منهج ابن تيميه في التوحيد: قراءه نقديه مقارنه

اشارة

سرشناسه : دوخي، يحيي عبدالحسن

عنوان و نام پديدآور : منهج ابن تيميه في التوحيد: قراءه نقديه مقارنه/ تاليف يحيي عبدالحسن الحوخي.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1390.

مشخصات ظاهري : 371 ص.

شابك : 978-964-540-355-1

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه: ص. [257] - 271؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع : ابن تيميه، احمدبن عبدالحليم، 728-661ق. -- نظريه درباره توحيد

موضوع : ابن تيميه، احمدبن عبدالحليم، 661 - 728ق. -- نقد و تفسير

موضوع : توحيد -- نظر وهابيه

موضوع : توحيد

موضوع : وهابيه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع : شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها

رده بندي كنگره : BP201/65 /الف17 د9 1390

رده بندي ديويي : 297/6924

شماره كتابشناسي ملي : 2625927

ص:1

الإهداء

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

إلى روّاد الحقيقة وطلاّبها أهدي هذا الجهد المتواضع. . سائلاً المولى العلي القدير الرضا والقبول. . .

ص:6

ص:7

مقدمة المركز

اشارة

لم يخل تأريخ الفكر الإسلامي في أيّ مرحلة من مراحله من التذبذبات والتغييرات والتنوّع في التصوّر والنظريات، ولعلّ هذا الاختلاف في الآراء والتباين في النظريات هو الذي أفرز كل تلك المذاهب بما تحتويه من دوافع مختلفة وتشتمل عليه من مبادئ متغايرة، وفضّلت استخدام التعصّب بدلاً من إثبات آرائها وتثبيت نظرياتها ورجّحت تكفير المقابل واتهامه بالشرك بدلاً من الخوض معه في جدال علمي مستنير. بل وقد عمدت بعض تلك الفرق إلى التصفية الجسدية لبعض معارضيها، ولا شك في أنّ فرقة الخوارج كانت أوضح نموذج نقله لنا التأريخ الإسلامي في هذا المجال.

أمّا في التأريخ الحديث فليس هناك من فرقة ضالة تشبه في تصرفاتها الفرقة الوهابية من حيث امتلاكها للشذوذ الفكري والتطرّف في الأسلوب والمنهج سيّما وأنها تعتبر نفسها سائرة على خطى رجل نكرة يُدعى بابن تيمية الحراني (المتوفّى سنة 727ه. ق) ، وابن تيمية هذا هو نفسه من تجرأ بالقول أنّ طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء وخاصة الرسول الأكرم (ص) يُعَدّ

ص:8

شركاً، والتوسّل بهم والاستغاثة بمنزلتهم ومقامهم كفراً، وزيارة قبورهم بدعة وحراماً.

ومن هنا تتّضح لنا أهمية التعرّف على جذور ذلك الرجل وآراءه التي ملأت جماجم أتباعه الخاوية، وهو ما انبرى إلى القيام به الأستاذ هاشم يحيى الدوخي، متوخياً سبر أغوار أفكار ابن تيمية والتدقيق في معتقداته ومنهجيته.

ولا يسع مركز أبحاث الحج سوى تقديم الشكر إلى الأستاذ الدوخي راجياً من الله سبحانه أن يجعل بحثه هذا مناراً يهتدي به طلاّب الحقيقة، ويستنير بنوره كلّ من يتحرّى عن الحقّ.

إنه ولي التوفيق

مركز أبحاث الحج

قسم الكلام والمعارف

ص:9

المقدّمة

اشارة

ص:10

ص:11

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيبين الطاهرين؛ وبعد. .

لا يسايرنا الشك أنّ أعظم المقاصد وأجلّ العلوم هي معرفة التوحيد، والمعرفة الصحيحة نافذتها وبوّابتها الحقيقية هي معرفة الأسماء والصفات، وهذا العلم يؤدّي بنا بالنتيجة إلى عبادته تعالى، وهي الغاية الأسمى بل هي غاية الغايات (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56) . إذن فهناك مقدّمات لإحراز الوصول إلى تلك النتيجة.

ومعلوم بالفطرة والوجدان أنّ عبادته هي من أعظم الواجبات وآكدها، ومن هنا تبرز أهمية فقه أسماء الله تعالى وصفاته، لذا نجد في كلمات أميرالمؤمنين (ع) :

«أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير

ص:12

الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه. .»(1)

وهنا أشار سيّد الموحّدين إلى المعرفة بهذا الدين والتصديق به من خلال التوحيد، والتوحيد نعرفه من خلال صفاته، بلا تشبيه وتمثيل، فلازم القرن بغيره هو التثنية والتثنية حقيقتها أنّك تجزّئه، ومن لوازم التجزئة الجهل به، ومن لوازم الإشارة إليه أنّك تحدّه، والحدّ هو أنّك تعدّه، وبذلك تخرجه من حقيقة الأحدية إلى العددية، وكلّها لوازم باطلة.

قال ابن القيم الجوزية:

لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان حتّى يؤمن بصفات الرّب جلّ جلاله، ويعرفها معرفةً تخرج عن حدّ الجهل بربّه، فالإيمان بالصفات وتعرّفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان(2)

وقال أبوالقاسم الأصفهاني:

قال بعض العلماء: أوّل فرض فرضه الله على خلقه معرفته، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (محمد: 18) فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها؛ فيعظّموا الله حقّ عظمته، ولو أراد رجل أن يعامل رجلاً طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجدّه، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا، ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه، أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها. .(3).


1- نهج البلاغه، ج 1، ص 14.
2- مدارج السالكين، ج 3، ص347.
3- الحجّة في بيان المحجّة، ج1، صص 132 و 133.

ص:13

إذن أساس الإسلام مبنيّ على معرفته ومعرفة صفاته وأسمائه والإيمان بها، وهذه المعرفة تخرجه عن حدّ الجهل بربّه، على حدّ تعبير ابن القيم.

بعد هذه المقدّمة كيف يحقّ لقائل(1)أن ينسب إلى الإمام مالك بقوله إنّ: «الإستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة»(2). فالسؤال عنه بدعة فكيف نعرفه؟ ! وكيف نخرج عن حدّ الجهل به؟ ! وقد تقدّم ما أشار اليه الأصفهاني:

لو أراد رجل أن يعامل رجلاً طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجدّه، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله. . . أولى أن نعرفه. ثمّ كيف نعبد ربّاً نجهل صفاته الموصلة إلى عبادته.

لذا قال الإمام البيهقي:

وحقيقة المعرفة أن نعرفه موجوداً قديماً، لم يزل ولا يفنى، لا يتصوّر في الوهم ولا يتبعّض ولا يتجزّأ، ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، قائماً بنفسه مستغنياً عن غيره، حيّاً قادراً عالماً مريداً سميعاً بصيراً متكلّماً، له الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، لم يزل ولا يزال هو بهذه الصفات، ولا يشبه شيء منها شيئاً من صفات المصنوعات، ولا يقال فيها: إنّها هو ولا غيره ولا هي هو وغيره، ولا يقال: إنّها تفارقه أو تجاوزه أو تخالفه أو توافقه أو تحلّه، بل هي نعوت له أزلية ليست بأعراض ولا بأغيار ولاحالة في أعضاء غير مكيّفة بالتصوّر في الأذهان ولا مقدورة بالتمثيل في


1- نقصد ابن تيمية ومن سار بركبه وقلّده.
2- الصفدية، ج 1، ص 289. وسيأتي تحقيق هذه الرواية بنوع من التفصيل، فالإمام مالك لم يقل هكذا بل قال: «والكيف منه غير معقول» سير أعلام النبلاء، ج 8، ص 106. والمراد بالكيف غير المعقول أو في بعض الروايات والكيف عنه مرفوع أي: أنّ شبهة التجسيم غير معقولة ومرفوعة عنه جلّ وعلا.

ص:14

الأوهام، فقدرته تعمّ المقدورات، وعلمه يعمّ المعلومات، وإرادته تعمّ المرادات، لا يكون إلاّ ما يريد ولا يريد ما لا يكون، وهو المتعالي عن الحدود والجهات والأقطار والغايات المستغني عن الأماكن والأزمان(1)

فالمنهج الرباني قائم على التنزيه المطلق لوحدانية الله جلّ وعلا، فلا تدركه الأبصار وهو يدركها، وليس كمثله شيء؛ لأنّه قديم ومن صفة القديم أنّه واحد أحد صمد؛ فالتوحيد هو أن لا نتوهّمه، والعدل أن لانتّهمه، فلا تناله الأوهام فتقدّره، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره، ولا تدركه الحواس فتحسّه، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه. فيجب أن لانتوهّمه ولا نتّهمه بفوقية أو تحتية أو نزول أو صعود أو جهة أو مكان أو. . .

فالتوحيد الخالص والوحدانية المطلقة تقتضي عدم التأثّر بالفهم البشري الحسي والمادي، وأن يخرج هذا الفهم عن دائرة القياس والأُنس بذاتيات الأشياء التي يميل إليها الإنسان بطبعه وجبلّته.

وتأسيساً على ما تقدّم جاء هذا الكتاب لبيان أنّ هناك منهجاً قد تأثّر بالمفهوم الحسي في تعامله مع النص القرآني والحديثي وعدم الفهم الحقيقي لمعاني الصفات التي تناولها ذلك النص - ألا وهو منهج ابن تيمية- ونعتقد أنّ ما وصل إليه من هذه النتائج المعكوسة لفهم التوحيد، هي نتاج ما آمن به من مقدّمات غير صحيحة؛ وكذلك ما فهمه من تقسيمات للتوحيد؛ كتوحيد الربوبية والأُلوهية والصفاتية، وما انفرد به من عقائد؛ كقيام الحوادث بذاته تعالى، وصدور الحوادث عن الله لا أوّل لها و. . وشبهات وقع فيها؛ كإنكاره للمجاز والتأويل، وغير ذلك كما سيأتي في مطاوي هذا البحث.


1- اُنظر، شعب الإيمان، ج 1، ص 113.

ص:15

أهمية البحث

تكمن أهمية البحث بما يلي:

1- كيفية فهم ابن تيمية وتعامله وتفسيره للآيات والروايات، مما أوقعه في شبهات لايكاد يخرج منها، لا سيما في مفردة التجسيم، وذلك من خلال قراءتُنا لبعض النصوص التي خالف فيها مجموعة كبيرة من المسلمين، ونقد تلك النصوص.

2- بيان الخطأ في مفهوم التوحيد، بحيث لا يمكن فرضية التجزّء والانشطار إلى ثلاثية أو ثنائية، وإبطال ماتفرّد به من عقائد تؤدّي بالنتيجة إلى التشبية والتمثيل.

3- بيان آراء فقهاء وعلماء أهل السنّة التي تخالف نظرية ابن تيمية في التوحيد، بل وتردّ ما تقوّله من مسائل لفهم التوحيد.

4 - إبطال ما توهّمه من شبهة عدم إمكان فرضية تأويل النصوص، فلا يوجد من قال بالمجاز في اللغة، فاللفظ مقصور على الحقيقة فقط، فلا الصحابة ولا أئمة المذاهب الأربعة قرّروا ذلك، بل هو قول جاء في القرون المتأخّرة. وبذلك يمكن طروّ التجسيم أو التشبيه على الذات الإلهية بشكل طبيعي وفقاً لهذه الرؤية، وكذلك إبطال ما اتّهم به رواة الشيعة من شبهة التجسيم.

5- بيان نظرية المفكر الإسلامي محمّدباقر الصدر (رحمه الله) في التأويل: وهو أنّ التأويل تفسير للمعنى لا تفسير لمدلول اللفظ، أو كما يعبّر عنه مايؤول إليه اللفظ في الخارج، ويترتب على ذلك أنّه لا يمكن أن نتمسّك بالظاهر فلابدّ من تأويل الآيات المتشابهة.

ص:16

6- بيان العقيدة والرؤية الصحيحة التي اعتمدتها المدرسة الشيعية في فهم التوحيد، كبحث مقارن، وذلك من خلال نقلنا للنصوص المرويّة عن الثقل الثاني، الذي لا ينفك عن القرآن، وآراء علماء هذه المدرسة والتي تخلو من شبهة التجسيم.

7- وأخيراً خطابنا الذي نريد أن نوصله لأتباع ابن تيمية، أن تكون نظرتهم إلى الطوائف الأخرى من المسلمين منصفة ومتعقّلة، وأن يتثبّتوا في رميهم لهذه المذاهب بالشرك والكفر، لاسيما مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، فهذه المسألة هي من أخطر المسائل، فيجب التروّي والتثبّت فيها، ولابدّ أن ينظروا ويتأمّلوا كثيراً في أدلتهم وأقوال علمائهم التي تخالف تلك المفاهيم التي ورثوها عن ابن تيمية، فالحقّ لا يعرف بالرجال.

هدفنا ومنهجنا في البحث

إنّ التوحيد هو الركيزة الأساسية لفهم الدين والشريعة، وقد وقع خلاف كبير في هذه العقيدة، فالفكر التيمي ومن يعتنقه ويتّبعه يرى أن الفهم الصحيح للتوحيد هو ما قرّره ابن تيمية نظريةً وتطبيقاً، وأمّا بقية طوائف المسلمين فأخطأوا في كليهما معاً سواء في النظرية أم في التطبيق، حيث لم يطبّق التوحيد بما يلائم مقاصد الدين والشريعة، مما جعل أرباب هذا الفكر يكفّرون ويبدّعون المذاهب الإسلامية، بحجّة أنّ توحيدهم غير كامل ولا يتلاءم مع مبادئ وأفكار ومنهج ابن تيمية، فصار هذا المنهج هو المعيار في تكفير المسلمين وإلغاء الآخر ورفضه رفضاً مطلقاً لدرجة استحلال دمه، مما آل إلى تبعات على العالم الإسلامي برمّته، بحيث رمي الإسلام بشتّى التهم، منها: الإرهاب والتطرّف والغلو و. . .

ص:17

الإسلام روحه التسامح والعفو وعدم تكفير الآخر

مع أنّ ثقافة التكفير بعيدة كلّ البعد عن منهج وروح الإسلام ومبادئه وقيمه السامية، فشريعتنا الغرّاء والسلف الصالح شدّدوا النكير على هذه الظاهرة أو هذه الثقافة الهجينة والغريبة عن الجسد الإسلامي؛ وللأسف نجد اليوم من يطلق صفة الكفر - كما تقدّم - تصريحاً أو تلميحاً، بلا تأمّل في الأدلة أومراجعة القوانين والتشريعات الاسلامية؛ كلّ ما فهمه هو تقليده الأعمى لمنهج يسوده الجهل وعدم الفهم للنصوص. مع أنّ إسلامنا هو دين التسامح والوسطية والاعتدال، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقره: 143) وقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) . (آل عمران: 110) وقد أكّدت وركّزت السنّة الشريفة بما لا يدع مجالاً للشك بعدم تكفير المسلمين مطلقاً، وهذه صحاح المسلمين ومسانيدهم دعمت ورسّخت هذه الحقيقة.

فقد روى الإمام البخاري في صحيحه، عن عبدالله بن عمر: «أنّ رسول الله (ص) قال: أيما رجل قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما»(1)

وكذلك الإمام مسلم في صحيحه، عن ابن عمر: «أنّ رسول الله (ص) قال: إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما» (2).

فالإسلام ينأى عن رمي الآخرين بصفة الكفر، بل من قالها تعود على القائل نفسه، بل أكثر من ذلك فمن قذف أخيه المسلم بكفر فهو كقاتله.


1- صحيح البخاري، ج7، ص 97.
2- صحيح مسلم، ج1، ص 57.

ص:18

روى البخاري والترمذي في سننه، عن ثابت بن الضحاك: «ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله (أو) كقاتله»(1)

بل وأكثر من ذلك أيضاً يجب أن لا نحاسب الناس على بواطنهم ونواياهم، فمن قال: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله (ص) يجب أن يصان دمه وعرضه وماله، فلا يجب التنقيب عن القلوب وما يدور في خلجاتها.

فقد روى البخاري في حادثة ذي الخويصرة عندما خاطب رسول الله (ص) بقوله:

اعدل، فهنا انتفض الصحابة ومنهم خالد بن الوليد، فقال:

يا رسول الله ألا أضرب عنقه، قال: لا، لعلّه أن يكون يصلّي. فقال خالد: وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ ! قال رسول الله (ص) : «إنّي لم أؤمر أن أنقّب قلوب الناس ولا أشقّ بطونهم» (2)

وفي قول آخر له (ص) :

«أفلا شققت عن قلبه حتّى تعلم من أجل ذلك أم لا؟ من لك بلا إله إلاّ الله يوم القيامة؟ . .» (3)

من هنا جاءت أقوال العلماء راسخة القدم في نبذ هذه الثقافة وضربها عرض الجدار، راسمةً بذلك منهجاً مغايراً لما ورثوه من أفكار بالية عفا عليها الزمن.

قال القاضي الإيجي:

«جمهور المتكلّمين والفقهاء على أنّه لا يكفّر أحد من أهل القبلة» (4)


1- صحيح البخاري، ج7، ص 84؛ سنن الترمذي، ج 4، ص 132.
2- صحيح البخاري، ج5، ص 111؛ سنن الترمذي، ج 4، ص 132.
3- سنن أبي داود، ج3، ص 45.
4- المواقف، ج3، ص560.

ص:19

وقال النووي:

«إنّه لا يكفّر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفّر أهل الأهواء والبدع» (1) . فأهل الأهواء والبدع لا يجب تكفيرهم فضلاً عن غيرهم.

وقال الإمام الغزالي:

والذي ينبغي أن يميل المحصّل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإنّ استباحة الدماء والأموال من المصلّين إلى القبلة المصرّحين بقول (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم(2)

فقد يكون هذا الإنسان مخطئاً فلا يجب أن تسفك ويستباح دمه.

وللإمام تقي الدين السبكي فتوى تدين التكفير حينما سئل: ما يقول سيّدنا ومولانا شيخ الإسلام في تكفير أهل الأهواء والبدع؛ قال:

إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جدّاً، وكلّ من في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع، مع قولهم (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله) فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر(3)

وهنا استخدم الشيخ تقي الدين السبكي لفظ (المؤمنين) وهو يعلم أنّ مصبّ الفتوى حول أهل الأهواء والبدع.

ويقول الإمام محمّد عبده:

إنّه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر، فهل رأيت


1- شرح صحيح مسلم، ج 1، ص150.
2- الاقتصاد في الإعتقاد، ج1، ص 270.
3- اليواقيت والجواهر، ج2، ص 125.

ص:20

تسامحاً أوسع من هذا؟ !(1)

ما أروع هذا القول وهذه الكلمة فهي بحق تستحق التأمّل والتفكّر والوقوف على مضامينها، فلو صدر لفظ الكفر من أيّ كان، وهذا القول نحتمل فيه التكفير من مائة وجه، وقد شككنا في وجه واحد في معنى الإيمان، فهنا نجري أصالة استصحاب إيمان المؤمن؛ لأنّ كلمة الشهادتين هي العاصمة له.

لذا رأيت من الواجب أن نبحث مسألة التوحيد في فكر ابن تيمية ونناقشه بموضوعية، ونستعرض ما اعتقده بحيادية ومن دون تعصّب، وننقل أدلته من أهم كتبه المشهورة، ثمّ ننقد هذه العقيدة من نفس مباني أهل السنّة في علم العقيدة والحديث، وننقل آراء كبار علمائهم التي تغاير هذا الفكر، ونؤيّده بما ورد من علمائنا وفي كتبنا، لتكون الحجّة دامغة ونافعة، وقد اتّبعت أسلوب الترجمة لمن ردّ عليه، فقد ترجمت لمعظم هؤلاء العلماء؛ للتعريف بهم أوّلاً، ولبيان وزنهم وثقلهم العلمي في المدرسة السنّية، فأقوالهم محل ثقة ولا يمكن الشك فيها. وكذلك ندفع بعض الشبهات التي اتّهمنا بها في مسألة التجسيم.

وأخيراً قارنت بين النظرتين التوحيديتين لكلا المدرستين؛ لذا جاء هذا البحث بصيغة (منهج ابن تيمية في التوحيد - قراءة نقدية مقارنة) ونقصد من القراءة أنّنا لم نتعمّق في دراسة كلّ أفكار ابن تيمية، بل اقتصرنا على المهم منها، وذلك بقراءتنا لبعض النصوص التي جسّمت ومثّلت وشبّهت الخالق بالمخلوق، ومن ثمّ نقدها ومقارنتها مع المنظومة الفكرية الشيعية.


1- الإسلام والنصرانية، ص 55.

ص:21

وللأسف فإنّي لم أجد في كتبنا من طَرح هذا البحث بصورة مستقلة ومنفردة(1)1، حول منهجية وفكر ابن تيمية، لاسيما في التوحيد - وأركّز على التوحيد - لأنّنا لايمكن أن نتغاضى عن هذه المفردة، فعروض التجسيم على الذات الإلهية تفقد التوحيد قيمته، فمتى ما صحّحنا توحيدنا ونقيّناه من لوازم وشوائب التمثيل والتشبيه، حقّ لنا أن نناقش في المسائل المختلف فيها (كالتوسل والشفاعة وزيارة القبور وغيرها) .

أضف إلى ذلك أنّ هذا الفكر قد رمى الآخرين بالشرك والكفر، فلا يمكن أن يسمع رأي الآخر ما لم نناقشه في هذا الأصل، وأن نبيّن لهم الخطأ الكبير والتناقض الذي وقع فيه ابن تيمية في فهمه للتوحيد، لاسيما مما قرّرته تلك المذاهب المخالفة لفكر ابن تيمية.

وسيرى قارئنا العزيز في طيّات هذا البحث أين يكمن موضع الزلل، وأين تقع نقاط الضعف في هذه المسألة المهمّة والمحورية.

خطّة البحث

يقع بحثنا في أربعة أبواب:

الباب الأوّل: بحوث تمهيدية؛

وينقسم إلى فصلين:

الأوّل: لمحات من حياة ابن تيمية.

الثاني: فكر ابن تيمية التوحيدي وانعكاسه على الفكر السلفي.

الباب الثاني: أقسام التوحيد في نظر ابن تيمية وما انفرد به من عقائد؛


1- وردت بحوث عرضية في ثنايا بحوث التوحيد، ولكن لم تخصص لمنهج التوحيد عند ابن تيمية الذي يمثّل المدرسة السلفية.

ص:22

وينقسم إلى ثلاثة فصول:

الأوّل: توحيد الألوهية والربوبية.

الثاني: توحيد الأسماء والصفات.

الثالث: عقائد ابن تيمية التي انفرد بها.

الباب الثالث: شبهات ابن تيمية في إنكاره للمجاز والتأويل، ورمي رواة الشيعة بالتجسيم؛

وينقسم إلى ثلاثة فصول:

الأوّل: شبهة إنكاره للمجاز والتأويل.

الثاني: شبهة تجسيم هشام بن الحكم.

الثالث: شبهة تجسيم هشام بن سالم.

الباب الرابع: التوحيد في المنظومة الفكرية الشيعية؛

وينقسم إلى ثلاثة فصول:

الأوّل: نظرة موجزة حول التصوّر الإسلامي للصفات.

الثاني: أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يقرّرون التوحيد الإلهي الصحيح.

الثالث: علماء الشيعة ونظرتهم إلى التوحيد.

ص:23

الباب الأوّل: بحوث تمهيدية

اشارة

ص:24

ص:25

الفصل الأوّل: لمحات من حياة ابن تيمية

اشارة

ص:26

ص:27

تمهيد

اشارة

قبل الشروع في عرض أفكار ابن تيمية في مسائل التوحيد، من المهم إعطاء تصوّر مختصر حول حياته، والأدوار التي مرَّ بها في تلك الفترة والتي نعتقد أنّها أثّرت بشكل كبير في صياغة مبتنياته الفكرية كردّ فعل لما ألمَّ به من أدوار عصفت به، فالمطالع لحياة هذا الرجل يجد أنّ هناك اضطراباً واضحاً فيمن ترجم له، بين محبّ غال له، وبين ذامّ بل ومكفّر له، وتكفينا عبارة الإمام الذهبي - تلميذه المُقرّب إليه - التي صنّفت الناس فيه إلى خمسة طوائف، قال:

وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحطّ عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب. . . عند خلائق من الناس، ودجّالاً أفّاكاً كافراً عند أعدائه، ومبتدعاً فاضلاً محققاً بارعاً عند طوائف. . . ، وحامل راية الإسلام وحامي حوزة الدين ومحيي السنّة عند عوام أصحابه(1)

لذا نرى أن نقف على ترجمة لشخصية هذا الرجل، وما مرَّ به من أدوا


1- زغل العلم، صص 42 و 43

ص:28

من حياته، وما حملته في طيّاتها من بصمات على فكره، وذلك من خلال أقواله ومناظراته التي رأى من عاصره أنّها تشبيه وتمثيل للذات الإلهية؛ أو ما أنكره من مسلّمات في الفكر السنّي كزيارة النبي (ص) والشفاعة وغير ذلك، وما ورد من أخطاء لا تغتفر في حقّ النبي وعترته الطاهرة (عليهم السلام) ، وكذلك ننقل أقوال العلماء الذين استهجنوا فتاواه وردّوها؛ فنقل هذه الأقوال له مدخلية في صدق ما نكتبه، وأيضاً إفهام الآخرين أنّ السواد الأعظم من علماء أهل السنّة لا يقبلوا هذه الأفكار التي مآلها إلى التجسيم.

ترجمة حياة ابن تيمية

ابن تيمية: هو أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن محمّد بن الخضر بن علي بن عبدالله بن تيمية الحراني ثمّ الدمشقي. ولد بحران سنة (661ه) ولما بلغ سبع سنوات من عمره انتقل مع والده إلى دمشق، هرباً من التتار. وتوفي ليلة الاثنين لعشرين من شهر ذي القعدة سنة728ه.

سبب التسمية بلقب (ابن تيمية)

قد ذكر لهذا اللقب أو هذا الاسم أمرين:

الأوّل: نسبةً إلى جارية أو طفلة تشبهه.

وهذا ما نُقل عن جدّه فخرالدين محمّد بن الخضر بن تيمية الحنبلي عندما سئل عن اسم تيمية ما معناه فقال:

حجّ أبي أو جدّي وكانت امرأته حاملاً، فلمّا كان بتيماء رأى جويرية قد خرجت من خباء، فلمّا رجع إلى حران وجد امرأته قد وضعت جارية، فلمّا

ص:29

رفعوها إليه قال: ياتيمية يا تيمية، يعني أنّها تشبه التي رآها بتيماء فسمّي بها (1).

الثاني: نسبةً إلى أمّه تيمية.

وهذا ما نقله الذهبي عن ابن النجار، قال:

ذكر لنا أنّ جدّه محمّداً، كانت أمّه تسمّى تيمية، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعرف بها (2).

وتيماء بفتح التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الميم وبعدها همزة ممدودة وهي: بليدة في بادية تبوك إذا خرج الإنسان من خيبر إليها تكون على منتصف طريق الشام، وتيمية منسوبة إلى هذه البليدة، وكان ينبغي أن تكون تيماوية؛ لأنّ النسبة إلى تيماء تيماوي لكنه هكذا قال واشتهر (3)

لمحات من حدّته وتشنّجه في الحوار

تتميّز شخصيته بحدّة المزاج وخشونة ألفاظه لمجرد المخالفة معه في الرأي أو العقيدة فينبز الآخرين بأشدّ وأقسى العبارات، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما نقله تلميذه الصفدي والسبكي والذهبي وغيرهم. .

قال الصفدي:

سمعته يقول عن نجم الدين الكاتبي المعروف بدَبيران بفتح الدال المهملة وكسر الباء الموحدة وهو الكاتبي صاحب التواليف البديعة في


1- وفيات الأعيان، ج 4، ص 388؛ تاريخ الإسلام، ج 45، ص 134.
2- تاريخ الإسلام، ج 45، ص 134.
3- وفيات الأعيان، ج 4، ص 388.

ص:30

المنطق، فإذا ذكره لا يقول إلاّ دُبيران بضم الدال وفتح الباء(1) ويقول: ابن المنجس يريد ابن المطهر الحلّي(2)

وقال أيضاً:

وأرى أنّ مادته كانت من كلام ابن حزم حتّى شناعه على من خالفه، وكان مغرى بسبّ ابن عربي محيي الدين والعفيف التلمساني وابن سبعين وغيرهم من الذين ينخرطون في سلكهم، وربما صرّح بسبّ الغزالي، وقال: هو قلاووز الفلاسفة (3).

وقال اليافعي:

وله مسائل غريبة أنكر عليه فيها، وحبس بسببها مباينة لمذهب أهل السنّة، ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النبي، وطعنه في مشائخ الصوفية العارفين كحجّة الإسلام أبي حامد الغزالي والأستاذ الإمام أبي القاسم القشيري والشيخ ابن العريف والشيخ أبي الحسن الشاذلي وخلائق من أولياءالله الكبار الصفوة الأخيار(4)

وقال الإمام السبكي في طبقات الشافعية:

ويعجبني من كلام الشيخ كمال الدين بن الزملكاني في ردّه على ابن تيمية قوله: إن كانت الأشاعرة الذين فيهم القاضي أبوبكر الباقلاني والأستاذ أبوإسحاق الإسفرايني وإمام الحرمين والغزالي وهلم جرّاً إلى الإمام فخرالدين مخانيث، فليس بعد الأنبياء والصحابة فحل.


1- دُبَيْرٌ: اسمُ حِمارٍ.
2- الوافي بالوفيات، ج 7، ص 13.
3- المصدر نفسه.
4- مرآة الجنان، ج 4، ص 278.

ص:31

وأقول: إن كان هؤلاء أغماراً والأشعري يخلبهم فليس بعد الأنبياء والصحابة فطن، فيالله والمسلمين(1)

فهنا يسلّط لسانه بسبّه لكبار العلماء بفجاجة غريبة كابن العربي والنابلسي والغزالي والجويني والباقلاني و. .

لذا فقد قيّمه تلميذه الذهبي في كتابه زغل العلم، شارحاً حاله في حبّه للظهور والازدراء بالكبار، ويقصد ما ذكرناه آنفاً من تنقّصه للعلماء وسبّه لهم، قال:

وقد تعبت في وزنه وفتشه حتّى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت أخّره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذّبوه وكفّروه إلاّ الكبرُ والعجب، وفرط الغرام في رئاسة المشيخة، والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور نسأل الله تعالى المسامحة(2)

وغير ذلك الكثير. . ومن تتبع كتبه لا سيما في منهاج السنّة يرى العجائب من هذه الأمور التي يجب الترفّع عنها؛ لأنّ آيات الذكر الحكيم طافحة بالحثّ على أدب الحوار، قال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم (ص) : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159) . وقال (ص) :

«أدّبني ربّي فأحسن تأديبي»(3)

لمحات من أخطائه الفاحشة بحقّ النبي والعترة الطاهرة (عليهم السلام)

لذلك لا نستغرب عندما نجده يستنقص من النبي وعترته الطاهرة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ووددتُ أن أطرح بعض كلماته


1- طبقات الشافعية الكبرى، ج 6، ص 135.
2- زغل العلم، ص 38.
3- كنز العمال، ج 11، ص 406.

ص:32

مختصراً لنقف على حقيقة هذا الرجل وكيف يتعامل مع الذين يمثّلون الثقل الثاني وهم أهل بيت النبي (عليهم السلام) .

كلماته في حقّ الرسول الأكرم (ص)

قال: فلم يبق في إتيان القبر فائدة لهم ولا له، بخلاف إتيان مسجد قباء فإنّهم كانوا يأتونه كلّ سبت فيصلّون فيه اتّباعاً له (ص) ، فإنّ الصلاة فيه كعمرة، ويجمعون بين هذا وبين الصلاة في مسجده يوم الجمعة؛ إذ كان أحد هذين لا يغني عن الآخر بل يحصل بهذا أجر زائد، وكذلك إذا خرج الرجل إلى البقيع وأهل أحد، كما كان يخرج إليهم النبي يدعو لهم كان حسناً؛ لأنّ هذا مصلحة لا مفسدة فيها، وهم لا يدعون لهم في كلّ صلاة حتّى يقال هذا يغني عن هذا (1)

واضح من كلماته أنّ زيارة النبي (ص) ليس فيها فائدة تُرجى فهو يصوّر أنّ النبي مات وانتهى الأمر؛ في حين أنّ الشهداء يبجّلهم القرآن ويحسبهم أحياء عند ربّهم يُرزقون، فما بالك بالنبي الأكرم؟ !

أمّا قوله: هذا مصلحة لا مفسدة فيها، فمفهومه أنّ الخروج لأهل أُحد والدعاء لهم فيه مصلحة بخلاف زيارة النبي فإنّ فيها مفسدة.

وغير ذلك الكثيرمما نسبه بهتاناً وزوراً لساحة النبي الأكرم (ص) .

كلماته في حقّ علي (ع)

ابن تيمية حينما يقارن بين أبي بكر وعمر فيقول: إنّ الصحابة يحبونهم بخلاف علي (ع) فإنّهم يبغضونه ويسبّونه، قال:


1- مجموع الفتاوى، ج 27، ص 416.

ص:33

إنّ الله قد جعل للصحابة مودّة في قلب كلّ مسلم، لاسيما الخلفاء رضي الله عنهم، لا سيما أبوبكر و عمر، فإنّ عامة الصحابة والتابعين كانوا يودّونهما وكانوا خير القرون، ولم يكن كذلك علي فإنّ كثيراً من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبّونه ويقاتلونه (1)

وهذا تنقيص واضح لعلي (ع) فهو يريد أن يعطي صورة عن الصحابة أنّهم يبغضونه ويسبّونه، وبالحقيقة هذا هو رأيه في علي، وهو يعلم يقيناً أنّ بغض علياً نفاق، وحبّه إيمان، قال ابن حجر العسقلاني:

وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أنّ النبي (ص) قال له:

«لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»(2)

وأيضاً إتّهامه لعلي (ع) بآية الإسكار، قال ما نصّه:

وقد أنزل الله تعالى في علي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) (النساء: 43) . لمّا صلّى فقرأ وخلط (3)

وقد علّق الحاكم النيسابوري على من قال في نزولها في علي، قائلاً:

إنّ الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره، وقد برّأه الله منها (4). ووافقه الذهبي على ذلك.

وهنا واضح أنّ ابن تيمية قد وافق الخوارج في هذا الرأي، وأترك للقارئ الكريم الحكم على هذه المسألة.

وأيضاً اتّهم الإمام علي (ع) أنّ ولايته للمسلمين حصل فيها من الفساد ما


1- منهاج السنّة، ج 7، ص 137.
2- فتح الباري، ج 1، ص 60.
3- منهاج السنّة، ج7، ص 237.
4- المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص307.

ص:34

لم يحصل في زمن عثمان، قال في منهاج السنّة:

فإنّ ولاية عثمان كان فيها من المصالح والخيرات مالا يعلمها إلاّ الله، وما حصل فيها من الأمور التي كرهوها كتأمير بعض بني أمية وإعطائهم بعض المال ونحو ذلك، فقد حصل من ولاية من بعده ما هو أعظم من ذلك من الفساد، ولم يحصل فيها من الصلاح ما حصل في إمارة عثمان(1)

وقال أيضاً:

فإن قيل: علي كان مجتهداً في ذلك معتقداً أنّه بالقتال يحصل الطاعة، قيل: فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفوراً مع أنّه أفضى إلى قتل ألوف من المسلمين، بحيث حصل الفساد، ولم يحصل المطلوب من الصلاح أفلا يكون الاجتهاد في قتل واحد لو قتل لحصل به نوع المصلحة من الزجر عن الفواحش اجتهاداً مغفوراً؟ ! مع أنّ ذلك لم يقتله بل همّ به وتركه(2)

واتّهامه له (ع) أيضاً بعدم وجود الأثر الأحسن في مقابل آثار الصحابة، قال:

إنّه لم يكن لعلي في الإسلام أثر حسن إلاّ و لغيره من الصحابة مثله، لبعضهم آثار أعظم من آثاره، وهذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل (3)

لذا قال ابن حجر: «وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً إلى تنقيص علي رضي الله عنه» (4)


1- منهاج السنّة، ج 6، ص 156.
2- المصدر نفسه، ص 48.
3- المصدر نفسه، ج 7، ص 99.
4- لسان الميزان، ج 6، ص 320.

ص:35

كلماته في الزهراء (عليهاالسلام)

فقد أخذت نصيبها من قبح كلماته، حيث شبّه غضب الزهراء على الخليفة أبي بكر بغضب المنافقين، قال:

من المعلوم لكلّ عاقل أنّ المرأة إذا طلبت مالا ًمن ولي أمر فلم يعطها إياه؛ لكونها لاتستحقه عنده وهو لم يأخذه ولم يعطه لأحد من أهله ولاأصدقائه، بل أعطاه لجميع المسلمين. وقيل: إنّ الطالب غضب على الحاكم كان غاية ذلك أنّه غضب لكونه لم يعطه مالاً وقال الحاكم: إنّه لغيرك لالك، فأيّ مدح للطالب في هذا الغضب، لو كان مظلوماً محضاً لم يكن غضبه إلاّ للدنيا، وكيف والتهمة عن الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب الذي يأخذ لنفسه. . والطالب يقول: إنّما أغضب لحظي القليل من المال، أليس من يذكر مثل هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلاً؟ ! أو ليس الله قد ذمّ المنافقين الذين قال فيهم: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58) . . فذكر الله قوماً رضوا إن أعطوا وغضبوا إن لم يعطوا فذمّهم بذلك(1)

خلاصة كلامه: أنّ الزهراء (عليهاالسلام) لا تستحق ما تطالب به من الحاكم (أي: أبي بكر) وهو لم يفرط بهذا المال بل أعطاه للمسلمين، فأيّ مدح للطالب (أي: الزهراء) في هذا الغضب، ولو كانت مظلومة فعلاً - كما يفرض ابن تيمية - لكان غضبها للدنيا؛ لأنّها لا تستحق ما تطالب به، ثمّ يترقّى ليشبهها بالمنافقين فإن أعطوا رضوا وإن لم يعطوا غضبوا.


1- منهاج السنّة، ج 4، صص 244و 245.

ص:36

هذه هي رؤيته لغضب الزهراء الذي ورد في أصح الأسانيد ونقله البخاري في صحيحه، عن أم المؤمنين عائشة «فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) فهجرت أبابكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفيت»(1)

جرأته في حقّ الإمام الصادق (ع)

قال:

وبالجملة فهؤلاء الأئمة الأربعة ليس فيهم من أخذ عن جعفر شيئاً من قواعد الفقه، لكن رووا عنه أحاديث كما رووا عن غيره، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه، وليس بين حديث الزهري و حديثه نسبة لا في القوّة ولافي الكثرة، وقد استراب البخاري في بعض حديثه لمّا بلغه عن يحيى بن سعيد القطان فيه كلام فلم يخرج له(2)

وهنا قد أخفى الحقيقة فإنّ أغلب علماء أهل السنّة قد نهلوا من علم الصادق (ع) .

قال الآلوسي:

وهذا أبوحنيفة رضي الله تعالى عنه، وهو هو بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السَّنَتان لهلك النعمان، يريد السنتين اللتين صحب فيهما لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه(3)

وهذا الذهبي ينقل عن أبي حنيفة قوله:

قال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور الحيرة،


1- صحيح البخاري، ج 4، ص 42.
2- منهاج السنّة، ج 7، ص 532.
3- مختصر التحفة الاثني عشرية، ص 8.

ص:37

بعث إليّ فقال: يا أباحنيفة، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ له من مسائلك الصعاب. فهيّأت له أربعين مسألة. ثمّ أتيت أباجعفر، وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت بهما، دخلني لجعفر من الهيبة ما لا يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت وأذن لي، فجلست. ثمّ التفت إليّ جعفر، فقال: يا أباعبدالله، تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا أبوحنيفة. ثمّ أتبعها: قد أتانا، ثمّ قال: يا أبا حنيفة، هات من مسائلك نسأل أبا عبدالله فابتدأت أسأله. فكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا، وربما تابع أهل المدينة، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة. ثمّ قال أبوحنيفة: أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس» (1). وهنا يعترف أبوحنيفة بأنّ الإمام الصادق (ع) هو الأعلم؛ لأنّه المحيط بجميع المدارس العلمية بخلاف غيره الذي قد يقتصر على رأي واحد فقط.

وورد عن الشافعي قوله: «الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة»(2). وأبوحنيفة ما عنده هو من الإمام الصادق (ع) فبذلك يكونون كلّهم عيال عليه.

توهينه للإمام الرضا (ع)

قال في منهاج السنّة:

الناس يعلمون أنّه كان في زمانه من هو أعلم منه، ومن هو أزهد منه، كالشافعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وأشهب بن عبدالعزيز


1- سير أعلام النبلاء، ج 6، ص 258.
2- تذكرة الحفاظ، ج 2، ص 168.

ص:38

وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء، هذا ولم يأخذ عنه أحد من أهل العلم بالحديث شيئاً، ولا روي له حديث في الكتب الستة(1)

فهنا ابن تيمية تجرّأ على الإمام الرضا (ع) - بوقاحة وسوء أدب - متّهمه بقلّة العلم، فهناك - كما يزعم - من هو أعلم منه (ع) ، بل إنّه لم يأخذ منه أهل العلم شيئاً، ولم يرو عنه البخاري ونظرائه في الكتب الستة.

ولو تتبعنا سيرة الإمام (ع) ومن ترجمه من علماء أهل السنّة كالذهبي لبطُل كلام ابن تيمية، قال الذهبي:

الإمام السيّد، أبوالحسن، علي الرضى بن موسى الكاظم، بن جعفر الصادق، بن محمّد الباقر، بن علي، بن الحسين، الهاشمي العلوي المدني، وكان من العلم والدين والسودد بمكان. يقال: أفتى وهو شاب في أيام مالك. استدعاه المأمون إليه إلى خراسان، وبالغ في إعظامه، وصيّره ولي عهده. . . وقد كان علي الرضى كبير الشأن، أهلاً للخلافة (2)

فهو الإمام وهو السيّد وهو من أوعية العلم وهو أهل للخلافة؛ وهذه الأوصاف لايمكن أن تنطبق على من قاسهم ابن تيمية بالإمام (ع) .

بل نجد أنّ الامام أحمد بن حنبل علّق على سند فيه الإمام علي الرضا (ع) :

«لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنّته»(3) . وهذا فيه دلالة على أنّ الإمام أحمد يعرف من هو هذا الرجل، وأنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً. وكأنّه يستذكر قول أميرالمؤمنين (ع) :

«أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا، أن


1- اُنظر: منهاج السنّة، ج 4، صص 60 - 62.
2- سير أعلام النبلاء، ج 9، صص 387، 388 و 392.
3- نقلاً عن الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، ص 310.

ص:39

رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى. إنّ الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم»(1)

وهذا الإمام ابن خزيمة يطأطأ على أعتاب القبر الشريف معظّماً له ومتضرّعاً بقبره (ع) ؛ بحيث لفت هذا المنظر من كان معه.

ينقل ابن حجر العسقلاني عن أبي بكر بن المؤمل، يقول:

خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشائخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضى بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه يعنى ابن خزيمة لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا(2)

وكذلك الحال مع ابن حبّان، قال:

وقبره (أي: الإمام الرضا) بسناباذ خارج النوقان، مشهور يزار بجنب قبر الرشيد، قد زرته مراراً كثيرة، وما حلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس، فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جدّه وعليه، ودعوت الله إزالتها عنّي إلاّ استجيب لي وزالت عنّي تلك الشدّة، وهذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك. أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم أجمعين(3)

وهذا ينبئك عن جلالة وعظم هذا الإمام علماً ونسباً وسؤدداً وطهارةً و. . وبهذا ننهي بعض ما أورده ابن تيمية من كلمات فيها من الجفاء والقسوة


1- نهج البلاغة، ج 2، ص27.
2- تهذيب التهذيب، ج 7، ص 339.
3- الثقات، ج 8، صص 456 و 457.

ص:40

وعدم العلم ما لا يخفى بحقّ العترة الطاهرة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لننتقل بعد ذلك إلى بعض أدوار من حياته ومحنته التي مرّ بها.

لمحات من محنته
1- محنة سنة (698 ه-) (بسبب الفتوى الحموية)

أمّا محنته التي عاشها بسبب معتقداته، لعل أشهرها هي تلك التي سُئل من قبل أهل حماة، والسؤال هو التالي:

ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات، كقوله تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وقوله: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ) إلى غير ذلك من آيات الصفات و أحاديث الصفات، كقوله: إنّ قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، وقوله: يضع الجبار قدمه في النار. إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه وأبسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى(1)

وقد أجاب عن ذلك بما لا ينفي التجسيم عن الذات الإلهية، واعتمد على إجابته على الصحابة والتابعين السلف الذين لم يسلبوا أو ينفوا هذه الصفات عن الباري جلّ شأنه، قال:

ولم يقل أحد منهم (أي: الصحابة والتابعين والسلف) قط أنّ الله ليس في السماء، ولا أنّه ليس على العرش، ولا أنّه بذاته في كلّ مكان، ولا أنّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنّه لا داخل العالم ولا خارجه، و لا أنّه


1- مجموع الفتاوى، ج 5، ص 5.

ص:41

لامتصل ولا منفصل، ولا أنّه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبدالله أنّ النبي لمّا خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول، جعل يقول: ألا هل بلّغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء ثمّ ينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد. غير مرّة، وأمثال ذلك كثيرة.

فلئن كان الحق ما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنّة من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنّة، إمّا نصاً وإمّا ظاهراً فكيف يجوز على الله تعالى، ثمّ على رسوله، ثمّ على خير الأمّة أنّهم يتكلّمون دائماً بما هو إمّا نص وإمّا ظاهر في خلاف الحق؟ ! ثمّ الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط ولا يدلون عليه لا نصاً ولاظاهراً، حتّى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبيّنون للأمّة العقيدة الصحيحة، التى يجب على كلّ مكلّف أو كلّ فاضل أن يعتقدها.(1)

وقد سببت له هذه الفتوى أن يُعمل له مجلساً ويردّوا هذه الفتوى ويبطلوا العقيدة الحموية، وهذا ما أشار إليه تلميذه الصفدي في حوادث تلك السنة، قال:

قام عليه جماعة من الشافعية وأنكروا عليه كلامه في الصفات، وأخذوا فتياه الحموية وردّوا عليه فيها، وعملوا له مجلساً فدافع الأفرم عنه ولم يبلغهم فيه أرباً، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية(2)


1- مجموع الفتاوى، ج 5، صص 15 و 16.
2- الوافي بالوفيات، ج 7، ص 15.

ص:42

2- محنة سنة (705 ه-) بسبب (قوله: إنّ الله فوق العرش)

في هذه السنة ضُيّق عليه وحبس في الجب بسبب اعتقاده أنّ الله فوق العرش حقيقة، وأنّ الله يتكلّم بحرف وصوت، فجرت بينه وبين علماء عصره مناظرات ومساجلات، ومن هؤلاء العلماء: الشيخ تقي الدين الهندي والشيخ كمال الدين الزملكاني، وقد انتهت هذه بأن ادّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنّه يقول: إنّ الله فوق العرش حقيقة، وأنّ الله يتكلّم بحرف وصوت. . وأقيم مرسوماً عليه، وحبس في برج أياماً، ثمّ نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب.

قال ابن حجر العسقلاني:

فادّعي على ابن تيمية عند المالكي، ولم يجب عن الدعوى فكرر عليه فأصّرَ، فحكم المالكي بحبسه، وحبس في برج، ثمّ بلغ المالكي أنّ الناس يترددون إليه، فقال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل، وإلاّ فقد ثبت كفره، فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب، وعاد القاضي الشافعي إلى ولايته ونودي بدمشق من اعتقد عقيدة ابن تيمية حلّ دمه وماله خصوصاً الحنابلة. وقرىء المرسوم وقرأها ابن الشهاب محمود في الجامع، ثمّ جمعوا الحنابلة من الصالحية وغيرها، وأشهدوا على أنفسهم أنّهم على معتقد الإمام الشافعي(1)

وقال أبوالفداء في كتابه المختصر في أخبار البشر:

وفيها (أي: سنة 705ه-) استدعي تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلى مصر، وعُقد له مجلس، وأمسك وأودع الاعتقال بسبب عقيدته، فإنّه


1- الدرر الكامنة، ج 1، ص 171.

ص:43

كان يقول بالتجسيم. .(1). وهنا نجد تصريحاً واضحاً باتّهامه بالتجسيم.

محاكمة ابن تيمية وصدور المرسوم للسلطان ابن قلاوون(2)

نقل الحصني الدمشقي نسخة المرسوم للشريف السلطاني، ناصرالدنيا والدين محمّد بن قلاوون وقُرئ على منبر جامع دمشق، نهار الجمعة سنة (705 ه-) وصورته - أنقله مقتصراً على المهم منه - كالتالي:

الحمد لله الذي تنزّه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المثل، فقال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، نحمده على ما ألهمنا من العمل بالسنّة والكتاب، . . وبعد:

فإنّ القواعد الشرعية، وقواعد الإسلام المرعية، وأركان الإيمان العلمية، ومذاهب الدين المرضية، هي الأساس الذي يبنى عليه، والموئل الذي يرجع كلّ أحد إليه. . وكان ابن تيمية في هذه المدّة قد بسط لسان قلمه، ومدَّ بجهله عنان كلمه، وتحدّث بمسائل الذات والصفات، ونصّ في كلامه الفاسد على أمور منكرات، وتكلّم فيما سَكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما اجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكّام، وشهر من فتاويه ما استخف به عقول العوام، وخالف في ذلك فقهاء عصره، وأعلام علماء شامه ومصره، وبثَّ به رسائله إلى كلّ مكان، وسمّى فتاويه بأسماء ما أنزل الله


1- المختصر في أخبار البشر، ج 1، صص 495و 496.
2- هو: محمّد بن قلاوون السلطان الأعظم الملك الناصر، ناصرالدين أبوالفتح محمّد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ولد الملك الناصر سنة أربع وثمانين، ووالده المنصور على حصن المرقب محاصراً، وتوفي يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين وسبع مائة، ودفن ليلة الخميس بالمدرسة المنصورية بين القصرين، وأنزل على والده، كان ملكاً عظيماً، دانت له العباد وملوك الأطراف بالطاعة. . اُنظر: الوافي بالوفيات، ج 4، ص251.

ص:44

بها من سلطان.

ولمّا اتصل بنا ذلك، وما سلك به هو ومريدوه، من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه، من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخف قومه فأطاعوه، حتّى اتصل بنا أنّهم صرّحوا في حقّ الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم. فقمنا في نصرة الله، مشفقين من هذا النبأ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وعزّنا أن يشيع عمن تضمنه ممالكه هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله تعالى: (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) . فإنّه -سبحانه وتعالى- تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير، (لاتُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فتقدّمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى أبوابنا، حين ما سارت فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا، وصرّح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلاّ وتلا قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) ولمّا وصل إلينا الجمع أولوا العقد والحل، وذوو التحقيق والنقل، وحضر قضاة الإسلام، وحكّام الأنام، وعلماء المسلمين، وأئمة الدنيا والدين، وعقد له مجلس شرعي في ملأ من الأئمة وجمع، ومن له دراية في مجال النظر ودفع.

فثبت عندهم جميع ما نسب إليه، بقول من يعتمد ويعوّل عليه، وبمقتضى خط قلمه الدال على منكر معتقده. وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه. .

ولمّا ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي، حكم الشرع الشريف أن يسجن هذا المذكور. . ، وينهى عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك، أو يفوه بجهة العلو بما فاه، أو يتحدّث أحد بحرف أو صوت، أو يفوه بذلك إلى الموت، أو ينطق بتجسيم، أو يحيد عن الطريق المستقيم، أو يخرج عن رأي

ص:45

الأئمة، أو ينفرد به عن علماء الأمّة، أو يحيّز الله سبحانه وتعالى في جهة، أو يتعرّض إلى حيث وكيف، فليقف كلّ واحد عند هذا الحد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. وليلزم كلّ واحد من الحنابلة بالرجوع عن كلّ ما أنكره الأئمة من هذه العقيدة، والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به، والتمسّك بمسالك أهل الإيمان الحميدة، . . . وكتب ثامن عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبع مائة(1)

وواضح من هذه الكلمات أنّ ابن تيمية خرج عن مسلّمات الدين، فجاء هذا المرسوم ليزجره وينهاه عن هذا المنهج؛ لأنّه ثبت بخط يده مخالفاته الصريحة لرأي الأئمة الأعلام، وانفرد عنهم؛ فقد حيّز الله سبحانه وتعالى في جهة، وعرّضه إلى الحيث والكيف.

فجاءت هذه الوثيقة لتُلزم الحنابلة المقلّدين له، بالرجوع عن كلّ ما أنكره الأئمة من هذه العقيدة، والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به، والتمسّك بمسالك أهل الإيمان الحميدة.

إذن فابن تيمية جاوز كلّ حدود الشريعة وفق هذا المرسوم. فلينظر مريدوه بهذه الكلمات وليدققوا فيها، ففيها الكثير من المواعظ والنصح ووضع الأمور في نصابها الصحيح.

اعترافه وتوبته سنة (707ه)

وفي سنة سبع مائة وسبعة للهجرة شفع شخص يسمّى (مهنا أمير آل فضل) فأخرج من السجن، وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع


1- دفع الشبه عن الرسول، صص 84- 86.

ص:46

بعض الفقهاء فكتب عليه محضر لاستتابته واعترافه بأخطائه ووجد خطه بما نصه:

الذي أعتقد أنّ القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديمة وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت، وأنّ قوله: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ليس على ظاهره، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا يعلمه إلاّ الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء. وكتبه أحمد بن تيمية، ثمّ أشهدوا عليه أنّه تاب مما ينافي ذلك مختاراً، وذلك في خامس عشرين ربيع الأوّل سنة (707 ه-) وشهد عليه بذلك جمع جم من العلماء وغيرهم(1).

3- محنة سنة (709 ه-) بسبب (تطاوله على ساحة النبي الأكرم (ص))

وبعد أن خرج من السجن عاد مجدداً لمخالفة المنهج الذي سار عليه العلماء، فأفتى بعدم الاستغاثة بالنبي (ص) ، وهذا مانقله ابن حجر في الدرر الكامنة وابن كثير في البداية والنهاية وابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة، واللفظ للأوّل قال:

قال: (أي: ابن تيمية) لا يستغاث بالنبي (ص) فاقتضى الحال أن أمر بتسييره إلى الشام. . وادّعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني، وقيل: إنّ علاءالدين القونوي أيضاً شهد عليه، فاعتقل بسجن بحارة الديلم في ثامن عشر شوال إلى سلخ صفر سنة (709 ه-) .

ثمّ نُقل إلى الإسكندرية، في شهر صفر، وكان سفره صحبة أمير مقدم، ولم يمكّنا أحداً من جهته، فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة، فشفع فيه عنده، فأمر بإحضاره فاجتمع به في ثامن عشر شوال وأصلح بينه وبين


1- الدرر الكامنة، ج 1، ص 172؛ واُنظر: نهاية الإرب في فنون الأدب، ج 32، ص 85.

ص:47

القاضي المالكي، فاشترط المالكي أن لايعود فقال له السلطان قد تاب وسكن القاهرة(1)

4- محنة سنة (719 ه-) بسبب مسألة الطلاق

بعد ذلك هدأت الأمور ضدّه والسبب هو سكوته عن توجيه فتاويه، فبدأت الناس تتردد إليه إلى أن توجّه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزاة في سنة (712ه) وذلك في شوال، فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة فكانت مدّة غيبته عنها أكثر من سبع سنين.

ثمّ قاموا عليه في شهر رمضان سنة (719 ه-) بسبب مسألة الطلاق، وأكّد عليه المنع من الفتيا(2)

5- محنته الأخيرة سنة (726ه-) بسبب مسألة شدّ الرحال إلى قبر النبي (ص)

ولعل آخر محناته التي عانى منها هي بسبب فتاويه التي يمنع فيها زيارة النبي الأكرم (ص) وذلك حينما قاموا عليه مرّة أخرى في شعبان سنة (726 ه-) بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة، فلم يزل إلى أن مات في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة سنة (728ه) (3).

ونحن حينما نتأمّل بما ترك لنا هذا الرجل من اعتقادات وتفسيرات وأفكار، من خلال ما تقدّم من ترجمته نجد أنّ هناك اضطراباً واضحاً في تراثه الفكري والعقدي، فهناك سلسلة من التناقضات التي وقع فيها، لاسيما في منهجه في التعامل مع الحديث النبوي الشريف وتفسيره للقرآن، بحيث


1- الدرر الكامنة، ج 1، ص 173؛ البداية والنهاية، ج 14، ص 45؛ ذيل طبقات الحنابلة، ج 1، ص343.
2- البدر الطالع، ج 1، ص 69.
3- الدرر الكامنة، ج 1، ص 174.

ص:48

نجده يميل إلى التجسيم، فمثلاً في تفسيره لقوله تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) . (طه: 5) يتوقف على ظاهر الألفاظ، فيفسّرها بالاستواء المادي، وكذلك في مسألة خلق القرآن و. . وبهذا خرج عن الإجماع ومخالفة الاعتقادات الدينية السائدة في عصره، فمن قضية الرسالة الحموية سنة (698 ه-) ، التي أجاب فيها عن سؤال حول صفات الله تعالى، بما يخالف أهل الكلام في عصره فأثار حفيظتهم وتألّبوا عليه، إلى تعرّضه لامتحان في معتقله سنة (705ه-) بمرسوم من السلطان يدعوه لحضور جلسة مع القضاة والفقهاء للتباحث والتحقيق في صحة وسلامة عقيدته، وعقد له أكثر من مجلس، وطلبوا حضوره إلى مصر في قضية أخرى حين ادّعى عليه القاضي (ابن مخلوف المالكي) أنّه يثبت الصفات الخبرية بما يقتضي التجسيم، وانتهى به الأمر إلى السجن، ومروراً بسنة (720ه-) ، حينما خرج عن إجماع المذاهب الأربعة في قضية الطلاق بالثلاث، والطلاق البدعي الذي يقع في حالة الحيض، والطلاق المعلّق بشرط غير معتبر، وتعرّض بسبب تمسّكه برأيه في هذه القضية إلى محاكمة العلماء والفقهاء والقضاة له وانتهى به الأمر إلى السجن. وقد ظلّ على هذه الحال في مخالفته للاعتقادات الفكرية والدينية إلى أن توفي في سجن القلعة بدمشق سنة (728ه-) .

ولعل هذه الأسباب مجتمعة ًجعلت الذهبي يتنصّل عن عقائده ويخالفه فيها، وهذا ما صَرّح به ابن حجر العسقلاني نقلاً عنه: «وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية»(1)

وبهذا نطوي ما مامرَّ به من محن وأدوار أودت به إلى مزالق فكرية إلى


1- الدرر الكامنة، ج 1، ص 176.

ص:49

أن أنهى عمره في السجن. وبعد ذلك ننتقل إلى النّقاد لهذا الفكر ممن عاصره وممن لم يعاصرهم؛ بحيث نجدهم شدّدوا النكير عليه ونقدوه مستهجنين ما آمن به من أفكار تخالف المنهج السنّي، بل والعلمي بشكل عام.

أقوال وفتاوى العلماء في ابن تيمية
اشارة

بعدما تقدّم من أقواله وعقائده، نجد أنّ أكثر علماء أهل السنّة وجّهوا له سهام نقدهم وفتاواهم، وهذا ليس غريباً بعدما رأيت من شذوذ أفكاره وآرائه، التي خالف فيها مسلّمات الدين والشريعة. لذا نجد من اللازم أن نطرح بعض هذه الأقوال والفتاوى التي أنّبت ابن تيمية وردعته عن اعتقاداته التي آمن بها.

1- العلاّمة تقي الدين السبكي (ت / 756 ه-)§ترجمه الذهبي قائلاً: علي بن عبدالكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن سليم القاضي الإمام العلاّمة الفقيه المحدّث الحافظ فخرالعلماء تقي الدين أبوالحسن السبكي ثمّ المصري الشافعي، مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وكان صادقاً متثبّتاً خيّراً ديّناً متواضعاً حسن السمت من أوعية العلم يدري الفقه ويقرّره، وعلم الحديث ويحرّره، والأصول ويقرأها، والعربية ويحققها، وقد بقي في زمانه الملحوظ اليه بالتحقيق والفضل. معجم الذهبي، ج1، ص 116؛ طبقات الشافعية الكبرى، ج 10، ص 147. §

)

- يتّهمه بالابتداع ومخالفة الإجماع

وللعلاّمة السبكي صولات وجولات في الردّ على شبهاته، وله مصنّفات في هذا المجال نذكر منها على سبيل المثال: (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) و (الدرّة المضية في الردّ على ابن تيمية) و (الاعتبار ببقاء الجنّة والنار) و (شنّ الغارة على من أنكر سفر الزيارة) و (النظر المحقق في

ص:50

الحلف بالطلاق المعلّق) و (نقد الاجتماع والافتراق في مسائل الإيمان والطلاق) .

وننقل قوله في كتابه الدرّة المضية في حقّ ابن تيمية:

فإنّه لمّا أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنّة، مظهراً أنّه داعٍ إلى الحقّ هادٍ إلى الجنّة، فخرج عن الاتّباع إلى الابتداع، وشذَّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع.(1)

2- العلاّمة الحصني (ت / 829 ه-) §هو أبوبكر بن محمّد بن عبدالمؤمن الإمام العالم الرباني الزاهد الورع تقي الدين الحصني الدمشقي الحسيني، ثبت نسبه على قاضي حسبان متأخراً، مولده في أواخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مائة، وتوفي سنة 829ه. ق. طبقات الشافعية، ج 4، ص 76.§

)

-يتّهمه بالمكر والمراوغة والتلبيس والتكفير

وكذلك نجد العلاّمة الحصني يتّهمه بالمكر والمراوغة والتلبيس، قال:

فأوّل شيء سلكه من المكر والخديعة، أن انتمى إلى مذهب الإمام أحمد وشرع بطلب العلم وتعبّد، فمالت إليه قلوب المشايخ فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه، فأظهر التعفف فزادوا في الرغبة فيه والوقوع عليه، ثمّ شرع ينظر في كلام العلماء ويعلّق في مسودّاته، حتّى ظن أنّه صار له قوّة في التصنيف والمناظرة، وأخذ يدوّن ويذكر أنّه جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس لذلك حقيقة، فيكتب عليها صورة الجواب، ويذكر مالاينتقد عليه، وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد، إلاّ أنّه يشير إليه على وجه التلبيس بحيث


1- الدرّة المضية، ص 3.

ص:51

لايقف على مراده إلاّ حاذق عالم متفنن، فإذا ناظر أمكنه أن يقطع مناظره إلاّ ذلك المتفنن الفطن(1)

وقال أيضاً:

إنّ ابن تيمية الذي كان يوصف بأنّه بحر من العلم، لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنّه زنديق مطلق، وسبب قوله ذلك أنّه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد، حتّى أنّه في مواضع عديدة يكفّر فرقة ويضللها، وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه، مع أنّ كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلى الازدراء بالنبي (ص) ، والشيخين، وتكفير عبدالله بن عباس (رضي الله عنه) وأنّه من الملحدين، وجعل عبدالله بن عمر (رضي الله عنهما) من المجرمين وأنّه ضال مبتدع، ذكر ذلك في كتاب له سمّاه (الصراط المستقيم) والردّ على أهل الجحيم. وقد وقفت في كلامه على المواضع التي كفّر فيها الأئمة الأربعة (2)

فهنا نجد أنّ العلاّمة الحصني يتّهمه بتكفير أئمة المذاهب الأربعة فضلاً تكفيره لبعض الصحابة.

