بين أصحابه و تعود إليهم حالتهم الطبيعيّة، بعيداً عن نزوات (2) آمالهم الدّنيويّة. فقسّمها بينهم آنئذٍ و لم يخرج منها الخمس.
و أمّا الأسرى، فقد أسر من المشركين سبعون رجلًا كما تقدّم، و تحرّك (ص) نحو المدينة، فلمّا بلغ الصّفراءأمر أميرَالمؤمنين (ع) بأن يضرب عنق أسيرين هما: عُقبة بنُ أبي مُعَيْط ذو السّوابق السّيئة المعروفة مع المسلمين و النّبيّ (ص) في مكّة و النّضر بن الحارث الّذي يعذّب المسلمين في مكّة.
و لمّا رأى الأنصار ما جرى للنّضر و لِعُقبة، خافوا أن يقتل (ص) جميع الأسارى،
ص: 204
فقالوا: يا رسول الله، قتلنا سبعين، و هم قومك و أُسْرَتُك أَتَجُذُّ(1) أصلهم؟ هبهم لنا، و خذ منهم الفداء و أطلقهم.
ولكنّ النّبيّ (ص) كره أخذ الفداء، حتّى رأى ذلك سعد بن معاذ في وجهه، فقال: يا رسول الله، هذه أوّل حرب لقينا فيها المشركين، و الإثخان في القتل أحبّ إلينا من استبقاء الرّجال.
و نزل في هذه المناسبة قوله تعالى: «ما كانَ لِنَبِى أَنْ يكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يثْخِنَ فِى الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يرِيدُ الآْخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»(2).
و لمّا رأى النّبيّ (ص) إصرارهم على أخذ الفداء، أخبرهم: أنّ أخذ الفداء سوف تكون عاقبته هو أن يقتل من المسلمين بعدد الأسرى، فقبلوا ذلك و تحقّق ما أوعدهم به (ص) في واقعة أُحُد، كما سنرى.(3) و تقرّر الأمر على الفداء، و جعل فداء كلّ أسير من ألف إلى أربعة آلاف، و صارت قريش تبعث بالفداء أوّلًا بأوّلٍ، وأعطى (ص) كلّ رجل من أصحابه الأسير الّذي أسر، فكان هو يفاديه بنفسه.(4) و كان من جملة الأسرى عبّاس و عقيل، و قد سهر النّبيّ (ص) ليلة، فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا نبي الله؟ قال: أنين العبّاس.(5) فقام رجل من القوم،
ص: 205
فأرخى من وثاقه؛ فقال رسول الله (ص): ما بالي ما أسمع أنين العباس؟ فقال رجل من القوم: إنّي أرخيت من وثاقه شيئاً. فقالَ (ص): «فافعل ذلك بالأسارى كلّهم».(1) و هذه الرّواية الّتي تمثّل عدل النّبيّ (ص) و دقّته في مراعاة الأحكام الإلهيّة و صلابته في الدّين؛ فإنّه (ص) لم يكن ليرفق بأقاربه، و يعنف بغيرهم.
و أمره بمفاداة نفسه، و عقيلًا و نوفل ابنَي أخيه، فأنكر أن يكون له مالٌ: فقال له (ص): أعط ما خلّفته عند أمّ الفضل، فقلت لها: إن أصابني شى ء، فأنفقيه على نفسك و ولدك. فسأله من أخبره بهذا، فلمّا عرف أنّه جبرائيل قال: محلوفة،(2) ما علم بهذا أحدٌ إلّا أنا و هي؛ أشهد أنّك رسول الله.
فرجع الأسارى كلّهم مشركين، إلّا العبّاس و عقيلًا و نوفل و فيهم نزلت هذه الاية:(3)
«قُلْ لِمَنْ فِى أَيدِيكُمْ مِنَ الأَسْرى إِنْ يعْلَمِ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيراً يؤْتِكُمْ خَيراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(4).
و في نصّ آخر: أنّه لمّا طلب منه الفداء، ادّعى: أنّه كان قد أسلم، لكنّ القوم استكرهوه. فقال له (ص): الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تقول حقّاً فإنّ الله يجزيك عليه، فأمّا ظاهر أمرك فقد كنت علينا.(5) و هذا يدلّ على أنّه لا مجال لدعوى: أنّ العبّاس كان قد أسلم قبل بدر سِرّاً،
ص: 206
كما عن البعض،(1) إلّا إذا أراد أن يستند في ذلك إلى دعوى العبّاس نفسه، و هي دعوى لم يقبلها منه رسول الله (ص).
بل لقد جاء أنّه لم يظهر للعبّاس إسلامٌ إلّا عام الفتح.(2) و هذا هو الأقرب إلى الصّواب؛ فإنّه إن كان قد أسلم في بدر كما يدلّ عليه ما تقدّم و لا سيّما رواية تفسير البرهان المعتبرة سنداً فإنّما أسلم سرّاً، و كان يتظاهر للمشركين بما يرضيهم حفاظاً على مصالحه و أمواله و علاقاته؛ فإنّ قريشاً لم تكن تتحمّل وجود مسلم بينها هذه السّنوات الطّويلة، و حروبها مع محمّد قائمة على ساق، و لا سيّما إذا كان ذلك المسلم هو عمّ ذلك الرّجل.
و ربّما يقال: إنّ النّبيّ (ص) قد أمره بالمقام بين أظهرهم ليكون عيناً له، و يقال: إنّه كان يكتب للنّبي (ص) بأخبارهم، و قد أخبره بحرب أُحُد على ما يظنّ؛ و لكن ذلك لا يدلّ على إسلامه، نعم، هو يدلّ على نصحه لرسول الله (ص)، و لو بدوافع الرّحِم و الحميّة، فلابدّ أن يُعرّف الرّسولُ (ص) ذلك له و يكافئه عليه.
قال المقريزي: «و كان في الأسرى من يكتب و لم يكن في الأنصار من يحسن الكتابة، و كان منهم من لا مال له، فيقبل منهم أن يعلّم عشرة من الغلمان، و يخلّي سبيله؛ فيومئذٍ تعلّم زيد بن ثابت الكتابة في جماعة من غلمان الأنصار ...».(3)
ص: 207
و نقول: إنّ جعلَ فداء الأسرى هو تعليم عشرة من أطفال المسلمين، ليعتبر أوّل دعوة في التّاريخ لمحو الأمّيّة، سبق الإسلام بها جميع الأمم، و ذلك يعبّر عن مدى اهتمام الإسلام بالعلم في وقت كانت فيه أعظم الدّول كدولة الأكاسرة تمنع بصورة قاطعة من تعليم القراءة و الكتابة لأحد من غير الهيئة الحاكمة، حتّى إنّ أحد التّجار قد عرض أن يقدّم جميع الأموال اللّازمة لحرب أنوشيروان مع قيصر الرّوم على أن يسمح له بتعليم ولده.(1) بل لقد كانت بعض الفئات العربيّة تعدّ المعرفة بالكتابة عيباً.(2) و هذا الإسلام قد جاء ليطلق أعدى أعدائه، في أدقّ الظّروف و أخطرها في مقابل تعليمهم لعشرة من غلمان المسلمين.
رجع المحاربون المشركون إلى مكّة بأسوأ حال من الحنق و الغيظ؛ فنهاهم أبوسفيان عن النّوح على قتلاهم، و منع الشّعراء من ندب القتلى؛ لئلّا يخفّف ذلك من غيظهم، و يقلّل من عداوتهم للمسلمين، و حتّى لا يبلغ المسلمين حزنهم، فيشمتوا بهم.
و حرّم أبوسفيان الطّيب و النّساء على نفسه، حتّى يغزو محمّداً، و كذلك كان موقف زوجته هند، الّتي اعتزلت فراشه و امتنعت عن الطّيب.
و في الجبهة الأخرى، فقد أرسل النّبيّ (ص) يبشّر أهل المدينة بالنّصر المبين، فلم يصدّق البعض ذلك في بادي الأمر، ثمّ تأكّد لديهم أنّه حقّ، ففرح المؤمنون، و استقبلوا الرّسول (ص) فرحين مسرورين.
ص: 208
و قدم الأسارى المدينة بعد قدومه (ص) بيومٍ؛ ففرّقهم بين المسلمين، و قال: استوصوا بهم خيراً، إلى أن فداهم أهل مكّة.
ثم أرسل (ص) عبدالله بن رواحه مبشّراً إلى أهل العالية ما كان من جهة نجد من المدينة و بعث زيد بن حارثة إلى أهل السّافلة ما كان في جهة تهامة بما فتح الله على رسوله و على المسلمين.
1. إنّ قريشاً الّتي كانت تحبّ الحياة قد واجهت في بدر ضربة روحيّة قاسية جدّاَ، و أصابها هلع (1) قاتل، و هي ترى أنّ حياتها مع هؤلاء المسلمين قد أصبحت في خطر حقيقي. و قد كان لهذا الخوف و الهلع أثر لا ينكر على حروبها اللّاحقة مع المسلمين؛ فإنّ الخائف اللّجوج بطبيعته يتّخذ الاحتياطات كافّة لتأمين النّصر لنفسه مع احتفاظه بالحياة؛ و لذا فقد حاولت قريش في حملاتها اللّاحقة أن تكون أكثر دقّةً و تركيزاً، و أوسع حشداً(2) و استعداداً، من أجل القضاء على هذه الحركة الّتي تراها تهدّد مصالحها و امتيازاتها في المنطقة؛ اجتماعيّاً، و سياسيّاً و اقتصاديّاً و غير ذلك.
2. و من الجهة الأخرى، فقد قويت نفوس المسلمين بذلك و عادت لهم الثّقة بأنفسهم بصورة ظاهرة، و شجعهم هذا الانتصار غير المتوقّع على مواجهة ما كان إلى الأمس القريب، يرعبهم حتّى احتماله، فضلًا عن التّفكّر فيه أو مواجهته. و قد كان هذا الانتصار في المستوي الّذي صعب على بعض أهل المدينة التّصديق به.
3. لقد أعانتهم تلك الغنائم الّتي حصلوا عليها إلى حدّ كبير على مواجهة
ص: 209
مشاكلهم الاقتصادية المُلِحَّة،(1) كما أنّها فتحت شَهْيَةَ(2) الطّامعين و جعلتهم على استعداد للمشاركة؛ بل و يتطلّعون إلى نظائرها في المستقبل.
4. ثمّ إنّه قد أصبح ينظر إلى المسلمين في المنطقة على أنّهم قوّة فعّالة، لابدّ أن يحسب حسابها، و هابتهم القبائل، و بدأت تخطب ودّهم و تتقرّب إليهم و لم يعد من السّهل عليها أن تنقض ما أبرمته معهم من معاهدات.
بل و أصبحت تتوقّع لهم انتصارات أخرى أيضا، حتّى ليقول اليعقوبي عن وقعة ذي قار، الّتي كانت بعد بدر بأربعة أشهر: «و أعزّ الله نبيّه و قتل من قريش، فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله، و حاربت ربيعة كسرى، و كانت وقعتهم بذي قار، فقالوا: عليكم بشعار التّهامي فنادوا: يا محمّد، يا محمّد؛ فهزموا جيوش كسرى».(3)
ص:210
ص:211
ص:212
ص: 213
و في سنة ثلاث، في شهر شوّال، يوم السّبت على الأشهر، كانت غزوة أحد،(1) و ذلك أنّ نتائج حرب بدر كانت قاسية على مشركي مكّة، و مفاجأة لليهود و المنافقين في المدينة.
فمضت قريش بعد الآن تستعدّ لقتال النّبيّ (ص) و تُعِبّى ء النّفوس و تجهّز القوى الحربيّة لأخذ الثار و محو العار، و مضى اليهود الّذين أصبحوا يخافون على مركزهم السّياسي و الاقتصادي في المنطقة و على هيمنتهم الثّقافيّة أيضاً يحرّضون المشركين على الثار ممّن وترهم، و أعلنوا بالحقد و نقض العهد.
و من جهة النّبيّ (ص) و من معه من المسلمين؛ فإنّهم لن يتخلّوا عن قبلتهم، الكعبة و لن يتركوا قريشاً و غرورها، لا سيّما بعد تعدّيها عليهم و ظلمها القبيح لهم، حتّى اضطرّهم إلى الهجرة من ديارهم و ترك كلّ ما يملكون.
و كانت العير الّتي كانت وقعة بدر من أجلها و هي ألف بعير كما قالوا قد بقيت سالمة و محتبسة في دار النَّدوة، و اتّفقوا مع أصحابها على أن يعطوهم رؤوس أموالهم، و هي خمسة و عشرون أو خمسون ألف دينار على اختلاف
ص: 214
النّقل على أن يصرف الرّبح في قتال المسلمين، و كان كلّ دينار يربح ديناراً، و هو مبلغ هائل في وقت كانت للمال فيه قيمة كبيرة.
و بعثوا الرّسل إلى القبائل ستنصرونهم، و خرجت قريش بِحَدّها و جَدّها و أحابيشها(1) و من تابعها، و أخرجوا معهم بالظُّعن (2) خمس عشرة إمرأة، فيهنّ هند بنت عتبة، لئلّا يفرّوا، و ليُذَكّرونهم قتلى بدر، يغنّين و يضربن بالدّفوف ليكون أجدّ لهم في القتال، و خرج معهم الفتيان بالمعازف، و الغلمان بالخمور، و كان جيش المشركين ثلاثة آلاف مقاتل. و كان فيهم سبعمائة دارع و مئتا فارس على المشهور، و معهم ألف و قيل ثلاثة آلاف بعير، و كلّهم بقيادة أبي سفيان الّذي صار زعيم قريش بعد قتل أشرافها في بدر.(3) و سارت قريش حتّى نزلت بذي الحُلَيفة، و سرّحوا إبلهم في زروع المدينة، و أرسل النّبيّ (ص) بعض العيون لمراقبتهم، و أرسل أيضاً الحُباب بن المنذر سرّا لمعرفة عددهم و عُدَّتهم، و قال له: إذا رجعت فلا تخبرني بين أحد من المسلمين إلّا أن ترى في القوم قلّةً، فرجع إليه فأخبره خالياً و أمره الرّسول (ص) بالكتمان.(4)
إنّه لمّا نزل المشركون قرب المدينة و بثّ المسلمون الحرس عليها و خصوصاً على مسجد الرّسول و أراد الشّخوص، فجمع أصحابه للتّشاور في أمر جيش لم
ص: 215
ى
واجه المسلمون مثله من قبل، عُدّةً و عدداً.
فأشار عبدالله بن أبَي بالبقاء في المدينة، فإذا أقبل العدوّ رماه الأطفال و النّسوة بالحجارة و قاتله الرّجال بالسّكَكِ،(1) و إن أقام في خارج المدينة، أقام في شرّ موضع؛ و لكن من لم يشهد بدراً، و طائفة من الشّباب المتحمّسين (2) الّذين ذاقوا حلاوة النّصر في بدر، و معهم حمزة بن عبدالمطّلب و أهل السّن، قد رغبوا بالخروج و أصرّوا عليه؛ و احتجّوا لذلك: بأنّ إقامتهم في المدينة ستجعل عدوّهم يظنّ فيهم الجبن فيجرؤ عليهم.
و غالب الرّوايات، بل كلّها متّفقة على أنّ النّبيّ (ص) كان يُرجّح البقاء في المدينة، ولكن إصرار أصحابه هو الّذي دعاه إلى العدول عن هذا الرّأي.
ولكنّ العلّامة السيّد الحسنى (رحمه الله) يرى: أنّ النّبيّ (ص) كان يرى الخروج إلى العدوّ، عكس رأى ابن أُبَي، و إنّما استشارهم ليختبر نواياهم، و لمّا اختبرهم و عرف نواياهم، أعلن عن رأيه الّذي كان قد انطوى عليه من أوّل الأمر.
قال: و يرجّح ذلك: أنّه لمّا خرج المسلمون إلى أحد، رجع ابن ابَي في ثلاثمائة و خمسين من أتباعه المنافقين و بعض اليهود إلى المدينة بلاسبب.
و في رواية: أنّه هو نفسه (ص) أمرهم بالرّجوع، و قال: لا نحارب المشركين بالمشركين.
إذاً، فالخروج من المدينة هو الأصوب، ولو أنّه بقي فيها لِأصبح خلال ساعات معدودات تحت رحمة المشركين. انتهى ملخّصاً.(3) ولكنّنا لا نوافق العلّامة الحسني على أنّ النّبيّ الأعظم (ص) كان يتعامل مع أصحابه بهذه الطّريقة الماكرة، فيُظهر لهم خلاف ما يبطن! نعوذ بالله من الزّلل و الخطل في القول و العمل.
ص: 216
إلّا أن يكون مقصوده أنّه (ص) لم يُظهر لهم رأيه، بل تركهم يُظهرون له ما في نفوسهم من دون أي تحفّظ أو حياءٍ، و ليتحمّلوا، ثمّ ليتألّفهم بذلك، حتّى إذا اختلفوا كان هو الحاسم للخلاق برأيه الصائب و موقفه الحكيم.
و أخيراً، فإنّ لنا تحفظّاًعلى ما ذكره من أنّ ابن ابَي قد رجع بمن معه من المنافقين و بعض اليهود فإنّ ذكر اليهود هنا في غير محلّه؛ لأنّه (ص) لم يكن يحبّذ الاستعانة باليهود، كما أنّهم هم أنفسهم ما كانوا ليعينوه على قتال عدوّه، و لا يرضى قومهم بذلك منهم إلّا إذا كانوا يريدون أن يكونوا في جيش المسلمين عيوناً للمشركين. و لم يكن ذلك ليخفى على النّبيّ (ص) و لا المسلمين، و لعلّه لأجل ذلك نجده (ص) قد رفض قبولهم في هذه الغزوة بالذّات، و أرجعهم.
و بعد أن استشار رسول الله (ص) أصحابه و خرج عليهم لابساً لامة حربه، استخلف على المدينة ابن امّ مكتوم و عقد الألوية، فأعطى اللّواء أميرَالمؤمنين (ع)، كما نصّ عليه البعض.(1) و يقال: إنّه اللّواء الأعظم (2)، و كان لواء الأوس مع اسَيد بن حُضَير، و لواء الخزرج مع حُباب بن المُنذر، و قيل: مع سعد بن عباده.
قال القوشجي، في غزاة أحد جمع له الرّسول (ص) بين اللّواء و الرّاية.(3) و عن أبي رافع قال: كانت راية رسول الله (ص) يوم أحد مع على و راية المشركين مع
ص: 217
طلحة بن أبي طلحة.(1) و يظهر من بعض الرّوايات الفرق بين اللّواء و الرايَة، و قد قالوا: إنّ الرّاية كانت في يد قصى، ثمّ انتقلت في ولده حتّى انتهت إلى النّبيّ (ص) فأعطاها رسولُ الله (ص) لعليّ في غزاة وَدّان، ثمّ لم تزل مع عليٌّ في المشاهد، في بدر و أحد؛ و كان اللّواء يومئذٍ في بني عبد الدّار، فأعطاه رسولُ الله (ص) لمُصعب بن عُمير، فاستشهد، و وقع اللّواء من يده فتشوّقته القبائل، فأخذه رسول الله (ص) فدفعه إلى علي، فجمع له يومئذٍ الرّاية و اللّواء فهما إلى اليوم في بني هاشم.(2) و يظهر أنّ هذا هو مراد القوشجي من كلامه الآنف.
و نقول: إنّ هذه الرّوايات تنافي ما نقل عن ابن عباس،(3) و جابر و قتادة(4) من أنّه (ع) كان صاحب لوائه (ص) في كلّ زحفٍ، و قد دلّت هذه الرّوايات على أنّ عليّاً (ع) هو صاحب لواء رسول الله (ص) و هو أيضا صاحب راية رسول الله لو كان ثَمّة فرق بينهما.
و نحن نشكّ في ذلك، لأنّ بعض أهل اللّغة ينصّون على عدم الفرق؛(5) فإنّ كلّاً منهما عبارة عمّا يجعله القائد من الأقمشة في طرف رمح، أو نحوه، و نجد وصف اللّواء بالأعظم تارة،(6) و وصف الرّاية بالعظمى أيضاً.(7)
ص: 218
إلّا أن يقال: إنّ مُصعب بن عمير كان صاحب لواء المهاجرين، فلما استشهد في أحد صار لواؤهم إلى علي؛ فعلي (ص) صاحب راية و لواء رسول الله، و هو أيضا صاحب لواء المهاجرين، و لعلّ هذا هو الأظهر.
ثمّ توجّه رسول الله (ص) إلى أحد و معه ألف رجل، و يقال: تسعمائة، و زاد بعضهم خمسين. منهم مئة دارع. ليس معهم فرس.(1) و قيل: مع النّبيّ (ص) فرسه، و فرس لأبي بردة بن نيار.(2)
و قيل: كان معهم فرس واحد.(3) و رجع ابن أُبَي ممّا بين المدينة و أحد بمن معه من المنافقين، و أهل الرّيب، و كانوا ثلاثمائة رجل، و قال: محمّد عصاني و أطاع الوِلْدان، سيعلم!! ما ندري علام نقتل أنفسنا و أولادنا ههنا أيّها الناس؟!
و قيل: إنّ النّبيّ (ص) أمرهم بالانصراف لكفرهم.(4) فبقى (ص) في سبعمائة من أصحابه أو ستّمائة.
و برجوع ابن أُبي سقط في أيدي بني حارثة و بني سلمة، ثمّ عادوا إلى الموقف الحقّ. قال تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ...»(5).
ص: 219
إنّه لمّا وصل النّبيّ (ص) إلى منطقة القتال، اختار أن ينزل إلى جانب جبل أحد، بحيث يكون ظهرهم إلى الجبل.
ثمّ عبّأ أصحابه، و صار يسوّي صفوفهم، حتّى إنّه لَيرى منكب الرّجل خارجاً، فيؤخرّه. و أمرهم أن لا يقاتلوا أحداً حتّى يأمرهم. و كان على يسار المسلمين جبل عينين و هو جبل على شفير قناة، قِبَلي مشهد حمزة، عن يساره.(1) و كانت فيه ثعرة؛ فأقام عليها خمسين رجلًا من الرّماة، عليهم عبدالله بن جبير، و أوصاه: أن يردّوا الخيل عنهم، لا يأتوهم من خلفهم.
و كان شعاره يوم أحد: أَمِتْ. أَمِتْ.
و من جهة أخرى: فقد عبّأ المشركون قواهم، استعداداً للحرب.
و كان أوّل مَن رمى بسهم في وجوه المسلمين أبوعامر الفاسق في خمسين ممّن معه، و حرّض أبوسفيان بني عبدالدّار حاملي لواء المشركين على الحرب، و جعل النّساء يضربن بالدّفوف و يحرّضنهم بالأشعار.
و طلب طلحة بن أبي طلحة، حامل لواء المشركين البراز؛ فبرز إليه علي (ع) فقتله: فسرّ رسول الله (ص) بذلك، و كبّر تكبيراً عالياً.
و اقتتل النّاس، و حميت الحرب و حارب المسلمون دفاعاً عن دينهم و عن وطنهم، الّذي فيه كلّ مصالحهم و يتوقّف على حفظه مستقبلهم و وجودهم. حاربوا فئة حاقدة، تريد الثأر لقتلاها في بدر و هي أكثر منهم عدداً و أحسن عُدّةً.
ثمّ شدّ أصحاب رسول الله (ص) على كتائب المشركين، فجعلوا يضربون
ص: 220
وجوههم، حتّى انتقضت صفوفهم.(1) ثمّ حمل اللّواء عثمان بن أبي طلحةأخو طلحة السّابق فقُتل، ثمّ أبوسعيد أخوهما، ثم مسافع، ثمّ كلاب بن طلحة ابن أبي طلحة، ثم أخوه الجلاس، ثمّ أرطأة بن شرحبيل، ثمّ شريح بن قانط، ثمّ صواب، فقُتلوا جميعاً و بقي لواؤهم مطروحاً على الأرض، و هزموا، حتّى أخذته إحدى نسائهم، فرفعته، فتراجعت قريش إلى لوائها، و يقال: إنّ أصحاب اللّواء بلغوا أحد عشر رجلًا.(2) قال الصّادق (ع) بعد ذكره قتل أميرالمؤمنين (ع) لأصحاب اللّواء: «و انهزم القوم، و طارت مخزوم، فضحها علي (ع) يومئذٍ».(3) كما أنّ رماة المسلمين الّذين كانوا في الشّعب قد ردّوا حملات عديدة لخيل المشركين، حيث رشقوا خيلهم بالنّبل حتّى ردّوها على أعقابها.
و أمعن في النّاس حمزة و علي و أبودجانه في رجال من المسلمين، و أنزل الله نصره على المسلمين و كانت الهزيمة.(4)
لمّا رأى أصحابُ الثّغرةِ المشركين قد انهزموا، و أنّ المسلمين يغنمون، اختلفوا فبعضهم ترك الثّغرة للغنيمة.
فلمّا رأى خالد قلّة مَن على الثّغرة، و خلاء الجبل، و اشتغال المسلمين بالغنيمة، و رأى ظهورهم خالية، صاح في خيله، فمرّبهم، و تبعه عِكْرمة في جماعة، فحملوا على من بقي في الثّغرة، فقتلوهم جميعاً، ثمّ حملوا على المسلمين من
ص: 221
خلفهم، و رأت قريش المنهزمة عودة رجالها للحرب، و رفعت الحارثيّة(1) لواءهم الّذي كان ملقى على الأرض فعادوا إلى الحرب من جديدٍ.
و إذا كان المسلمون قد تفرّقوا، و انتقضت صفوفهم، و لم يعودوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، و فقدوا الارتباط بقيادتهم الحكيمة، و هم في طلب المغنم، فمن الطّبيعي أن لا يتمكّنوا من مقاومة هذه الحملة الضّارية، و أن يضيّعوا بين أعدائهم، فكان هَمُّ كلّ واحد منهم أن ينجو بنفسه، فقد «اهمّتهم أنفسهم» على حدّ تعبير القرآن الكريم؛ لا سيّما و أنّ أحد المشركين قد قصد مُصعب بن عُمير و هو يذبّ عن رسول الله (ص) فظنّ أنّه الرّسول، فقتله، فنادى قاتل مصعب أو غيره-: أنّ محمّداًقد قَتل، فازداد المشركون جرأةً، و هزم المسلمون الّذين لم يستطيعوا جمع شملهم و لَمَّ شَعَثِهِم،(2) و ثبت علي (ع) و حده معه (ص) يدافع عنه.
و خلص العدوّ إلى رسول الله (ص) و كُلِمت (3) شفتُه، و شُجَ (4) في وجهه، و نشبت حلقتان من الدّرع في وجهه الشّريف، و دُثَ (5) بالحجارة حتّى وقع لِشَقّه (6) كذا يقولون.
و حين هزم المسلمون، جعل الرّسول (ص) يدعوهم في أخراهم: إلى عبادَ الله، إلى عباد الله، إلى يا فلان، إلى يا فلان؛ و هم يصعدون و لا يلوون، و لا يعرج عليه أحدٌ، و النّبل يأتي إليه من كلّ ناحية.
و استمرّوا في هزيمتهم حتّى الجبل، و فيهم أبوبكر، و عمر، و طلحة و سعد بن
ص: 222
أبي وقّاص و غيرهم. أمّا عثمان فقد استمرّ في هزيمته ثلاثة أيّام.
و حين انهزم النّاس غضب (ص) و نظر إلى جنبه، فإذاً علي (ع)؛ فقال: مالك لم تلحق ببني أبيك؟! فقال (ع): يا رسول الله، أكفرٌ بعد إيمانٍ؟! إنّ لي بك أُسوة.(1) فقال جبرئيل (ع): يا محمّد، إنّ هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى! فقال (ص) و ما يمنعه، و هو منّي و أنا منه؟! فقال جبرئيل: و أنا منكما. ثمّ سمع منادٍ من السّماء:
لا سيف إلّا ذوالفقار و لا فتى إلّا علي
فسُئل (ص) عنه؛ فقال: هذا جبريل.(2) و أصيب أميرالمؤمنين (ع) بجراح كثيرة. قال أنس بن مالك: أُتى رسول الله (ص) بعلي (ع) يومئذٍ و فيه نيّف و ستّون جراحة، من طعنةٍ، و ضربةٍ، و رميةٍ. فجعل رسول الله (ص) يمسحها و هي تلتئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن.(3)
1. إنّ من الواضح: أنّ السّبب الأوّل لما لحق بالنّبي (ص) و للهزيمة الّتي لحقت بالمسلمين، و ما جرى عليهم من النّكبات و القتل الذّريع، حتّى لقد قتل منهم سبعون، و جرحت أعدادٌ هائلة أيضاً هو: أنّهم عصوا و تنازعوا، ففشلوا. قال تعالى:
«وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ وَ عَصَيتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يرِيدُ
ص: 223
الآْخِرَةَ»(1)
و تصريح القرآن بأنّهم قد عصوا و تنازعوا من بعد ما كان النّصر منهم قاب قوسين أو أدنى، يُكذّب ما يدّعيه البعض: من أنّهم قد تخيّلوا انتهاء أمد أمر النّبيّ (ص) و إنّ هذا اجتهاد منهم.(2) فإنّه لو كان اجتهاداً لما كان معصيةً، مع أنّ القرآن يصرّح بالمعصية.
2. و أيضاً، فقد كان لاغترارهم بأنفسهم، و بكثرتهم، أثر كبير في حلول الهزيمة بهم. و واضحٌ أنّ الاغترار بالكثرة يفقد العناصر المشاركة شعور الاعتماد على النّفس، و يجعلهم يعيشون روح التّواكل و اللّامسئوليّة.
3. إنّ الله تعالى ما زال يؤيّد المسلمين بنصره، حتّى عصوا الرّسول (ص) طمعاً في الدّنيا و إيثاراً لها على الآخرة؛ فكان لابدّ في هذه الحالة من إعادة التّمحيص لهم، و ابتلائهم، ليرجعوا إلى الله تعالى، و ليميز الله المؤمن من المنافق، و ليزداد الّذين آمنوا إيماناً، لأنّ الإنسان ربّما يغفل عن حقيقة العنايات الإلهيّة، و الإمدادات الغيبيّة، حين يرى الانتصارات تتوالى، فينسب ذلك إلى قدرته الشّخصيّة.
و لأجل ذلك نجد: أنّهم حين غُلبوا شكوا في هذا الأمر و قالوا: «هل لنا من الأمر من شى ءٍ»؟ فجاءهم الجواب القاطع: «قل إنّ الأمر كلّه للّه». ثمّ، لابدّ إذاً من إعادتهم إلى الله تعالى، و تعريفهم بحقيقة إمكاناتهم، و قَدَراتهم.
4. و إنّ الانضباطيّة خصوصاً حين يكون القائد حكيماً، فكيف إذا كان نبيّاً هي أساس النّجاح، و لربّما تكون مخالفة أفراد معدودين سبباً في دمار جيش بكامله، كما كان الحال في قضيّة أحد.
ص: 224
ثمّ إنّ كعب بن مالك كان أوّل من عرف النّبيّ (ص)، رأى عينيه تزهران من تحت المِغْفَر؛ فصاح: يا معشر المسلمين، أبشروا؛ فهذا رسول الله. فأمره النّبيّ بالسّكوت، لحراجة الموقف و خطورته. ثمّ صار المسلمون يفيئون إلى رسول الله (ص) زرافاتٍ (1) و وحداناً، و جعل (ص) يذرهم و يحضّهم على القتال، فقاتلوا على قلّتهم خير قتال.
و لكنّ الّذين كانوا على الجبل فوق الصّخرة لم يعودوا أو أكثرهم إلى القتال، و لا تركوا مركزهم.
و يبدوء أنّه في هذه اللّحظات الحرجة، أنّ الله قد أنزل على القادمين الرّاجعين إلى النّبيّ (ص)، التّائبين، أمنةً نعاساً،(2) لكي يطمئنّوا إلى نصر الله و لطفه. أمّا أصحاب الصَّخرة أو كثيرٌ منهم فقد أهَمَّتْهم أنفسهم، يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهليّة.
و هكذا كان؛ فقد بلغ الرّسول و تلك الثُّلّةُ من المسلمين المجاهدين، سفح جبل أحد، و استقرّوا فيه، و لم يجاوزوه. فأرعب ذلك المشركين، لما رأوه من عودة المسلمين إلى مراكزهم الأولى، و تجميع صفوفهم، و ارتفاع معنويّاتهم من جديد. فخاف المشركون أن يُدالَ المسلمون منهم من جديد، و يفعلوا بهم كما فعلوا في ابتداء الحرب، فَفَضَّلوا إنهاء الحرب، و الانسحاب بسلام، و هكذا كان. و حينئذٍ أعلن أبوسفيان انتهاء الحرب، و أشرف على الجبل، و نادا بأعلى صوته: «أُعْلُ هُبَل».
و حيث إنّ المسئلة لم تعد مسئلة شخصيّة، و انّما يريد أبوسفيان أن يعتبر هذا
ص: 225
النّصر الظّاهري مؤيّداً لدينه و لإلهه هبل، فقد أجابه النّبيّ (ص):(1) «الله أعلى و أجلّ».
فقال أبوسفيان: أَنْعَمَت فعال،(2) إنّ الحرب سِجالٌ،(3) يوم بيوم بدر.
فقال: لا سواء،(4) قَتْلانا في الجنّة و قَتْلاكم في النّار.
و قد جاء علي (ع) إلى النّبيّ (ص) بعد ان انتهت الحرب، فغسل وجهه، و ضمدت جراحَه فاطمةُ (ع).
و مَثَّل نساءُ المشركين في قتلى المسلمين فَجَدَعْنَ (5) الأنوف و الآذان. و تشاوروا في نهب المدينة،؛ فأشار صفوان بن أميّة بالعدم؛ لأنّهم لا يدرون ما يغشاهم.(6) و أرسل النّبيّ (ص) عليّاً أميرالمؤمنين (ع) في آثارهم، لينظر؛ فإن كانوا قد ركبوا الإبل و جَنَّبُوا الخيل (7)، فهم يريدون مكّة، و
إن كان العكس، فهم يريدون المدينة، فلابدّ من مناجزتهم فيها. فذهب (ع) و عاد، فأخبره بأنّهم جَنَّبُوا الخيل و امتَطَوا(8) الإبل.(9)
ص: 226
و بعد انتهاء الحرب أرسل عليّاً (ع) إلى المدينة ليبشرّ أهلها بأنّ النّبيّ (ص) حَي سالم.(1)
1. لمّا كان يوم أحد قال مُخَيْرِيق الحبر اليهودي: يا معشر يهود، و الله لقد علمتم أنّ نصر محمّدٍ عليكم لَحَقّ. قالوا: إنّ اليوم يوم السّبت. قال: لا سبت. فأخذ سيفه و عُدَّتَه و قال: إن أُصبتُ فما لي لمحمّد، يصنع فيه ما شاء؛ ثمّ غدا إلى رسول الله، فقاتل معه حتّى قُتل؛ فيقال: إنّه (ص) قال: مُخَيْرِيق خير يهود.(2) 2. و أصرّ عمرو بن الجموح على الخروج إلى الحرب مع عرجه و دعا الله أن يرزقه الشّهادة، و لا يردّه خائباً إلى أهله، فاستشهد رحمه الله.
3. و أصيبت عين قتادة بن النّعمان، حتّى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله (ص) بيده، فكانت أحسنَ عينيه و أحدَّهما.
4. و قتل سعد بن الرّبيع، و كان آخر ما قاله في وصيّة مطوّلة منه للمسلمين: إنّه لا عذر لكم عند رسول الله أن يُخْلَص إلى نبيّكم، و فيكم عينٌ تَطْرِف،(3) ثمّ مات.
5. و يقال: إنّ قُزمان الّذي كان (ص) إذا ذكره يقول: إنّه لَمِن أهل النّار؛(4) قد حارب في أحد و قَتَل سبعةً أو ثمانيةً من المشركين، فجُرح، فبشّره البعض، فقال:
ص: 227
بماذا أُبَشّر؟ فو الله ما قاتلت إلّا عن الأحساب.(1)
ما جرى على حمزة و الشّهداء
1. إنّ هنداً زوجة أبي سفيان قد أتت مصرع حمزة، فمثّلت به و جَدَعَت أنفه و قُطّعت أذنيه و مذاكيره؛ ثمّ جعلت ذلك كالسّوار(2) في يديها و قلائد في عنقها، و استمرّت كذلك حتّى قدمت مكّة، و كذلك فعل النّساء بسائر الشّهداء. و زادت هي عليهم: أنّها بقرت بطن حمزة و استخرجت كبده فلاكَتْها(3)، فلم تستطع أن تُسيغَها.(4) 2. و أقبلت صفيّة لتنظر أخاها، فالتقت بعلي (ع)، فقال: ارجعي يا عمّة، فإنّ في النّاس تكشّفاً، فسألته عن الرّسول (ص)، فقال: صالح.
قالت: أدللني عليه حتّى أراه؛ فأشار إليه إشارة خفيّة من المشركين؛(5) فأقبلت إليه، فأمر (ص) الزّبير بإرجاعها حتّى لا ترى ما بأخيها.
فقالت للزّبير: و لِمَ؟ و قد بلغني أنّه قد مُثّل بأخي، و ذلك في الله قليل؛ فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبنّ و لأصبرنّ إن شاء الله. فسمح لها النّبيّ (ص) برؤيته، فنظرت إليه، فصلّت عليه، و استرجعت، و استغفرت له.(6)
ص: 228
3. قال ابن إسحاق: و مرّ رسول الله (ص) حين رجع إلى المدينة بدور من الأنصار، فسمع بكاء النّوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله (ص)، ثمّ قال: لكن حمزة لابواكي له. فأمر سعدُ بن معاذ و يقال: و أُسيد بن حُضير نساء بني عبدالأشهل: أن يذهبن و يبكين حمزة أوّلًا، ثمّ يبكين قتلاهنّ. فقالت أمّ سعد بن معاذ: فما بكت منّا امرأة قطّ إلّا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا.
4. لقد بكى النّبيّ (ص) علي حمزة، و قال: أمّا حمزة فلابواكي له. و بعد ذلك بكى على جعفر و قال: على مثل جعفر فلتبك البواكي. و بكى على ولده إبراهيم و قال: تدمع العين و يحزن القلب و لا نقول إلّا ما يرضى الرّب. و بكى كذلك على عثمان بن مظعون و سعد بن معاذ و زيد بن حارثة، و بكى الصّحابة، و بكى جابر على أبيه، و بشير بن عفراء على أبيه أيضاً إلى غير ذلك ممّا هو كثير في الحديث و التّاريخ.(1) فكلّ ذلك فضلًا عن أنّه يدلّ على عدم المنع من البكاء، فإنّه يدلّ على مطلوبيّة البكاء و على رغبته (ص) في صدوره منهم.
و واضح أنّ حزن الرّسول (ص) هذا و رغبته تلك ليسا إلّا من أجل تعريف أصحابه و الأمّة أيضاً بما كان لحمزة من خدمات جلّى لهذا الدّين، و من قَدَمٍ ثابتة له فيه، و بأثره الكبير في إعلاء كلمة الله تعالى.
