لله و للحقیقه رد علی کتاب الله ثم للتاریخ

اشارة

سرشناسه : آل محسن، علی

عنوان و نام پديدآور : لله و للحقیقه رد علی کتاب الله ثم للتاریخ/ تالیف علی آل محسن

مشخصات نشر : تهران: مشعر، 1382.

شابک : 964-7635-30-3

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه: ص 669 - ص 694؛ همچنین به صورت زیرنویس

موضوع : موسوی، حسین، مستعار. لله ثم للتاریخ کشف الاسرار و تبرئه الائمه الاطهار -- نقد و تفسیر

موضوع : شیعه -- دفاعیه ها و ردیه ها

رده بندی کنگره : BP228/4/آ77ل 8 1382

رده بندی دیویی : 297/479

شماره کتابشناسی ملی : م 82-9119

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

ص: 6

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ

سورة النحل: 105

ص: 7

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين، وبعد:

فقد صدر منذ مدة كتاب أسماه مؤلفه: (لله ثم للتاريخ: كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار) لكاتبه الذي أسمى نفسه: السيد حسين الموسوي، ووُصف على ظهر الكتاب بأنه من علماء النجف.

وقد أثار هذا الكتاب ضجَّة كبيرة واهتماماً بالغاً في أوساط أهل السنة في بعض البلاد الإسلامية، واعتبره بعضهم قاصماً لمذهب الشيعة الإمامية، وفاضحاً لبعض مراجعهم المعروفين في الأوساط الشيعية.

ولكني عندما تأمَّلت هذا الكتاب رأيت أنه كتاب ركيك متهافت، لا يستحق أن يُرَدّ عليه، ولا يستأهل أن يُعتنى بشأنه، وخرجت منه بعدة ملاحظات مهمة، سنذكرها في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.

إلا أني لما رأيت اعتداد المخالفين به، وكثرة تشدّقهم بحُجَجه، واحتجاجهم على ضَعَفَة المؤمنين بما فيه من أباطيل وأكاذيب، وإلحاح بعض المؤمنين في الرد عليه،

ص: 8

رأيت أنه لا بد من كشف زيفه ومغالطاته، وبيان دسائسه وافتراءاته، حتى لا يغتر به الجُهَّال، ولا يكون حجّة لأهل الزيغ والضلال.

فكتبتُ هذا الرد مستقصياً فيه كل مزاعم هذا الكاتب، وأدرجتُ كل كتابه بأخطائه وأغلاطه معقِّباً عليه بما يكشف زيفه، ويبطل أكاذيبه، مراعياً فيه الاختصار مهما أمكن، إلا أنه صار بهذا الحجم، لأن شبهاته وأباطيله وأكاذيبه كثيرة، وهي تتطلب كشفها وبيان بطلانها.

وقد أسميته (لله وللحقيقة) (1) 1 مريداً به وجه الله سبحانه وبيان الحق، وسائلًا المولى سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الكتاب خالصاً لوجهه الكريم، وأن يدحض به شبهات المغرضين وتشويش المشوِّشين، وينفع به المؤمنين، وينفعني به في يوم الفقر والفاقة، إنه سميع الدعاء، قريب مجيب، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يوم الأحد 15/ 6/ 1423 ه- علي آل محسن


1- أردتُ بهذا العنوان بيان أني كتبتُ هذا الكتاب لله سبحانه الذي جعلتُه نصب عينيَّ في كل ما سطَّرتُه فيه، كما أردتُ به بيان الحقيقة التي أراد الكاتب طمسها وتشويهها، فكتبتُ ما أعتقد أنه هو الحق الذي لا مرية فيه، وأشرتُ به إلى أن زعم الكاتب أنه كتب أباطيله (للتاريخ) غير نافع ولا مُجْدٍ، لأن كثيراً مما كُتب للتاريخ كتبه أعوان السلاطين، وأملتْه الأهواء والعصبيات، وكان مجانباً للحقيقة. وأشرت بالعطف بالواو بدلًا من العطف بثُم إلى أن الواو و (ثم) كلاهما يفيد التشريك في الحكم، إلا أن الواو تفيد التشريك مطلقاً، و (ثم) تفيد التشريك بتراخٍ، فالعدول عن الواو إلى (ثم) لا ينفع في الفرار مما زعموه شِرْكاً.

ص: 9

من هو السيد حسين الموسوي؟

عندما نتأمَّل كتاب (لله ثم للتاريخ) ندرك أن كاتبه يكتب باسم مستعار، وأن اسم (السيِّد حسين الموسوي) المذكور على الغلاف ليس اسماً صريحاً، وقد ذكر الكاتب أنه أخفى نفسه لأنه يسكن في العراق، وهو لا يتمكن من الإفصاح عن شخصيته بصراحة (1) 2.

ولعله يشير بذلك إلى أن سبب إخفاء اسمه هو خوفه من شيعة العراق الذين يَتوقع منهم أن يلحقوا به الأذى، لأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ما تضمَّنه الكتاب مما يرونه افتراءات مكشوفة وأكاذيب مفضوحة وتشهير واضح بعلماء الشيعة وبالحوزة العلمية النجفية.

هذا مع أن الأوساط العلمية الشيعية لا تعرف عالماً بهذا الاسم، لا من أهل كربلاء ولا من غيرها، رغم أن الكاتب قد ذكر في هذا الكتاب مراراً أنه تربطه علاقات وثيقة بمراجع الشيعة وعلمائهم، إلا أن ذلك لم يزده إلا غموضاً وإبهاماً.

وصرَّح المؤلف بأنه كربلائي الأصل، وأنه تلقَّى تعليمه في الحوزة العلمية في


1- لله ثم للتاريخ، ص 6.

ص: 10

النجف الأشرف، ويظهر أن زعم المؤلف بأنه كربلائي غير صحيح، لأنه لا يُعرف في الأوساط العلمية الشيعية عالم من كربلاء بهذا العمر، وأهل كربلاء أنفسهم لا يعرفون عالماً كربلائياً مجتهداً متصفاً بالصفات التي وردت في الكتاب.

وأما عمره وسنة ميلاده فلم يصرِّح بهما الكاتب، وكلامه الذي يمكن أن يستفاد منه ذلك مضطرب ومتهافت جداً.

فإنه صرَّح في ص 74 أن الشاعر أحمد الصافي النجفي رحمه الله يكبره بثلاثين سنة أو أكثر، وهذا يعني أن الكاتب وُلد في سنة 1344 ه- أو بعدها، فيكون عمره لما صدر كتابه (لله وللتاريخ) في سنة 1420 ه- هو ستًّا وسبعين سنة أو أقل من ذلك، لأن الصافي النجفي ولد سنة 1314 ه- وتوفي سنة 1397 ه- (1) 3.

وعليه فيكون عمر الكاتب لما نال درجة الاجتهاد- حسب قوله- أقل من ثلاثين سنة، إذا قلنا إن الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قدس سره أعطاه إجازة الاجتهاد في سنة وفاته وهي سنة 1373 ه-، وأما لو قلنا إن الشيخ أعطاه الاجتهاد قبل وفاته بخمس سنين مثلًا، فإن الكاتب يكون قد بلغ رتبة الاجتهاد وعمره أقل من خمس وعشرين سنة، وهذا نادر جداً يكاد يكون ممتنعاً في عصرنا، ولم يُسمع بواحد من أهل كربلاء حصل على الاجتهاد في هذه السن.

وأما إذا قلنا: (إنه بلغ رتبة الاجتهاد قبل إعطائه الإجازة بها بسنين) كما هو المتعارف، فإن الأمر يزداد إشكالًا وغرابة.

ومن جانب آخر فإن الكاتب ذكر أيضاً أنه عاصر زيارة السيِّد عبد الحسين شرف الدين الموسوي قدس سره للنجف الأشرف، وزيارة السيد للنجف كانت سنة 1355 ه- (2) 4، فلو فرضنا أن عمر الكاتب كان حينئذ عشرين سنة، فإنه سيكون في سنة 1420 ه- خمسة وثمانين عاماً.


1- معجم رجال الفكر والأدب في النجف 2/ 793.
2- ترجمة السيد شرف الدين المطبوعة في مقدمة كتاب النص والاجتهاد، ص 39.

ص: 11

في حين أن الكاتب قد ادَّعى في ص 107 لقاءه في الهند بالسيد دلدار علي صاحب كتاب (أساس الأصول)، وأنه أهداه نسخة من كتابه المذكور، مع أن السيد دلدار توفي سنة 1235 ه- كما ذكره آغا بزرك الطهراني في الذريعة إلى تصانيف الشيعة (1) 5، فلو فرضنا أن الكاتب لقيه في آخر سنة من وفاته، وكان عمره عشرين سنة، لكان عمر المؤلف وقت كتابة كتابه في سنة 1420 ه- مائتين وخمس سنوات، وهذا عمر غير طبيعي، يُجزَم معه بكذب هذه الرواية من أصلها.

وهذا خطأ جسيم وقع فيه الكاتب، أفقد الكتاب موضوعيته، وأفقد المؤلف مصداقيته.

ولكن الكاتب قد أبدى نوعَ معرفةٍ بأسماء بعض علماء الشيعة المعاصرين وغيرهم، كالشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء والسيد عبد الحسين شرف الدين والسيد الخوئي والسيد السيستاني وميرزا علي الغروي وغيرهم، كما ذكر أسماء علماء ليسوا من هذه الطبقة، ولكن لهم شأنهم في الأوساط الشيعية، كالشيخ محمد جواد مغنية والسيد حسين الصدر والشيخ أحمد الوائلي وغيرهم.

إلا أن معرفة هذه الأسماء سهلة يسيرة يمكن تحصيلها بمجرد السماع أو بطرق أخرى، ولا سيما أن الكاتب لم يذكر شيئاً من خصوصياتهم التي لم تشتهر عنهم.

وفي مقابل ذلك ذكر الكاتب أشخاصاً لا يُعرَفون، كالسيِّد البروجردي الذي وصفه بأنه كان يشرف بنفسه على تنفيذ تعليمات الحوزة بنشر الفساد في مدينة الثورة ببغداد!! (2) 6 وذكر السيد القزويني والطباطبائي والسيد المدني وأبا الحارث الياسري، مع أن هؤلاء كلهم رجال مجهولون لا يُعرَفون، لا على الصعيد الشعبي ولا في الوسط العلمي.


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة 2/ 4.
2- ذكر ذلك في صفحة 116.

ص: 12

ويتَّضح من خلال قراءة كتاب (لله ثم للتاريخ) أن مؤلفه لم يكن شيعياً ولا واحداً من علماء الشيعة، ولم يقضِ فترة من حياته- كما قال- في الحوزة العلمية النجفية، لما سنبيّنه مفصَّلًا في آخر الكتاب بعونه تعالى.

والظاهر أنه انتحل شخصية شيعية غير معروفة لأمرين:

الأول: لإشعار أهل السُّنة بقوة مذهبهم وضعف مذهب الشيعة الإمامية الذي تركه وأقرَّ ببطلانه واحد من فقهاء المذهب الشيعي المعاصرين.

وبه يندفع ما يكرره الشيعة دائماً من أن المستبصرين الذين يتحوَّلون إلى المذهب الشيعي هم علماء أهل السنة ومفكِّروهم، في حين أنه لا ينقلب إلى مذهب أهل السنة إلا البسطاء والجهَّال من الشيعة.

والثاني: ليتمكن الكاتب من سرد قضايا ووقائع قبيحة يدَّعي فيها المشاهدة والحضور، فإن هذه الحوادث لن يكون لها أية قيمة لو كتبها رجل سُنّي، لوضوح انتحالها حينئذ، بخلاف ما لو نقلها واحد من علماء الحوزة، فإنها ستكون من باب وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا.

وليس غريباً أن يكون كاتب هذا الكتاب رجلًا غير عراقي، لأنه وإن ذكر في مطاوي كلامه أموراً تنم عن نوع معرفة بمدن العراق وأحيائها وعلمائها، إلا أن معرفة كل ذلك قد تتأتّى لمن عاش في العراق أو تتبَّع الكتب التي يستقي منها ما ينفعه في الموضوعات التي كتب فيها.

هذا كل ما استقرأناه من سطور الكتاب حول شخصية مؤلّفه الذي أسمى نفسه (السيد حسين الموسوي)، وسيأتي في آخر الكتاب مزيد بيان في تحقيق حال هذا الرجل إن شاء الله تعالى.

وعلى كل حال فإنا سننظر في محتوى الكتاب بغض النظر عن هوية الكاتب، وعن كونه شيعيًّا أو سُنّيًّا، فلا تهمّنا شخصية الكاتب بقدر ما يهمّنا ما في الكتاب من مضامين.

ص: 13

رد ما جاء في مقدمة الكتاب

قال الكاتب: وُلدت في كربلاء، ونشأت في بيئة شيعية في ظل والدي المتديِّن.

درستُ في مدارس المدينة حتى صرت شابًّا يافعاً، فبعث بي والدي إلى الحوزة العلمية النجفية أم الحوزات في العالم لأنهل من علم فحول العلماء ومشاهيرهم في هذا العصر، أمثال سماحة الإمام السيد محمد آل الحسين كاشف الغطاء كذا.

وأقول: إن ذهاب المؤلف يافعاً إلى الحوزة العلمية النجفية وحصوله على درجة الاجتهاد حسب زعمه من أستاذه كاشف الغطاء قدس سره، لا يسوِّغان له عند أحد أن يكون جاهلًا بكون أستاذه سيِّداً أو شيخاً، وأن اسمه محمد آل الحسين كاشف الغطاء كما ذكره في كلمته، أو الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء كما هو الصحيح الذي يعرفه حتى عوامّ الناس في النجف وغيرها.

وقد تكرَّر منه بعد ما يقل عن صفحتين نفس الخطأ في وصف (أستاذه) بأنه سيِّد، إلا أنه أصاب في الاسم، وسيتكرر منه ذلك كثيراً في كتابه، ونحن سنلفت نظر القارئ الكريم بذكر كلمة كذا بين قوسين معقوفين، حذراً من تكرار التنبيه على ذلك كثيراً.

ص: 14

ومن الواضح أن هذا دليل كافٍ في بطلان ما زعمه من تتلمذه على الشيخ كاشف الغطاء، وحصوله على درجة الاجتهاد منه.

قال الكاتب: ويَسَّرَ الله تعالى لي الالتحاق بالدراسة وطلب العلم، وخلال سنوات الدراسة كانت تَرِدُ عليّ نصوصٌ تستوقفني، وقضايا تشغل بالي، وحوادث تحيرني، ولكن كنت أَتهم نفسي بسوء الفهم، وقلة الإدراك.

وأقول: هذا الكلام يدل على أن الرجل لا يعرف مناهج الحوزة ولم يدرس فيها، وإلا لعَلِم أن طالب العلم في الحوزة العلمية يقضي شطراً من سنواته الأولى في دراسة النحو والصرف والبلاغة والمنطق والفقه غير الاستدلالي، ثم يدخل في دراسة علمي الأصول والفقه الاستدلالي، وهذه كلها لا تحتوي على نصوص تستوقف الطالب، ولا تحتوي على قضايا تشغل باله، لأنها مناهج معروفة، وكل ما فيها من نصوص غيرُ خفي على أي طالب.

وهو يظن أن طالب العلم في الحوزة العلمية يدرس علم الحديث الذي سيفتح عينيه على الأحاديث المنكَرة الضعيفة التي ذكر كثيراً منها في كتابه.

كما أنه يظن أن طالب العلم يدرس علم الرجال أو تاريخ وسير الأئمة عليهم السلام وأمثال هذه العلوم التي تحتوي على أمور ينكرها السني أو لا يحتملها.

ولو كان هذا الكاتب طالب علم حقيقة لَعَلِمَ أن علماء الشيعة قدَّس الله أسرارهم قد بيَّنوا مشكلات الأخبار وأوضحوها، وميَّزوا غثّها من سمينها، وسليمها من سقيمها، ودفعوا شبهات الخصوم وزيَّفوها، حتى لم يبقَ لخصم حجة، ولا لمخالف على مذهب الحق مغمز.

وبهذا يتضح أنه لا عذر لطالب العلم في الحوزة العلمية أن يصدر منه مثل هذا

ص: 15

الكلام فضلًا عمن يدَّعي بلوغه مرتبة الاجتهاد، ولا سيما أن كل من بلغ هذه المرحلة لا بد أن يكون قادراً على التمييز بين الصحيح والضعيف، ومتمكِّناً من دفع كل شبهات الخصوم وحُجَجهم.

قال الكاتب: وحاولت مرة أن أطرح شيئاً من ذلك على أحد السادة من أساتذة الحوزة العلمية، وكان الرجل ذكيا إذ عرف كيف يعالج فيّ هذه الأسئلة: فأراد أن يُجْهزَ عليها في مَهْدها بكلمات يسيرة، فقال لي: ماذا تدرس في الحوزة؟

قلت له: مذهب أهل البيت طبعاً.

فقال لي: هل تشك في مذهب أهل البيت؟!

فأجبته بقوة: معاذ الله.

فقال: إذن أبْعِدْ هذه الوساوس عن نفسك، فأنت من أتباع أهل البيت عليهم السلام، وأهلُ البيت تَلقّوْا عن محمد صلى الله عليه وآله، ومحمد تَلَقَّى من الله تعالى.

سكَتُّ قليلًا حتى ارتاحت نفسي، ثم قلتُ له: بارك الله فيك شفيتني من هذه الوساوس. ثم عدتُ إلى دراستي، وعادت إليّ تلك الأسئلة والاستفسارات، وكلما تقدمت في الدراسة ازدادت الأسئلة، وكثرت القضايا والمؤاخذات.

وأقول: إن هذا الكلام أيضاً يدل على أن كاتبه لا يعرف مناهج الحوزة العلمية، وهو بعيد عنها كل البعد، حيث إنه زعم أنه يدرس مذهب أهل البيت عليهم السلام، مع أن الطالب كما قلنا يقضي سنين من حياته يدرس علوم اللغة والمنطق والفلسفة، وهي لا ترتبط بمذهب أهل البيت عليهم السلام، لأنها مقدمات تؤهِّل الطالب لفهم المطالب العالية.

وبعد تلك السنين يقضي الطالب أيضاً سنين أخرى يدرس فيها علم الأصول

ص: 16

الذي كثير منه نظريات عقلية قابلة للأخذ والرد.

وأما ما يرتبط بمذهب أهل البيت عليهم السلام فهو علم الفقه الذي يدرسه الطالب ابتداءاً ب- (تبصرة المتعلمين) للعلامة الحلي، ومروراً بكتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلي، و (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) للشهيد الثاني، وانتهاءاً بكتاب (المكاسب) للشيخ الأنصاري قدَّس الله أسرارهم.

وهذه الكتب مطبوعة ومعروفة، وليس فيها ما ينتج عنه شكوك ومؤاخذات في نفس الطالب على مذهب أهل البيت عليهم السلام، لأنها إما كتب مشتملة على الفتاوى المجردة كالكتابين الأولين، أو فيها إشارة إلى الدليل كالكتاب الثالث، أو مشتملة على بيان الأدلة التفصيلية في المكاسب والتجارات كالكتاب الأخير.

فلا أدري ما هو مصدر تلك الشكوك التي انتابت الكاتب، وما هو منبع الإشكالات المزعومة مع ما أوضحناه من منهج الحوزة، ولا سيما في السنين الأولى التي يدرس فيها المقدمات التي لا ترتبط بمذهب أهل البيت عليهم السلام في شي ء؟!

وبذلك يتضح أن الحادثة التي ذكرها كلها مبتنية على جهل الكاتب بمنهج الحوزة، فلفَّق هذه القصة بناءاً على مرتكزاته في منهج الدراسة السُّنّية.

قال الكاتب: المهم أني أنهيت الدراسة بتفوق، حتى حصلتُ على إجازتي العلمية في نيل درجة الاجتهاد من أوحد زمانه سماحة السيد كذا محمد الحسين آل كاشف الغطاء زعيم الحوزة.

وأقول: في كلام الكاتب عدة ملاحظات:

الأولى: أنه يعتقد أن منهج الدراسة الحوزوية مشابه لمنهج الدراسة الجامعية، ينتهي عند حد نيل درجة الاجتهاد، وبعدها يكون الحاصل على هذه الإجازة قد

ص: 17

أنهى دراسته.

والحال أن الأمر ليس كذلك، فإن الدراسات الحوزوية لا تنتهي بذلك، وكل من عاش في حوزة النجف في هذا العصر يعلم أن جمعاً من الفقهاء المسلَّم اجتهادهم كانوا يحضرون درس زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف سماحة آية الله العظمى السيِّد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس الله نفسه الزكية.

الثانية: أنه ظن أن نيل درجة الاجتهاد حاله حال نيل درجة الدكتوراه في الجامعات، بأن يكون بتفوق أو بدرجة امتياز أو دون ذلك.

والحال أن درجة الاجتهاد لا تُعطى للفقيه تارة بتفوق وتارة من دون تفوق، وذلك لأن درجات الدكتوراه أو غيرها تُعطى للدارسين بعد تقديم رسالة يناقشها أساتذة الجامعة، وبعدها تقرر لجنة المناقشة منح هذا الطالب درجة الدكتوراه أو عدم منحه، بدرجة امتياز أو غيرها حسب قوة الرسالة وتمكن الطالب من اجتياز المناقشة بنجاح.

وأما درجة الاجتهاد فلا تُعطى بهذه الطريقة، وإنما يعطيها الفقيه لبعض تلامذته عند قناعته باجتهاده ومقدرته على استنباط الأحكام الشرعية من مداركها المقرَّرة.

وعادة ما تُعطى بشكل فردي جداً، بعيداً عن الأضواء، ولا تكون في حفل علني، أو تكون مقرونة ببيان التفاضل حتى يُعرف المتفوق من غير المتفوق من الطلبة الحاصلين على هذه الإجازة.

الثالثة: أن الكاتب يعتقد أن إجازات الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قدَّس الله نفسه لها أهمية كبرى نظراً لمكانته العلمية، وهو توهم باطل، وذلك لأن الشيخ كاشف الغطاء قدس سره قد أعطى إجازات اجتهاد لجماعات كثيرة كانت غير مؤهلة للاجتهاد ولا متَّصفة بالفضل، بسبب الظروف التي كانت تحتِّمها تلك الفترة العصيبة.

ص: 18

فإن رضا شاه بهلوي حاكم إيران الأسبق، أصدر أمراً بمنع لبس العمامة إلا بإجازة من الحكومة الإيرانية، ولا يُستثنى من ذلك إلا الفقيه المجتهد.

وهذا الإجراء جعل جماعات من طلبة العلم يضطرون إلى نزع العمامة لعدم حصولهم على إجازةِ لُبْسها من الحكومة الإيرانية.

وفي هذا الظرف صار جمع من أعلام المذهب كالسيِّد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء يمنحون الكثير من طلبة العلم إجازات اجتهاد، من أجل الحفاظ على كيان الحوزات العلمية وبقائها.

هذا مضافاً إلى أن الحكومة الإيرانية كانت تلزم طلبة العلم بالانخراط في التجنيد الإجباري، ولا تستثني أحداً أيضاً إلا من كان مجتهداً.

وقد حدَّثني الشهيد السعيد آية الله العظمى الميرزا علي الغروي قدَّس الله نفسه الزكية أن كثيراً من الطلبة في ذلك الوقت كانوا يذهبون إلى الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قدس سره، لطلب إجازة الاجتهاد للتخلص من التجنيد الإجباري، وكان يجيزهم بالاجتهاد لهذا الغرض مع عدم أهلية بعضهم.

وبما قلناه يتبيَّن أن إجازات الشيخ كاشف الغطاء قدس سره لا تنبئ عن أية فضيلة علمية فضلًا عن بلوغ رتبة الاجتهاد.

قال الكاتب: وعند ذلك بدأت أفكر جِدّياً في هذا الموضوع، فنحن ندرس مذهب أهل البيت، ولكن أجدُ فيما ندرسه مطاعن في أهل البيت عليهم السلام، ندرس أمور الشريعة لنعبد الله بها، ولكن فيها نصوصاً صريحة في الكفر بالله تعالى.

أي ربي، ما هذا الذي ندرسه؟! أيمكن أن يكون هذا هو مذهب أهل البيت حقاً؟!

ص: 19

إن هذا يسبب انفصاماً في شخصية المرء، إذ كيف يعبد الله وهو يكفر به؟! كيف يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وآله، وهو يَطْعَنُ به؟!

كيف يتبعُ أهل البيت ويحبهم ويدرس مذهبهم، وهو يسبهم ويشتمهم؟! رحماك ربي ولطفك بي، إن لم تدركني برحمتك لأكونن من الضالين، بل من الخاسرين.

وأقول: إن الكاتب قد أفرغ في كتابه هذا كل ما في جعبته من النصوص التي يزعم وجودها في كتب الشيعة، والتي يزعم أنها كفر بالله، أو أنها تقتضي الطعن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي أهل بيته عليهم السلام، وسيلاحظ القارئ الكريم أن ما زعمه هذا الكاتب كله سراب وهباء، وأنه لا توجد نصوص صحيحة من هذا القبيل في كتب الشيعة بحمد الله ونعمته.

هذا مع أنا أوضحنا فيما مرَّ منهج الدراسة الحوزوية، وقلنا: إنه خالٍ من أمثال هذه النصوص المزعومة. فلا تغفل عما قلناه.

قال الكاتب: وأعود وأسأل نفسي: ما موقف هؤلاء السادة والأئمة وكل الذين تقدموا من فحول العلماء، ما موقفهم من هذا؟ أما كانوا يرون هذا الذي أرى؟ أما كانوا يدرسون هذا الذي درستُ؟! بلى، بل إن الكثير من هذه الكتب هي مؤلفاتهم هم، وفيها ما سَطَّرَتْهُ أقلامهم، فكان هذا يُدِمي قلبي، ويزيده ألماً وحسرة.

وأقول: إن موقف العلماء من كل ما هو مسطور في كتب الشيعة معروف، وطالب العلم لا يُعقَل أن يقع في حيرة لمعرفة ذلك، ولا سيما أن كتب علماء الشيعة بين يديه، وأنه يتمكن من سؤال الأساطين في الحوزة.

وإنما يمكن أن يقع في أمثال هذه الادعاءات الجاهل الصرف الذي لا يفقه من العلم شيئاً، والذي نُقل له بعض ما يراد به إلقاء الشبهات عليه.

ص: 20

وادِّعاء الكاتب أن ما أثار شكوكه مذكور في مناهج الدراسة الحوزوية واضح البطلان، وسيرى القارئ الكريم أن كل النصوص التي نقلها الكاتب في كتابه مأخوذة من كتب غير دراسية جمعتْ بين الصحيح والضعيف والغث والسمين، مثل كتاب رجال الكشي والأنوار النعمانية وبحار الأنوار وغيرها.

ومن الواضح أن الكاتب إنما زعم أن في مناهج الحوزة ما أثار شكوكه باعتبار أنه كان يظن أن طلبة العلم في الحوزة العلمية يدرسون كتب الحديث المعتبرة عند الشيعة كالكافي والتهذيب والاسبتصار ومن لا يحضره الفقيه، كما هو المتعارف في الدراسات السُّنّية، مع أن الكتب المذكورة وغيرها وإن كانت لها أهميتها في مقام الاستنباط إلا أنها ليست كتباً تُدرَس كما هو معروف حتى عند صغار طلبة العلم.

قال الكاتب: وكنت بحاجة إلى شخص أشكو إليه همومي، وأَبُثُّ أحزاني، فاهتديت أخيراً إلى فكرة طيبة وهي دراسة شاملة أعيد فيها النظر في مادتي العلمية، فقرأت كل ما وقفت عليه من المصادر المعتبرة وحتى غير المعتبرة، بل قرأت كل كتاب وقع في يدي، فكانت تستوقفني فقرات ونصوص كنت أشعر بحاجة لأن أُعَلِّقَ عليها، فأخذت أنقل تلك النصوص وأُعلق عليها بما يجول في نفسي، فلما انتهيت من قراءة المصادر المعتبرة، وجدت عندي أكداساً من قصاصات الورق، فاحتفظت بها عسى أن يأتي يوم يقضي الله فيه أمراً كان مفعولًا.

وأقول: إن ادِّعاء قراءة كل الكتب الشيعية، وكل المصادر المعتبرة منها وغير المعتبرة من الادعاءات المعلوم بطلانها، فإن كتب الشيعة تُعَد بآلاف الكتب والمجلدات، التي تُصرَف الأعمار دون التمكن من قراءتها فضلًا عن فهمها والتدبر فيها.

وعلى كل حال، فسواء قرأ الكاتب كل تلك الكتب أو لم يقرأها فليست هذه قضية مهمة نتنازع معه فيها، ولكن إن صحَّ زعمه فالحجة عليه أتم، لأنه يُقِر بأنه قد

ص: 21

اطَّلع على كل ما في كتب الشيعة من أحاديث وعلوم ومعارف، فلا ندري بعد هذا لمَ احتجَّ بالضعيف وتعامى عن الصحيح؟ ولمَ صرف الأحاديث عن معانيها الصحيحة، وجعل لها معاني من جراب النورة؟

قال الكاتب: وبقيت علاقاتي حسنة مع كل المراجع الدينية والعلماء والسادة الذين قابلتهم، وكنت أخالطهم لأَصِلَ إلى نتيجة تعينني إذا ما اتخذتُ يوماً القرار الصعب، فوقفت على الكثير حتى صارت قناعتي تامة في اتخاذ القرار الصعب، ولكني كنت أنتظر الفرصة المناسبة.

وأقول: إن كون العلاقة المزعومة حميمة بين الكاتب وبين كل المراجع والعلماء والسادة ليس مهمًّا بقدر ما يكون سؤالهم ومذاكرتهم في المسائل والشكوك مهمًّا، والكاتب لم يذكر أنه ناقش العلماء أو ناظرهم في مسائل معينة، بل نراه قد أحاط كلامه بالإبهام والغموض خشية أن يقال له: إن هذه المسائل محلولة وواضحة، ولا غبار عليها ولا شبهة تعتريها.

ثم إن التعبير ب- (المراجع الدينية) غير متعارف صدوره من رجل يدعي الاجتهاد، بل ولا مألوف من طلبة العلم، فإن اللفظ المتعارف إطلاقه هو (المراجع العِظَام)، أو (مراجع التقليد).

وكذا قوله: (العلماء والسادة)، فإن هذا من تعبيرات العوام، لأن العلماء لا يفرقون في التعبير بين العلماء غير السادة، والعلماء من السادة.

قال الكاتب: وكنت أنظر إلى صديقي العلامة السيد موسى الموسوي فأراه مثلًا

ص: 22

طيباً عندما أَعْلَنَ رفضَه للانحراف الذي طرأ على المنهج الشيعي، ومحاولاته الجادة في تصحيح هذا المنهج. ثم صدر كتاب الأخ السيد كذا أحمد الكاتب (تطور الفكر الشيعي)، وبعد أن طالعتُه وجدت أَنّ دَوْرِي قد حان في قول الحق، وتبصير إخواني المخدوعين، فإنّا كعلماء مسؤولون عنهم يوم القيامة، فلا بد لنا من تبصيرهم بالحق وإن كان مُرّاً.

وأقول: عجباً لمن يدَّعي الفقاهة والاجتهاد كيف يتَّخذ قدوته مثل هذين الرجلين اللذين لا يُعرفان بعِلم ولا فضل، ويرى أن تصرّفهما جعله يرى أن دوره قد حان لقول الحق، مع أن الفقيه لا بد أن يكون حُرًّا في تشخيص تكليفه ومعرفة ما يجب عليه وما لا يجب، ولا يجوز له أن يكون مقلِّداً لغيره.

ثم إن ما كتبه السيد موسى الموسوي في كتابه (الشيعة والتصحيح) وما كتبه أحمد الكاتب في كتابه (تطور الفكر الشيعي)، كله أباطيل لا تخفى على صغار طلبة العلم فضلًا عن من يدَّعي الاجتهاد والفقاهة.

ثم إن المؤلِّف وصف أحمد الكاتب بأنه سيِّد، وهذا من سقطاته الكثيرة التي تدل على أنه لا يفرق بين السيد والشيخ.

قال الكاتب: ولعل أُسلوبي يختلف عن أسلوب السيدين الموسوي والكاتب في طرح نتاجاتنا العلمية، وهذا بسبب ما توصل إليه كُلٌّ منا من خلال دراسته التي قام بها.

ولعل السيدين المذكورين في ظرف يختلف عن ظرفي، ذلك أَن كُلًّا منهما قد غادر العراق، واستقر في دولة من دول الغرب، وبدأ العمل من هناك.

وأقول: إن الاختلاف بين كاتب (لله ثم للتاريخ) وبين السيد موسى الموسوي

ص: 23

وأحمد الكاتب واضح جداً، من جهة أن الموسوي وأحمد الكاتب رجلان معروفان بنسبهما وبأنهما كانا من الشيعة، غاية ما في الباب أنهما انحرفا عن الطريق الصحيح، لشبهات عرضت لهما أو لمصالح دنيوية طمِعا فيها.

وأما صاحب كتاب (لله ثم للتاريخ) فهو رجل مجهول الهوية، يُجزم بأنه رجل من أهل السنة، قد انتحل شخصية عالم شيعي مجهول للطعن في مذهب الشيعة وعلمائهم.

وأما كونه في العراق وهما في خارج العراق فهذا ليس فرقاً جوهريًّا بينه وبينهما، فإنه إن رأى أن الحق في مذهب أهل السنة، وأنه الآن قد انقلب إلى مذهبهم، فعليه أن يسفر عن نفسه، ويفصح عن اسمه، ويجهر بتحوّله، وذلك لأن أكثر أئمة مذاهب أهل السنة لا يجوِّزون التقية من المسلمين، ولا يحلِّلون لمؤمن أن يكتم (إيمانه)، ويتظاهر بالتمذهب بمذاهب أهل البدع.

فكيف غاب عن هذا (الفقيه المجتهد) مثل هذا الحكم، فقبع في زاوية التقية في النجف، مع أنه يجب عليه أن يرفضها بخصوصها كما رفض مذهب الشيعة بكل أحكامه.

ثم إنه هنا أيضاً كرَّر خطأه السابق مرتين، بتشريك أحمد الكاتب للموسوي في السيادة، وسيكرِّره أيضاً في كلامه الآتي.

قال الكاتب: أما أنا فما زلت داخل العراق وفي النجف بالذات، والإمكانات المتوافرة لدي لا ترقى إلى إمكانات السيدين المذكورين، لأني وبعد تفكير طويل في البقاء أو المغادرة، قررت البقاء والعمل هنا صابرا مُحْتَسبًا ذلك عند الله تعالى.

وأقول: إن الكاتب لو كان في النجف لعرفه أهل النجف ولعرفه علماء الحوزة

ص: 24

العلمية، ولا سيما أنه- كما يزعم- رجل كبير في السن، حاصل على إجازة الاجتهاد قبل أكثر من خمسين سنة (1) 7، مع أنه ليس في النجف عالم من أهل كربلاء بهذه الصفة، ولو كان لَبَان، ولا سيما أنه وصف نفسه بالتفوّق العلمي، والمتفوق بحكم العادة لا يخفى على أحد.

ثم ما هو السر في بقاء الكاتب في النجف الأشرف متكتماً متظاهراً بالتشيع وهو على خلاف ذلك؟

مع أنه يجب على أي رجل في مثل سنِّه وعلمه أن يترك النجف، ويغادر إلى أي بلاد سُنية يتمكن فيها من أن ينفع فيها أبناء مذهبه الجديد، ويبصِّرهم بأباطيل مذهب الشيعة، ويوقفهم على ما فيه من زيف وضلال.

وأما بقاؤه في النجف فسيجعله مشلولًا غير قادر على الإفصاح عن حاله من جهة، ولا يتمكن من أداء رسالته من جهة أخرى.

فلا أدري بعد هذا كله ما هو وجه اختياره البقاء في النجف الأشرف والعمل فيها صابراً محتسباً على حسب زعمه؟؟

قال الكاتب: وأنا على يقين أن هناك الكثير من السادة ممن يشعرون بتأنيب الضمير لسكوتهم ورضاهم مما يرونه ويشاهدونه، وبما يقرأونه في أمهات المصادر المتوافرة عندهم، فأسأل الله تعالى أن يجعل كتابي حافزاً لهم في مراجعة النفس، وترك سبيل الباطل، وسلوك سبيل الحق، فإن العمر قصير، والحجة قائمة عليهم، فلم يبق لهم بعد ذلك من عذر.


1- وذلك لأن تاريخ رحيل الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء كان سنة 1373 ه-، وهي خمسون سنة كاملة. وأما إذا قيل: (إن كاشف الغطاء قد أجاز الكاتب قبل وفاته ببضع سنين)، فيكون قد مضى على الإجازة المزعومة أكثر من خمسين سنة.

ص: 25

وأقول: إن كلاماً لا يستند إلى أي دليل صحيح لا قيمة له، ويقين الكاتب بشي ء لا يكون له وزن علمي يعتد به، وذلك لأنا بالمقابل على يقين من أنه لا يوجد ولا واحد من علماء الشيعة يشك في صحة مذهبه ويتردَّد في بطلان مذاهب أهل السنة، بل نحن على يقين من أن أكثر علماء أهل السنة يشكّون في صحة مذاهبهم، لما يرون فيه من التناقضات والأباطيل الواضحة، ولكن يمنعهم من الجهر بشكّهم وبطلان مذاهبهم خشيتهم من العامَّة، أو حذرهم من سلاطين الجور، أو خوفهم على وظائفهم التي يتعيشون بها.

وأما دعاء المؤلف بأن يجعل الله كتابه حافزاً (للسادة) لمراجعة النفس وترك سبيل الباطل وسلوك سبيل الحق، فهو دعاء لا يستجاب، لأن هذا الكتاب- كما سيتضح للقارئ- مشتمل على الأكاذيب من غلافه إلى آخره، فكيف يمكن أن يكون سبيلًا لسلوك الحق وهو بهذه الحال؟؟

قال الكاتب: وهناك بعض السادة ممن تربطني بهم علاقات استجابوا لدعوتي لهم والحمد لله، فقد اطلعوا على هذه الحقائق التي توصلتُ إليها، وبدأوا هم أيضاً بدعوة الآخرين، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياهم لتبصير الناس بالحقيقة، وتحذيرهم من مَغَبَّةِ الانجراف في الباطل، إِنه أكرم مسؤول.

وأقول: إن الحق أحق أن يُتَّبع، واستجابة جاهل لمثله لا يقلب الحق باطلًا، ولا يصيِّر الباطل حقًّا، فإنه لا يُعرف الحق بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق.

هذا مع أن الكاتب قد زعم- وهو غير ثقة في نقله كما سيتضح- أن بعض السادة رأى رأيه واقتنع بفكرته ببطلان مذهب الشيعة، وهذه مجرد دعوى لم يظهر لها أي أثر، فلم يظهر ذلك من شخص معروف من علماء الشيعة أو فضلائهم، ولم يظهر من أحد منهم أنه أبْدَى قناعاته ببطلان مذهب الشيعة.

ص: 26

بخلاف الذين تشيعوا من أهل السنة، فإنهم رجال معروفون بأسمائهم وببلدانهم، وقد صدرت من أقلامهم الكثير من الكتب المطبوعة التي تداولها الناس واطلع عليها المؤالف والمخالف.

قال الكاتب: وإني لأعلم أن كتابي هذا سيلقى الرفض والتكذيب والاتهامات الباطلة، وهذا لا يضرني فإني قد وضعت هذا كله في حسابي، وسيتهمونني بالعمالة لإسرائيل، أو أمريكا، أو يتهمونني بأني بعت ديني وضميري بِعَرَضٍ من الدنيا، وهذا ليس ببعيد ولا بغريب فقد اتهموا صديقنا العلامة السيد موسى الموسوي بمثل هذا، حتى قال السيد كذا علي الغروي: إن ملك السعودية فهد بن عبد العزيز قد أغرى الدكتور الموسوي بامرأة جميلة من آل سعود، وبتحسين وَضْعِهِ المادي، فوضع له مبلغاً محترماً في أحد البنوك الأمريكية لقاء انخراطه في مذهب الوهابيين!!

وأقول: من الطبيعي أن يلقى كتاب (لله ثم للتاريخ) الرفض والإنكار الشديدين، لأنّا نظرنا في محتوياته فوجدناه مملوءاً بالأكاذيب الشنيعة والاتهامات القبيحة التي سنكشفها للقارئ العزيز في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.

وأما الاتّهام فليس دأبنا كما سيتضح جليًّا في كل ردودنا على مضامين هذا الكتاب.

وأما العمالة لإسرائيل أو غيرها فنحن لا ندين الله بشي ء لا نعرفه، والله أعلم بحقائق الأمور، وهو سبحانه الذي يتولى السرائر.

وأما ما نقله عن الميرزا علي الغروي قدَّس الله نفسه فهو كذب محض، لأنه كلام لا يصدر من مثله قطعاً، ونحن قد تشرَّفنا مدة بالحضور في المجالس الخاصة للميرزا الغروي فلم نسمعه ينطق بهذا أو أمثاله قط، ولم ينقل شخص معروف عنه مثل هذه المقولة، بل هي مقولة غير معقولة في حد ذاتها.

ص: 27

هذا مع أن كتاب السيِّد موسى الموسوي قد رُدَّ عليه، وأُبطلت جميع حُجَجه ودعاويه، ولا يحتاج إبطال كلام الموسوي لمثل هذا الكلام الذي هو في نفسه يحتاج إلى إثبات.

قال الكاتب: فإذا كان هذا نصيب الدكتور الموسوي من الكذب والافتراء والإشاعات الرخيصة، فما هو نصيبي أنا وماذا سَيُشيعُونَ عني؟! ولعلَّهم يبحثون عني ليقتلوني كما قتلوا قبلي ممن كذا صدع بالحق، فقد قتلوا نجل مولانا الراحل آية الله العظمى الإمام السيد أبي الحسن الأصفهاني أكبر أئمة الشيعة من بعد عصر الغيبة الكبرى وإلى اليوم، وسيد علماء الشيعة بلا منازع عندما أراد تصحيح منهج الشيعة، ونبذ الخرافات التي دخلت عليه، فلم يَرُقْ لهم ذلك، فذبحوا نجله كما يُذْبَحُ الكبش ليصدوا هذا الإمام عن منهجه في تصحيح الانحراف الشيعي، كما قتلوا قبله السيد كذا أحمد الكسروي عندما أعلن براءته من هذا الانحراف، وأراد أن يصحح المنهج الشيعي، فَقَطَّعوه إِرَباً إِرَباً.

وأقول: إن الشيعة منذ أقدم العصور واجهوا خصومهم بالحجة، ففنَّدوا مذاهبهم، وأبطلوا آراءهم، وزيَّفوا معتقداتهم.

وأما أساليب الاتهامات والتصفيات الجسدية فهي أساليب غيرهم الذين تنقصهم الحجج والأدلة على صحة مذاهبهم.

وأما ما زعمه من أن السيِّد أبا الحسن الأصفهاني قدَّس الله نفسه قد أراد أن يُصحِّح منهج الشيعة فعمد الشيعة إلى قتل ابنه، فهو غير صحيح جملة وتفصيلًا، فإن السيد أبا الحسن الأصفهاني كان مرجع الشيعة الذي كانوا يرجعون إليه في تقليدهم، ولم يبدر منه أية بادرة تخالف المنهج المعروف عند الشيعة، فأين هذا التصحيح المزعوم؟

ص: 28

وإذا كان السيِّد أبو الحسن الأصفهاني- بزعم الكاتب- أكبر أئمة الشيعة وأراد تصحيح المسار الشيعي فلمَ ترك حركته الإصلاحية بعد قتل ابنه، مع أن مثل هذا الأمر لا ينبغي أن يثني أي مصلح عن غاياته وأهدافه.

ثم إن عبارات الكاتب في وصف السيِّد أبي الحسن الأصفهاني بأنه (أكبر أئمة الشيعة من بعد عصر الغيبة الكبرى وإلى اليوم، وسيِّد علماء الشيعة بلا منازع) هي منقولة بالمعنى من كلام السيِّد موسى الموسوي في مقدمة كتابه (الشيعة والتصحيح)، حيث قال: وبعد أن وُلِدتُ ونشأت وترعرت في بيت الزعامة الكبرى للطائفة الشيعية، ودرست وتأدبت على يد أكبر زعيم وقائد ديني عرفه تاريخ التشيع منذ الغيبة الكبرى، وحتى اليوم وهو جدّنا الإمام الأكبر السيد أبو الحسن الموسوي ...

وقال: وقد زاد إيماني بها عندما بدأت أعرف أن السبب في قتل والدي بين صلاة المغرب والعشاء في الحضرة العلوية في النجف الأشرف وعلى يد مجرم في لبوس رجل الدين الذي ذبحه كالكبش وهو يصلي في المحراب، إنماكانت خطة استعمارية لكي تثني السيد أبو الحسن عن خطواته الإصلاحية (1) 8.

فالعجب مِن هذا المدَّعي للاجتهاد كيف صار مقلِّداً للسيّد موسى الموسوي من غير تحقيق في نقولاته، مع أن كل علماء الشيعة يعرفون أن السيِّد أبا الحسن الأصفهاني قدَّس الله نفسه الشريفة لم يكن (أكبر أئمة الشيعة من بعد عصر الغيبة الكبرى وإلى اليوم، وسيّد علماء الشيعة بلا منازع)، وإنما كان أحد مراجع التقليد الذين انتهت إليهم الزعامة الدينية الشيعية، ولم يكن قدس سره معروفاً بتحقيقاته ومصنَّفاته، فلم يصدر من قلمه الشريف إلا رسالته العملية (وسيلة النجاة) فقط، فكيف صار أكبر أئمة الشيعة والحالة هذه؟!

وعُذْر موسى الموسوي أنه يُطري جدَّه قدس سره، فإن كل فتاة بأبيها معجبة، ولكن ما هو عذر كاتب كتاب (لله ثم للتاريخ) في أن يصف السيِّد الأصفهاني بهذه


1- الشيعة والتصحيح، ص 5.

ص: 29

الأوصاف غير الصحيحة؟!

ثم إن وصف السيّد أبي الحسن الأصفهاني قدس سره بأنه أكبر (أئمة) الشيعة، لا يصدر ممن مارس العلم وجالس العلماء، وعاش في الحوزة العلمية حتى وصل إلى مرتبة الفقاهة والاجتهاد بزعمه، فإن هذا التعبير ما هو إلا من تعابير أهل السنة الذين يصفون علماء الشيعة بأنهم أئمة لهم.

وأما أحمد كسروي فلم يَدَّعِ له أحدٌ أية حركة إصلاحية، لأنه كان متحرِّراً من كل قيود الدين، ولم يكن ضد مذهب الشيعة وعقائده فحسب، بل كان ضد الدين ومبادئه، وقد حمل على التشيع بما هو دين لا بما هو مذهب مخصوص، ولهذا لم يظهر منه أي ميل لمذهب أهل السنة أو غيره من المذاهب الإسلامية، بل قام بتأييد الحزب الشيوعي في إيران متمثِّلًا بمناصرة رئيسه إحسان طبري (1) 9.

قال الكاتب: وهناك الكثيرون ممن انتهوا إلى مثل هذه النهاية جَرَّاءَ رفضهم تلك العقائد الباطلة التي دخلت إلى التشيع، فليس بغريب إذا ما أرادوا لي مثل هذا المصير!!

وأقول: العجيب أن هذا الرجل يتحدث وكأنه يحدث قُرّاءه عن أحداث وقعت في كوكب آخر لا يعرفونه، وإلا فمَن هم هؤلاء الكثيرون الذين انتهوا إلى القتل بأيدي الشيعة جراء رفضهم لعقائدهم؟؟

أما ابن السيد أبي الحسن فقد قتله رجل معتوه، لا يَعرف شيئاً عن أمثال هذه الأمور التي يدَّعيها السيِّد موسى الموسوي وقلَّده فيها الكاتب من غير تحقيق، وكان سبب القتل ماليًّا لا أكثر.


1- راجع كتاب (إيران در دو سده وابستن)، ص 263.

ص: 30

وموسى الموسوي أراد أن يصوِّر لقارئه أن والده قُتل بمؤامرة استعمارية كانت تستهدف حركة التصحيح، وهذه دعوى غير صحيحة لم تصدر من أحد قبل موسى الموسوي الذي لم يستند في ادِّعائها إلى دليل صحيح.

وأما أحمد كسروي فقيل في سبب قتله: إنه قام بإحراق كتاب (مفاتيح الجنان) مع كل ما فيه من سور قرآنية وأحاديث نبوية، مما أثار عليه سخطاً شعبياً عاماً اجتاح كل إيران، حيث بدأ بأذربيجان، وانتقل إلى طهران ثم سائر المدن الإيرانية، وصدرت برقيات معترضة تدين هذا العمل، وقد حمل عليه بعض الإيرانيين وضربوه حتى الموت.

ومن الواضح أن الكاتب قد جعل اتهام الشيعة بتصفية مخالفيهم مبرِّراً لإخفائه اسمه وهويته، وإلا فإنه يعلم أن الشيعة لم يقصدوا السيد موسى الموسوي ولا أحمد الكاتب بسوء مع أنهما قد سبقاه في هذا المضمار كما صرَّح الكاتب بذلك فيما مر.

قال الكاتب: إن هذا كله لا يهمني، وحسبي أن أقول الحق، وأنصح إخواني وأُذَكِّرُهُم وأُلْفتُ نظرهم إلى الحقيقة، ولو كنت أريد شيئاً من متاع الحياة الدنيا فإن المتعة والخمسَ كفيلان بتحقيق ذلك لي، كما يفعل الآخرون حتى صاروا هم أثرياء البلد، وبعضهم يركب أفضل أنواع السيارات بأحدث موديلاتها، ولكني- والحمد لله- أعرضت عن هذا كله منذ أن عرفت الحقيقة، وأنا الآن أكسب رزقي ورزق عائلتي بالأعمال التجارية الشريفة.

وأقول: من كان بهذا العمر المديد كيف يكون له مأرب في المتعة؟؟

فإن الكاتب لو أجيز بالاجتهاد- على حسب زعمه- وهو في عمر الأربعين سنة كما هو حال نوابغ الحوزة، فإن عمره الآن يبلغ حوالي تسعين سنة إذا كان كاشف

ص: 31

الغطاء قد أجازه بالاجتهاد في سنة وفاته، وهي سنة 1373 ه-.

ثم إن كل علماء النجف الأشرف في هذه السنين لا يركبون سيارات بأحدث موديلاتها، لأن النجف لا يوجد فيها سيارات حديثة، وهذا يعرفه كل من عاش في النجف واطَّلع على أحوال العلماء فيها.

وبحكم معرفتي الوثيقة بكل مراجع النجف الأشرف في هذا العصر فلا يوجد مرجع واحد يملك سيارة عادية فضلًا عن كونها من أحدث الموديلات.

وأما الخمس فهو أمانة يقبضها المرجع ويصرفها في مصارفها الصحيحة، ولا يحق له ولا لغيره أن يتملكها لنفسه، ولو كان مراجع التقليد يتملكون الخمس لكانوا من أثرى الناس، بينما هم ليسوا كذلك، وأحوالهم شاهدة عليهم.

والطريف ما زعمه من مسألة تكسُّبه بالتجارة لقوته وقوت عائلته، مع أنه ذكر أنه ذهب للحوزة العلمية وهو شاب يافع، فمن أين حصل على الأموال التي صار يتَّجر بها؟!

فإن كانت تجارته من أموال الخمس فلا يصح التكسب بها عنده، وإن كانت من غيرها فمن أين اكتسبها، وما مصدرها؟

ثم ما بال من عاش على التقوّت من الخمس حتى صار طاعناً في السن، قد تغافل الآن عن كل ما صرفه من أموال الخمس؟

ألا يعلم أنه يضمن كل ما صرفه على نفسه طيلة حياته، فيجب عليه أن يُرجِع تلك الأموال إلى أصحابها إن كان يعرفهم أو يتصدق بها عنهم؟؟

قال الكاتب: لقد تناولت في هذا الكتاب موضوعات محددة ليقف إخواني كلهم على الحقيقة حتى لا تبقى هناك غشاوة على بصر أي فرد كان منهم. وفي النية

ص: 32

تأليف كتب أُخرى تتعلق بموضوعات غير هذه ليكون المسلمون جميعاً على بينة فلا يبقى عُذرٌ لغَافِلٍ، أو حُجَّةٌ لجاهل.

وأقول: سيقف القرَّاء بعون الله تعالى على الحقيقة كاملة، وسيتضح لهم أن كاتب هذا الكتاب ما هو إلا مفترٍ منتحل لشخصية رجل يزعم أنه واحد من فقهاء الشيعة، وسيتضح للقراء بطلان كل الطعون التي تمسَّك بها هذا الرجل في نقد مذهب الشيعة الإمامية.

ومنه يُعلم أن القوم لما عجزوا عن نقد مذهب الشيعة الإمامية بالدليل والحجة الصحيحة عمدوا إلى محاربة المذهب بأمثال هذه الأساليب الرخيصة، فساروا على نهج أسلافهم الذين افتروا على الشيعة كل ما استطاعوا، فركبوا في ذلك كل صعب وذلول، ولكن الله ردَّ كيدهم في نحورهم، وأبطل مزاعمهم، وكشف زيفهم، وفضح أكاذيبهم.

إلا أن كاتب هذا الكتاب سلك مسلكاً في الكذب لم يسبقه إليه غيره، فزعم أنه واحد من فقهاء الشيعة، فافترى على علماء الشيعة ما شاء من الحكايات السخيفة التي يزعم أنه شاهد عَيَانٍ فيها، ولكنه وقع من حيث لا يشعر، فانكشف أمره، وظهر كذبه، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

قال الكاتب: وأنا على يقين أن كتابي هذا سيلقى القبول عند طلاب الحق وهم كثيرون والحمد لله، وأَمَّا مَن فَضَّلَ البقاء في الضلالة- لئلا يخسر مركزه فتضيع منه المتعة والخُمس من (أولئك) الذين لبسوا العمائم، وركبوا عجلات (المرسيدس) و (السوبر) فهؤلاء ليس لنا معهم كلام، والله حسيبهم على ما اقترفوا ويقترفون في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم.

الحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هداناالله.

ص: 33

وأقول: إن طلاب الحق بحمد الله وفضله كثيرون، والحق واضح المعالم بيِّن السُّبل، لا يحتاج إلى كذب وافتراء وانتحال شخصيات وإلصاق التهم بالأبرياء، وافتعال الحوادث والوقائع التي لم تقع.

وسيعلم طلاب الحق إن شاء الله تعالى من خلال البحوث الآتية أن الكاتب قد مال عن الحق وجانب الصواب، وسلك سبيل الزيغ والضلال، وأنه لم يصل إلى مبتغاه، ولم يستطع أن يحقِّق غايته، بل افتضح أمره، وانكشف حاله، وصار كتابه هذا عاراً عليه في الدنيا، ووبالًا عليه في الآخرة.

وكل منصف يقرأ ما سوَّده هذا الكاتب في كتابه يحصل له القطع واليقين بضلال الكاتب وببطلان مسلكه، لأنه لو كان محقاً لما احتاج إلى افتعال الأكاذيب الرخيصة، ولكان الاحتجاج بالحق كافياً لدحض كل زيغ وضلال.

كما أن كل منصف يزداد بصيرة بأن مذهب الشيعة الإمامية هو المذهب الحق الذي من تمسَّك به نجا، ومن تخلَّف عنه هوى، ولو لم يكن كذلك لوجد أعداؤه من الحق ما يكفي لإبطاله، ولما احتاجوا لإبطاله بافتعال الأكاذيب والافتراءات التي بان زيفها وانكشف بطلانها.

ص: 34

عبد الله بن سبأ

قال الكاتب: إنَّ الشائع عندنا- معاشر الشيعة- أنّ عبد الله بن سبأ شخصية وهمية لا حقيقة لها، اخترعها أهل السنة من أجل الطعن بالشيعة ومعتقداتهم، فنسبوا إليه تأسيس التشيع ليصدوا الناس عنهم، وعن مذهب أهل البيت.

وأقول: إن العجب ممن يدَّعي الفقاهة والاجتهاد كيف تخفى عليه مسألة بسيطة من أبسط المسائل الرجالية، وهي أن المشهور الذي كاد أن يكون إجماعاً بين علماء وفقهاء الإمامية قديماً وحديثاً أن عبد الله بن سبأ شخصية كان لها وجود، وقد نصَّ العلماء على ذلك في كتبهم الرجالية المعروفة.

فقد قال الشيخ الطوسي في رجاله: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو (1) 10.

وقال العلَّامة الحلي في كتابه خلاصة الأقوال: عبد الله بن سبأ غالٍ ملعون، حرَّقه أمير المؤمنين عليه السلام بالنار، كان يزعم أن عليًّا عليه السلام إله، وأنه نبي (2) 11.


1- رجال الشيخ الطوسي، ص 80.
2- رجال العلامة الحلي، ص 237.

ص: 35

وهذه العبارة هي عين عبارة السيد أحمد بن طاووس في كتابه (حل الإشكال في معرفة الرجال) المنقولة في التحرير الطاووسي (1) 12.

وقال أبو عمرو الكشي: كان يدَّعي النبوة وأن عليًّا عليه السلام هو الله، فاستتابه عليه السلام ثلاثة أيام فلم يرجع، فأحرقه في النار في جملة سبعين رجلًا ادَّعوا فيه ذلك (2) 13.

وقال الشيخ يوسف البحراني: وابن سبا هذا هو الذي كان يزعم أن أمير المؤمنين عليه السلام إله، فاستتابه أمير المؤمنين ثلاثة أيام، فلم يتب فأحرقه (3) 14.

إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخفى على صغار طلبة العلم فضلًا عمَّن يدعي الاجتهاد والاطلاع على ما في كتب الرجال من أحوال الرواة.

قال الكاتب: وسألت السيد كذا محمد الحسين آل كاشف الغطاء عن ابن سبأ فقال: إن ابن سبأ خُرافة وضعها الأمويون والعباسيون حقداً منهم على آل البيت الأطهار، فينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه بهذه الشخصية.

وأقول: ما نقله عن الشيخ كاشف الغطاء غير معروف عنه، فلا يُعتد بهذا النقل ولا يعوَّل عليه.

ومع التسليم بأن كاشف الغطاء رحمه الله قد قال ذلك فعلًا، فلعل مراده هو أنه ينكر صحة الأساطير التي حيكت حول عبد الله بن سبأ، ويرى أنها من دسائس الأمويين والعباسيين، لا أنه ينكر أصل وجوده الذي صرَّح به في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) كما سيأتي ذلك في كلامه الآتي.


1- التحرير الطاووسي، ص 173.
2- عن رجال ابن داود، ص 30 من القسم الثاني، وتنقيح المقال 2/ 184، وكلمة الكشي هذه غير مذكورة في (اختيار معرفة الرجال) المعروف برجال الكشي.
3- الحدائق الناضرة 8/ 511.

ص: 36

قال الكاتب: ولكني وجدت في كتابه المعروف (أصل الشيعة وأُصولها) ص 40- 41 ما يدل على وجود هذه الشخصية وثبوتها حيث قال: (أما عبد الله بن سبأ الذي يلصقونه بالشيعة، أو يلصقون الشيعة به، فهذه كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه ...).

وأقول: إن مشهور علماء الشيعة- ومن جملتهم كاشف الغطاء- قد ذهبوا إلى وجود عبد الله بن سبأ، وأنه ادّعى الألوهية لأمير المؤمنين عليه السلام، فأحرقه بالنار في جملة رجال ادَّعوا ذلك معه، وهذا يعرفه كل من بحث في كتب الرجال وتفحص الأقوال.

وما جاء في كتاب (أصل الشيعة وأصولها) دليل على عدم صحة النقل السابق عن كاشف الغطاء.

ولا ينقضي العجب من هؤلاء الذين يفتعلون الأكاذيب، ثم يجعلونها مادة يُدينون بها الشيعة ويُلزمونهم بها، فإن الكاتب افتعل قضية ونسبها إلى كاشف الغطاء، ثم زعم أن كلامه يتضارب مع ما في كتابه.

قال الكاتب: ولا شك أن هذا تصريح بوجود هذه الشخصية، فلما راجعته في ذلك قال: إنا قلنا هذا تقية، فالكتاب المذكور مقصود به أهل السنة، ولهذا أتبعت قولي المذكور بقولي بعده: (على أنه ليس من البعيد رأي القائل أن عبد الله بن سبأ (وأمثاله) كلها أحاديث خرافة وضعها القَصَّاصُون وأرباب السَّمَر المجوف).

وأقول: لا أدري ما هو موقع التقية هنا؟!

وما ربط التسليم بوجود عبد الله بن سبأ في كتاب (أصل الشيعة وأصولها) بباب التقية؟!

ص: 37

وهل كتب كاشف الغطاء كتابه (أصل الشيعة وأصولها) الذي يعبِّر فيه عن عقائد الشيعة تقية؟! كيف يتم له كتابة كتاب في بيان عقائد الشيعة التي يخالف فيها القوم، ومع ذلك يكتبه تقية؟!

والذي يظهر من هذا الكلام وأشباهه أن الكاتب لا يعرف المعنى الصحيح للتقية، ويظن أن المراد بالتقية هو الكذب المحض غير المبرَّر، وهذا هو الفهم المعروف للتقية عند كثير من أهل السنة. وهذا الفهم الخاطئ لمعنى التقية قد كشف- بحمد الله- كذب كثير من النقولات والحكايات الواردة في الكتاب.

قال الكاتب: وقد أَلَّفَ السيد مرتضى العسكري كتابه (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى) أنكر فيه وجود شخصية ابن سبأ، كما أنكرها أيضاً السيد كذا محمد جواد مغنية في تقديمه لكتاب السيد العسكري المذكور.

وأقول: إن الخلاف في كون عبد الله بن سبأ موجوداً أو خرافة غير خفي على أحد، فقد تضاربت فيه الآراء بين نافٍ ومُثْبِت، وهذا لا يرتبط من قريب ولا من بعيد بالشيعة أو أهل السنة، لأنها مسألة رِجالية أو تاريخية.

ولئن كان السيد مرتضى العسكري والشيخ مغنية وغيرهما قد ذهبا إلى أن ابن سبأ خرافة ولا وجود له، فإن جملة من الباحثين من أهل السنة ذهبوا إلى نفس هذا الرأي.

منهم: الدكتور طه حسين: فإنه قال في كتابه (علي وبنوه): أقل ما يدل عليه إعراض المؤرخين عن السبئية وعن ابن السوداء في حرب صفين أن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلَّفاً منحولًا وقد اختُرع بأخرة، حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يُدخلوا في أصول

ص: 38

هذا المذهب عنصراً يهودياً، إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم (1) 15.

ومنهم: الدكتور عبد العزيز الهلابي: حيث قال في كتابه (عبد الله بن سبأ): الذي نخلص إليه في بحثنا هذا أن ابن سبأ شخصية وهمية لم يكن لها وجود، فإن وجد شخص بهذا الاسم فمن المؤكّد أنه لم يقم بالدور الذي أسنده إليه سيف وأصحاب كتب الفِرَق، لا من الناحية السياسية، ولا من ناحية العقيدة (2) 16.

ومنهم: الكاتب المصري أحمد عباس صالح: فإنه قال في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام): وعبد الله بن سبأ شخص خرافي بغير شك، فأين هو من هذه الأحداث جميعاً؟ وأين هو من الصراعات الناشبة في هذا العالم الكبير المتعدد ... وماذا يستطيع شخص مهما تكن قيمته أن يلعب بمفرده بين هذه التيارات المتطاحنة؟

إلى أن قال: إنما كل ما حيك من قصص حول عبد الله بن سبأ هو من وضع المتأخرين، فلا دليل على وجوده في المراجع القديمة، فضلًا عن سخافة التفكير في احتمال وجوده أصلًا (3) 17.

قال الكاتب: وعبد الله بن سبأ هو أحد الأسباب التي ينقم من أجلها أغلب الشيعة على أهل السنة. ولا شك أن الذين تحدثوا عن ابن سبأ من أهل السنّة لا يُحْصَوْنَ كثرة، ولكن لا يُعَوِّلُ الشيعة عليهم لأجل الخِلافِ معهم.

وأقول: إن عبد الله بن سبأ لا يرتبط بمذهب الشيعة، ولا شأن لهم به، ولا يُعتبر أحد الأسباب التي ينقم من أجلها أغلب الشيعة على أهل السنة كما زعم الكاتب، بل الأمر بالعكس تماماً، فإن أهل السنة نقموا على الشيعة لما غُرس في


1- الفتنة الكبرى 2/ 98.
2- عبد الله بن سبأ: دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة، ص 71.
3- اليمين واليسار في الإسلام، ص 95.

ص: 39

أذهانهم أن أصل مذهبهم يرجع إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، فحنقوا على الشيعة لأنهم اعتنقوا دسيسة يهودية تمَّ تنفيذها على يد حاقد على الإسلام والمسلمين.

وأما ما زعمه من كثرة من تحدَّث عن عبد الله بن سبأ من أهل السنة وأن الشيعة لا يعوِّلون على كلامهم من أجل الخلاف معهم، فهو مردود بأن الكثرة ليست مقياساً للحق، وإنما مقياسه هو صحَّة الدليل وتمامية الحجة، وأكثر من بحث شخصية عبد الله بن سبأ من أهل السنة بحثها بنتائج مسبقة، من أجل إثبات العلاقة الوطيدة بين مذهب الشيعة وبين عبد الله بن سبأ، ولهذا اعتمدوا الأخبار الموضوعة والآثار المكذوبة للوصول إلى هذه الغاية، ولم يسلكوا سبيل التحقيق والبحث العلمي الصحيح.

قال الكاتب: بيد أننا إذا قرأنا كتبنا المعتبرة نجد أن ابن سبأ شخصية حقيقية وإن أنكرها علماؤنا أو بعضهم.

وأقول: لقد قلنا فيما مرَّ: إن المشهور بين علماء الشيعة إن لم يكن إجماعاً أن عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية، ولم ينكر وجودها معروف من الأساطين، وكتبهم خير شاهد على ما نقول.

وعليه فما سيأتي بعد ذلك كله مبتنٍ على وهم فاحش وخطأ فادح، وهو زعم الكاتب أن علماء الشيعة ينكرون وجود شخصية عبد الله بن سبأ، مع أن ذلك غير صحيح كما قلنا.

قال الكاتب: وإليك البيان:

ص: 40

1- عن أبي جعفر رضي الله عنه (أن عبد الله بن سبأ كان يَدَّعِي النبوة، ويزعم أن أمير المؤمنين هو الله- تعالى عن ذلك- فبلغ ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه، فدعاه، وسأله، فَأَقَرَّ بذلك وقال: نعم، أنت هو، وقد كان قد ألقي في روعي أنت الله، وأني نبي، فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: ويلك قد سخر منك الشيطان، فارجع عن هذا ثكِلتْكَ أمك وتُب، فأبى، فحبسه واستتابه ثلاثة أيام، فلم يتب فأحرقه بالنار وقال: (إن الشيطان استهواه، فكان يأتيه، ويُلقِي في روعه ذلك).

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند بمحمد بن عثمان العبدي وبسنان والد عبدالله بن سنان، فإنهما لم يثبت توثيقهما في كتب الرجال.

وعليه، فهذه الرواية ساقطة لا يصح الاحتجاج بها ولا التعويل عليها.

قال الكاتب: وعن أبي عبد الله أنه قال: (لعن الله عبد الله بن سبأ، إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكان والله أمير المؤمنين رضي الله عنه عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم) (معرفة أخبار الرجال) للكشي ص 75- 71، وهناك روايات أخرى.

وأقول: هذه الرواية صحيحة السند، وهي إحدى ثلاث روايات أثبتت أن عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية، وأنه ادَّعى الألوهية لأمير المؤمنين عليه السلام، فأحرقه أمير المؤمنين عليه السلام بالنار.

وليس عندنا من الأخبار والآثار المعتبرة المروية في كتب الفريقين ما يدل على أن عبدالله بن سبأ كان له أي دور في أحداث الفتنة التي تسارعت في زمن عثمان، وأنه ألَّب على عثمان وطاف في البلدان للتحريض عليه، وأنه كان رجلًا أسود يهودياً قد أسلم في زمن عثمان، فصار يقول بالرجعة وبأفضلية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

ص: 41

عليه السلام وأحقيَّته في الخلافة، وأنه وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه دابة الأرض وغير ذلك من المعتقدات التي نسبوها إليه، إلا ما رواه سيف بن عمر التميمي الوضَّاع الكذاب، ونقله عنه الطبري وغيره من المؤرِّخين.

وكل ما أثبتته الأخبار والآثار المعتبرة المروية في كتب أهل السنة هو أن عبدالله بن سبأ كان كذاباً، ولم تُثْبِتْ أكثر من ذلك.

وأما الكتب الشيعية وبالخصوص منها كتاب (اختيار معرفة الرجال) المعروف برجال الكشي فقد أثبتت ما قلناه من أنه كان كذاباً، وأنه ادَّعى الألوهية لأمير المؤمنين عليه السلام، فاستتابه فلم يتب، فأحرقه بالنار في جملة رجال كانوا معه، لا أكثر من هذا ولاأقل.

وكل ما نُسج حول عبد الله بن سبأ من الدور الذي جعل منه رجلًا أسطورياً استطاع أن يعبث بعقول الصحابة، ويؤلِّب الناس على عثمان، وأن يُظهر الغلو في أمير المؤمنين عليه السلام ويبثّه في المسلمين، حتى استطاع في زمن يسير أن يفكِّك الدولة الإسلامية ويزعزع خلافتها، كل هذا قدوضعه سيف بن عمر في كتابه (الفتنة ووقعة الجمل)، ولم يُرْوَ من طريق غيره.

قال الكاتب: 2- وقال المامقاني: (عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغُلُوَّ) وقال: (غالٍ ملعون، حرقه أمير المؤمنين بالنار، وكان يزعم أن عليا إله، وأنه نبيّ) (تنقيح المقال في علم الرجال) 2/ 183، 184.

وأقول: هاتان الكلمتان ليستا للمامقاني قدس سره كما صرَّح بذلك هو نفسه في كتابه المذكور 2/ 183، فإنه نسب الكلمة الأولى للشيخ الطوسي قدس سره، والكلمة الثانية للعلَّامة الحلي رحمه الله في كتاب الخلاصة، وقد تقدم نقل هاتين العبارتين عنهما، وإنما نبَّهنا

ص: 42

على ذلك ليعرف القارئ الكريم أن الكاتب لا يعوَّل على فهمه، أو هو غير أمين في نقله.

وما قاله الشيخ والعلَّامة هو مفاد أحاديث الكشي التي ذكر الكاتب بعضاً منهاآنفاً.

قال الكاتب: 3- وقال النوبختي: (السبئية قالوا بإمامة علي، وأنها فرض من الله عز وجل، وهم أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم، وقال: (إِن عليا رضي الله عنه أمره بذلك) فأخذه عليٌّ فسأله عن قوله هذا، فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت، وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟ فَصَيَّرَه إلى المدائن.

وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام (1) 18 أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم، ووالى علياً، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة، فقال في إسلامه في علي بن أبي طالب بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي رضي الله عنه، وأظهر البراءة من أعدائه ... فمن هنا قال مَن خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية) (فرق الشيعة) ص 32- 44.

وأقول: إن النوبختي رحمه الله نقل كل مضامين كتابه (فرق الشيعة) من مصادر غير معروفة، ولم يذكر لما ذكره فيه أية أسانيد، ومن الواضح أنه رحمه الله نقل كلمته هذه عن كتاب سيف بن عمر التميمي مباشرة، أو عمن نقلها عن سيف أو كتابه، لأن مثل هذه المضامين لم تُرْوَ عن غيره كما مرَّ.


1- ما بين القوسين المعقوفين مذكور في المصدر، وهو كتاب (فرق الشيعة)، ص 22.

ص: 43

وما نقله عن بعض أهل العلم لا يصح التعويل عليه لجهالتهم، ومع أن النوبختي وصفهم بأنهم من أصحاب أمير المؤمنين إلا أن الكاتب خلافاً للأمانة العلمية حذف هذا الوصف، ليُوهم القارئ أنهم من علماء الشيعة المتقدِّمين.

وعليه فما نقله الكاتب عن النوبختي لا يمكن الاحتجاج به في إثبات شي ء، لأن النوبختي لم ينقله من مصدر معروف، ولم تدل عليه شي ء من الأحاديث الصحيحة المروية من طرق الشيعة أو أهل السنة على السواء.

قال الكاتب: 4- وقال سعد بن عبد الله الأشعري القُمِّي في عرض كلامه عن السبئية: (السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، وهو عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني، وساعده على ذلك عبد الله بن خرسي، وابن أسود، وهما من أجل أصحابه، وكان أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم) (المقالات والفرق) ص 20.

وأقول: حال كتاب (المقالات والفرق) لسعد بن عبد الله الأشعري حال كتاب (فرق الشيعة) للنوبختي، فإنهما قدّس سرّهما نقلا كل مضامين كتابيهما من مصادر غير معروفة، ولم يذكرا لكلامهما أسانيد صحيحة.

هذا مضافاً إلى أن ما قاله الأشعري في كتابه (المقالات والفرق) حول عبد الله ابن سبأ باطل في نفسه، لوضوح أن عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني هو زعيم الخوارج الذي قُتل في النهروان، وأما عبد الله بن سبأ فهو من الغلاة في أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أحرقه أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة كما هو الصحيح، أو نفاه إلى المدائن كما دلَّت عليه بعض الأخبار. فهما شخصان مختلفان، لكل منهما صفاته التي يختلف بها عن الآخر، وقد ذكرنا في كتابنا (عبد الله بن سبأ) فصلًا في نفي أن يكون عبد الله بن سبأ هو عبد الله بن وهب الخارجي، فليراجعه من أراد الاطلاع عليه.