وقال أيضاً:

والحاصل: أنّه وأتباعه من الغلاة في التشبيه والتجسيم، والازدراء بالنبي (ص) وبغض الشيخين، وبإنكار الأبدال الذين هم خلفوا الأنبياء. ولهم دواه أخر لو نطقوا بها لأحرقهم الناس في لحظة واحدة. فنسأل الله تعالى العافية.(3)


1- دفع الشبه عن الرسول، ص 76.
2- المصدر نفسه، ص 126.
3- المصدر نفسه، ص 215.

ص:52

3- ابن حجر العسقلاني (ت / 852 ه-)§ترجمه ابن العماد الحنبلي قائلاً: شيخ الإسلام علم الأعلام أميرالمؤمنين في الحديث حافظ العصر شهاب الدين أبوالفضل أحمد بن علي بن محمّد بن محمّد بن علي بن أحمد الشهير بابن حجر، نسبة إلى آل حجر قوم تسكن الجنوب الآخر على بلاد الجريد وأرضهم قابس الكناني، العسقلاني الأصل المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة الشافعي، ولد في ثاني عشر شعبان سنة 373ه وتوفي سنة 852ه. شذرات الذهب، ج 7، ص270.§

)

- يصنّف الفتاوى الموجّهة إلى ابن تيمية

وقد صنّف وقسّم الحافظ ابن حجر العسقلاني - في كتابه الدرر الكامنة- العلماء الذين أفتوا فيما رأوه من عقائده وآرائه.

قال:

افترق الناس فيه شيعاً:

1- فمنهم من نسبه إلى التجسيم؛ لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك، كقوله: إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية، وأنّه مستو على العرش بذاته.

2- ومنهم من ينسبه إلى الزندقة؛ لقوله: إنّ النبي (ص) لا يستغاث به.

3- ومنهم من ينسبه إلى النفاق؛ لقوله في علي: إنّه كان مخذولاً حيثما توجّه، وإنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنّه قاتل للرئاسة لا للديانة. ولقوله: إنّه كان يحب الرئاسة وأنّ عثمان كان يحب المال. ولقوله: علي أسلم صبياً، والصبي لا يصح إسلامه، وبكلامه في خطبة بنت أبي جهل، فإنّه شنع في ذلك، فالزموه بالنفاق؛ لقوله (ص) : «ولا يبغضك إلاّ منافق» .

ص:53

3- ونسبه قوم إلى أنّه كان يسعى في الإمامة الكبرى؛ فإنّه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه(1)

4- ابن حجر الهيتمي المكي (ت / 974 ه-)§ترجمه عبدالحي الكتاني قائلاً: هو أحمد بن محمّد بن علي بن حجر الهيتمي من الهياتم قرية بمصر السعدي المكي الفقيه المحدّث صاحب التآليف العديدة التي عليها المدار عند الشافعية في الحجاز واليمن وغيرهما، قال فيه الشهاب الخفاجي في الريحانة لمّا ترجمه علاّمة الدهر خصوصاً الحجاز فكم حجّت وفود الفضلاء لكعبته وتوجّهت وجوه الطلب إلى قبلته تتقرط الآذان بمثل أخباره في القديم والحديث فهو العلياء والسند، ولد سنة 899 ه- وتوفي سنة 974 ه-. فهرس الفهارس والأثبات، ج 1، ص 337.§

)

-يحمل عليه بأبشع التهم (بالخذلان والضلال والعمى)

وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية:

ابن تيمية عبد خذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه. . وبذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله. . ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتّفق على إمامته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي، وولده التاج، والشيخ الإمام العز بن جماعة، وأهل عصره وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية. .

ثمّ قال:

والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن، وأن يرمى في كلّ وعر وحزن، ويعتقد فيه أنّه مبتدع ضالٌ مضلٌ غال، عامله الله بعدله، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله، آمين (2)


1- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ج 1، صص 180و 181.
2- الفتاوى الحديثية، ص 58.

ص:54

5- العلاّمة محمّد زاهد الكوثري (ت/ 1371 ه-)§هو: محمّد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري، فقيه حنفي تفقه في جامع الفاتح بالآستانة، ودرس فيه، وتولّى رياسة مجلس التدريس. . وكان يجيد العربية والتركية والفارسية، توفي بالقاهرة. من مؤلّفاته: تأنيت الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من أكاذيب و النكت الطريفة في التحدّث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة و والاستبصار في التحدّث عن الجبر والاختيار ، ورسائل في تراجم الإمام زفر، وأبي يوسف القاضي، ومحمّد بن الحسن الشيباني، والبدر العيني، الحسن بن زياد، ومحمّد بن الشجاع، والطحاوي وكلّها مطبوعة. اُنظر: ترجمته في مقدّمة السيف الصقيل، ص 3.§

)

-يتّهمه بالفوضى العلمية والخلل في التعقّل

قال العلاّمة الكوثري واصفاً ابن تيمية:

في أوائل عمره كانت عنايته بالسنّة ومسند أحمد، حتّى كان بحيث يعدّ مستحضراً لمتون أحاديثها، ثمّ تشاغل بعلوم أخر ومذاهب شتّى بالمطالعة من غير تدّرس على أهلها، فحمل ألفاظ العلوم على غير معانيها وارتسم في ذهنه صوراً معكوسة في معارف تلك الفنون، لا استبقى حفظه السابق ولاأجدى شغله اللاحق، حتّى أصبح مثالاً للفوضى العلمية والخلل في التعقّل، وهذا ما أحكيه لك متجرّداً من جميع العواطف، ومضى عليّ زمن كدت أنخدع على بعض كتبه. . . ويتأسّف الإنسان على هذه المواهب الضائعة(1)

رسالة الإمام الذهبي

(2)، وكشفه عن خطأ المنهج الذي اتّبعه ابن تيمية

لعل أفضل من شخّص الداء والدواء هو المحدّث الذهبي (ت/ 748ه) ،


1- صفعات البرهان على صفحات العدوان، صص 34و35.
2- ترجمه الصفدي قائلاً: حافظ لا يجاري، ولا فظ لا يباري، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس من ذهن يتوقد. . ولم أجد عنده جمود المحدّثين بل هو فقيه النظر له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات، وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنّه لا يتعدّى حديثاً يورده حتّى يبيّن ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواته. . . الوافي بالوفيات، ج 2، صص114و 115

ص:55

حيث وجّه رسالته وخطابه لابن تيمية، ذلك الخطاب الذي تضمّن النصح والوعظ والتأنيب والتوبيخ، فهذا الخطاب يكشف عن الخطأ الجسيم الذي وقع فيه ابن تيمية وأتباعه في المنهج والعقيدة والأدب والأخلاق وغير ذلك الكثير، وحريٌ بمن يقرأ هذه الرسالة أن يتأمّل ويدقق بمفرداتها مليّاً، فلم تصدر هذه الكلمات من شخص عادي بل من أقرب المقرّبين إلى ابن تيمية، فهو ذلك الإمام الذي يريد الخير لأستاذه، وهو ذلك التلميذ الوفي والمخلص والحريص عليه أو كما يعبّر الذهبي: الشفوق المحب الواد، وبحقّ كلماته تُعد دستوراً يجب أن يقتفى لاسيما في هذا العصر. ولا يجب التشكيك في هذه الرسالة؛ لأنّنا سوف نثبت بإذن الله تعالى مصداقيتها بالأدلة والبراهين القاطعة.

نص الرسالة

وها هي فحوى هذه الرسالة، كما ينقلها العلاّمة تقي الدين السبكي (ت/756ه) في سيفه الصقيل، فهي من الأهمية بمكان، كونها تعتبر الخط الفاصل لمن يريد أن يدرك الحقيقة كما هي (1)؛ لذا سننقلها بجميع حروفها وكلماتها، قال:

رسالة كتب بها (2)، الشيخ شمس الدين أبوعبدالله الذهبي إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية كتبتها (3)من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة رحمه الله، وكتبها هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد بن العلائي وهو


1- وفي نظري أنّ فحوى هذه الكلمات لا تنحصر بخطاب موجّه لابن تيمية فقط، بل هي لكلّ مسلم يريد أن يضع نفسه في مقام الفتوى ويتصدّى لأمور الدين والشريعة.
2- بتضمين بعث ، كما في هامش النسخة الأصلية.
3- والكاتب هو التقي ابن قاضي شهبة، وقد ذكر في طبقات الشافعية، أنّه اطّلع على مجاميع وفوائد بخط البرهان ابن جماعة. كما في الأصل. اُنظر: طبقات الشافعية، ج 3، ص 140. والعبارة كما في هذه النسخة: «وقد وقفت له على مجاميع وفوائد بخطه» .

ص:56

كتبها من خط مرسلها الشيخ شمس الدين.

الحمد لله على ذلّتي، ياربّ ارحمني وأقلني عثرتي، واحفظ عليّ إيماني. واحزناه على قلّة حزني، وا أسفاه على السنّة وذهاب أهلها، واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء، واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات. آه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتبّاً لمن شغله عيوب الناس عن عيبه. إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟ ! إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول (ص) (لا تذكروا موتاكم إلاّ بخير، فإنّهم قد أفضوا إلى ما قدموا) ؟ ! بلى أعرف أنّك تقول لي لتنصر نفسك: إنّما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمّد (ص) وهو جهاد. بلى والله عرفوا خيراً كثيراً مما إذا عمل به العبد فقد فاز وجهلوا شيئاً كثيراً مما لايعنيهم، (ومن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) .

يا رجل بالله عليك كفّ عنّا، فإنّك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام. إياكم والغلوطات في الدين، كره نبيك (ص) المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال: (إنّ أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان) وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلوب إذا كان في الحلال والحرام، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمى القلوب؟ ! والله قد صرنا ضحكة في الوجود فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد بعقولنا؟ ! يا رجل قد بلعت (سموم) الفلاسفة وتصنيفاتهم مرّات، وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم وتكمن والله في البدن. واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبّر وخشية بتذكّر وصمت بتفكّر، وآه

ص:57

لمجلس يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. بلى عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة. كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما بالله، خلونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب وجدوا في ذكر بدع كنّا نعدّها من أساس الضلال قد صارت هي محض السنّة وأساس التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار، ومن لم يكفّر فهو أكفر من فرعون، وتعدّ النصارى مثلنا، والله في القلوب شكرك إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد.

يا خيبة من اتّبعك فإنّه معرّض للزندقة والانحلال، لاسيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليا شهوانياً. لكنه ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه، فهل معظم أتباعك إلاّ قعيد مربوط خفيف العقل، أو عامي كذّاب بليد الذهن، أو غريب واجم قويّ المكر، أو ناشف صالح عديم الفهم؟ ! فإن لم تصدّقني ففتشهم وزنهم بالعدل، يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك.

إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟ ! إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار؟ ! إلى كم تعظّمها وتصغّر العباد؟ ! إلى متى تخاللها وتمقت الزهّاد؟ ! إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح -والله - بها أحاديث الصحيحين؟ !

يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك، بل في كلّ وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوي؟ ! أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ ! أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟ ! بلى -والله - ما أذكر أنّك تذكر الموت، بل تزدري بمن يذكر الموت، فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي، بل لك همّة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلّدات، وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر حتّى أقول: والبتة سكت.

ص:58

فإذا كان هذا حالك عندي، وأنا الشفوق المحب الواد (1)، فكيف حالك عند أعدائك؟ ! وأعداؤك - والله - فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء، كما أنّ أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر.

قد رضيت منك بأن تسبّني علانيةً وتنتفع بمقالتي سرّاً (فرحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي) ، فإنّي كثير العيوب غزير الذنوب. الويل لي إن أنا لاأتوب، ووافضيحتي من علاّم الغيوب، ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته، والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيّدنا محمّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين(2)

الذهبي يضع إصبعه على الجرح

فالذهبي يضع إصبعه على الجرح حينما قال له:

أما آن لك أن ترعوي؟ ! أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ ! أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟ ! بلى - والله - ما أذكر أنّك تذكر الموت. . . وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر حتّى أقول: والبتة سكت.

ففي هذا المقطع يطالبه بالتوبة والإنابة والرجوع عن منهج يسوده ويشوبه الخطأ، ثمّ يقول: أنا أعلم أنّك لا تصغى لقولي ووعظي، بل جلَّ همّك هو النقض بكلام خال من قبول الحقّ، والأدهى هو أنّك تقطع النصوص وأذناب الكلام، ثمّ يتمنّى الذهبي سكوته الذي هو خير من كلامه.


1- وهنا الذهبي يريد أن يقول له بلغة المحبة والحنان والشفقة، أنّ تصوّراتك للمحبين والأعداء قد التبس عليك، فقد يكون من تتوهّمه عدوّك هو المخلص لك، وعندما ينصحك؛ لأنّه محب لك، وقد تتوهّم أنّ المقرّبين لك الذين يهادنونك ولا يبدون نصحهم لك، هم المخلصين لك، وهذا خطأ يجب أن تلتفت إليه.
2- السيف الصقيل، صص 217 و 218.

ص:59

الذهبي يحذّر ويقيّم أتباع ومريدو ابن تيمية

ثمّ نجد أنّ الذهبي يحذّره من أتباعه، وهذا الخطاب عام وليس محصور بزمان معيّن، فنرى اليوم من ينعق بما لا يعي ويكفّر طوائف المسلمين ويتّهمهم بالشرك وشتّى التّهم، وهذا ما حذّر منه الحافظ الذهبي، حيث قال له:

يا خيبة من اتّبعك فإنّه معرّض للزندقة والانحلال، لاسيما إذا كان قليل العلم والدين باطولياً شهوانياً. لكنه ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه، فهل معظم أتباعك إلاّ قعيد مربوط خفيف العقل، أو عامي كذّاب بليد الذهن، أو غريب واجم قويّ المكر، أو ناشف صالح عديم الفهم؟ ! فإن لم تصدّقني ففتشهم وزنهم بالعدل. . كما أنّ أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر. قد رضيت منك بأن تسبّني علانية وتنتفع بمقالتي سرّاً. . .

ففي هذا المقطع نجد القسوة في مفردات الذهبي حيث قيّم أصحابه بألفاظ يجب أن نتأمّل فيها، ولاسيما من هو مقرّب لمعتنقي هذا الفكر، لابدّ أن يسألوا أنفسهم لماذا يقول الذهبي هذا الكلام؟ ما الذي حدا به ليصفهم بهذه الأوصاف؟ وما الغاية من ذلك؟

هذه الأوصاف تستدعي أن يراجعوا أنفسهم و أن يتمعّنوا بما يقوله، فالذهبي ذلك العالم الذي يكبرونه ويجلّونه، ولا يمكن أن يغضوا الطرف عن كلامه، فهو المرجع عند من يقلّد هذا الفكر فلماذا يقول:

فمعظم أتباعه قعيد مربوط خفيف العقل، بليد الذهن، قويّ المكر، وحتّى أوليائك فيهم الفجرة والكذبة والبقر والعور.

ص:60

ولعل الذهبي يريد أن يشير وينبّه إلى فكر وعلم هؤلاء، فهناك فجور(1)وجهل وكذب في هذا الفكر، وهو غاية الجهل.

ولكن الذهبي يعلم عندما وصم أصحابه بهذه التهمة أنّه لا يصدّقه، فقال له: فتشهم وزنهم بالعدل، ونِعمَ ما قال.

وليت هذه النصائح والمواعظ تأخذ طريقها إلى أتباع الفكر الوهابي الذي ما فتئوا يكفّرون المسلمين ويتّهمونهم بشتّى أنواع التّهم من التبديع والتشريك وغير ذلك.

وياليتهم أيضاً درسوا هذا الفكر، متأمّلين ومنصفين فيه، وفيمن ردّ عليه من أكابر فقهاء وعلماء أهل السنّة.

ولكننا نجدهم يتبجحون بما كتبه، وتجد الرسائل في الجامعات تناقش وتدافع عن هذا الفكر، متناسين شذوذه وضلالاته وانحرافاته، التي وصمه بها علماء السلف ممن عاصره وممن لم يعاصره، بل ومن تلامذته - في حين أنّ الموضوعية العلمية تقتضي ذلك - فلا نجدهم ينبسون ببنت شفة، عن ذكر كبار علمائهم الذين ناظروه أو الكتب والرسائل التي نقدوا فيها هذا الفكر (2)، وقد ناهز عدد هؤلاء العلماء ما يقارب خمسين عالماً، كما سيأتي


1- المراد من مفردة الفجور: أي الفجور العلمي، وهو كناية عن الجهل المركب، المتجذّر في نفوس هؤلاء. وهذا يدلّ على أنّ الحافظ الذهبي وصل إلى درجة اليأس مما يفعله المقرّبون من ابن تيمية.
2- ولكن سيأتي اليوم الذي تتحرر فيه العقول وتنفتح فيه الأفكار، فرياح التغيير والجمود والتقليد قد ولّى، فهناك من العلماء في المملكة العربية السعودية، الذين يمثّلون خط الاعتدال والانفتاح، من نقد هذا الفكر التكفيري في مهرجانات ومنتديات ثقافية وعلى شبكات الإنترنيت، فهناك اتّجاه يبحث بصورة أكثر واقعية في نقد الفكر السلفي المتمثّل بابن تيمية؛ لأنّه الأداة التي من خلالها يمكن أن تغيّر إيديولوجية الدولة برمّتها، ولعل من بين هذا الاتّجاه النخبوي الشيخ حسن بن فرحان المالكي، ومشاري الذايدي، ومنصور النقيدان، وعبدالله بن بجاد العتيبي، وخالد الغانمي، ومحمّدعلي المحمود، و عبدالمحسن العواجي وغيرهم. . .

ص:61

في البحث اللاحق.

ولعل هذا البحث يكشف بعض الخطأ مما ورد من منهجه، لاسيما في التوحيد الذي يعدّ الركن والأساس المهم في الشريعة الإسلامية.

توثيق رسالة الذهبي

قد يشكك البعض في صحة ونسبة هذه الرسالة إلى الحافظ الذهبي وذلك بلحاظ أمرين:

الأوّل: إنّ الذهبي كان تلميذاً لابن تيمية وهو من المتأثّرين به، وعندما ترجم حياته أثنى عليه ومدحه، فكيف يصدر منه هذا الكلام؟ ! ألا يُعدّ هذا تناقضاً؟ !

الثاني: إنّ النسخة التي نقلها السبكي، هي بخط ابن قاضي شهبة، وهو من خصوم ابن تيمية، ومعلوم أنّ الخصم مجروح في شهادته.

الجواب على من يشكك في الرسالة
اشارة

ويُجاب عن تلك التشكيكات بما يلي:

أوّلاً: الذهبي لا يعتقد العصمة في ابن تيمية ويخالفه

أمّا التشكيك الأوّل: وهو القول بثناء الذهبي على ابن تيمية عندما ترجم له فهذا كاشف عن بطلان هذه الرسالة. هذا الكلام يدفعه ابن حجر العسقلاني في ترجمته لابن تيمية، حيث نقل كلاماً للذهبي يرفع هذا الإبهام حيث قال: <وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية> (1). وعدم اعتقاد العصمة في ابن تيمية، أي: أنّه في معرض الخطأ، ويرى أنّ


1- الدرر الكامنة، ج 1، ص 176.

ص:62

الوعظ والنصيحة واجب شرعي لمن تتلمذ على يديه. فلا تلازم بين أن يمدحه وأن يعظه ويوجّهه إلى الطريق الصحيح.

إذن لمَ هذا الاستبعاد إذا كان الغرض مهمّاً؟ ! لاسيما في عقائد الدين والشريعة التي لا مجال ليتساهل فيها الذهبي وإن كان تلميذاً. وهذا أمر يُمدح ويُثنى عليه، لا أن يشكك فيه.

ثانياً: الإمام السخاوي والحافظ العلائي والمحقق الدكتور بشار عواد والدكتور صلاح الدين المنجد يُثبتون الرسالة للذهبي

قال الحافظ السخاوي في كتابه الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ:

وقد رأيت له (أي: للذهبي) عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصّبه مفيدة (1).

وقال محقق هذا الكتاب في الهامش:

إنّ النصيحة الذهبية لابن تيمية التي نشرها مع بيان زغل العلم، هي نفس الرسالة التي أشار إليها السخاوي (2)

وقال الحافظ العلائي: «رسالة نصيحة من الذهبي لابن تيمية عفا الله عنهما»(3).

وكذلك أثبت المحقق البارع بشار عواد (4)صدق هذه الرسالة، قائلاً:

وهي رسالة بعث بها الذهبي إلى شيخه ورفيقه أبي العباس ابن تيمية


1- الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ، ص 136.
2- المصدر نفسه.
3- نقلاً عن كتاب تنزيه الحقّ المعبود، هامش، ص 139.
4- اُستاذ ومحقق ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة بغداد.

ص:63

الحراني ينصحه فيها ويعاتبه في بعض تصرّفاته، وهي رسالة مفيدة في تبيان عقيدة الذهبي، وقد ذكرها السخاوي في الإعلان. . وذهب بعضهم إلى القول بأنّها مزوّرة ولا عبرة بذلك (1).

وقال أيضاً:

ومع أنّ الذهبي قد خالف رفيقه وشيخه [أي: ابن تيمية] في مسائل أصلية وفرعية (2)، وأرسل إليه نصيحته الذهبية التي يلومه، وينتقد بعض آرائه وآراء أصحابه بها، إلاّ أنّه بلا ريب قد تأثّر به تأثّراً عظيماً (3).

وأيضاً أكّد هذه الحقيقة الدكتور المحقق صلاح الدين المنجد(4)، حيث قال:

شك بعضهم في نسبة هذه النصيحة للذهبي، ولا شك عندنا أنّها له، فقد نقلت مخطوطاتها من خط الذهبي، ولم ينكرها أحد من العلماء الذين نقلوها كتقي الدين بن قاضي شهبة وغيره. . (5)

ثالثاً: الذهبي سليط اللسان، وأنكر على غيره من العلماء بألفاظ جارحة

ثمّ إنّ المتتبع لسيرة الذهبي في كتبه وتراجمه للرجال، يجده سليط اللسان على بعض العلماء، فقد تكلّم على بعضهم كالفخر الرازي والآمدي.


1- الذهبي ومنهجه في كتابه تأريخ الإسلام، ص 146.
2- إشارة إلى ما ذكره الدرر الكامنة، ابن حجر العسقلاني، ج 1، ص 176.
3- سير أعلام النبلاء، ج 1، ص38.
4- أُستاذ القانون الدولي والتأريخ، عمل مديراً لمعهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية، ثمّ مستشاراً به، حاضر في كثير من المعاهد والجامعات، مثل: معهد الدراسات العربية العليا، وجامعة فرانكفورت، وجامعة برنستون. فالرجل متخصص وضليع في المخطوطات، فضلاً عن خبرته في مجال القانون والتأريخ، فكلامه مورد للاطمئنان؛ لذلك هو قطع بأنّ هذه النصيحة هي للذهبي وليس لغيره.
5- شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين، ص 14 .

ص:64

قال السبكي في طبقاته:

ودائماً أتعجب من ذكره الإمام فخرالدين الرازي في كتاب الميزان في الضعفاء، وكذلك السيف الآمدى، وأقول: يالله العجب هذان لا رواية لهما، ولا جرحهما أحد، ولا سمع من أحد أنّه ضعّفهما فيما ينقلانه من علومهما، فأيّ مدخل لهما في هذا الكتاب، ثمّ إنّا لم نسمع أحداً يسمّي الإمام فخرالدين بالفخر، بل إمّا الإمام وإمّا ابن الخطيب (1)

فلمْ يَسلم هؤلاء العلماء من لسان الذهبي وهم أعلم من ابن تيمية، فلم لايَتكلّم على غيرهم وإن كان ابن تيمية؟ ! لذا قال الدكتور المنجد:

ثمّ إنّ هذا هو أسلوب الذهبي عندما يُهاجم، ويبدو أنّه كتبها في آخر عمره. ولم يثن أحد على الشيخ كثناء الذهبي عليه، لكنه انتقده بعد ذلك في بعض الأمور حبّاً له، وإشفاقاً عليه(2). إذن فلماذا الاستبعاد أو التشكيك؟

رابعاً: الرسالة منسوخة عن خط الذهبي، ولا يمكن تزويرها

ولعل المهم في توثيق هذه الرسالة أنّها منسوخة عن خط الذهبي، وناسخها هو تقي الدين ابن شهبة الأسدي، وهي محفوظة في دارالكتب المصرية في القاهرة، وكذلك في دارالكتب الظاهرية، كما هو مشاع ومعروف ومشهور.

وقد أشار المحقق البارع بشار معروف عواد في هامش كتابه الذهبي ومنهجه في كتابه تأريخ الإسلام لهذه النسخ قائلاً:


1- طبقات الشافعية الكبرى، ج 2، ص41.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين، ص 14.

ص:65

منها نسخ في دارالكتب المصرية بخط تقي الدين ابن قاضي شهبة الأسدي المتوفي سنة (851ه) رقم (18823) ومنها نسخة بدارالكتب الظاهرية برقم (1347) وقد نشرها حسام الدين القدسي بمصر سنة (1347ه) مع كتاب زغل العلم (1).

من خلال ما تقدّم نجزم أنّ الرسالة موثّقة ونسبتها في غاية الصحة، ولايمكن التشكيك بها، فلا معنى للتناقض المزعوم.

أمّا التشكيك الثاني: وهو أنّ النسخة الخطية والتي نقلها السبكي وكانت بخط ابن قاضي شهبة، وهو خصم لابن تيمية فهو مجروح الشهادة.

فهذا الكلام غير منتج؛ لأنّ فرضية كون النقل للرسالة جرحاً، أجنبي عن مفاد هذه القضية؛ لأنّه من قال أنّ كلّ من يخالف الآخر فكرياً وعلمياً يُعدّ خصماً له، مع أنّ العلماء ديدينهم الخلاف، بحيث نجد الذهبي يقرر قاعدة وهي: عدم العبرة بكلام الأقران، قال: «فلا يلتفت إلى كلام الأقران بعضهم في بعض»(2). فالذهبي يشير الى الخلاف العلمي.

أضف إلى ذلك أنّ الأمر لم يقتصر على القاضي ابن شهبة، بل هناك شبه إجماع من علماء أهل السنّة في ردِّ شبهات ابن تيمية في المجال العلمي والفكري ويتمسّكون بأيّ دليل للوصول إلى مبتغاهم، والغرض من ذلك هو تصحيح أفكاره، وليس بثّ روح العداوة والخصومة، وخير شاهد هو هذه الرسالة التي فيها النصح أقرب منه إلى ال-تأنيب، فهل نستطيع أن نقول أنّ كلّ هؤلاء خصوم ابن تيمية ولا تقبل شهادتهم؟ !


1- الذهبي ومنهجه في كتابه تأريخ الإسلام، ص 146.
2- تذكرة الحفاظ، ج 2، ص 662.

ص:66

ترجمة ابن قاضي شهبة (ت/ 851ه)

ولكي نطمئن أكثر بوثاقة ناقلي هذه الرسالة، أنقل تراجمهم للقارئ لكي يقف على وثاقتهم وفقاهتهم وجلالة علمهم.

أمّا ابن قاضي شهبة، فهو: أبوبكر بن أحمد بن محمّد بن عمر الأسدي الشهبي الدمشقي، تقي الدين، فقيه الشام في عصره ومؤرخها وعالمها، من أهل دمشق، اشتهر بابن قاضي شهبة؛ لأنّ أبا جدّه (نجم الدين عمر الأسدي) أقام قاضياً بشهبة (من قرى حوران) أربعين سنة، من تصانيفه: المنتقى من تاريخ الإسلام للذهبي، ومناقب الإمام الشافعي، والكواكب الدّرية، و طبقات النحاة واللغويين. . (1)، وطبقات الشافعية وغيرها.

ترجمة برهان الدين بن جماعة (ت /790ه)

وأمّا القاضي ابن جماعة الذي كتب عنه ابن قاضي شهبة، فترجمه الذهبي قائلاً:

إبراهيم بن عبدالرحيم ابن شيخنا قاضي القضاة أبي عبدالله بن جماعة، الإمام الفقيه المحدّث المفيد برهان الدين الكناني الشافعي، أحد من طلب وعني بتحصيل الأجزاء وقرأ وتميّز، وهو في ازدياد من الفضائل. .(2)

إذن من كان بهذه الدرجة من الفقاهة والعلم والفضل، فهل نستطيع أن نطعن بأقوالهم، وما نقلوه إلينا؟ ! بل لابدّ من التصديق والإذعان بهذا النقل.


1- الأعلام، ج 2، ص 61؛ وانظُر ترجمته في النجوم الزاهرة، ج 15، ص 523.
2- معجم محدّثي الذهبي، ج 1، ص 45.

ص:67

الفصل الثاني: فكر ابن تيمية التوحيدي وانعكاسه على الفكر السلفي

اشارة

ص:68

ص:69

تمهيد

اشارة

لا يخفى أنّ أعظم العلوم وأجلّها شرفاً ورفعةً هو علم التوحيد؛ لأنّ موضوعه معرفة الله عزّوجلّ بأسمائه وصفاته، وتنزيهه عن كلّ صفات العيب والنقص، ومسألة الصفات لا شك أنّها من أهم ما تُكلّم في أصول الاعتقاد، وقد اختلف فيها: فمنهم من نفاها مطلقاً، ومنهم من تأوّلها وصرفها عن ظاهرها، ومنهم من غلا فيها ومثّل الخالق بالمخلوق، وقال بأنّ الصفات توقيفية ولا يمكن الخروج عن ظواهر النصوص، وأقام منهجاً يقصي العقل وينأى عن التأويل الذي ارتضاه الإسلام وفق ضوابطه الصحيحة، نعم التأويل الكيفي الذي يُعتمد فيه على الرأي والقياس، فهذا باطل ويرفضه الإسلام والعقل بلا أدنى شك(1)

فقد فسّر أصحاب التأويل الكيفي - على سبيل الفرض - قوله تعالى: ( إِنِّي مُتَوَفيّكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) . (آل عمران: 55) بالعلو المادي(2)


1- وسيأتي الكلام حول التأويل وضوابطه الشرعية والعقلية.
2- وهناك كتب ورسائل جامعية دوّنت في صفة العلو لله تبارك وتعالى، مثلاً: كتاب إثبات علو الله على خلقه والردّ على المخالفين، تأليف: أسامة بن توفيق القصاص، وكتاب إثبات صفة العلو، لابن قدامة المقدسي، وكتاب العلو للعلي الغفار، للذهبي، تحقيق: الشيخ الألباني، وكتاب إثبات علو الله ومباينته لخلقه، للكاتب السلفي حمود بن عبدالله التويجري.

ص:70

وقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . (طه: 5) بالاستواء الحسي الساذج، وغيرها من التأويلات الكيفية التي تناولت بعض الآيات والأحاديث الشريفة (1) . والتي سوف نطرقها في ثنايا البحث حيث يتراءى منها تشبيه صفات الخالق بالمخلوق.

قال ابن تيمية راوياً عن أشياخه:

عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمرّوها كما جاءت، وفي رواية فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيف. ثمّ قال: فقولهم رضي الله عنهم: أمرّوها كما جاءت ردّ على المعطّلة، وقولهم: بلا كيف ردّ على الممثّلة(2)

ومعنى أمرّوها كما فسّرها البغوي في شرح السنّة:

أي: كلّ ما جاء في الكتاب والسنّة من هذا القبيل في صفاته تعالى، كالنفس والوجه والعين والإصبع واليد والرجل والإتيان والمجيء والنزول إلى السماء والاستواء على العرش والضحك والفرح، . . فهذه ونظائرها صفات الله تعالى وردَ بها السمع، فيجب الإيمان بها وإبقاؤها على ظاهرها، معرضاً فيها عن التأويل مجتنباً عن التشبيه (3)

لذا نجد أنّ ابن حجر العسقلاني - عند تأويله لحديث قبول الله الصدقة


1- فقد ذكر ابن تيمية في العقيدة الواسطية مجموعة من الآيات والروايات التي يستشف منها التجسيم والتشبيه بشكل واضح وصريح، ويعلل ذلك: أنّ الله وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمّد ص من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ لأنّه ليس كمثله شيء. وسيأتي ردّ هذا التناقض في البحوث اللاحقة.
2- مجموع الفتاوى، ج 5، ص 39.
3- شرح السنّة، ج 1، صص 168- 170.

ص:71

بيمينه - يقول:

قال المازري: هذا الحديث وشبهه إنّما عبّر به على ما اعتادوا في خطابهم؛ ليفهموا عنه، فكنّى عن قبول الصدقة باليمين. . وقال عياض: لمّا كان الشيء الذي يرتضى يتُلقّى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول (1)

تعقّبه الشيخ ابن باز في كتابه حاشية (فتح الباري) رافضاً هذا التأويل والاستعارة بقوله:

هذه تأويلات ليس لها وجه، والصواب إجراء الحديث على ظاهره، وليس في ذلك -ولله الحمد - محذور عند أهل السنّة والجماعة. . وهذا الحديث إثبات اليمين لله سبحانه، وعلى أنّه يقبل الصدقة من الكسب الطيب ويضاعفه (2)

بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك فجعلوا صفة النزول لله تبارك وتعالى ذاتية، ومعلوم بالبداهة أنّ ذلك ليس صحيحاً؛ لأنّه يلزم منه تحيّز الربّ في جهة أو حدّ وهو معلوم البطلان؛ لذلك لابدّ أن نحمل النزول على المجاز لاالحقيقية.

قال الغامدي:

والذين أطلقوا اللفظ قالوا: ينزل الله بذاته مرادهم مثل قول بعضهم ينزل نزولاً حقيقياً أو (على الحقيقة لا على المجاز) ، والحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له(3)


1- فتح الباري، ج 3، ص 222.
2- حاشية فتح الباري، ج 3، ص 280؛ وانظر استدراك وتعقيب على الشيخ الأرنؤوط، خالد عبدالرحمن الشائع، قراءة وتعليق عبدالعزيز بن باز، ص 21.
3- اُنظر، صفة النزول الإلهي، ص 279.

ص:72

وقد أقرَّ ابن تيمية هذه الحقيقة وهو نزوله تعالى بذاته، قال في مجموع الفتاوى:

هذا النور والبركة والرحمة التي في القلوب هي من آثار ما وصف به نفسه من نزوله بذاته سبحانه وتعالى، كما وصف نفسه بالنزول عشية عرفة في عدّة أحاديث صحيحة وبعضها في صحيح مسلم(1)

وردد ابن القيم ما قاله ابن تيمية:

إذا أطلقوا لفظ الذات من غير تقييدها بإضافة معيّن دلّت على ماهية لها صفات تقوم بها، فكأنّهم قالوا صاحب الصفات المخصوصة القائمة بتلك الماهية(2)

وكذلك الألباني في السلسلة الصحيحة قرر وأيَّد ابن تيمية في هذه العقيدة، قال:

فنزوله نزول حقيقي يليق بجلاله لا يشبهه نزول المخلوقين وكذلك دنوه حقيقي. . وتحقيق القول في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وبخاصّة منها (مجموع الفتاوى) . . وقد أورد الحديث واستدل به على نزوله تعالى بذاته عشية عرفة (3). ولا نعرف ما هو معنى النزول الحقيقي الذي يليق بجلاله؟ ! ونعتقد أنّهم يحيرون جواباً في بيانه.

الذهبي ينصح بترك الخوض في لوازم النزول الذاتي

ويكفينا في ردِّ هذه العقيدة أنّ الذهبي قد نَقد هذه المفردة وهي الذاتية،


1- مجموع الفتاوى، ج 5، ص373.
2- الصواعق المرسلة، ج 4، ص 841.
3- السلسلة الصحيحة، ج 6، ص 109.

ص:73

وآمن بالنزول فقط. فترك الخوض في لوازمه؛ لأنّه أولى - كما يدّعي- بل واعترض على أبي نصر السجزي، مصرّحاً بأنّ كلمة (ينزل بذاته) هي من كيسه؛ وذلك لعلمه بذلك اللازم الذي لا ينفك عمن يقول بالذاتية وهي الجسمية، لذلك قال:

ومسألة النزول فالإيمان به واجب، وترك الخوض في لوازمه أولى، وهو سبيل السلف، فما قال هذا: نزوله بذاته، إلاّ إرغاماً لمن تأوّله، وقال: نزوله إلى السماء بالعلم فقط، نعوذ بالله من المراء في الدين. وكذا قوله: (وَ جاءَ رَبُّكَ) ونحوه، فنقول: جاء، وينزل، وننهى عن القول: ينزل بذاته، كما لانقول: ينزل بعلمه، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول (ص) بعبارات مبتدعة، والله أعلم(1).

وقال معلّقاً على قول أبي نصر السجزي:

أئمتنا كسفيان الثوري ومالك. . متّفقون على أنّ الله سبحانه بذاته فوق العرش.

قلت (أي: الذهبي) : هذا الذي نقله عنهم مشهور محفوظ سوى كلمة (بذاته) فإنّها من كيسه، نسبها إليهم بالمعنى؛ ليفرّق بين العرش وبين ما عداه من الأمكنة(2)

لذا نجد أنّ الشيخ سعيد فودة يرى:

أنّ ابن تيمية كان واحداً من الذين حملوا لواء التجسيم، ودافع عنه، مُتَسَتِّراً تحت راية الكتاب والسنّة وأقوال الصحابة؛ ليستجلب قلوب العوام إلى هذا


1- مختصر العلو للعلي الغفار، صص 266و 267.
2- سير أعلام النبلاء، ج 20، ص 331.

ص:74

المذهب. . وهو واحد من دعاة التجسيم، ولكنه يتميّز عَمَّن سبقه ومَنْ تبعه بحسن التدبير لدعوته تلك، وكثرة الاطّلاع واستعمال أساليب كلامية عجيبة، يحتار معها مَنْ لم يتقن فهم مذهبه. وقد قام عليه كبار العلماء، ومدحه بعضهم، وبعض هؤلاء بيّن أسباب موقفه وبعضهم لم يفعل. . (1).

أبوزهرة يثبت التجسيم لابن تيمية

وكذلك الشيخ أبوزهرة يثبت هذه الحقيقة لهذا الرجل حينما قال:

إنّ ابن تيمية يقرر أنّ مذهب السلف هو إثبات كلّ ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية واستواء على العرش، ووجه ويد ومحبة وبغض. وما جاء في السنّة من ذلك أيضاً من غير تأويل، وبالظاهر الحرفي. فهل هذا مذهب السلف حقاً؟

ونقول في الإجابة عن ذلك: لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بيّنا، وادّعوا أنّ ذلك مذهب السلف، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنّ اعتقادهم هذا يؤدّي إلى التشبيه والجسمية لا محالة، وكيف لا يؤدّي إليهما، والإشارة الحسية إليه جائزة (2)؟ ! عندهم.


1- الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية، صص 14- 16. وننصح بمراجعة هذا الكتاب، فقد سلّط الكاتب الضوء على عقائد ابن تيمية بشكل تفصيلي، مبيناً مواضع الخلل بأسلوب علمي قلّ نظيره. وقد اعتمد المؤلف على ركنين أساسين في تفكير ابن تيمية مما أوقعه في مزالق التجسيم: الأوّل: بيان حقيقة الموجودات عند ابن تيمية، فأثبت أنّ الموجودات بأجمعها خالق ومخلوقات لاتخرج عن دائرة كونها جسم، فما ليس بجسم لا يكون موجوداً على الإطلاق. الثاني: وسائل المعرفة عند ابن تيمية محصورة بالمدركات الحسية، وهي الوهم والخيال، وأمّا العقل فوظيفته التأليف وتمييز المدركات عن طريق هذه الحواس، ولا يمكن أن تعرف الأشياء مالم يكن مدركاً بتلك الحواس. وبهذين الركنين وقع ابن تيمية بأمور ولوازم لا يكاد يخرج منها.
2- اُنظر: الكاشف الصغير، ص 278.

ص:75

أبوزهرة في هذا المقطع يرى أنّ ابن تيمية قرر أنّ عقيدة السلف هي التجسيم؛ لأنّ الفوقية والتحتية من عوارضها القول بالجسمية، بل ادّعى الوجه واليد و. . ، وواضح من هذا الكلام أنّه يعتقد بهذه الصفات ويثبتها لله تبارك وتعالى.

التناقض بين إثبات الصفة ونفيها؛ لأنّه ليس كمثله شيء

وأمّا ما تشبّثوا به من قولهم بصفات الله تعالى التي لا يجب أن نعطّلها، مثلاً: صفة النسيان أو السمع أو الجلوس أو النزول أو الدنو أو الكلام أو الفرح، فهذه الصفات يجب أن نثبتها له سبحانه ولا نأوّلها، ولكن في نفس الوقت هي ليست كجوارحنا؛ لأنّه ليس كمثله شيء.

يردّ على هذا التناقض بوجهين:

الأوّل: إنّ صفة سميع لا كسمعنا، أو ينزل لا كنزولنا، أو يدنو لا كدنونا هذه العبارات وغيرها لا يمكن أن تنفي شبهة التجسيم؛ لأنّ ثبوت الشيء -أيّ شيء كان- فرع تصوّره، فعندما نريد أن نثبت صفة النزول أو الجلوس لابدّ في الرتبة الأولى أن نتصوّر الحركة والانتقال من الأعلى إلى الأسفل، ثمّ نفوّض علمها إلى الله تعالى بحسب رؤية الفكر السلفي.

فنسأل ابن تيمية: كيف صوّرت وأثبتّ صفة الصعود والنزول بدون تجسيدك لها بصفات مادية حسّية تشبه حركات المخلوقين؟

فالصعود والنزول لا يمكن تصوّره إلاّ بالانتقال من مكان إلى آخر، فإذا نفينا وجرّدنا عنها هذا الأمر بعد إثباتها، فكيف بعد ذلك نصفه بالصعود والنزول مرةً أخرى؟ !

ص:76

وأمّا قوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) . (التوبة: 67) وقوله تعالى: (إِنَّا نَسِيناكُمْ) . (السجدة:) في هذه الآيات لانثبت لله تعالى صفة النسيان وإن ورد لفظ النسيان في القرآن الكريم، ولا يجوز لنا أن نقول: إنّ لله نسياناً ولكنه ليس كنسياننا؛ وذلك لأنّ الله عزّوجلّ قال: (وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) . (مريم:64) ولا يحل لرجل عاقل بعد هذا أن يقول: ينسى لا كنسياننا، ويجلس لا كجلوسنا، وهو في السماء ليس كمثله شيء، كما نقول: هو سميع ليس كسمعنا، وهو بصير ليس كبصرنا.

فإن غالط مغالط وقال: لماذا لا نقول: يضحك لا كضحكنا، وينسى لاكنسياننا، ويمل لا كمللنا؟ !

قلنا له: قولك: لا كضحكنا ولا كنسياننا ولا كمللنا لن يفيدك البتة ولن ينفي عنك التشبيه؛ لأنّ هذا دال على النقص أوّلاً! ! وقولك: (بلا كيف) أو (يليق بجلاله) عقب ذلك وبعده غير مفهوم بالعربية إلاّ بالتأويل وأنت تقول بأنّ الله تعالى لا يخاطبنا بما لا نفهم.

ونحن لا نفهم الضحك الذي تطلقه حقيقةً على الله تعالى إلاّ بالقهقهة أو الانفعال والتبسّم، والعرب لا تفهم إلاّ ذلك! ! إلاّ إذا أوّلت ذلك بالرحمة كما أوّلها الإمام البخاري(1)

الثاني: وإن أجاب بأنّ هذه الصفات مثلاً بلا كيف كما لو قال في صفة اليد أنّها يد بلا كيف.

نقول: هذه اليد متقوّمة بمفاهيمها اللغوية العرفية وهي هذه الأجزاء الحسّية، فلو نفينا عنها الكيفية نفينا معناها اللغوي، فكيف يمكن الجمع بين


1- صحيح شرح العقيدة الطحاوية، ص 150.

ص:77

المعنى اللغوي لليد ونفي حمل الكيف عليها، وهكذا باقي الصفات كالسمع والبصر، فلو قيّدناها بلا كيف فلابدّ أن ننفي أصل الرؤية أو السمع وهو محال؛ لأنّه يلزم من وجودها نفيها.

أسئلة تربك الفكر السلفي

وهناك أسئلة قد تربك الفكر السلفي، ولا سيما ابن تيمية والألباني ومن سار وفق هذا المنهج، الذين قالوا: بذاتية وحقيقة النزول والصعود (ينزل بذاته أو يصعد بذاته) وغيرها من الصفات -كما تقدّم- وقلنا: لازم ذلك هو كونه جسماً، وهذا مما دعا الذهبي أن ينكر هذه المفردة على من أثبتها، لذا فلو ثبتت هذه اللوازم:

فماذا يقولون مثلاً: في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ) (البقرة:255) فهنا الكرسي وفق ظاهر اللفظ وسع كلّ السماوات والأرض.

إذن أين الله تعالى؟ وإذا قالوا: هو في السماء، بحسب ما نفهمه من قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) . (ملك: 16)

ولكن يأتي الإشكال وهو: أنّ الكرسي يكون أكبر من الله، والعياذ بالله؛ لأنّ الكرسي أكبر من السماوات والأرض كما هو ظاهر الآية.

ثمّ نسأل: إذا كان الله في السماء، ففي أيّ سماء؟ وقبل أن يخلق السماء أين كان؟ وكيف يخلق السماء ويحتاج إليها؟

وماذا يقولون في قوله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) . (الأنبياء:104) فمن الذي يطوي؟ هل يطوي نفسه، تعالى الله عن ذلك؟ !

ص:78

وقوله تعالى: (وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) . (الزمر: 67) فأين يكون الله عزّوجل في هذه الحالة؟ ثمّ إذا خرج منها، فهذا يعني أنّه يتحرّك ويدخل السماء ويخرج منها، وهذا محال في حقّه عزّوجل.

فلو قالوا: إنّ السماء من السمو وهو العلو، وكلّ ما علاك فهو سماء، والله تعالى فوق السماوات السبع على عرشه.

يقال لهم: لو خلينا نحن وظاهر النصوص؛ ( أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) فهي تدل على أنّ الله داخل في السماء، وهذا يناقض القول إنّه فوق العرش.

وكلّ ذلك في نظرنا منزّه عنه، تعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً.

إذن بعدما تقدّم نعتقد أنّ مفاهيم الفكر السلفي المتمثّلة بفكر- ابن تيمية الحراني حصراً- نتاج تعصّب في الفكر وجمود على الظاهر، وإقصاء للعقل، ولعل من أهم المفردات التي أربكت هذا الفكر هي التوحيد، فالله سبحانه وتعالى في منظومة هذا الفكر قد طرأ عليه التجسيم، وأصبح الإله لا يختلف عن سائر الأشياء من حيز، ومكان، وجهة، وصعود ونزول، ويد، ووجه، وضحك، و. .

المدرسة الوهابية وريثة فكر ابن تيمية

وهذا الفكر للأسف انعكس بشكل مباشر على المدرسة الوهابية المتمثّلة بأفكار الشيخ محمّد بن عبدالوهاب، فورثته بل واحتضنته فكأنّها هي الوصية عليه، فروّجت له ودافعت عنه بقوّة وبلورت أفكاره بقالب جديد، ولكن مضمونه وروحه هو فكر ابن تيمية، ولا شيء غيره.

ص:79

رأي الشيخ محمّد أبي زهرة

(1)

)

قال أبوزهرة في كتابه ابن تيمية آراؤه وفقهه:

فقد عكف [محمّد بن عبدالوهاب] على دراسة كتب ابن تيمية في الاعتقاد والفقه، وأمعن في فهمها، وآمن بما جاءت به، وتحمّس لها، بل وتعصّب واشتدّ في تعصّبه، ودعا من حوله إلى اعتناق هذه الآراء فوجد آذاناً تسمع وقلوباً تعي وتتأثّر، فتعصّب ناس كثيرون لهذه الآراء وصاروا أنصاراً أقوياء، بل تكوّن من هؤلاء الأنصار دولة صغيرة؛ ذلك بأنّ محمّد بن عبدالوهاب كان من أشدّ أنصاره صهره محمّد بن سعود جدّ الأسرة الملكية السعودية، فقام بمغامرات حربية لنشر مذهب ابن تيمية وحمايته؛ لأنّه فيما يعتقد السنّة، أو لعله قد التقى المطمح السياسي بنصرة المذهب الديني وعاون أحدهما الآخر وقامت بذلك الدولة الصغيرة. . ولقد شنّوا غارة على البدع في نظرهم، وحاربوها بكلّ قوّة، وأحيوا في نظرهم السنّة بأعمالهم، وخربوا مساجد الشيعة التي كانوا يخصونها بالتقديس، ومنعوا إلحاق المآذن


1- هو الشيخ محمّد أحمد مصطفى أبوزهرة ولد 1316ه. ق - 1898م من مواليد المحلة الكبرى إحدى مدن محافظة طنطا بالوجه البحري بمصر، حصل على عالمية القضاء الشرعي مع درجة أستاذ بتفوّق عام 1343ه. ق، عمل مدرّساً للعلوم الشرعية والعربية في كليتي دارالعلوم وأصول الدين بجامعة الأزهر والحقوق بجامعة القاهرة، شغل منصب أستاذ محاضر للدراسات العليا بالجامعة عام 1354 - 1935 وعضو المجلس الأعلى للبحوث العلمية ورئيس قسم الشريعة ووكيل كلية الحقوق ومعهد الدراسات الإسلامية. من مؤلفاته: محاضرات في تاريخ المذاهب الإسلامية، ابن تيمية آراؤه وفقهه، أبوحنيفة حياته وعصره، الإمام الصادق حياته وعصره، ابن حنبل حياته وعصره، تاريخ الجدل، خاتم النبيين، الأحوال الشخصية وأصول الفقه، العلاقات الدولية في الإسلام، موسوعة الفقه الإسلامي، التكافل الاجتماعي في الإسلام، الخطابة في المجتمع الإسلامي، الوحدة الإسلامية وغيرها. قضى حياته مقاتلاً بالخطابة وبالكتابة وبالمحاضرة في سبيل أفكاره ومعتقداته، توفي في 11 إبريل سنة 1974م. اُنظر، موسوعة هذا الرجل من مصر، صص 489 و490. بتصرّف في العبارة.

ص:80

بالمساجد واستعمال المسابح، وحاولوا أن يعيدوا كلّ شيء إلى حال السذاجة الأولى التي كان عليها الإسلام في عصره. .(1)

رأي الأستاذ سعيد فودة

(2)

)

قال:

موقف الوهابية من التجسيم ونفي تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقات، صار مشهوراً معلوماً، فهم يثبتون لله تعالى الحد والجهة، وقيام الحوادث بالله تعالى، والجلوس على العرش بمماسة والحركة والنقلة. . . ، ولاشك أنّ هذا الاعتقاد مخالف بجملته لاعتقاد أهل السنّة والجماعة، وقد تبع الوهابية في هذا الاعتقاد إمامهم الأوّل ابن تيمية، فعنه أخذوا كلّ ذلك، وفهموا كلامه من شروحات تلميذه ابن قيم الجوزية. فليرجع إلى كتاب نقض أساس التقديس لابن تيمية ومنهاج السنّة، وغيرها من الكتب، وقد كتبتُ عدّة كتب في هذا المقام أثبتُّ فيها أنّ ابن تيمية قائل بالتجسيم ولوازمه، وأنّه مخالف للأشاعرة جملةً وتفصيلاً، وأنّ له مذهباً كاملاً يدعو إليه، وليست أقواله هذه مجرد شطحات أو زلاّت قلم كما يحلو للبعض أن يتوهّم(3)


1- ابن تيمية، آراؤه وفقهه، ص 441.
2- هو الأستاذ المحقق سعيد بن عبداللطيف فودة، من أصل فلسطيني، من قرية بيت دجن. شافعي المذهب، وقد التقى كثيراً من العلماء المعاصرين، وأجازوا له بالرواية وأثنوا على علمه، مثل الشيخ محمّد علوي المالكي، والشيخ عبدالله سراج، والعلاّمة إبراهيم خليفة، وقد أجازه الأخير في مختلف العلوم كعلم التفسير ودقائقه، وشرح الحديث، وعلم التوحيد وغيرها. من مؤلفاته: الكاشف الصغير، والتعليقات على الإخميمي، وتهذيب شرح السنوسية، وتدعيم المنطق، وشرح صغرى الصغرى، ونقض التدمرية، وشرح السلم المنورق وغيرها.
3- من محاضرة له بعنوان: السلفية المعاصرة وأثرها في تشتيت المسلمين. موقع منتدى الأصلين: http: //www. aslein. ne.

ص:81

رأي الأستاذ زكي الميلاد

(1)

)

وكذلك يصرّح الأستاذ زكي الميلاد بهذا الأمر بصورة واضحة قائلاً:

فحركة الشيخ (ابن عبدالوهاب) هي التي ورثت (ابن تيمية) وتعاملت مع أفكاره ومعارفه كما لو أنّها وصية عليها، وأعادت الاعتبار لها، والدفاع عنها، والترويج الواسع لها، والتمسّك بها كشرعية دينية وإيديولوجية.

ومن المعروف أنّ القضية التي شكّلت محور اهتمام دعوة (ابن عبدالوهاب) ، هي قضية العقيدة والتركيز على مفهوم التوحيد والشرك، بالشكل الذي يصفه الدكتور (البهي) بالمبالغة في فهم معنى التوحيد، أو فهم معنى الشرك حتّى سمّى دعاة هذه الحركة، حركتهم باسم التوحيد.

وفي هذه المبالغة يكمن عامل الفرقة بينهم وبين بقية المسلمين، فبينما هم يرون أنفسهم موحدين أو أهل توحيد، ويرون غيرهم ممن لا يسلك سبيلهم في المبالغة مشركين. ولذلك يعتبر كتاب (التوحيد) للشيخ (ابن عبدالوهاب) ، من أبرز وأهم مؤلفاته، كما يعبّر عن دعوته ونهجه (2)

إذن فهناك مبالغة وإشكالية في فهم التوحيد حيث ترى المدرسة الوهابية التي ورثت فكر ابن تيمية أنّهم أهل التوحيد الصحيح وغيرهم ممن لايسلك سبيلهم يرمى بالشرك والكفر، ومن هنا نشأت الفرقة بين طوائف المسلمين


1- هو زكي عبدالله أحمد الميلاد، متخصص في الدراسات الإسلامية, وباحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة، منحه الإتحاد العالمي للمؤلفين باللغة العربية لقب دكتوراه إبداع على مجموع المؤلفات والأبحاث والكتابات والأعمال الفكرية الأخرى، عضو الجمعية العمومية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
2- الفكر الإسلامي في العصر الوسيط، رسالة التقريب، العدد 32.

ص:82

نتيجة لسوء الفهم الإسلامي الصحيح، حيث تتجلّى خطورة سوء فهم نصوص وأحاديث الشريعة، وما هو المراد منها، فهناك من يتعمّد ليّ عنق النصوص بفهمه الخاص، ليجعلها تتلاءم مع وجهة نظره، مع أنّ القرآن يحدّثنا عن مدح الفهم وذمّ نقيضه.

الفهم والتدبّر في القرآن

قال الله تعالى: (ففَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان) . (الانبياء: 79)

وقال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) . (محمّد: 24)

وقال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فيهِ اخْتِلَافًا كَثِيراً) . (النساء: 82)

وهؤلاءِ الذين لا يفقهون ولا يبصرون ولا يتدبّرون؛ لأنّهم يجحدون حقيقة النص القرآني، بل هم لا يريدون فهمه؛ لأنّهم أقفلوا قلوبهم وعقلوها عن نوال الحقيقة، الحقيقة التي قد تغيب في بعض الأحيان لعدم الإدراك، والتقليد المقيت والأعمى، بل هو الداء الذي ابتلت به الأمّة بحيث يكون الخارج عنه ملوماً ويرمى بشتّى التهم.

أزمة في الفهم بقصد أو بغير قصد

نعتقد أنّ هناك مشكلة وأزمة في فقدان الفهم، وعدم إدراكه بقصد أو بغير قصد، مما أدّى إلى قلب الحقائق وتحريف النصوص وردّ الأحاديث.

وهذا ما نجده جلياً في فكر ابن تيمية، الذي قلب حقائق الدين وحرّف النصوص، بشهادة تلامذته وممن عاصره ومن لم يعاصره.

ص:83

قال الشيخ تقي الدين السبكي(1)في فتاويه:

إنّه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به؛ لمسارعته إلى النقل. . ولا في بحث ينشئه؛ لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحدّ جدّاً، وهو كان مكثراً من الحفظ ولم يتهذّب بشيخ ولم يرتض في العلوم، بل يأخذها بذهنه مع جسارته واتّساع خيال وشغب كثير، ثمّ بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للردّ عليه، وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ثمّ مات (2)

وقال ابن حجر العسقلاني منتهجناً ردّه للأحاديث بلا تأمّل وتدبّر مما يدل على ضعفه في الحديث:

لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في ردّ الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه ردّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها؛ لأنّه كان لاتّساعه في الحفظ يتّكل على ما في صدره، والإنسان عامد للنسيان، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً إلى تنقيص علي رضي الله عنه (3)


1- هو الإمام الحافظ تقي الدين أبوالحسن علي بن عبدالكافي بن علي بن تمام السبكي، الشافعي، ولد بسبك في مصر سنة ثلاث وثمانين وستمائة 683ه. ق . . . قال الذهبي في المعجم المختص: كان صادقا متثبّتاً خيّراً ديّناً متواضعاً حسن السمت، من أوعية العلم، يدرس الفقه ويقرّره، وعلم الحديث ويحرره، والأصول ويقوّيها، والعربية ويحققها، وصنّف التصانيف المتقنة، وقد بقي في زمانه الملحوظ إليه بالتحقيق والفضل. سمعت منه وسمع منّي. وحكم بالشام وحمدت أحكامه، فالله يؤيّده ويسدّده، سمعنا معجمه بالكلاسة، ألف كتباً في الردّ على شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة الطلاق الثلاث، وشدّ الرحال لزيارة القبور، منها: شفاء السقام في زيارة خير الأنام. توفي في مصر سنة 756ه، قال الداودي، صنّف نحو مائة وخمسين كتاباً مطولاً ومختصراً. معرفة الثقات، ج 1، صص137و 138.
2- فتاوى السبكي، ج 2، ص210.
3- لسان الميزان، ج 6، صص 319 و 320.

ص:84

قال صلاح الدين الصفدي تلميذ ابن تيمية والتقي السبكي في أعيان العصر وأعوان النصر، ما نصه: «انفرد - أي: ابن تيمية- بمسائل غريبة، ورجّح فيها أقوالاً ضعيفة عند الجمهور، معيبة كاد منها يقع في هوّة. .»(1)

وأشار الشيخ الألباني إلى بعض أوهامه وتسرّعه؛ لأنّه يكتب من حفظه، قال في إرواء الغليل:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموعة الفتاوى: وقد ثبت في صحيح مسلم، عن نافع، عن عبدالله بن عمر أنّ النبي (ص) قال: أحبّ الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة.

وهذا من أوهامه رحمه الله، فإنّه كان يكتب من حفظه، قلمّا يراجع كتاباً عندما يكتب، فإنّ حديث ابن عمر في (صحيح مسلم) كما قال، لكن دون قوله: (وأصدقها. . .) الخ. وإنّما هذه الزيادة في حديث أبي وهب الجشمي هذا، ولا تصح كما علمت، فاقتضى التنبيه(2)

وقال الحافظ ولي الدين أبوزرعة العراقي:

وأمّا الشيخ ابن تيمية فهو زاهد في الدنيا، لكنه كما قيل فيه: علمه أكثر من عقله. فأدّاه اجتهاده إلى خرق الإجماع في مسائل كثيرة قيل: إنّها تبلغ ستين مسألة. فأخذته الألسنة بسبب ذلك. وتطرّق إليه اللوم وامتحن بهذا السبب(3)


1- أعيان العصر وأعوان النصر، ص 9.
2- إرواء الغليل، ج 4، ص 409.
3- الأجوبة المرضية على الأسئلة المكية، في جواب سؤال للحافظ ابن فهد المكي. مخطوطة بالظاهرية، نقلاً عن دراسات في منهاج السنّة، ص 563.

ص:85

فالغرابة والانفراد والأوهام وخرق إلإجماع، كلّها تُعدّ شواخص مهمّة تميّز بها ابن تيمية في نقل مسائل الشريعة، ويستدل عليها بالأقوال والأحاديث الضعيفة بلا ضابط أو أساس صحيح لهذه المسائل، فلا نستغرب بعد ذلك أن يجازف في مفردة التوحيد، ليضع من وحي خياله تأويلات وتقسيمات وقراءات لم يعهد أن وردت عند جمهور العلماء، فجاءت معيبة وخالية من قوّة الدليل والبرهان.

ص:86

ص:87

الباب الثاني: أقسام التوحيد في نظر ابن تيمية وما انفرد به من عقائد

اشارة

ص:88

ص:89

الفصل الأوّل: توحيد الألوهية والربوبية

اشارة

ص:90

ص:91

ثلاثية التوحيد عند ابن تيمية

اشارة

التوحيد في فكر ابن تيمية ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: توحيد الألوهية

الثاني: توحيد الربوبية

الثالث: توحيد الأسماء والصفات

وهذه الأقسام الثلاثة مستوحاة بحسب نظر ابن تيمية من الكتاب والسنّة النبوية. ولنبدأ أوّلاً: بمناقشة ثنائية التوحيد الإلهي والربوبي، ومن ثمّ نناقش القسم الثالث (الصفاتي) في الفصل الثاني.

توحيد الألوهية والربوبية

هناك ثنائية طالما رددها ابن تيمية وهي (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية) وبُثّت في ثنايا كتبه ودُرّست كمنهج في الجامعات والمدارس الإسلامية، فهل يا ترى هذه الثنائية صحيحة؟ وماذا يترتب عليها من نتائج؟ وعلى تقدير خطئها، ما هو وجه الخطأ فيها؟

ص:92

قراءة النص

قال ابن تيمية:

التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، هو أن يعبدالله وحده لاشريك له فهو توحيد الألوهية، وهو مستلزم لتوحيد الربوبية، وهو أن يعبد الحقّ ربّ كلّ شيء، فأمّا مجرد توحيد الربوبية وهو شهود ربوبية الحقّ لكلّ شيء، فهذا التوحيد كان في المشركين، كما قال تعالى: (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ)(1)

وقال:

ومع هذا، فالمشركون كانوا مقرّين بذلك [أي: توحيد الربوبية] مع أنّهم مشركون. وكذلك طوائف من أهل التصّوف والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد وأن يشهد أنّ الله ربّ كلّ شيء ومليكه وخالقه(2)

وقال أيضاً:

وإنّما التوحيد الذي أمر الله به العباد، هو توحيد الألوهية المتضمّن لتوحيد الربوبية، بأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئاً فيكون الدين كلّه لله، ولا يخاف إلاّ الله، ولا يدعى إلاّ الله، ويكون الله أحبّ إلى العبد من كلّ شيء، فيحبون لله ويبغضون لله ويعبدون الله ويتوكّلون على الله. . (3)

قال ابن باز شارحاً هذا المفهوم:


1- الاستقامة، ج 2، ص 31.
2- مجموع الفتاوى، ج 3، ص 101.
3- منهاج السنّة، ج 3، صص 289 و 290.