و أنّ حزنه (ص) كان في الحقيقة حزناً على ما أصاب الإسلام بفقده، و هو المجاهد الفذّ الّذي لم يكن يدّخر وسعاً في الدّفاع عن هذا الدّين و إعلاء كلمة الله.
و ما ذلك إلّا لأنّ النّبيّ (ص) لم يكن ليهتمّ بالبكاء على حمزة، و لا ليبكي هو عليه لمجرّد دوافع عاطفيّة شخصيّة، أو لعلاقة رَحِميّة و نَسَبيّة، و إنّما هو (ص) يحبّ في الله و في الله فقط، تماماً، كما كان يبغض في الله و في الله فقط.
ص: 229
فهو (ص) يحزن على حمزة بمقدار ما كان حمزة مرتبطاً بالله تعالى، و خسارته خسارة للإسلام؛ و إلّا فكما كان حمزة عمّه، فقد كان أبولهب عمّه أيضاً.
لقد روي بعضهم: أنّ النّبيّ (ص) لم يصلّ على شهداء أحد، و به أخذ الأئمّة الشّافعيّة. و لكن ذلك غير صحيح، فقد صرّحت الرّوايات الكثيرة بأنّه (ص) قد صلّى عليهم، و روي ذلك عن بعض أئمّة الحديث، و به أخذ الأئمّة الحنفيّة.(1) و الصّحيح أنّه قد صلّى عليهم و لم يغسّلهم، و هو الثّابت عن أئمّة أهل البيت (ع) الّذين هم سفينة نوح؛ فلا يعبأ بما رواه غيرهم.
و أمّا بالنّسبة للتّكفين؛ فإنّ الشّهيد يدفن في ثيابه، و لكنّ النّبيّ (ص) قد كفّن حمزة و حنّطه؛ لأنّه كان قد جُرّد، كما روي.(2) و أمّا دفنهم؛ فيقال: إنّه قد احتمل ناسٌ من المسلمين قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها، ثمّ نهى (ص) عن ذلك، و قال: ادفنوهم حيث صرعوا.(3) و يقال: إنّه قال: ادفنوا الإثنين و الثّلاثة في قبر واحدٍ و قَدّموا أكثرَهم قرآناً.(4)
ص: 230
أمّا عدد الشّهداء، فقد كانوا سبعين، من المهاجرين أربعة و الباقون من الأنصار.(1) و هذا ما وعدهم به النّبيّ (ص) في بدر: بأنّه سيقتل من المسلمين بعدّة أسرى بدر إن قبلوا بالفداء. و عِدَّةُ أسرى بدر كانت سبعين كما يقولون.(2) و يلاحظ هنا: أنّ أكثر القتلى كانوا من الأنصار؛ و ذلك لأنّ قريشاً ظلّت تحقد على الأنصار و على أهل البيت (ع) عشرات سنين و الأعوام. و لربّما نفهم: أنّ الأنصار كانوا أكثر اندفاعاً إلى الحرب، و أشدّ تصدّياً لمخاطرها؛ لأنّهم يدافعون عن وطنهم و عن عقيدتهم معاً. و قد كان الإسلام فيهم أعمق من كثير من المهاجرين؛ فإنّهم إنّما أسلموا خوفاً أو طمعاً؛ و لذا فقد كثر فيهم المنافقون و المناوؤون (3) لأهل البيت (ع).
و أمّا عدد قتلى المشركين، فيقال: إنّه قد قُتل منهم في معركة أحد ثمانية عشر رجلًا(4) و قيل: أكثر من ذلك؛(5) لأنّ حمزة قد قتل وحده منهم واحداً و ثلاثين رجلًا، كما يقولون.(6) و يروي البعض: أنّ أميرالمؤمنين (ع) قد قتل في أحد اثني عشر رجلًا.(7) و نعتقد أنّه (ع) قد قتل أكثر من ذلك؛ لأنّه قد قتل أصحاب اللّواء بلا شكّ و هم
ص: 231
تسعة أو أحد عشر؛ كما أنّ المعتزلي يذكر: أنّ كتائب المشركين صارت تحمل على النّبيّ (ص)، و قد قُتل من كتيبة بني كنانة أبناء سفيان بن عويف الأربعة و تمام العشرة منها ممّن لا يعرف بأسمائهم.(1) و قال القوشجي: و كان أكثر المقتولين منه (من أميرالمؤمنين (ع)).(2) و قال الشّيخ المفيد: و قد ذكر أهل السّير قتلى أحد من المشركين، و كان جمهورهم قتلى أميرالمؤمنين (ع)، ثم ذكر أسماءاثني عشر من الأبطال المعروفين ممّن قتلهم (ع).(3) و ممّا يدل على مدى ما فعله أميرالمؤمنين (ع) بقريش في أحد: أنّ النّص التّاريخي يؤكّد على أنّ قريشاً كانت بعد ذلك و إلى عشرات السّنين تحقد على علي (ع) و على أهل بيته لذلك.
ص:232
ص:233
ص:234
ص: 235
غزوة الأحزاب (الخندق) هي الغزوة الّتي سميّت سورة قرآنيّة باسمها بسبب أهميّتها و حيث إنّه لا يسعنا المجال عن الحديث التّفصيلي عن هذه الغزوة، نكتفي بذكر نصّ موجز لها، ثمّ نذكر بعض المباحث و الوقايع المرتبطة بهذه الغزوة تفصيلا؛ فنقول:
إنّه في السّنة الرّابعة كما هو الأقوى أو في الخامسة سار عدد من اليهود إلى مكّة و استنفروا أهلها لقتال النّبيّ (ص)، و استئصال المسلمين، و اتّصلوا بقبائل غطفان و قبائل عربيّة أخرى و حرّضوهم على حرب محمّد (ص) و وعدوهم بالأموال: فساروا و هم ألوف كثيرة إلى المدينة لإنجاز هذا المهمّ.
فبلغ النّبيّ (ص) خبرهم؛ فحفر خندقاً حول المدينة من الجهة المكشوفة منها، و جعل للخندق أبواباً، و جعل على الأبواب حرساً.
و قد شارك النّبيّ (ص) بنفسه في حفر الخندق، و ظهرت له حينئذٍ كرامات و معجزات. و قد عسكر (ص) إلى جنب جبل سلع، و جعل الخندق بينه و بين الأحزاب. و جعل النّساء و الصّبيان في بعض حصون المدينة، و استخلف على المدينة «ابن أمّ مكتوم» و كان لواء النّبيّ (ص) مع علي (ع).
و لمّا وافى الأحزاب، فوجئوا بالخندق، و نزلوا في الجهة الأخرى منه، و حاصروا المسلمين؛ و ذهب «حيي بن أخطب» اليهودي إلى بني قريظة، و لم يزل بهم حتّى نقضوا العهد مع المسلمين.
ص: 236
فلمّا بلغ النّبيّ (ص) ذلك أرسل إليهم مَن يثبت له الأمر. فرجعوا إليه و أخبروه بأنّ ما بلغه صحيح؛ فاشتدّ الأمر على المسلمين، و ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، و عظم البلاء، و نَجَم النّفاق (1) و كثر الخوض، و بلغت القلوب الحناجر.
و قال المنافقون و الّذين في قلوبهم مرض: «ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً»(2) و كان أميرالمؤمنين (ع) على العسكر كلّه باللّيل يحرسهم؛ فإن تحرّك أحدٌ من قريش نابذهم. و كان النّبيّ (ص) يحرس بنفسه بعض مواضع الخندق.
و لم يكن بين المسلمين و المشركين قتال إلّا الرّمي بالنّبل و الحصا. و كان المشركون يتناوبون على الخندق، فلا يمكنهم عبوره و المسلمون يمنعونهم بالنّبل و الحجارة.
و قد انتدب فوارس من المشركين فأتوا مكاناً ضيّقاً من الخندق و أكرهوا خيلهم على عبوره، فعبره عِكْرَمة بن أبي جهل، و عمرو بن عبدِوَدّ، و ضرار بن الخطّاب الفهري، و هيبرة بن أبي وهب، و حسل بن عمرو بن عبدودّ، و نوفل بن عبدالله المخزومي.
فخرج أميرالمؤمنين (ع) في نفر من المسلمين، حتّى أخذوا عليهم الثّغرة الّتي اقتحموها، و طلب عمرو بن عبدوَدّ البراز فلم يبرز إليه أحد من المسلمين، و خافوا منه خوفاً شديداً، لما يعرفون من شجاعته و كان يعدّ بألف فارس. و طلب علي (ع) من النّبيّ (ص) أن يأذن له بمبارزته، فلم يأذن له.
فكرّر النّداء، و أنشد الشّعر، و عيّر المسلمين المحجمين عنه، فطلب علي (ع) الإذنَ مرّة أخرى، فلم يأذن له الرّسول (ص).
فلمّا كان في المرّة الثّالثة، و لم يبادر إلى ذلك سوى علي (ع) أذن له النّبيّ (ص) و عمّمه و دعا له و قال: «برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه». فبارز
ص: 237
علي (ع)، فقتله و قتل ولده حسلًا و نوفل بن عبدالله و فرّ الباقون.
فقال (ص) «ضربة علي يوم الخندق تعدل (أو أفضل من) عبادة الثّقلين إلى يوم القيامة».
ثمّ أرسل الله سبحانه الرّيح على المشركين فكانت تكفأ قدورهم، و تطرح خيامهم، و تعبث بكلّ ما يحيط بهم، و قذف الله في قلوبهم الرّعب؛ فعادوا بالخزي و الخيبة، و الرّعب يلاحقهم، و كفى الله المؤمنين القتال.
و قال النّبيّ (ص) حينئذٍ: «الآن نغزوهم و لا يغزوننا» فكان كما قال. و إليك بعض التّفصيل و التّحقيق و التّحليل حول هذه الغزوة.
يظهر من بعض كلمات الأحزاب أنّ هدفهم من الحرب استئصال محمّد (ص) و من معه؛ ولكنّنا نجد أنّ أميرالمؤمنين (ع) قد حدّد هدف الأحزاب و العرب من الحرب بأنّ: «قريشاً و العرب تجمّعت، و عقدت بينها عقداً و ميثاقاً لا ترجع من وجهها حتّى تقتل رسول الله و تقتلنا معه معاشر بني عبدالمطّلب».(1) و نعتقد: أنّ هذا الكلام هو الأقرب و الأنسب فيما يرتبط بتحديد الهدف الأقصى للحرب فإنّ كلامهم المتقدّم و إن كان ينصّ على استئصال محمّد و من معه؛ إلّا أنّ استئصال جميع مَن مع النّبيّ من الأوس و الخزرج و سائر قبائل العرب لن يكون سهلًا و لا ميسوراً لهم؛ أمّا قتل محمّد و بني عبدالمطّلب فهو الأسهل و الأيسر، و به يتحقق المطلوب، و لماذا يذهبون إلى أبعد من ذلك؟!
فاليهود إنّما قدموا مكّة ليتحالفوا و يتعاقدوا مع المشركين على استئصال محمّد (ص) و من معه حسب زعمهم، حيث قالوا لقريش: «نحن معكم حتّى
ص: 238
نستأصل محمّداً» أو «سنكون معكم حتّى نستأصله و من معه» كما أنّهم و هم يقرّرون ما يتعاقدون عليه قالوا: «و لتكون كلمتنا واحدة على هذا الرّجل ما بقي منّا رجلٌ». و ذلك يعني:
ألف. أنّ هدفنا المعلن هو استئصال شأفة(1) الإسلام و المسلمين.
ب. أنّهم مصمّمون على تحقيق هذا الهدف بأسلوب الحرب حتّى آخر رجل منهم.
ج. أنّ هذه المبادرة منهم قد جاءت عن طريق خيانتهم لعهودهم و مواثيقهم الّتي كانوا قد أبرموها مع النّفس الّذين يريدون استئصالهم، مع العلم بأنّ ذلك الطّرف لم يزل وفيّاً بعهده، حافظاً لمواثيقه معهم، و لم يحدث أن خان أو تردّد في عهدٍ مع أي فريق منهم، و لم يسى ء إليهم و لا إلى غيرهم بشى ء إلّا ما يجرونه هم على أنفسهم بخياناتهم المتتالية و هم يرتكبون هذه الخيانة رغم أنّهم قد رأوا بأمِّ أعينهم عواقب خيانة بني قينقاع، ثمّ خيانة بني النّضير و أكثرهم نضيريّون.
4. أنّ مبرّر هذا الإجرام العظيم و البَشِع (2) هو مجرّد الحسد و الحقد منهم، بالإضافة إلى مكاسب سياسيّة و اجتماعيّة و غيرها و لم يكن الهدف عقيديّاً و لا إنسانيّاً و لا أخلاقيّاً؛ بل هم قد داسوا بأقدامهم الإنسانيّة و الأخلاق و حتّى مبادئهم و عقيدتهم الّتي يدّعون أنّهم ينتسبون إليها و هذا هو منتهي الإساف، و غاية التّردّي في حمأة الجريمة و البغي.
و يقول المؤرّخون: إنّه لمّا فصلت قريش من مكّة إلى المدينة، خرج ركب من خزاعة إلى النّبيّ، فساروا من مكّة إلى المدينة أربعاً، فأخبروا النّبيّ (ص) بالأمر. و ذلك حين ندب رسول الله (ص) النّاس و أخبرهم الخبر و شاورهم في أمرهم و
ص: 239
أمرهم بالجِدّ و الجهاد و وعدهم النّصر، إن هم صبروا و اتّقوا، و أمرهم بطاعة الله و طاعة رسوله.
و شاورهم، فقال: أنبرز لهم من المدينة، أم نكون فيها و نخندقها علينا، أم نكون قريباً و نجعل ظهورنا إلى الجبل؟ فاختلفوا.
فقال سلمان: يا رسول الله! إنّا إذكنّا بأرض فارس، و تخوّفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رأى سلمان المسلمين، و أحبّوا الثّبات في المدينة.
فركب رسول الله (ص) فرساً له، و معه نفر من أصحابه فارتاد موضعاً ينزله، فكان أعجب المنازل إليه: أن يجعل سلعاً(1) خلف ظهره و يخندق على المَذاد، إلى ذباب، إلى راتج. فعمل يومئذٍ الخندق، و ندب النّاس و خبرهم بدنوّعدوّهم و عسكرهم إلى سفح سلع.(2) و لنا مع هذا الّذي يذكره المؤرّخون وقفات، و هي التّالية.
ألف. مَن أخبر النّبيّ (ص) بمسير الأحزاب؟
قد تقدّم: أنّ ركباً من خزاعة قدم إلى المدينة في مدّة أربعة أيّامٍ، فأخبروا النّبيّ (ص) بمسير الأحزاب إليه. ولكنّا نجد نصّاً آخر عن علي (ع) يقول: إنّ النّبيّ (ص) قد علم بذلك من جهة جبرئيل (ع) فخندق على نفسه و من معه».(3) و لا نستبعد أن يكون كلا الأمرين قد حصل.
ب. مَنِ المشير بحفر الخندق؟
إنّ السّياق المذكور آنفاً يدلّ: على أنّ النّبيّ (ص) هو الّذي بادر إلى اقتراح حفر الخندق، ثمّ لمّا اختلف المسلمون، فتكلّم سلمان الفارسي بطريقةٍ بَيَّنَ لهم فيها
ص: 240
وجه الحكمة في اعتماد إجراءٍ كهذا، فأعجبهم ذلك حينئذٍ، فقبلوه و اجتمعت كلمتهم عليه؛ ولكن كلمات كثير من المؤرّخين قد أظهرت: أنّ سلمان هو المشير بحفر الخندق، من دون أن تشير إلى أي تحفّظ في ذلك،(1) و هذا هو ما استنتجه بعض المشركين حين فوجئوا بالخندق.(2) و في مقابل ذلك نجد ابن إسحاق و كذا غيره ينسب حفر الخندق إلى رسول الله (ص) و لا يشير إلى مشورة سلمان، لا من قريب و لا من بعيد.(3) بل إنّ النّبيّ (ص) قد كتب في رسالته الجوابيّة لأبي سفيان: «و أمّا قولك مَنْ عَلَّمنا الّذي صنعنا من الخندق، فإنّ الله ألهمني ذلك».(4) و لا نُخفى هنا إعجابنا بهذا الوعي من سلمان المحمّدي حيث بادر في الوقت المناسب إلى تقديم تبرير لأولئك النّاس الّذين اختلفوا على رسول الله (ص) يتوافق مع طريقة تفكيرهم، حيث قرّر لهم: أنّ الخندق المقترح من شأنه أن يحدّ من فاعليّة الخيل في الحرب و يدفع غائلتها، و يصبح الجهد الشّخصي للأفراد، هو الّذي يقرّر مصير الحرب و نتائجها.
فكان أن استجاب المسلمون لاقتراح حفر الخندق و أعلنوا موافقتهم عليه، و تحمّلوا مسؤوليّة الخيار و الاختيار، و هذا بالذّات هو ما أراده الرّسول (ص) و سواء أكان حفر الخندق بمشورة سلمان أم لم يكن، بل النّبيّ (ص) هو الّذي بادر إلى
ص: 241
اقتراحه كما نرجّح ذلك فإنّ ما نريد أن نؤكّد عليه هو أنّ الإسلام لا يمنع من الاستفادة من تجارب الآخرين في المجالات الحياتيّة البناءة، فقد رُوي: أنّ «الحكمة ضالّة المؤمن، فاطلبوها و لو عند المشرك تكونوا أحقّ بها و أهلها».
ولكن هذه الاستفادة مشروطة: بأن لا تنشأ عنها سلبيّات أخرى، كما لو كان ذلك يعطى للمنحرفين فرصة لتضليل النّاس و جرّهم إلى مهالك الانحراف، أو يعطيهم بعض النّفوذ و الهيمنة أو يجرئهم على التّدخّل في الشّئون الخاصّة بالمسلمين و ما إلى ذلك.
فالمرفوض إسلاميّاً هو التبعيّة للآخرين و تقليدهم على غير بصيرةٍ و أمّا الاستفادة الواعية من منجزاتهم الحيويّة لبناء الحياة، و التّغلّب على مصاعبها بصورةٍ تنسجم مع أحكام الشّرع، فذلك أمر مطلوب و لا غضاضة فيه.
و حتّى لو كان الخندق بإشارة سلمان من الأساس، و كان سلمان قد استفاد ذلك من بيئته و قومه الّذين ما كانوا على طريقة الإسلام و لا على دين الحنيفيّة فلا ضيرو لا غضاضة في قبول مشورته؛ بل الغضاضة في ترك العمل بتلك المشورة إذا كانت موافقة للصّواب.
قد تقدّم: أنّ النّبيّ (ص) قد ركب فرساً و خطّ لهم الخندق و قد بيّنت النّصوص التّاريخيّة لنا مواضع الخندق و خصوصيّاته و مواصفاته بشى ءٍ من التّفصيل و نحن نذكر طائفة منها، فنقول:
* موضع الخندق: قال الواقدي: «كان الخندق ما بين جبل بني عبيد بِخُرْبَي، إلى راتج. قال: و هذا أثبت الأحاديث عندنا».(1) و في نصٍّ آخر: «من المَذاد إلى
*
ص: 242
ذُباب، إلى راتج».(1) و عند القمي: «فأمر (ص) بمسحه من ناحية أُحد إلى راتج».(2)
و في نصٍّ أكثر تفصيلًا: «حفر النّبيّ (ص) الخندق طولًا، من أعلى وادي بطحان، غربيّ الوادي مع الحَرَّة إلى غربيّ مصلّى العيد، ثمّ إلى مسجد الفتح، ثمّ إلى الجبلين الصّغيرين، الَّذين في غربيّ الوادي. و مأخذه قول ابن النّجّار».
إلى أن قال: «و الحاصل: أنّ الخندق كان شاميّ المدينة، من طرف الحرّة الشّرقيّة إلى طرف الغربيّة».(3) أبواب الخندق: و ذكروا: أنّ الخندق له أبواب؛ فلسنا ندري أين موضعها».(4) و حسب نصٍّ آخر: «جعل له رسول الله (ص) أبواباً و جعل على الأبواب حرساً».(5) و ذكر القمي: أنّ عدد الأبواب كان ثمانية.(6) خصوصيّات و مواصفات أخرى: «و الخندق فيه قناة، يأتي من عين قُباء إلى النّخل الّذي بالسّنح حوالي مسجد الفتح، و في الخندق نخل أيضاً، و انطَمَ (7) أكثره و تهدّمت حيطانه».(8)
و ذكروا أيضا: أنّه قد بلغ طول الخندق نحواً من خمس آلاف ذراعٍ، و عرضه
ص: 243
تسعة أذرع، و عمقه سبعة أذرعٍ.(1)
لموقع الجغرافي للخندق: و نحن إذا راجعنا الواقع الجغرافي للمدينة، فإنّة يتّضح: أنّ الخندق قد ضرب على المدينة في مواقع من الجهة الغربيّة و الشّماليّة؛ أمّا الجهة الشّرقيّة و الجنوبيّة فقد شبكت بالبُنْيان (2) من الجبال و الأودية و التّضاريس (3) و الأشجار و الحجارة ما يحدّ من قدرة تلك الجيوش الغازية على الحركة الفاعلة و المؤثّرة، فلم يخندق المسلمون عليها.
و يوضح ذلك: أنّه كانت توجد في الجهة الشّرقيّة حَرَّة واقم و في الجهة الغربيّة حَرَّة الوبرة، و هي مناطق وَ عْرَة(4) فيها صخورٌ بركانية و تمثّل حواجز طبيعيّة و كان في جهة الجنوب أشجار النّخيل و غيرها بالاضافة إلى الأبنية المتشابكة، و كلّ ذلك لا يتيح لجيش المشركين أن يقوم بنشاط فاعلٍ و قويٍّ ضدّ المسلمين.
يقول مصطفى طلّاس: «و بحفر الخندق استطاعت قيادة الجيش الإسلامي أن تعزل قوّات العدوّ عن مكان التّجمّع الرّئيسي للقوّات المدافعة عن المدينة، و أن تحول بينها و بين اقتحام مداخل المدينة؛ لأنّ هذه المداخل أصبح من الممكن حراستها بعد حفر الخندق».(5) مدّة حفر الخندق: و قال المؤرّخون: و جعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدوّ عليهم.(6)
ص: 244
الأقوال في مدّة حفر الخندق مختلفة بين ستّة أيّام (1)؛ بضع عشر ليلة؛(2) شهرٍ أو قريباً من شهر،(3) و غير ذلك. وصرّح القمّي: بأنّه (ص) قد فرغ من حفر الخندق قبل قدوم قريش و الأحزاب بثلاثة أيّام.(4) هذا ... ولكن يمكننا أن نخفى أعجابنا بهذا الانجاز الضّخم و السّريع جدّاً، مع ملاحظة ضعف الوسائل و الامكانات المتوفرّة للعاملين في حفر الخندق آنئذٍ بالاضافة إلى وجود المثبطين عن العمل. فحيّا الله هذه الهِمَم و بورك لهم جهادهم المبارك و الرّائد تحت قيادة و في طاعة رسول الإسلام الأعظم و الأكرم (ص).
أمّا المسلمون فقد اختلفت كلمات المؤرّخين في عُدّة و عددهم. فأمّا بالنّسبة للعُدَّة فقد ذكر ابن سعد: «أنّه كان مع المسلمين ستّة و ثلاثون فرساً.(5) و أمّا بالنّسبة إلى العدد، فقيل. كانوا سبع مئة و هو قول ابن إسحاق (6)- و قيل: كانوا ألفاً أو نحوها و هو صريح رواية البخاري و مسلم عن جابر و صرّح به قُتادة أيضاً(7)- و قيل: تسع مئة،(8) و ذهب أكثر المؤرّخين إلى أنّهم كانوا ثلاثة آلافٍ أو نحوها.(9) و نقول: إنّنا نرجّح قول ابن إسحاق، و إن حكم عليه البعض، كالحلبي و غيره
ص: 245
بأنّه قد وهم أو غلط في ذلك. و لو تنزّلنا عن ذلك، فإنّنا نأخذ بالقول الثّاني؛ أمّا القول بأنّهم كانوا ثلاثة آلاف، فلا مجال للاعتماد عليه؛ لما روي عن الإمام الصّادق (ع) أنّه (ص) شهد الخندق في تسع مئة رجل،(1) و يحتمل أن تكون كلمة تسع تصحيفاً لكلمة سبع أيضا.(2)
صفوة الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله ؛ ؛ ص245
يرى البعض: أنّ المسلمين كانوا في أحد بعد رجوع المنافقين سبع مئة رجل، و بين أحد و الخندق سنة أو أكثر بقليل، و يبعد أن يزيد المسلمون خلال سنة واحدة هذه الزّيادة الكبيرة، بحيث يصلون إلى ثلاثة آلافٍ.(3) و ما جرى في الخندق يوضح: أنّ عدد سكّان المدينة لا يصل إلى الخمسة آلاف نسمة بما في ذلك الأطفال و النّساء.
أمّا المشركون، فقد اختلفت الأقوال في عددهم. قال المسعودي: سارت إليه قريش، و غطفان، و سُليم، و أسد و أشجع و قريظة و نضير، و غيرهم من اليهود، فكان عِدّة الجميع أربعة و عشرين ألفاً، منها قريش و أتباعها أربعة آلاف.(4) و قال ابن شهر آشوب: كانوا ثمانية عشر ألف رجلٍ.(5) و قال ابن الرّبيع: كانوا أحد عشر ألفاً.(6) و ذكر في موضع آخر: أنّهم كانوا عشرة آلافٍ، و لعلّه حين عدّ معهم بني قريظة ذكر الرّقم الأوّل و حين غَضَّ النّظر عنه عدّهم عشرة آلافٍ.
و أمّا بالنّسبة إلى عُدَّتهم، فقد قال المسعودي: إنّه كان معهم ثلاث مئة فرس، و ألف و أربع مئة بعير و قائدهم أبوسفيان، صخر بن حرب.(7) و ذكر آخرون: أنّه كان
ص: 246
معهم ألف و خمس مئة بعير و ثلاث مئة فرس،(1) و غير ذلك من الأقوال.
و من الواضح: أن لا مجال لتحديد الرّقم الحقيقي لذلك كلّه و لا لغيره؛ لكن ممّا لا شك فيه: أنّ هذا العرض للنّصوص و الأقوال يوضح مدى التّفاوت بين عُدَّة و عدد المسلمين و أعدائِهم من الأحزاب الّذين جاؤوا من كلّ حدب و صوب.
إنّ المشركين قد أحاطوا بالمسلمين حتّى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبه، و أخذوا بكلّ ناحية، و قد استمرّ هذا الحصار مدّة طويلة بلغ شهراً كاملًا بل أكثر، و قد كانت الحراسة المستمرّةو اليقظة الدّائمة من الأمور الضّروريّة و كان المسلمون يقومون بها باستمرارٍ.
و أمر رسول الله (ص) المسلمين بالثّبات في مكانهم و لزوم خندقهم. و نظر المشركون إلى الخندق، فتهيّبوا القدوم عليه، فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم و خيلهم و رجلهم، و مكثوا على ذلك المدّة المتقدّمة و لم يكن بينهم حرب إلّا الرّمي بالنّبل و الحصا.(2) و كان للمشركين رماة يقدمونهم إذا غدوا متفرّقين أو مجتمعين بين أيديهم؛ فتناوشوا يوماً بالنّبل ساعة و هم جميعاً في وجه واحد وِ جاه قبّة رسول الله (ص) و هو قائم بسلاحه على فرسه، فرمى «حِبّانُ الْعَرِقَة» سعدَ بن معاذ بسهم فأصاب أكْحَلَه.(3)*
و أمر (ص) بنقل سعد حينما جُرح إلى خيمة رُفَيْدَة الّتي كانت أقامتها في
ص: 247
مسجد النّبيّ لمداواة الجرحي، و كان يتعاهده بنفسه.(1)
يقول المؤرّخون: إنّه بعد أن جُرح سعد بن معاذ، أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعاً، و جاؤا يريدون مَضيقاً يقحمون منه خيلهم إلى النّبيّ (ص)، فوجدوا مكاناً ضَيّقاً أغفله المسلمون، فلم تدخله خيولهم، فعبره عِكرمة بن أبي جهل و نوفل بن عبدالله و ضرار بن الخطاب و هُبَيْرَة بن أبي وهب و عمرو بن عبدوَدّ، و وقف سائر المشركين وراء الخندق.(2) و تقدّم عمرو، فلمّا رأى المسلمين، وقف هو و الخيل الّتي معه و قال: هل من مبارز.(3) و كان عمرو فارس قريش و كان يعدّ بألف فارس، و يسمّى فارس يليل،(4) و كان من مشاهير الأبطال و شجعان العرب،(5) و كان كما قيل لم يهزم في مبارزة قطّ.(6) فلمّا دعا عمرو للبراز قال (ص) على ما في الرّوايات مَن لهذا الكلب؟ فلم يقم إليه أحدٌ. فلمّا أكثر، قام علي (ع) و قال: أنا أبارزه يا رسول الله؛ فأمره بالجلوس، انتظاراً منه ليتحرّك غيره. و أعاد عمرو النّداء و النّاس سكوت كأنّ على رؤوسهم الطّير، لمكان عمرو، و الخوف منه و ممّن معه و مَن وراءه.
ص: 248
فقال عمرو: أيّها النّاس! إنّكم تزعمون أنّ قتلاكم في الجنّة، و قتلانا في النّار. أفما يحبّ أحدكم أن يقدم على الجنّة، أو يقدم عدوّاً له إلى النّار؟ فلم يقم إليه أحدٌ.
فقام علي (ع) دفعة ثانية، قال: أنا له يا رسول الله، فأمره بالجلوس.
فجال عمرو بفرسه، مقبلًا مدبراً، و جاءت عظماء الأحزاب و وقفت من وراء الخندق و مدّت أعناقها تنتظر، فلمّا رأى عمرو: أنّ أحداً لا يجيبه قال:
و لقد بححت من النّداء بجمعهم هل من مبارز؟ ...
فقام علي (ع)، فقال: يا رسول الله! ائذن لي في مبارزته. فلمّا طال نداء عمرو بالبراز، و تتابع قيام أميرالمؤمنين (ع)، قال له رسول الله (ص): ادن منّي يا علي. فدنا منه، فقلّده سيفه (ذاالفقار) و نزع عِمامته من رأسه و عمّمه بها، و قال: امض لشأنك.(1)
فلمّا ولي (ع) قال النّبيّ (ص): اللّهم احفظه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و من فوق رأسه و من تحت قدميه.(2) و يضيف البعض: أنّه رفع عِمامته و رفع يديه إلى السّماء بمحضر من أصحابه، و قال: اللّهم إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحرث يوم بدر، و حمزة بن عبدالمطّلب يوم أحد، و هذا أخي علي بن أبي طالب. «رَبِّ لا تَذَرْنِى فَرْداً وَ أَنْتَ خَيرُ الْوارِثِينَ (3)»(4) و قال (ص) حينئذٍ: برز الإسلام (أو الإيمان) كلّه إلى الشّرك كلّه.(5) فخرج له علي (ع) و هو راجل، و عمرو فارساً، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا
ص: 249
علي. قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فقال: يابن أخي، من أعمامك من هو أسنّ منك، فإنّي أكره أن أهريق دمك. فقال له علي. لكنّي والله لا أكره أن أهريق دمك.
فغضب، فنزل، و سلّ سيفه كأنّه شعلة نار، ثمّ أقبل نحو علي (ع) مغضباً، و استقبله على بِدَرَقَتِه؛(1) فضربه عمرو في دَرَقَتِه، فقدّها، و أثبت فيها السّيف، و أصاب رأسه، فشجّه.(2) و ضربه علي (ع) على حبل عاتقه، فسقط و ثار العَجاجُ،(3) فسمع رسول الله (ص) التّكبير، فعرفنا أنّ عليّاً قد قتله.
... و خرجت خيولهم منهزمة، حتّى اقتحمت الخندق.(4) عن ابن مسعود و عن بهز بن حكيم، عن أبيه قال: قال رسول الله (ص): لَمبارزة علي (أو قَتْلُ علي) لعمرو بن عبدودّ (أو ضربة علي يوم الخندق) أفضل (أو خيرٌ) من عبادة الثّقلين، أو أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة.(5)
و في نصٍّ آخر عن ابن مسعود: أبشر يا علي، فلووزن عملك اليوم بعمل أمّتي لرجح عملك بعملهم.(6) و زاد المجلسي و الطّبرسي قوله: «و ذلك أنّه لم يبق بيتاً من بيوت المشركين إلّا و قد دخله و هن بقتل عمرو؛ و لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا و قد دخله عزٌّ بقتل عمرو»(7).
ص: 250
قال المفيد: «فتوجّه العتب إليهم، و التّوبيخ، و التّفريع، و الخطاب، و لم ينج من ذلك أحدٌ بالاتّفاق إلّا أميرالمؤمنين (ع) إذ كان الفتح له و على يديه، و كان قتله عمرواً و نوفلَ بن عبدالله سبب هزيمة المشركين. و قال رسول الله (ص) بعد قتل هؤلاء النّفر: ألآن نغزوهم و لا يغزوننا».(1)
* الشّهداء من المسلمين أربعةٌ أو خمسةٌ(2)، و قيل ستّة، و زاد الكازروني: أنّهم من الأنصار.(3) و حسب بعض المصادر، فالشّهداءهم: ثلاثة من بني عبدالأشهل: سعد بن معاذ، رُمي بسهم، و أنس بن أوس، قتله خالد بن الوليد، و عبدالله بن سعد، رماه رجل من بني عويف فقتله؛ و اثنان من بني جشم، هما: الطّفيل بن النّعمان، قتله وحشي، و ابن عتمة، قتله هُبَيْرَة بن أبي وهب. و واحد من بني النّجار (أو دينار) هو كعب بن زيد، أصابه سهم غرب فقتله.(4)* القتلى من المشركين ثمانية،(5) و قيل: ثلاثة(6)، و قيل: أربعة، جميعهم من قريش.(7) و قال ابن شهر آشوب: إنّ عليّاً (ع) قتل يوم الأحزاب: عمرو بن عبدودّ و ولدَه و نوفلَ بن عبدالله بن المغيرة و منبه بن عثمان العبدري و هُبَيْرَة بن أبي هبيرة المخزومي.(8)
ص:251
ص:252
ص: 253
و قد ذكرت النّصوص: أنّ النّبيّ (ص) رأى في منامه: أنّه دخل مكّة هو و أصحابه، آمنين، مُحَلّقين رؤوسهم و مقصّرين، و أنّه دخل البيت، و أخذ مفتاحه، و أدّى عمرته، و عرّف مع المعرّفين.(1) فلمّا أخبر (ص) أصحابه بما رأى فرحوا، و ظنّوا أنّهم يدخلون مكّة في عامهم ذاك. ثم أخبرهم أنّه يريد الخروج للعمرة؛ فتجهّزوا للسّفر، و استنفر العرب إلى ذلك و أهل البوادي من الأعراب حول المدينة، من أسلم، ثمّ خرج معتمراً، و أحرم هو و غالب من معه من ذي الحُلَيْفَة، و بعض أصحابه أحرم بالجُحفَة، و كان خروجه في ذي القعدة.
و ساق (ص) معه الهدي سبعين بدنة، و بعد أن صلّى الظّهر في ذي الحليفة أشعر عِدّةً منها، و هي موجهات إلى القبلة في الشّق الأيمن من سنامها، ثم أمر ناجية بن جندب، فأشعر الباقي، و قلّدهنّ (أي علّق برقابهنّ كلّ واحدٍ نعلًا) و أشعر المسلمون بُدنهم و قلّدوها، و كان النّاس سبع مائة رجل، و قيل: ألفاً و أربع مئة، و سار حتّى بلغ عُسفان*.(2)
ص: 254
و لمّا بلغ المشركين خروج رسول الله (ص)، راعهم ذلك، فاجتمعوا و تشاوروا، فتعاقدوا على منع رسول الله (ص) من دخول مكّة في عامهم هذا.
ثمّ قَدَّموا خالدَ بن الوليد في مأتي فارس إلى كُراع الغَميم (1)، و استنفروا من أطاعهم من الأحابيش، و خرجوا إلى بَلْدَح،(2) و ضربوا بها القُباب و الأبنية و معهم النّساء و الصّبيان، فعسكروا هناك، و وضعوا العيون على الجبال.
و رجع بِشر بن سفيان الّذي بعثه (ص) عيناً له من مكّة بغدير الأشطاط و راء عُسفان، فأخبر النّبيّ (ص) بخروج قريش من مكّة لمحاربته و مَنْعِه من دخول مكة.
فقال رسول الله (ص) «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحربُ، ماذا عليهم لوخلّوا بيني و بين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الّذي أرادوا، و إن أظهرني الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، و إن لم يفعلوا، قاتلوا و بهم قوّة؛ فما تظنّ قريش؟ فو الله لا أزال أجاهدهم على الّذي بعثني الله تعالى به حتّى يُظهره الله أو تنفرد هذه السّالفة».(3) ثمّ قام رسول الله (ص) في المسلمين و قال: «يا معشر المسلمين، أشيروا عليّ، أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الّذين أعانوهم فنصيبهم؟ فأن قعدوا، قعدوا موتورين محرومين، و إن يأتونا، تكن عنقاً(4) قطعها الله، أم ترون أن نؤمّ البيت، فمن صدّنا عنه، قاتلناه؟».
فقال أبوبكر: الله و رسوله أعلم، يا رسول الله إنّما جئنا معتمرين، و لم نجى ء
ص: 255
لقتال أحدٍ، و نرى أن نمضي لوجهنا فمن صدّنا عن البيت قاتلناه. و وافقه على ذلك أُسَيْدبن الحُضَيْر.
ثمّ قام المقداد و قال بعد كلام أبي بكر: إنّا و الله يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها: «اذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ»(1) و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون.
فقال رسول الله (ص): فسيروا على اسم الله.(2) و خالف النّبيّ (ص) العدوَّ في الطّريق، و قال لأصحابه: تيامنوا، في هذا العَصَل،(3) و في رواية: اسلكوا ذات اليمين بين ظهور الحَمْض،(4) فإنّ خالد بن الوليد بالغَميم في خيل لقريش طَليعةً.(5) كره رسول الله (ص) أن يلقى خالداً فقال: تيامنوا فأيّكم يعرف ثنيّة ذات الحنظل؟ فقال بُرَيدَة بن الحُصَيْب الأسلمي: أنا يا رسول الله عالم بها. فقال رسول الله (ص): اسلك أمامنا. فأخذ بُريدة في العصل قبل المغرب، فو الله ما شعر بهم خالد حتّى إذا هم بقترة الجيش (6)، فانطلق يركض نذيراً لقريش.