ص: 44

قال الكاتب: 5- وقال الصدوق: وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: إذا فرغ أحدكم من الصلاة فليرفع يديه إلى السماء، وينصب في الدعاء). فقال ابن سبأ: يا أمير المؤمنين أليس الله عز وجل بكل مكان؟ فقال: بلى. قال: فلِمَ يرفع يديه إلى السماء؟ قال: أوما تقرأ (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (الذاريات/ 22)، فمن أين يطلب الرزق إلا من موضعه؟ وموضعه- الرزق- ما وعد الله عز وجل السماء) من لا يحضره الفقيه 1/ 229.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند بالحسن بن راشد، فإنه لم يثبت توثيقه في كتب الرجال (1) 19.

على أنه يحتمل أن يكون المراد بابن سبأ في الرواية هو عبد الله بن وهب الراسبي، فإنه سبائي أيضاً، ويُسمَّى ابن سبأ.

ولو سلَّمنا بأن ابن سبأ في الرواية هو عبد الله بن سبأ، فالرواية لا تُثبت أكثر من أنه كان معاصراً لأمير المؤمنين عليه السلام، ونحن لا ننفي وجود شخص عبد الله بن سبأ كما مرَّ.

قال الكاتب: 6- وذكر ابن أبي الحديد أن عبد الله بن سبأ قام إلى علي وهو يخطب فقال له: (أنت أنت، وجعل يكررها، فقال له- علي-: «ويلك، مَن أنا؟»، فقال: أنت الله. فأمر بأخذه وأخْذِ قومٍ كانوا معه على رأيه. شرح نهج البلاغة 5/ 5.

7- وقال السيد نعمة الله الجزائري: (قال عبد الله بن سبأ لعلي عليه السلام: أنت الإله


1- قال البرقي: إنه مولى بني العباس، وكان وزير المهدي وموسى وهارون، بغدادي. وقال ابن الغضائري: ضعيف في روايته. راجع معجم رجال الحديث 4/ 322.

ص: 45

حقاً، فنفاه علي عليه السلام إلى المدائن، وقيل إنه كان يهودياً فأسلم، وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون، وفي موسى مثل ما قال في علي) (الأنوار النعمانية) 2/ 234.

وأقول: ما نقله عن ابن أبي الحديد موافق لبعض الروايات الصحيحة التي رواها الكشي في رجاله، الدالَّة على أن ابن سبأ كان من الغلاة في أمير المؤمنين عليه السلام، وقد ادَّعى فيه الألوهية، فأحرقه عليه السلام بالنار.

وأما ما نقله عن السيّد نعمة الله الجزائري من أنه كان يهودياً فأسلم وأنه كان يقول في اليهودية في يوشع بن نون مثل ما قال في علي عليه السلام بعد إسلامه، وغير ذلك مما نُسج حوله من الأساطير، فكله- كما قلنا- لم يثبت بدليل صحيح، بل كله من مرويات سيف بن عمر الوضاع، والسيد نعمة الله الجزائري قدس سره لم يذكره قولًا له، وإنما ذكره قولًا من الأقوال مشعراً بتضعيفه.

قال الكاتب: فهذه سبعة نصوص من مصادر معتبرة ومتنوعة بعضها في الرجال، وبعضها في الفقه والفرَق، وتركنا النقل عن مصادر كثيرة لئلا نطيل كلها تثبت وجود شخصية اسمها عبد الله بن سبأ، فلا يمكننا بَعْدُ نَفْيُ وجودها خصوصاً وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد أنزل بابن سبأ عقاباً على قوله فيه بأنه إله، وهذا يعني أن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد التقى عبد الله بن سبأ، وكفى بأمير المؤمنين حجة، فلا يمكن بعد ذلك إنكار وجوده.

وأقول: لا يخفى أن (الأنوار النعمانية)، و (فرق الشيعة)، و (المقالات والفرق)، و (تنقيح المقال)، لا تُعَد من مصادر الشيعة المعتبرة مع جلالة كُتَّابها (1) 20، لأنها كتب


1- مصادر الشيعة هي الكتب التي يعوِّل الشيعة على ما فيها من أحاديث، كالكتب الأربعة وكتب الصدوق مثلًا، والتي تعبِّر عن آراء المشهور عندهم في العقائد والأحكام ككتب السيد المرتضى والشيخ المفيد وغيرها، وأما ما عداها فهي كتب تعبر عن آراء كاتبيها، ولا يخفى أن الشيعة أطبقوا على أن كل كتاب يؤخذ منه ويُترك إلا القرآن الكريم، فليس عندهم كتاب كله صحيح غيره.

ص: 46

تعبِّر عن رأي أصحابها، وليس كل ما فيها صحيح، بل فيها ما هو معلوم البطلان.

وأما (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد، فهو ليس من كتب الشيعة، فضلًا عن أن يكون مصدراً معتبراً من مصادرهم، لأن ابن أبي الحديد معتزلي صِرْف، إلا أن بعض أهل السنة توهموا أنه شيعي، حينما رأوا كثرة نقل الشيعة عنه واحتجاجهم بكلامه.

وأما الكتابان الآخران- وهما (رجال الكشي) و (من لا يحضره الفقيه)- فهما وإن كانا من مصادر الشيعة المعتبرة، إلا أن علماء الشيعة لا يرون صحة كل ما فيهما من أحاديث، ولا يتوقفون في الحكم على بعض ما فيهما بالضعف والبطلان.

ومنه يتضح أن الكاتب لم يستطع التمييز بين مصادر الشيعة ومصادر غيرهم، وبين المعتبر منها وغير المعتبر، ويكفي هذا دليلًا على فساد زعمه ببلوغه مرتبة الاجتهاد والفقاهة.

قال الكاتب: نستفيد من النصوص المتقدمة ما يأتي:

1- إثبات وجود شخصية ابن سبأ، ووجود فرقة تناصره، وتنادي بقوله، وهذه الفرقة تُعَرفُ بالسبئية.

وأقول: أما أنه كان له وجود فنعم، وأما وجود فرقة تناصره تُعرف بالسبئية فهو غير صحيح، وإن جاء ذكرها في بعض الأقوال، لأن ورود ذلك في بعض الكتب ناشئ من النقل من غير تحقيق للمسألة.

ويدل على ما قلناه أنك لا تجد لهذه الفرقة أتباعاً معروفين، ولا علماء

ص: 47

مشهورين، ولا أقوالًا مدوَّنة، ولا كتباً منتشرة، وهذا هو المقوِّم لوجود أية فرقة من الفِرَق، أو اعتبار أية طائفة من الطوائف.

قال الكاتب: 2- إن ابن سبأ هذا كان يهودياً فأظهر الإسلام، وهو وإن أظهر الإسلام إلا أن الحقيقة أنه بقي على يهوديته، وأخذ يبث سمومه من خلال ذلك.

وأقول: هذا لم يثبت بدليل صحيح، وهو مروي عن سيف بن عمر التميمي الوضَّاع الذي أطبق الكل على تضعيفه، ولم يُروَ من طريق غيره، وكل ما ذكره الطبري في تاريخه مما يرتبط بمسألة عبد الله بن سبأ إنما هو منقول عنه.

والكاتب قد جعل هذا من النتائج التي استخلصها من كلامه السابق مع أنه لم يذكر دليلًا واحداً في كل ما تقدم من كلامه يدل على يهودية عبدالله بن سبأ، فراجع.

قال الكاتب: 3- أنه هو الذي أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وكان أول من قال بذلك، وهو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين رضي الله عنه، وهو الذي قال بأنه رضي الله عنه وَصيُّ النبي محمد صلى الله عليه وآله، وأنه نقل هذا القول عن اليهودية، وأَنه ما قال هذا إلا محبة لأهل البيت، ودعوة لولايتهم، والتبرؤ من أعدائهم- وهم الصحابة ومن والاهُم بزعمه-.

وأقول: كل ما ذكره الكاتب إنما هو مضامين روايات سيف بن عمر التميمي الوضَّاع، وكلها مضامين لم ترد في شي ء من الأحاديث الصحيحة السُّنّية فضلًا عن الشيعية، فكيف يؤخذ بها ويعوَّل عليها؟!

هذا مع أن الروايات التي نقلها الكاتب فيما مرَّ لا تدل على أمثال هذه النتائج

ص: 48

التي توصَّل إليها كما هو واضح للقارئ الكريم.

وأما ما زعمه الكاتب من أن ابن سبأ هو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام فهو واضح البطلان، وذلك لأن أول من قال بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في أحاديث كثيرة صحيحة:

منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه) (1) 21.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي (2) 22.


1- سنن الترمذي 5/ 633 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. صحيح ابن حبان 15/ 376. سنن ابن ماجة 1/ 45. صحيح سنن ابن ماجة 1/ 26. مسند أحمد 1/ 84، 118، 119، 152، 330، 4/ 281، 368، 370، 372، 5/ 347، 366، 419. المستدرك للحاكم 3/ 109، 110، 116، 134، 371، 533 وصحَّحه. الأحاديث المختارة 2/ 106، 174، 3/ 151، 274. موارد الظمآن 2/ 987. تفسير القرآن العظيم 2/ 14. مجمع الزوائد 7/ 17، 9/ 103- 108، 120، 164. السنن الكبرى للنسائي 5/ 45، 108، 131، 132، 134، 135. المصنف لابن أبي شيبة 6/ 368، 369، 371، 375، 377. المعجم الصغير للطبراني 1/ 65، 71. مسند أبي يعلى 1/ 257، 5/ 460. المعجم الأوسط 1/ 111، 312، 533، 4/ 357. المعجم الكبير 3/ 199، 201، 4/ 17، 173، 5/ 166، 170، 171، 175، 192، 194، 195، 203، 204، 212، 12/ 99، 19/ 291. كتاب السنة 2/ 590- 593. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/ 563، 569، 572، 586، 682. خصائص علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ص 96- 108. وعدَّه من الأحاديث المتواترة: السيوطي في (قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة)، ص 277، والكتاني في (نظم المتناثر)، ص 205، والزبيدي في (لقط اللآلئ المتناثرة)، ص 205، والحافظ شمس الدين الجزري في (أسنى المطالب)، ص 5، ومحمد ناصر الدين الألباني في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) 4/ 343. وصحّحه جمع آخرون من أعلام أهل السنة.
2- مسند أحمد بن حنبل 1/ 330- 331. المستدرك 3/ 133 قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة. ووافقه الذهبي. مجمع الزوائد 9/ 119 قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير أبي بلج الفزاري وهو ثقة وفيه لين. المعجم الكبير للطبراني 12/ 99. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/ 684. كتاب السنة 2/ 551، وقال الألباني في تعليقته: إسناده حسن، ورجاله ثقات رجال الشيخين، غير أبي بلج، واسمه يحيى بن سليم بن بلج، قال الحافظ: صدوق ربما أخطأ. وفي ص 589: إلا أنك لست بنبي، وأنت خليفتي في كل مؤمن بعدي. وعند البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة 9/ 259 ح 8944 ومختصر إتحاف السادة المهرة 9/ 180 ح 7443، عن أبي يعلى، أنه قال: إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفة من بعدي. كتاب السنة 2/ 551، وقال الألباني في تعليقته: إسناده حسن، ورجاله ثقات رجال الشيخين، غير أبي بلج، واسمه يحيى بن سليم بن بلج، قال الحافظ: صدوق ربما أخطأ.

ص: 49

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيِّد ولد آدم، وعليٌّ سيِّد العرب (1) 23.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن عليًّا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي (2) 24.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أُوحي إليَّ في عليٍّ ثلاث: أنه سيِّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغُر المُحجَّلين (3) 25.


1- المستدرك 3/ 124، 138 وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. المعجم الأوسط للطبراني 1/ 401. المعجم الكبير 3/ 90. حلية الأولياء 1/ 63، 5/ 38. تاريخ بغداد 11/ 89. ترجمة الإمام أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر 2/ 261. در السحابة، ص 214. مجمع الزوائد 9/ 116، 131. كشف الخفا 1/ 462.
2- سنن الترمذي 5/ 632 قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. مسند أحمد 4/ 438، 356. المستدرك 3/ 111 قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وسكت عنه الذهبي. موارد الظمآن 2/ 986. السنن الكبرى للنسائي 5/ 45، 133. المصنف لابن أبي شيبة 6/ 375. كتاب السنة 2/ 550 وقال الألباني في تعليقته: إسناده صحيح، رجاله ثقات على شرط مسلم. صحيح ابن حبان 15/ 374. مسند الطيالسي، ص 111، 360. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 1/ 331، 2/ 605، 4/ 438. خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي، ص 109. حلية الأولياء 6/ 294. مسند أبي يعلى 1/ 185. المعجم الكبير للطبراني 12/ 99، 18/ 129.
3- المستدرك 3/ 137 قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ترجمة الإمام أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر 2/ 256- 258. حلية الأولياء 1/ 63. در السحابة، ص 229.

ص: 50

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا أميرُ البرَرَة، وقاتل الفَجَرة، منصورٌ مَنْ نَصَرَه، مخذول من خذله) يمد بها صوته (1) 26.

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، فضلًا عن الأحاديث الأخرى التي تدل على المطلوب بأتم دلالة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (2) 27.


1- المستدرك 3/ 129، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. تاريخ بغداد 3/ 377، 4/ 219.
2- صحيح البخاري 3/ 1142، 1331. صحيح مسلم 4/ 1870، 1871. صحيح ابن حبان 15/ 15، 369، 371. سنن الترمذي 5/ 638، 640، سنن ابن ماجة 1/ 42، 45. مسند أحمد 1/ 170، 173- 175، 177، 179، 182، 184، 185، 3/ 32، 338، 6/ 369، 438. المستدرك 2/ 337، 3/ 109. الأحاديث المختارة 3/ 151، 207. موارد الظمآن 2/ 985. المصنف لابن أبي شيبة 6/ 369، 7/ 425. المصنف لعبد الرزاق 5/ 279. مسند الحميدي 1/ 38. مسند الطيالسي، ص 28، 29. مجمع الزوائد 9/ 109- 111. الطبقات الكبرى 3/ 23- 24. السنن الكبرى للبيهقي 9/ 40. السنن الكبرى للنسائي 5/ 44، 107، 108، 113، 119- 125، 144، 240. المعجم الصغير للطبراني 2/ 22، 54. المعجم الأوسط 1/ 400، 2/ 120، 3/ 179، 4/ 97، 239، 245، 5/ 356، 6/ 33. المعجم الكبير 1/ 146، 148، 2/ 247، 4/ 17، 184، 5/ 203، 221، 11/ 74، 75، 12/ 18، 98، 19/ 291، 24/ 146، 147. مسند أبي يعلى 1/ 180، 298، 301، 306، 313، 321، 6/ 72. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/ 566- 569، 592، 598، 610، 611، 633، 638، 642، 643، 663، 666، 670، 675، 684. كتاب السنة لابن أبي عاصم 2/ 551، 586- 589. حلية الأولياء 4/ 345، 7/ 194- 197، 8/ 307. تاريخ بغداد 1/ 325، 3/ 289، 406، 4/ 70، 204، 382، 7/ 452، 8/ 52، 268، 9/ 364، 10/ 43، 11/ 384، 431، 12/ 323. خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي، ص 37، 38، 49، 67- 79، 140. وعدَّه من الأحاديث المتواترة: السيوطي في (قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة)، ص 281، والكتاني في (نظم المتناثر)، ص 206، والزبيدي في (لقط اللآلئ المتناثرة)، ص 31، ونقل في الحاشية التواتر عن الشيخ جسوس في شرح الرسالة.

ص: 51

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من الباب (1) 28.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: علي منِّي وأنا من علي، ولا يُؤَدِّي عنِّي إلا أنا أو علي (2) 29.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن أطاع عليًّا فقد أطاعني، ومَن عصى عليًّا فقد عصاني (3) 30.

ولهذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يرى أنه هو الأولى بالخلافة من كل من تقدَّمه من الخلفاء، ولأجل ذلك امتنع عن بيعة أبي بكر مطلقاً، أو ستة أشهر على رواية البخاري ومسلم وغيرهما (4) 31، ولولا ذلك لما كان وجه للتخلف عن بيعة أبي بكر كل


1- سنن الترمذي 5/ 637. المستدرك 3/ 126، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. مجمع الزوائد 9/ 114. المعجم الكبير للطبراني 11/ 65. حلية الأولياء 1/ 64. تاريخ بغداد 7/ 172، 11/ 48- 50، 203. فضائل الصحابة 2/ 634. الجامع الصغير للسيوطي 1/ 415. قال السيوطي في تاريخ الخلفاء، ص 159: هذا حديث حسن على الصواب، لا صحيح كما قال الحاكم، ولا موضوع كما قاله جماعة منهم ابن الجوزي والنووي، وقد بيَّنتُ حاله في التعقيبات على الموضوعات. وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية، ص 269: وأما حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) فهو حديث حسن، بل قال الحاكم: صحيح.
2- سنن الترمذي 5/ 636 قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. سنن ابن ماجة 1/ 44. صحيح سنن ابن ماجة 1/ 26، وفيه حسَّنه الألباني. مسند أحمد 4/ 164، 165. السنن الكبرى للنسائي 5/ 45، 128. مصنف ابن أبي شيبة 6/ 368. المعجم الكبير للطبراني 4/ 16، 11/ 400. كتاب السنة لابن أبي عاصم 2/ 584. خصائص أمير المؤمنين للنسائي، ص 91. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/ 594، 599. مشكاة المصابيح 3/ 1720.
3- المستدرك 3/ 121 قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
4- أخرج البخاري في صحيحه 3/ 1286، ومسلم 3/ 1380- واللفظ له-، وغيرهما عن عائشة في حديث طويل قالت: إن فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال)، وإني والله لا أغيِّر شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملنَّ فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، قال: فهجرَتْه فلم تكلِّمْه حتى توفيتْ، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلَّى عليها عليٌّ، وكان لعلي من الناس وجهةٌ حياةَ فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر: (أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك) كراهية محضر عمر بن الخطاب ... الحديث.

ص: 52

هذه المدة.

والعجيب زعمه أن عبد الله بن سبأ هو أول من قال: (إن علي بن أبي طالب عليه السلام وَصِيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أن القائلين بها من الصحابة كثير.

فمن هؤلاء الفضل بن العباس، ومن شعره:

ألاإنَّ خيرَالناسِ بعدَ محمدٍوصيُّ النبيِّ المصطفى عندَ ذي الذّكْرِ

وأولُ مَن صلَّى وصنوُ نبيِّه وأولُ من أردى الغواةَ لدى بدْرِ (1) 32.

وقال عبد الرحمن بن جعيل:

لعمري لقد بايعتمُ ذا حفيظةٍعلى الدينِ معروفَ العفافِ موفّقا

وصيَّ النبيِّ المصطفى وابنَ عمِّه وأولَ مَن صلّى أخا الدينِ والتُّقى

وقال عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:

ومنّا عليٌّ ذاك صاحبُ خيبرٍوصاحبُ بدرٍ يومَ سالتْ كتائبُه

وصيُّ النبيِّ المصطفى وابنُ عمه فمَن ذا يُدانيه ومَن ذا يقاربُه.


1- تاريخ الطبري 2/ 696.

ص: 53

وقال أبو الهيثم بن التيهان وهو من أهل بدر:

قُلْ للزبيرِ وقُلْ لطلحةَ إننانحن الذين شعارُنا الأنصارُ

نحن الذين رأتْ قريشٌ فعلَنايومَ القليبِ أولئك الكفارُ

كنا شعارَ نبيِّنا ودثارَه يفديه منا الروحُ والأبصارُ

إنّ الوصيَّ إمامُنا ووليُّنابَرِحَ الخفاءُ وباحتِ الأسرارُ.

وقال حجر بن عدي الكندي في يوم الجمل:

يا ربَّنا سلِّمْ لنا عليّاسلِّمْ لنا المبارَكَ المضيا

المؤمنَ الموحِّدَ التقيّالا خطلَ الرأيِ ولا غويّا

بل هادياً موفَّقاً مهديّاواحفظه ربّي واحفظِ النبيّا

فيه فقد كان له وليّاثم ارتضاه بعدَه وصيّا.

وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وهو من أهل بدر:

أعايشُ خلِّي عن عليٍّ وعيبه بما ليس فيه إنما أنتِ والدَهْ

وصيِّ رسولِ اللهِ من دونِ أهلِه وأنتِ على ما كان من ذاك شاهدَهْ

وحسبُكِ منه بعضُ ما تعلمينَه ويكفيكِ لو لم تعلمي غير واحدَهْ

إذا قيل ماذا عبتِ منه رميتِه بخذلِ ابنِ عفان وما تلك آيدَهْ.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي بعد أن ذكر تلك الأشعار وغيرها مما فيه ذكر الوصاية لأمير المؤمنين عليه السلام: ذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل، وأبو مخنف من المحدّثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجالها (1) 33. ومن لطائف ما ذُكر من هذا الشعر ما قاله غلام شاب من بني ضبّة، خرج يوم


1- شرح نهج البلاغة 1/ 48. ط محققة 1/ 147.

ص: 54

الجمل من عسكر عائشة وهو يقول:

نحن بنو ضبَّةَ أعداءُ عليْ ذاك الذي يُعرَف قِدْماً بالوصيْ

وفارسِ الخيلِ على عهدِ النبي ما أنا عن فضلِ عليٍّ بالعَمِي

لكنني أنعى ابنَ عفانَ التقي إن الوليَّ طالبٌ ثارَ الولي.

وقال ابن أبي الحديد بعد أن ساق أشعاراً كثيرة تتضمن لفظ الوصية لأمير المؤمنين عليه السلام: والأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثيرة جداً، ولكنا ذكرنا منها ههنا بعض ما قيل في هذين الحزبين (1) 34، فأما ما عداهما فإنه يجل عن الحصر، ويعظم عن الإحصاء والعد، ولولا خوف الملالة لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقاً كثيرة (2) 35. قال الكاتب: إذن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، ولهذا ورد التنصيص عليها وعلى وجودها في كتبنا ومصادرنا المعتبرة.

وأقول: لقد قلنا فيما مر أننا لا ننكر أن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة، ولكن التهويلات التي نُسجت حوله مثل كونه يهودياً وأنه صار يطوف في البلدان ويؤلِّب المسلمين على عثمان، وأنه أول من جاء بمسألة وصية أمير المؤمنين عليه السلام، وأفضليته، وأنه دابة الأرض، وأنه يرجع إلى الدنيا بعد موته، وغير ذلك من الأمور التي رواها سيف بن عمر التميمي، ولم تُروَ من طريق غيره، فكلها لا تصح، ولا يمكن التصديق بها.

وكل ذلك أوضحناه مفصَّلًا وأثبتناه في كتابنا (عبد الله بن سبأ)، فمن أراده فليرجع إليه.


1- يريد بهما أصحاب علي عليه السلام وأصحاب طلحة والزبير وعائشة.
2- شرح نهج البلاغة 1/ 50. ط محققة 1/ 150.

ص: 55

قال الكاتب: وللاستزادة في معرفة هذه الشخصية، انظر المصادر الآتية: الغارات للثقفي، رجال الطوسي، الرجال للحلي، قاموس الرجال للتستري، دائرة المعارف المسماة بمقتبس الأثر للأعلمي الحائري، الكنى والألقاب لعباس القمي، حل الإشكال لأحمد بن طاووس المتوفي سنة (673)، الرجال لابن داود، التحرير للطاووسي كذا، مجمع الرجال للقهبائي، نقد الرجال للتفرشي، جامع الرواة للمقدسي كذا الأردبيلي، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، مرآة الأنوار لمحمد بن طاهر العاملي، فهذه على سبيل المثال لا الحصر أكثر من عشرين مصدراً من مصادرنا تنص كلها على وجود ابن سبأ، فالعجب كل العجب من فقهائنا كذا أمثال المرتضى العسكري والسيد كذا محمد جواد مغنية، وغيرهما في نفي وجود هذه الشخصية، ولا شك أن قولهم ليس فيه شي ء من الصحة.

وأقول: هذه المصادر كلها تنقل عن رجال الكشي نصًّا أو مضموناً، فهي في واقعها مصدر واحد لا أكثر، إلا أن الكاتب أراد أن يوهم القراء بكثرة المصادر المثبتة لعبد الله بن سبأ.

والطريف في الأمر أن الكاتب نسب كتاب (جامع الرواة) إلى المقدسي الأردبيلي، مع أنه لمحمد بن علي الأردبيلي الحائري، وذكر من ضمن المصادر (التحرير) للطاووسي، ظنًّا منه أن الطاووسي مؤلف الكتاب، مع أن اسم الكتاب هو (التحرير الطاووسي) للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني صاحب كتاب (معالم الدين).

كما أن الكاتب أمر قارئه بالنظر في كتاب (حَلّ الإشكال) للسيد أحمدبن طاووس، مع أن كل أهل العلم يعرفون أن هذا الكتاب لا وجود له في عصرنا ولاأثر.

هذا مع أن كل تلك المصادر ذكرت أن عبد الله بن سبأ قد أحرقه أمير المؤمنين

ص: 56

عليه السلام بالنار في جملة جماعة ادَّعوا فيه الألوهية، وأما الأمور الأخرى المنسوبة لابن سبأ التي أشرنا إليها آنفاً فلم ترد في هذه المصادر العشرين التي ذكرها، ومن أراد التأكد فليراجعها.

وأما ما ذهب إليه السيد مرتضى العسكري والشيخ محمد جواد مغنية من نفي وجود ابن سبأ فهو رأي من الآراء التي وافقهما عليه بعض الباحثين من أهل السنة، وإن كنا لا نوافقهم فيه.

ومنه يتضح أن ما زعمه الكاتب من أن فقهاء الإمامية ينفون شخصية ابن سبأ بعيد عن الصواب.

وعلى كل حال سواء ثبت وجود عبد الله بن سبأ أم لم يثبت فهو أمر لا يرتبط من قريب أو بعيد بمذهب الشيعة الإمامية، فإن الشيعة تبرَّأوا منه ولعنوه، ولا ترى في كتب الشيعة رواية واحدة عنه، ولا تجد لهم قولًا واحداً قد ثبت عنهم أنهم قد أخذوه منه.

وأما ما نسبه سيف بن عمر إلى ابن سبأ من عقائد الشيعة، كالقول بأن أمير المؤمنين عليه السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه دابة الأرض، وأنه يرجع إلى الدنيا ويسوق العرب بعصاه، وما شابه ذلك، فكله منحول عليه، ولم يُروَ إلا من طريق سيف المذكور، والعقائد المذكورة ثبتت بالأدلة المروية في كتب أهل السنة، ومن شاء الاستزادة فليرجع إلى كتابنا المذكور، فإنا استوفينا فيه البحث غاية الاستيفاء.

ص: 57

الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت

قال الكاتب: إن من الشائع عندنا معاشر الشيعة، اختصاصنا بأهل البيت، فالمذهب الشيعي كله قائم على محبة أهل البيت- حسب رأينا- إذ الولاء والبراء مع العامة- وهم أهل السنة- بسبب أهل البيت، والبراءة من الصحابة وفي مقدمتهم الخلفاء الثلاثة وعائشة بنت أبي بكر بسبب الموقف من أهل البيت، والراسخ في عقول الشيعة جميعاً صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، ذكرهم وأنثاهم، أن الصحابة ظلموا أهل البيت، وسفكوا دماءهم، واستباحوا حُرُماتِهم.

وأقول: لا ريب في أن الولاء والبراء من الشعائر الثابتة في الإسلام التي دلَّت عليها آيات القرآن الكريم.

فإن الآيات الشريفة دلَّت على أن الله سبحانه ولي المؤمنين، فقال جل شأنه اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (1) 36.


1- سورة البقرة، الآية 257.

ص: 58

وقال سبحانه إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (1) 37.

وقال عزَّ مِن قائل إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ (2) 38.

ونصَّت آيات أخر على أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فقال سبحانه وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (3) 39.

وجاء النهي في آيات أُخر عن اتخاذ أعداء الدين أولياء، فقال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (4) 40.

وقال عزَّ من قائل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (5) 41.

وقال جلَّ شأنه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (6) 42.

وقال عزَّ اسمه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) 43.

وقال تعالى لَّا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُوْنِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ


1- سورة الأعراف، الآية 196.
2- سورة آل عمران، الآية 68.
3- سورة التوبة، الآية 71.
4- سورة الممتحنة، الآية 1.
5- سورة التوبة، الآية 22.
6- سورة المائدة، الآية 57.
7- سورة المائدة، الآية 51.

ص: 59

المَصِيرُ (1) 44.

وأما آيات البراءة:

فمنها: ما دلَّ على أن الله ورسوله بريئان من المشركين.

قال سبحانه وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِي ءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (2) 45.

ومنها: ما دلَّ على لزوم البراءة من المشركين وما يعبدون من دون الله سبحانه.

قال تعالى قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ (3) 46.

وقال تعالى قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِي ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (4) 47.

غاية ما في الباب أن تشخيص كون هذا الرجل مؤمناً نتولاه، أو كافراً أو منافقاً نتبرّأ منه، لا يخرج عن كونه من المسائل الاجتهادية التي ربما يقع فيها الخطأ والاشتباه، ولا يقدح الخطأ فيها في إيمان المؤمن بقادح.

ولهذا تبرّأ أهل السنة من رجال يرونهم كفاراً أو مرتدين، مثل أبي طالب عليه السلام، ومالك بن نويرة رضوان الله عليه، بينما يراهما الشيعة من أجلاء المسلمين وخيار المؤمنين.

وبالمقابل حكم الشيعة على رجال بأنهم منافقون، بينما يعتقد أهل السنة فيهم أنهم من أجلاء الصحابة ومن أهل الجنة.


1- سورة آل عمران، الآية 28.
2- سورة التوبة، الآية 3.
3- سورة الممتحنة، الآية 4.
4- سورة الأنعام، الآية 19.

ص: 60

فإذا جاز لأهل السنة أن يجتهدوا في هذه المسألة، ويكونوا مأجورين في اجتهادهم فالشيعة كذلك، وإلا فالكل مأزور وآثم، وأما قصر الاجتهاد على أهل السنة وتخصيصهم بالأجر دون غيرهم فهذا لا مستند له ولا حجة تعضده غير اتباع الهوى والعصبية بغير حق.

وأما ما قاله الكاتب من أن مذهب الشيعة قائم على محبة أهل البيت والبراءة من أهل السنة، فهو غير صحيح، لأن الواجب الذي أمرنا الله به هو البراءة من الكفار والمنافقين وأعداء الدين، لا عموم المسلمين الذين يشهدون الشهادتين كأهل السنة وغيرهم.

وأما قوله: (إن الراسخ في عقول الشيعة جميعاً أن الصحابة ظلموا أهل البيت، وسفكوا دماءهم، واستباحوا حُرُماتِهم) فهو غير صحيح أيضاً، لأن الشيعة وإن كانوا لا يرون عدالة كل الصحابة، إلا أنهم يعتقدون بعدالة الصحابة الذين مدحهم الله سبحانه وتعالى في كتابه، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغيرهم ممن نصروا الدين، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، حتى انتشر الإسلام وارتفع لواؤه.

فهؤلاء نحبّهم، ونتولاهم في الدنيا والآخرة، ونترحم عليهم.

وأما المنافقون والطلقاء الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكيدون للإسلام، ويتربصون به الدوائر، فلا نحبّهم ولا قيمة لهم عندنا، ونحن نتبرأ منهم، وإن تسمَّوا بالصحبة وتظاهروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصرة والمحبة.

ومنه يتبين أن ما يُتَّهم به الشيعة من بغض كل الصحابة ولعنهم والبراءة منهم كله غير صحيح، ومن الواضح أن الداعي إليه هو إيجادذريعة لتضليل الشيعة وتكفيرهم واستباحة دمائهم، والله المستعان على ما يصفون.

ص: 61

قال الكاتب: وأن أهل السنة ناصبوا أهل البيت العداء، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد عليه السلام.

وأقول: النواصب هم الذين تجاهروا ببغض أهل البيت عليهم السلام وعداوتهم، دون من أبغضوهم من غير تجاهر ومعاداة.

وهم عندنا كفار أنجاس، لا حرمة لهم ولا كرامة.

لكن الكلام في أن أهل السنة قاطبة هل هم نواصب أم لا؟

والقول المختصر في هذه المسألة هو أن كل من تجاهر بعداوة أهل البيت عليهم السلام بثلبهم وسبِّهم وإيذائهم وحربهم وقتلهم وجحد مناقبهم، وإزاحتهم عن مناصبهم ونحو ذلك، فهو ناصبي كائناً من كان، وسواءاً أكان صحابياً أم كان تابعياً، أم كان من علماء أهل السنة أم من عوامّهم.

وأما الحكم على أهل السنة قاطبة بأنهم نواصب فلا نقول به، والمشهور على خلافه، لأن ما جرى على أهل البيت عليهم السلام من الظلم والجور لم يشترك فيه كل الماضين من أهل السنة والمعاصرين.

بل إنّا نعلم علماً قطعياً أن كثيراً من أهل السنة يحبّون أهل البيت عليهم السلام ويودُّونهم، فكيف يصح الحكم على من يحبّهم بأنه ناصبي؟!

وأما تشخيص نصب شخص منهم أو من غيرهم فيحتاج إلى دراسة أحواله وسبر أقواله الدالة بالقطع واليقين على نصبه، لا بمجرد الأوهام والخيالات والظنون، فمن ثبت نصبه حكمنا به، وإلا فلا يجوز لأحد أن يتَّهم مسلماً بهذا الذنب العظيم من غير بيِّنة شرعية صحيحة.

قال الكاتب: ولكن كتبنا المعتبرة عندنا تبين لنا الحقيقة، إذ تذكر لنا تَذَمُّرَ أهل

ص: 62

البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت، وتذكر لنا مَن الذي سفك دماء أهل البيت عليهم السلام ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم.

وأقول: تذمُّر بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام من بعض شيعتهم أو غيرهم لا يعني نصباً، ولا يدل على عداوة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تذمَّر من بعض صحابته في وقائع مختلفة، وغضب من أفعال بعضهم، ولم يخرجهم ذلك عن دينهم، أو يجعلنا نحكم عليهم بنصب أو نفاق.

وأما من تسبب في مقتل أئمة أهل البيت عليهم السلام واستباحة دمائهم فهم أعداؤهم، لا شيعتهم ومحبّوهم، كما سيتضح ذلك من خلال كلامنا الآتي إن شاء الله تعالى.

قال الكاتب: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (لو مَيَّزْتُ شيعتي لما وجدتهم إلا واصفة، ولو امتحنتُهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تَمَحَّصْتُهم لما خلص من الألف واحد) (الكافي/ الروضة 8/ 338).

وأقول: إن مدعي الاجتهاد والفقاهة ظن أن أبا الحسن عليه السلام الذي رُوي عنه هذا الحديث، هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، مع أنه من البديهيات عند طلبة العلم أن أبا الحسن الوارد في الروايات يُراد به الإمام الكاظم سلام الله عليه، فمرحباً بهذا المجتهد الذي نال درجة الاجتهاد بتفوق!!

هذا مع أن هذا الحديث ضعيف السند جداً، فإن من جملة رواته محمد بن سليمان، وهو محمد بن سليمان البصري الديلمي، وهو ضعيف جداً.

قال المحقق السيد الخوئي في (معجم رجال الحديث): ولا شك في انصراف

ص: 63

محمد بن سليمان إلى البصري الديلمي، فإنه المعروف المشهور (1) 48.

قال النجاشي: محمد بن سليمان بن عبد الله الديلمي، ضعيف جداً، لا يُعوَّل عليه في شي ء (2) 49.

وقال في ترجمة أبيه: سليمان بن عبد الله الديلمي أبو محمد ... وقيل: كان غالياً كذَّاباً، وكذلك ابنه محمد، لا يُعمل بما انفردا به من الرواية (3) 50.

وقال الشيخ في رجاله: له كتاب، يُرمى بالغلو (4) 51.

وقال العلامة في رجاله: ضعيف جداً لا يعوَّل عليه في شي ء (5) 52.

ومن رواة هذا الحديث أيضاً: إبراهيم بن عبد الله الصوفي، وهو رجل مجهول، لم يُترجَم في كتب الرجال.

ومن جملة رواته أيضاً: موسى بن بكر الواسطي، وهو لم يوثَّق في كتب الرجال، بل قال الشيخ الطوسي قدس سره في رجاله: موسى بن بكر الواسطي، أصله كوفي، واقفي (6) 53.

هذا من ناحية السند، وأما من ناحية متن الحديث ومعناه فنقول:

لقد كان كثير من المسلمين في زمان الأئمة عليهم السلام يدَّعون أنهم من شيعة علي عليه السلام خاصة أو أهل البيت عليهم السلام عامَّة (7) 54، ولكنهم لم يكونوا كذلك، لأن شيعتهم هم


1- معجم رجال الحديث 16/ 134.
2- رجال النجاشي 2/ 269.
3- () نفس المصدر 1/ 412.
4- رجال الطوسي، ص 343.
5- رجال العلامة، ص 255.
6- رجال الطوسي، ص 343.
7- لقد استمر هذا الادِّعاء حتى إلى ما بعد عصورهم، فلا تعدم من يزعم أن أهل السنة أو المعتزلة أو غيرهم، هم شيعة علي عليه السلام كما سيأتي نقله عن ابن حجر الهيتمي وابن أبي الحديد المعتزلي.

ص: 64

أتباعهم بالقول والفعل، لا بالادِّعاء فقط.

وعليه فالمراد بالحديث هو أني (لو ميَّزتُ) أي لو أردت أن أَفْصِل (شيعتي) أي الذين يزعمون أنهم من شيعتنا وأتباعنا- وهم ليسوا كذلك- عن غيرهم ممن شايعنا حقيقة، (لما وجدتُهم إلا واصفة) أي لما وجدتُ هؤلاء شيعة لنا، بل وجدتهم واصفين أنفسهم بمشايعتنا ومُدَّعين لها، مع أنهم ليسوا كذلك، لأنهم لا يعتقدون بإمامتنا، ولا يقتدون بنا، لا في أقوالنا ولا في أفعالنا.

(ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين) أي لو أني امتحنتُ هؤلاء الذين يزعمون أنهم لنا شيعة، بأن ذكرتُ لهم مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام وما يجب عليهم من الاعتقاد والعمل، لما وجدتهم إلا مُنكِرين علينا مذهبنا، وتاركين ادّعاء التشيع لنا، وراجعين عن القول بموالاتنا ومحبَّتنا.

(ولو تمحَّصتُهم لما خلص من الألف واحد)، أي لو أني محَّصتُ هؤلاء بالامتحان، وأمرتُهم ببذل المال من أجلنا، والتضحية بالنفس في سبيلنا لما خلص منهم أحد، لأنهم يدَّعون التشيع لنا من دون أن يكونوا لنا شيعة حقيقة.

ويدل على ما قلناه من معنى الحديث قوله عليه السلام بعد ذلك: (ولو غربلتُهم غربلة لم يبقَ منهم إلا ما كان لي، إنهم طالما اتّكوا على الأرائك، فقالوا: «نحن شيعة علي»، إنما شيعة علي من صدق قولَه فعلُه).

أي لو أني اختبرتهم لوجدتهم يتَّبعون غيرنا ويوالون أعداءنا، ولم يبق مِن هؤلاء الذين يدَّعون التشيع لنا إلا شيعتنا الذين يوالوننا ويأخذون بقولنا ويقتدون بنا، وأما المدَّعون الذين يوالون غيرنا فهؤلاء ليسوا من شيعتنا، لأن شيعة علي عليه السلام هم الذين شايعوا عليًّا وأهل بيته عليهم السلام بالقول والفعل، لا بالقول دون الفعل.

ومنه يتضح أن كلام الإمام عليه السلام- لو صحَّ الحديث- ليس ناظراً للشيعة الذين يعتقدون بإمامتهم ويوالونهم حقيقة، وإنما أراد عليه السلام أن ينفي تشيع أهل الخلاف

ص: 65

المدَّعين أنهم من شيعتهم عليهم السلام.

ولو سلمنا أن المراد بالحديث هو ذَمّ الشيعة فإن الذم المتوجِّه إليهم إنما هو بسبب عدم اقتدائهم بأئمة أهل البيت عليهم السلام في سلوكهم وأفعالهم من الاستقامة والصلاح والتقوى والورع، ولا يراد أنهم كانوا منحرفين عن أئمة أهل البيت عليهم السلام قولًا واعتقاداً.

وحال هذا الكلام حال من يقول: إن المسلمين اليوم لا يطبقون الإسلام، ولا يعملون بالقرآن، ولو امتحنتهم لوجدتهم كلهم مسلمين بالاسم فقط، ولما خلص من الألف واحد.

وهو كلام يُراد به ذمّ المسلمين من جهة سلوكهم وأعمالهم، لا من حيث اعتقادهم وأحكامهم، ولا يراد به أنهم مبطلون وغيرهم محق.

قال الكاتب: وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (يا أشباه الرجال ولا رجال، حُلوم الأطفال، وعقول رَبَّات الحِجال، لوددتُ أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة حزتُ والله ندماً، وأعتبت صدماً (1) 55 ... قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجَرَّعْتُموني نغب التهام (2) 56 أنفاسنا، وأفسدتم عَلَيّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع) نهج البلاغة 70، 71.

وقال لهم مُوَبِّخا: مُنِيتُ بكم بثلاث، واثنتين:


1- في نهج البلاغة، ص 58 خطبة رقم 27: (ولم أعرفكم معرفة والله جرَّتْ نَدَماً، وأعقبتْ سدماً). أي أعقبت همًّا مع أسف أو غيظ.
2- في نهج البلاغة: (نُغَب التهمام أنفاسا). أي جُرَع الهَم.

ص: 66

(صُمٌّ ذَوو أسماع، وبُكْمٌ ذَوو كلام، وعُمْي ذوو أبصار، لا أحرارَ وصِدْقَ (1) 57 عند اللقاء، ولا إِخوانَ ثقَةٍ عند البلاء .. قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفَراجَ المرأة عن قُبُلِها) نهج البلاغة ص 142.

قال لهم ذلك بسبب تَخَاذُلِهِم وغَدرِهم بأمير المؤمنين رضي الله عنه، وله فيهم كلام كثير.

وأقول: هذه الكلمات وأمثالها إنما صدرت من أمير المؤمنين عليه السلام في مقام ذم من كان معه في الكوفة، وهم الناس الذين كان يحارب بهم معاوية، وهم أخلاط مختلفة من المسلمين، وأكثرهم من سواد الناس، لا من ذوي السابقة والمكانة في الإسلام.

ولم يكن عليه السلام يخاطب خصوص شيعته وأتباعه، ليتوجَّه الذم إليهم كما أراد الكاتب أن يصوِّر لقارئه أن من كان مع أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه الثلاثة إنما هم شيعته.

ولو سلَّمنا بما قاله الكاتب فإن أهل السنة حينئذ أولى بالذم من الشيعة، وذلك لأنّا إذا فرضنا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يخاطب خصوص شيعته في الكوفة، وكان يذمّهم على تقاعسهم في قتال معاوية، فلنا أن نسأل:

إذا لم يكن أهل السنة مع أمير المؤمنين عليه السلام في قتال معاوية، فأين كانوا حينئذ؟

وحالهم لا يخلو من ثلاثة أمور:

إما أن يكونوا مع أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة، فيكون الذم شاملًا لهم كما شمل غيرهم.

وإما أن يكونوا مع معاوية وفئته الباغية، وحال هؤلاء أسوأ من حال أصحابه الذين ذمَّهم.


1- في نهج البلاغة: لا أحرارَ صِدْقٍ.

ص: 67

وإما أن يكونوا قد اعتزلوا عليًّا عليه السلام ومعاوية، وحينئذ فهم أولى بالذم ممن خاضوا معه حروبه الثلاثة وأبلوا فيها بلاءاً حسناً، إلا أنهم بسبب كثرة الحروب وطول المدة اعتراهم الملالة والسأم والضعف الذي جعل أمير المؤمنين عليه السلام يذمّهم ويوبِّخهم.

والحاصل أن أهل السنة إن كانوا مع أمير المؤمنين عليه السلام أو مع معاوية أو كانوا معتزلين، فالذم شامل لهم على كل حال، وأحسن القوم حالًا هم الذين كانوا معه عليه السلام في حروبه، وإن كانوا مقصِّرين في نصرته.

قال الكاتب: وقال الإمام الحسين رضي الله عنه في دعائه على شيعته: (اللهم إن مَتَّعْتَهم إلى حين فَفَرِّقْهم فِرَقاً، واجعلهم طرائق قِدَداً، ولا تُرْضِ الوُلاةَ عنهم أبداً، فإنهم دَعَوْنا لِينصرونا، ثم عَدَوا علينا فقتلونا) الإرشاد للمفيد ص 241.

وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم، فكان مما قال: (لكنكم استسرعتم (1) 58 إلى بيعتنا كطيرة الدباء، وتهافَتُّم كتَهَافُت الفرش (2) 59، ثم نقضتموها، سِفَهاً (3) 60 وبُعداً وسُحقاً لطواغيت هذه الأمة، وبقية الأحزاب، وَنَبَذةِ الكتاب، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا، وتقتلوننا، ألا لعنة الله على الظالمين) (4) 61 الاحتجاج 2/ 24.

وهذه النصوص تبين لنا مَن هم قَتَلَةُ الحُسين الحقيقيون، إنهم شيعته أهل الكوفة، أيْ: أجدادُنا، فلماذا نُحَمِّلُ أهل السنة مسؤولية مقتل الحسين رضي الله عنه؟!


1- في المصدر: أسرعتم.
2- في المصدر: الفراش.
3- في المصدر: سفهاً وضلة، فبعداً.
4- لقد حرَّف الكاتب النص، فأدرج فيه قوله: (ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا). وقوله: (ألا لعنة الله على الظالمين) جاء في النص بعد عدة أسطر.

ص: 68

وأقول: كلمات الإمام الحسين عليه السلام المذكورة إنما قالها لأولئك القوم المجتمعين على قتله في كربلاء، وهم أخلاط من الناس استنفرهم عبيد الله بن زياد لقتل الحسين عليه السلام، ولم يكونوا من الشيعة، بل ليس فيهم شيعي واحد معروف، فكيف يصح أن يقال: إن قتلة الحسين كانوا من الشيعة؟

ويمكن إيضاح هذه المسألة بعدة أمور:

أولًا: أن القول بأن الشيعة قتلوا الحسين عليه السلام فيه تناقض واضح، وذلك لأن شيعة الرجل هم أنصاره وأتباعه ومحبّوه، وأما قتلته فليسوا كذلك، فكيف تجتمع فيهم المحبة والنصرة له مع حربه وقتله؟!

ولو سلَّمنا جدلًا بأن قتلة الحسين كانوا من الشيعة، فإنهم لما اجتمعوا لقتاله فقد انسلخوا عن تشيعهم، فصاروا من غيرهم، ثم قتلوه.

وثانياً: أن الذين خرجوا لقتال الحسين عليه السلام كانوا من أهل الكوفة، والكوفة في ذلك الوقت لم يكن يسكنها شيعي معروف بتشيعه، فإن معاوية لما ولَّى زياد بن أبيه على الكوفة تعقَّب الشيعة وكان بهم عارفاً، فقتلهم وهدم دورهم وحبسهم حتى لم يبق بالكوفة رجل واحد معروف بأنه من شيعة علي عليه السلام.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث، قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمَّاله بعد عام الجماعة: (أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته). فقامت الخطباء في كل كُورة وعلى كل منبر يلعنون عليًّا ويبرأون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاءاً حينئذ أهل الكوفة لكثرة ما بها من شيعة علي عليه السلام، فاستعمل عليهم زياد بن سُميّة، وضم إليه البصرة، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام علي عليه السلام، فقتلهم تحت كل حَجَر ومَدَر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسَمَل العيون وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم

ص: 69

عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم (1) 62.

إلى أن قال: ثم كتب إلى عمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيِّنة أنه يحب عليًّا وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه.

وشفع ذلك بنسخة أخرى: (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكِّلوا به، واهدموا داره). فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه في العراق، ولا سيما الكوفة، حتى إن الرجل من شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سرَّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنَّ عليه.

إلى أن قال: فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض (2) 63.

وأخرج الطبراني في معجمه الكبير بسنده عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: كان زياد يتتبع شيعة علي رضي الله عنه فيقتلهم، فبلغ ذلك الحسن بن علي رضي الله عنه فقال: اللهم تفرَّد بموته، فإن القتل كفارة (3) 64.

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء:

قال أبو الشعثاء: كان زياد أفتك من الحجاج لمن يخالف هواه.

وقال: قال الحسن البصري: بلغ الحسن بن علي أن زياداً يتتبَّع شيعة علي بالبصرة فيقتلهم، فدعا عليه. وقيل: إنه جمع أهل الكوفة ليعرضهم على البراءة من أبي الحسن، فأصابه حينئذ طاعون في سنة ثلاث وخمسين (4) 65.


1- شرح نهج البلاغة 3/ 15، الطبعة المحققة 11/ 44.
2- شرح نهج البلاغة 11/ 45. وبمعناه في كتاب سليم بن قيس، ص 318. ونقله عنه الطبرسي في الاحتجاج 2/ 17. والمجلسي في بحار الأنوار 44/ 125- 126.
3- المعجم الكبير للطبراني 3/ 68. مجمع الزوائد 6/ 266 قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
4- سير أعلام النبلاء 3/ 496.

ص: 70

وقال ابن الأثير في الكامل: وكان زياد أول من شدد أمر السلطان، وأكّد الملك لمعاوية، وجرَّد سيفه، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس خوفاً شديداً حتى أمن بعضهم بعضاً (1) 66.

وقال ابن حجر في لسان الميزان: وكان زياد قوي المعرفة، جيد السياسة، وافر العقل، وكان من شيعة علي، وولَّاه إمرة القدس، فلما استلحقه معاوية صار أشد الناس على آل علي وشيعته، وهو الذي سعى في قتل حجر بن عدي ومن معه (2) 67.

من كل ذلك يتضح أن الكوفة لم يبق بها شيعي معروف خرج لقتال الحسين عليه السلام، فكيف يصح ادِّعاء الكاتب بأن الشيعة هم الذين قتلوا الحسين عليه السلام؟

ولا يمكن أن يتوهم منصف أن من كتب للحسين عليه السلام هم شيعته، لأن من كتب للحسين لم يكونوا معروفين بتشيع، كشبث بن ربعي، وحجاربن أبجر، وعمرو ابن الحجاج وغيرهم.

ثالثاً: أن الذين قتلوا الحسين عليه السلام رجال معروفون، وليس فيهم شخص واحد معروف بتشيعه لأهل البيت عليهم السلام.

منهم: عمر بن سعد بن أبي وقاص، وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، وحرملة بن كاهل، وغيرهم. وكل هؤلاء لا يُعرفون بتشيع ولا بموالاةٍ لعلي عليه السلام.

رابعاً: أن الحسين عليه السلام قد وصفهم في يوم عاشوراء بأنهم شيعة آل أبي سفيان، فقال عليه السلام: ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون (3) 68.


1- الكامل في التاريخ 3/ 450.
2- لسان الميزان 2/ 495.
3- مقتل الحسين للخوارزمي 2/ 38. بحار الأنوار 45/ 51. اللهوف في قتلى الطفوف، ص 45.

ص: 71

ولم نرَ بعد التتبع في كل كلمات الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء وخُطَبه في القوم واحتجاجاته عليهم أنه وصفهم بأنهم كانوا من شيعته أو من الموالين له ولأبيه.

كما أنّا لم نرَ في كلمات غيره عليه السلام من وصفهم بهذا الوصف. وهذا دليل واضح على أن هؤلاء القوم لم يكونوا من شيعة أهل البيت عليهم السلام، ولم يكونوا من مواليهم.

خامساً: أن القوم كانوا شديدي العداوة للحسين عليه السلام، إذ منعوا عنه الماء وعن أهل بيته، وقتلوه سلام الله عليه وكل أصحابه وأهل بيته، وقطعوا رؤوسهم، وداسوا أجسامهم بخيولهم، وسبوا نساءهم، ونهبوا ما على النساء من حلي ... وغير ذلك.

قال ابن الأثير في الكامل: ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه مَن ينتدب إلى الحسين فيُوطئه فرسه، فانتدب عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي، وهو الذي سلب قميص الحسين، فبرص بعدُ، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره (1) 69.

وقال: وسُلِب الحسين ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وهي من خز، فكان يُسمَّى بعدُ (قيس قطيفة)، وأخذ نعليه الأسود الأودي، وأخذ سيفه رجل من دارم، ومال الناس على الورس والحلل فانتهبوها، ونهبوا ثقله وما على النساء، حتى إن كانت المرأة لتنزع الثوب من ظهرها فيؤخذ منها (2) 70.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية فيما رواه عن أبي مخنف:

وقال: وأخذ سنان وغيره سلبه، وتقاسم الناس ما كان من أمواله وحواصله، وما في خبائه حتى ما على النساء من الثياب الطاهرة.

وقال: وجاء عمر بن سعد فقال: ألا لا يدخلن على هذه النسوة أحد، ولا يقتل


1- الكامل لابن الأثير 4/ 80.
2- المصدر السابق 4/ 79.

ص: 72

هذا الغلام أحد، ومن أخذ من متاعهم شيئاً فليردّه عليهم. قال: فوالله ما ردَّ أحد شيئاً (1) 71.

وكل هذه الأفعال لا يمكن صدورها إلا من حاقد شديد العداوة، فكيف يُتعقَّل صدورها من شيعي مُحِب؟!

سادساً: أن بعض قتَلَة الحسين قالوا له عليه السلام: إنما نقاتلك بغضاً لأبيك (2) 72.

ولا يمكن تصوّر تشيع هؤلاء مع تحقق بغضهم للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام!

وقال بعضهم: يا حسين، يا كذاب ابن الكذاب (3) 73.

وقال آخر: يا حسين أبشر بالنار (4) 74.

وقال ثالث للحسين عليه السلام وأصحابه: إنها- يعني الصلاة- لا تُقْبَل منكم (5) 75.

وقالوا غير هذه من العبارات الدالة على ما في سرائرهم من الحقد والبغض لأمير المؤمنين وللحسين عليهما السلام خاصة ولأهل البيت عليهم السلام عامة.

سابعاً: أن المتأمِّرين وأصحاب القرار لم يكونوا من الشيعة، وهم يزيدبن معاوية، وعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث بن قيس، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وعبدالله بن زهير الأزدي، وعروة بن قيس الأحمسي، وشبث بن ربعي اليربوعي، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، والحصين بن نمير، وحجار بن أبجر.

وكذا كل من باشر قتل الحسين أو قتل واحداً من أهل بيته وأصحابه، كسنان بن


1- البداية والنهاية 8/ 190.
2- ينابيع المودة، ص 346.
3- الكامل لابن الأثير 4/ 67.
4- الكامل لابن الأثير 4/ 66. البداية والنهاية 8/ 183.
5- البداية والنهاية 8/ 185.

ص: 73

أنس النخعي، وحرملة الكاهلي، ومنقذ بن مرة العبدي، وأبي الحتوف الجعفي، ومالك بن نسر الكندي، وعبد الرحمن الجعفي، والقشعم بن نذير الجعفي، وبحر بن كعب بن تيم الله، وزرعة بن شريك التميمي، وصالح بن وهب المري، وخولي بن يزيد الأصبحي، وحصين بن تميم وغيرهم.

بل لا تجد رجلًا شارك في قتل الحسين عليه السلام معروفاً بأنه من الشيعة، فراجع ما حدث في كربلاء يوم عاشوراء ليتبين لك صحة ما قلناه.

ثامناً: أن يزيد بن معاوية حمل (ابن مرجانة) عبيد الله بن زياد مسؤولية قتل الحسين عليه السلام دون غيره من الناس.

فقد أخرج ابن كثير في البداية والنهاية، والذهبي في سير أعلام النبلاء وغيرهما يونس بن حبيب قال: لما قتل عبيدُ الله الحسينَ وأهله بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسُرَّ بقتلهم أولًا، ثم لم يلبث حتى ندم على قتلهم، فكان يقول: وما عليَّ لو احتملتُ الأذى، وأنزلتُ الحسين معي، وحكَّمته فيما يريد، وإن كان عليَّ في ذلك وهن، حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورعاية لحقه، لعن الله ابن مرجانة- يعني عبيد الله- فإنه أحرجه واضطره، وقد كان سأل أن يخلي سبيله أن يرجع من حيث أقبل، أو يأتيني فيضع يده في يدي، أو يلحق بثغر من الثغور، فأبى ذلك عليه وقتله، فأبغضني بقتله المسلمون، وزرع لي في قلوبهم العداوة (1) 76.

قال الكاتب: ولهذا قال السيد محسن الأمين:

بايَعَ الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً، غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم، وقتلوه) أعيان الشيعة/ القسم الأول ص 34.


1- سير أعلام النبلاء 3/ 317. البداية والنهاية 8/ 235. الكامل في التاريخ 4/ 87.

ص: 74

وأقول: لقد قلنا فيما تقدَّم: إن زياد بن أبيه تتبَّع شيعة علي عليه السلام تحت كل حجر ومدر، حتى لم يبقَ بالكوفة رجل معروف بأنه من الشيعة.

فكيف يمكن مع ذلك أن يقال: إن الذين بايعوا الحسين عليه السلام ثم خرجوا لقتاله كانوا من الشيعة؟! (1) 77

ما بيعتهم للإمام الحسين عليه السلام فهي لا تدل على أنهم كانوا من شيعته، لأنه من الواضحات أن مبايعة رجل لا تعني التشيع له، وإلا لزم أن يقال: (إن كل الصحابة والتابعين الذين بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام قد تشيَّعوا له)، وهذا أمر لا يسلِّم به القوم!!

قال الكاتب: وقال الحسن عليه السلام: (أرى والله معاوية خيراً (2) 78 لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وأخذوا مالي، والله لأَنْ آخذ من معاوية ما أحقن به من دمي، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني، فيضيع أهل بيتي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلماً، والله لأَن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير) الاحتجاج 2/ 15.

وأقول: أما من ناحية السند فهذه الرواية ضعيفة، لأنها مرسلة، فلا يصح الاحتجاج بها.

وأما من ناحية الدلالة فغير خفي على من نظر فيها أن الإمام الحسن عليه السلام كان يذم رجالًا مخصوصين، ذكر عليه السلام أوصافهم في الرواية، وأخبر أنهم يزعمون أنهم من شيعته، ولكنهم أرادوا قتله، وانتهبوا ثقله، وأخذوا ماله، ولو قاتل عليه السلام معاوية لأخذوه ولأسلموه إليه.


1- الشيخ علي آل محسن، لله و للحقيقة (رد علي كتاب «لله ثم للتاريخ»)، 1جلد، نشر مشعر - تهران، چاپ: 1، 1424 ه. ق..
2- الصحيح كما في الاحتجاج 2/ 10: خير (بالرفع لا بالنصب).

ص: 75

وكان عليه السلام يشير إلى رجالٍ كانوا يكاتبون معاوية في السِّر ويُظهرون له النصرة في العلانية، مع أنهم لم يكونوا من شيعته ولا من مواليه.

فالذم مخصوص بهؤلاء دون غيرهم من الشيعة الذين كانوا مع الإمام عليه السلام في مشاهده ومواقفه.

وبعبارة أوضح: أن الإمام عليه السلام ذمَّ رجالًا زعموا أنهم شيعة وليسوا كذلك، ولم يذم شيعته وأتباعه.

ولهذا ورد في تتمة الخبر قول زيد بن وهب الجهني- راوي الحديث-: قلت: تترك يا ابن رسول الله شيعتك كالغنم ليس لها راع؟

فقال عليه السلام: (وما أصنع يا أخا جهينة؟ إني والله أعلم بأمر قد أدَّى به إليَّ ثقاته ...).

وأخبر عليه السلام بأن الأمر سيؤول إلى معاوية، وأنه سيُميت الحق والسنن، ويحيي الباطل والبِدَع، ويُذَل في ملكه المؤمن، ويقوى في سلطانه الفاسق، ويجعل المال في أنصاره دُوَلا، ويتَّخذ عباد الله خِوَلا ... الخ.

وهذا يدل بوضوح على أن مورد الذم أفراد مخصوصين لا عموم الشيعة.

هذا مع أن الكاتب قد بتر آخر الكلام الصادر من الإمام الحسن عليه السلام، المشتمل على ذم معاوية، فإنه عليه السلام قال: أوْ يمنّ عليَّ، فيكون سُبَّة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ولمعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحي منا والميت.

فانظر رحمك الله كيف أن الكاتب منعتْه أمويَّته من كتابة هذا الذم لمعاوية، وإن كان نقلًا من كلام الإمام الحسن عليه السلام!! وهذا له نظائر كثيرة في هذا الكتاب، سيأتي التنبيه على بعضها.

ص: 76

قال الكاتب: وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه لأهل الكوفة: (هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخَدَعْتُموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق، ثم قاتلتموه وخَذَلْتموه؟ بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول لكم: قاتلتُم عِتْرَتي، وانتهكتُم حُرْمَتي، فلستم من أمتي) الاحتجاج 2/ 32.

وقال أيضاً عنهم: (إن هؤلاء يبكون علينا، فَمَنْ قَتَلَنا غيرُهم؟) الاحتجاج 2/ 29.

وأقول: هذه الرواية مع ضعف سندها هي واردة في ذم أهل الكوفة في ذلك الوقت، ونحن قد أثبتنا فيما تقدَّم أن أهل الكوفة لم يكونوا يومئذ من الشيعة، وأنه لم يبقَ بالكوفة في زمن معاوية شيعي معروف، وأثبتنا أن كل الذين خرجوا لقتال الحسين عليه السلام ليس فيهم شيعي واحد معروف بتشيعه، فراجع ما قلناه لئلا نعيده مرةثانية.

هذا مع أن الرواية التي نقلها الكاتب واضحة الدلالة على أن الإمام زين العابدين عليه السلام إنما ذمَّ أولئك الذي كاتبوا الحسين عليه السلام ثم حاربوه، مثل شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ومن كان على نهجهما، وهؤلاء وغيرهم لم يكونوا من الشيعة كما مرَّ بيانه.

قال الكاتب: وقال الباقر رضي الله عنه: (لو كان الناس كلهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شُكاكاً، والربع الآخر أحمق) رجال الكشي ص 79.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها سلام بن سعيد الجمحي، وهو مجهول الحال، لم يوثَّق في كتب الرجال.

قال المامقاني في تنقيح المقال: سلام بن سعيد الجمحي قد وقع في طريق الكشي في الخبر المتقدم في ترجمة أسلم القواس المكي، روى عنه فيه عاصم بن حميد، وروى

ص: 77

هو عن أسلم مولى محمد بن الحنفية، وهو مهمل في كتب الرجال، لم أقف فيه بمدح ولا قدح (1) 79.

ومن جملة الرواة أسلم مولى محمد بن الحنفية، وهو أيضاً مجهول الحال، لم يوثَّق في كتب الرجال.

وعليه فالرواية لا تصح، ولا يجوز الاحتجاج بها.

وأما بالنظر إلى متنها فنقول: إن كلمة (لو) حرف امتناع لامتناع، وهو يدل على امتناع شي ء لامتناع غيره، ففي الخبر امتنع أن يكون ثلاثة أرباع الشيعة شُكَّاكاً والربع الباقي حمقى، لامتناع كون كل الناس لهم عليهم السلام شيعة.

وبهذا لا يكون في الحديث أي إشكال على الشيعة والحمد لله، ولا يدل الحديث على أي ذم في البين.

ولهذا لا نرى من يقول بتعدد الآلهة، وبفساد السماوات والأرض، مستدلًا بقوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (2) 80، وذلك لأن (لو) حرف امتناع لامتناع، وهو يدل على امتناع فساد السماوات والأرض لامتناع تعدد الآلهة.

ولعل السبب في أن الناس لو كانوا كلهم شيعة لكان ثلاثة أرباعهم شُكَّاكاً وربعهم الباقي حمقى، هو أن الناس لو كانوا كلهم شيعة لكانوا يتلقون عقائدهم تقليداً، ولا يجدون في الناس من يخالفهم ويدعوهم لإثبات ما هم عليه، فيؤول أمرهم في نهاية الأمر إلى عروض الشك عليهم في ما هم فيه من الحق. بخلاف ما إذا تعدَّدت المذاهب، فإن صاحب الحق يتيقن بحقه إذا رأى أن حجته تدحض حجج خصومه ومخالفيه.


1- تنقيح المقال 2/ 43.
2- سورة الأنبياء، الآية 22.

ص: 78

وأما الربع الباقي فهم الذين لا يفقهون ولا يميِّزون، فهؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق.

وهذا الربع موجود في الناس في جميع الأعصار، ولو كان الناس كلهم شيعة لكانوا من جملتهم، وأما مع اختلاف المذاهب فسيكون هذا الربع الأحمق موزَّعاً في الطوائف، وسيكون أكثره في غير الشيعة بحمد الله وفضله، لقلة الشيعة وكثرة غيرهم.

قال الكاتب: وقال الصادق رضي الله عنه: (أما والله لو أجدُ منكم ثلاثة مؤمنين يكتُمون حديثي ما استحللتُ أن أكتمهم حديثاً) أصول الكافي 1/ 496.

وأقول: أخبر الإمام عليه السلام في هذه الرواية أنه لو وجد من المخاطبين ثلاثة مؤمنين يكتمون ما يخبرهم به عليه السلام لما استحَلَّ أن يكتمهم شيئاً، ولأخبرهم بالأسرار الإلهية والمعارف النبوية التي لا يُطْلِع عليها غيرهم.

وغير خفي أن الإمام عليه السلام كان يخاطب أفراداً مخصوصين، ولم يكن عليه السلام يريد بكلامه هذا كل الشيعة، بقرينة أن راوي الحديث- وهو ابن رئاب- قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لأبي بصير ...)، ولو كان الإمام عليه السلام يريد بكلامه كل الشيعة لقال الراوي: قال لنا أبو عبدالله عليه السلام كذا وكذا.

ولو سلَّمنا أن الإمام عليه السلام كان يريد الشيعة قاطبة، فإن أقصى ما يدل عليه الحديث هو أن الإمام عليه السلام لم يجد من الشيعة ثلاثة يكتمون حديثه، ولولا ذلك لما استحل أن يكتمهم بعض علومه.

ولا دلالة في ذلك على عدم إيمان الشيعة، أو على انحرافهم عن خط أهل البيت عليهم السلام كما هو واضح جلي، بل أقصى ما فيه هو ذمّهم بأنهم كانوا لا يكتمون أحاديث الأئمة عليهم السلام، وكانوا يفشونها للمخالفين لا غير، وهو ذم لا يعتبره أهل السنة

ص: 79

ذمًّا، بل يرونه- على العكس من ذلك- مدحاً، لأنهم يرون أن الكتمان كذب ونفاق.

ولا يُتوهَّم أن استحلال الإمام عليه السلام كتمان بعض أحاديثه عن المخاطبين من الشيعة أو عن أكثر الشيعة يعني كتمان باقي العلوم والمعارف عنهم، وذلك لأن الإمامين الصادقين عليهما السلام خصَّا كثيراً من أصحابهما كأبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهم بعلوم جليلة وأسرار كثيرة.

ففي صحيحة جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: بشِّر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمدبن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست (1) 81.

وفي صحيحة سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ما أجد أحداً أحيى ذكرنا وأحاديث أبي عليه السلام إلا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حُفَّاظ الدين، وأمناء أبي عليه السلام على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا، والسابقون إلينا في الآخرة (2) 82.

فإن وصفهم بأنهم (أمناء الله وأمناء الإمام على الحلال والحرام)، وأنهم (حفَّاظ الدين) واضح الدلالة على أن هؤلاء المذكورين كانوا محل ثقة الأئمة الصادقين عليهم السلام ومستودع أسرارهم، ولولا ذلك لما صحَّ وصفهم بأمثال هذه الصفات.

هذا مع دلالة جملة من الأخبار على أن الأئمة عليهم السلام خصُّوا شيعتهم بما شاؤوا من العلوم والمعارف، ولهذا أمر الأئمة عليهم السلام شيعتهم بكتمان أسرارهم، وحذّروهم من إفشائها، ولولا أنهم عليهم السلام أباحوا أسرارهم لشيعتهم لما اتّجه أمرهم لهم بالكتمان، وتحذيرهم إياهم من الإفشاء والإعلان.


1- اختيار معرفة الرجال 2/ 398. وسائل الشيعة 18/ 103.
2- اختيار معرفة الرجال 2/ 348. وسائل الشيعة 18/ 104.

ص: 80

وأحاديث الأمر بالكتمان كثيرة، وإليك بعضاً منها:

فقد روى الكليني رحمه الله في الحديث الصحيح عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: والله إن أحب أصحابي إليَّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا، وإن أسوأهم عندي حالًا وأمقتهم لَلّذي إذا سمع الحديث يُنسب إلينا ويُروى عنا فلم يقبله اشمأزَّ منه وجحده، وكفَّر من دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج، وإلينا أُسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا (1) 83.

وفي صحيحة محمد بن أبي نصر قال: ... قال أبو جعفر عليه السلام: في حكمة آل داود: ينبغي للمسلم أن يكون مالكاً لنفسه، مقبلًا على شأنه، عارفاً بأهل زمانه، فاتقوا الله ولا تذيعوا حديثنا ... (2) 84.

وفي خبر معلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا معلى اكتم أمرنا ولا تذعه، فإنه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزَّه الله به في الدنيا، وجعله نوراً بين عينيه في الآخرة، يقوده إلى الجنة، يا معلى من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذلَّه الله به في الدنيا، ونزع النور من بين عينيه في الآخرة، وجعله ظلمة تقوده إلى النار، يا معلى إن التقية من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، يا معلى إن الله يحب أن يُعبد في السِّر كما يحب أن يُعبد في العلانية، يا معلى إن المذيع لأمرنا كالجاحد له (3) 85.

وفي خبر زيد الشحام، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أُمر الناس بخصلتين فضيَّعوهما، فصاروا منهما على غير شي ء: الصبر والكتمان (4) 86.

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على أن الأئمة عليهم السلام كانوا يبيحون أسرارهم لشيعتهم، ويأمرونهم بكتمانها عن غير أهلها.


1- أصول الكافي 2/ 223. وسائل الشيعة 18/ 61.
2- أصول الكافي 2/ 224. وسائل الشيعة 11/ 492.
3- أصول الكافي 2/ 223. وسائل الشيعة 11/ 485.
4- أصول الكافي 2/ 222. وسائل الشيعة 11/ 484.

ص: 81

والسبب في أمرهم عليهم السلام شيعتهم بكتمان علومهم هو أنهم كانوا يخشون أن تُذاع أخبارهم، فتصل إلى خلفاء الجور فيتضررون عليهم السلام منهم، أو تقع عند ضعاف العقول الذين لا يفهمونها على وجهها، فيصير ذلك سبباً لضلالتهم ومزيد تحيّرهم (1) 87.

ومع تأكد النهي عن الإذاعة إلا أن بعض الشيعة كانوا يفشون كل ما يسمعونه من الأئمة عليهم السلام، إما لعدم معرفتهم بضرورة كتمانه، أو لجهلهم بما يترتب على الإفشاء من الضرر، أو لسهولة استدراجهم والتغرير بهم لإفشائه، أو لضعفهم وتمكّن المخالفين من إجبارهم على البوح به، أو لغير ذلك من الأسباب.

قال الكاتب: وقالت فاطمة الصغرى عليها السلام في خطبة لها في أهل الكوفة: (يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر والمكر والخيلاء، إِنّا أهل البيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءَنا حسنا .. فكفرتمونا، وكذبتمونا، ورأيتم قتالنا حلالًا، وأموالنا نهباً .. كما قتلتم جدَّنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت.

تباً لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فَكأَنْ قد حَلَّ بكم ... ويذيق بعضكم بأس (2) 88 ما تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين. تَبّاً لكم يا أهل الكوفة، كم قرأت (3) 89 لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب، وجدي، وبنيه وعِتْرَتِهِ الطيبين.

فرد عليها أحد أهل الكوفة مُفْتَخِرًا، فقال:


1- مرآة العقول 9/ 286.
2- في الاحتجاج: بأس بعض، ثم تخلدون.
3- في كتاب الاحتجاج 2/ 27: (كم تراث لرسول الله قبلكم، وذحوله لديكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي، وبنيه عِتْرَة النبي الطيبين الأخيار). فانظر ما أصاب الكلمة من التحريف والغلط، مضافاً إلى التحريف المتعمد السابق على هذه العبارة، فراجع.

ص: 82

نحن قتلنا علياً وبني علي بسيوف هندية ورِماح وسبينا نساءَهم سبي ترك.

ونطحناهم فأي نطاح.

الاحتجاج 2/ 28. وقالت زينب بنت أمير المؤمنين صلوات الله عليها لأهل الكوفة تقريعاً لهم: (أما بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل .. إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، هل فيكم إلا الصلف والعُجب والشنف والكذب .. أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلًا، فقد ابليتم بعارها .. وأنىَّ تُرْخِصون (1) 90 قَتْلَ سليلِ خاتمِ النبوة ..) الاحتجاج 2/ 29- 30.

وأقول: لقد ذكرنا أن أهل الكوفة لم يكونوا من الشيعة في ذلك الوقت، وأن قتلة الحسين عليه السلام ليس فيهم شيعي واحد معروف بتشيّعه، فلاحاجة للإعادة، وزينب الكبرى وفاطمة الصغرى سلام الله عليهما إنماذمَّتا أهل الكوفة في ذلك الوقت، ولم تذمَّا الشيعة كما هو واضح من كلامهما.

قال الكاتب: نستفيد من هذه النصوص وقد- أعرضنا عن كثير غيرها- مايأتي:

1- مَلَل وضَجَر أمير المؤمنين وذريته من شيعتهم أهل الكوفة لغدرهم ومكرهم وتخاذلهم.

2- تخاذل أهل الكوفة وغدرهم تَسَبَّبَ في سَفْكِ دماء أهل البيت واستباحة حُرُماتهم.