ص:93

توحيد الإلوهية:

توحيد العبادة، ويسمّى توحيد الألوهية وهي العبادة، وهذا القسم هو الذي أنكره المشركون فيما ذكره الله عنهم سبحانه بقوله: ( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ * أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَ-شَيْءٌ عُجابٌ) وأمثالها كثير. وهذا القسم يتضمّن إخلاص العبادة لله وحده، والإيمان بأنّه المستحق لها، وأنّ عبادة ما سواه باطلة، وهذا هو معنى لا إله إلاّ الله، فإنّ معناها لا معبود حقّ إلاّ الله كما قال الله عزّوجلّ: ( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ)(1)

وقال أيضاً في القسم الآخر الذي لم ينكره المشركون كما يدّعي: توحيد الربوبية وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه، وهو الإيمان بأنّه الخالق الرازق المدبّر لأمور خلقه المتصرّف في شؤونهم في الدنيا والآخرة لاشريك له في ذلك، كما قال تعالى: (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، وقال سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) الآية. وهذا النوع قد أقرّ به المشركون عبّاد الأوثان وإن جحد أكثرهم البعث والنشور، ولم يدخلهم في الإسلام لشركهم بالله في العبادة وعبادتهم الأصنام والأوثان معه سبحانه، وعدم إيمانهم بالرسول محمّد (ص)(2)

فابن تيمية - ومن سار على منهجه - في هذه النصوص يرى أنّ التوحيد له قسمان:

الأوّل: توحيد الألوهية، وهو أن يُعبد الله وحده لا شريك له، فهو إفراد


1- تعليق على العقيدة الطحاوية، مجلة البحوث الاسلامية، العدد 15، ص 257.
2- المصدر نفسه.

ص:94

الله تعالى بالعبادة.

الثاني: توحيد الربوبية، وهو متضّمن لمعنى الخالقية، فهناك خالق للكون، وهذا المعنى يؤمن به جميع المشركين وهو محل اتّفاق، وتوحيد الألوهية مستلزم لتوحيد الربوبية، فهناك ملازمة ثابتة بينهما، لايمكن أن تنفك بينهما فمتى تحقق الأوّل ثبت الثاني، وهذا التوحيد كان ثابت حتّى عند المشركين، بدليل قوله تعالى: ( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُ-شْرِكُونَ) ، ولا يكفي مجرد الإقرار بأنّ الله ربّ كلّ شيء ما لم يقترن بتوحيد الألوهية(1)

النقد

ويلاحظ على هذا التقسيم، لاسيما في توحيد الربوبية فيما فرضه من إيمان المشركين به، فنجد أنّ هناك خلطاً بين الإيمان بكون المشركين أقرّوا بأنّ الله هو الخالق لهم، والتي اعترفوا بها كما في الآية الكريمة (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وبين الانحراف الذي وقعوا فيه في كون الله تعالى هو الربّ والمدبِّر لشؤونهم، لابمعنى الخالقية كما فهمها ابن تيمية في تفسيره، قال: « (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُ-شْرِكُونَ) . قال بعض السلف: «تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله»(2)؛ لذا نجدهم يلجؤون إلى الأصنام لكي تحفظهم وتحميهم وتدبّر أمرهم، بل هي الملاذ لهم عندما يتعرّضون لأيّ طارئ ومايعانونه من مشاكل في حياتهم، وكانوا يلجؤون إليها عندما يواجهون أيّ مشكلة.

فهناك موارد يمكن أن نلاحظها حول هذا التقسيم:


1- مجموع الفتاوى، ج 8، ص 101.
2- دقائق التفسير، ج2، ص 296.

ص:95

أوّلاً: عدم وجود هذا التقسيم عند الصحابة والتابعين ولم ينطق به الحنابلة

كثيراً ما ينقض ابن تيمية على خصومه في مسائل العقيدة أنّ الصحابة أو التابعين لم ينقلوا أو يحدّثوا في مسألة ما، ويجعله دليلاً على بطلان عقائدهم، ويكفيك نظرة في كتابه منهاج السنّة لترى هذا الأمر جليّاً.

في حين أنّ هذا التقسيم لم نجد له منطق في الكتاب الكريم، فضلاً عن السنّة المشرّفة فضلاً عن الصحابة والتابعين، بل وتابعي التابعين، فلم نجد أحمد بن حنبل وهو رأس الحنابلة تكلّم في هذا التقسيم، بل لم نجد ذلك في كلّ كتب السنّة التي تحدّثت عن العقائد أصولاً وفروعاً حتّى القرن السابع؛ لذا نجد أنّ المحدّث محمّد العربي التباني المشهور بأبي حامد بن مرزوق، قال:

لم يقل أحمد بن حنبل لأصحابه: إنّ التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإنّ من يعرف توحيد الألوهية لا تعتبر معرفته لتوحيد الربوبية؛ لأنّ هذا كان يعرفه المشركون، وهذه عقيدة الإمام أحمد مدوّنة في مصنّفات أتباعه، في مناقبه لابن الجوزي وفي غيره، ليس فيه هذا الهذيان، وكذا لم يقل أيّ واحد من أتباع التابعين لأصحابه، ولا أيّ صحابي من أصحاب النبي (ص) ورضي عنهم: إنّ التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإنّ من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية؛ لأنّ هذا يعرفه المشركون، فلو اجتمع الثقلان مع ابن تيمية على إثبات هذا التقسيم عند أيّ واحد منهم لا يستطيعون، وأنا أتحدّى كلّ من له إلمام بالعلم أن ينقل لنا هذا التقسيم المخترع ولو برواية واهية (1)


1- اُنظر: السلفية بين أهل السنّة والإمامية، ص 561.

ص:96

ثانياً: المشركون نقضوا هذا التوحيد بآيات كثيرة

إنّ ابن تيمية فرض أنّ المشركين لهم حظّ من التوحيد في الربوبية، ولكن غفل عن أنّ المشركين أنفسهم قد نقضوا ذلك؛ لأنّهم أنكروا البعث والنشور، قال تعالى: (وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) . (الإسراء: 49)

وإنكارهم للآخرة، قال تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ) . (الجاثية: 24)

وإنكارهم للرحمن، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) . (الفرقان: 60)

وقد فسّر ابن كثير هذه الآية بقوله: إنّ الكفّار قالوا: «لا نعرفه ولا نقرّ به»(1). فالذي لا يقرّ ولا يعترف بالربّ، كيف يصح لنا أن نقول بإقراره للربوبية؟ ! وهناك آيات كثيرة يذكرها القرآن، أنكروا فيها توحيد الله جلّ وعلا، سنأتي على ذكرها لاحقاً.

إذن كيف ينسجم ما فرضه ابن تيمية مع هذه الآيات الصريحة التي تنكر أنّهم موحّدون؟ !

ثالثاً: مصاديق يذكرها القرآن تنفي توحيد المشركين للربوبية

يُنقض على ابن تيمية أيضاً تعريفه لتوحيد الربوبية، وهو أنّ ربّ العالمين متصرّف في أمورهم، ولم يخالف في ذلك لا المشركين ولا المسلمين، والآيات القرآنية تنفي هذا المفهوم الحراني. وبمراجعة سريعة لبعض


1- تفسير القرآن العظيم، ج 3، ص 336.

ص:97

الآيات نكتشف خطأ هذا القول، ومن ضمن الآيات التي تبيّن هذه الحقيقة قوله تعالى عن لسان الموحدين: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) . (فاطر: 10) ولكن في قبال ذلك نجد أنّ المشركين في عصر الرسالة عزّتهم تكمن في اتّخاذهم الأصنام آلهةً لهم، قال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) . (مريم: 81)

وكذلك يرى الموحّد أنّ النصر بيد الله تبارك وتعالى فيحكي الله عنهم: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) . (آل عمران: 126) ولكن المشرك في عصر الرسالة كان يعتقد بأنّ النصر بيد الآلهة والأرباب المزيفة، قال سبحانه: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ) . (يس: 74)

وأيضاً الموحّد يؤمن بأنّ أمر التدبير بيد الله، قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) . (لقمان: 34) ولكن المشرك في زمن الرسالة كان يستمطر بالأصنام.

يروي ابن كثير عن ابن هشام:

حدّثني بعض أهل العلم أنّ عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلمّا قدم مآب من أرض البلقاء رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنماً يقال له: (هبل) فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه(1)


1- البداية والنهاية، ج 2، ص 327.

ص:98

رابعاً: لا معنى للتقسيم الربوبي والإلهي بحجّة التلازم

وهذا ما نجده في طيّات كلام الدكتور السلفي عمر عبدالله كامل (1)، الذي فنّد هذا التقسيم، مقتبساً ذلك من العلاّمة الدجوي، قال:

فإنّ الإله الحق هو الربّ الحق، والإله الباطل هو الربّ الباطل، ولايستحق العبادة والتأليه إلاّ من كان ربّاً، ولا معنى لأن نعبد من لا نعتقد فيه أنّه ربّ ينفع ويضر، فهذا مرتَّب على ذلك.

والله تعالى هو الربّ، والربّ هو الإله، فهما متلازمان يقع كلّ منهما موقع الآخر في الكتاب والسنّة وكلام علماء الإسلام [أي: أنّهما شيء واحد بلا تقسيم إلى هذه الثنائية]، وقد أومأ القرآن الكريم والسنّة المستفيضة إلى تلازم توحيد الربوبية والألوهية، قال تعالى: ( أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) . (النمل: 25) فهو يشير إلى أنّه لا ينبغي السجود إلاّ لمن ثبت اقتداره التام ولا معنى لأن نسجد لغيره.

وقال تعالى: (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا) ، (آل عمران:80) فصرّح بتعدُّد الأرباب عند المشركين، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنّهم جعلوا الملائكة أرباباً، فإنّ أصحاب بدعة تقسيم التوحيد يقولون: إنّ المشركين موحّدون توحيد الربوبية، وليس عندهم إلاّ ربّ واحد، وإنّما أشركوا في توحيد الألوهية! !

وانظر إلى قول الكفّار يوم القيامة: (تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم


1- الدكتور عمر عبدالله كامل، كاتب وأستاذ سلفي حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة وأصول الفقه من الأزهر الشريف.

ص:99

بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) . (الشعراء: 97و98) أي: في جعلكم أرباباً، كما هو ظاهر (1)(.

فالدكتور عمر بن عبدالله ينفي هذا التقسيم بشكل قاطع؛ لتلازم كلا المفهومين، فالربّ هو الإله والعكس صحيح، فالقول بقسمتهما هو قول مبتدع، وبالتالي هو يرى أنّ ابن تيمية صاحب بدعة في فرية هذه القسمة التي لم يسبقه فيها أحد سواه.

خامساً: المعاني اللغوية للربّ لاتنسجم مع جحود المشركين لربّهم

أضف الى ذلك أنّه بالرجوع إلى تعريف الربّ في اللغة لم نجد المشركين ينسبون هذا المفهوم إلى الله تعالى وحده، بل كانوا يشركون معه غيره.

قال ابن منظور:

الرب هو الله عزّ وجل، هو ربّ كلّ شيء، أي: مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، وهو ربّ الأرباب، ومالك الملوك والأملاك. ولايقال الرب في غير الله إلاّ بالإضافة، ويقال الرب بالألف واللام لغير الله، وقد قالوه في الجاهلية للملك. . والربيب: الملك ورببت القوم: سستهم، أي: كنت فوقهم. . ربّ الشيء إذا أصلحه (2). فليس هناك معنى للربّ في اللغة سوى الملك والإصلاح أو المصلح.

والطبري تناول تعريف الربّ قائلاً:

وأمّا تأويل قوله ربّ، فإنّ الربّ في كلام العرب متصرّف على معان: فالسيّد المطاع فيهم يدعى ربّاً، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة:

وأهلكن يوماً ربَّ كندة وابنه وربّ معد بين خبت وعرعر


1- بيان خطأ التقسيم الثلاثي للتوحيد، ص 8. http: //www. okamel. com
2- لسان العرب، ج 1، ص 399.

ص:100

يعني ربّ كندة: سيّد كندة.

ومنه قول نابغة بني ذبيان:

تخب إلى النعمان حتّى تناله فدى لك من ربّ طريفي وتالدي

والرجل المصلح للشيء يدعى ربّاً.

ومنه قول الفرزدق بن غالب:

كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت سلاءها في أديم غير مربوب

يعني بذلك في أديم غير مصلح. ومن ذلك قيل: إنّ فلاناً يربّ صنيعته عند فلان إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها.

ثمّ قال: والمالك للشيء يدعى ربّه.

وقد يتصرّف أيضاً في وجوه غير ذلك غير أنّها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة(1)

إذن، يتحصّل من ذلك أنّ المعاني الثلاثة لكلمة الربّ في اللغة هي السيّد المطاع، والمصلح للشيء، والمالك للشيء. كما ذكرها ابن منظور والطبري. فلو دققنا في معانيها فهي تنصرف إلى أصل واحد، وهو نسبة التصرّف المطلق الذي لا يقيّده قيد إلى الله تعالى وحده في تدبير شؤون العالمين، والمشركون لم يكونوا ينسبون إلى الله تعالى وحده هذا المعنى، بل كانوا يشركون معه غيره.

والدليل على ذلك ما قاله تعالى في سورة الزمر: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) . (الزمر: 3) ففي هذه


1- جامع البيان، ج 1، ص93.

ص:101

الآية يبيّن الله تعالى أنّ المشركين قد عبدوا غيره، ونسبوا إلى غير الله فعلاً من الأفعال، وهو التقرّب إلى الله تعالى.

فهذان أمران اثنان لا يجوز نسبتهما إلاّ إلى الله تعالى، والمشركون قد نسبوهما إلى غير الله تعالى (1)

المعنى الصحيح لمفهوم الربوبية

والصحيح أن نعرّف توحيد الربوبية ليس بمعنى الخالقية كما فرضه ابن تيمية، بل هو بمعنى المُدبّرية وإدارة الكون والعالم، وتصريف شؤونه، وهذا المفهوم من البعيد أن يكون جميع المشركين يؤمنون به، بدليل ما تقدّم من الآيات التي تذّم المشركين وأنّ معبودهم لم يخلق شيئاً.

قال تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين) . (لقمان: 11)

وقال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً) . (الفرقان: 3)

وقال جلّ وعلا: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) . (الرعد: 16)

وقال تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ) . (الحج: 73)

وقال جلّ وعلا: ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُ-شْرِكُونَ) . (الروم: 40)


1- اُنظر، سعيد فودة، شرح العقيدة الطحاوية.

ص:102

وهذه الآيات بمجموعها تشير أنّ هناك مدبّراً حكيماً يدير شؤون الكون بدقّة متناهية، فهو الخالق والرازق، وهو النافع، وهو الضار، وهو المحيي والمميت، وهو وهو. . وكلّ هذه المفاهيم تؤكّد هذا المعنى. فلا يمكن أن نحصر هذا المفهوم بالخالقية فقط، ونضيّق دائرة ربوبيته جلّ شأنه.

إذن مما تقدّم اتّضح بطلان هذا التقسيم، وأنّ التوحيد لا يتجّزأ، فلو أنكر الإنسان ضرورياً من الدين، فقد خرج من الإسلام إلى الكفر، فلا يصح أن نقول له: أنت توحيدك ناقص ولم يكتمل بشقّه الآخر.

وكذلك لايصح أن نقول بتلازمية هذين التوحيدين؛ لأنّه أثبتنا أنّ المشركين لم يقرّوا بتوحيد الألوهية، فلا يصح حينئذ أن نقول: إنّهم معترفون بتوحيد الربوبية. وبطلان اللازم يدلّ على بطلان الملزوم بالضرورة.

فتوى الأزهر الشريف بإبطال هذا التقسيم

عندما وُجّهت فتوى لدارالإفتاء المصرية في الأزهر الشريف حول هذا التقسيم، وحكم ما يترتب عليه من تكفير المسلمين؟ جاء الردّ حاسماً ببطلانه وبطلان نتائجه، وأنقل القسم الأوّل منها الذي يختص بالتوحيد، وأحيل القارئ الكريم إلى الصفحات اللاحقة التي عنونّاها (التكفير ومنع التوسل وزيارة قبر النبي (ص)) ، ونص الفتوى كالتالي:

وتقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية هو من التقسيمات المُحدَثات التي لم تَرِد عن السلف الصالح، وأوّل من أحدثه-ا - على ما هو المشهور - هو الشيخ ابن تيمية (رحمه الله) ، ثمّ أخذه عنه مَن تكلّم به بعد ذلك، وحاصل قوله في ذلك: إنّ الربوبية هي توحيد الله بأفعاله، والألوهية هي توحيد الله بأفعال العباد، وأنّهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، أي: أنّ أحدهما يتضمّن

ص:103

الآخر عند الانفراد، ويختص بمعناه عند الاقتران؛ فالألوهية تتضمّن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، وهذا الكلام إلى هذا القدر لاإشكال فيه، إلاّ أنّه تجاوزه إلى الزعم بأنّ هذا التوحيد وحده لا يكفي في الإيمان، وأنّ المشركين مُقِرُّون بتوحيد الربوبية، وأنّ كثيراً من طوائف الأمّة من المتكلّمين وغيرهم قد اقتصروا عليه وأهملوا توحيد الألوهية.

والقول بأنّ توحيد الربوبية لا يكفي وحده في الإيمان هو قول مبتَدَعٌ مخالف لإجماع المسلمين قبل ابن تيمية، بل ومخالف لكلامه نفسِه من أنّ توحيد الألوهية متضمِّنٌ لتوحيد الربوبية، وأنّ توحيد الربوبية مستلزِمٌ لتوحيد الألوهية؛ فإنّ بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فإذا لم يكن المشركون مُقِرِّين بتوحيد الألوهية فلا يصح الزعم بعد ذلك أنّهم كانوا مُقِرِّين بتوحيد الربوبية؛ ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، وإذا صح إقرار المسلمين بتوحيد الربوبية فلا يجوز أن يُدَّعى أنّهم لا يؤمنون بتوحيد الألوهية؛ لأنّ الفرض أنّهما متلازمان، فكيف يثبت الملزوم مع انتفاء اللازم؟ ! وقد تصدّى أهل العلم لردّ هذا القول وبيّنوا فساده، وأنّه قول باطل لا دليل عليه، وأنّ كلّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلاّ النبي (ص) (1). وواضح من هذه الفتوى أنّ القول بهذا التقسيم للتوحيد، فاسد لفساد لوازمه؛ أضف إلى أنّه مخترع، وهو من مُحدثات الشيخ ابن تيمية، وردّده من جاء بعده بلا تأمّل وتحقق فيه، وفيما يترتب عليه.


1- رق-م تسلسل الفتوى 6623/ الموضوع حول تقسيم التوحيد، وحكم تكفير المسلمين، التاريخ 3/2/2007. موقع دارالإفتاء المصرية. وكذلك راجع مقالاً للشيخ علي جمعة بعنوان: احذروا خوارج العصر المكفّرين، فقد ذكر نفس هذا الكلام. مجلة الإسلام وطن، العدد 249 جمادي الأولى 1428ه.

ص:104

العلاّمة يوسف الدجوي المالكي

(1)

) ،

ينقد ويفنّد هذا التقسيم

وقد حمل العلاّمة يوسف الدجوي الأزهري (ت/1365ه) على هذا التصنيف، وناقش في توحيد الربوبية، الذي ادّعى ابن تيمية أنّه لم يخالف فيه المشركين بدليل قوله تعالى: (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . (لقمان: 25)

قال:

إنّ التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية، وغير معقول أيضاً، وما كان رسول الله (ص) يقول لأحد دخل في الإسلام: إنّ هناك توحيدين، وإنّك لا تكون مسلماً حتّى توحّد توحيد الألوهية، ولاأشار إلى ذلك بكلمة واحدة، ولا سُمِع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتّباعهم في كلّ شيء، ولا معنى لهذا التقسيم، فإنّ الإله الحقّ هو الربّ الحقّ، والإله الباطل هو الربّ الباطل، ولايستحق العبادة والتأليه إلاّ من كان ربّاً، ولا معنى لأن نعبد من لا نعتقد فيه أنّه ربّ ينفع ويضر، فهذا مرتب على ذلك كما قال تعالى: (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) ، (مريم:65) فرتب العبادة على الربوبية، فإنّنا إذا لم نعتقد أنّه ربّ ينفع ويضر فلا معنى لأن نعبده، ويقول تعالى: ( أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ


1- يوسف بن أحمد بن نصر بن سويلم الدجوي 1287 - 1365ه : مدرس من علماء الأزهر، من فقهاء المالكية. ولد في قرية دجوة من أعمال القليوبية. وكفّ بصره في طفولته، بمرض الجدري. وتعلّم بالأزهر 1301 - 1317ه وتوفي بعزبة النخل من ضواحي القاهرة ودفن في عين شمس. له كتب، منها: خلاصة علم الوضع، وتنبيه المؤمنين لمحاسن الدين، و سبيل السعادة، و الجواب المنيف في الردّ على مدّعي التحريف في الكتاب الشريف، و رسائل السلام ورسل الإسلام، ورسالة في تفسير: لا يسأل عما يفعل. . وغيرها. اُنظر: الأعلام، ج 8، ص216.

ص:105

وَالْأَرْضِ) (النمل: 25) ، يشير إلى أنّه لا ينبغي السجود إلاّ لمن ثبت اقتداره التام، ولا معنى لأن نسجد لغيره، هذا هو المعقول، ويدل عليه القرآن والسنّة.

وقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه) (لقمان: 25) ، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم إجابة لحكم الوقت مضطرّين لذلك بالحجج القاطعات والآيات البيّنات، ولعلهم نطقوا بما لا يكاد يستقر في قلوبهم أو يصل إلى نفوسهم، بدليل أنّهم يقرنون ذلك القول بما يدل على كذبهم، وأنّهم ينسبون الضر والنفع إلى غيره، وبدليل أنّهم يجهلون الله تمام الجهل ويقدّمون غيره عليه حتّى في صغائر الأمور، وإن شئت فانظر إلى قولهم لهود عليه الصلاة والسلام: (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (هود:54) ، فكيف يقول ابن تيمية: إنّهم معتقدون أنّ الأصنام لاتضر ولاتنفع؟ ! . . . (1)

إذن فهذا التقسيم باطل؛ لأنّ هذه الثنائية لا مبرر لها، فهي مجرد دعوى انفرد بها ابن تيمية، فالربّ هو من يستحق العبادة، وهو بنفس الوقت الإله المعبود، ولا ينبغي السجود إلاّ له.

النتيجة المستوحاة من التقسيم الثنائي للتوحيد
التكفير ومنع التوسل وزيارة قبر النبي (ص)

إنّ النتيجة المترتبة على هذه القسمة الثنائية للتوحيد، هي تكفير المسلمين بشكل عام، لاسيما ممن يعتقدون بالتوسل والشفاعة للنبي


1- اُنظر: التوسل بالنبي، صص 98و 99.

ص:106

وأهل بيته (عليهم السلام) ، فالذين يتوسلون بالأنبياء ويتشفعون بهم وينادونهم عند الشدائد -في نظر ابن تيمية - هم عابدون لهم، قد كفروا باعتقادهم الربوبية في تلك العبادات وبالملائكة وبالمسيح سواء بسواء، فتركوا توحيد الألوهية بعبادتها، وهذا ينطبق على زوّار القبور المتوسلين بالأولياء، المنادين لهم، المستغيثين بهم، الطالبين منهم ما لا يقدر عليه إلاّ الله تعالى، وأيّده بذلك محمّد بن عبدالوهاب بقوله: إنّ كفرهم أشنع من كفر عبّاد الأوثان(1)

قال محمّد بن عبدالوهاب في كتابه كشف الشبهات:

وتحققت أنّ رسول الله (ص) قاتلهم ليكون الدعاء كلّه لله، والنذر كلّه لله، والاستغاثة كلّها بالله، وجميع أنواع العبادات كلّها لله. وعرفت أنّ إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأنّ قصدهم الملائكة، والأنبياء، والأولياء، يريدون شفاعتهم والتقرّب إلى الله بذلك هو الذي أحلّ دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون(2)

وقال أبوزهرة في كتابه ابن تيمية حياته وعصره:

وقد بنى ابن تيمية على رأيه في وحدانية الألوهية والعبادة كلامه في التوسل والوسيلة فمنع على هذا ثلاثة أمور:

أوّلها: التقرّب إلى الله بالصالحين.

وثانيها: الاستعانة والتوسل بالموتى.

وثالثها: زيارة قبور الصالحين والأنبياء للمتمنين ونحوه، وزيارة قبر نبينا (ص) ،


1- الدجوي المالكي في رسالته التي ردّ بها على هذا التقسيم، نقلاً عن كتاب التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين، ص 97.
2- كشف الشبهات، ص 4.

ص:107

وقد خاض ابن تيمية في هذه الأمور الثلاثة وخالف فيها أهل عصره واصطدمت أفكاره بأفكارهم اصطداماً عنيفاً، وشدد عليه في معتقله بسببها(1)

توبيخ أبي زهرة لابن تيمية

ثمّ ردَّ أبوزهرة هذا الكلام معنّفاً ابن تيمية:

وإذا كان خوف ابن تيمية من أن يؤدّي ذلك إلى الوثنية بمضي الأعصار والدهور، فإنّه خوف من غير مخاف؛ لأنّ الناس كانوا يزورون قبر الرسول إلى أوّل القرن الثامن ثمّ بالتوالي إلى يومنا هذا، ومع ذلك لم ينظر إليه نظرة عبادة أو وثنية. . ولا تمنع تلك الذكريات العطرة لأجل عبارات من العوام يحسن إرشادهم لا منعهم من الزيارة، وتفهيمهم لا تكفيرهم، وأنّ الله قد صان التوحيد إلى يوم القيامة (2)

فتوى الأزهر: التوسل بالنبي (ص) مما أجمعت عليه مذاهب الأئمة الأربعة

قد تقدّم سابقاً فتوى دارالإفتاء المصرية الصادرة عن الأزهر بإبطال ثنائية التوحيد، وإتماماً للكلام السابق أستأنف ما قالته دارالإفتاء المصرية في ما يترتب على هذا التوحيد من نتائج، وهي تكفير المسلمين ومنع الزيارة والتشفع بالرسول الأكرم (ص) .

ونص الفتوى هي كالتالي:

أمّا تكفير من توسل بجاه النبي (ص) في الدعاء، فهو على الحقيقة تكفير للسواد الأعظم من علماء الأمّة؛ لأنّ التوسل به (ص) مما أجمعت عليه مذاهب


1- ابن تيمية، حياته وعصره آراؤه وفقهه، ص 267.
2- المصدر نفسه، ص 275.

ص:108

الأئمة الأربعة المتبوعين، وقد ثبت عن النبي (ص) الأمر بالتوسل به في حديث الأعمى وغيره من الأحاديث الصحيحة.

وللشوكاني (1)في كتابه: الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد، كلام نفيس عن جواز التوسل ننقله على طوله لِما فيه من تجلية الأمر في هذه المسألة، يقول (رحمه الله) :

وأمّا التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربّه فقد قال الشيخ عزالدين بن عبدالسلام: إنّه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلاّ بالنبي (ص) إن صح الحديث فيه.

ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه وابن ماجة وغيرهم:

«إنّ أعمى أتى إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله إنّي أصبت في بصري فادع الله لي، فقال له النبي (ص) : توضّأ وصلّ ركعتين، ثمّ قل: اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيك محمّد، يا محمّد إنّي أستشفع بك في ردّ بصري، اللهم شفّع النبي فيّ. وقال: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك. فردّ الله بصره»(2)


1- هو: محمّد بن علي بن محمّد بن عبدالله الشوكاني: 1173ه- 1250ه فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء. ولد بهجرة شوكان من بلاد خولان، باليمن ونشأ بصنعاء. وولي قضاءها سنة 1229 ومات حاكماً بها، له 114 مؤلفاً، منها نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار و البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع و الأبحاث العرضية، وفي الكلام على حديث حب الدنيا رأس كلّ خطية و فتح القدير في التفسير، و إرشاد الفحول في أصول الفقه، . . و الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد. . اُنظر: الأعلام، ج 6، ص 298.
2- وقد علّق أبوعبدالله الحلبي محقق وشارح كتاب الشوكاني الدر النضيد على هذا الحديث، قائلاً: «صحيح، أخرجه أحمد، ج 4، ص 138، والترمذي في الدعوات، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة، ص1385، والحاكم وقال، صحيح أخرجوه من حديث عثمان بن حنيف» . الدرالنضيد في إخلاص كلمة التوحيد، هامش، ص 19.

ص:109

. . . وبهذا تعلم أنّ ما يورده المانعون من التوسل بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: (ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) (الزمر: 3) ، ونحو قوله تعالى: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن: 18) ، ونحو قوله تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لايَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) (الرعد: 14) ، ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل الن-زاع بما هو أجنبي عنه؛ فإنّ قولهم: (ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) (الزمر:3) ، مصرح بأنّهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يعبده بل علم أنّ له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك قوله: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن: 18) ، فإنّه نهي عن أن يدعى مع الله غيره كأن يقول بالله وبفلان، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلاّ الله فإنّما وقع منه التوسل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: (وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) (الرعد: 14) ، الاَية.

فإنّ هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربّهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلاّ الله، ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه، وإذا عرفت هذا لم يَخْفَ عليك دفعُ ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل الن-زاع (1).


1- رق-م تسلسل الفتوى 6623/ الموضوع حول تقسيم التوحيد، وحكم تكفير المسلمين، التاريخ 3/2/2007؛ وراجع، الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد، صص 18 و 22. فقد فنّد في هذا الكتاب الشّبه التي أثارها من قال بعدم التوسل والشفاعة والاستغاثة، بأدلة متينة صحيحة ودامغة، ومعلوم أنّ الفكر الوهابي يرى في الشوكاني أنّه من أعمدة العلم، وآراؤه محل قبول عندهم.

ص:110

ص:111

الفصل الثاني: توحيد الأسماء والصفات

اشارة

ص:112

ص:113

توحيد الأسماء والصفات

اشارة

إنّ التوحيد الذي أثبته ابن تيمية لم يقتصر على تلك الثنائية، بل أضاف لها قسماً ثالثاً أسماه بتوحيد (الأسماء والصفات) .

قال في منهاج السنّة:

فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أنّ طريقة سلف الأمّة إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولاتمثيل، ومن غير تحريف ولاتعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد، فإنّ الله تعالى ذمّ الذين يلحدون في أسمائه وآياته(1)

وقال أيضاً في العقيدة الإصفهانية:

وروى الشافعي في مسنده عن أنس بن مالك أنّه قال عن يوم الجمعة: وهو اليوم الذي استوى فيه ربّكم على العرش، وروى أبوبكر الأثرم عن


1- مجموع الفتاوى، ج 3، ص3؛ الرسالة التدمرية، ص 5؛ العقيدة الواسطية، ص 10.

ص:114

الفضيل بن عياض قال: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف؛ لأنّ الله وصف فأبلغ فقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ، فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه.

ومثل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطّلاع كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهّم أن ينزل عن مكانه كيف وكيف. وإذا قال لك الجهمي: أنا كفرت بربّ ينزل، فقل أنت: أنا أؤمن بربّ يفعل ما يشاء(1)

فتوحيد الأسماء والصفات على ضوء هذا الكلام: هو أن يوصف الله تعالى ورسله بما وصف به نفسه نفياً وإثباتاً، فيمكن إثبات ما أثبته من الصفات وكذلك النفي من غير أن نقول كيف، أو أن نمثّل بغيره أو نحرّف ونعطل تلك الصفات.

نعتقد أنّ هذا المنهج قائم على الرواية لا الدراية وفقهها؛ لذلك نجدهم يتوقّفون على ظاهر الرواية لاسيما إذا صح سندها، فسهام النقد لا تصل إلى المتن وإن خالفت هذه الرواية مسلّمات العقل، فلا يمكن أن يناقش في متنها حتّى لو خالفت العقل بل والفطرة.

آيات وأحاديث الصفات
1- الآيات القرآنية

وقد تمسّك ابن تيمية لهذا التوحيد الصفاتي بظاهر الآيات والروايات، حيث ذكر في عقيدته الواسطية ما يدلّ على مدّعاه، نذكر بعض منها:


1- العقيدة الإصفهانية، ج 1، صص 49و50.

ص:115

قوله جلّ و علا: (هل يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ) (البقرة: 210) .

وقوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ َ ربِّكَ ) (الأنعام: 158) .

وقوله تعالى: ( كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر:21) .

وقوله عزّوجلّ: ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ) (الرحمن: 27) .

وقوله تعالى: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (القصص: 88) .

وقوله جلّ وعلا: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) .

2- الأحاديث

وكذلك ذكر بعض الأحاديث التي تدلّ على تلك العقيدة، كما في العقيدة الواسطية، قال:

من الأحاديث الصحاح التي تلقّاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها، فمن ذلك قوله (ص) :

«يَنْزِلُ رَبُّنَا إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فيقُولُ: مَنْ يَدْعوني فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَه؟» متَّفق عليه.

وقوله (ص) :

«لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِه الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ» متَّفق عليه.

وقوله (ص) :

«يَضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» متَّفق عليه.

ص:116

وقوله (ص) :

«عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزَلينَ قَنِطِينَ، فيظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ» حديث حسن.

وقوله (ص) :

«لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فيهَا رِجْلَهُ [وفي رواية: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فينْزَوِي بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط» متَّفق عليه.

وقوله:

«وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ» حديث حسن(1)

ودلالة هذه الآيات والروايات على التوحيد الصفاتي واضحة في فكر ابن تيمية، وهي التمسّك بكلّ صفة من صفاته تعالى وإمرارها كما جاءت بلا كيف. وإلاّ لزم التعطيل لهذه الصفات، ولا يجب أن تسأل عن الكيفية؛ لأنّها مجهولة.

وإذا فتّشنا في بعض الأحاديث الأخرى التي يرويها نجد ذلك واضحاً، قال في درء التعارض:

قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فبيّن أنّ كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به(2)

وأيضاً: عن إسحاق بن إبراهيم قال: قال لي الأمير عبدالله بن طاهر: يا أبايعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله (ص) : ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ قال: قلت: أعزّ الله الأمير، لا يقال لأمر الربّ:


1- اُنظر: العقيدة الواسطية، صص 19و 20.
2- درء التعارض، ج 2، ص 35.

ص:117

كيف؟ إنّما نزل بلا كيف.

وبإسناده عن عبدالله بن المبارك أنّه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان فقال عبدالله: يا ضعيف، ليلة النصف ينزل في كلّ ليلة، فقال الرجل: يا أباعبدالرحمن، كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟ فقال عبدالله بن المبارك: ينزل كيف شاء(1)

تصحيح ابن تيمية لحديث الشاب الأمرد

وفي الحديث المرفوع الذي رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال:

قال رسول الله (ص) : «رأيت ربّي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء» (2)

ابن تيمية فسَّر هذا الحديث بالرؤية العينية الحسية المحضة، وهذا ما نجده في طيّات كلامه في كتابه بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية في تعقيبه على القاضي أبي يعلى على حديث الشاب الأمرد:

فيقتضي أنّها رؤية عين، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. . الحديث (3)

وكذلك في تعقّبه على ابن خزيمة قال:

وحديث الحكم عن عكرمة في حكم المرفوع أيضاً؛ لأنّه ذكر خبر


1- درء التعارض، ج 2، ص 27.
2- صحح هذا الحديث أبوزرعة، قال العجلوني في كشف الخفاء: «في اللآلئ ابن عباس رفعه، رأيت "ربّي في صورة شاب له وفرة"وروي "في صورة شاب أمرد" قال ابن صدقة عن أبي زرعة: حديث ابن عباس صحيح لا ينكره إلاّ معتزلي. .» كشف الخفاء، ج 1، صص436و437. وقال المتقي الهندي: «ونقل عن أبي زرعة أنّه قال: هو حديث صحيح قلت: وهو محمول على رؤية المنام» كنزالعمال، ج 1، ص228.
3- تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، ج 7، ص 290.

ص:118

الرؤية على وجه لايعلم بالرأي ولا بتأويل القرآن، وكذلك حديث ابن أبي سلمة عن ابن عباس أخبر فيه بأمور لا تعلم من تفسير القرآن. وعلى هذا فيكون خبر عكرمة عن ابن عباس ونحوه رؤية عين، كما يذهب إلى ذلك طوائف من أهل الحديث(1)

فهنا ابن تيمية ابتعد عمن فسّره بالرؤية المنامية، وصرّح بما يجول بذهنه وفكره بهذه العقيدة القريبة من عقائد الكرامية والحشوية، وحجّته هي أنّ خبر الرؤية لا يعلم بالرأي ويقصد به العقل، وكذلك ولا بتأويل القرآن. وقد أجبنا عن ذلك في البحوث السابقه عن إنكار ابن تيمية للمجاز والتأويل مما حدى به للوقوع في شرك التجسيم.

فبعد هذا التصريح والاعتراف، لا يمكن لمن يدافع عنه أن يهرب من هذا الواقع التجسيمي والتشبيهي للمولى جلّ شأنه، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. ولا يجوز لهم أن ينقلوا لنا النصوص التي ذكرها ابن تيمية في عقيدته الواسطية بأنّه قال: إنّ الله ليس كمثله شيء؛ لأنّ ما ذكرناه من أقواله هو مفسّر لمعنى هذه الآية، فعدم المثلية في نظر ابن تيمية هي عينها التجسيم الصريح، كما نجد ذلك في تفسيره للرؤية لله تعالى - كما في الرواية السابقة- بأنّها تنصرف إلى العين المجردة.

التجسيم في كلمات ابن تيمية
اشارة

فابن تيمية وإن لم يصرّح في عقيدته الواسطية وغيرها بالتجسيم مباشرةً، ولكن هذه الآيات والروايات التي استدل بها تقتضي ذلك، لاسيما إذا أضفنا


1- تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، ج 7، ص 294.

ص:119

أو ضممنا إليها كلماته المبثوثة في كتبه والتي نستطيع أن نتلمّس من خلالها هذا الأمر بوضوح تام لايشوبه أدنى شك، فهو يصرّح بها جهاراً وعلناً، أضف إلى ذلك هو ممن لا يتجاوز ظاهرة التعدّي على النصوص كما تقدّم، وهذا أمر جلي لا يحتاج إلى برهان. لذا سنشير إلى بعض كلماته في هذا المجال:

1- نسبة صفة الجسمية صريحاً إلى الله تبارك وتعالى

قال في كتابه بيان تلبيس الجهمية:

وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأمّة وأئمتها، أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً، فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال(1)

وقال في مجموع الفتاوى:

ثمّ لفظ التجسيم لا يوجد في كلام أحد من السلف لانفياً ولا إثباتاً، فكيف يحل أن يقال: مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته؟ !(2)

وقال في منهاج السنّة أيضاً:

أمّا ما ذكره من لفظ الجسم وما يتبع ذلك فإنّ هذا اللفظ لم ينطق به في صفات الله لاكتاب ولا سنّة لا نفياً ولا إثباتاً، ولا تكلّم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم لاأهل البيت ولا غيرهم(3).


1- تلبيس الجهمية، ج 1، ص101.
2- مجموع الفتاوى، ج 4، ص152.
3- منهاج السنّة، ج 2، ص 192.

ص:120

أي: أنّ لفظ الجسم مقبول عند ابن تيمية؛ بحجّة أنّه لم يتكلّم الكتاب ولاالسنّة ولاجاء في لغة الصحابة والتابعين، بل وأهل البيت (عليهم السلام) كما يدّعي، فلابدّ والحال هذه أن نسكت ولا نؤوّل أيّ صفة نطق بها الكتاب أو السنّة.

2- نسبة الرؤية والإشارة إليه تعالى (كونه جسماً)

قال في منهاج السنّة:

وقد يراد بالجسم ما يُشار إليه أو ما يُرى أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم، فمن أراد بقوله: ليس بجسم هذا المعنى قيل له: هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت، بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تقم دليلاً على نفيه(1)

وقال أيضاً:

نعم، رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنّة، وهي أيضاً للناس في عرصات القيامة، كما تواترت الأحاديث عن النبي، حيث قال: إنّكم سترون ربّكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب(2)

3- نسبة الاستواء والثقل لله تبارك وتعالى

قال في كتابه تلبيس الجهمية:

قال عثمان بن سعيد في ردّه على الجهمية. . عن عطاء بن يسار، قال: أتى


1- منهاج السنّة، ج 2، صص 134و 135.
2- مجموع الفتاوى، ج 3، ص 390.

ص:121

رجل كعباً وهو في نفر، فقال: يا أباإسحاق حدّثني عن الجبّار، فأعظم القوم قوله، فقال كعب: دعوا الرجل فإن كان جاهلاً يعلم وإن كان عالماً ازداد علماً، قال كعب: أخبرك أنّ الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن، ثمّ جعل ما بين كلّ سماءين كما بين السماء الدنيا والأرض، وكثفهن مثل ذلك، ثمّ رفع العرش فاستوى عليه، فما في السموات سماء إلاّ لها أطيط كأطيط العلا في أوّل ما يرتحل من ثقل الجبّار فوقهن (1).

ثمّ علّق ابن تيمية على هذا الحديث، قائلاً:

فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة وقد حدّثوا به، هم وغيرهم، ولم ينكروا ما فيه من قوله: من ثقل الجبّار فوقهن، فلو كان هذا القول منكراً في دين الإسلام عندهم لم يحدّثوا به على هذا الوجه(2)

فصفة الثقل للجبّار قد ارتضاها ابن تيمية من خلال هذا النص الذي لم يردّه، بل وافق هؤلاء الأئمة؛ لأنّه في نظره ليس قولاً منكراً في دين الإسلام، وإلاّ لأنكره هؤلاء الأعلام.

ابن قيم الجوزية

(3)يردد ما قاله سلفه من صفة الاستواء والثقل

وكذلك نجد أنّ عقيدة ابن تيمية قد انعكست على تلميذه ابن القيم، فقد جاءت كلماته تناغم ما ردده أستاذه، وهذا ما نراه جلياً في قصيدته النونية


1- تلبيس الجهمية، ج 1، صص572 و 573.
2- المصدر نفسه.
3- قال ابن حجر في الدرر الكامنة: «غلب عليه حبّ ابن تيمية حتّى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذّب كتبه ونشر علمه. واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين، وطيف به على جمل مضروباً بالدرّة، فلمّا مات أفرج عنه وامتحن مرّة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه» . الدرر الكامنة، ج 5، ص 138.

ص:122

حيث قال:

الله فوق العرش فوق سمائه سبحان ذي الملكوت والسلطان

ولعرشه منه أطيط مثل ما قد أطّ رحل الراكب العجلان(1)

وواضح من هذه المفردات أنّه يتبع فيها نفس المنهج التي تبعه سلفه فالعرش له أطيط؛ لأنّ ثقل الربّ هو السبب في ذلك، ولا شك أنّ الثقل من لوازمه الجسمية فقوله: (ولعرشه منه أطيط. . .) صريح في أنّ ثقل الربّ هو السبب في أطيط العرش، ولا شك أنّ الثقل والوزن من لوازمه كونه جسماً.

4- إثبات المكان لله تعالى

قال:

الوجه الرابع: أنّه إذا كان قد خلق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض، وكان ذلك مناسباً في العقل لأن يكون العرش مكاناً له والسموات مكان عبيده، كان الثابت بالآية التي تلاها وبغيرها من الآيات والأحاديث واتّفاق المسلمين دليل على مذهب منازعه دون مذهبه(2)

وقد تعقّبه الشيخ سعيد فودة معلّقاً على كلامه:

اُنظر كيف ينص هنا على أنّ العرش مكان لله تعالى، أي: هو السطح الذي يستقر عليه الله تعالى عن ذلك، وكيف يجاهر بالقول بكلّ جرأة أنّ ذلك هو محل اتّفاق المسلمين ودلالات الآيات والأحاديث(3)


1- شرح قصيدة ابنالقيم، ج1، ص522.
2- بيان تلبيس الجهمية، ج 1، صص 579 و 58
3- الكاشف الصغير، ص 411.

ص:123

5- إثباته أنّ الله فوق العرش

قال:

الوجه الخامس: أنّ العرش في اللغة السرير بالنسبة إلى ما فوقه وكالسقف بالنسبة إلى ما تحته، فإذا كان القرآن قد جعل لله عرشاً وليس هو بالنسبة إليه كالسقف، علم أنّه بالنسبة إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره وذلك يقتضي أنّه فوق العرش(1)

فهنا يصرّح بتفسير العرش بالسرير، فالعرش يكون كالسرير لله تعالى، والله تعالى يكون فوقه كالإنسان بلا فرق. وهذا تجسيم صريح وواضح.

6- جلوس الله تعالى والنبي (ص) معاً على العرش

قال في مجموع الفتاوى:

فقد حدّث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون أنّ محمّداً رسول الله يجلسه ربّه على العرش معه (2)

فصفة الجلوس اشترك فيها الرسول البشر المخلوق مع الخالق المنزّه عن هذه الصفات، فالتجسيم واضح أيضاً من هذه الكلمات التي ارتضاها وأصّل لها، سواء علل ذلك بلا كيف أو غير ذلك؛ لأنّه لو سألنا ابن تيمية أنّك فهمت بتصوّراتك الذهنية أنّ الرسول (ص) يجلسه ربّه على العرش معه؟ فإنّك تصوّرت هذا الجلوس بدليل أنّك تؤمن وتصدّق به، وفي نفس الوقت يطالبنا أن نتصوّره بلا كيف، فتارة نتصوّر هذه الكيفية وتارة نتصوّره أيضاً


1- بيان تلبيس الجهمية، ج 1، ص 576.
2- مجموع الفتاوى، ج 4، ص 152.

ص:124

بلا كيف أليس هذا يشكّل تناقضاً؟ ! لأنّه إمّا نتصوّر ونرسم في ذهننا صورة معيّنة أو لا نتصوّر، وأمّا القول بكلا التصوّرين بالكيف وعدمه فهذا لازم واضح البطلان.

والحقّ: أنّ العقول لا يمكن أن تدركه، وما يتصوّر تشابهه بصفات الإنسان لابدّ أن يؤوّل؛ لأنّه تعالى منزّه عن كلّ نقص وعيب، فهو الكمال المطلق وكلّ ما عداه محض النقص.

ولابدّ أن نشير إلى شيء في غاية الأهمية - وسبق أن نوّهنا إليه - وهو أنّ ابن تيمية عندما يتبنّى رأياً أو عقيدة معيّنة يشرك معه الآخرين لتقوية هذا الرأي، كما نجده هنا، فلا نعلم من هم هؤلاء العلماء المرضيون والأولياء المقبولون في نظره، في حين أنّ جلّ ومعظم العلماء هم على نقيض هذه العقيدة الفاسدة، كما سنأتي على أقوالهم لاحقاً.

7- إثبات الجهة لله تعالى

قال:

وجمهور القائلين بالرؤية يقولون يرى عياناً مواجهة كما هو المعروف بالعقل، كما قال النبي (ص) : «إنّكم سترون ربّكم عزّ وجل يوم القيامة. . .» (1)

فهنا يصرّح بالجهة، فلولا كونه تعالى في جهة لما استطاعوا رؤيته، ويستشهد بالعقل والحديث.

وقال: «إنّ كون الله يرى بجهة من الرائي، ثبت بإجماع السلف والأئمة»(2)


1- منهاج السنّة، ج 3، ص 341.
2- بيان تلبيس الجهمية، ج 2، ص 415.

ص:125

ابتكار مفهوم الجهة العدمية

ثمّ برّر ابن تيمية القول بالجهة بابتكار جديد لم يسبقه غيره بهذه المقالة، وهي الجهة العدمية، قال:

فمن قال الباري في جهة وأراد بالجهة أمراً موجوداً، فكلّ ما سواه مخلوق له، ومن قال: إنّه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ. وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم وقال: إنّ الله فوق العالم فقد أصاب. وليس فوق العالم موجود غيره(1)

فهنا تصريح بكون الله في جهة ولكنها معدومة، فكأنّه هرب من الجهة الحسية كما يصرّح بأنّها أمراً وجودياً، وكلّ ما سواه مخلوق، فلجأ إلى القول بالجهة العدمية.

الشيخ العثيمين والجهة العليا العدمية

وقد ردد الشيخ محمّد بن صالح العثيمين نفس ما قاله ابن تيمية في الجهة العدمية، قائلاً:

هل الله في جهة؟ نقول: أمّا اللفظ فإنّنا نتوقّف فيه وما لنا وله، ولكن المعنى نستفصل: ماذا تريد في جهة؟

إن أردت الله تعالى في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا ممتنع وباطل، وإن أردت بذلك سفل ومخالطة للمخلوقات، فهذا أيضاً باطل ممتنع على الله، فليس الله تعالى في جهة السفل، وليس في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف.


1- منهاج السنّة، ج 2، ص 558.

ص:126

وإن أردت أنّه في جهة عليا عدمية لا تحيط به، ما ثمّ إلاّ هو عزّ وجل فهذا حقّ(1).

الجهة نفس ذات الله تعالى بنظر ابن تيمية

والظاهر أنّ مراده من الجهة العدمية جهة نفس الله تعالى، قال:

فليس فوق العالم شيء غير نفسه، فهو جهة نفسه سبحانه، لا يتوجّه منها إلى شيء موجود خارج العالم، ولا يتوجّه إليها من شيء موجود خارج العالم، وليس هناك شيء موجود غير نفسه يتوجّه منه ولا يتوجّه اليه (2)

وهذا كلام باطل؛ لأنّنا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي للجهة، فهي الموضع الذي تتوجّه إليه وتقصده (3)، فهي نهاية للبعد الذي هو المكان، ومعنى كون الجسم في جهة، أي: أنّه متمكّن في مكان يلي تلك الجهة، وقد يُسمّى المكان الذي يلي جهة ما باسمها كما يقال: فوق الأرض وتحتها، فتكون الجهة عبارة عن نفس المكان باعتبار إضافة.

فالجهة معنى إضافي اعتباري، والمعنى الإضافي غير موجود في ذاته، فإذا قلت: الجهة، أردت بها نسبة المكان الذي تقصده في حركتك إلى مكان ابتداء الحركة، ولا يوجد معنى غير ذلك، ولا يجوز أن يقال: إنّ الجهة هي نفس الجسم الموجود في ذلك المكان؛ لأنّك إذا قلت: جهة الكعبة، فلا تكون الكعبة هي نفس الجهة بل هو أمر حاصل في جهة. . وهذا هو الأصل في معنى الجهة الاصطلاحي وهو ما يريده العلماء عندما يقولون: إنّ الجهة


1- شرح العقيدة السفارينية، ص 101.
2- بيان تلبيس الجهمية، ج 2، ص 118.
3- لسان العرب، ج 13، ص 556.

ص:127

أمر اعتباري (1). إذن مهما أوّل ابن تيمية في معنى الجهة فمآله إلى التجسيم لامحالة؛ لأنّ لازم القول بالجهة هو التحيّز، والتحيّز أنّك حدّدته، وإذا حدّدته يعني أنّك جسّمته، وهذه معادلة واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان.

أضف إلى ذلك أنّ الامام الصادق (ع) يعطينا ضابطاً ومعياراً ينفي الفوقية والمكان والجهة و. . .

قال (ع) :

«من زعم أنّ الله في شيء أو من شيء أو على شيء فقد أشرك، [لأنّه] لو كان الله عزّ وجل على شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان من شيء لكان محدّثا»(2)

ومهما حصرت الله تعالى في شي سواء كانت جهة أو غيرها أو في مكان فوق أو تحت فكلّها معان تلازم الجسمية.

مقولة: (إنّ: الله لا داخل العالم ولا خارجه)

كثيراً ما يردد الأشاعرة والمعتزلة هذه المقولة؛ وهذه العبارة تشعر بأنّ هناك تناقضاً، فكيف يكون الله لا داخل هذا العالم ولا خارجه؟ ! فهنا حالة سلب للوصفين المتقابلين الدخول والخروج من هذا العالم، أليس الله معنا ومحيط بنا؟

ابن تيمية يهاجم الأشاعرة والمعتزلة

من هنا شنَّ ابن تيمية هجوماً لاذعاً على من تبّنى هذه الرؤية.


1- بيان تلبيس الجهمية، ج 2، ص 118.
2- التوحيد، ص 178.

ص:128

قال:

ولم يكونوا يظهرون لعامة المؤمنين وعلمائهم انكار أنّ الله فوق العرش، وأنّه لا داخل العالم ولا خارجه، وإنّما كان العلماء يعلمون هذا منهم بالاستدلال والتوسم كما يعلم المنافقون في لحن القول، قال تعالى: (وَ لَوْ نَشاءُ لِأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)(1). فهنا يصفهم بالنفاق من لحن قولهم، إشارة إلى أنّهم يتبنّون هذه المقولة الباطلة برأيه.

وقال أيضاً:

وهم الذين يقولون: لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولامحايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم(2).

وقال أيضاً:

وكثير منهم يجمع بين القولين ففي حال نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين كليهما، فيقول: لا هو داخل العالم ولا خارجه، وفي حال تعبّده وتألّهه يقول بأنّه في كلّ مكان ولا يخلو منه شيء، وهذه المقالات فسادها معلوم بالضرورة (3). لأنّها في نظره جمع للمتناقضين، وهو محال وباطل بحكم العقل.

ابن أبي الحديد والفخر الرازي يدافعان عن هذه المقولة

وقد دفع هذا التناقض ابن أبي الحديد قائلاً:


1- بيان تلبيس الجهمية، ج 2، ص 83.
2- مجموع الفتاوى، ج 2، ص 298.
3- المصدر نفسه، ج 1، ص 7.

ص:129

ذلك أنّ هذه القضية وهي قولنا: الباري خارج عن الموجودات كلّها على هذا التفسير ليست مناقضة للقضية الأولى، وهي قولنا: الباري داخل العالم، ليكون القول بخلّوه عنهما قولاً بخلّوه عن النقيضين، ألا ترى أنّه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معاً؟ بألاّ يكون الفلك المحيط محتوياً عليه، ولايكون حاصلاً في جهة خارج الفلك، ولو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك، وهذا كما تقول: زيد في الدار، زيد في المسجد، فإنّ هاتين القضيتين ليستا متناقضتين، لجواز إلاّ يكون زيد في الدار، ولا في المسجد، فإنّ هاتين لو تناقضتا لاستحال الخروج عن النقيضين، لكن المتناقض (زيد في الدار، زيد ليس في الدار) ، والذي يستشنعه العوام من قولنا: (الباري لاداخل العالم ولا خارج العالم) غلط مبني على اعتقادهم وتصوّرهم أنّ القضيتين تتناقضان(1)

وقال الفخر الرازي:

فأيّ استبعاد في وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين بالجهة للعالم؟ ! وإن كان الوهم والخيال لا يمكنهما إدراك هذا الموجود، وأيضاً فعمدة مذهب الحنابلة أنّهم متى تمسّكوا بآية أو بخبر يوهم ظاهره شيئاً من الأعضاء والجوارح، صرّحوا بأنّا نثبت هذا المعنى لله تعالى، على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله تعالى وجهاً بخلاف وجوه الخلق، ويداً بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أنّ اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الخيال والوهم.

فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال فأيّ استبعاد في القول


1- شرح نهج البلاغة، ج 13، ص 84.

ص:130

بأنّه تعالى موجود وليس داخل العالم ولا خارج العالم؟ ! وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الوجود (1)

مقولة الإمام علي (ع) : (ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج)

ونحن نعتقد أنّ الأشاعرة وكذلك المعتزلة اقتبسوا هذه المقولة من سيّد الموحّدين وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ؛ ولكن غيّروا وتصرّفوا في ألفاظها بحيث أوهمت أنّ هناك تناقضاً بين الأمرين.

والصحيح هو ما نطق به علي (ع) ، قال:

«ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض. ولا يقال: له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولاغاية. ولا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه أو تهويه، أو أنّ شيئاً يحمله فيميله أو يعدله، ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج» (2)

فهنا يريد أن يشير (ع) إلى أنّ إحاطة الله تبارك وتعالى بخلقه إحاطة قيومية، بمعنى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4) . فلايلج ويدخل في الأشياء كسائر المخلوقات، ولا يخرج منها؛ لأنّ من لوازم ذلك الحدّ، والنهاية، والانقطاع، والغاية و. .

ولا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه أو تهويه، أو أنّ شيئاً يحمله فيميله أو يعدله، فلا تدركه الحواس بنحو المباشرة، ولا تلمسه وتحسّه الأيدي بنحو المماسة، ولا يتغيّر أبداً، ولا يوصف بالغيرية والأبعاض، فصفاته لا يغاير بعضها بعضاً، وليس هو بذي مكان يحويه، فيرتفع بارتفاعه وينخفض


1- أساس التقديس، ج 1، ص 19.
2- نهج البلاغة، ج 2، ص 122.

ص:131

بانخفاضه، فيكون في جهة، كما أنّه غير محمول على شيء، فيميله إلى جانب، أو يعدله على ظهر من غير ميل. وهذا غاية التنزية لله جلّ ثناؤه.

ملخّص دعوى ابن تيمية في التجسيم

من خلال كلماته المتقدّمة نلخّص أهمّ مرتكزاته التي تبنّاها في ثبوت هذه الرؤية:

1- إنّ هذه المعاني - الفوقية والتحتية والنزول والجلوس والرؤية والمكان- ثابتة في الشرع بالنقل والعقل. كما في قوله:

فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولاعقل جهل وضلال(1)

2- عدم نفي الرسول (ص) والأئمة والصحابة ولا أهل البيت - كما يدّعي-لمعنى التجسيم الوارد في الروايات لا نفياً ولا إثباتاً.

أو بمعنى آخر عدم وجود الدليل على النفي فالأمر ممكن بل هو واقع. كما في قوله:

هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تقم دليلاً على نفيه (2).

وقبل الدخول إلى الردّ على هذه الدعوى نلفت النظر إلى أمر يتأوّله ابن تيمية دائماً عندما يُقحَم في هذه المسألة، فنراه يتلاعب بالألفاظ فتارة يستخدم عدم النفي والإثبات من الرسول أو الأئمة أوالصحابة، وأُخرى يعلل ذلك بعدم الكيف والجهل بمعرفة الصفات، وهكذا دواليك.


1- تلبيس الجهمية، ج 1، ص101.
2- منهاج السنة، ج 2، صص 134و 135.

ص:132

ولكن عندما ندقق ونمحّص كلماته نجده يدافع عن عقيدة التجسيم بكلّ قوّة، فيبدأ بالقرآن فيدّعي عدم النفي له، وهذا إثبات لهذه العقيدة، ثمّ يتدرّج بقوله: (ولا اثباتاً) أي: لا نثبت اللفظ لعدم ورده. ولكنه ثابت في المعنى وهو صحيح، فالله جسم على نحو الحقيقة، وهذا هو مراده بعدم النفي والإثبات. وبالتالي هو يثبت الجسمية للمولى جلّ شأنه.

أمّا تعليله بعدم الكيف فلا نكيّفه ولانسأل عن ذلك. فالاستواء معلوم والكيف مجهول. فهذا ما سوف نحققه بشيء من التفصيل بعد الإجابة على هذه الدعاوى.

تقييم وردّ هذه الدعوى
اشارة

أمّا ما استند عليه لإثبات هذه الصفات فهو باطل ولا نصيب له من الصحة؛ وذلك للوجوه التالية:

الوجه الأوّل: الشرع ينفي الجسمية عن ساحة قدسه تعالى

وأمّا الشرع الذي ادّعى عدم نفيه لهذه الصفة، فآياته جلّ وعلا طافحة بنفي هذه الصفة كما في قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 103) .

قال الطبري في تفسيره: «فقال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار وهو يحيط بها»(1)

ثمّ روى نفي الصحابي ابن عباس لهذه الصفة بقوله:

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) يقول: لا يحيط بصر أحد بالملك.


1- جامع البيان، ج 7، ص 390.

ص:133

وكذلك عن قتادة قوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.

وعن عطية العوفي (1)في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم فذلك قوله: (لاتُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الآية (انتهى كلام الطبري)(2)

وقال الآلوسي في تفسير قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى: 11) :

إنّ المماثلة هي المشاركة في النوع والماهية لا مطلق المشاركة. . وأنت تعلم بأدنى التفات أنّه لا يتصوّر الشركة بين الله تعالى الحي العليم المريد القادر المتكلّم السميع البصير، وبين العبد المتّصف بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر، إلاّ في إطلاق الاسم لا غير (3). فالشرع ينفي عن الله تعالى صفة التجسيم.

الوجه الثاني: مقتضى العقل هو النفي المطلق لكلّ صفة تُقرن مع الله تعالى

إنّ العقل الذي ادّعى ابن تيمية أنّه لم ينف الجسمية بقوله: «بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال» (4). كما تقدّم.


1- عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي الكوفي أبوالحسن، من الطبقة الثالثة، من الوسطى من التابعين، روى له البخاري في الأدب المفرد وأبوداود والترمذي وابن ماجة. قال ابن سعد: «كان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة» وقال ابن معين نقلاً عن المزي: «صالح» ، وقال الهيثمي: «وثق» . الطبقات الكبرى، ج 6، ص 304؛ تهذيب الكمال، ج 20، ص 147؛ مجمع الزوائد، ج 3، ص180؛ ج5، ص 74.
2- جامع البيان، ج 7، ص 390.
3- روح المعاني، ج 9، ص 131.
4- تلبيس الجهمية، ج 1، ص101.

ص:134

نقول: بل العقل هو من ينفي ذلك نفياً مطلقاً؛ لأنّه لو كان جسماً، لكان مساوياً لسائر الأجسام في الجسمية، فإن لم يخالف الأجسام من وجه آخر، لزم إمّا حدوثه، أو قدمها. وإن خالفها، لزم كونه مركباً مما به المشاركة، ومما به المخالفة، وهو أيضاً محال. فيستحيل أن يكون جسماً(1) وأيضاً العقل يتساءل: أنّه لو كان الله جلّ وعلا جسماً، فلا بدّ أن يكون حاصلاً في الحيّز، ثمّ لا يخلو إمّا أن يصح خروجه عن ذلك الحيّز، أو لايصح، فإن صح، صح عليه الحركة، وإن لم يصح، لزم أن يكون كالمقيّد العاجز، وهما محالان عليه تعالى. فيستحيل أن يكون جسماً(2)

الوجه الثالث: أهل البيت (عليهم السلام) ينفون التجسيم؛ عن الله تعالى

فقوله: «لا أهل البيت ولا غيرهم. .» نفوا ذلك، فهذا الكلام يبطله ما تقدّم من أقوال أميرالمؤمنين السابقة والإمام الصادق (عليهماالسلام)(3). ومع ذلك نذكر ما نقله محمّد عبدة في خطب نهج البلاغة عن علي (ع) :

«أشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك. وكأنّه لم يسمع تبّرأ التابعين من المتبوعين، إذ يقولون: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) كذب العادلون بك، إذ شبّهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزّاوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم، وقدّروك على الخلقة المختلفة


1- الخلاصة في علم الكلام: نقلاً عن مجلة تراثنا؛ صص177و 178، العدد 34، لسنة 1414ه.
2- المصدر نفسه.
3- وسنأتي في الفصول اللاحقة لنقل أقوال أئمة أهل البيت عليهم السلام مفصّلاً.