أمّا عدول النّبيّ (ص) عن الطّريق و عدم مواجهته طليعة المشركين الّتي كانت بقيادة خالد، فلعلّه أنّه (ص) لم يُرد أن يواجه تلك الطّليعة لكي يتجنّب أي اشتباك معها، يمكن أن يدفع بالأمور إلى حيث تصبح الحرب مع قريش أمراً مفروضاً لا يمكن تجنّبه، و قد يمكن لقريش أن تشيع: أنّ أصحابه، أو بعضهم هم الّذين
ص: 256
تسبّبوا بنشوب الحرب.
و يستوقفنا هنا قول رسول الله (ص): يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني و بين سائر العرب الخ ... فإنّ نظرة منصفة إلى واقع الحال تعطينا: أنّ هذا الكلام من رسول الله (ص) ما هو إلّا رسالة ذات مغزي عميق و دقيق، يريد الرّسول (ص) أن يوصلها إلى النّاس، من أجل سوقهم نحو هدف يريد أن يصل إليه. مع ما في ذلك من إظهار درجة من العطف على هؤلاء الّذين يظلمون أنفسهم و يظلمون غيرهم و هم قريش، أو على الأقلّ، فيه ايحاءٌ بأنّ من الممكن التّجاوز عما مضى و أنّ الأمور بينه و بين قريش لم تصل إلى نقطة اللّارجوع.
لمّا اطمأنّ رسول الله (ص) بالحديبيّة أتاه بُديل بن وَرقاء في رجال من خزاعة، فكلّموه و سألوه: ما الّذي جاء به؟ فأخبرهم أنّه لم يأت يريد حرباً، و إنّما جاء زائراً للبيت، و معظّماً لحرمته. فوعى بديل مقالة رسول الله (ص) و رجع إلى قريش و قال لهم: يا معشر قريش، إنّكم تعجلون على محمّدٍ، إنّ محمّداً لم يأت لقتالٍ و إنّما جاء معتمراً، فاتَّهَموه و جَبَّهوه (1) و قالوا: و إن كان جاء و لا يريد قتالًا، فو الله لا يدخلها علينا عامه هذا أبداً، حتّى لا يبقى منّا رجلٌ.
ثمّ بعثوا إلى رسول الله (ص) عروة بن مسعود الثّقفي، فجاء رسولَ الله (ص) فقال: يا محمد، إنّها قريش، قد استنفروا لك الأحابيش (2) و من أطاعهم، قد لبسوا جلود النّمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عَنْوَةً أبداً ....
ص: 257
و جعل عروة يرمق أصحاب رسول الله (ص) بعينه ... فإذا أمرهم بأمرٍ ابتدروا أمره، و إذا توضَّأ كادوا يقتتلوا على وضوئه، و لا يسقط شى ءٌ من شَعره إلّا أخذوه، و إذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، و ما يُحِدّون النّظر إليه، تعظيماً له.
فلمّا فرغ عروة من كلام رسول الله (ص) و ردّ عليه الرّسول (ص) مثل ما قال لبُديل بن ورقاء، أتى عروةُ قريشاً، فقال: يا قوم، إنّي وفدت إلى الملوك: كسرى و قيصر و النّجاشي، و إنّي والله ما رأيت مَلِكاً قطّ أطوع فيما بين ظهرانيه من محمدٍ في أصحابه. و الله إن رأيت ملكاً قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمّدٍ محمّداً و ليس بِمَلِكٍ ... و اعلموا أنّكم إن أردتم منهم السّيف بذلوه لكم و قد رأيت قوماً لا يبالون ما يصنع بهم اذا منعتم صاحبهم ....
فقالت قريش: لا تتكلّم بهذا يا أبا يعفور، أوَ غيرك تكلّم بهذا؟ ولكن نردّه عامنا هذا و يرجع إلى قابل.
فقام الحُلَيْس بن علقمة و كان يومئذٍ سيّد الأحابيش، فقال: دعوني آتيه. فقالوا: ائته. فلمّا أشرف على رسول الله (ص) قال (ص): هذا من قومٍ يُعظمون الْبُدن و يتألّهون (1)، فابعثوها له، فبعثت له، فلمّا رأى الهدى يسيل عليه من عُرض الوادى (2) عليها قلائدها،(3) قد أكلت أو بارها من طول الحبس، ثمّ رجع إلى قريش و لم يصل إلى رسول الله (ص) إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس، فإنّما أنت أعرابي لاعلم لك، فغضب و قال: و الله ما على هذا حالفناكم، و لا على هذا عاقدناكم، أيُصَدُّ عن بيت الله من جاء مُعَظّماً له! و الّذي نفس الحُلَيس بيده لَتُخَلُّنّ بين محمّد و بين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نَفرَة رجلٍ واحد. قالوا له: مَه، كُفَّ عنّا يا حُليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
نجد أنّ جميع من جاؤوا من قِبَل قريش إلى النّبيّ (ص) لم يكن لديهم حجّةٌ
ص: 258
ى
عتصمون بها، فكانوا يلجأون إلى محاولة تخويفه (ص) و المسلمين من عاقبة دفع الأمور باتّجاه الحرب.
ثمّ كانت حصيلة مساعيهم: أنّهم يرجعون إلى قومهم ليواجهوهم بنفس المنطق الّذي سمعوه من رسول الله (ص) و ذلك بدءاً من بُديل بن ورقاء، مروراً بعروة بن مسعود الّذي قال لهم: قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها، و انتهاءً بالحُليس بن علقمه الّذي سبقت مقالته.
فاتّضح بذلك كلّه: أنّ الأمر قد انتهى بتصدّع صفوف أهل الشّرك ... و ظهور الخلاف العميق فيما بينهم، إلى حدّ أنّ زعماء أقوياء في صفوفهم هم الّذين يسعون لإقناع قريش بقبول عروض النّبيّ (ص) و يعلنون أنّ خطّته خطّة رشد و صلاح، و هي نتيجة ذات أهميّة فائقة و حاسمة أيضاً.
و قد بعث رسول الله (ص) خِراش بن أميّة على جمل له (ص) إلى قريش ليخبرهم ما جاء له، فعقروا الجمل و أرادوا قتله فمنعه الأحابيش، فخلّوا سبيله، حتّى أتى رسولَ الله (ص) و أخبره بما لقي.(1) فدعا عمر ليبعثه، فقال: إنّي أخاف قريشاً على نفسي و ليس لي من بني عدي أحد يمنعني، فبعث عثمان، فقال (ص) أَخْبِرْهم أنّا لم نأت لقتال و إنّما جئنا زوّاراً لهذا البيت معظمين لحرمته، معنا الهدي ننحره و ننصرف.
و لقيه أبانُ بن سعيد بن العاص حين دخل مكّة، فأجاره حتّى بلغ رسالةَ رسول الله (ص)، فقالوا: لا كان هذا أبداً و لا يدخلها علينا العام، و احتبسته قريش عندها ثلاثة أيّام، فبلغ رسول الله (ص) أنّ عثمان قد قُتل، فقال (ص): لا نبرح حتّى نناجز
ص: 259
القوم.
و قد زعموا: أنّ السّبب في دعوة النّاس إلى بيعة الرّضوان هو الشّائعة الّتي سرت في النّاس من أنّ عثمان قد قتل في مكّة ... فدعا رسولُ الله (ص) النّاسَ إلى البيعة.
و نقول: إنّ كون سبب البيعة هو هذه الشّايعة موضع شكّ كبير، لأنّهم يقولون: إنّ النّبيّ (ص) قد بايع عن عثمان أيضاً بأن ضرب إحدى يديه على الأخرى و قال: اللّهم إنّ هذه عن عثمان-(1) فإن صحّ هذا فهو يدلّ على أنّ النّبيّ (ص) و النّاس كانوا يعلمون بحياة عثمان، فكيف يزعم الزّاعمون أنّ شاعئة قتله كانت السّبب في أخذ البيعة من النّاس؟!
على أنّنا نرجّح أن يكون السّبب القريب في الدّعوة إلى بيعة الرضوان:
1. إظهار مدى تصميم رسول الله (ص) على حقّه الّذي تنكره عليه قريش.
2. أخذ قريش لعشرة من المسلمين الّذين أرسلهم رسول الله (ص) إلى مكّة لملاقاة أهاليهم و دخلوا سرّاً.
3. إرسال جماعات ليليّة تسعى لاختطاف أشخاص، أو القيام باغتيالات، قد يكون بعضها بالغ الخطورة، و قد أخذ المسلمون منهم خمسين رجلًا.
4. حصول مناوشات و صدمات بين جماعة من المشركين و المسلمين، انتهت بأسر اثني عشر رجلًا من المشركين.
5. قتل ابن زنيم الّذي اطّلع الثنيّة من الحديبيّة، فرماه المشركون، فقتلوه، ثمّ إصرار قريش، على أنّها لن تمكّن المسلمين من دخول مكّة.
6. إصرارها على استعادة هؤلاء الأرقاء الّذين أسلموا و التحقوا بالمسلمين، حيث
ص: 260
أراد (ص) أن يفهم قريشاً: أنّه على استعدادٍ للدّخول في الحرب من أجل هؤلاء.
7. الضّغط على قريش لتستجيب إمّا لتمكينهم من زيارة بيت ربّهم، أو ترضى بإعطاء العهد و الوعد لهم بذلك في السَّنة القادمة.
فمن أجل كلّ ذلك جاءت الدّعوة إلى بيعة الرّضوان، الّتي تعطي الانطباع لقريش عن أنّ المسلمين يد واحدة مع رسول الله (ص).
و لا ندري كم كان عدد النّساء اللّاتي حضرن في الحديبيّة، غير أنّ ممّا لا شكّ فيه هو: أنّ أخذ النّبيّ (ص) البيعةَ منهنّ له العديد من الدّلالات، و هي التّالية:
1. إنّه يؤكّد على حقيقة: أنّ الحرب حين تكون مصيريّة، فإنّ مشاركة النّساء، و حتّى الأطفال تصبح أمراً لابدّ منه، و لا غنى عنه.
2. إنّه عدا عن أنّ ذلك يتضمّن تكريماً لعنصر المرأة، فإنّه يعدّ إعلاناً بأنّ عليها أن تشارك في حمايةالمجتمع الإيماني، بما تقدر عليه ممّا يتناسب مع طبيعة تكوينها و قدراتها.
3. إنّ ذلك يُظهر تصميم المجتمع الإيماني على الحصول على حقوقه، و يشير إلى قريش بحقيقة: أنّ الأمر ليس صراعاً على النّفوذ، بهدف الحصول على مكاسب لفريقٍ يريد أن يجعل من نفسه حاكماً و مهيمناً. بل القضيّة أكبر من ذلك و أخطر؛ فإنّ المجتمع الإيماني يرى: أنّه إنّما يطالب بحقوقه من حيث أنّ عناصره يحملون صفة الإنسانيّة؛ فكلّ من له هذه الصّفة فلابدّ من أن ينال حقوقه بغضّ النّظر عن خصوصيّاته الفرديّة، مثل اللّون، أو العِرق، أو السّن، أو غير ذلك.
و قد عبّر عن ذلك عروة بن مسعود حين قال لقريش: «والله لقد رأيت معه نساءً ماكنّ ليُسلمنه على حالٍ».(1)
ص: 261
حديث البيعة
أتى رسولُ الله (ص) منازل بني مازن بن النّجار، و قد نزلت في ناحية من الحديبيّة فجلس في رحالهم تحت شجرةٍخضراء، ثمّ قال: «إنّ الله تعالى أمرني بالبيعة». فأقبل النّاس يبايعونه حتّى تداكّوا، فما بقى لبني مازن متاع إلّا وطئ، ثمّ لبسوا السّلاح و هو معهم قليل.
و كان عدد الّذين شهدوا بيعة الرّضوان- على ما روي البخاري و ابن مردوية عن قتادة خمس عشرة مأة،(1) و روي الشّيخان و ابن جرير عن عبدالله بن أُبَي: كان أصحاب الشّجرة ألفاً و ثلاثمائة،(2) و روي سعيد بن منصور و الشّيخان عن جابر بن عبدالله: كنّا يوم الحديبيّة ألفاً و أربعمائة.(3) و قد اختلفوا في بيعة الرّضوان، هل كانت على الموت، أو على عدم الفرار،(4) أو أنّ المراد واحد كما ذكره البعض؟(5) و نقول: إنّ البيعة على عدم الفرار سواء أكانت هي نفسها البيعة على الفتح أم على الشّهادة خلاف الحكمة و التدبير، و ذلك لأنّها تتضمنّ اتّهاماً لأصحابه، بأنّهم مظنّة الفرار من جهة، و فيها أيضاً إيحاء للعدوّ بأنّ رسولَ الله (ص) غير واثق بنصر أصحابه له، و أنّ عدم الثّقة هذا قد بلغ حدّاً جعله يلجأ إلى أخذ المواثيق و العهود منهم بذلك من جهة أخرى.
و ممّا يشهد على ذلك ما رووه: من أنّ أوّل من بايع هو سنان بن أبي سنان الأسدي، فقال للنّبي (ص): أبايعك على ما في نفسك. قال (ص): و ما في نفسى؟
ص: 262
قال: أضرب بسيفي بين يديك حتّى يُظهرك أو أُقْتَل، و صار النّاس يبايعونه على ما بايعه عليه سنان.(1)
فلمّا أجمعت قريش على الصّلح و الموادعة، بعثوا سهيل بن عمرو و حُويطب و مِكْرَزاً و قالوا لسهيل: ائت محمداً فصالحه و ليكن في صلحك: أن لا يدخل عامه هذا، فو الله لا تحدّث العرب أنه دخل علينا عَنْوَةً.
فأتى سهيل رسولَ الله، (ص) فلمّا رآه رسول الله (ص) مقبلًا قال (ص): قد أراد القوم الصّلح حين بعثوا هذا الرّجل، فلمّا انتهى سهيل إلى رسول الله (ص)، تكلّم فأطال الكلام و تراجعا، ثمّ جرى بينهما الصّلح على:
1. أن تُوضع الحرب بينهما عشر سنين.
2. أن يأمن النّاس بعضهم بعضاً.
3. أن يرجع رسول الله (ص) عامه هذا، فإذا كان العام المقبل قدمها، فخلّوا بينه و بين مكّة، فأقام فيها ثلاثاً.
4. أن لا يدخلها إلّا بسلاح الرّاكب، و السّيوف في القُرُب،(2) لا يدخلها بغيره.
5. أنّه من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه و إن كان على دين محمّدٍ ردّه إلى وليّه.
6. من أتى قريشاً ممّن اتّبع محمّداً لم يردّوه إليه.
7. و أنّ بينهم و بين رسول الله (ص) عَيْبَةٌ مكفوفةٌ.(3)
ص: 263
8. أنّه لا إسلال.(1) 9. و لا إغلال.(2) 10. أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمدٍ و عهده دخل فيه، و من أحبّ أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل.
11. أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّدٍ (ص) حاجّاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله، فهو آمن على دمه و ماله، و من قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر و إلى الشّام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه و ماله.(3) 12. أن يخلوا له مكّة من قابل ثلاثة ايّام، و تخرج قريش كلّها من مكّه، إلّا رجلٌ واحد منها، يخلّفونه مع محمّدٍ و أصحابه.(4) 13. و أن لا يخرج من أهلها بأحدٍ إن أراد أن يتّبعه.
14. و أن لا يمنع أحداً من أصحابه إن أراد أن يقيم بها.(5) 15. و أن يكون الإسلام ظاهراً بمكّة لا يكره أحدٌ على دينه و لا يؤذى و لا يُعَيَّر.(6) و جاء في آخر العهد: «شهد أبوبكر بن أبي قحافه ... و كتب عليّ بن أبي طالب.(7)
ص: 264
فكره المسلمون هذه الشّروط، و امتعضوا منها، و أبي سهيل إلّا ذلك، و لقي عمر من هذه الشّروط أمراً عظيماً، و قال: والله ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذٍ و جعل يردّ على رسول الله (ص) الكلام.(1)
قالوا: روى البيهقي عن عروة، قال: قفل رسول الله (ص) راجعاً، فقال رجلٌ من أصحابه: ما هذا بفتحٍ، لقد صُددنا عن البيت، و صُدَّ هدينا، و رَدَّ رسول الله (ص) رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه.
فبلغ ذلك رسول الله (ص)، فقال: بئس الكلام، بل هو أعظم الفتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرّاح عن بلادهم، و يسألوكم القضيّة، و يرغبون إليكم في الأمان، و لقد رأوا منكم ما كرهوا، و أظفركم الله تعالى عليهم، وردّ كم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتح ....
فقال المسلمون: صدق الله و رسوله، فهو أعظم الفتوح، و الله يا نبي الله ما فكّرنا فيما فكّرتَ فيه و لأنت أعلم بالله و بالأمور منّا.(2) و روي ابن أبي شيبة، و الإمام أحمد، و البخاري في تاريخه، و أبو داود، و النّسائي، و ابن جرير و غيرهم عن ابن مسعود قال: أقبلنا من الحديبيّة مع رسول الله (ص) فبينا نحن نسير إذأتاه الوحي، و كان إذا أتاه اشتدّ عليه، فسري عنه، و به من السّرور ما شاء الله، فأخبرنا أنّه أُنزل عليه: «إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً».(3)
ص: 265
إنّ هدنة الحديبيّة كانت فاتحةَ عهد جديد، له خصوصيّاته و كانت له آثاره العميقة في التحوّلات الكبيرة و العامّة، الّتي أكّدت الحاجة إلى طاقات و إمكانات، و كذلك إلى وسائل، ثمّ إلى سياسات و مواقف من نوع آخر غير ما كان الواقع يحتاجه في الظّروف و في الفترة الّتي سبقت الحديبيّة، و إنّ سير الأحداث الّتي تلت هذا الصّلح يُظهر هذه الحقيقة و يفرض على الباحث رؤية جديدة من شأنها أن توفّر له فهماً أعمق و أوضح لتلك الأحداث.
إنّ سورة الفتح و كذلك تصريحات رسول الله (ص) و نصوص عهد الحديبيّة أظهرت: أنّ الإسلام قد حقّق في الحديبيّة أموراً هامّة و أساسيّة جدّاً لا مجال للتّعرض لها في كتاب كهذا، فلابدّ من الاقتصار على بعضها فنقول:
1. إنّ السّورة قد اعتبرت ما جرى في الحديبيّة فتحاً مبيناً، و صرّح بذلك الرّسول (ص) و قد أظهرت الوقايع هذا الأمر بصورة جليّة.
2. لقد أوضحت الآيات: أنّ من جملة ما حقّقه صلح الحديبيّة هو: أنّ الله تعالى قد جعل الأمور باتّجاه أرغم قريشاً على اتّخاذ موقف من شأنه أن يسقط مزاعمها في حقّ رسول الله (ص)، فإنّ الصّلح قد ركز القناعة بأنّ النّبيّ (ص) لم يكن يسعى في قطع الأرحام، و لم يكن يمارس العدوان و البغي، و أنّه إنّما يطالب بالكفّ عن الظّلم و عن البغي، و أنّه الوَصول، الودود، الرّحيم، الرّضي، الّذي يتعامل بالصّفح و العفو، حتّى عن أعدى أعدائه.
و هذا هو ما أشار إليه قوله تعالى: «ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر ...» فقد هيّأ الصّلح قريشاً للإقرار: بأنّ النّبيّ (ص) لم يكن مذنباً في حقّها، بل هي سوف تبرؤه من الذّنب، حتّى حين تسير الأمور باتّجاهٍ لا ترضاه.
و بعد ... فإنّنا نستطيع أن نفهم الكثير من نتائج هذه الهدنة من ملاحظة نفس
ص: 266
الشّروط الّتي وضعت في وثيقة الصّلح، منها:
ألف. أنّ الصّلح قد أفسح المجال أمام الكثير من المشركين و المسلمين للتّلاقي في مكّة و في المدينة و غيرهما، و طرح القضايا فيما بينهم على بساط البحث، و التقى الأصدقاءُ و الأهلُ و ذوو الأرحام ببعضهم.
ب. يضاف إلى ذلك: أنّ الكثيرين من المشركين قد شاهدوا عن قربٍ أحوال النّبيّ (ص) و عاينوا حسن سيرته و حميد طريقته و جميل أخلاقه الكريمة، و عرفوا الكثير عن طبيعة تعاطيه مع القضايا، و أدركوا: أنّ ما يسعى إليه ليس هو التّسلّط على الآخرين و اكتساب الامتيازات على حسابهم، بل هو يريد أن يُحقّق لهم المزيد من الرّفعة و الشّوكة و الكرامة و العزّة، و هذا أمرٌ لم يعرفوه و لم يألفوه في زعمائهم، الّذين يريدون: أن يتّخذوا مال الله دُوَلًا و عباد الله خُوَلًا.
فلابدّ أن تميل نفوسهم إلى الإيمان و يبادر خلق منهم الإسلام و يزداد الآخرون له ميلًا.(1) و كان ذلك أعظم الفتح، فقد دخل الإسلام في تينك السّنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك، بل أكثر.(2) بل لقد روي عن الإمام الصّادق (ع) أنّه قال: فما انقضت تلك المدّة (و هي سنت الهدنة) حتّى كاد الإسلام يستولي على أهل مكّة.(3) ج. إنّ شروط الصّلح قد مكّنت من إظهار الإسلام في مكّة، بعيداً عن أي ضغوط حتّى النّفسيّة منها، فلم يعد أحدٌ يمنع أحداً من الدّخول في الإسلام، فدخل فيه مَن أحَبَّ، و لم يعد الدّاخل في هذا الدّين يخشى الاضطهاد و الأذى.
و لو أنّ النّبيّ (ص) اختار طريق الحرب، فإنّ ضرراً بالغاً سوف يلحق بهؤلاء
ص: 267
المسلمين المستضعفين؛ لأنّ قريشاً سوف تشتدّ عليهم و لربّما قتلت الكثيرَ منهم.
فكان الصّلح سبباً في حفظ هؤلاء، و هو صلح سعت إليه قريش نفسها و ظهر إعزاز الله تعالى لأوليائه و لدينه.
د. إنّ هذا العهد قد جعل المسلمين في مأمن من جانب قريش، فتفرّغوا لنشر الإسلام في سائر القبائل. فما حقّقه (ص) في هذا الصّلح أضعاف أضعاف ما تحقّق في حروبه الدّفاعيّة مع قريش و سواها.
و يكفي للدّليل على ذلك، أنّهم يقولون: إنّ النّبيّ (ص) قد بعث بعد الحديبيّة سراياه و بعوثه في مهمّة الدّعوة إلى الله تعالى، فلم تبق كورة و لا مِخْلاف (1) في اليمن، و البحرين. و اليمامة إلّا و فيها رُسُل النّبيّ (ص) و النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً.(2) و إذا كان قد جاء إلى الحديبيّة بألف و أربع مائه أو نحو ذلك، فإنّه جاء بعد سنتين فقط بعشرة آلاف مقاتل، و فتح الله له مكّة و دخلها من غير قتالٍ.(3) ه-. دخول النّبيّ (ص) مكّة في العام التّالي و أداء مناسك العمرة من دون قتالٍ. و هذا يمثّل اعترافاً من قريش بقوّة الإسلام و بأنّ للمسلمين الحقّ في ممارسة شعائر دينهم حتّى في مكّة.
3. إنّه بعد أن أصبح المسلمون في راحة من جهة قريش راسل (ص) الملوك من حوله، فأرسل كتبَ الدّعوة إلى الإسلام إلى كسرى و قيصر و المقوقس و غيرهم و كان ذلك بعد الحديبيّة في السّنة السّادسة أو السّابعة بعد الهجرة.(4)
4. إنّه في ظلّ صلح الحديبيّة انطلق النّبيّ (ص) إلى يهود خيبر، الّذين كانوا و ما
ص: 268
ى
زالون يعلنون الحرب على الإسلام و المسلمين، و كان اليهود أكبر قوة ضاربةً في منطقة نقطة الارتكاذ للوجود الإسلامي، فقد كانوا قادرين على تجهيز عشرة آلاف مقاتل من اليهود في المنطقة، فزحف إليهم النّبيّ (ص) في ألف و أربع مائة مقاتل. هو أمرٌ لم يكن متيسّراً له قبل الحديبيّة، فإنّه لم يكن يستطيع أن يخلّى المدينة من أهلها ليقود جيشاً يجمع فيه كلّ القوى المقاتلة و يترك المدينة من دون قوّة تدافع عنها.
و قد منع عهد الحديبيّة قريشاً من مهاجمتها و من أن تمدّ يدالعون ليهود خيبر و لغيرهم و كانت سائر القبائل القريبة أضعف و أهون من أن يخشى منها أمرٌ من هذا القبيل.
5. إنّ قريشاً قد اضطرّت إلى الاعتراف بقوّة المسلمين، و أنّها أصبحت متكافئةً معها، و أنّها قوّة لها حضورها و لابدّ أن تتعامل معها معاملة النّد للنّد، ولولا أنّها رأت فيها ذلك لم تقدم على عقد الصّلح معها. و قبل الحديبيّة لم تكن قريش على استعدادٍ للاعتراف بهذا التّكافؤ، بل ظلّت تعتبر المسلمين حالة تمرّد شاذّة لابدّ من السّيطرة عليها و إخضائها.
ص:269
ص:270
ص: 271
إنّ هدنة الحديبيّة قد أعطت الانطباع بأنّ المسلمين قد أصبحوا قوّة كبيرة، فرضوا هيبتهم في المنطقة بأسرها؛ الأمر الّذي دعا قريشاً إلى القبول بالهدنة، بعد أن انهكتها الحروب المتتالية معهم؛ بل إنّه (ص) أصبح يعمل على نشر دعوته في كلّ بقاع الدّنيا و هو يرسل إلى أعظم ملوك الأرض طالباً منهم الدّخول في دينه في خطاب قويّ و حازمٍ.
و لم يعد في المحيط الّذي يعيش فيه قوّة كبيرة متماسكة، يمكن أن يحسب لها حسابٌ إلّا يهود منطقة خيبر، الّذين كانوا قادرين على تجهيز عشرة آلاف مقاتل، و هي قوّة لا يُستهان بها، إذ لديهم حصون منيعة، و قدرات اقتصاديّة، و لسوف تكون المواجهة صعبة معهم.
و كانت استعراضات يهود خيبر لقوّتهم، و ظهور اغترارهم بها، و ركونهم إليها قد لفّتت الأنظار، و لعلّها تركت آثاراً على بعض الضّعفاء في المنطقة مثل غطفان و سواها.
و لكنّ الأمور قد سارت في غير الاتّجاه الّذي توقّعوه، إذ سرعان ما تهاوت أحلامهم، و خابت آمالهم، و أنجز الله تعالى لنبيّه وَعْدَه و نصر جنده و هزم جموع اليهود وحده، و كانت كلمة الله هي العليا، و كلمة الباطل هي السّفلى.
ص: 272
خيبر اسم منطقة تقع على ثلاثة أيّامٍ من المدينة على يسار الحاجّ القادم من الشّام، و بينها و بين المدينة ثمانية بُرد.(1)
و الخيبر بلسان اليهود هو الحصن و لذا سميّت خيابر أيضاً.(2) و في هذه المنطقة حصون و مزارع و نخل كثير و توصف خيبر بكثرة التّمر،(3) و كانت حصونه ثمانية: النَّطاة، و الوَطيح، و السّلالم، و الكتيبة، و الشَّق، و الصَّعب و ناعم و القَموص.
و كان أوّل حصنٍ فتحه رسول الله (ص) فيها ناعم، ثمّ القموص، ثمّ حصن الصّعب بن معاذ و كان أعظم حصون خيبر و أكثرها مالًا و طعاماً و حيواناً، ثمّ الشّق، و النّطاه، و الكتيبة. فهذه الحصون الستّة فتحها رسول الله (ص) عَنْوةً،(4) ثم افتتح الوطيح و السّلالم و هو آخر فتوح خيبر صلحاً، بعد أن حاصرهم.
لمّا قدم رسول الله (ص) إلى المدينة من الحديبيّة و ذلك في ذي الحجّة من سنة ستّ مكث بها عشرين ليلة، أو قريباً منها، ثمّ خرج في المحرّم إلى خيبر.(5) قال الواقدي: أمر رسول الله (ص) أصحابه بالخروج، فجدّوا في ذلك، و استنفروا
ص: 273
من حوله ممّن شهد الحديبيّة، يغزون معه (1)، و استخلف على المدينة نُمَيْلَةَ بن عبدالله اللّيثى (2) و قيل: سِباع بن عُرُفَة(3) و قيل أباذر.(4) و قالوا: إنّه (ص) أقام يحاصر خيبر بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها في صفر.(5) و لكنّه غير دقيق، فإنّ حصارها قد تعدّى الأيّام إلى الأشهر كما سنرى و لعلّه يتحدّث إلى حصار بعض حصونها فقط.
و قد روي عن ابن عباس: أنّه (ص) أقام بخيبر ستّة أشهرٍ يجمع بين الصّلاتين.(6) و أنّ حساب أيّام الحصار للحصون المختلفة وفق ما ورد في النّصوص التّاريخيّة و الرّوائيّة يعطي: أنّ الحصار قد دام عشرات الأيّام و إن لم يصل إلى ستّة أشهرٍ.
ثمّ سار رسول الله (ص) حتّى انتهى إلى المنزلة و هي سوق لخيبر، و كانت يهود لا يظنّون قبل ذلك أنّ رسول الله (ص) يغزوهم لمنعتهم و حصونهم و سلاحهم و عددهم. فلمّا أَحَسُّوا بخروج رسول الله (ص) إليهم، قاموا يخرجون كلّ يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفاً، ثمّ يقولون: محمّد يغزونا؟! هيهات! هيهات! و كان ذلك شأنهم.
فخرج رسول الله (ص) إليهم، فَعمّي عليهم مخرجَه، حتّى نزل بساحتهم ليلًا. فلمّا أصبحوا و فتحوا حصونهم غادين معهم المساحي و الكرازين و المكاتل،(7) فلمّا
ص: 274
نظروا إلى رسول الله (ص) وَلُّوا هاربين إلى حصونهم.(1) فقال رسول الله (ص) و رفع يديه-: «الله أكبر، خُربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قومٍ، فساء صباحُ المنذَرين».(2) قال ابن إسحاق و محمّد بن عمروابن سعد: و فرّق رسول الله (ص) الرّايات و لم تكن الرّايات إلّا يوم خيبر و إنّما كانت الألْوِيَة.(3) و كانت راية رسول الله (ص) سوداء من بُرد لعائشة تدعى العقاب، و لواؤه أبيض، دفعه إلى عليّ بن أبي طالب (ع) و كان شعارهم: «يا منصورُ أَمِتْ».(4) ولكنّا نقول: أوّلًا، ذكروا أنّ اللّواء الّذي دفعه (ص) إلى علي (ع) يوم خيبر و كان أبيضا كان يقال له: العقاب أيضاً.(5) إلّا يفيد ذلك أنّ اللّواء هو نفس الرّاية؟
ثانياً؛ قد صرّح الرّوايات: أنّه (ص) أعطى اللّواء لعلّي (ع) في قضيّة قتل مرحب و فتح خيبر؛ مع أنّ عبارة النّبيّ (ص) الّتي تناقلتها الرّوايات الكثيرة هي: «لأعطينّ الرّاية غداً رجلًا يحبّ اللهَ و رسولَه ...». فلا معنى للتّفريق بين اللّواء و الرّاية.
ثمّ صفّ رسول الله (ص) أصحابه و وعظهم و نهاهم عن القتال حتّى يأذن لهم. ثمّ أذن لهم في القتال و حثّهم على الصّبر، و أوّل حصن حاصره حصن ناعم و قاتل (ص) يومه ذاك أشدّ القتال، و قاتله أهل النّطاة أشدّ القتال.
و جعلت نبل اليهود تخالط العسكر و تجاوزه، و المسلمون يلتقطون نبلهم، ثمّ
ص: 275
ى
ردّونها عليهم، فلمّا أمسى رسول الله (ص) تحوّل إلى الرّجيع و أمر النّاس، فتحوّلوا، فكان رسول الله (ص) يغدو بالمسلمين على راياتهم حتّى فتح الله الحصن عليهم.
لقد كان بخيبر أربعة عشر ألف يهودي في حصونهم الثّمانية، فجعل رسول الله (ص) يفتحها حصناً حصناً، و كان من أشدّ حصونهم و أكثرها رجالًا القموص؛(1) بل هو حصن خيبر الأعظم،(2) و قد فتح الله هذا الحصن العظيم على يد علي (ع) بعد أن حاصره المسلمون عشرين ليلةً.(3) و قال ابن هشام:(4) إنّ القتال بقي أيّاماً يشتدّ و الرّسول (ص) يولّي القيادة كلّ يوم رجلا من أصحابه و يرجع خائباً و مضى يقول و يروي عن ابن إسحاق بسنده إلى أبي سلمة بن عمرو الأكوع: أنّه قال: بعث رسول الله أبابكر برايته و كانت بيضاء إلى بعض حصون خيبر، فرجع و لم يصنع شيئاً، ثمّ بعث في اليوم الثّاني عمر بن الخطّاب و كان نصيبه نصيب صاحبه.
و لمّا بلغ الجهد بالمسلمين و نفد أكثر زادهم، قال النّبيّ (ص) بصوت رفيع سمعه أكثر المسلمين: «والله لأعطينّ الرّاية غداً رجلًا يحبُ اللهَ و رسولَه و يحبّه اللهُ و رسولَه» و في لفظٍ: «يفتح الله على يديه، ليس بفرّارٍ ... يأخذها عنوةً».
قال بريدة: فبِتنا طيبة أنفسنا أن يفتح غداً و بات الناس يدوكون (5) ليلتهم أيّهم
ص: 276
ى
عطاها.
فلمّا أصبح النّاس غدوا على رسول الله (ص) كلّهم يرجو أن يُعطاها، فما منّا رجلٌ له من رسول الله (ص) منزلة إلّا و هو يرجوا أن يكون ذلك الرّجل.
و كان علي (ع) قد أصيب برمدٍ شديد كما اتّفقت على ذلك الرّوايات فاستدعاه النّبيّ (ص)، فمسح بيده الكريمة على عينيه، و قيل: تفل فيها، فبرءت من ساعتها، و دعاله و أعطاه الرّاية و وجّهه إلى الحصن.(1) قال سلمة بن الأكوع: فانطلق علي (ع) يهرول هرولة، و نحن خلفه نتبع أثره، حتّى ركز الرّاية تحت الحصن.
فكان أوّل من خرج إليهم الحارث أبوزينب، أخو مرحب في عاديةٍ،(2) و كان معروفاً بالشّجاعة، فانكشف المسلمون، و ثبت علي (ع)، فاضطربا ضرباتٍ، فقتله علي (ع). و رجع أصحاب الحارث إلى الحصن، و أغلقوا عليهم، و رجع المسلمون إلى موضعهم. فاستعظم ذلك قائدهم مرحب بعد أن شهد مصرع أخيه و هزيمة من معه، فخرج من الحصن و عليه مِغفرٌ معصفر يماني و حجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه و هو يرتجز و يقول:
قد علمت خيبر أنّي مرحب شاكى السّلاح بطلٌ مجرّب
إذا اللّيوث أَقْبَلَتْ تَلَهَّب و أحجمت عن صولة المغلّب
و لم يكن بخيبر أشجع من مرحب، و لم يقدر أحدٌ من أهل الإسلام أن يقاومه في الحرب.(3) فبرز له عليّ بن أبي طالب (ع) و هو يرتجز:
أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره (4) كليث غابات كريه المنظرة
ص: 277
ضرب غلامٍ ماجدٍ حَزوَّرَةٍ أَكيلُكم بالسّيف كَيلَ السَّنْدَرَة
فاختلفا ضربتين، فبدره عليّ بضربة (بذي الفقار) فقدَّ الحجر و المِغفر و وقع في الأضراس و سمع أهل العسكر صوت ضربته، و لمّا أبصر اليهود فارسهم مرحباً ولّوا منهزمين و استولى المسلمون على الحصن.
و قالوا أيضا: «و قتل عليّ يومئذٍ ثمانية من رؤسائهم، و فرّ الباقون إلى الحصن،
ص: 278
فتبعهم المسلمون؛ فبينما علي (ع) يشتدّ في أثرهم، إذ ضربه يهودي على يده ضربة سقط منها التُّرس، فبادر يهودي آخر، فأخذ التّرس، فغضب علي (ع) فتناول باب الحصن، و كان من حديدٍ، فقلعه و تترّس به عن نفسه».(1) روي ابن إسحاق عن أبي رافع مولى رسول الله (ص) قال: .... فلم يزل في يده، و هو يقاتل، حتّى فتح الله تعالى عليه الحصن، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتُني في نفر سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نَقْلب ذلك الباب فما نَقْلبه.(2) و عن زرارة، عن الباقر (ع): «انتهى إلى باب الحصن، و قد أغلق الباب في وجهه، فاجتذبه اجتذاباً و تترّس به، ثم حمله على ظهره و اقتحم الحصن اقتحاماً و اقتحم المسلمون و الباب على ظهره .... ثمّ رمى بالباب رمياً ...».(3) و قال القسطلاني: «قلع عليّ باب خيبر و لم يحرّكه سبعون رجلًا إلّا بعد جُهد».
و في شواهد النّبوّة: روي أنّ عليّاً (ع) بعد ذلك حمله على ظهره و جعله قنطرةً حتّى دخل المسلمون الحصن.(4) و هذا إشارة إلى وجود خندق كان هناك، فلمّا أغلقوا باب الحصن صار أميرالمؤمنين (ع) إليه فعالجه حتّى فتحه، و أكثر النّاس من جانب الخندق لم يعبروا معه، فأخذ أميرالمؤمنين (ع) باب الحصن فجعله على الخندق جسراً لهم، حتّى عبروا، فظفروا بالحصن و نالوا الغنائم.
فلمّا انصرفوا من الحصن أخذه أميرالمؤمنين (ع) بيمناه، فدحا به أذرعاً من الأرض، و كان الباب يغلقه عشرون رجلًا.(5)*
ص: 279
ثمّ إنّهم قد رووا أيضاً: أنّ عليّاً (ع) قال: «ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة ولكن بقوّة إلهيّة».(1) و في نصٍّ آخر: أنّ عمر سئل عليّاً (ع) قال: يا أباالحسن، لقد اقتلعت منيعاً، و أنت ثلاثة أيّامٍ خميصاً،(2) فهل قلعتها بقوّة بشريّة؟ فقال (ع): «ما قلعتها بقوّة بشريّة، ولكن قلعتها بقوّة إلهيّة و نفسٍ بلقاء ربّها مطمئنّة رضيّة».(3)
و نقول:
1. بالرّغم من أنّ عليّاً (ع) قد حقّق أعظم إنجازٍ بفتح خيبر و بقلع باب حصنها .... فإنّه لا ينسب ذلك إلى نفسه، و لا يدّعي أنّه قد فعل ذلك بقوّته الشّخصيّة و بقدرته الذّاتيّة، بل هو قد نسب ذلك إلى قدرة الخالق جلّ و علا، و بذلك يكون قد لقّن نفسه و علّم الناس بصورة عمليّة درساً في هضم النّفس و في التّواضع لله عزّوجلّ، و الاستكانة و الخضوع له.