وأقول: لقد قلنا مكرَّراً: إن أهل الكوفة لم يكونوا في ذلك الوقت شيعة، وإنما


1- في الاحتجاج: (ترحضون) أي تغسلون.

ص: 83

هم شيعة آل أبي سفيان وأعداء أهل البيت عليهم السلام وكل ما صدر منهم يدل على ما قلناه، ولا مدخلية للشيعة في شي ء من ذلك، فراجع ما كتبناه آنفاً.

قال الكاتب: 3- أن أهل البيت عليهم السلام يُحَمِّلُوَن شيعَتَهم مسؤولية مقتلِ الحسين رضي الله عنه ومَن معه، وقد اعترف أحدهم بَردِّهِ على فاطمة الصغرى بأَنهم هم الذين قتلوا علياً وبنيه، وَسَبَوا نِساءَهم كما قدَّمنَالك.

وأقول: لا تجد في أقوال أهل البيت عليه السلام أنهم يحمِّلون شيعتهم مسؤولية قتل الحسين عليه السلام، ولا تجد في أقوال الحسين عليه السلام أنه وصف القوم المجتمعين على قتله في كربلاء بأنهم شيعته، بل وصفهم بأنهم شيعة آل أبي سفيان كما أوضحنا ذلك فيما تقدّم، فراجعه.

وما قاله الكوفي للسيدة فاطمة الصغرى عليها السلام غير مستغرب، لأن الكوفيين هم الذين باشروا قتل الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته، إلا أنهم لم يكونوا من الشيعة كما قلنا، والكاتب لم يأت بدليل واحد يدل على أن أهل الكوفة في ذلك الوقت كانوا شيعة، أو أن الذين باشروا قتل الحسين عليه السلام كانوا يتشيَّعون لأهل البيت عليهم السلام، كما أنه لم يأت بدليل واحد من أقوال أهل البيت عليهم السلام يدل على أنهم حمّلوا شيعتهم مسؤولية قتل الحسين عليه السلام، وكل كلامه لا يعدو كونه دعاوى مجردة لم يقم عليها دليل، بل قام الدليل على خلافها.

قال الكاتب: 4- أن أهل البيت عليهم السلام دعوا إلى كذا شيعتهم ووصفوهم بأنهم طواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب، ونَبَذَةُ الكتاب، ثم زادوا على تلك بقولهم: ألا لعنة الله على الظالمين.

ص: 84

وأقول: الذين وصفهم الحسين عليه السلام بأنهم (طواغيت هذه الأمة، وبقية الأحزاب، ونَبَذَةُ الكتاب) هم المجتمعون على قتله عليه السلام، الذين وصفهم بأنهم شيعة آل أبي سفيان، ولم يكونوا من شيعته ومواليه ومحبّيه، فراجع كلماته عليه السلام لتتحقّق من صحّة ما قلناه.

قال الكاتب: ولهذا جاؤوا إلى أبي عبد الله رضي الله عنه، فقالوا له: إنَّا قد نَبَزْنا كذا نَبْزاً أَثْقَلَ ظُهورَنا، وماتت له أفئدَتُنا، واستحلت له الوُلاةُ دماءَنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة؟ قالوا: نعم، فقال: لا والله ما هم سمّوكم .. ولكن الله سمّاكم به) الكافي 5/ 34.

فبين أبو عبد الله أن الله سماهم (الرافضة) وليس أهل السنة.

وأقول: هذا الحديث ضعيف السند، فإن من جملة رواته سهل بن زياد، وهو ضعيف على المشهور المنصور عند العلماء.

قال النجاشي في رجاله: سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي، كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد فيه، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب، وأخرجه من قم إلى الري، وكان يسكنها ... (1) 91.

وقال الشيخ الطوسي: سهل بن زياد الآدمي الرازي، يكنى أبا سعيد، ضعيف (2) 92.

وقال المحقق الخوئي في معجم رجال الحديث: وقال النجاشي والشيخ في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى: واستثنى ابن الوليد من روايات محمد بن أحمد بن يحيى


1- رجال النجاشي 1/ 417.
2- الفهرست للطوسي، ص 142.

ص: 85

في جملة ما استثناه روايته عن سهل بن زياد الآدمي، وتبعه على ذلك الصدوق وابن نوح، فلم يعتمدوا على رواية محمد بن أحمدبن يحيى عن سهل بن زياد. وقال ابن الغضائري: سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي: كان ضعيفاً جداً، فاسد الرواية والمذهب، وكان أحمدبن محمد بن عيسى الأشعري أخرجه من قم، وأظهر البراءة منه، ونهى الناس عن السماع منه والرواية عنه، ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل (1) 93.

وقال: وكيف كان فسهل بن زياد الآدمي ضعيف جزماً أو أنه لم تثبت وثاقته (2) 94.

ومن جملة رواة هذا الخبر محمد بن سليمان، وهو محمد بن سليمان البصري الديلمي، وقد مرَّ تضعيفه في ص 51، فراجعه.

ومن جملة الرواة سليمان بن عبد الله الديلمي، وهو والد الراوي السابق، وقد مرَّ أيضاً تضعيفه، ونقلنا لك قول النجاشي في ترجمته: كان غالياً كذاباً، وكذلك ابنه محمد، لا يُعمل بما انفردا به من الرواية.

هذا حال الرواية من ناحية سندها، وأما من ناحية متنها فهي واردة في مدح الشيعة لا في ذمِّهم، ولا بأس أن أنقل لك الرواية كاملة كما رواها الكليني قدس سره في كتابه (الكافي)، وإليك نَصّها:

قال الكليني: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه أبو بصير وقد خَفِرَه النفَس (3) 95، فلما أخذ مجلسه قال له أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد ما هذا النفَس العالي؟ فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله، كبر سني، ودق عظمي، واقترب أجلي، مع أنني لستُ أدري


1- معجم رجال الحديث 8/ 339.
2- المصدر السابق 8/ 340.
3- أي أن علو نفسه جعله يستحيي من الإمام عليه السلام وممن معه من أصحابه.

ص: 86

ما أرد عليه من أمر آخرتي. فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد وإنك لتقول هذا؟! قال: جعلت فداك وكيف لا أقول هذا؟! فقال: يا أبا محمد أما علمت أن الله تعالى يكرم الشباب منكم، ويستحيي من الكهول؟ قال: قلت: جعلت فداك فكيف يكرم الشباب ويستحيي من الكهول؟ فقال: يكرم الله الشباب أن يعذِّبهم، ويستحيي من الكهول أن يحاسبهم. قال: قلت: جعلت فداك هذا لنا خاصة أم لأهل التوحيد؟ قال: فقال: لا والله إلا لكم خاصة دون العالم. قال: قلت: جعلت فداك فإنا قد نُبِزْنا نبزاً (1) 96 انكسرت له ظهورنا، وماتت له أفئدتنا، واستحلتْ له الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم. قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة؟ قال: قلت: نعم. قال: لا والله ما هم سمَّوكم، ولكن الله سمَّاكم به، أما علمت يا أبا محمد أن سبعين رجلًا من بني إسرائيل رفضوا فرعون وقومه لما استبان لهم ضلالهم، فلحقوا بموسى عليه السلام لما استبان لهم هداه، فسُمُّوا في عسكر موسى الرافضة، لأنهم رفضوا فرعون، وكانوا أشد أهل ذلك العسكر عبادة، وأشدَّهم حبًّا لموسى وهارون وذريتهما عليهما السلام، فأوحى الله عزَّ وجل إلى موسى عليه السلام: أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة، فإني قد سمَّيتهم به ونحلتهم إياه. فأثبت موسى عليه السلام الاسم لهم، ثم ذخر الله عزَّ وجل لكم هذا الاسم حتى نحلكموه، يا أبا محمد رفضوا الخير ورفضتم الشر، افترق الناس كل فرقة، وتشعبوا كل شعبة، فانشعبتم مع أهل بيت نبيكم صلى الله عليه وآله، وذهبتم حيث ذهبوا، واخترتم من اختار الله لكم، وأردتم من أراد الله، فأبشروا ثم أبشروا، فأنتم والله المرحومون المتقبَّل من محسنكم، والمتجاوَز عن مسيئكم، من لم يأت الله عزَّ وجل بما أنتم عليه يوم القيامة لم يتقبل منه حسنة، ولم يتجاوز له عن سيئة، يا أبا محمد فهل سررتُك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. فقال: يا أبا محمد إن لله عزَّ وجل ملائكة يُسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا كما يُسقِط الريح الورق في أوان سقوطه، وذلك قوله عزَّ وجل الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ...


1- أي لقَّبونا بلقب أوقعنا في الضرر.

ص: 87

وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا (1) 97، استغفارهم والله لكم دون هذا الخلق، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. قال: يا أبا محمد لقد ذكَركم الله في كتابه فقال مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (2) 98، إنكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا، وإنكم لم تبدِّلوا بنا غيرنا، ولو لم تفعلوا لعيَّركم الله كما عيَّرهم حيث يقول جل ذكره وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (3) 99، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. فقال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (4) 100، والله ما أراد بهذا غيركم، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. فقال: يا أبا محمد الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ (5) 101، والله ما أراد بهذا غيركم، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. فقال: يا أبا محمد لقد ذكرنا الله عز وجل وشيعتنا و عدونا في آية من كتابه، فقال عزَّ وجل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (6) 102، فنحن الذين يعلمون، وعدوّنا الذين لا يعلمون، وشيعتنا هم أولو الألباب، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. فقال: يا أبا محمد والله ما استثنى الله عزَّ وجل بأحد من أوصياء الأنبياء ولا أتباعهم ما خلا أمير المؤمنين عليه السلام وشيعته، فقال في كتابه وقوله الحق يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللهُ (7) 103، يعني بذلك عليًّا عليه السلام وشيعته، يا أبا


1- سورة غافر، الآية 7.
2- سورة الأحزاب، الآية 33.
3- سورة الأعراف، الآية 102.
4- سورة الحجر، الآية 47.
5- سورة الزخرف، الآية 67.
6- سورة الزمر، الآية 9.
7- سورة الدخان، الآيتان 41، 42.

ص: 88

محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. قال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله تعالى في كتابه إذ يقول يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (1) 104، والله ما أراد بهذا غيركم، فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، فقال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (2) 105، والله ما أراد بهذا إلا الأئمة عليهم السلام وشيعتهم، فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. فقال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (3) 106، فرسول الله صلى الله عليه وآله في الآية النبيون، ونحن في هذا الموضع الصدِّيقون والشهداء، وأنتم الصالحون، فتسمَّوا بالصلاح كما سمَّاكم الله عزَّ وجل، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. قال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله إذ حكى عن عدوِّكم في النار بقوله وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَا هُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ (4) 107، والله ما عنى ولا أراد بهذا غيركم، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس، وأنتم والله في الجنة تُحبرون، وفي النار تُطلبون. يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. قال: يا أبا محمد ما من آية نزلت تقود إلى الجنة ولا تذكر أهلها بخير إلا وهي فينا وفي شيعتنا، وما من آية نزلت تذكر أهلها بِشَر ولا تسوق إلى النار إلا وهي في عدوِّنا ومَن خالفنا، فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني. فقال: يا أبا محمد ليس على ملة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا، وسائر الناس من ذلك براء، يا أبا محمد فهل سررتك؟ وفي رواية أخرى فقال: حسبي (5) 108.


1- سورة الزمر، الآية 53.
2- سورة الحجر، الآية 42.
3- سورة النساء، الآية 67.
4- سورة ص، الآيتان 62، 63.
5- الكافي 8/ 28.

ص: 89

فهذه الرواية كما يلاحظ القارئ كلها مسوقة لمدح الشيعة، ولبيان أن لفظ (الرافضة) لفظ شريف ادَّخره الله لأهل الحق، وأن المراد به الذين رفضوا الباطل واتّبعوا الحق.

لكن الكاتب بتر النص ليوهم القرَّاء أن الرواية كانت مسوقة لذم الشيعة لا لمدحهم، وهذا دليل واضح يدل على أن الكاتب ليس أميناً في نقله، ولا صادقاً مع نفسه، ولا مصيباً في دعواه.

قال الكاتب: لقد قرأت هذه النصوص مراراً، وفكرتُ فيها كثيراً، ونقلتها في ملف خاص، وسهرت الليالي ذوات العدد أُمْعِنُ النظر فيها- وفي غيرها الذي بلغ أضعاف أضعاف ما نقلته لك- فلم أنتبه لنفسي إلا وأنا أقول بصوت مرتفع: كان الله في عونكم يا أهل البيت على ما لقيتم من شيعتكم.

وأقول: لو كان هذا الكاتب فقيهاً كما يزعم وباحثاً عن الحقيقة كما يدَّعي لاحتج بالأحاديث الصحيحة دون الضعاف والمراسيل، ولنقل لنا رواية واحدة صحيحة على الأقل تدل على مزاعمه، لا أن يتخبَّط في الروايات، فيخبط خبط عشواء، وينقل ما وقع تحت نظره من غير تمييز بين الصحيح والضعيف، والحجة وغير الحجة.

فالعجب من مُدَّعي الفقاهة والاجتهاد كيف لا يميِّز بين الغث والسمين، فيتشبَّث بالأحاديث التي تشكِّكه في معتقده- حسب زعمه- مع أنها روايات ضعاف، ويتعامى عن الأحاديث الصحيحة الكثيرة الواردة في مدح الشيعة وبيان فضلهم، وهي تبلغ العشرات بل المئات، ولا سيما أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام في فضلهم قد رواها الخاص والعام، وهي أشهر من أن تُذكر، وأظهر من أن تُنْكَر، حتى ادَّعى بعض أهل السنة أنهم هم الشيعة الممدوحون في

ص: 90

الروايات، كما ادّعى ذلك بعض المعتزلة.

فقال ابن حجر الهيتمي في كتابه (الصواعق المحرقة): وشيعته يعني عليًّا عليه السلام هم أهل السنّة الذين أحبّوه كما أمر الله ورسوله، وأما غيرهم فأعداؤه في الحقيقة، لأن المحبة الخارجة عن الشرع، الحائدة عن سنن الهدي هي العداوة الكبرى، فلذا كانت سبباً لهلاكهم (1) 109.

وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: لم تكن لفظة (الشيعة) تُعرف في ذلك العصر إلا لمن قال بتفضيله- يعني الإمام عليًّا عليه السلام- ... فكان القائلون بالتفضيل هم المسمَّون الشيعة. وجميع ما ورد من الآثار والأخبار في فضل الشيعة وأنهم موعودون بالجنة فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم، ولذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم وتصانيفهم: نحن الشيعة حقاً. فهذا القول هو أقرب إلى السلامة، وأشبه بالحق من القولين المقتسمين طرفي الإفراط والتفريط (2) 110.

فإذا بلغ فضل الشيعة إلى هذا الحد، فلا أدري ما هو الوجه الذي جعل الكاتب يحتج بالمراسيل التي لا دلالة فيها، ويتعامى عن الأحاديث الصحيحة التي فيها كل الدلالة على فضل الشيعة ونجاتهم؟!

قال الكاتب: نحن نعلم جميعاً ما لاقاه أنبياء الله ورسله عليهم السلام من أذى أقوامهم، وما لاقاه نبينا صلى الله عليه وآله، ولكني عجبت من اثنين من موسى عليه السلام، وصبره على بني إسرائيل، إذ نلاحظ أن القرآن الكريم تحدث عن موسى عليه السلام أكثر من غيره، وبَيَّنَ صبره على كثرة أذى بني إسرائيل ومراوغاتهم وحبائلهم ودسائسهم.

وأعجب من أهل البيت سلام الله عليهم على كثرة ما لقوه من أذى من أهل


1- الصواعق المحرقة، ص 183.
2- شرح نهج البلاغة 4/ 522.

ص: 91

الكوفة وعلى عظيم صبرهم على أهل الكوفة مركز الشيعة، على خيانتهم لهم، وغدرهم بهم، وقتلهم لهم، وسلبهم أموالهم، وصبر أهل البيت على هذا كله، ومع هذا نُلْقِي باللائمة على أهل السنة، ونُحَمِّلُهُمُ المسؤولية!

وأقول: لقد أوضحنا فيما مرَّ أن أهل الكوفة لم يكونوا من الشيعة، وإنما كانوا من متسنِّني ذلك العصر، فلا حاجة للإعادة.

ولئن أطال الكاتب في نقل النصوص الدالة على عظيم جرم أهل الكوفة مع الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، إلا أنه لم يذكر لقارئه شيئاً مما فعله أهل الكوفة بالأئمة الآخرين عليهم السلام أجمعين، فلا ندري ما هو وجه اتهامهم بالإساءة إلى كل أئمة أهل البيت عليهم السلام؟!

والعجيب أن الكاتب نسي أو تناسى ما صنعه الأمويون من العداء لأهل البيت عليهم السلام، مع أن كل ما وقع من أهل الكوفة إنما كان بأمر الأمويين وزبانيتهم.

فهل يرى الكاتب أن من جملة الشيعة: معاوية، وعمرو بن العاص، وزياد بن أبيه، والمغيرة بن شعبة، وبسر بن أرطأة، وطلحة، والزبير ومن كان معهم في حروبهم لعلي عليه السلام؟!

وهل يرى أن من جملة الشيعة: يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وغيرهم ممن شرك معهم في قتل الحسين عليه السلام؟!

إن جرائم بني أمية مع أهل البيت عليهم السلام لا ينكرها إلا من أعمى الله قلبه، وطمس على بصيرته، وخذله ومَسَخَه.

قال القرطبي: وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله صلى الله عليه وآله وسلم وإبرارهم وتوقيرهم ومحبَّتهم وجوب الفرائض المؤكَّدة التي لا عذر لأحد في التخلّف عنها. هذا مع ما عُلِم من خصوصيّتهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبأنهم جزء منه، فإنهم أصوله التي نشأ عنها، وفروعه التي نشَأوا عنه، كما قال: (فاطمة بضعة مني)، ومع

ص: 92

ذلك فقابل بنو أميَّة عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق، فسفكوا من أهل البيت دماءهم، وسبَوا نساءهم، وأسَرُوا صغارهم، وخربوا ديارهم، وجحدوا شرفهم وفضلهم، واستباحوا سبَّهم ولعنهم، فخالفوا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في وصيَّته، وقابلوه بنقيض مقصوده وأمنيَّته، فواخجلهم إذا وقفوا بين يديه، ويا فضيحتهم يوم يُعرضون عليه (1) 111.

ويكفي القارئ أن يجيل بنظره فيما صنعه علماء أهل السنة من إقصاء أهل البيت عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها، وجحد فضائلهم، وإنكار مآثرهم، حتى قدَّموا عليهم الطلقاء والمنافقين وغير ذوي السابقة ممن عُنُوا بجمع فضائلهم وتدوينها وتصحيحها وبثّها والعناية بها، حتى كأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاهم بهم دون أهل بيته، وأمرهم بمودتهم دون الأئمة من عترته.

قال ابن قتيبة الدينوري في كتابه (الاختلاف في اللفظ): وتحامى كثير من المحدِّثين أن يحدّثوا بفضائله كرم الله وجهه، أو يظهروا له ما يجب، وكل تلك الأحاديث لها مخارج صحاح، وجعلوا ابنه الحسين عليه السلام خارجيًّا شاقًّا لعصا المسلمين حلال الدم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج على أمَّتي وهم جميع فاقتلوه كائناً من كان). وسوَّوا بينه في الفضل وبين أهل الشورى، لأن عمر لو تبين له فضله لقدَّمه عليهم، ولم يجعل الأمر شورى بينهم، وأهملوا من ذكره أو روى حديثاً من فضائله، حتى تحامى كثير من المحدِّثين أن يتحدَّثوا بها، وعُنوا بجمع فضائل عمرو بن العاص ومعاوية، كأنهم لا يريدونهما بذلك، وإنما يريدونه. فإن قال قائل: (أخورسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سبطيه الحسن والحسين، وأصحاب الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين) طَرَّتْ حسائك الصدور. وإن ذكر ذاكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه) و (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وأشباه هذا، التمسوا لتلك الأحاديث المخارج لينتقصوه ويبخسوه حقَّه، بغضاً منهم للرافضة وإلزاماً لعلي عليه السلام بسببهم ما لا


1- فيض القدير 3/ 14.

ص: 93

يلزمه (1) 112.

قلت: وهذه الأمور كلها قد أخبر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وقوعها، فقد أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك، ونعيم بن حماد في كتاب (الفتن) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلًا وتشريداً، وإن أشد قومنا لنا بُغضاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (2) 113.

فانظر أيها القارئ العزيز هل ابتلي أهل البيت عليهم السلام بشيعتهم ومحبِّيهم الذين اتبعوهم وفضَّلوهم على غيرهم، أو بأعدائهم ومبغضيهم الذين سفكوا دماءهم وجحدوا مآثرهم؟

هل طعن الشيعة في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته؟

قال الكاتب: وعندما نقرأ في كتبنا المعتبرة نجد فيها عجباً عُجاباً، قد لا يُصَدِّقُ أَحدنا إذا قلنا: إِن كتبنا معاشر الشيعة- تطعنُ بأهل البيت عليهم السلام، وتطعن بالنبي صلى الله عليه وآله، وإليك البيان:

عن أمير المؤمنين رضي الله عنه أن غفيراً- حمارَ رسول الله صلى الله عليه وآله- قال له: بأبي أنت وأُمي- يا رسول الله- إن أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه: (أنه كان مع نوح في السفينة، فقام إليه نوح فمسح على كفله، ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمارٌ يركبه سيدُ النبيين وخاتمهم، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار) أصول الكافي 1/ 237.


1- الاختلاف في اللفظ، ص 41- 42.
2- المستدرك على الصحيحين 4/ 534، طبعة حيدرآباد 4/ 487. الفتن لنعيم بن حماد، ص 83.

ص: 94

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند بالإرسال، مع أن من جملة رواتها سهل بن زياد الآدمي، وقد مرَّ بيان حاله.

قال المجلسي في مرآة العقول: ضعيف وآخره مرسل (1) 114.

والعجيب من مدَّعي الفقاهة والاجتهاد كيف يحتج بالروايات الضعاف التي لا يميِّزها عن غيرها مع أن الإرسال فيها واضح جلي.

قال الكاتب: هذه الرواية تفيدنا بما يأتي:

1- الحمار يتكلم!

2- الحمار يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله فداك أبي وأمي! مع أن المسلمين هم الذين يفدون رسول الله صلوات الله عليه بآبائهم وأمهاتهم لا الحمير.

3- الحمارِ يقول: (حدثني أبي عن جدي إلى جده الرابع) مع أن بين نوح ومحمد أُلُوفاً من السنين، بينما يقول الحمار ان جده الرابع كان مع نوح في السفينة.

وأقول: بعد معرفة ضعف الرواية فالكلام فيها فضول، ولكن يمكن أن نقول مع ذلك: إنه لا مانع من أن يتكلم الحمار بنحو الإعجاز، كما تكلم الهدهد لسليمان، وهذا لا محذور فيه.

وأما قوله: (فداك أبي وأمي)، فهي من العبارات التي يراد بها الإجلال والتكريم، سواء أكانت صادرة من إنسان أم من حيوان بنحو الإعجاز، فلا محذور فيها لو صدرت من بهيمة.

قال ابن الأثير في كتابه النهاية بعد أن ساق قول من خاطب الله سبحانه بعبارة الفداء: إطلاق هذا اللفظ مع الله تعالى محمول على المجاز والاستعارة، لأنه إنما يُفدَّى


1- مرآة العقول 3/ 48.

ص: 95

من المكاره من تلحقه، فيكون المراد بالفداء التعظيم والإكبار، لأن الإنسان لا يُفدِّي إلا من يُعَظِّمه، فيبذل نفسه له (1) 115.

وأما كون الحمار يحدِّث بذلك عن جده الرابع مع أن بين نوح ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم آلاف السنين، فلا محذور فيه إن كان بنحو الإعجاز، فكما طالت أعمار كثير من البشر، فما المانع في إطالة أعمار بعض البهائم؟

ثم إن ما يشبه هذا الحديث موجود في كتب أهل السنة، فقد ذكر ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يلي:

عن أبي منظور قال: لما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال، وأربعة أزواج خفاف، وعشر أواق ذهب وفضة، وحمار أسود ومكتل، قال: فكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الحمار فكلَّمه الحمار، فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حماراً، كلهم لم يركبهم إلا نبي، لم يبق من نسل جدي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنتُ أتوقعك أن تركبني، قد كنت قبلك لرجل يهودي، وكنت أعثر به عمداً، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سمَّيتك يعفور، يا يعفور. قال: لبيك. قال: تشتهي الإناث؟ قال: لا. فكان النبي يركبه لحاجته، فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل، فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بئر كان لأبي الهيثم بن النبهان، فتردَّى فيها فصارت قبره، جزعاً منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) 116.

وهذا الحديث فيه ملاحظات كثيرة لا نرى أهمية في بيانها.

وأحاديث تكلم البهائم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتب أهل السنة كثيرة، واستيفاؤها يستلزم الإطالة، ولكن لا بأس بنقل بعضها للقارئ العزيز:


1- النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 422.
2- البداية والنهاية 6/ 158. شمائل الرسول، ص 354. الخصائص الكبرى 2/ 64.

ص: 96

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في دلائل النبوة، عن مسند أحمد بن حنبل، بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه فقال: ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي؟ فقال: يا عجبي ذئب يكلمني كلام الإنس؟! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله فأخبره، فأمر رسول الله فنودي: (الصلاة جامعة). ثم خرج فقال للراعي: أخبرْهم. فأخبرَهم، فقال رسول الله: صدق والذي نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده (1) 117.

قال ابن كثير في البداية والنهاية: وهذا إسناد على شرط الصحيح وقد صحَّحه البيهقي (2) 118.

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

ومنها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهما بسندهما عن يعلى بن مرة، عن أبيه- في حديث طويل قال-: ثم أتاه صلى الله عليه وآله وسلم بعير فقام بين يديه، فرأى عينيه تدمعان، فبعث إلى أصحابه، فقال: ما لبعيركم هذا يشكوكم؟ فقالوا: كنا نعمل عليه، فلما كبر وذهب عمله تواعدنا لننحره غداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنحروه واجعلوه في الإبل يكون معها (3) 119.


1- صحيح ابن حبان 14/ 418. مسند أحمد 3/ 83. المستدرك 4/ 514، ط حيدرآباد 4/ 468. دلائل النبوة للبيهقي 6/ 41 وصحَّحه. سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 241 ح 122 وقال: هذا سند صحيح، رجاله ثقات.
2- البداية والنهاية 6/ 150. شمائل الرسول، ص 339.
3- المستدرك 2/ 674. دلائل النبوة 6/ 21.

ص: 97

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة.

ومنها: ما أخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى عن الطبراني في الأوسط والصغير، وابن عدي، والحاكم في المعجزات، والبيهقي وأبي نعيم، وابن عساكر عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضبًّا، فقال: واللات والعزى لا آمنتُ بك حتى يؤمن بك هذا الضب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أنا يا ضب؟ فقال الضب بلسان عربي مبين يفهمه القوم جميعاً: لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين. قال: من تعبد؟ فقال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه. قال: فمن أنا؟ قال: أنت رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، قد أفلح مَن صدَّقك، وقد خاب مَن كذّبك. فأسلم الأعرابي (1) 120.

إلى غير ذلك مما يطول ذكره، فراجع ما كتبه البيهقي في دلائل النبوة، وابن كثير في البداية والنهاية وشمائل الرسول، والهيثمي في مجمع الزوائد، والسيوطي في الخصائص الكبرى وغيرهم، فستجد روايات كثيرة في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع البعير، والظبية، والضب، والذئاب، والوحش، والحُمَّرة التي فُجعت ببيضها وفرخيها وغيرها (2) 121.

ونحن لا نستبعد وقوع مثل هذه الأمور على نحو الإعجاز، ولكن نتعجب ممن يتغافل عن كل هذه الأحاديث، ويعيب الشيعة بحديث ضعيف سنداً ومتناً.

والعجيب أن الكاتب ذكر هذا الحديث للتدليل على أن الشيعة يعيبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتبهم، وأقصى ما في الحديث أن الحمار قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فداك أبي وأمي). وقد أوضحنا فيما مرَّ عدم دلالته على ذلك.


1- الخصائص الكبرى 2/ 65. مجمع الزوائد 8/ 293. المعجم الصغير 2/ 64. شمائل الرسول، ص 351.
2- دلائل النبوة 6/ 18- 44. شمائل الرسول، ص 321- 355. البداية والنهاية 6/ 141- 159. مجمع الزوائد 9/ 3- 11، 8/ 291- 294. الخصائص الكبرى 2/ 56- 65.

ص: 98

وتعامى عن الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي امتلأت بها كتب أهل السنة والتي اشتملت على عيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمزه ونسبة ما لا يليق به إليه.

منها: ما دلَّ على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدَّم لغيره طعاماً ذُبح على الأنصاب: فقد أخرج البخاري عن سالم أنه سمع عبد الله يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَح، وذاك قبل أن يُنَزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدَّم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سُفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، وقال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذُكر اسم الله عليه (1) 122.

ومنها: ما دلَّ على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هَمَّ بالصلاة جُنُباً: فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أنه قال: أُقيمت الصلاة وعُدّلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جُنُب، فقال لنا: مكانَكم. ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبَّر فصلّينا معه (2) 123.

وأخرج أبو داود والبيهقي في سننهما، وابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده وغيرهم عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أنْ مكانَكم. ثم جاء ورأسه يقطر، فصلّى بهم (3) 124.


1- صحيح البخاري 7/ 118، ط محققة 4/ 1770. مسند أحمد 2/ 68، 89، 127. السنن الكبرى للبيهقي 9/ 249. السنن الكبرى للنسائي 5/ 55. المعجم الكبير للطبراني 12/ 298. الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 380.
2- صحيح البخاري 1/ 74، 155، ط محققة 1/ 107، 205. صحيح مسلم 1/ 422- 423. صحيح ابن خزيمة 3/ 62. صحيح ابن حبان 6/ 7. سنن أبي داود 1/ 61. صحيح سنن أبي داود 1/ 46. سنن النسائي 2/ 81، 89، ط محققة 2/ 416، 423. صحيح سنن النسائي 1/ 171، 175. السنن الكبرى للبيهقي 2/ 398. مسند أحمد 2/ 518. مسند أبي عوانة 1/ 370، 371.
3- سنن أبي داود 1/ 60. صحيح سنن أبي داود 1/ 45. صحيح ابن حبان 6/ 5. مسند أحمد 5/ 45. السنن الصغرى للبيهقي 1/ 178. السنن الكبرى له 2/ 397.

ص: 99

وفي مسند أحمد بسنده عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استفتح الصلاة فكبَّر، ثم أومأ إليهم أنْ مكانكم. ثم دخل فخرج ورأسه يقطر، فصلى بهم، فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشر، وإني كنت جنباً (1) 125.

ومنها: ما دل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغضب ويسب ويلعن بغير حق: فقد أخرج مسلم وغيره عن عائشة، قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلّماه بشي ء لا أدري ما هو، فأغضباه فلعنهما وسبَّهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله مَن أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان. قال: وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتَهما وسببتَهما. قال: أوَما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بَشَر، فأي المسلمين لعنتُه أو سببتُه فاجعله له زكاة وأجراً (2) 126.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنما أنا بشَر، فأيما رجل من المسلمين سببتُه أو لعنتُه أو جلدتُه فاجعلها له زكاة ورحمة (3) 127.

ومنها: ما دلَّ على أن النبي يبول قائماً: فقد أخرج البخاري ومسلم عن حذيفة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائماً، ثم دعا بماء، فجئته بماء فتوضأ (4) 128.


1- مسند أحمد 5/ 41.
2- صحيح مسلم 3/ 2007. مسند إسحاق بن راهويه 3/ 819. السنن الكبرى للبيهقي 7/ 61. المصنف لابن أبي شيبة 6/ 72.
3- صحيح مسلم 4/ 2007. المصنف لابن أبي شيبة 6/ 72. وراجع صحيح البخاري 8/ 96، ط محققة 4/ 1999. كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة.
4- صحيح البخاري 1/ 64، 3/ 177، ط محققة 1/ 93، 2/ 742. صحيح مسلم 1/ 228. صحيح ابن خزيمة 1/ 35. صحيح ابن حبان 4/ 272- 279. سنن النسائي 1/ 30. صحيح سنن النسائي 1/ 7، 8. سنن ابن ماجة 1/ 111، 112. صحيح سنن ابن ماجة 1/ 56. سنن الترمذي 1/ 19. سنن أبي داود 1/ 6. صحيح سنن أبي داود 1/ 8. سنن الدارمي 1/ 181. مسند أحمد 5/ 382، 394، 402. المصنف لعبد الرزاق 1/ 152. المصنف لابن أبي شيبة 1/ 115. شرح السنة للبغوي 1/ 386 وقال: هذا حديث متفق على صحَّته. مسند الحميدي 1/ 210. السنن الكبرى للبيهقي 1/ 100- 101، 270، 274. المستدرك للحاكم 1/ 182، 185 ط جديدة 1/ 290، 295. السنن الكبرى للنسائي 1/ 67، 68. المعجم الكبير 17/ 179، 20/ 405، 406 وغيرها كثير.

ص: 100

ومنها: ما دلَّ على أن النبي أظهر عورته أمام الناس: فقد أخرج البخاري ومسلم- واللفظ له- وغيرهما عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمُّه: ياابن أخي، لو حللتَ إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة. قال: فحلَّه فجعله على منكبه، فسقط مغشياً عليه، قال: فما رؤي بعد ذلك اليوم عرياناً (1) 129.

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأحمد وابن حبان وأبو عوانة وغيرهم بأسانيدهم عن جابر بن عبد الله أنه قال: لما بُنِيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة. ففعل، فخَرَّ إلى الأرض، وطمحتْ عيناه إلى السماء، ثم قام فقال: إزاري إزاري. فشدَّ عليه إزاره (2) 130.

ومنها: ما دلَّ على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع الغناء: فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة: أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان في أيام منى، تدفِّفان وتضربان والنبي صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد. وتلك الأيام أيام منى (3) 131.


1- صحيح البخاري 5/ 51، ط محققة 1/ 136. صحيح مسلم 1/ 268. مسند أحمد 3/ 310، 333. مسند أبي عوانة 1/ 237. السنن الكبرى للبيهقي 2/ 227. مسند أبي يعلى 2/ 346. حلية الأولياء 3/ 349. شعب الإيمان 6/ 151.
2- صحيح البخاري 3/ 1171. صحيح مسلم 1/ 268. صحيح ابن حبان 4/ 481، 51/ 527. مسند أحمد 3/ 295، 380. مسند أبي عوانة 1/ 237. المصنف لعبد الرزاق 1/ 220.
3- صحيح البخاري 2/ 20، كتاب العيدين، باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وراجع أيضاً باب الحراب والدرق يوم العيد، وباب سنة العيدين لأهل الإسلام، 4/ 225، ط محققة 1/ 295، 285، 286، 3/ 1096. صحيح مسلم 2/ 607- 609. صحيح ابن حبان 13/ 186- 189. سنن النسائي 3/ 216، 218. صحيح سنن النسائي 1/ 349. السنن الكبرى للبيهقي 10/ 218. السنن الكبرى للنسائي 5/ 309.

ص: 101

ومنها: ما دلَّ على أن النبي في رأسه قمل، وتفليه امرأة أجنبية: فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حَرَام بنت مِلحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه ... (1) 132 ومنها: ما دلَّ على أن النبي لا يغسل ثيابه من المني: فقد أخرج مسلم وغيره عن عائشة في المني قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) 133.

وفي رواية أخرى، قالت: لقد رأيتني وإني لأحكُّه من ثوب رسول اللهصلى الله عليه وسلم يابساً بظفري (3) 134.

وفي رواية ثالثة، قالت: ثم كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه (4) 135.

قال ابن حجر في تلخيص الحبير: حديث عائشة: (كنت أفرك المني من ثوب


1- صحيح البخاري 4/ 19، ط محققة 2/ 863، 4/ 2192. صحيح مسلم 3/ 1518. صحيح ابن حبان 15/ 51. الموطأ، ص 237. سنن الترمذي 4/ 178 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. سنن أبي داود 3/ 6. صحيح سنن أبي داود 2/ 472. مسند أبي عوانة 4/ 494. السنن الكبرى للبيهقي 9/ 165. السنن الكبرى للنسائي 3/ 27. سنن النسائي 6/ 347. صحيح سنن النسائي 2/ 667. الأدب المفرد، ص 257. حلية الأولياء 2/ 61.
2- صحيح مسلم 1/ 240. سنن النسائي 1/ 172. صحيح سنن النسائي 1/ 61.
3- صحيح مسلم 1/ 240.
4- صحيح مسلم 1/ 238. سنن أبي داود 1/ 101. صحيح سنن أبي داود 1/ 75. صحيح ابن حبان 4/ 217. السنن الكبرى للبيهقي 2/ 417. مسند الشافعي، ص 345.

ص: 102

رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه) متفق عليه من حديثها، واللفظ لمسلم، ولم يخرج البخاري مقصود الباب، ولأبي داود: (ثم يصلي فيه)، وللترمذي: (ربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعي)، وفي رواية لمسلم: (وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري). قوله: (وروي أنها كانت تفركه وهو في الصلاة) ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي من حديث محارب بن دثار عن عائشة قالت: (ربما حتتُّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي). لفظ الدارقطني ولفظ ابن خزيمة: أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي. ولابن حبان أيضاً من حديث الأسود بن يزيد عن عائشة قالت: لقد رأيتني أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي (1) 136.

ومنها: ما دلَّ على أن النبي كلما أبطأ عنه الوحي عزم على قتل نفسه: فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما، عن عائشة- في حديث طويل- قالت: وفَتَر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلَغَنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذِروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال مثل ذلك (2) 137.

هذا غيض من فيض، ولو أردنا أن نستقصي ما روي في كتب أهل السنة من أمثال هذه الأحاديث الباطلة لطال بنا المقام، ولخرجنا بذلك عن موضوع الكتاب، إلا أن فيما ذكرناه غنىً وكفاية (3) 138.


1- تلخيص الحبير 1/ 32.
2- صحيح البخاري 9/ 38، ط محققة 4/ 2185. صحيح ابن حبان 1/ 216. مسند أحمد 6/ 233. تفسير القرآن العظيم 4/ 527. المصنف لعبد الرزاق 5/ 216.
3- للاطّلاع على المزيد من أمثال هذه الأحاديث راجع كتاب (أبو هريرة) للسيد عبدالحسين شرف الدين رضوان الله عليه، وكتاب (تأملات في الصحيحين) لمحمد صادق نجمي، وكتاب (فاسألوا أهل الذكر) للدكتور محمد التيجاني السماوي.

ص: 103

قال الكاتب: كنا نقرأ أصول الكافي مرة مع بعض طلبة الحوزة في النجف على الإمام الخوئي، فرد الإمام الخوئي قائلًا: انظروا إلى هذه المعجزة، نوح سلام الله عليه يخبر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبنبوَّته قبل ولادته بألوف السنين.

بقيت كلمات الإمام الخوئي تتردَّد في مسمعي مدة وأنا أقول في نفسي: كيف يمكن أن تكون هذه معجزة وفيها حمار يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كذا: بأبي أنت وأمي؟! وكيف يمكن لأمير المؤمنين سلام الله عليه أن ينقل مثل هذه الرواية؟!

لكني سكت كما سكت غيري من السامعين.

وأقول: هذا من أخطائه الفاضحة وسقطاته الواضحة، فإنه ظن أن من ضمن مناهج الحوزة العلمية في النجف دراسة كتب الأحاديث التي من أهمها كتاب (أصول الكافي)، قياساً على ما هو متعارف في المناهج الدينية السُّنّية التي يدرسون فيها كتب الأحاديث المشهورة مثل البخاري ومسلم وغيرهما.

وبهذا يتضح كذب الحادثة من أساسها.

هذا مع أن السيد الخوئي لا يمكن أن يقول ما نسبه إليه اعتماداً على رواية مرسلة لا سند لها، فإن منهجه قدس سره معروف عند كل طلبة الحوزة، وهو أنه لا يعوِّل على الأحاديث الضعيفة وإن عمل بها المشهور.

ومن سقطاته الطريفة في هذه القصة أنه ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكيفية: (صلى الله عليه وسلم وآله)، مع أن هذه الكيفية لا تصدر من شيعي، فضلًا عن عالم قد بلغ هذا العمر المزعوم، ولا تصدر إلا ممن لم يعتَدْ على الكيفية المتعارفة للصلاة عند الشيعة.

ص: 104

قال الكاتب: ونقل الصدوِق عنِ الرضا رضي الله عنه في قوله تعالىِ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتُخْفِي في نفسك ما الله مبْدِيه (الأحزاب/ 37) قال الرضا مفسراً هذه الآية: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله قصد دار زيد بن حارثة في أمر أراده، فرأى امرأته زينب تغتسل، فقال لها: سبحان الذي خلقك) عيون أخبار الرضا ص 113.

فهل ينظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى امرأة رجل مسلم، ويشتهيها، ويعجب بها، ثم يقول لها: سبحان الذي خَلقك؟! أليس هذا طعناً برسول الله صلى الله عليه وآله؟!

وأقول: هذا الخبر ضعيف السند، فإن من جملة رواته تميم بن عبدالله بن تميم القرشي، فإنه وإن كان من شيوخ الإجازة للصدوق رحمه الله، وأكثر الصدوق من الترضي عنه، إلا أنه لم يثبت توثيقه في كتب الرجال، بل ضعفه ابن الغضائري والعلَّامة الحلي وغيرهما.

ومن رواته والد الراوي السابق، وهو مهمل في كتب الرجال.

وراوي هذا الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام هو علي بن محمد بن الجهم الذي قال عنه الصدوق بعد أن نقل الحديث المذكور بكامله:

هذا الحديث غريب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم السلام (1) 139.

وأما من ناحية متن الحديث فلم يرد فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشتهى زوجة زيد بن حارثة، ولا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أُعجِب بها كما قال الكاتب، وإنما قال لما رآها: (سبحان الذي خلقك)، والتسبيح ذِكْر من أذكار الله سبحانه التي يثاب عليها قائلها.

ولا دلالة في الحديث على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآها عارية، بل رآها تغتسل، ومن المستبعد أن تغتسل عاريةً- مع شدة صونها وعفافها- في مكان تكون عرضة لرؤية


1- عيون أخبار الرضا 2/ 182.

ص: 105

كل من يدخل إلى دارها، وإنما كانت تغتسل في مكان لا يراها أحد، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أنها تغتسل، من دون أن يرى شخصها، فقال: سبحان الله الذي خلقك، وتنزَّه عن أن يكون له ولد يحتاج للاغتسال والتنظف.

وهذا المعنى الذي قلناه قد ورد في الحديث نفسه، فقد جاء فيه:

فقال النبي لما رآها تغتسل: سبحان الذي خلقك أن يتَّخذ له ولداً يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال. فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجي ء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله لها: (سبحان الذي خلقك!). فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: يا رسول الله إن امرأتي في خلقها سوء، وإني أريد طلاقها. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمسك عليك زوجك، واتق الله. وقد كان الله عزَّ وجل عرَّفه عدد أزواجه، وأن تلك المرأة منهن، فأخفى ذلك في نفسه، ولم يبده لزيد، وخشي الناس أن يقولوا: إن محمداً يقول لمولاه: (إن امرأتك ستكون لي زوجة) يعيبونه بذلك، فأنزل الله عز وجل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ يعنى بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ يعنى بالعتق أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَه وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ واللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ، ثم إن زيد بن حارثة طلَّقها واعتدَّت منه، فزوَّجها الله عزَّ وجل من نبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزل بذلك قرآناً، فقال عزَّوجل: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا (1) 140.

هذا مع أنه قد ورد في كتب أهل السنة ما هو أصرح من ذلك، كرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزينب وهي مكشوفة الشعر، وأنها أعجبته فرغب في نكاحها، فتزوجها من غير خطبة ولا شهادة.

فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى، والهيثمي في مجمع الزوائد، وابن عساكر في تاريخ دمشق عن زينب بنت جحش أنها قالت في


1- المصدر السابق 2/ 181.

ص: 106

حديث: فطلقني فبَتَّ طلاقي، فلما انقضت عدَّتي لم أشعر إلا والنبي صلى الله عليه وسلم وأنا مكشوفة الشعر، فقلت: هذا أمر من السماء؟! وقلت: يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة؟ قال: الله المزوِّج، وجبريل الشاهد (1) 141.

وأخرج الطبراني في الكبير أيضاً بسنده عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بيت زيد بن حارثة، فاستأذن فأذنت له زينب ولا خمار عليها، فألقت كُمَّ درعها على رأسها، فسألها عن زيد فقالت: ذهب قريباً يا رسول الله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وله همهمة، قالت زينب: فاتبعته فسمعته يقول: (تبارك مصرِّف القلوب). فما زال يقولها حتى تغيب (2) 142.

وقال الطبري في تفسيره: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عتاباً من الله له: وَ اذكر يا محمد إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بالهداية، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعتق، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ، وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذُكر رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته، وهي في حبال مولاه، فأُلقي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيِّه ما وقع، فأراد فراقها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ

وهو صلى الله عليه وسلم يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها، وَاتَّقِ اللهَ وخَفِ الله في الواجب له عليك في زوجتك، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ يقول: وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوجها إن هو فارقها، والله مبدٍ ما تخفي في نفسك من ذلك، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ يقول تعالى ذكره: وتخاف أن يقول الناس: أمَرَ رجلًا بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها، والله أحق أن تخشاه من الناس (3) 143.


1- مجمع الزوائد 9/ 247. المعجم الكبير للطبراني 24/ 40. السنن الكبرى 7/ 137. تاريخ مدينة دمشق 50/ 230، 231.
2- المعجم الكبير للطبراني 24/ 44. مجمع الزوائد 9/ 247.
3- تفسير الطبري 22/ 10- 11. فأنزل الله عز وجل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ يعنى بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ يعنى بالعتق أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَه وَتُخْفِي

ص: 107

وقال ابن الجوزي في زاد المسير: فلما زوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً مكثتْ عنده حيناً، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزل زيد فنظر إليها، وكانت بيضاء جميلة من أتم نساء قريش، فوقعت في قلبه، فقال: (سبحان مقلِّب القلوب). وفطن زيد فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال بعضهم: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد، فرأى زينب فقال: (سبحان مقلب القلوب). فسمعت ذلك زينب، فلما جاء زيد ذكرت له ذلك، فعلم أنها قد وقعت في نفسه، فأتاه فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال ابن زيد: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى باب زيد، وعلى الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر فرأى زينب، فلما وقعت في قلبه كرهت إلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله أريد فراقها. فقال له: اتق الله. وقال مقاتل: لما فطن زيد لتسبيح رسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كِبْراً، فهي تَعَظَّم عليَّ وتؤذيني بلسانها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك واتق الله. ثم إن زيداً طلَّقها بعد ذلك (1) 144.

وقال القرطبي في تفسيره: واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره، إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلِّقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر، وأذى باللسان وتعظُّماً بالشرف، قال له: (اتق الله- أي فيما تقول عنها- وأمسك عليك زوجك). وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف.

وقال مقاتل: زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد، فمكثت عنده حيناً، ثم إنه عليه السلام أتى زيداً يوماً يطلبه، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال: (سبحان الله مقلب القلوب!). فسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد، ففطن زيد فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن


1- زاد المسير 6/ 209.

ص: 108

فيهاكِبْراً، تَعَظَّم عليَّ وتؤذيني بلسانها. فقال عليه السلام: (أمسك عليك زوجك واتق الله). وقيل: إن الله بعث ريحاً، فرفعت الستر وزينب متفضلة (1) 145 في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما جاء يطلب زيداً، فأخبرته بذلك، فوقع في نفس زيد أن يطلقها. وقال ابن عباس: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ الحب لها، وَتَخْشَى النَّاسَ أي تستحييهم، وقيل: تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت: طلِّقْها. ويقولون: أمَرَ رجلًا بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها. وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ في كل الأحوال. وقيل: والله أحق أن تستحي منه، ولا تأمر زيداً بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فعاتبه الله على جميع هذا (2) 146.

وكأنما شقَّ على ابن كثير نسبة كل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال في تفسيره: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً، لعدم صحَّتها فلا نوردها (3) 147.

فهل بعد هذا كله يحق للكاتب أن يتَّهم الشيعة بأنهم يطعنون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد كل ما رووه وقالوه في هذه القضية؟

قال الكاتب: وعن أمير المؤمنين أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وعنده أبو بكر وعمر قال: (فجلستُ بينه وبين عائشة، فقالت عائشة: ما وجدتَ إلا فخذي وفخذ رسول


1- قال ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 456: تفضلت المرأة إذا لبست ثياب مهنتها، أو كانت في ثوب واحد. وقال ابن منظور في لسان العرب 11/ 526: الفضلة: الثياب التي تبتذل للنوم، لأنها فضلت عن ثياب التصرف.
2- تفسير القرطبي 14/ 189.
3- تفسير القرآن العظيم 3/ 491.

ص: 109

الله؟ فقال: مه يا عائشة) البرهان في تفسير القرآن 4/ 225.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند جداً، فإنها مشتملة على مجموعة من المجاهيل: منهم أبو محمد الفحام، وعمّه (وهو عمر بن يحيى)، وإسحاق بن عبدوس، ومحمد بن بهار بن عمار.

وأما متن الحديث فلا دلالة فيه على ما ساقه الكاتب لأجله، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يسئ الأدب في حضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يفعل ما يشينه أو يشين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجلوسه بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين عائشة لا يدلّ بأية دلالة على ضيق المكان بينهما وملامسة جسمه لجسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لجسم عائشة، وكلام عائشة لا قيمة له، لأنه ناشئ من غيرتها من أمير المؤمنين عليه السلام، ومن ضيقها من جلوسه بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا أكثر من ذلك ولا أقل.

ومن الطريف أن الكاتب الذي ساق هذا الحديث للتدليل على أن الشيعة يطعنون في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد ذكر صدر الحديث، وبتر ذيله ولم يكمله، لأنه قد ساءه ما جاء في ذيله من مدح أمير المؤمنين عليه السلام وذم عائشة، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مه يا عائشة، لا تؤذيني في علي، فإنه أخي في الدنيا، وأخي في الآخرة، وهو أمير المؤمنين، يجلسه الله يوم القيامة على الصراط، فيدخل أولياءه الجنة، وأعداءه النار.

فلا ندري بعد هذا كيف استفاد الكاتب اشتمال هذا الحديث على الطعن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

قال الكاتب: وجاء مرة أخرى فلم يجد مكاناً، فأشار إليه رسول الله: ههنا- يعني خلفه- وعائشة قائمة خلفه وعليها كساء: فجاء علي رضي الله عنه فقعد بين رسول الله وبين عائشة، فقالت وهي غاضبة: (ما وجدتَ لإسْتِكَ- دُبُرَكَ أو مُؤَخِّرَتِكَ- مَوْضعاً غير حجري؟ فغضبَ رسولُ الله، وقال: يَا حُميراء، لا تؤذيني في أخي) كتاب

ص: 110

سليم بن قيس ص 179.

وأقول: هذا الحديث كسابقه لا يدل على الطعن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأية دلالة، وكل ما فيه هو ما قالته عائشة لأمير المؤمنين عليه السلام بداعي غيرتها منه عليه السلام كما قلنا في الحديث السابق، وإلا فلا دلالة في الحديث على أن أمير المؤمنين عليه السلام مسَّ عائشة، أو فعل ما يتنافى مع الأدب، وإنما كان ممتثلًا لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اختيار المكان الذي جلس فيه.

وقد ساء الكاتب هنا أيضاً أن يكمل الحديث ويذكر ما فيه من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا يكشف عن دخيلته السُّنّية التي يسوؤها ذكر أي منقبة لأهل البيت عليهم السلام عامة، ولأمير المؤمنين عليه السلام خاصة.

وتكملة الحديث هي: وقال: مه يا حميراء، لا تؤذيني في أخي علي، فإنه أمير المؤمنين، وسيِّد المسلمين، وصاحب لواء الحمد، وقائد الغُرِّ المحجَّلين يوم القيامة، يجعله الله على الصراط، فيقاسم النار، فيُدخل أولياءه الجنة، ويُدخل أعداءه النار.

والطريف أنه حرف الحديث أي تحريف، فحذف جملة: (والبيت غاصٌّ بأهله، فيهم الخمسة أصحاب الكتاب، والخمسة أصحاب الشورى)، وحذف دفع عائشة لأمير المؤمنين عليه السلام، وحذف الأوصاف التي وصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا عليه السلام.

فتأمل رحمك الله في هذه التحريفات المقصودة التي تنم عما في نفس الرجل نحو أمير المؤمنين عليه السلام.

قال الكاتب: وروى المجلسي أن أمير المؤمنين قال: (سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله، ليس له خادم غيري، وكان معه لحاف ليس له غيره، ومعه عائشة، وكان رسول الله ينام بيني وبين عائشة ليس علينا ثلاثتنا لحاف غيره، فإذا قام إلى الصلاة- صلاة الليل- يحط بيده اللحاف من وسطه بيني وبين عائشة حتى يمس اللحاف

ص: 111

الفراش الذي تحتنا) بحار الأنوار 40/ 3.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، لأنها مروية في كتاب الاحتجاج مرسلة عن كتاب سليم بن قيس.

وهي كما سبقها لا تدل على طعن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الكاتب توهَّم أن الفراش كان ضيِّقاً حتى صار أمير المؤمنين عليه السلام قريباً من عائشة، مع أن الحديث لا يدل على ذلك، ويدل على سعة اللحاف أنه من غير المحتمل أن ينام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراش وهو ملتصق بجسم عائشة ومعهما رجل آخر.

ومنه يتضح أن اللحاف كان واسعاً، وأن الفاصلة بين علي عليه السلام وبين عائشة كانت واسعة، وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي وعائشة على الحال الموصوفة في الحديث لا محذور فيه ولا غضاضة، فإن أمير المؤمنين عليه السلام لا يُتَّهم باختلاس سمع ولا نظر، ولا أحد أحرص منه على رعاية جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيانة عرضه، وكل ما يقال بعد هذا فهو من فضول الكلام الذي لا نفع فيه.

على أن أهل السنة قد رووا في كتبهم ما يشبه هذه الحادثة، فقد أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه وصحَّحه، وابن أبي عاصم في كتاب السنة وغيرهما، بسندهما عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غداة باردة، فأتيته وهو مع بعض نسائه في لحافه، فأدخلني في اللحاف، فصرنا ثلاثة.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي (1) 148.

وأخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن الزبير قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة باردة أو في غداة باردة، فذهبت ثم جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه بعض نسائه في لحاف، فطرح عليَّ طرف ثوبه أو طرف الثوب (2) 149.


1- المستدرك على الصحيحين 3/ 410، ط حيدرآباد 3/ 364. كتاب السنة 2/ 597.
2- مجمع الزوائد 9/ 152. مسند البزار 3/ 183.

ص: 112

قال الكاتب: هل يرضى رسول الله أن يجلس علي في حجر عائشة امرأته؟ ألا يغار رسول الله صلى الله عليه وآله على امرأته وشريكة حياته إذا تركها في فراش واحد مع ابن عمه الذي لا يُعْتَبَرُ من المحارم؟ ثم كيف يرتضي أمير المؤمنين ذلك لنفسه؟!

وأقول: إن الأحاديث السابقة لا دلالة فيها على أن عليًّا عليه السلام جلس في حجر عائشة، حتى تأتي غيرة النبي عليه السلام كما قال الكاتب.

وأما تركهما بالحالة المذكورة في الحديث فليس تركاً لهما في فراش واحد، وإنما كان اللحاف واسعاً، وكانت بينهما فاصلة واسعة كما أوضحناه فيما تقدم.

وأمير المؤمنين عليه السلام وإن لم يكن من محارم عائشة إلا أنه لا يُتَّهم معها بسوء، وهذا كاف في تجويز وقوع مثل هذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يتَّهم عائشة ولا أمير المؤمنين عليه السلام بأية تهمة، فما هو المحذور حينئذ؟

قال الكاتب: قال السيد كذا علي غروي أحد أكبر العلماء في الحوزة: (إن النبي صلى الله عليه وآله لا بد أن يدخل فَرْجُه النار، لأنه وَطِئَ بعضَ المشركات) يريد بذلك زواجه من عائشة وحفصة، وهذا كما هو معلوم فيه إساءة إلى النبي صلى الله عليه وآله، لأنه لو كان فَرْجُ رسولِ الله يدخل النار فلن يدخل الجنة أحدٌ أبداً.

وأقول: إن الميرزا علي الغروي قدَّس الله نفسه الزكية لا يصدر منه هذا الهذيان.

وإذا كان الكاتب لا يدري أن الميرزا علي الغروي شيخ أو سيّد فكيف يوثق في نقله ويؤخذ بشهادته؟

ونحن تشرفنا بالحضور مدّة في درسه الشريف، وكان يخصّنا بأمور كثيرة، ولم نسمع منه أمثال هذه الأباطيل المفضوحة التي لا يتفوَّه بها جاهل فضلًا عن عالم

ص: 113

فاضل، ولو قالها لاشتهرت عنه حال حياته، لما فيها من الجرأة العظيمة على مقام النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ولما فيها من المخالفات الواضحة لإجماعات المسلمين كافة، إذ كيف يتحقق دخول الفرج وحده في النار من دون سائر الجسد؟

وكيف يعاقَب خصوص الفرج مع أن الملامسة في النكاح تحصل بالبدن كله؟!

وكيف تستوجب ملامسة الكافرة دخول العضو الملامس لها في النار مع جواز وطء الكتابيات بنكاح أو ملك يمين؟

مضافاً إلى أن لازم العقاب بإدخال الفرج في النار- لو تعقَّلناه- هو تحقق الذنب العظيم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنافي لعصمته المسلَّمة بين المسلمين.

قال الكاتب: أكتَفي بهذه الروايات الست المتعلقة برسول الله صلوات الله عليه لأنتقلَ الى غيرها. فقد أوردوا روايات في أمير المؤمنين رضي الله عنه هذه بعضها:

عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: (أتى عمر بامرأة قد تعلقت برجل من الأنصار كانت تهواه، فأخذت بيضة وصَبَّت البياض على ثيابها وبين فخذيها، فقام علي فنظر بين فخذيها، فاتَّهَمَها) بحار الأنوار 4/ 303.

ونحن نتساءل: هل ينظر أمير المؤمنين بين فخذي امرأة أجنبية؟ وهل يُعْقَلُ أن ينقل الإمام الصادق هذا الخبر؟ وهل يقول هذا الكلام رجل أحبَّ أهل البيت؟

وأقول: المذكور في الحديث هو: فنظر أمير المؤمنين عليه السلام إلى بياض على ثوب المرأة وبين فخذيها، فاتهمها أن تكون احتالت لذلك، قال: ائتوني بماء حار قد غَلى غلياناً شديداً، ففعلوا، فلما أُتي بالماء أمرهم فصبّوا على موضع البياض، فاشتوى ذلك البياض، فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام فألقاه في فيه، فلما عرف طعمه ألقاه من فيه، ثم أقبل على المرأة حتى أقرَّت بذلك، ودفع الله عزَّ وجل عن الأنصاري

ص: 114

عقوبةعمر (1) 150.

ومعنى الحديث واضح، فإن أمير المؤمنين عليه السلام نظر إلى البياض الذي كان على ثياب المرأة عند فخذيها، وليس المراد أنه عليه السلام نظر إلى نفس الفخذين كما زعمه مدَّعي الفقاهة والاجتهاد، وإلا فلا بد أن يقال: إن أمير المؤمنين عليه السلام قد كشف عن فخذيها فنظر إليهما! أو أنها كانت مكشوفة الفخذين، فنظر إليهما! وكلا الأمرين لا يدل عليهما الحديث، ولا يصح حمله عليهما.

قال الكاتب: وعن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: قامت امرأة شنيعة إلى أمير المؤمنين وهو على المنبر، فقالت: هذا قاتِل الأحِبَّةِ، فنظر إليها، وقال لها: (يا سلفع، يا جريئة، يا بذية، يا مذكرة، يا التي لا تحيض كما تحيض النساء، يا التي على هَنِهَا شي ء بينٌ مدليَ) البحار 41/ 293.

فهل يتلفظ أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام البذي ء؟ هل يخاطب امرأة بقوله: يا التي على هنها شي ء بين مدلي؟ وهل ينقل الصادق رضي الله عنه مثل هذا الكلام الباطل؟ لو كانت هذه الروايات في كتب أهل السنة لأقمنا الدنيا ولم نُقعدها، ولفضحناهم شرَّ فضيحة، ولكن في كتبنا نحن الشيعة!

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من رواها عن الصادق عليه السلام بكار بن كردم، وهو مهمل في كتب الرجال، فلم يُذكَر لا بمدح ولا بقدح. وعيسى بن سليمان وهو مجهول الحال.

وروى الخبر عنهما عمر بن عبد العزيز، وهو إمامي مخلط كما قال النجاشي في


1- الكافي 7/ 422. تهذيب الأحكام 6/ 304. وسائل الشيعة 18/ 206. بحار الأنوار 40/ 303.

ص: 115

رجاله (1) 151، وروى الكشي عن الفضل بن شاذان أنه يروي المناكير (2) 152.

وأما من ناحية متن الرواية فلا يخفى أن أمثال هذه العبارات الواردة في الحديث لا غضاضة فيها على قائلها، لأنها ليست من الفحش في شي ء، وإنما كنّى أمير المؤمنين عليه السلام عن الفرج بالهن، وذكر أن عليه شيئاً بَيِّناً مُدَلَّى، والكناية من الأساليب المتعارفة في الكلام العربي التي لا يُعاب بها البلغاء والمتكلمون وإن كانت معانيها لا يحسن التصريح بها، وقد ورد في القرآن كنايات بأجمل الأساليب عن الفرج والجماع واللواط وقضاء الحاجة وغيرها، كما ورد في السنة النبوية كثير من أمثال هذه الأمور التي لا تخفى على أحد.

هذا مع أن هذه الحادثة مروية في كتاب (شواهد التنزيل) للحاكم الحسكاني، وهو من حفَّاظ الحديث عند أهل السُّنة، فقد رواها بسنده عن جابر، عن أبي جعفر قال: بينما أمير المؤمنين في مسجد الكوفة إذ أتته امرأة تستعدي على زوجها، فقضى لزوجها عليها، فغضبت فقالت: والله ما الحق فيما قضيت، ولا تقضي بالسوية، ولا تعدل في الرعية، ولا قضيتك عند الله بالمرضية! فنظر إليها مليًّا، ثم قال: كذبتِ يا بَذِيَّة يا بذية، يا سلقلقة- أو يا سلقى-. فولَّت هاربة، فلحقها عمرو بن حريث فقال: لقد استقبلتِ عليًّا بكلام، ثم إنه نزعك بكلمة فوليتِ هاربة؟ قالت: إن عليًّا والله أخبرني بالحق وشي ء أكتمه من زوجي منذ ولي عصمتي. فرجع عمرو إلى أمير المؤمنين فأخبره بما قالت، وقال: يا أمير المؤمنين ما نعرفك بالكهانة. فقال: ويلك إنها ليست بكهانة مني، ولكن الله أنزل قرآناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ، فكان رسول الله هو المتوسِّم، وأنا من بعده، والأئمة من ذريتي بعدي هم المتوسِّمون، فلما تأمَّلتُها عرفتُ ما هي بسيماها (3) 153.


1- رجال النجاشي 2/ 127.
2- اختيار معرفة الرجال 2/ 748.
3- شواهد التنزيل 1/ 323.

ص: 116

ولئن استعظم الكاتب رواية مثل ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام، واعتبره طعناً فيه، فإنهم رووا عن علي عليه السلام ما هو أفحش من هذا، فقد قال ابن الأثير في البداية: وفي حديث علي: عارضه رجل من الموالي، فقال: (اسكت يا ابن حمراء العِجَان)، أي يا ابن الأمة، والعِجَان ما بين القُبُل والدبر، وهي كلمة تقولها العرب في السب والذم (1) 154.

بل إن بعض أحاديث أهل السنة نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفحش ما يجب تنزيهه عنه:

منها: ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن أُبَي رضي الله عنه أن رجلًا اعتزى فأَعَضَّه أُبَي بِهَنِ أبيه (2) 155، فقالوا: ما كنت فحَّاشاً. قال: إنا أُمِرْنا بذلك (3) 156.

ومنها: ما أخرجه أحمد في المسند أيضاً بسنده عن أبي بن كعب أن رجلًا اعتزى بعزاء الجاهلية، فأَعَضَّه ولم يُكْنِه، فنظر القوم إليه، فقال للقوم: إني قد أرى الذي في أنفسكم، إني لم أستطع إلا أن أقول هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا سمعتم من يعتزى بعزاء الجاهلية فأَعِضُّوه ولا تَكْنُوا.

وعن أبي بن كعب قال: رأيت رجلًا تعزى عند أبي بعزاء الجاهلية، افتخر بأبيه فأعضه بأبيه ولم يُكْنِه. ثم قال لهم: أما إني قد أرى الذي في أنفسكم، إني لا أستطيع إلا ذلك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَن تعزَّى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تَكْنُوا. وعن الحسن عن عتي أن رجلًا تعزى بعزاء الجاهلية، فذكر الحديث، قال أبي: كنا نؤمر إذا الرجل تعزى بعزاء الجاهلية فأعضّوه بهن أبيه ولا تَكْنُوا (4) 157.


1- النهاية في غريب الحديث 1/ 440.
2- أي قال له: اعضض بأَيْر أبيك. ولم يُكَنِّ عن الأير بالهن، تنكيلًا له وتأديباً. انظر النهاية في غريب الحديث 3/ 252، ولسان العرب 7/ 188.
3- مسند أحمد بن حنبل 5/ 133.
4- نفس المصدر 5/ 136. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 1/ 198، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 3: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.

ص: 117

فهل يتعقَّل الكاتب أن يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالتلفظ بالفحش بدون كناية مع إمكان النهي عن المنكر بلفظ لا فحش فيه، أو بفحش بالكناية؟!

قال الكاتب: وفي الاحتجاج للطبرسي أن فاطمة سلام الله عليها قالت لأمير المؤمنين رضي الله عنه: (يا ابن أبي طالب، ما اشتملت شيمة الجنين، وقعدت حجرة الظنين).

وأقول: مع التسليم بصحة الخبر فإن فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت تستنصر بأمير المؤمنين عليه السلام لينصرها على من ابتزها نحلتها بعد وفاة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقولها عليها السلام: (يا ابن أبي طالب) خطاب منها له تحثّه به على نصرتها، إذ تذكِّره بأبيه سلام الله عليه الذي لم يألُ جهداً ولم يدَّخر وسعاً في نصرة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبضه الله إليه.

وقولها عليها السلام: (اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الظنّين) معناه: أنك جلست في منزلك مشتملًا كاشتمال الجنين، لا حول لك ولاطول بسبب قلة الأنصار، وقعدت عن طلب حقي كقعود الضعيف المتَّهم.

وقولها عليها السلام: (نقضتَ قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل) (1) 158 معناه أنك نازلت الأبطال، وخضت الأهوال، ولم تبالِ بكثرة الرجال، حتى نقضت شوكتهم، واليوم غُلبتَ من هؤلاء العُزَّل الضعفاء، وسلَّمت لهم الأمر ولم تنازعهم.

وقولها عليها السلام: (هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نُحَيْلة أبي، وبُلْغة ابنيَّ، لقد أجهر في


1- قوادم الطير مقاديم ريشه، والأجدل هو الصقر. والأعزل: الذي لا سلاح عنده.

ص: 118

خصامي، وألفيته ألدّ في كلامي) (1) 159 معناه: وهذا أبو بكر قد سلبني ما وهبني أبي صلى الله عليه وآله وسلم إياه- تعني بذلك: فدكاً- التي يتبلَّغ ويكتفي بها ولداي الحسن والحسين عليهما السلام، ولقد وجدتُ أبا بكر قد أعلن في مخاصمتي وتجاهر بها، واشتد في الكلام معي.

وقولها عليها السلام: (حتى حبستني قيلةُ (2) 160 نصرَها، والمهاجرةُ وصلَها، وغضَّتِ الجماعةُ دوني طرفَها، فلا دافع ولا مانع) معناه: أن بني قيلة وهم الأنصار حبسوا نصرهم عن فاطمة سلام الله عليها، والمهاجرين منعوها عونهم لها، وغضَّ المسلمون طرفهم دونها، فلم يقوموا لها بما يجب عليهم نحوها من النصرة، فلا دافع لما حصل عليها من الظلم، ولا مانع للقوم من ابتزاز نحلتها منها.

وقولها عليها السلام: (خرجتُ كاظمةً وعدتُ راغمة) معناه: أني خرجتُ من بيتي كاظمة غيضي، ومتجرعته وصابرة عليه، وعدتُ إلى بيتي راغمة منكسرة، لم أجد فيهم ناصراً ولا معيناً.

إلى آخر ما قالته سلام الله عليها في حث أمير المؤمنين عليه السلام على نصرتها ودفع الظلم عنها، والعمل على استرجاع ما سُلب منها.

وتشبيه قعود أمير المؤمنين باشتمال الجنين وقعود الظنين لا تريد به ذمّه عليه السلام أو تقريعه على ترك مجابهة القوم، لأنها عارفة بما آلت إليه الأحوال، وصارت إليه الأمور، ولكنها نفثة مصدور، وشقشقة مكلوم.

قال الكاتب: وروى الطبرسي في الاحتجاج أيضاً كيف أن عمر ومن معه


1- يبتزني: أي يأخذ مني ذلك بالقهر والغلبة. والنُحيلة: تصغير نِحلة، وهي الهبة والعطية بطيب نفس. والبُلْغة: هي ما يُكتفى به من العيش. وابنيَّ: المراد بهما الحسنان. وألفيته: أي وجدته. والألد: هو الشديد.
2- قيلة: اسم أم قبيلتي الأنصار، والمراد بنو قيلة، وهم الأنصار. ووصلها: عونها.

ص: 119

اقتادوا أمير المؤمنين رضي الله عنه والحبل في عنقه وهم يجرونه جراً حتى انتهى به إلى أبي بكر، ثم نادى بقوله: ابن أُم، إن القوم استضعفوني وكادوا يَقْتُلونَنِي!!

ونحن نسأل يا ترى أكان أمير المؤمنين جباناً إلى هذا الحد؟

وأقول: وهل عدم محاربة القوم، والصبر على ما صدر منهم من أذى يُعَدُّ ضعفاً وجُبناً؟! أو يعتبر تعقُّلًا وحكمة.

لقد كان الحال يدور بين أمرين: إما أن يحاربهم أمير المؤمنين عليه السلام، فيفنيهم ويستأصل شأفتهم، أو يترك محاربتهم ويصبر على ما يترتب على ذلك من تبعات.

وبما أنه عليه السلام كان يعلم ما سيترتب على الحرب من ذهاب الإسلام وضياع أحكامه، فإن الحكمة كانت تقتضي ترك منابذتهم، والتسليم لهم، فإن ذلك أخف الضررين، ولهذا قال عليه السلام في خطبته الشقشقية: (فرأيتُ أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً).

ومما قلناه يتبيَّن أن ما وقع من جرِّ أمير المؤمنين عليه السلام بحمائل سيفه لم يكن عن جبن منه عليه السلام، ولا عن خوف أو ضعف عن منازلة القوم كما ذكره الكاتب في كلامه.

هذا مع أن هجوم القوم على بيت فاطمة عليها السلام وكشفه قد اعترف به أبو بكر عند وفاته كما جاء في بعض الأخبار ونص عليه بعض المؤرخين.

فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة وغيرهما عن عبد الرحمن بن عوف أن أبا بكر قال في مرضه الذي توفي فيه: أما إني لا آسي على شي ء إلا على ثلاث فعلتهن وددتُ أني لم أفعلهن، وثلاث لم أفعلهن وددتُ أني فعلتهن، وثلاث وددتُ أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن، فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن، فوددتُ أني لم أكن كشفتُ بيت فاطمة، وتركتُه وإن أغلق عليَّ الحرب ... الحديث (1) 161.


1- المعجم الكبير للطبراني 1/ 62. مجمع الزوائد 5/ 202. الأحاديث المختارة 1/ 88 وقال الضياء المقدسي: وهذا حديث حسن عن أبي بكر، إلا أنه ليس فيه شي ء من قول النبي صلى الله عليه وسلم. كنز العمال 5/ 631 وقال: إنه حديث حسن، إلا أنه ليس فيه شي ء عن النبي صلى الله عليه وسلم. تاريخ مدينة دمشق 30/ 418- 423. تاريخ الطبري 2/ 619. الإمامة والسياسة، ص 18. مروج الذهب 2/ 301.

ص: 120

وذكر هجوم القوم على بيت فاطمة عليها السلام أيضاً جملة من أعلام أهل السنة:

فقد قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: وإن أبا بكر رضي الله عنه تفقَّد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب، وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجُنَّ أو لأحرقنَّها على من فيها. فقيل له: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة! فقال: وإن. فخرجوا فبايعوا إلاعليًّا.

إلى أن قال: ثم قام عمر، فمشى معه جماعة، حتى أتوا باب فاطمة، فدقّوا الباب، فلما سمعتْ أصواتهم نادتْ بأعلى صوتها: يا أبتِ يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟ فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين ... وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا عليًّا، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايِع. فقال: إن أنا لم أفعل فَمَهْ؟ قالوا: إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. قال: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله؟ قال عمر: أما عبد الله فنَعَم، وأما أخو رسوله فلا. وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أُكْرِهُه على شي ء ما كانت فاطمة إلى جنبه. فلحق علي بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح ويبكي، وينادي: يا بن أُمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني (1) 162.