ص:135

القوى بقرائح عقولهم. وأشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك، ونطقت عنه شواهد حجج بيّناتك.

وإنّك أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً، ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً» (1)

فهذه الكلمات العظمية والدقيقة تتدفق من فم سيّد الموحّدين وإمام المتّقين تنفي كلّ الصفات التي تطرأ على الذات الإلهية، فمن وصفه بالجسم لم يعرف الله حقّ معرفته؛ والوهم قد خالج عقولهم فجحدوا الله بخواطرهم وساووه بخلقه، وهو جلّت قدرته فوق ما يصفه الواصفون.

ولا نحتاج إلى سند لهذه الخطبة؛ لقطعنا بصحتها فهي موافقة لصريح القرآن، الذي ينزّه الباري عن التجسيم والتشبيه، وكذلك موافقة لصريح العقل الذي يتواءم مع الكتاب في التنزيه المطلق لله تبارك وتعالى.


1- نهج البلاغة، ج 1، ص 164.

ص:136

ص:137

تحقيق في رواية (الاستواء معلوم والكيف مجهول)

اشارة

قد وعدنا سابقاً أنّنا سوف نحقق بهذه المقولة، وقد جاء الكلام حولها الآن، وسوف نناقشها سنداً ودلالة، فكثير من هذه الصفات يأوّلها ابن تيمية دائماً ويردد هذه المقولة في مجموعة من كتبه وينسبها إلى الإمام مالك ونصّها: «الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» (1) ليُبعد شبهة التجسيم عن مدّعياته.

تخريج طرق الرواية حسب الطبقة
اشارة

لم نجد في كتب الحديث هذا النص بهذا اللفظ، فلو استقصينا وأجرينا مسحاً حديثياً لمن خرّجها فلم نعثر عليها بهذه الألفاظ التي نقلها ابن تيمية وغيره. ومن المهم أن نلاحظ البعد الزماني والطبقي لمن رواها وهم كالتالي:


1- الصفدية، ج 1، ص 289. واُنظر: كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير، ج 16، ص473؛ مجموع الفتاوى، ج 3، ص25؛ ج5، ص 348؛ درء التعارض، ج 1، ص 162؛ الرسالة التدمرية، ج 1، ص29.

ص:138

1- عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة (280ه) في الردّ على الجهمية§الرد على الجهمية، ج 1، ص 66.§

)

قال:

حدّثنا مهدي بن جعفر الرملي، حدّثنا جعفر بن عبدالله وكان من أهل الحديث عن رجل قد سمّاه لي، قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أباعبدالله، (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، كيف استوى؟ قال: فما رأينا مالكاً وجد من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء(1)، وأطرق وجعلنا ننتظر ما يأمر به فيه، قال: ثمّ سري عن مالك فقال: الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وإنّي لأخاف أن تكون ضالاًّ، ثمّ أمره به فأخرج (2)

2- عبدالله بن جعفر بن حيان المتوفى سنة (369ه) في طبقات المحدّثين بأصفهان

قال:

حدّثنا عبدالرحمن بن الفيض، قال: ثنا هارون بن سليمان، قال: سمعت محمّد بن النعمان بن عبدالسلام يقول: أتى رجل مالك بن أنس فقال: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كيف استوى؟ قال: فأطرق وجعل يعرق وجعلنا ننتظر ما يأمر به فرفع رأسه فقال: الاستواء منه غير مجهول والكيف منه غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ ضالاًّ أخرجوه(3)


1- العرق الكثير.
2- الردّ على الجهمية، ج 1، ص 66.
3- طبقات المحدّثين بأصفهان، ج 2، ص214.

ص:139

3- هبة الله اللالكائي المتوفى سنة (418ه) في اعتقاد أهل السنّة

قال:

ذكره علي بن الربيع التميمي المقري، قال: ثنا عبدالله ابن أبي داود، قال: ثنا سلمة بن شبيب، قال: ثنا مهدي بن جعفر، عن جعفر بن عبدالله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أباعبدالله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضاء يعني العرق، قال: وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه، قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، فإنّي أخاف أن تكون ضالاًّ، وأمر به فأخرج(1)

4- أبونعيم الإصبهاني المتوفى سنة (430ه) في حلية الأولياء

قال:

حدّثنا محمّد بن علي بن مسلم العقيلي، ثنا القاضي أبوأمية الغلابي، ثنا سلمةبن شبيب، ثنا مهدي بن جعفر، ثنا جعفر بن عبدالله قال: كنّا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أباعبدالله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتّى علاه الرحضاء يعني العرق، ثمّ رفع رأسه ورمى بالعود وقال: الكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وأظنّك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج (2)


1- اعتقاد أهل السنّة، ج 3، ص 398.
2- حلية الأولياء، ج 6، ص 326.

ص:140

5- البيهقي المتوفى سنة (458ه) في الأسماء والصفات
اشارة

رواها بطريقين:

أ- عن يحيى بن يحيى

أخبرنا أبوبكر أحمد بن محمّد بن الحارث الفقيه الأصفهاني، أنا أبومحمّد عبدالله بن محمّد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ، ثنا أبوجعفر أحمد بن زيرك اليزدي، سمعت محمّد بن عمرو بن النضر النيسابوري، يقول: سمعت يحيى بن يحيى، يقول: كنّا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أباعبدالله، (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فكيف استوى؟ قال: فأطرق مالك برأسه حتّى علاه الرحضاء، ثمّ قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ مبتدعاً فأمر به أن يخرج(1)

ب- عن عبدالله بن وهب

أخبرنا أبوعبدالله الحافظ، أخبرني أحمد بن محمّد بن إسماعيل بن مهران، ثنا أبي، حدّثنا أبوالربيع ابن أخي رشدين بن سعد قال: سمعت عبدالله بن وهب، يقول: كنّا عند مالك بن أنس فدخل رجل، فقال: يا أباعبدالله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثمّ رفع رأسه فقال: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه. قال: فأخرج الرجل (2)


1- الأسماء والصفات، ج 2، ص 410.
2- المصدر نفسه، ص 409.

ص:141

6- ابن عبدالبر المتوفى سنة (463ه) في التمهيد
اشارة

رواها بطريقين:

أ- عن يحيى بن يحيى، وقد تقدّم السند في رواية البيهقي
ب- عن أيوب بن صلاح المخزومي

قال:

حدّثنا أيوب بن صلاح المخزومي بالرملة، قال: كنّا عند مالك إذ جاءه عراقي فقال له: يا أباعبدالله، مسألة أريد أن أسألك عنها، فطأطأ مالك رأسه فقال له: يا أباعبدالله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كيف استوى؟ قال: سألت عن غير مجهول وتكلّمت في غير معقول(1)

7- عبدالله بن قدامة المقدسي المتوفى سنة (620ه) في إثبات صفة العلو

قال:

عن جعفر بن عبدالله أنّه قال: جاء رجل الى مالك بن أنس فقال: يا أباعبدالله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضاء يعني العرق، وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه، قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول والإستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه، وإنّي أخاف أن تكون ضالاًّ، وأمر به فأخرج(2)


1- التمهيد، ج 7، ص 151.
2- إثبات صفة العلو، ج 1، ص119

ص:142

8- الذهبي المتوفى سنة (748ه) في العلو للعلي الغفّار

علّق الذهبي على رواية البيهقي المتقدّمة مصححاً لها، قال: «وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني عن ابن وهب. .»(1)

9- الألباني (معاصر) في مختصر العلو

كرر ماقاله الذهبي وعلّق عليها: «سنده قوي»(2)

ملاحظات نقدية حول هذه الرواية
اشارة

ولنا عدّة ملاحظات على هذه الرواية نجملها بما يلي:

1- أغلب طرق هذه الرواية ضعيف سنداً

من ناحية السند فأغلب طرق هذه الرواية ضعيف، لاسيما الرواية الأولى التي رواها الدارمي المتوفي في القرن الثالث سنة (280ه) فهو الأصل لأكثر الطرق لهذه الرواية، والرواية مرسلة؛ لأنّه نقلها عن (رجل سمّاه لي) ولانعلم من هو هذا الرجل.

أضف إلى ذلك وقع في سندها (مهدي بن جعفر الرملي) وهذا الرجل لم يخرّج له البخاري ومسلم، فضلاً عن المجاميع الأربعة الباقية. ولعل السبب في ذلك أنّه صاحب أوهام (3). ويروي عن الثقات أشياء لا يتابعه عليها أحد(4). ونعتقد أنّ المسقط لحديثه قول البخاري عنه: «حديثه


1- العلو للعلي الغفار، ج 1، ص 138.
2- مختصر العلو، ج 1، ص 75.
3- اُنظر: تهذيب الكمال، ج 28، ص 590.
4- تقريب التهذيب، ج 28، ص 118.

ص:143

منكر»(1)؛ لذا قال عبدالرزاق البدر:

وقد اضطرب في روايته لهذه القصّة، فرواها مرّة عن شيخه جعفر بن عبدالله عن مالك، ورواها مرّة أخرى عن شيخه جعفر عن رجل عن مالك، ورواها مرّة ثالثة عن مالك مباشرة(2)

2- الرواية أثر مقطوع لا يحتجّ به

لو تنزّلنا وقلنا بصحة الرواية، ولكنها أثر مقطوع لم يرو عن رسول الله (ص) ، بل الراوي لها هو مالك بن أنس وهو رجل تابعي.

والحديث المقطوع كما هو واضح هو: ما جاء عن التابعين موقوفاً عليهم من أقوالهم وأفعالهم، ولم يرفع لرسول الله (ص) .

ولا يحتجّ به في شيء من الأحكام الشرعية، فضلاً عن العقدية؛ لأنّه كلام أو فعل أحد المسلمين ليس إلاّ، وهو معرض للخطأ والصواب.

نعم، لو كانت هناك قرينة تدلّ على رفعه لرسول الله (ص) لكان صحيحاً ولكن لاقرينة في البين. قال صاحب التقريرات السنية:

المتن الذي أضيف لتابع وكذا من دونه، قولا ً أو فعلاً حيث خلا عن قرينة الرفع والوقف هو المقطوع وهو ليس بحجّة(3)

لذا فكلام الذهبي والألباني في تصحيح هذا الأثر مردود؛ لانقطاعه.

فكلامهما لا يجدي نفعاً؛ لأنّه أثر مقطوع - كما تقدّم - لم يرو عن النبي (ص) أو عن الصحابي على فرض حجّيته، وسيأتي كلام الخطيب


1- ميزان الاعتدال، ج 4، ص 195.
2- الأثر المشهور عن مالك، ص 40.
3- التقريرات السنية في شرح المنظومة البيقونية، ج 1، ص 21.

ص:144

البغدادي في هذا المجال. نعم، وردت رواية موقوفة عن أم سلمة؛ ولكن هذا الرواية ضعّفها المحدّثون ومنهم ابن تيمية نفسه. وسوف نذكرها ونناقشها لاحقاً.

3- عدم ثبوت الصفة لله تعالى بقول صحابي أو تابعي

ذكر الخطيب البغدادي قاعدة جليلة ونافعة في كتابه الفقيه والمتفقّه، وهي:

لا تثبت الصفة لله بقول صحابيٍ أو تابعيٍ إلاّ بما صحّ من الأحاديث النبوية المتّفق على توثيق رواتها، فلا يحتجّ بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته، حتّى لو ورد إسناد مختلف فيه وجاء حديث آخر يعضده فلايحتجّ به(1).

فالخطيب يشدد على عدم قبول اثبات صفة لله من دون ورودها وصدورها القطعي عن رسول الله (ص) . ولو ورد حديث عنه ضعيف، وله طرق كثيرة تعضده فلا عبرة به، فما بالك لو كان الحديث مقطوعاً كما ورد عن مالك.

4- دلالة الرواية تغاير ما نقله ابن تيمية فالكيف غير معقول، لا أنّه غير مجهول، وفرق كبير بينهما

ثمّ إنّه لم يرد هذا النص الذي نقله ابن تيمية بقوله: «الاستواء معلوم والكيف مجهول» بل الصيغة التي تتبعناها في كلماتهم هي: (الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول) وفي بعضها: (وكيف عنه مرفوع) وفرق


1- نقلاً عن كتاب غاية البيان في تنزيه الله عن الجهة والمكان، ص 7.

ص:145

بينهما كبير. فهنا الإمام مالك على فرض صحة مانسب إليه يقول: إنّنا لايمكن أن نتعقّل كيفية النزول. والكيفية التي يقصدها بمعنى (الجسمية) فالمنفي هو الكيفية جملة ًوتفصيلاً.

أمّا على قول ابن تيمية: (الكيف مجهول) فيمكن أن نقول بجسميته ولكنه مجهول لنا لا نعرفه، ولكن نعلمه. فهو يثبت ولا ينفي بشكل قاطع. وهذا هو الفرق الجوهري بين المقالتين.

لذا قال القاضي عياض كما ينقل النووي:

ويا ليت شعري ما الذي جمع أهل السنّة والحق كلّهم على وجوب الإمساك عن الفكر في الذات كما أمروا وسكتوا لحيرة العقل، واتّفقوا على تحريم التكييف والتشكيل وأنّ ذلك من وقوفهم وإمساكهم غير شاك في الوجود والموجود، وغير قادح في التوحيد بل هو حقيقته(1)

فالقاضي عياض يحرّم التكييف، أي: التجسيم والتشخيص لصفات ربّ العالمين، فحقيقة التوحيد أن ننفي التكييف، لا أنّه مجهول بمعنى أنّه موجود ولكنه غير معلوم كما يفهمه ابن تيمية.

5- منهج الإمام مالك التأويلي ينزّه الله تعالى عن الجسمية

وهذا هو الذي دعانا لنقول بمغايرته للرؤية التيمية للصفات المتشابة وعدم الخوض بها. ومن تأويلاته، ما رواه الذهبي:

عن حبيب بن أبي حبيب أنّه قال: (حدّثني مالك قال: يتنزّل ربنا تبارك وتعالى) : يتنزّل أمره، فأمّا هو فدائم لا يزول (2)


1- شرح النووي على صحيح مسلم، ج 5، ص 25.
2- سير أعلام النبلاء، ج 8، ص 105.

ص:146

فهنا أوّل النزول بنزول الأمر، وليس النزول بمعناه الحقيقي بل المجازي. والسبب في ذلك أنّه لايريد أن يجمد على ظاهر اللفظ.

فنفهم من كلام الإمام مالك لهذه المقالة (والاستواء منه غير مجهول) أي: بلحاظ هذا المعنى، نزوله تعالى يعني نزول أمره، أو استواؤه يعني قدرته، بلا فرق بينهما.

من هنا نفهم ما ورد في ذيل هذه الرواية كيف جابه مالكاً ذلك السائل بالطرد وأنّه صاحب بدعة. وكذلك نجد إنكاره الشديد على بعض الأحاديث المتشابهة التي يترآى منها التجسيم. فقد روى الذهبي عن ابن القاسم:

سألت مالكاً عمن حدّث بالحديث، الذين قالوا: (إنّ الله خلق آدم على صورته) . والحديث الذي جاء: (إنّ الله يكشف عن ساقه) وأنّه (يدخل يده في جهنم حتّى يخرج من أراد) . فأنكر مالك ذلك إنكاراً شديداً، ونهى أن يحدّث بها أحد(1)

ولكن الذهبي برّر هذا الإنكار بمعنى لا يقصده الإمام مالك مطلقاً، كما سيتّضح.

قال الذهبي في تعقيبه على كلام مالك المتقدّم: «أنكر الإمام ذلك؛ لأنّه لم يثبت عنده، ولا اتّصل به، فهو معذور»(2)

ولكن هذا التبرير غير موفّق؛ لأنّ الكلام ليس حول سند هذه الروايات التي أوردها السائل، بل الحديث حول مضمون هذه المتون التي تحتمل


1- سير أعلام النبلاء، ج 8، ص 104.
2- المصدر نفسه.

ص:147

التجسيم. والإنكار جاء خوفاً من الخوض في المتشابه من هذه الروايات؛ لأنّ أغلب الناس لايعلم تفسير القرآن، وما هو المحكم منه حتّى يردّ المتشابه إليه، وكذلك ليس لهم اطّلاع بمفردات اللغة وكناياتها ومجازاتها؛ لذا شدد النكير عليهم من هذا الباب. فليس مراده أنّ الحديث لم يتصل به أو لم يثبت عنده.

رواية أم سلمة

أمّا رواية أم سلمة فقد روى اللالكائي في شرح الاعتقاد، والصابوني في عقيدة السلف، وابن قدامة في إثبات صفة العلوّ، والذهبي في العلوّ للعلي الغفّار، واللفظ للأخير:

حدّثنا عبدالصمد بن علي، حدّثنا محمّد بن عمر، حدّثنا أبوكنانة محمّدبن أشرس، حدّثنا أبوعمير الحنفي، عن قرة بن خالد، عن الحسن، عن أمّه، عن أم سلمة رضي الله عنها، في قوله تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) قالت: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر»(1)

فقد يقال: إنّ هذه الرواية تُعدّ قرينة لذلك الحديث المقطوع الذي رواه مالك؛ باعتبار أنّ أم سلمة صحابية فيكون الحديث موقوفاً.

ولكن حتّى مع التسليم بحجّية قول الصحابي، فلا نقبل بهذا الحديث للخدشة في سنده. قال ابن تيمية:


1- شرح الاعتقاد، ج 3، ص 397؛ عقيدة السلف للصابوني، ص 37؛ إثبات صفة العلوّ، ص109؛ العلو للعلي الغفار، ج 1، ص 81.

ص:148

وقد رُوي هذا الجواب عن أم سلمة -رضي الله عنها - موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يُعتمد عليه(1)

فهذا الإسناد عند ابن تيمية لا يعتمد عليه؛ لأنّ أباكنانة غير ثقة وأبوعمير مجهول. فالسند ساقط، وهذا ما أقرّه الذهبي في العلو للعلي الغفّار، قال:

هذا القول محفوظ عن جماعة كربيعة الرأي، ومالك الإمام، وأبي جعفر الترمذي، فأمّا عن أم سلمة فلا يصح؛ لأنَّ أباكنانة ليس بثقة، وأبوعمير لاأعرفه(2)

رواية الترمذي

رواها الخطيب بسنده عن أبي الطيب أحمد بن عثمان السمسار والد أبي حفص بن شاهين يقول:

حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث النبي (ص) : إنّ الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا. . . فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علوّ؟ فقال أبوجعفر الترمذي: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة(3)

نقول: هذه الرواية موقوفة على الترمذي نفسه فهي مقطوعة ولا يمكن أن نحتجّ بها.

وكذلك ما صرّح به الذهبي آنفاً عن ربيعة الرأي ومالك وغيره كابن سفيان بن عيينة، ليس كلامهم محفوظ، بل إنّ هذه الأحاديث تبقى


1- مجموع الفتاوى، ج 3، ص 365.
2- العلو للعلي الغفار، ج 1، ص 81.
3- تاريخ بغداد، ج 1، ص 382.

ص:149

في دائرة عدم الرفع وحكمها أنّها مقطوعة، فلا يصح الاحتجاج بها ولو بقرينة تصرفها لهذا المعنى؛ لأنّها تخالف الفطرة والقرآن والعقل، وقد تقدّم منّا أنّ بعض نصوصها ضعيف السند، والدلالة غير مطابقة لما رواه مالك.

إنكار علماء السنّة على من قال بالتجسيم (قبل زمان ابن تيمية)
اشارة

بعدما تقدّم من ثبوت التجسيم - بشكل قاطع - عند ابن تيمية، ننقل كلمات أعلام أهل السنّة قبل زمان ابن تيمية، لكي نعطي رؤية جليّة أنّ كبار علماء هذه المدرسة تخالف هذا الفكر السلفي المجسّم، ومن هؤلاء العلماء:

1- الإمام أحمد بن حنبل (ت/ 241ه)

فقد أنكر الإمام أحمد على من قال بالتجسيم، حيث قال:

إنّ الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله سبحانه خارج عن ذلك كلّه، فلم يجز أن يسمّى جسماً؛ لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل(1).

وقد علّق الأستاذ السقاف قائلاً: «وهذا الكلام من الإمام أحمد ينسف كلام ابن تيمية نسفاً»(2). وبهذا يتّضح أنّ ابن تيمية يخالف أحمد بن حنبل، الذي تنتمي إليه هذه المدرسة، لذا يجب التأمّل بما ينقله ابن تيمية، لاسيما عن أحمد بن حنبل.


1- التنديد بمن عدّد التوحيد، صص 20و 21.
2- العقيدة، ج 1، ص111.

ص:150

2- القاضي أبوبكر الباقلاني (ت / 403ه)

(1)

)

قال ما نصه:

فإن قالوا: ولِمَ أنكرتم أن يكون البارىء سبحانه جسماً لا كالأجسام كما أنّه عندك-م شيء لا كالأشياء؟ قيل لهم: لأنّ قولنا: شيء، لم يبن لجنس دون جنس ولا لإفادة التأليف، فجاز وجود شيء ليس بجنس من أجناس الحوادث وليس بمؤلَّف، ولم يكن ذلك نقضاً لمعنى تسميته بأنّه شيء، وقولنا: (جسمٌ) موضوع في اللغة للمؤلَّف دون ما ليس بمؤلَّف، كما أنّ قولنا: (إنسان) و (محدَث) اسم لما وُجدَ عن عدم، ولما له هذه الصورة دون غيرها، فكما لم يجز أن نثبت القديم سبحانه محدَثاً لا كالمحدَثات، وإنساناً لا كالناس، قياساً على أنّه شيء لا كالأشياء، لم يجز أن نُثبته جسماً لاكالأجسام؛ لأنّه نقض لمعنى الكلام، وإخراج له عن موضوعه وفائدته (2)

3- الحافظ البيهقي (ت/ 458ه)

(3)

)

وهو من أقطاب أهل الحديث، حيث نفي الجسمية في كتابه الأسماء والصفات، وذكر في باب ما جاء في العرش والكرسي: قال:


1- هو: محمّد بن الطيب بن محمّد بن جعفر بن القاسم القاضي أبوبكر الباقلاني، صاحب التصانيف في علم الكلام، سكن بغداد. وكان في فنّه أوحد زمانه. . . ثقة عارفاً بعلم الكلام. ذكره القاضي عياض في طبقات الفقهاء المالكية، فقال: هو الملقّب بسيف السنّة ولسان الأمّة، المتكلّم على لسان أهل الحديث. اُنظر: تاريخ الاسلام، ج 28، ص 88.
2- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، صص 222و 223.
3- هو الإمام الحافظ العلاّمة شيخ خراسان، أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي البيهقي، صاحب التصانيف. . عمل كتباً لم يسبق إلى تحريرها، منها: الأسماء والصفات، والسنن الكبير، والسنن والآثار، وشعب الإيمان مجلدان، ودلائل النبوّة. . قال أبوالحسن عبدالغافر في ذيل تاريخ نيسابور: أبوبكر البيهقي الفقيه الحافظ الأصولي، الديّن الورع، واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط. اُنظر: تذكرة الحفاظ، ج 3، ص 1133.

ص:151

إنّ العبد أينما كان في القرب والبعد من الله تعالى سواء، وأنّه الظاهر فيصح إدراكه بالأدلة، والباطن فلا يصح كونه في مكان، واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي (ص) : «أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان (1)

4- العلاّمة سيف الدين الآمدي (ت / 631ه)

(2)

)

في كتابه غاية المرام في علم الكلام، قال:

فإن قيل: ما نشاهده من الموجودات ليس إلاّ أجساماً وأعراضاً، فإثبات قسم ثالث مما لا نعقله، وإذا كانت الموجودات منحصرة فيما ذكرناه فلا يجوز أن يكون البارىء عرضاً؛ لأنّ العرض مفتقر إلى الجسم والبارىء لايفتقر إلى شيء، وإلاّ كان المفتقَر إليه أشرف منه وهو محال، وإذا بطل أن يكون عرضاً بقي أن يكون جسماً، قلنا: منشأ الخبط ههنا إنّما هو من الوهم بإعطاء الغائب حكم الشاهد، والحكم على غير المحسوس بما حكم به على المحسوس، وهو كاذب غير صادق، فإنّ الوهم قد يرتمي إلى أنّه لاجسم إلاّ في مكان بناءً على الشاهد وإن شهد العقل بأنّ العالم لا في مكان لكون البرهان قد دلَّ على نهايته، بل وقد يشتدّ وهم بعض الناس


1- اُنظر هامش: دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 129.
2- هو العلاّمة المصنف فارس الكلام، سيف الدين علي بن أبي علي بن محمّد بن سالم التغلبي الآمدي الحنبلي ثم الشافعي. ولد سنة نيف وخمسين. ألف في الأصلين، والحكمة، والمنطق، والخلاف، وله كتاب "أبكار الأفكار" في الكلام، و "منتهى السول في الأصول" و "طريقة" في الخلاف، وله نحو من عشرين تصنيفا، وله ثمانون سنة. وقال سبط الجوزي: لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام، مات في رابع صفر سنة إحدى وثلاثين وست مائة. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج 22، ص 365.

ص:152

بحيث يقضي به على العقل، وذلك كمن ينفر عن المبيت في بيت فيه ميّت لتوهّمه أنّه يتحرّك أو يقوم وإن كان عقله يقضي بانتفاء ذلك، فإذن اللبيب من ترك الوهم جانباً ولم يتّخذ غير البرهان والدليل صاحباً، فإنَّا قد بَيّنا أنّه لابدّ من موجود هو مُبْدِأُ الكائنات، وبيَّنا أنّه لا يجوز أن يكون له مثل من الموجودات شاهداً ولا غائباً، ومع تسليم هاتين القاعدتين يتبيَّن أنّ ما يقضي به الوهم لا حاصل له. ثمّ لو لزم أن يكون جسماً كما في الشاهد للزم أن يكون حادثاً كما في الشاهد وهو ممتنع (1)

إذن بمقتضى ما تقدّم فقد تبيّن أنّ علماء أهل السنّة ينقدون بشكل لاذع على من يقول بالتجسيم قبل زمان ابن تيمية.

إنكار علماء أهل السنّة على ابن تيمية (في زمانه وبعده)
اشارة

وبعد مجئ ابن تيمية وما قرره من مفاهيم خاطئة، عاد علماء أهل السنّة ومحدّثيهم ليُعيدوا الكرّة من جديد، للنهي عن هذه الأفكار التي تبنّاها ودافع عنها في كتبه. وننقل في هذا الصدد بعض من كلمات هؤلاء العلماء:

1- الفخر ابن المعلّم القرشي الفقيه (ت/ 725ه) §هو محمّد بن محمّد بن عثمان القرشي المصري فخرالدين ابن محيي الدين، المعروف بابن المعلّم ولد في شوال سنة 660 ، وسمع من ابن علاق مجلس البطاقة، ومن ابن النحاس مشيخته تخريج منصور بن سليم، ومن عبدالهادي القيسي والنجيب الحراني وغيرهم، وحدث، وكان فاضلاً جواداً، له مصنّفات ونظم، ومات في جمادى الآخرة سنة 725 بدمشق. اُنظر: الدرر الكامنة، ج5، صص 463 و 464.§

)

في كتابه نجم المهتدي، قال:

إن قسماً من القائلين بالتحيّز بالجهة أطلقوا الجسمية ومنعوا التأليف


1- غاية المرام في علم الكلام، صص 185و 186.

ص:153

والتركيب وقالوا: (عنيت بكونه جسماً وجوده) وهؤلاء كفروا. ثمّ قال: قال الإمام أبوسعيد المتولي في كتاب غنية المقبول في علم الأصول: إن قالوا: نحن نريد بقولنا جسم أنّه موجود ولانريد التأليف، قلنا: هذه التسمية في اللغة ليس كما ذكرتم، وهي مُنبئة عن المستحيل فلِما أطلقتم ذلك من غير ورود سمع؟ ! وما الفصل بينكم وبين من يسمّيه جسداً ويريد به الوجود وإن كان يخالف مقتضى اللغة؟ !(1)

2- العلاّمة شهاب الدين أحمد بن يحيى الكلابي الشافعي (ت/ 733 ه)§شهاب الدين أحمد بن يحيى بن إسماعيل الكلابي الحلبي الشافعي المعروف بابن جبريل المتوفى سنة733، ثلاث وثلاثين وسبعمائة، صنّف خبر الجهة ردّاً على ابن تيمية في العقائد. اُنظر: هدية العارفين، ج 1، ص108.§

)

في معرض ردّه على ابن تيمية الذي أثبت الاستواء، قال:

إنّهم يعزلون العقل بكلّ وجه وسبب، ولا يلتفتون إلى ما يسمّى فهماً وإدراكاً، فمرحباً بفعلهم، وتقول: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) .

وقالوا: هذا يدل أنّه مستو على العرش، فلا حبّاً ولا كرامة، فإنّ الله تعالى ما قاله، مع أنّ علماء البيان كالمتّفقين على أنّ في اسم الفاعل من الثبوت ما لا يفهم من الفعل.

وإن قالوا: هذا يدل على أنّه فوقه، فقد تركوا ما التزموه وبالغوا في التناقض والتشهّي والجرأة. وإن قالوا: بل ننفي العقل ونفهم ما هو المراد، فنقول لهم: ما هو الاستواء في كلام لعرب؟ فإن قالوا: الجلوس والاستقرار، قلنا: هذا ما تعرفه العرب إلاّ في الجسم (2).


1- نجم المهتدي ورجم المعتدي، ص 544.
2- التوفيق الرباني، صص 170و171.

ص:154

3- الفقيه تقي الدين الحصني (ت / 829ه)§تقدّمت ترجمته فراجع.§

قال: «والحاصل أنّه وأتباعه من الغلاة في التشبيه والتجسيم»(1)

وقال أيضاً نقلاً عن أبي الحسن علي الدمشقي عن أبيه:

كنّا جلوساً في صحن الجامع الأموي في مجلس ابن تيمية فذكّر ووعظ، وتعرّض لآيات الاستواء، ثمّ قال: [أي: ابن تيمية] واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا. قال: فوثب الناس عليه وثبة واحدة، وأنزلوه عن الكرسي، وبادروا إليه ضرباً باللكم والنعال وغير ذلك(2)

4- شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي (ت / 974ه) §تقدّمت ترجمته.§

قال: «نسب إليه [ أي: إلى الله تعالى شأنه] العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته، وكبرياء جلالته بما أظهر للعامّة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم»(3)

5- العلاّمة محمّد زاهد الكوثري (ت/ 1371ه)§تقدّمت ترجمته فراجع.§

قال في مقدّمة السيف الصقيل:

ومن درس حياته يجدها كلّها فتناً لا يثيرها حاظ بعقله غير مصاب في دينه، وأنّى يوجد نص صريح منقول أو برهان صحيح معقول يثبت الجهة


1- دفع شبه من شبّه وتمرّد، ص123.
2- المصدر نفسه، ص 41.
3- الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم، ص 29.

ص:155

والحركة والثقل والمكان ونحوها لله سبحانه(1)

وقال أيضاً:

فمن قال: إنّه استقر بذاته على العرش، وينزل بذاته من العرش، ويقعد الرسول (ص) على العرش معه في جنبه، وأنّ كلامه القائم بذاته صوت، وأنّ نزوله بالحركة والنقلة بالذات، وأنّ له ثقلاً يثقل على حملة العرش، وأنّه متمكّن بالسماء أو العرش، وأنّ له جهةً وحدّاً وغايةً ومكاناً. وأنّ الحوادث تقوم به، وأنّه يماس العرش أو أحداً من خلقه ونحو ذلك من المخازي، فلا نشك في زيغه وخروجه وبعده عمّا يجوز في الله سبحانه. وهذا مكشوف جدّاً فلا يمكن ستر مثل تلك المخازي بدعوى السلفية، والذين يدينون بها هم الذين نستنكر عقائدهم ونستسخف أحلامهم، ونذكرهم بأنّهم نوابت حشوية (2)

6- الكتّاني (ت / 1383ه)§محمّد عبدالحي بن عبدالكبير ابن محمّد الحسني الإدريسي، المعروف بعبدالحي الكتّاني، عالم بالحديث ورجاله، مغربي، ولد وتعلّم بفاس. له تآليف، منها فهرس الفهارس و اختصار الشمائل و التراتيب الإدارية و ثلاثيات البخاري . . اُنظر: الأعلام، ج 6، صص 187و 188.§

)

ترجم الإمام عبدالحي الكتّاني لابن تيمية في كتابه فهرس الفهارس، بعد أن ذكر أنّ ابن تيمية من الأفراد الذين كثر الخبط في شأنهم بين مكفّر وبين ذاهب بهم إلى منزلة المعصومين، ذكر ما نُقل عنه من أحاديث التجسيم، حيث قال:

ومن أبشع وأشنع ما نُقل عنه قوله في حديث: ينزل ربّنا في الثلث الأخير


1- الكوثري في مقدّمة كتاب السيف الصقيل، ص 6.
2- هامش السيف الصقيل، ص 14.

ص:156

من الليل (كنزولي هذا) ، وقال الرحّالة ابن بطوطة في رحلته: (وشاهدته نزل درجة من المنبر الذي كان يخطب عليه) ، وقال القاضي أبوعبدالله المقري الكبير في رحلته (نظم اللآلي في سلوك الأمالي) حين تعرّض لشيخيه ابني الإمام التلمساني ورحلتهما: ناظرا تقي الدين ابن تيمية وظهرا عليه، وكان ذلك من أسباب محنته.

وكان له مقالات شنيعة: من إمرار حديث النزول على ظاهره، وقوله فيه كنزولي هذا، وقوله فيمن سافر لا ينوي إلاّ زيارة القبر الكريم لا يقصّر لحديث لا تشدّ الرحال(1)

وقال أيضاً:

وهو مطعون عليه في العقائد، وذكر غيره أنّه ظاهري يقول بالتجسيم. وإنّما نقلنا لك هذا تصديقاً لما أشرنا له سابقاً من أنّ الناس غلوا فيه بين مكفّر ومنبىء، وخير الأمور الوسط(2)

نكتفي بهذا القدر من أقوال العلماء، الذين اتّهموا ابن تيمية بأنّه مجسّم؛ وذلك لما وجدوه من تصريح أو تلميح لهذه الصفة التي أثبتها للباري جلّ شأنه.


1- فهرس الفهارس، ج 1، ص 277.
2- المصدر نفسه، ص 278.

ص:157

الفصل الثالث: انفراد ابن تيمية في عقائد التوحيد

اشارة

ص:158

ص:159

عقيدة ابن تيمية في قيام الحوادث بذات الله تعالى

قراءة النص

ابن تيمية في عقيدته يثبت أنّ الحوادث قائمة بذاته المقدّسة، فالحيّز والجهة والمجيء والصعود والنزول، بل والكلام كلّها أفعال قائمة به تعالى. بل هو يؤسس لهذا الأمر، فلأنّها قائمة به فيستطيع أن يتصرّف بها، كما سيأتي في بعض كلماته.

قال في بيان تلبيس الجهمية (ج 2، ص 128) في ردّه على الفخر الرازي الذي أنكر كون التحيّز والجهة قائمة بذاته تعالى:

يوضّح ذلك الوجه الرابع عشر وهو أنّه قال (أي: الرازي) : إنّ المسمّى بالحيّز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكّن ويستقر فيه، وأمّا الذي يكون مختصّاً بالحيّز والجهة فإنّه يكون مفتقراً إلى الحيّز والجهة. . والشيء الذي يمكن حصوله في الحيّز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيّز وجهة، فيكون محتاجاً إلى الحيّز والجهة.

ثمّ يستنكر ابن تيمية هذا الكلام بقوله:

ص:160

ومن المعلوم لكلّ عاقل أنّ تحيّز الجسم أمر قائم به محتاج إليه، ليس هو مستغنياً عن الجسم، وهذا هوالذي يستحيل عقلاً حصول المتحيّز بدونه، فإنّه يستحيل حصول متحيّز بدون تحيّز، وكلّ جسم متحيّز وحصول المتحيّز بدون التحيّز محال.

فهنا يقرر ابن تيمية أنّ التحيّز أمر عقلي يلازم الجسم ولا ينفك عنه فهو قائم به، وإلاّ للزم التفكيك بينهما وهو محال.

وقال في نص آخر:

أحدهما يقدر على التصرّف بنفسه، فيأتي ويجيء وينزل ويصعد ونحو ذلك من أنواع الأفعال القائمة به، والآخر يمتنع ذلك منه، فلا يمكن أن يصدر منه شيء من هذه الأفعال، كان هذا القادر على الأفعال التى تصدر عنه أكمل ممن يمتنع صدورها عنه.

وإذا قيل: قيام هذه الأفعال يستلزم قيام الحوادث به، كان كما اذا قيل: قيام الصفات به يستلزم قيام الأعراض به. . وبكلّ حال فمجرد هذا الاصطلاح وتسمية هذه أعراضاً وحوادث لا يخرجها عن أنّها من الكمال الذي يكون المتّصف به أكمل ممن لا يمكنه الاتّصاف بها، أو يمكنه ذلك ولا يتّصف به(1)

ففي هذا النص يتّضح بصورة جليّة أنّ أفعال المجيء والنزول والصعود قائمة به تعالى وهو يستطيع أن يتصرّف بها، أي: أنّه يستطيع أن ينزل حيث أراد، وأن يصعد متى شاء، وهكذا.

ولو اعترض عليه: أنّ هذه أعراض وحوادث تستلزم المكان أو الحيّز؟


1- مجموع الفتاوى، ج 6، صص 90 و91.

ص:161

فيجيب: أنّ تسميتها بالأعراض أو الحوادث لايخرجها عن الكمال، بل الكمال هو أن يتّصف بهذه الأفعال.

وكذلك الحال في صفة الكلام والحب والبغض وغيرها من الصفات، بحيث نجده يصرّح بأنّ صفة الكلام لابدّ أن يكون لها ظرف تقوم به، ويستشهد بآيات الله في مثل قوله في سورة النمل: (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ) فالمنادي هو الله تعالى، ولابدّ أن تقوم به هذه الصفة، ومعلوم أنّ الحروف تدل على الاستقبال، إذن فهذه الصفة قائمة به تعالى. وهذا الكلام صرّح به في منهاج السنّة، حيث قال:

وقلنا: الكلام لا بدّ أن يقوم بالمتكلّم، فإن قلتم لنا: قد قلتم بقيام الحوادث بالربّ، قالوا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دلّ عليه الشرع والعقل، ومن لم يقل إنّ البارئ يتكلّم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء، فقد ناقض كتاب الله تعالى؛ لأنّ الله يقول: (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ) وقال: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال(1)

وواضح من هذه النصوص أنّ صفة البغض والحب والكلام يعاملها ابن تيمية معاملة الإتيان والمجيء؛ لأنّها قائمة بذاته كما يدّعي، فقاس بذلك هذه الصفات بذوات المخلوقين، فكما أنّ الكلام قائم بذات الإنسان وتصدر الكلمات من فمه، فالله تعالى ذكره من هذا القبيل، مما يؤدّي بالنتيجة إلى القول بالتجسيم، وهذا ما نبّه عليه السبكي في الدرّة المضية في الردّ على ابن تيمية، قال:


1- منهاج السنّة، ج 2، ص380.

ص:162

فأثبت الصفة القديمة [أنّها]حادثة، والمخلوق الحادث قديماً، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملّةٍ من الملل، ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي افترقت عليها الأمّة، ولا وقفت به مع أمّة من الأمم(1)

قال في منهاج السنّة:

ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال، ولكن يقوم به [ أي: بذاته تعالى] ما يشاؤه ويقدر عليه. . ونحو ذلك مما دلّ عليه الكتاب والسنّة(2)


1- الدرّة المضية في الردّ على ابن تيمية، ص 4.
2- منهاج السنّة، ج 1، ص298.

ص:163

النقد

أوّلاً: خلط ابن تيمية بين صفات الفعل والذات

واضح من كلماته أنّ هناك خلطاً واضحاً بين صفات الفعل وصفات الذات، والفرق بينهما كبير، فالصفة الذاتية (مثل القدرة والعلم والحياة) يستحيل اتّصاف الذات الإلهية بنقيضها، فلا يقال: (الله عالم بكذا) و (ليس عالماً بكذا) .

أمّا الصفات الفعلية (مثل الخلق والرزق) فيمكن اتّصاف الذات الإلهية بها في حال وبنقيضها في حال آخر، فيقال: (إنّ الله خلق كذا ولم يخلق كذا) . وكذلك صفة (التكلّم) ، فإنّه يصح أن يقال: (كلّم الله موسى ولم يكلّم فرعون) ، ويقال: (كلّم الله موسى في جبل طور، ولم يكلّمه في بحر النيل) .

والشيعة مذهبها أنّه تعالى متكلّم وكلامه حادث لورود بعض الروايات التي دلّت على ذلك؛ ولأنّ الكلام عبارة عن الألفاظ المركّبة والمعاني المرتّبة ولا يعقل منه غيرهما، ولا شك أنّ كلّ واحد منهما حادث. وأيضاً لو

ص:164

كان الكلام قديماً لزم تحقق الخطاب والطلب في الأزل بدون المخاطب، وأنّه سفه لا يليق بجنابه تعالى.

إذن فكلامه وبعض صفاته الأُخرى ليس عين ذاته؛ لأنّ صفة الذات أزلية قديمة وهذه الصفات حادثة فعلية. والصفات الفعلية لاتقوم بذاته -وهذا ما وقع فيه ابن تيمية من الخلط - لأنّ الله ليس محلّاً للحوادث لملازمته للمكان والحيّز والحدّ والتغيّر و. . .

لذا نقول: إنّ صفة الكلام لابدّ أن تقوم بغيره جلّ وعلا كالهواء أو بجبرئيل أو بالشجر أو بغيره من الأجسام الجمادية، وعندما نصفه بالكلام أو كونه متكلّماً، مرادنا من ذلك إيجاد الكلام في هذه الأشياء.

قال أميرالمؤمنين (ع) :

«يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولايتحفّظ، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقّة، يقول لمن أراد كونه كن فيكون، لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله. لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً» (1).

وهنا يؤكّد أميرالمؤمنين على هذه الحقيقة وهي أنّ كلامه لا بلسان ولابخروق أو أدوات كاللسان أو الأذن أو العين فكلّها أدوات حسّية جسمانية الله منزّه عنها، ثمّ يؤكّد على أنّ هذا الكلام أوجده الله وأنشأه في الأشياء، لا أنّه من ذاتياته أو أنّه قائم به. وأيضاً أشار إلى أنّه لو قلتم بأنّ الكلام قديم للزم تعدد القدماء، وكان إله آخر غير الله وهو باطل.


1- نهج البلاغة، ج 2، ص 122.

ص:165

ثانياً: قيام الحوادث بالله تعالى يستلزم قيام الناقص بالكامل

إنّ دعوى ابن تيمية: قيام الحوادث بذات الله تعالى، وبعبارة أخرى: قيام المخلوق بذات الله تعالى (لأنّ الحادث مخلوق) تستلزم قيام الناقص بالله الكامل. فالكامل لا يحلّ به نقص أبداً، وإلاّ تنافى مع كونه كاملا ً، ولكان حادثاً، والله تعالى منزّه عن الحدوث، فجواز اتّصاف الكامل بالناقص خلف؛ إذ كيف يكون كاملاً وفي نفس الوقت ليس كاملاً؟ ! وهذا باطل، فيستحيل أن تقوم الحوادث بالله تعالى(1)

ثالثاً: قيام الحوادث بذاته تعالى من لوازمه الحتمية والتغيّر

ثمّ إنّ القول بقيام الحوادث بذاته تعالى، من لوازمه الحتمية والتغيّر، وهذا لازم لايلتزم به أحد، فإذا كان كذلك بطل الملزوم أيضاً، فنسأل ما هو مفهوم التغيّر؟ أليس هو طروء شيء عليه، وانتقاله من حال إلى أخرى؟ فلو فرضنا أنّ هذا الحادث قام بذاته تعالى؛ لطرأ على الذات الإلهية شيء لم يكن موجوداً، وهذا هو معنى التغيّر وهو باطل.

أمّا اللازم الباطل، أي: التغيّر، فهو مستلزم للتأثّر والانفعال، والله منزّه عن ذلك. إذن، فمن المحال قيام الحوادث به جلّ شأنه.

رابعاً: تناقض ابن تيمية في هذه العقيدة

وهذا ما نجده في كتابه التسعينية؛ حين سُجن وردَّ على بعض من امتحنه من القضاة والعلماء، قال:


1- دراسات في منهاج السنّة، ص 132.

ص:166

وأمّا قول القائل (أي: القضاة والعلماء) : إنّ كلام الله حرف وصوت قائم به هو معنى قائم بذاته، فليس في كلامي ولا قلته قط(1)

ردود علماء السنّة والشيعة على هذه العقيدة
اشارة

لذا نجد أنّ أكثر العلماء قد أبطلوا هذه العقيدة، وننقل بعضاً من أقوالهم، وهي كالتالي:

1- الإمام الفخر الرازي (ت / 606 ه-)

(2)

)

قال في إبطال هذه العقيدة:

الأوّل: أنّ قيام الحوادث بذات الله محال؛ لأنّ تلك الذات إن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها، لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات، وإن لم تكن كافية فيه، فحينئذ تكون تلك الذات واجبة الاتّصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها، وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شيء منفصل، والموقف على الموقوف على الغير، موقوف على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته، ينتج أنّ الواجب لذاته ممكن لذاته، وهو محال.

والثاني: أنّ ذاته لو كانت قابلة للحوادث، لكانت قابلية تلك الحوادث من لوازم ذاته، فحينئذ يلزم كون تلك القابلية أزلية، [وهو ممتنع]؛ لأنّ قابلية


1- اُنظر: كتاب التسعينية، ص 115.
2- المتكلّم صاحب التفسير والتصانيف، يعرف بابن خطيب الري، واسمه محمّد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التيمي البكري، أبوالمعالي وأبوعبدالله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له: ابن خطيب الري، أحد الفقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنّف، منها: التفسير الحافل، والمطالب العالية، والمباحث الشرقية، والأربعين، وله أصول الفقه والمحصول وغيره. اُنظر: البداية والنهاية، ج 13، ص 66.

ص:167

الحوادث مشروط بإمكان وجود الحوادث، وإمكان وجود الحوادث في الأزل محال، فكان وجود قابليتها في الأزل محالاً.

الثالث: أنّ تلك الصفات لمّا كانت حادثة الإله الموصوف بصفات الإلهية موجوداً قبل حدوث هذه الصفات، فحينئذ تكون هذه الصفات مستغنى عنها في ثبوت الإلهية، فوجب نفيها، فثبت أنّ تلك الصفات إمّا أن تكون حادثة أو قديمة، وثبت فسادهما فثبت امتناع وجود الصفة (1)

2- العلاّمة سيف الدين الآمدي (ت /631ه)

(2)

قال سيف الدين الآمدي في كتاب غاية المرام:

فالرأي الحق والسبيل الصدق والأقرب إلى التحقيق أن يقال: لو جاز قيام الحوادث به لم يخل عند اتّصافه بها، إمّا أن توجب له نقصاً أو كمالاً، أو لا نقص ولا كمال، ولا يجوز أن يقال بكونها غيرَ موجبة للكمال ولا النقصان، فإنّ وجود الشيء بالنسبة إلى نفسه أشرف له من عدمه، فما اتّصف بوجود الشيء له وهو مما لا يوجب فوات الموصوف ولافوات كمال له.

وبالجملة لا يوجب له نقصاً، فلا محالة أنّ اتّصافه بوجود ذلك الوصف له أولى من اتّصافه بعدمه، لضرورة كون العدم في نفسه مشروفاً بالنسبة إلى مقابله من الوجود، والوجود أشرف منه، وما اتّصف بأشرف الأمرين من غير أن يوجب له في ذاته نقصاً، تكون نسبة الوجود إليه مما يرجع إلى النقص والكمال، على نحو نسبة مقابله من العدم، ولا محالة من كانت نسبته إلى ذلك وجود ذلك الوصف أشرف منه بالنسبة إلى عدمه، وغير جائز أن


1- التفسير الكبير، ج 1، صص 112و 113.
2- تقدّمت ترجمته فراجع.

ص:168

يقال: إنّها موجبة لكماله، وإلاّ لوجب قدمها؛ لضرورة أن لا يكون البارئ ناقصاً محتاجاً إلى ناحية كمال في حال عدمها، فبقي أن يكون اتّصافه بها مما يوجب القول بنقصه بالنسبة إلى حاله قبل أن يتّصف بها، وبالنسبة إلى ما لم يتّصف بها من الموجودات، ومحال أن يكون الخالق مشروفاً أو ناقضاً بالنسبة إلى المخلوق، ولا من جهة ما كما مضى(1)

3- العلاّمة الإسفراييني (ت / 741ه)

(2)

)

قال في كتابه التبصير في الدين:

هو أن تعلم أنّ الحوادث لا يجوز حلولها في ذاته وصفاته؛ لأنّ ما كان محلّاً للحوادث لم يخل منها، وإذا لم يخل منها كان محدّثاً مثلها، ولهذا قال الخليل عليه الصلاة والسلام: (لاَ أُحِبُّ الآفِلينَ) (الأنعام: 76) ، بيَّن به أنّ من حلّ به من المعاني ما يغيّره من حال إلى حال كان محدَثاً لا يصح أن يكون إلهاً (3).

4- الشيخ الطوسي (ت / 460ه)

(4)

)

قال في التجريد:

إنّ وجوب الوجود يقتضي تحقق كلّ شؤونه وكمالاته فيه طرّاً،


1- غاية المرام في علم الكلام، صص 191 و192.
2- هو العلاّمة المفتي، أبوالمظفر، طاهر بن محمّد الإسفراييني، ثمّ الطوسي، الشافعي، صاحب التفسير الكبير. كان أحد الأعلام. توفي بطوس في سنة إحدى وسبعين وأربع مائة. اُنظر: سير أعلام النبلاء، ج 18، ص401.
3- التبصير في الدين، صص 97 و 98.
4- أبوجعفر الطوسي شيخ الشيعة، وصاحب التصانيف، أبوجعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي. قدم بغداد. . وكان يعدّ من الأذكياء، ذكره ابن النجار في "تاريخه". وله تصانيف كثيرة، منها: كتاب "تهذيب الأحكام" كبير جدّاً، وكتاب "مختلف الأخبار"، وكتاب "المفصح في الإمامة" ومات في المحرم سنة ستين وأربع مائة. اُنظر: سير أعلام النبلاء، ج 18، ص 335.

ص:169

ومالم يزل في طريق التكامل والتغاير، لا يتّصف بوجوب الوجود؛ إذ الوجوب يلازم الفعلية ويناقض التدريج (1)

فالتغيّر نتيجة وجود استعداد في المادة، الذي يخرج تحت شرائط خاصّة من القوّة إلى الفعل. فالبذر الذي يلقى في الأرض ويقع تحت التراب، حامل للقوّة والاستعداد، ويخرج في ظلّ شرائط خاصّة من تلك الحالة، ويصير زرعاً أو شجراً. فلو صحّ على الواجب كونه محلّاً للحوادث، لصحّ أن يحمل وجوده استعداداً للخروج من القوّة إلى الفعلية، وهذا من شؤون الأمور المادية، وهو سبحانه أجلّ من أن يكون مادة أو مادياً (2).

5- العلاّمة الحلّي (ت/ 726ه)

(3)

)

قال في شرح تجريد الاعتقاد، في المسألة السادسة عشرة في أنّه تعالى ليس محلّاً للحوادث:

أقول: وجوب الوجود ينافي حلول الحوادث في ذاته تعالى وهو معطوف على الزائد، وقد خالف فيه الكرامية، والدليل على الامتناع أنّ حدوث الحوادث فيه تعالى يدلّ على تغيّره وانفعاله في ذاته، وذلك ينافي الوجوب، وأيضاً فإنّ المقتضي للحادث إن كان ذاته كان أزلياً، وإن كان


1- تجريد الاعتقاد، ص 180.
2- الإلهيات، ص 466.
3- الحسن يوسف بن المطهر الحلي عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم، وكان آية في الذكاء، شرح مختصر ابن الحاجب شرحاً جيّداً، سهّل المأخذ، غاية في الإيضاح، واشتهرت تصانيفه في حياته، وهو الذي ردّ عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه المعروف بالردّ على الرافضي، وكان ابن المطهر مشهر الذكر وحسن الأخلاق، ولمّا بلغه بعض كتاب ابن تيمية، قال: لو كان يفهم ما أقول أجبته. ومات في المحرم سنة ست وعشرين وسبع مائة عن ثمانين سنة، وكان في آخر عمره انقطع في الحلة إلى أن مات. اُنظر: لسان الميزان، ج 2، ص 317.

ص:170

غيره كان الواجب مفتقراً إلى الغير وهو محال؛ ولأنّه إن كان صفة كمال استحال خلوّ الذات عنه، وإن لم يكن استحال اتّصاف الذات به (1)

إذن فلو قلنا: إنّ الصفة محدثة في الله تعالى، لزم أن تحدث في محل! وليست الذات الإلهية محلّاً للحوادث، وللزوم التغيّر والانفعال وهو باطل؛ لأنّه واجب الوجود، وإن كان هذا الحادث المقتضي له هو ذات الله، فهذا محال لأزليته تعالى، وإن كان غيره كان مفتقراً له، وهو محال أيضاً. وهناك ردود أُخرى ذكرها السبكي في كتابه السيف الصقيل، جديرة بالمراجعة.


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 408.

ص:171

عقيدة ابن تيمية في صدور الحوادث عن الله لا أوّل لها

اشارة

ذكر ابن تيمية في عدّة مواضع من كتبه بأنّ الحوادث لا أوّل لها مع كونها مخلوقة لله تعالى، وقد اعتمد ابن تيمية في فهمه لهذه العقيدة على رواية للبخاري في صحيحه، عن عمران بن حصين عن النبي (ص) : «كان الله ولم يكن شيء قبله» (1). كما صرّح بذلك ابن حجر العسقلاني بقوله:

تقدّم في بدء الخلق بلفظ: ولم يكن شيء غيره، وفي رواية أبي معاوية: كان الله قبل كلّ شيء، وهو بمعنى كان الله ولا شيء معه، وهي أصرح في الردّ على من أثبت حوادث لاأوّل لها، من رواية الباب. وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية (2)

والحال نفسه نطق به العلاّمة الألباني في معرض كلامه على حديث (إنّ أوّل شيء خلقه الله تعالى القلم) ، قال:

و فيه ردّ على من يقول بأنّ العرش هو أوّل مخلوق، و لا نص في ذلك


1- صحيح البخاري، ج 8، ص175.
2- فتح الباري، ج 13، ص 346.

ص:172

عن رسول الله (ص) ، و إنّما يقول به من قاله كابن تيمية و غيره استنباطاً واجتهاداً، فالأخذ بهذا الحديث - و في معناه أحاديث أخرى - أولى؛ لأنّه نص في المسألة، ولا اجتهاد في مورد النص كما هو معلوم. وفيه ردّ أيضاً على من يقول بحوادث لا أوّل لها، وأنّه ما من مخلوق إلاّ ومسبوق بمخلوق قبله، وهكذا إلى ما لا بداية له، بحيث لا يمكن أن يقال: هذا أوّل مخلوق(1)

قراءة النص

وفيما يلي أقواله التي تدلّ بشكل صريح على اعتناق هذه العقيدة.

1 - قال في مجموع الفتاوى: (ج 18، ص 239) .

فالأزل معناه عدم الأوّلية، ليس الأزل شيئاً محدوداً، فقولنا: لم يزل قادراً بمنزلة قولنا هو قادر دائماً، وكونه قادراً وصف دائم لا إبتداء له، فكذلك إذا قيل: لم يزل متكلّماً إذا شاء ولم يزل يفعل ما شاء يقتضي دوام كونه متكلّماً، . . . وإذا قيل: لم يزل يخلق كان معناه لم يزل يخلق مخلوقاً بعد مخلوق، كما لا يزال في الأبد يخلق مخلوقاً بعد مخلوق تنفى ما تنفيه من الحوادث والحركات شيئاً بعد شيء، وليس في ذلك إلاّ وصفه بدوام الفعل، وإن قدر أنّ نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل بل هى من كماله.

وهنا يفسّر ابن تيمية الأزل بعدم أوّليته تعالى، فينفي أنّه هو الأوّل، وإن فسّرها بالقدرة الدائمة. ثمّ يستنتج أنّه لم يزل يخلق مخلوقاً بعد آخر، وهذا


1- سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج 1، ص 257.

ص:173

مايؤدّي إلى وصفه بدوام الفعل، ولازم داوم فعله وخلقه هو أنّه ما من مخلوق إلاّ ومسبوق بمخلوق قبله؛ لأنّه فرض وأسس عدم أوّليته تعالى شأنه، فلابدّ أن يكون مسبوقاً بخلق آخر، وهكذا دواليك إلى ما لا بداية له، بحيث لا يمكن أن يقال: هذا أوّل مخلوق.

2- ومن الأدلة التي طرحها هي ديمومة فعل الله تعالى وأنّه غير مسبوق بفعل أو بخلق آخر، قوله في بيان تلبيس الجهمية (ج 1، ص 155) :

إنّ الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده، كما قال: (وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، في غير موضع، وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة، وأخبر أيضاً: أنّه يغيّر هذه المخلوقات في مثل قوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ، وقوله تعالى: (وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) . ومن المعلوم أنّه لم يتعقّب الإعادة عدمه كما لم يتقدّم ابتداء خلق السموات والأرض العدم المطلق، وفي قوله تعالى: (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ * وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ) ، وقوله: (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. . .) فأخبر في هذه الآيات أنّ الخلق الذي ابتدأه وخلقه في ستة أيام يعيده ويقيم القيامة، وقد أخبر أنّه خلقه من مادة وفي مدّة، وأنّه إذا أعاده لم يعدمه، بل يحيله إلى مادة أخرى وفي مدّة. (بلا بداية لهذا الخلق) .

ابن تيمية في هذا المقطع يستدل بأنّ فعل الله غير منقطع وغير مسبوق بخلق دون آخر؛ وعلّة ذلك هي:

أ- إنّ الله كما يخلق الأشياء يُعيدها كما خلقها أوّل مرّة. وهو القائل

ص:174

تعالى: (أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وكذلك الله تعالى يغيّر مخلوقاته كما في قوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ. . .) فهنا دوام واستمرار في الخلق.

ب - ثمّ إنّ هذه الإعادة لم يتعقّبها العدم، ويضرب مثالاً لذلك: إنّ السموات والأرض لم يتقدّم خلقها من العدم.

ج - هذه المخلوقات كالسموات والأرض خلقتا من مادة، وليس من العدم.

د- وحتّى لو عاده لم يعدمه، بل يحيله إلى مادة أخرى، وهكذا دواليك، فليس هناك مخلوقاً أوّلاً، ولا يمكن أن نقول: إنّ هناك أوّل مخلوق.

3- وقال في الردّ على من قال بقدم العالم: «بل غاية ما يقررونه أنّه لابدّ من دوام فعل الفاعل»(1)

وقد أقرّهم ابن تيمية على ذلك، أي: أنّه أقرَّ بوجوب كون فعل الله تعالى دائماً لاينقطع، وهذا هو أصل قوله بالتسلسل، ولا فرق في وجوب الفعل على الله تعالى شيئاً بعد شيء، بحيث يصدر عنه تعالى حوادث لا أوّل لها، وبين وجوب الفعل عليه تعالى في مادة العالم ثمّ عدم تناهي صورها، وعلى القولين يلزم الوجوب على الله تعالى، وعدم إمكان الانفكاك عن الفعل، وهو الذي التزمه ابن تيمية بالقول بالتسلسل.

فمجموع الحوادث أو نوعها مسبوق بالله عزّوجل، وأنّ أفعاله تعالى لانهاية لها: بمعنى أنّ سلسلة الحوادث لا بداية لها في المضي، وبذلك تكون لا أوّل لها.


1- الرسالة الصفدية، ج 1، ص 132.

ص:175

النقد

لزوم التناقض في التمسّك بهذه العقيدة

إنّ ابن تيمية يردد دائماً: أنّ سلسلة الحوادث لا بداية لها. ولكن لابدّ أن تكون هذه الأشياء التي خُلقت كالعرش أو الكرسي أو السموات والأرض مسبوقة بالله تعالى، بمعنى أنّ الله هو الخالق والموجد لها.

فلابدّ أن يكون هذا الخلق مسبوقاً بشيء فوجب أن يكون محدوداً ومتناهياً، أي: هذا المخلوق.

ثمّ لو سلمنا أنّ كلّها على ما هي عليه من عدم التناهي، وأنّها صادرة بإرادة الله تعالى، فكيف نتصوّر أمراً صادراً بالإرادة وهو لا بداية له؟ !

وقد اتّفق العقلاء جميعاً على أنّ كلّ ما كان فعلاً صادراً عن إرادة، فيجب أن يكون حادثاً بعد أن لم يكن.

وقد أدرك الفلاسفة استحالة أن ينشأ ما لا نهاية له في الأزل عن إرادة مريد، فلذلك قالوا: بأنّ العالم صادر عن الله تعالى صدور المعلول عن العلّة. وبهذا ينتفي القول بأنّ صدور الحوادث عن الله تعالى لا أوّل لها.

ص:176

قال الشيخ الطوسي:

إذا قال: إنّها محدثة اقتضى أنّ لها أوّلاً، فإذا قال: بعد ذلك لا أوّل لها اقتضى ذلك قدمها، وذلك متناقض.

وأيضاً فإذا قال: الجسم قديم أفاد ذلك وجوده في الأزل، فإذا سلّم أنّه لايخلو من معنى، فقد أثبت فيه معنى في الأزل، والمعنى الموجود في الأزل يكون قديماً، فيكون في ذلك رجوع عن كونها محدثة.

أو يقول فيما لم يزل لم يكن فيها معنى فيكون فيها رجوع في أنّ الجسم لم يخل من معنى، وذلك فاسد. فقد بان بهذه الجملة حدوث الأجسام(1)

ويمكن أن يقال أيضاً: لو أمكن فرض حوادث لا أوّل لها منقضية لأمكن فرض حوادث لا أوّل لها قارّة (2). أمّا الملازمة؛ فلأنّ الحركات المنقضية قد شملها الوجود، فلو فرض مع كلّ حادث قار لزم وجود مالانهاية له من الحوادث، لكنه محال؛ لاستحالة اشتمال الوجود على مالانهاية له.

الدليل على إبطال التسلسل

اتّفق الجميع على بطلان التسلسل في العلل والمعلولات، وإن أجازه الفلاسفة فيما له ترتّب عرضي عليه كالحوادث(3)


1- الاقتصاد، ص 24.
2- أي: ثابتة.
3- أي: أنّ الموجودات قد يكون لها تأثير بمعنى أنَّ أفعالها صادرةٌ منها بالاستقلال؛ ولكن هذا لا يعني انفكاكها عن علّة العلل، فالموجودات بما أنَّها في وجودها لا استقلال لها بل هي عين الربط وعين الفقر والتعلّق والفاقة، فصفاتها وأفعالها وآثارها أيضاً كذلك، فجميع العالم هو ظهور قدرة الله وإرادته وعلمه وفعله.