2. إنّه بذلك يكون قد أبعد النّاس عن الغلوّ فيه، من حيث إنّه قد أفقدهم أي مبرّر لذلك، و قد كان (ع) متهمّاً بالحفاظ على صفاء الفكر و نقاء العقيدة لدى كلّ
ص: 280
الآخرين، و قد عرّفهم أيضاً: أنّ الأمور لا تؤخذ على ظاهرها، بل لابدّ من التأمّل و التّدبّر فيها و وضع الأمور في مواضعها الصّحيحة.
3. إنّه (ع) قد أوضح: أنّ الإطمينان إلى لقاء الله سبحانه و الرّضا به هو العنصر المؤثّر على صعيد التّضحية و الجهاد؛ أمّا إذا بقي الإنسان متعلّقا بالدّنيا و مخلّداً إلى الأرض، فإنّه لن يتمكّن من تحقيق شى ء، بل هو سوف يبقى يعيش الضّعف و الهروب و الفشل الذّريع و الخيبة القاتلة و الخزي في الدّنيا، و الخسران في الآخرة.
و لمّا بلغ النّبيّ (ص) فتح خيبر سرّ بذلك غاية السّرور، فاستقبل عليّاً (ع) و اعتنقه و قبّل بين عينيه و قال: «بلغني نبؤك المشكور و صنعك، رضي الله عنك و رضيت أنا منك».(1) فبكى علي (ع) فقال له: مايبكيك يا علىّ؟ قال: فرحاً بأنّ الله و رسوله عَلَيَّ راضيان.(2) و عن علي (ع)، قال: قال لي رسول الله (ص) يوم فتحت خيبر: لو لا أن تقول طائفة من أمّتي مقالة النّصارى في عيسى بن مريم (ع) لقلت فيك اليوم مقالًا لا تمرّ بملأٍ من المسلمين إلّا أخذوا من تراب رجليك، و فضل طهورك يستشفون به، و لكن حسبك أن تكون منّي و أنا منك.(3) فالنّبي (ص) يصرّح هنا: بأنّه قد خشي من غلوّ بعض النّاس في علي (ع) و أن يقولوا فيه كما قالت النّصارى في عيسى (ع)، فكان ذلك هو المانع له عن أن يقول فيه مقالته.
و إنّ هذا يدلّ على أنّ النّاس ما كانوا في المستوى المطلوب فيما يرتبط
ص: 281
بوعيهم لقضايا العقيدة و حدودها، فكانت البيانات النّبويّة تراعي حالهم، فلا تصرّح لهم إلّا بالمقدار الّذي لا يوجب أيّة سلبيّة من هذه النّاحية.
و روي أكثر المؤرّخين: أنّ عليّاً (ع) بعد أن قتل مرحباً و أخاه، استولى الخوف على اليهود و أحسّوا بأنّه أسقط في أيديهم و أنّ المسلمين سيأسرونهم و يقتلونهم إن هم ظلّوا على موقفهم، فطلبوا الصّلح من النّبيّ (ص)، فأجابهم إلى ذلك بعد أن استولى على أموالهم و أبقاهم يعملون في الأرض على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم.
لمّا فرغ رسول الله (ص) من خيبر عقد لواءً، ثمّ قالَ: مَن يقوم إليه، فيأخذه بحقّه، و هو يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك. فقام الزّبير إليه، فقال: أنا. فقال: أَمِطْ عنه.(1) ثمّ قام إليه سعد، فقال: أَمِطْ عنه. ثمّ قال (ص): يا علي قم إليه فخذه.
فأخذه فبعث به إلى فدك (2)، فصالحهم على أن يحقن دماءهم. فكانت حوائط فدك لرسول الله (ص) خاصّاً خالصاً.
فنزل جبرئيل، فقال: إنّ الله عزّوجلّ يأمرك أن تؤتى ذاالقربى حقّه.
ص: 282
قال: يا جبرئيل، و من قرباي و ما حقّها؟ قال: فاطمة فأعطها حوائط فدك و مالله و لرسوله فيها.
فدعا رسول الله (ص) فاطمة، و كتب لها كتاباً، جاءت به بعد موت أبيها إلى أبي بكر و قالت: هذا كتاب رسول الله لي ولابَنىَ (1)
و قال ابن إسحاق: «لمّا سمع أهل فدك بما صنع رسول الله (ص) بأهل خيبر، بعثوا إلى رسول الله (ص) يسئلونه أن يسيرهم و يحقن لهم دماء هم و يُخَلُّون له الأموال، ففعل، فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين و فدك خالصة لرسول الله (ص)، لأنّهم لم يجلبوا عليها بخيلٍ و لا ركاب».
و قد أصبحت مسئلة فدك من المسائل الحسّاسة عبر التاريخ و صارت تمثّل ميزان الحرارة الّذي يعطي الانطباع عن طبيعة العلاقة بين الحكّام و بين أهل البيت (ع) و شيعتهم، فكانت تارة تؤخذ منهم و تارة تردّ إليهم، كما يظهر من مراجعة كتب التّاريخ؛ بل صارت من العناوين الكبيرة لقضيّة الإمامة.
ص: 283
و رجعوا في اليوم الّذي تمّ فيه فتح المسلمين لخيبر، فبعث رسول الله (ص) مولاه أبا رافع يتلقّاه،(1) و لمّا رآه قام إليه و استقبله اثنتي عشر خطوة(2) ضمّه النّبيّ (ص) إلى صدره و قبّل ما بين عينيه و قال: «لا أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاَ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟»(3)
روي عن الإمام الصّادق (ع) أنّه قال: ما مرّ بالنّبي (ص) يوم كان أشدّ عليه من يوم خيبر، و ذلك أنّ العرب تباغت عليه،(4) و قد بلغ جمعهم أربعة عشر ألف مقاتل.
لقد كان فتح خيبر أمراً مهمّاً للغاية، لما كان له من تأثيرٍ بالغ في بعث اليأس في قلوب كلّ القوى المناوئة للإسلام في الجزيرة العربيّة كلّها، و كان قدوم جعفر و من معه من أرض الحبشة هو التّعبير الواضح عن هذه المرحلة و عن آثار هذا الحسم العسكري العظيم.
و قد اعتبر رسول الله (ص) نفس قدوم جعفر، هو الأمر الّذي لا يضاهى من حيث أهميّته و قيمته و هو الموجب لفرحه (ص) بدرجة فرحه بفتح خيبر.
ص: 284
و نفس القدوم هو المفرّح للنّبي (ص) و لذلك لم يذكر أنّ سلامة جعفر مثلًا هي سبب سروره، و لا أشار لاي شى ءٍ آخر، فمجرّد قدوم هذا الإنسان يوازي فتح خيبر، أو هو أعظم و أهمّ من ذلك عند الله و رسوله، مع أنّ ذلك الفتح قد استوجب جُهداً و جهاداً، و قُدّمَ فيه شهداء.
و لا نجد في جعفر أيّة خصوصيّة توجب منحه هذا الوسّام، إلّا أنّه ذلك الإنسان
الإلهي الّذي جُسّدَ حقايق الإسلام في عمق وجوده و ذاته، لتصبح تلك الحقايق عقله و وعيه و خلقه و حركته و موقفه، و يصبح كلّ وجوده فانياً في الإسلام، و يصبح كلّ الإسلام متجسّداً فيه.
ص:285
ص:286
ص: 287
ذكر بعضهم: أنّ بعث مؤته كان أوّل بعث يرسله النّبيّ (ص) إلى خارج الجزيرة العربيّة و داخل الأراضي الشّاميّة، التّابعة للرّوم.(1)
و المعروف بين أهل المغازي أنّ سريّة مؤتة كانت سنة ثمان، و قد اختلف المؤرّخون في الدّوافع إلى هذه السّريّة، فقال بعضهم: إنّ الدّافع إليها هو الانتقام للحارث بن عمير الأزدي، و كان قد وجّهه النّبيّ (ص) بكتاب إلى ملك بصري، فلمّا نزل مؤته تعرّض له شُرحبيل بن عمروالغسّاني و هو من أمراء قيصر على الشّام، و قال له: أين تريد؟ فقال: الشّام. قال: لعلّك من رسل محمّد؟ قال: نعم، فأوثَق رباطاً، ثمّ قدّمه، فضرب عنقه صبراً.
فبلغ رسول الله (ص) الخبر، فاشتدّ عليه و أرسل هذا الجيش المؤلّف من ثلاثة آلافٍ للاقتصاص من ذلك الوالي.(2)
ص: 288
و قيل: إنّ سبب سريّة مؤتة هو قتل أربعة عشر رجلًا من المسلمين على يد العرب المنتصرة في سريّة ذات أطلاح جنوب الشّام في منطقة البلقاء بالأردن، و كان يحكمها الحارث بن أبي شمر الغسّاني باسم ملك الرّوم.
و بعد قتلهم أطلق الحارث هذا تهديدات بغزو النّبيّ (ص)(1)، فبادر (ص) إلى تجهيز هذا الجيش ردّاً على هذه التّهديدات.
و نقول: إنّ الّذين قتلوا الأربعة عشر رجلًا هم من قضاعه، لامن الغساسنة، و رئيسهم رجلٌ يقال له: سُدوس و ليس هو الحارث بن أبي شمر الغسّاني، و أمّا التّهديدات المشار إليها فلا تصلح مبرّراً لإرسال الجيش، إلّا إذا أريد به تسديد ضربة استباقيّة، يؤخذ العدوّ فيها على حين غرّة، و من الواضح أنّ الأمور لم تجر على هذا النّحو.
إنّ ما يدعوا إلى التّأمّل: هو أن يكون الجيش الّذي واجهه المسلمون في مؤتة بهذه الأعداد الضّخمة، تحتاج إلى وقت طويلٍ و جُهد كبير لجمعها و إعدادها.
كما أنّ جيشاً بهذا المستوي لا يُعِدُّه هِرَقْل لمحاربة جماعة صغيرةٍ لم تستطع أن تجهز لأكبر حربٍ خاضتها أكثر من ألف و خمسمائة مقاتل؛ بل هو يعدّه لمحاربة جيوش ضخمة و مَن هو مثل كسرى في سعة الملك و كثرة الرّجال و التوفّر على الأموال الّتي تمكّنه من التجهيزات المتميّزة.
و هذا يعطينا: أنّ هذا الجيش لم يجهّزه قيصر لمجرّد دفع غائلة سريّة مؤتة، بل لعلّه أراد به الإنقباض على منطقة الحجاز بأسرها للقضاء على دعوة الإسلام و احتلال جزيرة العرب كلّها في وقت كان يرى فيه انشغال المسلمين بحرب المشركين و يهود المنطقة.
و لو كان يرتبط جمع الجموع بدفع سريّة مؤته بسبب مافعله شرحبيل بن
ص: 289
عمرو الغسّاني، فلماذا يكون العنوان المطروح بين المسلمين هو أنّهم: يسيرون لمحاربة ملك الرّوم.
و النّبيّ (ص) كان على علم تامّ بتحرّكات قيصر و بمقاصده و أنّ قتل الحارث بن عمير الأزدي كان هو الإشارة للمسلمين، الّتي جعلتهم قادرين على تلمّس خطورة الأمر و شَحَذَت (1) هممهم للنّفير لمواجهة الخطر المحدق بطريقة توجب تشويش الأمور على قيصر، و تمنعه من متابعة مسيرته، و تحجب عنه فرصة اتّخاذ القرار النّهايي بالتّوغّل إلى عمق منطقة الحجاز.
فسريّة مؤتة رغم أنّها لم تسر وفق ما يريده الله و رسوله باعتبار أنّ خالداً قد انهزم بالجيش بعد قتل قادته الثلاثة، إلّا أنّها حقّقت و لا شكّ- الحدّ الأدنى من أهدافها، و لو لا الهزيمة الّتي جَرَّها خالد عليهم، فلربّما يكون إنجازها هائلا و عظيماً، ليس بإمكاننا التَّكَهُّن بحدود عظمته و بمدى أهميّته.
إنّ غالب محدّثي أهل السّنّة قالوا: بأنّه (ص) قد أمّر على السّريّة زيدا أوّلًا، قال: إن اصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على النّاس؛ فإن اصيب جعفر فعبد الله بن رواحه على النّاس. و لكنّ الصّحيح هو أنّ الأمير الأوّل كان جعفر بن أبي طالب، كما ذهب إليه الشّيعة.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: «اتّفق المحدّثون على أنّ زيد بن حارثة كان هو الأمير الأوّل، و أنكرت الشّيعة ذلك و قالوا: كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأوّل، فإن قتل فزيد بن حارثة، فإن قتل فعبد الله بن رواحة. و رووا في ذلك روايات، و قد وجدت في الأشعار الّتي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي
ص: 290
ما يشهد لقولهم ...».(1) بل يمكن أن يستظهر ذلك من قول اليعقوبي، حيث قال: «و وجّه جعفرَ بن أبي طالب، و زيد بن حارثة و عبدالله بن رواحة في جيش إلى الشّام لقتال روم سنة 8».(2) و الرّوايات الّتي أشار إليها ابن أبي الحديد كثيرة و قد قال السّيد شرف الدّين في هذا المقام: إنّ «أخبارنا في هذا متظافرة من طريق العترة الطّاهرة».(3) منها رواية أبان عن الصّادق (ع) أنّه قال: «إنّه استعمل عليهم جعفراً، فإن قتل فزيدٌ، فإن قتل فابن رواحه ...».(4)
و الشّعر الّذي أشار إليه ابن أبي الحديد هو ما أنشد حسّان بن ثابت في رثاء شهداء مؤتة، فكان من جملة ما قال:
فلا يُبْعِدَنّ الله قَتْلًى تتابعوا بمؤتَةَ، منهم ذوالجناحين جعفر
و زيد و عبدالله حيث تتابعوا جميعاً، و أسباب المَنِيَّة تَخْطِر(5)
غَداةَ مَضَوا بالمؤمنين يقودهم إلى الحرب ميمون النّقيبة أزهر(6)
أغرّ كضوء البدر من آل هاشم أِبيٌّ إذا سيم الضّلالة مِجْسَرٌ(7)
حيث لم يكتف في هذا الشّعر بذكر التّتابع: جعفر، فزيد، فابن رواحد؛ بل صرّح
ص: 291
بأنّ القائد لهم إلى الحرب ميمون النّقيبة، أزهر، أغرّ، من آل هاشم، و هو جعفر رضوان الله تعالى عليه.
قالوا: و لمّا فصل المسلمون من المدينة سمع العدوّ بمسيرهم، فتجمّعوا لهم و قام فيهم بشرحبيل بن عمرو، فجمع أكثر من مائة ألف و قدّم الطّلائع أمامه.(1)
فلمّا نزل المسلمون وادي القرى، بعث أخاه سُدوس بن عمرو في خمسين من المشركين، فاقتتلوا، و انكشف أصحاب سُدوس و قد قتل، فشخص أخوه، و عند الواقدي: «و خاف شرحبيل و دخل حصناً فتحصّن و بعث أخاله يقال له: «وَبْر بن عمرو»(2) إلى هِرَقْل يستمدّه فبعث هرقل زهاء مأتي ألفٍ».(3) و مضى المسلمون حتّى نزلوا مَعان من أرض الشّام، و بلغ النّاس أنّ هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الرّوم، و انضمّ إليهم مائة ألف أخرى من لَخُم و جُذام و بَكْر و وائل و قبائل قُضاعه من بلقين (4) و بَهْراء و بَلِي.
و قيل: كانوا مائتي ألف من الرّوم و خمسين ألفاً من قبائل العرب المنتصره و معهم من الخيول و السّلاح ما ليس مع المسلمين.
فلمّا بلغ ذلك المسلمين أقاموا على مَعان ليلتين يفكّرون في أمرهم، و قالوا: نكتب إلى رسول الله (ص) فنخبره بكثرة عدوّنا، فإمّا أن يُمدّنا بالرّجال و إمّا أن يأمرنا بأمرٍ فنمضي له.
ص: 292
فشجّع النّاسَ عبدالله بن رواحة، فقال: «يا قوم، والله إنّ الّتي تكرهون، للّتي خرجتم تطلبون: الشهادة. و ما نقاتل النّاس بعدد و لا قوّة و لا كثرةٍ، و ما نقاتلهم إلّا بهذا الدّين الّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنّما هي إحدى الحسنيين؛ إمّا ظهور و إمّا شهادة و ليست بشرّ المنزلتين». فقال النّاس: صدق و الله ابن رواحة.(1) فمضى النّاس حتّى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الرّوم و العرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مَشارِف.(2) ثمّ دنا العدوّ، و انحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤته فالتقى النّاس عندها، فتعبّأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلًا من عُذْرَةٍ و على ميسرتهم رجلًا من الأنصار.
قال ابن إسحاق: ثمّ التقى النّاس، و اقتتلوا قتالًا شديداً، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله (ص) حتّى شاط(3) في رماح القوم؛ ثمّ أخذها جعفر بن أبي طالب، فقاتل بها، حتّى إذا ألحمه (4) القتال اقتحم عن فرس له شقراء فَعَرْقَبَها،(5) ثم قاتل القوم حتّى قتل، فكان جعفر أوّل رجلٍ من المسلمين عرقب فرساً في سبيل الله.(6)
ص: 293
قال ابن هشام: «و حدّثني مَن أثق به من أهل العلم: أنّ جعفر بن أبي طالب أخذ اللّواء بيمينه فَقُطّعت، فأخذه بشماله فَقُطّعت، فاحتضنه بعَضُدَيْه حتّى قتل «رحمه الله تعالى» و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنّة يطير بهما حيث شاء ...».(1) عن أبي جعفر (ع): «أصيب يومئذ جعفر، و به خمسون جراحاً، خمس و عشرون منها في وجهه».(2) فلمّا قتل جعفر، أخذ الرّاية عبدالله بن رواحة، ثم تقدّم بها و هو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه و يتردّد بعض التّردّد، ثمّ قال:
أقسمت يا نفس لَتَنْزِلَنَّه طائعة أو لتكرهنّه
إن أجلب النّاس و شدّوا الرَّنَّة مالي أراك تَكْرهين الجنّة(3)
قد طال ما قد كنتِ مطمئنّة هل أنتِ إلّا نطفةٌ في شَنَّةٍ(4)
ثم تقدّم فقاتل حتّى قتل، و وقع اللّواء من يده، فاختلط المسلمون و المشركون و انهزم بعض النّاس، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يقتل الرّجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبراً، فبادر خالد بن الوليد، فأخذ الرّاية و انهزم بها و تبعه سائر النّاس، ولكن هناك من سعى لتزوير الحقيقة و إيهام النّاس بعكسها، فادّعوا: أنّ الّذي حصل على يد خالد هو أحد الأمرين: إمّا مجرّد الإنحياز و المحاشاة، ثم الإنصراف؛ و إمّا النّصر و الفتح.
فقد ذكر ابن إسحاق: أنّه لم يكن إلّا المحاشاة و التّخلّص من أيدي الرّوم الّذين
ص: 294
كانوا مع من انضمّ إليهم أكثر من مائتي ألفٍ، و المسلمون ثلاثة آلافٍ.
و على هذا سُمّي هذا نصراً و فتحاً باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدوّ و تراكمهم و تكاثرهم عليهم و كان مقتضي العادة أن يُقْتَلوا بالكليّة.(1) مع أنّ هناك طائفة من الدّلائل و الشّواهد على أنّ الأمر لم يكن كما زعموا، فلاحظ ما يلي:
1. حدّث رجل من بني مُرّة كان في الجيش: أنّه لما قتل ابن رواحة، نظرت إلى اللّواء قد سقط، و اختلط المسلمون و المشركون، فنظرت إلى اللّواء في يد خالدٍ منهزماً، و اتّبعناه فكانت الهزيمة.(2) 2. يروي الواقدي عن محمّد بن صالح عن رجل من العرب عن أبيه: أنّه لمّا قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمة رأيتها قطّ في كلّ وجه، ثم تراجعوا، و كان ثابت بن أقرم قد أخذ اللّواء ... ثمّ أعطاه لخالد، فأخذه خالد، فحمله ساعة، و جعل المشركون يحملون عليه، فثبت حتّى تَكَرْكَرَ(3) المشركون، و حمل بأصحابه، ففضّ جمعاً من جمعهم، ثمّ دهمه منهم بشر كثيرٌ، فانحاش (4) المسلمون، فانكشفوا راجعين.(5) 3. و عن ابن كعب بن مالك قال: حدّثني نفر من قومي حضروا يومئذٍ قالوا: لمّا أخذ خالد اللّواء انكشف بالنّاس، فكانت الهزيمة، و قُتل المسلمون، و اتّبعهم، المشركون، فجعل قُطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يُقْتَل الرّجل مُقبلًا أحسن من أن يقتل مدبراً، يصيح بأصحابه، فما يثوب إليه أحدٌ؛ هي الهزيمة و يتبعون صاحب
ص: 295
الرّاية منهزماً.(1) 4. إنّ أهل المدينة قد طرد ذلك الجيش العائد بقيادة خالد و حثّوا التّراب في وجوههم، و هجروهم و عاقبوهم أسوأ عقوبة. فلو صحّ أنّهم قد انتصروا لكان ينبغي أن يلاقوهم بالورود و الأناشيد، و بالأفراح و الزّغاريد،(2) و أن يرفعوهم على الرّاحات، و يدوروا بهم في النّوادي و الساحات.
و لكان يجب على خالد و جيشه أن يعترضوا على استقبال أهل المدينة بالتّعنيف و الطّرد، و أن يشتكوهم إلى رسول الله (ص)، و يجهروا بمظلوميّتهم و بأنّهم معتدي عليهم. فلماذا اختبأوا في بيوتهم، حتّى إنّ منهم من ترك الحضور للصّلاة من شدّة الخجل ممّا حدث و حصل؟!
بل إنّ المتوقّع في مثل هذه الحالة هو أن يبادر رسول الله (ص) لمنع هذا التّجنّي و لجم الظّلم الّذي حاق بهؤلاء الأبرياء المجاهدين، و لو بأن يخطب النّاس في المدينة، و يؤنّبهم على ظلمهم هذا، إن لم يتمكّن من أن يعاقبهم عليه.
على أنّ هذا الّذي ذكرناه لا يعني أنّنا نريد أن ننفى أن يكون المسلمون قد أظهروا درجةً من الجدّيّة في قتال أعدائهم، و أنّهم قد سجّلوا عليهم انتصارات قويّة.
ولكنّنا نقول: إنّ ذلك إن كان قد حصل، فإنّما حصل في الأيّام أو في السّاعات الّتي سبقت استشهاد القادة، و لعلّ جذوته قد اتقدت بعد استشهادهم بصورة أكبر، ولكن خالداً ضيّع ذلك.
و من المضحك المبكي حديث الرّجل من بني مُرّة، الّذي أنكر فيه أن يكون خالد قد انهزم .... ثم شرح ذلك بأنّ اللّواء سقط بعد قتل ابن رواحة ... واستمرّت الحرب قال: «فنظرت إلى اللّواء في يد خالدٍ منهزماً، و اتّبعناه، فكانت الهزيمة».(3)
ص: 296
فما معنى نفيه هزيمة خالد أوّلًا، ثمّ إثباته لها أخيراً، حتّى لقد جعل خالداً أوّل منهزمٍ باللّواء فيهم، ثمّ تبعه النّاس؟
و نستطيع بعد كلّ هذا الّذي ذكرناه أن نؤكّد على أنّ كلّ الدّلائل تشير إلى أنّ الفارّين كانوا عارفين بعظيم جرمهم، كما أنّ أهل المدينة كانوا عارفين بذلك و كذلك رسول الله (ص)، ولكنّهم لم يرتكبوا بفرارهم ذنباً بنظر الشّرع، لأنّ الفرار من جيش يفوق عدده عدد جيش المسلمين بعشرات الأضعاف ليس حراما شرعاً؛ فإنّ الفقهاء قد ذكروا: أنّه يجوز الهرب في الجهاد في أحوال ثلاثة:
الأولى: أن يزيد عدد الكفّار على ضِعف عدد المسلمين.(1) الثّانية: أن يترك القتال، ولكن لا بنيّة الهرب، بل لأجل أن ينصرف ليكمن في موضع، ثم يهجم.
الثّالثة: أن يتحيّز إلى فئة و هو أن ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفةٍ ليستنجد بها في القتال.(2) و على هذا يحمل قوله (ص) للّذين اعترفوا أمامَه بالفرار من الزّحف: «بل أنتم
ص: 297
الكرّارون و أنا فئتكم» أو قال: «و أنا فئة كلّ مسلم»(1) فأراد (ص) به أن يؤيّد اعترافهم بالفرار، ثم يخفّف من وطأة ذلك على نفوسهم حين يقرّر أنّ فرارهم يدخل في سياق التّحيّز إلى فئة، و بذلك يكون قد خفّف عنهم بعض الألم الّذي كان يعتصر قلوبهم.(2)
ص:298
ص:299
ص:300
ص: 301
لقد التزم النّبيّ (ص) بكلّ بنود الصّلح الّذي كان بينه و بين قريش في الحديبيّة، ولكنّ قريشاً قد استخفّت بقوّة المسلمين بعد معركة مؤتة، و جرّها هذا الاستخفاف إلى ارتكاب حماقة أصبح بعدها عهد الموادعة لاغياً.
فقد سبق أنّ عهد الحديبيّة قد أعطى الحقّ لكلّ من أراد من العرب أن يدخل في عهد محمّد (ص) أو عهد قريش، أن يدخل فيه، و كانت بين بني بكر و خزاعة أحقاد قديمة و حروب متواصلة. فلمّا تمّ صلح الحديبيّة دخلت خزاعة في عهد محمّد (ص) و دخل بنوبكر في عهد قريش.
فلمّا كانت معركة مؤتة تخيّل بنو الدّيل (أو الدّؤل) من بني بكر بن عبد مناة أحلاف قريش أنّ الفرصة قد سنحت لهم ليقتصّوا من خزاعة حليفة المسلمين لثاراتهم القديمة، و ظنّوا أنّ المسلمين بعد تلك النّكسة الّتي أصيبوا بها لم يعدّ في مقدورهم أن يناصروا من دخل في عهدهم كخزاعه و غيرها. و حرّضهم على ذلك عِكْرَمة بن أبي جهل و صفوان بن أُميّة و حويطب بن عبدالعزّي و مكرز بن حفص و غيرهم من وجوه قريش و دسّوا إليهم الرّجال و السّلاح، و بَيَّتُوا(1) خزاعه و هم على ماءٍ لهم يُدعى الوَتير، فقتلوا منهم عشرين رجلًا و ذلك في شعبان من السّنة الثّامنة للهجرة، فالتجأت خزاعة إلى الحرم، ثمّ إلى دار بُديل بن ورقاء و دار مولى
ص: 302
لهم يقال له: رافع الخزاعِيَّين و انتهوا بهم في عماية الصّبح.(1) و دخلت رؤساء قريش منازلهم، و هم يظنّون أنّهم لا يُعرَفون، و أنّه لا يبلغ هذا رسول الله (ص) و أصبحت خزاعة مُقَتَّلين على باب بديل و رافع.
و كان ممّا لابدّ منه أن تستنجد خزاعة بالنّبي (ص)، فذهب جماعة منهم إلى المدينة، فلمّا دخلوا على الرّسول و هو جالس في المسجد بين أظهر النّاس، أنشد عمرو بن سالم الخزاعي قوله:
يا ربّ إنّي ناشد محمّداً حِلْف أبينا و أبيه الأتلَدا(2)
قد كنتم وُلْداً و كنّا والداً ثُمَّتَ أسلمنا فلم نَنْزِع يدا(3)
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
هم بَيَّتُونا بالوَتير هُجَّداً و قَتَّلونا رُكّعاً و سُجّدا(4)
فقال رسول الله (ص) «حسبك يا عمرو، أي: و دمعت عيناه» أو قال: «نُصِرتَ يا عمرُو بن سالم». فما برح حتّى مرّت عَنانَة(5) من السّماء فرعدت، فقال رسول الله (ص): إنّ هذه السَّحابَةَ لَتَسْتَهِلُ (6) بنصر بني كعب.(7) و قام من ساعته و ندب المسلمين في المدينة و خارِجِها لأن يكون على أُهبة الاستعداد عندما يدعوهم إلى الخروج معه من غير أن يعرفوا و جهته الّتي يريدها.
و توالدت الوفود عليه حتّى اجتمع في المدينة خلال العشرة الأولى من شهر
ص: 303
رمضان نحو عشرة آلاف مقاتل.
و ندمت قريش على ما صنعت مع خزاعة، و عرفت أنّ ذلك نقض للعهد من جانبها، و اتّفقت على أن يشدّ أبوسفيان الرّحال إلى محمّد و يكلّمه في الأمر قبل أن تستنجد به خزاعة، لعلّه يجدّد العهد فيما بينهم و بينه و يزيد في أمد الهدنة، و لم يكونوا قد علموا بوفد خزاعة إلى النّبيّ (ص).
و خرج أبوسفيان من مكّة و معه مولى له على راحلتين و أسرع السّير و هو يرى أنّه أوّل من خرج من مكّة إلى رسول الله (ص) بعد ذلك الحدث الّذي أطاح بعهد الصلح بينهم و بين النّبيّ (ص)، فلقى بديلَ بن ورقاء بعُسفان، فأشفق أبوسفيان أن يكون بديل جاء رسولَ الله (ص)، بل كان اليقين عنده، فقال للقوم: أخبرونا عن يثرب متى عهدكم بها؟ قالوا لا علم لنابها. فعلم أنّهم كتموه، فقال: أما معكم من تمر يثرب شى ءٌ تطعموناه؟ قالوا: لا. و أراد أبوسفيان أن يتأكّد من أمرهم، فقال يا بديل: هل جئتَ محمداً؟ قال: لا؛ ولكنّي سرت في بلاد خزاعه من هذا السّاحل في قتيل كان بينهم فأصلحت بينهم. فقال له أبوسفيان: إنّك والله ما علمتَ برٌّ و أصل ....
و أقبل أبوسفيان حتّى دخل المدينة و أتى رسولَ الله (ص) و طلب منه أن يجدّد العهد و يزيد في أمره. فقال له النّبيّ (ص): فلذلك جئت يا أباسفيان؟ قال: نعم. فقال رسول الله (ص): هل كان مِنْ قِبَلِكم من حدث؟ قال: معاذ الله، نحن على عهدنا و صلحنا يوم الحديبيّة، لا نغيّرو لا نبدّل. فقال رسول الله (ص): فنحن على مدّتنا و صلحنا يوم الحديبيّة لا نغيّر و لا نبدّل. فأعاد أبوسفيان على رسول الله (ص) القول، فلم يردّ عليه شيئاً.(1) فذهب إلى أبي بكر و عثمان و علي (ع) و سعد بن عبادة و أشراف قريش و الأنصار يستعين بهم على إقناع النّبيّ (ص) بتجديد العهد و
ص: 304
زيادة أمده، فلم يجد منهم تجاوباً على ذلك و رفضوا مراجعة النّبيّ (ص) بهذا الخصوص.
و قد كان طَلَبُ أبي سفيان من النّبيّ (ص) تجديد عهد الحديبيّة و الزّيادة في المدّة هو الخدعة الّتي أعدّها هذا الرّجل، و من ورائه قريش للتّخلّص من تبعات الجريمة الّتي ارتكبوها في حقّ خزاعة.
و قد كان لابدّ من ردّ أبي سفيان خائباً ليفهم: أنّ أساليب المكر و الاحتيال لا تجدي في إماتة الحقّ و إحياء الباطل. أضف إلى ذلك: أنّ ما واجهه أبوسفيان في المدينة كان غايةً في الرّوعة، فقد ذاق طعم الذّل و الخزي مرّة بعد أخرى و تجرّع مرارة الخيبة و الفشل كرّات و مرّات لم يعرف لها مثيلًا في حياته كلّها، و قد تجلّى هذا الذّل في مظاهر مختلفة، حتّى في لقائه مع ابنته أمّ حبيبة زوج النّبيّ (ص)، فإنّه لمّا دخل عليها فأراد أن يجلس على فراش رسول الله (ص)، فَطَوَتْه دونه،(1) فقال: يا بنيّة، أرغبتِ بهذا الفراش عنّي أم رغبتِ لي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله (ص) و أنت رجل مشرك نجس، فلم أحبّ أن تجلس على فراش رسول الله (ص). قال: لقد أصابك بعدي شرّ يا بنيّة،(2) ثمّ خرج من بيتها و قد استولى عليه الغضب من هذا الموقف الّذي لم يكن يترقّبه من أقرب النّاس إليه.
ذكروا: أنّه لمّا عزم رسول الله (ص) على غزو مكّة قال لعايشة: جَهّزينا و أخفي أمركِ. فأراد (ص) أن تخفى أصل التّجهّز و الاستعداد لسفر لم يحدّده لها و لا عرّفها طبيعته هل هو سفر للحرب، أو لزيارة منطقة بعينها، أو لأي غرض آخر؟
و منع أحداً أن يخرج من المدينة مخافة أن يتسرّب خبر استعداده لقريش و
ص: 305
قد كان يجب أن يدخل مكّة فاتحاً بدون حرب و لا قتال و دعا الله سبحانه أن يمنع عن قريش العيونَ و الأخبار.
و من غير الطّبيعي كتمان أمر عن أمّة بأسرها يستنفر منها عشرة آلاف مقاتل ليعالجوا نفس هذا الأمر المكتوم مع كثرة الموتورين و الحاقدين في المنطقة، و مع وفرة المنافقين المتربّصين بالإضافة إلى الّذين يبحثون عمّا يفيدهم في مصالحهم الشّخصيّة أو القِبَلِيّة أو غيرها.
و خفاء هذا الأمر الخطير إلى هذا الحدّ و في ظروف كهذه و في هذا المحيط بالذّات يعدّ من أعظم الإنجازات و من أجلّ التّوفيقات و يدلّل على التّدبير و الضّبط الدّقيق للأمور من قِبَل رسول الله (ص).
و مع هذا التّحفّظ الشّديد و تكتّمه عن سائر الناس سوى الخاصّة من أصحابه، فقد تسرّب نبأ مسيرته إلى حاطب بن أبي بلتعة، فكتب إلى قريش يخبرهم بالّذي عزم عليه رسول الله (ص)، و أعطى الكتاب إلى امرأة من مُزَيْنَة و أعطاها مبلغاً من المال في مقابل إيصال كتابه لقريش، فوضعت الكتابَ في رأسها و فَتَلَتْ عليه قرونَها، و خرجت باتّجاه مكّة، فنزل الوحي على الرّسول (ص) يخبره بما صنع حاطب. فأرسل النّبيّ (ص) من ساعته عليّاً و الزّبير و أمرهما أن يُجدّا السّير في طلب المرأة قبل أن تفوتهما.
فخرجا مُسرعَين، فأدر كاالمرأة بالخَليقَة؛(1) خَليقة بني أحمد، فاستنزلاها و التماسا الكتاب في رحلها فأنكرت و حلفت: أنّه لا شى ء معها و بكت.
فقال الزّبير: ما أرى يا أبا الحسن معها كتاباً، فارجع بنا إلى رسول الله (ص) نخبره ببراءة ساحتها. فقال له أميرالمؤمنين (ع): يخبرني رسول الله (ص) أنّ معها
ص: 306
كتاباً و يأمرني بأخذه منها، و تقول أنت: إنّه لا كتاب معها؟!! ثمّ اخترط السّيف (1) و تقدّم إليها، فقال: أما والله لئن لم تُخرجي الكتاب لأكشفنّك، ثمّ لأضربنّ عنقك.
فلمّا رأت منه الجدّ حلّت قرونَها و أخرجت الكتاب، فأخذه أميرالمؤمنين (ع) و أقبلا به على رسول الله (ص).(2)
فدعا حاطباً، فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ قال: يا رسول الله، إنّي والله لمؤمن بالله و رسوله، ما غيّرت و لا بدلّت، ولكنّي كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل و لا عشيرة و كان لي بين أظهرهم ولدٌ و أهل، فصانعتُهم عليهم.(3) و أمر النّبيّ (ص) بإخراجه من المسجد، فجعل النّاس يدفعونه في ظهره حتّى أخرجوه و هو يلتفت إلى النّبيّ (ص) و لا يتكلّم، فرقّ له و أرجعه إلى المسجد و أوصاه أن لايعود لمثلها.(4)
قيل: إنّه استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبدالمنذر(5) و قيل: أبارُهْم، كلثوم بن حُصَيْن الغفارى (6) و يقال: ابن أمّ مكتوم و به جزم الدّمياطي.(7) و خرج يوم الأربعاء بعد العصر لعشر خلون من شهر رمضان، في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين و الأنصار و طوائف من العرب و قادوا الخيل و امتطوا الإبل و قدّم رسول الله (ص)
ص: 307
أمامه الزّبير في مائتين من المسلمين.(1) و المقصد لا يزال مجهولًا و النّاس لا يدرون أين توجّه رسول الله (ص) إلى قريش، أو إلى هوازن، أو إلى ثقيف. و هذه الخيارات كلّها تحتاج لمثل هذا الجمع العظيم من المقاتلين، كما أنّ كلّها تقع في منطقة واحدة و في أمكنة متقاربة، و الطّريق من المدينة إليها هي نفس هذه الطريق الّتي سلكها رسول الله (ص) إلى قُدَيد، و إنّما تتميّز الطُّرُقات إلى تلك المناطق بدءاً من سَرِف الّتي كانت تبعد عن مكّة أميالًا يسيرة.(2) والّذي زاد في حيرتهم: أنّه (ص) لم يخرج بهذه الألوف على هيئة الحرب فهو لم يعقد أَلْوِيةً و لا رفع راياتٍ و لا رتّب الجيش ترتيباً قتاليّاً حتّى بلغ قُديداً(3) ففيها عقد الأَلْوِية و رفع الرّايات و دفعها إلى القبائل.
فهل يمكن أن نضع هذا الإنجاز في مجال الاستطلاع و الحفاظ على السّريّة إلّا في عداد المعجزات و خوارق العادات الّتي لا يقدر عليها إلّا نبي أو وصي نبىّ؟!
ص: 308
أبوسفيان يتحسّس الأخبار، فخرج هو و حكيم بن حِزام فلقيا بُديل بن ورقاء، فاستتبعاه، فلمّا بلغوا الأراك (1) من مَرّ الظَّهران و ذلك عشيّاً رأوالعسكر و القِباب و النّيران كأنّه نيران عَرَفَة و سمعوا صَهيل الخيل و رُغاء الإبل،(2) فأفزعهم ذلك فزعاً شديداً.
فلقيهم العبّاس على بغلة رسول الله (ص) الشَّهباء و قال لأبي سفيان: ويلك!! هذا رسول الله (ص) في عشرة آلاف. فقال:
و اصباح قريش (3)، بأبي أنت و أمّي، فما تأمرني، هل من حيلةٍ؟ قال: نعم، اركب عَجُزَ هذه البغلة، فَأَذهَبُ بك إلى رسول الله (ص) فَأَستأمنه لك. فإنّه و الله إن ظفر بك دون رسول الله (ص) لتقتلنّ. فقال: و أنا و الله أرى ذلك.