وقال أبو الفداء في تاريخه: ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومَن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها، وقال: إن أبَوا عليك فقاتلهم. فأقبل عمر بشي ء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة رضي الله عنهاوقالت: إلى أين يا ابن


1- الإمامة والسياسة، ص 12، 13.

ص: 121

الخطاب؟ أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أوْ تدخلوا فيما دخل فيه الأمة ... (1) 163.

ونظم هذا المعنى الشاعر المصري حافظ إبراهيم، فقال:

وقولةٍ لعليٍّ قالَها عُمَرٌأكرِمْ بسامِعِها أعظِمْ بملقيها

حرَّقتُ دارَك لا أُبقي عليك بهاإنْ لم تبايِعْ وبنتُ المصطفى فيها

ما كانَ غيرُ أبي حفصٍ يَفُوهُ بهاأمامَ فارسِ عدنانٍ وحاميها (2) 164.

واعترف ابن تيمية بأن أبا بكر قد كبس بيت فاطمة سلام الله عليها، إلا أنه علَّله بما يُضحك الثكلى، فقال: نحن نعلم يقيناً أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشي ء من الأذى، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلِّف عن بيعته أولًا وآخراً، وغاية ما يقال: إنه كبس البيت لينظر هل فيه شي ء من مال الله الذي يقسمه، وأن يعطيه لمستحقه، ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز، فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفي ء (3) 165. ومن يتتبَّع كتب التاريخ يجد فيها الكثير مما دلَّ على كشف القوم لبيت فاطمةعليها السلام.

والعجيب أن الكاتب اعتبر كلمة أمير المؤمنين عليه السلام: (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) جُبناً وضعفاً، مع أنها مقتبسة من كلمة نبي الله هارون عليه السلام حين عاتبه موسى عليه السلام بعد مجيئه من الميقات، فلا ندري هل يعتبر الكاتب هارون عليه السلام جباناً أيضاً لما ترك منابذة السامري وأتباعه، وخاف على نفسه من القتل؟!

قال الكاتب: وانظر وصفهم لأمير المؤمنين رضي الله عنه إذ قالت فاطمة عنه: (إن


1- تاريخ أبي الفداء 1/ 219.
2- ديوان حافظ إبراهيم، ص 82.
3- منهاج السنة 4/ 343.

ص: 122

نساء قريش تحدثني عنه أنه رجل دِحداح البطن، طويل الذراعين، ضخم الكراديس، أنزع، عظيم العينين، لمنكبه مشاشاً كمشاش البعير، ضاحك السن، لا مال له) تفسير القمي 2/ 336.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن علي بن إبراهيم قال: ومن الرد على من أنكر خلقة الجنة والنار أيضاً ما حدثني أبي عن بعض أصحابه رفعه، قال: كانت فاطمة عليها السلام لا يذكرها أحد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أعرض عنه ... الخ.

وهي رواية مرسلة مرفوعة، لا يصح الاحتجاج بها في شي ء، وكان ينبغي من مدّعي الفقاهة والاجتهاد أن يلتفت إلى ضعف الرواية بدلًا من الاحتجاج بها على الشيعة، ولكن يهوِّن الخطب أنه لا يميِّز بين الصحيح والضعيف، ولا يعرف المرسل والمرفوع من غيرهما.

وأما من ناحية المتن، فإن الخبر لو صحَّ فإن فاطمة سلام الله عليها كانت تقول: (إن نساء قريش تحدثني)، ولم يكن هذا من مقالها هي سلام الله عليها، ولعلها إنما قالت ذلك من أجل إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، لا من أجل كونها مصدِّقة به.

ولا بأس أن نأتي للصفات المذكورة، فنستعرضها واحدة واحدة، لنرى صفات الذم منها وغيرها، فنقول:

المراد بدحداح البطن: واسِعُه.

قال ابن الأثير في كتابه (النهاية في غريب الحديث): في حديث أسامة (كان له بطن مُنْدَحٌّ) أي متَّسع ... (1) 166.

وهذه ليست صفة ذم في الرجال، ولهذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يُسمَّى الأنزع البطين، بل كان سلام الله عليه يفتخر بذلك.

قال عبد الباقي العمري:


1- النهاية في غريب الحديث 2/ 103.

ص: 123

وأنتَ ذاك البَطِينُ الممتلي حِكَماً.

معشارُها فلَكُ الأفلاكِ ما وسِعا وأنتَ ذاك الهِزَبْرُ الأنزعُ البطلُ ال--- ذي بمخلبِه للشركِ قد نَزَعا (1) 167 صلى الله عليه وآله

وضخم الكراديس: قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: هي رؤوس العظام، واحدها كردوس. وقيل: هي ملتقى كل عظمين ضخمين كالركبتين والمرفقين والمنكبين، أراد أنه ضخم الأعضاء (2) 168. وهي أيضاً ليست صفة ذم، فقد روى أهل السنة أنها من صفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه الترمذي في سننه بسنده عن علي رضي الله عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل ولا بالقصير، شثن الكفين والقدمين، ضخم الرأس، ضخم الكراديس ... (3) 169.

والأنزع: هو الذي انحسر الشعر عن مقدم رأسه، وهذا لا يُعد عيباً، وقد ورد في كتب أهل السنة وصف علي عليه السلام بأنه أصلع، وهو أكثر من الأنزع.

وأما عِظَم العينين فهي صفة مدح، وقد وُصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فيما أخرجه ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمد بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الهامة، عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العينين حمرة، كث اللحية، أزهر اللون، إذا مشى تكفَّأ كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعاً، شثن الكفين والقدمين (4) 170.

وأما قوله: (لمنكبه مشاش كمشاش البعير)، فمعناه أنه عليه السلام عظيم المشاش،


1- الترياق الفاروقي، ص 96.
2- تحفة الأحوذي 10/ 81.
3- سنن الترمذي 5/ 598 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وانظر مسند أحمد 1/ 96، 116، 117، 127، 134، والمستدرك 2/ 662، ط حيدرآباد 2/ 606 وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي. ومسند أبي داود الطيالسي، ص 25.
4- الطبقات الكبرى 1/ 410.

ص: 124

والمشاش هي رؤوس العظام كالمرفقين والكفين والركبتين، والمشاشة ما أشرف من عظم المنكب (1) 171، وهي صفة مدح، ولهذا وصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر أنه جليل المشاش.

فقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن إبراهيم بن محمد من ولد علي قال: كان علي إذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لم يكن بالطويل الممغط، ولا بالقصير المتردد، كان رَبْعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط، كان جعداً رجلًا، ولم يكن بالمطهَّم ولا المكلثم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد ذا مسربة، شثن الكفين والقدمين ... (2) 172.

والعجيب ممن يعيب الشيعة بمثل هذه الرواية الضعيفة ويتعامى عن الأحاديث الصحيحة التي رواها أهل السنة، وفيها وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفات غير حسنة.

منها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم واسع الفم، فيما رواه الترمذي بسنده عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشكل العينين، منهوش العقب. قال شعبة: قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: واسع الفم ... (3) 173.

ومنها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم حمش الساقين، أي دقيقهما، فقد أخرج الترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تبسّماً، وكان في ساقيه حموشة ... (4) 174.

وهي من صفات الذم عندهم.


1- راجع لسان العرب 6/ 347.
2- الطبقات الكبرى 1/ 411.
3- سنن الترمذي 5/ 603، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
4- سنن الترمذي 5/ 603، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. المستدرك 2/ 662، ط حيدرآباد 2/ 606 صحّحه الحاكم. و كذا في البداية والنهاية 6/ 19.

ص: 125

قال ابن الأثير في النهاية: ومنه حديث هند، قالت لأبي سفيان يوم الفتح: اقتلوا الحَمِيت الأحمش. هكذا جاء في رواية، قالته له في معرض الذم (1) 175.

ومنها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم عظيم الهامة ضخم الرأس، وقد مرَّ فيما أخرجه ابن سعد.

وأخرج أحمد في المسند بسنده عن علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس عظيم العينين ... (2) 176.

ومنها: أن على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبوة، وهو مثل بيضة النعامة، فقد أخرج مسلم وغيره بسنده عن جابر بن سمرة، قال: رأيت خاتماً في ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأنه بيضة حمام (3) 177.

وفي حديث آخر رواه البخاري ومسلم عن السائب بن يزيد قال فيه: ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه، مثل زر الحجلة (4) 178.

وفسره في حاشية صحيح مسلم بأن الحجلة واحدة الحجال، وهي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعرى. وقال: هذا هو الصواب الذي قاله الجمهور. وقال بعضهم: المراد بالحجلة الطائر المعروف، وزرها بيضها. وأشار إليه الترمذي، وأنكره العلماء.

وفي حديث آخر رواه مسلم أيضاً عن عبد الله بن سرجس، جاء فيه: ثم دُرْتُ خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، عند ناغض كتفه اليسرى، جُمعاً، عليه خيلان، كأمثال الثآليل.


1- النهاية في غريب الحديث 1/ 441. ومثله في لسان العرب 6/ 288.
2- مسند أحمد 1/ 89، 96، 101، 127. سنن الترمذي 5/ 598 وقال: هذا حديث حسن صحيح. المستدرك 2/ 662 ط حيدرآباد 2/ 606 وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي. البداية والنهاية 6/ 17.
3- صحيح مسلم 4/ 1823. المستدرك 2/ 663، ط حيدرآباد 2/ 606 صحّحه الحاكم وقال: على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. الطبقات الكبرى 1/ 425.
4- صحيح البخاري 1/ 86، 4/ 1816. صحيح مسلم 4/ 1823.

ص: 126

وفسّره في الحاشية بأنه كجمع الكف بعد أن تُجمع الأصابع وتُضَم، وعليه خيلان وهي الشامات في الجسد، كأمثال الثآليل، وهي حبيبات تعلو الجسد.

وفي صحيح ابن حبان عن جابر بن سمرة أنه قال: فرأيت خاتمه عند كتفه مثل بيضة النعامة يشبه جسده (1) 179.

وعن ابن عمر، قال: كان خاتم النبوة في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البُنْدقة من لحم، عليه مكتوب: محمد رسول الله (2) 180.

ومنها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم مشرب العينين حمرة، وقد مرَّ فيما أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى، وأخرج كذلك قول الحبر فيه: في عينيه حمرة (3) 181.

ومنها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير العَرَق، فقد أخرج ابن سعد بسنده عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم القدمين، كثير العَرَق، لم أرَ بعده مثله (4) 182.

قال الكاتب: (أدخلني أبي المسجد يوم الجمعة، فرفعني فرأيت علياً يخطب على المنبر شيخاً، أصلع، ناتئ الجبهة، عريض ما بين المنكبين في عينه اطرغشاش (يعني لين في عينه) مقاتل الطالبين كذا.

فهل كانت هذه أوصاف أمير المؤمنين رضي الله عنه؟؟

وأقول: كل الصفات التي ذُكرت في هذا الحديث ليست من صفات الذم كما تصوَّرها الكاتب.


1- صحيح ابن حبان 14/ 206.
2- نفس المصدر 14/ 210.
3- الطبقات الكبرى 1/ 412.
4- المصدر السابق 1/ 414.

ص: 127

والاطرغشاش هو البرء والاندمال كما ذكره ابن منظور في لسان العرب (1) 183، ولعل المراد هو أن عليها آثار البرء.

ولعلها آثار برء الرمد الذي أصاب عين علي عليه السلام لما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطي الراية لرجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.

فأبقى الله سبحانه (الاطرغشاش) من أجل الإبقاء على هذه الفضيلة التي تدل بأوضح دلالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام على غيره.

فلا ندري بعد هذا ما هو وجه العيب فيها؟!

ومن الواضح أن (مقاتل الطالبيين)- بياءين لا بياء واحدة كما كتبها مدَّعي الاجتهاد- ليس من كتب الشيعة، وإنما هو كتاب أبي الفرج الأصفهاني الأموي، فيا عجباً من هذا العالم النحرير الذي لا يعرف حال أبي الفرج الأصفهاني!!

ثم إن هذه الصفات التي ظن الكاتب أنها من صفات الذم قد ذُكرت أيضاً في كتب أهل السنة في وصف أمير المؤمنين عليه السلام.

فقد أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد في باب صفة أمير المؤمنين عليه السلام عن أبي إسحاق قال: خرجت مع أبي إلى الجمعة وأنا غلام، فلما خرج علي فصعد المنبر قال لي أبي: قم أي عمر، فانظر إلى أمير المؤمنين. قال: فقمت فإذا هو قائم على المنبر، فإذا هو أبيض اللحية والرأس، عليه إزار ورداء، ليس عليه قميص. قال: فما رأيته جلس على المنبر حتى نزل عنه. قلت لأبي إسحاق: هل قنت؟ قال: لا. وفي رواية: لم أره خضب لحيته، ضخم الرأس. رواه الطبراني بأسانيد، ورجاله رجال الصحيح.

وعن شعبة قال: سألت أبا إسحاق: أنت أكبر من الشعبي؟ قال: الشعبي أكبر مني بسنة أو سنتين. قال: ورأى أبو إسحاق عليًّا، وكان يصفه لنا عظيم البطن، أجلح، قال شعبة: وكان أبو إسحاق أكبر من أبي البختري، ولم يدرك أبو البختري


1- لسان العرب 6/ 311.

ص: 128

عليًّا ولم يره. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

وعن أبي رجاء العطاردي قال: رأيت عليًّا سمتاً أصلع الشعر، كأن بجانبه إهاب شاة. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ...

وعن الواقدي قال: يقال كان علي بن أبى طالب آدم، ربعة، مسمناً، ضخم المنكبين، طويل اللحية، أصلع، عظيم البطن، غليظ العينين، أبيض الرأس واللحية. رواه الطبراني ورجاله إلى الواقدي ثقات (1) 184.

وعن أبي إسحاق: أن عليًّا لما تزوج فاطمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: زوَّجتَنيه أُعَيْمِش عظيم البطن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد زوجتُكه وإنه لأول أصحابي سِلْماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً.

قال الهيثمي: رواه الطبراني، وهو مرسل صحيح الإسناد (2) 185.

فماذا يقول مدعي الفقاهة والاجتهاد بعد كل ما نقلناه؟! ألا يرى أن كل تلك الصفات مذكورة بعينها في كتب أهل السنة؟! فهل يسلِّم بأن أهل السنة يطعنون في أمير المؤمنين عليه السلام ويعيبونه؟! أو أنه يرى أن باء أهل السنة تجر، وباء الشيعة لا تجر؟!

قال الكاتب: نكتفي بهذا القدر لننتقل إلى روايات تتعلق بفاطمة سلام الله عليها:

روى أبو جعفر الكليني في أصول الكافي أن فاطمة أخذت بتلابيب عمر، فجذبته إليها، وفي كتاب سليم بن قيس (أنها سلام الله عليها تقدَّمت إلى أبي بكر وعمر في قضية فَدَك، وتشاجرت معهما، وتكلمت في وسط الناس وصاحت، وجمع


1- مجمع الزوائد 9/ 100.
2- مجمع الزوائد 9/ 101. المصنف لعبد الرزاق 5/ 341. المعجم الكبير للطبراني 1/ 94.

ص: 129

الناس لها) ص 253.

فهل كانت عرمة (1) 186 حتى تفعل هذا؟

وأقول: أما رواية الكليني المذكورة فهي ضعيفة السند، فإن راويهاهو عبد الله ابن محمد الجعفي، وهو ضعيف ضعَّفه النجاشي في رجاله (2) 187.

ومن رواة هذا الخبر صالح بن عقبة، وهو لم يثبت توثيقه، بل ضعَّفه ابن الغضائري، حيث قال: صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، روى عن أبي عبد الله عليه السلام، غالٍ كذاب لا يُلتفت إليه (3) 188.

فإذا كانت الرواية بهذا الحال فكيف يصح لمدَّعي الفقاهة والاجتهاد أن يحتج بها على الشيعة؟!

ثم ما باله حذف من الرواية كل ما يمس القوم، فجاء بها مبتورة هكذا؟! ولا بأس بنقل الرواية كاملة، ليعلم القارئ ما أصاب الرواية من التحريف والتزوير.

فقد رواها الكليني بسنده عن عبد الله بن محمد الجعفي، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: إن فاطمة عليها السلام- لما أن كان من أمرهم ما كان- أخذت بتلابيب عمر فجذبته إليها، ثم قالت: أما والله يا ابن الخطاب لولا أني أكره أن يصيب البلاء مَنْ لا ذنب له، لعلمت أني سأقسم على الله ثم أجده سريع الإجابة (4) 189.

وأما أخذ الزهراء عليها السلام بتلابيب عمر فقد أفاد المجلسي قدس سره في مرآة العقول أنه إنما كان للضرورة الملحّة، من أجل إنقاذ حياة أمير المؤمنين عليه السلام من أيدي القوم المجتمعين عليه، وهو واجب على كل الخلق ...

وأما ما نقله عن كتاب سليم بن قيس من أن الزهراء سلام الله عليها تشاجرت


1- أي شَرِسة.
2- رجال النجاشي، ص 159 ط حجرية. وراجع معجم رجال الحديث 10/ 314.
3- الرجال لابن الغضائري، ص 69.
4- الكافي 1/ 460.

ص: 130

مع أبي بكر وعمر، وتكلَّمت في وسط الناس وصاحت، فهو تحريف للكلام عن مواضعه. وإليك نصه:

قال: قالت فاطمة عليها السلام لهما- حين أراد انتزاعها وهي في يدها-: أليست في يدي وفيها وكيلي، وقد أكلتُ غلَّتها ورسول الله صلى الله عليه وآله حي؟ قالا: بلى. قالت: فلمَ تسألني البينة على ما في يدي؟ قالا: لأنها في ء المسلمين، فإن قامت بيِّنة وإلا لم نمضها. قالت لهما- والناس حولهما يسمعون-: أفتريدان أن تردَّا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله، وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين؟ أيها الناس، اسمعوا ما ركباها، أرأيتما إن ادَّعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم، أتسألونني البينة أم تسألونهم؟ قالا: بل نسألك. قالت: فإن ادَّعى جميع المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألونني؟ فغضب عمر وقال: إن هذا في ء للمسلمين وأرضهم، وهي في يدي فاطمة تأكل غلَّتها، فإن أقامت بينة على ما ادَّعتْ أن رسول الله وهبها لها من بين المسلمين- وهي فيئهم وحقهم- نظرنا في ذلك. فقالت: حسبي! أنشدكم بالله أيها الناس، أما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن ابنتي سيدة نساء أهل الجنة؟ قالوا: اللهم نعم، قد سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله. قالت: أفسيدة نساء أهل الجنة تدَّعي الباطل، وتأخذ ما ليس لها؟ أرأيتم لو أن أربعة شهدوا عليَّ بفاحشة أو رجلان بسرقة أكنتم مصدِّقين عليَّ؟ فأما أبو بكر فسكت، وأما عمر فقال: نعم، ونوقع عليك الحد. فقالت: كذبت ولؤمت، إلا أن تقر أنك لستَ على دين محمد صلى الله عليه وآله. إن الذي يجيز على سيدة نساء أهل الجنة شهادة أو يقيم عليها حدًّا لملعون كافر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله، لأن مَن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً لا تجوز عليهم شهادة، لأنهم معصومون من كل سوء، مطهَّرون من كل فاحشة. حدِّثْني- يا عمر- مَنْ أهلُ هذه الآية؟ لو أن قوماً شهدوا عليهم أو على أحد منهم بشرك أو كفر أو فاحشة كان المسلمون يتبرأون منهم ويحدُّونهم؟ قال: نعم، وما هم وسائر الناس في ذلك إلا سواء. قالت: كذبت وكفرت، ما هم وسائر الناس في ذلك سواء، لأن الله عصمهم، ونزل عصمتهم

ص: 131

وتطهيرهم، وأذهب عنهم الرجس. فمن صدَّق عليهم فإنما يُكذِّب الله ورسوله. فقال أبو بكر: أقسمتُ عليك- يا عمر- لمَّا سكتَ (1) 190.

هذا ما جاء في كتاب سليم بن قيس من احتجاج سيِّدة نساء العالمين عليها السلام على أبي بكر وعمر في شأن فدك، فأين المشاجرة المكذوبة؟ وأين الصياح المزعوم؟!

قال الكاتب: وروى الكليني في الفروع أنها سلام الله عليها ما كانت راضيةبزواجها من علي رضي الله عنه إذ دخل عليها أبوها عليه السلام وهي تبكي، فقال لها: ما يُبكيكِ؟ فو الله لو كان في (أهلي) خير منه ما زَوَّجْتُكِه، وما أنا زَوَّجتُكِ ولكنَّ اللهَ زَوَّجَكِ.

وأقول: هذا الحديث لا يدل على عدم رضا سيّدة النساء عليها السلام بزواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، ولعل بكاءها سلام الله عليها لفراق بيت والدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لما سيصيبها من الشدائد والمصائب التي ستشارك فيها أمير المؤمنين عليه السلام.

أو أنها سلام الله عليها بكت ليلة زفافها حياءاً، كما دلَّت على ذلك بعض الأخبار، فقد أخرج عبد الرزاق الصنعاني في مصنَّفه بسنده عن ابن عباس في حديث طويل قال: فأقبلت فاطمة عليها السلام فلما رأت عليًّا جالساً إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم خفرت (2) 191 وبكت، فأشفق النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون بكاؤها لأن عليًّا لا مال له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فما ألوتُك في نفسي، وقد طلبتُ لك خير أهلي، والذي نفسي بيده لقد زوجتكه سعيداً في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين (3) 192.

فهذا الحديث يوضح ما هناك، ولهذا لا نجد في كلماتها سلام الله عليها ما يدل


1- كتاب سليم بن قيس، ص 226.
2- أي استحيت أشد الحياء.
3- المصنف لعبد الرزاق 5/ 340، ط أخرى 5/ 488.

ص: 132

على أنها كانت كارهة لزواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، أو متبرِّمة منه.

وكلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت من أجل التسرية عنها، ببيان أن عليًّا عليه السلام هو خير الناس بعده، وأن الله سبحانه هو الذي اختاره لها.

وستأتي أحاديث أخر رواها أهل السنة بهذا المضمون، فانتظر.

قال الكاتب: ولما دخل عليها أبوها صلوات الله عليه ومعه بريده: لمَا أَبصرتْ أباها دمعت عيناها، قال ما يبكيك يا بنيتي؟ قالت: (قِلَّةُ الطعم، وكثرةُ الهَمِّ، وشِدَّةُ الغَمِّ)، وقالت في رواية: (والله لقد اشتد حزني، واشتدت فاقَتِي، وطال سَقمي) كشف الغمة 1/ 149- 150.

وأقول: أما الحديث الأول فقد أخرجه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة، بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم بنا يا بريدة نعود فاطمة. قال: فلما أن دخلنا عليها أبصرت أباها ودمعت عيناها. قال: ما يبكيك يا بنية؟ قالت: قلة الطعم، وكثرة الهم، وشدة السقم. قال: أما والله لما عند الله خير مما ترغبين إليه، يا فاطمة أما ترضين أني زوَّجتك أقدمهم سِلْماً، وأكثرهم عِلماً، وأفضلهم حِلماً؟ والله إن ابنيك لمن شباب أهل الجنة (1) 193.

وأما الحديث الثاني فقد أخرجه أحمد بن حنبل في المسند، والطبراني في المعجم الكبير بسندهما عن معقل بن يسار قال: وضأت النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل لك في فاطمة نعودها؟ فقلت: نعم. فقام متوكئاً عليَّ، فقال: أما إنه سيحمل ثقلها غيرك، ويكون أجرها لك. قال فكأنه لم يكن عليَّ شي ء، حتى دخلنا على فاطمة عليها السلام، فقال: كيف نجدك؟ فقالت: والله لقد اشتد حزني، واشتدت فاقتي، وطال سقمي. قال عبد الله وجدت في كتاب أبي بخط يده في هذا الحديث قال: أما ترضين أن أزوِّجك أقدم


1- فضائل الصحابة 2/ 764.

ص: 133

أمتي سِلْماً، وأكثرهم عِلْماً، وأعظمهم حِلْماً (1) 194.

وأود أن ألفت النظر إلى أن الإربلي أورد هذين الحديثين في كتابه (كشف الغمة) 1/ 147- 148، وصرَّح بنقل الحديث الأول عن مناقب الخوارزمي، والحديث الثاني عن مسند أحمد. فلا أدري كيف سوَّغ الكاتب لنفسه أن يكذب على القارئ، ويوهمه بأن هذين الحديثين من مرويات الشيعة في كتبهم التي طعنوا بها في سيِّدة النساء؟!

هذا مع أن فاطمة سلام الله عليها إنما كانت تشكو لأبيها الفاقةوالهم والسقم، وهذا لا ارتباط له بأمير المؤمنين سلام الله عليه، ولادلالة في كلامها سلام الله عليها على عدم رضاها بزواجها منه بأيةدلالة.

قال الكاتب: وقد وصفوا علياً رضي الله عنه وصفاً جامعاً فقالوا: (كان رضي الله عنه أسمر مربوعاً، وهو إلى القصر أقرب، عظيم البطن، دقيق الأصابع، غليظ الذراعين، خمش كذا الساقين، في عينه لين، عظيم اللحية، أصلع، ناتئ الجبهة) مقاتل الطالبين كذا ص 27.

فإذا كانت هذه أوصاف أمير المؤمنين كما يقولون، فكيف يمكن أَن ترضى به؟

وأقول: لقد قلنا فيما تقدم أن كتاب (مقاتل الطالبيين) ليس من كتب الشيعة، كما أوضحنا فيما مرَّ أن كل تلك الأوصاف ليست عيوباً تقتضي كراهية التزويج، فراجع.

هذا مع أن أهل السنة قد رووا كل تلك الصفات في كتبهم، وقد مرَّ ذكر


1- مسند أحمد 5/ 26. المعجم الكبير للطبراني 20/ 229. مجمع الزوائد 9/ 101، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وفيه خالد بن طهمان، وثقه أبو حاتم وغيره، وبقية رجاله ثقات.

ص: 134

بعضها، وقد أخرج الطبراني وصفاً جامعاً في معجمه الكبير بسنده عن الواقدي، قال: يقال: كان علي بن أبي طالب آدم، ربعة، مسمناً، ضخم المنكبين، طويل اللحية، أصلع، عظيم البطن، غليظ العينين، أبيض الرأس واللحية (1) 195.

ونحن قد تكلمنا في أوصاف أمير المؤمنين عليه السلام آنفاً، فلا حاجة للإعادة والتكرار، وأوضحنا فيما مرَّ أن تلك الأوصاف كلها قد رواها أهل السنة في كتبهم، وأما ما روي من طريق الشيعة فإما أنه ضعيف السند، فلا يعول عليه، وإما أنه من المحاسن المعروفة، فراجع ما قلناه.

ولئن كان أمير المؤمنين عليه السلام متصفاً ببعض تلك الصفات كالصلع وبياض شعر الرأس واللحية، فإن ذلك إنما كان في أخريات أيّامه عليه السلام، لا في أوان شبابه ووقت تزويجه بسيِّدة النساء عليها السلام.

قال الكاتب: ونكتفي بهذه النصوص حرصاً على عدم الإطالة، وكانت الرغبة أن ننقل ما ورد من نصوص بحق كل واحد من الأئمة عليهم السلام، ثم عَدلْنا عن ذلك إلى الاكتفاء بخمس روايات وردت بحق كل واحد، ثم رأينا أن الأمر أيضاً يطول إذ نقلنا خمس روايات وردت بحق النبي صلوات الله عليه، وخمساً أخرى بحق أمير المؤمنين، وخمساً أخرى بحق فاطمة سلام الله عليها، فاستغرق ذلك صفحات عديدة، لذلك سنحاول أن نختصر أكثر حتى نَطَّلعَ على خفايا أكثر.

نقل الكليني في الأصول من الكافي: أن جبريل نزل على محمد صلى الله عليه وآله فقال له: يا محمد، إن الله يبشرك بمولود يُولَد من فاطمة، تقتله أُمَّتُكَ من بعدك فقال: «يا جبريل، وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود يُولَدُ من فاطمة تقتله أمتي من بعدي»، فعرج ثم هبط فقال مثل ذلك: «يا جبريل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي


1- المعجم الكبير للطبراني 1/ 94.

ص: 135

من بعدي»، فعرج جبريل إلى السماء، ثم هبط فقال: يا محمد إن ربك يُقرِئُكَ السلام، ويبشرك بأنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فقال: إني رضيت. ثم أرسل إلى فاطمة أن الله يبشرني بمولود يُولَدُ لك تقتلُه أمتي من بعدي، فأرسلتْ إليه أن لا حاجة لي في مولود تقتله أُمَّتُك من بعدك، وأرسل إليها أن الله عز وجل جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فأرسلت إليه: إني رضيت. فحملته كُرْهاً .. ووضعَتْه كرهاً، ولم يرضع الحسين من فاطمة عليها السلام ولا من أنثى، كان يُؤْتَى (1) 196 بالنبي صلى الله عليه وآله فيضع إبهامه في فيه فيمص ما يكفيه اليومين والثلاث.

أقول: هذا الحديث ضعيف السند بالإرسال، فإن الكليني رحمه الله رواه عن محمدبن يحيى، عن علي بن إسماعيل، عن محمد بن عمرو الزيات، عن رجل من أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام.

فهل يُتوقَّع من فقيه حاز رتبة الاجتهاد ألا يلتفت لضعف هذا الحديث مع وضوح إرساله حتى لصغار طلبة العلم؟!

قال الكاتب: ولست أدري هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يَرُدُّ أمراً بَشَّرَهُ الله به؟ وهل كانت الزهراء سلام الله عليها ترد أمراً قد قضاه الله وأراد تبشيرها به، فتقول (لا حاجة لي به)؟ وهل حملت بالحسين وهي كارهة له، ووضعته وهي كارهة له؟ وهل امتنعت عن إرضاعه حتى كان يُؤْتَى بالنبي كذا صلوات الله عليه ليرضعه من إبهامه ما يكفيه اليومين والثلاثة؟

وأقول: بعد أن تبين ضعف الحديث فالكلام فيه كله فضول، ولكنا مع ذلك نجيبه على سؤاله الأول بأن الحديث لا دلالة فيه على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ردَّ أمراً قضاه الله وقدَّره، ولعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم أن الأمر لم يكن حتمياً، أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أحبَّ أن تتدخل


1- في المصدر: يؤتى به النبي.

ص: 136

القدرة الإلهية لمنع ولادة ذلك المولود، أو أراد صلى الله عليه وآله وسلم بيان عظم ألَمِه بما سيجري على الحسين عليه السلام، أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد إيضاح أن مولوداً يقتله الناس لا حاجة له فيه، فلما أُخبر بأن الأئمة عليهم السلام سيكونون من ذرّيته رضي، وعلم أنه مولود مبارك.

قال المجلسي قدس سره: والظاهر أن الإرسال والتبشير من الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانا على وجه التخيير لا الحتم، حتى يكون ردّهما ردًّا على الله (1) 197.

وكل ما قلناه في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بعينه في قول الزهراء عليها السلام حرفاً بحرف.

وجواب سؤاله الثاني هو أن سيّدة النساء سلام الله عليها حملت بالحسين عليه السلام ووضعته وهي كارهة ما سيجري عليه من القتل، لا أنها كانت كارهة له سلام الله عليه، فبين الأمرين فرق واضح.

ولعل المراد بأن فاطمة سلام الله عليها حملت بالحسين عليه السلام كرهاً ووضعته كرهاً هو عين ما يصيب النساء من مشقة الحمل والوضع.

قال ابن كثير في تفسيره: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحم وغثيان وثقل وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدَّته (2) 198.

وأما السبب الذي من أجله لم ترضع فاطمة الزهراء سلام الله عليها ولدها الحسين عليه السلام فهو أمر لم نحط به ولا نعرفه، ولعل هناك حكمة اقتضت ذلك نحن لا نعلم بها، فليس كل خبر وصل إلينا.

ولعل الحكمة في ذلك هو أن الله سبحانه أراد أن ينبت لحم الحسين عليه السلام ويشتد عظمه من بركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا مع أن أهل السنة رووا أن التي أرضعت الحسن أو الحسين عليهما السلام هي أم


1- مرآة العقول 5/ 364.
2- تفسير القرآن العظيم 4/ 157.

ص: 137

الفضل، فقد أخرج ابن ماجة وأحمد والحاكم وغيرهم بأسانيدهم عن قابوس، قال: قالت أم الفضل: يا رسول الله رأيت كأن في بيتي عضواً من أعضائك. قال: خيراً رأيتِ، تلد فاطمة غلاماً فترضعيه. فولدت حسيناً أو حسناً، فأرضعته بلبن قُثَم ... (1) 199.

وأخرج الحاكم بسنده عن ابن عباس عن أم الفضل رضي الله عنها، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أرضع الحسين بن علي بلبن ابنٍ كان يقال له قُثَم. قالت: فتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناولته إياه فبال عليه، قالت: فأهويتُ بيدي إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرمي ابني. قالت: فرشَّه بالماء (2) 200.

وأما إعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إصبعه للحسين عليه السلام ليرضع منه فإن ذلك- لو سلَّمنا بصحة الحديث- إنما وقع بنحو الإعجاز والكرامة للحسين عليه السلام لينبت لحمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا محذور فيه، ولا سيما أن أهل السنة جوَّزوا نبوع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى سقى جيشاً يبلغ ألفاً وخمسمائة رجل.

فقد أخرج البخاري في صحيحه وغيره بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: عطش الناس يوم الحديبية، والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ، فجهش الناس نحوه، فقال: ما لكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك. فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة (3) 201.

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما- واللفظ لمسلم- بسندهما عن أنس بن مالك، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزوراء (قال: والزوراء بالمدينة عند


1- سنن ابن ماجة 2/ 1293. مسند أحمد 6/ 339، 340. المعجم الكبير للطبراني 3/ 5، 25. 9/ 25- 27. وراجع المستدرك 3/ 194، ط حيدرآباد 3/ 176. مسند أبي يعلى 6/ 140. الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 278، 279.
2- المستدرك 3/ 194.
3- صحيح البخاري 3/ 1105. صحيح ابن خزيمة 1/ 66. صحيح ابن حبان 14/ 480.

ص: 138

السوق والمسجد فيما ثمة)، دعا بقدح فيه ماء، فوضع كفَّه فيه، فجعل ينبع من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه، قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة (1) 202.

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء، فأُتِيَ بقدح رَحْرَاح (2) 203 فيه شي ء من ماء، فوضع أصابعه فيه، قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. قال أنس: فحَزَرْتُ مَن توضَّأ ما بين السبعين إلى الثمانين (3) 204.

والأحاديث في ذلك كثيرة جداً رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهم، ولا حاجة لنقلها بعد رواية البخاري ومسلم لها (4) 205.

بل إن القوم رووا أن الناس أكلوا من بين أصابعه الشريفة، فقد أخرج الطبراني في الكبير وأبو عوانة في سننه وغيرهما، عن أنس في حديث طويل قال: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اجمعوا ما عندكم، ثم قرِّبوه. وجلس مَن معه بالسدة، فقربنا ما كان عندنا من خبز وتمر، فجعلناه على حصيرنا، فدعا فيه بالبركة، ثم قال: أَدخِل عليَّ ثمانية. فأدخلنا عليه

(5) 206.


1- صحيح البخاري 3/ 1104. صحيح مسلم 4/ 1783.
2- هو القدح الواسع القصير الجدار.
3- صحيح البخاري 1/ 88.
4- راجع سنن الترمذي 5/ 596، 597. مسند أحمد 1/ 460، 3/ 106، 132، 139، 147، 215، 289، 329، 353، 365. سنن النسائي 1/ 64، 65. ط أخرى 1/ 60، 61. سنن الدارمي 1/ 18- 20. صحيح ابن حبان 14/ 476- 484. الموطأ، ص 24. الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 178- 179، 182، 2/ 98. صحيح ابن خزيمة 1/ 65، 74، 102. مسند أبي عوانة 4/ 428، 5/ 137. السنن الصغرى للبيهقي 1/ 34. مجمع الزوائد 8/ 299- 302، 9/ 9. السنن الكبرى للبيهقي 1/ 30، 43. سنن الدارقطني 1/ 71. السنن الكبرى للنسائي 1/ 80، 81. المعجم الأوسط للطبراني 2/ 121. مسند الطيالسي، ص 239. وغيرها كثير.
5- الشيخ علي آل محسن، لله و للحقيقة (رد علي كتاب «لله ثم للتاريخ»)، 1جلد، نشر مشعر - تهران، چاپ: 1، 1424 ه. ق..

ص: 139

ثمانية، وجعل كفَّه فوق الطعام وقال: كلوا وسمُّوا الله. فأكلوا من بين أصابعه حتى شبعوا، ثم أمرني أن أُدخِل عليه ثمانية، وقام الأولون ففعلت، ودخلوا عليه فأكلوا حتى شبعوا ... الحديث (1) 207.

فإذا جاز كل ذلك وتكرَّر منه صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ونحن لا نمنعه، فما المحذور في أن يتفجَّر من بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم ما يغتذي به ولده الحسين عليه السلام؟

قال الكاتب: إن سيِّدنا ومولانا الحسين الشهيد سلام الله عليه أجل وأعظم من أن يقال بحقه مثل هذا الكلام، وهو أجل وأعظم من أن تكره أُمه حملَه ووضعَه. إن نساء الدنيا يتمنين أن تلد كل واحدة منهن عشرات الأولاد مثل الإمام الحسين سلام ربي عليه، فكيف يمكن للزهراء الطاهرة العفيفة أن تكره حمل الحسين، وتكره وَضْعَه، وتمتنع عن إرضاعه؟؟

وأقول: لقد أجبنا على ذلك بما فيه الكفاية، فلا حاجة للتكرار، ولكن أحب أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن لفظة (سيِّدنا الحسين) ليست من الألفاظ المتعارفة عند الشيعة، بل هي من الألفاظ المتعارفة عند أهل السنة، وصدق مولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.

ولا ينقضي العجب من هذا الكاتب الذي يُحمِّل النصوص ما لا تحتمل من المعاني السيِّئة والمحامل الباطلة، فلا أدري من أي عبارة في الحديث فهم أن الزهراء سلام الله عليها امتنعت من إرضاع ولدها الحسين عليه السلام؟ فإن الحديث ظاهر في أن الحسين عليه السلام لم يرضع من فاطمة عليها السلام ولا من أية أنثى، ولا يدل على امتناع الزهراء سلام الله عليها عن إرضاعه عليه السلام كما هو واضح.


1- المعجم الكبير 25/ 110. مسند أبي عوانة 5/ 181.

ص: 140

قال الكاتب: في جلسة ضمت عدداً من السادة وطلاب الحوزة العلمية تحدث الإمام الخوئي فيها عن موضوعات شتى ثم ختم كلامه بقوله: قاتل الله الكفرة، قلنا: مَن هم؟ قال: النواصب- أهل السنة- يسبون الحسين صلوات الله عليه بل يسبون أهل البيت!!

ماذا أقول للإمام الخوئي؟!

وأقول: مع ثبوت عدم وثاقة الناقل فإن كل القضايا التي لا مصدر لها إلا مجرد ادِّعاء المشاهدة لا قيمة لها عندنا.

هذا مع أن ما نقله عن السيد الخوئي قدَّس الله نفسه الشريفة بعيد عن أسلوبه وطريقة بحثه، بل هو بعيد عن صريح فتاواه بأن أهل السنة مسلمون، وهذا يعرفه كل تلامذته وكل من اطلع على آثاره وفتاواه.

فهل نترك ما نعلمه باليقين لمثل هذه النقولات التي لا يُعرف هوية ناقلها؟!

ثم إن السيد الخوئي لم تجر له عادة بأن يعقد أية جلسة خاصة بالسادة وطلاب الحوزة، وهذا أمر معروف عند كل من درس في الحوزة العلمية النجفية، إلا أن مدعي الفقاهة والاجتهاد ظن أن السيد الخوئي- باعتبار أنه زعيم الحوزة- لا بد أن يعقد مثل هذه الجلسات ليعطي تعليماته لتلاميذه وطلاب الحوزة، وهو وهم فاحش وخطأفادح.

ثم ما علاقة هذه الحادثة وما تقوَّله على السيِّد الخوئي بالموضوع الذي يتحدَّث فيه الكاتب، وهو طعن الشيعة في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام، ليسوغ له أن يحشر هذه الحادثة المكذوبة في البَيْن؟!

ص: 141

زواج عمر بأم كلثوم بنت علي عليه السلام:

قال الكاتب: لما زوج أمير المؤمنين رضي الله عنه ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، نقل أبو جعفر الكليني عن أبي عبد الله رضي الله عنه أنه قال في ذلك الزواج: (إن ذلك فَرْجٌ غُصِبْناهُ!!!) فروع الكافي 2/ 141.

ونسأل قائل هذا الكلام: هل تزوَّج عمر أُم كلثوم زواجاً شرعياً أم اغتصبها غَصْباً؟ إن الكلام المنسوب إلى الصادق رضي الله عنه واضح المعنى، فهل يقول أبو عبد الله مثل هذا الكلام الباطل عن ابنة المرتضى رضي الله عنه؟

ثم لو كان عمر اغتصب أم كلثوم، فكيف رضي أبوها أسَدُ الله وذو الفقار كذا، وفتى قريش بذلك؟!

وأقول: لقد وقع الخلاف في زواج عمر من أم كلثوم بنت علي عليه السلام وأنه هل وقع أم لا؟

فمنهم من نفى وقوعه، لتضارب الأخبار واختلاف متونها بدرجة شديدة جداً، ومنهم من ذهب إلى وقوع هذا الزواج.

فإذا قلنا بعدم وقوعه وأنه من أكاذيب الرواة ومدسوساتهم التي امتلأت بها الطوامير والأسفار، فكل إشكالات الكاتب لا تكون واردة، لأنها مبتنية على فرض وقوع مثل هذا الزواج.

وأما إذا قلنا بوقوع هذا الزواج كما هو الصحيح في رأينا، فلا يلزم أي محذور على أمير المؤمنين عليه السلام في أن يُكرهه عمر على تزويج ابنته أم كلثوم، ولا سيما إذا توعَّده عمر بالفرية والمكيدة، فإن الأمر يدور بين حفظ مقام الإمامة العظمى وبين تزويج ابنته، وحفظ مقام الإمامة أولى وأوجب.

فقد روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن هشام بن سالم، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: لما خطب إليه قال له أمير المؤمنين عليه السلام: إنها صبيَّة. قال: فلقي العباس، فقال:

ص: 142

مالي؟ أبي بأس؟ فقال: وما ذاك؟ قال: خطبتُ إلى ابن أخيك فردَّني، أما والله لأُعوِّرَنّ زمزم، ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها، ولأقيمنَّ عليه شاهدين بأنه سرق، ولأقطعنَّ يمينه. فأتاه العباس فأخبره، وسأله أن يجعل الأمر إليه، فجعله إليه (1) 208.

ولا ريب في أن أعداء أمير المؤمنين عليه السلام كانوا كثيرين، وأن عمر كان قادراً على أن يجد في المنافقين والطلقاء والفسقة من يشهد زوراً على أمير المؤمنين عليه السلام بالسرقة، فيُقيم عليه حدّ السرقة ويقطع يده، فيصير ذلك سُبّة وعاراً على علي عليه السلام وأبنائه إلى قيام الساعة، وبذلك لا يمكن أن يصل أمير المؤمنين عليه السلام إلى الخلافة، بل تُمحى كل فضائله من دواوين المسلمين، وما روي منها لا يكون له أية قيمة، وحينئذ لا يستطيع أهل الحق أن يستدلوا على حقّهم بدليل، إلا ونقضه المخالفون بواقعة السرقة المزعومة.

فإذا جعلنا كل هذه الأمور في الاعتبار فلا مناص حينئذ لأمير المؤمنين عليه السلام من أن يوافق على زواج عمر من ابنته راغماً مكرَهاً.

ومما قلناه يتضح أن المسألة ليست مردَّدة بين الشجاعة والضعف حتى يصح ما قاله الكاتب من أن أمير المؤمنين عليه السلام هو أسد الله الغالب الذي لا يمكن قهره، ولا يخاف في الله لومة لائم، بل المسألة مرددة بين حفظ مقام الإمامة وبين حفظ ابنته من تزويجها بعمر.

ولا بأس بنقل ما أفاده الشيخ المفيد قدس الله نفسه الزكية في هذه المسألة، حيث قال في جواب المسائل السروية: إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته من عمر لم يثبت، وطريقه من الزبير بن بكار، ولم يكن موثوقاً به في النقل، وكان متَّهماً فيما يذكره من بغضه لأمير المؤمنين عليه السلام وغير مأمون، والحديث نفسه مختلف، فتارة يروى أن أمير المؤمنين تولى العقد له على ابنته، وتارة يروى عن العباس أنه تولى ذلك


1- الكافي 5/ 346.

ص: 143

عنه، وتارة يروى أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم، وتارة يروى أنه كان عن اختيار وإيثار، ثم بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولداً سماه زيداً، وبعضهم يقول: إن لزيد بن عمر عَقِباً. ومنهم من يقول: إنه قُتل ولا عَقِب له. ومنهم من يقول: إنه وأمّه قُتلا. ومنهم من يقول: إن أمّه بقيت بعده. ومنهم من يقول: إن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألف درهم. ومنهم من يقول: مهرها أربعة آلاف درهم. ومنهم من يقول: كان مهرها خمسمائة درهم. وهذا الاختلاف مما يبطل الحديث.

ثم إنه لو صحَّ لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدِّمين على أمير المؤمنين عليه السلام: أحدهما: أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو الشهادتان، والصلاة إلى الكعبة، والإقرار بجملة الشريعة، وإن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان، ويكره مناكحة من ضم إلى ظاهر الإسلام ضلالًا يخرجه عن الإيمان، إلا أن الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضال مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك، وأمير المؤمنين عليه السلام كان مضطراً إلى مناكحة الرجل، لأنه تهدده وتواعده، فلم يأمنه على نفسه وشيعته، فأجابه إلى ذلك ضرورة، كما أن مع الضرورة يشرع إظهار كلمة الكفر، وليس ذلك بأعجب من قول لوط هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ (1) 209، فدعاهم إلى العقد عليهم لبناته وهم كفّار ضلّال، قد أذن الله تعالى في هلاكهم، وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وآله ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام، أحدهما عتبة بن أبي لهب، والآخر أبو العاص بن الربيع، فلما بُعث صلى الله عليه وآله فرَّق بينهما وبين ابنتيه (2) 210.

أقول: بعد ورود النصوص الصحيحة الدالة على وقوع هذا الزواج، لا مناص من التسليم بوقوعه تبعاً لصريح النصوص، ولهذا قال المجلسي قدس سره: إنكار المفيد رحمه الله


1- سورة هود، الآية 78.
2- رسائل المفيد، ص 61- 63 (عن بحار الأنوار 42/ 107).

ص: 144

أصل الواقعة إنما هو لبيان أنه لم يثبت ذلك من طرقهم، وإلا فبعد ورود ما مرَّ من الأخبار إنكار ذلك عجيب ...

إلى أن قال: والأصل في الجواب هو أن ذلك وقع على سبيل التقية والاضطرار، ولا استبعاد في ذلك، فإن كثيراً من المحرَّمات تنقلب عند الضرورة وتصير من الواجبات، على أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن أمير المؤمنين وسائر الأئمة عليهم السلام كانوا قد أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله بما يجري عليهم من الظلم، وبما يجب عليهم فعله عند ذلك، فقد أباح الله تعالى له خصوص ذلك بنص الرسول صلى الله عليه وآله، وهذا مما يسكّن استبعاد الأوهام، والله يعلم حقائق أحكامه وحُجَجه عليهم السلام (1) 211.

قال الكاتب: عندما نقرأ في الروضة من الكافي 8/ 101 في حديث أبي بصير مع المرأة التي جاءت إلى أبي عبد الله تسأل عن (أبي بكر وعمر) فقال لها: تَوَلِّيهُمَا كذا، قالت: فأقول لربي إذا لِقُيتُه كذا انك أمرتني بولايتهما؟ قال نعم.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها معلى بن محمد، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال، بل وصفه النجاشي بأنه مضطرب الحديث والمذهب (2) 212، ووصفه ابن الغضائري بأن حديثه يُعرَف ويُنكَر، ويروي عن الضعفاء، ويجوز أن يخرج شاهداً (3) 213.

فعليه تكون الرواية ساقطة من رأس، فلا يصح الاحتجاج بها.


1- بحار الأنوار 42/ 109.
2- رجال النجاشي 2/ 365.
3- رجال ابن الغضائري، ص 96.

ص: 145

قال الكاتب: فهل الذي يأمر بتولي عمر نتّهمه بأنه اغتصب امرأة من أهل البيت؟

وأقول: هذه العبارة ركيكة جداً، وتدل على خلاف مراده، فإن مراده هو: هل من أمرنا الإمام عليه السلام بتولِّيه- وهو عمر- نتهمه بأنه غصب امرأة من أهل البيت؟

وأما عبارته فمعناها: هل من يأمرنا بتولي عمر، وهو أبو عبد الله الصادق عليه السلام، نتّهمه بأنه اغتصب امرأة من أهل البيت؟

وكيف كان فلو ثبت أن هذه الرواية صحيحة عن الإمام الصادق عليه السلام، ولا يعارضها غيرها، وأنه أمر أم خالد بتولي أبي بكر وعمر من دون خوف ولا تقية، فلا بد حينئذ من أن نحكم بأنهما إمامي هدى، ويجب علينا أن نتولّاهما، امتثالًا لأمر الإمام عليه السلام، ولكن الشأن كل الشأن في ثبوت كل ذلك، فإن الرواية ضعيفة، ولو سلمنا بصحَّتها فهي محمولة على التقية لمعارضتها بما هو أشهر وأصح سنداً، وأوضح دلالةً.

قال الكاتب: لما سألتُ الإمام الخوئي عن قول أبي عبد الله للمرأة بتولي أبي بكر وعمر، قال: إنما قال لها ذلك تَقِيَّة!!

وأقول للإمام الخوئي: إن المرأة كانت من شيعة أهل البيت، وأبو بصير من أصحاب الصادق رضي الله عنه، فما كان هناك موجب للقول بالتقية لو كان ذلك صحيحاً، فالحق أن هذا التبرير الذي قال به أبو القاسم الخوئي غيرصحيح.

وأقول: لو صحَّت الرواية فهي محمولة على التقية قطعاً، وذيل الرواية يدل على ذلك، ولا بأس بنقل تمام الرواية ليتضح للقارئ العزيز صحة ما قلناه.

قال الكليني رحمه الله: عن أبي بصير قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخلت علينا أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه، فقال أبو عبد الله

ص: 146

عليه السلام: أيسرّك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم. قال: فأذن لها، قال: وأجلسني معه على الطنفسة (1) 214، قال: ثم دخلت فتكلمتْ فإذا امرأة بليغة، فسألتْه عنهما، فقال لها: تولّيهما؟ قالت: فأقول لربي إذا لقيته: إنك أمرتني بولايتهما؟ قال: نعم. قالت: فإن هذا الذي معك على الطنفسة يأمرني بالبراءة منهما، وكثير النوا يأمرني بولايتهما، فأيهما خير وأحب إليك؟ قال: هذا والله أحب إليَّ من كثير النوا وأصحابه، إن هذا يخاصم فيقول: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.

قلت: إن قوله: (هذا والله أحب إليَّ من كثير النوا وأصحابه)، دال بأتم دلالة على أن براءة أبي بصير منهما لم تحط من قدره، وولاية كثير النوا وأصحابه لهما لم تُعْلِ من شأنهم عند الإمام عليه السلام، ولو كانا إمامَيْ هدى لكانت البراءة منهما قادحة، ولكان مَن يتولاهما خيراً ممن يتبرّأ منهما ويدعو الناس إلى ذلك.

وتقرير الإمام عليه السلام لاستدلال أبي بصير بالآيات الثلاث مشعر باعتقاد الإمام عليه السلام أن أبا بكر وعمر لم يحكما بما أنزل الله، فهما إما كافران أو ظالمان أو فاسقان، وهو استدلال واضح لا يحتاج إلى مزيد إيضاح، ولكن الإمام سلام الله عليه لم يستطع التصريح بذلك لهذه المرأة، فاكتفى بالإشارة عن صريح العبارة.

وأما قول الكاتب: (إن أم خالد من الشيعة فكيف يتَّقي منها الإمام)، فهو عجيب من مدَّعي الفقاهة والاجتهاد، إذ كيف لا يعرف أن الإمام عليه السلام قد يتّقي من بعض شيعته خشية أن ينقلوا عنه كلامه لسلاطين الجور وأعوانهم مختارين أو مكرهين، ولهذا قال الإمام عليه السلام في رواية الكشي: فلما خرجَتْ قال: إني خشيتُ أن تذهب فتخبر كثير النوا، فتشهرني بالكوفة، اللهم إني إليك من كثير النوا بري ء في الدنيا والآخرة (2) 215.


1- هي البساط الذي له خمل رقيق.
2- رجال الكشي 2/ 511. ونقله عنه في بحار الأنوار 30/ 242.

ص: 147

قال الكاتب: وأمّا الحسن رضي الله عنه، فقد روى المفيد في الإرشاد عن أهل الكوفة أنهم: (شدوا على فسطاطه، وانتهبوه حتى أخذوا مُصَلَّاه من تحته، فبقي جالساً مُتَقَلِّداً السيفَ بغيرِ ردِاء) ص 190.

أيبقى الحسن رضي الله عنه بغير رداء مكشوف العورة أمام الناس؟ أهذه محبة؟

وأقول: عجيب من مدَّعي الفقاهة كيف لا يعرف معنى الرِّداء، فإن الرِّداء يعرفه حتى عوام الناس، وهو ما يوضع على الكتفين من الثياب، ومنه ما يُسمَّى الآن بالعباءة.

قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: هو الثوب أو البُرْد الذي يضعه الإنسان على عاتقيه فوق ثيابه، وقد كثر في الحديث (1) 216.

ولو كان الكاتب قد درس كتاب الحج، لعلم أن الحاج يلبس قطعتين من الثياب، الأولى يستر بها عورته وهي الإزار، والثانية يضعها على عاتقه وهي الرِّداء، وأن الحاج يجوز له أن يضع رداءه أحياناً، وهذا يُدرَس في بدايات الدراسة الحوزوية، فكيف جهلها من حاز درجة الاجتهاد (بتفوق)؟

ثم إن أهل السنة رووا في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثب إلى عكرمة بن أبي جهل من غير رداء. فقد أخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب: أن أم حكيم بنت الحارث ابن هشام، وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه، فثبتا على نكاحهما ذلك (2) 217.


1- النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 217.
2- الموطأ، ص 287.

ص: 148

ورووا أن جابر بن عبد الله الأنصاري صلى من غير رداء، بل إن البخاري قد عقد في صحيحه باباً بعنوان (باب الصلاة بغير رداء)، وروى فيه بسنده عن محمد بن المنكدر قوله: دخلتُ على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب ملتحفاً به، ورداؤه موضوع، فلما انصرف قلنا: يا أبا عبدالله تصلي ورداؤك موضوع؟ قال: نعم، أحببتُ أن يراني الجهَّال مثلكم، رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هكذا (1) 218.

ورووا أن ماعز بن مالك جي ء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير رداء، فقد أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن سمرة قال: رأيتُ ماعز بن مالك حين جي ء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رجل قصير أعضل، ليس عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك. قال: لا، والله إنه قد زنى الأَخِرُ (2) 219. قال: فرجمه ... (3) 220.

والأحاديث في ذلك كثيرة، واستقصاؤها مضيعة للوقت وهدر للجهد.

والحاصل أن سلب الإمام عليه السلام رداءه لا يعني أنه بقي مكشوف العورة كما قاله الكاتب، فيكون إشكاله الواهي قد تبخر سريعاً في الهواء.

قال الكاتب: ودخل سفيان بن أبي ليلى على الحسن رضي الله عنه وهو في داره فقال للإمام الحسن: (السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين! قال: «وما عِلْمُكَ بذلك»؟ قال: عَمَدْتَ إلى أمرِ الأُمةِ فَخَلَعْتَهُ من عنقك، وقَلَّدْتَه هذا الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله؟) رجال الكشي ص 103.

هل كان الحسن رضي الله عنه مُذلًا للمؤمنين؟ أم أنه كان مُعِزاً لهم لأنه حقنَ


1- صحيح البخاري 1/ 137.
2- الأخر: هو الأرذل والأبعد، وقيل: اللئيم. وقيل: الشقي. وقيل غير ذلك.
3- صحيح مسلم 3/ 1319.

ص: 149

دمِاءَهم، وَوَحَّدَ صفوفَهم بتصرفه الحكيم، ونظره الثاقب؟

وأقول: هذه الرواية التي رواها الكشي ضعيفة بالإرسال وبعلي بن الحسين الطويل، فإنه لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

قال المامقاني: روى النجاشي مسنداً عنه كتاب مصعب بن يزيد الأنصاري، وليس له عنوان في كتب الرجال أصلًا (1) 221.

هذا مع أنّا لم نجد له عنواناً أيضاً في الكتب الرجالية عند أهل السنة، وذكروا أن صاحب هذه المقولة هو سفيان بن الليل (2) 222، ووصفه العقيلي بأنه غالٍ في الرفض (3) 223. وقال أبو الفتح الأزدي (4) 224 والألباني: مجهول (5) 225. وعدَّه ابن حبان في جملة الثقات (6) 226.

ولو سلَّمنا بصحة الخبر، وأن سفيان بن أبي ليلى أو سفيان بن الليل كان شيعياً، فلا ريب في أن الشيعة قاطبة يخطِّئون كل من اعترض على صلح الإمام الحسن السبط عليه السلام، ويغلِّطون كل من قال ما يتنافى مع قداسة الإمام عليه السلام، ويرون أن ما قام به الإمام عليه السلام هو الصحيح الموافق للحكمة، وأن فيه المصلحة العظيمة للإسلام والمسلمين، وقد كتب علماء الشيعة في إثبات ذلك كتباً عدة.

فلا ندري بعد هذا كيف سوَّغ الكاتب لنفسه أن يطعن في الشيعة كلهم من


1- تنقيح المقال 2/ 278.
2- راجع المستدرك 3/ 187، 192، ط حيدرآباد 3/ 171، 175. الفتن لنعيم بن حماد 1/ 164. سير أعلام النبلاء 3/ 147. ميزان الاعتدال 3/ 247. لسان الميزان 3/ 53. الضعفاء للعقيلي 2/ 549. تهذيب الكمال 6/ 250. تاريخ بغداد 10/ 305. الاستيعاب 1/ 387 إلا أن فيه: سفيان بن ليلى.
3- كتاب الضعفاء 2/ 549، ونقله عنه الذهبي في ميزان الاعتدال 3/ 247. وابن حجر في لسان الميزان 3/ 53 وغيرهما.
4- ميزان الاعتدال 3/ 248. لسان الميزان 3/ 54. كنز العمال 13/ 589.
5- تعاليق الألباني على كتاب السنة لابن أبي عاصم، ص 334 حديث 748.
6- كتاب الثقات 4/ 319.

ص: 150

أجل قولٍ صدر من قائل أكثر ما يقال عنه إنه شيعي، مع أن كلمتهم قد تطابقت على تصحيح الصلح وأهدافه؟!

قال الكاتب: فلو أن الحسن رضي الله عنه حارب معاوية وقاتله على الخلافة لأُرِيق بحر من دماء المسلمينَ، ولَقُتِلَ منهم عددٌ لا يُحصيه إلا الله تبارك وتعالى، ولَمُزِّقَتْ الأُمة تمزيقا، ولَمَا قامت لها قائمة من ذلك الوقت.

وللأسف فإن هذا القول يُنْسَبُ إلى أبي عبد الله رضي الله عنه، ووالله إنه لَبَري ءٌ من هذا الكلام وأمثاله.

وأقول: لقد قلنا: إن صلح الإمام الحسن عليه السلام جرى على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، ولا ريب في أن فوائده كثيرة، ومنافعه جليلة، وليس هذا محل بيانها ما دام الخلاف فيها غير موجود بيننا.

وأما زعم الكاتب نسبة هذا القول إلى أبي عبد الله عليه السلام فهو وهم فاحش، لأنه إن أراد أن الإمام أبا عبد الله الصادق عليه السلام قد قال هذا الكلام، وهو: (يا مُذلّ المؤمنين)، فهذا هراء وهذيان، ولا أظنه يزعم ذلك، إلا إذا أصيب في عقله، ولا سيما أن رواية سفيان بن أبي ليلى في رجال الكشي مروية عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام، لا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.

وأما إن أراد بذلك أن الشيعة نسبوا إلى الإمام الصادق عليه السلام أن سفيان بن أبي ليلى قال ذلك للإمام الحسن عليه السلام، فهذا كسابقه، لأن الرواية كما مرَّ قد رُويتْ عن الباقر عليه السلام، مضافاً إلى أنّا قلنا فيما تقدَّم: (إن هذه الرواية ضعيفة السند)، ولا يلزم من وجود رواية عن الإمام عليه السلام نسبة محتواها إليه، ولا سيما إذا كانت ضعيفة السند.

ثم ما هو المحذور في أن يخبر الإمام عليه السلام بهذا الخبر المروي في كتب أهل السنة

ص: 151

بأسانيد أخرى؟!

فقد أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك، والطبراني في معجمه الكبير، وابن أبي شيبة في مصنَّفه، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وغيرهم عن أبي العريف قال: كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفاً، تقطر أسيافنا من الحدة على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمر طه، فلما أتانا صلح الحسن بن علي ومعاوية كأنما كُسرتْ ظهورنا من الحرد والغيظ، فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قام إليه رجل منا يُكنى أبا عامر سفيان بن الليل، فقال: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين. فقال الحسن: لا تقل ذلك يا أبا عامر، لم أُذِلَّ المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك (1) 227.

فتحصَّل مما قلناه أن الكاتب أراد أن يُعيب الشيعة بأنهم نسبوا هذه الرواية للإمام عليه السلام، مع أنها ضعيفة السند، وهي بعينها مروية في كتب أهل السنة، وقد رواها جملة من أعلامهم كما مرَّ.

قال الكاتب: وأما الإمام الصادق فقد ناله منهم شتى أنواع الأذى، ونسبوا إليه كل قبيح، اقرأ معي هذا النص:

عن زرارة قال: (سألتُ أبا عبد الله رضي الله عنه عن التشهد .. قلت: التحيات والصلوات .. فسألته عن التشهد فقال كمثله، قال: التحيات والصلوات، فلما خرجتُ ضرطتُ في لحيتِه، وقلتُ: لا يفلح أبداً) رجال الكشي ص 142.

حق لنا أن نبكي دماً على الإمام الصادق رضي الله عنه، نعم .. كلمة قذرة كهذه تقال في حق الإمام أبي عبد الله؟؟ أيضرط زرارة في لحية أبي عبد الله رضي الله عنه؟! أيقول عن


1- المستدرك 3/ 175. المصنف لابن أبي شيبة 7/ 476. كنز العمال 11/ 349، 13/ 589. ذخائر العقبى، ص 240. تاريخ بغداد 10/ 305. تاريخ مدينة دمشق 13/ 279، 59/ 151. البداية والنهاية 8/ 20، 134.

ص: 152

الصادق رضي الله عنه: لا يفلح أبداً؟؟

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإنها مرسلة من أولها، وذلك لأن الكشي يرويها عن يوسف، وهو يوسف بن السخت بقرينة وروده في روايات الكشي، تارة بلا واسطة كما في هذه الرواية (رقم 265)، ورقم 312، وتارة بواسطة محمد بن مسعود وهو العياشي شيخ الكشي، كما في رقم 840، 1038، 1129، وتارة بواسطة علي كما في رقم 268، وتارة بواسطة النضر، كما في رقم 1008، وتارة بواسطة محمدبن مسعود، عن علي بن محمد القمي، عن محمد بن أحمد، كما في رقم 1130.

ويوسف بن السخت لم يدركه الكشي لتصح روايته عنه، وذلك لأنه من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام المتوفى سنة 256 ه-، والكشي من طبقة جعفر بن محمد بن قولويه المتوفى سنة 369 ه-، إلا أنه توفي قبله بسنين (1) 228، فكيف يصح أن يروي عنه هذه الرواية؟!

هذا مع أن يوسف بن السخت نفسه لم يثبت توثيقه، بل ضعَّفه ابن الغضائري، حيث قال: ضعيف مرتفع القول، استثناه القميون من نوادر الحكمة (2) 229.

وضعَّفه العلّامة الحلي في الخلاصة، وابن داود في رجاله، والمجلسي في الوجيزة والرجال، والمامقاني والخوئي وغيرهم (3) 230.

ويوسف هذا قد روى الخبر عن علي بن أحمد بن بقاح، عن عمِّه، وهما مجهولان ليس لهما عنوان في كتب الرجال.

فهذه الرواية ضعيفة السند جداً، إذ أنها مرسلة من أولها، ورواتها إلى زرارة إما


1- طبقات أعلام الشيعة (نوابغ الرواة في رابعة المئات)، ص 295. وذكر الزركلي في الأعلام 6/ 311 أن وفاة الكشي كانت نحو 340 ه-.
2- رجال ابن الغضائري، ص 103.
3- رجال العلامة، ص 265. رجال ابن داود، ص 285. الوجيزة، ص 201. رجال المجلسي، ص 344. تنقيح المقال 3/ 335. معجم رجال الحديث 20/ 168.

ص: 153

ضعيف أو مهمل.

وأما متن الرواية، فهو لا يدل على ما قاله الكاتب، ولا بأس بنقل تمام الرواية ليتضح معناها جيداً.

قال الكشي: يوسف قال: حدثني علي بن أحمد بن بقاح، عن عمِّه عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التشهد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قلت: التحيات والصلوات؟ قال: التحيات والصلوات. فلما خرجت قلت: إن لقيته لأسألنَّه غداً. فسألته من الغد عن التشهد، فقال كمثل ذلك، قلت: التحيات والصلوات؟ قال: التحيات والصلوات. قلت: ألقاه بعد يوم فلأسألنَّه غداً. فسألته عن التشهد فقال كمثله، قلت: التحيات والصلوات؟ قال: التحيات والصلوات. فلما خرجتُ ضرطتُ في لحيته، وقلت: لا يفلح أبداً.

قال المير داماد في شرح الحديث: قوله: (التحيات والصلوات) ظن زرارة أن تقريره عليه السلام إياه على التحيات من باب التقية، مخافة أن يروي عنه زرارة أنه ينكر التحيات في التشهد، فقال: لئن لقيته غداً لأسألنَّه، لعله يفتيني بالحق من غير تقية. فلما سأله من الغد وأجابه بمثل ما قد كان أجابه وقرَّره أيضاً على التحيات كما قد كان قرَّره، حمل زرارة ذلك أيضاً على التقية، وقال: سألقاه بعد اليوم فلأسألنَّه عن ذلك مرة أخرى، فلعله يترك التقية، ويجيبني على دين الإمامية. فلما سأله من الغد ثالثاً وأجابه عليه السلام وقرَّره على قوله والتحيات بمثل ما قد أجابه وقرَّره بالأمس وقبل الأمس، علم أنه ليس يترك التقية مخافة منه. وقال: فلما خرجتُ ضرطتُ في لحيته فقلت: لا يفلح أبداً. والضمير عائد إلى مَن يعمل بذلك ويعتقد صحَّته، أي في لحية من يعتقد لزوم التحيات في التشهد كما عند المخالفين من العامة، ويعمل بذلك ويحتسبه من دين الإمامية، لا يفلح من يأتي بذلك على اعتقاد أنه من الدين أبداً (1) 231.


1- شرح مير داماد على اختيار معرفة الرجال 1/ 379.

ص: 154

قلت: ولعل قوله: (التحيات والصلوات) إنما كان إنكاراً، أي كيف تقول: التحيات والصلوات؟! لا أنه وارد على نحو التقية من زرارة.

وتكرار زرارة السؤال إنما كان من أجل التأكد من عدم جواز الإتيان بمثل هذه الصيغة في التشهد، فلما علم أن الإمام عليه السلام ينكر على من يأتي بها قال: فضرطت بلحية من يأتي بها وقلت: إن من يأتي بها لا يفلح أبداً، لأنه ضيَّع التشهد الذي هو واجب مفروض عليه في الصلاة، وأتى بغيره مما لايصح.

والخلاصة أن هذه الرواية ساقطة سنداً، وقاصرة دلالة على ما قاله من طعن زرارة في الإمام الصادق عليه السلام.

قال الكاتب: لقد مضى على تأليف كتاب الكشي عشرة قرون، وتداولته أيدي علماء الشيعة كلهم على اختلاف فِرَقِهِم، فما رأيت أحداً منهم اعترض على هذا الكلام، أو أنكره أو نَبَّهَ عليه.

وأقول: لقد أوضح مير داماد (المتوفى سنة 1041 ه-) معنى هذه الرواية في شرحه على كتاب اختيار معرفة الرجال كما مرَّ بما يزيل اللبس، ويرفع الشبهة.

وأنكر الحديث من رأس الشيخ حسن صاحب المعالم قدس سره (المتوفى سنة 1011 ه-) في كتابه (التحرير الطاووسي)، حيث علق على هذا الحديث بقوله: والحديث الذي أشار إليه هو الحديث المتضمن للسؤال عن التشهد، ورائحة الكذب تفوح منه (1) 232.

وقال المامقاني (المتوفى سنة 1351 ه-): وفي حاشية المنهج لمؤلِّفه معلِّقاً على ذيل خبر التشهد المذكور هكذا: معلوم أن مثل ذلك لا يكون من زرارة، ولو كان مردوداً


1- التحرير الطاووسي، ص 128.

ص: 155

بالنسبة إليه عليه السلام كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بحال الرجال، بل الأوضح كونه موضوعاً وافتراءاً وقرينة على وضع كثير مما روي فيه أي في زرارة من الطعن، ولولا ذلك لما كان يليق ذكره ولا إيراده، بل لا يحل كما لا يخفى (1) 233.

هذا ما عثرنا عليه في هذه العجالة مع قصور اليد عن كثير من الكتب الرجالية التي تنفع في هذه المسألة، وبه يتضح بطلان مزاعم الكاتب من أن هذا الحديث لم ينكره أحد من علماء الشيعة أو ينبِّهواعليه.

قال الكاتب: وحتى الإمام الخوئي، لما شرع في تأليف كتابه الضخم (معجم رجال الحديث) فإني كنتُ أحدَ الذين ساعدوه في تأليف هذا السِّفْر، وفي جمع الروايات من بطون الكتب، ولما قرأنا هذه الرواية على مسمعه أطرق قليلًا، ثم قال: لكل جواد كَبْوَةٌ، ولكل عالم هَفْوَةٌ، ما زاد على ذلك، ولكن أيها الإمام الجليل، إن الهفوة تكون بسبب غفلة، أو خطأ غير مقصود، إن قوة العلاقة بك إِذْ كنتُ لك بمنزلة الولد للوالد، وكنتَ مني بمنزلة الوالد لولده تُحَتِّمُ عليَّ أن أحمل كلامك على حسن النية، وسلامة الطوية، وإلا لَمَا كنتُ أرضى منك السكوت على هذه الإهانة على الإمام الصادق أبي عبد الله رضي الله عنه.

وأقول: يَرُدُّ ما قاله الكاتب المدَّعي قُربه من السيد الخوئي قدس سره أن السيد الخوئي ردَّ هذه الرواية في كتابه معجم رجال الحديث سنداً ومتناً، فقال بعد ذكرها:

أقول: لا يكاد ينقضي تعجبي كيف يذكر الكشي والشيخ هذه الرواية التافهة الساقطة غير المناسبة لمقام زرارة وجلالته والمقطوع فسادها، ولاسيما أن رواة الرواية بأجمعهم مجاهيل (2) 234.


1- تنقيح المقال 1/ 445.
2- معجم رجال الحديث 7/ 238.

ص: 156

فهل يريد الكاتب بعد هذا أن نصدق نُقولاته في الوقائع المختلفة، وهذه واحدة قد أكذبها السيد الخوئي في معجمه بحمد الله وفضله؟!

هذا مع أن الذين استعان بهم السيد الخوئي في معجمه قد ذُكرتْ أسماؤهم في مقدمة الطبعة الأولى من المعجم، ومما جاء في المقدمة:

وقد أنيط أمر هذا السفر الجليل- بعد إعداده- إلى جملة من الأفاضل لتعمل على:

أ- تنظيم المتفرقات من الرواة.

ب- التأكد من سلامة النقل وملاحظة الأرقام.

ج- تنظيم الإرجاعات الكاشفة في الأسماء المترابطة.

د- ملاحظة التنسيق والإخراج.

ه-- الاستنساخ.

و- مقابلة الاستنساخ.

ز- الإشراف على التصحيح.

لجنة الضبط والتصحيح:

1- الشيخ محمد المظفري: لتنظيم المتفرقات من الرواة.

2- الشيخ حيدر علي هاشميان: لتنظيم المتفرقات من الرواة.

3- الشيخ يحيى الأراكي: للتأكد من سلامة النقل وملاحظة الأرقام.

4- السيد مرتضى ااني: للاستنساخ.

5- السيد عبد العزيز الطباطبائي: للتصحيح.

6- السيد جواد اني: للإشراف على التصحيح.

7- الشيخ محمد كاظم الخوانساري: لتدقيق التصحيح.

ص: 157

8- الشيخ فخر الدين الزنجاني: لمقابلة الاستنساخ.

9- الشيخ محمد التبريزي: لمقابلة الاستنساخ.

10- الشيخ غلام رضا الرحماني: لمقابلة الاستنساخ.

11- السيد مرتضى الحكمي: للإخراج والإرجاعات الرجالية الكاشفة (1) 235.

هذه هي اللجنة المشرفة على إخراج معجم رجال الحديث، ومن الواضح أنه ليس فيهم كربلائي واحد، وكلهم فضلاء معروفون، فأين كان موقع الكاتب المدَّعي لدخوله في اللجنة المذكورة؟

قال الكاتب: وقال ثِقَةُ الإسلام الكليني (حدثني هشام بن الحكم وحماد عن زرارة قال: قلت في نفسي: شيخٌ لا عِلمَ له بالخصُومةِ- والمراد إمامه-).