ص:177

واستدل على ذلك: أنّه لو تسلسلت العلل والمعلولات، لزم وجود ما لانهاية له من العلل بالفعل؛ لأنّ العلل التامّة يوجد معها المعلول التام الاستعداد، فلو كانت بغير نهاية، لزم وجود ما لا نهاية له دفعة، وهو محال. وبأنّه لو لم تنته الممكنات عند واجب مع كونها بأجمعها ممكنة، لزم وجودها بلا مؤثّر، أو لزم الدور، وهما محالان(1)

ردود العلماء على هذه العقيدة
1- الإمام تقي الدين السبكي (ت / 756ه)

(2)

قال:

هذا هو الذي ابتدعه ابن تيمية والتزم به حوادث لا أوّل لها، والعجب قوله مع ذلك: إنّه قديم. . ، فإن قال: النوع قديم وكلّ واحد من الحروف حادث، عدنا إلى الكلام في كلّ واحد من حروف القرآن، فيلزم حدوثها وحدوثه، فالذي التزمه من قيام الحوادث بذات الربّ لا ينجيه بل يرديه، وهذا آفة التخليط والتطفّل على العلوم وعدم الأخذ عن الشيوخ(3)

فالسبكي علل وقوع ابن تيمية في هذه الهفوات:

أوّلاً: إنّه متطفّل على العلوم الأخرى، لاسيما في علم الإلهيات، فهو يخلط بين تلك العلوم.

وثانياً: إنّه لم يأخذ من المشايخ الذين لهم الباع الطويل في هذا العلم.


1- الرسائل التسع، صص 291 و 292.
2- تقدّمت ترجمته.
3- السيف الصقيل، ص 71.

ص:178

2- العلاّمة محمّد زاهد الكوثري (ت /1371ه)

(1)

قال:

القول بدوام فعله تعالى في جانب الماضي قول بحوادث لا أوّل لها، وقد سبق تسخيف ذلك مرّات، قال القاضي أبويعلى الحنبلي: لا يجوز وجود موجدات لا نهاية لعددها، سواء كانت قديمة أو محدثة، خلافاً للملحدة، والدلالة عليه: أنّ كلّ جملة لو ضممنا إليها خمسة أجزاء مثلاً لعدم، ضرورة أنّها زادت، وكذلك عند النقص، وإذا كان كذلك وجب أن تكون متناهية بجواز قبول الزيادة والنقصان عليها؛ لأنّ كلّ ما يأتي فيه الزيادة والنقصان وجب أن يكون متناهياً من جهة العدد(2)

3- الإمام عبدالله بن الصديق المغربي (معاصر)

(3)

قال:

وآية فساد عقيدته أنّ العلماء عابوا على ابن تيمية قوله بإثبات حوادث


1- تقدّمت ترجمته.
2- في تعليقه على كتاب السيف الصقيل، ص 85.
3- العلاّمة المحدّث الفقيه الأصولي المفسّر اللغوي المسند الشاعر الحافظ المجتهد وريث المعقول والمنق-ول، أبوالفضل عبدالله ابن العلاّمة أبي عبدالله شمس الدين محمّد بن محمّد الصديق الغماري الطنجي، التحق بالأزهر الشريف، حلّ عليها عالماً متضلّعاً متقناً، متواضع للعلم وأهله، ألّف العديد من المصنّفات كلّها نافعة نفيسة مفيدة تدلّ على بعد نظره وعمق غوصه في عويص المسائل، ما جعله يلحق ركب السلف من حيث الفهم والاستدلال وطريقة التأليف، بل فاق الكثير منهم، والدليل على ذلك أنّه ألّف كُتُباً لم يسبق إليها، منها: بدع التفاسير، وذوق الحلاوة بامتناع نسخ التلاوة، والفوائد المقصودة ببيان الأحاديث الشاذة المردودة، الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي، وتخريج أحاديث لمع أبي إسحاق الشيرازي في الأصول، عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى ع في آخر الزمان، والردّ المحكم المتين على كتاب القول المبين، وإتحاف الأذكياء بجواز التوسّل بسيّد الأنبياء. توفي رحمه الله سنة 1413ه، بطنجة ودفن فيها قرب والده. اُنظر: موقع جمعية آل البيت للتراث والعلوم الشرعية - فلسطين. http: //www. alalbait. ps

ص:179

لاأوّل لها، ورجّح حديث (كان الله ولم يكن شيء قبله) على حديث (كان الله ولم يكن شيء غيره) ، وكلاهما في صحيح البخاري، ليوافق الحديث قوله المخالف لقول الله تعالى: (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. . . وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) ولإجماع المسلمين على أنّ الله كان وحده لا شيء معه، ثمّ أوجد العالم.

وابن تيمية لم يفهم الحديثين، فلجأ إلى الترجيح بينهما فأخطأ. والصواب الذي لم يوّفق إليه: أنّ حديث كان الله ولم يكن شيء قبله، أو كان الله قبل كلّ شيء، يبيّن معنى اسمه تعالى الأوّل. وحديث كان الله ولم يكن شيء غيره، يبيّن معنى اسمه الواحد الأحد(1)

4- العلاّمة محمّد ناصر الألباني (معاصر)

(2)

قال:

و لقد أطال ابن تيمية رحمه الله الكلام في ردّه على الفلاسفة محاولاً إثبات حوادث لاأوّل لها، و جاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول، ولاتقبله أكثر القلوب، حتّى اتّهمه خصومه بأنّه يقول بأنّ المخلوقات قديمة لا أوّل لها، مع أنّه يقول و يصرّح بأنّ ما من مخلوق إلاّ و هو مسبوق


1- عبدالله بن الصديق المغربي، القول المقنع في الرد على الألباني، ص 9.
2- هو العلاّمة الشيخ محمّد ناصرالدين الألباني أحد أبرز علماء الفكر السلفي لا سيما الفكر الوهابي، وهو من العلماء المتفرّدين في علم الجرح والتعديل، قال عنه حواريو ابن تيمية: إنّه أعاد عصر ابن حجر العسقلاني والحافظ ابن كثير وغيرهم من علماء الجرح والتعديل. ولد الشيخ محمّد ناصرالدين بن الحاج نوح الألباني عام 1333 ه-، في مدينة أشقودرة عاصمة دولة ألبانيا، له مؤلّفات متعددة، من أهمّها: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وسلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها و فوائدها، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيّئ في الأمّة، وصفة صلاة النبي من التكبير إلى التسليم كأنّك تراها. . توفي في جمادى الآخرة 1420ه.

ص:180

بالعدم(1)، ولكنه مع ذلك يقول بتسلسل الحوادث إلى ما لا بداية له. كما يقول هو و غيره بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية، فذلك القول منه غير مقبول، بل هو مرفوض بهذا الحديث. وكم كنّا نودّ أن لا يلج ابن تيمية رحمه الله هذا المولج؛ لأنّ الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام الذي تعلّمنا منه التحذير و التنفير منه، و لكن صدق الإمام مالك (رحمه الله) حين قال: ما منّا من أحد إلاّ ردَّ و رُدَّ عليه، إلاّ صاحب هذا القبر (ص) (2)

وقال أيضاً:

إنّ العلماء اتّفقوا على أنّ هناك أوّل مخلوق، والقائلون بحوادث لا أوّل لها مخالفون لهذا الاتّفاق؛ لأنّهم يصرّحون بأنّ ما من مخلوق إلاّ وقبله مخلوق، وهكذا إلى ما لا أوّل له، كما صرّح بذلك ابن تيمية في بعض كتبه، فإن قالوا: العرش أوّل مخلوق، كما هو ظاهر كلام الشارح، نقضوا قولهم بحوادث لا أوّل لها، وإن لم يقولوا بذلك، خالفوا الاتّفاق(3)

وهنا ردٌّ صريح من العلاّمة الألباني على ابن تيمية - علماً أنّه من المقرّبين من هذا الفكر - فالقائلون بحوادث لا أوّل لها، وعلى رأسهم ابن تيمية مخالفون وخارقون لاتّفاق معظم العلماء الذين قالوا ببطلان هذا الكلام؛ لأنّ هناك تناقضاً فيمن التزم هذه العقيدة، فلو قالوا: إنّ العرش هو أوّل مخلوق، نقضوا ما أسسوه من قولهم بحوادث لا أوّل لها، وإن لم ينفوا القول بذلك، خالفوا الاتّفاق.


1- قد نقلنا مقالته فهو قائل بأنّه لم يتقدّم ابتداء خلق السموات والأرض العدم المطلق، وهذا ينافي قول الألباني: ما من مخلوق إلاّ ومسبوق بالعدم؛ لأنّه لو اعترف بهذه الحقيقة يلزم نفسه بوجود أوّل مخلوق وهذا لا يقرّه ابن تيمية. لذا يقول: إنّ الأشياء خلقها من مادة غير متناهية وليس لها أوّل؛ لأنّه لو أعدمها يعيدها ويحيلها إلى مادة أخرى فخلق ذلك من مادة وإن كانت المادة مخلوقة من مادة أخرى كما خلق الإنس من آدم وخلق آدم من طين، وهكذا بلا ابتداء وانتهاء.
2- السلسلة الصحيحة، ج 1، ص 258.
3- شرح المختصر للعقيدة الطحاوية.

ص:181

عقيدة ابن تيمية في تكلّم الله تعالى بالحرف والصوت

قراءة النص

إنّ ابن تيمية لم يكتف بما تقدّم من تلك الصفات التي أثبتها للباري جلّ شأنه، بل أضاف صفة الكلام والحروف، وأنّ الله تعالى يتكلّم إذا شاء ويسكت إذا شاء، ونسب هذه الدعوى إلى أئمة الحديث والسنّة والجماعة. فلنتأمّل بأقواله التي أثبت فيها هذه الصفة:

قال في منهاج السنّة:

قول من يقول: إنّه لم يزل متكلّماً إذا شاء بكلام يقوم به، وهو متكلّم بصوت يُسمع، وإنّ نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعيّن قديماً، وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنُّة(1)

فهنا ابن تيمية ينقل كعادته من يقول: إنّ الله تعالى لم يزل متكلّماً إذا شاء، وهو متكلّم بكلام يقوم به، أي: بذاته، وبصوت يُسمع، وهذا الكلام قديم ولكن الصوت المعيّن لله تعالى ليس قديماً. ثمّ يتبنّى هذا الرأي؛ لأنّه


1- منهاج السنّة، ج 2، ص 362.

ص:182

مأثور عن أئمة الحديث والسنّة.

ولا يخفى أنّ مفردة أئمة الحديث، لا يمكن أن نحملها على إطلاقها؛ لأنّ معظم أهل الحديث لم يذهبوا مذهب ابن تيمية، كالأشاعرة والأحناف والمالكية وحتّى بعض الحنابلة.

قال السيوطي:

وأخرج اللالكائي عن محمّد بن الحسن، قال: اتّفق الفقهاء كلّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه(1)

وهنا في هذا النص ينقل اللالكائي اتّفاق الفقهاء في شرق الأرض وغربها على عدم تشبيه هذه الصفات التي وردت في الكتاب بصفات المخلوقين، التي من لوازمها التجسيم.

وقال في مجموع الفتاوى:

فعلم أنّ قدمه عنده (أي: أحمد بن حنبل) أنّه لم يزل إذا شاء تكلّم وإذا شاء سكت، لم يتجدد له وصف القدرة على الكلام التي هي صفة كمال، كما لم يتجدد له وصف القدرة على المغفرة، وإن كان الكمال هو أن يتكلّم إذا شاء ويسكت إذا شاء (2)

وابن تيمية يدّعي أنّه يتبنّى آراء أحمد بن حنبل (3)، بل لعله يؤوّلها بحسب


1- الاتقان في علوم القرآن، ج 3، ص 14.
2- مجموع الفتاوى، ج 6، ص160.
3- ولكن الإمام أحمد ينكر مفهوم الجسمية لا كما يدّعي ابن تيمية، ومعلوم أنّ الصوت يلازم الجسمية، وهذا غير خاف على الإمام أحمد؛ لذا أنكر هذا المفهوم، كما حكى الإمام أبوالفضل التميمي وهو رئيس الحنابلة، ناقلاً رأيه، فقال: «وأنكر على من يقول بالجسم وقال: إنّ الأسماء مأخوذة بالشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على كلّ ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله تعالى خارج عن ذلك كلّه، فلم يجز أن يسمّى جسماً لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجيء في الشريعة ذلك فبطل» . اعتقاد الإمام ابن حنبل، عبدالواحد بن عبدالعزيز بن الحارث التميمي، ص 298.

ص:183

ما يطابق وجهة النظر التي يؤمن بها. ويرى أنّ صفة الكمال في كلامه وصوته تعالى.

وأيضاً تصوّر ابن تيمية أنّ الكمال هو في الكلام والصوت قياساً على المخلوق، وفاته أنّه ليس كلّ كمال لائق بالمخلوق فهو أيضاً يليق بالخالق، فالزوجة والولد قد تكون كمالاً للإنسان، ولكن هي نقص لله تبارك وتعالى. أضف إلى ذلك أنّ الكلام هو عبارة عن اللفظ وهذا واضح، والله تعالى منزّه عن الألفاظ.

وقال أيضاً في مجموع الفتاوى:

وحينئذٍ، فكلامه قديم مع أنّه يتكلّم بمشيئته وقدرته، وإن قيل: إنّه ينادي ويتكلّم بصوت، ولا يلزم من ذلك قدم صوت معيّن، وإذا كان قد تكلّم بالتوراة والقرآن والإنجيل بمشيئته وقدرته، لم يمتنع أن يتكلّم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديماً لم يستلزم أن يكون الباء المعيّنة والسين المعيّنة قديمة؛ لما علم من الفرق بين النوع والعين، وهذا الفرق ثابت في الإرادة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات(1)

وقال في درء التعارض:

وإذا قال السلف والأئمة: إنّ الله لم يزل متكلّماً إذا شاء، فقد أثبتوا أنّه لم يتجدد له كونه متكلّماً، بل نفس تكلّمه بمشيئته قديم، وإن كان يتكلّم شيئاً بعد شيء، فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلاّ إذا وجب تناهي المقدورات المرادات، وهو المسمّى بتناهي الحوادث. والذي عليه السلف وجمهور الخلف: أنّ المقدورات المرادات لا تتناهى، وهم بهذا نزّهوه عن


1- مجموع الفتاوى، ج 12، ص158.

ص:184

كونه كان عاجزاً عن الكلام كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام، وعن أنّه كان ناقصاً فصار كاملاً، وأثبتوا مع ذلك أنّه قادر على الكلام باختياره(1)

وقال في الفتاوى الكبرى وكذلك في الجواب الصحيح، باستشهاده بحديث الزهري:

قال: لمّا سمع موسى كلام ربّه قال: يا ربّ هذا الذي سمعته هو كلامك، قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنّما كلّمتك بقوّة عشرة آلاف لسان ولي قوّة الألسن كلّها، وأنا أقوى من ذلك، وإنّما كلّمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلّمتك بأكثر من ذلك لمت.

فلمّا رجع موسى إلى قومه، قالوا له: صف لنا كلام ربّك؟ فقال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم؟ ! قالوا: فشبّهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنّه مثله(2)

وواضح من كلامه أنّه لا ينكر هذه الصفة وهي الكلام، فيثبتها لله تبارك وتعالى، مستشهداً بأقوال السلف والخلف.


1- درء التعارض، ج 1، ص 363.
2- الفتاوى الكبرى، ج 6، ص 154؛ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج 4، ص11.

ص:185

النقد

اشارة

مما تقدّم نستطيع أن نحصر رؤية ابن تيمية في هذه العقيدة، أنّ كلام الله تعالى يتألّف من مفردات، وهذه المفردات والكلمات تسبق أحدها الأُخرى، كما في قوله: لم يمتنع أن يتكلّم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديماً لم يستلزم أن يكون الباء المعيّنة والسين المعيّنة قديمة.

وجنس هذه الكلمات ونوعها قديم؛ لأنّه مترتب على قدرة وإرادة الله تعالى، وهذه الكلمات حادثة بذاته؛ لأنّه هو الموُجد لها جلّ شأنه، وهذه الكلمات لابدّ أن تتألّف من حروف وصوت.

وابن تيمية لم يغفل من حدوث هذه الحروف بالذات الإلهية؛ لأنّه لابدّ أن تكون لها أوّل ونهاية، لذا لجأ إلى أن يكون كلام الله تعالى قديم بجنسه ونوعه، كما صرّح به: «وإن كان نوع الباء والسين قديماً» ، وإن سلّم بكونه حادثاً بأفراده.

ص:186

صفة الكلام مستلزمة للجسمية

ولكن مهما تلاعب بالألفاظ ونمّق كلماته لا يمكن أن تجد لها صدى عند من يملك العلم والموضوعية، فهذه المجموعة من أقواله تدل بصورة واضحة على أنّ الله يتكلّم بحروف وأصوات متى شاء ذلك، ويسكت أيضاً متى شاء وباختياره، ومعلوم أنّ من لوازم الكلام والصوت كونه جسماً. ومن كان كذلك لا يمكن أن يكون إلهاً وخالقاً.

ولعل ما أشار إليه الطحاوي في عقيدته، التي تعتبر المرجع في عقيدة ابن تيمية والفكر الوهابي عموماً: «أنّ القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً»(1)

فواضح أنّ عدم الكيفية قولاً، هو نفي أن يكون الله تعالى يتكلّم بالحرف والصوت كما يتكلّم العباد؛ لأنّه هو الذي نفاه (بلا كيف) ، وإلاّ فلو كان الله تعالى قرأ القرآن على جبرائيل بالحرف والصوت لم يقل: بلا كيفية؛ لأنّ الحروف كيفيات.

إذن فهو يشير إلى أنّ القرآن من مقول الرسول، والرسول هو الذي نطق به بدليل قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير: 19) .

وجبرائيل هو الذي أوحى إليه ذلك، وبذلك تبطل نسبة الصوت والكلام إلى الله مباشرةً.

نقض العلماء لهذه العقيدة
اشارة

ولبيان فساد هذه العقيدة ننقل في هذا الصدد جملة من العلماء الذين أبطلوا هذه الدعوى:


1- متن العقيدة الطحاوية، ج 1، ص 24.

ص:187

1- الإمام القرطبي (ت /671ه)

(1)

)

قال في ردّه على بطلان هذا القول:

قوله في الحديث: (فيناديهم بصوت) : استدل به من قال بالحرف والصوت، وأنّ الله يتكلّم بذلك، تعالى عمّا يقول المجسّمون والجاحدون علوّاً كبيراً، إنّما يُحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقرّبين بإذن الله تعالى وأمره، ومثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل: نادى الأمير، وبلغني نداء الأمير، كما قال تعالى: ( وَنَادَى فِرْعَونُ في قَوْمِهِ) (الزخرف: 51) . وإنّما المراد نادى المنادي عن أمره، وأصدر نداءه عن إذنه، وهو كقولهم أيضاً قَتلَ الأميرُ فلاناً، وضرب فلاناً، وليس المراد تولّيَه لهذه الأفعال وتصدّيَهُ لهذه الأعمال، ولكن المقصود صدورها عن أمره. وقد ورد في صحيح الأحاديث أنّ الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى والرشاد ألا إنّ فلان ابن فلان كما تقدّم. . (2)

2- العلاّمة الإسفراييني (ت / 741ه)

قال: «وأن تعلم أنّ كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت؛ لأنّ الحرف والصوت يتضمّنان جواز التقدّم والتأخّر، وذلك مستحيل على القديم سبحانه»(3)


1- الإمام العلاّمة أبوعبدالله الأنصاري الخزرجي القرطبي، إمام متفنّن متبحّر في العلم له تصانيف مفيدة، تدل على كثرة اطّلاعه ووفور فضله، توفي أوايل سنة إحدى وسبعين وست مائة بمنية بني خصيب من الصعيد الأدنى بمصر، وقد سارت بتفسيره الركبان، وهو تفسير عظيم في بابه، وله كتاب الأسنى في أسماء الله الحسنى، وكتاب التذكرة، وأشياء تدل على إمامته وكثرة اطّلاعه. اُنظر: الوافي بالوفيات، ج 2، ص 87.
2- التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، ص 308.
3- التبصير في الدين، ج 1 ص167.

ص:188

3- الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت/ 852ه)

قال الحافظ ابن حجر وهو ينقل آراء الحفّاظ والأئمة في نفيهم صفة الصوت:

اختلف الحفّاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه، ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي (ص) غير حديثه، فإن كان ثابتاً فإنّه يرجع إلى غيره، كما في حديث ابن مسعود يعني الذي قبله، وفي حديث أبي هريرة يعني الذي بعده: انّ الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتاً، فيحتمل أن يكون الصوت للسماء، أو للملك الآتي بالوحي، أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصاً في المسألة، وأشار في موضع آخر أنّ الراوي أراد فينادي نداء فعبّر عنه بقوله بصوت، انتهى. وهذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة (1)

4- الملاّ علي القاري (ت / 1014ه)

(2)

)

قال:

ومبتدعة الحنابلة قالوا: كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته، وهو قديم، وبالغ بعضهم جهلاً حتّى قال: الجلد والقرطاس قديمان فضلاً عن الصحف، وهذا قول باطل بالضرورة ومكابرة للحس للاحساس بتقدّم الباء على السين في بسم الله ونحوه (3)


1- فتح الباري، ج 13، ص 383.
2- علي بن محمّد، نورالدين الملاّ الهروي القاري: فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره. ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. صنف كتبا كثيرة، منها: تفسير القرآن والأثمار الجنية في أسماء الحنفية والفصول المهمة وشرح مشكاة المصابيح. . والفقه الأكبر وغيرها. انظر: الزركلي، الأعلام، ج 5، ص12.
3- شرح الفقه الأكبر، صص 29و30.

ص:189

5- العلاّمة محمّد زاهد الكوثري (ت /1371ه)

قال:

ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث. . رغم تضافر البراهين ضدّهم ودثور الآثار التي يريدون البناء عليها، يعاندون الحق ويظنون أنّ كلام الله من قبيل كلام البشر، الذي هو كيفية اهتزازية تحصل للهواء من ضغطه باللهاة واللسان، تعالى الله عن ذلك، ويدور أمرهم بين التشبيه بالصنم أو التشبيه بابن آدم ( أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) .

وقال أيضاً:

وحديث جابر المعلّق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من حديث أبي سعيد ما يدل على أنّ المنادي غير الله حيث يقول: فينادى بصوت إنّ الله يأمرك. . فيكون الإسناد مجازياً، على أنّ الناظم، يعني ابن زفيل، وهو ابن قيم الجوزية. ساق في "حادي الأرواح" بطريق الدارقطني حديثاً فيه: «يبعث الله يوم القيامة منادياً بصوت. .» وهذا نص من النبي (ص) على أنّ الإسناد في الحديث السابق مجازي، وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين، وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث الصوت فليراجع (1)

إذن من مجموع ما تقدّم من كلامهم، تبيّن أنّ هذه العقائد التي التزم بها ابن تيمية وقررها في جملة كبيرة من كتبه، باطلة وقد ردّها العلماء؛ لأنّها تؤدّي إلى القول بالتجسيم وهو لازم فاسد، لذا نجدهم ذمّوه ووبّخوه على هذه الآراء الشاذة، والتي تتنافي مع الشرع والعقل.


1- السيف الصقيل، وبهامشه تعليقات الكوثري، ص 196.

ص:190

ص:191

الباب الثالث: شبهات ابن تيمية في إنكار المجاز وال-تأويل ورمي رواة الشيعة بالتجسيم

اشارة

ص:192

ص:193

الفصل الأوّل: شبهة إنكار ابن تيمية للمجاز والتأويل

اشارة

ص:194

ص:195

تمهيد

اشارة

إنّ منطلقات ابن تيمية لفهم التوحيد لاسيما في الصفات، جاءت من اعتقاده أنّ المجاز والتأويل لا موضوع لهما في فهم الآيات والأحاديث فأقصاهما عن ساحة الفهم لمداليلها؛ وأخذ بالظاهر كما تقدّم؛ لذا نعتقد أنّ من المهم توضيح هذا الأمر، ودفع هذه الشبهة.

فليس في نظره إلاّ الحقيقة في اللغة العربية، وما توهّمه الناس من المجاز فليس هو إلاّ حقيقة في الواقع ونفس الأمر. وهذه المسألة من الأهمية بمكان في منظومة أفكاره وتشكيلها حيث نرى أنّه وقع في حيرة واضطراب في تأويل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ وهذا الأمر انعكس سلباً على كيفية تأويلها لاسيما المتشابهة منها، فأعلنها حرباً مستعرةً على المجاز والتأويل.

قال الدكتور عبدالعظيم المطعني:

ودخول المجاز في هذا المجال الخطر - مجال العقيدة والتوحيد - بعد أن كان قضية بلاغية نقدية، ولغوية جمالية، هو الذي أسعر نار الثورة على

ص:196

المجاز عند الإمام (أي: ابن تيمية) ؛ لأنّه رأى في مثل تأويل (يد الله) بالقدرة، تعطيلاً لصفة من صفات الله(1)

ومما يؤيّد هذه الحقيقة ما وجدناه في كلماته، فقد قال صريحاً في كتابه مجموع الفتاوى:

فلا مجاز في القرآن، بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف، والخلف فيه على قولين، وليس النزاع فيه لفظياً، بل يقال: نفس هذا التقسيم باطل لا يتميّز هذا عن هذا، ولهذا كان كلّ ما يذكرونه من الفروق، تبيّن أنّها فروق باطلة (2)

وقال أيضاً:

ثمّ يقال ثانياً: هذا التقسيم لا حقيقة له وليس لمن فرّق بينهما حدّ صحيح، يميّز به بين هذا وهذا، فعلم أنّ هذا التقسيم باطل وهو تقسيم من لم يتصوّر ما يقول، بل يتكلّم بلا علم، فهم مبتدعة في الشرع مخالفون للعقل(3)

وعلى ضوء هذا الكلام كلّ من يدّعي المجاز أو التأويل، فهو مبتدع في الشرع؛ لخلوّ الشرع من هكذا تقسيم، وكذا لم ينطق به السلف والخلف، والذي يتكلّم فيه، فهو بلا علم.

هذه رؤية ابن تيمية لمن يؤوّل النصوص القرآنية بالمجاز أو الاستعارة.

ولعل الذي ساقه إلى هذا الاعتقاد هو تأييد نظريته القائلة: إنّ الأخبار التي جاءت في الصفات لابدّ أن تمرَّ كما هي على ظاهرها، فما جاء في


1- المجاز عند الإمام ابن تيمية، ص 7.
2- مجموع الفتاوى، ج 7، ص 113.
3- المصدر نفسه، ص 96.

ص:197

الكتاب والسنّة في صفاته تعالى كالنفس والوجه والعين والإصبع واليد والرجل والإتيان والمجيء والنزول إلى السماء والاستواء على العرش والضحك والفرح. . . ، فهذه صفات الله تعالى وردَ بها السمع فيجب الإيمان بها وإبقاؤها على ظاهرها معرضاً فيها عن التأويل.

قال:

فقولهم رضي الله عنهم: أمرّوها كما جاءت، ردّ على المعطّلة، وقولهم: بلا كيف ردّ على الممثّلة(1)

وبهذا نتعرّف على أهم ما نعتقده أنّه ساهم في ذهابه إلى التشبيه والتمثيل في صفات الباري جلّ شأنه.

من هنا يكون البحث عن إنكاره للمجاز يشكّل منطلقاً أساسياً لفهم وتقييم عقيدة ابن تيمية في مسائل التوحيد، وكيف رفض تأويل الصفات الخبرية التي وردت في الآيات والروايات.

مع أنّ مسألة المجاز من الأمور التي لا يمكن إنكارها والتي تتناغم مع الفطرة الإنسانية، فهو طريق من طرق الإبداع البياني للتعبير عما يجول في النفس من معان تجبر الإنسان على النطق بها.

والعرب ولغتهم لم تخرج عن هذه الفطرة، فقد استخدموه في عصورهم المختلفة وصدحت حناجرهم بأشعارهم التي احتوت هذا المعنى، وكان لفحول الشعراء وأساطين البلغاء، من كُتَّاب وخطباء، فنون بديعة رائعة الجمال من المجاز، لا يتصيّدها إلاّ الأذكياء والفطناء، المتمرّسون بأساليب التعبير.


1- مجموع الفتاوى، ج 5، ص 39.

ص:198

وليس المجاز مجرد تلاعُبٍ بالكلام في قفزات اعتباطيّة من استعمال كلمة أو عبارةٍ موضوعةٍ لمعنى، إلى استعمال الكلمة أو العبارة بمعنى كلمة أو عبارةٍ أخرى موضوعة لمعنى آخر، ووضع هذه بدل هذه للدّلالة بها على معنى اللّفظ المتروكِ المستَبْدَلِ به اللفظ الآخر.

بل المجاز حركات ذهنيّة تصِلُ بين المعاني، وتعقِدُ بينها روابط وعلاقاتٍ فكرية تسمح للمعبّر الذكِيّ اللّمّاح بأن يستخدم العبارة التي تدلُّ في اصطلاح التخاطب على معنىً من المعاني ليُدلَّ بها على معنىً آخر، يمكن أن يفهمه المتلقّي بالقرينة اللفظيّة أو الحاليّة، أو الفكريّة(1)

لذا فإنّ تقسيم الكلم إلى حقيقة ومجاز - ليس خاصّاً بالعربية - كما ذهب إلى ذلك جمع من العلماء، بل هو أمر فطري تقتضيه طبيعة اللغات، وتفرضه قرائح المتكلّمين؛ لأنّه خروج بالكلام عن الأصل الذي اطّرد به الاستعمال، وهذا موجود في كلّ لغة، ولاتختص به لغة دون لغة، ولا تختص به أمّة دون أمّة، ومن المعلوم بداهة أنّ هناك طرائق في التعبير، وأساليب مشتبهة بين البشر، وهذه الأساليب المشتركة إنّما هي تتبع الخصائص الموجودة في النوع الإنساني، فطبيعي بعد ذلك أن يكون في كلّ لغة حقيقة ومجاز، والتعبير ب- (القمر) عن الطلعة البهية، وب- (الأسد) عن الرجل الشجاع، هذا لاتختص به هذه اللغة العربية، بل هو موجود في كلّ لغة، نعم اللغة العربية تمتاز بوفرة مجازاتها وبوفرة أساليبها، حتّى اعترف بذلك المستشرقون الذين لهم اطّلاع على لغات واسعة.

وهذا التميّز في مجازات العربية إنّما هو تابع لتميّزها الأصلي ورقيِّها على


1- اُنظر: عبدالرحمن حسن الميداني، البلاغة العربية أُسسها وعلومها وفنونها، ص 633.

ص:199

كل اللغات، قال جوستاف غرونبباوم ( Gustav Grunebaum( وهو مستشرق نمساوي، ورئيس قسم اللغات في جامعة كاليفورنيا، قال:

تمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإنّ ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كلّ لغة بشرية انتهى كلامه.

أمّا البلاغيون، فإنّ لهم الصدارة في هذا التقسيم، فإنّهم تقوم صناعتهم على تفقّد الكلام، والكشف عن وجوه الحسن في الكلام أو ضدّها. ولهذا فإنّ الحقيقة والمجاز عندهم فصل كبير من مهمّات علوم البيان(1)(. ومن الغرابة أن يدّعي شخص عدم وجود المجاز، وينكره من دون دليل واضح.

وقبل أن ننتقل إلى الأدلة التي آمن بها ابن تيمية لإنكار المجاز؛ لابدّ أن نوضّح ماهية المجاز ونقيضه وهو الحقيقة؛ لكي نعطي للقارئ فكرة موجزة حول هذين المفهومين.

تعريف الحقيقة

الحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له، من دون ذكر دليل أو قرينة لفهم المراد من المعنى. وقد قسّمها علماء الأصول إلى ثلاثة أقسام:

1- الحقيقة الشرعية. 2- الحقيقة اللغوية. 3- الحقيقية العرفية.

أمّا الحقيقة الشرعية: هي أن يتصدّى الشارع بنفسه لوضع الألفاظ لمعاني خاصّة، كما لو قلنا: إنّ لفظ الصلاة قد وضعه الشارع لخصوص المعنى المتعارف من الصلاة، وكذلك الصوم للإمساك المتعارف، والزكاة للصدقة.


1- اُنظر: الدكتور عبدالمحسن العسكر، محاضرة له بعنوان المجاز في اللغة والقرآن : www. alquran. org. sa

ص:200

والحقيقة اللغوية: هي أن لا يتصدّى الشارع لذلك، بل واضع اللغة هو من يضع الألفاظ للمعاني، مثل: لفظ الحجر والشجر.

والحقيقة العرفية: هي أن يكون اللفظ موضعاً لمعنى، بحسب العرف وإن كان لغة مختلفاً.

تعريف المجاز

هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه(1)، وهو مشتق من جاز الشيء يجوزه إذا تعدّاه، وإذا عُدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وُصف بأنّه مجاز، على معنى أنّهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أوّلاً.

أقسام المجاز
اشارة

والمجاز إمّا أن يكون في ذات اللفظ، وإمّا أن يكون في الإسناد، فإن كان في ذات اللفظ بأن نقل من معناه الموضوع له إلى معنى آخر فإنّ هذا اللفظ إمّا أن يكون مفرداً أو مركباً.

1- المجاز المفرد

الكلمة المستعمَلة في غير المعنى الذي وُضِعت له لعلاقة بين المعنى الأوّل والثاني، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأوّل. فإن كانت العلاقة بين المعنيين المشابَهَة سُمِّي هذا المجاز استعارة كما في قولك: رأيت أسداً يحمل سيفاً، تريد رجلاً شجاعاً.


1- تيسير التحرير، ج 1، ص59.

ص:201

وإن كانت العلاقة بينهما غير المشابَهَة سُمِّي مجازًا مرسلاً، كما في قول-ه تعالى: (وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) (نوح: 7) . المراد بأصابعهم أطرافها وهي الأنامل.

وللمجاز المرسل علاقات كثيرة من بينها السببية، والمسببة، والجزئية، والكلية، والمحلية، والآليَّة، وغيرها.

2- المجاز المركب

هو اللفظ المركب المستعمل في غير المعنى الذي وضع له لعلاقة بين المعنى الأوّل والثاني، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأوّل، كقولك في المتردد في أمره: (أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أخرى) ، فالمجاز هنا ليس في كلمة بعينها وإنّما هو في التركيب كلّه.

3- المجاز في الحذف

كقوله تعالى: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي: أهل القرية بناء على كون القرية بمعنى الضيعة أو البلد لا بمعنى الناس والمجتمع.

4- المجاز العقلي

إذا لم يكن المجاز في ذات اللفظ وإنّما كان في إسناده إلى غيره سمّي مجازًا عقلياً. فالمجاز العقلي إسناد الفعل أو ما يدل على معنى الفعل إلى غير ماحقُّه أن يسنَد إليه لعلاقة، مع قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما حقُّه أن يسند إليه.

فمن ذلك إسناد الفعل إلى ظرف المكان في قولك: (جرى النهر) وكان الأصل فيه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي وهو (الماء) فيقال: جرى الماء في

ص:202

النهر، ومن ذلك أيضاً إسناد الفعل إلى السبب في قولك: (بنى الأمير القصر) وكان حقّه أن يسنَد إلى الفاعل الحقيقي وهم العمّال فيقال: بنى العمال القصر بأمر الأمير، لكنه أسند إلى الباعث على البناء وهو الأمير، إسناداً مجازياً(1).

المجاز حقيقة لا مناص منها

إنّ المجاز حقيقة واضحة لا يمكن أن نلغيها أو أن نضع الحواجز أمامها، فالمحدّث والفقيه والمفسّر واللغوي لا يمكن أن يستغني عن بعض أدواته -ومنها المجاز - فلكي يفهم النص سواء كان قرآنياً أو غير قرآني لابدّ أن يتصرّف بمعاني اللغة، لا سيما لغتنا العربية التي حملت بين جنباتها أجمل ما يمكن تصوّره من بلاغة وبديع وغريب ومجاز وكناية و. . .

قال أبوعبيدة(2)في مجاز القرآن:

ففي القرآن ما في الكلام العربيّ من الغريب والمعاني، ومن المحتمِل من مجاز ما اختُصِر، ومجاز ما حُذف، ومجاز ما كفَّ عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر


1- اُنظر، الموسوعة العربية العالمية: نخبة من العلماء واللغويين، حرف الميم، المجاز Metaphor.
2- قال الذهبي: «أبوعبيدة، الإمام العلاّمة البحر، أبوعبيدة، معمر بن المثنى التيمي، مولاهم البصري، النحوي، صاحب التصانيف. . قال الجاحظ: لم يكن في الأرض جماعي ولا خارجي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن المديني ذكر أباعبيدة، فأحسن ذكره، وصحح روايته، وقال: كان لا يحكي عن العرب إلاّ الشيء الصحيح. قال المبرد: كان هو والأصمعي متقاربين في النحو، وكان أبوعبيدة أكمل القوم. . قيل: مات سنة تسع ومئتين، وقيل: مات سنة عشر» . سير أعلام النبلاء، ج 9، صص 445 - 447.

ص:203

الواحد، ومجاز ما جاء الجميع في موضع الواحد إذا أُشرك بينه وبين آخر مفرد، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك فجعل الخبر للواحد أو للجميع وكُفَّ عن خبر الآخر، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو أكثر من ذلك فجعل الخبر للأوّل منهما، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك فجعل الخبر للآخر منهما، ومجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والمَوَات على لفظ خبر الناس؛ والحيوانُ كلّ ما أكل من غير الناس وهي الدواب كلُّها، ومجاز ما جاءت مخاطبتهُ مخاطبة الغائب ومعناه مخاطبة الشاهد، ومجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثمّ تُركت وحوّلت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، ومجاز ما يزاد من حروف الزوائد ويقع مجازُ الكلام على إلقائهن، ومجاز المضمر استغناءً عن إظهاره، ومجاز المكرر للتوكيد، ومجاز المجمل استغناءً عن كثرة التكرير، ومجاز المقدَّم والمؤخَّر، ومجاز ما يحوّل من خبره إلى خبر غيره بعد أن يكون من سببه، فيجعل خبره للذي من سببه ويترك هو. وكلّ هذا جائز قد تكلّموا به(1)

وقال ابن جنّي (ت/ 392ه)(2)، في الخصائص:

اعلم أنّ أكثر اللغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة. . . فلو قال: بنيت لك في قلبي


1- مجاز القرآن، صص 18و 19.
2- قال الذهبي في ترجمته: ابن جنّي: إمام العربية، أبوالفتح عثمان بن جنّي الموصلي، صاحب التصانيف، وله ترجمة طويلة في "تاريخ الأدباء" لياقوت. لزم أباعلي الفارسي دهراً، وسافر معه حتّى برع وصنّف، وسكن بغداد، وتخرّج به الكبّار. وله: سرّ الصناعة واللمع، والتصريف، والتلقين في النحو، والتعاقب، والخصائص، . . توفي في صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاث مئة. سير أعلام النبلاء، ج 17، صص18و19. وقال السمعاني في الأنساب: «أبوالفتح عثمان بن جنّي النحوي المدقق المصنّف، قال ابن ماكولا: كان نحوياً حاذقاً مجوداً. .» . الأنساب، ج 2، ص 100.

ص:204

بيتاً أو ملكت من الجود عبداً خالصاً، أو أحللتك من رأيي وثقتي دار صدق لكان ذلك مجازاً واستعارة لما فيه من الاتّساع والتوكيد والتشبيه على ما مضى. ومن المجاز كثير من باب الشجاعة في اللغة: من الحذوف، والزيادات، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى والتحريف ألا ترى أنّك إذا قلت: بنو فلان يطؤهم الطريق ففيه من السعة إخبارك عمّا لا يصح وطؤه بما يصح وطؤه. . . أفلا ترى إلى وجه الاتّساع عن هذا المجاز، ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه، فشبّهته بهم إذ كان هو المؤدّى لهم، فكأنّه هم(1)

وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن في ردّه على من أنكر المجاز: وأمّا الطاعنون على القرآن بالمجاز، فإنّهم زعموا أنّه كذب؛ لأنّ الجدار لايتكلّم والقرية لا تُسأل. وهذا من أشنع جهالاتهم وأدلها على سوء نظرهم وقلّة أفهامهم(2)

وكذلك نجد الجرجاني يعنِّف من أنكر المجاز قائلا ً:

ومن قدح في المجاز، وهمَّ أن يصفه بغير الصدق، فقد خبط خبطاً عظيماً، ويهرف بما لا يخفى. .(3)

وأيضاً ردَّ السيوطي على منكري المجاز:

وهذه شبهة باطلة لو سقط المجاز من القرآن سقط شطره الحسن، فقد اتّفق البلغاء على أنّ المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن من


1- الخصائص، ج 2، صص 446 و447.
2- تأويل مشكل القرآن، ص 132.
3- أسرار البلاغة، ص 292.

ص:205

المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد، وتثنية القصص، وغيرها(1)

إذن فالمجاز حقيقة واقعة وإنكارها يكاد يكون إنكاراً لأمر ضروري وبديهي، ولكن مع هذا كلّه نجد أنّ ابن تيمية أنكر هذه الحقيقة الناصعة الوضوح، وسنعرض بيان أدلته والردّ عليها بشكل تفصيلي.

الأدلة التي آمن بها ابن تيمية في إنكار المجاز
اشارة

من الأدلة التي اتكأ عليها شيخ الإسلام ابن تيمية ونعتقد أنّها الأساس لما يتبنّاه من رؤية لهدم من قال بتأويل الآيات القرآنية أو الأحاديث المتشابهة تتجلّى بدليلين، وهما كالتالي:

1- عدم تقسيم أئمة (الحديث والتفسير واللغة) المشهورين للكلام إلى حقيقة ومجاز
اشارة

قال في كتابه مجموع الفتاوى:

وإن أراد من عرف بهذا التقسيم من المتأخرين المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام ومن سلك طريقتهم من ذلك من الفقهاء.

قيل له: لا ريب أنّ أكثر هؤلاء قسّموا هذا التقسيم، لكن ليس فيهم إمام في فن من فنون الإسلام لا التفسير ولا الحديث ولا الفقه ولا اللغة ولاالنحو، بل أئمة النحاة أهل اللغة كالخليل وسيبويه والكسائي والفرّاء وأمثالهم لم يقسّموا تقسيم هؤلاء(2)

وقال أيضاً:


1- الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 97.
2- مجموع الفتاوى، ج 20، ص 404.

ص:206

إنّ أوّل من عرف أنّه جرّد الكلام في أصول الفقه هو الشافعي، وهو لم يقسّم الكلام إلى حقيقة ومجاز، بل لا يعرف في كلامه مع كثرة استدلاله وتوسّعه ومعرفته الأدلة الشرعية أنّه سمّى شيئاً منه مجازاً، ولا ذكر في شيء من كتبه ذلك، لا في الرسالة ولا في غيرها.

وحينئذ فمن اعتقد أنّ المجتهدين المشهورين وغيرهم من أئمة الإسلام وعلماء السلف قسّموا الكلام إلى حقيقة ومجاز، كما فعله طائفة من المتأخرين، كان ذلك من جهله وقلّة معرفته بكلام أئمة الدين وسلف المسلمين(1)

الجواب
أهل الحديث يقرّون بالمجاز

أمّا أهل الحديث فهذا ابن حجر يوضّح رأي البخاري في باب من توضّأ في الجنابة، قال:

والذي يظهر لي أنّ البخاري حمل قوله: (ثمّ غسل جسده) على المجاز، أي: ما بقي، بعدما تقدّم ذكره، ودليل ذلك، قوله بعد (فغسل رجليه) ؛ إذ لو كان قوله: غسل جسده محمولاً على عمومه، لم يحتج لغسل رجليه ثانياً؛ لأنّ غسلهما كان يدخل في العموم، وهذا أشبه بتصرّفات البخاري، إذ من شأنه الاعتناء بالأخفي أكثر من الأجلى. .(2)

إذن فالبخاري وهو إمام المحدّثين يؤمن بالمجاز الذي هو قسيم الحقيقة، و ابن حجر العسقلاني هو الخبير بما يحويه صحيح البخاري من


1- مجموع الفتاوى، ج 20، ص 403.
2- فتح الباري، ج 1، ص 328.

ص:207

ألفاظ، وقد أبان عن رأيه بهذا الأمر.

وقال النووي (ت /676ه) في روضة الطالبين في بحث العقود صيغ الطلاق بعد أن نقل قول الرافعي، قال:

والأولى أن يؤخذ معنى مشترك بين الحقيقة والمجاز جميعاً، فيقال: إذا نوى أن لايسعى في تحقيق ذلك الفعل، حنث بمباشرته، وبالأمر به؛ لشمول المعنى، وإرادة هذا المعنى، إرادة المجاز فقط.

قلت: هذا الذي ذكره الرافعي حسن، والأوّل صحيح على مذهب الشافعي، وجمهور أصحابنا المتقدّمين في جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد، والله أعلم(1)

إذن فالنووي وإن كان من علماء القرن السادس إلاّ أنّه يعترف أنّ جمهور الأصحاب المتقدّمين يعترفون بإرادة الحقيقة والمجاز معاً في الألفاظ.

وسنحيل الكلام إلى النقطة التالية عن قوله: إنّ المجاز جاء بعد القرون الثلاثة، وسننقل بالتفصيل أقوال الأئمة المتقدّمين في هذا الأمر، ولعل النووي يقصدهم.

علماء التفسير استعملوا المجاز
اشارة

وهم في ضمن المائة الثانية والثالثة:

1- الحارث بن أسد المحاسبي (ت / 243ه)

يُذكر المجاز ويطلق عليه (الإضمار) ، قال:


1- روضة الطالبين، ج 8، صص 43 و44.

ص:208

من ذلك قوله: (وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) وإنّما هو حبّ العجل. وقوله: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي: أهل القرية، وقولهم «واسأل العير» ، أي: أصحاب العير (1)

2- الطبري (ت /310ه)

يعتبر تفسير الطبري عند ابن تيمية من التفاسير المعوّل والمعتمد عليها، بل وله لسان صدق في الإسلام، وهذه شهادة تعطي الطبري وثاقة في أقواله ويعدّ كلامه حجّة -لاسيما على ابن تيمية - قال:

باتّفاق أهل النقل من أئمة أهل التفسير، الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة كتفسير ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة. . وابن جرير الطبري وابن أبي حاتم، وغيرهم من العلماء الأكابر الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفاسيرهم متضمّنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير(2)

قال الطبري في جامع البيان في تعقيبه على قول الضحاك في تفسير قوله تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فيهِنَّ نُورًا) :

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: إنّما قيل: (وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) على المجاز، كما يقال: أتيت بني تميم، وإنّما أتى بعضهم. .(3)

ثمّ يتعرّض لقوله تعالى: (وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ويفسّرها بالمجاز، أي: أن الله أنشأكم من تراب الأرض.

فالطبري يستشهد بعلماء العربية للوصول إلى المعنى الصحيح لفهم الآية، وهو بالطبع لا يحيد عنهم والقرآن نزل بلغة العرب، فلابدّ من إخضاع


1- فهم القرآن ومعانيه، ج 1، ص 259.
2- منهاج السنّة، ج 7، صص 178و 179.
3- جامع البيان، ج 29، ص 120.

ص:209

معانيه لهذه اللغة، وهي واسعة تحوي أصناف البلاغة والبيان والفصاحة والكناية والمجاز والبديع وغيره.

3- النحاس (ت / 338ه)

وقال جلّ وعز: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) هذا مجاز، والمعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه وهو مثل (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) في المجاز(1)

4- الجصاص (ت/ 370ه)

قال في تفسير قوله تعالى: (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) :

الهبة: تمليك الشيء من غير ثمن، ويقولون: قد تواهبوا الأمر بينهم، وسمّى الله تعالى ذلك هبة على وجه المجاز؛ لأنّه لم تكن هناك هبة على الحقيقة. .(2)

علماء اللغة استعملوا المجاز في أدبياتهم
اشارة

أمّا علماء اللغة والعربية الذين أنكر عليهم ابن تيمية، فننقل بعض منهم ممن قالوا بالمجاز:

1- سيبويه (ت/ 180ه)

(3)

)

إنّ سيبويه تعرّض للمجاز بصورة واضحة وكان يطلق عليه اسم (السعة)


1- معاني القرآن، ج 2، ص 423.
2- أحكام القرآن، ج 2، ص 15.
3- هو: «عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبوبشر، الملقّب سيبويه: إمام النحاة، وأوّل من بسط علم النحو. ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه. وصنّف كتابه المسمّى كتاب سيبويه في النحو، لم يصنع قبله ولا بعده مثله» . الأعلام، ج 5، ص 81. قال ابن تيمية «فكتاب سيبويه مثلاً مما لا يقدر على مثله عامّة الخلق» . النبوات، ج 1 ص15.

ص:210

أو (التوسّع) ، ولكن ابن تيمية غفل أو تغافل عن هذا المعنى، في حين أنّ هذا المصطلح قد تداوله أكثر علماء اللغة والمفسّرين كما مرّ. قال سيبويه في المجاز:

ومما جاء على اتّساع الكلام والاختصارِ قوله تعالى جدّه: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) إنّما يريد فاختصَرَ، وعَملَ الفعلُ في القرية كما كان عاملاً في الأَهْل لو كان ها هنا.

ومثله: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ) وإنّما المعنى بل مَكْرُكُم في الليل والنهار.

وقال عزّوجلّ: (وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) وإنّما هو ولكنّ البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخِر(1)

لذا نجد أنّ الشاطبي يقول:

إنّ سيبويه وإن تكلّم في النحو، فقد نبّه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرّفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أنّ الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبيّن في كلّ باب ما يليق به حتّى أنّه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرّفات الألفاظ والمعاني(2)

وهذا فيه إشارة واضحة أنّ سيبويه قد استخدم البلاغة والفصاحة بكلّ أنحائها وأقسامها، ومنها المجاز.

ومما يدلنا على أنّ هذا (التوسّع) عند سيبويه هو (المجاز) أنّ هذه الشواهد والأمثلة هي عينها الموجودة في كتب البلاغة، وكذلك علمنا أنّ هذا مجاز من واقع مَن سمّى المجاز بعد ذلك من علماء الإسلام في كتبهم،


1- كتاب سيبويه، ج 1، ص 212.
2- الموافقات، ج 4، ص 116.

ص:211

وهم كثير لا يحصيهم العد، فإنّهم عندما يتعرّضون لأساليب المجاز يطلقون عليه: (توسّع ومجاز) ، وقد وقع هذا المعنى لأكثر من ثلاثين موضعاً من كتب العلماء يقولون: (هذا توسّع ومجاز) ، وهذا دليل على أنّ المجاز الذي سمّاه سيبويه توسّعاً هو المجاز، وهذا الذي يقولون: إنّه توسّع ومجاز، هو من قبيل عطف التفسير، أو هو من قبيل العطف بالمرادف (1)

2- الأخفش (ت/215ه)

(2)

)

وهو ذلك العالم النحوي المخضرم في اللغة وأحد أئمتها، قال في تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) :

هذا باب من المجاز. . وهو إنّما ذكر سماء واحدة، فهذا لأنّ ذكر (السماء) قد دلَّ عليهن كلّهنّ (3)

3- أبوالحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت/ 390ه)

قال في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة) ، باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز:

نقول في معنى الحقيقة والمجاز: إنّ الحقيقة - من قولنا حقّ الشيء إذا وجب، واشتقاقه من الشيء المحقَّق وهو المحكم، تقول: ثوب محقَّق


1- اُنظر: عبدالمحسن بن عبدالعزيز العسكر: في محاضرة له بعنوان المجاز في اللغة والقرآن : www. alquran. org. sa
2- قال ابن خلكان: «أبوالحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء النحوي البلخي المعروف بالأخفش الأوسط. أحد نحاة البصرة. . . من أئمة العربية، وأخذ النحو عن سيبويه وكان أكبر منه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلا وعرضه عليّ، وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه» . وفيات الأعيان، ج 2، صص 381 و 382.
3- معاني القرآن، ج 1، ص 61

ص:212

النسخ، أي: محكمه. قال الشاعر:

تسربلْ جِلد وجهِ أبيك إّناَ t كفيناك المحقَّ َقة الرقاقا

وهذا جنس من الكلام يُصدِّق بعضُه بعضاً من قولنا: حَقٌّ وحقيقة. ونصُّ الحِقاق. فالحقيقة: الكلام الموضوع موضِعَه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل، ولا تقديم فيه ولاتأخير، كقول القائل: أحمد اللهَ على نِعَمِهِ وإحسانه. وهذا أكثر الكلام، قال الله جلّ ثناؤه: ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وأكثر ما يأتي من الآي على هذا، ومثله في شعر العرب:

لَمالُ المرءِ يُصْلحِهُ فيغْنى مفاقِرَه أعَفُ من القُنوعِ

وأمّا المجاز فمأخوذ من جاز يجوز إذا استن ماضياً تقول: جاز بنا فلان، وجاز علينا فارِس، هذا هو الأصل، ثمّ تقول: يجوز أن تفعلَ كذا أي: ينفذ ولا يرد ولا يمنع، وتقول: عندنا دراهم واضح وزانه، وأخرى تجوز جواز الوازنة، أي: أنّ هذه وإن لم تكن وازِنة فهي تجوز مجازها وجوازها لِقربِها منها، فهذا تأويل قولنا: مجاز، أي: أنّ الكلام الحقيقي يمضي لسننه لايعترض عليه، وقد يكون غيره يجوز جوازه لقربه منه إلاّ أنّ فيه تشبيه واستعارة (1). وواضح أنّ الصحابي قسّم الكلام إلى حقيقة ومجاز، واستشهد بالآيات القرآنية واللغة والشعر لإثبات هذه الحقيقة.

دعوى أنّ الشافعي لم يقسّم الكلام إلى حقيقة ومجاز باطلة

وأمّا قول ابن تيمية أنّ الشافعي:

أوّل من عرف أنّه جرد الكلام في أصول الفقه هو الشافعي وهو لم يقسّم


1- الصاحبي في فقه اللغة، ج 1، ص 49.

ص:213

الكلام إلى حقيقة ومجاز، بل لا يعرف في كلامه مع كثرة استدلاله وتوسّعه(1)

نقول: ربما صدق ابن تيمية أنّ الشافعي لم يستخدم المجاز كمصطلح، ولكن مضمون هذا المصطلح ردّده الشافعي في أكثر من مكان في كتابه الرسالة، فليس بالضرورة أنّ الشافعي وغيره من علماء سبقوه أو تقدّموا عليه أن يستخدموا هذه المصطلحات، بل يكفيهم المعنى المضموني، وهو يؤدّي الغرض الذي يقصده أو يحكيه هؤلاء الأئمة.

ومن ضمن النصوص التي ذكرها الشافعي التي تدل على إيمانه بالمجاز وإقراره به، قال في البيان الخامس:

خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتّساع لسانها، وأنّ فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاماً ظاهراً يراد به العام الظاهر ويستغني بأوّل هذا منه عن آخره، وعاماً ظاهراً يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعاماً ظاهراً يراد به الخاص، وظاهر يعرف في سياقه أنّه يراد به غير ظاهره، فكلّ هذا موجود علمه في أوّل الكلام أو وسطه أو آخره. . وتكلّم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة، ثمّ يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها (2)

والشافعي في هذا النص يؤكّد على أنّ الخطاب القرآني جاء للعرب ليناغم فطرتهم ولغتهم، وهذه اللغة غنيّة ومتّسعة لكثرة معانيها، فهناك العام


1- مجموع الفتاوى، ج 20، ص 403.
2- الرسالة، صص 51 و52.

ص:214

وهناك الخاص، وهناك قد تكون ظواهر لا نحملها على المعنى المتبادر منها، بل لابدّ من حملها على معنى آخر ينسجم مع الفطرة، وهناك سياقات في الكلام لابدّ من إدراكها قبل أن نحكم على ظواهر الكلام.

تطبيقات الإمام الشافعي للمجاز

ثمّ طبّق الإمام الشافعي كلامه المتقدّم بأنّ الخطاب الإلهي للعرب جاء بلسانها، وكان مما تعرف من معانيها اتّساع لسانها (أي: المجاز) ، فقال:

قال الله تبارك وتعالى وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم: (وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (يوسف: 81 و82) . فهذه الآية في مثل معنى الآيات قبلها لاتختلف عند أهل العلم باللسان أنّهم إنّما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير؛ لأنّ القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم(1)

ففي هذا المقطع يعطي دلالة واضحة على إفادة المجاز من خلال القرينة التي نصبها، فصدق إخوة يوسف إنّما يتحقق بسؤال أهل القرية لا نفس القرية أو العير.

الزركشي يرى صراحة استخدام المجاز عند الشافعي

وكذلك نص الزركشي - وهو الأعلم بنصوص الشافعي من ابن تيمية- في كتابه البحر المحيط في أصول الفقه، على أنّ الشافعي في كتابه الأم استخدم لفظ المجاز في فصل خطاب الوضع لمباحث الألفاظ الشرعية، كالصلاة والصوم.


1- الرسالة، ص 64.

ص:215

قال:

ونص الشافعي في الأم صريح في أنّها مجازات لغوية، قاله ابن اللبان في ترتيب الأم (1)

أحمد محمود شاكر

(2)

)

يستظهر أنّ الشافعي استعمل المجاز

وكذلك نجد الشيخ أحمد محمود شاكر في تحقيقه على كتاب الرسالة يستشهد في بعض النصوص أنّ الشافعي أقرّ المجاز، قال معقّباً على قول الشافعي: (فلمّا خرج رسول الله في هذه الأصناف المأكولة. .) :

خرج بالخاء المعجمة والراء والجيم، من الخروج، وهذا المعنى مجاز طريف، فإنّ الفعل لا يتعدّى بنفسه، وإنّما يعدّى بالحرف أو الهمزة أو التضعيف، فقالوا فيه من المجاز: خرج فلان علمه؛ إذا جعله ضروباً يخالف بعضه بعضاً. كما هو نص اللسان، وكما نص الزمخشري في الأساس على أنّه مجاز، فيظهر لي أنّ الشافعي استعمل نفس المجاز، ولكن بتعدية الفعل بالحرف لا بالتضعيف، وهذا توجيه جيّد عندي (3)

إذن فدعوى ابن تيمية لا تثبت أمام ما قدّمناه من نصوص تثبت أنّ الشافعي قد تكلّم بالمجاز في مقابل الحقيقة.


1- البحر المحيط في أصول الفقه، ج 1، ص 522.
2- هو «أحمد بن محمّد شاكر بن أحمد بن عبدالقادر، . . عالم بالحديث والتفسير، مصري. مولده ووفاته في القاهرة. وأبواه من بلاد جرجا بصعيد مصر. . . عيّن في بعض الوظائف القضائية. ثمّ كان قاضياً إلى سنة1951 ورئيساً للمحكمة الشرعية العليا، وأحيل إلى المعاش فانقطع للتأليف والنشر إلى أن توفي. أعظم أعماله شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل خمسة عشر جزءاً منه، و عمدة التفسير أربعة أجزاء منه، في اختصار تفسير ابن كثير. ومن كتبه نظام الطلاق في الإسلام لم يتقيّد فيه بمذهب. . .» . الأعلام، ج1، ص253.
3- الرسالة: هامش، ص 523.

ص:216

2- تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز جاء بعد انقضاء القرون الثلاثة
اشارة

ودعواه الثانية لإبطال المجاز، هو قوله:

هذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلّم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي(1)

الجواب

أمّا قوله: «إنّ هذا التقسيم لم يتكلّم به أحد من الصحابة ولا التابعين. . .» فمن الطبيعي أن تتأخّر بعض المصطلحات عن الموضوع نفسه، لاسيما أنّ التدوين قد تأخّر ومنع ردحاً من الزمن، وبعد التدوين قد تبرز بعض المصطلحات تؤسس لما مضى من أقوال الصحابة، أو تعطي مضموناً قولياً لما صدر عنهم، ولو نظرنا إلى مصطلحات اليوم نجدها تختلف عما أُلّفَ في زمن الصحابة أو التابعين وهذا أمر طبيعي؛ ولكن هذا لايعني عدم وجود المجاز أو غيره في ذلك الزمان، فقد استخدم المجاز الصحابي ابن عباس والتابعين مجاهد وقتادة وغيرهم، كما سيأتي تفصيله في بحث تأويل السلف والخلف.

الدكتور العسكر

(2)

)

يردّ دعوى أنّ المجاز جاء بعد القرون الثلاثة

وللأستاذ الدكتور عبدالمحسن العسكر كلمة رائعة تسقط ما أورده ابن تيمية في ادّعائه، الذي نعتقد أنّه يخلو من الدقّة والموضوعية، حيث قال:

وفي القرن الثاني هذا - الذي هو بداية عهد التصنيف - وجدنا المجاز


1- مجموع الفتاوى، ج 7، ص 88.
2- عضو الجمعية والأستاذ المشارك في قسم البلاغة والنقد والأدب الإسلامي بكلية اللغة العربية بجامعة محمّد بن سعود الإسلامية. ولأهمية هذه المحاضرة في إلقاء الحجّة، نقلنا شطراً منها.

ص:217

مبثوثاً في كتابات العلماء يسمّونه (توسّعاً) ، ويسمّونه (استعارة) ، فممن سمّاه توسّعاً الشافعي (رحمه الله) في كتابه الرسالة، فإنّه ذكر جملة من أساليب المجاز وقال: هذا على سَعة اللسان العربي، وممن سمّى المجاز في عصر سيبويه استعارةً: أبوعمرو بن العلاء (ت 154 ه-) ؛ فإنّه (رحمه الله) قد سمّى المجاز استعارةً، ونقل له شواهد على ذلك ابنُ رشيق في (العمدة) .

وممن سمّى المجاز استعارة من أهل القرن الثاني: أبوعبيدة معمر بن المثنى في كتابه شرح النقائض، والأخفش (ت 215ه) في معاني القرآن، فإنّه في كتابه جاء عند قول الله -جلّ وعلا -: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ) ، قال: هذا من المجاز؛ حيث عبّر بالمفرد عن الكلّ في قوله: (السَّماءِ) ؛ فإنّ السماء عنده مفرد، بدليل قوله: (فَسَوَّاهُنَّ) ، قال: ومن أهل العلم من قال: إنّ هذا جنس. والذي يهمّنا هنا أنّه سمّى (المجاز) .

وممن سمّى (المجاز) - أيضاً - في ذلك العصر: أبوعبيدة معمر بن المثنى، ولنا معه سبح طويل، أبوعبيدة سمّى كتابه مجاز القرآن.

الشاعر أبوتمام من كبار شعراء العربية، ويمكن [أن] يأتي في المرتبة الثانية بعد المتنبي، له بيت يقول فيه:

لقد تركتني كأسُها وحقيقتي t مَجازٌ وصُبحٌ مِن يقينيَ كالظنِّ

فأورد المجاز في مقابل الحقيقة.

الشاعر أبوتمام (ت/ 232ه) وولد سنة ثمانين ومائة، فورود هذا المصطلح على لسانه مما يدلل على أنّ هذا المجاز بمعناه الاصطلاحي كان معروفاً إذ ذاك، ولا يمكن أن يقال: هو الذي ابتكره؛ لأنّ الشعراء ليسوا ممن يضعون المصطلحات، هذا في القرن الثاني، وأبوتمام عاش طائفة من القرن الثالث.

ص:218

لا نكاد نأتي إلى القرن الثالث حتّى نجد المجاز مشتهراً بمعناه الاصطلاحي الذي هو يقابل الحقيقة عند العلماء، فبحثوه وتردد في ساحات العلم.