قال العبّاس كما جاء في رواية الواقدي-: فأردفته خلفي و اتّجهت نحو معسكر المسلمين، و كانوا قد أوقدوا النّيران ليلًا: فكلّما مررت بنارٍ من نيران المسلمين، قالوا: مَن هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله (ص) و أنا عليها قالوا: عمّ رسول الله (ص) على بغلته ....
فحرّكت البغلة حتّى اجتمعنا على باب خيمة رسول الله (ص)، فدخلت و إيّاه على النّبيّ (ص)، فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله، هذا أبوسفيان قد امكن الله منه، فدعني أضرب عنقه. فقلت: إنّي قد أجرته يا رسول الله ... فقطع النّبيّ حوارهما بقوله للعباس: اذهب به، فقد أجرته لك، فَلْيَبِتْ عندك حتّى تغدوا به علينا إذا أصبحتَ.
فلمّا أصبحتُ غدوتُ به، فلمّا رآه رسول الله (ص) قال: و يحك يا أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ قال: بأبي أنت، ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك! قد كان يقع في نفسي أنّه لو كان مع الله إله لقد أغني عنّي شيئاً (يوم بدر
ص: 309
و أحد) بعد، لقد استنصرتُ إلهي و استنصرتَ إلهك، فو الله ما لقيتُك من مرّة إلّا نُصِرْتَ عليَّ، فلو كان إلهي مُحقّاً و إلهك مبطلًا لقد غلبتُكَ. فقال: ويحك يا أباسفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ قال: بأبي أنت و أمّي ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك! أمّا هذه فو الله إنّ في النّفس منها شيئاً حتّى الآن.
فقال العبّاس: ويحك! أسلم قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحقّ على كُره منه حينما أدرك أنّ الموت ينتظره لحظة بعد لحظة و في نفسه من نبوّة رسول الله (ص) أشياء و أشياء و ظلّت تلك الأشياء في نفسه إلى أن مات فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله و أشهد أنّ محمّداً رسول الله.(1)
و لسنا بحاجة إلى بيان أهدافه (ص) حين أمر أصحابه بإيقاد عشرة آلاف نار؛ الأمر الّذي بَهَرَ عتاةَ و جبابرةَ أهل الشّرك و فراعنة قريش، و قد تقدّم: أنّ أبا سفيان و حكيم بن حزام و ابن ورقاء فزعوا فزعاً شديداً حين رأوا تلك النّيران كأنّها نيران عَرَفَة.(2) و لو لا أنّهم رأوا القِباب و العسكر الجرّار و سمعوا صَهيل الخيل و رُغاء الإبل لأمكن أن يتسرّب إلى أوهامهم احتمال أن تكون فئة صغيرة هي الّتي أوقدت هذه النّيران الكثيرة.
لقد تأكّد لديهم:
1. أنّ من يوقد هذه النّيران يريد أن يُعلِم أعداءه بحضوره، غير آبهٍ بهم (3) و لا(4)
صفوة الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله ؛ ؛ ص309
ص: 310
خائف منهم، و أنّه لم يأت متسلّلا و لا مُغيراً يريد أن يربح المعركة عن طريق المباغتة، لتعوض المباغتة ضعفه أو لتوهن شيئاً من قدرات عدوّه.
2. أنّه يريد بإيقاد هذه النّيران الكثيرة أن يظهر حجم قوّته و حضورها وسعتها و امتدادها لتساعد تلك النّيران أولئك النّاظرين الّذين قد يكونون في مرتفع، على رؤية أوّل و آخر رجل جاء لقتال عُتاة الشّرك، من دون أن تغرقهم عيونهم في ضباب الإبهام بسبب الظّلمة الّتي قد تمنع العيون من الإحاطة بها.
إذن فقد كان طبيعيّاً أن يتحيّر أبوسفيان و من معه في هويّة هذا الجيش الّذي أَمامَهم هل هو خزاعة، أو تميم، أو ربيعة؟
و واضح: انّ ركوب العباس على بغلة رسول الله (ص) و بحثه عن رسولٍ يرسله إلى قريش لا يمكن ان يكون بدون علم النّبيّ (ص)، بل ذلك فيما يظهر داخل في صلب خطّة النّبيّ (ص) لأخذ مكّة من أولئك الجبّارين من دون قتال، و ذلك باعتماد طريقة ترسيخ القناعة لدى أقطابها بعجزهم عن مناجزته الحرب إلّا إذا كانوا يريدون أن يلقوا بأيديهم إلى الدّمار و البوار.
و قد كان العبّاس افضل رسولٍ إلى قريش و زعمائها، فانّهم على قناعة تامّة بانّه لا يمكن ان يفرط بهم، كما اثبتته لهم تجربتهم الطّويلة معه.
و قد ظهر من تفدية أبي سفيان للعباس بأبيه و أمّه مدى عمق علاقة المودّة و الصّفا فيما بينهما، حتّى أنّه يجعل نفسه رهن إشارة العبّاس. فإذا جاءتهم النّصيحة من قِبَل العبّاس، فإنّهم لا يرفضونها و لا يستغشونه.
ثمّ يظهر العباس هنا بمظهر القوي الحازم، الّذي يفرض رأيه و قراره بدون أي تحفّظ. على أنّ ركوبه بغلة رسول الله (ص) من شأنه أن يطمئنّ أولئك المعاندون إلى أنّ مكانته محفوظة عند رسول الله (ص) و أنّ كلمته مؤثّرة لديه.
ص: 311
كما أنّ أحداً من المسلمين لا يجرؤ على إخفار جواره، فإذا دخلوا هذا المعسكر معه و في حمايته، فكيف إذا أردف رأس الشّرك خلفه، و حمله معه؟
فالعبّاس بعد كلّ هذا هو الوسيلة الأكثر أمناً في الطّريق، و الأكثر فاعليّة و تأثيراً لدى رسول الله (ص).
و جاء في كتب السّيرة و التّاريخ أنّ أباسفيان و حكيم بن حزام قالا لرسول الله (ص): ادع النّاس بالأمان: أرأيت إن اعتزلت قريش و كَفَّتْ أيديَها آمنون هم؟ فقال رسول الله (ص): نعم.
و في بعض المرويّات: قال العبّاس: قلت يا رسول الله! قد عرفت أبا سفيان و حبّه الشّرف و الفخر فاجعل له شيئاً.
فقال رسول الله (ص): «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن». فقال: و ما تسع دارى؟ زاد ابن عُقبة: «و من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن (1) و من أغلق بابه فهو آمن و من دخل المسجد فهو آمن».(2) و قال الحلبي الشافعي: «عقد (ص) في المسجد لأبي رُوَيحَة(3) لواءاً و أمره أن ينادي: و من دخل تحت لواء أبي رُويحة فهو آمن. و إنّما قال ذلك لما قال له أبوسفيان: و ما تسع داري و ما يسع المسجد»؟(4) و نقول: إنّ في هذه النّصوص من الإشارات و الدّلالات، نذكر منها مايلي:
ص: 312
ألف. هل هذا تشريف لأبي سفيان؟
قد كان ممّا أعطاه رسول الله (ص) لأبي سفيان: أن جعل الأمان لمن دخل داره؛ لأنّ أبا سفيان يحبّ التفخيم و الذّكر، و لكنّه (ص) و إن كان قد أنعم لأبي سفيان بهذا الأمر و أعطاه إيّاه بيدٍ، و لكنّه عاد فأخذه منه باليد الأخرى بأسلوب رصين يجعل النّاس يدركون أنّه مجرّد إجراء شكلي ليس له مضمونُ تشريفٍ و لا تكريمٍ، لأنّه:
1. أعطى مثل ذلك لحكيم بن حزام أيضاً.
2. ساوى بين دخول دار أبي سفيان و بين اللّجوء إلى راية الأمان، الّتي جعلها مع أبي رويحة، و ساوي أيضاً بينه و بين أيّة دارٍ في مكّة يدخلها صاحبها و يغلق بابها على نفسه. كما ساوى بين ذلك و بين أن يضع الإنسان سلاحه و يكفّ يده، ليكون ذلك إشارة إلى مجرّد اتّخاذ وضع غير قتالي.
و بذلك يتّضح: أنّ أباسفيان ليس فقط لم يحصل على ما اراد من الذّكر و الفخر، بل أُخِذ منه ما كان قد استلبه بغير حقّ، لأنّ المساواة بين دخول داره و بين دخول دار أي إنسان في مكّة، ثمّ بين ذلك و بين أن يكفّ الإنسان يده و يضع سلاحه فيها، حَطٌّ من المقام الّذي جعله أبوسفيان لنفسه، و جعله كأي إنسان آخر من أهل مكّة.
ب. استجادٌ بعد الاستغناء
لقد كان أبوسفيان طيلة حوالي عشرين سنة يسعى لإطفاء نور الله، مدّعياً لنفسه مواقع الشّرف و الكرامة، متّخذاً من هذا الفعل المخزي سبيلًا للمجد و الذّكر و الفخر؛ ولكنّه بين ليلة و ضحاها أصبح يستجدي شيئاً من الذّكر، و ما يوجب له الفخر من نفس هذا العدوّ الّذي لم يزل يحاربه إلى تلك اللّحظة.
ج. حفظ حرم الله تبارك و تعالى
ولسنا بحاجة إلى التّأكيد على أنّ المطلوب من إعلان الأمان لأهل مكّة، و كذلك سائر المواقف و السّياسات النّبويّة في مسيره (ص) إلى مكّة، هو أن لا تراق
ص: 313
أيّة قطرة دمٍ في حرم الله تبارك و تعالى. و لابدّ من أن يقارن الكثيرون من أهل مكّة و غيرهم بين هذه السّياسة مع صناديد قريش و كلّ رجالها و بين ما فعله أهل مكّة أنفسهم بالخزاعيّين الأبرياء من الصّبيان و النّساء و الرّجال الضّعفاء، في حين أنّ قريشاً لو تمكنّت من الحرب لأبادت هذا الجيش القادم في نفس بيت الله و حرمه.
(1)قالوا: و أمر رسول الله (ص) منادياً ينادي: لتصبح كلّ قبيلة قد أرحلت و وقفت مع صاحبها عند رايته و تُظهر ما معها من الأَدات و العُدّة. فأصبح النّاس على ظَهر(2) و قدّم بين يديه الكتائب. و مرّت القبائل على قادتها، و الكتائب على راياتها.(3) فأوّل مامرّ به خالد بن الوليد في بني سليم و هم ألف ... فلمّا مرّوا بأبي سفيان كبّروا ثلاث تكبيرات، ثمّ مضوا. فقال أبوسفيان: يا عبّاس، مَن هؤلاء؟ قال: هذا خالد بن الوليد. و هكذا أخذت القبائل تمرّ به الواحدة تِلْوَ الأخرى. و كلّما مرت قبيلة بحذائه كبّرت ثلاثاً و أبوسفيان يسئل عنها و العبّاس يجيبه، إلى أن مرّت جميع الكتائب و لم يبق إلّا الكتيبة الّتي فيها رسول الله (ص).
فلما طلعت كتيبة رسول الله (ص) الخضراء(4) و طلع سواد شديد، وغَبْرَةٌ من سنابك الخيل (5) و جعل النّاس يمرّون، و أبوسفيان يقول: أما مرّ محمّد؟ و العبّاس
ص: 314
ى
قول له لا. و فيما هم كذلك و أبوسفيان يهزّه الحقد و البغض و إذاً برسول الله (ص) و هو على ناقته القَصْواء، فقال العبّاس: هذا رسول الله (ص).
فجعل أبوسفيان ينظرو يرتعد و كان قد حشد في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين و الأنصار، و الألوِية والرّيات و كلّهم منغمسون في الحديد لا يُرى منهم إلّا الحَدَق،(1) و في الكتيبة ألفا دارع، و راية رسول الله (ص) مع سعد بن عبادة الأنصاري و هو أَمام الكتيبة.
فلمّا مرّ سعد برايَة رسول الله (ص) نادى أباسفيان، فقال: اليوم يوم المَلْحَمة،(2) اليوم تُسْتَحَلّ الحُرُمة، اليوم أذلّ الله قريشاً.
فأرسل رسول الله (ص) إلى سعد، فنزع اللّواء من يده، و جعله إلى ابنه قيس، و يقال: إنّ رسول الله (ص) أمر عليّاً (ع)، فأخذ الرّاية، فذهب بها إلى مكّة حتّى غَرَزها(3) عند الرّكن.
قال الحافظ: والّذي يظهر في الجمع: أنّ رسول الله (ص) أرسل عليّاً لينزعها و أن يدخل بها.(4) و في نصّ آخر: إنّ أباسفيان سعى إلى رسول الله (ص) و أخذ بِغَرْزِه (5)، فقبّله و قال: بأبي أنت و أمّي، أما تسمع ما يقول سعد؟ إنَّه يقول:
اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحُرُمة
فقال لعلي (ع): أدركه، فخُذِ الرّاية منه و كن أنت الّذي يدخل بها و أدخِلْها
ص: 315
إدخالًا رفيقاً. فأخذها على و أدخلها كما أمر.(1)
و قد صرّح رسول الله (ص) بالهدف الّذي كان يتوخّاه (2) من حضور أبي سفيان عَرض جنود الله و هو أمران:
1. أن يراه النّاسُ جنودَ الله لتقوى بذلك عزائمهم و يصحّ يقينهم بوعد الله تعالى لهم بالفتح و النّصر، منذ الحديبيّة.
2. ان يرى هو جنودَ الله لتذلّ نفسه الأمّارة بالسّوء، الّتي تُمنيه النّصر و تدعوه إلى محاربة الله و رسوله و عباده المؤمنين، و لِيَكْبِتَه (3) الله تعالى بذلك و يشفى به صدور قومٍ مؤمنين طالما اضطهدهم (4) و ألحق بهم أنواعاً من الأذايا و البلايا.
بعد أن رفض النّبيّ (ص) قول سعد بن بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، أفاد كلمته الخالدة الّتي انبعثت من قلبه الكبير، الّذي لا يحمله إنسان في هذه الدّنيا و نادى أباسفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله قريشا. و لا شكّ في أنّ الرّحمة الإلهيّة قد شملت أهل مكّة بهذا الفتح الّذي فرض عليهم الإسلام و أدّى إلى هيمنة أحكامه و شرايعه الّتي هي محض الحقّ و العدل و بها يكون لهم بلوغ درجات
ص: 316
الكرامة و الفضل.
إنّه يوم رفع الظّلم و الجبريّة و يوم إعلان الحرب على الفساد و المفسدين و إبطال حكومة الأهواء و إسقاط هيمنة العصبيّات و الشّهوات، و أيضاً يوم تعظيم الكعبة و كسوتها، بعد أن خرجت من يد المشركين، الّذين هتكوا حرمة حرم الله بذبح أطفال، و نساء، و ضعفاء و رجال خزاعة فيه و تجرّؤوا على الله بعبادة الأصنام في بيته و الدّعوة إلى الشّرك به تعالى فيه.
و هو يوم عزّ قريش الّتي أعلنت براءتها من الشّرك و التزامها بالإيمان بالله، و بأنبيائه و رسله و قبول دينه، فمنحها ذلك حصانةً و عزّةً، حتّى لو كان إيمانها لا يزال في مراحله الأولى، الّذي يقتصر على مجرّد الإعلان اللّساني.
قالوا: لمّا ذهب أبوسفيان، إلى مكّة بعد ما عاين جنود الله تمرّ عليه، واصل المسلمون سيرهم حتّى انتهوا إلى ذي طوى،(1) فوقفوا ينتظرون رسول الله (ص) حتّى تلاحق النّاس، و أقبل رسول الله (ص) في كتيبته الخضراء(2) ... و قد طأطأ رأسه تواضعاً لله تعالى و هو يقرأ سورة الفتح.(3) و جعلت الخيل تَمْعَج (4) بذي طوى في كلّ وجه، ثمّ ثابَتْ (5) و سكنت حين توسّطهم رسول الله (ص).(6)
ص: 317
و عند الواقدي: أنّه (ص) أمر الزّبير أن يدخل من كُدَى،(1) و أمر خالداً أن يدخل من اللّيط(2) و أمر سعدَ بن عبادة أن يدخل من كَدا، و مضى (ص) فدخل من أذاخر،(3) حتّى نزل بأعلى مكّة و ضُربت له هناك قبّة.(4) و أمر رسول الله (ص) أمَراءه أن يَكُفّوا أيديهم و لا يقاتلوا إلّا من قاتلهم.(5) وقالوا: إنّ صفوان بن أميّة و عِكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو دَعَوا إلى قتال رسول الله (ص) و جمعوا أناساً بالخَنْدَمَة،(6) و ضَوى إليهم ناس من قريش و بني بكر و هذيل، و لبسوا السّلاح، يقسمون بالله لا يدخلها محمّد عنوةً أبداً.
فلمّا دخل خالد بن وليد من حيث أمره رسول الله (ص) وجد الجمع المذكور، فمنعوه الدّخول، و شهروا له السّلاح، و رموه بالنّبل، و قالوا لا تدخلها عنوةً. فصاح في أصحابه، فقاتلهم، و قُتِل منهم أربعة و عشرون رجلا من قريش و أربعةٌ من هذيل.(7) و جعل أبوسفيان و حكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش، عَلامَ تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن، و من وضع السّلاح فهو آمن. فجعل النّاس يقتحمون الدّور(8) و يَغْلِقون عليهم و يطرحون السّلاح في الطّرق حتّى يأخذه
ص: 318
المسلمون.(1) و أقبل الزّبير بمن معه من المسلمين حتّى انتهى إلى الحَجون و غَرَز الرّاية عند منزل رسول الله (ص)(2) و في المنتقي: و كلّ الجنود لم يلقوا جنوداً غير خالد.(3) و قالوا: و وجّه (ص) اللّوم على خالد و قال له: قاتلتَ، و قد نُهيتَ عن القتال؟!
فاعتذر له: بأنّهم هم بدأوا بالقتال. ولكنّه عذر غير مقبول، إذ إنّ بَدْأَهم له بالقتال لا يمنعه من أن يراجع رسولَ الله (ص) في أمرهم.
روي الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله (ع) قال: شعارنا «يا محمّد يا محمّد» و شعارنا ... يوم الفتح: «نحن عباد الله حقّاً حقّاً».(4) و سند الحديث صحيح.
قد بدا واضحاً أنّ هذه العبارات المختارة لتكون شعاراً في هذه الحرب كانت متوافقة مع طبيعة المرحلة الّتي يمرّون بها و التّحديدات الّتي تواجههم، و ذلك لمايلي:
1. لقد كان مشركوا مكّة و عُتاتها و رموز الظّلم و التّعدّي على حرمات الله فيها، يحاربون الله و رسوله و يهتكون حرمة بيت الله و الحرم. ثمّ هم يدّعون أنّهم سَدَنَة البيت و حماة الحرم و أولياؤه.
و قد ردّ الله تعالى ذلك عليهم، فقال: «وَ ما لَهُمْ أَلَّا يعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يصُدُّونَ
ص: 319
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعْلَمُونَ»(1).
2. إنّ الكعبة بيت الله، و الحرم المكّي حرم الله، و لابدّ من أن تتجلّى في هذه الأماكن المقدّسة و المشاعر المعظّمة عبوديّة الإنسان لربّه بكلّ أبعادها و مختلف تجليّاتها.
و خير مَن يجسّد هذه العبوديّةَ هم المؤمنون بالله الواحد الأحد، فإنّ الشّرك ينقص من مقام العبوديّة. و لأجل ذلك اختار (ص) بيان هذه الحقيقة و إسقاط هذه المغالطة الّتي يمارسها المدّعون لها كذباً و زوراً.
3. إنّ اختيار العبوديّة لتكون أوّل مفهومٍ يطرح في هذه المناسبة يؤكّد على أنّ هذا الفتح العظيم لم يُخرِج هؤلاء الفاتحين عن حالة التّوازن و لم يوجب لديهم حالةً من الغرور، بل زادهم ذلك تواضعاً و خضوعاً له واستسلاماً لإرادته و مشيئته تعالى.
4. إنّ هذا الشّعار الّذي نادى به المسلمون في فتح مكّة دعوة لأهلها إلى قبول الحقّ و الدّخول في دين الله و التّوبة و الاستغفار و طلب الرّحمة؛ كما أنّه شعار يتضمّن إنذاراً لهم بضرورة التّخلّي عن المكابرة و الجحود، لأنّ ذلك سوف يعرضهم لغضب الله و سخطه، و ستجري عليهم و فيهم أحكامه و شرايعه.
رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: دخل النّبيّ (ص) مكّة يوم الإثنين.(2) و عن أبي جعفر قال: كان أبو رافع قد ضرب لرسول الله (ص) قبّةً بالحَجون من
ص: 320
أَدَم، فأقبل رسول الله (ص) حتّى انتهى إلى القبّة و معه أمّ سلمة و ميمونة زوجتاه.(1) عن جابر رضي الله عنه قال: كنت ممّن لزم رسول الله (ص) فدخلت معه يوم الفتح، فلمّا أشرف (ص) من أذاخر و رأى بيوت مكّة وقف عليها، فحمد الله و أثنى عليه و نظر إلى موضع قبّته، فقال: «هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت (2) قريش علينا في كفرها» ... و كنّا بالأبطح وِجاه شِعْب أبي طالب حيث حُصِر رسول الله (ص) و بنو هاشم ثلاث سنين.(3)
قال الصّالحي الشّامي: الحكمة في نزول النّبيّ (ص) بِخَيْف (4) بني كنانة، الّذي تقاسموا فيه على الشّرك، أي تحالفوا فيه على إخراج النّبيّ (ص) و بني هاشم إلى شِعب أبي طالب، و حصروا بني هاشم و بني المطّلب فيه، ليتذكّر ما كان فيه من الشّدة فيشكر الله تعالى على ما أنعم عليه من الفتح العظيم و تمكّنه من دخول مكّة ظاهراً على رغم من سعى في إخراجه منها.(5) و قال أيضا: لا مخالفة بين حديث نزوله (ص) بالمُحَصَّب و بين حديث أمّ هاني أنّه نزل في بيت أمّ هاني، لأنّه لم يقم في بيت أمّ هاني و إنّما نزل به حتّى اغتسل و صلّى، ثمّ رجع إلى حيث ضُربت خيمته عند شِعب أبي طالب و هو المكان الّذي حصرت فيه قريش المسلمين قبل الهجرة.(6)
ص: 321
قالوا: دخل رسول الله (ص) مكّة بغير إحرامٍ و عليه السّلاح و مكث في منزله ساعة من النّهار حتّى اطمأنّ النّاس، فاغتسل و ركب راحتله القَصواء و قد حفّ النّاس به.
فلمّا انتهى إلى الكعبة، استلم الرّكن بِمِحْجَنِه (1)، و كبّر، فكبّر المسلمون بتكبيره فرجّعوا التّكبير، حتّى ارتجّت (2) مكّة تكبيراً، حتّى جعل رسول الله (ص) يشير إليهم أن اسكتوا؛ و المشركون فوق الجبال ينظرون.
و طاف رسول الله (ص) بالبيت، فأقبل على الحجر فاستلمه، ثمّ طاف بالبيت.(3) ثمّ انتهى المقام، فصلّى ركعتين، ثمّ انصرف إلى زمزم، فأطلع فيها، و نزع له العبّاس بن عبدالمطّلب دلواً فشرب منه و تَوَضَّأ،(4) و المسلمون يبتدرون وضوء رسول الله (ص) يصبّونه على وجوههم، و المشركون ينظرون إليهم و يتعجّبون و يقولون: ما رأينا مَلِكاً قطّ أبلغ من هذا و لا سمعنا به.
و أمر بِهُبَل، فَكُسِرَوهو واقف عليه. فقال الزّبير لأبي سفيان: يا أباسفيان، قد كُسِرَ هبل، أَما إنّك قد كنت منه يوم أحد في غرورٍ حين تزعم أنّه أَنْعَم. قال: دع عنك هذا يابن العوّام، فقد أرى لو كان مع إله محمّد غيره لكان غير ما كان.(5) و كان حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنماً مرصّعةً بالرّصاص، و كان هبل أعظمها و هو وِجاه الكعبة(6) و إساف و نايلة حيث ينحرون و يذبحون الذّبائح و في
ص: 322
ى
د رسول الله (ص) قوس (1) و قد أخذ بِسِيَةِ القوس،(2) فجعل رسول الله (ص) كلّما مرّ بصنم منها يشير إليه و يطعن في عينه و يقول: «جاء الحق و زهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً».(3) فما يشير إلى صنم إلّا سقط لوجهه و في لفظ لِقَفاه من غير أن يَمَسَّه.(4) قال الصّالحي الشّامي: عن علي (ع) قال: انطلق رسول الله (ص) حتّى أتى بي الكعبة، فقال اجلس، فجلست بجنب الكعبة، فصعد رسول الله (ص) على منكبي، فقال: انهض، فنهضت فلمّا رأى ضعفي تحته، قال: اجلس، فجلست، فقال: يا علي اصعد على منكبي، ففعلتُ ... فصعدت فوق الكعبة، و تنحّى رسول الله (ص)، فقال: ألقِ صنمهم الأكبر و كان من نحاس موَتّد بأوتاد من حديد إلى الأرض، فقال رسول الله (ص): عالِجْه و يقول لي: «أيه أيه» جاء الحق و زهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً، فلم أزل أعالجه حتّى استمكنتُ منه.(5) و في بعض المصادر: أنّه (ع) جمع الحطب و أوقد ناراً، ثمّ وضع قدمه على عضد النّبيّ (ص) و صار يأخذ الأصنام عن جدار الكعبة و يُلقيها في النّار.(6)
ثمّ إنّ ما يدعو إلى التأمّل هنا: أنّ النّبيّ (ص) تولّى بنفسه مع أخيه علي (ع)
ص: 323
هذا العمل، مع أنّه كان من الممكن أن يُوِكَل هذا العمل إلى بعض من كان معه من المسلمين، فلِماذا كان ذلك و ما الحكمة فيه؟
و نقول: لعلّ نفس مبادرة نبي الله (ص) و وصيّه (ع) إلى تحطيم مظاهر الشّرك في بيت الله لتدلّ على أنّ وجودها كلَّه مبغوض لله تعالى، و لا يجوز الاحتفاظ بها تحت أي عنوان من العناوين.
عن الأسود بن خلف: أنّه رأى رسول الله (ص) يبايع النّاس يوم الفتح. قال: جلس عند قرن مَسْفَلَة فبايع النّاس على الإسلام، فجاءه الكبار و الصّغار و الرّجال و النساء، فبايعهم على الإيمان بالله تعالى و شهادة أن لا إله إلّا الله و إنّ محمّداً عبده و رسوله.(1) و قال ابن جرير: «فأخذ على النّاس السّمع و الطّاعة لله و لرسوله فيما استطاعوا».(2) فلمّا فرغ من بيعة الرّجال بايع النّساء و فيهنّ هند بنت عتبه، امرأة أبي سفيان، متنقّبة متنكّرة خوفاً من رسول الله (ص) أن يُخبرها بما كان من صنيعها بحمزة.(3) و كان رسول الله (ص) لا يصافح النّساء و لا يمسّ جلدة امرأة لم يحلّها الله تعالى له، أو ذات محرمٍ. فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثمّ أخرجها، فقال: ادخلن أيدكنّ في هذا الماء، فهي البيعة.(4) و في رواية: ما كان يبايعهنّ إلّا كلاماً، و يقول:
ص: 324
إنّما قولي لامرأةٍ واحدةٍ كقولي لمائة امرأة.(1) و روي علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن أبان عن أبي عبدالله (ع) قال: لمّا فتح رسول الله (ص) مكّة بايع الرّجال، ثمّ جاء النّساء يبايعنه، فأنزل الله عزّوجلّ: «يا أَيهَا النَّبِى إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يبايعْنَكَ عَلى أَنْ لا يشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيئاً وَ لا يسْرِقْنَ وَ لا يزْنِينَ وَ لا يقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يأْتِينَ بِبُهْتانٍ يفْتَرِينَهُ بَينَ أَيدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبايعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(2).(3)
قالوا: أوّل من نصب أنصاب الحرم إبراهيم (ع)، كان جبرئيل (ع) يدلّه على مواضعها، فلم تحرّك حتّى كان إسماعيل (ع) فجدّدها؛ ثمّ لم تحرّك حتّى كان قُصي بن كلاب فجدّدها؛ ثمّ لم تحرّك حتّى كان يوم الفتح، فبعث رسول الله (ص) تميم بن أسد الخزاعي، فجدّد أنصاب الحرم.(4) و نقول: إنّ هذا التّسلسل يشير إلى أنّ هناك أناساً اختارهم الله تعالى لهذا الأمر و لعلّنا نستطيع أن نفهم من اختيار هؤلاء الأشخاص لذلك أمرين:
أحدهما: إنّ قصي بن كلاب و هو أحد آباء رسول الله (ص) لم يكن إنساناً عاديّاً، بل كان من ذوي المراتب العليا و لعلّ الحديث الّذي يقول: «مازال الله
ص: 325
ى
نقلني من صلب نبي إلى صلب نبي، حتّى أخرجني من صلب أبي، عبدالله»(1) يدل على أنّ قُصيّاً كان من الأنبياء أيضاً.
الثاني: إنّ الّذين تصدّوا لوضع أنصاب الحرم و لتجديدها، هم رسول الله (ص) و آباؤه الطّاهرون و ليس فيهم أي نبي من غير آبائه. و في هذا إشارة إلى موقع رسول الله (ص) من هذا البيت و هذا البلد، و اختصاص إبراهيم و إسماعيل و ذريّته به، كما أنّ اقتران اسم قصي باسم هؤلاء الأنبياء العظام يدلّ على مقامه و علوّ درجته أيضاً.
قالوا: و ولىّ رسول الله (ص) عَتّابَ بن أَسيد و عمره ثماني عشرة، أو إحدى و عشرون سنة أمر مكّة، و أمره أن يصلّي بالنّاس، و هو أوّل أمير صلّى بمكّة بعد الفتح جماعةً.
و قال له: يا عَتّاب، أتدري على مَن استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيراً. يقولها ثلاثاً.
و لمّا ولّاه على مكّة جعل له في كلّ يومٍ درهماً، فكان يقول: لا أشبع الله بطناً جاع على درهم في كلّ يومٍ. و يُروي: أنّه قام فخطب النّاس، فقال: يا أيّها النّاس أجاع الله كبد من جاع على درهم (أي له درهم) فقد رزقني رسول الله (ص) درهماً في كلّ يومٍ، فليست لي حاجة إلى أحدٍ.(2) إنّ عتّاب بن أسيد قد أسلم يوم الفتح، و قد كان في المهاجرين المكّيين، مَن هو أفضل و أورع و أتقى و أكثر تجربةً منه بلا شكّ؛ ولكنّ النّبيّ (ص) في نفس
ص: 326
الوقت الّذي يريد أن يكون والي مكّة من قريش، فإنّه أراده ممّن يعيش في مكّة، و ممن أسلم يوم الفتح بالذّات، فإنّ حقد عتاة قريش عليه أضعف، و حسّاسيّتهم منه تكون أقلّ
و أراده أيضاً بهذا السّن أن يبقيه لِآخِر حياته؛ لأنّ ذلك يُبطل ما سوف يتذرّع به نفس هؤلاء نصرةً لأحبّائهم لردّ خلافة أميرالمؤمنين (ع) بعد رسول الله (ص) و هو أنّ من اختاروه كان أكبر سنّاً من علي، (ع) و أنّ النّاس لا يرضون بعلي (ع) بسبب حداثة سنّه و هذه الذّريعة سوف تظهر على رغم وجود عَتّاب أميراً على مكّة فعلًا. و مع أمارة أسامة عليهم في المدينة فعلًا أيضاً، و رغم أنّهم قد بايعوه يوم الغدير و ....
إنّ ذلك كلَّه يوضح: أنّ قضيّة تولية عَتّاب كانت في غاية الأهميّة و في منتهى الحسّاسيّة.
ص:327
ص:328
ص: 329
إنّ النّصوص التّاريخيّة تؤكّد على: أنّ قبيلة هوازن هي الّتي بادرت إلى جمع الجموع و تحرّكت من أماكن سكناها باتّجاه المسلمين لتُورد ضربتها الحاسمة فيهم، فلمّا سمع رسول الله (ص) بجمعها و بتحرّكها، سار إليها، و سنحاول في هذا الفصل متابعة أهمّ أحداث هذا التّحرك، و الأجواء المهيمنة على هذا المسير، فنقول:
هوازن تَحشُدُ(1) و تستعدّ
قال أئمّة المغازي: لمّا فتح رسول الله (ص) مكّة، مشت أشراف هوازن و ثقيف بعضها إلى بعض، وأشفقوا أن يغزوهم رسول الله (ص)، فَحَشَدُوا و بَغَوا، و قالوا: والله، إنّ محمّداً لاقى قوماً لا يُحسنون القتال، فأجمعوا أمركم و سيروا إليه قبل أن يسير إليكم.
فجمعها مالك بن عوف و هو يوم حنين ابن ثلاثين سنة و كان جملة من اجتمع إليه من بني سعد و ثقيف أربعة آلاف، و انضمّت إليهم أعداد من سائر العرب جموع كثيرة، كان مجموعهم ثلاثين ألفاً، و جعلوا أمر الجميع إلى مالك.(2) فلمّا أجمع مالك المسير بالنّاس إلى رسول الله (ص)، أمر النّاس، فخرجوا معهم
ص: 330
أموالُهم و نساؤُهم و أبناؤهم، ثمّ انتهى إلى أوطاس (1) فعسكر به، و جعلت الأمداد(2) تأتي من كلّ جهة.
بلغ رسول الله (ص) اجتماع هوازن بأوطاس، فجمع القبائل و رغّبهم في الجهاد، و وعدهم النّصر و أنّ الله قد وعده أن يغنمه أموالَهم و نساءَهم و ذراريهم. فرغب النّاس و خرجوا على راياتهم و عقد اللّواء الأكبر و دفعه إلى أميرالمؤمنين (ع)، و كلّ من دخل مكّة براية، أمره أن يحملها و خرج في اثني عشر ألف رجل، عشرة آلاف من المدينة و ألفين من أهل مكّة.(3) و خرج إلى حنين (4) لِستٍّ خلون من شهر شوّال،(5) و انتهى إلى حنين لعشر خلون من شوّال،(6) و كان قد سبقهم مالك بن عوف، فأدخل جيشة باللّيل في ذلك الوادي و فرّقهم على الطّرق و المداخل (7)، و بشّرهم بالفتح إن صدقوا و صبروا. و قدّم خالدَ بن الوليد في بني سُليم و أهل مكّة و جعل ميمنةً و ميسرةً و قلباً؛ كان رسول الله (ص) فيه.
أمّا مالك بن عوف، فعبّأ أصحابه في وادي حنين و هو وادٍ أجوف خطوط ذو
ص: 331
شعاب و مضايق و فرّق النّاس فيها و اوعز(1) إليهم أن يحملوا على رسول الله و أصحابه حملةً واحدةً.
إنّه لا ريب في وقوع الهزيمة على المسلمين في أوّل صدام لهم مع المشركين، و قد كان خالد بن الوليد مع بني سُليم في مقدّمة الجيش، فخرج عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية، فانهزمت بنوسُليم، و انهزم مَن وراءَهم.(2) و زعموا أنّ المشركين قد كمنوا في المضايق و الشّعاب، فهاجموهم، ثمّ كانت الهزيمة.(3) و هذا الكلام موضع ريب و شكّ.
أوّلًا: أنّ الموضع الّذي أختير للقتال لم يكن فيه مضايق و لا شعاب؛ لأنّ دُرَيْدُ بن الصَّمَة حين لمس الأرض و سأل عنها، و أخبروه باسمها، قال: نعم مجال الخيل. فالموضع الصّالح لجولان الخيل لابدّ أن يكون متّسعاً ليس فيه عوائق.
ثانياً: إنّه لا يصحّ قولهم: إنّ الكمين هوالّذي هزمهم، فقد صرّحت رواية البُراء بن عازب: بأنّ الجيشين قد تواقفا، و أنّ جيش المسلمين قد حمل على المشركين فكشفهم، فانكَبُّوا(4) على الغنائم، فاغتنمها منهم المشركون فرصة، فرشقوهم بالسّهام.(5) ثالثاً: إنّ الهزيمة إنّما وقعت على خصوص بني سُليم و من جهة واحدة، و لو كان الهجوم من المضايق و الشّعاب، أو على خصوص أهل مكّة لم يتّبعهم غيرهم.
ص: 332
فإن قيل: لماذا اختار الرّسول (ص) مقدّمة جيشه من هؤلاء، مع أنّ احتمال هزيمتهم جبناً و خوراً، أو تآمراً و كيداً كانت قريبة و ظاهرة؟
نقول: إنّ من جملة مقاصده:
1. إنّ ذلك يطمئنّ زعماء مكّة و الزّعامات الأخرى في المنطقة إلى أنّه يقبلهم في المجتمع الإسلامي و يعاملهم فيه كغيرهم، و لا يريد أن ينتقم من أحدٍ.
2. و ليعلم الجميع: أنّ دخولهم في الإسلام لا ينقص من قدرهم و لا يوجب الخسران لهم، بل هو يعلي من مقامهم و يمنحهم العزّة و الكرامة.
3. إنّ أهل المنطقة إذا رأوا أنّ الّذين يخشون سطوتهم هم الّذين يدعونهم إلى هذا الدّين، بل هم يحاربونهم دفاعاً عنه و عن أهله و عن نبيّه.
إنّ المسلمين انهزموا عن رسول الله (ص) في حنين بلا مبرور، و قد أنزل الله في فعلتهم هذه قرآناً يسجّل ملامتهم و يجاهر بتوبيخهم و يعلن: أنّ الله سبحانه قد أنزل سكينته على رسول الله (ص) و على خصوص المؤمنين الّذين جاهدوا و صمدوا و لم يفرّوا.
ثمّ جرت أحداث و معالجات للموقف من قِبَلِ رسول الله (ص) انتهت بهزيمة المشركين. إنّنا نستطيع أن نجمل ما جرى من حين الهزيمة إلى حين عودة بعض المسلمين بمايلي.
1. محاولات لاغتيال النّبيّ (ص).
2. حين وقعت الهزيمة صار (ص) يركض بغلته قِبَلَ الكفّار و قد شهر سيفه، ثمّ نزل عنها و صار يتقدّم نحوهم.
3. أمر رسول الله (ص) عمّه العبّاس بأن يصعد مرتفعاً لينادي المسلمين و يذكّرهم العهد لكي يرجعوا، و قد ناداهم النّبيّ (ص) نفسه أكثر من مرّة: يا لَلأنصار.
ص: 333
4. رفع (ص) يديه إلى السّماء و صار يدعو بما دعا به موسى (ع) حين فلق له البحر.
5. أخذ كفّاً من حصى أو من تراب و رمى به في وجوه المشركين و قال: «شاهت الوجوه».
6. تولّى علي (ع) قتال الكفّار، و الباقون من بني هاشم، احتوشوا النّبيّ (ص) ليكونوا جداراً بشرياً له، يحميه من العدوّ.
7. أنزل الله تعالى جنوداً من الملائكة لتكون مع المسلمين.
8. حَمِى وَ طيس الحرب (1)، حتّى كُسرت شوكة المشركين بجهاد علي (ع) و صبر النّبيّ (ص). ثمّ بدأت عودة بعض الأنصار و خصوصاً من الخزرج إلى ساحة القتال.
و إليك تفصيل بعض هذه المفردات، فنقول:
قال الشّيخ المفيد: «و لمّا رأى رسول الله (ص) هزيمة القوم عنه، قال للعبّاس و كان رجلًا جَهوريّاً صَيّتاً نادِ في القوم و ذِكّرهم العهدَ. فنادى العبّاس بأعلى صوته: يا أهل بيعة الشّجرة، يا أصحاب سورة البقرة،(2) إلى أين تفرّون؟ اذكروا العهد الّذي عاهدتم عليه رسول الله (ص) و القوم على وجوههم قد ولّوا مدبرين، و كانت ليلة ظلماء ... فنظر رسول الله (ص) إلى النّاس ببعض وجهه في الظّلماء، فأضاء كأنّه القمر ليلة البدر، ثمّ نادى المسلمين: أين ما عاهدتم الله عليه؟ فَأَسْمَعَ أوّلَهم و
ص: 334
آخرهم، فلم يسمعها رجل إلّا رمى بنفسه إلى الأرض، فانحدروا إلى حيث كانوا من الوادي، حتّى لحقوا بالعدوّ فقاتلوه».(1) يظهر من سياق رواية المفيد: أنّ النّاس لم يصغوا إلى نداء العبّاس، بل مرّوا على وجوههم في هزيمتهم، فلمّا ناداهم النّبيّ (ص): «أين ما عاهدتم الله عليه»؟ لم يسمعها رجل إلّا رمى بنفسه إلى الأرض، الخ. فلا يصحّ قولهم: إنّ عودة الأنصار كانت لسماعهم نداء العباس.(2) غير أنّ لنا تحفّظاً على قوله: «لحقوا بالعدوّ فقاتلوه» إذ إنّ الدّلائل و الشّواهد تشير إلى أنّهم لم يقاتلوهم.
و قد ذكرت الرّوايات: أنّه لمّا عاد الأنصار للقتال، قال رسول الله (ص):
«الآن حَمِيَ الوطيس».(3) و نقول: إنّ الهزيمة للمشركين قد حصلت على يَدَي علي (ع)، فإن كان قد قال هذه الكلمة، فقد قالها حين اشتدّ القتال بين المشركين و بين علي (ع)، لا بين المسلمين بعد عودتهم و المشركين؛ إذ إنّهم بعد عودتهم لم يرمِ أحدٌ منهم بسهمٍ، و لم يطعن برمحٍ و ذلك لمايلي:
1. روي عن أنس و عِكرمة، قالا: لمّا انهزم المسلمون بحنين و رسول الله (ص) على بغلته الشَّهباء و كان اسمها دُلْدُل فألزقت بطنها بالأرض، فأخذ رسول الله (ص) حفنةً من تراب، فرمى بها في وجوههم و قال: «حم لا يُنْصرون»، فانهزم
ص: 335
القوم، و ما رمَينا بسهمٍ و لا طعنّا برمحٍ.(1) 2. و عن أنس أيضاً: أنّه (ص) بقي وحده، فنادى الأنصار عن يمينه تارة و عن يساره أخرى بِندائين لم يخلط بينهما، فلَبُّوه بأنّهم معه، فهزم الله المشركين و لم يُضْرب بسيف و لم يطعن برمح.(2) 3. قال ابن إسحاق: «و رجع رسول الله (ص) من جهة المشركين بعد انهزامهم إلى العسكر و أمر ان يُقْتَلَ كلّ من قدر عليه، و ثاب (3) من انهزم من المسلمين».(4) فإنّه ظاهرٌ في أنّ عودة من انهزم قد كانت بعد انقضاء الأمر.
4. قولهم: فو الله، مارجعت راجعة للمسلمين حين هزيمتهم حتّى وجدوا الأسارى مكتوفين عند رسول الله (ص)(5)فإنّه صريح في أنّ هزيمة المشركين وقعت، و أُسِرَ مَن أُسِر منهم قبل رجعة راجعة المنهزمين، و هذا معناه: أنّ المنهزمين لم يشاركوا في القتال بعد عودتهم.
5. إنّ أحاديث: أنّه (ص) حثّ التّراب في وجوه المشركين، فهزمهم الله، تدلّ على أنّ المشركين انهزموا من دون أن يباشر المسلمون العائدون من الهزيمة أي قتال معهم.
فكلّ هذه الدّلائل و الشّواهد تدلّ على أنّه لم يُحارب أحد من المسلمين، بل الّذي قاتل هو خصوص علي (ع) و قد قتل أربعين رجلًا بيده حسب تصريحهم. و هو ما روي عن الإمام الصّادق (ع) أيضاً.(6)
ص: 336
قال أنس: «و كان (ع) يومئذٍ أشدّ النّاس قتالًا بين يديه».(1)
قال الطّبرسي: «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها»(2) حين رجعوا إليهم و قاتلوهم. و قيل: على المؤمنين الّذين ثبتوا مع رسول الله (ص): علي، و العبّاس في نفر من بني هاشم. عن الضّحّاك.(3) و رُوي في قول الله تعالى: «وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» قال: هم الملائكة. «و عذّب الّذين كفروا» قال: قتلهم بالسّيف. و رُوي أيضاً عن سعيد بن جبير، قال: «في يوم حنين أمدّ الله تعالى رسوله (ص) بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ...».(4) و قد زعموا أنّ سبب نزول السّكينة على المسلمين ليس هو جبنهم، فإنّ فرار المسلمين لم يكن عن جبن، و إنّما كان بسبب مفاجأة هوازن و ثقيف لهم، حيث شدّوا عليهم شدّة رجلٍ واحدٍ، فاحتاجوا إلى السّكينة، فأنزلها الله عليهم.
و احتاجها أيضاً رسول الله لأجل ما دخله من الحزن و الاضطراب و الأسف ممّا جرى على المسلمين.
و الدّليل على أنّ جبنهم ليس هو السّبب: أنّهم رجعوا إلى ساحة القتال بمجرّد سماعهم لنداء العبّاس.
و نقول: إنّ ذلك لا يمكن قبوله و ذلك:
أوّلًا: إنّ ظاهر الآيات من سورة التّوبة هو: أنّهم قد فرّوا جبناً و خوفاً، لأنّهم اعتقدوا أنّ كثرتهم تغنى عنهم في ساحة القتال، و لم يفكّروا بأنّ عليهم أن يرجعوا
ص: 337
إلى الله و يعتمدوا عليه، و لم يتذكّروا ربّهم الّذي نصرهم في ثمانين موطناً.
ثانياً: إنّ الآيات المشار إليها إنّما هي بصدد لومهم و تأنيبهم على فرارهم و تولية أدبارهم؛ الأمر الّذي يوجب لفاعله: أن يبوء بغضب من الله كما دلّت عليه الآية الشّريفة: «وَ مَنْ يوَلِّهِمْ يوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ»(1).
فتولية الأدبار المحرّمة في الحرب توجب الغضب الإلهي، سواءٌ أكان بسبب الاضطراب النّاشي من المفاجأة أو بسبب الجبن.
ثالثاً: إنّ أسف النّبيّ (ص) و حزنه على ما صدر من أصحابه، حيث لم يعتصموا بالله، أمر محمود و محبوب لله تعالى و لا شأن للسّكينة به و لا يمكن أن يكون مبغوضاً، و مع غضّ النظر عن ذلك، فإنّه (ص) معصومٌ و لا يصدر منه ما يكون مبغوضاً.
قال الحلبي و غيره: «وردت في عدد من ثبت معه (ص) روايات مختلفة. فقيل: مائة. و قيل: أقلّ و قيل: ثلاثمائة. و قيل ثمانون. و قيل: اثنا عشر. و قيل: عشرة».(2) و عدوّا من الرّجال الّذين ثبتوا في حنين أشخاصاً كثيرين.
قال الصّالحي الشّامى! عن الحَكَم بن عُتَيْبَة، قال: لم يبق معه إلّا أربعةٌ؛ ثلاثة من بني هاشم و رجل من غيرهم؛ علي بن أبي طالب، و العبّاس، و هما بين يديه، و أبوسفيان بن الحارث آخذ بالعنان، و ابن مسعود من جانبه الأيسر. قال: فليس يُقبَل أحدٌ إلّا قُتِلَ و المشركون حوله صَرعى».(3)
ص: 338
و قال الشّيخ المفيد: «و لم يبق منهم مع النّبيّ (ص) إلّا عشرة أنفس: تسعة من بني هاشم خاصّة و عاشرهم أيمن بن أمّ أيمن، فَقُتِل أيمن و ثبتت التّسعة الهاشميّون حتّى ثاب إلى رسول الله (ص) من كان انهزم، فرجعوا أوّلًا فأوّلًا حتّى تلاحقوا ....
و من ثبت معه من بني هاشم ... العبّاس بن عبدالمطّلب عن يمين رسول الله (ص)، و الفضل بن العبّاس عن يساره، و أبو سفيان بن الحارث مُمْسِكٌ بسرجه عند ثَفِرِ(1) بغلته، و أميرالمؤمنين (ع) بين يديه يضرب بالسّيف، و نوفل بن الحارث، و ربيعة بن الحارث، و عبدالله الزّبير بن عبدالمطّلب، و عتبه و مُعَتّب ابنا أبي لهب حوله، و قد ولّت الكافّة مدبرين سوى من ذكرناه».(2)
و كذلك عدّهم سائر المؤرّخين كابن قتيبة في المعارف، و الثّعلبي في الكشف، و اليعقوبي في تاريخه، و ابن شهر آشوب في المناقب، فراجع،(3) غير أنّ البحث العلمي و الموضوعي لا يسمح بالجزم بثبات أحدٍ سوى علي أميرالمؤمنين (ع) فإنّه هو الوحيد المتسالم على ثباته من بين جميع من ذكروهم، و من الرّاجح أيضاً أن يكون هناك جماعة من بني هاشم قد أحاطوا بالنّبي (ص) خوفاً من أن يناله سلاح الكفّار.(4) أمّا القتال فكان محصوراً بعلي (ع).
إنّ هناك خصوصيّات تتشارك فيها غزوتا بدر و حنين، نذكر منها:
ص: 339
1. الإمداد بالملائكة.
2. إنّ فئة قليلةً غلبت فئةً كثيرة بإذن الله.
3. إنّ النّكاية في المشركين في كليهما كانت لعلي (ع).
4. إنّ عدد الّذين قتلهم علي (ع) متقارب في الغزوتين، حيث قَتَل في حنين أربعين رجلًا بيده،(1) و قَتَل في بدر ما يقرب من هذا العدد أيضاً، فقد ذكروا أنّه (ع) قَتَل نصف السّبعين و شارك في قتل النّصف الآخر.(2) و حين يذكرون الأسماء و نجمع بين مختلفاتها، فلعلّ العدد يبلغ الأربعين.
5. إنّ حرب بدر كانت مصريّة بالنّسبة لأهل الشّرك و للمسلمين على حدّسواء، و كذلك كانت حرب حنين. و نفس قول رسول الله (ص): «إن تهلِك هذه العصابة لا تَعبد» خير دليل على ذلك.
6. إنّ عدد قتلي المشركين من ثقيف كان سبعين رجلًا، أمّا عدد الشّهداء فكان أربعة أو خمسة من المسلمين فقط.(3) و في بدر كان عدد قتلي مشركي قريش سبعين رجلًا و عدد الشّهداء أيضاً كان خمسة على بعض الأقوال.
7. إنّ غزوة بدر كانت أوّل غزوة للعرب، و غزوة حنين كانت آخر غزوة لهم، فَخَمَدَتْ (4) جَمْرَةُ العرب بهاتين الغزوتين.
8. إنّه (ص) رمى بالحصى في وجوه المشركين في الغزوتين.
ص: 340
قالوا: إنّه لمّا فتح رسول الله (ص) حنيناً، خرج إلى الطّائف يريد جمعاً من هوازن و ثقيف و كانوا قد هربوا من معركة حنين.(2) و يذكرون في بيان ما جرى: أنّه لمّا قدم فَلُ (3) ثقيف الطّائفَ، رمُّوا حصنهم (4) و أغلقوا عليهم أبواب مدينتهم و تهيّؤا للقتال.
و قدّم رسولُ الله (ص) بين يديه خالدَ بن الوليد في ألف من أصحابه إلى الطّائف. و سار (ص) في إثْر خالد و لم يرجع إلى مكّة و لا عرّج بها(5) على شى ء إلّا على غزو الطّائف، قبل أن يقسّم غنائم حنين و قد ترك السَّبْي بالجِعْرانة(6) و مُلئت عُرُشُ (7) مكّة منهم، و كان مسيره في شوّال سنة ثمان.
قال ابن إسحاق: ثمّ مضى رسول الله (ص) حتّى نزل قريباً من الطّائف، فضرب عسكره و أشرفت على حصنهم و لا مثال له في حصون العرب و أقاموا رماتهم و هم مائة رام فرموا بالسّهام و المقاليع (8) مَن بَعُدَ من حصنهم .... حتّى أصيب ناس من المسلمين بجراح و قتل منهم اثنا عشر رجلا.(9) فارتفع (ص) إلى موضع مسجده اليوم الّذي بَنَتْه ثقيف بعد إسلامها.
ص: 341
فقاتلهم رسول الله (ص) بالرّمي عليهم، و هم يقاتلونه بالرّمي من وراء الحصن، فلم يخرج إليه أحد، و كثرت الجراحات له من ثقيف بالنّبل.(1) و شاور رسول الله (ص) أصحابه في أمر الحصن، فقال له سلمان الفارسي: يا رسول الله، أرى أن تنصب المنجنيق (2) على حصنهم، فإنّا كنّا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون، فنصيب من عدوّنا: فأمره رسول الله (ص)، فعمل منجنيقاً بيده، فنصبه على حصن الطّائف، و هو أوّل منجنيق رُمي به في الإسلام.(3) و عن مكحول: إنّ رسول الله (ص) نصب المنجنيق على أهل الطّائف أربعين يوماً.(4) و لكنّه كان قليل الجدوي، لم يكن يؤثّر على حصونهم و لا على أعصابهم، فاستعملوا نوعاً آخر من الأسلحة، كان لبعض القبائل المقيمة بأسفل مكّة علمٌ بها و هو الدّبابة.(5) ولكن رجال الطّائف كانوا من المهارة، بحيث أكرهوا هؤلاء على أن يلوذوا بالفرار، فقد أرسلت ثقيف بِسِكَكِ الحديد المُحْماةُ بالنّار، فَخَرَّقتِ الدّبابةَ، فخرج المسلمون من تحتها و قد أصيب منهم من أصيب، فرمتهم ثقيف بالنّبل، فَقُتِل منهم رجالٌ.(6)
و لم يبق للنّبي (ص) من وسيلة للضّغط عليهم إلّا الالتجاء إلى تقطيع الأعناب و الأشجار و تحريقها، عساهم يستسلمون عندما يرون أملاكهم قد تعرّضت للخطر، و بدلا من أن يستسلموا، أرسلوا إلى النّبيّ (ص) يناشدونه أن يكفّ عنها لأصحابها أو يأخذها لنفسه، فأمر عند ذلك أصحابه بالكفّ عنها.
ص: 342
قالوا: لمّا حاصر رسول الله (ص) الطّائف أربعين ليلة، أو ثلاثين ليلة، أو قريباً من ذلك و لم ينل منهم شيئاً، آثر (ص) أن يرفع الحصار عنهم و يرجع بمن معه إلى الجِعْرانة حيث الأسرى و الغنائم، و دعا حين ركب قافلًا: «اللّهم اهدهم و اكفنامؤنتهم»(1) و قال لأصحابه، حين أرادو أن يرتحلوا: «قولوا: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، و نصر عبده، و أعزّ جنده، و هزم الأحزاب وحده».(2) ثمّ إنّه جاء في بعض النّصوص أنّ النّبيّ (ص) حين ترك الحصار أطلق تهديداته القويّة لأهل الطّائف: بأنّه سوف يرميهم بعلي (ع) ليضرب أعناق مقاتليهم و يُسبي ذراريهم أو يقيمون الصلاة و يؤتون الزّكاة.
و يمكن تفسير و توضيح ذلك بمايلي:
1. أنّه (ص) بتحرّكاته تلك حيث كان يتركهم ثمّ يعود إليهم في أوقات مختلفة كأنّه يريد أن يُفهم أهلَ الطّائف عملًا لا قولًا أنّهم غير متروكين و أنّ عليهم أن يتوقعوا مفاجأتهم في كلّ وقت و زمان، و بديهي أنّه لا يمكنهم العيش في مثل هذه الأجواء الصّعبة.
2. أنّه (ص) قد أطلق تهديداته لهم بأنّهم إن لم يستجيبوا لنداء المنطق و العقل، فسوف يرميهم بأخيه علي (ع)؛ الّذي أذا قهم وحده طعم الهزيمة المُرّة و الذّليلة قبل أيامٍ يسيرة و حين كانوا قد جمعوا عشرات الألوف، فهل يمكنهم الصّمود في وجهه بعد أن تفرّق النّاس عنهم و أصبحوا وحدهم، و قد قطعت عنهم جميع الإمدادات؟
ص: 343
3. وفوق ذلك، فإنّ مصيبتهم العظمى إنّما تكون حين يأذن النّبيّ (ص) لعلي (ع) فيهم، فإنّه لا شى ء يقف في وجهه (ع) و لا تجدى الحصون و لا غيرها في دفعه عنهم. و قد رأى النّاس ما جرى على يديه لحصون خيبر و كيف قَتَل فرسانها، و اقتلع أبوابها.
و عن الإمام الصّادق (ع): أنّه (ص) لما فرغ من هوازن، سار حتّى نزل الطّائف، فحصر أهل وجّ (1) أيّاماً، فسأله القوم أن يبرح عنهم (2) ليقدم عليه و فدهم، فيشترط له، و يشترطون لأنفسهم. فسار حتّى نزل مكّة، فقدم عليه نفر منهم بإسلام قومهم، و لم يبخع (3) القوم له بالصّلاة و لا الزّكاة.
فقال (ص): إنّه لا خير في دين لا ركوع فيه و لا سجود. أما والّذي نفسي بيده ليقيمنّ الصلاة و ليؤتنّ الزّكاة، أو لأبعثنّ إليهم رجلًا هو منّي كنفسي، فليضربنّ أعناق مقاتليهم و لَيُسْبِيَنّ ذراريهم و هو هذا و أخذ بيد علي (ع)، فأشالها.(4)
فلمّا صار القوم إلى قومهم بالطّائف أخبروهم بما سمعوا من رسول الله (ص)، فأقرّوا له بالصّلاة و أقرّوا بما شرط عليهم. فقال (ص): ما استعصى عَلَى أهلُ مملكة، و لا أمّة إلّا رميتهم بسهم الله عزّوجلّ. قالوا: يا رسول الله، و ما سهم الله؟ قال: علي بن أبي طالب، ما بعثته في سريّة إلّا رأيت جبرئيل عن يمينه، و ميكائيل عن يساره، و مَلَكاً أمامه، و سحابةً تظلّه، حتّى يعطى الله عزّوجلّ حبيبي النّصرَ و
ص: 344
الظّفَر.(1)
و هذا معناه: أنّ النّبيّ (ص) قد حقّق نصراً عظيماً يوازي ما حقّقه في غزوة الخندق و خيبر و سواهما.
و يدلّ على ذلك أيضاً ما تقدّم من أنّه (ص) قد قال لأصحابه حين أرادوا أن يرتحلوا عن الطّائف: قولوا لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الخ.(2) فلو لم يكونوا منتصرين، لم يكن وجه لأمرهم بأن يقولوا ذلك؛ فإنّ النّبيّ (ص) لا يُطلق الشّعارات جزافاً.
قالوا: كان السّبي ستّة آلاف رأس، و الإبل أربعة و عشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة و أربعة آلاف أوقية فضّة.(3) و لكنّ المروي عن الصّادق (ع) قوله: «سبي رسول الله (ص) يوم حنين أربعة آلاف فارس و اثني عشر ألف ناقة سوى ما لم يعلم من الغنائم».(4) و كانت الغنائم للنّبي (ص) و علي (ع) حيث إنّ المسلمين انهزموا جميعاً عن النّبيّ (ص) و أنّ راجعتَهم حين رجعت وجدت الأسارى مُكَتَّفين عند رسول الله (ص) و أنّ المسلمين المهزومين لم يضربوا بسيف و لم يطعنوا برمحٍ، و تقدّم أنّ الّذين بقوا عند رسول الله (ص) كانوا تسعة أشخاص أو أقلّ من ذلك كلّهم من بني
ص: 345
هاشم، فكان ثمانية منهم، أو أقلّ قد احتوشوا رسول الله (ص) لكي لا يصل إليه أحد من المشركين بسوءٍ، و المهاجم الوحيد لجيوش المسلمين كان علي بن أبي طالب (ع) فهزم الله المشركين على يديه شرَّ هزيمة.
فالنّصر إنّما تحقّق بجهاد علي (ع) و بالتّأييد الإلهي للنّبي (ص) بإنزال الملائكة. و هذا يبيّن السّبب في أنّ الله سبحانه ردّ أمر الغنائم و السّبي إلى رسول الله (ص) ليعطيها لمن يشاء، فأعطاها لمن أراد أن يتألّفهم، و لم يعط منها حتّى أقرب النّاس إليه و هم الأنصار؛ لأنّهم لم يكن لهم و لا للمهاجرين و لا لغيرهم حقّ فيها.
و كان القسم الأكبر لأولئك الّذين لا يزالون يُبطنون الشّرك كأبي سفيان و معاوية و عِكرمة و أمثالهم و كان الحرمان من نصيب الأنصار، عَزّ ذلك عليهم، و قال بعضهم ليست هذه القسمة بعادلة و قال آخرون منهم: لقد لقي محمّد قومه و ما يصنع بنا بعد ذلك، إلى غير ذلك ممّا بدر منهم من الكلمات الّتي تدل على أنّهم لم يرتاحوا لتوزيع الغنائم بالنّحو الّذي تمّ توزيعها عليه.
فجمعهم النّبيّ (ص) و قال لهم: يا معشر الأنصار ألم آتكم ضُلّالًا فهداكم الله تعالى، وعالَةً فأغناكم الله، و أعدائاً فألّف بين قلوبكم؟ قالوا: بلي يا رسول الله، الله و رسوله أَمَنُ (1) وأفضل (2) ....
فارتفعت أصواتهم بالبكاء و قام شيوخهم إليه، فقبّلوا يديه و رجليه، ثم قالوا: رضينا بالله و عنه و برسوله و عنه و هذه أموالنا بين يديك، فإن شئت فاقسمها على قومك، و إنّما قال من قال منّا على غير وَغْرِصدرٍ(3) و غِلٍّ في قلب، و لكنّهم ظنّوا سخطاً عليهم و تقصيراً بهم، و قد استغفروا الله من ذنوبهم، فاستغفِرْلهم يا رسول الله.
فقال النّبيّ (ص): اللّهم اغفر للأنصار و لأبناء الأنصار، و لأبناء أبناء الأنصار. يا
ص: 346
معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشّاة و النّعم، و ترجعون أنتم و في سهمكم رسول الله؟ قالوا: بلي رضينا. فقال رسول الله (ص) عند ذلك: الأنصار كَرِشِى (1) و عَيْبَتي،(2) لو سلك النّاس شِعْباً(3) و سلك الأنصار شِعْباً لَسَلَكْتُ شعب الأنصار.(4) فطابت نفوسهم بهذه السّياسة الرّشيدة الحكيمة.
قالوا: انتهى رسول الله (ص) إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، ثمّ خرج (ص) بمن معه من الجعرانة متّجهاً إلى مكّة، فأتمّ عمرته و حلّ من إحرامه و استخلف على مكّة عَتّاب بن أسيد و معه معاذ بن جبل يفقّه النّاس بالدّين و يعلّمهم القرآن، و خرج منها متّجهاً إلى المدينة بمن معه من المهاجرين و الأنصار و دخلها في الأيّام الأخيرة من ذي القعدة بعد انتصارَين من أعظم انتصارات الّتي حقّقها في حروبه و غزواته. و هما فتح مكّة و هزيمة جيشٍ مؤلّفٍ من ثلاثين ألف مقاتل في حنين، هزيمة لم تعرف هوازن و أحلافها أسوأَمنها و تركت هذه الانتصارات المتتالية أثراً بليغاً في نفوس عظماء العرب و قادتهم الّذين كانوا لا يتصّورون أن تضطرّهم الأيّام للخضوع لمحمّدٍ و الإقرار له بالطّاعة.
ص:347
ص:348
ص: 349
و قد صرّحوا بأنّ تبوك (1) آخر مغازيه (ص) و هي المعروفة بغزوة العُسرة و تعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها، و كانت في رجب سنة تسع، قبل حَجّة الوداع. و قد اختلفت المزاعم و الاجتهادات في سببها، فقيل: إنّه قد اتّصل به (ص) نبأ من بلاد الرّوم أنّ مَلِكَ الرّوم قد هيّأ جيشا كبيراً لغزو العرب في شبه الجزيرة، و أعدّ العُدّة للقضاء على محمّد و أتباعه، الّذين أصبحوا يهدّدون المناطق المتاخمة لحدود الحجاز.
و كتب (ص) إلى قبائل العرب، ممّن قد دخل الإسلام، و بعث إليهم الرّسل، يرغّبهم في الجهاد و الغزو، و بيّن للنّاس مقصده و أنّه يريد بلاد الرّوم، لبعد الشُّقَّة و شدّة الزّمان و كثرة العدوّ الّذي يَصمُد له، ليتأهّب النّاس لذلك أُهْبَتَه، فأمر النّاس بالجهاز، فأوعب معه بشر كثيرٌ، و تخلّف عنه آخرون، فعاتب الله تعالى من تخلّف منهم لغير عذر من المنافقين و المقصّرين، و وبَّخَهُم و بيّن أمرهم.(2)
هذا ما جاء في كتب السّيرة(3) ولكنّا نقول: إنّ الإعلان بمقصده (ص) لم يكن
ص: 350
لمجرّد بُعد الشُّقّة و شدّة الزّمان و كثرة العدوّ، فإنّه قد أرسل قبل سنة و شهرين سريّة إلى مؤته و هي أبعد من تبوك بكثيرٍ، لأنّها تقع في تخوم البلقاء من أرض الشّام، و كانت حشود الأعداء عظيمة و هائلة و الشُّقّة أبعد، و عدد جيش المسلمين لا يصل إلى عُشر عدد الجيش الّذي جهزّه هو. من أجل ذلك نقول: لعلّ الأصحّ هو أنّه قد أراد فيما أراد:
1. أن يفضح حقيقة نوايا تلك الطّغمة الّتي تتربّص بالإسلام و المسلمين شرّاً، و هذا ما أشار إليه الشّيخ المفيد «رحمه الله» حيث قال عن تبوك:
«فأوحى الله تبارك و تعالى اسمه إلى نبيّه (ص) أن يسير إليها بنفسه، و يستنفر النّاس للخروج معه، و أعلمه أنّه لا يحتاج فيها إلى حرب و لا يمنى بقتال عدوٍّ، و أنّ الأمور تنقادله بغير سيف، و تَعَبَّدَه بامتحان أصحابه بالخروج معه و اختبارهم، ليتميّزوا بذلك، و تظهر به سرائرهم.
فاستنفرهم النّبيّ (ص) إلى بلاد الرّوم، و قد أَيْنَعَت ثمارهم،(1) و اشتدّ القيظ(2) عليهم، فأبطأ أكثرهم عن طاعته رغبةً في العاجل و حرصاً على المعيشة و إصلاحها و خوفاً من شدّة القيظ و بعد المسافة و لقاء العدوّ، ثمّ نهض بعضهم على استثقالٍ للنّهوض و تخلّف آخرون ...».(3) 2. إنّه (ص) أراد أن يقدم نموذجاً عمليّاً لأمر الإمامة من بعده و ذلك بأن يجعل النّاس يتحسّسون الحاجة إلى الحافظ القوي، و الإمام الوصي، حتّى لايعبث أصحاب الأطماع بمصير النّاس، و لا يفرضوا عليهم مساراً يؤدّي بهم إلى البوار و الهلاك.
3. إنّ ذلك لابدّ من أن يثير الزّهو و الشّعور بالعزّة في مجتمع المسلمين أينما كانوا و حيثما و جدوا، و سيشدّ أنظارُ كلّ النّاس إليهم و سيشتاقون إلى اللّحاق
ص: 351
بركب أهل الإيمان الّذي يسير من نصرٍ إلى نصرٍ، و يضيف مجداً إلى مجدٍ قبل فوات الأوان، حيث لم يكن أحدٌ أعظم في أعينهم و أهيب في قلوبهم من قيصر؛ فإنّ تبوك لم تبق مجالًا لأن يتوهّم أحدٌ أنّ عدم مبادرة قيصر إلى غزوهم، قد كانت بسبب غفلته عنهم، و لعدم اكْتِراثِه (1) بهم، أو ما إلى ذلك.
و عن زيد بن ثابت و معاذ بن جبل قال: خرجنا مع رسول الله (ص) إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفاً.(2) و نقل الحاكم في الإكليل عن أبي زَرعَه قال: كانوا بتبوك سبعين ألفاً.(3) و جُمِعَ بين الكلامين: بأنّ من قال ثلاثين ألفاً لم يَعُدَّ التّابع، و من قال سبعين ألفاً عَدّ التّابع و المتبوع. و كانت الخيل عشرة آلاف فرس، و قيل: بزيادة ألفين.(4) قال عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: خرج المسلمون في غزوة تبوك، الرّجلان و الثّلاثة على بعير واحد.(5) و أمر رسول الله (ص) جيشه بالاستكثار من النّعال و قال: إنّ الرّجل لا يزال راكباً مادام منتعلًا.(6)
و زعمت بعض الرّوايات: أنّ النّبيّ (ص) إنّما خلّف عليّاً (ع) في أهله، و أنّه لم
ص: 352
ى
ستخلفه على المدينة كلّها، حيث قالوا:
و خلّف رسول الله (ص) علي بن أبي طالب (ع) على أهله و أمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، و قالوا: ما خلّفه إلّا استثقالًا له و تخفّفاً منه. فلمّا قالوا ذلك أخذ علي (ع) سلاحه، و خرج حتّى لحق برسول الله (ص) و هو نازل بالجُرُف، فأخبره بما قالوا.
فقال رسول الله (ص): كذبوا، و لكنّي خلّفتك لما تركت و رائي، فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنّه لا نبي بعدى؟ فرجع علي (ع) إلى المدينة و هذا الحديث رواه الشّيخان و له طرق.(1) و نجيب أوّلًا: إنّ معظم نصوص غزوة تبوك لم تخصّ حديث المنزلة في استخلاف النّبيّ (ص) لعلي (ع) على أهله (ص)، بل أطلقت الخلافة.
ثانياً: إنّ حديث المنزلة بإطلاقه قد قاله رسول الله (ص) في مواقف كثيرة كانت تبوك واحدة منها، فقد قاله في: يوم المؤاخاة الأولى؛(2) يوم المؤاخاة الثّانية؛(3) يوم تسمية الحسن و الحسين (ع)(4)؛ في حجّة الوداع؛(5) في منى؛(6) يوم غدير خم؛(7) يوم
ص: 353
المباهلة(1)، غزوة تبوك؛ عند الرّجوع بغنائم خيبر(2) و مواقف كثيرة أخرى.
و ذلك كلّه يشير إلى أنّ عليّاً (ع) شبيه بهارون في جميع مزاياه، و أَظْهَرُها شراكته في الأمر، و وزارته، و شدّ أذره، و إمامته للنّاس في غياب أخيه موسى (ع).
ثالثاً: إنّه لو كانت خلافة أميرالمؤمنين (ع) لرسول الله (ص) منحصرة في أهله (ص) لوقعت المنافات بين صدر الرّواية و ذيلها؛ فإنّ صدرها يقول: إنّه يستخلفه في أهله، و ذيلها يجعله منه كهارون من موسى، مع أنّ هارون إنّما خلّف موسى في قومه لا في أهله.
و صرّحت الآية: بأنّ موسى قد طلب من الله أن يجعل له هارون أخاً و شريكاً له في الأمر الّذي هو إمامة النّاس و قيادتهم.
قال الشّيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه، و نعم ما قال: «و قال: يا علي إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، و ذلك أنّه (ص) علم خبث نيّات الأعراب و كثير من أهل مكّة و مَن حولها، ممّن غزاهم و سفك دماءهم، فأشفق أن يطلبوا المدينة عند نَأيه عنها و حصوله ببلاد الرّوم، فمتى لم يكن فيها مَن يقوم مقامه، لم يؤمن من مَعَرَّتِهم (3) و إيقاع الفساد في دار هجرته، و التّخطّي إلى مايشين أهله، و مخلّفيه.
و علم أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدوّ و حراسة دار الهجره و حياطة من فيها إلّا أميرالمؤمنين (ع)، فاستخلفه استخلافاً ظاهراً و نصّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جليّاً، و ذلك فيما تظاهرت به الرّواية أنّ أهل النّفاق لمّا علموا باستخلاف رسول الله (ص) على المدينة حسدوه لذلك و عظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، و علموا
ص: 354
أنّها تتحرّس به، و لا يكون فيها للعدوّ مطمع، فساءهم ذلك ....
فأرجفوا و قالوا: لم يستخلفه رسول الله (ص) إكراماً له و إجلالًا و مودّة، و إنّما خلّفه استثقالًا له.
فلمّا بلغ أميرالمؤمنين (ع) إرجاف المنافقين به، أراد تكذيبهم و إظهار فضيحتهم، فلحق بالنّبي (ص)، فقال: يا رسول الله، إنّ المنافقين يزعمون أنّك خلّفتني استثقالا و مقتاً؟ فقال النّبيّ (ص): ارجع يا أخي إلى مكانك، فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهل بيتي، و دار هجرتي و قومي، ألا ترضي أن تكون بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدى؟ ...».(1)
عن حُذيفة و معاذ بن جبل، قال: إنّه خرج مع رسول الله (ص) عام تبوك، فكان يجمع بين الظّهر و العصر، و بين المغرب و العشاء ... ثمّ قال: «إنّكم ستأتون غداً إن شاء الله تعالى عين تبوك، و إنّكم لن تأتوها حتّى يضحى النّهار، فمن جاءها، فلايمسّ من مائها شيئاً حتّى آتى».
و عن عُروة: أنّ النّبيّ (ص) حين نزل تبوك، و كان في زمانٍ قلّ ماؤها فيه، فاغترف غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه، ثمّ بصقه فيها، ففارت عينها، حتّى امتلأت. فهي كذلك حتّى السّاعة.(2) قالوا: و لمّا وصل رسول الله (ص) تبوك، كان هِرَقْل بِحِمْص و لم يكن يُهِمّ بالّذي بلغ رسول الله عنه من جمعه، و لا حَدَّثْتَه نفسه بذلك.(3) فوجّه إليه النّبيّ (ص)
ص: 355
رسالةً يدعوه فيها إلى الإسلام أو إلى الجزية.
فقرأه و قال للرّسول: اذهب إلى نبيّكم، فأخبره أنّي متّبعه، ولكن لا أريد أن أدع ملكي و بعث معه بدنانير إلى رسول الله (ص)، فرجع، فأخبره، فقال رسول الله (ص): كَذِب و قسّم الدّنانير.(1) و ذكر السُّهيلي: أنّ هِرَقْل أهدى لرسول الله (ص) هدية، فقبل رسول الله (ص) هديته و فرّقها على المسلمين.(2) ثمّ إنّ هِرَقل أمر منادياً ينادي: ألا إنّ هِرَقل قد آمن بمحمّدٍ و اتّبعه، فدخلت الأجناد في سلاحها و طافت بقصره تريد قتله، فأرسل إليهم: إنّي أردت أن أختبر صلابتكم في دينكم، فقد رضيت عنكم، فرضوا عنه.(3) و لا شكّ في انّ رسالة النّبيّ (ص) إلى هِرَقل كانت في غاية الدّقّة، و هي رسالة هادئة و حازمة، و قد راعت أهداف الإسلام من دون أن تعطى ذلك الطّاغية أيّة ذريعة للتّمرّد، أو اللامبالاة، ولكن هرقل تخلّص أوّلًا من دِحية الكلبي بكذبة كان يعرف أنّها لا تنفع مع النّبيّ (ص) حين زعم له أنّه قد أسلم.
إنّ هرقل هذا لا يجرؤ على التّفوّه بكلمة «لا» أمام دعوة رسول الله (ص) له، رغم أنّه يدعوه و قومَه إلى إعطاء الجزية عن يدٍ و هم صاغرون.(4) و لم يُحدَّث في تاريخ طواغيت الأرض و عُتاتها أن تأتى عساكر أعدائهم لتقف
ص: 356
على تخوم بلادهم، و هي ثُلَّة قليلة العدد، ضعيفة العُدَّة، ثمّ يسكتون و لا يحرّكون ساكنا، و كأنّ شيئاً لم يكن، مع قدرتهم على تجنيد عشره أضعاف ذلك العدوّ بأفضل عُدّةٍ و أو في عدد. بل تراه يتحايل عن ذلك العدوّ و يرسل له بالهدايا، و بالكلمات المعسولة، حتّى إنّه لَيَدّعي كاذباً الانقيادله، و القبول به، و التّبعيّة و الطّاعة لكلّ ما يأمر به و ينهى عنه.
و الّذي يبدولنا: هو أنّ سبب هذا الاستخذاء من هرقل، هو ما جرى في مؤته. فهي قد عرفت قيصر و من معه: أنّ الأمر في أيّة مواجهة مع هذا النّبيّ الكريم (ص) سيكون بالغ الخطورة، إن لم نقل: إنّهم كانوا على يقين من أنّه لن يأتي لهم بغير الخزي و العار، و الهزيمة النّكراء. إذ إنّ مئات الألوف الّتي جاء بها قيصر إلى حرب مؤته قد واجهت ثلاثة آلاف فقط من المسلمين، و كان من المتوقّع أن يسقط أكثر المسلمين صرعى في أوّل ساعة، بل في الدّقائق الأولى من المعركة، ولكن ما حصل كان نقيض ذلك، فإنّ الحرب طالت ربما لأيّامٍ و لم يسقط فيها من الشّهداء سوى عدد ضئيل جدّاً لا يتجاوز السّبعة أشخاص، كان القادة الثّلاثة منهم. و قد كان هذا، و الحال أنّ النّبيّ (ص) لم يكن معهم، فلو كان معهم، فكيف ستكون عليه الحال و المال.
و ها هو قيصر يرى عشرة أضعاف الثّلاثة آلاف و معهم قائدهم و سيّدهم الّذي يقدّسونه و يفدونه بأنفسهم. فأي جيش يمكن أن يواجه هؤلاء و ينتصر عليهم. و لذلك اتّخذ قرار الخداع دون الانصياع و المماطلة بديلًا عن المواجهة و المقابلة.
لقد كان لغزوة تبوك بركات و آثار هامّة نشير إلى بعضها:
1. فقد عرف الناس أنّه (ص) يقصد بحركته هذه إرهاب أعظم مَلِكٍ في ذلك الزّمن و قد كتب إليه يدعوه إلى الإسلام أو الجزية، ثمّ أرسل إليه رسالة دعوة
ص: 357
أخرى من بلاد يراها ذلك الطّاغية جزءاً من مملكته بعد أن وطأتها جيوش الإسلام، و بسط (ص) نفوذه عليها و نشر دعوته و دينه فيها، و أصبحت مناطق منها تدين بالولاء لهذا النّبيّ الكريم و تؤدّي له الجزيه.
2. إنّ الله تعالى قد ألقى الرّعب في قلوب أعداء الله، فبادروا إلى إعلان إسلامهم أو استسلامهم، ففي تبوك فتح الله له دُومة الجَندل و أخذ مَلِكَها، و فيها جاءه أسقف أَيْلَة و هو يُحَنَّة بن رؤبة، و وفد إليه أهل أَذْرحُ و سئلوه الصّلح على الجزية، و وفد إليه أهل مقنا، و مالك بن أحمر و قومه يطلبون العهد و الأمان (1)، فكانت هذه المعاهدات مع الفئات المختلفة هي النّتيجة الطّبيعيّة لذلك، و كلّ ذلك من شأنه أن يُؤلِم قيصر و يُهين كبرياءَه الشّيطاني و يُثير حميّته، و هو الرّجل المغرور بنفسه و بملكه العريض و لا يرى له نظيراً على وجه الأرض، فهل هناك من ذُلٍّ و خزي لقيصر أعظم من أن يقف النّبيّ (ص) الّذي يَصِفونه بالعربي و المسلم بجيوشه على تخوم مملكته و يطأ بجيوشه أطرافاً منها عزيزة عليه ليطلب منه الإسلام أو الجزية!!؟ و أيّة عِزّة هذه الّتي منحها الله لرسوله و للمؤمنين!
3. و يضاف إلى ذلك كلّه رعب ساير القبائل المعادية، مثل عاملة، و لَخْم، و جُذام و سائر الّذين جمعوا الجموع و أرادوا مهاجمة المسلمين.
و بذلك يكون النّبيّ (ص) قد حقّق في هذه الغزوة انتصاراً لم تحقّقه غزوة من غزواته، فلقد انهار ذلك الجيش الّذي يبلغ مأتي ألفٍ أو يزيد و انسحب عن خطّ المواجهة إلى حصونه و معسكراته و سلمت للمسلمين تلك المناطق المتاخمة لحدود الحجاز بعد أن التزم أهلها بالجزية و عاهدوا النّبيّ (ص) على أن لا يتعاونوا مع أحدٍ؟؟.
ص: 358
عن ابن عباس و سعيد بن جبير و غيرهما: أنّ مسجد قُباء بُني في موضع كان لامرأةيقال لها «لَيَّة» كانت تربط حماراً لها فيه، فابتني سعد بن أبي خيثمة و بنو عمرو بن عوف مسجداً، فبعثوا إلى رسول الله (ص) يأتيهم فيصلّي فيه، فأتاهم و صلّى فيه، فحسدتهم أخوالهم عمرو بن عوف، فقال لهم أبوعامر الفاسق قبل خروجه إلى الشّام: ابنوا مسجدكم، و استمدّوا فيه بما استطعتم من قوّة و سلاح، فإنّي ذاهب إلى قيصر، فآتي بجيش من الرّوم، فَأُخْرِج محمّداً و أصحابه، فكانوا يرصدون قدوم أبي عامر الفاسق، و كانوا اثني عشر رجلًا، و قيل: أكثر من ذلك.
فلمّا فرغوا من مسجدهم، أرادوا أن يصلّى فيه رسول الله (ص) ليروّج لهم ما أرادوه من الفساد و الكفر و العناد، فأتى جماعة منهم لرسول الله (ص) و هو يتوجّه إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنّا بنينا مسجداً لذي العلّة و الحاجة و اللّيلة المُطيرة، و إنّا نحبّ أن تأتينا، فتصلّي فيه.
قال: إنّي على جناح سفرٍ و إذا قدمنا إن شاء الله صلّينا لكم فيه.(1) إنّ النّبيّ (ص) لم يُظهر لهم أي شى ءٍ غير عادّي، بل ذكر لهم أنّ شغلَ السّفر يمنعه من تلبية طلبهم. و هذا التّأجيل يمنحه الفرصة لاستخراج دخائلهم و لكي تكشف تقلّبات الأحوال باطنهم للنّاس.
فلمّا رجع رسول الله من غزوة تبوك و نزل بذي أوان،(2) أنزل الله سبحانه و تعالى: «والّذين اتخذوا مسجداً ضراراً و كفراً ....»(3) أمر النّبيّ (ص) جماعةً من المسلمين بهدمه و إحراقه و أمر أن يُتَّخَذَ كناسةً تُلقي فيه الجيف، كما روي عن
ص: 359
أبي عبدالله (ع).(1) و قالوا: إنّ سبب تسمية مسجدهم بمسجد ضرار، أنّهم كانوا يضارّون به مسجدَ قُباء، و ذلك أنّه لمّا بني عمرو بن عوف مسجد قباء، الّذي أسّسه النّبيّ (ص) لمّا قدم المدينة، و صلّى فيه، قالت طائفة من المنافقين: نبني نحن أيضاً مسجداً كما بنوا، فنقيل فيه (2)، فلا نحضر خلف محمّدٍ.(3)
ص:360
ص:361
ص:362
ص: 363
قالوأ: اقام رسول الله (ص) بالمدينة عشر سنين يُضحي كلّ عامٍ و لا يحلق و لا يقصّر و يغزو المغازي و لا يحجّ، حتّى كان في ذي القعدة سنة عشر، أجمع الخروج إلى الحجّ، فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم: بأنّ رسول الله (ص) يحجّ في عامه هذا؛(1) حتّى بلغت دعوته إلى أقاصي بلاد الإسلام، فتجهّز النّاس للخروج معه، و حضر المدينة، من ضواحيها و من حولها و يقرب منها خلق كثيرٌ و وافاه في الطّريق خلائق لا يحصون و كانوا من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله مَدَّ البصر.
و قد ذكرت الرّوايات: أنّ الّذين خرجوا معه كانوا سبعين ألفاً،(2) و قيل تسعون ألفاً.(3) و قيل: مائة و عشرون ألفاً،(4) و يقال أكثر من ذلك.(5) قال العلّامة الأميني «هذه عِدّة من خرج معه؛ إمّا الّذين حجّوا معه، فأكثر من ذلك، كالمقيمين بمكّة و الّذين أتوا من اليمن مع علي (ع) و أبي موسى».(6)
ص: 364
إنّ حشد الأمّة إلى الحجّ، و إرسال الكتب إلى أقصى بلاد الإسلام، و أمر المؤذّنين بأن يؤذّنوا: بأنّ رسول الله (ص) يحجّ في عامه هذا و ... لم يكن مصادفة و لا كان استجابة لرغبة شخصيّة تقضي بجمع النّبيّ (ص) النّاس حوله. فحاشاه من ذلك و لا لغير ذلك من أمور دنيويّة، فإنّ النّبيّ (ص) لا يفكّر و لا يفعل إلّا وفق ما يريده الله تبارك و تعالى.
و لعلّ الهدف من كلّ هذا الحشد هو تحقيق أمورٍ كلّها تعود بالنّفع العميم على الإسلام و المسلمين، و يمكن أن يكون منها مايلي:
1. إنّه أراد للنّاس المتمرّدين، بل و المنافقين، عند أوّل فرصة تنسح لهم، أن يروا عظمة الإسلام و امتداداته الواسعة، و أنّه لم يعدّ بإمكان أحدٍ الوقوف في وجهه، فلييأس الطّامعون، و ليراجع حساباتهم المتوهّمون.
2. إنّه يريد أن يربط على قلوب الضّعفاء و يشدّ على أيديهم و يُريهم عياناً ما يحصنم من خدع أهل الباطل و كيد أهل الحقد و الشّنآن، و من كلّ ما يمارسونه معهم من تخويف أو تضعيف.
3. أن ينصب عليّاً (ع) إماماً و خليفة من بعده أَمام كلّ هذه الجموع الهائلة. ليكونوا هم الشّهداء بالحقّ على أنفسهم و على جميع النّاس، يوم لا ينفع مال و لا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.
و خرج (ص) من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة،(1) فنهض إلى أن نزل بذي طُوى،(2) فبات بها ليلة الأحد، لأربع خلون من ذي الحجّة، و صلّى بها الصّبح، ثم اغتسل من يومه، و نهض إلى مكّة من أعلاها، من الثّنيّة العليا، الّتي تشرّف على
ص: 365
الحجون، ثمّ سار حتّى دخل المسجد ضحى من باب عبد مناف و هو الّذي تسمّيه النّاس: «باب بني شيبة».(1) فطاف بالبيت سبعة أشواط، ثمّ صلّى خلف مقام إبراهيم و سعى بين الصّفا و المروة بمن معه من المسلمين.
و قدم علي (ع) من اليمن على رسول الله (ص) و هو بمكّة، فدخل على فاطمة (ع) و هي قد أحلّت، فوجد ريحاً طيّبة و وجد عليها ثياباً مصبوغة، فقال: ما هذا يا فاطمة؟ فقالت: أمرنا بهذا رسول الله (ص) ....
و نزل رسول الله (ص) بمكّة بالبطحاء هو و أصحابه، و لم ينزل الدّور فلمّا كان يوم التّروية عند زوال الشّمس أمر النّاس أن يغتسلوا و يهلّوا بالحجّ، فخرج النّبيّ (ص) و أصحابه مهلّين بالحجّ إلى عرفات و مرّ في طريقة إليها على مني، فنزل فيها و قبيل الفجر من اليوم التّاسع خروج منها إلى عرفات فنزل بها بقيّة يومه، حتّى غربت الشّمس و ذهبت الصّفرة من ناحية المشرق، عند ذلك ركب ناقته و مضى، حتّى أتى المزدلفة، فصلّى بها المغرب و العشاء بأذانٍ و إقامتين و لم يفصل بينهما و بات فيها. فلمّا أصبح أفاض منها، فلمّا اجتاز الوادي نزل و مضى، فرمى جمرة العقبة و نحر الهدي و حلّق رأسه. و لمّا فرغ من أعمال ذلك اليوم، زار البيت و رجع إلى مني و أقام بها، حتّى كان اليوم الثّالث من آخر ايام التّشريق كما جاء في صحيح معاوية بن عمّار(2)- ثمّ رمى الجمار و نفر حتّى انتهى إلى الأبطح و دخل من أعلى مكّة من عَقَبَة المدنيّين، ثم خرج من أسفل مكّة عند غروب الشمس،(3) و اتجّه إلى المدينة من يومه و لم يدخل المسجد الحرام و لم يطف بالبيت.(4)
ص:366
ص:367
ص:368
ص: 369
قال الله سبحانه و تعالى في كتابه الكريم: «يا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْكافِرِينَ».(1)
نزلت هذه الآية الشّريفة في حجّة الوداع لتؤكّد على لزوم تبليغ النّبيّ (ص) ما أمر به من أمر الإمامة و ولاية علي (ع) على النّاس، كما ذكرته المصادر الكثيرة و الرّوايات الموثوقة.
إنّ من يراجع كتب الحديث و التّاريخ، يجدها طافحةً(2) بالنّصوص و الآثار الدّالّة على إمامة أميرالمؤمنين (ع)، و لسوف لا يبقى لديه ادنى شكّ في أنّ النّبيّ (ص) لم يَأْلُ جُهداً(3) و لم يدّخر وُسعاً في تأكيد هذا الأمر و تثبيته و قطع دابر مختلف التّعلّلات و المعاذير فيه، في كلّ زمان و مكان، و في مختلف الظّروف و الأحوال.
و قد توجّت جميع تلك الجهود باحتفال جماهيري عام نصب فيه النّبيّ (ص) رسميّاً عليّاً (ع) بعد انتهائه من حجّة الوداع في مكان يقال له «غدير خم» و أخذ البيعة له فعلًا من عشرات الألوف من المسلمين.
إنّ قضيّة الغدير رغم مرور الدّهور و الأحقاب و بعد ألف و أربع مائة سنة، قد
ص: 370
بقيت و لسوف تبقى القضيّة الأكثر حسّاسيّة و أهمّيّة، لأنّها الأكثر صلة بالإيمان و بالإنسان، و الأعمق تأثيراً في حياة هذا الكائن، و أكثر ارتباطاً بمستقبل هذا الإنسان و بمصيره، إن في الدنيا، و إن في الآخرة.
و هذا بالذّات هو السّر في احتفاظ هذه القضيّة بكلّ حيويّتها و حسّاسيّتها بالنّسبة إليه على مرّ الدّهور و تعاقب العصور.
و ما ذلك إلّا لأنّ القضيّة لا تقتصر على أن تكون مجرّد قضيّة خلافة و حكم و سلطة في الحياة الدّنيا، و لا هي قضيّة: أن يحكم هذا، أو يحكم ذاك لسنوات معدودة و ينتهى الأمر ... بل الأمر أهمّ و أخطر، و أدهى و أعظم من ذلك، كما أنّه ليس حدثاً عابراً فرضته بعض الظّروف، لا يلبث أن ينتهى و يتلاشي تبعاً لتلاشي و انتهاء الظّروف الّتي فرضته أو أوجدته، و ليصبح في جملة ما يحتضنه التّاريخ من الأحداث لا يختلف عنها في شى ءٍ، و لا أثر له في الحياة الحاضرة إلّا بمقدار ما يبعثه من زَهْوٍ و اعتزازٍ، على مستوي المشاعر و الانفعالات، لا أكثر.
بل أمر الإمامة يمسّ في الصّميم حقيقة هذا الإنسان و مصيره و مستقبله، و دنياه و آخرته، و يؤثّر في مختلف جهات وجوده و حياته، فيكون ضرورةً للبشريّة و ليس فوقه ضرورة على الإطلاق، فعدم تبليغ الإمامة يجعل الدّين و الرّسالة بلا مضمون و بلا فائدة و يكون وجوده كعدمه تماماً، كما صرّحت به الآية الكريمة: «وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ».
لقد ذكرت الرّوايات الصّحيحة: أن رسول الله (ص) قد خطب النّاس في حجّة الوداع في عرفة، فلمّا أراد أن يتحدّث في أمر الإمامة و ذكر حديث الثّقلين، ثمّ ذكر
ص: 371
عدد الأئمّة و أنّهم اثنا عشر، واجهته فئات من الناس بالضّجيج و الفَوْضي،(1) إلى حدّ أنّه لم يتمكّن من إيصال كلامه إلى النّاس.
فتأخيره إبلاغ ما أنزل إليه في شأن الإمامة و الولاية، قد كان بسبب المعارضة الكبيرة الّتي يجدها لدى قريش، الّتي كانت لا تتورّع عن واجهة النّبيّ (ص)، ليس فقط بالضّجيج و الصَّخَب، و إنّما باتّهام شخصه، و الطّعن و التّشكيك في خلوص عمله و نيّته.
مع التّذكير بأنّ الله تعالى لم يكن أَمَر النّبيّ (ص) بأن يبلّغ أمر الولاية على كلّ حالٍ، بل وفقاً لظروف و مقتضيات النّجاح، أي أنّه أمره بإبلاغٍ منتج لا بإبلاغ عقيم.
و كان (ص) يحتاج إلى ما يطمئنّه إلى جدوي تبليغ أمر الإمامة و عدم إثارة قريش للشّبهات الّتي تضيع جُهده، ولو باتّهامه في عقله أو في عصمته، فحين جاءته العصمة بادر إلى ما أمره الله تعالى به.
فقد جاء في نصّ: أنّه لمّا أمر (ص) بنصب علي (ع) خشي من قومه و أهل النّفاق و الشّقاق أن يتفرّقوا و يرجعوا جاهليّةً، لما عرف من عداوتهم و لما تنطوي عليه أنفسهم لعلي (ع) من العداوة و البغضاء و سأل جبرائيل أن يسأل ربّه العصمة من النّاس.
ثمّ تذكر الرّواية: أنّه انتظر ذلك حتّى بلغ مسجد الخَيْف. فجاءه جبرئيل، فأمره بذلك مرّة أخرى، و لم يأته بالعصمة، ثمّ جاء مرّة أخرى في كُراء الغميم (2) و أمره بذلك، ولكنّه لم يأته بالعصمة، ثمّ لمّا بلغ غدير خم جاءه بالعصمة ...».(3) و أخيراً نقول: الخير فيما وقع؛ فإنّ ما جرى في عرفة و مني و إظهار هؤلاء
ص: 372
النّاس على حقيقتهم، و ما تبع ذلك من فوائد و عوائد، قد كان ضروريّاً و لازماً للحفاظ على مستقبل الدّعوة و بقائها، فقد عرفت الأمّة الوفي و التّقي من المتآمر و الغادر، و المؤمن الخالص من غير الخالص، و في ذلك النّفع الكثير و الخير العميم. «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَ يجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً».(1)
إنّ ما جرى في يوم الغدير قد جعل هذا اليوم من أكثر الأيّام حسّاسيّة و أهميّة للإسلام و لأهله. و قد أصبح هذا اليوم عيداً لدى طائفة كبيرة من المسلمين المؤمنين، و اعتبرته طائفة أخرى يوم بلاءٍ و عناءٍ، تتعامل مع كلّ ما يجري فيه بالحقد و الشّنآن.
و من جهة أخرى، فإنّ هذا اليوم قد حُظّي بعناية بالغة، من حيث البحث و التّقصي لما قيل فيه و جرى، فألّفت الكتب الكثيرة منذ عهود الإسلام الأولى و إلى يومنا هذا.
و نحن نريد عرض ما جرى مع مراعاة الاختصار و نبدأ بذكر ما أورده صاحب كتاب الغدير كما يلي:
«فلمّا قضى مناسكه، و انصرف راجعاً إلى المدينة، و معه من كان من الجموع المذكورات، وصل إلى غدير خم من الجحفة الّتي تشعّب فيها طرق المدنيّين و المصريّين و العراقيّين، و ذلك يوم الخميس الثّامن عشر من ذي الحجّة، نزل إليه جبرئيل الأمين عن الله بقوله: «يا أيّها الرّسول ...» و أمره أن يقيم عليّاً عَلَماً للنّاس و يبلّغهم ما نزل فيه من الولاية، و فرض الطّاعة على كلّ أحدٍ.
و كان أوائل القوم قريباً من الجُحفة، فأمر رسول الله (ص) أن يردّ من تقدّم
ص: 373
منهم و يحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، و نهى عن سَمُرات خمس متقاربات، دَوحات عظام،(1) أن لا ينزل تحتهنّ أحدٌ، حتّى إذا أخذ القوم منازلهم، فَقُمَّ ما(2) تحتهنّ.
حتّى إذا نودي بالصّلاة صلاة الظهر عمد إليهنّ، فصلّى بالنّاس تحتهنّ و كان يوماً هاجِراً يضع الرّجل بعض ردائه على رأسه و بعضه تحت قدميه من شدّة الرّمضاء، و ظلّل لرسول الله (ص) بثوبٍ على شجرة سَمُرة من الشّمس.
فلمّا انصرف من صلاته، قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل، و أسمع الجميع، رافعاً عقيرته،(3) فقال:
الحمدلله و نستعينه و نؤمن به و نتوكّل عليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيّئات أعمالنا، الّذي لا هادي لمن أضلّ و لا مضلّ لمن هدي، و أشهد أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً عبده و رسوله. أمّا بعد، أيّها النّاس، قد نبّأني اللّطيف الخبير: أنّه لم يعمر نبي إلّا مثل نصف عمر الّذي قبله، و إنّي أو شك أن أدعى فأجيب، و إنّي مسؤول و أنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنّك قد بلّغتَ و نصحتَ و جهدت، فجزاك الله خيراً ....
ثمّ قال: أيّها النّاس، ألا تسمعون؟ قالوا: نعم.
قال: فإنّي فَرَط على الحوض، و أنتم واردون على الحوض، و إنّ عرضه ما بين صنعاء و بُصرى (4)، فيه أقداح عدد النّجوم من فضّة، فانظروا كيف تخلّفوني في الثّقلين.(5) فنادى منادٍ: و ما الثّقلان يا رسول الله؟
ص: 374
قال: الثّقل الأكبر كتاب الله، طرف بيد الله عزّوجلّ و طرف بأيديكم، فتمسّكوا به لا تضلّوا؛ و الآخر الأصغر عترتي، و إنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا على الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، و لا تقصّروا عنهما فتهلكو.
ثمّ أخذ بيد على، فرفعها حتّى رُؤي بياض أباطهما،(1) و عرفه القوم أجمعون، فقال: أيّها النّاس، من أولى النّاس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله و رسوله أعلم.
قال: إنّ الله مولاي، و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولي بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه يقولها ثلاث مرّات و في لفظ أحمد، إمام الحنابلة، أربع مرّات ثمّ قال: اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه، و أحِبَّ من أحبّه، و أَبْغِض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أَدِرِ الحقّ معه حيث دار. ألا فليبلّغ الشّاهدُ الغائبَ.
ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي الله بقوله: «اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام ديناً». فقال رسول الله (ص): الله أكبر على إكمال الدّين و إتمام النّعمة و رضي الرّب برسالتي و الولاية لعلي من بعدي.
ثمّ طفق القوم يهنّئون أميرالمؤمنين صلوات الله عليه و ممّن هنّأه في مقدّم الصّحابة: الشّيخان؛ ابوبكر و عمر، كلّ يقول: بخٍّ بخٍّ لك يابن أبي طالب، أصبحتَ و أمسيتَ مولاي و مولي كلّ مؤمن و مؤمنة.
و قال ابن عباس: وجبت والله في أعناق القوم».(2)
ص: 375
إنّ من جملة ما لابدّ أن يثير انتباه النّاس، ليتبلور لديهم أكثر من سؤال هو إسراعه (ص) في الخروج من مكّة، حتّى إنّه لم يطف بالبيت، بل هو لم يدخل المسجد الحرام أصلًا، و لو لإلقاء نظرة الوداع على بيت الله تبارك و تعالى.
و لا أحدٌ من النّاس يجهل مدى علاقة النّبيّ (ص) ببيت الله و حبّه له، فلابدّ أن يتساءلوا عن أسباب هذه السّرعة في المغادرة، و أن يربطوا بين الخروج على هذا النحو و بين ما جرى في مكّة و في منى، حيث واجهته قريش و بين ما يجري في غدير خم.
و إذا اتّصل بهذا الإجراء إجراءٌ آخر يتمثّل في أنّه (ص) حين وصل إلى غدير خم، وقف حتّى لحقه من تأخّر بعده، و أمر بردّ من كان تقدّم؛ فإنّهم سيعرفون أنّ ثَمّة أمراً سيحدث، و أنّه سيكون بالغ الأهمية أيضاً، و سيتوقّعون أن يكون اتّصاله بما جرى في منى و عرفات قويّاً، و سيفتحون آذانهم و تتعلّق قلوبهم بكلّ حركة تصدر عنه، أو كلمة يتفوّه بها.
و يتأكّد هذا الأمر لديهم حين منعهم من النّزول تحت الشّجرات الخمس، دَوحات المتقاربات العظام، اللّواتي أمر بإزالة الشّوك و تمهيد المكان عندها، حتّى إذا نودي بالصّلات عمد إليهنّ فصلّى بالنّاس تحتهنّ ثم نصب لهم عليّاً (ع).
ص: 376
ثمّ إنّ النّبيّ (ص) قد اتّبع أساليب بالغة الدّقّة في واقعة الغدير، بهدف رفع مستوي الإطمينان إلى دقّة و شموليّة المعرفة بما يجري، و اتّساع نطاقها إلى أبعد مدى، حتّى ليكاد الباحث يجزم بأنّ كلّ فرد فرد من المسلمين قد وقف على ما يراد إيقافه عليه و عرف حدوده و تفاصيله؛ بل لقد صرّحت بعض الرّوايات بهذه الشّموليّة، بالقول: «و أخذ بيد على فرفعها حتّى عرفه القوم أجمعون، ثمّ قال: اللّهم وال من والاه ...».(1) و في نصٍّ آخر عن زيد بن أرقم: فقلت لزيد: سمعته من رسول الله (ص)؟ فقال: و إنّه ما كان في الدّوحات أحدٌ إلّا رآه بعينه و سمعه بأذنيه.(2)
إنّ حبس المتقدّمين و إرجاعهم، و انتظار وصول و اجتماع المتأخّرين منهم سيثير لدي أولئك النّاس أكثر من سؤالٍ و سيجعلهم أشدّ انتباهاً و يقظةً و سعياً لفهم مغزي هذا الإجراء النّبوي، و لن تؤثر سائر الصّوارف على تشويش الفكرة الّتي يراد إيصالها إليهم.
و زاد من شعورهم بخطورة ما يريد (ص) أن ينتهى بهم إليه أنّ هذه الإجراءات كلّها إنّما تتمّ في حرّ الهاجرة الّذي يصرّح بعض هؤلاء بأنّه كان بالغ الشّدة إلى حدّ أنّ زيد بن أرقم يقول: «ما أتى علينا يومٌ كان أشدّ حرّاً منه» فخطب خطبته
ص: 377
هناك، و بدأت إجراءات البيعة و التّهنئة لعلي (ع).
ثمّ إنّه (ص) لم يتّكل على ما يعرفه من رغبة النّاس بنقل ما يصادفونه في أسفارهم، إلى زوّارهم بعد عودتهم، فلعلّ أحداً يكتفى بذكر ذلك فور عودته، ثمّ لا يعود لديه دافع إلى ذكره في الفترات اللّاحقة؛ فجاء أمر رسول الله (ص) لهم ليلزمهم بإبلاغ كلّ من غاب عن هذا المشهد، مهما تطاول الزّمن، و جعل ذلك مسؤوليّة شرعيّة في أعناقهم.
و بذلك يكون قد سدّ باب التّعلّل من أي كان من النّاس بإدّعاء أنّ أحداً لم يبلغه هذا الأمر، و أنّه إنّما كان قضيّة في واقعةٍ، و قد لا ينشد الكثيرون لذكرها، إن لم يكن ثَمّة ما يلزمهم بذلك، و لعلّهم قد كانت لديهم اهتمامات أخرى شغلتهم عنها.
ص:378
ص:379
ص:380
ص: 381
قال الحافظ: اختلف في مدّة مرضه (ص)، فالأكثر على أنّها ثلاثة عشر يوماً، و كان يخرج إلى الصّلاة إلا أنّه انقطع ثلاثة أيّام.
قال في العيون: أمر رسول الله (ص) أن يصلّي بالنّاس، فصلّى بهم فيما روينا سبع عشرة صلاة، و رواه البلاذري عن أبي بكر بن أبي سبرة.(1) و أمّا وصاياه، فعن علي (ع) قال: «أوصاني النّبيّ (ص) إذا أنامتُّ فغسّلني بستّ قرب من بئر غرس، فإذا فرغت من غسلي، فادرِجْنى (2) في أكفاني، ثمّ ضع فاك على فمي». قال: ففعلت، فأنبأني بما هو كائن إلى يوم القيامة». و روي نحو ذلك عن الإمام الصّادق (ع).(3) و عن عمرو بن أبي شعبة، قال: «لمّا حضر رسول الله (ص) الموت، دخل عليه علي (ع)، فأدخل رأسه معه، ثمّ قال: يا علي، إذا أنا متّ فاغسلني و كفّنّي ثمّ أَقْعِدني و سائِلني و اكتب».(4) و نقول: يدلّنا هذا النّص علي:
ص: 382
1. حياة النّبيّ (ص) بعد موته: إنّ هذا النّص يدلّ على أنّ النّبيّ (ص) حيّ حتّى بعد أن يموت. و لأجل ذلك نقرأ في زياراتنا للمعصومين (ع) و النّبيّ (ص) أعظم شأناً منهم-: «أشهد أنّك ترى مقامي و تسمع كلامي و تردّ سلامي».(1) بل قالوا: إنّ الأخبار قد تواترت بحياة النّبيّ (ص) في قبره و كذلك سائر الأنبياء.(2) و قالوا أيضاً: إنّ صلاتنا معروضة على النّبيّ (ص) و إنّ سلامنا يبلغه و هم أحياء عند ربّهم كالشّهداء.(3) و يؤكّد ذلك النّص القرآني على: أنّ النّبيّ (ص) شاهد على أمّته، قال تعالى: «يا أَيهَا النَّبِى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً»(4) و شهادته على الأمّة لا تقتصر على خصوص من عاشوا معه في حال حياته.
2. علي (ع) هو الوصي: و غني عن البيان: أنّ وصيّة النّبيّ (ص) لعلي (ع) بأن يضع فمه على فمه، و سماعه منه ما هو كائن إلى يوم القيامة تؤكّد أنّ لعلي (ع) خصوصيّة ليست لأحد سواه، و هي ترتبط بعلم الإمامة من خلال اتّصاله بالنّبي (ص) بعد موته.
و كان فيما أوصى النّبيّ (ص) به عليّاً (ع) قوله: «ضع يا على رأسي في حجرك، فقد جاء أمر الله تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك و امسح بها وجهك، ثمّ وجّهني إلى القبلة، و تولّ أمري، و صلّ على أوّل النّاس، و لا تفارقني حتّى تواريني في رمسي».
فأخذ علي (ع) رأسه، فوضعه في حجره ... إلى أن تقول الرّواية: ثمّ قبض (ص) و يد أميرالمؤمنين (ع) تحت حنكه، ففاضت نفسه (ص) فيها، فرفعها إلى وجهه،
ص: 383
فمسحه بها، ثمّ وجّهه و غمضه و مدّ عليه إزاره، و اشتغل بالنّظر في أمره.(1) و كان ممّا أوصى به (ص): أن يدفن في بيته الّذي قبض فيه، و يكفّن بثلاث أثواب: أحدها يَمان، و لا يدخل قبره غير علي (ع).(2) و يذكر نصّ آخر: أنّ ممّا أوصى به النّبيّ (ص) عليّاً (ع) قوله: «يا علي كن أنت و ابنتي فاطمة و الحسن و الحسين، و كبّروا خمساً و سبعين تكبيرة، و كبّر خمساً و انصرف، و ذلك بعد أن يؤذن لك في الصّلاة.
قال علي (ع): بأبي أنت و أمّي من يُؤْذِن غداً؟ قال جبرئيل (ع) يؤذنك. قال: ثمّ من جاء من أهل بيتي يصلّون على فوجاً فوجاً، ثمّ نساؤهم، ثمّ النّاس بعد ذلك.(3)
ص: 384
فرفضها رسول الله (ص). فقال عمر: إنّ النّبيّ غلبه الوَجَع (أو يهجر)(1) و عندنا كتاب الله (أو و عندكم القرآن) حسبنا كتاب الله.
فاختلف أهل البيت و اختصموا و اختلفوا، أو كثر اللّغط بين من يقول:
قرّبوا يكتب لكم، و بين من يقول: القول ما قال عمر.
فقال (ص): قوموا عنّي، و لا ينبغي عندي (أو عند نبي) التّنازع.(2) إساءات لمقام النّبوّة
و مع غضّ النّظر عن نسبة الهجر و الهذيان إلى النّبيّ المعصوم؛ فإنّنا نلاحظ: أنّ الأمر لم يقتصر على ذلك، لأنّهم قد ارتكبوا العديد من الإساءات الأخرى أيضاً، مثل:
1. مخالفتهم لأمر الرّسول (ص) و امتناعهم عن تلبية طلبه، و منعهم سائر من حضر من ذلك أيضاً.
2. إنّهم قد رفعوا أصواتهم، و ضجّوا، و لغطوا في محضر رسول الله (ص)، و قد أمرهم الله بأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النّبيّ (ص)، و أن يغضّوا أصواتهم عنده.
3. إنّهم قد تنازعوا في محضره (ص) و لم يردّوا الأمر إلى النّبيّ، حتّى طردهم من محضره، و قد نها هم الله تعالى عن التّنازع، و أمرهم بردّ ما يتنازعون فيه إلى الله و إلى الرّسول.
4. إنّهم أغضبوا رسول الله (ص) و فعلوا في حضرته ما لا ينبغي كما صرّحت به بعض النّصوص.
ص: 385
5. إنّهم قالوا: حسبنا كتابُ الله، و هذا إقرار منهم باستبعاد السّنّة النّبويّة الشّريفة عن التّداول، مع أنّ الله تعالى يقول لهم: «وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1) و ثبت عندهم حديث الثّقلين بصيغة «كتاب الله و سنّتي».(2) مع أنّ القرآن فيه بيان كلّ شى ءٍ بلاريب، لكن إنّما يعرف القرآن من خوطب به و كلّ شى ءٍ أصله في الكتاب ولكن لا تدركه عقول الرّجال من سائر النّاس، بل لابدّ من أن يرجعوا إلى من يفسّره لهم، و هم خصوص النّبيّ الأكرم (ص)، ثمّ الأئمّة الطّاهرون عليهم السّلام من بعده، العارفون بتنزيله و بتأويله، و محكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه، فلا أحد يستطيع استخراج حقايقه سواهم. و كيف يمكن لعمر، أو لغير عمر أن يعرف عدد ركعات الصّلاة اليوميّة و شرايط الاعتكاف في المساجد، و سائر الأحكام الفرعيّة من القرآن الكريم إلّا بدلالة مَن عنده أمّ الكتاب.
على أنّ الوقائع قد بيّنت عدم معرفتهم لمعني الأبّ و عدم معرفتهم بالكلالة و بأمور كثيرة أخرى نطق بها القرآن.
و قد يسئل سائلٌ عن السّبب في لجوء النّبيّ (ص) إلى كتابة الكتاب؟ ألم يكن يكفيه ما جرى في يوم الغدير من البيعة و التّهنئة لعلي (ع) بمقام الولاية؟ و نجيب:
أوّلًا؛ إنّ نفس ما جرى في مرض موته (ص) من جرأةٍ و إباءٍ و إصرارٍ على عدم تمكينه من كتابة الكتاب يدلّ على ضرورة كتابة هذا الكتاب.
ثانياً؛ لعلّ هؤلاء النّاس كانوا يخطّطون إلى إنكار دلالة ما جرى، و الاعتماد على
ص: 386
إرهاق الحدث بالتّأويلات و التّمحلّات الباطلة لتعمية الأمور على العوام. أو لعلّهم يزعمون للنّاس أنّ أموراً قد استجدّت و تقلّباتٍ حدثت، دعت النّبيّ (ص) إلى العدول عن ذلك الأمر حيث رأى أنّ صرف النّظر عنه أصلح.
إذا كانت كتابة الكتاب ضروريّة و إذا كان هو الّذي يحفظ الأمّة من الضّلال، فلماذا صرف النّظر عن كتابته، و لماذا يستسلم (ص) لما أراده عمر و غيره؟! ألم يكن الإصرار على كتابته هو المتعيّن؟ مادام أنّ نفع الكتاب الّذي سوف يكتبه لا يقتصر عى أهل ذلك الزّمان، بل سيكون شاملًا للأمّة بأسرها إلى يوم القيامة.
و نجيب: بما قاله العلّامة السيّد عبدالحسين شرف الدّين (قدس سرّه):
«و إنما عدل عن ذلك لأنّ كلمتهم تلك الّتي فاجؤوه بها اضطرّته إلى العدول، إذ لم يبق بعدها أثر لكتابة الكتاب سوى الفتنة و الاختلاف من بعده في انّه هل هجر فيما كتبه و العياذ بالله أو لم يهجر؟
كما اختلفوا في ذلك، و أكثروا اللّغو و اللَّغَط نصب عينيه، فلم يَتَسَنَّ له يومئذٍأكثر من قوله لهم: «قوموا عنّي» كما سمعت.
و لو أصرّ فكتب الكتاب لَلَجُّوا في قولهم: هَجَر، و لأوغل أشياعهم في إثبات هجره و العياذ بالله فسطروا به أساطيرهم و ملأواطواميرهم، ردّاً على ذلك الكتاب و على من يحتجّ به.
لهذا اقتضت حكمته البالغة أن يضرب (ص) عن ذلك الكتاب صفحاً، لئلّا يفتح هؤلاء المعارضون و أولياؤهم باباً إلى الطّعن في النّبوّة، نعوذ بالله و به نستجير.
و قد رأى (ص) أنّ عليّاً و أولياءه خاضعون لمضمون ذلك الكتاب، سواءٌ عليهم أكتب أم لم يكتب، و غيرهم لا يعمل به و لا يعتبره لو كتب. فالحكمة و الحال
ص: 387
هذه توجب تركه، إذ لا أثر له بعد تلك المعارضة سوى الفتنة كما لا يخفى.»(1)
و روي أنّ جبرئيل (ع) قال للنّبي (ص): إنّ ملك الموت يستأذن عليك، و ما استأذن أحداً قبلك و لا بعدك. فأذن له فدخل و سلّم عليه، و قال: يا أحمد، إنّ الله تعالى بعثني إليك لأطيعك؛ أقبض أو أرجع؟ فأمره، فقبض.(2)
تضاربت الأقوال في وقت وفاة النّبيّ (ص): فقيل: توفّى يوم الإثنين من غير تحديد.(3) و قيل: يوم الإثنين حين زاغت الشّمس، أي ظهراً.(4) و قيل: يوم الإثنين قبل أن ينتصف النّهار.(5) و قيل: يوم الإثنين في الضّحى، و جزم به ابن إسحاق. و قيل: الأكثر على أنّه اشتدّ الضّحى.(6) و قيل: توفّى آخر يوم الإثنين.(7)
ص: 388
و تضاربت الأقوال أيضا في وقت دفن النّبيّ (ص). فقيل: دفن يوم الأربعاء، أي بقي ثلاثة أيّامٍ لم يدفن، و كان يدخل عليه النّاس أرسالًا أرسالًا، يصلّون، لا يصفون و لا يَؤُمُّهُم عليه أحدٌ.(1) و وصف ابن كثير هذا القول بأنّه من الأقوال الغريبة.(2) و لا شكّ في غرابته، و قد ندب الإسلام إلى الإسراع في دفن الميّت، فلماذا يخالف المسلمون هذا المستحبّ في حقّ نبيّهم بالذّات.
و القول الأصوب و الأصحّ هو: أنّه (ص) قد دفن بعد وفاته بساعاتٍ يسيرة و قبل أن يفرغ أهل السّقيفة من سقيفتهم، كما روي ذلك عن أهل البيت (ع) بلا شكّ، و لعلّ فراغهم من السّقيفة قد حصل ليلة الثّلثاء، لا سيّما و أنّهم قد انتظروا أبابكر حتّى رجع من السُّنُح،(3) ثمّ ذهبوا إلى السّقيفة بعد رجوعه.
قال المجلسي رحمه الله: «و وضع خدّه على الأرض، موجّها إلى القبلة على يمينه، ثم وضع عليه اللَّبِن (4) و أهال عليه التّراب، و كان ذلك في يوم الإثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من هجرته (ص) و هو ابن ثلاث و ستّين سنة».(5) يضاف إلى ما تقدم: سؤال علي (ع) حين فرغ من دفن رسول الله (ص) عن خبر اهل السقيفة.(6) و ورد في بعض النّصوص من أنّ النّبيّ (ص) قد استشهد في سنة إحدى عشر و في البعض الآخر في سنة عشر كما تقدّم عن المجلسي فلعلّه يرجع إلى أنّ أحد الفريقين قد لاحظ السَّنة الهجريّة بمعناها الواقعي؛ أي الّتي مبدؤها ربيع
ص: 389
الأوّل، و الآخرون جَرَوا على التغيير الّذي قام به عمر بن الخطّاب، حيث اعتبر أوّل السّنة هو شهر المحرّم.
ثمّ إنّ رفع الأجساد إلى السّماء ليس بالأمر الّذي يصحّ التّشكيك فيه، بعد تصريح القرآن و تواتر الحديث به؛ فإنّ معراج نبيّنا الأعظم بجسده و روحه ثابت بلا ريب، و قد أشارت إليه آيات القرآن الكريم (1) و الأحاديث الشّريفة المتواترة. و هذا دليل على الوقوع فضلًا عن الإمكان.
كما أنّ الله تعالى قد أشار إلى رفع النّبيّ إدريس إلى السّماء،(2) و قد صرّحت الروايات: بأنّ الله تعالى قد قبض روحه هناك.(3) كما أنّ عيسى (ع) قد رفعه الله إليه.(4) غير أنّ الكلام إنّما هو في أنّ أجساد الأنبياء و الأوصياء، هل تبقي بعد موتهم في قبورهم، أم أنّها ترفع إلى السّماء أيضاً؟ و على الثّاني هل تبقي في السّماء، أم أنّها تعود بعد مدّة إلى قبورهم في الأرض؟
قد ذكر الشّيخ المفيد و الكراجكي و الفيض الكاشاني و غيرهم: أنّ فقهاءنا و علماءنا متّفقون على أنّ أجساد الأنبياء و الأئمّة صلوات الله و سلامه عليهم، ترفع بعد دفنها إلى السّماء، و ذلك استناداً إلى روايات رأوا أنّها دالّة على ذلك.
ولكنّ التّتّبع في روايات الباب يعطى بأنّه لا يمكن الاستدلال بها على أنّ أجساد الأنبياء ترفع إلى السّماء سوى روايتين:
الأولى: ما روي من النّبيّ (ص) قال: أنا أكرم على الله من أن يدعني في الأرض
ص: 390
أكثر من ثلاث.(1) الثّانية: عن أبي عبدالله (ع): لا تمكث جثّة نبي و لا وصي في الأرض أكثر من أربعين يوماً.(2)
مع احتمال أن يكون المراد بكلمة «في» في قوله: «في الأرض» ليس هو الظّرفية، بل الكينونة عليها بعد الموت، قبل الدّفن، على حدّ قوله تعالى: «وَ هُوَ الَّذِى فِى السَّماءِ إِلهٌ وَ فِى الأَرْضِ إِلهٌ».(3) ولكن يبقى أنّه لابدّ من الجمع بين رواية الثّلاثة أيّام و رواية الأربعين. و لم نجد في النّصوص ما يصلح قرينة للجمع بين هذين النّصين، و لو بأن نحملهما على اختلاف درجات و مقامات الأنبياء سوى قوله (ص) في الرّواية نفسها: «أنا أكرم على الله ...».
فإنّه قد اعتبر ذلك من الكرامة الإلهيّة له (ص)، و ليس في الأنبياء من يدانيه في ذلك. فيكون إبقاؤه لمدّة ثلاثة أيّامٍ فقط خاصّاً به (ص) و تمييزاً له عن غيره من الأنبياء عليهم السّلام.
أمّا سائر الأنبياء، حتّى أولوا العزم، فإنّ الله أكرمهم برفعهم، غير أنّهم إنّما يرفعون بعد مضى أيّام تصل إلى الأربعين.
و إنّما قلنا ذلك لانّ لحن الكلام يقتضي أن يكون رقم «الأربعين يوماً» قد جاء لتحديد الغاية القصوى، فلا مانع من أن يرفع بعضهم بعد موته بشهر، أو أقلّ، أو أكثر، بحسب ماله من مقام عند الله تعالى.
و آخر دعوانا أن الحمدلله تبارك و تعالى
ص:391
ص:392
ص: 393
المصادر و المراجع
1. القرآن الكريم.
2. الآحاد و المثاني لابن أبي عاصم، الضحاك، دارالدّراية للطّباعة و النشر و التوزيع، سنة 1411 ه- 1991 م و ط دارالمعرفة.
3. الاحتجاج لأبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، نشر دارالنّعمان للطباعة و النشر، النجف الأشرف، سنة 1386 ه- 1966 م و ط سنة 1313 ه.
4. إحقاق الحق (الأصل) للشهيد نورالله التّستري، ط مطبعة الخيّام، قم، إيران.
5. إحياء علوم الدين للغزّالي، دارالمعرفة بيروت، لبنان.
6. أخبار مكة و ما جاء فيها من الآثار، لإبي الوليد محمد بن عبدالله الأزرقي.
7. الإختصاص، للشيخ المفيد، نشر دارالمفيد للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، سنة 1414 ه- 1993 م و ط مؤسسة النشر الإسلامي، قم، إيران.
8. الأربعين في مناقب أميرالمؤمنين، للسيد جمال الدين عطاء الله بن الأمير فضل الله الشيرازي الدشتكي، مخطوط.
9.
ص: 394
10. الإرشاد، للمفيد، ط المكتبة الحيدريّة، النجف الأشرف، سنة 1392 هو ط سنة 1381 هو ط مؤسسة آل البيت، و ط مكتبة الآخوندي، و ط دارالمفيد.
11. أسباب نزول الآيات، للواحدي النيسابوري، ط مصر، سنه 1387 ه، و مؤسسة الحلبي و شركاه للنشر و التوزيع، القاهرة، سنة 1388 ه- 1968 م.
12. الإستغاثة، لأبي القاسم الكوفي.
13. الإستيعاب، ليوسف أحمد بن عبدالله أحمد بن محمد أحمد بن عبدالبرّ النمري القرطبي، مطبوع بهامش الإصابة، سنة 1328 هفي دارالمعارف بمصر، و ط دارالجيل، بيروت، سنة 1412 ه.
14. أسد الغابة في معرفة الصحابة، لعلي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبدالكريم بن عبدالواحد الشّيباني المعروف بابن الأثير، ط دارالكتاب العربي و نشر مؤسسة اسماعيليان، طهران، 1380 ه.
15. إسعاف الرّاغبين في سيرة المصطفى و فضائل أهل بيته الطّاهرين، للشيخ محمد بن علي الصّبان المصري الشافعي، مطبوع بهامش نور الأبصار، ط مطبعة الجمهوريّة، نصر.
16. أسني المطالب في مناقب علي بن أبي طالب، لشمس الدين محمد بن محمد الجزري الشافعي، مطابع نقش جهان، إيران.
17. الأصنام، لأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، نشر مطبعة كتيبة، إيران، سنة 1364 ه.
18. إعلام الورى بأعلام الهدى، للطبرسي، ط دارالمعرفة، و نشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1417 ه، و ط مؤسسة الوفاء و ط سنة 1390 هه.
91.
ص: 395
20. أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين العاملي، ط دارالتعارف، بيروت، و الطبعة الأولي سنة 1403 ه.
21. الأغاني، لأبي الفرج الإصفهاني، ط دارالكتب العلميّة، و ط سياسي، و ط دار إحياء التراث العربي.
22. أمالي السيد المرتضي، للشريف أبي القاسم علي بن الطاهر أبي أحمد الحسين، الطبعة الأولي، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم، سنة 1325 هم، و ط سنة 1403 هو ط دارالكتاب العربي، بيروت، سنة 1387 ه.
23. أمالي الشيخ، لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الطبعة الأولى، نشر دار الثقافة للطباعة و النشر و التوزيع، قم، سنة 1414 ه، و ط النجف الأشرف.
24. أمالي الصدوق، لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن موسى بن بابويه القمي، الطبعة الأولى، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، قم، 1417 ه، و طبع دارالمعرفة، و ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، و ط الحيدريّة، النّجف، سنة 1389 هو 1391 ه.
25. أمالي المفيد، ط مؤسسة النشر الإسلامي، قم، و نشر دارالمفيد.
26. إمتاع الأسماع، لتقي الدّين أحمد بن علي بن عبدالقادر المقريزي، الطبعة الثانية، و منشورات محمد علي بيضون، دارالكتب العلمية، بيروت، سنة 1420 ه- 1999 م.
27. الأموال، لابن زنجويه، حميد بن مخلد.
82.
ص: 396
29. الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، 1388 ه.
30. أنس الجليل بتاريخ (في أخبار) القدس و الخليل، لأبي اليمن عبدالرحمان مجيدالدين العليمي الحنبلي، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1388 ه.
31. أنساب الأشراف، للبلاذري، مؤسسة الأعلمي، بيروت، بتحقيق المحمودي، 1397 هو ط ليدن، و ط دارالمعارف بمصر، 1359 ه.
32. الأنوار النعمانية، للسيد نعمة الله الجزائري، ط تبريز، إيران.
33. الأوائل، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، مؤسسة الرسالة، دارالفرقان، بيروت، 1403 ه.
34. الأوائل، لأبي هلال العسكري، ط دمشق، 1975 م.
35. أوائل المقالات، للشيخ المفيد، مكتبة الداوري، قم.
36. بحارالانوار، للعلامة المجلسي، ط حجريّة، إيران، للمجلد الثامن، و ط أيران، 1385 ه، و ط مؤسسه الوفاء، بيروت.
37. البحر المحيط (تفسير أبي حيان الأندلسي) لمحمد بن يوسف الشّهير بأبي حيان الأندلسي، دارالفكر، 1403 هو طبع دارالكتب العلمية، بيروت، 1422 ه- 2001 م.
38. البدء و التاريخ، لابن زيد أحمد بن سهل المطهر ابن طاهر المقدّسي القادري، 1988 م.
39. البداية و النهاية، لابن كثير، دار إحياء التراث العربي، 1413 هو ط مكتبة المعارف، بيروت.
04.
ص: 397
41. بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد، لأبي جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار، 1381 ه، و منشورات الأعلمي، طهران، 1404 ه.
42. بهجة المحافل في السير و المعجزات و الشمائل، للشيخ يحيى بن أبي بكر العامري، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
43. تاريخ ابن الوردي، لعمر بن المظفّر بن عمر التميمي الشهير بابن الوردي، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1389 ه.
44. تاريخ الإسلام، لأبي عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، قسم المغازي، دارالكتاب المصري، القاهرة، و دارالكتاب اللبناني، بيروت، 1405 ه، و ط دارالكتاب العربي، بيروت، 1407 ه- 1987 م.
45. تاريخ الأمم و الملوك، دارالمعارف بمصر، و ط مؤسسة الأعلمي، بيروت، و ط مطبعة الإستقامة بالقاهرة، و ط ليدن.
46. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، دارالكتاب العربي، بيروت، و ط دارالكتب العلمية، بيروت، 1417 ه- 1997 م.
47. تاريخ جرجان، لحمزة بن يوسف السهمي، حيدرآباد، الهند، 1387 ه، و ط عالم الكتب للطباعة و النشر، بيروت، 1407 ه.
48. تاريخ الخلفاء، للسيوطي، مكتبة السعادة بمصر، 1371 ه.
49. تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، لحسين بن حمد بن الحسن الديار بكري المالكي، ط مصر، 1383 ه.
50. تاريخ مدينة دمشق، دارالكتب العلميّة، و دارالفكر للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، 1415 و الأجزاء التي حقّقها المحمودي و هي التالية:
15.
ص: 398
أ. ترجمة الإمام علي (ع)، ط بيروت.
ب. ترجمة الإمام الحسن (ع)، ط بيروت.
52. تاريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب، المعروف باليعقوبي، دار صادر بيروت، و ط المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف.
53. تبرك الصحابة و التابعين، للعلامة الشيخ علي الأحمدي الميانجي، الدار الإسلامية، بيروت.
54. تحف العقول، لابن شعبة الحرّاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1404 ه، و ط النجف الأشرف، 1385 ه.
55. تخريج الأحاديث و الآثار، لجمال الدين الزّيعلي، دار ابن خزيمة، الرياض، 1414 ه.
56. تذكرة الخواص، لسبط بن الجوزي، ط النجف الأشرف، 1383 ه.
57. تذكرة الفقهاء، للعلامة الحلي، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، إيران.
58. التراتيب الإدارية (نظام الحكومة النبوية) للشيخ عبدالحيّ الكتّاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
59. تصحيح اعتقادات الإمامية (تصحيح الإعتقاد) للشيخ المفيد، الطبعة الثانية، دارالمفيد، بيروت، 1414 ه- 1993 م، و ط تبريز، 1371 ه.
60. تفسير الإمام العسكري، طبعة قديمة، النجف الأشرف و نشر مدرسة الإمام المهدي (عج)، قم، 1409 ه.
61. تفسير البرهان، للسيد هاشم الحسيني البحراني، مؤسسة اسماعيليان، قم.
26.
ص: 399
63. تفسير الثعلبي (الكشف و البيان) ليحيى بن محمد البغدادي، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422 ه- 2002 م، و نسخة مخطوطة.
64. تفسير الصافي، للمولى محسن الملقب بالفيض الكاشاني، مكتبة الصدر، طهران، 1416 ه، و منشورات الأعلمي، بيروت.
65. تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء الدمشقي، منشورات دار الفكر، و دارالمعرفة، بيروت، 1412 ه- 1992 م.
66. تفسير القمّي، لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمّي، مؤسسة دارالكتاب، قم، 1404 ه.
67. التفسير الكبير، للفخر الرّازي، دارالكتب العلمية، طهران، و الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
68. تفسير مجاهد، لأبي الحجّاج مجاهد بن جبر التابعي المكي المخزومي، تحقيق عبدالرحمن الظاهر بن محمد السّورتي، مجمع البحوث الإسلامي، إسلام آباد.
69. التمهيد في علوم القرآن، لمحمد هادي معرفت، مطبعة مهر، قم، 1396 ه.
70. التنبيه و الإشراف، للمسعودي، دارالصاوي بمصر، 1357 ه، و دار صعب، بيروت.
71. تنقيح المقال في علم الرّجال، للشيخ عبدالله المامقاني، المطبعة المرتضوية، النجف الأشرف، 1352 ه.
27.
ص: 400
73. تنوير الحوالك، شرح علي موطأ مالك، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي، منشورات محمد علي بيضون، دارالكتب العلمية، بيروت، 1418 ه- 1997 م، و دار إحياء الكتب العربية، مصر.
74. تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي، دارالكتب الإسلامية، طهران، 1364 و نشر المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف.
75. تهذيب الأسماء و اللغات، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، إدارة الطباعة المنيرية بمصر.
76. تهذيب تاريخ دمشق، لعبدالقادر بدران، دارالمسيرة، بيروت.
77. تهذيب سيرة ابن هشام، لعبدالسلام هارون، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1397 ه.
78. تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرّجال، للشيخ أبي العباس أحمد بن علي النّجاشي، تأليف السيد محمد علي موحد الأبطحي، الطبعة الثانية، نشر ابن المؤلف السيد محمد، قم، 1417 ه.
79. تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب، لأبي طالب يحيى بن الحسين الزيدي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1395 ه.
80. الثقات، لحمد بن حبان التميمي البستي، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد، الهند، 1393 ه- 1993 م.
81. ثمرات الأوراق في المحاضرات، للشيخ تقي الدين أبي بكر بن علي المعروف بابن حجة الحموي، مطبوع بهامش المستطرف.
28.
ص: 401
83. جامع أحاديث الشيعة، للآقا حسين الطباطبائي البروجردي، المطبعة العلمية، قم، 1399 ه.
84. جامع بيان العلم و فضله، ليوسف بن عبدالله النمري القرطبي، ط المدينه المنورة، 1388 هو دارالكتب العلمية، بيروت، 1398 ه.
85. جامع البيان (تفسير الطبري) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، مصر، 1312 و دارالفكر، بيروت، 1415 ه- 1995 م.
86. الجامع لأحكام القرآن، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 ه- 1985 م، و ط دارالكتب العلمية، و ط مؤسسة تاريخ العربي.
87. جامع المقاصد في شرح القواعد، للمحقق الثاني الشيخ علي بن الحسين الكركي، الطبعة الأولى، نشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم 1408 ه.
88. جوامع السيرة، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري.
89. جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام، للشيخ محمد حسن النجفي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1981 م، و دارالكتب الإسلامية، طهران، 1365 ه.
90. الحاوي الكبير، لأبي الحسن الماوردي علي بن محمد بن حبيب البصري.
91. حدائق الأنوار، لإبي بكر محمد بن عمر المعروف بابن السراج الرازي.
92. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، للشيخ يوسف البحراني، مؤسسه النشر الإسلامي، قم.
93. حلية الأولياء، لأبي نعيم الإصفهاني، دارالكتاب العربي، بيروت، 1387 ه.
94. حياة الحيوان، لكمال الدين محمد بن موسي الدميري، المكتبة الشرفية بالقاهرة، و ط دارالقاموس الحديث.
59.
ص: 402
96. حياة الصحابة، لمحمد بن يوسف الكاندهلوي، دارالنصر للطباعة، القاهرة، 1389 ه، و دارالوعي بحلب، سوريا، 1391 ه.
97. حياة محمد، لمحمد حسنين هيكل، الطبعة الأولى، مطبعة مصر، 1354 ه، و الطبعة الثانية، دارالكتب المصرية، 1354 ه.
98. خاتم النبيين، لمحمد أبي زهرة، الدوحة (قطر)، 1400 ه.
99. خدمات متقابل اسلام و ايران، للشيخ مرتضى مطهري، ط إيران.
100. خصائص أميرالمؤمنين (ع)، لأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1388 ه، و ط التقدم بمصر، و مكتبة نينوا الحديثة، طهران.
101. الخصال، للشيخ الصدوق القمي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1403 ه.
102. الدر المنثور، لعلي بن محمد الجبعي العاملي، مطبعة مهر استوار، قم، 1398 ه.
103. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين السيوطي، دارالمعرفة، بيروت، و ط دارالفكر، و ط سنة 1377 ه.
104. الدر النّظيم، للشيخ جمال الدين، يوسف بن حاتم الشّامي المشغري العاملي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
105. دعائم الإسلام، للقاضي النعمان المغربي، درالمعارف، مصر، 1383 ه.
106. دلائل الإمامة، لأبي جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الصغير، الطبعة الأولى، مركز الطباعة و النشر في مؤسسة البعثة، 1413 ه.
107. دلائل الصدق، للشيخ محمد حسن المظفر، ط إيران، 1395 ه.
801.
ص: 403
109. دلائل النبوة، لأبي نعيم، دارالمعرفة، بيروت، 1397 ه.
110. ذخائر العقبى، لأحمد بن عبدالله الطبري، دارالمعرفة، بيروت، 1974 م.
111. ربيع الأبرار و نصوص الأخبار، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، مطبعة العاني، بغداد.
112. رسالة حول بنات النبي، مطبوعة مع مكارم الأخلاق، طبعة حجرية.
113. الرسول العربي و فنّ الحرب، لمصطفي طلّاس، ط 1397 ه.
114. الروض الأنف، للسهيلي، شركة الطباعة الفنية المتحدة، مؤسسة نبع الفكر العربي للطباعة بمصر، و ط سنة 1391 ه.
115. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، للشهيد الثاني، طبعة حجرية، نشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم.
116. الرياض النضرة في مناقب العشرة، لمحب الدين أبي جعفر أحمد بن محمد الطبري، دارالكتب العلمية، بيروت، و ط محمد أمين بمصر، و ط الخانجي بمصر.
117. سبل السلام، للسيد محمد بن إسماعيل الكحلاني، الطبعة الرابعة شركة مكتبة و مطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده بمصر، 1379 ه- 1960 م.
118. سبل الهدى و الرّشاد، للصالحي الشامي، ط مصر، و نشر دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 ه- 1993 م.
119. سعد السعود، للسيد بن طاووس، مطبعة أمير، قم، 1363 ه، و منشورات الرضي، قم 1363 ه.
120. سفينة البحار، للشيخ عباس القمي، مؤسسة فرهاني، إيران.
121.
ص: 404
122. السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، دارالفكر، و ط الهند، 1419 ه.
123. سير أعلام النبلاء، لشمس الدين، أبي عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406 ه، و ط سنة 1413 ه.
124. السيرة الحلبيّة، لعلي بن برهان الدين الحلبي الشافعي، دارالمعرفة، بيروت، 1400 ه، و ط دار إحياء التراث العربي، و مطبعة مصطفى محمد بمصر، سنة 1391، و ط البهية بمصر.
125. سيرة المصطفى، للسيد هاشم معروف الحسني، دارالقلم، بيروت، 1975 م.
126. سيرة مغلطاي، للشيخ علاء الدين مغلطاي بن قليج المصري، ط مصر، 1326.
127. السيرة النبوية، لابن كثير، دارالمعرفة، بيروت، 1369، و ط سنة 1396 ه- 1976 م.
128. السيرة النبويه، لابن هشام، ط تراث الإسلام، و نشر مكتبة محمد علي صبيح و أولاده، مصر، 1383 ه- 1963 م، و ط دار الجيل، و المطبعة الخيرية بمصر، و ط سنة 1413 ه، و ط دارالكنوز الأدبية.
129. السيرة النبوية، لأبي الحسن الندوي، المطبعة العصرية، صيدا، لبنان.
130. السيرة النبوية و الآثار المحمدية، لأحمد زيني دحلان، دارالمعرفة، بيروت، و مطبوع بهامش السيرة الحلبية.
131. شذرات الذهب، لابن عماد الحنبلي، المكتبة التجاري، بيروت.
231.
ص: 405
133. شرح أصول الكافي، للمولى محمد صالح المازندراني، الطبعة الأولى دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2000 م.
134. شرح التجريد، للقاضي القوشجي، ط حجريّة، إيران، 1307 ه.
135. شرح الشفاء، للعلامة شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي.
136. شرح صحيح مسلم، لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي الشافعي الدمشقي، مطبوع بهامش إرشاد الساري، و دارالكتاب العربي، بيروت، 1407 ه- 1987 م، و ط دارالكتب العلمية.
137. شرح نهج البلاغة، لعزّالدين عبدالحميد بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي، المعروف بابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية عيسي البابي الحلبي و شركاه، 1387 ه- 1959 م، و منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1387 ه- 1967 م و ط سنة 1983 م و طبع دار إحياء.
138. الشعر و الشعراء، لابن قتيبة الدينوري، دار صادر، بيروت، عن ط ليدن، 1902 م.
139. شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، لعبيدالله بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1393 ه، و مؤسسة الطبع و النشر التابعة لوزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، 1411 ه- 1990 م.
140. شواهد النبوة، لنورالدين عبدالرحمان بن أحمد الدمشقي الجامي الشافعي.
141.
ص: 406
142. صحيح ابن حبان، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1414 ه- 1993 م، و مخطوط في مكتبة قبوسراي في استانبول.
143. صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم المغيرة بن بردزبة البخاري، ط الميمنية، و طبع مشكول و ط المكتبة الثقافية و نشر دارالفكر، بيروت، 1981 م، و ط دار إحياء التراث العربي، و ط محمد علي صبيح بمصر و أولاده بالأزهر، مصر.
144. صفة الصفوة، لابن الجوزي، ط حيدرآباد الدّكن، الهند، و ط دار الوعي، حلب، سوريا، 1390 ه.
145. الصواعق المحرقة، لابن حجر الهيثمي المكي، المكتبة الميمنية بمصر، و دار الطباعة المحمدية، القاهرة، و دار البلاغة، مصر، و الطبعة الثانية، مكتبة القاهرة، 1385 ه.
146. الطبقات الكبري، لابن سعد، دار صادر، 1388 ه، و ط ليدن و ط دار المعارف، مصر، و دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 هو ط بيروت، 1388 ه.
147. العبر و ديوان المبتدأ و الخبر (تاريخ ابن خلدون)، لعبدالرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي المغربي، مؤسسة الأعلمي، 1391 ه، و الطبعة الرّابعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
148. عدّة الداعي و نجاح الساعي، لأحمد بن فهد الحلي، مكتبة وجداني، قم.
149. علل الشرائع، للشيخ الصدوق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385 ه- 1996 م.
150. العلل و معرفة الرجال، لأحمد بن حنبل، ط أنقرة، تركيا، 1963 م.
151.
ص: 407
152. العمدة، ليحيى بن الحسن الأسدي الحلي المعروف بابن البطريق، مؤسسة النشر الإسلامي، 1407 ه.
153. عمدة القاري، لبدرالدين العيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، و نشر دارالفكر.
154. عيون الأثر في فنون المغازي و الشمائل و السّير (السيرة النبوية) لمحمد بن عبدالله بن يحيى- ابن سيد الناس، مؤسسة عزالدين للطباعة و النشر، بيروت، 1406 ه- 1986 م، و ط دارالمعرفة، بيروت، و ط دارالحضارة.
155. عيون أخبار الرّضا (ع)، لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق)، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1404 ه- 1984 م و ط دارالعلم، قم، 1377 ه.
156. الغدير في الكتاب و السنة و الأدب، للعلامة الأميني النجفي، دارالكتاب العربي، بيروت، 1397 ه- 1977 م، و ط مركز الغدير للدراسات الإسلامية، قم، 1416 ه، و ط سنة 1424 ه.
157. غريب الحديث، لأبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 ه- 1998 م.
158. فتح الباري، شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، 1300 ه، و ط دارالفكر و ط دارالكتب العلمية.
159. الفتوح، لأبي محمد أحمد بن أعثم الكوفي، دارالأضواء، بيروت، 1411 ه، و ط الهند سنة 1395 ه.
160. فجر الاسلام، لأحمد أمين المصري، ط بيروت، 1969 م.
161.
ص: 408
162. فرائد السمطين، للشيخ إبراهيم بن محمد الجويني، دارالنعمان، النجف، و مؤسسة المحمودي، بيروت، 1400 ه.
163. الفصول المهمة في معرفة الأئمة، لابن الصّباغ المالكي، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1381 ه.
164. فقه السيرة، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، 1393 ه.
165. قاموس الرجال، للشيخ محمد تقي التّستري، مركز نشر الكتاب، طهران، 1379 ه، و مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1410 ه.
166. الكافي، للكليني، ط دارالأضواء، بيروت، و ط مطبعة الحيدري، طهران، 1377 ه، و ط دارالكتب الإسلامية، 1363 ه. ش، و مطبعة النجف، 1385 ه.
167. الكامل في التاريخ، لعلي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير، دار صادر بيروت، 1385 ه، و ط سنة 1385، و ط سنة 1386 ه- 1966 م، و ط دارالكتاب العربي.
168. الكشّاف، لأبي القاسم جار الله محمود ابن عمر الزمخشري، دار الكتاب العربي، بيروت، و نشر شركة مكتبة و مطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده بمصر، 1385 ه- 1966 م.
169. كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، للشيخ جعفر كاشف الغطاء، طبعة حجرية، انتشارات مهدوي، اصفهان.
170. كشف الغمة، لأبي الحسن علي بن عيسى الإربلي، المطبعة العلمية، قم، 1381 ه، و ط دار الأضواء، بيروت، 1985 م.
171.
ص: 409
172. كشف المحجة لثمرة المهجة، لرضي الدين أبي القاسم علي بن موسى، منشورات المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1370 ه.
173. كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب، لأبي عبدالله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1390 ه.
174. كنز العمال في سنن الأقوال و الأفعال، لعلاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي، حيدرآباد، الدّكن، الهند، 1381، و ط مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 ه- 1989 م، و ط سوريا.
175. كنز الفوائد، لأبي الفتح محمد بن علي الكراجكي، دار الأضواء، بيروت، طبعة حجرية، مكتبة المصطفوي، قم، 1369 ه. ش.
176. اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، لجلال الدين السيوطي، دار المعرفة، بيروت، 1395 ه.
177. اللهوف في قتلى الطفوف، لعلي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس، منشورات مكتبة الداوري، قم، 1331 ه.
178. مجمع البحرين، للشيخ فخرالدين الطريحي، المكتبة المرتضوية، طهران، الطبعة الثانية، مكتبة النشر الثقافة الإسلامية، 1408 ه.
179. مجمع البيان في تفسير القرآن، لأبي علي الفضل بن الحسن الطّبرسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1379 ه، و مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1415 ه- 1995 م، و مطبعة العرفان، صيدا، 1356.
081.
ص: 410
181. مجمع الزوائد و منبع الفوائد، لنورالدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 ه- 1988 م، و الطبعة الثانية، دار الكتاب، بيروت، 1967 م.
182. مجموعة الوثائق السياسية، لمحمد حميد الله، دار النفائس، بيروت، 1405 ه.
183. محاضرات الأدباء و محاورات الشّعراء و البلغاء، لأبي القاسم الحسين بن محمد الرّاغب الإصفهاني، ط بيروت.
184. محاضرات الأوائل، لعلاء الدين البسنوي السكتواري، ط بولاق، مصر، 1300 ه، و دار إحياء التراث العربي، بيروت.
185. المحبر، لمحمد بن حبيب البغدادي، مطبعة الدائرة، 1361 ه.
186. مختصر التاريخ، للشيخ ظهيرالدين علي بن محمد المشهور بابن الكازروني، مطبعة الحكومة، بغداد، 1390 ه.
187. مختصر تاريخ أبي الفداء، دار الفكر، بيروت.
188. مختصر تاريخ دمشق، لمحمد بن مكرم بن منظور، دار الفكر، دمشق، 1409 هو ط استانبول.
189. مدينة البلاغة، لموسى بن عبدالله بن محمود الزنجاني.
190. مدينة معاجز الأئمة الإثني عشر، للسيد هاشم بن سليمان البحراني، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1413 و ط حجريه.
191.
ص: 411
192. المراجعات، للسيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي، الطبعة الأولى، مطبعة العرفان، صيدا، لبنان، 1355 ه، و الطبعة الثانية، بيروت، تحقيق و تعليق حسين الراضي، 1402 ه- 1982 م.
193. مروج الذهب و معادن الجوهر، لعلي بن الحسين المسعودي، دار الأندلس، بيروت، 1965 م و طبعة أخرى.
194. المزار، للشيخ المفيد، دار المفيد، بيروت، 1414 ه- 1993 م.
195. المستجاد من فعلات الأجواد، لأبي علي المحسن بن علي التنوخي.
196. مستدرك سفينة البحار، للشيخ علي نمازي الشاهرودي، مؤسسة البعثة، إيران، 1410 ه، و مؤسسة النشر الإسلامي، 1418 ه.
197. المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبدالله الحاكم النيسابوري، ط الهند، 1342 هو تحقيق يوسف عبدالرحمان المرعشلي.
198. مسند أبي يعلي، للحافظ أحمد بن علي بن المثنّى التميمي، تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، بيروت و دمشق، 1407 ه.
199. مسند أحمد بن حنبل، ط صادر، بيروت و طبعة الحلبي و ط دار الحديث، القاهرة و ط الميمنية، مصر 1313.
200. مسند الكلابي، لأبي الحسين عبدالوهاب الكلابي المعروف بابن أخي تبوك، مطبوع بآخر مناقب علي بن أبي طالب، لابن المغازلي، 1394.
201. المصباح، للكفعمي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1403 ه- 1983 م.
202. المصنّف، لأبي بكر عبدالرّزّاق بن همام الصنعاني، الطبعة الأولى، المجلس العلمي، بيروت، 1390 ه- 1980 م.
302.
ص: 412
204. المصنّف، لعبدالله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، دار الفكر، بيروت، 1409 ه- 1989 م و ط السلفيّة، الهند، 1399.
205. معارج النبوّة، للمولى معين الكاشفي، ط مكتبة لكنهو.
206. المعارف، لأبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة، دار المعارف، القاهرة، تحقيق الدكتور ثروت عكاشة، و الطبعة الثانية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1390 ه- 1970 م، تحقيق محمد إسماعيل عبدالله الصاوي، و مطبعة دار الكتب، مصر، 1960 م.
207. معاني القرآن الكريم، لأبي جعفر النّحّاس، الطبعة الأولى، جامعة أم القرى، المملكة العربيّة السعودية، 1409 ه.
208. المعجم الأوسط، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، دار الحرمين للطباعة و النشر و التوزيع، 1415 ه- 1995 م.
209. معجم البلدان، لشهاب الدين أبي عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي الرومي البغدادي، دار صادر، بيروت، 1388 و دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399 ه- 1979 م، و ط دار الكتب العلمية.
210. المعجم الكبير، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، مطبعة الأمة، بغداد، و نشر مكتبة ابن تيمية، و الطبعة الثانية، دار إحياء التراث العربي.
211. معجم ما استعجم من أسماء البلاد و المواضع، لأبي عبيد الأندلسي، الطبعة الثالثة، عالم الكتب، بيروت، 1403 ه- 1983 م.
212. معرفة الصحابة، لأبي نعيم أحمد بن عبدالله الإصبهاني، مخطوط في مكتبة طوب قپوسراي، رقم 496.
312.
ص: 413
214. معرفة علوم الحديث، للحاكم أبي عبدالله محمد بن عبدالله الحافظ النيسابوري، دار الآفاق الحديث، بيروت، 1400 ه- 1980 م، و ط المدينة المنورة، 1397.
215. المغازي، لمحمد بن عمر الواقدي، انتشارات إسماعيليان، طهران.
216. المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، للدكتور جواد علي، دار العلم للملايين، بيروت، 1976 م، و مكتبة النهضة، بغداد.
217. مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الإصبهاني، الطبعة الثانية، أفست عن الطبعة المصرية الأولى في القاهرة، 1368 ه- 1949 م، و مؤسسة إسماعيليان، طهران، 1970، و منشورات مكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385 ه.
218. مقتل الحسين (ع)، للخوارزمي، النجف الأشرف، و مكتبة المفيد، قم.
219. مقتل الحسين (ع)، للسيد عبدالرزاق المقرّم، ط الآداب، النجف الأشرف، 1372 ه.
220. مكاتيب الرّسول، للشيخ علي الأحمدي الميانجي، نشر مصطفوي، 1379 ه، و المطبعة العلمية، قم، و دار الحديث، 1998 م.
221. المناقب، للموفق بن أحمد البكري الخوارزمي، الطبعة الثانية، مؤسسة النشر الإسلامي، 1411 ه، و ط تبريز، و ط النجف.
222. مناقب الإمام علي (ع)، لأبي الحسن علي بن محمد بن المغازلي الشافعي، المكتبة الإسلامية، طهران، 1394 ه.
322.
ص: 414
224. مناقب آل أبي طالب، لمشيرالدين إبي عبدالله محمد بن علي بن شهر آشوب، ط المصطفوي، المطبعة العلميّة، قم، و ط دار الأضواء، بيروت، و ط المكتبة الحيدريّة، النجف، 1376 ه- 1956، و طبعة حجريّة.
225. منتخب كنز العمال، مطبوع بهامش مسند أحمد، 1313 ه.
226. المهذّب، للقاضي عبدالعزيز بن البرّاج الطرابلسي، مطبوع ضمن الينابيع الفقهيّة، قم، 1406 ه، و مؤسسة النشر الإسلامي، 1406 ه.
227. المواهب اللدنّيّه بالمنح المحمدية، لشهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني الشافعي، دار الكتب العلمية.
228. موسوعة التاريخ الإسلامي، للشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي، الطبعة الأولى، مجمع الفكر الإسلامي، 1417 ه.
229. الميزان في تفسير القرآن، للسيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي، بيروت- إيران، 1394 هو ط مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
230. النّبوّة، للشيخ محمد حسن آل ياسين، دارمكتبة الحياة، بيروت، 1392 ه.
231. نزل الأبرار، للحافظ محمد البدخشاني الحارثي، مطابع نقش جهان، طهران، 1403 ه.
232. نسب قريش، لمصعب الزّبيري، دار المعارف، مصر.
233. النص و الإجتهاد، للسيد عبدالحسين شرف الدّين الموسوي، الطبعة الأولى، مطبعة سيدالشهداء، قم 1404 ه، و ط كربلا، 1386 ه.
234. النصايح الكافية لمن يتولّى معاوية، للسيد محمد بن عقيل العلوي، معطبة النجاح، بغداد، و دارالثقافة، قم، 1412 ه.
532.
ص: 415
236. نهاية الإرب في فنون الأدب، لأحمد بن عبدالوهاب النويري، الهيئة المصرية العمة للكتاب.
237. النهاية في غريب الحديث و الأثر، لابن الأثير، الطبعة الرابعة، مؤسسة إسماعيليان، قم، 1364 ه. ش.
238. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي (شرح الشيخ محمد عبده)، دار الإستقامة.
239. نهج الحقّ و كشف الصدق، للعلامة الحلي، مطبوع مع دلائل الصدق، مؤسسة الطباعة و النشر، دار الهجرة، قم، 1421 ه، و مطبعة الصدر، 1407 ه.
240. نور الأبصار، للسيد مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي، المطبعة اليوسفية، نشر مكتبة الجمهورية، مصر.
241. نور الثقلين (تفسير)، للشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، مؤسسة إسماعيليان، قم 1412 ه، و مطبعة الحكمة، قم.
242. نور القبس، ليوسف بن أحمد اليغموري، ط سنة 1384 ه.
243. وسائل الشيعة، للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي، آل البيت لإحياء التراث، قم، 1414 ه، و الإسلامية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403 ه، و طبعة حجرية.
244. وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، لنورالدين علي بن أحمد السمهودي، ط بيروت، 1393 ه.
542.
ص: 416
246. وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان، لأحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلّكان، دار صادر، بيروت، 1398، و طبعة قديمة سنة 1310 هو نشر دار الثقافة، بيروت، تحقيق إحسان عباس.
247. وقعة صفين، لنصر بن مزاحم المنقري، ط سنة 1382 ه.
248. الولاية، لأبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي.
249. ينابيع المودة، للقندوزي الحنفي، ط اسلامبول، تركيا، 1301 ه، و ط بمبئي، و ط دار الأسوة.(1)