وقد كتبوا في شرح هذا الحديث:

إن هذا الشيخ عجوز لا عقلَ له، ولا يحسنُ الكلام مع الخصم

فهل الإمام الصادق (لا عَقْلَ له)؟

إن قلبي ليَعْتَصرُ أَلمًا وحزناً، فإن هذا السباب وهذه الشتائم وهذه الجرأة لا يستحقها أهل البيت الكرام، فينبغي التأدب معهم.

وأقول: نص هذا الحديث كما رواه الكليني قدس سره في الكافي:

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: يدخل النار مؤمن؟ قال: لا والله. قلت: فما يدخلها إلا كافر؟ قال: لا، إلا من شاء الله. فلما رددت عليه مراراً قال لي: أي زرارة إني أقول: لا، وأقول: إلا من شاء الله. وأنت تقول: لا، ولا تقول: إلا من شاء الله.


1- معجم رجال الحديث 1/ ل. طبعة أخرى 1/ 18.

ص: 158

قال: فحدثني هشام بن الحكم وحماد عن زرارة قال: قلت في نفسي: شيخ لا علم له بالخصومة. قال: فقال لي: يا زرارة ما تقول فيمن أقرَّ لك بالحكم (1) 236 أتقتله؟ ما تقول في خدمكم وأهليكم أتقتلهم؟ قال: فقلت: أنا والله الذي لا علم لي بالخصومة (2) 237.

قال المولى محمد صالح المازندراني:

الشرح: قوله: (عن عبد الرحمن بن الحجاج عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: يدخل النار المؤمن؟ قال: لا والله. قلت: فما يدخلها إلا كافر؟ قال: لا إلا من شاء الله) أي لا يدخلها أحد غير كافر إلا من شاء الله أن يدخلها، وهذا وسط بين المؤمن والكافر لما ستعرفه، خلافاً لزرارة حيث ينفي الوسط بينهما، وكأنه تمسَّك بقوله تعالى (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)، وبقوله تعالى (فريق في الجنة وفريق في السعير)، وفي دلالتهما على ذلك منع. قال: (فلما رددت عليه مراراً قال لي: أي زرارة إني أقول: لا، وأقول: إلا من شاء الله. وأنت تقول: لا. ولا تقول: (إلا من شاء الله) المفهوم من قوله عليه السلام: (إلا من شاء الله) أن غير الكافر قد يدخل النار، وقد فُهم من قوله عليه السلام: (لا والله) أن المؤمن لا يدخل النار، فقد فُهم منهما أن هذا الغير ليس بمؤمن ولا كافر، فهو وسط بينهما، وإنما لم يأتِ عليه السلام بعد قوله: (لا والله) بالاستثناء، ولم يقل: (إلا ما شاء الله) لعدم احتماله، إذ المؤمن لا يدخل النار قطعاً، بخلاف قوله: (لا) في السؤال الثاني، فإنه يجوز فيه الاستثناء، فإن المستثنى منه المقدَّر في قول زرارة (فما يدخلها إلا كافر؟)، وهو أحد يصدق بعد استثناء الكافر على المؤمن وغيره، وغيره قد يدخل النار، فلذلك استثناه بقوله: (إلا من شاء الله)، وجوز دخوله في النار بمشيئة الله تعالى، وأما زرارة فلما خصَّ المستثنى منه بالمؤمن، ترك الاستثناء ولم يقل: (إلا ما شاء الله). ومما قرَّرنا ظهر أن مناط الفرق بين القولين هو هذا الاستثناء وتركه، فإن الأول يوجب ثبوت الواسطة، والثاني عدمه. (قال:


1- في حاشية الكافي: أي يقول: أنا على مذهبك، كلُّ ما حكمت عليَّ أنا أعتقده وأدين الله به.
2- الكافي 2/ 385.

ص: 159

فحدثني هشام بن الحكم وحماد، عن زرارة قال: قلت في نفسي: شيخ لا علم له بالخصومة) قال زرارة: (النار لا يدخلها إلا كافر) صادق بدون الاستثناء، ولا يثبت الحاجة إليه إلا بإبطال قوله وبيان فساده، ولما تكرر الكلام ولم يبين عليه السلام فساده، أساء زرارة وأضمر بأنه شيخ لا علم له بالخصومة والمناظرة، إذ لا بد في مقام المناظرة وإثبات المدَّعى من إبطال قول الخصم وبيان فساده، فلما علم عليه السلام ما أضمره تصدى لبيان فساد قوله بمقدمة مسلَّمة عنده، وهي أن ضعفاء المسلمين الذين ليس لهم معرفة بالدين، وهم مُقِرّون بحكمه، مندرجون تحت يده وقدرته، وأن خدمه وأهليه المستضعفين غير مؤمنين عنده ولا كافرين، لأنه لا يجوز قتلهم، ولو كانوا كافرين لجاز، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وهو كفر هؤلاء، يستحقون النار بزعمه، فلزم من ذلك أن النار لا يدخلها إلا كافر على الإطلاق ليس بصحيح، بل لا بد من التقييد بالاستثناء كما ذكره عليه السلام، وهذا ما نقله زرارة عنه عليه السلام. (قال: فقال لي: يا زرارة ما تقول فيمن أقرَّ لك بالحكم أتقتله؟) إشارة إلى القسم الأول، (ما تقول في خدمكم وأهليكم أتقتلهم؟) إشارة إلى القسم الثاني، والهمزة للإنكار، ويحتمل أن يكون (ما تقول في خدمكم) بياناً لما قبله، والغرض على التقديرين تقريره بأن هؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا كافرين. (قال: فقلت: أنا والله الذي لا علم لي بالخصومة) قال ذلك لصيرورته مغلوباً بما لديه، ومخصوماً بما عنده وهو عليه (1) 238.

قلت: ومنه يتضح أن قول زرارة: (إن الإمام لا علم له بالخصومة) إنما كان مجرد خاطر في ذهنه، وهو من الخواطر التي قد تخطر في الذهن لسبب ما وتزول بسرعة، ولا يؤاخذ عليها، فلما أوضح الإمام عليه السلام لزرارة وجه المسألة، عرف زرارة أنه هو الذي لا علم له بالخصومة، فلاإشكال في الحديث، ولا وجه للطعن في زرارة بسبب أمثال هذه الخواطر.

أو لعل ذلك قد صدر من زرارة في أول ملاقاة له مع الإمام الباقر عليه السلام وقبل


1- شرح المازندراني 10/ 59.

ص: 160

أن يقر بإمامته ويعترف بعصمته.

ومن المضحكات أن الكاتب جاء بهذا الحديث لبيان أن الشيعة يطعنون في الإمام الصادق عليه السلام، مع أن المذكور في الحديث هو الإمام الباقر عليه السلام لا الإمام الصادق عليه السلام، وعذر مدَّعي الاجتهاد أنه ظن أن (أبا جعفر) هو الإمام الصادق عليه السلام!!

قال الكاتب: وأما العباس وابنه عبد الله، وابنه الآخر عبيد الله، وعقيل عليهم السلام جميعاً فلم يسلموا من الطعن والغمز واللَّمز، اقرأ معي هذه النصوص:

روى الكشي أن قوله تعالى فَلَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العَشِير، نزلت فيه- أي في العباس- رجال الكشي ص 54.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها: أبو محمد بن عبد الله ابن محمد اليماني، والظاهر أنه أبو محمد عبد الله بن محمد اليماني بقرينة رواية حمدان بن سليمان عنه، فإنه يروي عن عبد الله بن محمد اليماني (1) 239، وهو مجهول الحال، لم يُذكر في كتب الرجال بمدح ولاذم.

ومن جملة رواة هذا الخبر: الحسين بن أبي الخطاب، وهو مجهول الحال أيضاً، لم يوثَّق في كتب الرجال.

قال المامقاني: لم أقف فيه على توثيق أو مدح (2) 240.

ومن جملة رواة هذا الخبر: طاووس، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

وعليه فهذه الرواية ساقطة سنداً، فلا يصح الاحتجاج بها في شي ء.


1- راجع معجم رجال الحديث 10/ 319.
2- تنقيح المقال 1/ 317.

ص: 161

قال الكاتب: وقوله تعالى: ومَن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا وقوله تعالى ولا ينفعُكم نُصْحِي إن أردتُ أَنْ أنصح لكم نزلتا فيه ص 52- 53.

وأقول: هذه الرواية أيضاً ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها جعفر بن معروف، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

قال الخوئي في معجم رجال الحديث: إن من ترجمه الشيخ ويروي عنه الكشي كثيراً لم تثبت وثاقته، فإن الوكالة لا تلازم الوثاقة على ما تقدم في المدخل، واعتماد الكشي عليه لا يثبت الوثاقة أيضاً ... (1) 241.

وعليه فهذه الرواية ساقطة أيضاً.

قال الكاتب: وروى الكشي أيضاً أن أمير المؤمنين رضي الله عنه دعا على عبد الله بن العباس وأخيه عُبَيْد الله فقال: (اللهم العن ابنَيّ فلان- يعني عبد الله وعبيد الله- واعم أبصارَهُمَا كما عَميَتْ قلوبُهما الاجلين في رقبتي، واجعل عَمَى أبصارهما دَليلًا على عَمَى قلوبهَما) ص 52.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها محمد بن سنان، وهو ضعيف على المشهور.

فقد ضعفه النجاشي في رجاله حيث قال: وهو رجل ضعيف جداً، لا يعوَّل عليه، ولا يُلتفَت إلى ما تفرَّد به.

وقال الشيخ: محمد بن سنان مطعون عليه، ضعيف جداً، وما يستبد بروايته


1- معجم رجال الحديث 4/ 132.

ص: 162

ولا يشركه فيه غيره لا يُعمل عليه.

وقال المفيد في رسالته العددية: ومحمد بن سنان مطعون فيه، لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه، وما كان هذا سبيله لا يُعمل عليه في الدين.

وقال المحقق الخوئي: ولولا أن ابن عقدة والنجاشي والشيخ والشيخ المفيد وابن الغضائري ضعَّفوه وأن الفضل بن شاذان عدَّه من الكذابين، لتعيّن العمل برواياته، ولكن تضعيف هؤلاء الأعلام يصدّنا عن الاعتماد عليه والعمل برواياته (1) 242.

هذا مضافاً إلى أن الرواية لم يرد فيها (يعني عبد الله وعبيد الله)، وإنما هي استظهار من الكاتب، ولعل اللعن لغيرهما، وإدراج الكشي للرواية تحت عنوان عبدالله بن عباس اجتهاد منه، ولعل المراد غير ابني العباس.

هذا مع أن الرواية اشتملت على عبارة مشوشة وهي قوله (الأجلين في رقبتي)، وهي كلمة لا يُعرف لها معنى، وهو تشويش يوهن الرواية ويمنعنا من العمل بها.

وعلى كل حال فإنا لو سلَّمنا بصحة كل تلك الروايات القادحة في عبد الله بن عباس، فإن دواوين أهل السنة وصحاحهم مملوءة بذكر ما شجر بين الصحابة من سُباب وشتم وحرب مما لا يخفى على أحد.

فما بالهم لم يعتبروا رواية تلكم الأحاديث في كتبهم طعناً في أهل السنة، واعتبروا نقل أمثال هذه الروايات في الكتب الشيعية طعناً في الشيعة، مع أن بعض تلك الروايات مروية عن طاووس الذي هو من رواة أهل السنة.

هذا مع أن الكاتب لو كان مجتهداً وكان منصفاً كما يزعم لعلم أن منهج الكشي رحمه الله في رجاله هو ذِكْر الأخبار المادحة والقادحة المنقولة في رواة الأحاديث، وأما الترجيح بينها أو قبول بعضها وطرح بعضها الآخر فهو وظيفة الفقيه، ولا يلزم من


1- معجم رجال الحديث 16/ 160.

ص: 163

رواية أمثال هذه الأخبار الطعن في الكشي خاصة أو في الشيعة عامة، وهو معلوم لا يحتاج إلى مزيدبيان.

ولو كان عند الكاتب أدنى معرفة بتمييز الأخبار ومعرفة الغث منهاوالسمين لعلم أن الأخبار المروية في ابن عباس كلها من الأحاديث الواهية الضعيفة كما أوضحنا بعضها، وكما نص عليه بعض أعلام المذهب.

فقد قال السيد أحمد بن طاووس: وقد روى صاحب الكتاب يعني الكشي أخباراً شاذة ضعيفة تقتضي قدحاً أو جرحاً، ومثل الحَبْر يعني ابن عباس رضوان الله عليه موضع أن يحسده الناس وينافسوه ويقولوا فيه ويباهتوه:

حسَدُوا الفتَى إذْ لم يَنالوا فضلَه فالناسُ أعداءٌ له وخصومُ

كضرائرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجْهِهاحسَداً وبَغْياً: إنَّه لدميمُ.

ثم ذَكَر تلك الأحاديث وبيَّن ضعفها ثم قال: هذا الذي رأيت، ولو ورد في مثله ألف حديث يُنقل أمكن أن يعرض للتهمة، فكيف مثل هذه الروايات الواهية الضعيفة الركيكة (1) 243. وقال التفرشي في نقد الرجال: وما ذكره الكشي من الطعن فيه- أي في ابن عباس- ضعيف السند (2) 244.

وقال المحقق الخوئي بعد أن ضعف جملة من الروايات القادحة فيه: هذه الرواية وما قبلها من طرق العامة، وولاء ابن عباس لأمير المؤمنين وملازمته له عليه السلام هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة وتوجيه التُّهَم والطعون عليه (3) 245.

ثم ما بال القوم كفَّروا والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداده الطاهرين، كما كفَّروا أبا


1- التحرير الطاووسي، ص 159، 163.
2- نقد الرجال 3/ 118.
3- معجم رجال الحديث 10/ 238.

ص: 164

طالب عليه السلام، وهو عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكافله وحاميه وناصره، ولم يروا في ذلك بأساً ولا غضاضة مع وضوح الدلائل على إيمانهم، وطعنوا في الشيعة من أجل روايات ضعيفة ظاهرها الطعن بما لا يستوجب كفراً في العباس بن عبد المطلب، أو في ابنه عبد الله؟!

ولعمري إنهم إذا أرادوا أن يراعوا حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمِّه العباس وابنه فمراعاته في والديه وأجداده وعمِّه أبي طالب عليهم السلام أولى.

قال الكاتب: وروى ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني في الفروع عن الإمام الباقر قال في أمير المؤمنين: (وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام، عباس وعقيل).

وأقول: أما أنهما ضعيفان فهو معلوم من حالهما، فلم يُعرف لهما موقف في حرب أو في سلم يدل على قوة أو شجاعة، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وأهل السنة قد رووا أنهما أُخرجا مع المشركين إلى بدر مُكرَهين (1) 246، وحسبك هذا دليلًا على ضعفهما.

وأما أنهما ذليلان فلعل المراد بذلك هو ذلّهما لما أُسِرا يوم بدر مع من أُسِر من المشركين (2) 247.

وأما أنهما حديثا عهد بالإسلام فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أن العباس أسلم قبل فتح خيبر وأظهر إسلامه يوم فتح مكة (3) 248، وذكر أن إسلام عقيل كان قبل


1- أما خروج العباس مكرهاً فذُكر في أسد الغابة 3/ 163، والإصابة 3/ 511، والاستيعاب 2/ 812، وسير أعلام النبلاء 2/ 96. وأما خروج عقيل فراجعه في سير أعلام النبلاء 1/ 218، 3/ 99. وأسد الغابة 4/ 61. والاستيعاب 3/ 1078. والمنتظم 5/ 236.
2- أسد الغابة 3/ 165. الاستيعاب 2/ 811.
3- الاستيعاب 2/ 812.

ص: 165

الحديبية (1) 249.

وقال ابن حجر: تأخَّر إسلامه يعني عقيلًا إلى عام الفتح.

وجعل إسلامه بعد الحديبية قولًا (2) 250.

قال الكاتب: إن الآيات الثلاث التي زعم الكشي أنها نزلت في العباس معناها الحكم عليه بالكُفر والخلود في النار يوم القيامة، وإلا فقل لي بالله عليك ما معنى قوله: فهو في الآخرة أعمى وأَضَلُّ سبيلا؟

وأقول: لقد أوضحنا فيما تقدَّم ضعف الحديث سنداً، وأنه لا يصح الاحتجاج به، وإطالة الكلام فيه مضيعة للوقت.

ثم إن الكشي لم يقل: (إن الآيات نزلت في العباس وابنيه) كما زعم الكاتب، وإنما روى ذلك بسنده عن طاووس والزهري والشعبي وغيرهم، فلعل الزاعم هو هؤلاء الذين هم من أهل السنة!! أو غيرهم ... من يدري؟؟

قال الكاتب: وأما أَنّ أمير المؤمنين رضي الله عنه دعا على ولدي العباس عبد الله وعبيد الله باللعن وعمى البصر وعَمَى القلب فهذا تكفير لهما.

وأقول: لقد أوضحنا فيما تقدَّم أن الرواية ضعيفة السند، فالكلام فيها هدر للوقت بلا فائدة، وأوضحنا أنه لم يرد في الحديث ذكر للعباس وابنيه، فلو سلَّمنا بصحة الحديث فلعل المراد غيرهما ممن يستحق اللعن، والله العالم.


1- نفس المصدر 3/ 1078.
2- الإصابة 4/ 438.

ص: 166

قال الكاتب: إن عبد الله بن العباس تلَقِّبُه العامة- أهل السنة- بترجمان القرآن وحَبْرُ الأُمة، فكيف نلعنه نحن، ونَدَّعِي محبةَ أهلِ البيتِ عليهم السلام؟!!

وأقول: ومن قال لمدَّعي الاجتهاد والفقاهة أن الشيعة يلعنون عبدالله بن عباس؟

ولا أدري لمَ نسب للشيعة قاطبة لعن ابن عباس بسبب وجود روايات ضعيفة السند في أحد كتبهم، مع أن كلمات علماء الشيعة في مدح ابن عباس لا تخفى على من يرى في نفسه الاجتهاد، وهي أشهر من أن تذكر، وإليك بعضاً منها:

1- قال العلامة الحلي في رجاله: عبد الله بن العباس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، كان محبًّا لعلي عليه السلام وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام أشهر من أن يخفى، وقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن قدحاً فيه، وهو أجل من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير، وأجبنا عنها، رضي الله تعالى عنه (1) 251.

2- وقال ابن داود في رجاله: عبد الله بن العباس (ل ي) (2) 252 رضي الله عنه، حاله أعظم من أن يشار إليه في الفضل والجلالة ومحبة أمير المؤمنين عليه السلام وانقياده إلى قوله (3) 253.

3- وقال السيد أحمد بن طاووس في كتابه حل الإشكال: عبد الله بن العباس رضوان الله عليه حاله في المحبة والإخلاص لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام والموالاة والنصرة له والذب عنه والخصام في رضاه والموازرة مما لا شبهة فيه (4) 254.


1- رجال العلامة، ص 103.
2- يعني من أصحاب رسول الله وأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام.
3- رجال ابن داود، ص 121.
4- التحرير الطاووسي، ص 159.

ص: 167

4- وقال السيد علي خان الشيرازي في الدرجات الرفيعة: الذي أعتقده في ابن عباس رضي الله عنه أنه كان من أعظم المخلصين لأمير المؤمنين وأولاده، ولا شك في تشيّعه وإيمانه، وستقف على ما نذكره من أخباره على ما تحقق معه ذلك إن شاء الله تعالى (1) 255.

5- وقال الحر العاملي في خاتمة وسائل الشيعة: عبد الله بن العباس، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام أشهر من أن يخفى، وقد روي فيه قدح، وهو أجل من ذلك (2) 256.

6- وقال المحقق الخوئي في معجم رجال الحديث: والمتحصل مما ذكرنا أن عبد الله بن عباس كان جليل القدر مدافعاً عن أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام كما ذكره العلّامة وابن داود (3) 257.

إلى غير ذلك مما لا يسعنا ذكره من كلمات أعلام الشيعة الإمامية قدَّس الله أسرارهم، التي تصدح بمدح عبد الله بن عباس والثناء عليه، وتبطل ما قاله الكاتب من تكفير الشيعة له ولعنهم إياه.

قال الكاتب: وأما عقيل رضي الله عنه فهو أخو أمير المؤمنين رضي الله عنه، فهل هو ذليل، وحديث عهد بالإسلام؟!

وأقول: أما أخوّته لأمير المؤمنين عليه السلام فلا يشك فيها أحد، وأما كونه ذليلًا وحديث عهد بالإسلام فلعله لما قلناه فيما تقدم، فلا حاجة لإعادته.


1- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، ص 101.
2- وسائل الشيعة 20/ 239.
3- معجم رجال الحديث 10/ 239.

ص: 168

ثم إن أهل السنة رووا من الطعن في عقيل ما هو أكثر من ذلك، فقد أخرج ابن عبد البر في (الاستيعاب) حديثاً عن ابن عباس جاء فيه قوله: كان عقيل أكثرهم ذِكْراً لمثالب قريش، فعادَوه لذلك، وقالوا فيه بالباطل، ونسبوه إلى الحمق، واختلقوا عليه أحاديث مزوَّرة، وكان مما أعانهم على ذلك مغاضبته لأخيه عليّ، وخروجه إلى معاوية، وإقامته معه، ويزعمون أن معاوية قال يوماً بحضرته: هذا لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه. فقال عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرتُ دنياي، وأسأل الله تعالى خاتمة الخير (1) 258.

ولا ريب في أن إقراره بأنه آثر دنياه على آخرته أشد في الطعن فيه من وصفه بأنه ضعيف أو ذليل أو حديث عهد بالإسلام.

قال الكاتب: وأما الإمام زين العابدين علي بن الحسين فقد روى الكليني: أن يزيد بن معاوية سأله أن يكون عبداً له، فرضي رضي الله عنه أن يكون عبداً ليزيد إذ قال له: (قد أقررتُ لك بما سألتَ، أنا عبدٌ مُكْرَهٌ فإن شِئتَ فَأمْسِكْ وإن شِئتَ فَبعْ) الروضة من الكافي في 8/ 235.

فانظر قوله وانظر معناه: (قد أقررتُ بأني عبد لك، وأنا عبد مكره، فإن شئت فابقني عبداً لك وإن شئت أن تبيعني فَبِعني) فهل يكون الإمام رضي الله عنه عبداً ليزيد يبيعه متى شاء، وَيُبقي عليه متى شاء؟

وأقول: نص الحديث بكامله كما رواه الكليني هو: ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج، فبعث إلى رجل من قريش، فأتاه فقال له يزيد: أتُقِرُّ لي أنك


1- الاستيعاب 3/ 1079. سير أعلام النبلاء 3/ 100.

ص: 169

عبد لي، إن شئت بِعتُك وإن شئتُ استرقيتُك؟ فقال له الرجل: والله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام، وما أنت بأفضل مني في الدين، ولا بخير مني، فكيف أقرّ لك بما سألت؟ فقال له يزيد: إن لم تقرّ لي والله قتلتك. فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي عليهما السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وآله. فأمر به فقُتل. ثم أرسل إلى علي بن الحسين عليهما السلام فقال له مثل مقالته للقرشي، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلتَ الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد لعنه الله: بلى. فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: قد أقررتُ لك بما سألت، أنا عبد مُكْرَه، فإن شئتَ فأمسك، وإن شئتَ فَبِعْ. فقال له يزيد لعنه الله: أولى لك حقنتَ دمك، ولم ينقصك ذلك من شرفك (1) 259.

وهذا الحديث ضعيف السند، فإن من جملة رواته أبا أيوب، وهو أبو أيوب الخزاز (إبراهيم بن زياد)، وهو مجهول، لم يوثَّق في كتب الرجال.

وعليه فهذه الرواية لا يصح الاعتماد عليها.

مضافاً إلى أن الرواية تنص على أن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج، وهذا خلاف ما عليه المؤرّخون من أنه لم يخرج من الشام مدة خلافته، ولم يأت للمدينة حاجًّا، وهذا يوهن الرواية، بل يُسقطها من رأس.

قال المجلسي قدس سره في بحار الأنوار: ثم اعلم أن في هذا الخبر إشكالًا، وهو أن المعروف في السِّيَر أن هذا الملعون لم يأتِ المدينة بعد الخلافة، بل لم يخرج من الشام حتى مات ودخل النار (2) 260.

ولو سلَّمنا بصحَّة الخبر فهذا الفعل غير مستبعَد من يزيد بن معاوية، فقد روى الواقدي كما حكاه ابن كثير في البداية والنهاية أن مسلم بن عقبة دخل المدينة، فدعا


1- الروضة من الكافي، ص 196 حديث 313.
2- بحار الأنوار 46/ 138.

ص: 170

الناس لبيعة يزيد على أنهم خِوَل (1) 261 ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء (2) 262.

وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمة مسلم بن عقبة: وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة، وأسرف في قتل الكبير والصغير حتى سمَّوه مسرفاً، وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك، والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون، ثم رفع القتل، وبايع من بقي على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية (3) 263.

وجاء في تاريخ الطبري أنه أُتي بيزيد بن وهب بن زمعة، فقال له مسلم بن عقبة: بايعْ. قال: أبايعك على سُنّة عمر. قال: اقتلوه. قال: أنا أبايعك. قال: لا والله، لا أقيلك عثرتك. فكلّمه مروان بن الحكم لصهر كان بينهما، فأمر بمروان فوُجئتْ عنقه، ثم قال: بايعوا على أنكم خول ليزيد بن معاوية. ثم أمر به فقُتِل (4) 264.

وقال: فدخل مسلم بن عقبة المدينة، فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد ابن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء (5) 265.

وقال خليفة بن خياط في تاريخه: ودخل مسلم بن عقبة المدينة، ودعا الناس إلى البيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية، يحكم في أهليهم ودمائهم وأموالهم ما شاء، حتى أتي بعبد الله بن زمعة، وكان صديقاً ليزيد بن معاوية وصفيًّا له، فقال: بايع على أنك خول لأمير المؤمنين، يحكم في دمك وأهلك ومالك. قال: أبايعك على أني ابن عم أمير المؤمنين، يحكم في دمي وأهلي ومالي. فقال: اضربوا عنقه. فوثب مروان فضمَّه إليه، وقال: يبايعك على ما أحببت. قال: والله لا أقيلها إياه أبداً. وقال: إن


1- خول: عبيد وخدم.
2- البداية والنهاية 8/ 225.
3- الإصابة 6/ 232.
4- تاريخ الطبري 4/ 378- 379.
5- المصدر السابق 4/ 381.

ص: 171

تنحَّى وإلا فاقتلوهما جميعاً. فتركه مروان، فضُربت عنق ابن زمعة (1) 266.

وذكر هذه البيعة أيضاً ابن الأثير في الكامل، وابن الجوزي في المنتظم وغيرهما (2) 267.

قلت: فإذا كان الحال هكذا فهل يريد الكاتب من الإمام زين العابدين سلام الله عليه أن يرفض ما قاله يزيد أو مسرف بن عقبة، فتضرب عنقه؟!

ومنه يُعلَم أن صدور ذلك لو صحَّ الحديث عن الإمام زين العابدين عليه السلام لا إشكال فيه ولا شبهة، ولا يصح توجيه الطعن للشيعة لوجود مثل هذه الرواية، وإلا فالطعن في أهل السنة أولى وأشد، لأنهم رووا أن بقية المهاجرين والأنصار بايعوا يزيد على أنهم عبيد ليزيد، يحكم في دمائهم وأموالهم ونسائهم ما يشاء.

قال الكاتب: إذا أردنا أن نستقصي ما قيل في أهل البيت جميعاً فإن الكلام يطول بنا إِذْ لم يسلم واحد منهم من كلمة نابية، أو عبارة قبيحة، أو عمل شنيع، فقد نُسبَتْ إليهم أعمال شنيعة كثيرة، وفي أُمهات مصادرنا، وسيأتيك شي ء من ذلك في فصل قادم.

وأقول: قد اتضح للقارئ الكريم وسيتضح أن كل ما يذكره الكاتب لا يخلو من أحد ثلاثة أمور:

إما أنه مروي برواية ضعيفة لا يعوَّل عليها، ولا يُحتَج بها.

وإما أن الكاتب فسَّره بغير المراد منه، وحمَّله من معنى لا يحتمله اللفظ.

وإما أنه يعتبر ما لا طعن فيه طعناً، كالقول بالمتعة والتقية.


1- تاريخ خليفة بن خياط 1/ 238.
2- الكامل 4/ 118. المنتظم 6/ 15.

ص: 172

وسيأتي مزيد بيان في ذلك إن شاء الله تعالى.

قال الكاتب: اقرأ معي هذه الرواية:

عن أبي عبد الله رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا ينام حتى يُقَبِّلَ عرض وجه فاطمة) بحار الأنوار 43/ 44.

(وكان يَضعُ وجهَه بين ثَدْيَيْها) بحار الأنوار 43/ 78.

وأقول: الروايات المشار إليها روايات ضعيفة مرسلة، ذكرها المجلسي في البحار من غير أسانيد.

ولو سلَّمنا بصحَّتها فهي لا تنافي الآداب، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يقبّلها تقبيل أبوَّة ومحبَّة وإجلال، وليس تقبيل شهوة ولذة، وهذا لا محذور فيه.

وأما المراد بوضع الوجه بين الثديين فهو وضعه على الصدر فوق الثديين وأسفل العنق، لا على نفس الثديين.

هذا مع أن أكثر علماء أهل السنة يجوِّزون تقبيل الولد والبنت في أي موضع منهما ما عدا العورة.

قال ابن حجر: قال ابن بطال: يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه، وكذا الكبير عند أكثر العلماء ما لم يكن عورة، وتقدم في مناقب فاطمة عليها السلام أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبِّلها، وكذا كان أبو بكر يقبِّل ابنته عائشة (1) 268.

قال الكاتب: إن فاطمة سلام الله عليها امرأة بالغة فهل يعقل أن يضع رسول


1- فتح الباري 10/ 350.

ص: 173

الله وجهه بين ثدييها؟!

وأقول: لقد أوضحنا المراد بوضع الوجه بين الثديين، ولا محذور أن يضع الوالد الرحيم الشفيق وجهه على صدر ابنته محبَّة ورحمة وإجلالًا.

ولا ندري هل اطّلع الكاتب على الروايات التي رواها أهل السنة في تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابنته الزهراء عليها السلام أم لا؟! فإنها لا تقل في مضمونها عن هذه الروايات، بل ربما زادت.

فقد روى محب الدين الطبري في (ذخائر العقبى) روايات مختلفة في هذا الباب، فقال:

ذكر ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبِّلها في فيها ويمصها لسانه:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله مالك إذا قبَّلت فاطمة جعلتَ لسانك في فيها كأنك تريد أن تلعقها عسلًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لما أُسري بي أدخلني جبريل الجنة، فناولني تفاحة فأكلتها، فصارت نطفة في ظهري، فلما نزلت من السماء واقعت خديجة، ففاطمة من تلك النطفة، كلما اشتقت إلى تلك التفاحة قبَّلتها. خرجه أبو سعد في شرف النبوة.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر القبل لفاطمة، فقالت له عائشة: إنك تكثر تقبيل فاطمة! فقال صلى الله عليه وسلم: إن جبريل ليلة أسرى بي أدخلني الجنة، فأطعمني من جميع ثمارها، فصار ماءاً في صلبي، فحملت خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت لتلك الثمار قبَّلت فاطمة، فأصبت من رائحتها جميع تلك الثمار التي أكلتها. خرجه أبو الفضل بن خيرون.

وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء من مغزاه قبَّل فاطمة، خرجه ابن السرى.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل يوماً نحر فاطمة. خرجه الحربي، وخرجه الملا في سيرته، وزاد: فقلت له: يا رسول الله فعلت شيئاً لم تفعله؟ فقال: يا

ص: 174

عائشة إني إذا اشتقتُ إلى الجنة قبَّلتُ نحرفاطمة (1) 269. انتهى.

وأخرج الحاكم في المستدرك عن سعد بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام بسفرجلة من الجنة، فأكلتها ليلة أُسري بي، فعلقتْ خديجة بفاطمة، فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممتُ رقبة فاطمة (2) 270.

وفي حديث آخر رواه الحاكم بسنده عن أبي ثعلبة جاء فيه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم ثنى بفاطمة رضي الله عنها، ثم يأتي أزواجه، فلما رجع خرج من المسجد تلقَّتْه فاطمة عند باب البيت تلثم فاه ... (3) 271.

قال المناوي في فيض القدير: وكانت فاطمة من فضلاء الصحابة وبلغاء الشعراء، وكانت أحب أولاده إليه، وإذا قدمت عليه قام إليها وقبَّلها في فمها (4) 272.

وقال أيضاً: (كان- يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم- كثيراً ما يقبِّل عُرْف) ابنته (فاطمة) الزهراء، وكان كثيراً ما يقبلها في فمها أيضاً. زاد أبو داود بسند ضعيف: ويمص لسانها (5) 273.

فما يقول الكاتب في مص اللسان وتقبيل النحر وشمِّه ولثم الفم، هل هو جائز عنده أم أنه لا يجوز؟!

هذا مع أن أهل السنة رووا في كتبهم عن عائشة أموراً منكرة لا أدري لماذا تعامى الكاتب عنها.

منها: ما أخرجه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده، والبيهقي في سننه الكبرى


1- ذخائر العقبى، ص 36.
2- المستدرك 3/ 156 ط حيدرآباد، 3/ 169 ط محققة. الدر المنثور 5/ 218.
3- المستدرك 3/ 156 ط حيدرآباد، 3/ 169 ط محققة.
4- فيض القدير 1/ 105.
5- المصدر السابق 5/ 174.

ص: 175

عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها (1) 274.

وقال الزرقاني: وللبيهقي عنها- أي عن عائشة- أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبِّلها وهو صائم ويمص لسانها. وفيه جواز الإخبار عن مثل هذا مما يجري بين الزوجين على الجملة للضرورة، وأما في حال غير الضرورة فمنهي عنه (2) 275.

بل إنهم رووا ما هو أعظم من ذلك، فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّج فخذي الحسين وقَبَّلَ زُبَيْبته (3) 276.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، وإسناده حسن (4) 277.

وأخرج البيهقي في سننه الكبرى بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الحسن، فأقبل يتمرَّغ عليه، فرفع عن قميصه، وقبَّل زُبَيْبته (5) 278.

فماذا يقول الكاتب في أمثال هذه الروايات التي رووها في كتبهم؟!

قال الكاتب: فإذا كان هذا نصيب رسول الله صلوات الله عليه ونصيب فاطمة، فما نصيب غيرهما؟

لقد شَكُّوا في الإمام محمد القانع هل هو ابن الرِّضا أم أنه ابن (.........). اقرأ معي هذا النص:


1- سنن أبي داود 2/ 312. السنن الكبرى للبيهقي 4/ 234. مسند أحمد 6/ 123، 234.
2- شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 2/ 219.
3- الأحاديث المختارة 9/ 555. المعجم الكبير 3/ 45، 12/ 108. الإصابة 1/ 611. ذخائر العقبى، ص 221. سير أعلام النبلاء 3/ 253. إلا أن فيه الحسن بدل الحسين.
4- مجمع الزوائد 9/ 186.
5- السنن الكبرى للبيهقي 1/ 137.

ص: 176

عن علي بن جعفر الباقر كذا أنه قيل للرضا رضي الله عنه:

(ما كان فينا إمام قط حائل اللون- أي تغير واسوَّدَ- فقال لهم الرضا رضي الله عنه: هو ابني، قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد قضى بالقافة- مفردها قائف وهو الذي يعرف الآثار والأشباه ويحكم بالنّسب- فبيننا وبينك القافة، قال ابعثوا أنتم إليه، فأما أنا فلا، ولا تعلموهم: لمَ دعوتُهم وَلْتكَونوا في بيوتكم.

فلما جاءوا أقعدونا في البستان، واصطف عمومته واخوته وأخواته، وأخذوا الرضا رضي الله عنه، وألبسوه جبة صوف، وقلنسوة منها، ووضعوا على عنقه مسحاة، وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثم جاءوا بأبي جعفر رضي الله عنه، فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس له ههنا أب، ولكن هذا عم أبيه، وهذا عمه، وهذه عمته، وإن يكن له ههنا أب فهو صاحب البستان، فإن قَدَمَيْه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن قالوا: هذا أبوه) أصول الكافي 1/ 322.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي، وهو مجهول، لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

وعليه فهذه الرواية ساقطة، لا يصح الاحتجاج بها في شي ء.

على أن في الرواية جهات من الإشكال كثيرة.

قال المحقق الخوئي قدس سره: يرد على الرواية وجوه:

الأول: أنها ضعيفة السند.

الثاني: أنها مخالفة لضرورة المذهب، فإنها اشتملت على عَرْض أخوات الإمام وعمَّاته على القافة، وهو حرام لا يصدر من الإمام عليه السلام. وتوهم أن ذلك من جهة الاضطرار، وهو يبيح المحظورات، توهم فاسد، إذ لم تتوقف معرفة بنوة الجواد للرضا عليه السلام على إحضار النساء.

الثالث: أن الجماعة الذين بغوا على الرضا عليه السلام لينفوا بنوة الجواد عليه السلام عنه لو

ص: 177

كانوا معتقدين بإمامة الرضا عليه السلام لما احتاجوا إلى القافة بعد إخباره بالبُنوة (1) 279.

قال الكاتب: أي أنهم شكوا في كون محمد القانع سلام الله عليه ابن الرضا رضي الله عنه، بينما يؤكد الرضا رضي الله عنه أنه ابنه، وأما الباقون فإنهم أنكروا ذلك، ولهذا قالوا: (ما كان فينا إمام قط حائل اللون) ولا شك أن هذا طعن في عرض الرضا رضي الله عنه، واتهام لامرأته، وشكٌّ في عِفَّتِها، ولهذا ذهبوا فأتوا بالقافة، وحكمَ القافةُ بأن محمداً القانع هو ابن الرضا رضي الله عنه لصلبه، عند ذلك رضوا وسكتوا.

وأقول: لو سلمنا بصحة هذه الرواية فهي لا ترتبط بشيعة الإمام عليه السلام، ولا تدل على أنهم قد شكّوا في بنوة الإمام الجواد عليه السلام كما مرَّ نقله عن السيد الخوئي قدس سره.

بل ظاهر الرواية أن هؤلاء كانوا من الهاشميين، ونحن لا نقول بعصمتهم أو بعدالتهم كلهم، ولا امتناع في أن يصدر من بعضهم مثل هذا الأمر، فإن هذه الشكوك قد تراود بعض من لا يلتفت إلى عوامل الوراثة من الأب والأم، وأن الولد قد يشبه أحد أجداده البعداء من أبيه أو أمّه.

ولا ندري لعل شك هؤلاء القوم كان ناشئاً من غفلة أو تسرّع أو جهل، أو كانوا يريدون دفع التهمة، أو غير ذلك مما يُعذرون فيه.

والحاصل أن هذه الرواية إن صحَّت فلا مطعن فيها على الشيعة، لأن كل ما يصدر من آحاد الناس، أو من الذين لا يعتقدون بالإمامة لا يُدان به الشيعة ولا يُلزَمون به، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى بيان أكثر.

وأود أن أنبّه القارئ الكريم إلى أن الشيعة لا يعبِّرون عن الإمام الجواد عليه السلام بالقانع كما صدر من الكاتب في هذا الموضع، وإن كان (القانع) من ألقابه عليه السلام.


1- مصباح الفقاهة 2/ 87.

ص: 178

قال الكاتب: من الممكن اتهام الآخرين بمثل هذه التهمة، وقد يُصَدِّقُ الناس ذلك، أما اتهام أهل البيت صلوات الله عليهم فهذا من أشنع ما يكون، وللأسف فإن مصادرنا التي نزعم أنها نَقَلَتْ عِلمَ أهل البيت مليئة بمثل هذا الباطل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأقول: لقد أوضحنا أنه ليس كل حديث في المصادر الشيعية يصح الاحتجاج به أو يعتقد به الشيعة، فإن كتب الشيعة فيها الصحيح وفيها الضعيف، والضعيف لا قيمة له، ولا بد من طرحه وترك العمل به.

ولو صحَّ الإلزام بالضعيف لألزمْنا المخالفين بأمور كثيرة هم لا يلتزمون بها، ولاحتججنا عليهم بما لا يُقرِّون به، فلا أدري لمَ يُصِرُّ مدَّعي الاجتهاد والفقاهة على إلزام الشيعة بكل حديث يراه في كتبهم وإن كان من الروايات الضعيفة أو الأحاديث الموضوعة؟!

قال الكاتب: عندما قرأنا هذا النص أيام دراستنا في الحوزة مر عليه علماؤنا ومراجعنا مرور الكرام، وما زِلتُ أذكر تعليل الخوئي عندما عرضتُ عليه هذا النص إذ قال ناقلًا عن السيد كذا آل كاشف الغطاء: إنما فعلوا ذلك لحرصهم على بقاء نسلهم نقياً!!

وأقول: هذه سقطة من سقطاته الواضحة كما ألمحنا إلى مثلها فيما مرَّ، فإن الكاتب لكونه سُنّيًّا يظن أن من ضمن مناهج الحوزة دراسة كتب الأحاديث ومنها الكافي للكليني، كما هو متعارف في الدراسة السُّنية التي من ضمنها دراسة كتب الأحاديث المشهورة عندهم، مع أن منهج الحوزة العلمية لا يشتمل على دراسة كتب

ص: 179

الأحاديث، لا الكافي ولا غيره.

وطالب العلم من أول دراسته الحوزوية حتى وصوله إلى أعلى المراتب العلمية لا يمر به هذا النص إلا بمطالعاته الخارجية، وكتب الدراسة الحوزوية معروفة كلها، وهي غير مشتملة على هذا الحديث.

ثم إن الكاتب لكونه يظن أن كاشف الغطاء كان أعلم من الخوئي فإنه من الطبيعي أن ينقل الخوئي كلاماً عن كاشف الغطاء، مع أن الخوئي لم ينقل في كل بحوثه ودروسه رأياً عن الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس سره ولا قولًا من أقواله، لأنه كان من أنداده لا من تلاميذه. ولو كان الكاتب طالباً في الحوزة لعلم ذلك، ولكن عذره في ذلك أنه لم يعرف الحوزة إلا سماعاً، ولم يعِشْ فيها فيطَّلع على ما فيها، فصار يخبط خبط عشواء، ويمشي مشْيَ الأعمى في الظلماء.

قال الكاتب: بل اتهموا الرضا سلام الله عليه بأنه كان يعشق بنت عم المأمون، وهي تعشقه، انظر عيون أخبار الرضا ص 153.

وأقول: يشير الكاتب إلى عبارة وردت في ضمن خبر طويل، ولا بأس بنقل ما أشار إليه الكاتب ليعلم القارئ حقيقة الأمر.

جاء في الخبر: وأظهر ذو الرياستين عداوة شديدة لأبي الحسن الرضا عليه السلام وحسده على ما كان المأمون يفضله به، فأول ما ظهر لذي الرياستين من أبي الحسن عليه السلام أن ابنة عم المأمون كانت تحبه وكان يحبها، وكان ينفتح باب حجرتها إلى مجلس المأمون، وكانت تميل إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام وتحبه، وتذكر ذا الرياستين وتقع فيه، فقال ذو الرياستين حين بلغه ذكرها له: لا ينبغي أن يكون باب دار النساء مشرعاً إلى مجلسك. فأمر المأمون بسدِّه، وكان المأمون يأتي الرضا عليه السلام يوماً، والرضا عليه السلام يأتي المأمون يوماً، وكان منزل أبي الحسن عليه السلام بجنب منزل المأمون، فلما دخل أبو الحسن

ص: 180

عليه السلام إلى المأمون، ونظر إلى الباب مسدوداً، قال: يا أمير المؤمنين، ما هذا الباب الذي سددته؟ فقال: رأى الفضل ذلك وكرهه. فقال عليه السلام: إنا لله وإنا إليه راجعون. ما للفضل والدخول بين أمير المؤمنين وحرمه؟ قال: فما ترى؟ قال: فتحه والدخول إلى ابنة عمك، ولا تقبل قول الفضل فيما لا يحل ولا يسع. فأمر المأمون بهدمه، ودخل على ابنة عمه، فبلغ الفضل ذلك فغمَّه (1) 280.

ومن الواضح أن الضمير في قوله: (أن ابنة عم المأمون كانت تحبه وكان يحبها) يعود للمأمون، أي أن المأمون كان يحب ابنة عمه، وكانت هي تحبه، وكانت تميل إلى الرضا وتحبه، أي توده، ولهذا أشار الإمام عليه السلام على المأمون بأن يفتح الباب الذي كان شارعاً على مجلسه، ويتزوج بابنة عمه ويدخل بها، ففتح المأمون الباب ودخل على ابنةعمه.

هذا هو معنى الحديث، إلا أن الكاتب أعاد الضمائر على الإمام الرضا عليه السلام، وأبدل (تحبه ويحبها) ب- (يعشقها وتعشقه)، فتأمل مقدار أمانته!!

ولو سلَّمنا جدلًا بأن الإمام عليه السلام كان يحب ابنة عم المأمون وكانت تحبه، فهذا لا غضاضة فيه على الإمام عليه السلام، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحُبّ النساء كما ورد في الأخبار.

فقد أخرج أحمد والنسائي والحاكم والضياء المقدسي والبيهقي وغيرهم بأسانيدهم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعلتْ قرة عيني في الصلاة (2) 281.


1- عيون أخبار الرضا 1/ 165.
2- سنن النسائي 7/ 72، 74. صحيح سنن النسائي 3/ 827. المستدرك 2/ 174. ط حيدرآباد 2/ 160. وصحَّحه ووافقه الذهبي. الأحاديث المختارة 4/ 428، 5/ 112، 113. مسند أحمد 3/ 128، 199، 285. السنن الكبرى للبيهقي 7/ 78. السنن الكبرى للنسائي 5/ 280. مسند أبي

ص: 181

وأهل السنة رووا في كتبهم كما مرَّ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحبَّ زينب بنت جحش مع أنها كانت على عصمة زيد بن حارثة، ولم يروا في ذلك ما يتنافى مع مقام النبوة، فكيف يتنافى ما هو دونه مع مقام الإمامة؟!

قال الكاتب: ولقبوا جعفراً بجعفر الكذاب، فسبوه وشتموه مع أنه أخو الحسن العسكري فقال الكليني: (هو معلن الفسق فاجر، ماجن شريب للخمور، أقل ما رأيته من الرجال، وأهتكهم لنفسه، خفيف قليل في نفسه) أصول الكافي 1/ 504.

فهل في أهل البيت سلام الله عليهم شريب خمر؟! أو فاسق؟ أو فاجر؟

وأقول: هذا كلام أحمد بن عبيد الله بن خاقان أحد وزراء الخليفة العباسي آنذاك، وليس هو من كلام واحد من أئمة أهل البيت عليهم السلام أو واحد من شيعتهم، غاية ما في الباب أن الكليني ذكره من رواية الحسين بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى.

ولا ريب في أنا لا نرى وثاقة كل واحد من بني هاشم، أو كل واحد من أبناء وأحفاد الأئمة عليهم السلام أو أبناء عمومتهم، فإن الوثاقة إنما تثبت بالدليل لا بالنسَب، فكل من ثبتت وثاقته قلنا بها، وإلا فلا ولا كرامة.

وكتاب الله العزيز قد نصَّ بأتم دلالة على انحراف ابن نوح عليه السلام، وأنه هلك فيمن هلك، ولم يمنع قربه من نبي من أولي العزم من الحكم عليه بما يستحقه، والكلام هو الكلام في أبناء الأئمة عليهم السلام، فإنا لا نقول بعصمتهم ولا وثاقتهم بالجملة.

وأما جعفر بن الإمام الهادي عليه السلام فلم تثبت وثاقته عندنا، وأما ما نسبه إليه أحمد بن عبيد الله بن خاقان من كونه شرّيباً للخمر فالله أعلم به، ونحن لا ندين الله بشي ء لا نعلمه.

ص: 182

قال الكاتب: إذا أردنا أن نعرف تفاصيل أكثر فعلينا أن نقرأ المصادر المعتبرة عندنا لنعرف ماذا قيل في حق الباقين منهم عليهم السلام، ولنعرف كيف قُتِلَتْ ذرياتهم الطاهرة وأين قُتلِوُا؟ ومَن الذين قتلوهم؟

لقد قُتِلَ عدد كبير منهم في ضواحي بلاد فارس بأيدي أناس من تلك المناطق، ولولا أني أخشى الإطالة أكثر مما ذكرت، لذكرت أسماء من أحصيته منهم وأسماء من قتلهم، ولكن أُحيل القارئ الكريم إلى كتاب مقاتل الطالبيين للأصفهاني فإنه كفيل ببيان ذلك.

وأقول: لقد اتضح للقارئ العزيز بطلان كل ما ادّعاه الكاتب، فإنه اعتمد على الأحاديث المرسلة والضعيفة، وفسَّرها على حسب ما يحب.

وأما ما قاله من قتل الذرّية الطاهرة فمن البديهيات أن قتَلَتَهم هم الأمويون والعباسيون وأعوانهم، ولم يكونوا من الشيعة، وضواحي فارس لم يكونوا شيعة إلا في العصور المتأخرة، وأما في زمان الدولة العباسية والأموية فلم يكونوا كذلك، وقد كانت أصفهان وقزوين والري وقم وخوارزم وغيرها بلاداً ناصبية، وعلى الكاتب أن يثبت بالأدلة الصحيحة أن من قتل الذرية الطاهرة هم الشيعة، وأنى له بذلك، وأما الادّعاءات فلا قيمة لها.

قال الكاتب: واعلم أن أكثر من تَعَرَّضَ للطعن وللغمز واللمز الإمامان محمد الباقر وابنه جعفر الصادق عليهما السلام وعلى آبائهما، فقد نُسِبَتْ إليهم أغلب المسائل كالقول بالتقية، والمتعة، واللواطة بالنساء، وإعارة الفرج و .... و .... الخ. وهما سلام الله عليهما بريئان من هذا كله.

ص: 183

وأقول: بما أن الكاتب سيتعرض لهذه المسائل في الصفحات التالية، فإنا نوكل الخوض في إثبات التقية والمتعة والكلام في إعارة الفروج وغيرها إلى محله.

وأما اعتباره نسبة المتعة والتقية للإمامين الباقر والصادق عليهما السلام من الطعون فيهما فلا يخفى ما فيه، لأن الشيعة رووا بالأسانيد الصحيحة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الحكم بحلّية نكاح المتعة، فلا يهمُّهم ما روى غيرهم عن غيرهم، وما شنَّع غيرهم عليهم، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

وأود أن أنبّه القارئ العزيز على أن لفظ (اللواط) لا يصح إطلاقه على إتيان النساء في أدبارهن، وإنما يطلق على فعل قوم لوط، وهو إتيان الرجال للرجال، مع أن اللفظ الصحيح هو (اللواط)، وتعبير الكاتب ب- (اللواطة) خطأ لغوي ثانٍ.

هذا مع أن فقهاء الشيعة الإمامية لا يطلقون اللواط على إتيان النساء من أدبارهن، فلا أدري لمَ خرج مدَّعي الفقاهة والاجتهاد عن تعابير الفقهاء الصحيحة إلى تعابير عوام أهل السنة الخاطئة؟

ص: 184

المتعة وما يتعلق بها

قال الكاتب: كنت أَوَدُّ أن أجعل عنوان هذا الفصل (المرأة عند الشيعة) لكني عدلت عن ذلك لأني رأيت أن كل الروايات التي روتها كتبنا تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وإلى أمير المؤمنين وأبي عبد الله رضي الله عنه، وغيرهم من الأئمة.

فما أردت أن يصيب الأئمة عليهم السلام أي طعن لأن في تلك الروايات من قبيح الكلام ما لا يرضاه أحدنا لنفسه، فكيف يرضاه لرسول الله صلى الله عليه وآله، وللأئمة عليهم السلام؟!!

وأقول: إن القارئ العزيز سيرى الغث الكثير الذي جاء به الكاتب، وسيرى أن القول بحلية المتعة قد جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام، وأن منكر حلّيَّتها راد على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أئمة أهل البيت عليهم السلام.

قال الكاتب: لقد استُغِلَّتِ المتعةُ أبشع استغلال، وأُهيَنِت المرأةُ شرَّ إهانة، وصار الكثيرون يشبعون رغباتهم الجنسية تحت ستار المتعة وباسم الدين، عملا بقوله تعالى: فما استَمْتَعْتُم به مِنْهُنَّ فآتوهُنَّ أُجورَهُن فَرِيضَة (النساء) 24.

ص: 185

وأقول: إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وتشريع المتعة إنما كان من أجل إشباع الغريزة الجنسية كما دلَّت عليه روايات أهل السنة التي سيأتي ذكرها، واستغلال كل ما شرعه الله سبحانه وتبديله عن مساره لا يخدش في التشريع الإلهي، وكثير من ضعفاء النفوس يستغلون الصلاة وغيرها من العبادات لمآربهم الدنيئة الدنيوية كما قال الشاعر:

صلَّى وصَامَ لأمرٍ كانَ يَطلبُه لما انقضَى الأمرُ لا صلَّى ولا صَاما

. فكل الممارسات الخاطئة التي تصدر من الناس في العبادات والأحوال الشخصية والمعاملات لا تنعكس سلباً على التشريعات الإلهية، ولا تحلِّل الحرام أو تحرِّم الحلال. فلو سلَّمنا أن بعض ضعاف النفوس قد استغلوا نكاح المتعة أبشع استغلال كما قال الكاتب، فهذا لا يقدح في حلِّية نكاح المتعة، كما لم يقدح في حلية النكاح الدائم استغلاله من قبل من يريد به تحقيق مكاسب مادية أو معنوية كما يفعله كثير من الناس.

قال الكاتب: لقد أوردوا روايات في الترغيب بالمتعة، وحددوا أو رَتَّبوا عليها الثواب، وعلى تاركها العقاب، بل اعتبروا كل مَن لم يعمل بها ليس مسلماً، اقرأ معي هذه النصوص:

قال النبي صلى الله عليه وآله:

مَنْ تَمَتَّعَ بامرأة مؤمنة كأنما زارَ الكعبةَ سبعين مرة

فهل الذي يتمتع كمن زار الكعبة سبعين مرة؟ وِبمَن؟ بامرأة مؤمنة؟

وأقول: هذا (الحديث) لا وجود له في المصادر الشيعية، فلا أدري من أين جاء به الكاتب؟ فلعله قد جاء به من جراب النورة، ولهذا لم يذكر له مصدراً.

ص: 186

وعلى فرض وروده وصحَّته فلا محذور فيه، ولا مانع من ثبوت مثل هذا الثواب لمن عمل بالمتعة إحياءاً للسُّنة وإماتة للبدعة.

وقد ورد في كتب أهل السنة نظائر لهذا كثيرة، فقد جاء في صحيح مسلم أن قول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) أحب مما طلعت عليه الشمس (1) 282.

وأن من سبَّح لله مائة تسبيحة كُتب له ألف حسنة، أو حُطَّ عنه ألف خطيئة (2) 283.

وأن من قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شي ء قدير) في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومحُيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال: (سبحان الله وبحمده) في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر (3) 284.

فإذا كان هذا الثواب كله يُثاب به مَن قال هذه الأذكار اليسيرة، فليس بمستبعد أن يثيب المولى الكريم المتفضِّل على عباده من تزوَّج متعة يريد بها إحياء السنة، وإماتة البدعة، وإحصان نفسه، والستر على مؤمنة عفيفة، أن يهبه الله مثل هذا الثواب أو أكثر منه.

وأما زعم الكاتب أن من لم يتمتع فهو مستحق للعقاب وأنه ليس بمسلم فهو كذب واضح، إذ لم يقل أحد من علماء الشيعة بوجوب نكاح المتعة، ولا بتوقف ثبوت الإسلام على فعله، وسيرى القارئ العزيز أن الكاتب لم يأتِ بدليل واحد يثبت به صحة هذه الدعوى.


1- صحيح مسلم 4/ 2072.
2- نفس المصدر 4/ 2073.
3- نفس المصدر 4/ 2071.

ص: 187

قال الكاتب: روى الصدوق عن الصادق رضي الله عنه قال: (إنَّ المتعةَ ديني ودينُ آبائي فَمن عَمِل بها عَمِلَ بديننا، ومَن أنكرها أنكر ديننا، واعتقد بغيرِ ديننا) مَن لا يحضره الفقيه 3/ 366 وهذا تكفير لمن لم يَقْبَل بالمتعة.

وأقول: هذا (الحديث) لا وجود له أيضاً في مصادر الشيعة، لا في (من لا يحضره الفقيه) ولا في غيره، والموجود هو قوله عليه السلام: التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له.

فانظر كيف سوَّغ مدَّعي الاجتهاد والفقاهة لنفسه أن يختلق الأحاديث المكذوبة وينسبها للشيعة ظلماً وزوراً وبهتاناً.

ومما يدل على أن هذا الكاتب لم يكن صادقاً في دعواه أنه يختلق الأحاديث ويلصقها بالشيعة، ثم يستنبط منها ما يريده، ويُلزم به الشيعة، ولهذا حكم بأن الشيعة يلزمهم بهذا الحديث المكذوب أن يكفِّروا كل من لم يتزوَّج متعة، مع أنهم لا يقولون بذلك كما هو المعروف من مذهبهم، فما عشت أراك الدهر عجباً.

قال الكاتب: وقيل لأبي عبد الله رضي الله عنه: هل للتمتع ثواب؟ قال: (إن كان يريد بذلك وجهَ الله تعالى وخلافاً على من أنكرها (1) 285 لم يُكَلِّمْها كلمةً إلا كتب الله له بها حسنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة (1)، فإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنَباً، فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما مر من الماء على شعره) من لا يحضره الفقيه 3/ 366.

وأقول: هذا الحديث ضعيف السند، فإن من جملة رواته صالح بن عقبة وأباه، وكلاهما لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.


1- أسقط الكاتب من الحديث ما جعلناه بين معقوفين، فلم يذكره في كتابه.

ص: 188

وعليه فالحديث لا يصح الاحتجاج به في شي ء.

ولو سلَّمنا بصحة الحديث فإنه لا يثبت للمتعة كثير ثواب وفضل كما هو واضح، لأن الرجل قد لا يكلمها خمسين كلمة، وقد لا يكون بدنه ممتلئاً شعراً، ليُغفر له بقدر ما مرَّ عليه من الماء.

فلا أدري لم استعظم الكاتب هذا الثواب؟!

قال الكاتب: وقال النبي صلى الله عليه وآله: (مَن تمتع مرة أَمِنَ سخطَ الجبار، ومَن تمتع مرتين حُشِرَ مع الأبرار، ومَن تمتع ثلاث مرات زاحمَني في الجنان) من لا يحضره الفقيه 3/ 366.

وأقول: هذا الحديث أيضاً لا وجود له في كتب الشيعة، لا في (من لا يحضره الفقيه) ولا في غيره، بل هو من مختلقات مدَّعي الاجتهاد ومختلق الأحاديث، ومع أن الحديث السابق موجود في الكتاب المذكور إلا أن هذاالحديث الذي ذكر الكاتب أنه في نفس المجلد والصفحة لا عين له فيه ولا أثر.

وعليه، فالكلام في هذا (الحديث) المختلق تضييع للوقت وهدر للجهد بلافائدة.

قال الكاتب: قلت: ورغبة في نيل هذا الثواب فإن علماء الحوزة في النجف وجميع الحسينيات ومشاهد الأئمة يتمتعون بكثرة وأخص بالذكر منهم السيد الصدر والبروجردي والشيرازي والقزويني والطباطبائي، والسيد المدني إضافة إلى الشاب الصاعد أبو الحارث الياسري، وغيرهم، فإنهم يتمتعون بكثرة وكل يوم رغبة في نيل

ص: 189

هذا الثواب، ومزاحمة النبي صلوات الله عليه في الجنان.

وأقول: إن التعبير ب- (علماء الحوزة وجميع الحسينيات ومشاهد الأئمة) لا يصدر من شيعي، لأنه لا يوجد علماء حسينيات وعلماء مشاهد عند الشيعة.

كما أنه لا يوجد الآن مرجع من مراجع الشيعة اسمه البروجردي أو القزويني أوالطباطبائي (1) 286 أو السيد المدني، وأبو الحارث الياسري لم نسمع به ولا نعرفه، وأغلب الظن أنه اسم مخترَع.

وعلى كل حال فما قاله من حرص علماء الشيعة على المتعة كله أكاذيب وتلفيقات لا تستند لدليل ولا تنهض به حجة، والغرض منها مجرد الطعن في علماء الشيعة وتشويه صورتهم عند الناس لا أكثر.

قال الكاتب: وروى السيد فتح الله الكاشاني في تفسير منهج الصادقين عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (مَن تمتَّع مرة كانت كدرجة الحسين رضي الله عنه، ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن رضي الله عنه، ومَن تمتع ثلاث مرات كانت درجته كدرجة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومَن تمتع أربع فدرجته كدرجتي).

وأقول: هذا الحديث غير موجود في كتب الشيعة، ولهذا لم يذكر له الكاتب رقم المجلد والصفحة فراراً من الفضيحة.

وعليه، فالكلام في مثل هذه الأحاديث المختلقة من مدّعي الاجتهاد والفقاهة مضيعة للوقت.


1- نعم، من مراجع النجف الأشرف في الوقت الحاضر آية الله السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم دام ظله، ولكنه لا يُعرف في الأوساط العلمية أو الشعبية إلا بالسيد الحكيم، دون السيد الطباطبائي، بحيث لو أشار إليه شخص بالطباطبائي لماعُرف.

ص: 190

فهنيئاً لهذا المجتهد الذي صار سُنّياً بأحاديث اختلقها من عنده، وهنيئاً لأهل السنة به.

قال الكاتب: لو فرضنا أن رجلًا قَذِراً تمتع مرة أفتكون درجته كدرجة الحسين رضي الله عنه؟ وإذا تمتع مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً كانت كدرجة الحسن وعلي والنبي عليهم السلام؟ أمنزلة النبي صلوات الله عليه ومنزلة الأئمة هينة إلى هذاالحد؟!

وحتى لو كان المتمتع هذا قد بلغ في الإيمان مرتبة عالية، أيكون كدرجة الحسين؟ أو أخيه؟ أو أبيه أو جده؟! إن مقام الحسين أسمى وأعلى من أن يبلغه أحد مهما كان قوي الإيمان، ودرجة الحسن وعلي والنبي عليهم السلام جميعاً لا يبلغها أحد مهما سما وعلا إيمانه.

وأقول: بعد أن اتضح أن هذا (الحديث) مختلق مكذوب فالكلام فيه تبديد للوقت بلا فائدة.

ولكن كل إشكالات الكاتب ترد على ما أخرجه الترمذي في سننه، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، وأحمد في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير بأسانيدهم عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين فقال: مَن أحبَّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة (1) 287.

فهل كل من أحبَّ الخمسة أصحاب الكساء ينال درجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان شخصاً قذراً كما قال الكاتب؟!

بل يلزم من هذا الحديث أن يكون كل المسلمين لهم درجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواءاً


1- سنن الترمذي 5/ 641 قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. الأحاديث المختارة 2/ 45. مسند أحمد 1/ 77. المعجم الكبير للطبراني 3/ 43.

ص: 191

أكانوا قذرين أم لا، لأنه ما من مسلم إلا وهو يحب الحسنين وأمهما وأباهما عليهم السلام!!

وهذا لا يعني أننا ننكر هذا الحديث أو نردّه، وإنما نحمله على معانٍ صحيحة، كأن يراد بالدرجة الجنة الواحدة، أو المكان الواحد في الجنة مع تفاوت درجات النعيم فيها، والله العالم.

قال الكاتب: لقد أجازوا التمتع حتى بالهاشمية كما روى ذلك الطوسي في التهذيب 2/ 193.

أقول: إن الهاشميات أرفع من أن يُتَمَتَّعَ بهن، فهن سليلات النبوة، ومن أهل البيت، فحاشا لهن ذلك، وسيأتي السبب إن شاء الله.

وأقول: إذا ثبت أن نكاح المتعة قد أحلَّه الله ورسوله كما سيأتي بيانه، فأي غضاضة على الهاشمية أن تتزوج متعة كما تتزوج دواماً، فتعف نفسها، وتحصن فرجها، وترضي ربَّها؟!

ثم إن أحكام الله ليست مخصوصة بقوم دون آخرين، فكما أن الله سبحانه أحلَّ النكاح للناس كافة فقد أحلَّه للأنبياء والأئمة عليهم السلام وبناتهم، فإن النكاح سُنَّة، وليس منا من رغب عن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الكاتب: وقد بين الكليني أن المتعة تجوز ولو لِضَجْعَةٍ واحدة بين الرجل والمرأة، وهذا منصوص عليه في فروع الكافي 5/ 460.

وأقول: إذا ثبت ذلك عن أهل البيت عليهم السلام فلا غضاضة في العمل به والتسليم لهم فيه، ولا فرق حينئذ بين اليوم واليومين والشهر والشهرين وغيرها ما دام النكاح

ص: 192

محلَّلًا إلى أجل قلَّ أم كثر، وحال نكاح المتعة في ذلك حال النكاح الدائم، فمن عقَدَ عقْد النكاح الدائم، وضاجع امرأته مباشرة ثم طلَّقها، صحَّ نكاحه وطلاقه من غير خلاف، ولا يضر قصر المدة بصحة نكاحه.

قال الكاتب: ولا يُشْتَرَطُ أن تكون المتمتع بها بالغة راشدة بل قالوا يمكن التمتع بمن في العاشرة من العمر، ولهذا روى الكليني في الفروع 5/ 463 والطوسي في التهذيب 7/ 255 أنه قيل لأبي عبد الله رضي الله عنه: (الجارية الصغيرة، هل يَتَمَّتُع بها الرجلُ؟ فقال: نعم، إلا أن تكون صبية تخدع. قيل: وما الحد الذي إذا بَلغَتْهُ لم تُخْدَع؟ قال: عشر سنين).

وأقول: لا فرق بين نكاح المتعة والنكاح الدائم من هذه الناحية، فإن أهل السنة أجازوا نكاح الفتاة الصغيرة حتى لو كان عمرها ست سنين، وقد رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج عائشة وهي ابنة ست.

فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيدهم عن عائشة، أنها قالت: تزوَّجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست، وبنى بي وأنا ابنة تسع (1) 288.

بل يجوز عندهم نكاح الرضيعة دواماً، وسيأتي بيان ذلك قريباً إن شاء الله تعالى، فانتظره.

فإذا جاز الزواج الدائم بالصغيرة والرضيعة فلا مانع من جوازه متعة كذلك،


1- صحيح البخاري 3/ 1189، 1190، 1653، 1654، 1660. صحيح مسلم 2/ 1038- 1039. سنن أبي داود 2/ 239، 4/ 284، سنن النسائي 6/ 82. سنن ابن ماجة 1/ 603- 604. صحيح ابن حبان 16/ 9، 56. السنن الكبرى للبيهقي 7/ 114، 253. مسند أبي داود الطيالسي، ص 305.

ص: 193

لأن أحكام النكاحين واحدة إلا ما استُثني.

قال الكاتب: وهذه النصوص كلها سيأتي الرد عليها إن شاء الله، ولكني أقول: إن ما نُسِبَ إلى أبي عبد الله رضي الله عنه في جواز التمتع بمن كانت في العاشرة من عمرها، أقول: قد ذهب بعضهم إلى جواز التمتع بمن هي دون هذا السن.

وأقول: العبارة فيها ركاكة واضحة، فإنه لا يعلم أين ذهب خبر (إن) في قوله: (إن ما نُسب إلى أبي عبد الله ...).

وأما ذهاب بعضهم إلى جواز التمتع بمن هي دون سن العاشرة فقد أوضحنا أنه لا مانع منه، ونقلنا ما رواه أهل السنة من تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة وهي بنت ست سنين، فإذا جاز نكاح الصغيرة دواماً فما المانع من جوازه متعة؟

قال الكاتب: لما كان الإمام الخميني مقيماً في العراق كنا نتردد إليه، ونطلب منه العلم حتى صارت علاقتنا معه وثيقة جداً، وقد اتفق مرة أن وُجِّهَتْ إليه دعوة من مدينة؟؟ وهي مدينة تقع غرب الموصل على مسيرة ساعة ونصف تقريباً بالسيارة، فطلبني للسفر معه، فسافرت معه ...

ثم نقل الكاتب قصة طويلة مفادها أن السيد الخميني رحمة الله عليه تمتَّع في بغداد بصبية عمرها أربع أو خمس سنوات.

وأقول: قصة التمتع بالطفلة الصغيرة التي لها من العمر أربع سنين من الهراء الذي لا ينبغي الجواب عليه، ونحن لا نصدق أمثال هذه الحكايات حتى لو نُسبت لليهود فضلًا عن المسلمين، فإنه لا يعقل من رجل ناهز السبعين أن يرضى لنفسه أن

ص: 194

يتمتع بطفلة عمرها أربع سنين.

ونحن لا نتعقل أن يُتاح لرجل التمتُّع بالشابات فيتركهن ويتمتع بطفلة عمرها أربع سنين يقضي الليل معها وهي تصرخ وتصيح، بحيث يسمع صراخها كل من كان في الدار، وهو غير عابئ بكل ذلك!! فإن مثل هذا الرجل لا يمكن إدراجه في عداد الرجال الأصحاء.

ولو أن الكاتب افترى فرية يمكن أن تقع لأمكن تصديقه فيها، وأما الحكايات الخرافية التي يستحيل وقوعها والتي لا يصدِّق بها إلا الحمقى والمغفَّلون، فهي مردودة على مُفتريها.

قال الكاتب: وكان الإمام الخميني يرى جواز التمتع حتى بالرضيعة، فقال: (لا بأس بالتمتع بالرضيعة ضَماً وتفخيذاً- أي يضع ذَكَرَهُ بين فخذيها- وتقبيلا) انظر كتابه تحرير الوسيلة 2/ 241 مسألة رقم 12.

وأقول: لا يوجد نص في تحرير الوسيلة هكذا، والمسألة المشار إليها هي:

مسألة 12- لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواماً كان النكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة ... الخ.

فما قاله الكاتب هو تحريف للفتوى كما هو واضح، فمرحباً بهذا (المجتهد) الذي يتوصل إلى ما يريد باختلاق الأحاديث وتحريف الفتاوى والأحكام، فكيف يُوثَق بقوله ويُطمأَنّ بصحة خبره؟!

والمراد بالفتوى هو أنه لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، سواءاً أكانت الزوجة دائمة أم منقطعة، لورود النهي عن وطء الصغيرة التي لم تبلغ تسع

ص: 195

سنين، فقد قال الصادق عليه السلام كما في صحيحة الحلبي: إذا تزوج الرجل الجارية وهي صغيرة فلا يدخل بها حتى يأتي لها تسع سنين (1) 289.

وأما سائر الاستمتاعات فهي جائزة، لعموم ما دلَّ على جواز الاستمتاع بالزوجة، ولا مخصِّص له في البين يدل على الحرمة.

وهذا إنما يُذكر بنحو الفرض في كتب الفقه، بغض النظر عن وقوعه في الخارج وعدمه، فإنها مسألة أخرى، فإنّا لم نسمع أن رجلًا سويًّا أو غير سوي استمتع برضيعة، ولكنه لو لامسها أو قبَّلها وحصلت عنده شهوة فهو جائز له، لأنها زوجته، وإن كان يحرم عليه وطؤها.

ولا يخفى أن الوارد في الفتوى هو الاستمتاع بالزوجة الصغيرة، أي التلذُّذ بها، وليس المراد تزوُّجها متعة، وفرض المسألة هو وطء الزوجة الدائمة الصغيرة والاستمتاع بها، هل يجوزان أو لا؟

ولئن شنَّع الكاتب على الاستمتاع بالصغيرة أو الرضيعة فقد فاته أن علماء أهل السنة ذكروا أمثال هذه المسألة في كتبهم.

أما جواز نكاحها فقد ذكره النووي في (روضة الطالبين)، حيث قال:

الثانية: يجوز وقف ما يُراد لعينٍ تستفاد منه، كالأشجار للثمار، والحيوان للبن والصوف والوبر والبيض، وما يُراد لمنفعة تُستوفَى منه كالدار والأرض. ولا يُشترط حصول المنفعة والفائدة في الحال، بل يجوز وقف العبد والجحش الصغيرين والزَّمِن الذي يُرجى زوال زمانته، كما يجوز نكاح الرضيعة (2) 290.

وقال السرخسي في المبسوط: عرضية الوجود بكون العين منتفعاً بهاتكفي لانعقاد العقد، كما لو تزوَّج رضيعة صحَّ النكاح، باعتبار أن عرضية الوجود فيما هو


1- وسائل الشيعة 14/ 70.
2- روضة الطالبين 5/ 314.

ص: 196

المعقود عليه- وهو ملك الحِل- يقام مقام الوجود (1) 291.