منهم: ابن قتيبة (ت/ 276ه) عرض في كتابه (تأويل المشكل) باباً سمّاه (القول في المجاز) ثمّ تكلّم عمّن يطعن في القرآن بالمجاز، ثمّ تكلّم أيضاً على الذين يردّون على مَن نفي المجاز وناقشهم نقاشاً كثيراً، وابن قتيبة يُعدّ أوّل رجل بوّب للمجاز التبويب الاصطلاحي المعروف عند المجازيين.

هنالك أيضاً شيخه الجاحظ (ت/ 255ه) ، له كتابات في المجاز منتشرة في (الحيوان) ، فتناوله وسمّاه (المجاز) ، والجاحظ معدود في طائفة الأدباء. وابن قتيبة إلى اللغويين أقرب منه إلى غيرهم.

وكذلك ممن عرض للمجاز من أهل القرن الثالث: الدارمي في كتابه (النقض على بشر المريسي) ؛ فإنّه عرض للمجاز في صفحات متعددة من كتابه، وهو معدود في علماء الإسلام الكبار.

والبخاري (ت/ 256ه) (رحمه الله) في كتابه (خلق أفعال العباد) تكلّم عن المجاز في مقابل لفظ (الحقيقة) .

وهذا الإيراد للمجاز بمعناه الاصطلاحي في هذه البيئات المختلفة؛ الأدباء، واللغويون، والمحدّثون، وعلماء الشريعة يدل على أنّه كان مشهوراً في القرن الثالث، لاسيما في المنتصف الأوّل منه.

أمّا ما بعد هذا القرن الثالث فإنّ المجاز قد اشتهر واستفاض الحديث فيه وتناوله كثيرون، وجاء بعد ذلك عبدالقاهر الجرجاني وأصّله تأصيلاً في كتابه (أسرار البلاغة) .

ص:219

بقي من أهل العلم من يسمّي المجاز (استعارة) ، كما تجدونه عند الأزهري في (تهذيب اللغة) ، ومنهم من يسمّي المجاز توسّعاً، فالمجاز قد اشتهر في القرن الثالث في المنتصف الأوّل منه 1.

وأمّا المجاز العقلي وانتشاره في القرآن فيوحي بأصالة كنهه البلاغي دون ريب في نص هو أرقى النصوص العربية على الإطلاق، وهو وإن كان متعلّقاً بالإسناد الجملي لابألفاظ مجردة، ولكن لابدّ من قرينة تدلنا على إرادة الاستعمال المجازي دون الحقيقي، وقد قسّموا هذه القرينة الدالة على ذلك إلى:

1 - قرينة لفظية، وتستفاد من إطلاق اللفظ فتدرك بها موضع المجاز باعتبارات لفظية تنطق بها الكلمات، حتّى أنّك بعد التحقيق لا يخامرك شك في إرادة المجاز، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم:

أ - قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) (هود: 44) .

لقد عبّر سبحانه وتعالى عن إرادته في الكينونة المطلقة، على سبيل المجاز ب- «قيل» وإنّما هي أمر كائن لا محالة، وكانت قرينة هذا المجاز خطاب من لا يعقل، وهو الجماد الذي لا يخاطب «يا أرض» و «يا سماء» ؛ إذ هو ليس مما يعي الخطاب، أو يدرك الأمثال، فكان ذلك قرينة لفظية في دلالة هذا المجاز العقلي.

ولك أن تقول: إنّ الله قادر على أن يخاطب الجماد، ويجيب ذلك

1) محاضرة له بعنوان (المجاز في اللغة والقرآن) : www. alquran. org. sa. وروح هذا البحث هو الردّ على ابن تيمية وأتباعه، وقد أخذت هذه المحاضرة صداها في المنتديات العلمية سواء على شبكة الإنترنيت أو المحافل العلمية؛ بحيث أعيت من ينتصر لابن تيمية وحار جواباً في الردّ عليه، وما وقع من كتابات لاتعدو كونها ردود لا ترقى إلى مستوى يعتدّ به من الناحية العلمية والموضوعية.

ص:220

الجماد، فيكون ذلك على سبيل الحقيقة، وحتّى لو حصل هذا على سبيل الإعجاز، فلا مانع منه، ويبقى المدرك مجازياً؛ لأنّه في العموم خطاب لمن لا يعقل ولا يجيب ولا يسمع ولا يتكلّم، وإن سمع وأجاب وامتثل على سبيل الإعجاز.

ب - وفي قوله تعالى: ( فَوَجَدَا فيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) (الكهف: 77) .

وهنا يتجلّى المجاز العقلي مستشرفاً؛ إذ الجدار ليس كائناً ذا إرادة، ولاهو بمريد شأن من يريد في الفعل أو الترك، ولكنه البُعد المجازي الذي وهب الحياة للجماد، وأشاع الحسّ في الكائنات، وكذلك التعبير الموحي الذي أضفى صفة من يصدر عنه الفعل على من لا يصدر عنه الفعل، وحقيقة من يريد على من لا يريد في الأصل. وكانت قرينة هذا المجاز إرادة هذا الجماد وهو لا يريد(1)

إذن كلام ابن تيمية نعتقد أنّه يتهاوى أمام هذه الأدلة الناصعة التي تأبى قبول فرضية عدم وجود المجاز، فأهل اللسان والأدب والحديث والفقه كلّها ترفض هذا المنطق التيمي الذي لا ينسجم مع الإطار العام للغة، لاسيما وأنّ القرآن هو المنبع الأساس لهذه الموارد.

فالمجاز يُعدّ من البلاغة التي أسسها القرآن الكريم وتجلّت في آياته الكريمة بشكل كبير، والمجتمع العربي كان مغرماً بهذه اللغة وما تحويه من إبداع وتصوير وكناية وبديع، والقرآن نزل عليهم بلغتهم التي يتعاملون بها وبكلّ مفرداتها ومعانيها.


1- اُنظر: الدكتور محمّدحسين علي الصغير، مجاز القرآن، صص 125- 162.

ص:221

أئمة المذاهب يعترفون بالمجاز

قال ابن تيمية: «وأمّا سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم ولا من قدماء أصحاب أحمد أنّ في القرآن مجازاً لا مالك ولا الشافعي ولا أبوحنيفة»(1)

وللوقوف أكثر على آراء أئمة المذاهب وتأويلهم للنصوص التي لابدّ فيها من إعمال العقل - وحتّى نهدم ونفنّد تماماً هذا الرأي الذي لا يستقيم مع مذهب وفكر كبار علماء أهل السنّة - نذكر جملة من آرائهم التي تدل على إقرارهم بالمجاز.

الإمام أبوحنيفة النعمان بن ثابت (ت / 150ه)

نعتقد أنّ أباحنيفة هو أوّل من أقرّ المجاز، وقد سبق الجاحظ (2)في تسمية المجاز كونه استعارة، وقد نقل عنه ذلك بعض علماء الأحناف.

قال السرخسي في المبسوط:

لكن أبوحنيفة رحمه الله تعالى يقول المجاز خلف عن الحقيقة في التكلّم لا في الحكم؛ لأنّه تصرّف من المتكلّم في إقامة كلام مقام كلام. .(3)

وقال أبوبكر الكاشاني في بدائع الصنائع:

ولأبي حنيفة استعمال أرباب أهل اللغة وأهل اللسان في الجموع. . . والاسم متى كان ثابتاً لشيء في حالين، كان أثبت مما هو اسم له في حال دون حال، بل يكون نازلاً من الأوّل منزلة المجاز من الحقيقة(4)


1- مجموع الفتاوى، ج 7، ص 89.
2- كثيراً ما يردد البلاغيون والأدباء أنّ الجاحظ هو أوّل من قال بالمجاز، وهذا خطأ، فالإمام أبوحنيفة هو أوّل من أقرّه كما تقدّم.
3- المبسوط، ج 7، ص 68.
4- بدائع الصنائع، ج 3، ص51.

ص:222

الإمام مالك بن أنس (ت / 179ه)

قال ابن عبدالبر، نقلاً عن مالك بن أنس:

إنّه سئل عن الحديث: (إنّ الله ينزل في الليل إلى سماء الدنيا) ، فقال مالك: يتنزّل أمره، وقد يحتمل أن يكون كما قال مالك (رحمه الله) ، على معنى أنّه تتنزّل رحمته وقضاؤه بالعفو والاستجابة وذلك من أمره(1)

وواضح أنّه يقر المجاز في تفسير هذه الآية وابن عبدالبر يقوّي هذا الاحتمال، فهو الأقرب للحقيقة في نظره.

الإمام الشافعي (ت / 204ه)

تقدّم الكلام فيه مفصّلاً، وذكرنا نصوصاً من كتابه الرسالة على إيمانه بالمجاز، مثلاً قد جاء في تفسيره (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) قال:

فهذه الآية في مثل معنى الآيات قبلها لا تختلف عند أهل العلم باللسان أنّهم إنّما يخاطبون إباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير؛ لأنّ القرية والعير لاينبئان عن صدقهم. وهذا دليل واضح على إيمانه بالمجاز. وكذلك نقلنا قول الأستاذ المحقق أحمد محمود شاكر والزركشي، فراجع.

الإمام أحمد بن حنبل (ت / 241ه)

أمّا الإمام أحمد، فقد نقل ابن تيمية عنه أنّه يقول بالمجاز، ولكن عاد وأوّل قول أحمد بن حنبل بأنّه مجاز لغوي وليس المجاز في


1- التمهيد، ج 7، صص 143و 144.

ص:223

قبال الحقيقة.

قال ابن تيمية:

ولم يتكلّم بلفظ الحقيقة والمجاز، وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلاّ في كلام أحمد بن حنبل، فإنّه قال في كتاب الردّ على الجهمية في قوله: إنّا ونحن، ونحو ذلك في القرآن، هذا من مجاز اللغة، يقول الرجل: إنّا سنعطيك، إنّا سنفعل. فذكر أنّ هذا مجاز اللغة(1)

نقول: بما أنّ أحمد بن حنبل، قال في ردّه على الجهمية (هذا مجاز من اللغة) فهو يؤمن أنّ في اللغة مجازاً وليس مراده اللغوي مطلقاً، لذا حين تعرّض لتفسير قوله تعالى: (وَ جاءَ رَبُّكَ) قد أوّل الآية بمجيء الثواب، وليس المجيء الحسي المادي.

قال ابن كثير في البداية والنهاية:

وروى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل، أنّ أحمد بن حنبل تأوّل قول الله تعالى: (وَ جاءَ رَبُّكَ) (الفجر: 22) . أنّه جاء ثوابه، ثمّ قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه(2)

لكننا نجد الفكر الوهابي اليوم المتمثّل بنخبة من علمائهم كابن جبرين والدكتور الفوزان وابن عثيمين وغيرهم لم يستطيعوا أن يتحرروا من الذهنية التيمية الحسية؛ لذا اعترضوا على البيهقي.


1- مجموع الفتاوى، ج 7، صص 88 و 89.
2- البداية والنهاية، ج 10، ص 361.

ص:224

الدكتور الفوزان

(1)يعترض على البيهقي

قال الدكتور صالح الفوزان:

ما نسبه البيهقي إلى الإمام أحمد لم يثبت عنه، ولم يوثّقه من كتبه أو كتب بعض أصحابه، وذِكرُ البيهقيِ لذلك لا يُعتمد؛ لأنّ البيهقي (رحمه الله) عنده شيء من تأويل الصفات، فلا يُوثق بنقله في هذا الباب؛ لأنّه ربما يتساهل في النقل(2)

اعتراض بارد

وهذا اعتراض بارد غريب، فلو عكسنا الأمر جدلاً، وقلنا: إنّ الإمام أحمد نقل عن البيهقي هذا الأمر فهل يُعدّ أحمد من المتساهلين؟ ثمّ لا يمكن أن تطّرد هذه القاعدة (التشدد والتساهل) في إسقاط الأحاديث؛ إذ ربَّ متساهل هو متشدد والعكس صحيح، فهذه القاعدة ليست معياراً ومناطاً في القبول والرد، ثمّ إنّ هذا النقل جاء على لسان ابن كثير وهو العالم الخبير بالأحاديث، فلو وجد ضعفاً في الحديث لعلّق عليه أو خدشه.

ثمّ أين الفوزان من الإمام البيهقي؟ ! الذي وثّقه الذهبي وأطرى على كتبه ومنها الأسماء والصفات.

قال الذهبي:

الإمام الحافظ العلاّمة شيخ خراسان أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي بن


1- عضو في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وعضو في المجمع الفقهي بمكة المكرمة التابع للرابطة، وعضو في لجنة الإشراف على الدعاة في الحج، إلى جانب عمله عضواً في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، يشرف على الرسائل العلمية في درجتي الماجستير والدكتوراه. http: //www. alfawzan. ws
2- تعقيبات على كتاب السلفية للبوطي، ص 33.

ص:225

موسى الخسروجردي البيهقي صاحب التصانيف. . وبورك له في علمه، لحسن قصده وقوّة فهمه وحفظه، وعمل كتباً لم يسبق إلى تحريرها، منها: الأسماء والصفات(1)

ثمّ ماذا يقول الدكتور الفوزان بتطبيق الإمام أحمد بن حنبل، المجاز عندما احتجّوا عليه يوم المناظرة؟

روى الخلاّل بسنده عن حنبل عن عمّه الإمام أحمد بن حنبل أنّه سمعه يقول: احتجّوا عليّ يوم المناظرة، فقالوا: (تجيء يوم القيامة سورة البقرة. .) الحديث، قال: فقلت لهم: إنّما هو الثواب(2)

وقال الذهبي في تأويل أحمد بن حنبل لعظم آية الكرسي:

قال أبوالحسن عبدالملك الميموني: قال رجل لأبي عبدالله: ذهبت إلى خلف البزار أعظه، بلغني أنّه حدّث بحديث عن الأحوص عن عبدالله قال: (ما خلق الله شيئاً أعظم من آية الكرسي. .) وذكر الحديث، فقال أبوعبدالله [أي: أحمد بن حنبل]: ما كان ينبغي له أن يحدّث بهذا في هذه الأيام -يريد زمن المحنة - والمتن: (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي) .

وقد قال أحمد بن حنبل لمّا أوردوا عليه هذا يوم المحنة: إنّ الخلق واقع ها هنا على السماء والأرض وهذه الأشياء، لا على القرآن(3)

وقد علّق الذهبي على ذلك: «قلت: كذا ينبغي للمحدّث أن لا يشهر


1- تذكرة الحفاظ، ج 3، ص 1132،
2- صحيح شرح العقيدة الطحاوية، ص 158.
3- سير أعلام النبلاء، ج 10، ص 578.

ص:226

الأحاديث التي يتشبث بظاهرها أعداء السنن من الجهمية»(1)

فالإمام أحمد أوّل هذا النص، ولم يحمله على الظاهر، وأرجع الخلق إلى السماء والأرض.

أضف إلى ذلك أنّ ابن تيمية نفسه قد اعترف أنّ من أصحاب أحمد من احتجّ على مذهبه بالقول بالمجاز.

قال في مجموع الفتاوى:

وبهذا احتجّ على مذهبه من أصحابه (أي: أحمد بن حنبل) من قال:

إنّ في القرآن مجازاً، كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الخطاب وغيرهم (2)

إذن من جميع ما تقدّم: نعتقد أنّ ابن تيمية غالى في نفي المجاز، ولم يوفّق في هذا التأسيس؛ لأنّنا أثبتنا بما لا يقبل الشك بطلان هذه النظرية؛ لأنّ اللغويين والفقهاء وأئمة المذاهب أثبتوا المجاز والاستعارة، بل يكاد يكون الإيمان بهذا الشيء من الأمور الفطرية، كما قدمنا سابقاً، ويُعدّ إنكاره إنكاراً للبديهة ومسلّمات الفطرة والعقل.

المتشابه والتأويل

لاشك أنّ هناك ارتباطاً وتلازماً بين تأويل الآيات المتشابهات وبين التوحيد الصفاتي؛ وهذا ما أشار اليه الشيخ أبوزهرة قائلاً:

الكلام في تأويل المتشابه له اتّصال وثيق بالكلام في الصفات والوحدانية، فالكلام في أحدهما يلازمه الكلام في الآخر، والأساس في


1- سير أعلام النبلاء، ج 10، ص 578.
2- مجموع الفتاوى، ج 7، ص 89.

ص:227

هذا الموضوع، هو أنّ كلمة متشابه قد وردت في القرآن الكريم في مقابل آيات محكمات، فقد قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 7) . وأنّ جمهور المفسّرين على أنّ الآيات المتشابهات في كتابه الكريم هي الآيات المتعلّقة بالصفات والأفعال المضافة إليه سبحانه، من مثل: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح:10) . ومن مثل: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (النساء: 171) . ومثل: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) (طه: 5)(1)

رأي ابن تيمية في ال-تأويل

ثمّ تعرّض أبوزهرة لرأي ابن تيمية الذي أخذ بظواهر الألفاظ ولم يصرفها عن ظاهرها، قال:

ويخوض ابن تيمية في الموضوع على أساس وجهة نظره في رأي السلف وهو أنّهم لم يتوقّفوا بل أخذوا بظواهرها في الجملة غير باحثين عن الكيفية، وأنّ اتّباع الكيفية زيغ. . . وأنّ ابن تيمية بلا شك يختار كما ترى أنّ الصحابة يعملون معاني الآيات المتشابهات على ظاهرها ولا يسألون عن كيفها، كما لا يسألون عن حقيقة الذات الإلهية(2)

نقول: إنّ التأويل بمفهومه العلمي الواسع لعب دوراً في إثراء فهم النص الديني، لاسيما في الآيات المتشابهة؛ بحيث لا يمكن أن نجمد على ظاهر


1- ابن تيمية آراؤه وفقهه، ص 236.
2- المصدر نفسه، صص 236 - 238.

ص:228

النص بحجّة توقيفيته، أو أنّ ظاهره لا يقبل أن نصرفه إلى معنى آخر ينسجم مع روح القرآن أو السنّة الصحيحة.

من هنا نعتقد أنّ السلف قبل القرن الثالث والرابع الهجري والخلف بعد هذه القرون قد أوّلوا بعض تلك النصوص المتشابهة وردّوها إلى محكماتها أو إلى ما يناسبها وفقاً لمعاني تلك الآيات المحكمات.

وممن سار على هذا النهج التأويلي الصحابي ابن عباس حبر الأمّة وسفيان الثوري وابن عيينة وابن جرير الطبري وغيرهم، فحملوا تلك الألفاظ المتشابهة على معاني يقبلها العقل وتنسجم مع الفطرة واللغة، وتنزّه المولى جلّ شأنه عن كلّ حدّ وجهة وتشبيه وتمثيل.

ولكي يكون البحث واضحاً لابدّ أن نبيّن خمسة أموراً مهمّة، وهي كالتالي:

1- التأويل في اللغة والاصطلاح.

2- نماذج من تأويل السلف والخلف.

3- اضطراب علماء الفكر السلفي في تأويل الصفات.

4- ضوابط وشروط التأويل الصحيح.

5- نظرية المفكّر الإسلامي السيّد محمّدباقر الصدر في التأويل.

التأويل في اللغة

قال الراغب الأصفهاني (ت/ 502ه) :

التأويل من الأُول، أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً، ففي العلم نحو: (وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، وقوله تعالى: (هَلْ

ص:229

يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي: بيانه، الذي هو غايته المقصودة منه(1)

وقال ابن منظور: (ت / 711ه) :

الأول: الرجوع، آل الشيء يؤول ومآلاً: رجع، وأوّل إليه الشيء: رَجَعَهَ. وألْتُ عن الشيء: ارتددت. يقال: طبخت النبيذ حتّى آل إلى الثلث أو الربع، أي: رجع، والأيّل من الوحش: الوعل، قال الفارسي: سمّي بذلك لمآله إلى الجبل يتحصّن فيها. . وقوله عزّوجل: (وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) ، أي: لم يكن معهم علم تأويله، وهذا دليل على أنّ علم التأويل ينبغي أن ينظر فيه(2)

ثمّ قال:

والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: كان النبي (ص) يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك يتأوّل القرآن، تعني أنّه مأخوذ من قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ)(3)

وأمّا الطبري في تفسيره جامع البيان فقد أعطى للتأويل معنى إضافي، لايختلف كثيراً عن المعنى اللغوي الأوّل، وهو بمعنى التفسير والمرجع والمصير، قال: وأمّا معنى التأويل في كلام العرب: فإنّه التفسير والمرجع والمصير، . . وأصله من آل الشيء إلى كذا؛ إذا صار إليه ورجع يؤول أولاً، وأوّلته أنا: صيّرته إليه. وقد قيل: إنّ قوله: ( وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي: جزاء، وذلك أنّ الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه(4)


1- مفردات غريب القرآن، ص 31.
2- لسان العرب، ج 11، ص 33.
3- المصدر نفسه.
4- جامع البيان، ج 3، صص 250و 251.

ص:230

إذن فالتأويل على مستوى الدلالة اللغوية ترجع إلى الجذر (آل) فآل إليه: رجع، وآل عنه: ارتدّ، وهذا المعنى لا يتمّ إلاّ بإدراك المعاني وفهم المقاصد اللغوية، فلا نستطيع أن نتوقّف على ظاهر اللفظ إلاّ بعد الغور في مقاصد اللغة ومعانيها، وإلاّ فلابدّ من التأويل لدليل أو قرينة تصرف ظاهر اللفظ إلى معنى آخر، كما في حديث السيّدة عائشة الذي نقله ابن منظور.

التأويل في الاصطلاح

قال العلاّمة برهان الدين اللقاني المالكي(1)في شرح جوهرة التوحيد:

هو الحمل على خلاف الظاهر مع بيان المعنى المراد، فالمراد أوّله تأويلاً مفصّلاً، بأن يكون فيه المعنى المراد كما هو مذهب الخلف. . ثمّ قال: اتّفق السلف والخلف على التأويل الإجمالي؛ لأنّهم يصرفون النص الموهوم عن ظاهره المحال عليه تعالى(2)

وقال الشيخ مرعي بن يوسف المقدسي:

والتأويل هو أن يراد باللفظ ما يخالف ظاهره، أو هو صرف اللفظ عن ظاهره لمعنى آخر، وهو في القرآن كثير، ومن ذلك آيات الصفات المقدّسة، وهي من الآيات المتشابهات(3)


1- هو الإمام أبوالإمداد برهان الدين إبراهيم بن إبراهيم بن حسن بن علي بن عبدالقدوس بن الولي الشهير محمّد بن هارون اللقاني المالكي - واللقاني نسبة إلى لقانة قرية من قرى مصر، أحد الأعلام المشار إليهم بسعة الاطّلاع في علم الحديث والدراية والتبحّر في الكلام، وكان إليه المرجع في المشكلات والفتاوى في وقته بالقاهرة. له نسبة هو وقبيلته إلى الشرف لكنه لا يظهره تواضعاً منه، وكان جامعاً بين الشريعة والحقيقة. كانت وفاته وهو راجع من الحج ودفن بالقرب من عقبة أيلة بطريق الركب المصري. اُنظر: معجم المطبوعات العربية، ج 2، ص 1592.
2- شرح جوهرة التوحيد، ص 104.
3- أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات، ج1، ص 48.

ص:231

وقال العلاّمة السيّد جعفر مرتضى العاملي:

هو الكشف عن المرامي والمعاني التي يشير إليها اللفظ، بما له من خصوصيات في مفرداته، وهيئاته التركيبية، وبعد مقايسته بغيره وملاحظة مدى انسجام ذلك المعنى مع مبادئ وأهداف المتكلّم نفسه(1)

إذن وفق هذه التعريفات فالتأويل في المعنى الاصطلاحي يكون أداة لتنزيه الباري تعالى؛ لأنّه يصرف النص الموهوم أو المتشابه عن ظاهره المحال عليه جلّ وعلا إلى معنى ينجسم مع الرؤية القرآنية، وهذه الرؤية تمتاز بالبلاغة والكناية بأدق وأروع صورها، وهذه هي طريقة السلف والخلف.

نماذج من تأويلات السلف والخلف
1- تأويل الصحابي ابن عباس والتابعين مجاهد وقتادة والسدي

قال ابن الجوزي في تفسيره:

روى عكرمة عن ابن عباس: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: يكشف عن شدّة [ذلك اليوم وأنّه أمر مهول]، وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق، وهذا قول مجاهد، وقتادة (2)

وقال النووي في شرح مسلم:

وفسّر ابن عباس وجمهور أهل اللغة وغريب الحديث الساق هنا بالشدّة، أي: يكشف عن شدّة وأمر مهول، وهذا مثل تضربه العرب؛ لشدّة الأمر، ولهذا يقولون: قامت الحرب على ساق، وأصله أنّ الإنسان إذا وقع في أمر


1- الصحيح من السيرة، ج 2، ص 274.
2- زاد المسير، ج 8، ص75.

ص:232

شديد شمّر ساعده وكشف عن ساقه؛ للاهتمام به (1)

وكذلك روى ابن أبي حاتم في تفسيره: «عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال: بقوّة»(2)

وروى الطبري في جامع البيان: «عن ابن عباس: (وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) قال: بجد»(3)

وأيضاً روى الطبري: «عن ابن عباس: (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) قال: نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا»(4)

قال ابن أبي حاتم الرازي:

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي: نتركهم كما تركوا، والأظهر أنّ حمل النسيان على الترك مجاز؛ لأنّ المنسي يكون متروكاً، فلمّا كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم (5)

وقال أيضاً: «إنّ النسيان هو الترك. والمعنى: نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، وهذا قول الحسن ومجاهد والسدي والأكثرين»(6)

إذن ابن عباس الصحابي والتابعي مجاهد وقتادة والسدي، قد أوّلوا أكثر من آية، ففسّروا الساق بالشدّة، والأيد بالقوّة، والنسيان بالترك، وهذا كلّه صرف للفظ عن ظاهره لمعنى جديد مجازي.

كما وجدنا ذلك في كلمات ابن أبي حاتم حينما قال: الأظهر أنّ حمل


1- شرح مسلم، ج 3، صص 27و 28.
2- تفسير ابن أبي حاتم، ج 10، ص 3313.
3- جامع البيان، ج 9، ص 78.
4- المصدر نفسه، ج 8، ص 264.
5- تفسير ابن أبي حاتم، ج 3، ص 227.
6- المصدر نفسه، ج 14، ص 93.

ص:233

النسيان على الترك مجاز.

وبالتالي هذا الكلام يهدم قول ابن تيمية السابق: أنّ المجاز لم يرد على لسان الصحابة ونشأ في القرن الثالث، علماً أنّ هذه الروايات نقلناها من مصدرين يؤمن بهما ويوثّقهما ابن تيمية، وهما تفسير ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم الرازي، اللّذين يعتمد عليهما في التفسير كما تقدّم.

2- تأويل سفيان الثوري (ت/ 161ه)

قال الذهبي: «وقال معدان - الذي يقول فيه ابن المبارك: هو من الأبدال- سألت الثوري عن قوله: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) قال: علمه»(1)

وواضح أنّ الثوري هنا قد أوّل وصرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى المجازي.

3- تأويل الحافظ الترمذي (ت / 279ه)

وقد أوّل الحافظ الترمذي حديث الرؤية، فقال: «ومعنى قوله في الحديث: فيعرّفهم نفسه، يعني: يتجلّى لهم» (2)

وهذا تأويل صريح وصرف للفظ عن معناه إلى معنى آخر، ففرّق بين أنّ الله يعرّفهم نفسه بالشكل الحسي المادي، وبين أن يتجلّى لهم.

4- تأويل النووي (ت / 676ه)

قال في شرحه على مسلم:

قوله تعالى: (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) ، هذا من المجاز؛ لأنّ الجدار


1- سير أعلام النبلاء، ج 7، ص 274.
2- سنن الترمذي، ج 4، ص 97.

ص:234

لايكون له حقيقة إرادة، ومعناه قرُب من الانقضاض وهو السقوط. واستدل الأصوليون بهذا على وجود المجاز في القرآن، وله نظائر معروفة(1)

5- تأويل ابن تيمية الحراني (ت/ 728ه)

على الرغم من إنكار ابن تيمية للتأويل والمجاز، ولكننا نجد أنّه ناقض نفسه، وقال بالمجاز، فمثلاً يقول في كتابه مجموع الفتاوى:

لا شك أنّ من قال: إنّ هذه المعاني وشبهها من صفات المخلوقين ونعوت المحدثين غير مراد من الآيات والأحاديث، فقد صدق وأحسن؛ إذ لا يختلف أهل السنّة أنّ الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل أكثر أهل السنّة من أصحابنا وغيرهم يكفّرون المشبّهة والمجسّمة، لكن هذا القائل أخطأ حيث ظن أنّ هذا المعنى هو الظاهر من هذه الآيات والأحاديث، وحيث حكى عن السلف ما لم يقولوه، فإنّ ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة، ثمّ قد يكون ظهوره بمجرد الوضع، وقد يكون بسياق الكلام(2)

وقال أيضاً:

واعلم أنّ من لم يحكّم دلالات اللفظ ويعلم أنّ ظهور المعنى من اللفظ، تارة يكون بالوضع اللغوي أو العرفي أو الشرعي، إمّا في الألفاظ المفردة وإمّا في المركبة، وتارة بما اقترن باللفظ المفرد من التركيب، الذي تتغيّر به دلالته في نفسه، وتارة بما اقترن به من القرائن اللفظية التي تجعله مجازاً(3)


1- شرح صحيح مسلم، ج 15، ص 141.
2- مجموع الفتاوى، ج 6، ص356.
3- المصدر نفسه، ج 33، ص 181.

ص:235

نقول: هذا الكلام يكشف عن أمرين:

الأوّل: اضطرابه في تفسير الصفات فتارة يمرّ اللفظ كما هو - كما تقدّم في كلماته- ولا يتصرّف فيه، وتارة يحكي بلسان السلف وأنّهم غير مشبّهة؛ لأنّ الظاهر هو الذي يسبق إلى العقل ولكن قد يكون بمجرد الوضع وهو التشبيه، وقد يكون بسياق الكلام وهو التأويل والمجاز قطعاً.

الثاني: أنّه يتعيّن على مسلكه القائل: أن يكون الإمرار على الظاهر بلا تصرّف فيه، إمّا بالوضع أو التركيب والقرائن.

ولكن هذا لا ينسجم مع هذا المبنى؛ لأنّ لفظ اليد مثلاً أو الوجه وغير ذلك تدل في اللغة على هذه الجوارح والأعضاء الحسية، وبالتالي لا يكون حملها على الظاهر بالوضع دالاً على تلك الصفة.

وكذلك إن حملناها على ظاهر السياق والتركيب، فهذا هو عين التأويل والمجاز.

ولذا نجده في شرحه لحقيقة معية الله تعالى، يقول: « (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها. . . وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) :

دلّ ظاهر الخطاب على أنّ حكم هذه المعية ومقتضاها أنّه مطّلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنّه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته، ولما قال النبي (ص) لصاحبه في الغار: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) كان هذا أيضاً حقّاً على ظاهره، ودلّت الحال على أنّ حكم هذه المعية الاطّلاع والنصر والتأييد(1)

وهذا في الواقع يعني تسليم ابن تيمية بالتأويل والمجاز؛ وإلاّ كيف نفسّر


1- مجموع الفتاوى، ج 5، صص 103و 104.

ص:236

قوله: إنّ المعية هي أنّه مطّلع، ومهيمن عليكم، وهو عالم بكم، وأنّه مطّلع وناصر ومؤيّد.

أليس هذا هو التأويل الذي يعني صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر تحتمله تلك الألفاظ؟ ! غاية ما في الأمر أنّ ابن تيمية يسمّيه تفسيراً، ونحن نسمّيه تأويلاً. إذن هو اختلاف في الاصطلاح اللفظي ولا تشاح في الاصطلاح.

اضطراب علماء الفكر السلفي المعاصرين في تأويل الصفات
اشارة

من هنا نجد أنّ من قلّد ابن تيمية، قد وقع في تهافت واضطراب واضح في تأويل الصفات، ونأخذ مثالاً على ذلك لثلاثة علماء من الفكر الوهابي السلفي:

1- ناصرالدين الألباني (معاصر)

من ضمن التأويلات التي أفصح عنها الألباني، ما ورد في تحقيقه على العقيدة الطحاوية، والذي شرحها ابن أبي العز الحنفي في قوله: «قال الله عزّوجلّ: (وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (النساء: 125) ، وليس المراد من إحاطته بخلقه أنّه كالفلك. . وإنّما المراد إحاطة عظمته وسعة علمه وقدرته» . ثمّ يعلّق الألباني عليه: «وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح، مع أنّه لابدّ منه أحياناً» (1). فهناك لابدية من التأويل في نظر الألباني. وهذا مخالف لمنهج ابن تيمية.


1- شرح العقيدة الطحاوية، ص 314.

ص:237

2- ابن عثيمين (معاصر)

قال في كتابه المحاضرات السنية في شرح العقيدة الواسطية، في تفسيره لمعنى العلو:

الظاهر من الظهور وهو العلو. . . الباطن، كنايةً عن إحاطته بكلّ شيء، ولكن المعنى أنّه مع علوّه فهو باطن، فعلوّه لا ينافي قربه عزّوجلّ، فالباطن قريب من معنى القريب(1)

والارتباك في تفسير الشيخ واضح، ففسّر العلو أوّلاً بالعلو المادي، كما هو الظاهر من اللفظ، ثمّ عاد ورجع وقال بالكناية، وذلك لإحاطته بكلّ شيء، فعلوّه لا ينافي قربه عزّ وجل، وهذا هو التأويل.

3- ابن جبرين (معاصر)

قال ابن جبرين في تفسير قوله تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (الطور:48) ، قال:

والمعنى بمرأى منّا ولا تغيب عنّا، وليس المراد أنّك بداخل أعيننا، وقد جاءت السنّة بإثبات عينين لله تعالى يبصر بهما، كما في الحديث الصحيح: أنّه (ص) قال: (إنّ ربّكم ليس بأعور) يعني أنّ له عينين سليمتين من العور. . (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (القمر: 14) . المعنى أنّه سيحفظها وسيحرسها ومن فيها.

وأمّا عن ورودها في القرآن بصيغة الجمع وبصيغة الإفراد، فليس فيه دليل لأهل التحريف الذين يحرفون معناها إلى الحفظ والرعاية(2)

في هذا النص نجده يُأوّل «بأعيننا» إلى «أنك بمرأى منّا ولا تغيب عنّا» ثم


1- المحاضرات السنية، ج 1، ص 142.
2- التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية، ج 1، صص 177و 178.

ص:238

نجده وقع في تناقض بين صدر الكلام وذيله؛ حيث فسّر العين بالحفظ والحراسة والسلامة؛ لأنّه تعالى ليس بأعور، وهذا هو عين التأويل، ولكن في ذيل كلامه ردّ على أهل التحريف ويقصد بهم أهل التأويل، بما هو يصرّح به ويتبنّاه في تفسيره لهذه الآية، وهو قوله: الذين يحرفون معناها إلى الحفظ والرعاية. فما هو الفرق بين الحراسة والسلامة وبين الحفظ والرعاية؟ !

ضوابط وشروط التأويل الصحيح
اشارة

إنّ التأويل الذي ندعو له والذي لابدّ من إعماله هو ذلك الذي ينسجم مع روح القرآن بحيث لا يمكن أن يخالف الأدلة القطعية والثوابت المسلّمة من الكتاب والسنّة والعقل. فلابدّ أن نخضع التأويل إلى ضوابط وشروط تكون هي المعيار في قبوله لتفسير الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، ومن تلك الشروط ما يلي:

أوّلاً: ردّ المتشابه إلى المحكم

من أهم الشروط لقبول التأويل هي في ردّ المتشابه إلى المحكَم، فهناك آيات وروايات كثيرة تحدّثت عن عالم الغيب، فاستعملت كلمة الوجه واليد والعرش والميزان والغضب والضحك والكرسي والعرش ونسَبتها إلى الله جلّ شأنه، فهنا عندما نريد أن نفهم دلالة هذه الآية أو الرواية التي وصفت الذات الإلهية بأوصاف حقيقتها التشبيه بالمخلوق، فلابدّ من إرجاع المتشابه إلى المحكم، وهو قوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير) (الشورى:11) . وبذلك ننزّه الباري جلّ وعلا عن المثل والشريك والشبيه والضدّ.

ص:239

ثانياً: عند قيام الدليل القطعي أنّ الظاهر ممتنع عقلاً وشرعاً

لو قام الدليل القطعي على أنّ الظاهر ممتنع عقلاً أو شرعاً، ففي مثل هذه الحالة يجب المصير إلى صرف اللفظ عن ظاهره وقبول التأويل.

قال الغزالي في إحياء العلوم:

فإن يكون حمله على الظاهر غير ممكن كقوله (ص) (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) ، إذ لو فتّشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع، فعلم أنّها كناية عن القدرة التي هي سر الأصابع وروحها الخفي، وكنّى بالأصابع عن القدرة؛ لأنّ ذلك أعظم وقعاً في تفهّم تمام الاقتدار (1)

وقال أيضاً:

واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل، كما اضطر أهل الباطن إلى تأويل قوله تعالى: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، إذ حمل ذلك بالاتّفاق على الإحاطة والعلم، وحمل قوله (ص) : قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، على القدرة والقوّة، وحمل قوله (ص) : الحجرالأسود يمين الله في أرضه، على التشريف والإكرام؛ لأنّه لو ترك على ظاهره للزم منه المحال. فكذا الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكّن لزم منه كون المتمكّن جسماً مماساً للعرش، إمّا مثله أو أكبر منه أو أصغر، وذلك محال، وما يؤدّي إلى المحال فهو محال(2)

ثالثاً: عند التعارض مع حقائق القرآن الثابتة

لو آلت المعاني إلى حقيقة معيّنة، وهذه الحقيقة تغاير ذلك المعنى الذي صوّره القرآن، فنرى حقيقة هذا الشيء كاليد والرجل. . فبغض النظر عن


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص102.
2- المصدر نفسه، ص 108.

ص:240

المعنى اللغوي لابدّ من تأويل ذلك النص، فمثلاً في قوله تعالى (وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر: 22) . فهنا لاتدخل اللغة لتحليل هذه الموارد، بل لابدّ أن نبحث أو نفسّر المجيء في حقيقته الخارجية. فهل المراد به المجيء الحقيقي للربّ المتجسّد بالأعضاء الحسّية كالرجل للمشي أو اليد؟ أو أنّ المقصود به هو الأمر الرباني (أي: جاء أمر ربك) وهو معنى مجازي كنائي عن قدرته تعالى؟ إذن فلابدّ من ال-تأويل عند لحاظ هذا المعنى.

رابعاً: أن يكون التأويل منسَجماً مع اللغة والعرف

من الضوابط والمعايير المهمّة لقبول التأويل، أن يكون موافقاً ومنسجماً مع أساليب اللغة والعرف، بحيث لا يشذّ عن لسان العرب وخطاباتهم من الكناية والاستعارة والمجاز. قال الجويني: «لا يمتنع منّا حمل الاستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة»(1).

أخيراً أختم بمقولة إمام الحرمين الجويني(2)، قال:

ومما يجب الاعتناء به، معارضة الحشوية بآيات يوافقون على تأويلها حتّى إذا سلكوا مسلك التأويل عورضوا بذلك السبيل فيما فيه التنازع. فمما


1- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الإعتقاد، ج 1، ص 536.
2- ترجم له ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد، قائلاً: «هو عبدالملك بن عبدالله بن يوسف بن حيوية الجويني، أبوالمعالي بن أبي محمّد الفقيه الشافعي الملقّب بإمام الحرمين: من أهل نيسابور، إمام الفقهاء شرقاً وغرباً، لم تر العيون مثله فضلاً، ولم تسمع الأذان كسيرته نقلاً، بلغ درجة الاجتهاد، وأجمع على فضله أعيان العباد، وأقر بتقدّمه المخالف والموافق، وشهد بفضله الحسود والوامق، وسارت مصنفاته في البلاد مشحونة بحسن البحث والتحقيق والتنقير والتعزير والتدقيق، لابسة من الفصاحة حلل الكمال، ومن البلاغة غرر الملاحة والجمال. . صنّف كتباً كثيرة كنهاية المطلب في دراية المذهب ، وكتاب «الشامل» ، وكتاب «الأساليب في الخلاف» ، و «التحفة» ، و «الإرشاد» ، و «البرهان في أصول الفقه. .» . ذيل تاريخ بغداد، ج 1، ص44.

ص:241

يعارَضون به قوله تعالى: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (الحديد: 4) ، فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر، حلّوا عقدة إصرارهم في حمل الاستواء على العرش على الكون عليه، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل، وإن حملوا قوله: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، على الإحاطة بالخفيّات، فقد تسّوغوا التأويل(1)

فهنا يقرر إمام الحرمين أنّ التمسّك بالظواهر يؤدّي إلى التزام فضائح لايبوء بها عاقل ولا مخلص له منها إلاّ بالتأويل.

ولكن نجد أنّ المنهج التيمي الوهابي يلتزم بهذه الفضائح وينأى عن التأويل، بل أسرفوا في ذمّه، مما حدى بهم إلى الاضطراب والتهافت في تفسيرهم للأحاديث التي تجسّم الباري جلّ شأنه كما تقدّم.

ونعتقد أنّ التخلّص من ذلك والحلُّ الوحيد والمنطقي لهذه المعضلة، هو الالتزام بالشروط التي قدمناها - وأقصد بها شروط وضوابط التأويل الصحيح - آنفاً لدفع مأزق طرو التجسيم والتشبيه.


1- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الإعتقاد، ص 161.

ص242

ص:243

نظرية السيّد محمّدباقر الصدر (رحمه الله) في ال-تأويل

اشارة

وللمفكّر الإسلامي السيّد الشهيد محمّدباقر الصدر (رحمه الله) رؤية أُخرى في التأويل لعلها تخالف الآخرين، فهو يرى أنّ التأويل هو تفسير للمعنى لاتفسير لنفس اللفظ، بمعنى أنّ التفسير للآية المتشابهة تارة يكون لنفس اللفظ والآخر للمعنى. والأوّل نعني به: تحديد مفهومه اللغوي العام الذي وضع له اللفظ فقط. والثاني نعني به: تجسيد ذلك المعنى في صورة ذهنية معيّنة ومصداق خاص، وما يؤول وينتهي إليه في الخارج.

قال السيّد الشهيد الصدر: «إنّ للكلام مدلول مفهومي، وهو عبارة عن المعنى الذي يخطر ببال العالم باللغة حينما يسمع ذلك الكلام، أي: المدلول الاستعمالي للفظ، لاالمفهوم في مقابل المنطوق.

وقد يتّفق أن يكون للكلام مدلول مصداقي، وهو عبارة عن المصداق الذي يتشخّص به المفهوم، فمثلاً (الصراط المستقيم) فهو من حيث المفهوم واضح، في كونه الطريق. ولكن المصداق وهو واقع الصراط، فلا يعلمه إلاّ الله تعالى، وكذلك قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) (البقرة: 255) . فالمدلول المفهومي للكرسي يفهمه كلّ عربي، لكن المدلول المصداقي

ص:244

المجسّد لهذا المفهوم لا يعرفه إلاّ الله تعالى. أو (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) . (المائدة:64) أو (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش) . (الأعراف: 54) لأنّ هذا من حيث المفهوم واضح ولكن من حيث المصداق غير واضح، باعتباره مرتبط بعالم الغيب. مضافاً إلى تأرجح الذهن البشري وتلوّثه بالمفاهيم المادية حيث لايمكن أن يتصوّر إلاّ المعاني الحسّية، إذن فهذه الآيات غامضة من حيث المصداق، وقد كان شأن أهل البدع والضلالة الأخذ بآيات هي من حيث المفهوم واضحة ولكن من حيث المصداق غامضة، وكانوا يركّزون عليها ابتغاء الفتنة والتأويل. وكلمة التأويل لو حملنا المتشابه على المعنى المجمل، أي: المتشابه بحسب عالم المعنى، حينئذ التأويل يكون بالمعنى المصطلح وهو: حمل اللفظ على خلاف المتفاهم العرفي. أمّا إذا حملناه على المعنى الثاني للمتشابه وهو، أي: متشابه بحسب المدلول المصداقي، حينئذ فالتأويل هنا بمعنى (الأَول والرجوع) أي: ما يؤول اليه المفهوم؛ لأنّ كلّ مفهوم يؤول إلى حقيقته ويرجع إليها، فيُحمل ال-تأويل على معنى يناسب (الأَول والرجوع) أي: رجوع المفهوم إلى مصداقه(1)

فالمتشابه المقصود به نوع خاص، لابدّ فيه أن يكون قابلاً للاتّباع، وهذه القابلية تنشأ من عامل وجود مفهوم لغوي معيّن للفظ يكون العمل به اتّباعاً له. فالتشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردد في معاني اللفظ ومفهومه اللغوي؛ لأنّنا فرضنا أن يكون للفظ مفهوم لغوي معيّن، وإنّما ينشأ من ناحية أخرى وهي الاختلاط والتردد في تجسيد الصورة الواقعية لهذا المفهوم اللغوي المعيّن، وتحديد مصداقه في الذهن من ناحية خارجية.


1- بحوث في علم الأصول، ج 9، صص 351 و352.

ص:245

لذا لايمكننا تطبيقه على الذات الإلهية؛ للزوم المحذور، فالاستواء هنا قد استعمل في معناه اللغوي، لكن نتردد في تطبيقه؛ لذلك فراراً من المحذور العقلي، حيث يلزم الجسمية، فلابدّ أن نؤوّله إلى معنى آخر ينزّه الباري تعالى من هذه اللوازم الباطلة.

تقرير النظرية

تعتمد نظرية السيّد الشهيد رضوان الله عليه في التأويل بالرجوع إلى الآيات القرآنية الشريفة التي تناولت كلمة التأويل، ومن ثمّ دراستها واستخلاص النتائج منها.

قال (رحمه الله) : ونحن إذا لاحظنا كلمة التأويل وموارد استعمالاتها في القرآن، نجد لها معنى آخر لا يتّفق مع ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير، ولا يميّزها عنه إلاّ في الحدود والتفصيلات، فلكي نفهم كلمة التأويل يجب أن نتناول إضافة إلى معناها الاصطلاحي معناها الذي جاءت به في القرآن الكريم.

وقد جاءت كلمة التأويل في سبع سور من القرآن الكريم:

إحداها: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) . (آل عمران: 7)

والثانية: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) . (النساء: 59)

والثالثة: قوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ

ص:246

يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) . (الأعراف: 52 و 53)

والرابعة: قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) . (يونس:39)

والخامسة: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) . (يوسف: 6)

دراسة آيات التأويل

وبدراسة هذه الآيات نعرف أنّ كلمة التأويل لم ترد فيها بمعنى التفسير وبيان مدلول اللفظ، ولا يبدو إمكانية ورودها بهذا المعنى إلاّ في الآية الأولى فقط؛ لأنّ التأويل في الآية الأولى أضيف إلى الآيات المتشابهة، ولهذا ذهب كثير من مفسّري الآية إلى القول: بأنّ تأويل الآية المتشابهة هو تفسيرها وبيان مدلولها، وتدل الآية عندئذ على عدم جواز تفسير الآية المتشابهة، وبالتالي أنّ قسماً من القرآن يستعصي على الفهم ولا يعلمه إلاّ الله والراسخون في العلم، وأمّا ما يتاح للإنسان الاعتيادي فهمه وتفسيره ومعرفة معناه من القرآن فهو الآيات المحكمة منه فقط.

وهذا لا يرتضيه السيّد الشهيد الصدر؛ لأنّ الآية المتشابة يمكن تفسيرها؛ لذا قال: والمعنى الذي يناسب تلك الآيات، هو أن يكون المراد بتأويل الشيء، هو ما يؤول وينتهي إليه في الخارج والحقيقة، كما تدلّ عليه مادة الكلمة نفسها. . . ثمّ قال: فتأويل الآيات المتشابهة ليس بمعنى بيان مدلولها، وتفسير معانيها اللغوية، بل هو ما تؤول إليه تلك المعاني؛ لأنّ كلّ معنى عام حين يريد العقل أن يحدِّده ويجسِّده ويصوِّره في صورة معيّنة، فهذه

ص:247

الصورة المعيّنة هي تأويل ذلك المعنى العام، وعلى هذا الأساس يكون معنى التأويل هو ما أطلقنا عليه تفسير المعنى؛ لأنّ الذين في قلوبهم زيغ، كانوا يحاولون أن يحدِّدوا صورة معيَّنة لمفاهيم الآيات المتشابهة، إثارة للفتنة؛ لأنّ كثيراً من الآيات المتشابهة تتعلّق معانيها بعوالم الغيب، فتكون محاولة تحديد تلك المعاني وتجسيدها في صورة ذهنية خاصّة - مادِّيّة أو منسجمة مع هوى ورأي المؤوّل - عرضة للخطر والفتنة(1)

أركان وأسس نظرية التأويل عند السيّد محمّدباقر الصدر (رحمه الله)

من خلال ما تقدّم نرى أنّ نظرية السيّد الشهيد الصدر في التأويل تعتمد على ثلاثة أسس رئيسية ومهمّة، وهي كالتالي:

الأساس الأوّل: لابدّ أن نفهم معنى التأويل من نفس القرآن فقد جاء بمعنى ما يؤول إليه الشيء لا بمعنى التفسير (أي: مدلول اللفظ) ، وقد استخدم بهذا المعنى (أي: مايؤول إليه الشيء) على تفسير المعنى لا تفسير اللفظ، ونقصد من تفسير المعنى: هو بعد معرفة المعنى اللغوي للفظ يحدد ذلك المعنى في صورة ذهنية معيّنة؛ وهذه الصورة المعيّنة هي تأويل ذلك المعنى العام.

الأساس الثاني: إنّ الآيات المتشابهة لها مفهوم ومعنى خاص، بدليل أنّ القرآن يتحدّث عن اتّباع مرضى القلوب للآية المتشابهة، (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) (آل عمران: 7) . فلو لم يكن لها معنى مفهوم لما صدق لفظ (الاتّباع) في هذه الآية الشريفة.


1- اُنظر: علوم القرآن، ص 230.

ص:248

الأساس الثالث: اختصاص علم الآيات المتشابهة بالله تعالى أو الراسخين في العلم لايعني أنّ الآيات المتشابهة ليس لها معنى مفهوم، وأنّ الله وحده الذي يعلم بمدلول اللفظ وتفسيره، نعم علم الله تعالى يعني أنّه وحده الذي يعلم بالواقع الذي تشير إليه تلك المعاني، وهو الذي يستوعب حدود ذلك الواقع وكنهه. وأمّا معنى اللفظ في الآية المتشابهة فهو مفهوم ومعلوم كما تقدّم.

وتأسيساً على ما تقدّم، فلا يبقى معنى لقول ابن تيمية: «أمرّوها كما جاءت، وفي رواية فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيف»(1). بل ينتفي هذا الكلام وفق هذه النظرية. وهكذا يمكننا على ضوء ما ذكرنا أن نضيف إلى المعاني الاصطلاحية التي مرّت بكلمة التأويل، معنى آخر يمكن استنباطه من القرآن الكريم، هو: تفسير معنى اللفظ، والبحث عن استيعاب ما يؤول إليه المفهوم العام ويتجسدّ به من صورة ومصداق.

لذا نعتقد أنّ هذه الرؤية لو جُسّدت نظرياً وعلى مستوى الواقع، لحلّت لنا كثيراً من التشبيه والتمثيل، ونزّهت الباري تعالى من التجسيم، الذي وقع فيه كثير من المحدّثين، لاسيما المدرسة الوهابية التي قلّدت ابن تيمية ولم تزد عليه حرفاً.


1- مجموع الفتاوى، ج 5، ص 39.

ص:249

الفصل الثاني: شبهة تجسيم هشام بن الحكم

اشارة

ص:250

ص:251

تمهيد

اشارة

ومن الشبهات التي وقع فيها ابن تيمية بلا تمحيص وتدقيق، هي إتّهامه شخصية عملاقة وكبيرة في سماء التشيّع ألا وهي شخصية هشام بن الحكم. مما حدا بالبعض أن يرمي التشيّع بهذه الفرية مقلّدين لشيخهم ابن تيمية كالشيخ عبدالقاهر البغدادي والدكتور القفاري(1) وغيرهم. .

ولتوضيح هذا الأمر واستجلاء الحقيقة بجميع أبعادها وزواياها، وجدنا أنفسنا ملزمين بتأصيل هذا الموضوع وبيانه بصورة تحقيقية علمية، متّبعين في ذلك المنهج الحديثي الاستقرائي والتحليلي للروايات، ومناقشتها سنداً ودلالةً وفق الموازين المتّبعة في مباني الجرح والتعديل، ومن ثمّ استخلاص النتيجة النهائية بما يتلاءم ويتوافق مع معطيات البحث.

ابن تيمية يتّهم هشام بن الحكم بالتجسيم

لقد اتّهم ابن تيمية هشام بن الحكم بشبهة التجسيم في كتابه مجموع الفتاوى قائلاً: «أوّل من قال في الإسلام: إنّ القديم جسم هو


1- الدكتور ناصر القفاري، كاتب وأستاذ في العقيدة في جامعة أم القرى في المملكة العربية السعودية.

ص:252

هشام بن الحكم»(1)

وجاء بعده من قلّده بهذه التهمة الدكتور القفاري، وهذا ما نجده في كتابه (أصول مذهب الشيعة) ناقلاً عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال:

وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية أوّل من تولّى كبر هذه الفرية من هؤلاء فقال: وأوّل من عرف في الإسلام أنّه قال: إنّ الله جسم هو هشام بن الحكم (2)

ثمّ أردف كلامه بنقل كلام آخر، قائلاً:

يقول عبدالقاهر البغدادي: زعم هشام بن الحكم أنّ معبوده جسم ذو حدّ ونهاية، وأنّه طويل عريض عميق، وأنّ طوله مثل عرضه. . (3)

جواب الشبهة

ليس من العدل والإنصاف أن تُتهم الشيعة بهذا الوصف، فهم بعيدون كلّ البعد عمّا اُلصق بهم من تهمة التجسيم والتشبيه، وقد حفل بحثنا بآراء ابن تيمية الذي جسّد مفهوم التجسيم والتشبيه بأجلى صُوره، وقد ناقشنا بعض آرائه في هذه المفردة، وضممنا إليها ما ورد من نقد لعلماء عصره وغيرهم.

ومن الغريب أنّ الدكتور القفاري يستشهد بكلام ابن تيمية ولم يلتفت


1- مجموع الفتاوى، ج 13، ص154.
2- أصول مذهب الشيعة، ج 2 ص640. ونلفت النظر أنّ الدكتور القفاري يناقشنا على مبانينا الفكرية والحديثية، كما يدّعي في مقدّمة كتابه؛ لذا سنلجأ إلى ذكر الروايات التي وردت في مصادرنا ونناقشها، أضف إلى ذلك أنّنا لم نجد طريقاً صحيحاً لهذا الكلام، سوى الروايات التي ذُكرت في التراث الشيعي.
3- أصول مذهب الشيعة، ج 2، ص 640.

ص:253

إلى كتب شيخه التي أُشبعت بهذا الأمر، وكأنّه بعيد عن هذا الفكر الذي عاش في أحضانه ونشأ وترعرع منذ نعومة أظافره ينهل منه، ومسألة التجسيم هي واحدة من تلك المسائل التي آمن بها ودافع عنها.

ومع هذا كلّه نجد القفاري يتّهم الشيعة بهذه الفرية التي لا نصيب لها من الصحة.

براءة هشام بن الحكم من تهمة التجسيم

أمّا ما اتّهم به هشام بن الحكم فهي تهمة لا مبرر لها، وسوف نضعها على طاولة البحث ونقيّمها حسب المعايير العلمية والموضوعية، لذا سيقع البحث في أربعة مباحث:

المبحث الأوّل: بيان حال هشام بن الحكم في السقف التاريخي وتراجم الرجال.

المبحث الثاني: ملاحظة الروايات التي يستشف منها التجسيم والتشبيه التي اتّهم بها، ومناقشة سندها ودلالتها.

المبحث الثالث: أدلة وقرائن على براءة هشام بن الحكم من التجسيم.

المبحث الرابع: إعطاء نتيجة وحكم موضوعي لهذه الشبهة.

ص:254

ص:255

المبحث الأوّل: هشام بن الحكم في السقف التاريخي وتراجم الرجال

اشارة

أمّا التاريخ فيحدّثنا أنّه كان من متكلّمي الشيعة وبطائنهم، وهو أحد كبار الشيعة الإمامية، ومن عظماء أصحاب الإمام الصادق (ع) ، الذي فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب، وسهّل طريق الحجاج فيه.

فهو يعدّ من الشخصيات الكبيرة والفذة في تاريخ التشيّع، وقد شهد له بذلك أحمد أمين بقوله إنّه: «أكبر شخصية شيعية في علم الكلام جدلاً، قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرّقة تدلّ على حضور بديهته وقوّة حجّته. .»(1)

وكان مناظراً قلّ نظيره فله جولات وصولات مع المعتزلة وغيرهم، فكان جدلاً قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه، فكان بحقّ حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب سريع البديهة.

وقال الشهرستاني:

وهذا هشام صاحب غور في الأصول، لا ينبغي أن يغفل عن إلزاماته على


1- ضحى الإسلام، ج 3، ص 268.

ص:256

المعتزلة، فإنّ الرجل وراء ما يلزمه على الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه؛ وذلك أنّه ألزم العلاّف فقال: إنّك تقول: الباري تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته فيشارك المحدثات في أنّه عالم بعلم، ويباينها في أنّ علمه ذاته، فيكون عالماً لاكالعالمين، فلِمَ لا تقول: إنّه جسم لاكالأجسام، وصورة لاكالصور، وله قدر لاكالأقدار إلى غير ذلك؟ !(1)

وهنا هشام استخدم أسلوب الإلزام والكناية مع أحد علماء المعتزلة وهو العلاّف، فقال له: لِمَ لا تقول: إنّ الله جسم لا كالأجسام، وصورة لاكالصور، فهو لم يتبنّى هذا الرأي بل أورده مورد الإلزام، وهو يريد أن يقول له: إنّ الله ليس كمثله شيء، فقرّب له ذلك بهذا الكلام. ونعتقد أنّ شبهة التجسيم نشأت من هذا القول الذي ألزم به المعتزلة.

وقد اختلف في تاريخ الرجل فهناك من ادّعى أنّه كان في أوّل مشواره العلمي ديصاني من أصحاب شاكر الديصاني، وهذا ما نقله ابن تيمية في منهاج السنّة، قال: «هشام بن الحكم مولى كندة، نشأ في أحضان أبي شاكر الديصاني الزنديق، وكان من غلمانه، ومن بيئة أبي شاكر رضع أفاويق الإلحاد والزندقة والتجسيم»(2)

ولكن هذه الدعوى باطلة جزماً، فلم يحدّثنا التاريخ عن مثل هذه العلاقة بين الرجلين، وإن وجدت فلم يتأثّر بها هشام بن الحكم، كما سيأتي في مناقشتنا للروايات التي تركها لنا التراث العقدي والفقهي.

ثمّ ادّعي أنّه اعتنق مذهب الجهمية ورئيسهم هو الجهم بن صفوان،


1- الملل والنحل، ج 1، ص 185.
2- منتقى منهاج الاعتدال، ص 24.

ص:257

ولكن يبدو أنّ آراء الجهم لم تكن عميقة الجذور في تفكير هشام بن الحكم، ولم نجد لها أثراً كبيراً فيه، ووجدنا هشاماً خالف قول الجهم في خمود الدارين الجنّة والنار وسكونهم، فالجهم يقول: إنّهم يصيرون إلى سكون دائم، بينما هشام يذهب إلى خلودهم. ولم يع التاريخ شيئاً عن تفصيل التحاقه بالجهم، ولا كيف كان ذلك (1)

وكذلك ادّعي أنّه اعتنق مذهب الإمامية لتأثّره بفكر الإمام الصادق (ع) وهاله ما رآه من حكمته وعلمه، وذلك عندما سأله أبوعبدالله (ع) عن مسألة فحار فيها هشام وبقي ساكتاً، فسأله هشام أن يؤجّله فيها فأجّله أبوعبدالله، فذهب هشام فاضطرب في طلب الجواب أياماً فلم يقف عليه، فرجع إلى أبي عبدالله فأخبره أبوعبدالله بها، وسأله عن مسائل أخرى فيها فساد أصله وعقد مذهبه، فخرج من عنده مغتمّاً متحيّراً، قال: فبقيت أياماً لا أفيق من حيرتي.

قال عمر بن يزيد: فسألني أن أستأذن له على أبي عبدالله فاستأذنت له، فقال أبوعبدالله: لينتظرني في موضع، سمّاه بالحيرة لألتقي معه فيه غداً. . فلمّا بصرت به وقرب منّي هالني منظره، وأرعبني حتّى بقيت لا أجد شيئاً أتفوّه به، ولا انطلق لساني لما أردت من مناطقته، ووقف عليّ أبوعبدالله مليّاً ينظر ما أكلّمه، وكان وقوفه عليّ لا يزيدني إلاّ تهيّباً وتحيّرا، وتيقّنت أنّ ما أصابني من هيبته لم يكن إلاّ من قبل الله عزّ وجل، من عظم موقعه ومكانه من الربّ الجليل. قال عمر: فانصرف هشام إلى أبي عبدالله وترك مذهبه ودان بدين الحق، وفاق أصحاب أبي عبدالله كلّهم(2)


1- اُنظر: هشام بن الحكم، عبدالله نعمة، ص 60.
2- اختيار معرفة الرجال، ج 2، ص 529.

ص:258

وأيّ ما قيل في تاريخه فهو ذلك المدافع عن أهل بيت النبوّة بلسانه وقلبه، والتاريخ لايمكن أن يحجب هذه الحقيقة التي تنزّهه مما لصق به، وقد قيّمه الإمام الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) بالنزاهة وصلابة المعتقد والمذهب، وهذا سوف نطرقه في كلمات تراجم الرجال.

هشام بن الحكم في التراجم الرجالية

والآن سوف نضع هشام بن الحكم في ضوء كلام أهل الخبرة من هذا الفن، ثمّ نستنتج خلاصة ما قالوه في هذا الرجل.

قال النجاشي في رجاله: «وكان ثقة في الروايات، حسن التحقيق بهذا الأمر»(1)

قال الشيخ الطوسي في الفهرست:

كان من خواص سيّدنا ومولانا موسى بن جعفر (عليهماالسلام) ، وكانت له مباحثات كثيرة مع المخالفين في الأصول وغيرها. وكان له أصل. . له من المصنفات كتب كثيرة، منها: كتاب الإمامة، وكتاب الدلالات على حدوث الأشياء، وكتاب الردّ على الزنادقة، وكتاب الردّ على أصحاب الاثنين، وكتاب التوحيد(2)

وذكره في رجاله في أصحاب الإمام الصادق (ع)(3)

وقال ابن النديم:

من جلّة أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (عليهماالسلام) . وهو من


1- رجال النجاشي، ص 434.
2- الفهرست، ص 158.
3- رجال الطوسي، ص 318.

ص:259

متكلّمي الشيعة الإمامية، وبطائنهم، وممن دعا له الصادق (ع) ، فقال: أقول لك ما قال رسول الله (ص) : لاتزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

وهو الذي فتق الكلام في الأمّة وهذّب المذهب، وسهّل طريق الحجاج فيه(1)

وقال العلاّمة الحلّي:

روى عن أبي عبدالله وأبي الحسن (عليهماالسلام) ، وكان ثقة في الروايات، حسن التحقيق بهذا الأمر، ورويت مدائح له جليلة عن الإمامين الصادق والكاظم (عليهماالسلام) ، وكان ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب بالنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب. . ثمّ قال: ورويت روايات أخر في مدحه، وأورد في خلافه أحاديث ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عنها. وهذا الرجل عندي عظيم الشأن رفيع المنزلة(2)

وقال ابن داود الحلي في رجاله، مدافعاً عن هشام:

مع أنّي لا أستثبت ما قاله البرقي قدحاً فيه؛ لأنّ حال عقيدته معلوم وثناء الأصحاب عليه متواتر، وكونه تلميذ الزنديق لا يستلزم اتّباعه في ذلك، فإنّ الحكمة تؤخذ حيث وجدت، وقوله: وهو جسمي ردئ، يحتمل عوده إلى أبي شاكر لا إليه(3)

وقال السيّد الخوئي:

وإنّي لأظن الروايات الدالة على أنّ هشاماً كان يقول بالجسمية كلّها موضوعة، وقد نشأت هذه النسبة من الحسد، كما دلّ على ذلك رواية


1- الفهرست، ص 224.
2- خلاصة الأقوال، صص 288و 289.
3- رجال ابن داود، ص 200.

ص:260

الكشي بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفري، قال: سألت أباالحسن الرضا (ع) عن هشام بن الحكم، قال: فقال: رحمه الله كان عبداً ناصحاً، وأوذي من قبل أصحابه حسداً منهم له(1)

خلاصة أقوال ممن ترجم له
اشارة

من خلال ما تقدّم من أقوال أهل الخبرة في المجال التراجمي الرجالي، نستنتج التالي:

1- شهادة النجاشي بكونه حسن التحقيق

قال: كان ثقة في الروايات حسن التحقيق في هذا الأمر، ويقصد بكونه حسن التحقيق في هذا الأمر، أي: أنّ رواياته موافقة لرأي المذهب، ولايوجد في أصوله وكتبه ما يخالف الأصول والقواعد العامّة التي قررها أهل البيت (عليهم السلام) ، ومعلوم أنّ مذهب أهل البيت قائم على التنزيه المطلق وعدم التشبيه، كما تقدّم في بحوثنا السابقة.

إذن هذه شهادة من النجاشي بسلامة هشام بن الحكم من التشبيه والتجسيم بدليل قوله: إنّه حسن التحقيق.

2- إنّه من خواص أصحاب الإمام موسى بن جعفر (ع)

والخواص لفظ يطلق على الإنسان المقرّب إليه جدّاً، فلو وجد الإمام الكاظم (ع) شائبة التجسيم عند هشام لذمّه على ذلك، بل نجد أنّ المديح هي الصفة التي تلازم هشام من الإمام الصادق والكاظم (عليهماالسلام) .


1- معجم رجال الحديث، ج 20، ص 321.

ص:261

3- الإمام الصادق (ع) دعا له بكونه مؤيّداً بروح القدس

إنّ هشاماً من جلّة أصحاب الإمام الصادق (ع) ، والإمام دعا له أنّه مؤيّد بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، وهذه مرتبة عظيمة لم ينلها إلاّ المخلصون الذين وصلوا إلى مرتبة عالية وسامية من المعارف الإلهية لا يمكن أن يشوبها من يُعرف بالتجسيم أو التشبيه.

4- فتق الكلام، وهذّب المذهب، والعلاّمة يدفع عنه الشبهات في كتابه الكبير

إنّ هشاماً كان ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب بالنظر. . وهذه العبارة نقلها ابن النديم والعلاّمة الحلي، فالذي يصل إلى مرحلة تهذيب المذهب في الكلام، لا يقال عنه: مجسّم إطلاقاً، بل هو من أزاح غبار الشبهات عن المذهب، ومنها التجسيم، لذا نجد عبارة العلاّمة اللاحقة لكلامه: «ورويت روايات أخر في مدحه، وأورد في خلافه أحاديث ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عنها. وهذا الرجل عندي عظيم الشأن رفيع المنزلة» . فالعلاّمة يدافع عنه في كتابه الذي أسماه بالكبير، وأجاب عمّا ألصق بهشام من تهم مفتراة لا أصل لها.

ثمّ اعتبره عظيم الشأن رفيع المنزلة.

وهذه شهادة ثانية من العلاّمة الحلي بسلامة عقائد هشام بن الحكم وأنّه ذو شأن ومنزلة رفيعة.

5- البرقي يتّهمه وابن داود يدافع عنه

إنّ البرقي قد اتّهم هشاماً أنّه من أصحاب الديصاني الزنديق، ولكن هذه التهمة دفعها ابن داود بقوله:

ص:262

حال عقيدته معلوم، وثناء الأصحاب عليه متواتر، وكونه تلميذ الزنديق لايستلزم اتّباعه في ذلك، فإنّ الحكمة تؤخذ حيث وجدت، وقوله: وهو جسمي ردئ، يحتمل عوده إلى أبي شاكر لا إليه.

فمن كانت عقيدته معلومة عند الشيعة، وثناء علمائهم متواتر بصحة عقائده ومنها آراؤه الكلامية، حينئذ فلا اعتبار بقول البرقي؛ لأنّه لا تلازم بين كونه تلميذاً، وأنّه يعتنق آراء أبي شاكر، فإنّ الحكمة تؤخذ حيث وجدت.

وما قاله من شبهة التجسيم فلعلها ترجع إلى من يقول بها وهو أبي شاكر، لذا قال ابن داود:

هشام بن الحكم لا مراء في جلالته لكن البرقي نقل فيه غمزاً لمجرد كونه من تلاميذ أبي شاكر الزنديق، ولا اعتبار بذلك، وإن كان قد وقع في ألفاظه شيء يؤوّل يخرجه عن الطعن لبعده عن الشبهة(1)

وهذه شهادة ثالثة ببراءته من شبهة التجسيم.

6- السيّد الخوئي يضعّف الروايات، والحسد هو الدافع لنسبتها إليه

السيّد الخوئي أيضاً أعطى شهادة ببراءته من تهمة التجسيم حينما قال بعدم ظنّه في الروايات التي وصفت هشاماً بالتجسيم، ووصفها بأنّها كلّها موضوعة ومجعولة، وسبب هذا الوضع ومنشؤه هو الحسد والبغض لهشام.

بدليل قول الإمام الرضا (ع) عندما سُئل عنه قال: رحمه الله إنّه كان عبداً ناصحاً، وأوذي من قبل أصحابه حسداً منهم له(2)


1- رجال ابن داود، ص 284.
2- اختيار معرفة الرجال، ج 2، ص547؛ جامع الرواة، ج2، ص313.

ص:263

فالإمام الرضا (ع) ترحّم عليه ونزّهه عن هذه الشبهة.

والنتيجة أنّ هناك شهادات براءة تنأى بهشام بن الحكم عن تهمة التجسيم التي أثارها حاسدوه ومبغضوه.

ولننتقل إلى الروايات التي ادّعت أنّ هشاماً مجسّم لنعرضها على علم الرجال والدراية لمناقشتها بموضوعية، وإعطاء نتيجة واضحة من خلال دراستنا لها.

ص:264

ص:265

المبحث الثاني: الروايات التي اتّهم بها هشام بن الحكم بالتجسيم ومناقشتها

1- رواية علي بن أبي حمزة
اشارة

روى الشيخ الكليني بإسناده:

عن علي بن أبي حمزة، قال: «قلت لأبي عبدالله (ع) : سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أنّ الله جسم صمدي نوري. . فقال (ع) : سبحان من لايعلم أحد كيف هو إلاّ هو، ليس كمثله شيء. . ولا تدركه الحواس، ولايحيط به شيء، ولا جسم، ولا صورة»(1)

المناقشة

يكفينا في سقوط هذه الرواية وعدم اعتبارها أنّ فيها علي بن أبي حمزة البطائني، فهو أحد أعمدة الواقفية. قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في عدّة مواضع: إنّه واقفي. وقال أبوالحسن علي بن الحسن بن فضال: علي بن أبي حمزة كذّاب واقفي، متّهم ملعون، وقد رويت عنه أحاديث كثيرة، وكتبت عنه تفسير القرآن


1- الكافي، ج 1 ص104.

ص:266

كلّه من أوّله إلى آخره إلاّ أنّي لاأستحل أن أروي عنه حديثاً واحداً (1).

وقال ابن الغضائري: علي بن أبي حمزة لعنه الله أصل الوقف، وأشدّ الخلق عداوة للولي من بعد أبي إبراهيم (ع) (2). فعلى هذا فنقل على بن أبى حمزه ضعيف و مردود ولايقدح في جلالة قدر هشام بن الحكم الذي رأينا شهادات علماء الرجال بوثاقته ومدح الأئمة (عليهم السلام) له.

2- رواية محمّد بن الفرج الرخجي
اشارة

وروى أيضاً بسنده:

عن علي بن محمّد، رفعه عن محمّد بن الفرج الرخجي، قال: «كتبت إلى أبي الحسن (ع) أسأله عمّا قال هشام بن الحكم في الجسم، وهشام بن سالم في الصورة، وكتب (ع) : دع عنك حيرة الحيران، واستعذ بالله من الشيطان، ليس القول ما قاله الهشامان»(3)

المناقشة

وهذه الرواية أيضاً ضعيفة وغير معتبرة؛ لكونها مرفوعة، فهناك واسطة مجهولة. أضف إلى ذلك أنّ الشيخ المجلسي ناقش دلالة هذه الرواية، قال:

فقد قيل: إنّهما قالا بجسم لا كالأجسام، وبصورة لا كالصور، فلعل مرادهما بالجسم الحقيقة القائمة بالذات، وبالصورة الماهية، وإن أخطئآ في إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى(4)


1- اختيار معرفة الرجال، ج2 ص706؛ خلاصة الأقوال، ص 334.
2- خلاصة الأقوال، ص 363.
3- الكافي، ج 1، ص 105.
4- بحارالأنوار، ج3، ص 288.

ص:267

أو لعل المراد من قوله: «ليس القول ما قاله الهشامان» أي: ليس القول الذي حكيته أنت أيها الراوي، هو قول الهشامين. وعلى كلّ حال فالرواية لايعتمد عليها فهي ضعيفة.

3- رواية محمّد بن الحكيم
اشارة

وروى كذلك بسنده:

عن محمّد بن أبي عبدالله، عمن ذكره، عن علي بن العباس، عن أحمدبن محمّد بن أبي نصر، عن محمّد بن الحكيم، قال: «وصفت لأبي إبراهيم (ع) قول هشام بن سالم الجواليقي وحكيت له قول هشام بن الحكم: إنّه جسم. فقال: إنّ الله تعالى لا يشبهه شيء، أيّ فحش أو خناء أعظم من قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة»(1)

المناقشة

وهذه الرواية أيضاً ضعيفة ولا قيمة لها؛ لكونها مرفوعة، وكذلك فإنّ فيها علي بن العباس الجراذيني الرازي، قال النجاشي: رمي بالغلو وغمز عليه، ضعيف جدّاً (2)

وقال ابن الغضائري: علي بن العباس الجراذيني أبوالحسن الرازي مشهور، له تصنيف في الممدوحين والمذمومين يدل على خبثه وتهالك في مذهبه، لا يلتفت إليه، ولايعبأ بما رواه (3)


1- الكافي، ج 1، ص 105.
2- رجال النجاشي، ص 255.
3- معجم رجال الحديث، ج 13، ص72.

ص:268

4- رواية محمّد بن زياد
اشارة

وروى بسنده:

عن محمّد بن أبي عبدالله، عن محمّد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن عبدالله بن المغيرة، عن محمّد بن زياد، قال: «سمعت يونس بن ظبيان يقول: دخلت على أبي عبدالله (ع) ، وقلت له: إنّ هشام بن الحكم يقول قولاً عظيماً، إلاّ أنّي أختصر لك منه أحرفاً، فزعم أنّ الله جسم. . فقال أبوعبدالله (ع) : ويحه أما علم أنّ الجسم محدود متناه»(1)

المناقشة

وهذه الرواية أيضاً ضعيفة؛ لأنّ فيها بكر بن صالح، قال النجاشي:

بكر بن صالح الرازي، مولى بني ضبة، روى عن أبي الحسن موسى (ع) ، ضعيف(2). وقال ابن الغضائري والعلاّمة: ضعيف جدّاً، كثير التفرّد بالغرائب(3)

5- رواية عبدالرحمن الحماني
اشارة

وروى بسنده:

عن محمّد بن أبي عبدالله، عن محمّد بن إسماعيل، عن علي بن العباس، عن الحسن بن عبدالرحمن الحماني، قال: «قلت لأبي الحسن موسى بن


1- الكافي، ج 1، ص 106.
2- رجال النجاشي، ص 109.
3- رجال الغضائري، ص 44؛ خلاصة الأقوال، ص 32.

ص:269

جعفر (عليهماالسلام) : إنّ هشام بن الحكم زعم أنّ الله جسم ليس كمثله شيء، فقال (ع) : قاتله الله، أما علم أنّ الجسم محدود»(1)

المناقشة

وهذه الرواية ضعيفة؛ لأنّ فيها علي بن العباس ضعيف متهالك في مذهبه، لا يلتفت إليه، ولا يعبأ بما قال، كما تقدّم آنفاً، وأمّا ما ورد من كلام الإمام بذمّه فهو يتناقض مع المدح الذي أورده الإمام في بعض الروايات، فلابدّ من حمل هذا الكلام إمّا على التقية، أو أن نحمل هذه الكلمة (قاتله الله) على المدح، فالعرب والعرف آنذاك تستخدم هذه المفردة على نحو الكناية، كما في قولهم: «قاتله الله ما أكرمه» وهي كلمة تجرى على اللسان وتستعمل من غير قصد إلى ما وضعت له، بل تدعم بها العرب كلامها كقولهم: لا أم له، لاأب له، تربت يداه، قاتله الله، ما أشجعه، وما أشبه ذلك(2)

6- رواية الصقر بن أبي الدلف
اشارة

روى الصدوق بسنده:

عن الصقر بن أبي دلف، قال: «سألت أباالحسن علي بن محمّد بن علي بن موسى الرضا (ع) عن التوحيد، وقلت له: إنّي أقول بقول هشام بن الحكم، فغضب (ع) ثمّ قال: ما لكم ولقول هشام، إنّه ليس منّا من زعم أنّ الله عزّوجلّ جسم، ونحن منه برآء في الدنيا والآخرة، يابن أبي دلف، إنّ الجسم محدث والله محدثه ومجسّمه» (3)


1- الكافي، ج 1، ص 106.
2- اُنظر: شرح صحيح مسلم، النووي، ج 9، ص 74.
3- توحيد الصدوق، ص 104.

ص:270

المناقشة

وهذه الرواية ضعيفة أيضاً؛ لأنّ الصقر بن أبي دلف الكرخي مجهول الحال من حيث الوثاقة.

7- رواية إبراهيم بن محمّد الخزاز
اشارة

روى الصدوق بسنده:

عن علي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقاق، قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبدالله الكوفي، عن محمّد بن إسماعيل البرمكي، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسين بن سعيد، عن إبراهيم بن محمّد الخزاز ومحمّد بن الحسين، عن إبراهيم بن محمّد الخزاز ومحمّد بن الحسين، قالا: «دخلنا على أبي الحسن الرضا (ع) ، فحكينا له ما روي أنّ محمّداً (ص) رأى ربّه في هيئة الشاب الموفّق في سن أبناء ثلاثين سنة، رجلاه في خضرة، وقلت: إنّ هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: إنّه أجوف إلى السرّة والباقي صمد، فخرّ ساجداً، ثمّ قال: سبحانك ما عرفوك ولا وحّدوك فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك. .»(1)

المناقشة

وهذه الرواية فيها من الضعفاء والمجهولين ما يسقطها عن الاعتبار، فأبوبكر بن صالح كما تقدّم ضعيف جدّاً، كثير التفرّد بالغرائب(2). كما أنّ


1- توحيد الصدوق، صص 113 و 114.
2- خلاصة الأقوال، ص 327.

ص:271

علي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق مجهول، وكذلك الحسين بن الحسن وهو الدينوري وهو مجهول أيضاً.

خلاصة ما تقدّم

هذه تقريباً مجموع الروايات التي قيلت بحقّ هشام بن الحكم، وقد اتّضحت الخدشة في أسانيدها، فلا يمكن التعويل عليها أو أن تُجعل سبباً لذمّه واتّهامه بهذه الشبهة.

ص:272

ص:273

المبحث الثالث: أدلة وقرائن تنفي عن هشام بن الحكم شبهة التجسيم

1- مفهوم الجسمية عند هشام تعني (الشيء) ولا تعني أنّ له أبعاداً وأعراضاً وغير ذلك

إنّ مفهوم الجسمية عند هشام له مصطلح آخر يختلف عما هو متعارف والذي من لوازمه الطول والعرض والعمق. فليس المراد هو التجسيم المعنوي الحقيقي لمعنى الجسم المادي.

فإطلاق مقولة إنّه (جسم لا كالأجسام) على البارئ تعالى، يريد أن يصوّرها هشام بن الحكم بمعنى (شيء لا كالأشياء) المأخوذة من قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فحقيقة الشيئية مفهوم مشترك بين الله تعالى وغيره كما في بعض الصفات المشتركة بينهما كالرازق والعالم وغيرها، ولكن في هذا الأمر يمتاز البارئ عزّ وجل بخاصيّة وجودية قائمة بذاتها لا توجد في سائر الأشياء الأخرى لا تشبهه ولا يشبهها، فمن حيث إثبات الشيئية له يخرج عن حدّ التعطيل، ومن حيثية نفي المثيل له جلّ وعلا يخرج عن حدّ التشبيه بغيره من الأشياء.

ص:274

وبهذا يثبت التنزيه الكامل لله تعالى من غير تعارض بين المقولتين.

لذا نجد أنّ السيّد الخوئي يرى أنّ هشاماً أخطأ في إطلاق المصطلح والاستعمال، ولم يخطأ في الاعتقاد، فاعتقاده صحيح ولا غبار عليه، قال:

على أنّا لو سلّمنا أنّ هشاماً كان يطلق لفظ الجسم على الله سبحانه، فهو كان مخطئاً في الإطلاق، وفي استعمال اللفظ في خلاف معناه، ولم يكن هذا خطأ باعتقاده.

يدلنا على ذلك ما تقدّم من رواية محمّد بن يعقوب بإسناده عن الحسن بن عبدالرحمان الحماني، أنّ هشام بن الحكم زعم أنّ الله جسم ليس كمثله شيء، فإنّ نفي المماثلة يدلنا أنّه لا يريد كلمة الجسم معناها المعهود، وإلاّ لم يصح نفي المماثلة، بل يريد معنى آخر غير ذلك، وإن كان قد أخطأ في هذا الإطلاق و في هذا الاستعمال(1)

وكذلك نقل هذا المفهوم (أي: أنّه شيء قائم بذاته) ، الأشعري وابن أبي الحديد، قال أبوالحسن الأشعري في المقالات: «وقال هشام بن الحكم: معنى الجسم أنّه موجود، وكان يقول: إنّما أريد بقولي جسم أنّه موجود، وأنّه شيء، وأنّه قائم بنفسه»(2)

وقال ابن أبي الحديد:

فأمّا من قال: إنّه جسم لا كالأجسام، على معنى أنّه بخلاف العرض الذي يستحيل أن يتوهم منه فعل، ونفوا عنه معنى الجسمية، وإنّما أطلقوا هذه اللفظة لمعنى أنّه شيء لاكالأشياء، وذات لا كالذوات، فأمرهم سهل؛ لأنّ


1- معجم رجال الحديث، ج 20، صص 320 و 321.
2- مقالات الإسلاميين، ص 304.

ص:275

خلافهم في العبارة، وهم: علي بن منصور، والسكاك، ويونس بن عبدالرحمن، والفضل بن شاذان، وكلّ هؤلاء من قدماء رجال الشيعة، وقد قال بهذا القول ابن كرام وأصحابه، قالوا: معنى قولنا فيه سبحانه إنّه جسم، أنّه قائم بذاته لا بغيره(1)

إذن هناك اصطلاح خاص عند هشام بن الحكم وبعض تلامذته في إطلاق لفظ الجسم على الذات الإلهية، ولا نستطيع أن نتّهمه بكونه مجسّماً؛ لأنّها لا تخالف الأصول العقلائية أو الشرعية، نعم قد يقال: إنّ الجسم هو اسم لله، وهذا مرتبط بتوقيفية أسماء الله تبارك وتعالى، ولكن هذا بحث آخر. وقد جوّز بعضهم هذا المعنى(2)

قال ابن حزم: «ولو أتانا نص بتسميته تعالى جسماً لوجب علينا القول بذلك، وكنّا حينئذٍ نقول: إنّه لا كالأجسام، كما قلنا في عليم وقدير وحيّ»(3)

2- هشام يلزم الآخرين ويعارضهم دون الاعتقاد بذلك الإلزام

عندما كان يناظر هشام بن الحكم المعتزلة وغيرهم، أحد أساليبه المتّبعة مع الخصم إلزام الآخرين ببعض ما قالوه، وهذا لا يعني أنّه يؤمن بذلك الإلزام، فعندما ألزم العلاّف وقال له: فلِمَ لا تقول: إنّه جسم لا كالأجسام،


1- شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 228.
2- وهذا ما نجده في كلمات الجبّائي، قال: «إنّ العقل إذا دلّ على أنّ البارئ عالم، فواجب أن نسمّيه عالماً، و إن لم يسمّ نفسه بذلك، إذا دلّ على المعنى، و كذلك في سائر الأسماء. و خالفه البغداديّون -من المعتزلة - فزعموا أنّه لا يجوز أن نسمّي الله عزّوجلّ باسم قد دلّ العقل على صحّة معناه إلاّ أن يسمّي نفسه بذلك. .» اُنظر: مقالات الإسلاميين، ج 1، ص525.
3- الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 2، ص 93.

ص:276

وصورة لا كالصور، فهذا من باب إلزام الخصم وليس بالضرورة أن يؤمن ويعتقد به، وهذا واضح عند أرباب المناظرات، وهشام من أبرز المناظرين بشهادة كثير من العلماء كما تقدّم في أعلام التراجم.

قال المرتضى في كتابه الشافي:

إنّه أورد ذلك على سبيل المعارضة للمعتزلة. فقال لهم: إذا قلتم: إنّ القديم تعالى شيء لا كالأشياء، فقولوا: إنّه جسم لا كالأجسام.

وليس كلّ من عارض بشيء وسأل عنه يكون معتقداً له، ومتديّناً به، وقد يجوز أن يكون قصد به إلى استخراج جوابهم عن هذه المسألة ومعرفة ما عندهم فيها، أو إلى أن يبيّن قصورهم عن إيراد المرضي في جوابها، إلى غير ذلك(1)

وقال الشهرستاني:

لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة، فإنّ الرجل وراء ما يلزمه على الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه؛ وذلك أنّه ألزم العلّاف فقال: إنّك تقول الباري تعالى: عالم بعلم، وعلمه ذاته فيشارك المحدثات في أنّه عالم بعلم، ويباينها في أنّ علمه ذاته، فيكون عالماً لا كالعالمين، فلِمَ لا تقول: إنّه جسم لا كالأجسام، وصورة لا كالصور، وله قدر لاكالأقدار؟ ! (2)

ومن الغريب أنّنا نجد أنّ الشهرستاني يعترف بهذا الأمر، ولكنه اتّهمه بأمور لا تليق بمكانته العلمية. على أنّ أكثر التّهم وردت على لسان الجاحظ والشهرستاني وهي لاتلزمنا.


1- الشافي في الإمامة، ج1، ص 84.
2- الملل والنحل، ج1، ص 185.

ص:277

3- رواية هشام عن الإمام الصادق (ع) بنفي التجسيم

لو فرضنا أنّ هشاماً كان يؤمن بمقالة التجسيم فلماذا يروي عن أئمته (عليهم السلام) بعض الروايات التي تنفي هذه الشبهة؟

فقد روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبدالله (ع) ، أنّه قال للزنديق حين سأله وقال: «فتقول: إنّه سميع بصير، قال (ع) : هو سميع بصير، سميع بغير جارحة، وبصير بغير آلة، بل سميع بنفسه، وبصير بنفسه»(1)

وهذا فيه دلالة واضحة أنّه لا يؤمن بمقالة التجسيم، وإلاّ لما كان يروي هذا الكلام عن الإمام الصادق (ع) .

4- الرائد للحق والدافع للباطل لا يكون مجسّماً

من غير المعقول أنّ من يكون مدافعاً عن الحق وناصراً له أن يتّهم بكونه مجسّم أو مشبّه، فقد تقدّم في بعض الروايات أنّ الإمام الصادق (ع) قال بحقه: هشام بن الحكم رائد حقنا، وسائق قولنا، المؤيّد لصدقنا، والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أمره تبعنا. وقوله: هذا ناصرنا بقلبه ويده ولسانه(2)

وكذلك عندما سأل الإمام الصادق (ع) عن أسماء الله واشتقاقها (إلى أن قال) : «أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل (وتناقل) به أعداءنا المتّخذين مع الله عزّوجلّ غيره؟ قلت: نعم، فقال: نفعك الله به وثبّتك يا هشام» (3)


1- الكافي، ج 1، ص 109.
2- اُنظر: الشافي في الإمامة، ج 1، ص 85.
3- الكافي، ج 1، ص 87.

ص:278

فمن غير المعقول والمنطقي أن يقدّمه الإمام إلى المحاججة والمناظرة وهو يعلم أنّ هشاماً ممن يعتقد بالتجسيم والتشبيه.

5- الأميني يردّ على الشهرستاني دعوة التجسيم المنسوبة لهشام

الشيخ الأميني في ردّه على الشهرستاني الذي ادّعى أنّ هشاماً مجسّم، قال:

هذه عقائد باطلة عزاها إلى رجالات الشيعة المقتصّين أثر أئمتهم (عليهم السلام) اقتصاص الظل لذيه، فلا يعتنقون عقيدة، ولا ينشرون تعليماً، ولا يبثّون حكماً، ولا يرون رأياً إلاّ ومن ساداتهم الأئمة على ذلك برهنة دامغة، أو بيان شاف، أو فتوى سديدة، أو نظر ثاقب.

على أنّ أحاديث هؤلاء كلّهم في العقائد والأحكام والمعارف الإلهية مبثوثة في كتب الشيعة تتداولها الأيدي، وتشخص إليها الأبصار، وتهش إليها الأفئدة، فهي وما نسب إليهم من الأقاويل على طرفي نقيض، وهاتيك كتبهم وآثارهم الخالدة لا ترتبط بشيء من هذه المقالات، بل إنّما هي تدحرها وتضادها بألسنة حداد.

وإطراء أئمة الدين (عليهم السلام) لهم بلغ حدّ الاستفاضة، ولو كانوا يعرفون من أحدهم شيئاً من تلكم النسب لشنّوا عليهم الغارات، كلاءة لملأهم عن الاغترار بها كما فعلوا ذلك في أهل البدع والضلالات.

وهؤلاء علماء الرجال من الشيعة بسطوا القول في تراجمهم وهم بقول واحد ينزهونهم عن كلّ شائنة معزوّة إليهم، وهم أعرف بالقوم من أضدادهم البعداء عنهم الجهلاء بهم وبترجمتهم، غير مجتمعين معهم في حلّ أو مرتحل.

ص:279

وليس في الشيعة منذ القدم حتّى اليوم من يعترف أو يعرف بوجود هذه الفرق هشامية، زرارية، يونسية، المنتمية عند الشهرستاني ونظرائه إليهم ككثير من الفرق التي ذكرها للشيعة(1)

فالأميني (رحمه الله) يردع القائلين بتهمة التجسيم لهشام وينزّهه عن ذلك، ونعتقد أنّ الأميني آمن بأنّ هشاماً وإن قال بالتجسيم كمصطلح واستعمال، ولكنه لايقصد التجسيم المعنوي ذو الأبعاد المادية والكتل الجسمية من أعراض وحيّز ومكان وطول وعرض وعمق، بل كما قلنا سابقاً: إنّه يقصد بأنّ مقولة: (جسم لا كالأجسام) بمثابة قول: (شيء لا كالأشياء) فصوّر الجسم كالشيء اصطلاحاً ولفظاً.

أي: أنّه يثبت وجود البارئ تعالى بكونه شيئاً، ولكن في نفس الوقت يخرجه عن حدّ التعطيل، وكذلك (لا كالأجسام) أي: (لا كالأشياء) فينفي عنه تبارك ذكره كلّ شبه للأجسام، و مماثلة بينه و بينها، فهو إخراج له تعالى عن حدّ التشبيه، كما تدلّ عليه الآية الكريمة: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11) .

فهذه الآية نفت عن وجوده تعالى المماثلة لغيره من الأشياء. وهذا هو التنزيه الكامل الذي ليس فيه شائبة التجسيم.

6- الإمام الرضا (ع) ينفي الجسمية في حديث الصورة

أمّا حديث الصورة المنسوب الى هشام فقد فسّره الإمام الرضا (ع) بما يغاير من يقول بالتجسيم، روى الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده:


1- الغدير، ج 1، ص 143.

ص:280

عن الحسين بن خالد قال: «قلت للرضا (ع) : يابن رسول الله (ص) إنّ الناس يروون أنّ رسول الله (ص) قال: إنّ الله عزّوجلّ خلق آدم على صورته فقال: قاتلهم الله لقد حذفوا أوّل الحديث: إنّ رسول الله (ص) مرّ برجلين يتسابّان فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك، فقال (ص) له: يا عبدالله، لا تقل هذا لأخيك، فإنّ الله عزّوجلّ خلق آدم على صورته»(1)

فهذا الحديث يبيّن أنّ هناك سقوط في كلمات الحديث، فالمراد هو عود الضمير في (صورته) إلى الشخص الذي يشبه آدم، وليس المراد هو الله جلّ شأنه.

رؤية الشيخ المفيد لهذه المقالة

يبقى شيء واحد وهو قول الشيخ المفيد (رحمه الله) الذي قد يتشبّث به البعض بأنّ هشاماً يرى التجسيم، قال:

لم يكن في سلفنا من تديّن بالتشبيه من طريق المعنى، وإنّما خالف هشام و أصحابه، جماعة أصحاب أبي عبدالله (ع) بقوله في الجسم، فزعم أنّ الله جسم لا كالأجسام(2)

الجواب

قد طرحنا نظرتنا في هذا الأمر والتي تنأى بهشام عن هذه الشبهة، فقول الشيخ المفيد بالمخالفة فيها شيء من المسامحة، ولعلنا نستفيد من عبارته: إنّ هشاماً خالف «بقوله في الجسم» لا أنّه خالف «في القول بالجسم» ، فهذا


1- عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 110.
2- الحكايات، صص 77 و 78.

ص:281

المفهوم خالف فيه هشام جميع الشيعة كمصطلح ليس إلاّ، وهو تفسير مختص به؛ لكثرة مناظراته ومجادلاته مع الخصم فيشتق بعض المصطلحات التي لا تعبّر بالضرورة عن معتقده كما تقدّم، ولا يقصد منه التجسيم بمعناه المعنوي.

المبحث الرابع: نتيجة وحكم

بعد ما تقدّم نستنتج ونلخّص الأمور التالية:

1- إنّ التاريخ لا يستطيع أنّ يثبت أن هشاماً كان مجسّماً؛ لأنّ هناك تضارباً في أحواله، بل حدّثنا التاريخ كونه شخصية كبيرة لها وزنها العلمي، فهو يعدّ من أبرز المناظرين الذين قلّ نظيرهم في التاريخ الإسلامي، لاسيما في ميدان العقيدة والكلام، فله صولات وجولات ومنازلات مع المعتزلة وغيرهم، ودافع عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وقواعده التي تتسم بالتنزيه المطلق الذي لا يشوبه التجسيم.

2- إنّ التراجم الرجالية حدّثتنا عن أنّ هذا الرجل بعيد كلّ البعد عمّا اتّهم به، فهو يعدّ من متكلّمي الشيعة وبطائنهم، وهو الثقة في الروايات، ومدحه أئمة الشيعة كالإمام الصادق والكاظم (عليهماالسلام) في أكثر من موقع وموطن، وترحّم عليه الإمام الرضا (ع) ، وعلل من وصفه بهذه الشبهة بالحسد منهم له.

3- ذكرنا شهادات تنزّهه عن شبهة التجسيم، كما في قول النجاشي: إنّه حسن التحقيق، وقلنا: إنّ المراد من هذا الوصف أنّ ما يؤمن ويعتقد به هشام مطابق للمذهب وأصوله وقواعده المبتنية على التنزيه بجميع أبعاده.

وكذلك شهادة العلاّمة الحلي، الذي دافع وأجاب عمّا اتّهم به في كتابه

ص:282

الكبير، ومن ثمّ وصفه بالرجل العظيم الشأن والرفيع المنزلة.

وكذلك شهادة ابن داود الذي قال عنه: إنّ حال عقيدته معلوم، وثناء الأصحاب عليه متواتر.

وكذلك شهادة السيّد الخوئي ببراءته من هذه التهمة حينما قال: بعدم ظنّه في الروايات التي وصفت هشاماً بالتجسيم، ووصفها بأنّها كلّها موضوعة ومجعولة، وسبب هذا الوضع هو الحسد والبغض لهشام.

4- ناقشنا جميع الروايات التي اتّهم بها، وقد اتّضح أنّها واهنة وضعيفة ولا ترتقي إلى الاعتبار.

5- ثمّ استدللنا على نفي هذه الشبهة بأدلة وقرائن تنزّهه عمّا اتّهم به، نذكر منها: أنّه أورد هذا المفهوم، أي: الجسم بمعنى الشيء لفظاً لا معنى، وكذلك أورد هذا المصطلح على نحو الإلزام دون الاعتقاد به، وغير ذلك من القرائن.

إذن نستطيع أن نحكم من خلال بحثنا: أنّ هشاماً يُعدّ من العلماء الكبار الذين لهم الباع الكبير في الدفاع عن المذهب، وهذا المذهب قائم على نفي التجسيم والتشبيه كما أسلفنا سابقاً من أقوال أئمة الشيعة وعلمائهم، فهذه الشبهة لا يمكن أن يتلبّس بها هشام بمقتضى ما تقدّم من مجموع بحثنا.

ص:283

الفصل الثالث: شبهة تجسيم هشام بن سالم

اشارة

ص:284

ص:285

اتّهام ابن تيمية لهشام بن سالم في حديث الصورة

اشارة

ومن الشبهات التي تلحق وتقرن دائماً عند ذكر هشام بن الحكم، هي شبهة حديث الصورة التي اتّهم بها هشام بن سالم، ولتسليط الضوء عليها وإتماماً للبحث نعالج ما قاله ابن تيمية في منهاج السنّة:

والفرقة الرابعة من الرافضة الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أنّ ربّهم على صورة الإنسان، وينكرون أن يكون لحماً ودماً ويقولون: هو نور ساطع يتلألأ بياضاً، وأنّه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وفم وعين، وأنّه يسمع بغير ما به يبصر. .(1)

وما قاله عبدالقاهر البغدادي كما ينقل الدكتور القفاري، أن هشامَ بن سالم: «مفرط في التجسيم والتشبيه؛ لأنّه زعم أنّ معبوده على صورة الإنسان. . وأنّه ذو حواس خمس كحواس الإنسان» (2)


1- منهاج السنّة، ج 2، ص 219.
2- أصول مذهب الشيعة، ج 2، ص 642.

ص:286

الجواب

هذه الشبهة كسابقتها مردودة بثلاثة أمور:

الأوّل: ضعف الرواية الناقلة لهذا الحديث.

الثاني: تزكية هشام بن سالم في التراجم الرجالية.

الثالث: ورود حديث الصورة في التراث السنّي.

الأمر الأوّل: ضعف الرواية الناقلة لهذا الحديث
اشارة

أمّا هذا الحديث فقد نقله الكشي بسنده قال:

محمّد بن مسعود، قال: حدّثني علي بن محمّد القمي، قال: حدّثني أحمد ابن محمّد بن خالد البرقي، عن أبي عبدالله محمّد بن موسى بن عيسى من أهل همدان، قال: حدّثني أشكيب بن أحمد الكسائي، قال: حدّثني عبدالملك ابن هشام الحناط، قال: «قلت لأبي الحسن الرضا (ع) : أسألك جعلني الله فداك؟ قال: سل يا جبلي، عما ذا تسألني؟ فقلت: جعلت فداك زعم هشام بن سالم أنّ لله عزّوجلّ صورة، وأنّ آدم خلق على مثال الربّ، ويصف هذا ويصف هذا وأوميت إلى جانبي وشعر رأسي، . . فقال (ع) : أراد هذا الإثبات، وهذا شبّه ربّه تعالى بمخلوق، تعالى الله الذي ليس له شبيه ولا عدل ولا مثل ولا نظير ولاهو بصفة المخلوقين، لا تقل بمثل ما قال هشام بن سالم»(1)

مناقشة سند الرواية

إنّ هذه الرواية ضعيفة لا يمكن أن نعتمد عليها؛ لأنّ فيها أكثر من ضعيف ومجهول، فمحمّد بن موسى: هو أبوجعفر السمان الهمداني الذي


1- اختيار معرفة الرجال، ج2، ص568.

ص:287

قال النجاشي في حقّه: ضعّفه القميون بالغلو، وكان ابن الوليد يقول: إنّه كان يضع الحديث(1)

وكذلك أشكيب الكسائي ليس له ذكر في الرجال، وكذلك الحناط، فسند الرواية يدور بين هؤلاء الضعفاء، فكيف يمكن أن نركن ونطمئن بصدقها؟ ! ثمّ لو فرضنا وسلّمنا بصحتها، فلعل الإمام (ع) إنّما صوّب قولهما في المعنى لا في إطلاق لفظ الجسم عليه تعالى، ويظهر مما زعما (من أنّ إثبات الشيء أن يقال: جسم) أنّ مرادهم بالجسم أعم من المعنى المصطلح(2)

أضف إلى ذلك أنّ الذي سأل الإمام قال: زعم هشام بن سالم. . والإمام (ع) كان يردّ على هذا التساؤل المزعوم بشكل عام، ويبيّن رأي الشيعة في هذا الأمر، ثمّ وجّههم بالابتعاد عن مقالة هشام؛ لعدم فهمهم بمقصوده ومراده؛ لأنّه اصطلاح خاص به، كما تقدّم في حديثنا عن هشام بن الحكم.

فليس المراد هنا ذمّ هشام بن سالم، كيف وهو يعدّ من كبار الشيعة ومن المقرّبين للإمام (ع) .

ويكفينا قول الشيخ المفيد في رسالته العددية، بكونه من الرؤساء والأعلام، المأخوذ منهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم بشيء، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم.

وقول ابن طاووس: «الظاهر أنّ هشام بن سالم صحيح العقيدة معروف


1- رجال النجاشي، ص 338.
2- بحار الأنوار، ج 3، ص 305.

ص:288

الولاية غير مدافع»(1)

وقال بعض العلماء: ما رواه الكشي - من أنّ هشام بن سالم يزعم أنّ لله عزّوجلّ صورة، وأنّ آدم مخلوق على مثال الربّ - ففي الطريق محمّد بن عيسى الهمداني وهو ضعيف، وقال بعض أصحابنا: لمّا رأى المخالفون جلالة قدر الهشامين نسبوا إليهما ما نسبوا؛ ترويجاً لآرائهم الفاسدة (2).

أو لعل الضمير في كلمة في صورته يعود إلى آدم وليس على الباري جلّ وعلا، بمعنى أنّ الله تعالى خلقه ابتداءً على صورته التي أوجده عليها ولم يردده في أطوار الخلقة، نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثم أجنّة وهكذا. وقد تقدّم الكلام في الرواية عن الإمام الرضا (ع) في الشبهة المتقدّمة.

الأمر الثاني: تزكية أهل التراجم لهشام بن سالم
اشارة

قال النجاشي: روى عن أبي عبدالله وأبي الحسن (عليهماالسلام) ، ثقة ثقة، له كتاب يرويه جماعة.

وعدّه الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الصادق (ع) وفي أصحاب الكاظم (ع) .

وكذلك البرقي (تارة) في أصحاب الصادق (ع) ، قائلاً: هشام بن سالم مولى بشر بن مروان، كان من سبي الجوزجان، كوفي، يقال له: الجواليقي، له كتباً، يكنّي بأبي محمّد، و أخرى في أصحاب الكاظم (ع) .

ووثّقه الشيخ المفيد كما تقدّم: أنّه من الرؤساء والأعلام، المأخوذ منهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم بشيء، ولا طريق


1- اُنظر: شرح أصول الكافي، ج 3، ص 230.
2- المصدر نفسه.

ص:289

إلى ذمّ واحد منهم.

وقال ابن داود بعد تمام تقسيم الأوّل عند ذكر جماعة: قال النجاشي في كلّ منهم: ثقة ثقة، مرّتين.

وذكر ابن الغضائري في كتابه خمسة رجال، زيادة على ما قاله النجاشي كلّ منهم: ثقة ثقة، مرّتين(1)

رؤية هشام بن سالم التوحيدية

إنّ نظرة هشام بن سالم التوحيدية قد تلقّاها وترسّخت في نفسه من معلّمه وأستاذه الإمام الصادق (ع) ، وذلك حينما سأله الإمام (ع) «أتنعت الله؟ فقال: نعم، فقال: هات، فقال: هو السميع البصير، قال: هذه صفة يشترك فيها المخلوقون، قلت: فكيف تنعته؟ فقال: هو نور لا ظلمة فيه، وحياة لا موت فيه، وعلم لاجهل فيه، وحق لا باطل فيه، فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد» (2)

فقول هشام: إنّه أعلم الناس بالتوحيد، هي شهادة تنفي عنه ما اتّهم به؛ لأنّ التوحيد الذي تلقّى علمه من الإمام الصادق (ع) يتنافي مع التشبيه والتجسيم وما شابه ذلك، وقد تقدّمت النصوص الكثيرة بلسان الإمام (ع) التي تنزّه الباري جلّ شأنه عن كلّ حدّ وتشبيه وتعطيل.

الأمر الثالث: حديث الصورة في التراث السنّي
اشارة

إنّ الحديث الذي نسب إلى هشام بن الحكم وابن سالم قد تبيّن وهنه وضعفه، وكان الأولى بالدكتور القفاري ومن سار على نهجه أن يلحظوا


1- اُنظر: معجم رجال الحديث، ج 20، صص 324 و 325.
2- التوحيد، ص 146.

ص:290

تراثهم العقدي الذي أورد نفس مضمون هذا الحديث بأسانيد صحيحة، فإن قبلوا به فالإشكال يرتفع عن الشيعة، لاسيما وأنّ هذا الحديث أبطلته الشيعة. ويأتي النقض على هذه الأحاديث التي قبلوها وصححوها، فبالتالي يعود الإشكال على الدكتور القفاري نفسه الذي أغمض عينه عن هذا التراث المملوء بهذه الأحاديث.

وننقل بعض ما ورد من أحاديث في الكتب المعتبرة التي نقلت هذا المضمون، وهي كالتالي:

1- رواية أبي هريرة

روى البخاري في صحيحه، قال: «حدّثنا يحيى بن جعفر، حدّثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) قال: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً. .» (1)

وروى البخاري أيضاً بسنده عن أبي هريرة، قال: «إنّ الناس قالوا:

يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ . . فإذا جاءنا ربّنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتّبعونه»(2)

ففي هذه الرواية تعبير صريح بأنّ الله يأتي في صورته التي يعرفون، ولكن السؤال كيف عرفوها؟ ولعل الجواب ما يرويه أيضاً البخاري حيث إنّ هناك علامات يعرفونه بها وهي الساق.


1- صحيح البخاري، ج 7، ص125.
2- المصدر نفسه، ص205.

ص:291

2- رواية أبي سعيد الخدري

روى أبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) : قلنا: «يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا؟ قلنا: لا، قال: فإنّكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلاّ كما تضارون في رؤيتهما. .» إلى أن قال: «إنّما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أوّل مرّة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلّمه إلاّ الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن»(1)

3- رواية عبدالله بن عباس

روى أحمد بن حنبل في مسنده، عن ابن عباس: «إنّ النبي (ص) قال: أتاني ربّي عزّ وجل الليلة في أحسن صورة»(2)

وقد صحح هذا الحديث أحمد محمّد شاكر في تعليقه على المسند بقوله: «إسناده صحيح» (3). وكذلك وصححه الألباني(4)

وهذه الرواية واضحة تماماً في إثبات الصورة لله تعالى.

4- رواية عبدالله بن عمر

روى الطبراني بسنده عن ابن عمر، قال: «قال رسول الله (ص) لا تقبّحوا الوجه فإنّ آدم خلق على صورة الرحمن تبارك وتعالى»(5). وهذا الحديث صحيح،


1- صحيح البخاري، ج 8، صص180 و 181.
2- المسند، ج 3، ص458.
3- المصدر نفسه.
4- السلسلة الصحيحة، ج 8، ص176.
5- المعجم الكبير، ج 12، ص430.

ص:292

بشهادة الهيثمي، قال: «رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة»(1)

فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بصحة حديث الصورة ولا غرابة فيه

أضف إلى ذلك أنّ مشايخ الدكتور القفاري أفتوا بإمرار هذا الحديث على ظاهره والضمير في (صورته) يعود إلى الله تبارك وتعالى، وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، وننقل نص الفتوى:

فتوى رقم 2331:

سؤال: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي (ص) أنّه قال: «خلق الله آدم على صورته ستون ذراعاً» ، فهل هذا الحديث صحيح؟

الجواب: حديث صحيح، ولا غرابة في متنه، فإنّ له معنيان:

الأوّل: أنّ الله لم يخلق آدم صغيراً قصيراً كالأطفال من ذريته ثمّ نما وطال حتّى بلغ ستين ذراعاً، بل جعله يوم خلقه طويلا ًعلى صورة نفسه النهائية طوله ستون ذراعاً.

والثاني: أنّ الضمير في قوله: على صورته يعود على الله، بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة: على صورة الرحمن، وهو ظاهر السياق، ولا يلزم على ذلك التشبيه، فإنّ الله سمّى نفسه بأسماء سمّى بها خلقه، ووصف نفسه بصفات وصف بها خلقه، ولم يلزم من ذلك التشبيه، وكذا الصورة، ولا يلزم من إتيانها لله تشبيهه بخلقه؛ لأنّ الاشتراك في الاسم وفي المعنى الكلّي


1- مجمع الزوائد، ج 8، ص198.

ص:293

لايلزم منه التشبيه فيما يخص كلاًّ منهما؛ لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11) .

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز

نائب رئيس اللجنة: عبدالرزاق عفيفي

عضو: عبدالله بن غديان

عضو: عبدالله بن قعود(1)

وقد ألفت الكتب حول إثبات حديث الصورة، ولعل أهمّها هو كتاب (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن) لمؤلّفه السلفي حمود بن عبدالله التويجري، وقد قرّض له مفتي المملكة العربية السعودية عبدالعزيز بن باز هذا الكتاب، وأمضى ما وصل إليه المؤلّف من نتائج.

ونص التقريض هو كالتالي:

فألفيته كتاباً قيّماً كثير الفائدة، قد ذكر فيه من الأحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورته، وفيما يتعلّق بمجيء الرحمن يوم القيامة على صورته، وقد أجاد وأفاد وأوضح ما هو الحق في هذه المسألة، وهو أنّ الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يعود إلى الله عزّوجل. . (2)

ابن تيمية يثبت حديث الصورة، وأنّ الضمير في (صورته) عائد إلى الله تعالى

قال التويجري في كتابه:

فقد ثبت عن النبي (ص) من طرق كثيرة أنّه قال: «إنّ الله تعالى خلق الله آدم


1- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ج5، صص 316 و 317.
2- عقيدة أهل الايمان في خلق آدم على صورة الرحمن، ص 3.

ص:294

على صورته» ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ردّه على الرازي: إنّ هذا الحديث مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وأنّه لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أنّ الضمير عائد إلى الله تعالى، وأنّ الأحاديث كلّها تدل على ذلك، وقال أيضاً: إنّ الأمّة اتّفقت على تبليغه وتصديقه ولكن لمّا انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعلت طائفة الضمير عائداً إلى غير الله تعالى(1)

فالتويجري ينقل عن شيخه ابن تيمية تصحيح هذا الحديث، وأنّ الضمير يعود إلى الله تبارك وتعالى.

إذن فهل يمكن بعد ذلك أن لا نقول بالتجسيم الصريح لمن يعتنق هذا الفكر؟ ! ثمّ أين غابت تلك المقولة عن الدكتور القفاري وعبدالقاهر البغدادي حين اتّهما هشام بن الحكم وهشام بن سالم بالتجسيم؛ نتيجة لنقلهم هذا الحديث الضعيف في تراثنا الحديثي؟ ! كما قررناه سابقاً.

ولعلنا نلتمس العذر للدكتور القفاري جهله بكتب شيخه ابن تيمية ولكن هذا الاحتمال بعيد؛ لأنّ مشايخه كابن باز والتويجري وابن عثيمين نقلوا وأمضوا هذا الحديث تبعاً لما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية.

أو أنّ عصبيته وحقده على التشيّع كانت السبب وراء هذه التهمة، فأغمض عينيه عن هذه الأحاديث التي تجسّم المولى تبارك وتعالى.

ونرى أنّ له العذر في عدم تأويل هذه الأحاديث، فقد تقدّم في بحوثنا السابقه منع التأويل والمجاز، الذي تبنّاه شيخه ابن تيمية، والذي أوقعه في شباك التجسيم الذي لايستطيع أن يخرج عن دائرته ما لم يتحرر من هذا الفكر.


1- عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، ص 5.

ص:295

ابن عثيمين يثبت الصورة المادية لله تبارك وتعالى

ولأهمية هذا البحث أنقل ما قاله الشيخ ابن عثيمين - بتفصيله- في شرحه للعقيدة الواسطية لابن تيمية، في شرحه حديث: خلق الله آدم على صورته أو هيئته. وإلى من تعود كلمة صورته أو هيئته، وكيف نفسّر هذا؟

قال ابن عثيمين:

روى البخاري ومسلم: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (ص) قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً» ، وروى ابن أبي عاصم في السنّة: عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (ص) : «لا تقبّحوا الوجوه، فإنّ ابن آدم خلق على صورة الرحمن» ، قال الشيخ عبدالله الغنيمان حفظه الله: (هذا حديث صحيح صححه الأئمة، الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وليس لمن ضعّفه دليل، إلاّ قول ابن خزيمة، وقد خالفه من هو أجل منه) .

وروى ابن أبي عاصم أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص) : «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإنّ الله تعالى خلق آدم على صورة وجهه» ، قال الشيخ الألباني: إسناده صحيح.

وهذان الحديثان يدلاّن على أنّ الضمير في قوله: «على صورته» راجع إلى الله تعالى.

وسئل الشيخ ابن باز (رحمه الله) : ورد حديث عن النبي (ص) ينهى فيه عن تقبيح الوجه، وأنّ الله سبحانه خلق آدم على صورته، فما الاعتقاد السليم نحو هذا الحديث؟

فأجاب (رحمه الله) : الحديث ثابت عن النبي (ص) ، أنّه قال: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه، فإنّ الله خلق آدم على صورته» ، وفي لفظ آخر: «على صورة

ص:296

الرحمن» وهذا لا يستلزم التشبيه والتمثيل.

فقوله (ص) : (خلق آدم على صورته) أي: أنّ الله عزّوجل خلق آدم على صورته سبحانه، فهو سبحانه له وجه وعين، وله يد ورجل سبحانه وتعالى، وآدم له وجه، وله عين، وله يد، وله رجل. . . ، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان فهناك شيء من الشبه، لكنه ليس على سبيل المماثلة. . إلى آخر كلامه (1)

وواضح من هذا الكلام أنّ الشيخ ابن عثيمين لا ينكر الصورة المادية الصرفة، فأثبت أنّ لله وجهاً ويداً وعيناً ورجلاً، ولكن أوّلها بأنّها ليست مماثلة للإنسان فهناك شيء من الشبه، لكنه ليس على سبيل المماثلة.

وهذا اعتراف بنظرته الحسّية التي يأنسها بذهنه المادي، ولو سألناه كيف عرفت أنّ هناك شيئاً من الشبه؟ !

نعتقد أنّ الجواب الوحيد هو: الأُنس الذهني بالمادة التي يعيشها في هذه الدنيا، فليس هناك مخرج سوى أنّهم مقلّدون لابن تيمية الذي أنكر الظاهر وجمد على ألفاظه وأنكر التأويل والمجاز، فوقعوا في هذه الإشكالية التي يصعب حلّها في منهج يتبنّى هذه الرؤية.

خلاصة الكلام فيما اتّهم به هشام بن سالم

فمما تقدّم نلخّص الكلام فيما اتّهم به هشام بن سالم بالنقاط التالية:

1- إنّ كلام عبدالقاهر البغدادي وتبعه القفاري الذي نقل كلامه في أنّ هشام بن سالم مفرط بالتجسيم والتشبيه هو كلام يفتقر إلى الدقّة


1- اُنظر: شرح العقيدة الواسطية، ج 1، صص 107و 293.

ص:297

والموضوعية، وهو عار عن الصحة، فقد اتّضح أنّ الرواية التي أسسوا عليها اعتقادهم بهذه الشبهة هي رواية ضعيفة؛ لأنّ فيها أكثر من راو ضعيف ومجهول.

2- لو سلّمنا بصحة هذه الرواية، فليس المقصود أو المراد من الصورة بنظر هشام بن سالم هي الصورة المادية، بل هو في مقام التنزيه للباري عزّوجل، كما في قوله: شيء لا كالأشياء.

3- ثمّ بعد ذلك نقلنا نظرة هشام التوحيدية، الخالية من التجسيم والتشبيه. وأخيراً فقد زكّاه علماء الشيعة في كتبهم الرجالية، حيث إنّ الرجل يُعدّ من كبار الشيعة الإمامية، ومن الرؤساء والأعلام الذين لا يطعن عليهم بشيء، وهذه شهادة بكونه بريئاً من هذه الشبهة، وإلاّ لغمزوه وطعنوا به، فهو الثقة الثقة كما عبّر عن ذلك النجاشي وغيره.

4- أضف إلى ذلك أنّ التراث السنّي ولاسيما الفكر الوهابي، قد صحح حديث الصورة، وتبنّى الرؤية التجسيمية، كابن تيمية وابن باز والتويجري وابن عثيمين.

5- ثمّ كان من المفترض على البغدادي والقفاري أن يفتّشوا في تراثهم الحديثي، قبل أن يوجّهوا سهام نقدهم إلى الشيعة، بلا تأمّل وتروّي في هذا التراث القائم على التنزيه المطلق، فقد روى مضمون هذا الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأحمد في مسنده، والطبراني في معجمه، وابن تيمية، وجاء خلفهم من الخَلَف من قال بصحة هذه الروايات واستفاضتها، فكان الأولى بالقفاري وغيره أن يعالج هذا الخلل قبل أن يتّهم الآخرين بلا تأمّل وتدقيق؛ لأنّ الرواية التي تشبّث بها هي

ص:298

ضعيفة ولا قيمة لها وفق مباني الرجال الشيعية، ووفق الرؤية الدلالية التي نؤمن بها.

إذن فهذه الشبهة ساقطة ولا قيمة لها لمن يبحث عن الحق بإنصاف وموضوعية وعلمية.

ص:299

الباب الرابع: التوحيد في المنظومة الفكرية الشيعية

اشارة

ص:300

ص:301

الفصل الأوّل: نظرة موجزة حول التصوّر الإسلامي للصفات

اشارة

ص:302

ص:303

تمهيد

اشارة

بعدما تقدّم من بياننا لعقائد ابن تيمية في التوحيد ودفعنا لشبهاته؛ تفرض علينا طبيعة البحث أن نقارن هذا الفهم للتوحيد، بالمدرسة الشيعية المتمثّلة بأهل البيت (عليهم السلام) ؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّ المقارنة تكشف الخلل في المنهج الذي اتُّبع من قبل المدرسة التيمية.

والثاني: إثراء هذا البحث بآراء الفكر الشيعي لاسيما في الصفات، له مدخلية في إعطاء رؤية صافية وصحيحة لتوحيد الله تبارك وتعالى.

إنّ التوحيد في المنظومة الفكرية الشيعية ينبع مما قرره أئمتهم ووفق ما ورثوه من تراث حديثي زاخر بهذه العقيدة، ويعدّ الإمام علي (ع) هو المؤصّل والمنظّر والمعلّم، بل والموضّح لمعالم التوحيد بعد رسول الله (ص) ، وكتاب نهج البلاغة طافح بهذه المعالم التي قلَّ وعدم نظيرها، فالمتأمّل بكلماته وخطبه لاسيما في هذه المسألة الأساسية والمفصلية، يجد أنّه دمج بين العقل والنص القرآني، وأرسى القواعد التي تلائم التأويل في النصوص التي قد يُفهم منها التجسيم والتشبيه للخالق بصفات الخلق.

ص:304

مفهوم الصفات في المدارس الفكرية
اشارة

وقبل أن نلج لتفصيلات كلام أميرالمؤمنين (ع) ، ارتأيت أن نلقي نظرة موجزة حول المدارس الفكرية التي طرحت مفهوم الصفات الإلهية، وكيف تعاملت معه؟ لاسيما المدارس الفكرية المشهورة كالمعتزلة والأشاعرة والمدرسة التيمية الوهابية والإمامية.

فهل الصفات التي تجري عليه سبحانه، هي صفات واقعيّة مغايرة لذاته تعالى؟ أو أنّها عين ذاته؟ بمعنى أنّنا لو أخذنا الصفات الذاتية، كالعلم والقدرة والحياة، فإنّنا لن نجد شيئين، ذاتاً وعلماً، أو ذاتاً وقدرة، أو ذاتاً وحياة. وبالتالي، لن نجد شيئين، ذاتاً وصفة مغايرة لها زائدة عليها.

1- التصوّر الاعتزالي للصفات الإلهية

(1)

)

ذهب بعض متكلّمي المعتزلة كالجبائي، إلى أنّ صفاته تعالى مغايرة لذاته، فأطلق عليها أنّها أحوال، فكون اللّه عالماً عند هؤلاء حال، هي صفة وراءكونه ذاتاً، وهذه الأحوال (الصفات) لا يقول فيها: إنّها موجودة


1- أصل المعتزلة كما يرويه الشيخ المفيد قائلاً: «وأمّا المعتزلة وما وسِمَت به من اسم الاعتزال، فهو لقبٌ حدَث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين، وما أحدَثه واصل بن عطاء من المذهب في ذلك، هو وصاحبه عمرو بن عبيد ومن وافقهما على التديّن بذلك، وأدّى بهم الإصرار على رأيهم إلى اعتزال الحسَن البصري وأصحابه، وتحيّزهم إلى مجلسهم الذي اختصّوا به، فسمّاهم الناس عند ذلك معتزلة؛ لاعتزالهم مجلس أُستاذهم بعد أنْ كانوا من أهله ولم يكن قبل ذلك يُعرف الاعتزال ولا كان علَماً على فريق من الناس» . أوائل المقالات، ص 35. ولايخفى أنّ المعتزلة انقسموا إلى اثني عشر فرقة، وقد وقع الخلاف بين شيوخهم في المسائل الكلامية والفلسفية، ومن فرقهم الواصلية نسبة لمؤسس هذه الفرقة واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، والفرقة العمرية نسبة إلى عمرو بن عبيد، والنظامية نسبة إلى إبراهيم بن سيار النظام، والأسوارية والعمرية والبشرية والإسكافية والجبائية. . وغيرهم، لذا فقد اختلفوا في مسالة الصفات، فالبعض يطابق الرؤية الإمامية والبعض الآخر يخالف هذه الرؤية.

ص:305

ولامعدومة، ولا أنّها قديمة ولا محدثة، ولا معلومة ولا مجهولة (1)

وواضح بطلان هذه العقيدة؛ فكيف نجمع بين أنّها موجودة وفي نفس الوقت غير معلومة ولا مجهولة. . فالتناقض والتهافت لازم لهذه الرؤية.

وهناك رؤية أخرى للمعتزلة وهي تطابق الرؤية الإمامية في عينية الذات والصفات(2)

«إنّ الله واحد ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وليس بجسم، ولاشبح، ولاجثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا مجسّة، ولا بذي حرارة، ولا برودة، ولا رطوبة، ولايبوسة، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولااجتماعة، ولا افتراق. . . ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدثهم، ولا يوصف بأنّه متناه، ولا يوصف بمساحة. . فهذه جملة قولهم في التوحيد»(3)


1- اُنظر: الفرق بين الفِرق، ج 1، ص182.
2- هناك شبهة قد تراود البعض: أنّ الشيعة في عقائدهم وأُصولهم أتباع للمعتزلة في هذه العقائد، وللأسف نجد من يجتر هذا الكلام من كتاب ونخب علمية ليكرروا هذه المقالة في أكثر من موقع بدون مراجعة دقيقة لعقائد الشيعة وأصولهم؛ فإنّ الشيعة وكتبهم ومعالمهم الفكرية تخالف جميع الفرق في مسائل كثيرة، وقد تلتقي معهم في بعضها سواء كانوا معتزلة أو أشاعرة؛ ولكن الشيء الذي يجب أن يُعترف به: أنّ الشيعة بما يملكونه من تراث زاخر من العلم، وبما ورثوه من أئمتهم عليهم السلام لاسيما أميرالمؤمنين أوّل أئمة الشيعة، والذي يُشكّل منظومة فكرية متكاملة، فجاءت كلماته وتقريراته العظيمة في الصفات والعدل والقدر وغيرها من البحوث الفلسفية، ومعلوم أنّ هذه الكلمات طرحت قبل وجود المعتزلة، بل وجميع الفرق الأُخرى. لذا نجد السيّد المرتضى رحمه الله يقول: «اعلم أنّ أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أميرالمؤمنين علي ع وخطبه، وأنّها تتضمّن من ذلك مالا مزيد عليه، ولا غاية وراءه. ومن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول» . أمالي السيّد المرتضى، ج 1، ص 103. وسيجد القارئ الكريم في طيّات هذا البحث كلمات أئمة الهدى في توحيد الذات والصفات.
3- المقالات الإسلامية، ج 1، ص 155.

ص:306

2- التصوّر الأشعري للصفات الإلهية

(1)

)

وأمّا التصوّر الأشعري لصفات الذات الالهية: أنّ له تعالى صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته، فهو عالم بعلم، قادر بقدرة، مريد بإرادة، وعلى هذا القياس فهو سميع بسمع، بصير ببصر، حي بحياة، واستدلّوا على ذلك بأُمور أهمّها: أنّ هذه الصفات لو كانت عين ذاته، ومتّحدة معها مفهوماً، لم يكن لحملها على الذات فائدة، ولزِم من حملها عليها حمل الشيء على نفسه.

و أنّ هذه الصفات لو كانت عين ذاته، لزِم كون المعنى المتحصّل من جميعها واحداً، مع أنّ معانيها مختلفة وجداناً.

وكذلك قالوا: بقياس الغائب على الحاضر، ولا شكّ في أنّ صدق العالِم على الحاضر وهو الإنسان مثلاً بواسطة علمه، وصدق السميع والبصير عليه بواسطة بصره وسمعه، فكذلك بالنسبة إليه تعالى.