وأما الاستمتاع بالصغيرة فقد قال ابن قدامة في المغني:

فأما الصغيرة التي لا يُوطأ مثلها (2) 292 فظاهر كلام الخرقي تحريم قبلتها ومباشرتها لشهوة قبل استبرائها (3) 293، وهو ظاهر كلام أحمد، وفي أكثر الروايات عنه قال: تُستبرأ وإن كانت في المهد (4) 294. وروي عنه أنه قال: إن كانت صغيرة بأي شي ء تُستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال في رواية أخرى: تُستبرأ بحيضة إذا كانت ممن تحيض، وإلا بثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل. فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها ولا تحرم مباشرتها (5) 295، وهذا اختيار ابن أبي موسى وقول مالك، وهو الصحيح (6) 296، لأن سبب الإباحة متحقِّق (7) 297، وليس على تحريمها دليل، فإنه لا نص فيه ولا معنى نص (8) 298، لأن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعياً إلى الوطء المحرَّم، أو خشية أن تكون أُمَ


1- المبسوط للسرخسي 15/ 109.
2- بأن كانت دون تسع سنين، أو كانت رضيعة عمرها سنة واحدة كما سيأتي قريباً في أكثر الروايات عن أحمد شمول مورد الكلام لمن كانت في المهد.
3- وأما بعد الاستبراء فلا تحريم في البين وإن لامسها أو قبَّلها بشهوة.
4- وهذه الفتوى من مهازل فتاوى أحمد بن حنبل، إذ كيف تُستبرأ الرضيعة التي في المهد مع عدم قابليتها للحمل، وهل الاستبراء إلا من أجل التأكد من عدم الحمل؟
5- أي لا يجب استبراء الرضيعة، ولا تحرم مباشرتها، لأنها ليست ممن تحيض، ولا ممن توطأ وتحبل. اه
6- أي أن القول بجواز مباشرة الرضيعة وتقبيلها بشهوة من غير استبراء هو قول ابن أبي موسى ومالك بن أنس، وهو المختار عند ابن قدامة.
7- هذا تعليل لعدم حرمة مباشرة الرضيعة قبل استبرائها، وهو أن السبب في إباحة مباشرة الرضيعة وتقبيلها بشهوة متحقق، وهو العقد عليها إن كانت زوجة والملكية إن كانت الرضيعة أمة.
8- أي لا يوجد دليل على حرمة مباشرة الرضيعة وتقبيلها بشهوة، لا نص صريح، ولا معنى يمكن استفادته من النص.

ص: 197

ولدلغيره (1) 299، ولا يُتَوهَّم هذا في هذه (2) 300، فوجب العمل بمقتضى الإباحة (3) 301.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما وقت زفاف الصغيرة المزوَّجة والدخول بها، فإن اتفق الزوج والولي على شي ء لا ضرر فيه على الصغيرة (4) 302 عُمل به، وإن اختلفا (5) 303 فقال أحمد وأبو عبيد: تجبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: حَدُّذلك أن تطيق الجماع (6) 304، ويختلف ذلك باختلافهن، ولا يُضبط بسِن (7) 305، وهذا هو الصحيح (8) 306.

قلت: على هذه الفتوى يجوز أن يتَّفق الولي والزوج على أن يدخل الزوجُ بالصغيرة الرضيعة من دون أن يطأها، بل يقتصر على تقبيلها وضمِّها بشهوة وتفخيذها إذا رأى الولي أن ذلك لا يضر بالصغيرة.

وعلى فتوى مالك والشافعي وأبي حنيفة فإن الرضيعة التي عمرها دون السنتين لو أطاقت الجماع جاز وطؤها عندهم، فضلًا عن لمسها بشهوة وتفخيذها.


1- وأما تحريم مباشرة الكبيرة فلأجل أن المباشرة قد تؤدي إلى الوطء، وهو محرم قبل الاستبراء، أو لأجل أنها قد تكون حاملًا من غيره، فتكون أم ولد لذلك الغير، ووطء أم ولد الغير حرام.
2- أي أن الخشية من الوقوع في الوطء المحرم واحتمال كون الرضيعة أم ولد للغير لا يمكن توهّمهما في الرضيعة، لاستبعاد تحقق وطئها من الرجل السوي، وامتناع كونها أم ولد للغير.
3- المغني لابن قدامة 9/ 160.
4- كما لو اتفقا على ألا يطأها الزوج، وإنما يقتصر على الاستمتاع بها بالتقبيل والتفخيذ وغيرهما مما هو دون الوطء مما لا ضرر فيه على الصغيرة.
5- بأن أراد الزوج وطأها، وأراد الولي منه أن يقتصر على الاستمتاعات الأخرى فقط.
6- فيجوز للزوج أن يدخل بها إذا أطاقت الجماع وإن كان عمرها دون السنتين أو الثلاث.
7- أي لا يمكن ضبط مقدرة الصغيرة على الجماع بسن معين، فربما تطيق الجماع بعض الصغيرات بملاحظة سمنها مثلًا، وصغر آلة زوجها، وربما لا تطيقه من كانت أكبر سناً إذا كانت هزيلة، وكانت آلة زوجها عظيمة.
8- شرح النووي على صحيح مسلم 9/ 206.

ص: 198

قال الكاتب: جلست مرة عند الإمام الخوئي في مكتبه، فدخل علينا شابان يبدو أنهما اختلفا في مسألة، فاتفقا على سؤال الإمام الخوئي ليدلهما على الجواب.

فسأله أحدهما قائلًا: سيد ما تقول في المتعة، أحلال هي أم حرام؟

ثم نقل الكاتب قصة طويلة فحواها أن الشاب السائل كان سُنيًّا من الموصل، فلما أجابه السيِّد بحليتها، طلب من السيِّد أن يزوجه ابنته متعة، فأجابه السيد بقوله: أنا سيِّد، وهذا حرام على السادة، وحلال عند عوام الشيعة.

فنظر الشاب إلى السيِّد الخوئي وهو مبتسم، ونظرته توحي أنه علم أن الخوئي قد عمل بالتقية. (1) 307

ي القصة أن الكاتب لحق بالشابين بعد خروجهما من (مكتب) السيد، فسمع الشاب الشيعي الآخر يسب العلماء ويلعنهم، لأنهم يحلِّلون المتعة لأنفسهم، ويحرِّمونها على غيرهم.

وأقول: هذه القصة من القصص الخرافية التي لا تستند على دليل صحيح، ودليلها هو نقل كاتبها الذي لا يوثق بنقله.

ومن أدلة كذب هذه القصة أن السيد الخوئي قدس سره ليس عنده مكتب في النجف الأشرف لاستقبال الناس فيه كما زعم الكاتب، وإنما كان يستقبل الناس في منزله المعروف في حي العمارة.

والكاتب لم يبيِّن للقرَّاء لماذا لحق بالشابين بعد خروجهما من مجلس السيد؟ فإنه لم يتضح سبب صحيح للحوقه بهما إلا ترتيب القصة بصورة تبدو بها أكثر إثارة.

وأما زعمه أن الخوئي قدس سره قد عمل بالتقية فهو من المضحكات، إذ كيف يتَّقي السيِّد من الشاب الموصلي في مسألة هو يصرِّح بها في كتبه العلمية والفتوائية، ويفتي مقلِّديه بجوازها؟ مع أن المقام مقام إثبات المتعة لا مقام تقية كما هو واضح.

وأما زعمه أن السيَّد الخوئي قدس سره قد قال: (إن المتعة حرام على السادة وحلال


1- الشيخ علي آل محسن، لله و للحقيقة (رد علي كتاب «لله ثم للتاريخ»)، 1جلد، نشر مشعر - تهران، چاپ: 1، 1424 ه. ق..

ص: 199

على عوام الشيعة) فهو معلوم البطلان، بل هو فرية بلا مرية، فإن السيد الخوئي قدس سره وكل علماء الشيعة يفتون بحليّة نكاح المتعة مطلقاً من غير هذا التفصيل المزعوم.

ومن المعروف أن بعض أهل السنة دأبوا على الاحتجاج على الشيعة باحتجاج الشاب الموصلي الذي زعمه الكاتب، بظن أنهم يُلزِمون الشيعة بما لا يستطيعون الإجابة عليه، وهو احتجاج قديم ورد في الأخبار.

ففي صحيحة زرارة قال: جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر عليه السلام فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: أحلَّها الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله، فهي حلال إلى يوم القيامة. فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا وقد حرَّمها عمر ونهى عنها؟! فقال: وإن كان فعل. قال: وإني أعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئاً حرَّمه عمر. قال: فقال له: فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وآله، فهلم أُلاعِنُك أن القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن الباطل ما قال صاحبك. قال: فأقبل عبد الله ابن عمير فقال: يسرُّك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ذلك؟ قال: فأعرض عنه أبو جعفر عليه السلام حين ذكر نساءه وبنات عمه (1) 308.

وجواب من أشكل بذلك تارة يكون نَقْضِياً، وتارة يكون حَلّيًّا.

أما النقضي فيقال له: هل تزوّجني ابنتك أو أختك مع بعض بنات عمك أو بنات خالك زواجاً دائماً؟ فإن الزواج الدائم بأربع نسوة جائز عندكم وعندنا، ولا مانع من تزويجي أربعاً من أهلك وأرحامك؟

فإن أجاب: (بأنا لا نزوِّج رافضيًّا)، أجبناه في المتعة بنفس جوابه بأنا لسنا مضطرين لأن نزوّج سُنّيًّا، سواءاً أكان النكاح دواماً أو متعة. وإن أجاب ب- (نعم) ألزمناه به.

كما يُنْقَض عليه بنقض آخر، وهو أنه هل يرضى بأن يزوِّج ابنته زواجاً دائماً


1- الكافي 5/ 149. تهذيب الأحكام 7/ 250. وسائل الشيعة 14/ 437.

ص: 200

بمهر حقير من رجل مريض فقير بخيل لئيم دميم طاعن في السن عنده ثلاث نسوة؟

فإن أجاب ب- (لا) قلنا له: لمَ لا ترضى بما أحلَّه الله سبحانه؟ وإن قال: (نعم) سعينا في إلزامه به.

وأما الجواب الحَلّي فيقال له: ليس كل من خطب زوَّجناه حتى لو كان مريد الزواج شيعيًّا، وكان النكاح دائماً، وليس كل ما يجوز في الشرع نحبّه لبناتنا وأخواتنا، فالطلاق جائز، لكنا لا نرضاه لبناتنا وأخواتنا، ونكاح أربع نسوة جائز، ولكنا لا نرضاه لهن أيضاً، وزواج الأم بعد فراق الأب بموت أو طلاق جائز، ولكن الأبناء لا يرتضونه، وتزويج المريض واللئيم والدميم والبخيل وسيئ الأخلاق جائز، ولكن لا يرضاه الرجل لابنته أو لأخته، وهناك صور كثيرة لأنكحة جائزة لا يرتضيها الرجل لبناته ولا لأخواته.

ومما قلناه يتضح أن الرجل قد لا يحب لابنته أن تتزوَّج بنكاح المتعة من رجل ما دام النكاح الدائم ممكناً لها، فإنه بلا ريب خير لها من نكاح المتعة، وذلك لوجوب نفقتها والمبيت عندها على زوجها في النكاح الدائم، كما أنها ترثه لو مات عنها ... وغير ذلك، بخلاف نكاح المتعة، فإنه لا يجب فيه شي ء من ذلك.

نعم، لو كانت المرأة ذات أولاد صغار، ولا تجد من ينفق عليها وعلى صغارها، أو خشيت على نفسها من الوقوع في الحرام، فلا أعتقد أن أباً يرفض تزويج ابنته من رجل مؤمن تقي ذي خُلُق، يصونها وينفق عليها وعلى أولادها.

قال الكاتب: إن المتعة كانت مُباحة في العصر الجاهلي، ولما جاء الإسلام أبقى عليها مدة، ثم حُرِّمَت يوم خيبر، لكن المتعارَف عليه عند الشيعة عند جماهير فقهائنا أن عمر بن الخطاب هو الذي حرمها، وهذا ما يرويه بعض فقهائنا.

وأقول: لا دليل على أن نكاح المتعة كان من أنكحة الجاهلية بشروطه المعروفة،

ص: 201

من عقد وعدة ومهر وتحديد مدة وغيرها، لأن أنكحة الجاهلية لا يعرف فيها ذلك.

بل ظاهر الأخبار الكثيرة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أباحه لصحابته، وأذن لهم فيه في بعض مغازيه.

فقد أخرج مسلم في صحيحه عن قيس قال: سمعت عبد الله (1) 309 يقول: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ.

وأخرج أيضاً عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا. يعني متعة النساء.

وأخرج بسنده عن سلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا، فأذن لنا في المتعة.

وأخرج بسنده عن الربيع بن سبرة، أن أباه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمس عشرة، (ثلاثين بين يوم وليلة)، فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء ... (2) 310.

فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رخّص للناس في نكاح المتعة وأذن لهم فيه، ولو كانت المتعة من الأنكحة المعروفة في الجاهلية وكانت مباحة للمسلمين من أول الأمر لما اتّجه قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألا نستخصي؟).

وأما تحريم عمر للمتعة فيدل عليه ما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق


1- أخرج الطحاوي هذا الحديث في شرح معاني الآثار 3/ 24 عن عبد الله بن مسعود، وهو المراد به في حديث مسلم.
2- صحيح مسلم 2/ 1022- 1025.

ص: 202

الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث.

وبسنده عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آتٍ فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر، فلم نَعُدْ لهما (1) 311.

وأخرج أحمد في المسند عن جابر قال: متعتان كانتا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فنهانا عنهما عمر رضي الله تعالى عنه فانتهينا (2) 312.

وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد الله قال: تمتعنا متعتين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: الحج والنساء، فنهانا عمر عنهما فانتهينا (3) 313.

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى وغيره عن أبي نضرة عن جابر رضي الله عنه قال في حديث: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر رضي الله عنه، فلما ولي عمر خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرسول، وإن هذا القرآن هذا القرآن، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، ولا أقدر على رجل تزوَّج امرأة إلى أجل إلا غيَّبته بالحجارة، والأخرى متعة الحج، افصلوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتم لحجِّكم وأتم لعمرتكم (4) 314.

وأخرج سعيد بن منصور في مسنده بسنده عن أبي قلابة قال: قال عمربن الخطاب رضي الله عنه: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج (5) 315.


1- نفس المصدر 2/ 1023.
2- مسند أحمد 3/ 325. أحكام القرآن للجصاص 2/ 152.
3- مسند أحمد 3/ 365. وبألفاظ قريبة مما مرّ في 3/ 363.
4- السنن الكبرى للبيهقي 7/ 206.
5- سنن سعيد بن منصور، ص 252. وراجع مسند أحمد بن حنبل 1/ 52. شرح معاني الآثار 2/ 144، 146. كنز العمال 16/ 519، 521. أحكام القرآن للجصاص 1/ 290، 291، 293، 2/ 152، 3/ 239. تفسير القرطبي 2/ 392. العلل الواردة في الأحاديث النبوية للدارقطني 2/ 156. تذكرة الحفاظ 1/ 366. بداية المجتهد 2/ 121.

ص: 203

وقال السرخسي في المبسوط: وقد صحَّ أن عمر رضي الله عنه نهى الناس عن المتعة، فقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج (1) 316.

قلت: وهذه الروايات صريحة في المطلوب، فإن عمر نسب التحريم إلى نفسه، وشهد بأن المتعتين كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلنا شهادته على حلِّيتهما، وله تحريمه.

وأخرج عبد الرزاق في مصنَّفه، والطحاوي في شرح معاني الآثار، عن عطاء قال: وسمعت ابن عباس يقول: يرحم الله عمر، ما كانت المتعةإلا رخصة من الله عز وجل، رحم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلولا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي. قال: كأني والله أسمع قوله: إلا شقي (2) 317.

وعن ابن جريج قال: أخبرني مَن أصدِّق أن عليًّا قال بالكوفة: لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطاب- أو قال: من رأي ابن الخطاب- لأمرتُ بالمتعة، ثم ما زنى إلا شقي (3) 318.

وأخرج ابن حبان في صحيحه بسنده عن خالد بن دريك أن مطرفاً عاد عمران ابن حصين فقال له: إني محدِّثك حديثاً، فإن برئتُ من وجعي فلا تحدِّث به، ولو مضيتُ لشأني فحدِّث به إن بدا لك، إنا استمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم ينهنا عنه حتى مات صلى الله عليه وسلم، رأى رجل رأيه (4) 319.


1- المبسوط 4/ 27.
2- المصنف لعبد الرزاق 7/ 499، ط أخرى 7/ 399. شرح معاني الآثار 3/ 26.
3- المصنف لعبد الرزاق 7/ 499، ط أخرى 7/ 399.
4- صحيح ابن حبان 9/ 244.

ص: 204

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن مطرّف عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: تمتَّعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء (1) 320.

قال ابن حجر في فتح الباري: فقال في آخره: (ارتأى رجل برأيه ما شاء) يعني عمر.

وقال: ففي مسلم أيضاً أن ابن الزبير كان ينهى عنها، وابن عباس كان يأمر بها، فسألوا جابراً، فأشار إلى أن أول من نهى عنها عمر (2) 321.

ولهذا عدَّ أبو هلال العسكري- ونقله عنه السيوطي- من أوليّات عمر بن الخطاب تحريمه للمتعة.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: فصل في أوليات عمر رضي الله عنه، قال العسكري: هو أول من سُمِّي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ من الهجرة، وأول من اتّخذ بيت المال، وأول من سَنَّ قيام شهر رمضان، وأول من عسَّ بالليل، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من ضرب في الخمر ثمانين، وأول من حرَّم المتعة ... (3) 322.

ومما قلناه يتضح أن كتب أهل السنة تشهد عليهم بأن المتعة كانت محلَّلة زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزمان أبي بكر وشطراً من زمان عمر، ثم حرَّمها عمر في شأن عمروبن حريث.

والذي يظهر أن عمر أبى أن يتذَّرع من خلا بامرأة لا يُعرَف لها بعل بنكاح المتعة، فأراد أن يسد هذا الباب، وهذا اجتهاد منه لا يلزم غيره مع ثبوت النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على حلّية نكاح المتعة.

فما قاله الكاتب من أن الشيعة يقولون: (إن عمر حرَّمها) صحيح، لأنهم


1- صحيح البخاري 1/ 468.
2- فتح الباري 3/ 339.
3- تاريخ الخلفاء، ص 108. وتجد ذكر تحريم المتعة في كتاب الأوائل للعسكري 1/ 240.

ص: 205

استدلوا على ذلك بما نقلنا بعضه من كتب أهل السنة، فما المحذور في ذلك؟!

قال الكاتب: والصواب في المسألة أنها حُرِّمَت يوم خيبر.

قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه:

حَرّم رسول الله صلى الله عليه وآله يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية، ونكاح المتعة

انظر التهذيب 2/ 186، الاستبصار 3/ 142، وسائل الشيعة 14/ 441.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند بعمرو بن خالد الواسطي، فإنه لم يوثَّق في كتب الرجال، واختُلف في مذهبه، فقيل: إنه من أهل السنة. والمشهور أنه من رؤساء الزيدية، وأغلب رواياته يرويها عن زيد بن علي، ومنها هذه الرواية.

ومن جملة رواة هذا الحديث الحسين بن علوان، وهو سُنِّي المذهب، وعبارة النجاشي في ترجمته موهمة تحتمل عود التوثيق فيها إليه أو إلى أخيه الحسن، ولا توثيق آخر له، ولهذا فنحن متوقفون فيه، وإن وثّقه بعض الأعلام، وضعَّفه بعض آخر.

والحاصل أن هذا الحديث اشتمل على راوٍ زيدي، وراوٍ آخر سُني المذهب، وكلاهما لم يثبت توثيقهما، وما قيل في توثيقهما ليس محلًا للاعتماد والوثوق.

ولو سلّمنا بصحة هذه الرواية فهي محمولة على التقية، وذلك لأن الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الدالة على حلّية نكاح المتعة بلغت حد التواتر، فلا يمكن العمل بهذه الرواية الضعيفة، وطرح كل تلك الروايات المتواترة.

قال الشيخ الطوسي قدس سره في تهذيب الأحكام: فإن هذه الرواية وردت مورد التقية وعلى ما يذهب إليه مخالفو الشيعة، والعلم حاصل لكل من سمع الأخبار أن من دين أئمتنا عليهم السلام إباحة المتعة، فلا يحتاج إلى الإطناب فيه (1) 323.


1- تهذيب الأحكام 7/ 251.

ص: 206

وقال في الاستبصار: فالوجه في هذه الرواية أن نحملها على التقية، لأنها موافقة لمذاهب العامة، والأخبار الأولة موافقة لظاهر الكتاب وإجماع الفرقة المحقة على موجبها، فيجب أن يكون العمل بها دون هذه الرواية الشاذة (1) 324.

قال الكاتب: وسُئِلَ أبو عبد الله رضي الله عنه: (أكان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بينة؟ قال: لا) انظر التهذيب 2/ 189.

وعلق الطوسي على ذلك بقوله: إنه لم يُرِدْ من ذلك النكاح الدائم بل أراد منه المتعة، ولهذا أورد هذا النص من باب المتعة.

وأقول: لم يعلق الشيخ بذلك في كتابيه (تهذيب الأحكام)، و (الاستبصار)، فراجعهما لتتحقق مقدار أمانة مدَّعي الاجتهاد والفقاهة.

بل قال الشيخ الطوسي في كتابيه المذكورين ما يلي:

فإن هذا الخبر ليس فيه المنع من المتعة إلا ببيِّنة، وإنما هو منبئ عما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنهم ما تزوَّجوا إلا ببيِّنة، وذلك هو الأفضل، وليس إذا كان ذلك (2) 325 غير واقع في ذلك العصر دلَّ على أنه محظور، كما نعلم أن ههنا أشياء كثيرة من المباحات وغيرها لم تكن تستعمل في ذلك الوقت، ولم يكن ذلك دلالة على حظره، على أنه يمكن أن يكون الخبر ورد مورد الاحتياط دون الإيجاب، ولئلا تعتقد المرأة أن ذلك لا يحوز إذا لم تكن من أهل المعرفة (3) 326.

قلت: ولا بأس أن أنقل للقارئ العزيز نص الحديث كما رواه الشيخ الطوسي في كتابيه تهذيب الأحكام والاستبصار، ليتضح له معناه.


1- الاستبصار 3/ 142.
2- أي الزواج من غير بيِّنة.
3- تهذيب الأحكام 7/ 261. الاستبصار 3/ 148.

ص: 207

قال الشيخ قدس سره: عن المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يجزي في المتعة من الشهود؟ فقال: رجل وامرأتان يشهدهما. قلت: أرأيت إن لم يجدوا أحداً؟ قال: إنه لا يعوزهم. قلت: أرأيت إن أشفقوا أن يعلم بهم أحد، أيجزيهم رجل واحد؟ قال: نعم. قال: قلت: جعلت فداك، كان المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بيّنة؟ قال: لا (1) 327.

والحديث واضح الدلالة على كفاية رجل وامرأتين في الشهادة على نكاح المتعة، بل يكفى رجل واحد فقط، كما أنه يدل على عدم اشتراط الشهود في نكاح المتعة ولا سيما إذا لم يجدوا أحداً أو خافوا أن يعلم بهم أحد.

وبما أن مورد السؤال هو نكاح المتعة فالحديث يدل على أن الصحابة كانوا لا يتمتَّعون إلا ببيِّنة، أو أنهم كانوا لا يتزوَّجون مطلقاً- أي متعة ودواماً- إلا ببيِّنة.

فأين دلالة هذا الحديث على حرمة المتعة، مع أنه صريح في حلّيتها، لأن الصحابة كانوا يتمتَّعون، غاية الأمر أن متعتهم كانت ببيّنة؟!

والظاهر أن العلة في أن الصحابة كانوا لا يتزوجون متعة إلا ببيّنة هي أنها كانت مباحة لهم، فليس فيها ما يقتضي الشنعة على فاعلها حتى يَتستَّر بها، فلهذا كانوا يُشهِدون على أنكحتهم دفعاً للتهمة وعملًا بالسُّنة.

فانظر أيها القارئ العزيز إلى مدَّعي الاجتهاد والفقاهة الذي بتر الحديث وأخذ ببعضه دون بعضه الآخر، وفسَّر ما أخذه من الحديث بحسب هواه، لا بما يدل عليه كلام الإمام عليه السلام من عدم اشتراط الشهود في نكاح المتعة.

قال الكاتب: لا شك أن هذين النصين حجة قاطعة في نسخ حكم المتعة


1- انظر المصدرين السابقين.

ص: 208

وإبطاله. وأمير المؤمنين صلوات الله عليه نقل تحريمها عن النبي صلى الله عليه وآله، وهذا يعني أن أمير المؤمنين قد قال بحرمتها من يوم خيبر، ولا شك أن الأئمة من بعده قد عرفوا حكم المتعة بعد علمهم بتحريمها.

وأقول: قد أوضحنا أن النص الأول ضعيف السند، ومع تسليم صحَّته فهو وارد مورد التقية، فلا يصح الأخذ به وطرح الأخبار المتواترة المروية عن الأئمة الأطهار عليهم السلام والدالَّة على حلِّية نكاح المتعة، بل على استحبابه.

وأما الحديث الثاني فقد دلَّ على أن الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا لا يتزوَّجون المتعة إلا ببينة لما قاله قدس سره ولما قلناه، وهو دال على حلِّيتها لا على حرمتها كما أوضحناه.

فأين الحجة القاطعة التي زعمها الكاتب على نسخ نكاح المتعة؟! وكيف علم بأن أمير المؤمنين عليه السلام نقل تحريمها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن الحديث ضعيف السند ومعارض بالأحاديث المتواترة عن أهل بيت العصمة والطهارة الدالة على حليّتها.

ولا أدري لمَ أخذ الكاتب بهذين الحديثين وتعامى عن عشرات الأحاديث الناصَّة على حلّية نكاح المتعة؟ فهل مبلغ اجتهاده وغاية مقدرته على استنباط الأحكام أن ينظر إلى حديث ضعيف، فيتمسك به، ويفتي على طبقه، ويتعامى عن عشرات الأحاديث الصحيحة المعارضة له؟!

قال الكاتب: وهنا نقف بين أخبار منقولة وصريحة في تحريم المتعة، وبين أخبار منسوبة إلى الأئمة في الحث عليها وعلى العمل بها.

وهذه مشكلة يحتار المسلم إزاءها أيتمتع أم لا؟

وأقول: إن وظيفة الفقيه هي أن ينظر في الأخبار المتعارضة المنقولة عن النبي

ص: 209

صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمة الأطهار عليهم السلام، فيرجِّح منها ما هو الصحيح بالمرجِّحات السندية والدلالية، فيأخذ به ويعمل على طبقه، لا أن يتمسك ببعضها ويترك بعضها الآخر هكذا من غير حجَّة ولا دليل.

ومن الواضح أن الكاتب طرح الروايات الصحيحة المتواترة الدالة على حلّية نكاح المتعة، وتمسّك بحديث ضعيف، لا لشي ء إلا لأنه موافق لما عليه أهل السنة.

فشتان بين معالجتنا للمسألة ومعالجة مدَّعي الاجتهاد، فإنّا قد استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحة التي رواها أهل السنة في كتبهم والتي تدل على حلّية نكاح المتعة، وقد نقلنا لك بعضاً منه، والكاتب استدل على مطلوبه بحديث واحد ضعيف عندنا، رواته إما سُنِّيون أو زيديون!!

وأما زَعْمه أن الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الدالة على حلّية نكاح المتعة كلها منسوبة إليهم، أي مختلقة ومكذوبة، فهو زعم باطل لم يستند إلى دليل، وكان عليه أن يثبت كلامه بالدليل الصحيح، لا بالدعاوى الجوفاء، ونحن قد أثبتنا في كتابنا (مسائل خلافية) بالأدلة الواضحة الصحيحة أن الشيعة هم أتباع أهل البيت عليهم السلام، الذين تمسَّكوا بحبلهم، واتّبعوهم، ونقلوا عنهم بالأسانيد الصحيحة العلم الكثير في المعتقدات والفتاوى والأحكام، فمن أراد الاطلاع على تلك الأدلة فعليه بمراجعتها هناك.

قال الكاتب: إن الصواب هو ترك المتعة لأنها حرام كما ثبت نقله عن أمير المؤمنين رضي الله عنه. وأما الأخبار التي نُسبَت إلى الأئمة، فلا شك أن نسبتها إليهم غير صحيحة، بل هي أخبار مفتراة عليهم، إذ ما كان للأئمة عليهم السلام أن يخالفوا أمراً حرمه رسول الله، وسار عليه أمير المؤمنين من بعده، وهم- أي الأئمة- الذين تلقوا هذا العلم كابراً عن كابرٍ لأنهم ذرّية بعضها من بعض.

ص: 210

وأقول: لقد أثبتنا ضعف هذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام، الذي رواه رجال مختلف في وثاقتهم من الزيدية وأهل السنة، فلا يمكن ترك ما رواه الثقات عن أمير المؤمنين عليه السلام خاصة، وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام عامة من أجل هذا الحديث الضعيف.

ولو ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام قد روى النهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير معارضة بأحاديث أخرى لكان علينا التسليم بما يقوله عليه السلام، ولكن الشأن في ثبوت ذلك عنه عليه السلام، فإنه لم يثبت، بل الثابت عنه خلافه كما يعلمه كل من اطلع على أخبار الأئمة المعصومين عليهم السلام.

وأما رد الأحاديث الصحيحة بالجملة، ووصفها بأنها مفتراة على الأئمة عليهم السلام من دون معالجة سندية ودلالية لها فهو بعيد عن الطريقة العلمية المعروفة المتفق عليها بين العامة والخاصة في نقد الأحاديث وتمحيص الصحيح منها والسقيم.

والكاتب لم يذكر دليلًا واحداً صحيحاً يدل على كذب تلك الأحاديث، اللهم إلا زعمه بأنها مخالفة لما حرَّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسار عليه أمير المؤمنين عليه السلام من بعده، وهذا الزعم كما هو واضح مصادرة على المطلوب، فإن عليه أولًا أن يثبت أن المتعة حرَّمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أمير المؤمنين عليه السلام قد روى التحريم عنه، ليتم له مطلوبه، لا أن يجعل النتيجة المتنازع فيها مقدمة مسلَّمة، وهذا أدل دليل على أن الكاتب بعيد عن روح الاستدلال الصحيح والاستنباط على طبق القواعد الثابتة.

قال الكاتب: لما سُئلَ أبو عبد الله رضي الله عنه: (كان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بينة؟ قال: لا) فلولا علمه بتحريم المتعة لما قال: لا، خصوصاً وأن الخبر صحيح (1) 328 في أن السؤال كان عن المتعة، وأن أبا جعفر الطوسي راوي الخبر


1- الظاهر أنه خطأ مطبعي، وأنه يريد: (صريح) كما هو ظاهر السياق، وإلا فالكاتب بعيد كل البعد عن معرفة الحديث الصحيح والضعيف كما يلاحظه كل من يقرأ كتابه.

ص: 211

أورده في باب المتعة كماأسلفنا.

وما كان لأبي عبد الله والأئمة من قبله ومن بعده أن يخالفوا أمر رسول الله صلوات الله عليه أو أن يُحلُّوا أمراً حرمه أو أن يبتدعوا شيئاً ما كان معروفاً في عهده عليه السلام.

وأقول: لقد أوضحنا المراد بالحديث فيما تقدَّم، وأن الحديث يدل على حلّية نكاح المتعة، وأن الصحابة كانوا يمارسونها عمليًّا، وأنهم كانوا يُشهِدون عليها، لما قلناه من الدواعي، فأين الدليل على حرمة المتعة وكونها منسوخة؟!

قال الكاتب: وبذلك يتبين أن الأخبار التي تحث على التمتع ما قال الأئمة منها حرفاً واحداً، بل افتراها وَتَقوَّلَها عليهم أُناس زنادقة أرادوا الطعن بأهل البيت الكرام والإساءة إليهم، وإلا بِمَ تفسر إباحتهم التمتع بالهاشمية، وتكفيرهم لمن لا يتمتع؟

وأقول: لقد تبيَّن بما قلناه أن الكاتب قد أخذ برواية واحدة فقط لمجرد كونها موافقة لمطلوبه، واعتبرها حجة بهذا اللحاظ، وأعرض عن الأحاديث الكثيرة المتواترة الدالة على أن أئمة أهل البيت عليهم السلام قد أباحوا نكاح المتعة.

وأما مسألة الاستدلال على كذب الروايات المبيحة للمتعة بأنها تجوِّز التمتع بالهاشمية فهو استدلال عجيب، وذلك لأن الأحكام الشرعية عامَّة لكل الناس، ولا خصوصية للهاشمية من هذه الجهة، فحالها حال غيرها من النساء.

وأما زعمه تكفير من لا يتمتَّع فهو افتراء واضح، لأن المتعة ليست بأعظم من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من أركان الإسلام التي لا يحُكم على من تركها تهاوناً بكفر ولا زندقة.

ص: 212

كما أنها ليست من الأصول التي يلزم من إنكارها المروق من الدين، بل هي من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي رحم الله بها أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن جحد سُنّة لشبهة عروض تحريمها لا يمكن تكفيره بحال من الأحوال.

قال الكاتب: مع أن الأئمة عليهم السلام لم يُنْقَلْ عن واحد منهم نقلًا ثابتاً أنه تمتع مرة، أو قال بِحِليَّةِ المتعة، أيكونون قد دانوا بغير دين الإسلام؟

وأقول: هذا الكلام واضح البطلان من عدة جهات:

أولًا: أن الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الدالة على حلّية نكاح المتعة بلغت حد التواتر كما صرَّح به جمع من العلماء، وقد نقلنا للقارئ كلمة الشيخ الطوسي في هذه المسألة.

من تلكم الروايات صحيحة زرارة التي نقلناها فيما مرَّ.

ومنها: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يستحب للرجل أن يتزوج المتعة، وما أحب للرجل منكم أن يخرج من الدنيا حتى يتزوج المتعة ولو مرة (1) 329.

ومنها: صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن متعة النساء، قال: حلال، وإنه يجزي فيه الدرهم فما فوقه (2) 330.

ومنها: صحيحة علي السائي قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جُعلت فداك، إني كنت أتزوج المتعة، فكرهتها وتشأمت بها، فأعطيت الله عهداً بين الركن والمقام، وجعلت عليَّ في ذلك نذراً وصياماً ألا أتزوّجها، ثم إن ذلك شقَّ عليَّ، وندمت على يميني، ولم يكن بيدي من القوة ما أتزوج علانية. قال: فقال لي: عاهدتَ الله أن لا


1- وسائل الشيعة 14/ 443.
2- الكافي 5/ 457. وسائل الشيعة 14/ 470.

ص: 213

تطيعه، والله لئن لم تطعه لتعصينّه (1) 331.

والأخبار الصحيحة كثيرة، لا حاجة لاستقصائها وذكرها كلها.

ومع ثبوت هذه الأخبار فلا مناص من الحكم بحلّية نكاح المتعة، ولا نحتاج إلى دليل عَمَلي مع ثبوت الدليل القولي.

ثانياً: لو ثبت أن الأئمة عليهم السلام لم يتزوّجوا متعة فلعل ذلك من أجل خشيتهم من مؤاخذة سلاطين عصرهم، أو لكون نكاح المتعة يستلزم الشنعة عليهم عند أهل السنة، فتركوه تجنباً لذلك، لا لكونه محرَّماً في الشريعة.

ثالثاً: أن أهل السنة أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أحلَّ نكاح المتعة في بعض مغازيه ثم حرَّمه، ولم ينقلوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه تزوج متعة، وهذا لا يخل بكونه حلالًا في تلك الفترة.

وعليه فنقول: لما ثبت عن الأئمة عليهم السلام أنهم أحلوا نكاح المتعة فلا يخل بحلّيته عدم ثبوت فعلهم له.

رابعاً: أنه قد ورد في الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام قد تزوَّجا متعة.

فقد روى الصدوق في كتابه (من لا يحضره الفقيه) عن الصادق عليه السلام أنه قال: إني لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت عليه خلة من خلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتها. فقلت له: فهل تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم. وقرأ هذه الآية

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا

إلى قوله تعالى

ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (2) 332.

وروى الشيخ المفيد في (رسالة المتعة) عن الفضل الشيباني بإسناده إلى الباقر عليه السلام أن عبد الله بن عطاء المكي سأله عن قوله تعالى

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُ

الآية، فقال:


1- الكافي 5/ 450. وسائل الشيعة 14/ 444.
2- من لا يحضره الفقيه 3/ 304. وسائل الشيعة 14/ 442.

ص: 214

إن رسول الله صلى الله عليه وآله تزوَّج بالحرة متعة، فاطلع عليه بعض نسائه ... (1) 333 وعن ابن بابويه بإسناده أن عليًّا عليه السلام نكح امرأة بالكوفة من بني نهشل متعة (2) 334.

قال الكاتب: فإذا توضح لنا هذا ندرك أن الذين وضعوا تلك الأخبار هم قوم زنادقة أرادوا الطعن بأهل البيت والأئمة عليهم السلام، لأن العمل بتلك الأخبار فيه تكفير للأئمة .. فتنبه.

وأقول: إن أخبار المتعة متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كما مرَّ، وقد رواها عنهم ثقات الرواة المعروفين بالتقوى والورع والإخلاص للأئمة عليهم السلام، والموصوفين بالضبط والعناية بنقل الأخبار عن الصادقين عليهم السلام، فكيف يكونون زنادقة يريدون الطعن بأئمة أهل البيت عليهم السلام؟ وما الدليل على ذلك؟ وهل مخالفة أهل السنة هو الدليل؟

وإذا كان من نقل حلّية المتعة عن الأئمة عليهم السلام قد أراد الطعن بهم عليهم السلام وتكفيرهم، فما يقول الكاتب فيمن نقل أحاديث حلّية المتعة من الصحابة والتابعين وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فهل أراد هؤلاء الطعن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

وما يقول في ابن عباس وغيره من الصحابة الذين كانوا يقولون بحلّية المتعة؟ فهل يقول الكاتب بكفرهم أيضاً؟ أو أنهم زنادقة؟!

أو أن مقياس الطعن والتكفير هو بيد الكاتب يصرفه حيث شاء وإلى من يشاء؟!


1- وسائل الشيعة 14/ 440.
2- نفس المصدر.

ص: 215

قال الكاتب: روى الكليني عن أبي عبد الله رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت: إني زنيت، فأمر أن تُرْجَمَ، فأخبر أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: كيف زنيتِ؟

فقالت: مررتُ بالبادية، فأصابني عطش شديد فاستسقيت أعرابياً فأبى إلا أن مَكَّنْتُه من نفسي، فلما أجهدني العطش، وخفتُ على نفسي سقاني فأمكنتُه من نفسي، فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: تزويجٌ وَرَبِّ الكعبة) الفروع 2/ 198.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند منكَرة المتن.

أما سندها فمن ضمن رجاله عبد الرحمن بن كثير، وهو ضعيف، ضعَّفه النجاشي وغيره.

قال النجاشي: عبد الرحمن بن كثير الهاشمي، مولى عباس بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس، كان ضعيفاً، غمز عليه أصحابنا، وقالوا: كان يضع الحديث (1) 335.

ومن جملة الرواة علي بن حسان، وهو ضعيف، قد ضعّفه النجاشي أيضاً وابن الغضائري.

قال النجاشي في رجاله: علي بن حسان بن كثير الهاشمي، مولى عباس بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس، ضعيف جداً، ذكره بعض أصحابنا في الغلاة، فاسد الاعتقاد، له كتاب تفسير الباطن، تخليط كله (2) 336.

وقال ابن الغضائري: علي بن حسان بن كثير مولى أبي جعفر الباقر عليه السلام، روى عن عمِّه عبد الرحمن، غالٍ ضعيف، رأيت له كتاباً سماه (تفسير الباطن) لا يتعلق من


1- رجال النجاشي، ص 163 ط حجرية.
2- نفس المصدر، ص 176 ط حجرية.

ص: 216

الإسلام بسبب، ولا يروي إلا عن عمّه (1) 337.

وروى الكشي عن محمد بن مسعود قال: سألت علي بن الحسن بن علي بن فضال عن علي بن حسان، فقال: عن أيهما سألت؟ أما الواسطي فهو ثقة، وأما الذي عندنا- يشير إلى علي بن حسان الهاشمي- فإنه يروي عن عمّه عبد الرحمن بن كثير، فهو كذاب، وهو واقفي أيضاً، لم يدرك أبا الحسن موسى عليه السلام (2) 338.

ومن جملة رواة هذا الخبر نوح بن شعيب، وهو الخراساني أو النيسابوري، وهو مجهول الحال، لم يوثَّق في كتب الرجال.

وعليه فهذه الرواية شديدة الضعف، فلا يعوَّل عليها.

وأما نكارة متنها فهو واضح، فإن المرأة لم تكن راضية وإنما كانت مُكرَهَة، ومن شرط النكاح وقوع التراضي من الطرفين، مع أن الحديث لم يذكر أن الرجل أجرى صيغة عقد النكاح معها، فكيف حُكم بأن ما وقع كان تزويجاً مع أن الظاهر أنها كانت محصنة، بدليل أن عمر أراد رجمها، ولو لم تكن محصنة لأمر بجلدها.

قال الكاتب: إن المتعة كما هو معروف تكون عن تراض بين الطرفين وعن رغبة منهما. أما في هذه الرواية فإن المرأة المذكورة مضطرة ومجبورة، فساومها على نفسها مقابل شربة ماء، وليست هي في حكم الزانية حتى تطلب من عمر أن يطهرها، وفوق ذلك- وهذا مهم- أن أمير المؤمنين رضي الله عنه هو الذي روى تحريم المتعة في نقله عن النبي صلى الله عليه وآله يوم خيبر، فكيف يفتي هنا بأن هذا نكاح متعة؟! وفتواه على سبيل الحِلِّ والإقرار والرضا منه بفعل الرجل والمرأة؟!!


1- رجال ابن الغضائري، ص 77.
2- اختيار معرفة الرجال 2/ 748 رقم 851.

ص: 217

إن هذه الفتوى لو قالها أحد طلاب العلم لَعُدَّتْ سقطة بل غلطة يُعاب عليه بسببها، فكيف تُنْسَبُ لأمير المؤمنين رضي الله عنه، وهو مَن هو في العلم والفتيا؟ إن الذي نسب هذه الفتوى لأمير المؤمنين إما حاقداً كذا أراد الطعن به، وإما ذو غرض وهوى اخترع هذه القصة، فنسبها لأمير المؤمنين، ليُضْفي الشرعية على المتعة كي يسوغ لنفسه ولأمثاله استباحة الفروج باسم الدين حتى وإن أدَّى ذلك إلى الكذب على الأئمة عليهم السلام، بل على النبي صلوات الله عليه.

وأقول: كل ما قاله الكاتب لا قيمة له بعدما علمنا أن الرواية ضعيفة سنداً ومنكرة متناً، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدَّم.

ونضيف هنا أن إيراد هذه الرواية في باب النوادر من أبواب المتعة كما صنع الكليني لا وجه له، فإن الرواية لم تنصّ على أن ما وقع كان تزويج دوام أو متعة.

ولهذا ورد في حاشية المطبوعة: والظاهر أن الكليني حمَله على أنها زوَّجت نفسها متعة بشربة من ماء، فذكره في هذا الباب، وهو بعيد، لأنها كانت مزوَّجة، وإلا لم تستحق الرجم بزعم عمر، إلا أن يقال: إن هذا أيضاً كان من خطئه (1) 339.

وقد يقال: إن إطلاق التزويج في الخبر على ما حدث يجعل الوطء فيه مردَّداً بين كونه نكاحاً دائماً أو متعة، وكونه متعة أقرب من كونه دواماً، باعتبار أنه مجرد استمتاع في وقت قصير لم يعقبه طلاق، ولعله لأجل ذلك ذكره الكليني رحمه الله في الباب المذكور، والله العالم.

وعلى كل حال، فإنا لو سلَّمنا بصحة الرواية فيمكن حملها على أن المرأة ظنّت بسبب جهلها لما وطأها الرجل أنها زنت، فأرادت من عمر أن يطهِّرها من معصيتها، لكن أمير المؤمنين عليه السلام لما علم بأنها كانت مكرهة على الزنا، حكم بأن حالها حال من كانت مزوَّجة، وأنها لا يترتب عليها رجم ولا إثم، فأطلق على الزنا بالإكراه زواجاً


1- الكافي 5/ 467.

ص: 218

إطلاقاً مجازياً لوجود نوع مشابهة بينهما في عدم ترتب الحد والإثم على الوطء.

وبهذا الذي قلناه يندفع كل ما قاله الكاتب من الإشكالات بحمد الله وفضله.

قال الكاتب: إن المفاسد المترتبة على المتعة كبيرة ومتعددة الجوانب:

1- فهي مخالفة للنصوص الشرعية لأنها تحليل لما حَرَّمَ الله.

وأقول: لقد روى الشيعة وأهل السنّة في كتبهم أحاديث صحيحة كثيرة دالة على حلّية نكاح المتعة، وذكروا أن آية من القرآن دلّت عليها، وهي قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) 340، ولا أحد ينكر ذلك منهم، غاية ما في الأمر أن أهل السنة يدَّعون تحريم نكاح المتعة بعد ذلك، ويدَّعون نسخ الآية المحكمة بالأحاديث المتعارضة.

ومنه يتضح أن القول بحلّية المتعة هو تحليل لما أحلّه الله سبحانه، وأما تحريمها فهو صادر من عمر بن الخطاب كما دلّت على ذلك الآثار المروية في كتب أهل السنة التي نقلنا للقارئ الكريم بعضها فيما تقدم.

قال الكاتب: 2- لقد ترتب على هذا اختلاق الروايات الكاذبة، ونسبتها إلى الأئمة عليهم السلام مع ما في تلك الروايات من مطاعن قاسية لا يرضاها لهم مَن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

وأقول: إن الكاتب لم يُقِم ولا دليلًا واحداً على أن تلك الأحاديث المروية عن


1- سورة النساء، الآية 24.

ص: 219

الأئمة عليهم السلام كانت مختلَقة، بل ليس عنده على اختلاقها إلا دليل واحد، وهو أن أحاديث المتعة مخالفة لما عليه أهل السنة، ومخالفة لحديث ضعيف مروي في كتب الشيعة رواته ما بين زيدي وسُنّي، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.

ثم إن الروايات الصحيحة الدالة على حلّية نكاح المتعة مروية أيضاً في كتب أهل السنة، وجملة منها في صحيح مسلم، وقد نقلنا بعضاً منها فيما مرَّ.

فهل يرى الكاتب أن تلك الروايات الصحيحة مختلقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن فيها مطاعن قاسية لا يرضاها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مَن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؟ أم أن الأمر يختلف ههنا، لأن باءهم تجر وباء غيرهم لا تجر؟

قال الكاتب: 3- ومن مفاسدها إباحة التمتع بالمرأة المحصَنَة- أي المتزوجة- رغم أنها في عِصمة رجل دون علمِ زوجها، وفي هذه الحالة لا يأمن الأزواج على زوجاتهم فقد تتزوج المرأة مُتْعَةً دون علم زوجها الشرعي، ودون رِضاه، وهذه مَفْسَدَةٌ ما بعدها مفسدة، انظر فروع الكافي 5/ 463، تهذيب الأحكام 7/ 554، الاستبصار 3/ 145 وليت شعري ما رأي الرجل وما شعوره إذا اكتشف أن امرأته التي في عصمته متزوجة من رجل آخر غيره زواج متعة؟!

وأقول: إن التمتع بالمحصَنة لا يجوز بأي حال من الأحوال، بل هو من المحرمات المعروفة، وهو زنا واضح لا كلام فيه.

وأما الممارسات الخاطئة التي قد تمارسها بعض البغايا باسم المتعة، بأن تتزوج متعة بزعمها وهي بغي تتنقل من رجل لآخر، أو ما تفعله بعض المحصنات المتزوجات من الزنا باسم المتعة، فهذا كله لا علاقة له بالمتعة في تشريعها الصحيح، لا من قريب ولا من بعيد، وذلك لأنه زنا سُمِّي متعة، والتسمية لا تبدِّل حقيقته فتصيِّره متعة بعد أن كان زنا واضحاً.

ص: 220

وهذا بعينه قد يلحق النكاح الدائم، فكم من امرأة تزوَّجت دواماً من رجل، ثم اتضح بعد ذلك أنها على عصمة رجل آخر؟ فهل يرى مدّعي الاجتهاد والفقاهة لزوم الحكم بتحريم النكاح الدائم، لأنه لا يأمن فيه المسلم أن تتزوج امرأته برجل آخر دواماً؟

ثم ما بال نكاح المتعة كان حلالًا في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلزم منه أمثال هذه المحاذير؟

فهل حصلت هذه المحاذير في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بعد زمانه؟ فإن حصلت في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم فهذا كاشف عن عدم مانعيتها لحلّية نكاح المتعة. وإن حصلت بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا دليل على أن هذه الممارسات الخاطئة خارجة عن أصل تشريع نكاح المتعة، فلا تضر به، ولا تقتضي حرمته.

وأغلب الظن أن مدَّعي الاجتهاد كان يظن أنه يجوز للمرأة المحصنة أن تتزوج متعة برجل آخر، ولهذا ذكر ذلك في مفاسد نكاح المتعة، مع أن هذا الوهم لا يحصل حتى لصغار طلبة العلم، فضلًا عمن يدَّعي الفقاهة والاجتهاد.

قال الكاتب: 4- والآباء أيضاً لا يأمنون على بناتهم الباكرات إذ قد يتزوجن متعة دون علم آبائهن، وقد يفاجأ الأب أن ابنته الباكر قد حملت ... لِمَ؟ كيف؟ لا يدري .. ممن؟ لا يدري أيضاً، فقد تزوجت من واحد فمن هو؟ لا يدري لأنه تركهاوذهب.

وأقول: إن حلّية نكاح المتعة لا تستلزم صحَّته بدون إذن الولي، فإن النكاح الدائم لا نزاع في حلّيته، ولكنه لا يصح من دون إذن ولي الفتاة البكر، فلا ملازمة بين الحلية وبين صحَّته من دون إذن الولي.

ولهذا جاءت الأخبار المروية عن أئمة الهدى عليهم السلام بضرورة استئذان ولي الفتاة

ص: 221

البكر في الزواج منها:

من ذلك صحيحة البزنطي عن الرضا عليه السلام، قال: البِكر لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها (1) 341.

وصحيحة أبي مريم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: العذراء التي لها أب لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها (2) 342.

ولهذا قال المحقق الخوئي قدس سره: ومن هنا يكون حكم المتعة حكم الزواج الدائم في اعتبار رضا الأب (3) 343.

ومما قلناه يتضح أنه لا يصح للفتاة أن تتزوج متعة أو دواماً من دون إذن أبيها، فلا يَرِد كل ما قاله الكاتب من المحاذير.

ثم إن ما ذكره الكاتب من المحاذير وارد على فتاوى بعض أئمة مذاهب أهل السنة، فإن بعضهم لا يشترط الولي في صحة نكاح الفتاة البكر والثيب.

قال ابن رشد في بداية المجتهد:

اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط، فذهب مالك إلى أنه لا يكون النكاح إلا بولي، وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة وزُفر والشعبي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤاً جاز. وفرّق داود بين البكر والثيب، فقال باشتراط الولي في البكر، وعدم اشتراطه في الثيب. ويتخرج على رواية ابن قاسم عن مالك في الولاية قول رابع: أن اشتراطها سُنّة لا فرض، وذلك أنه روي عنه أنه كان يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي، وأنه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجلًا من الناس على إنكاحها، وكان يستحب أن تقدم الثيب وليها، ليعقد عليها، فكأنه عنده من شروط


1- وسائل الشيعة 14/ 458.
2- المصدر السابق 14/ 459.
3- مباني العروة الوثقى (كتاب النكاح) 2/ 263.

ص: 222

التمام، لا من شروط الصحة (1) 344.

قلت: فعلى قول أبي حنيفة وزُفَر والشعبي والزهري ومالك برواية ابن القاسم يجوز للمرأة البكر أن تزوج نفسها بغير إذن وليّها، فترد كل المحاذير التي ذكرها الكاتب، فعليه أن يفتي بحرمة النكاح الدائم لما تترتب عليه من المفاسد العظيمة والآثار الخطيرة التي ذكرها.

قال الكاتب: 5- إن أغلب الذين يتمتعون، يُبيحون لأنفسهم التمتع ببنات الناس، ولكن إذا تقدم أحدٌ لخطبة بناتهم، أو قريباتهم فأراد أن يتزوجها متعة، لما وافق ولما رَضِيَ، لأنه يرى هذا الزواج أشبه بالزنا، وأن هذا عار عليه، وهو يشعر بهذا من خلال تمتعه ببنات الناس، فلا شك أنه يمتنع عن تزويج بناته للآخرين متعة، أي أنه يبيح لنفسه التمتع ببنات الناس، وفي المقابل يُحَرِّمُ على الناس أن يتمتعوا ببناته.

إذا كانت المتعة مشروعة، أو أمراً مباحاً، فَلِمَ هذا التحرج في إباحة تمتع الغرباء ببناته أو قريباته؟!!

وأقول: أما أن أغلب الذين يتمتعون هكذا يصنعون فهو رجم بالغيب، وذلك لأنه لا توجد إحصائية موثّقة عند الكاتب تدل على صحة زَعْمه.

ولو سلَّمنا بوقوع مثل ذلك فهذا لا يصلح دليلًا على حرمة هذا النكاح، وذلك لأن أموراً كثيرة محلَّلة لا يرتضيها الرجل لبناته وأخواته كما تقدَّم الكلام فيه:

منها: تعدد الزوجات، فإن الرجل يود أن يتزوج الاثنتين والثلاث والأربع، ولكنه لا يرتضي ذلك لبناته ولا لأخواته.

ومنها: الطلاق، فإن الرجل قد يطلِّق أهله، ولا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.


1- بداية المجتهد 3/ 44.

ص: 223

ومنها: أن الرجل قد يلاعن أهله، ولكنه لا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

ومنها: أن الرجل ربما يُصِرّ على رؤية من يريد التزويج بها، ولكنه قد لا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

ومنها: أن الرجل قد يتزوَّج وهو مريض أو فقير مُعْدَم، ولكنه لا يرتضي لبناته وأخواته أن يزوِّجهن من مريض أو فقير مُعْدَم.

ومنها: أن الرجل قد يرغب في أن يتزوج الزواج المسمَّى في السعودية بزواج المِسْيار (1) 345، ولكنه قد لا يرتضيه لبناته ولا لأخواته.

ومنها: خدمة النساء، فإن الموسِر قد يستجلب خادمة تخدم في بيته، ولكنه لا يرتضي ذلك لبناته ولا لأخواته.

ومنها: توظيف النساء، فإن صاحب العمل قد يوظِّف بعض النساء للعمل عنده، ولكنه قد لا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

ومنها: أن الرجل قد يسترق بعض الإماء ويستمتع بهن، ولكنه لا يرتضي ذلك لبناته وأخواته.

ومنها كثير غير ذلك، فهل يرى مدَّعي الاجتهاد والفقاهة أن كل تلك الأمور تصبح محرَّمة، لأن الرجل يرتضيها لنفسه، ولا يرتضيها لبناته ولا لأخواته؟

ولو سلَّمنا أيضاً أن بعض الذين يتزوَّجون متعةً يأبَون أن يزوِّجوا بناتهم متعةً، فلعل ذلك من أجل أنهم يودّون تزويج بناتهم وأخواتهم زواجاً دائماً، فإنه خير لهن من زواج المتعة لما مرَّ بيانه، أو لعل السبب هو الخشية من المؤاخذات القانونية والشنعة التي قد تحصل للفتاة بسبب ذلك، أو لعدم تقدّم الكف ء بنظر الولي، أو لعدم


1- زواج المسيار هو أن يتزوج الرجل المرأة بصداق وبيِّنة وموافقة الولي، ولكن الزوجة قد تبقى في بيت أهلها، وتُسقِط كافة حقوقها من نفقة ومبيت وقسم وغيرها، إلا أن الزوج (يُسيِّر عليها) أي يطوف بها كل فترة، ليقضي وطره منها.

ص: 224

حاجتهن لمثل هذا النكاح، أو لغير ذلك، وليس شرطاً أن يكون الرفض بداعي عدم الاعتقاد بحلّية نكاح المتعة كما زعم الكاتب.

قال الكاتب: 6- إن المتعة ليس فيها إشهاد، ولا إعلان، ولا رضَى ولي أمر المخطوبة، ولا يقع شي ء من ميراث المتَمَتِّع للمُتَمَتَّع بها، إنما هي مستأجَرة كما نُسِب ذلك القول إلى أبي عبد الله رضي الله عنه، فكيف يمكن إباحتها وإشاعتها بين الناس؟

وأقول: إن كل ما شُرط في النكاح الدائم فهو مشترط في نكاح المتعة، من الإيجاب والقبول، وبذل المهر، وتعيين الزوجين، وتحقق رضاهما، واعتبار إذن الولي إن كانت الفتاة بكراً، وألا تكون المرأة ذات بعل أو في عدة من بعل آخر، فلا فرق من هذه النواحي بين نكاح المتعة والنكاح الدائم، وهذه الأمور هي المحقِّقة لماهية النكاح.

وأما الإشهاد والإعلان فهو مستحب فيه، لا مقوِّم لحقيقته، ولهذا وقع الاختلاف في اشتراط الشهادة على النكاح الدائم وإعلانه.

قال صاحب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة: ولا يصح النكاح إلا بشهادة عند الثلاثة، وقال مالك: يصح من غير شهادة، إلا أنه اعتبر الإشاعة وترْك التراضي بالكتمان، حتى لو عقد في السِّر واشترط كتمان النكاح فُسِخ عند مالك، وعند أبي حنيفة والشافعي وأحمد: لا يضر كتمانهم مع حضور شاهدين (1) 346.

قلت: إن الثلاثة اعتبروا شهادة شاهدين وإن كان النكاح سِرًّا، وأما مالك فاعتبر الإعلان فيه وإن كان من غير شهود، فلم يرَ مالك أن الشهادة شرط صحّة، ولم يرَ الثلاثة أن الإعلان شرط صحّة.


1- رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ص 393.

ص: 225

وقال ابن رشد في بداية المجتهد: وقال أبو ثور وجماعة: ليس الشهود من شرط النكاح، لا شرط صحّة ولا شرط تمام، وفعل ذلك الحسن بن علي، رُوي عنه أنه تزوّج بغير شهادة، ثم أعلن النكاح (1) 347.

وقال ابن قدامة في المغني: وعن أحمد أنه يصح بغير شهود، وفعله ابن عمر والحسن بن علي وابن الزبير وسالم وحمزة ابنا ابن عمر، وبه قال عبدالله بن إدريس وعبد الرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون والعنبري وأبو ثور وابن المنذر، وهو قول الزهري ومالك إذا أعلنوه. قال ابن المنذر: لا يثبت في الشاهدين في النكاح خبر. وقال ابن عبد البر: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين) من حديث ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر، إلا أن في نقله ذلك ضعيفاً، فلم أذكره. قال ابن المنذر: وقد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم صفية ابنة حيي فتزوجها بغير شهود. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: اشترى رسول الله جارية بسبعة قروش، فقال الناس: ما ندري أتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جعلها أم ولد؟ فلما أن أراد أن يركب حَجَبَها، فعلموا أنه تزوَّجها. متفق عليه. قال: فاستدلوا على تزويجها بالحجاب (2) 348.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وحكى في البحر عن ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن مهدي وداود أنه لا يعتبر الإشهاد (3) 349.

وقال ابن رشد: واختلفوا إذا أشهد شاهدين، ووُصِّيا بالكتمان، هل هو سِرّ أو ليس بِسِرّ؟ فقال مالك: هو سِر ويفسخ. وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس بِسِر (4) 350.

قلت: لا ريب في أن النكاح في هذه الحالة لا إعلان فيه مع أنه جائز وصحيح على رأي أبي حنيفة والشافعي وغيرهما ممن لا يرى وجوب الإشهاد في النكاح.


1- بداية المجتهد 3/ 53.
2- المغني 7/ 339.
3- نيل الأوطار 6/ 127.
4- بداية المجتهد 3/ 53.

ص: 226

وما نقلناه من أقوال أئمة المذاهب وغيرهم كافٍ في التحقق من أن الإشهاد والإعلان ليسا مقوِّمين لحقيقة النكاح، وأن القول باشتراطهما مرتبط بتمامية الدليل الدال عليهما، لا لكون الإشهاد مقوِّماً لماهية النكاح.

وأما ما يرتبط برضا الولي فقد قلنا فيما مرَّ إنه لا يحل التزويج بالبكر من دون إذن وليها، سواءاً أكان النكاح دواماً أم متعة، وأما المرأة الثيب فهي تملك نفسها في النكاحين من غير فرق.

وصحة النكاح من غير ولي مسألة اختلف فيها أئمة أهل السُّنة على أقوال.

قال صاحب رحمة الأمة: ولا يصح النكاح عند الشافعي وأحمد إلا بولي، فإن عقدت المرأة النكاح لم يصح. وقال أبو حنيفة: للمرأة أن تزوِّج نفسها، وأن توكِّل في نكاحها إذا كانت من أهل التصرف في مالها، ولا اعتراض عليها إلا أن تضع نفسها في غير كف ء، فيعترض الولي عليها. وقال مالك: إن كانت ذات شرف وجمال ومال يُرغَب في مثلها لم يصح نكاحها إلا بولي، وإن كانت بخلاف ذلك جاز أن يتولى نكاحها أجنبي برضاها. وقال داود: إن كانت بكراً لم يصح نكاحها إلا بولي، وإن كانت ثيباً صح (1) 351.

قلت: فعلى قول أبي حنيفة في المرأة الرشيدة، وداود في المرأة الثيب، ومالك في غير المرأة ذات الشرف والمال والجمال، يصح عقد النكاح من غير ولي، وهذا الاختلاف دليل على أن رضا الولي ليس مقوماً لحقيقة النكاح.

وأما التوارث فلا يدخل أيضاً في حقيقة النكاح، لحكمهم بصحة النكاح من غير توارث فيه، ولهذا جوَّزوا التزويج بالكافرة الكتابية، مع أنهم لم يجوزوا التوارث بين المسلم والكافر، فلا المسلم يرث الكافر عندهم، ولا الكافر يرث المسلم.

أما جواز التزويج بالكتابية فقد أجمعوا عليه.


1- رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ص 388.

ص: 227

قال ابن قدامة في المغني: وليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حِل حرائر نساء أهل الكتاب. قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرَّم ذلك. وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوَّجوا نساء من أهل الكتاب، وبه قال سائر أهل العلم (1) 352.

قلت: ويدل عليه قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهمْ وَالمحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ (2) 353.

وأما عدم التوارث بين المسلم والكافر فقد أوضحه ابن قدامة بقوله: أجمع أهل العلم على أن الكافر لا يرث المسلم، وقال جمهور الصحابة والفقهاء: لا يرث المسلمُ الكافر. يُروى هذا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأسامة بن زيد وجابر بن عبد الله، وبه قال عمرو بن عثمان وعروة والزهري وعطاء وطاووس والحسن وعمر ابن عبد العزيز وعمرو بن دينار والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وعامة الفقهاء وعليه العمل (3) 354.

قلت: ومما مرَّ يتّضح أن الزوجة الكافرة لا ترث زوجها المسلم، وهو لا يرثها أيضاً عندهم، وأما عندنا فهو يرثها وإن كانت لا ترثه.

وكذلك الحال فيما لو كان الزوجان مملوكين، فإنهما أيضاً لا يتوارثان، وذلك لأن المملوك لا يَمْلِك، فلا يَرث ولا يُورَث.

قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في أن العبد لا يرث، إلا ما روي عن ابن مسعود في رجل مات وترك أباً مملوكاً، يُشترى من ماله، ثم يُعتَق فيَرِث ... ولنا أن فيه نقصاً


1- المغني 7/ 500.
2- سورة المائدة، الآية 5.
3- المصدر السابق 7/ 166.

ص: 228

مَنَعَ كونه موروثاً، فمَنَعَ كونه وارثاً كالمرتد ...

إلى أن قال: وأجمعوا على أن المملوك لا يُورَث، وذلك لأنه لا مال له فيورث، فإنه لا يَمْلِك (1) 355.

هذا كله مضافاً إلى أن نكاح المتعة قد يكون مشتملًا على كل تلك الأمور، فيكون فيه إشهاد وإعلان، ويكون فيه توارث ونفقة ومبيت ومباضعة إذا اشترط الزوجان ذلك في العقد، فيكون حاله حال النكاح الدائم من هذه الجهات، إلا أنه ينقضي بالمُدة، والنكاح الدائم ينقضي بالطلاق. وانقضاء المدة ووقوع الطلاق مزيلان للنكاح لا مقوِّمان له كما هوواضح.

وبالنتيجة فإن الزوجين دواماً أو متعةً قد يكون بينهما توارث وقد لا يكون، وهذا لا ينافي الزوجية، لأنها غير مبتنية عليه كما هو واضح.

وأما ما قاله الكاتب من أن المرأة المتمتَّع بها مستأجرة كما ورد في الحديث المروي في الكافي والاستبصار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكرت له المتعة، أهي من الأربع؟ فقال: تزوَّجْ منهن ألفاً، فإنهن مستأجرات (2) 356.

فتفصيل الجواب فيه أن نقول: إن الكلام في هذه الرواية تارة يكون من ناحية السند وتارة أخرى من ناحية الدلالة:

أما من ناحية السند فالرواية ضعيفة، فإن من جملة رواتها سعدان بن مسلم، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال (3) 357.

وأما من ناحية الدلالة فلا إشكال فيها إلا في وصف النساء المتمتعات بأنهن (مستأجرات).


1- المصدر السابق 7/ 131.
2- الكافي 5/ 452. الاستبصار 3/ 147.
3- راجع معجم رجال الحديث للخوئي 8/ 98، 99.

ص: 229

وهذا الإشكال يندفع بأدنى تأمل، لأنه لا مانع من إطلاق (المستأجرة) على المرأة المنكوحة بالنكاح الدائم والمنقطع على حد سواء، ولا سيما بعد التصريح في كتاب الله بإطلاق الأجر على المهر.

قال تعالى

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ (1) 358.

وقال تعالى

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ (2) 359.

وقال تعالى

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (3) 360.

وقال تعالى

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ واللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ (4) 361.

وقال تعالى

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهمْ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ (5) 362.


1- سورة الأحزاب، الآية 50.
2- سورة الممتحنة، الآية 9.
3- سورة النساء، الآية 24.
4- سورة النساء، الآية 25.
5- سورة المائدة، الآية 5.

ص: 230

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن المهر يُسمَّى أجراً.

وبهذا الذي قلناه صرَّح المفسِّرون من أهل السنة في تفاسيرهم.

فقال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ

الاستمتاع التلذذ، والأجور المهور، وسُمِّي المهر أجراً لأنه أجر الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يُسمَّى أجراً، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع، لأن ما يقابل المنفعة يُسمَّى أجراً (1) 363.

وقال الطبري في تفسيره: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأعطوهن مهورهن كما حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وآتوهن أجورهن: الصداق (2) 364.

وقال أيضاً: وأما قوله

إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ

فإن الأجر العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر كما حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح ... عن ابن عباس في قوله آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن (3) 365.

وقال: في تفسير قوله تعالى

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ:

يعني اللاتي تزوجتهن بصداق مسمى، كما حدثني محمد بن عمرو ... عن مجاهد قوله:

أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ

قال: صدقاتهن (4) 366.

وقال ابن كثير في تفسيره: وقوله تعالى

وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ

أي وادفعوا مهورهن بالمعروف (5) 367.

وقال أيضاً: وقوله تعالى

إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ

أي مهورهن (6) 368.


1- الجامع لأحكام القرآن 5/ 129.
2- تفسير الطبري 5/ 19.
3- المصدر السابق 6/ 69.
4- المصدر السابق 22/ 20.
5- تفسير القرآن العظيم 1/ 476.
6- المصدر السابق 2/ 22.

ص: 231

وقال الإمام الشافعي: فأمر الله عز وجل الأزواج بأن يؤتوا النساء أجورهن وصدقاتهن، والأجر هو الصداق، والصداق هو الأجر والمهر، وهي كلمة عربية تسمى بعدة أسماء (1) 369.

وقال البخاري في صحيحه: أجورهن: مهورهن (2) 370.

وكلماتهم التي صرَّحوا فيها بأن الأجر هو الصداق والمهر لا تكاد تحصى.

ومن المناسب للمقام أن ننقل للقارئ الكريم فتاوى بعض أعلام أهل السنة المتعلقة بالإجارة في النكاح.

1- قال القرطبي في تفسيره: وقال أبو الحسن الكرخي: إنّ عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز، لقوله تعالى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ... وقال أبو القاسم: ينفسخ قبل البناء، ويثبت بعده (3) 371.

ومراده أنه إذا دخل بالمرأة صحَّ العقد وثبت النكاح، وإن لم يدخل بها انفسخ.

2- وقال أيضاً: استدل أصحاب الشافعي بقوله إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح ... وقال علماؤنا في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد (4) 372.

قلت: معنى انعقاد النكاح بكل لفظ أنه ينعقد بلفظ الإجارة أو بالهبة أو بالتمليك أو بغيرها، وعلماء الشيعة لا يصحِّحون هذه الأنكحة، لأنهم قصروا الصحة على لفظي: زوَّجتُ وأنكحتُ.

3- أفتى أبو حنيفة بأن الرجل إذا استأجر المرأة للوطء، ولم يكن بينهما عقد نكاح، فليس ذلك بزنا، ولا حدَّ فيه، والزنا عنده ما كان مطارفة أي عن رغبة


1- أحكام القرآن 1/ 196.
2- صحيح البخاري 4/ 1682.
3- الجامع لأحكام القرآن 13/ 273.
4- المصدر السابق.

ص: 232

وميل، وأما ما فيه عطاء فليس بزنا (1) 373.

4- قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: إذا آجر الرجل الدار لأجل بيع الخمر واتخاذها كنيسة أو بيعة، لم يجز قولًا واحداً، وبه قال الشافعي، كما لا يجوز أن يُكْري أمته أو عبده للفجور، وقال أبو حنيفة: يجوز أن يؤاجرها لذلك (2) 374.

وكيف كان فقد اتضح من كل ما قلناه أن المهر يسمَّى أجراً، فيكون معنى (مستأجرات) في الحديث المزبور: مَمْهُورات، أي دُفِعتْ لهنَّ المهور التي يُستحَل بها نكاحهن.

وبهذا يتضح أنه لا إشكال في الحديث أصلًا مع أنه ضعيف السند كما قلنا فيماتقدم.

قال الكاتب: 7- إن المتعة فتحت المجال أمام الساقطين والساقطات من الشباب والشابات في لصق ما عندهم من فجور بالدين، وأدى ذلك إلى تشويه صورة الدين والمتدينين.

وأقول: هذه دعاوى مجردة عن الدليل لا قيمة لها، وإلا فالساقطون والساقطات لا يحتاجون للمتعة لتبرير ممارستهم للرذيلة، وكانوا ولا يزالون بعيدين عن تعاليم الدين وأحكامه، فأي شي ء يلصقونه بالدين.

وإذا كان الساقطون والساقطات من الشيعة هكذا يصنعون، فما يصنع أمثالهم من أهل السنة وغيرهم؟ هل احتاجوا لحكم شرعي لتبرير فعلهم للرذيلة؟ أم أن التبريرات الدينية خاصة بفسقة الشيعة، وأما فسقة أهل السنة فهم لا يبالون بتبرير فجورهم؟


1- المحلى 12/ 196.
2- اقتضاء الصراط المستقيم، ص 236.

ص: 233

ولو سلَّمنا بأن الفسقة من الشيعة يتزوجون المتعة التي يعتقدون بحلِّيتها، فإنهم بلا ريب خير من الساقطين من أهل السنة الذين يُقْدِمون على ارتكاب الزنا المجمع على تحريمه.

واتخاذ نكاح المتعة وسيلة للفجور لا يحرِّم هذا النكاح، وإلا لحرم النكاح الدائم أيضاً، وذلك لأن الفسقة وأصحاب المآرب الدنيئة قد اتخذوا النكاح الدائم وسيلة للفجور أيضاً، فإن بعض النساء قد اتخذنه غطاءاً للزنا والإنجاب المحرَّم، ومن الناس من اتخذه وسيلة للتكسب بالبغاء ... أو لغير ذلك مما هو معروف.

فهل يرى مدَّعي الاجتهاد والفقاهة تحريم النكاح الدائم للسبب نفسه الذي حرَّم من أجله نكاح المتعة؟!

قال الكاتب: وبذلك يتبين لنا أضرار المتعة دينياً واجتماعياً وخُلُقياً، ولهذا حُرِّمَتِ المتعة، ولو كان فيها مصالح لما حُرِّمَت، ولكن لما كانت كثيرةَ المفاسد حرمها رسول الله صلى الله عليه وآله، وحرمها أمير المؤمنين رضي الله عنه.

وأقول: لقد اتضح بما لا يدع مجالًا للشك أن ما زعمه الكاتب من المفاسد المترتبة على نكاح المتعة بسبب الممارسات الخاطئة التي يقوم بها بعضهم باسم المتعة، هي بعينها مترتِّبة على النكاح الدائم أيضاً، إلا أن مثل تلكم الممارسات لا تحرِّم الحلال الذي ثبتت حلّيته بالدليل الصحيح، وإلا لكانت أكثر الأمور المحلّلة بل العبادات الثابتة كلها محرَّمة، وهذا لا يقول به أحد.

وقد اتّضح أيضاً أن ما زعمه الكاتب من الأضرار الدينية والاجتماعية والخُلُقية ما هو إلا دعاوى فارغة، لا تستند إلى دليل، ولا تنهض بها حجة.

وأما زَعْمه أن تحريم نكاح المتعة كان ناشئاً من وجود المفاسد الدينية

ص: 234

والاجتماعية والخُلُقية فهو واضح البطلان، وذلك لأن النزاع معه إنما هو في ثبوت التحريم والنسخ، وهو لم يثبت بدليل صحيح كما مرَّ بيانه.

ويكفي في دفع ما زعمه الكاتب من مضار نكاح المتعة ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس رضي الله عنه من أنه (لولا نهي عمر عنها لما زنا إلا شقي)، وأنها رحمة رحم الله بها أمَّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن نفس تشريعها دال على ما فيها من المنافع العظيمة والفوائد الكبيرة.