والجواب: إنّ نسبة هذه الصفات مع بعضها ومع الذات القدسيّة، إنْ لوحظَت من حيث مفهوم كلّ واحدة من هذه الصفات ومفهوم ذاته تعالى، فالتغاير موجود من هذه الجهة؛ لأنّ مفهوم كلّ واحدة منها مغاير لمفهوم الصفة الأُخرى ولذاته تعالى، ويكفي في صحّة حمل كلّ واحدة منها على


1- الأشاعرة نسبة إلى عليّ بن إسماعيل المعروف بأبي الحسن الأشعري، وهو الذي وضع أُصول هذا المذهب في سنة 300 تقريباً، بعد أنْ انفصل عن أُستاذه محمّد بن عبدالوهاب الجبائي، وناصَر المحدّثين في أكثر آرائهم في أُصول العقائد، وينسب المذهب إليه؛ لأنّه سلَك طريقاً وسَطاً بين المحدّثين الذين يعتمدون على النصوص، ولا يرون للعقل سُلطاناً في مقابلها، ويعتمدون على ظواهر الآيات والأحاديث، وبين المعتزلة الذين اعتمدوا على العقل، واعتبروا الوحي مقرّراً لأحكام العقل، ولمّا جاء الأشعري لم يعتمد على العقل مستقلاً، ولا وقف مع النصوص والتزم بها وإنْ خالفت العقل، وحاول أنْ يجمع بين الأمرين. اُنظر: الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 130.

ص:307

الذات، ومغايرة كلّ واحدة للأُخرى هذا المقدار من المغايرة، وإنْ لوحظ من حيث الواقع والحقيقة، فالجميع شيء واحد، ولكن هذا النحو من المغايرة الحقيقية ليس شرطاً في صحّة الوصف وصدقه على الذات.

وأمّا فرضية قياس شيء على شيء، إنّما يصحّ عند القياسيّين لوجود علّة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه، والله سبحانه ليس كمثله شيء، ولايشترك مع مخلوقاته في شيء ليصحّ قياسه عليها، هذا بالإضافة إلى أنّ المقتضي لثبوت هذه الصفات في الشاهد مغاير لثبوتها في الغائب(1)

3-التصوّر السلفي للصفات الإلهية

والمتمثّل بالفكر الوهابي السلفي والمقلّد لابن تيمية، فقد تقدّم الكلام مفصّلاً عنه، وخلاصته هو الجمود على ظاهر الألفاظ، وإمراره على ما هو عليه بلا تأويل، وقد وضّحنا الأسس التي قام عليها هذا الفكر، وهو إنكاره للتأويل والمجاز مما أوقعه في متاهات التجسيم.

فقد جاءعلى لسان ابن تيمية:

الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمرّوها كما جاءت، وفي رواية فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيف.

ثمّ قال: فقولهم رضي الله عنهم: أمرّوها كما جاءت ردّ على المعطّلة، وقولهم بلا كيف: ردّ على الممثّلة(2)

ومعنى أمرّوها كما فسّرها البغوي في شرح السنّة:

أي: كلّ ما جاء في الكتاب والسنّة من هذا القبيل في صفاته تعالى،


1- اُنظر: المواقف، ج 3، صص 69 و 70؛ الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، ص 166.
2- مجموع الفتاوى، ج 5، ص 39.

ص:308

كالنفس والوجه والعين والإصبع واليد والرجل والإتيان والمجيء والنزول إلى السماء والاستواء على العرش والضحك والفرح، . . فهذه ونظائرها صفات الله تعالى وردَ بها السمع، فيجب الإيمان بها، وإبقاؤها على ظاهرها، معرضاً فيها عن التأويل، مجتنباً عن التشبيه (1)

لذا قالوا بالنزول والضحك والحد والجهة، بل وكلّ صفة ورد ذكرها في القرآن الكريم لابدّ أن تفسّر على ما هي عليه.

ولكن هذا التصوّر باطل بلحاظ أمرين:

الأوّل: مصادمة هذا التصوّر الذي وقف على ظاهر اللفظ بالعقل، الذي يرفض فرضية كون الله جلّ وعلا جسماً.

والثاني: إنّ الآيات التي تمسّكوا بها هي آيات متشابة ولابدّ من إرجاعها إلى المحكم من كتاب الله تعالى، والتي تنأى عن التشبيه والتمثيل، كقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، أو (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، وبالنتيجة لابدّ من صرفها عن ظاهرها، وذلك بتأويلها وجعلها موافقةً مع منطق العقل والنقل التي ذكرته الآيات الكريمة. وقد حفل بحثنا في ذكر الموارد التي ذكرها ابن تيمية والرّد عليها، فراجع.

4- التصوّر الإمامي للصفات الإلهية: عينية الصفات والذات

إنّ العقيدة الإمامية الاثني عشرية في صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمّى بصفات (الجمال والكمال) ، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة هي كلّها عين ذاته ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلاّ وجود الذات، فقدرته من حيث الوجود حياته، وحياته قدرته،


1- شرح السنّة، ج 1، صص 168 - 170.

ص:309

بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته ووجودها، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية. نعم، هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها؛ لأنّه لو كانت مختلفة في الوجود - وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات - للزم تعدد واجب الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد. وأمّا الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية والتقدّم والعلّية، فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية، وهي القيومية لمخلوقاته، وهي صفة واحدة تنتزع منها عدّة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات، وأمّا الصفات السلبية التي تسمّى بصفات (الجلال) ، فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد هو سلب الإمكان عنه، فإنّ سلب الإمكان لازمه، بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة وما إلى ذلك، بل سلب كلّ نقص.

ثمّ إنّ مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية، فترجع الصفات الجلالية (السلبية) آخر الأمر إلى صفات الكمالية (الثبوتية)(1)، والله تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثّر في ذاته المقدّسة، ولاتركيب في حقيقة الواحد الصمد(2)


1- اُنظر: عقائد الإمامية، ص 39.
2- أي: لا يوصف بالموت، ولا بالعجز، ولا بالجهل. كما لا يوصف بخلّوه عن الحياة والعلم والقدرة؛ لأنّ هذه الصفات ثابتة له، وهي كمالية له وبالتالي الصفات السلبية ترجع إلى الكمالية الثبوتية

ص:310

ص:311

الفصل الثاني: النبي وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) يقرّرون التوحيد الإلهي الصحيح

اشارة

ص:312

ص:313

بعدما تقدّم من الرؤى الإسلامية للصفات؛ نعتقد أنّ المُنصف يرى أنّ ما تعتقد به الإمامية هو عين الصواب؛ وذلك لما ورثوه من علم زاخر رسمه لهم نبيهم وأئمتهم (عليهم السلام) ؛ فلو أخذنا قبسات من فيض علمهم، بدءً برسول الله (ص) المنبع لعلمهم، الذي يشكّل مدينة العلم، ومن ثمّ ننتقل إلى أبواب هذه المدينة الطافحة بالمعارف الإلهية الربانية.

رسول الله (ص) يُثبت أنّ معرفة الله هي نفي الشبه والتمثيل عنه تعالى

عندما خاطب رسول الله (ص) ذلك الأعرابي وهو يسأله عن رأس العلم، فكان الجواب هو: معرفة الله، والمعرفة تكمن في نفي التشبيه والتمثيل عنه جلّ وعلا.

روى الصدوق بسنده عن ابن عباس، قال: «جاء أعرابي إلى النبي (ص) فقال: ما رأس العلم يا رسول الله؟ قال: معرفة الله حقّ معرفته، قال الأعرابي: وما معرفة الله حقّ معرفته؟ قال: تعرفه بلا مثل ولا شبه ولا ند، وأنّه واحد أحد، ظاهر باطن، أوّل آخر، لاكفو له ولا نظير، فذلك حقّ معرفته»(1)


1- التوحيد، ص 285.

ص:314

إذن فحقّ معرفته هي نفي المثل والشبه والند، فهو أحد صمد لا كفو له ولا نظير. ومن هنا جاءت أهمية التوحيد، وأنّها من أهم المعارف، ولابدّ أن ننقّح هذه المعارف ونقف عندها مليّاً؛ لأنّها رأس العلم كما قال رسول الله (ص) ، وهذا التعبير فيه دلالة كبيرة تؤكّد أهميته؛ باعتبار أنّ الرأس هو المركز، وهو الذي يتحكّم بالجسد ويوجّهه كيف شاء.

نظرة الإمام علي (ع) التنزيهية للصفات

نفي الرؤية

وكذلك الأمر نفسه نجده عند تلميذه (ع) ، عندما يأتي لظاهر الآية في قوله تعالى: (لاتُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أو قوله: (لَنْ تَرانِي) فيفسّرها بخطبته الرائعة في تنزيه الله تعالى:

قال (ع) : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولاتحجبه السواتر. . واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد. تتلقّاه الأذهان لابمشاعرة، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط بها الأوهام، بل تجلّى لها بها، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها. ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبّرته تجسيماً، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيداً، بل كبر شأناً، وعظم سلطاناً»(1)

فالرؤية الحسية لا يمكن أن تحاط به سبحانه، فلا الشواهد ولا المشاهد تحويه أو تراه، فهو واحد بلا عدد، ودائم لا بأمد. . إلى آخر كلماته الغزيرة المعنى والدقيقة الفهم والمغزى.


1- شرح نهج البلاغة، ج 13، ص 44.

ص:315

ويوضّح ذلك أيضاً حينما يسأله ذلك السائل عن رؤيته لله تعالى، فأجابه بحجّة قاطعة، فقال:

«أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلّم لا بروية، مريد لا بهمّة، صانع لابجارحة. لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لايوصف بالجفاء، بصير لايوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرّقة. تعنو الوجوه لعظمته، وتجب القلوب من مخافته»(1)

نفي الشريك عنه تعالى

وكذلك يؤكّد أميرالمؤمنين (ع) على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه في أروع صورة في وصيته للإمام الحسن (ع) قال:

«اعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لايضاده في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل. أوّل قبل الأشياء بلا أوّلية، وآخر بعد الأشياء بلانهاية»(2)

وفي دعائه المشهور والمعروف ب- (دعاء الصباح) ، الذي تجلّى فيه التنزيه المطلق لله، قال (ع) :

«يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه، وسرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه، وأتقن صنع الفلك الدوّار في مقادير تبرّجه، و شعشع ضياء الشمس


1- نهج البلاغة، ج 2، صص 99و 100.
2- المصدر نفسه، ج 3، ص44.

ص:316

بنور تأججه، يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وجلّ عن ملائمة كيفياته، يا من قرب من خطرات الظنون، وبعد عن لحظات العيون، وعلم بما كان قبل أن يكون. .»(1). إلى آخر فقرات هذا الدعاء الجليل والعظيم المضامين.

خطبة (الأشباح)

(2)

المنزّهة للباري عن كلّ صفة

روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة قائلاً:

ومن خطبة له (ع) تعرف بخطبة الأشباح، وهي من جلائل خطبه (ع) : عن الصادق جعفر بن محمّد (ع) ، أنّه قال: «خطب أميرالمؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة، وذلك أنّ رجلاً أتاه، فقال: يا أميرالمؤمنين، صف لنا ربّنا (مثل ما نراه عياناً) ، لنزداد له حبّاً، وبه معرفة، فغضب ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع إليه الناس حتّى غصّ المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو مغضب متغيّر اللون، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي (ص) ، ثمّ قال: الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود، ولا يكديه الإعطاء والجود؛ إذ كلّ معط منتقص سواه، وكلّ مانع مذموم ما خلاه، وهو المنّان بفوائد النعم، وعوائد المزيد والقسم، عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم، وقدّر أقواتهم، ونهج سبيل الراغبين إليه، والطالبين ما لديه، وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل، الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي لم يكن له بعد فيكون شيء بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه، ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال. . . فانظر


1- بحارالأنوار، ج 84، ص 339.
2- أي: الأشخاص، والمراد بهم هاهنا الملائكة؛ لأنّ الخطبة تتضمّن ذكر الملائكة.

ص:317

أيها السائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به، واستضيئ بنور هدايته، وما كلّفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنّة النبي (ص) وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه، فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك. واعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك، ولا تقدّر عظمه الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين. .» إلى آخر خطبته (ع)(1)

وقد شرح ابن أبي الحديد بعض من فقرات هذه الخطبة الجليلة التي فيها التنزيه وعدم التشبيه قال:

ثمّ ذكر أنّ وجوده تعالى ليس بزماني، فلا يطلق عليه البعدية والقبلية، كما يطلق على الزمانيات، وإنّما لم يكن وجوده زمانياً؛ لأنّه لا يقبل الحركة، والزمان من لواحق الحركة، وإنّما لم تطلق عليه البعدية والقبلية؛ إذ لم يكن زمانياً؛ لأنّ قولنا في الشيء: إنّه بعد الشيء الفلاني، أي: الموجود في زمان حضر بعد تقضّي زمان ذلك الشيء الفلاني، وقولنا في الشيء: إنّه قبل الشيء الفلاني، أي: أنّه موجود في زمان حضر ولم يحضر زمان ذلك الشيء الفلاني بعد، فما ليس في الزمان ليس يصدق عليه القبل والبعد الزمانيان، فيكون تقدير الكلام على هذا: الأوّل الذي لا يصدق عليه القبلية الزمانية، ليمكن أن يكون شيء ما قبله، والآخر الذي لا يصدق عليه البعدية


1- شرح نهج البلاغة، ج 6، صص 398 - 400.

ص:318

الزمانية، ليمكن أن يكون شيء ما بعده. .

فإن قلت: أتثبتون له تعالى أنواراً يمكن أن تدركها الأبصار، وهل هذا إلاّ قول بالتجسيم؟ !

قلت: كلا، لا تجسيم في ذلك، فكما أنّ له عرشاً وكرسياً وليس بجسم، فكذلك أنوار عظيمة فوق العرش وليس بجسم، فكيف تنكر الأنوار وقد نطق الكتاب العزيز بها في غير موضع؟ ! كقوله: ( وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، وكقوله: ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ)(1)

كمال التوحيد في نفي الصفات عنه تعالى

ننقل أيضاً بعض من كلماته العظيمة التي جعل فيها كمال التوحيد بنفي الصفات، حيث تجلّت من فمه الشريف، وأبدع فيها أيّما إبداع، ودفع عمّن وقع في ريب منها، قال (ع) :

«وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمّنه. ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم. مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لابمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده، أنشأ الخلق


1- شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 401.

ص:319

إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا رويّة أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولأم بين مختلفاتها. . . إلى أن يقول (ع) : لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدّونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر»(1)

نظرة الإمام الصادق (ع) التنزيهية للباري عزّوجل

وكذلك نجد نفس تلك الكلمات يقررها الإمام الصادق (ع) منزّهاً الباري عمّا يتوهّمه المجسّمون من صفات يلحقونها بالله تعالى، وذلك قياساً بما ورثوه وأنسوه من حس مادي يعيشونه في حياتهم الدنيا فانعكست على الذات الإلهية.

قال الإمام الصادق (ع) :

«إنّ الجسم محدود متناه، والصورة محدودة متناهية، فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان، وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقاً، [وأنّه] لا جسم ولا صورة، وهو مجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، لم يتجزّأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشيء والمنشأ، لكن هو المنشئ، فرق بين من جسّمه وصوّره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئاً»(2)

وقال أيضاً (ع) حين كتب له أنّ قوماً بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط، فكتب إليهم:

«سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك، فتعالى الله الذي


1- نهج البلاغة، ج 1، صص 15 - 20.
2- الكافي، ج 1، ص 81.

ص:320

ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون الله بخلقه المفترون على الله، فاعلم رحمك الله: أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله جلّ وعز، فانف عن الله تعالى البطلان والتشبيه، فلا نفي ولا تشبيه، هو الله الثابت الموجود تعالى الله عمّا يصفه الواصفون، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان»(1)

وقال أيضاً (ع) :

«إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولاسكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون، تعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً»(2)

نظرة الإمام الكاظم (ع) التنزيهية لله تبارك وتعالى

وعن الإمام موسى بن جعفر (ع) ، في ردّه على قوم يزعمون أنّ الله تبارك و تعالى ينزل إلى السماء الدنيا، فقال:

«إنّ الله تبارك وتعالى لا ينزل، ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنّما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج بل يحتاج إليه، وهو ذو الطول، لاإله إلاّ هو العزيز الحكيم، أمّا قول الواصفين: إنّه تبارك وتعالى ينزل، فإنّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة.

وكلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به، فظن بالله الظنون فهلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدّ تحدّوه بنقص أو زيادة أو تحرّك أو زوال أو نهوض أو قعود، فإنّ الله جلّ عن صفة الواصفين،


1- أصول الكافي، ج 1، ص100.
2- التوحيد، ص 184؛ روضة الواعظين، ص 36.

ص:321

ونعت الناعتين، وتوهّم المتوهّمين»(1)

وقال أيضاً:

«إنّ الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يحدّ بيد أو رجل أو حركة أو سكون، أو يوصف بطول أو قصر، أو تبلغه الأوهام، أو تحيط بصفته العقول»(2)

نظرة الإمام الرضا (ع) إلى التوحيد

الإمام الرضا (ع) في هذه المحاورة مع ذلك الرجل الملحد يرسم لنا لوحة تنزيهه للباري جلّ وعلا:

عن محمّد بن عبدالله الخراساني خادم الرضا (ع) ، قال: «دخل رجل من الزنادقة على الرضا (ع) وعنده جماعة. .

فقال: رحمك الله فأوجدني كيف هو وأين هو؟

قال [الإمام الرضا (ع)]: ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط، هو أيّن الأين وكان ولاأين، وهو كيّف الكيف وكان ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفية ولابأينونية، ولا يدرك بحاسّة، ولا يقاس بشيء.

قال الرجل: فإذاً إنّه لا شيء؛ إذ لم يدرك بحاسّة من الحواس؟

فقال أبوالحسن (ع) : ويلك لمّا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا خلاف الأشياء.

فقال الرجل: فأخبرني متى كان؟

فقال أبوالحسن (ع) : أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان. . .


1- التوحيد، ص 183؛ الاحتجاج، ج 2، ص 156؛ بحارالأنوار، ج 3، صص311 و 312.
2- التوحيد، ص 76.

ص:322

قال: فلم لا تدركه حاسّة البصر؟

قال (ع) : للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسّة الأبصار منهم ومن غيرهم، ثمّ هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.

قال: فحدّه لي؟

قال (ع) : لا حدّ له.

قال: ولم؟

قال (ع) : لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد، ولا متناقص، ولامتجزّء، ولا متوهّم.

قال الرجل: فأخبرني عن قولكم: إنّه لطيف سميع بصير عليم حكيم، أيكون السميع إلاّ بالأذن، والبصير إلاّ بالعين، واللطيف إلاّ بعمل اليدين، والحكيم إلاّ بالصنعة؟

فقال أبوالحسن (ع) : إنّ اللطيف منّا على حدّ اتّخاذ الصنعة، أو ما رأيت الرجل منّا يتّخذ شيئاً يلطف في اتّخاذه فيقال: ما ألطف فلاناً؟ فكيف لايقال للخالق الجليل: لطيف إذ خلق خلقاً لطيفاً وجليلاً، وركّب في الحيوان أرواحاً، وخلق كلّ جنس متبائناً عن جنسه في الصورة لا يشبه بعضه بعضاً؟ ! فكلّ له لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته، ثمّ نظرنا إلى الأشجار وحملها أطائبها المأكولة منها وغير المأكولة فقلنا عند ذلك: إنَّ خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم، وقلنا: إنّه سميع لايخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرّة إلى أكبر منهما في برها وبحرها، ولاتشتبه عليه لغاتها، فقلنا عند ذلك: إنّه سميع

ص:323

لابأُذن، وقلنا: إنّه بصير لا ببصر؛ لأنّه يرى أثر الذرّة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية، ويرى مضارها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها، فقلنا عند ذلك: إنّه بصير لاكبصر خلقه، قال: فما برح حتّى أسلم»(1)

اذن في خلال ما تقدم اتضح بما لا يقبل الشك أن ائمة أهل البيت (عليهم السلام) يذهبون إلى تنزيه الباريءجل وعلا من كل شائبةٍ يُشم منها رائحةُ التجسيم أو التمثيل أو التشبيه.


1- التوحيد، صص 250 و 251.

ص:324

ص:325

الفصل الثالث: علماء الشيعة ونظرتهم إلى التوحيد

اشارة

ص:326

ص:327

علماء الشيعة ونظرتهم إلى التوحيد

اشارة

أمّا علماء الشيعة فقد جاءت أقوالهم مطابقة لما قرّره أئمتهم (عليهم السلام) لهذه العقيدة، ونذكر على سبيل المثال بعض كلمات فقهائهم:

1- الشيخ الطوسي (ت / 460ه)

قال في الرسائل:

والدليل على أنّ الله تعالى ليس بجسم؛ لأنّ الجسم هو المركب الذي يقبل القسمة في جهة من الجهات، والمركب ممكن؛ لافتقاره إلى الأجزاء الذي يتركّب منها، والله تعالى واجب الوجود، فهو ليس بجسم (1)

2- السيّد المرتضى (ت / 463ه)

قال في رسائله:

ونقول فيما اختلف فيه أهل القبلة بأصول نشرحها ونبيّنها: فأوّلها توحيدنا لربّنا، فإنّا نشهد أنّ الله عزّ وجل واحد ليس كمثله شيء، وأنّه الأوّل قبل كلّ


1- الرسائل العشر الاعتقادات ، ص 105.

ص:328

شيء، والباقي بعد فناء كلّ شيء، والعالم الذي لا يخفي عليه شيء، . . وجلّ وتقدّس عن الحدود والأقطار، والجوارح والأعضاء، وعن مشابهة شيء من الأشياء أو مجانسة جنس من الأجناس أو مماثلة شخص من الأشخاص، وهو الإله الواحد الذي لا تحيط به العقول، ولا تتصوّره الأوهام، ولا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، . . سبحانه وتعالى عمّا وصفه به الجاهلون من الصفات التي لا تجوز إلاّ على الأجسام من الصعود والهبوط، ومن القيام والقعود، ومن تصويرهم له جسداً، واعتقادهم إياه مشبهاً [للعباد] يدركونه بأبصارهم، ويرونه بعيونهم، ثمّ يصفونه بالنواجذ والأضراس، والأصابع، والأطراف، وأنّه في صورة شاب أمرد، وشعره جعد قطط، وأنّه لا يعلم الأشياء بنفسه، ولا يقدر عليها بذاته، ولايوصف بالقدرة على أن يتكلّم ولا يكلّم أحداً من عباده، فتعالى الله عمّا قالوا، وسبحانه عمّا وصفوا، بل هو الإله الواحد الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(1)

3- الشيخ الصدوق (ت / 481ه)

قال في الاعتقادات:

اعلم أنّ اعتقادنا في التوحيد: أنّ الله تعالى واحد أحد، ليس كمثله شيء، قديم لم يزال سميع بصير عليم حكيم حي قيوم عزيز قدوس قادر غني، لايوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض ولا خط ولا سطح ولا ثقل ولا خفة ولا سكون ولا حركة ولامكان ولا زمان، وأنّه


1- رسائل المرتضى، ج 2، صص 187 و 188.

ص:329

تعالى متعال عن جميع صفات خلقه، خارج من الحدّين: حدّ الإبطال وحدّ التشبيه.

وأنّه تعالى شي لا كالأشياء، أحد صمد، لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يكن له كفواً أحد، ولا ندّ ولا ضدّ ولا شبه ولا صاحبة ولامثل ولا نظير ولا شريك، لا تدركه الأبصار والأوهام وهو يدركها، لاتأخذه سنة ولا نوم وهو اللطيف الخير، خالق كلّ شيء، لا إله إلاّ هو له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين(1)

وقال في كتابه التوحيد:

فما ظنّك أيّها السائل بمن هو هكذا؟ سبحانه وبحمده، لم يحدث فيمكن فيه التغيّر والانتقال، ولم يتصرّف في ذاته بكرور الأحوال، ولم يختلف عليه حقب الليالي والأيام، الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله، ولا مقدار احتذى عليه من معبود كان قبله، ولم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إيّاه بالحدود متناهياً، وما زال - ليس كمثله شيء - عن صفة المخلوقين متعالياً، وانحسرت الأبصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفاً، وبالذات التي لايعلمها إلاّ هو عند خلقه معروفاً، وفات لعلوّه على أعلى الأشياء مواقع رجم المتوهّمين، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهة رويّات المتفكّرين، فليس له مثل فيكون ما يخلق مشبهاً به، وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأضداد منزّهاً، كذب العادلون بالله إذ شبّهوه بمثل أصنافهم، وحلّوه حلية المخلوقين بأوهامهم. . .

(2)


1- الاعتقادات في دين الإمامية، صص 22و 23.
2- التوحيد، صص 50 و 51.

ص:330

4- العلاّمة الحلّي (ت/ 726ه)

قال في البحث الثالث: في أنّه تعالى ليس بجسم:

أطبق العقلاء على ذلك إلاّ أهل الظاهر، كداود والحنابلة كافّة، فإنّهم قالوا: إنّه تعالى جسم يجلس على العرش، ويفضل عنه من كلّ جانب ستة أشبار بشبره، وأنّه ينزل في كلّ ليلة جمعة على حمار، وينادي إلى الصباح: هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها(1)

5- الشيخ المازندراني (ت/ 1081ه)

قال في شرحه على الكافي:

ولا يوصف بصفة أصلاً لا بالجسمية والمقدار، ولا بالتناهي والأقطار، ولا بالعوارض والأحوال، وكلّ ما يوصف به من الصفات ليس له معنى موجود قائم به، فليس له علم موجود قائم به، وقدرة موجودة قائمة به، بل ذاته المقدّسة علم من حيث عدم الجهل بشيء، وقدرة من حيث عدم العجز عن شيء، وهكذا سائر الصفات الكمالية. (ليس كمثله شيء) ما يستفاد من هذه الكلمة الشريفة من التنزيه المطلق وجب الركون إليه والتصديق به، وهو كمال الإيمان بالله وغاية معرفة الإنسان له، فمن زعم مشابهته بشيء فقد أشرك به، بل أنكر وجوده وأثبت إلهاً آخر، بمقتضى هواه النفسانية والوساوس الشيطانية. (وهو السميع البصير) يسمع المسموعات بلا أداة، ويبصر المبصرات بلا آلة (2).


1- نهج الحق وكشف الصدق، ص 55.
2- شرح أصول الكافي، ج 3، صص 211و 212

ص:331

6- الشيخ محمّدرضا المظفر (ت/ 1381ه)

قال في فصل عقيدتنا في التوحيد:

ونعتقد بأنّه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنّه واحد في ذاته ووجوب وجوده، كذلك يجب توحيده في الصفات، وذلك بالاعتقاد بأنّ صفاته عين ذاته، وبالاعتقاد بأنّه لا شبه له في صفاته الذاتية، فهو في العلم والقدرة لا نظير له، وفي الخلق والرزق لا شريك له، وفي كلّ كمال لا ندّ له (1)

إذن بمقتضى ما تقدّم من كلمات أئمة الشيعة وأقوال علمائهم وفقهائهم، فهم ينكرون صفة التجسيم، وينزّهون الذات الإلهية عن كلّ نقص وتشبيه ومماثلة، فكلّ شيء قائم به سبحانه؛ لأنّه الإله الواحد الأحد، الذي لا تحيط به العقول، ولا تتصوّره الأوهام، ولا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير السميع البصير.


1- عقائد الإمامية، ص 38.

ص:332

ص:333

اعتقاد الشيعة بالصفات الثبوتية والسلبية

لذا فالشيعة تعتقد أنّ الله تعالى متّصف بجميع صفات الكمال، منزّه عن جميع صفات النقص، وعن كلّ ما يقتضي الحدوث، فقسّموا صفاته إلى ثبوتية وسلبية.

فأمّا صفاته الثبوتية: فهو تعالى شأنه قادر مختار عالم حي مريد مدرك قديم أزلي باق أبدي صادق. وأمّا الخالق والرازق والمحيي والمميت وأمثالها فهي من صفات الأفعال.

وأمّا صفاته السلبية: فليس بمركب، وليس بجسم، وليس محلّاً للحوادث، وليس بمرئي لا في الدنيا ولا في الآخرة، وليس له شريك، وليس بمحتاج، و نفي المعاني والصفات عنه.

ومعنى حياته: أنّه تعالى ليس مثل الجمادات، لا أنّه ذو روح.

ومعنى مدرك: أنّه يبصر لا بعين ويسمع لا بأُذن، بل يدرك جميع المبصرات والمسموعات.

ومعنى متكلّم: أنّه تعالى ينطق لا بلسان، بل يوجد الكلام في بعض مخلوقاته كالشجرة حين كلّم موسى، وكجبرائيل حين أنزله بالقرآن.

ص:334

ومعنى أنّه ليس محلّاً للحوادث: أي للأمور والصفات الحادثة.

ومعنى نفي المعاني والصفات عنه: أنّ صفاته ليست مغايرة لذاته، بل هي عين ذاته؛ لئلا يلزم تعدد القدماء.

ويعتقدون: أنّه تعالى منزّه عن المكان والجهة والأعضاء والجوارح والشم والذوق واللون، وكلّ لوازم الجسم، وعن اللذّة والألم.

ويعتقدون: أنّ كلّ ما ورد من النقل مما ظاهره خلاف ذلك، مثل: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، (وَ جاءَ رَبُّكَ) ، (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، (وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللهُ) ، (وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) ، (وَ لَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) وغير ذلك يجب تأويله، وردّه إلى ما حكم به العقل أو إيكال علمه إليه تعالى(1). هذه كلمة الفصل، فالشيعة وأئمتهم وعلمائهم ينزّهون الله تنزيهاً مطلقاً عن كلّ شائبة التجسيم.


1- أعيان الشيعة، ج 1، ص 106.

ص:335

سورة الإخلاص والتنزيه المطلق لله تعالى

إنّ القرآن الكريم أكّد على هذه الحقيقة، ولعل من أكثر السور تنزيهاً لله تبارك وتعالى هي سورة الإخلاص، بحيث نجد أنّ مفرداتها ركّزت على عدم قبول التعدد والكثرة، والابتعاد عن شبهة التجسيم، فلا يمكن أن نصف الله تعالى بأيّ وصف يشابه ذوات المخلوقين، فابتعدت عن الجسمية؛ لأنّه قديم أزلي أبدى، وذوات المخلوقين حادثة، والحادث محتاج، فلا يمكن أن يشابه مخلوقاته؛ لأنّ جميع ما وجد في هذا الكون هو مفتقر إليه، وهو في نفس الوقت مستغن عنهم، فهو محض الكمال، وهم محض الحاجة.

وكذلك نجد فيها نفياً للانحلال، أي: نفي أن ينحل منه شيء أو أن يحلّ هو في شيء.

فسورة الإخلاص هي تمحيص الحقيقة الأحدية عن شائبة الكثرة، كما قال أميرالمؤمنين (ع) : كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة(1)


1- تفسير ابن عربي، ج2، ص 438.

ص:336

فقد روي عن الإمام الرضا (ع) عندما سئل عن التوحيد، قال: كلّ من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وآمن بها، فقد عرف التوحيد(1)

فالسورة تصفه تعالى بأحدية الذات، ورجوع ما سواه إليه في جميع حوائجه الوجودية، من دون أن يشاركه شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولافي أفعاله، وهو التوحيد القرآني الذي يختص به القرآن الكريم ويبني عليه جميع المعارف الإسلامية.

قال السيّد الطباطبائي في تفسير هذه السورة الشريفة:

و (أحد) وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد، غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما لايقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً، ولذلك لا يقبل العدّ ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد، فإنّ كلّ واحد له ثانياً وثالثاً إمّا خارجاً وإمّا ذهناً، بتوهّم أو بفرض العقل، فيصير بانضمامه كثيراً، وأمّا الأحد فكلّ ما فرض له ثانياً كان هو هو لم يزد عليه شيء.

قوله تعالى: (اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) الآيتان تصفانه تعالى بصفة الذات وصفة الفعل جميعاً، فقوله: (اللَّهُ أَحَدٌ) ، يصفه بالأحدية التي هي عين الذات، وقوله: (اللَّهُ الصَّمَدُ) : يصفه بانتهاء كلّ شيء إليه وهو من صفات الفعل.

قوله تعالى: (لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) الآيتان الكريمتان تنفيان عنه تعالى أن يلد شيئاً بتجزئة في نفسه، فينفصل عنه شيء سنخه بأيّ معنى أريد من الانفصال والاشتقاق. كما يقول به النصارى في المسيح (ع) أنّه ابن الله، وكما يقول الوثنية في بعض آلهتهم أنّهم أبناء الله سبحانه.


1- التوحيد، ص 284.

ص:337

أمّا كونه لم يلد: فإنّ الولادة التي هي نوع من التجزّي والتبعّض بأيّ معنى فسّرت، لاتخلو من تركيب فيمن يلد، وحاجة المركب إلى أجزائه ضرورية، والله سبحانه صمد ينتهي إليه كلّ محتاج في حاجته، ولا حاجة له. وأمّا كونه لم يولد: فإنّ تولّد شيء من شيء، لا يتمّ إلاّ مع حاجة من المتولّد إلى ما ولد منه في وجوده، وهو سبحانه صمد لاحاجة له. وأمّا أنّه لا كفؤ له: فلأنّ الكفؤ سواء فرض كفواً له في ذاته أو في فعله، لاتتحقق كفاءته إلاّ مع استقلاله واستغنائه عنه تعالى فيما فيه الكفاءة، والله سبحانه صمد على الإطلاق، يحتاج إليه كلّ من سواه، من كلّ جهة مفروضة. . فإثبات توحّده تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، بمعنى أنّه واحد لا يناظره شيء ولا يشبهه، فذاته تعالى بذاته ولذاته من غير استناد إلى غيره واحتياج إلى من سواه، وكذا صفاته وأفعاله، وذوات من سواه وصفاتهم وأفعالهم بإفاضة منه على ما يليق بساحة كبريائه وعظمته، فمحصّل السورة وصفه تعالى بأنّه أحد واحد(1)

هذه عقيدة الشيعة في توحيد الله تعالى، وهي خالية ومنزّهة له جلّ وعلا من التجسيم والتشبيه والتمثيل والمكان والزمان والجهة والتحيّز، وكلّ ما يوصف به تعالى من المادة والحس و. . ، فهو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.


1- تفسير الميزان، ج 20، صص 387 و 389.

ص:338

ص:339

خاتمة البحث

مما تقدّم من مجموع بحثنا اتّضح أنّ منهج ابن تيمية في مفردة التوحيد لا ينسجم مع الإطار العام للمذاهب الإسلامية بشكل عام؛ لأنّ من لوازم هذا الفكر: هو أنّ الله تعالى يقيّد ويحيّز بالمكان والزمان و. . . ، فضلاً عمّا التزم به من جمود على ظاهر الألفاظ، و إنكاره العقل - وإن نجده في بعض مسائله يصرّح به، ولكن الواقع يحكي عكس ذلك- و إنكاره المجاز والتأويل، وهذا ما يؤدّي بالنتيجة إلى عدم تأويل الآيات والروايات التي يبدو منها التجسيم أو التشبيه والتمثيل وغير ذلك.

مما حدى بفقهاء عصره وغيرهم كالسبكي والذهبي وابن حجر الهيتمي والعسقلاني، أن ينصحوه ويعضوه؛ لتخبّطه فيما يعتقد ويفتي بمسائل هي بعيدة عن مرامي السلف الصالح ومقاصد الشريعة، لاسيما وأنّ هناك من يقلّده ويتّبعه، ولكن الوعظ لم يجد نفعاً كما صرّح بذلك الذهبي في رسالته الذهبية، ولذا انعكس هذا الفكر في وقتنا الحاضر بفكر بديل ألا وهو الفكر الوهابي، الذي يقلّد ابن تيمية في كلّ صغيرة وكبيرة، ولم يرعو هؤلاء ممن نصحوه ووعظوه.

ص:340

ولعل ما قدمناه في هذه الأسطر القليلة يُلقي الحجّة على من يريد أن يعتنق هذا الفكر، وأن لا يتّهموا المسلمين بالشرك والتبديع والتكفير؛ بحجّة أنّ توحيدهم هو الصحيح وهو الكامل، فقد اتّضح زيف وبطلان هذا الادّعاء بما تقدّم.

التوصيات

من خلال عرضنا لمنهج ابن تيمية في التوحيد، وكيف وقع في منزلقات فكرية أدّت بعلماء عصره تفنيد ما التزم به من موارد، وكذلك ممن لم يعاصره إلى وقتنا الحاضر.

ولكننا نجد اليوم من يدافع عن هذا الفكر بشتّى الوسائل مستخدمين كلّ ما لديهم من تقنيات العصر من شبكات الإنترنيت والقنوات الفضائية وغيرها. . ، بل الأنكى من ذلك أنّهم يتّهمون الطوائف الأُخرى بالزيغ عن الإسلام إن لم يتّبعوا هذا المنهج الذي يمثل برأيهم المنهج المثالي للإسلام، في حين أنّ مفردة التوحيد التي تمثّل العمود الفقري له، قد رأينا من خلال هذا البحث كيف تجسَّد وأخذ لوناً مغايراً عمّا ألفه المسلمون من تنزيهه للذات الإلهية. وهذا لا يعني أنّنا نقول بتكفيرهم، فهذا ليس منهج الشيعة بل والمسلمين من غير هذه الفرقة، ولكن نقول:

إنّ هناك خطأً وشبهةً قد اعترت هذا الفكر، وندعوهم للمراجعة والكف عن إتّهام الآخرين، قال أميرالمؤمنين (ع) :

«ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه» (1) . هذه هي نظرة الشيعة المعتدلة


1- شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 78.

ص:341

والمتسامحة والمُنصفة.

لذا أقترح وأُوصي من خلال مطالعتي وكتابتي لهذا البحث بوصايا أراها نافعة بإذن الله تعالى مع كيفية التعامل مع من يمثّل هذا الفكر - من خلال المناظرة وكذلك التحقيق - أُجملها بما يلي:

1- التركيز حول مسألة التوحيد، وعدم إغفالها في ميدان البحث والمناظرة، فهي جديرة بالأولوية فيجب أن يُبدأ بها قبل كلّ مسألة عقدية، وإبداء آراء علماء السلف والخلف فيها، لاسيما المتأخّرين منهم كالتويجري في كتابه عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، وابن عثيمين وابن جبرين وغيرهم، الذين دافعوا بقوّة عن عقيدة التجسيم، وإبرازها ببحوث علمية ومن ثمّ نقدها.

وكذلك النظر إلى العلماء والنخب الفكرية المعتدلة الذين خالفوا هذا التوجّه الفكري كالدكتور عبدالمحسن العسكر والشيخ حسن بن فرحان المالكي، ومشاري الذايدي، وعبدالله بن بجاد العتيبي، وخالد الغانمي، ومحمّدعلي المحمود، و عبدالمحسن العواجي وغيرهم.

2- التركيز على كتب الإمام السبكي، لاسيما كتابه السيف الصقيل وكتاب طبقات الشافعية، وكتب الفخر الرازي، وكذلك كتب العلاّمة الكوثري في كتابه تبديد الظلام وغيرها، وكذلك كتب الشيخ سعيد فودة لاسيما كتابه الكاشف الصغير. وكذلك ما أورده أبوزهرة في كتابه ابن تيمية وبقية كتبه، والشيخ محمّد الغزالي، ففيها من الملاحظات النقدية لهذا الفكر.

3- كتاب ابن تيمية (بيان تلبيس الجهمية) ناقش فيها أدلة تنزيه الباري جلّ شانه التي ذكرها الفخر الرازي، لذا يمكن للباحث أن يُقيم دراسة

ص:342

نقدية لهذا الكتاب وبيان الخلل في المنهج الذي اتّبعة بالتحليل والمناقشة، بأسلوب علمي رصين وهادئ، ويقارن بين رؤية الفخر الرازي التي تمثّل التيار الأشعري وبين الرؤية السلفية، ويضيف إليها الرؤية الشيعية المتمثّلة بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) .

4- من المهم مطالعة كتاب الأسماء والصفات للحافظ البيهقي فقد يجد فيه المطالع ما يغاير المذهب الحنبلي، لاسيما أحاديث الأسماء والصفات. وكتاب مشكل الحديث لابن فورك (ت /406ه) ؛ فقد استخدم منهجاً أساسه التأويل؛ لعدم الوقوع في شائبة التجسيم، وطبّقه عملياً على الكثير من أحاديث الصفات، لذا يمكن أن ينقّح أو يحقّق هذا الكتاب ويعلّق عليه كبحث مقارن مع المدرسة الوهابية.

أخيراً: أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا البحث من كتبه ومن قرأه، وأن يكون خالصاً لوجهه الكريم، وذخراً لنا يوم الدين. وصلى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

يحيى عبدالحسن هاشم

قم المقدسّة

البريد الإلكتروني / yahya11968 @yahoo. com

ص:343

ص:344

ص:345

ص:346

ص:347

ص:348

ص:349

ص:350

ص:351

ص:352

ص:353

ص:354

ص:355

ص:356

ص:357

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة، محمّد عبدة، قم، دارالذخائر.

1. ابن تيمية حياته وعصره، آراؤه وفقهه، محمد أبوزهره، القاهره، دارالفكر العربي.

2. الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، بيروت، دارالفكر.

3. الاحتجاج، أبومنصور أحمد بن علي الطبرسي، النجف الأشرف، دارالنعمان للطباعة والنشر، 1386ه. ق.

4. أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: عبدالسلام محمّدعلي شاهين، ط1، بيروت، دارالكتب العلمية، 1415ه. ق.

5. إحياء علوم الدين، محمّد بن محمّد الغزالي، بيروت، دارالمعرفة.

6. اختيار معرفة الرجال، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1404ه. ق

7. الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الإعتقاد، إمام الحرمين الجويني، تحقيق: محمّد يوسف موسى، مصر، مطبعة السعادة، 1950م.

ص:358

8. استدراك وتعقيب على الأرنؤوط، خالد عبدالرحمن الشائع، قراءة وتعليق: عبدالعزيز بن باز، الرياض، داربلنسية للنشر والتوزيع.

9. الاستقامة، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، ط1، المدينة المنورة، جامعة الإمام محمّد بن سعود، 1403ه. ق.

10. الإسلام والنصرانية، محمّد عبده، ط2، مطبعة مجلة المنار، 1323ه. ق.

11. أصول الكافي، أبوجعفر محمّد بن يعقوب الكليني البغدادي، تعليق: علي أكبر الغفاري، ط5، طهران، دارالكتب الإسلامية، 1363ه. ش.

12. أصول مذهب الشيعة، ناصر بن عبدالله القفاري، ط3، الجيزة، دارالرضا، 1418ه. ق.

13. اعتقاد الإمام ابن حنبل، عبدالواحد بن عبدالعزيز بن الحارث التميمي، بيروت، دارالمعرفة.

14. الاعتقادات في دين الإمامية، محمّد بن علي بن الحسين بابويه القمي الصدوق، تحقيق: عصام عبدالسيّد، ط2، بيروت، دارالمفيد، 1414ه. ق.

15. الأعلام، خيرالدين بن محمود بن محمّد الدمشقي الزركلي، ط5، بيروت، دارالعلم للملايين، 1980م.

16. الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، محمّد بن عبدالرحمن السخاوي، حققه وعلّق عليه بالإنكليزية: فرانز رونثال، وأشرف على نشر النص: الدكتور صالح أحمد العلي، بيروت، دارالكتب العلمية.

17. أعيان الشيعة، محسن الأمين، تحقيق: حسن الأمين، بيروت، دارالتعارف.

18. أعيان العصر وأعوان النصر، صلاح الدين الصفدي.

19. أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات، مرعي بن يوسف المقدسي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1406ه. ق.

ص:359

20. الاقتصاد في الاعتقاد، محمّد بن محمّد الغزالي، ط1، بيروت، مكتبة الهلال، 1993م.

21. الاقتصاد، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي، طهران، مكتبة جامع چهلستون.

22. الإلهيات، جعفر السبحاني، بيروت، الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع.

23. الأنساب، عبدالكريم بن محمّد بن منصور السمعاني، ط1، بيروت، دارالجنان، 1408ه. ق.

24. أوائل المقالات، أبوعبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المفيد، ط2، بيروت، دارالمفيد، 1414ه. ق.

25. بحارالأنوار، محمّدباقر المجلسي، ط3، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403ه. ق.

26. البحر المحيط في أصول الفقه، ابوعبدالله محمد بن عبدالله الزركشي، تحقيق: د. محمّد تامر، ط1، بيروت، دارالكتب العلمية، 1421ه. ق.

27. بدائع الصنائع، أبوبكر الكاشاني، ط1، باكستان، المكتبة الحبيبية، 1409ه. ق.

28. البداية والنهاية، أبوالفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، تحقيق: علي شيري، ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1408ه. ق.

29. البشارة والإتحاف بما بين ابن تيمية والألباني في العقيدة من الاختلاف، حسن بن علي السقاف، عمّان، مكتبة الإمام النووي.

30. البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها، عبدالرحمن حسن الميداني.

31. بيان خطأ التقسيم الثلاثي للتوحيد، عمر عبدالله كامل، http: //www. okamel. com.

32. تأويل مختلف الحديث، عبدالله بن مسلم بن قتيبة، بيروت، دارالكتب العلمية.

33. تأويل مشكل القرآن، عبدالله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق، أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية.

ص:360

34. التبصير في الدين، طاهر بن محمّد الإسفراييني، بيروت، عالم الكتب.

35. تجريد الاعتقاد، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي، طبعة صيدا.

36. تذكرة الحفاظ، شمس الدين أبوعبدالله محمّد بن أحمد الذهبي، دار إحياء التراث العربي.

37. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، أبوعبدالله محمّد بن أحمد القرطبي الأنصاري، مكتبة مشكاة الإسلامية الإلكترونية.

38. التسعينية، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: الدكتور محمّد بن إبراهيم العجلان، الرياض، مكتبة المعارف.

39. تعقيبات على كتاب السلفية للبوطي، صالح الفوزان، القاهرة، طبعة.

40. التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية، عبدالله بن جبرين، إشراف: أبوأنس علي بن حسين، ط1، الرياض، دارالوطن، 1419ه. ق.

41. تفسير ابن عربي، ابوبكر محمد بن علي بن عبدالله حاتمي [ابن عربي]، تحقيق: عبدالوارث محمّدعلي، بيروت، دارالكتب العلمية.

42. تفسير الرازي، أبومحمّد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي، تحقيق: أسعد محمّد الطيب، بيروت، المكتبة العصرية.

43. تفسير القرآن العظيم، أبوالفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، تحقيق: يوسف عبدالرحمن المرعشلي، ط2، بيروت، دارالمعرفة، 1412ه. ق.

44. التفسير الكبير، أبوعبدالله محمّد بن عمر بن حسين الشافعي الفخر الرازي، ط1، بيروت، دارالكتب العلمية، 1421ه. ق.

45. تفسير الميزان، محمّدحسين الطباطبائي، قم، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية.

46. التقريرات السنية في شرح المنظومة البيقونية، حسن حمد المشاط، دارالكتاب العربي، ط4، بيروت، 1417ه. ق.

ص:361

47. تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: الدكتور محمّد البريدي، مجمع الملك فهد، 1426ه. ق، و ط1، مكة المكرمة، مطبعة الحكومة، 1392ه. ق.

48. تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، محمّد بن الطيب الباقلاني، ط1، بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، 1407ه. ق.

49. التمهيد، يوسف بن عبدالله بن محمّد بن عبدالبر، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي و محمّد عبدالكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1387ه. ق.

50. التنديد بمن عدد التوحيد، حسن بن علي السقاف، عمّان، دارالإمام النووي.

51. التوحيد، محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق، قم، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية.

52. التوسّل بالنبي وجهلة الوهابيين، أبوحامد بن مرزوق، إستانبول تركيا، مكتبة أشيق.

53. التوفيق الرباني، جماعة من العلماء، مكتبة أهل البيت الإلكترونية.

54. تيسير التحرير، حمد أمين باد شاه، بيروت، دارالفكر.

55. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمّد بن جرير الطبري، بيروت، دارالفكر، 1415ه. ق.

56. جامع الرواة، محمّد بن علي الغروي الأردبيلي، قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ونشر: مكتبة المحمّدي.

57. الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: د. علي حسن ناصر و د. عبد العزيز إبراهيم العسكر، ط1، الرياض، دارالعاصمة، 1414ه. ق.

ص:362

58. جواهر الفقه، القاضي ابن براج، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

59. الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم، أحمد بن محمّد بن علي بن حجر المكي الهيتمي، دار جوامع الكلم.

60. حاشية فتح الباري، عبدالعزيز بن باز، طبعة السلفية الأولى.

61. الحجّة في بيان المحجّة، أبوالقاسم الأصفهاني، ط2، السعودية، دارالراية.

62. النبوات، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، القاهره، المطبعة السلفية 1386ه. ق.

63. الحكايات، أبوعبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المفيد، بيروت، دارالمفيد للطباعة والنشر والتوزيع.

64. الخصائص، أبوالفتح عثمان بن جني، تحقيق: محمّد علي النجار، بيروت، عالم الكتب.

65. خلاصة الأقوال، أبومنصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي الحلي، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، ط1، مؤسسة نشر الفقاهة، 1417ه. ق.

66. درء التعارض، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، الرياض، دارالكنوز الأدبية، 1391ه. ق.

67. دراسات في منهاج السنّة، علي الميلاني، ط1، المؤلّف، 1419ه. ق.

68. الدرّة المضية في الردّ على ابن تيمية، تقي الدين علي بن عبدالكافي السبكي، مطبعة الترقي، 1347ه. ق.

69. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني (ابن حجر) ، ط2، حيدرآباد الهند، مجلس دائرة المعارف العثمانية، 1392ه. ق.

ص:363

70. دفع الشبه عن الرسول، محمد بن عبدالمؤمن الحصني الدمشقي، ط2، القاهرة، دار إحياء الكتاب العربي.

71. دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، أبوالفرج عبدالرحمن الحنبلي (ابن الجوزي) ، الأردن، دارالإمام النووي.

72. دفع شبه من تشبّه وتمرّد، محمد بن عبدالمؤمن تقي الدين الحصني الدمشقي، مصر، المكتبة الأزهرية للتراث، و دار إحياء الكتب العربية، 1350ه. ق.

73. دقائق التفسير، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، ط2، مؤسسة علوم القرآن، 1404ه. ق.

74. ذيل تاريخ بغداد، محب الدين بن هبة الله بن النجار، ط 1، بيروت، دارالكتب العلمية، 1417ه. ق.

75. رجال ابن داود، ابن داود الحلّي، النجف الأشرف، منشورات مطبعة الحيدرية.

76. رجال الطوسي، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، ط1، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1415ه. ق.

77. رجال الغضائري، أحمد بن الحسين بن الغضائري، ط 1، دارالحديث، 1422ه. ق.

78. رجال النجاشي، أبوالعباس أحمد بن علي بن أحمد النجاشي، ط5، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1416ه. ق.

79. الرسائل التسع، المحقق الحلي، قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي.

80. الرسائل العشر (الاعتقادات) ، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

81. رسائل المرتضى، الشريف المرتضى، قم، دارالقرآن الكريم.

ص:364

82. الرسالة الصفدية، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، الرياض، دارالفضيلة، 1421ه. ق.

83. الرسالة، الشافعي، محمّد بن إدريس، تحقيق: أحمد محمّد شاكر، الناشر: بيروت، المكتبة العلمية.

84. روح المعاني، أبوالفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1420ه. ق.

85. روضة الطالبين، محيي الدين النووي، بيروت، دارالكتب العلمية.

86. روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، قم، منشورات الشريف الرضي.

87. زاد المسير في علم التفسير، أبوالفرج عبدالرحمن بن علي بن محمّد (ابن الجوزي) ، بيروت، المكتب الإسلامي، 1404ه. ق.

88. زغل العلم، شمس الدين أبوعبدالله محمّد بن أحمد الذهبي، تحقيق: محمّد بن ناصر العجمي، مكتبة الصحوة الإسلامية.

89. سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمّد ناصرالدين الألباني، الرياض، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.

90. السلفية بين أهل السنّة والإمامية، محمّد الكثيري، بيروت، الغدير للطباعة والنشر.

91. سنن الترمذي، أبوعيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي، ط2، بيروت، دارالفكر، 1403ه. ق.

92. سير أعلام النبلاء، شمس الدين أبوعبدالله محمّد بن أحمد الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، ط4، بيروت، مؤسسة الرسالة.

93. السيف الصقيل، تقي الدين علي بن عبدالكافي السبكي، مكتبة زهران.

94. الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى، ط2، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1410ه. ق.

ص:365

95. شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد عبدالحي بن أحمد الحنبلي، بيروت، دارالكتب العلمية.

96. شرح أصول الكافي، محمّدصالح المازندراني، تحقيق: الميرزا أبوالحسن الشعراني، ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1421ه. ق.

97. شرح السنّة، الحسين بن مسعود الشافعي البغوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ط2، بيروت، المكتب الإسلامي، 1403ه. ق.

98. شرح العقيدة الواسطية، محمّدصالح بن عثيمين.

99. شرح الفقه الأكبر، علي القاري، إسلامبول، الطبعة العثمانية.

100. شرح المختصر للعقيدة الطحاوية، محمّد ناصرالدين الألباني، ط 1، المكتب الإسلامي، 1398ه. ق.

101. شرح جوهرة التوحيد، برهان الدين اللقاني المالكي، تصحيح: عبدالله محمّد الخليلي، ط2، بيروت، دارالكتب العلمية، 1424ه. ق.

102. شرح صحيح مسلم، أبوزكريا محيي الدين بن شرف النووي، بيروت، دارالكتاب العربي، 1407ه. ق و نشر: دارالفكر.

103. شرح قصيدة أحمد بن إبراهيم بن عيسى بن القيم، ط3، بيروت، المكتب الإسلامي.

104. شرح نهج البلاغة، عزالدين ابوحامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبى الحديد المدائني المعتزلى، تحقيق: محمّد أبوالفضل إبراهيم، ط1، دار إحياء الكتب العربية، 1378ه. ق.

105. شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين، صلاح الدين المنجد.

106. الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، هاشم معروف الحسني، بيروت، دارالملاك.

107. الصاحبي في فقه اللغة، أبوالحسين أحمد بن زكريا بن فارس، مكتبة الجامع الكبير لكتب التراث الإسلامي، ط ع.

ص:366

108. صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل بن المغيرة البخاري، بيروت، دارالفكر، 1401ه. ق.

109. صحيح شرح العقيدة الطحاوية، حسن بن علي السقاف، عمّان، دارالإمام النووي.

110. الصحيح من السيرة، جعفر مرتضى العاملي، بيروت، دارالهادي و دارالسيرة.

111. صفة النزول الإلهي، عبدالقادر بن محمّد الغامدي، مكتبة دارالبيان الحديثة.

112. الصواعق المرسلة، ابن القيم الجوزية، تحقيق: د. علي محمّد الدخيل، ط2، الرياض، دارالعاصمة، 1412ه. ق.

113. ضحى الإسلام، أحمد أمين، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة، 1371ه. ق.

114. طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين بن علي السبكي، ط2، هجر للطباعة والنشر، 1413ه. ق.

115. عقائد الإمامية، محمّدرضا المظفر، تحقيق وتقديم: الدكتور حامد حفني داود، قم، أنصاريان.

116. العقيدة الإصفهانية، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، ط1، الرياض، مكتبة الرشد، 1415ه. ق.

117. العقيدة الواسطية، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، الرياض، الرئاسة العامّة لإدارة البحوث والإفتاء، 1412ه. ق.

118. عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، حمود بن عبدالله التويجري، ط2، الرياض، داراللواء، 1409ه. ق.

119. علوم القرآن، محمّدباقر الحكيم، ط3، مجمع الفكر الإسلامي، 1417ه. ق.

120. غاية البيان في تنزيه الله عن الجهة والمكان، خليل دريان المصري، ط2، شركة دارالمشاريع للطباعة، 1429ه. ق.

121. غاية المرام في علم الكلام، سيف الدين الآمدي، تحقيق: حسن محمود عبداللطيف، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1391ه. ق.

ص:367

122. الغدير، عبدالحسين أحمد الأميني، ط 4، بيروت، دارالكتاب العربي، 1977م.

123. الفتاوى الحديثية، أحمد بن محمّد بن علي بن حجر المكي الهيتمي، ط2، مصطفى الحلبي.

124. فتاوى السبكي، تقي الدين علي بن عبدالكافي السبكي، بيروت، دارالمعرفة.

125. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، أحمد بن عبدالرزاق الدويش، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، الإدارة العامّة للطبع.

126. فتح الباري شرح صحيح البخاري، شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني (ابن حجر) ، ط2، بيروت، دارالمعرفة.

127. الفرق بين الفِرق، عبدالقاهر بن طاهر البغدادي، ط2، بيروت، دارالآفاق الجديدة، 1997م.

128. الفصل في الملل والأهواء والنحل، أبومحمّد أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، القاهرة، مكتبة الخانجي.

129. الفكر الإسلامي في العصر الوسيط، زكي الميلاد، رسالة التقريب، العدد 32.

130. فهرست ابن النديم، أبوالفرج بن أبي يعقوب بغدادي (ابن النديم) ، بيروت، دارالمعرفة، 1398ه. ق.

131. الفهرست، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، ط1، مؤسسة نشر الفقاهة، 1417ه. ق.

132. فهم القرآن ومعانيه، الحارث بن أسد المحاسبي، تحقيق: حسين القوتلي، ط2، بيروت، دارالكندي و دارالفكر، 1398ه. ق.

133. القول المقنع في الردّ على الألباني المبتدع، عبدالله بن الصديق المغربي، مكتبة أهل البيت (عليهم السلام) الإلكترونية.

ص:368

134. الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية، سعيد عبداللطيف فودة، ط1، عمّان، دارالرازي، 1420ه. ق.

135. كتاب سيبويه، عمرو بن عثمان (سيبويه) ، تحقيق: عبدالسلام محمّد هارون، بيروت، دارالجيل.

136. كشف الخفاء ومزيل الإلباس، إسماعيل بن محمّد العجلوني الجراحي، ط3، بيروت، دارالكتب العلمية، 1408ه. ق.

137. كشف الشبهات، محمّد بن عبدالوهاب، المملكة العربية السعودية، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.

138. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، أبومنصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي الحلي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

139. كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، علاءالدين علي بن حسام الدين المتقى الهندي، تحقيق: بكري حياني، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1409ه. ق.

140. لسان العرب، جمال الدين أبوالفضل محمد بن مكرم بن منظور، أدب حوزة، 1405ه. ق.

141. لسان الميزان، شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني (ابن حجر) ، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

142. المبسوط، محمد بن ابي سهل السرخسي، بيروت، دارالمعرفة.

143. متن العقيدة الطحاوية، أبوجعفر الطحاوي، تحقيق: الألباني، بيروت، المكتب الإسلامي.

144. مجاز القرآن، أبوعبيدة، تحقيق: محمّد فؤاد سركين، القاهرة، مكتبة الخانجي.

145. مجاز القرآن، محمّد حسين علي الصغير.

ص:369

146. مجلة الإسلام وطن، العدد 249، جمادي الأولى 1428ه. ق.

147. مجلة تراثنا، العدد 34، 1414ه. ق.

148. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نورالدين علي بن أبي بكر الهيثمي، بيروت، دارالكتب العلمية، 1408ه. ق.

149. مجموع الفتاوى، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: عبدالرحمن بن محمّد العاصمي، ط 2، مكتبة ابن تيمية.

150. المحاضرات السنية، محمّد صالح بن عثيمين، تحقيق: أشرف عبدالمقصود، ط1، الرياض، مكتبة طبرية، 1993م.

151. محاضرة بعنوان: السلفية المعاصرة وأثرها في تشتيت المسلمين. سعيد فودة، موقع منتدى الأصلين: http: //www. aslein. ne

152. محاضرة له بعنوان (المجاز في اللغة والقرآن) : www. alquran. org. sa ، عبدالمحسن بن عبدالعزيز العسكر.

153. مختصر العلو للعلي الغفّار، شمس الدين أبوعبدالله محمّد بن أحمد الذهبي، تعليق وتخريج: محمّد ناصر الألباني، ط1، بيروت، المكتب الإسلامي، 1401ه. ق.

154. مسند، أبوعبدالله أحمد بن حنبل الشيباني، القاهرة، دارالحديث. وبيروت، دارصادر، تحقيق: حمزة أحمد الزين.

155. معاني القرآن، الأخفش، تحقيق: الدكتورة هدى محمود قراعة، ط1، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1411ه. ق.

156. معاني القرآن، أبوجعفر النحاس، تحقيق: محمّدعلي الصابوني، ط1، مكة المكرمة، جامعة أم القرى، 1409ه. ق.

157. المعجم الكبير، أبوالقاسم سليمان بن أحمد الطبراني، الموصل، مكتبة العلوم والحكم.

ص:370

158. معجم المؤلفين، عمر كحالة، بيروت، مكتبة المثنى.

159. معجم المطبوعات العربية، إليان سركيس، قم المقدسة، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1410ه. ق.

160. معجم رجال الحديث، أبوالقاسم بن علي أكبر الموسوي الخوئي، ط5، 1413ه. ق.

161. معجم محدّثي الذهبي، شمس الدين أبوعبدالله محمّد بن أحمد الذهبي، تحقيق: الدكتورة روحية عبدالرحمن السويفي، ط1، بيروت، دارالكتب العلمية، 1413ه. ق.

162. مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ط2، دفتر نشر الكتاب، 1404ه. ق.

163. مقالات الإسلاميين، أبوالحسن الأشعري، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

164. مقدّمة كتاب السيف الصقيل، محمّد بن زاهد الكوثري، مكتبة زهران.

165. الملل والنحل، أبوالفتح محمّد بن عبدالكريم الشهرستاني، تحقيق: محمّد سيد كيلاني، بيروت، دارالمعرفة، 1404ه. ق.

166. منهاج السنّة النبوية، أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: د. محمّد رشاد سالم، ط1، مؤسسة قرطبة، 1406ه. ق.

167. الموافقات، إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي، تحقيق: عبدالله دراز، بيروت، دارالمعرفة.

168. المواقف، عضدالدين عبدالرحمن الإيجي، بيروت، دارالجيل.

169. موسوعة هذا الرجل من مصر، لمعي المطيعي، مصر، دارالشروق.

170. نجم المهتدي ورجم المعتدي، ابن المعلّم القرشي، مخطوط.

171. النجوم الزاهرة، أبوالمحاسن جمال الدين الاتابكي، مصر، وزارة الثقافة والإرشاد القومي.

ص:371

172. نهج الحق وكشف الصدق، العلاّمة الحلي، قم، مؤسسة دارالهجرة، 1421ه. ق.

173. هدية العارفين، إسماعيل باشا البغدادي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

174. هشام بن الحكم، عبدالله نعمة، ط2، بيروت، دارالفكر اللبناني، 1405ه. ق.

175. الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل الصفدي، تحقيق: الأرنؤوط، بيروت، دار إحياء التراث، 1420ه. ق.

176. وفيات الأعيان، أبوالعباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلكان، بيروت، دارالثقافة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.