قال الكاتب: تنبيه: سألتُ الإمام الخوئي عن قول أمير المؤمنين في تحريم المتعة يوم خيبر، وعن قول أبي عبد الله في إجابة السائل عن الزواج بغير بينة أكان معروفاً على عهد النبي صلى الله عليه وآله؟ فقال: إن قول أمير المؤمنين رضي الله عنه في تحريم المتعة يوم خيبر إنما يشمل تحريمها في ذلك اليوم فقط لا يتعدى التحريم إلى ما بعده. أما قول أبي عبد الله للسائل، فقال الإمام الخوئي: إنما قال أبو عبد الله ذلك تَقِيَّة، وهذا متفق عليه بين فقهائنا.

وأقول: هذه النقولات لا قيمة لها لعدم وثاقة ناقلها، مضافاً إلى أن ما نسبه للخوئي كذب مفضوح وافتراء مكشوف لا يخفى حتى على صغار طلبة العلم، لأنه لا يصدر من فاضل فضلًا عن أستاذ الفقهاء والمجتهدين، ولا سيما مع وضوح ضعف سند الرواية ومعارضتها للأحاديث الكثيرة المتواترة الناصَّة على حلّية نكاح المتعة كما أوضحناه فيما تقدَّم.

والحديث الآخر مضافاً إلى ضعف سنده فإنا أوضحنا المراد منه فيما مرَّ، فراجعه إذ لا حاجة لتكرار الكلام فيه.

ص: 235

قال الكاتب: قلت: والحق أن قول فقهائنا لم يكن صائباً، ذلك أن تحريم المتعة يوم خيبر صاحبت تحريم لحوم الحمر الأهلية، وتحريم لحوم الحمر الأهلية جرى العمل عليه من يوم خيبر إلى يومنا هذا وسيبقى إلى قيام الساعة. فدعوى تخصيص تحريم المتعة بيوم خيبر فقط دعوى مجردة لم يقم عليها دليل، خصوصاً وأن حرمة لحوم الحمر الأهلية والتي هي قرينة المتعة في التحريم بقي العمل عليها إلى يومنا هذا.

وأقول: إن ما نسبه زوراً لفقهاء الشيعة ليس صحيحاً، وذلك لأنا نقلنا ما قاله الشيخ الطوسي قدس سره في كتابيه التهذيب والاستبصار حول هذا الحديث، فقد ذكر أنه حديث خرج تقيّة لموافقته للعامة.

وقال الحر العاملي في وسائل الشيعة: حَمَله الشيخ وغيره على التقيّة، يعني في الرواية، لأن إباحة المتعة من ضروريات مذهب الإمامية (1) 375.

وقال الفيض الكاشاني في الوافي: نسبة التقية إلى أمير المؤمنين عليه السلام في مثل هذااللفظ لا يخلو من بُعد، وإنما يستقيم إذا نُسبت إلى بعض الرواة في وضع الحديث (2) 376.

هذه هي أقوال علماء الشيعة، وليس فيها ما نسبه للخوئي قدس سره من الهذيان الباطل.

وأما أكل لحوم الحمر الأهلية فهو محلَّل عند الإمامية، وليس بمحرَّم كما ظنَّه مدَّعي الاجتهاد والفقاهة، وهذه سقطة عظيمة من سقطاته الكثيرة، وإلا فما كان ليخفى على فقيه أن حلّية أكل لحوم الحمر الأهلية قد ادُّعي فيها الإجماع، فكيف غابت معرفة مسألة إجماعية عن فقيه مجتهد؟!

وإليك بعضاً من أقوال علماء الطائفة في حلّية أكل لحوم الحمر الأهلية على كراهةٍ.


1- وسائل الشيعة 14/ 441.
2- الوافي 3/ 55 في أبواب النكاح.

ص: 236

قال السيد المرتضى قدس سره: ومما انفردت به الإمامية وإن كان الفقهاء قد رووا عن ابن عباس رحمه الله موافقتها في ذلك تحليل لحوم الحمر الأهلية، وحرَّمها سائر الفقهاء (1) 377.

وقال الشيخ الطوسي قدس سره في كتابه (الخلاف): يجوز أكل لحوم الحمر الأهلية والبغال، وإن كان فيها بعض الكراهية إلا أنه ليس بمحظور، وبه قال ابن عباس في الحمار (2) 378، والحسن البصري في البغال، وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: حرام أكلها (3) 379. دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (4) 380. وأيضاً: الأصل الإباحة، والحظر يحتاج إلى دليل. وأيضاً: قوله تعالى

قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا

إلى قوله

أَوْ لحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا (5) 381

، فالظاهر أن ما عدا هذه مباح إلا ما أخرجه الدليل (6) 382.

وقال صاحب الجواهر قدس سره: (يكره الخيل والبغال والحمير الأهلية) في الثلاثة، بل عن الخلاف الإجماع على ذلك، كما عن الانتصار والغنية أنه من متفردات الإمامية في الأول والثالث، للأصل والنصوص المستفيضة أو المتواترة أو المقطوع بمضمونها. قال محمد بن مسلم: سألت أبا جعفر عليه السلام عن لحوم الخيل والبغال والحمير، فقال:


1- الانتصار، ص 193.
2- أحكام القرآن للجصاص 3/ 17. المغني لابن قدامة 11/ 66. الشرح الكبير 11/ 66. بداية المجتهد 3/ 25.
3- راجع شرح مسلم للنووي 12/ 168، 13/ 91. تحفة الأحوذي 5/ 415. عون المعبود 10/ 286. شرح معاني الآثار 4/ 210. أحكام القرآن للجصاص 3/ 17. المبسوط للسرخسي 11/ 232. فتح الباري 9/ 539. المحلى 6/ 78- 79. المغني لابن قدامة 11/ 66. الشرح الكبير 11/ 65. كتاب الأم 2/ 251. سبل السلام 4/ 146. بداية المجتهد 3/ 25. رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ص 250.
4- راجع الكافي 6/ 245، 246. التهذيب 9/ 41. الاستبصار 4/ 73- 74.
5- سورة الأنعام، الآية 145.
6- كتاب الخلاف 6/ 80.

ص: 237

حلال، ولكن الناس يعافونها ... (1) 383.

وقال السيد علي الطباطبائي في رياض المسائل: (ويكره الخيل والحمير والبغل) ولا يحرم بلا خلاف يظهر في الأولين، بل جعل الحكم في الأخيرين في الانتصار والغنية من متفردات الإمامية، وعلى الأظهر في الثالث، وهو الأشهر، بل عليه عامة من تأخر. وفي الخلاف الإجماع عليه وعلى الأولين أيضاً، مضافاً إلى الإجماعين المتقدمين، وهو الحجة، مضافاً إلى أصالتي البراءة والإباحة المستفادتين من الأدلة القطعية العقلية والنقلية كتاباً وسنة وإجماعاً مستفيضة، بل متواترة، وظواهر الصحيحة المستفيضة، وفيها الصحاح وغيرها (2) 384.

قلت: يظهر من بعض الأخبار الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى الناس عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، لأنها كانت تحملهم يومئذ، ولم يحرِّمها عليهم.

من هذه الأخبار صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنهما سألاه عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكلها يوم خيبر، وإنما نهى عن أكلها ذلك الوقت لأنها كانت حمولة الناس، وإنما الحرام ما حرَّم الله في القرآن.

وعن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: إن المسلمين كانوا جهدوا في خيبر، فأسرع المسلمون إلى دوابِّهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإكفاء القدور، ولم يقل: إنها حرام. وكان ذلك إبقاءاً على الدواب (3) 385.

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل لحوم الحمير، وإنما نهى عنها من أجل ظهورها، مخافة أن يفنوها، وليست الحمير بحرام. ثم قرأ هذه الآية

قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ

إلى


1- جواهر الكلام 36/ 265.
2- رياض المسائل 8/ 231.
3- وسائل الشيعة 16/ 323.

ص: 238

آخر الآية (1) 386.

وأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الحمار الأهلي يوم خيبر، وكان الناس احتاجوا إليها (2) 387.

وعن ابن عباس قال: لا أدري، إنما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم، أوْ حرَّمه في يوم خيبر. لحوم الحمر الأهلية (3) 388. اه

وهذه الأخبار واضحة الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما نهى الناس عن أكل لحوم الحمر الأهلية لحاجتهم يومئذ لظهورها، ولم يحرِّمها عليهم حرمة تشريعية، إلا أن بعضهم قد توهَّم أن هذا النهي نهي تحريم، فأفتى فيها بالحرمة.

ولو تأملنا أحاديث القوم في كتبهم الستة وغيرها التي رَوَوْها عن سائر الصحابة في تحريم الحمر الأهلية لرأيناها- رغم كثرتها- خالية من ذكر تحريم المتعة يوم خيبر، باستثناء حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا يدل على أن النهي عن المتعة قد دُسَّ في الحديث دسًّا كما لا يخفى (4) 389.

ولو سلّمنا بصحَّة الحديث بالنحو الذي رووه عن أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه لا يراد بالنهي فيه التحريم، إذ لعل المراد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما نهاهم عن المتعة من أجل أخذ الأهبة لقتال اليهود حذراً من الانشغال عن العدو بمباضعة النساء، والله أعلم.


1- المصدر السابق 16/ 324.
2- صحيح مسلم 3/ 1538.
3- نفس المصدر 3/ 1539.
4- راجع صحيح البخاري 3/ 1282- 1283. صحيح مسلم 3/ 1537- 1541. سنن الترمذي 4/ 254. سنن أبي داود 3/ 356. سنن النسائي 7/ 230- 233. سنن ابن ماجة 2/ 1064- 1066. سنن الدارمي 1/ 517.

ص: 239

قال الكاتب: وفوق ذلك لو كان تحريم المتعة خاصًّا بيوم خيبر فقط، لورد التصريح من النبي صلى الله عليه وآله بنسخ تلك الحرمة، على أنه يجب أن لا يغيب عن بالنا أن علة إباحة المتعة هي السفر والحرب، فكيف تحرم في تلك الحرب والمقاتل أحوج ما يكون إليها خصوصاً وأنه في غربة من أهله وما ملكت يمينه، ثم تباح في السلم؟

إن معنى قوله رضي الله عنه أنها حُرِّمَت يوم خيبر أي أنَّ بداية تحريمها كان يوم خيبر، وأما أقوال فقهائنا إنما هي تلاعب بالنصوص لا أكثر.

وأقول: لقد أجبنا عن ذلك كله فيما مرَّ بما لا مزيد عليه، فراجعه.

والتلاعب بالنصوص قد صدر ممن يأخذ بعض النصوص ويترك بعضها الآخر، أو يعمل بالضعيف، ويترك العمل بالصحيح المجمع عليه، أو يصرف النصوص عما يراد بها.

قال الكاتب: فالحق أن تحريم المتعة ولحوم الحمر الأهلية متلازمان، نزل الحكم بحرمتهما يوم خيبر، وهو باق إلى قيام الساعة، وليس هناك من داع لتأويل كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه من أجل إشباع رغبات النفس وشهواتها في البحث الدائم عن الجميلات والفاتنات من النساء للتمتع بهن، والتلذذ باسم الدين، وعلى حسابه.

وأقول: لقد أوضحنا المسألة بتمامها فيما تقدَّم، وقلنا: إن أخبار حلّية لحوم الحمر الأهلية متواترة عندنا، وكذا أخبار حلّية نكاح المتعة، وأن النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية إنْ صحَّ- إنما كان من أجل الحاجة إلى ظهورها، فلا أدري لمَ يتشبَّث هذا الكاتب المدّعي للتشيع بأخبار العامة ويترك روايات أهل البيت عليهم السلام، ويتمسَّك بحديث ضعيف، ويغض النظر عن الأحاديث المتواترة عنهم عليهم السلام؟!

وأما دعواه بأن ابتداء تحريم المتعة هو يوم خيبر، واستمر التحريم إلى الأبد،

ص: 240

فهو قول لا يوافقه عليه أحد، بل هو مخالف لما اتفق عليه علماء أهل السنة من أن المتعة أُبيحت بعد يوم خيبر، ثم حُرِّمت مراراً، والأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك عندهم كثيرة.

منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده عن إياس بن سلمة عن أبيه، قال: رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها (1) 390.

ومنها: ما أخرجه مسلم أيضاً بسنده عن سبرة الجهني، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها (2) 391.

ولا بأس أن أنقل للقارئ الكريم ما حكاه ابن حجر في تلخيص الحبير عن الشافعي في الجمع بين الأخبار الدالة على تحليل المتعة في الوقائع المختلفة وتحريمها، فإنه قال:

وقد اجتمع من الأحاديث في وقت تحريمها أقوال ستة أو سبعة نذكرها على الترتيب الزماني:

الأول: عمرة القضاء، قال عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عمرو عن الحسن، قال: ما حلَّت المتعة قط إلا ثلاثاً في عمرة القضاء، ما حلَّت قبلها ولا بعدها. وشاهده ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث سبرة بن معبد، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضينا عمرتنا قال لنا: ألا تستمتعوا من هذه النساء. فذكر الحديث.

الثاني: خيبر، متفق عليه عن علي بلفظ: (نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر)،


1- صحيح مسلم 2/ 1023. صحيح ابن حبان 9/ 458. وأوطاس هو موضع بين مكة والطائف. مسند أحمد 4/ 55. سنن الدارقطني 3/ 258. قال البيهقي في سننه الكبرى 7/ 204: وعام أوطاس وعام الفتح واحد، فأوطاس وإن كانت بعد الفتح، فكانت في عام الفتح بعده بيسير، فما نهى عنه لا فرق بين أن ينسب إلى عام أحدهما، أو إلى الآخر.
2- صحيح مسلم 2/ 1025.

ص: 241

واستشكله السهيلي وغيره، ولا إشكال فيه ...

الثالث: عام الفتح، رواه مسلم من حديث سبرة بن معبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في يوم الفتح عن متعة النساء. وفي لفظ له: أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم يخرج حتى نهانا عنها. وفي لفظ له: إن رسول الله قال: يا أيها الناس إني كنت أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة.

الرابع: يوم حنين، رواه النسائي من حديث علي ... وفي رواية لسلمة بن الأكوع أن ذلك كان في عام أوطاس. قال السهيلي: هي موافقة لرواية من روى عام الفتح وأنهما كانا في عام واحد.

الخامس: غزوة تبوك، رواه الحازمي من طريق عباد بن كثير عن ابن عقيل عن جابر، قال: خرجنا مع رسول الله إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند الثنية مما يلي الشام، جاءتنا نسوة تمتعنا بهن يطفن برجالنا، فسألَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن وأخبرناه، فغضب وقام فينا خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ، ولم نعد ولانعود فيها أبداً، فبها سُمِّيت يومئذ (ثنية الوداع)، وهذا إسناد ضعيف، لكن عند ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة ما يشهد له، وأخرجه البيهقي من الطريق المذكورة بلفظ: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فنزلنا ثنية الوداع. فذكره ...

السادس: حجة الوداع، رواه أبو داود من طريق الربيع بن سبرة، قال: أشهدُ على أبي أنه حدَّث أن رسول الله نهى عنها في حجة الوداع (1) 392.

هذه هي أحاديثهم التي رووها في تحريم نكاح المتعة، فانظر أيها القارئ العزيز إلى أي مدىً بلغ اضطرابها وتعارضها واختلافها.


1- تلخيص الحبير 3/ 155- 156.

ص: 242

قال الكاتب: وأما أن قول أبي عبد الله رضي الله عنه في جوابه للسائل كان تقية، أقول: إن السائل كونه من شيعة أبي عبد الله فليس هناك ما يبرر القول بالتقية خصوصاً وأنه يوافق الخبر المنقول عن الأمير رضي الله عنه في تحريم المتعة يوم خيبر.

وأقول: لقد أوضحنا الجواب عن هذه الرواية الضعيفة السند، وعن حملها على التقية، فراجع ما قلناه فيما سبق، ولا حاجة للإعادة والتكرار.

قال الكاتب: إن المتعة التي أباحها فقهاؤنا تعطي الحق للرجل في أن يتمتع بعدد لا حصر له من النسوة، ولو بألف امرأة وفي وقت واحد.

وأقول: إن المتعة التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبعه عليها أئمة أهل البيت عليهم السلام، وأخذها شيعتهم منهم، لم تُحَد بعدد من النسوة، وحالها كحال ملك اليمين، وقد مرَّ علينا آنفاً بيان أن رواية (التمتع بألف امرأة) ضعيفة السند، فلا تغفل عماقلناه.

ثم إن الدليل الذي حصر الزوجات بأربع إنما هو مخصوص بالنكاح الدائم، وأما ما عدا ذلك من صنوف النكاح كالتسرِّي بالإماء ونكاح المتعة فالأدلة فيهما مطلقة، غير مخصَّصة بأربع نسوة، ولهذا كانوا لا يرون تحديد التسري بأربع إماء.

قال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: وقوله تعالى أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي، ولهذا قال: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ (1) 393.

وأخرج عبد الرزاق في مصنَّفه عن ابن جريج قال: سألت عطاء: أيستمتع الرجل بأكثر من أربع جميعاً؟ وهل الاستمتاع إحصان؟ وهل يحل استمتاع المرأة


1- تفسير القرآن العظيم 1/ 474.

ص: 243

لزوجها إن كان بتَّها؟ فقال: ما سمعت فيهن بشي ء، وما راجعت فيهن أصحابي.

قلت: ولو كانت أحكام النكاح الدائم جارية على نكاح المتعة لكان الجواب معلوم عنده، ولا يحتاج لمراجعة أصحابه.

ولا بأس أن ألفت نظر القارئ العزيز إلى أن ابن جريج كان يرى حلِّية المتعة، وقيل: إنه تمتع بستين أو بتسعين امرأة (1) 394.

قال الكاتب: وكم من مُتَمَتِّع جمع بين المرأة وأمها، وبين المرأة وأُختها، وبين المرأة وعمّتها أو خالتها وهو لا يدْري.

جاءتني امرأة تستفسر مني عن حادثة حصلت معها، إذ أخبرتني أن أحد السادة وهو السيد حسين الصدر كان قد تمتع بها قبل أكثر من عشرين سنة، فحملت منه، فلما أشبع رغبته منها فارقها، وبعد مدة رُزِقَتْ ببنت، وأقسمت أنها حملت منه هو إذ لم يتمتع بها وقتذاك أحد غيره.

وبعد أن كبرت البنت وصارت شابة جميلة متأهلة للزواج، اكتشفت الأم أن ابنتها حبلى، فلما سألتها عن سبب حملها، أخبرتها البنت أن السيد المذكور استمتع بها فحملت منه، فدهشت الأم وفقدت صوابها، إذ أخبرت ابنتها أن هذا السيد هو أبوها، وأخبرتها القصة، فكيف يتمتع بالأم، واليوم يأتي ليتمتع بابنتها التي هي ابنته هو؟

ثم جاءتني مستفسرة عن موقف السيد المذكور منها ومن ابنتها التي ولدتهامنه.

وأقول: هذه قصة من القصص الخرافية التي لا يُعوَّل عليها ولا يُعتنى بها،


1- قال الذهبي في تذكرة الحفاظ 1/ 170: وقال جرير: كان ابن جريج يرى المتعة، تزوج ستين امرأة. وقال: قال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: استمتع ابن جريج بتسعين امرأة، حتى إنه كان يحتقن في الليلة بأوقية شيرج طلباً للجماع.

ص: 244

ودليلها هو نقل كاتبها الذي لا يوثق بنقله.

مع أن هذه القصة تحوطها كثير من علامات الاستفهام، وإلا فلماذا أخبرت تلك المرأة مدَّعي الاجتهاد والفقاهة بالذات؟ هل كانت ترجو منه حلًا لهذه المعضلة؟ أو أنها كانت تريد منه أن يسجِّل قصّتها الخرافية في كتابه (لله ثم للتاريخ)؟ أو أنها كانت تريد فقط أن تشنِّع بالسيد المذكور؟

ولماذا لم يحتمل الكاتب أن تلك المرأة كانت مستأجرة لتشويه سمعة السيِّد حسين الصدر، لا أكثر ولا أقل؟

ولماذا صدَّق الكاتب كلامها وهو لا يعرفها، فجعل كلامها دليلًا، مع أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتثبت في نقل الأخبار والتبيّن من صحّتها لئلا نصيب قوماً بجهالة فنصبح على ما فعلنا نادمين؟ وأي جهالة أعظم من نسبة مثل هذه القبائح لرجل بري ء من كل ذلك؟

ثم إن السيد حسين الصدر رجل عقيم لا يُنجب كما هو معروف عنه، ويعرف ذلك عنه كثير من أهل الكاظمية في العراق، كما حدَّثني بذلك بعض الثقات الصادقين.

ثم هل من المتوقّع أن تنجب تلك المرأة فتاة من السيد حسين الصدر ولا تخبر ابنتها بذلك، وتتكتم في أمر ابنتها لهذه الدرجة، مع أن تلك الفتاة يشرِّفها أن يكون السيِّد والدها؟

ثم لو سلّمنا بوقوع مثل هذه القضية الخرافية فليس على المرء غضاضة أن ينكح امرأة من محارمه وهو لا يعلم، فإن ذلك ليس محرَّماً عليه ولا على الفتاة التي تمتع بها إذا وقع ذلك منهما من غير علمهما.

وإذا كانت هذه الحادثة لا يستحيل وقوعها، فكذلك لا يستحيل وقوع مثلها في النكاح الدائم.

ص: 245

ولا ينقضي العجب من ادعاء الكاتب كثرة وقوع أمثال هذه الحوادث من غير دليل عنده إلا هذه القصة الخرافية التي ساقها، ودليل كذبها معها، مع أنا نجزم بأن أمثال هذه الوقائع إما أنها لا تقع عادة، وإما أنها نادرة الوقوع ندرة عظيمة كما هو الحال في النكاح الدائم.

قال الكاتب: إن الحوادث من هذا النوع كثيرة جداً، فقد تمتع أحدهم بفتاة تبين له فيما بعد أنها أخته من المتعة، ومنهم من تمتع بامرأة أبيه. وفي إيران الحوادث من هذا القبيل لا يستطيع أحد حصرها.

وأقول: هذه مجرد دعاوى فارغة وأكاذيب واضحة، ودليل كذبها أن الكاتب لم يسندها لمصدر صحيح، وكان على الكاتب أن يستدل على صحَّة كلامه بإسناده لمصدر واحد على الأقل، أو أن يوثَّق قضية واحدة من القضايا التي يزعم أنها كثيرة، أما نثر الدعاوى هكذا مجردة عن الدليل فلا قيمة لها في مقام البحث والإثبات.

قال الكاتب: وقد رأينا ذلك بقوله تعالى: ولْيَسْتَعْفِفِ الذينَ لا يَجِدونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُم اللهُ من فضلِه (النور 23) كذا فمن لم يتمكن من الزواج الشرعي بسبب قلة ذات اليد فعليه بالاستعفاف ريثما يرزقه الله من فضله كي يستطيع الزواج. فلو كانت المتعة حلالًا لما أمره بالاستعفاف والانتظار ريثما تتيسر أمور الزواج، بل لأَرْشَدَهُ إلى المتعة كي يقضي وَطَرَهُ بدلًا من المكوث والتحرق بنار الشهوة.

وأقول: إن نكاح المتعة نكاح، فقوله تعالى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا شامل لمن لم يجد النكاح الدائم ونكاح المتعة، فكما أن النكاح الدائم يحتاج إلى بذل مال، فكذلك نكاح المتعة.

ص: 246

ومنه يتضح أن من تمكن من نكاح المتعة فهو ممن يجدون نكاحاً، فلا وجه لأمره بالصبر والاستعفاف.

ولو سلّمنا جدلًا بأن المراد بالنكاح في الآية هو النكاح الدائم فقط، فحينئذ يكون المراد بالاستعفاف في الآية هو الاستعفاف بالحلال، لا بالصبر عن النكاح، فيكون المعنى: وليستعفف الذين لا يتمكنون من النكاح الدائم لما فيه من المهر والنفقة بنكاح المتعة الذي يكون المهر فيه أقل، ولا تجب فيه نفقة.

وقد ورد هذا المعنى في بعض الأخبار، ففي خبر حريز عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قرأ:

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا- بالمتعة- حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ (1) 395.

وعن الفتح بن يزيد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن المتعة، فقال: هي حلال مباح مطلق لمن لم يغنه الله بالتزويج فليستعفف بالمتعة ...

(2) 396 وعن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزَّ وجل وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ، قال: يتزوَّجوا حتى يغنيهم الله من فضله (3) 397.

قلت: فالمعنى هو أن من لم تكن عنده امرأة ينحكها فليستعفف، أي فليطلب العفة بالتزويج، ليغنيه الله من فضله، فإن من تزوَّج وسَّع الله عليه من فضله كما دلَّت على ذلك الأخبار الكثيرة.

ويشبه هذا المعنى الذي قلناه من أن المراد بالاستعفاف هو الاستعفاف بالحلال، ما جاء في تفسير ابن كثير، حيث قال: قال عكرمة في قوله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن


1- مستدرك الوسائل 14/ 448.
2- الكافي 5/ 452.
3- المصدر السابق 5/ 331.

ص: 247

كانت له امرأة فليذهب إليها وليقضِ حاجته منها (1) 398.

وما أخرجه السيوطي في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم، عن أبي روق: وَلْيَسْتَعْفِف يقول: عما حرَّم الله عليهم حتى يرزقهم الله.

وعن ابن عباس في قوله وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا الآية، قال: ليتزوج من لا يجد، فإن ذلك سيغنيه (2) 399.

ومن كل ذلك يتضح أن الأمر بالاستعفاف لا ينافي حلّية نكاح المتعة كما زعمه الكاتب.

قال الكاتب: وقال الله تعالى: وَمَن لم يستطع منكم طَوْلًا أن ينكحَ المحصناتِ المؤمناتِ فَمِن مَّا ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله تعالى: ذلك من خشي العنتَ منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (النساء 25).

فأرشد الذين لا يستطيعون الزواج لقلة ذات اليد أن يتزوجوا ما ملكت أيمانهم، ومن عجز حتى عن ملك اليمين، أمره بالصبر، ولو كانت المتعة حلالًا لأرشده إليها.

وأقول: هذه الآية إنما جاءت في كتاب الله بعد آية المتعة، وهي الآية 24 من سورة النساء.

قال تعالى وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَ


1- تفسير القرآن العظيم 3/ 287. ونقلها السيوطي في الدر المنثور 6/ 189.
2- الدر المنثور 6/ 189.

ص: 248

اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) 400.

فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنه يجب المهر بنكاح المتعة، ذكر أن من لم يستطع لضيق ذات يده أن ينكح امرأة دواماً أو متعةً ويبذل لها مهرها ونفقتها، فلينكح أَمَةً من إماء المؤمنين، وذلك لأن مهر الأمة دون مهر الحرّة، ومؤونتها دون مؤونة الحرّةعادة.

ومنه يتضح أن الآية فيها دلالة على أن نكاح الإماء إنما هو لمن لم يتمكّن من نكاح الحرائر متعةً أو دواماً، ولم يكن عنده مهر يبذله لهن، فإن لم يتمكن من نكاح الإماء فليصبر حتى يرزقه الله ما يتمكن به من نكاح غيرهن.

قال الكاتب: ولا بد لنا أن ننقل نصوصاً أخرى عن الأئمة عليهم السلام في إثبات تحريم المتعة:

عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله رضي الله عنه عن المتعة فقال: (لا تُدَنِّسْ نفسَك بها) بحار الأنوار 100/ 318.

وهذا صريح في قول أبي عبد الله رضي الله عنه أَن المتعةَ تُدَنِّسُ النفْسَ، ولو كانت حلالًا لما صارت في هذا الحكم.

وأقول: إنما تدنّس النفس إذا كانت مع الفواجر والفواحش، وأما إذا كانت مع


1- سورة النساء، الآيتان 24، 25.

ص: 249

المصونات والعفائف فلا تدنيس فيها.

فلا أدري كيف يدنِّس الرجل نفسه إذا تزوَّج امرأة مؤمنة عفيفة، يعف بها نفسه، ويحصن بها فرجه؟

ولعل المتعة كان لا يفعلها في المدينة في زمن الإمام الصادق عليه السلام إلا الفواجر، فلهذا صارت مُدَنِّسة لمن يفعلها آنذاك، لأن الفواجر مدنَّسات بفجورهن، ومدنِّسات لمن يتزوَّج بهن.

فقد روى أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري في نوادره عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما تفعلها عندنا إلا الفواجر (1) 401.

أو لعل تدنيسها للرجل بسبب ما يلحقه من الشنعة أو اللوم أو المؤاخذة بسببها.

ولا ينقضي العجب ممن يطعن في المتعة بهذا الطعن أو بأنها زنا أو ما شابههما من الطعون التي تستلزم الطعن في أصل تشريعها المجمع عليه، بل في مشرِّعها سبحانه وتعالى.

لأن لازم وصف نكاح المتعة بذلك هو أن الله سبحانه يجوز عليه أن يبيح للناس الفواحش والرذائل الخلقية التي تدنّس النفوس والأعراض.

كما أن لازم ذلك هو اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رخَّص للمسلمين في فترات مختلفة بعض المساوئ القبيحة التي يستنكف منها كل مؤمن غيور، واعتقاد أن الصحابة كانوا يعملون هذه الفاحشة في غزواتهم وأسفارهم.

قال الكاتب: ولم يكتف الصادق رضي الله عنه بذلك بل صرح بتحريمها: عن عمار


1- النوادر لأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، ص 87.

ص: 250

قال: قال أبو عبد الله رضي الله عنه لي ولسليمان بن خالد: (قد حُرِّمَتْ عليكما المتعة) فروع الكافي 2/ 48، وسائل الشيعة 14/ 450.

وأقول: لقد بتر الكاتب ذيل الرواية وحرَّف بعض ألفاظها، فجاءت مشعرة بتحريم المتعة، ولكنها ليست كذلك.

وإلى القارئ الكريم نص الرواية ليعلم أن الكاتب ليس بمؤتَمن في نقله، وليس صادقاً مع قارئه.

فقد روى الكليني عليه الرحمة في الكافي عن عدة من أصحابه، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، ومحمد بن الحسين جميعاً، عن الحكم بن مسكين، عن عمار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لي ولسليمان بن خالد: قد حرَّمتُ عليكما المتعة من قِبَلي مادمتما بالمدينة، لأنكما تكثران الدخول عليَّ، فأخاف أن تؤخذا، فيقال: هؤلاء أصحاب جعفر (1) 402.

والرواية واضحة الدلالة، فإن الإمام عليه السلام إنما حرَّمها عليهما مِنْ قِبَله- أي منعهما منها من جهته- لأنهما من شيعته عليه السلام، وكانا يتردَّدان عليه كثيراً، فخشي الإمام عليه السلام أن يؤخذا فيُنكَّل بهما، ويُشَنَّع عليه بأن أصحابه عليه السلام يعملون المحرَّمات بزعمهم، فنهاهما عنها ما داما في المدينة.

ومما قلناه يتضح أن الرواية- على العكس- تدل على حلّية المتعة لا حرمتها، وذلك لأن أصحاب الإمام عليه السلام كانوا يمارسونها بعلم من الإمام عليه السلام، وإنما نهى هذين الرجلين ما داما في المدينة تجنباً لبعض المحاذير فقط.

هذا مضافاً إلى أن الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها سهل بن زياد، وقد مرَّ بيان حاله. ومنهم الحكم بن مسكين، وهو مجهول الحال، لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.


1- الكافي 5/ 467.

ص: 251

فأين التحريم الصريح الذي زعمه مدَّعي الفقاهة والاجتهاد؟!

قال الكاتب: وكان رضي الله يُوَبِّخُ أصحابه ويُحَذِّرُهُمْ من المتعة، فقال: أما يستحي أحدُكم أن يُرى في موضع فيحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه؟ الفروع 2/ 44، وسائل الشيعة 14/ 450.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها صالح بن أبي حماد.

قال النجاشي في رجاله: صالح بن أبي حماد أبو الخير الرازي، واسم أبي الخير (زاذويه)، لقي أبا الحسن العسكري عليه السلام، وكان أمره ملبساً، يعرف وينكر (1) 403.

وقال ابن الغضائري: صالح بن أبي حماد الرازي أبو الخير، ضعيف (2) 404.

ومن جملة الرواة ابن سنان، وهو محمد بن سنان، بقرينة رواية صالح بن أبي حماد عنه في غير موضع (3) 405، وليست له رواية عن عبد الله بن سنان.

ومحمد بن سنان ضعيف على المشهور المنصور، فقد قال فيه النجاشي: وهو رجل ضعيف جداً لا يُعوَّل عليه، ولا يُلتفت إلى ما تفرد به، وقد ذكر أبو عمرو في رجاله، قال: أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيشابوري، قال: قال أبو محمد الفضل ابن شاذان: لا أحل لكم أن ترووا أحاديث محمدبن سنان (4) 406.

وقال الشيخ الطوسي في الفهرست: محمد بن سنان، له كتب، وقد طُعن عليه وضُعِّف (5) 407.

(6) 408


1- رجال النجاشي 1/ 441.
2- رجال ابن الغضائري، ص 70.
3- راجع الكافي 5/ 153، 305. الاستبصار 3/ 70.
4- رجال النجاشي 2/ 208.
5- الفهرست، ص 219.
6- الشيخ علي آل محسن، لله و للحقيقة (رد علي كتاب «لله ثم للتاريخ»)، 1جلد، نشر مشعر - تهران، چاپ: 1، 1424 ه. ق..

ص: 252

وقال ابن الغضائري: ضعيف غالٍ، يضع الحديث، لا يُلتَفَت إليه (1) 409.

وعليه، فالحديث ضعيف السند، لا يُحتج به في شي ء.

ومع الإغماض عن سند الحديث فليس المراد به تحريم المتعة، وإنما المراد به هو الحث على الكف عنها إذا كانت بمرأى ومسمع ممن يرى تحريمها ويعيبها، فيكون فعلها سبباً للعيب على فاعلها وعلى إخوانه الشيعة المعتقدين لحلّيتها.

ولهذا قال في الحاشية نقلًا عن كتاب مرآة العقول: أي يراه الناس في موضع يعيب من يجدونه فيه، لكراهتهم للمتعة، فيصير ذلك سبباً للضرر عليه وعلى إخوانه وأصحابه الموافقين له في المذهب.

قال الكاتب: ولما سأل علي بن يقطين أبا الحسن رضي الله عنه عن المتعة أجابه: (ما أنت وذاك؟ قد أغناك الله عنها) الفروع 2/ 43، الوسائل 14/ 449.

نعم إن الله تعالى أغنى الناس عن المتعة بالزواج الشرعي الدائم.

وأقول: لقد بَتَر الكاتب هذه الرواية كعادته، ليوهم القارئ بأن الرواية تدل على مطلوبه.

ونص الرواية هو: عن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن المتعة، فقال: وما أنت وذاك فقد أغناك الله عنها. قلت: إنما أردتُ أن أَعْلَمها. فقال: هي في كتاب علي عليه السلام. فقلت: نزيدها وتزداد؟ فقال: وهل يطيبه إلا ذاك.

وفي هامش المطبوعة بيان معنى الحديث منقولًا عن مرآة العقول، قال: (وهل يطيبه) الضمير راجع إلى عقد المتعة، ومراد السائل أنه يجوز لنا بعد انقضاء المدة أن نزيدها في المهر وتزداد المرأة في المدة؟ أي تزويجها بمهر آخر مدة أخرى من غير عدة


1- رجال ابن الغضائري، ص 92.

ص: 253

وتربُّص؟ فقال عليه السلام: العمدة في طيب المتعة وحسنها هو ذلك، فإنه ليس مثل الدائم بحيث يكون لازماً له ... بل يتمتعها مدة، فإن وافقه يزيدها وإلا يتركها، وعلى هذا يحتمل أن يكون ضمير (يطيبه) راجعاً إلى الرجل، أي هذا سبب لطيب نفس الرجل وسروره بهذا العقد، ويحتمل أن يكون المعنى: لا يحل ولا يطيّب ذلك العقد إلا ذكْرُ هذا الشرط فيه كما ورد في خبر الأحول في شروطها: (فإن بدا لي زدتك وزدتني)، ويكون محمولًا على استحباب ذكره في ذلك العقد. وفي بعض النسخ (نريدها ونزداد)، أي نريد المتعة ونحبّها ونزداد منها، فقال عليه السلام: طيبه والتذاذه في إكثاره (1) 410.

قلت: ومنه يتضح أن الإمام عليه السلام نهى علي بن يقطين عن نكاح المتعة، لأن الله سبحانه وتعالى قد أغناه عنها، ولعلَّ السبب في نهيه عنها هو أن علي بن يقطين كان وزيراً لهارون الرشيد، فخشي الإمام عليه السلام أن يكون ذلك سبباً لانكشاف أمره ومعرفة هارون أنه واحد من الشيعة، فيصيبه البلاء بسبب ذلك. فلما أخبر الإمام عليه السلام بأنه إنما يريد أن يعرف حكمها فقط، أخبره بأنها في كتاب علي عليه السلام، وأنها مباحة، فسأل ابن يقطين: هل نزيدها فتزداد؟ فأجابه الإمام عليه السلام: وهل يطيبه إلا ذاك؟ وقد تقدم آنفاً بيان معنى هذا السؤال وجوابه.

والنتيجة أن الحديث يدل بوضوح على حلّية نكاح المتعة كما أوضحناه، ولا يدل على حرمتها كما أراد الكاتب أن يوهم قُرَّاءه بذلك.

قال الكاتب: ولهذا لم يُنْقَلْ أَن أحداً تمتع بامرأة من أهل البيت عليهم السلام، فلو كان حلالًا لفعلن، ويؤيد ذلك أن عبد الله بن عمير قال لأبي جعفر رضي الله عنه: (يسرك أنَّ نساءَك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن؟- أي يتمتعن- فأعرض عنه أبو جعفر رضي الله عنه حين ذكر نساءه وبنات عمه) الفروع 2/ 42، التهذيب 2/ 186.


1- عن هامش الكافي 5/ 452.

ص: 254

وأقول: إن حلّية المتعة وغيرها من المحلَّلات إنما تُعرف من النصوص الصحيحة، وليس شرطاً أن يمارسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تصدر من امرأة من أهل البيت عليهم السلام، فإن اشتراط ذلك لم يقل به أحد، وقد مرَّ بيان ذلك فيما سبق.

وأكثر أحكام الشريعة لا يوجد دليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلها، ولهذا أجمع أهل السُّنة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أباح نكاح المتعة ثم حرَّمها، ولم يرووا أنه تمتَّع في وقت حلّيتها بامرأة قط، ورووا ذلك عن بعض الصحابة.

وأجمعوا على أن الزانية يحل نكاحها، بشرط توبتها عند أحمد بن حنبل (1) 411، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتزوج من زانية قط.

وأجمعوا على أن من طلَّق زوجته قبل الدخول رجع عليها بنصف المهر، ولم يرووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلق ورجع بنصف المهر.

وأجمعوا على أن نكاح التفويض جائز، وهو أن يعقد النكاح دون صداق (2) 412، مع أنهم لم يرووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله.

بل إنهم اتفقوا على حلّية أمور نصّوا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعلها، بل كرهها.

منها: حكمهم بحلّية أكل لحم الضب مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأكله، فقد أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عمر قال: سأل رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر عن أكل الضب، فقال: لا آكله ولا أحرِّمه (3) 413.

وعن توبة العنبري سمع الشعبي، سمع ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه ناس من أصحابه فيهم سعد، وأتُوا بلحم ضبٍّ، فنادت امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لحم ضب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كُلُوا، فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي (4) 414.


1- راجع كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ص 396.
2- راجع بداية المجتهد 3/ 61.
3- صحيح مسلم 3/ 1542.
4- نفس المصدر.

ص: 255

وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب، فأبى أن يأكل منه، وقال: لا أدري لعلَّه من القرون التي مُسِختْ (1) 415.

والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً لا حاجة لاستقصائها، وهي دالة بأوضح دلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلَّل لهم الضب مع أنه لم يأكله. ولهذا أفتى الأئمة الأربعة بحلّية أكل لحم الضب، على كراهة عند مالك فقط (2) 416.

ومنها: أنهم أجمعوا على حلّية أكل الثوم، ومع ذلك رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يأكل منه، لأنه كان ينزل عليه الوحي.

ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي أيوب الأنصاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتِيَ بطعام أكل منه، وبعث بفضلِهِ إلي، وإنه بعث إليَّ يوماً بفضلةٍ لم يأكل منها، لأن فيها ثوماً، فسألته: أحرام هو؟ قال: لا، ولكني أكرهه من أجل ريحه (3) 417.

وفي حديث آخر قال: أحرام هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ولكني أكرهه. قال: فإني أكره ما تكره أو ما كرهت. قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤتى (4) 418.

ومن كل ذلك يتضح أنه لا يلزم للحكم بحلّية شي ء أن يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد من أهل بيته.

هذا مع أنا ذكرنا فيما تقدَّم بعض الأحاديث التي جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام قد تزوجا متعة، فراجع.

وأما إعراض الإمام الباقر عليه السلام عن عبد الله بن عمير فلعله بسبب جهله، عملًا بقوله تعالى وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ، أو لعله أعرض عنه لما تبين له عناده ومجادلته


1- نفس المصدر 3/ 1545.
2- راجع كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ص 251.
3- صحيح مسلم 3/ 1623.
4- نفس المصدر. و (يؤتى) أي تأتيه الملائكة وينزل عليه الوحي.

ص: 256

بالباطل، والله العالم.

قال الكاتب: وبهذا يتأكد لكل مسلم عاقل أن المتعة حرام، لمخالفتها لنصوص القرآن الكريم وللسنة ولأقوال الأئمة عليهم السلام.

والناظر للآيات القرآنية الكريمة والنصوص المتقدمة في تحريم المتعة- إن كان طالباً للحق مُحبَّا له- لا يملك إلا أن يحكم ببطلان تلك الروايات التي تحث على المتعة لمعَارضتها لصريح القرآن وصريح السنة المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام، ولما يترتب عليها من مفاسد لا حصر لها بَيَّنَا شيئاً منها فيما مضى.

وأقول: لقد تقدَّم أن القرآن الكريم قد نصَّ على حلّية نكاح المتعة بقوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.

وقد اعترف جمع من علماء أهل السنة بأن المراد بالاستمتاع في الآية نكاح المتعة.

قال القرطبي: وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام. وقرأ ابن عباس وأُبَيّ وابن جبير: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن)، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم (1) 419.

وقال الطبري: وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما تمتّعتم به منهن بأجرٍ تمتُّعَ اللذة، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بوليٍّ وشهود ومهر. ذِكْر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن مفضل قال: ثنا أسباط عن السدي: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما


1- الجامع لأحكام القرآن 5/ 129.

ص: 257

تراضيتم به من بعد الفريضة)، فهذه المتعة، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمَّى، ويُشهد شاهدين، وينكح بإذن وليِّها، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وهي منه بريَّة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه.

حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ قال: يعني نكاح المتعة.

حدثنا أبو كريب قال: ثنا يحيى بن عيسى قال: ثنا نصير بن أبي الأشعث قال: ثني حبيب بن أبي ثابت عن أبيه قال: أعطاني ابن عباس مصحفاً، فقال: هذا على قراءة أُبَيّ. قال أبو بكر: قال يحيى: فرأيت المصحف عند نصير، فيه: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى).

حدثنا حميد بن مسعدة قال: ثنا بشر بن المفضل قال: ثنا داود عن أبي نضرة قال: سألتُ ابن عباس عن متعة النساء، قال: أما تقرأ سورة النساء؟ قال: قلت: بلى. قال: فما تقرأ فيها (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمَّى)؟ قلت: لا، لو قرأتُها هكذا ما سألتك. قال: فإنها كذا ...

حدثنا ابن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن أبي سلمة عن أبي نضرة قال: قرأتُ هذه الآية على ابن عباس (فما استمتعتم به منهن)، قال ابن عباس: (إلى أجل مسمَّى). قال: قلت: ما أقرؤها كذلك. قال: والله لأنزلها الله كذلك (ثلاث مرات) ...

حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الأعلى قال: ثنا سعيد عن قتادة قال: في قراءة أُبَي ابن كعب (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى).

حدثنا محمد بن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن الحكم قال: سألته عن هذه الآية (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) إلى هذا الموضع (فما استمتعتم به منهن) أمنسوخة هي؟ قال: لا. قال الحكم: قال علي رضي الله عنه: لولا

ص: 258

أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي.

حدثني المثنى قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا عيسى بن عمر القارئ الأسدي عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقرأ (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن) (1) 420.

قلت: يتضح من هذا كله أن المراد بهذه الآية هي نكاح المتعة، وادِّعاء نسخها بالسنة غير تام، وذلك لتعارض الأخبار بين مُثبِتٍ ونافٍ لهذا النكاح، فلا يصح نسخ الآية المحكمة بأخبار متعارضة.

وأما ما قاله الكاتب من ثبوت تحريم المتعة بالسنة فقد ذكرنا فيما تقدَّم الأحاديث الصحيحة التي رواها أهل السنة الدالة على حلّيتها، فراجع.

وأما ما نقله الكاتب عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، واستدل به على حرمة نكاح المتعة، فإنه نقل رواية واحدة ضعيفة السند معارضة بروايات متواترة صحيحة، فكيف يصح طرح المتواتر من أجل رواية ضعيفة؟!

وأما الروايات الأخرى التي بترها الكاتب ليوهم القارئ أنها تدل على تحريم المتعة، فقد ذكرناها كاملة وأوضحنا المراد منها، وبيَّنَّا أنها دالَّة على حلّية نكاح المتعة لا على حرمته.

وبهذا يتضح عدم تمامية كل ما تمسَّك به الكاتب في الاستدلال على حرمة المتعة مع خياناته الكثيرة بتقطيع الأحاديث بما يخل بمعناها، ويغيِّر المراد منها.

قال الكاتب: إن من المعلوم أن دين الإسلام جاء ليحث على الفضائل وينهي عن الرذائل، وجاء ليحقق للعباد المصالح التي تستقيم بها حياتهم، ولا شك أن المتعة


1- تفسير الطبري 5/ 9- 10.

ص: 259

مما لا تستقيم بها الحياة، إن حققت للفرد مصلحة واحدة- افتراضاً- فإنها تسبب له مفاسد جمة أجملناها في النقاط الماضية.

وأقول: لا ريب في أن نكاح المتعة ليس من الرذائل الخُلُقية، وذلك لأنه نكاح جامع لشرائط النكاح الصحيح، بمهر وعقد وعِدَّة وتراضٍ من الرجل والمرأة، مع لزوم كونه بإذن الولي إن كانت المرأة بكراً، واستحبابه إن كانت ثيباً، ومع لحوق الأنساب به، وإمكان النفقة والتوارث مع الشرط فيه.

فكل خصائص النكاح الدائم متوفرة في نكاح المتعة، اللهم إلا أن النكاح الدائم ينقضي بالطلاق، ونكاح المتعة ينتهي بانقضاء المدّة المسمّاة، وأن النكاح الدائم يجب فيه الإنفاق على الزوجة، ويترتب عليه التوارث بين الزوجين، بخلاف نكاح المتعة، وهذه الفروق لا تجعل نكاح المتعة رذيلة أو سفاحاً، وقد مرَّ الكلام في ذلك مفصلًا، فراجعه.

ولو كان نكاح المتعة رذيلة لما أباحها الإسلام مراراً كما أثبتوه في كتبهم وأقرُّوا به، ولما فعلها أجلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمثال جابر بن عبد الله الأنصاري وغيره.

ثم إن نكاح المتعة لو لم تكن فيه مصالح مهمة لما أباحه الإسلام مراراً بزعمهم، وحسبك أنه يحد من تفشّي الزنا وانتشاره في البلاد الإسلامية، كما مرَّ في كلام أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس من أنه لولا نهي عمر عن المتعة لما زنا إلا شقي.

وذلك لأنه لولا تحريم المتعة لما كانت هناك أسباب داعية للزنا والفساد، ولو كانت المتعة محلَّلة عندهم لما زنا منهم إلا أراذلهم، وهو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

وأما المفاسد التي زعمها الكاتب فقد أجبنا عليها مفصلًا وأوضحنا فسادها فيما تقدم، فراجعها.

ص: 260

قال الكاتب: إن انتشار العمل بالمتعة جَرَّ إلى إعارة الفَرْجِ، وإعارة الفرج معناها أن يعطي الرجل امرأته أو أَمَتَه إلى رجل آخر فيحل له أن يتمتع بها أو أن يصنع بها ما يريد، فإذا ما أراد رجل ما أن يسافر أودع امرأته عند جاره أو صديقه أو أي شخص كان يختاره، فيبيح له أن يصنع بها ما يشاء طيلة مدة سفره. والسبب معلوم حتى يطمئن الزوج على امرأته لئلا تزني في غيابه (!!)

وهناك طريقة ثانية لإعارة الفرج، إذا نزل أحد ضيفاً عند قوم وأرادوا إكرامه فإن صاحب الدار يعير امرأته للضيف طيلة مدة إقامته عندهم فيحل له منها كل شي ء.

وأقول: إنك لا تجد مسلماً يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر يعطي امرأته لرجل آخر يصنع بها ما يريد، بل لا تجد رجلًا عنده شي ء يسير من المروءة والشرف يصنع ذلك.

فما قاله الكاتب ما هو إلا أكاذيب ملفقة واضحة لا تخفى على كل من خالط الشيعة وعرفهم، فضلًا عمن يدَّعي أنه منهم، ودليل كذب مدّعي الاجتهاد والفقاهة أنه لم ينقل مزاعمه من فتاوى علماء الشيعة، واقتصر على نقل حكايات لا يُعرف صحّتها من فسادها، ويفسِّرها على حسب ما يريد.

ومن الواضح أنك لا تجد فرقة من فرق المسلمين على كثرتها تمارس أمثال هذه الممارسات الشنيعة التي أطبق المسلمون على حرمتها، واعتبارها زنا من غير شبهة.

وهلا ساءَلَ مدَّعي الاجتهاد نفسَه: هل أن ما قاله قد وقع لصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم المتعة؟ فهل أعاروا فروج نسائهم لغيرهم؟

ألا يفقه مدَّعي الاجتهاد أن نكاح المتعة لا يحل مع امرأة متزوجة، أو ذات عدّة؟! وأنه يشترط في صحَّته أن تكون المرأة خلِيَّة من البعل حالها حال الزواج الدائم؟

ص: 261

ولا أخفي على القارئ الكريم أني كلما اطَّلعت على أمثال هذه الاتهامات التي يُلصقها كُتّاب أهل السنة بالشيعة، حمدتُ الله كثيراً على نعمة الهداية، وعلمت أن هؤلاء القوم لو كانت عندهم مطاعن صحيحة يطعنون بها في مذهب الشيعة لما احتاجوا إلى أمثال هذه الافتراءات المكشوفة والأكاذيب المفضوحة.

لكنهم- هداهم الله- لما عجزوا عن مقارعة الشيعة بالحجج والأدلة لجأوا إلى مقارعتهم بالأكاذيب الملفَّقة والتُّهَم الباطلة.

قال الكاتب: وللأسف يَرْوون في ذلك روايات ينسبونها إلى الإمام الصادق رضي الله عنه وإلى أبيه أبي جعفر سلام الله عليه.

روى الطوسي عن محمد عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: (الرجل يُحِلُّ لأخيه فرج جاريته؟ قال: نعم لا بأس به له ما أحل له منها) الاستبصار 3/ 136.

وروى الكليني والطوسي عن محمد بن مضارب قال: قال لي أبو عبد الله رضي الله عنه: (يا محمد خذ هذه الجارية تخدمك وتُصيبُ منها، فإذا خرجت فارددها إلينا) الكافي، الفروع 2/ 200، الاستبصار 3/ 136.

وأقول: إن الكاتب استدل بهاتين الروايتين على أن الأئمة أباحوا فروج الزوجات، مع أن موضوع الروايتين هو تحليل الإماء والجواري فقط، لا الحرائر المحصنات من النساء.

ومنه يتضح أن الكاتب مضافاً إلى أنه لم يكن أميناً في نقله، فإنه يحاول الضحك على عقول القرَّاء، فيستدل على ما ألصقه بالشيعة زوراً وظلماً بروايات لا تدل عليه من قريب ولا بعيد.

وهذه الروايات الواردة في تحليل الجواري والإماء لا ترتبط الآن بواقعنا، ولا

ص: 262

يضر الشيعي الجهل بأحكامها، لعدم الابتلاء بها.

ولكن لا بأس بنقل ما ورد في كتب أهل السنة مما يرتبط بتحليل الجواري، ليتضح للقارئ الكريم أنها مسألة فقهية وقع الخلاف فيها بين الفقهاء، فنقول:

أخرج الترمذي والنسائي وأبو داود في السنن وغيرهم عن حبيب بن سالم قال: رُفِع إلى النعمان بن بشير رجل وقع على جارية امرأته، فقال: لأقضينَّ فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن كانت أحلَّتها له لأجلدنّه مائة، وإن لم تكن أحلَّتها له رجمته (1) 421.

وأخرج الحاكم في المستدرك وصحَّحه ووافقه الذهبي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل أتى جارية امرأته، قال: إن كانت حلَّلتها له جُلد مائة، وإن لم تكن أحلَّتها له رجمتُه (2) 422.

وأخرج أحمد في مسنده، والنسائي في سننه الصغرى والكبرى والدارمي في سننه، بأسانيدهم عن النعمان بن بشير: أن رجلًا يقال له عبد الرحمن بن حنين، ويُنبز قرقوراً، أنه وقع بجارية امرأته، فرُفع إلى النعمان بن بشير فقال: لأقضينَّ فيها بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كانت أحلَّتها لك جلدتُك مائة، وإن لم تكن أحلّتها لك رجمتك بالحجارة. فقالت: أحللتُها له. فجُلد مائة. فكتبتُ إلى حبيب بن سالم، فكتب إلي بهذا (3) 423.

وهذه الأخبار كلها تدل على أن المرأة إن حلَّلت جاريتها لزوجها فإنه يُجلد مائة جلدة، وإلا فيُرجم.


1- سنن الترمذي 4/ 54. سنن أبي داود 4/ 157، 158. سنن النسائي 6/ 433، 434. سنن ابن ماجة 3/ 853. مسند أحمد 4/ 275. مصنف ابن أبي شيبة 5/ 511. شرح معاني الآثار 3/ 145.
2- المستدرك 4/ 406.
3- مسند أحمد 4/ 276. السنن الكبرى للنسائي 3/ 329. سنن النسائي 6/ 434. سنن الدارمي 2/ 624.

ص: 263

قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: (لئن كانت أحلتها له) أي إن كانت امرأته جعلت جاريتها حلالًا، وأذنت له فيها، (لأجلدنّه مائة) وفي رواية أبي داود: (جلدتك مائة). قال ابن العربي: يعني أدَّبته تعزيراً، أو أبلغ به الحد تنكيلًا، لا أنه رأى حدّه بالجلد حداً له. قال السندي بعد ذكر كلام ابن العربي هذا: لأن المحصن حدّه الرجم لا الجلد، ولعل سبب ذلك أن المرأة إذا أحلَّت جاريتها لزوجها فهو إعارة الفروج، فلا يصح، لكن العارية تصير شبهة ضعيفة، فيُعزَّر صاحبها انتهى (1) 424.

ولأجل أن المحصن حدّه الرجم والحديث ظاهره يدل على خلاف ذلك، وقع أهل السنة في خلط وخبط، وأراحوا أنفسهم بالإعراض عنه وترك العمل به.

قال الترمذي: وقد اختلف أهل العلم في الرجل يقع على جارية امرأته، فروي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم علي وابن عمر أنّ عليه الرجم، وقال ابن مسعود: ليس عليه حدّ، ولكن يُعزَّر. وذهب أحمد وإسحاق إلى ما روى النعمان ابن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) 425.

قلت: والإشكال المهم في الحديث هو أنه إذا كان التحليل غير مشروع في الدين ولا أثر له، فكيف حصل به دفع الحدّ عمن وقع على جارية امرأته، ووجب الاكتفاء بتعزيره؟

هذا مع أن عروض الشبهة حينئذ يقتضي دفع التعزير عنه أيضاً، فلم وجب تعزيره؟!

وهذا دليل واضح على أن التحليل كان معروفاً عندهم، وأنه كان جائزاً في الدين، فيجوز للمرأة أن تحلِّل جاريتها لزوجها يصيب منها ما يشاء.

إلا أن هذه المرأة لما جاءت تشكو زوجها أنه وقع على جاريتها، فقد عُرِف أنها


1- تحفة الأحوذي 5/ 11.
2- سنن الترمذي 4/ 55.

ص: 264

لم تحلِّلها له، وإلا لو حلَّلتها له لما جاءت تشكوه، لكن النعمان بن بشير حكم بأنها إن كانت أحلَّتها له فيما مضى فلعلّه وطأها بشبهة التحليل السابق فيُعزَّر، لاستخفافه بالإقدام على وطء الجارية من غير يقين بالحلّية، وإن لم تكن حلَّلتها له فيما مضى، فهو زانٍ يجب رجمه، لكونه محصَناً.

ومما قلناه يتضح أن الحديث يدل على جواز تحليل الأمة، ولهذا ذهب إلى جواز التحليل جمع من أعلام أهل السنة.

فقد أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن عطاء أنه قال: كان يُفعل، يُحِلّ الرجل وليدته- أي جاريته- لغلامه وابنه وأخيه وأبيه والمرأة لزوجها، وما أحب أن يفعل ذلك، وما بلغني عن ثبت، وقد بلغني أن الرجل يُرسِل وليدته إلى ضيفه (1) 426.

قلت: لا ريب في أن عطاء لم يكن يتحدَّث عن أحوال الروافض، وإنما كان يتحدث عما يصنعه أهل السنة في ذلك الوقت، وقوله: (كان يُفعل) ظاهر في أن التحليل كان متعارفاً عندهم، يعملونه من غير نكير بينهم.

وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني إبراهيم بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن زادويه عن طاووس أنه قال: هي أحل من الطعام، فإن وَلَدَتْ فولدها للذي أُحلّتْ له، وهي لسيِّدها الأول.

وعن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع طاووساً يقول: قال ابن عباس: إذا أحلَّت امرأة الرجل أو ابنته أو أخته له جاريتها فليُصِبْها، وهي لها، قال ابن عباس: فليجعل به بين وركيها (2) 427.


1- المصنف لعبد الرزاق 7/ 169. المحلى لابن حزم 12/ 206.
2- قال ابن حزم في المحلى 12/ 208: أما قول ابن عباس فهو عنه وعن طاووس في غاية الصحة، ولكنا لا نقول به، إذ لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: مراده أن القول بالتحليل منقول بسند في غاية الصحة عن ابن عباس وطاووس، ولكن ابن حزم لا يقول به، لأن قولهما ليس حجة في نفسه، وهذا من مهازلهم فإنهم يأخذون بقول الصحابي متى شاؤوا، ويتركونه متى شاؤوا من غير ضابطة صحيحة.

ص: 265

وعن معمر قال: قيل لعمرو بن دينار: إن طاووساً لا يرى به بأساً. فقال: لا تُعار الفروج.

وعن ابن جريج قال: أخبرني ابن طاووس عن أبيه: كان لا يرى بأساً، قال: هو حلال، فإن وَلَدَتْ فولدها حر، والأمة لامرأته، لا يغرم زوجها شيئاً.

وعن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن قيس عن الوليد بن هشام أخبره أنه سأل عمر بن عبد العزيز فقال: امرأتي أحلَّت جاريتها لابنها. قال: فهي له (1) 428.

قلت: وهو ظاهر في صحة التحليل عنده، إلا أنه يرى أن التحليل مضافاً إلى أنه محلِّل لفرج الجارية فهو ناقل لملكيتها لمن حُلِّلتْ له.

وقال ابن حزم: وبه- أي وبجواز التحليل- يقول سفيان الثوري (2) 429.

قال الكاتب: قلت: لو اجتمعت البشرية بأسرها فَأَقْسَمَتْ أن الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام قالا هذا الكلام ما أنا بمصدق.

إن الإمامين سلام الله عليهما أجَلُّ وأَعظم من أن يقولا مثل هذا الكلام الباطل، أو يبيحا هذا العمل المقزز الذي يتنافى مع الخلق الإسلامي الرفيع بل هذه هي الديَاثَة، ولا شك أن الأئمة سلام الله عليهم ورثوا هذا العلم كابراً عن كابر فنسبة هذا القول وهذا العمل إليهما إنما هو نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فهو إذن تشريع إلهي.

وأقول: لقد أوضحنا آنفاً أن الإمامين الصادقين عليهما السلام لم يُبيحا تحليل فروج


1- المصنف لعبد الرزاق 7/ 169- 170. ونقل السيوطي جملة من هذه الأخبار عن عبد الرزاق في تفسيره الدر المنثور 6/ 89. وراجع كتاب المحلى لابن حزم 12/ 206.
2- المحلى 12/ 206.

ص: 266

المحصنات أو الحرائر، والحديثان اللذان ذكرهما الكاتب إنما يدلّان على تحليل الإماء والجواري فقط، ولا يدلّان على تحليل غيرهن للضيوف والرجال الأجانب كما زعمه الكاتب.

ونقلنا من أقوالهم أن تحليل الإماء قد ذهب إلى جوازه بعض الصحابة كابن عباس، وبعض أعلام أهل السنة كسفيان الثوري وعطاء وطاووس وغيرهم، ومن منعه لم يستند إلى حجة صحيحة في المنع. ورَدُّ الأحاديث لا يكون بالاستحسانات الموروثة والتقليد لعلماء أهل السنة الذين لم يَنقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً واحداً في حرمة تحليل الإماء، وإنما رووا أقوالًا متضاربة عن زيد وعمرو وبكر، وهي لا تنفع في المقام مع نقل أئمة العترة الطاهرة عليهم السلام.

قال الكاتب: في زيارتنا للهند ولقائنا بأئمة الشيعة هناك كالسيد النقوي وغيره مررنا بجماعة من الهندوس وَعَبَدة البقر والسيخ وغيرهم من أتباع الديانات الوثنية، وقرأنا كثيراً فما وجدنا ديناً من تلك الأديان الباطلة يبيح هذا العمل، وَيُحلهُ لأتباعه.

فكيف يمكن لدين الإسلام أن يبيح مثل هذا العمل الخسيس الذي يتنافى مع أَبسط مقومات الأخلاق؟

وأقول: سيأتي الكلام في زيارة المصنف إلى الهند ولقائه بالسيد النقوي، وسيتضح أنها سقطة عظيمة من سقطات الكاتب، وأنها القَشَّة التي قصمت ظهر البعير، فانتظر ولا تعجل.

وما قاله من أن الهندوس وعَبَدة البقر والسيخ وغيرهم من أتباع الديانات الوثنية لا يستحلون لأنفسهم أن يحلِّلوا فروج زوجاتهم وبناتهم للرجال الأجانب حجّة عليه، لأنه إذا ثبت أن الهندوس وغيرهم من عُبّاد الأوثان لا يحلِّلون فروج

ص: 267

نسائهم فكيف بطائفة عظيمة من طوائف المسلمين، يشهدون الشهادتين، ويقيمون الصلاة، ويصومون شهر رمضان، ويحجُّون إلى بيت الله الحرام، ويحرِّمون الزنا واللواط والاستمناء والقبائح، ويُظهرون كل شعائر الإسلام، هل يصدّق عاقل بأنهم يبيحون تحليل فروج نسائهم للرجال الأجانب؟!

لقد قلنا سابقاً: إن ما ألصقه بالشيعة يدل على خوائه وإفلاسه، وأنه لو كان عنده دليل صحيح يبطل به مذهب الشيعة وعقائدهم لما لجأ إلى هذه الأكاذيب الرخيصة المكشوفة.

قال الكاتب: زرنا الحوزة القائمية في إيران فوجدنا السادة هناك يبيحون إعارة الفُروج، وممن أفتى بإباحة ذلك السيد كذا لطف الله الصافي وغيره، ولذا فإن موضوع إعارة الفرج منتشر في عموم إيران، واستمر العمل به حتى بعد الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوى ومجي ء آية الله العُظْمَى الإمام الخميني الموسوي، وبعد رحيل الإمام الخميني أيضاً استمر العمل عليه وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى فشل أول دولة شيعية في العصر الحديث كان الشيعة في عموم بلاد العالم يتطلعون إليها، مما حدا بمعظم السادة إلى التبرؤ منها، بل ومهاجمتها أيضاً.

وأقول: الظاهر أنه يريد بالحوزة القائمية حوزة قم المقدسة، بقرينة ذكر الشيخ لطف الله الصافي في البين، فإنه في قم لا في غيرها.

ولا يوجد واحد من علماء الشيعة- لا الشيخ لطف الله الصافي ولا غيره- يفتي بجواز إعارة فروج الزوجات والأخوات والبنات، ولو رأى الكاتب فتوى لصغير أو كبير لطبل بها وزمَّر، ولذكرها بنصِّها في كتابه هذا الذي سوَّده بالأكاذيب الكثيرة.

ومن الكذب المفضوح زعمه أن إعارة الفروج منتشرة في عموم إيران، وأنها أحد الأسباب التي أدَّت إلى فشل حكومة إيران الحالية، ولا أدري ما هو ارتباط

ص: 268

مسألة إعارة الفروج بفشل أي دولة من الدول؟

هل يرى الكاتب أن إعارة الفروج قد أثّرت سلباً على السياسة الداخلية أو الخارجية لحكومة إيران؟!

إن مثل هذا التفكير الهزلي يدل على ضحالة فكر الكاتب وسذاجته، وهو مثَلٌ واضح لتمادي هذا الكاتب في قول الزور والافتراء بكل جهده وطاقته، حتى لو لم يصدِّق كلامه أحد.

قال الكاتب: ومما يُؤْسَفُ له أن السادة هنا أفْتَوْا بجواز إعارة الفرج، وهناك كثير من العوائل في جنوب العراق وفي بغداد في منطقة الثورة ممن يمارس هذا الفعل بناء على فتاوى كثير من السادة منهم: السيستاني والصدر والشيرازي والطباطبائي والبروجردي وغيرهم، وكثير منهم إذا حَلَّ ضيفاً عند أحد منهم استعار امرأته إذا رآها جميلة، وتبقى مُستعارةً عنده حتى مغادرته.

وأقول: هذا من الأكاذيب التي لا تخفى على كل منصف، فإنه لم يُفْتِ أحد من علماء الشيعة بجواز إعارة فروج النساء الحرائر كما مرَّ، فأين تلك الفتاوى المزعومة وهذه كتب الفتاوى منتشرة في الآفاق؟

ولو كان الكاتب صادقاً مع نفسه لنقل لقارئه فتوى واحدة تدل على صحة زعمه، وأنّى له بهذه الفتوى.

ومن الأدلة على أن هذا الكاتب بعيد عن أجواء الحوزة وأهل العلم أنه ذكر البروجردي المتوفى سنة 1380 ه-، مع أنه قدس سره لا يُعرَف له الآن مقلّدون، ولا تُتَداوَل رسالته العملية، ولا تُعرَف له فتاوى محفوظة عند الناس، وهو- كغيره من العلماء- لا يفتي بجواز إعارة فروج الحرائر.

ص: 269

والظاهر أنه لا يريد بالبروجردي المرجع الديني المشهور السيد حسين البروجردي قدس سره، بل يريد به شخصاً آخر غير معروف، لأنه وصفه في كلامه الآتي بأنه كان يدير عمليات نشر الفساد في مدينة الثورة (1) 430 ببغداد!!

وأما إعارة الزوجة للضيف فهو كذب فاضح لا يخفى على من تأمَّله.

قال الكاتب: إن الواجب أن نحذر العوام من هذا الفعل الشنيع، وأن لا يقبلوا فتاوى السادة بإباحة هذا العمل المقزز الذي كان للأصابع الخفية التي تعمل من وراء الكواليس الدور الكبير في دَسِّهِ في الدين ونَشْرِهِ بين الناس.

وأقول: بما أن كل كلام هذا الكاتب في هذه المسألة لا يعدو كونه أكاذيب مفتراة، فلا حاجة لتحذير العوام من الانتهاء عن عمل هم منه برآء، وفطرتهم وغيرتهم تمنعهم منه وتصدهم عنه.

وكما قلنا آنفاً: إنه لا فتاوى في إباحة هذا العمل ولا مُفتون، والحمد لله رب العالمين.

ولا بأس أن أنبِّه القارئ العزيز إلى أن أهل السنة دأبوا على اختلاق الافتراءات التي تمس العِرْض والشرف، إمعاناً في الكيد للشيعة والمحاربة لهم، وهو أسلوب قذر لا يلجأ إليه إلا المبطلون الضعفاء المضعضَعون، الذين استنفدوا كل أسلحتهم وحُجَجهم، وتلقوا من خصمهم الضربات الموجعة.

وفي الواقع أن علماء الشيعة قد أبطلوا كل حجج القوم وزيفوا مذاهبهم بالأدلةالواضحة المتينة والحجج الجلية القويمة، ولم يُبْقوا لهم من مذاهبهم قشَّة


1- هي أكبر أحياء مدينة بغداد، وسكنتها أغلبهم من الشيعة، تأسست في زمن رئيس العراق الأسبق عبد الكريم قاسم.

ص: 270

يتمسكون بها.

ومن أجل ذلك لجأ بعض علماء أهل السنة وكُتَّابهم إلى اتباع الأساليب القذرة الرخيصة في حربهم مع الشيعة، فألصقوا بمذهب الشيعة ما شاؤوا من الأكاذيب والافتراءات المفضوحة التي لا يخفى بطلانها على من تأمَّلها، ولا تنطلي إلا على أتباعهم المغفَّلين وغيرهم من الجهَّال بمذهب الشيعة الإمامية.

قال الكاتب: ولم يقتصر الأمر على هذا، بل أباحوا اللواطة كذا بالنساء، وَرَوَوْا أيضاً روايات نسبوها إلى الأئمة سلام الله عليهم، فقد روى الطوسي عن عبد الله بن أبي اليعفور كذا قال: (سألتُ أبا عبد الله رضي الله عنه عن الرجل يأتي المرأة من دبرها. قال: لا بأس إذا رضيت، قلت: فأين قول الله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله فقال: هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله، إن الله تعالى يقول: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أَنَّى شِئْتُم الاستبصار 3/ 243 ...

ثم ذكر الكاتب روايتين أخريين في هذه المسألة.

وأقول: بغض النظر عن أسانيد هذه الأحاديث التي فيها ما هو ضعيف السند، فإن مسألة إتيان النساء من أدبارهن مسألة مختلَف فيها بين العلماء، وقد وقع الأخذ فيها والرَّد، فمنَعها مَن منَعها، وجوَّزها مَن جوَّزها، وقد ذهب إلى جوازه بعض الصحابة والتابعين وأئمة مذاهب أهل السنة.

قال القرطبي: وممن نُسب إليه هذا القول سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون، وحُكي ذلك عن مالك في كتاب له يُسمَّى كتاب السر، وحُذّاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ... وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زمرة كبيرة من

ص: 271

الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب (جماع النسوان وأحكام القِرَان)، وقال الكياالطبري: وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأساً (1) 431.

وقال ابن قدامة في المغني: ورُويت إباحته عن ابن عمر وزيد بن أسلم ونافع ومالك، وروي عن مالك أنه قال: ما أدركتُ أحداً أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال (2) 432.

ولا بأس بنقل ما ذكره السيوطي في الدر المنثور مع طوله، فإن فيه فوائد كثيرة.

قال السيوطي: أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وتفسيره والبخاري وابن جرير عن نافع قال: قرأت ذات يوم نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ قال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا. قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن.

وأخرج البخاري وابن جرير عن ابن عمر فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قال: في الدبر.

وأخرج الخطيب في رواة مالك من طريق النضر بن عبد الله الأزدي عن مالك عن نافع عن ابن عمر في قوله نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قال: إن شاء في قُبُلها، وإن شاء في دبرها.

وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده، والطبراني في الأوسط، والحاكم وأبو نعيم في المستخرج بسند حسن عن ابن عمر قال: إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ

الآية رخصة في إتيان الدبر.

وأخرج ابن جرير والطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن النجار بسند حسن


1- الجامع لأحكام القرآن 3/ 93.
2- المغني 8/ 132.

ص: 272

عن ابن عمر: أن رجلًا أصاب امرأته في دبرها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر ذلك الناس، وقالوا: أثفرها. فأنزل الله

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ

الآية.

وأخرج الخطيب في رواة مالك من طريق أحمد بن الحكم العبدي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، فأنزل الله

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ

الآية.

وأخرج النسائي وابن جرير من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر أن رجلًا أتى امرأته في دبرها، فوجد في نفسه من ذلك وجداً شديداً، فأنزل الله

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.

وأخرج الدارقطني في غرائب مالك من طريق أبي بشر الدولابي ... عن عبدالله بن عمر بن حفص وابن أبي ذئب ومالك بن أنس فرقهم كلهم عن نافع قال: قال لي ابن عمر: امسك على المصحف يا نافع. فقرأ حتى أتى على

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ،

قال لي: أتدري يا نافع فيمَ نزلت هذه الآية؟ قلت: لا. قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ

الآية. قلت له: مِن دُبرها في قُبُلها؟ قال: لا، إلا في دبرها.

وقال الرفا في فوائده تخريج الدارقطني: نبأنا أبو أحمد بن عبدوس، نبأنا علي بن الجعد، نبأنا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر قال: وقع رجل على امرأته في دبرها، فأنزل الله

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ.

قال: فقلت لابن أبي ذئب: ما تقول أنت في هذا؟ قال: ما أقول فيه بعد هذا؟

وأخرج الطبراني وابن مردويه وأحمد بن أسامة التجيبي في فوائده عن نافع قال: قرأ ابن عمر هذه السور، فمرَّ بهذه الآية

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ

الآية، فقال: تدري فيمَ أُنزلت هذه الآية؟ قال: لا. قال: في رجال كانوا يأتون النساء في أدبارهن.

ص: 273

وأخرج الدارقطني ودعلج كلاهما في غرائب مالك من طريق أبي مصعب وإسحاق بن محمد القروي كلاهما عن نافع عن ابن عمر أنه قال: يا نافع أمسك على المصحف. فقرأ حتى بلغ

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ

الآية، فقال: يا نافع أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا. قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فوجد في نفسه من ذلك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآية.

قال الدارقطني: هذا ثابت عن مالك. وقال ابن عبد البر: الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة عنه مشهورة.

وأخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزلت

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.

وأخرج النسائي والطحاوي وابن جرير والدارقطني من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس، أنه قيل له: يا أبا عبدالله إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال: كذب العبد أو العِلْج على أبي، فقال مالك: أشهدُ على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له: فإن الحارث ابن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال: يا أبا عبدالرحمن إنّا نشتري الجواري، أفنحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكر له الدبر، فقال ابن عمر: أف أف، أيفعل ذلك مؤمن؟ أو قال: مسلم؟ فقال مالك: أشهدُ على ربيعة أخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع.

قال الدارقطني: هذا محفوظ عن مالك صحيح.

وأخرج النسائي من طريق يزيد بن رومان عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان لا يرى بأساً أن يأتي الرجل المرأة في دبرها.

وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن علي قال: كنت عند محمد بن كعب

ص: 274

القرظي، فجاءه رجل فقال: ما تقول في إتيان المرأة في دبرها؟ فقال: هذا شيخ من قريش فسَلْه. يعنى عبد الله بن علي بن السائب. فقال: قذر ولو كان حلالًا.

وأخرج ابن جرير عن الدراوردي قال: قيل لزيد بن أسلم: إن محمدبن المنكدر نهى عن إتيان النساء في أدبارهن. فقال زيد: أشهدُ على محمد لأخبرني أنه يفعله.

وأخرج ابن جرير عن ابن أبي مليكة أنه سُئل عن إتيان المرأة في دبرها، فقال: قد أردتُه من جارية لي البارحة، فاعتاصتْ عليَّ، فاستعنتُ بِدُهن.

وأخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجرجاني قال: سألت مالك بن أنس عن وطء الحلائل في الدبر، فقال لي: الساعة غسلتُ رأسي منه.

وأخرج ابن جرير في كتاب النكاح من طريق ابن وهب عن مالك أنه مباح.

وأخرج الطحاوي من طريق أصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم قال: ما أدركتُ أحداً أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال- يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ

ثم قال: فأيُّ شي ء أَبْيَنُ من هذا؟

وأخرج الطحاوي والحاكم في مناقب الشافعي والخطيب عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أن الشافعي سُئل عنه، فقال: ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شي ء، والقياس أنه حلال.

وأخرج الحاكم عن ابن عبد الحكم أن الشافعي ناظَرَ محمد بن الحسن في ذلك، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج، فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرَّماً؟ فالتزمه فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها، أفي ذلك حرث؟ قال: لا. قال: أفيحرم؟ قال: لا. قال: فكيف تحتج بما لا تقول به؟ (1) 433


1- الدر المنثور 1/ 635- 638. وذكر الطبري بعض هذه الأخبار في تفسيره 2/ 233- 234، فراجعها.

ص: 275

قلت: هذه جملة وافرة من أحاديثهم الدالة على جواز إتيان المرأة في دبرها، منقولة عن بعض الصحابة والتابعين وأئمة مذاهبهم، وما تركناه أكثر مما نقلناه.

ولا بأس أن نختم الكلام بما ذكره الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء، حيث ذكر أبياتاً من الشعر لهمام القاضي الذي أراد أن يطأ امرأة في دبرها على مذهب الإمام مالك، فنظم لها رغبته في هذه الأبيات:

ومَذعورةٍ جاءتْ على غيرِ موعدٍتقنَّصْتُها والنَّجمُ قد كادَ يطلعُ

فقلتُ لها لما استمرَّ حديثُهاونفسي إلى أشياءَ منها تَطَلَّعُ

أَبِيْني لنا: هل تُؤمِنين بمالكٍ؟فإني بِحُبِّ المالكيَّةِ مُولَعُ

فقالتْ: نَعَمْ إني أدينُ بدينِهِ ومذهبُه عَدلٌ لديَّ ومُقْنِعُ

فبِتْنا إلى الإصباحِ ندعو لمالكٍ.ونُؤْثرُ فتياهُ احتساباً ونتبعُ

(1) 434.

قال الكاتب: لا شك أن هذه الأخبار معارضة لنص القرآن، إذ يقول الله تعالى: وَيَسْأَلُونك عن المحيض قل هو أَذى، فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يَطْهُرْنَ (البقرة/ 222) فلو كان إتيان الدبر مباحاً لأمر باعتزال الفرج فقط ولقال (فاعتزلوا فروجَ النساء في المحيض). ولكن لما كان الدبر مُحَرَّما إتيانه أمر باعتزال الفروج والأدبار في محيض النساء بقوله ولا تقربوهن.

وأقول: على هذا الاستدلال يحرم الاستمتاع بالحائض بأي نحو من أنحاء الاستمتاع، سواءاً أكان في الفرج أم في الدبر أم في غيرهما، وهذا لا يقول به أحد، وتردّه أقوال علماء أهل السنة الذين يعتقد بهم الكاتب، فإنهم نصُّوا على أنه يجوز مباشرة الحائض، ويجب اجتناب خصوص الفرج.


1- محاضرات الأدباء 2/ 268 ط دار مكتبة الحياة.

ص: 276

فقد قال ابن كثير في تفسيره: فقوله

فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي المَحِيضِ

يعني الفرج، لقوله: (اصنعوا كل شي ء إلا النكاح). ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج. قال أبو داود أيضاً: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً (1) 435.

وقال القرطبي في تفسيره: وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها ...

إلى أن قال: وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: يجتنب موضع الدم، لقوله عليه السلام: (اصنعوا كل شي ء إلا النكاح)، وقد تقدَّم، وهو قول داود، وهو الصحيح من قول الشافعي، وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقالت: كل شي ء إلا الفرج. قال العلماء: مباشرة الحائض وهي مُتَّزرة (2) 436 على الاحتياط والقطع للذريعة، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك منه ذريعة إلى موضع الدم المحرَّم بإجماع، فأُمر بذلك احتياطاً، والمحرَّم نفسه موضع الدم، فتتَّفق بذلك معاني الآثار ولا تَضادّ (3) 437.

وقال ابن قدامة في المغني: مسألة: قال ويُستمتَع من الحائض بما دون الفرج، وجملته أن الاستمتاع من الحائض فيما فوق السُّرَّة ودون الركبة جائز بالنص والإجماع، والوطء في الفرج محرَّم بهما. واختُلف في الاستمتاع بما بينهما، فذهب أحمد رحمه الله إلى إباحته، وروي ذلك عن عكرمة وعطاء والشعبي والثوري وإسحاق، ونحوه قال الحَكَم، فإنه قال: لا بأس أن تضع على فرجها ثوباً ما لم يدخله. وقال أبو حنيفة


1- تفسير القرآن العظيم 1/ 258.
2- دفع توهم أنه إذا جاز كل شي ء إلا خصوص الفرج ما معنى ما ورد في بعض الآثار من أن للرجل من امرأته حال الحيض ما فوق السُّرَّة فقط؟
3- الجامع لأحكام القرآن 3/ 86- 87.

ص: 277

ومالك والشافعي: لا يباح، لما روي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض. رواه البخاري. وعن عمر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض، فقال: فوق الإزار.

ولنا قول الله تعالى

فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي المَحِيضِ،

والمحيض اسم لمكان الحيض، كالمقيل والمبيت، فتخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على إباحته فيماعداه.

إلى أن قال: اللفظ- يعني المحيض- يحتمل المعنيين- يعني الحيض، ومكان الحيض، وهو الفرج-، وإرادة مكان الدم أرجح، بدليل أمرين:

أحدهما: أنه لو أراد الحيض لكان أمراً باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية، والإجماع بخلافه.

والثاني: أن سبب نزول الآية أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة اعتزلوها، فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شي ء غير النكاح. رواه مسلم في صحيحه (1) 438، وهذا تفسير لمراد الله تعالى، ولا تتحقق مخالفة اليهود بحملها على إرادة الحيض، لأنه يكون موافقاً لهم.

إلى أن قال: وما رووه عن عائشة دليل على حِل ما فوق الإزار لا على تحريم غيره، وقد يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض المباح تقذّراً، كتركه أكل الضب والأرنب، وقد روى عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً. ثم ما ذكرناه منطوق، وهو أولى من المفهوم (2) 439.

وقال الطبري في تفسيره: وعلَّة قائل هذه المقالة قيام الحجة بالأخبار المتواترة


1- صحيح مسلم 1/ 246. صحيح ابن حبان 4/ 196. سنن ابن ماجة 1/ 211. مسند أحمد 3/ 132.
2- المغني لابن قدامة 1/ 384.

ص: 278

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حُيَّض، ولو كان الواجب اعتزال جميعهن لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صحَّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عُلِم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي المَحِيضِ هو اعتزال بعض جسدها دون بعض، وإذا كان كذلك وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قبُلها دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها (1) 440.

وبه يتضح أن المراد باعتزال النساء هو ترك وطئهن في الفرج، وأما سائر الاستمتاعات فالآية لا تدل على حرمتها، بل دلَّت على حلّيتها أحاديث صحيحة عندهم ذكرنا بعضاً منها، وإليك غيرها.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف، فأغسله وأنا حائض (2) 441.

وأخرج أيضاً بسنده عن عائشة قالت: كنتُ أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جُنُب، وكان يأمرني فأَتَّزِر، فيباشرني وأنا حائض (3) 442.

ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده عن ميمونة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حُيَّض (4) 443.

وعن عائشة، قالت: كان إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتزر بإزار ثم يباشرها (5) 444.

وفي حديث آخر قالت: كان إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن


1- تفسير القرطبي 2/ 226.
2- صحيح البخاري 2/ 602.
3- نفس المصدر 1/ 114.
4- صحيح مسلم 1/ 243.
5- المصدر السابق 1/ 242.

ص: 279

تأتزر في فور حيضتها، ثم يباشرها، قالت: وأيّكم يملك إِرْبَه (1) 445 كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه (2) 446.

ومنها: ما أخرجه الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضتُ يأمرني أن أتَّزر، ثم يباشرني.

قال الترمذي: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق (3) 447.

والأحاديث بهذا المعنى كثيرة جداً لا حاجة لاستقصائها.

ولو نظرنا إلى فتاوى علماء أهل السنة في هذه المسألة لوجدناها مشتملة على شي ء من التفصيل والإيضاح.

فقد روى الدارمي في سننه بسنده عن عبد الله بن عدي، قال: سألت عبدالكريم عن الحائض، فقال: قال إبراهيم: لقد علمتْ أم عمران أني أطعن في إليتها. يعني وهي حائض (4) 448.

وعن إبراهيم، قال: الحائض يأتيها زوجها في مَرَاقّها (5) 449 وبين أفخاذها، فإذا دفق غسلتْ ما أصابها، واغتسل هو (6) 450.


1- أي حاجته وشهوته، والمراد: أنه كان أملككم لنفسه، فيأمن من الوقوع في وطء الحائض في فرجها.
2- صحيح مسلم 1/ 242.
3- سنن الترمذي 1/ 239.
4- سنن الدارمي 1/ 255.
5- قال ابن منظور في لسان العرب (مادة رقق) 10/ 122: ومراق البطن: أسفله وما حوله مما استرقَّ منه، ولا واحد لها. التهذيب: والمراق ما سفل من البطن عند الصفاق أسفل السُّرّة.
6- سنن الدارمي 1/ 259.

ص: 280

وعن مالك بن مغول، قال: سأل رجلٌ عطاء عن الحائض، فلم يرَ بما دون الدم بأساً.

وعن مجاهد قال: لا بأس أن تُؤتَى الحائض بين فخذيها أو في سُرَّتها (1) 451.

وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قال: لا بأس أن يلعب على بطنها، وبين فخذيها (2) 452.

وعن الحكم قال: لا بأس أن تَضَعَه على الفرج، ولا تدخله (3) 453.

وعن الشعبي قال: إذا لفَّتْ على فرجها خرقة يباشرها (4) 454.

فإذا اتضح كل ما قلناه من أن المراد باعتزال النساء هو ترك وطئهن في الفرج، يتبيَّن أن باقي الاستمتاعات الأخرى جائزة كما ذهب إليه عامّة الفقهاء.

وأما مسألة الوطء في الدبر فبما أنها مكروهة كراهة شديدة عندنا، ولا يفعلها إلا الأراذل من الناس، ومباحة عند بعض علماء أهل السنة، فلا وجه حينئذ للأمر بها، ولا معنى للتنصيص على اجتناب خصوص الفرج فقط إلا الحث على إتيان الدبر، مع أنه لا يصح الحث عليه إلا إذا كان محبوباً للمولى ومستحباً في الشريعة المقدسة، وهذا لم يقل به أحد.

قال الكاتب: ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك من أَين يأتي الرجل امرأته فقال تعالى: فإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ من حيثُ أَمرَكُمُ اللهُ (البقرة/ 222).


1- نفس المصدر 1/ 256.
2- مصنف ابن أبي شيبة 3/ 525.
3- سنن الدارمي 1/ 259. مصنف ابن أبي شيبة 3/ 524.
4- مصنف ابن أبي شيبة 3/ 524.

ص: 281

والله تعالى أمر بإتيان الفروج فقال: نِساؤكم حَرْث لكم فأتوا حرثكم أَنَّى شِئْتُم (البقرة/ 223) والحرث هو موضع طلب الولد.

وأقول: إن الأمر بإتيان الزوجة من حيث أمر الله سبحانه وتعالى، أو في موضع الحرث وهو الفرج، لا يدل على حرمة الإتيان في غيره كما مرَّ عن الشافعي في مناظرته مع محمد بن الحسن الشيباني، فإنه يجوز للرجل أن يأتي أهله بين فخذيها وفي أعكانها وغير ذلك، فإن الأمر بالشي ء لا يدل على النهي عما عداه كما قرَّره علماء الأصول.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الوطء في الدبر، فإنه لا دلالة في الآيتين المباركتين على النهي عنه كما هو واضح لمن كان عنده حظ من معرفة استنباط الأحكام الشرعية وفهم آيات الكتاب العزيز والسنة المطهَّرة.

هذا مضافاً إلى وقوع الخلاف بين المفسِّرين في تفسير قوله تعالى أَنَّى شِئْتُمْ على أقوال متعددة، فذهب قوم إلى أن المراد: (كيف شئتم) أي فأتوا نساءكم بأية كيفية شئتم: مُقْبِلات أو مُدْبِرات أو مضطجعات أو قائمات أو منحرفات إذا كان في الفرج خاصة.

وذهب آخرون إلى أن المراد (متى شئتم) من الليل والنهار.

وقال آخرون: المعنى (أين شئتم وحيث شئتم) أي في القبُل أو الدبر، وقد مرَّ بنا ذكر الآثار المنقولة عن ابن عمر في ذلك، فراجعها.

قال الكاتب: إن رواية أبي اليعفور كذا عن أبي عبد الله مفهومها أن طلب الولد يكون في الفروج لقوله في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم هذا في طلب الولد، فمفهوم الرواية تخصيص الفروج لطلب الولد، وأما قضاء الوطر والشهوة فهو

ص: 282

في الأدبار، وسياق الرواية واضح في إعطاء هذا المفهوم.

وهذا غلط لأن الفروج ليست مخصصة لطلب الولد فقط بل لقضاء الوطر والشهوة أيضاً، وهذا واقع العشرة بين الأزواج من لدن آدم عليه السلام وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأبو عبد الله أجل وأرفع من أن يقول هذا القول الباطل.

وأقول: إن معنى الرواية واضح جداً، فإن ابن أبي يعفور، سأل الإمام عليه السلام عن إتيان المرأة في دبرها، فأجابه الإمام بأنه جائز إن رضيتْ به المرأة. فقال له: فأين قول الله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ؟ وذلك لأنه توهَّم أن المكان الذي أمر الله أن يُؤتَى منه هو الفرج فقط، وما عداه وهو- الدبر- فهو محرَّم. فقال عليه السلام: هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله، وهو الفرج المباح لكم.

ثم أوضح له الإمام عليه السلام دليل حلِّية الإتيان في الدبر، فقال: إن الله تعالى يقول نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي في أيِّ مكان شئتم، في القبُل أو في الدبر.

وهذا المعنى هو عين ما قاله عبد الله بن عمر وغيره في تفسير الآية وسبب نزولها كما مرَّ.

وبهذا الذي قلناه يتبيَّن فساد ما زعمه الكاتب من أن الرواية تدل بمفهومها على أن موضع اللذة هو الدبر، وأن الفرج موضع الولد فقط.

قال الكاتب: ولو افترضنا جواز إتيان الدبر لما كان هناك معنى للآية الكريمة: فإذا تَطَهّرْنَ فأتوهُنَّ من حيثُ أمرَكمُ اللهُ، لأنه قد علم- على الافتراض المذكور- أن الإتيان يكون في القُبُلِ والدُّبُر وليس هناك موضع ثالث يمكن إتيانه، فلم يبق أي معنى للآية ولا للأمر الوارد فيها.

ص: 283

وأقول: بل يكون للآية معنى صحيح واضح، وهو أنه وإن جاز وطء الزوجة من دبرها، إلا أنه مكروه كراهة شديدة لا تصل إلى حد الحرمة، فإذا تطهَّرت المرأة من حيضها جاز إتيانها في الموضع الذي أمر الله سبحانه، وهو الفرج، وأما الدبر فهو وإن جاز إتيان الزوجة فيه، إلا أن الله لم يأمر به، ولكن أباحه على كراهة شديدة.

قال الكاتب: ولكن لمَاَّ كان أحد الموضعين مُحَرَّماً لا يجوز إتيانه، والآخر حلالًا احتيج إلى بيان الموضع الذي يجب أن يُؤْتَى، فكان أمر الله تعالى بإتيان الحرث، والحرث هو موضع طلب الولد، وهذا الموضع يُؤْتَى لطلب الولد، ولقضاء الوَطَرِأيضاً.

وأقول: لقد قلنا فيما مرَّ: إن الأمر بالإتيان في موضع الحرث وهو الفرج، لا يدل على تحريم غيره، وإلا لحرم التفخيذ وغيره مما وقع الإجماع على جوازه.

ولا يلزم من عدم الأمر بإتيان الزوجة في دبرها أن يكون إتيانها فيه محرَّماً، بل قد يكون مكروهاً، فإن الله سبحانه وتعالى كما لا يأمر بمحرَّم كالوطء في حال الحيض، كذلك لا يأمر بمكروه كالوطء في الدبر، وهذا واضح لا يحتاج إلى إطالة.

قال الكاتب: أما الرواية المنسوبة إلى الرضا رضي الله عنه في إباحة اللواطة كذا بالنساء واستدلاله بقول لوط عليه السلام (1) 455. أقول: إن تفسير آية قول الله تعالى: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم (هود/ 78) قد ورد في آية أخرى في قوله تعالى: ولوطا إذ قال


1- هذه الجملة غير تامة، فإنها اشتملت على مبتدأ من دون خبر.

ص: 284

لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين، إئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل (العنكبوت/ 28).

وأقول: إن الآية الثانية لم تفسِّر الآية الأولى كما هو واضح، وذلك لأن الآية الأولى ظاهرة في عَرْض لوط عليه السلام تزويج بناته للقوم، ولا يخفى أنهم كانوا يريدون اللواط بأضيافه عليه السلام، فرأى لوط عليه السلام أن يزوِّجهم بناته اضطراراً، لدفع الأفسد بالفاسد، وهذا الفعل منه عليه السلام فيه إشارة واضحة إلى حلّية الوطء في الدبر، لأنه علم أن القوم لا يريدون الفرج.

وأما الآية الثانية فهي ظاهرة في توبيخ لوط عليه السلام للقوم على إتيان الرجال شهوة من دون النساء.

ومن الواضح أن موضوع الآية الأولى هو وطء الزوجة في دبرها، وموضوع الآية الثانية هو اللواط المحرَّم بالرجال، فكيف تكون الآية الثانية مفسِّرة للآية الأولى وموضوعهما مختلف ومتغاير؟!

قال الكاتب: وقطع السبيل لا يعني ما يفعله قطَّاع الطرق وحدهم .. لا، وإنما معناه أيضاً قطع النسل في الإتيان في غير موضع طلب الولد، أي في الأدبار، فلو استمر الناس في إتيان الأدبار- أدبار الرجال والنساء- وتركوا أيضاً طلب الولد لانقرضت البشرية، وانقطع النسل.

وأقول: إن تفسير الكاتب قطع السبيل بقطع النسل في الإتيان في غير موضع طلب الولد وإن كان معقولًا إلا أنه خلاف ما قاله بعض مفسِّري أهل السنة.

قال ابن كثير في تفسير الآية: يقول تعالى مخبراً عن نبيّه لوط عليه السلام إنه أنكر على قومه سوء صنيعهم، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال في إتيانهم الذكران من

ص: 285

العالمين، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم، وكانوا مع هذا يكفرون بالله، ويكذّبون رسوله ويخالفون، ويقطعون السبيل، أي يَقِفُون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم (1) 456.

وقال القرطبي في تفسيره:

وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ

قيل: كانوا قُطَّاع الطريق. قاله ابن زيد، وقيل: كانوا يأخذون الناس من الطرق لقضاء الفاحشة. حكاه ابن شجرة، و قيل: إنه قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال. قاله وهب بن منبه، أي استغنوا بالرجال عن النساء.

قلت- والقائل القرطبي-: ولعل الجميع كان فيهم، فكانوا يقطعون الطريق لأخذ الأموال والفاحشة، ويستغنون عن النساء بذلك (2) 457.

وقال الطبري: يقول تعالى ذكره مخبراً عن قيل لوط لقومه: أَئِنَّكُمْ أيها القوم لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ في أدبارهم، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ يقول: وتقطعون المسافرين عليكم بفعلكم الخبيث، وذلك أنهم فيما ذكر عنهم كانوا يفعلون ذلك بمن مرَّ عليهم من المسافرين ومن وَرَدَ بلادهم من الغرباء. ذِكْر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله

وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ

قال: السبيل: الطريق. المسافر إذا مرَّ بهم، وهو ابن السبيل قطعوا به، وعملوا به ذلك العمل الخبيث (3) 458.

ومن كل ما مرَّ يتضح أن الكاتب فسَّر الآية بما فسَّره وهب بن منبّه دون غيره من المفسِّرين، وتفسير وهب ليس حجة على غيره، ولو سلّمنا به فمراد وهب هو أن قوم لوط عليه السلام استغنوا بالرجال عن النساء فهجروهن بتاتاً، فقطعوا نسلهم بذلك، ونحن لا نتكلم في فرض كهذا، وإنما نتكلم في جواز إتيان النساء في أدبارهن، لا في


1- تفسير القرآن العظيم 3/ 411.
2- الجامع لأحكام القرآن 13/ 341.
3- جامع البيان في تفسير القرآن 20/ 93.

ص: 286

إتيان الرجال، وبما لا قطع فيه للنسل، أي في بعض الأحايين التي لا ينقطع بها النسل. فأين هذا مما نحن فيه؟

قال الكاتب: فالآية الكريمة تعطي هذا المعنى أيضاً وبخاصة إذا لاحظنا سياق الآية مما قبلها. ولا مرية أن هذا لا يخفى على الإمام الرضا رضي الله عنه، فثبت بذلك كذب نسبة تلك الرواية إليه.

وأقول: ما زعمه الكاتب من السياق كله هراء من القول، لأن الآية الأولى جاءت في سياق قوله تعالى وَلمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِي ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (1) 459.

والآية الثانية جاءت بعد قوله تعالى

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (2) 460.

فأين السياق الذي يدل على أن إتيان النساء في أدبارهن يقطع النسل؟!

وعليه فلا محالة يثبت أن تكذيب نسبة الرواية إلى الإمام الرضا عليه السلام لم يستند


1- سورة هود، الآيات 77- 83.
2- سورة العنكبوت، الآية 28.

ص: 287

إلى دليل صحيح، لأن الكاتب اعتمد على سياق لا وجود له، وعلى قول واحد من المفسِّرين لم يفهمه على وجهه الصحيح.

قال الكاتب: إن إتيان النساء في أدبارهن لم يقل به إلا الشيعة وبالذات الإمامية الاثنا عشرية.

وأقول: لقد مرَّ بيان من قال بجواز إتيان النساء في أدبارهن من الصحابة ومنهم ابن عمر، ومن غيرهم سعيد بن المسيب ونافع ومحمد بن كعب القرظي وعبدالملك بن الماجشون وزيد بن أسلم، ومن أئمة المذاهب مالك بن أنس، والشافعي في القديم.

وقد رووا أن بعض الصحابة أتوا نساءهم من أدبارهن، كما رووا ذلك عن محمد بن المنكدر، وابن أبي مليكة، ومالك بن أنس إمام المذهب، وقد نقلنا ذلك فيما سبق من مصادرهم المعتمدة وبالأسانيد، فراجعه.

قال الكاتب: واعلم أن جميع السادة كذا في حوزة النجف والحوزات الأخرى، بل وفي كل مكان يمارسون هذا الفعل!!

وكان صديقنا الحجة السيد كذا أحمد الوائلي يقول بأنه منذ أن اطلع على هذه الروايات بدأ ممارسة هذا الفعل، وقليلًا ما يأتي امرأة في قُبُلِها.

وأقول: أما قوله: (إن جميع السادة في حوزة النجف والحوزات الأخرى يمارسون هذا الفعل) فهو فرية بلا مرية، وذلك لأن مثل هذه الأمور على فرض وقوعها لا يبوح بها رجل شريف، فكيف تأتّى لهذا الكاتب أن يطَّلع على كل السَّادة،

ص: 288

ويعلم أنهم يمارسون هذا الفعل مع زوجاتهم؟!

ولا ينقضي العجب من هذا الكاتب الذي بيته من زجاج كيف يرمي بيوت الناس بالحجارة، فيفتري هذه الفرية الفاضحة، مع أنه لا يستطيع أن يثبت لنا برواية واحدة مسندة- حتى لو كانت ضعيفة- أن واحداً من أولئك (السادة) وطأ امرأته في دبرها، فضلًا عن أن يستطيع أن يثبت أن واحداً من أئمة الشيعة وعلمائهم مارس هذاالفعل.

في حين أنّا نقلنا فيما مرَّ غيضاً من فيض مما دلَّ على أن جملة من علماء أهل السنة وأئمة مذاهبهم كانوا يطأون زوجاتهم في أدبارهم!! وما تركناه أكثر مما ذكرناه.

وأما قوله: إن الشيخ الوائلي حفظه الله قال: (إنه يمارس هذا الفعل وقليلًا ما يأتي امرأة في قُبُلها)، فهو كغيره من الأكاذيب المفضوحة التي سوَّد بها هذا الكاتب كتابه، فإن الشيخ الوائلي لا يصدر منه هذا الكلام السخيف، والكل يعرفه.

وحسبك دليلًا على كذب القضية أن الكاتب وصف الشيخ الوائلي بأنه (صديقه) ليمهد للقارئ أنه خصَّه بهذا الأمر الخاص جداً، مع أنه لو كان صديقاً للشيخ الوائلي لعرف على الأقل أن الوائلي شيخ لا سيِّد، وهذا من بديهيات كونه صديقاً للشيخ، بل إن عوامّ الشيعة يعرفون أن الوائلي شيخ، ولا يختلف في ذلك منهم اثنان، فكيف غاب هذا الأمر الواضح عمن يدَّعي أنه صديق الشيخ؟!

والعجيب أن هذا الكاتب لا يخجل من نفسه، إذ يدَّعي أنه صديق للشيخ الوائلي، ومع ذلك يذكر عنه مثل هذا الأمر المخزي، وأقل ما ينطبع في ذهن القارئ أن الكاتب لو كان صادقاً في زعمه- وهو ليس بصادق- فإنه ليس محلًا لأن يخصّه أحد بِسِرّ، لأنه إذا أباح سِرَّ صديقه- كما يزعم- فإباحته لسِرِّ غيره ستكون بطريق أولى.

ص: 289

قال الكاتب: وكلما التقيت واحداً من السادة، وفي كل مكان فإني أسأله في حرمة إتيان النساء في الأدبار أو حله؟ فيقول لي بأنه حلال، ويذكر الروايات في حِلِّيَتِها منها الروايات التي تقدمت الإشارة إليها.

وأقول: لقد أضحكني هذا الكاتب المتخصِّص في مسألة (الوطء في الدبر)، لأنه أخبر عن نفسه أنه كلما التقى واحداً من السادة سأله عن هذه المسألة، من دون أن يستثني واحداً من السادة أو بعضاً من الأمكنة!!

ولا ريب في أن الكاتب الذي له هذا العمر المديد قد رزقه الله حجَّ بيته الحرام، وأنه التقى بعض السادة يطوفون حول الكعبة المشرفة، أو يُصلّون خلف المقام، أو يسعون بين الصفا والمروة، أو يبتهلون إلى الله في عرفات أو المزدلفة، أو يرمون الجمار في منى، فهل سألهم عن الوطء في الدبر في هذه المشاعر الشريفة وهم يؤدّون مناسكهم؟!

ولو سلَّمنا بما قاله هذا الكاتب فلا ندري لمَ لا يخجل من سؤال كل مَن لقيه من السادة حول الوطء في الدبر والإلحاح في هذه المسألة، مع أنه يزعم أنه فقيه مجتهد قد ناهز عمره الثمانين أو تجاوزها، ولا سيما أن العُرْف السائد في الحوزة يعيب أمثال هذه التصرفات التي لا تليق بصغار طلبة العلم فضلًا عن علماء الحوزة وفقهائها؟!

ومع الإغماض عن كل ما في حكايته، وتسليم أن الكاتب كان يود التحقيق في هذه المسألة، وكان يسأل السادة عن الوطء في الدبر فيجيبونه بالحلِّية، ألا يعلم أن جوابهم لا يعني أنهم كانوا يمارسون هذا الفعل، ولا سيما مع كراهته الشديدة، والتصريح في بعض الأخبار بأنه لا يفعله إلا أراذل الشيعة.

وفي مقابل ذلك فإن بعض علماء أهل السنة وأئمة مذاهبهم- كما مرَّ- كانوا يُسألون عن هذه المسألة فيجيبون بالحلِّية، ويعترفون بأنهم يفعلون هذا الفعل، ويمارسونه مع زوجاتهم وإمائهم.

ص: 290

قال الكاتب: ولم يكتفوا بإباحية اللواطة كذا بالنساء، بل أباح كثير منهم حتى اللواطة بالذكور وبالذات المردان.

وأقول: هذا من الافتراءات الواضحة، فإنه لا أحد يبيح اللواط بالذكور بعد نص القرآن الكريم على التحريم والنهي الشديد، وهذه فتاوى علماء الشيعة واضحة في هذه المسألة.

فقد قال الشيخ الصدوق في كتابه المقنع: واعلم أن اللواط أشد من الزنا، والزنا يقطع الرزق، ويقصر العمر، ويخلد صاحبه في النار، ويقطع الحياء من وجهه.

إلى أن قال: واعلم أن اللواط هو ما بين الفخذين، فأما الدبر فهو الكفر بالله العظيم، واعلم أن حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج، لأن الله أهلك أمة بحرمة الدبر، ولم يهلك أحداً بحرمة الفرج. واعلم أن عقوبة من لاط بغلام أن يُحرق بالنار، أو يُهدم عليه حائط، أو يُضرب ضربة بالسيف (1) 461.

وقال الشيخ المفيد في كتابه (المقنعة): واللواط هو الفجور بالذُّكران، وهو على ضربين: أحدهما: إيقاع الفعل فيما سوى الدبر من الفخذين، ففيه جلد مائة للفاعل والمفعول به إذا كانا عاقلين بالغين، ولا يُراعى في جلدهما عدم الإحصان ولا وجوده كما يراعى ذلك في الزنا، بل حدُّهما الجلد على هذا الفعل دون ما سواه. والثاني: الإيلاج في الدبر، ففيه القتل، سواءاً كان المتفاعلان على الإحصان أو على غير الإحصان (2) 462.

وقال السيد المرتضى في الانتصار: ومما انفردت به الإمامية القول بأن حد اللوطي إذا أوقع الفعل فيما دون الدبر بين الفخذين مائة جلدة للفاعل والمفعول به،


1- المقنع، ص 429.
2- المقنعة، ص 785.

ص: 291

إذا كانا معاً عاقلين بالغين، لا يُراعى في جلدهما وجود الإحصان، كما روعي في الزنا، فأما الإيلاج في الدبر فيجب فيه القتل من غير مراعاة أيضاً للإحصان فيه (1) 463.

وقال صاحب الجواهر في جواهره: (أما اللواط فهو وطء الذكران) من الآدمي (بإيقاب وغيره)، واشتقاقه من فعل قوم لوط، وحرمته من ضروري الدين، فضلًا عما دلَّ عليه في الكتاب المبين، وسُنة سيّد المرسلين، وآله الطيبين الطاهرين. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من جامع غلاماً جاء جُنباً يوم القيامة، لا ينقيه ماء الدنيا، وغضب الله عليه ولعنه، وأعدَّ له جهنم، وساءت مصيراً. ثم قال: إن الذكر ليركب الذكر فيهتز العرش لذلك، وإن الرجل لو أُتِيَ في حقبه (2) 464 فيحبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يفرغ الله من حساب الخلائق، ثم يؤمر به إلى جهنم، فيُعذب بطبقاتها طبقةً طبقة حتى يرد إلى أسفلها، ولا يخرج منها. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لو كان ينبغي لأحد أن يُرجَم مرتين لَرُجم اللوطي. وفي آخر عنه عليه السلام أيضاً: اللواط ما دون الدبر، والدبر هو الكفر (3) 465.

وكلمات العلماء في هذه المسألة متضافرة، وكلها دالة على أن حرمة اللواط مما أجمع عليه علماء الشيعة الإمامية، بل المسلمون كافة.

ومنه يتضح أن مدَّعي الاجتهاد والفقاهة لم يكن أميناً في نقله، ولا منصفاً في زعمه مع تواتر الأخبار وإجماع العلماء الأخيار على تحريم اللواط، ولهذا لم ينقل- وأنى له- ولو فتوى واحدة لعالم واحد بحلّية ذلك، وجعل المسألة هكذا مرسلة من غير مصدر.


1- الانتصار، ص 251.
2- أي في دبره.
3- جواهر الكلام 41/ 374- 375. وراجع أخبار الباب في كتاب وسائل الشيعة 18/ 416- 424.

ص: 292

قال الكاتب: كنا أحد الأيام في الحوزة فوردت الأخبار بأن سماحة السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي قد وصل بغداد، وسيصل إلى الحوزة ليلتقي سماحة الإمام آل كاشف الغطاء، وكان السيد شرف الدين قد سطع نجمه عند عوام الشيعة وخواصهم، خاصة بعد أن صدر بعض مؤلفاته كالمراجعات والنص والاجتهاد.

وأقول: لقد توهَّم الكاتب- لبعده عن الحوزة وأهلها- أن الحوزة مبنى خاص في النجف الأشرف، ولهذا قال: (كنا أحد الأيام في الحوزة)، وقال: (وسيصل إلى الحوزة)، وسيأتي قريباً قوله: (ولما وصل النجف زار الحوزة)، وهو توهُّم يعرف فساده كل من عاش في النجف ولو أياماً قلائل، فكيف بمن يدَّعي أنه عاش في النجف ودرس في الحوزة العلمية، فإن الحوزة هي نظام الدرس في النجف، فمن يقول: (درستُ في الحوزة)، يريد درستُ العلوم الدينية المتعارفة، سواءاً أكانت دراسته في مسجد أو في منزل أو مدرسة.

قال الكاتب: ولما وصل النجف زار الحوزة، فكان الاحتفاء به عظيماً من قبَلِ الكادر الحوزي علماءً كذا وطُلَّاباً، وفي جلسة له في مكتب السيد كذا آل كاشف الغطَاء ضمت عدداً من السادة، وبعض طلاب الحوزة، وكنت أحد الحاضرين.

وأقول: لقد كرَّر الكاتب نفس أغلاطه السابقة، فوصف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدس سره في كل كلامه بأنه (سيِّد)، بل غلَّط السائل أيضاً في ذلك، فجعله يخاطب الشيخ ب- (سيّد) كما سيأتي قريباً.

كما أنه وقع في سقطة أخرى كبيرة، فزعم أن الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله كان له مكتب في النجف الأشرف، مع أن الأمر ليس كذلك كما نبَّهنا عليه فيما تقدّم.

ولا بأس أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن الكاتب في كل كتابه لم يصف

ص: 293

(النجف) بالأشرف، مع أن علماء الشيعة حتى صغار طلبة العلم يلتزمون بوصف النجف بهذا الوصف في كتاباتهم.

فلا ندري لمَ تنكَّر الكاتب لمدينة أمير المؤمنين عليه السلام التي يدَّعي أنه تلقى فيها كل علومه؟!

قال الكاتب: وفي أثناء هذه الجلسة دخل شاب في عنفوان شبابه، فسلم فَرَدَّ الحاضرون السلام، فقال للسيد كذا آل كاشف الغطاء: سيد، عندي سؤال. فقال له السيد: وجه سؤالك إلى السيد شرف الدين.

فأحاله إلى ضيفه السيد شرف الدين تقديراً وإكراماً له.

قال السائل: سيد، أنا أدرس في لندن للحصول على الدكتوراه، وأنا ما زلت أعزب غير متزوج، وأريد امرأة تعينني هناك- لم يُفْصحْ عن قصده أول الأمر-.

قال له السيد شرف الدين: تَزَوَّجْ ثم خُذ زوجتك معك.

فقال الرجل: صعب علي أن تسكن امرأة من بلادي معي هناك.

فعرف السيد شرف الدين قصده، فقال له: تريد أن تتزوج امرأة بريطانية إذن؟ قال الرجل: نعم. فقال له شرف الدين: هذا لا يجوز، فالزواج باليهودية أو النصرانية حرام.

وأقول: هذا من الأكاذيب المفضوحة، فإن السيد شرف الدين قدس سره يفتي بجواز نكاح الكتابية، وقد نصَّ على ذلك في كتابيه (مسائل فقهية)، و (أجوبة مسائل جار الله)، حيث قال:

نكاح المتعة وفيه فصول: 1- حقيقة هذا النكاح: إنما حقيقته أن تزوِّجك المرأةُ الحرة الكاملة المسلمة أو الكتابية نفسَها، حيث لا يكون لك مانع في دين الإسلام عن

ص: 294

نكاحها، مِن نَسَبٍ أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدَّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية، ككونها معقوداً عليها لأحد آبائك، وإن كان قد طلَّقها أو مات عنها قبل الدخول بها، وككونها أختاً لزوجتك مثلًا، أو نحو ذلك (1) 466.

وهذه العبارة فيها تصريح بجواز نكاح الكتابية متعة، فهل يصدِّق منصف بعد ذلك هذه الحكاية الملفَّقة؟!

قال الكاتب: فقال الرجل: كيف أصنع إذن؟

فقال له السيد شرف الدين: ابحث عن مسلمة مقيمة هناك عربية أو هندية أو أي جنسية أخرى بشرط أن تكون مسلمة.

فقال الرجل: بحثت كثيراً فلم أجد مسلمات مقيمات هناك تصلح إحداهن زوجة لي، وحتى أردت أن أتمتع فلم أجد، وليس أمامي خيار إما الزنا وإما الزواج وكلاهما متعذر علي. أما الزنا فإني مبتعد عنه لأنه حرام، وأما الزواج فمتعذر علي كما ترى وأنا أبقى هناك سنة كاملة أو أكثر ثم أعود إجازة لمدة شهر، وهذا كما تعلم سفر طويل فماذا أفعل؟

وأقول: لقد قلنا آنفاً: إن السيد رحمه الله يفتي بجواز التمتع بالكتابية، وحينئذ فإن كان هذا الشاب مقلِّداً للسيد شرف الدين فيجوز له أن يتمتع بكتابية، وإن كان مقلّداً للشيخ كاشف الغطاء فيجوز له أن يتزوج بكتابية دواماً أو متعة كما أفتى بذلك في كتابه (تحرير المجلة) حيث قال: أما الكتابية- يهودية أو نصرانية بل ومجوسية- فإن أسلم دونها فهي على نكاحه قبل الدخول وبعده، دائماً ومنقطعاً، كتابياً أو غيره. وأما في الابتداء فقيل بالحرمة، وقيل: يجوز منقطعاً لا دائماً. وقيل:


1- مسائل فقهية، ص 72. ونحو هذه العبارة في أجوبة مسائل جار الله، ص 85.

ص: 295

يجوز مطلقاً. وهو مقتضى ظاهر قوله تعالى في سورة المائدة التي لا نسخ فيها

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ

إلى قوله عز شأنه

وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ

، ويمكن حمل النواهي في السنة المطهرة على التنزيه (1) 467.

وبذلك تنحل القضية من رأس.

إلا أن الكاتب لما وضع هذه القصة لم يلتفت إلى فتاوى هذين العلَمين، وأن المسألة محلولة عندهم، فافتعل القصة بالصورة التي يظن أنه يستطيع بها أن يموِّه على العوام، ولكن لله كشف زيفه وكذبه.

ولو سلَّمنا أن هذا الشاب لا يستطيع أن يتزوج هناك بامرأة مسلمة أو كتابية، لا دواماً ولا متعة، فيجب عليه حينئذ أن يمنع نفسه من الوقوع في الحرام، فيكفّ نفسه عن الزنا واللواط وغيرهما من المحرَّمات، وإلا فيجب عليه ترك المكث والدراسة في تلك البلاد، والرجوع إلى بلده.

ومثل هذه المسألة البسيطة لا تخفى على السيد شرف الدين والشيخ كاشف الغطاء قدِّس سرُّهما.

قال الكاتب: سكت (2) 468 السيد شرف الدين قليلًا ثم قال: إن وَضْعَكَ هذا مُحْرِجٌ فِعلًا .. على أية حال أذكرُ أني قرأت رواية للإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، إذ جاءه رجل يسافر كثيراً ويتعذر عليه اصطحاب امرأته أو التمتع في البلد الذي يسافر إليه بحيث إنه يعاني مثلما تعاني أنت، فقال له أبو عبد الله رضي الله عنه: (إذا طال بك السفر فعليك


1- تحرير المجلة 5/ 24.
2- هنا حاشية للكاتب سيأتي الجواب عنها قريباً.

ص: 296

بنَكْحِ الذكر) (1) 469!! هذا جواب سؤالك.

وأقول: هذا من أكاذيبه الواضحة، فإن مثل هذه الرواية لا توجد في كتب الشيعة، فكيف يمكن للسيد شرف الدين قدس سره أن يفتي على طبقها من غير أن ينظر في سندها ويتأكد من صحَّتها؟

إن الكاتب يظن أن الفقيه يمكنه استنباط الأحكام الشرعية بمجرد وجود رواية من غير النظر إلى سندها وما يعارضها من أخبار كما صنع هو في كل كتابه، ولهذا لفَّق مثل هذه القضية على السيد شرف الدين.

وهذه الفتوى في الأصل منقولة عن بعض المفتين من أهل السنة، وقد نقلها صاحب كتاب مطالع الأنوار كما في كتاب الأربعين للشيخ محمد طاهر القمي الشيرازي عن أبي حنيفة، حيث قال:

وأعظم من هذا قوله يعني أبا حنيفة: إن نكاح الأم وإن علَتْ، والبنت وإن نزلتْ، والأخت وبنت الأخت والعمة والخالة، جائز بشرط لف الحريرة. وإذا اشترى الرجل أُمَّه وأخته وقرابته جاز له نكاحهن، والأجير إذا استأجره جاز له أن يلوط به بلف الخرقة، وقال في المشتري بأنه لا يجوز له ذلك إلا بشرط كونه غير محصن، وقال ناظمهم:

وجائزٌ نَيْكُ الغُلامِ الأَمْرَدِمُجَوَّزٌ لِلرَّجُلِ المجرَّدِ

هذا إذا كانَ وحيداً في السَّفَرْولم يَجِدْ أنثى تَفِي إلا الذكَرْ (2) 470.

ولا ندري هل كان أبو حنيفة يفتي بذلك، أو أن ذلك مما هو منقول عنه من غير تثبُّت وتحقيق.


1- هنا حاشية له أخرى سيأتي الجواب عنها كذلك.
2- كتاب الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين، ص 647.

ص: 297

قال الكاتب: خرج الرجل وعليه علامات الارتياب من هذا الجواب، وأما الحاضرون ومنهم السيد كذا زعيم الحوزة فلم يلفظ أحد منهم ببنت شَفَه.

وأقول: لا ريب في أن علامات الارتياب ترتسم على كل من يسمع هذه القصة الخرافية.

وكل من عرف فتاوى علماء الشيعة ولا سيما فتاوى السيد شرف الدين والشيخ كاشف الغطاء في هذه المسألة يجزم باختلاق هذه القصة من أساسها، لما فيها من تحليل الحرام المجمع على حرمته عند علماء الإمامية.

وعذر الكاتب المفلس وغيره ممن يسلك هذا المنهج في الطعن في مذهب وعلماء الإمامية هو أنهم لم يجدوا مطعناً صحيحاً يتشبثون به، فلجأوا إلى ترويج الأكاذيب المفضوحة واختلاق القصص الخرافية للوصول إلى غاياتهم الدنيئة.

قال الكاتب في حاشية له في هذا الموضع: يبدو أنه احتار في جواب السائل، ولما سنحت لي فرصة الانفراد بالسيد كذا آل كاشف الغطاء سألته عن هذه الرواية التي ذكرها السيد شرف الدين، فقال لي: لم أقف عليها فيما قرأت. ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول أن أجد مصدر تلك الرواية في كل ما قرأت وكلما وقع بيدي من كتب الأخبار فلم أعثر على مصدر لها، وأظن أنه ارتجلها لئلا يحرج بالجواب أمام الحاضرين.

وأقول: إن مثل هذه المسألة البسيطة لا يحتار في الجواب عنها واحد من صغار طلبة العلم فضلًا عمن هو مثل السيد شرف الدين قدس سره.

والسيد رحمه الله لا يمكن أن يكذب على الإمام الصادق عليه السلام بافتراء رواية بهذا النحو من السخف والبذاءة، لمجرد التخلص من الإحراج المزعوم.

والكاتب قد اعترف بأن هذه الرواية لا وجود لها في كتب الشيعة، وأنها مختلقة

ص: 298

عليهم، ونحن نعرف من اختلقها، ومع ذلك فسيأتي قريباً تصريحه في بعض حواشيه بأنه قرأ في بعض (المنظومات) التي كان يقرؤها نصاً لا شبهة فيه، وهو قول الناظم: (وجائز نكاح الغلام الأمرد)، فالحمد لله الذي كشف تهافت كلامه وتضارب أقواله.

وقال الكاتب في حاشية أخرى له في هذا الموضع أيضاً: أخبرني بعض تلاميذ السيد شرف الدين أنه في زيارته لأوروبا كان يتمتع بالأوروبيات كثيراً وبخاصة الجميلات منهن، فكان يستأجر كل يوم واحدة، وكان متزوجاً من شابة مسيحية مارونية اسمها نهار كتابيات أيضاً كذا، فلماذا يحل لنفسه ما يحرِّمه على غيره؟

وأقول: الظاهر أن مراد الكاتب أن السيِّد شرف الدين نفسه هو الذي ذهب إلى أوروبا وكان يتمتَّع بالأوروبيات كما هو ظاهر قوله: (فلماذا يحل لنفسه ما يحرِّمه على غيره؟).

ولا ريب في وضوح هذه الفرية، وذلك لأن السيد شرف الدين قدس سره لم يسافر إلى أوروبا، وترجمته موجودة في أكثر كتبه، وأسفاره رحمه الله معروفة، وهي لا تتعدى مصر والحجاز وفلسطين والشام والعراق وإيران، فمتى سافر السيِّد إلى أوروبا؟ ومتى تمتع بالأوروبيات؟

ثم من هو راوي هذه القصة الذي وصفه الكاتب بأنه أحد تلامذة السيد؟ ولماذا لم يصرِّح الكاتب باسمه حتى يُعرف سند هذه الرواية؟

ومن الواضح أن الكاتب لم يذكر اسم هذا الراوي لأنه لا يمكنه أن يذكر اسماً يفتضح بذكره، فجعل اسم الراوي مبهماً هكذا، وهذا دأبه في أكثر قصصه الخرافية في هذا الكتاب، فتأملها تجدها منقولة عن شخصيات مجهولة لم تذكر أسماؤها.

ص: 299

قال الكاتب: ضُبِطَ أحدُ السادة في الحوزة وهو يلوط بصبي أمرد من الدارسين في الحوزة. وصل الخبر إلى أسماع الكثيرين، وفي اليوم التالي بينما كان السيد المشار إليه يتمشى في الرواق، اقترب منه سيد آخر من علماء الحوزة أيضاً- وكان قد بلغه الخبر- فخاطبه بالفُصْحَى مازحاً: سيد، ما تقول في ضَرْبِ الحلق؟ (1) 471 فأجابه السيد الأول بمزاح أشد قائلًا له وبالفصحى أيضاً: يُسْتَحْسَنُ إدخال الحشفة فقط، وقهقه الاثنان بقوة!!؟؟

وأقول: أنا أعجب من هذا الكاتب كيف لا يستحيي أن ينقل أمثال هذه القصص المكذوبة التي لا دليل على صحَّتها إلا نقل كاتبها الذي لا يوثق به؟

وعلماء الشيعة أجل وأتقى من أن يصدر منهم أمثال هذه الرذائل والموبقات، بل نحن ننزّه كل شريف عن أمثال هذه الأفعال القبيحة، سُنّياًكان أم شيعياً، فضلًا عن أن يكون عالماً من العلماء أو فاضلًا من الفضلاء.

هذا مع أن نقل أمثال هذه الأمور- لو سلَّمنا بوقوعها- مندرج في باب إشاعة الفاحشة في المسلمين الذي هو منهي عنه بنصِّ الكتاب العزيز.

قال الله تعالى

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لهَمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2) 472.

قال ابن كثير في تفسيره: وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئاً من الكلام السيِّئ، فقام بذهنه شي ء منه وتكلم به، فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لهَمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (3) 473.


1- يريد بذلك حَلَقة الدبر (حاشية من الكاتب).
2- سورة النور، الآية 19.
3- تفسير القرآن العظيم 3/ 275.

ص: 300

قال الكاتب: وهناك سيد من علماء الحوزة مشهور باللواطة كذا، رأى صبياً يمشي مع سيد آخر من علماء الحوزة أيضاً، فسأله: من هذا الصبي الذي معك؟ فأجابه: هذا ابني فلان.

فقال له: لِمَ لا ترسله إلينا لنقوم بتدريسه وتعليمه كي يصبح عالماً مثلك؟ فأجابه ساخراً: أيها السافل الحقير، أتريد أن آتيك به لتفعل به (كذا وكذا)!؟

وهذه الحادثة حدثني بها أحد الثقات من أساتذة الحوزة (1) 474.

وأقول: هذه القضية كسابقاتها من القضايا المكذوبة التي لا سند لها ولا هوية معروفة لأشخاصها.

وهل من المعقول أن يطلب شخص مشهور باللواط من رجل يعرفه بهذه الصفة أن يحضر له ابنه لتعليمه بكل هذه الجرأة والوقاحة؟

ولكن الكذوب مهما ظن أنه أتقن كذبه فلا بد أن يكون في كلامه خلل يفضحه ويكشف زيفه.

ثم مَن هو هذا الثقة الذي أخبر الكاتب بهذه الحكاية؟ لمَ لمْ يذكره الكاتب، ولا سيما أن ذكره لا يستلزم محذوراً ولا حرَجاً لأحد، باعتبار أنها قصة قد خلتْ من ذِكر الأسماء وتعيين الأشخاص.

قال الكاتب: في حاشية له في هذا الموضع: وليس بغريب ولا عجيب، فإن بعض المنظومات كذا التي كنا نقرؤها تنص على ذلك نصاً لا شبهة له، ألم يقل الناظم: «وجائز نكاح الغلام الأمرد ....».


1- هنا حاشية له سيأتي الجواب عنها قريباً.

ص: 301

وأقول: بعد إطباق الشيعة بل كل المسلمين على حرمة اللواط كيف لا يكون فعل اللواط ممن ينتسب للعلم وأهله عجيباً وغريباً؟!

ثم ما هي هذه المنظومات التي قرأها الكاتب وتنصّ على جواز نكاح الغلام الأمرد؟ ومن كاتبها؟ وعمّن ينقل هذه الفتوى؟

والظاهر أن الكاتب نسي ما كتبه سابقاً في هذه المسألة، فإنه زعم أن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قال له: (لم أقف عليها- أي على الرواية- فيما قرأت). وقال هو نفسه: (ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول أن أجد مصدر تلك الرواية في كل ما قرأت وكلما وقع بيدي من كتب الأخبار فلم أعثر على مصدر لها).

وهو لم يذكر في هذا الموضع أو ذاك مصدراً واحداً لهذه الرواية المكذوبة، مع أنا نقلناها منسوبة إلى أبي حنيفة كما مرَّ، فراجع.

قال الكاتب: لقد رأينا الكثير من هذه الحوادث، وما سمعناه أكثر بكثير حتى أن صديقنا المفضال السيد عباس جمع حوادث كثيرة جداً، وَدوَّنَها بتفاصيلها وتواريخها وأسماء أصحابها، وهو ينوي إصدارها في كتاب أراد أن يسميه (فضائح الحوزة العلمية في النجف)، لأن الواجب كشف الحقائق للعوام من الشيعة أولئك المساكين الذين لا يعلمون ما يجري وراء الكواليس، ولا يعلمون ما يفعله السادة، فيرسل أحدهم امرأته أو بنته أو أخته لغرض الزيارة، أو لطلب الولد، أو لتقديم (مراد للحسين) فيستلمها السادة وخاصة إذا كانت جميلة ليفجروا بها ويفعلوا بها كل منكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأقول: لا ندري كيف تسنَّى للكاتب وهو من العلماء القدامى بزعمه الذين نالوا درجة الاجتهاد (بتفوق) أن يرى الكثير من حوادث اللواط؟

ص: 302

هل كان أحد أطراف تلك الحوادث؟

أو كان يُدعى في كل جلسة للشهادة؟

أو أن التوفيق كان يحالفه في الاطلاع على هذه الحوادث؟

أو أن طلبة العلم يلوطون ويُلاط بهم في الطرقات والأزقة بحيث تسنَّى للكاتب أن يطلع عليها كغيره من الناس؟

هذه أسئلة تحتاج من الكاتب إلى جواب مقنع!!

ثم إن (صديقه المفضال السيد عباس) كيف تأتّى له أيضاً معرفة هذه الحوادث والوقوف عليها حتى استطاع أن يجمع كتاباً في حوادث اللواط التي رآها بنفسه، وسجَّلها بتواريخها وأسماء أصحابها؟

ولا أدري هل يعتقد مدَّعي الاجتهاد والفقاهة وذلك السيد المفضال أنه يجوز لهما أن يكتبا كتاباً مشتملًا على أمثال هذه القضايا التشهيرية بالأسماء والتواريخ على فرض صحَّتها ووقوعها؟

وعلى كل حال فالذي نعتقده أن ذِمَم القوم واسعة، وأنهم يمكنهم أن يلفِّقوا قضايا مكذوبة ويلصقوها بالأبرياء من الشيعة، فإن هذا هو ديدنهم، وهذه هي طريقتهم التي تلقوها من أسلافهم.

فهنيئاً لهم بمذاهبهم التي لا تنهض إلا بقذف الأبرياء، ولا يمكن تشييدها إلا باختلاق الحوادث وافتراء الأكاذيب التي عجزوا عن إثباتها بدليل صحيح، فصارت عاراً عليهم في الدنيا، وخزياً لهم في الآخرة.

ثم هل من يرسل ابنته أو زوجته أو أخته لغرض الزيارة يسلّمها إلى السادة ليعبثوا بها؟ هل يتصور هذا الكاتب أن أعراض الناس يسهل تناولها بكل هذه البساطة؟ وهل يظن أن النساء دُمى يُتَصرَّف فيهن وهن لا يدفعن يد لامس؟

وعلى كل حال، فأمثال هذا الكلام غير مستغرب ممن تجمدت عقولهم مئات

ص: 303

السنين، وعاشوا على فتات أكاذيب ابن تيمية وأضرابه ممن يستحلون اتهام الشيعة بماشاؤوا، لا يردعهم رادع، ولا يمنعهم مانع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إن مذهباً يعتمد على الأكاذيب والافتراءات في الأعراض

لحرب خصمه لا يمكن أن يكون حقاً وليس حَرِياً بالاتباع

ص: 304

الخمس

قال الكاتب: إن الخمس استُغِلَّ هو الآخر استغلالًا بَشعاً من قبَلِ الفقهاء والمجتهدين، وصار مورداً يُدرُّ على السادة والمجتهدين أموالًا طَائلة جداً، مع أن نصوص الشرع تدل على أن عَوام الشيعة في حِل من دَفع الخمس، بل هو مباح لهم لا يجب عليهم إخراجه، وإنما يتصرفون فيه كما يتصَرفون في سائر أموالهم ومكاسبهم، بل إن الذي يدفع الخمس للسادة والمجتهدين يعتبر آثماً لأنه خالف النصوص التي وردت عن أمير المؤمنين، وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم.

وأقول: لقد بدا واضحاً لأهل السنة أن الخمس له دور بارز في قوةالشيعة واستقلالهم واستقلال علمائهم عن أن يكونوا تابعين لسلاطين الجور كما هو حال علماء أهل السنة منذ عصر الخلفاء الأوائل إلى هذا اليوم.

ولهذا حرص من كتب في نقد عقائد الشيعة على محاولة إبطال مشروعية الخمس، وتحريض الشيعة على الكف عن دفع الخمس إلى العلماء، لمحاولة جر البساط من تحت أقدام علماء الشيعة الذين كانوا وما يزالون يكتسبون القوة المالية من جهةالخمس.

ص: 305

وما محاولات الكاتب اليائسة إلا واحدة من محاولات عديدة باءت بالفشل الذريع، وانتهت بالخيبة والخسران بحمد الله ونعمته.

وسيلاحظ القارئ العزيز أن الكاتب قد فشلت كل مساعيه مع أنه رمى كل سهم في كنانته، وقذف كل حجر في جُعْبته، فصار يخبط خبط عشواء، ويتخبط في الظلمات على غير هدى.

وسيتضح من خلال ردِّنا على مزاعمه الفاسدة أن الخمس يجب دفعه على سائر المكلفين من أرباح المكاسب وأرباح التجارات وغيرها مما هو مذكور في محلِّه.

قال الكاتب: وحتى يقف القارئ اللبيب على حقيقة هذا الخمس وكيفية التصرف فيه سنستعرض موضوع الخمس، وتطوره تاريخياً وندعم بذلك نصوص الشرع، وأقوال الأئمة وفتاوى المجتهدين الذين يُعْتَدُّ بهم، وَيُعَوَّلُ على كلامهم:

1- عن ضريس الكناني (1) 475 قال أبو عبد الله رضي الله عنه: من أين دخل على الناس الزنا؟ قلت: لا أدري جُعلْتُ فداك، قال من قبَلِ خُمْسنا أهل البيت إلا شيعتنا الطيبين فإنه مُحَلَّلٌ لهَم لميلادهم. أصولَ الكَافي 2/ 502 شرح الشيخ مصطفى.

وأقول: قال المازندراني رحمه الله في شرح الحديث:

قوله: (قال من قبل خمسنا) لا يجوز لغير الشيعة أن يطأ الأمة التي سباها المقاتل بغير إذن الإمام، ولا أن يشتريها، ولا أن يجعل مهور النساء من منافع أنواع الاكتساب، لدخول حق الإمام في جميع ذلك، بل بعضها بالتمام حقّه، فلو فعل كان غاصباً وزانياً، وجرى في الولد حكم ولد الزنا عند الله تعالى، وجاز جميع ذلك للشيعة قبل إخراج حقه وحق مشاركيه من الهاشميين بإذنه، ليطيب فعلهم، وتزكو


1- بل هو (الكناسي) لا الكناني.

ص: 306

ولادتهم (1) 476.

وقال صاحب الجواهر قدس سره:

في عباراتهم نوع اختلاف بالنسبة للمباح، هل هو الأنفال، أو الخمس، أو الأعم، بل وفي أنه المناكح خاصة، أو هي والمتاجر والمساكن؟ (2) 477 ثم ذكر أقوال جملة من العلماء الماضين قدَّس الله أسرارهم، ثم قال: وفي السرائر بعد أن ذكر الأنفال وأنها للنبي صلى الله عليه وآله ثم للقائم مقامه، قال: (فأما في حال الغيبة وزمانها واستتاره عليه السلام من أعدائه خوفاً على نفسه، فقد رخَّصوا لشيعتهم التصرّف في حقوقهم مما يتعلق بالأخماس وغيرها مما لا بدَّ لهم منه من المناكح والمتاجر، والمراد بالمتاجر أن يشتري الإنسان مما فيه حقوقهم عليهم السلام ويتَّجر في ذلك، فلا يتوهَّم متوهِّم أنه إذا ربح في ذلك المتجر شيئاً لا يخرج منه الخمس، فليُحصَّل ما قلناه فربما اشتبه. والمساكن، فأما ما عدا الثلاثة الأشياء فلا يجوز التصرف فيه على حال) إلى آخره. وتبعهم في هذا التعبير وهذا الإجمال جماعة من المتأخرين بل جميعهم (3) 478.

قلت: المناكح إما أن تحصل بملك اليمين أو بالتزويج، وملك اليمين إما أن يحصل بالسبي أو بالشراء، فإن حصل بالسبي بغير إذن الإمام عليه السلام، فالجواري ملك طِلْق للإمام عليه السلام، والإمام لا يبيح لغير الشيعة وطأهنَّ، فمن وطأهن من غيرهم فإن وطأه لهن سفاح.

وإن حصل ملك اليمين بالشراء، فلا ريب في أن خمس المال الذي دُفع ثمناً للجارية هو للإمام عليه السلام، لأنه من أرباح المكاسب، وهذا يستلزم أن تكون الجارية مشتركة بين الإمام عليه السلام وبين المشتري، وحيث إنه لا يجوز لأحد الشريكين أن يطأ


1- شرح أصول الكافي 7/ 411.
2- جواهر الكلام 16/ 145.
3- جواهر الكلام 16/ 147.

ص: 307

الجارية المشتركة إلا بإذن الآخر، فإن الإمام عليه السلام لم يأذن لغير شيعته بذلك، فمن وطأها من غير الشيعة فإن وطأه أيضاً سفاح.

وأما إن حصلت المناكح بالتزويج فإن الأموال التي تُدفع منها المهور قد تعلق بها الخمس لا محالة، لأنها من أرباح المكاسب أيضاً، فتكون مشتركة بين الإمام وبين أصحابها، والإمام عليه السلام لا يجيز التصرف فيها لغير شيعته، فتكون المهور المأخوذة منها مغصوبة.

والظاهر أن المراد بالزنا في الحديث هو الزنا المجازي الوارد في بعض الأحاديث الدالة على أن لكل عضو حظاً من الزنا، فالعين زناها النظر، والأذن زناها السمع، واللسان زناه الكلام ... وهكذا (1) 479.

وإلا فلا ريب في أن كل أولئك لا يمكن أن يكونوا زناة حقيقة، وذلك لأن نكاحهم إن كان باطلًا فوطؤهم وطء شبهة كما لا يخفى.

ويرشد إلى ما قلناه وصف الشيعة في الحديث بأنهم الأطيبون، فإن فيه إشعاراً بأن غيرهم طيِّب، ولكن الشيعة أطيب.

والحاصل أن الذي يقتضيه الجمع بين أحاديث الإباحة وأحاديث التغليظ في


1- أخرج مسلم في صحيحه 4/ 2046، 2047 بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مُدْرِكٌ ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطَا، والقلب يهوى ويتمنى، ويُصدِّق ذلك الفرجُ ويُكذِّبه. وروي بألفاظ متقاربة في مصادر كثيرة، فراجع: صحيح البخاري 4/ 1964، 2068. المستدرك 1/ 55، 2/ 470 وصحَّحه الحاكم على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي. سنن أبي داود 2/ 246، 247. صحيح ابن حبان 10/ 267- 270. مسند أحمد 2/ 276، 317، 344، 349، 372، 379، 411، 431، 528، 535، 536. السنن الكبرى للبيهقي 7/ 89. السنن الكبرى للنسائي 6/ 473. مجمع الزوائد 6/ 256. شعب الإيمان 4/ 365- 366. الترغيب والترهيب 3/ 8- 9. شرح السنة للبغوي 1/ 137- 138.

ص: 308

لزوم دفع الخمس هو أن المراد بإباحتها للشيعة إباحة التصرف لهم فيها ثم إخراج خمسها، لا إسقاط الخمس الواجب عليهم فيها.

قال الكاتب: 2- عن حكيم مؤذن بن عيسى قال: سألتُ أبا عبد الله عن قوله تعالى:

وَاعْلَمُوا أَنما غنِمْتُم مِن شيْ ءٍفَأنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى

(الأنفال/ 41) فثنى أبو عبد الله رضي الله عنه بمرفقيه على ركبتيه ثم أشار بيده فقال: (هي والله الإفادة يوماً بيوم إلا أن أبي جعل شيعته في حِلٍّ ليزكوا). الكافي 2/ 499.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها محمد بن سنان، وهو ضعيف، وقد مرَّ بيان ضعفه.

ومن جملة رواة الحديث حكيم مؤذن بن عيسى كما في الكافي، أو حكيم مؤذن بني عبس كما في التهذيب والاستبصار، وهو مجهول الحال، لم يوثَّق في كتب الرجال.

وعليه فالرواية لا يعوَّل عليها ولا يؤخذ بها.

ومع الإغماض عن ضعف سندها فهي كسابقتها دالة على أن الإمام الباقر سلام الله عليه قد أباح لشيعته أن يتصرفوا في أموالهم التي تعلق بها الحق الشرعي في مناكحهم قبل إخراج الخمس منها، ويكون تصرفهم حينئذ جائزاً لهم.

قال المازندراني في شرح الحديث:

قوله: (هي والله الإفادة) دلَّ على أن الغنيمة تطلق على ما يستفاد بالاكتساب، وهي بهذا المعنى أعم منها بالمعنى المصطلح، وهو ما حازه المسلمون من أموال أهل الحرب إذا حواها العسكر، والمقصود أن ما استفيد بالاكتساب على أنواعه من التجارة والزراعة والصناعة وغيرها داخل الغنيمة، ويجب فيه الخمس.

إلى أن قال: وفي قوله عليه السلام: (إلّا أن أبي جعل شيعته في حل ليزكوا) دلالة

ص: 309

واضحة على أنه يجوز للشيعي أن يجعل منافع الاكتساب مهراً للزوجة وثمناً للجارية قبل إخراج الخمس مطلقاً كما هو المشهور بين الأصحاب، والمخالف نادر (1) 480.

قال الكاتب: 3- عن عمر بن يزيد قال: رأيت مسلماً بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله تلك السنة مالًا، فَرَدَّهُ أبو عبد الله .. إلى أن قال: يا أبا سيار قد طيبناه لك، وأحللناك منه، فضُمَّ إليك مالك، وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا. أصول الكافي 2/ 268.

وأقول: قال المازندراني في شرح الحديث:

قوله (يا أبا سيار قد طيَّبناه لك) دلَّ على أن الإمام لا يجب عليه قبول الخمس، وله الإبراء، كما كان ذلك لكل ذي حق.

إلى أن قال: قوله: (وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلَّلون حتى يقوم قائمنا عليه السلام) أشار هنا بعدما ذكر أن الأرض كلها لهم إلى أن شيعتهم في حِلٍّ من التصرف فيها وفي حاصلها ومن خراجها، حتى يظهر القائم عليه السلام، فيأخذ منهم خراجها ويتركها في أيديهم (2) 481.

قلت: وبعبارة أوضح: إن الإمام الصادق عليه السلام قد أبرأ أبا سيار من حقّه في أمواله، والإمام لا يجب عليه أخذ الخمس، بل يجوز له أن يبرئ من شاء مما شاء من حقّه.

وإبراء الإمام عليه السلام أبا سيار من حقه المعيَّن لا يدل على إبراء غيره من الخمس في كل شي ء، ولهذا قال عليه السلام: (قد طيبناه لك) خاصة. ولم يقل: طيبناه لكم.

(3) 482


1- شرح أصول الكافي 7/ 407.
2- المصدر السابق 7/ 37.
3- الشيخ علي آل محسن، لله و للحقيقة (رد علي كتاب «لله ثم للتاريخ»)، 1جلد، نشر مشعر - تهران، چاپ: 1، 1424 ه. ق..

ص: 310

وأما قول الإمام عليه السلام: (وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلَّلون حتى يقوم قائمنا)، فهو مخصوص بالأراضي فقط دون غيرها من الأموال، فأجاز عليه السلام لهم التصرُّف فيها، وأخذ حاصلها وخراجها، لكنه عليه السلام لم يُسقط عنهم خمس حاصلها وخمس أموالهم الأخرى كما هو واضح.

قال الكاتب: 4- عن محمد بن مسلم عن أحدهما رضي الله عنه: قال: إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولاداتهم ولتزكو ولاداتهم. أصول الكافي 2/ 552.

وأقول: هذه الرواية ضعيفة السند، فإن من جملة رواتها محمد بن سنان، وقد مرَّ بيان ضعفه.

ومن جملة الرواة صباح الأزرق، وهو مجهول الحال، لم يوثَّق في كتب الرجال.

وقد مرَّ بيان معنى تطييب الخمس للشيعة لتطيب ولاداتهم وتزكو، وأوضحنا أنه ليس المراد بذلك إسقاط الخمس عنهم بالكلية، فراجع ما قلناه.

قال الكاتب: 5- عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: (إن الناس كلهم يعيشون في فضل مظلتنا (1) 483 إلا أَنَّا أحللنا شيعتنا من ذلك) من لا يحضره الفقيه 2/ 243.

وأقول: هذه الرواية رواها الصدوق في كتابه (من لا يحضره الفقيه) بسنده إلى داود بن كثير الرقي، وطريق الصدوق إليه ضعيف.

قال الأردبيلي في جامع الرواة في بيان طرق كتاب الفقيه: وإلى داود الرقي: فيه


1- كذا في نسخة الكتاب، والصحيح كما في المصدر: مظلمتنا.

ص: 311

الحسين بن أحمد بن إدريس رضي الله عنه، ولم يوثَّق، وعبد الله بن أحمد الرازي، ولم يذكره غير (صه) (1) 484 بأن عنده فيه توقف، وجرير بن صالح، وهو غير مذكور (2) 485.

وقال الخوئي: وكيف كان فطريق الصدوق إليه: الحسين بن أحمد بن إدريس رضي الله عنه، عن أبيه، عن محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد الرازي، عن جرير بن صالح، عن إسماعيل بن مهران، عن زكريا بن آدم، عن داود بن كثير الرقي، والطريق ضعيف، فإن فيه مجاهيل (3) 486.

وعليه، فالرواية ضعيفة السند.

وأما من جهة متن الرواية فقد أوضحنا المراد بتحليل الشيعة، وعدم دلالته على إسقاط الخمس عنهم، فراجعه فيما مرَّ.

قال الكاتب: 6- عن يونس بن يعقوب قال: كنتُ عند أبي عبد الله رضي الله عنه فدخل عليه رجل من القناطين فقال: (جُعِلُتُ فداك، تقع في أيدينا الأرباح والأموال والتجارات، ونعرف أن حقكم فيهَا ثابت، وأنّا عن ذلك مقصرون، فقال رضي الله عنه: ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك) من لا يحضره الفقيه 2/ 23.

وأقول: هذا الحديث رواه الشيخ الصدوق عن يونس بن يعقوب، وهو وإن كان ثقة إلا أن طريق الصدوق إليه ضعيف، فإن فيه الحكم بن مسكين، وهو لم يثبت توثيقه في كتب الرجال.

قال الأردبيلي في جامع الرواة في بيان طرق كتاب من لا يحضره الفقيه: وإلى


1- أي العلّامة الحلي في رجاله المعروف بالخلاصة.
2- جامع الرواة 2/ 534.
3- معجم رجال الحديث 7/ 126.

ص: 312

يونس بن يعقوب، فيه الحكم بن مسكين (1) 487.

والنتيجة أن الرواية ضعيفة السند.

ومع الإغماض عن سند الرواية فهي واضحة الدلالة على أن الخمس يجب إخراجه على الشيعة، وذلك لأن القناط قال: تقع في أيدينا الأرباح والأموال والتجارات، ونعرف أن حقكم فيها ثابت، وإنّا عن ذلك مقصِّرون.

وقوله فيه دلالة واضحة على أن وجوب الخمس وإخراجه من أرباح الأموال والتجارات كان مرتكزاً عند الشيعة، متسالماً عليه بينهم.

والإمام عليه السلام لم ينكر عليه قوله، وإنما قال له: ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم.

يعني أنا لو كلَّفناكم بإخراجه فوراً من غير تأخير لما كنا منصفين معكم، إذ قابلناكم بالشدَّة في أخذ حقّنا منكم وعدم الإمهال، مع أنكم كنتم تقابلوننا بالمحبة والمودّة والموالاة.

والحديث بالمعنى الذي أوضحناه لا يدل على إسقاط الخمس عن الشيعة، بل يدل على عكس ذلك كما هو واضح.

ومن خيانات الكاتب أنه أسقط كلمة (اليوم) من ذيل الحديث، فإن الوارد فيه هو قوله: (ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم) على ما رواه الصدوق في (من لا يحضره الفقيه)، والشيخ الطوسي في (الاستبصار) (2) 488. ولكن غرض الكاتب هو بيان تحليل الخمس للشيعة مطلقاً لا ذلك الوقت فقط، ولهذا أسقط كلمة (اليوم) حتى يلتئم الحديث مع مراده، فتأمل في أساليب القوم للوصول إلى أهدافهم غير المشروعة.


1- جامع الرواة 2/ 542.
2- من لا يحضره الفقيه 2/ 28. الاستبصار 2/ 59. وسائل الشيعة 6/ 380.

ص: