فی ظلال التوحید: دراسه مبسطه حول التوحید و الشرک و تحدید معالمها

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : فی ظلال التوحید: دراسه مبسطه حول التوحید و الشرک و تحدید معالمها/ تالیف جعفر السبحانی

مشخصات نشر : دارمشعر، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : ص 712

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه: ص. [681] - 697؛ همچنین به صورت زیرنویس

عنوان دیگر : دراسه مبسطه حول التوحید و الشرک و تحدید معالمها

موضوع : توحید -- جنبه های قرآنی

موضوع : شرک -- جنبه های قرآنی

رده بندی کنگره : BP104/ت9س24 1379

رده بندی دیویی : 297/159

شماره کتابشناسی ملی :

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

ص:6

مقدمات التحقيق

كلمة الناشر:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و به نستعين و عليه نتوكل

و الحمد للَّه ربّ العالمين، و الصَّلاة و السلام على سيد رُسُله و خاتم أنبيائه و آله و من سار على خطاهم و تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

لقد اهتم المسلمون- و منذصدر الإسلام- اهتماماً بالغاً بالتوحيد لأنّه يشكِّل حجر الزاوية في سلوكهم و مناراً يضي ءُ دربهم و زاداً لمعادهم.

و لهذا كرّسَ رسُولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم جهوده في الفترة المكيّة من حياته الرساليّة لإرساء أُسس التوحيد الخالص، و مكافحة الشرك و الوثنيّة، ثمّ بنى عليها في الفترة المدنيّةصَرحَ النظامِ الأخلاقي و الاجتماعي و الاقتصادي و السياسيّ.

و لهذا- و نظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميِّة الكريمة دراسات عقائدية- حول التوحيد و الشرك- مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، و السُّنّةِ الشريفة الصحيحة، و العقل السليم، و ما اتَّفق عليه علماءُ الأُمّةِ الكرام، و اللَّه الموفِّق.

معاونيّة شئون التعليم و البحوث الإسلاميّة في الحجّ

ص:7

في ظلال التوحيد و نبذ الشرك

مقدّمة المؤلف:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

في ظلال التوحيد و نبذ الشرك

التوحيد و نبذ الشرك من أهمّ المسائل الاعتقاديّة التي تصدّرت المفاهيمَ و التعاليمَ السماويّة، و يُعدُّ أساساً للمعارف العليا التي جاء بها سفراؤه سبحانه و أنبياؤه.

إنّ للتوحيد مراتب متعدّدة النظير:

أ: التوحيد في الذات: إنّه واحد لا ثاني و لا نظير له.

ب: التوحيد في الخالقية: إنّه لا خالق للكون إلّا اللَّه سبحانه.

ج: التوحيد في الربوبيّة: إنّه لا مدبّر للعالم سواه.

د: التوحيد في العبادة: إنّه لا معبود إلّا هو.

إلى غير ذلك من مراتب التوحيد المطروحة في كتب العقائد.

و قد أولى الذكر الحكيم مزيداً من الاهتمام بالمرتبة الرابعة، أعني: التوحيد في العبادة، و لذلك نجد المسلمين يشهدون خلالصلواتهم اليوميّة بالتوحيد في العبادة، حيث يتلون قوله سبحانه: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» و بالتالي أصبح التوحيد في العبادة شعاراً للمسلمين، و لا يدخل أحد حظيرة الإسلام إلّا بالاعتقاد به، و تطبيق العمل

ص:8

على وفقه، فمن رفضه اعتقاداً أو خالفه عملًا فهو مشرك و ليس بمسلم.

إنّه سبحانه يركّز على أنّ الهدف من وراء بعث الأنبياء هو دعوة الناس إلى التوحيد في العبادة، و نبذ عبادة الطاغوت، يقول سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» «(1)».

إنّه سبحانه جعل التوحيد في العبادة أصلًا مشتركاً بين الشرائع السماويّة التي أنزلها على المصطفين من عباده، و أمر النبيّصلى الله عليه و آله أن يدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بينه و بينهم ألا و هي التوحيد في العبادة، و قال: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» «(2)».

إنّ الحدّ الفاصل بين الموحد و المشرك هو أنّ الموحّد يستبشر بذكر اللَّه سبحانه خلافاً للمشرك الذي يستبشر بذكر غيره.

قال سبحانه: «وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» «(3)».

نعم هذا هو حال المشرك فهو يستكبر عن عبادته سبحانه، كما يقول تعالى:

«إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ» «(4)».

فعلى ضوء ذلك فلا اختلاف بين المسلمين في التوحيد في العبادة، و هو أصل اتّفقت عليه كافّة مذاهبهم، غير أنّ هناك موضوعات ربّما يتصوّر أنّها من مقولة العبادة لغيره سبحانه أو من مصاديق البدعة، فهذا و ذاك دعانا إلى طرح


1- النحل: 36.
2- آل عمران: 64.
3- الزمر: 45.
4- الصافات: 35.

ص:9

الموضوعات التالية على طاولة البحث.

1- العبادة حدّها و مفهومها.

2- البدعة و آثارها الموبقة.

3- الزيارة في الكتاب و السنّة.

4-صيانة الآثار الإسلامية.

5- الحياة البرزخيّة.

6- الشفاعة في الكتاب و السنّة.

7- التوسّل مفهومه و أقسامه و حكمه.

و في الختام، أودّ أن أشير إلى نكتة جديرة بالاهتمام و هي أنّ الفهم الخاطئ للمسائل المطروحة بات مانعاً أمام وحدة المسلمين، و رصّصفوفهم، و توحيد كلمتهم، التي هي أمنية كلّ المصلحين الذين يحملون هموم الأمّة.

و انطلاقاً من ذلك، فقد آثرنا دراستها على ضوء الكتاب و السنّة بعبارات واضحة لا لُبس فيها يفهمها الجميع، و بلغة هادئة من دون أن تُثير حفيظة الآخرين، و أظنّ أنّ القارئ الكريم يشاطرني الرأي في ذلك شريطة أن يتجرّد عن كلّ رأي مسبق، و أن يُنشد الحقيقة التي هي أولى بالاتباع.

و آخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

جعفر السبحاني

قم- مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

24صفر المظفّر من شهور عام 1412 ه. ق.

ص:10

ص:11

الفصل الأوّل: العبادة حدّها و مفهومها

اشارة

ص:12

ص:13

تمهيد

اشارة

العبادة من الموضوعات التي تطرّق إليها الذكر الحكيم كثيراً. و قد حثَّ عليها في أكثر من سورةٍ و آية و خصَّها باللَّه سبحانه و قال: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» «(1)» و نهى عن عبادة غيره من الأنداد المزعومة و الطواغيت و الشياطين، و جعلها الأصل الأصيل بين الشرائع السماوية و قال: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» «(2)» كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» «(3)».

فإذا كان لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة فجدير بالباحث المسلم أن يتناولها بالبحث و التحقيق العلمي، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميّزاً منطقياً.


1- الإسراء: 23.
2- آل عمران: 64.
3- النحل: 36.

ص:14

و الذي يُضفي على الدراسة أهمية أكثر، هو أنّ التوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه، ثمّ عقد القلب عليه، و التحرّر عن أيّ لون من ألوان الشرك. فلا تُنال تلك الأُمنيةُ في مجالي العقيدة و العمل إلّا بمعرفة الموضوع معرفةصحيحة، مدعمة بالدليل حتّى لا يقع في مغبَّة الشرك، و عبادة غيره سبحانه.

و رغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها، و حدّها الذي يُفصله عن التكريم و التعظيم أو الخضوع و التذلّل، و كأنَّ السلف (رضوان اللَّه عليهم) تلقّوها مفهوماً واضحاً، و اكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم.

و لوصحّ ذلك فإنّما يصحّ في الأزمنة السالفة، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناسِ أمر ادّعاء الشرك في العبادة، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين و الصحابة فأصبح- بادّعائهم- كلّ تعظيم و تكريم للنبيّ، عبادة له، و كلّ خضوع أمام الرسول شركاً، فلا يلتفت الزائر يميناً و شمالًا في المسجد الحرام و المسجد النبوي إلّا و توقر سمعه كلمةُ «هذا شرك يا حاج» و كأنّه ليس لديهم إلّا تلك اللفظة، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلّا بذلك.

فاللازم على هؤلاء- الذين يعدّون مظاهر الحبّ و الودّ، و التكريم و التعظيم شركاً و عبادة- وضع حدٍّ منطقيّ للعبادة، يُميَّز بها، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاصي العالم و أدانيه، ضابطة كلّية في المشاهد و المواقف، و لكن- و للأسف- لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة و تبيينها في كتبهم و نشرياتهم و دورياتهم.

فلأجل ذلك قمنا في هذا الفصل، بمعالجة هذا الموضوع، بشرح مفهومها لغة و قرآناً، حيث بيّنّا أنّ حقيقة الشرك في تعاليم الأنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم و كتب اللّغة.

ص:15

تخصيص العبادة و الاستعانة باللَّه سبحانه

إنّ المسلم في شرق الأرض و غربها، يخصّ العبادة و الاستعانة باللَّه سبحانه في كلّ يوم فيصلواته الخمس فيقول: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» «(1)» و لا خلاف بين المسلمين في هذه الضابطة الكلّية، أي أنّ العبادة مختصّة باللَّه سبحانه، و لا يصحّ إصدار هويّة إسلامية لشخص إلّا بعد الاعتراف بهذه الكُبرى، و إنّما الخلاف بينهم في بعض الأُمور و الأحوال الخارجية، فهل هي عبادة أو لا؟ فلوصحّت كونها عبادة، فلا يجوز الإتيان بها لغيره سبحانه و إن أتى بها لغيره يُعدّ مشركاً.

مثلًا تقبيل الأضرحة هل هو عبادة لصاحب القبر أو تكريم و تعظيم له؟

و هكذا الصلاة في المشاهد و عند قبور الأنبياء، فهل هي عبادة لصاحب القبر (و إن كانت الصلاة للَّه) أو هي عبادة للَّه و لكن تتضمّن التبرّك بصاحب القبر؟

و مثل ذلك مسألة الاستعانة في نفس الآية، فمع الاعتراف بحصر الاستعانة باللَّه سبحانه، فلا شكّ عند العقلاء عامّة أنّه تجوز الاستعانة بالأحياء في الأُمور الدنيوية، و لكن إذا استعان بإنسان حيّ فيما يرجع إلى الأُمور الغيبية، كردّ ضالته


1- سورة الفاتحة: 6.

ص:16

و برء مرضه، فهل هو استعانة تخالف الحصر المذكور في الآية أو لا؟

و هناكصورة ثالثة أبهم من الصورة الثانية و هي: إذا استعان بميّت بنحو من الأنحاء كما إذا طلب منه الدعاء و الاستغفار في حقّه، فهل هي استعانة تخالف الحصر أو لا؟ و قس على ذلك بعض ما يرد عليك من الصور المردّدة بين العبادة و التكريم، أو بين الاستعانة الجائزة و المحرّمة.

و لأجل أن يكون البحث أكثر علمية و موضوعية علينا أوّلًا البحث في مسألتين:

1- تحديد مفهوم العبادة حتى تتميّز عن التكريم و التبجيل و التبرّك.

2- تحديد الاستعانة المختصة باللَّه و فصلها عن الاستعانة الجائزة.

كلّ ذلك في ضوء القرآن الكريم.

ص:17

المسألة الأُولى: مفهوم العبادة و حدّها

اشارة

بالرغم من عناية اللغويين و المفسّرين بتفسير لفظ العبادة و تبيينها، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل، و ذلك لأنّهم فسّروه بأعمّ المعاني و أوسعها و ليس مرادفاً للعبادة طرداً و عكساً.

1- قال الراغب في المفردات: «العبودية: إظهار التذلّل، و العبادة أبلغ منها؛ لأنّها غاية التذلّل، و لا يستحقّ إلّا من له غاية الإفضال و هو اللَّه تعالى و لهذا قال:

«وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ...»».

2- قال ابن منظور في لسان العرب: «أصل العبودية: الخضوع و التذلّل».

3- قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط: «العبادة: الطاعة».

4- قال ابن فارس في المقاييس: «العبد: الذي هو أصل العبادة، له أصلان متضادّان، و الأوّل من ذينك الأصلين، يدلّ على لين و ذلّ، و الآخر على شدّة و غلظ».

هذه أقوال أصحاب المعاجم و لا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير و هم يفسّرونه بنفس ما فسّر به أهل اللغة، غير مكترثين بأنّ تفسيرهم، تفسير لها

ص:18

بالمعنى الأعمّ.

1- قال الطبري في تفسير قوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» اللّهمّ لك نخشع و نذلّ و نستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّ العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة و إنّها تسمّي الطريق المذلّل الذي قد وطئته الأقدام و ذلّلته السابلة معبَّداً، و من ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج: معبَّد، و منه سمّي العبد عبداً، لذلّته لمولاه «(1)».

2- قال الزجاج: معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع، يقال: هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلًا لكثرة الوطء، و بعير معبّد إذا كان مطلياً بالقطران، فمعنى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ»:

إياك نطيع، الطاعة التي نخضع منها «(2)».

3- و قال الزمخشري: العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلّل، و منه ثوب ذو عبدة؛ أي في غاية الصفاقة، و قوة النسج، و لذلك لم تستعمل إلّا في الخضوع للَّه تعالى لأنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع «(3)».

4- قال البغوي: العبادة: الطاعة مع التذلّل و الخضوع و سمّي العبد عبداً لذلّته و انقياده يقال: طريق معبّد، أي مذلّل «(4)».

5- قال ابن الجوزي: المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال:

أ- بمعنى التوحيد «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» عن علي و ابن عباس.

ب- بمعنى الطاعة كقوله تعالى «لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ» «(5)».

ج- بمعنى الدعاء «(6)».


1- تفسير الطبري 1: 53، ط دار المعرفة، بيروت.
2- معاني القرآن 1: 48.
3- الكشاف 1: 10.
4- تفسير البغوي 1: 42.
5- سورة مريم: 44.
6- زاد المستنير 1: 12.

ص:19

6- قال البيضاوي: العبادة أقصى غاية الخضوع و التذلّل، و منه الطريق المعبّد؛ أي مذلّل، و ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفاقة، و لذلك لا تستعمل إلّا في الخضوع للَّه تعالى «(1)».

و سيأتي أنّ تفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالأخصّ؛ إذ لا تشترط فيصدقها غاية الخضوع، و لذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به أبناء الدنيا أمام اللَّه سبحانه عبادة، و إن لم يكن بصورة غاية التعظيم، و ربّما يكون تفسيراً بالأعمّ؛ فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته و لا يكون عبادة.

7- و قال القرطبي: «نَعْبُدُ»، معناه نطيع، و العبادة: الطاعة و التذلّل، و طريق معبّد إذا كان مذلّلًا للسالكين «(2)».

8- و قال الرازي: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير، و هو مأخوذ من قولهم: طريق مُعبَّد «(3)».

و إذا قصّرنا النظر في تفسير العبادة، على هذه التعاريف و قلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للأفراد و مانعة للأغيار، لزم رَمي الأنبياء و المرسلين، و الشهداء و الصدّيقين بالشرك، و أنّهم- نستعيذ باللَّه- لم يتخلّصوا من مصائد الشرك، و لزم ألّا يصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. و ذلك لأنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها:

1- إظهار التذلّل.

2- إظهار الخضوع.

3- الطاعة و الخشوع و الخضوع.


1- أنوار التنزيل 1: 9.
2- جامع أحكام القرآن 1: 145.
3- مفاتيح الغيب 1: 242، في تفسير قوله تعالى:« إيّاكَ نعبدُ».

ص:20

4- أقصى غاية الخضوع.

و ليس على أديم الأرض من لا يتذلّل أو لا يخشع و لا يخضع لغير اللَّه سبحانه و إليك بيان ذلك:

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

إنّ الخضوع و التذلّل حتّى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة و لا يعدّ حداً منطقياً لها، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده، و التلميذ أمام أُستاذه، و الجنديُّ أمام قائده، ليس عبادة لهم و إن بالغوا في الخضوع و التذلّل حتّى و لو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين، فلا يعد عمله عبادة، لأنّ اللَّه سبحانه يقول: «وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» «(1)».

و أوضح دليل على أنّ الخضوع المطلق و إن بلغ النهاية لا يعدّ عبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم و قال: «وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» «(2)» و آدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له، مع أنّ الأول لم يكن عبادة و إلّا لم يأمر بها سبحانه، إذ كيف يأمر بعبادة غيره و في الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدم عليه السلام إلى الخاتمصلى الله عليه و آله، و لكن الثاني- أي الخضوع للَّه- عبادة.

و اللَّه سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّ الدعوة إلى عبادة اللَّه سبحانه، و النهي عن عبادة غيره، كانت أصلًا مشتركاً بين جميع الأنبياء، قال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» «(3)» و قال سبحانه: «وَ ما


1- الإسراء: 24.
2- البقرة: 34.
3- النحل: 36.

ص:21

أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» «(1)» و في موضع آخر من الكتاب يعدّ سبحانه التوحيد في العبادة: الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية، إذ يقول: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» «(2)»، و معه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ و هذا الإشكال لا يندفع إلّا بنفي كون الخضوع عبادة، ببيان أنّ للعبادة مقوّماً لم يكن موجوداً في سجود الملائكة لآدم.

و لم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه، بل يوسف الصدّيق كان نظيره؛ فقد سجد له أبواه و إخوته، و تحقّق تأويل رؤياه بنفس ذلك العمل، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف عليه السلام: «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» «(3)».

كما يحكي تحقّقه بقوله سبحانه: «وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» «(4)» و معه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته؟

إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت الذي ليس هو إلّا حجراً و طيناً، كما أمر بالسعي بين الصفا و المروة، قال سبحانه: «وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» «(5)» و قال سبحانه: «إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ


1- الأنبياء: 25.
2- آل عمران: 64.
3- يوسف: 4.
4- يوسف: 100.
5- الحج: 29.

ص:22

اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» «(1)».

فهل ترى أنّ الطواف حول التراب و الجبال و الحجر عبادة لهذه الأشياء بحجّة أنّه خضوع لها؟!

إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن و التعزّز على الكافر، قال سبحانه:

«فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» «(2)».

فمجموع هذه الآيات و جميع مناسك الحج يدلّان بوضوح على أنّ مطلق الخضوع و التذلّل ليس عبادة. و لو فسّرها أئمة اللغة بالخضوع و التذلّل، فقد فسّروها بالمعنى الأوسع، فلا محيص حينئذٍ عن القول بأنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع. و لو سُمّي في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة، فإنّما سُمّي من باب المبالغة و المجاز، يقول سبحانه: «أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» «(3)» فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة له، ضرب من المجاز.

و من ذلك يعلم مفاد قوله سبحانه: «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذاصِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» «(4)».

فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة و الصيام، و يترك الفرائض أو يشرب الخمر و يرتكب الزنا، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي؛ لا أنّه يعبده كعبادة اللَّه، أو كعبادة المشركين للأصنام، و لأجل ذلك لا يكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك، و خارجاً عن عداد المسلمين، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع الأعمّ من الحقيقي و المجازيّ.


1- البقرة: 158.
2- المائدة: 54.
3- الفرقان: 43.
4- يس: 60- 61.

ص:23

و ربما يتوسّع في إطلاق العبادة فتطلق على مطلق الإصغاء لكلام الغير، و في الحديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن اللَّه عزّ و جلّ فقد عبد اللَّه، و إن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» «(1)».

توجيه غير سديد

إنّ بعض من يفسّر العبادة بالخضوع و التذلّل عند ما يقف أمام هذه الدلائل الوافرة، يحاول أن يجيب و يقول: إنّ سجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب و أبنائه ليوسف، لم يكن عبادة له و لا ليوسف؛ لأنّ ذلك كان بأمر اللَّه سبحانه و لو لا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما.

و هذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق؛ لأنّ معنى ذلك أنّ أمر اللَّه يُغيّر الموضوع، و يبدل واقعه إلى غير ما كان عليه، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.

فلو نفترض أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك و المنافق فأمره سبحانه لا يخرج السبَّ عن كونه سباً، فلو كان مطلقُ الخضوع المتجلّي فيصورة السجود لآدم أو ليوسف عبادة، لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره، مع أنّها فحشاء بتصريح الذكر الحكيم لا يأمر بها سبحانه، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» «(2)».

و هناك تعاريف للعبادة لجملة من المحقّقين نأتي بها واحداً بعد الآخر:

1- نظريةصاحب المنار في تفسير العبادة
اشارة

إنّصاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل يبعده عن بعض ما ذكرنا، لذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة:


1- الكافي 6: 434.
2- الأعراف: 28.

ص:24

أ- العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدَّ النهاية.

ب- ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأها.

ج- و اعتقاده بسلطة لا يُدرَك كنهها و ماهيّتها «(1)».

يلاحظ على هذا التعريف:

أوّلًا: أنّ التعريف غير جامع، و ذلك لأنّه إذا كان مقوّم العبادة، الخضوعَ البالغَ حدّ النهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع و الخضوع التي يؤدّيها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة، و ربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من هؤلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبادة و جهداً.

و ثانياً: ما ذا يريد من قوله: «عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها»؟ فهل يعتقد أنّ الأنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود و لكن لا يعرفون منشأها. مع أنّ غيرهم يستشعر عظمة المعبود و يعرف منشأها، و هو أنّه سبحانه:

الخالق البارئ، المصوّر، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبّر.

و ثالثاً: ما ذا يريد من قوله: «و اعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها و ماهيتها»؟.

فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقّق العبادة، فلازم ذلك عدمصدقها على عبادة الأصنام و الأوثان، فإنّ عُبّاد الأوثان يعبدونها و كانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند اللَّه سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها و ماهيّتُها.

2- نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الأزهر

و قد عرّف شيخ الأزهر الأسبق العبادة بنفس ما عرّفهاصاحب المنار، و لكنّه يختلف عنه لفظاً و يتّحد معه معنىً، فقال: العبادة خضوع لا يحدُّ، لعظمة لا تحد «(2)».


1- تفسير المنار 1: 57.
2- تفسير القرآن الكريم: 37.

ص:25

و هذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً و إشكالًا، و ذلك أنّ العبادة ليست منحصرة في خضوع لا يحدّ بل الخضوع المحدّد أيضاً ربّما يعدّ عبادة، كما إذا كان الخضوع بأقلّ مراتبه. و كذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ؛ إذ ربّما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الأصنام، الذي كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند اللَّه.

3- تعريف ابن تيمية
اشارة

و أكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:

«العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه اللَّه و يرضاه من الأقوال و الأعمال الباطنية و الظاهرية كالصلاة و الزكاة و الصيام، و الحجّ، وصدق الحديث و أداء الأمانة، و برّ الوالدين وصلة الأرحام» «(1)».

و هذا الكاتب لم يفرّق- في الحقيقة- بين العبادة و التقرّب، و تصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى اللَّه، فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا اللَّه، و تستوجب ثوابَه لكنها قد تكون عبادة كالصوم و الصلاة و الحجّ، و قد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة، كالإحسان إلى الوالدين، و إعطاء الزكاة، و الخمس، فكلّ هذه الأُمور (الأخيرة) توجب القربى إلى اللَّه في حين لا تكون عبادة. و إن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها.

و بعبارة أُخرى: أنّ الإتيان بهذه الأعمال يعدّ طاعة للَّه و لكن ليس طاعة عبادة.

و إن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً عباديّة، و أُموراً قربيّة، و كلّ عبادة


1- مجلة البحوث الإسلامية، العدد 2: 187، نقلا عن كتاب العبودية: 38.

ص:26

مقرِّبة، و ليس كلّ مقرِّب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام، و العطف على اليتيم- مثلًا- توجب القرب، و لكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله للَّه تعالى.

و إذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين، كلّ يلازم الآخر.

التعريف الأوّل: العبادة هي الخضوع للشي ء بما أنّه إله
اشارة

إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة، و ربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها، غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الإمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين و المشركين، و قال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه: «وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ» «(1)» و قال سبحانه: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ» «(2)».

و قال في النهي عن عبادة غيره: «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً» «(3)» و قال: «أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ» «(4)»، فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقّة في أفعال العباد، و عقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين و عبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.

إنّ الإمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّ العبادة عندهم عبارة عن الفعل


1- يونس: 104.
2- الزمر: 11.
3- العنكبوت: 17.
4- الصافّات: 95.

ص:27

الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصّة في حقّ المخضوع له، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران:

1- الفعل المنبئ عن الخضوع و التذلّل.

2- العقيدة الخاصّة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الفعل، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع و التذلّل بأيّ مرتبة من مراتبها، كالتكلّم بكلام يؤدّي إلى الخضوع له أو بعمل خارجي كالركوع و السجود بل الانحناء بالرأس، أو غير ذلك مما يدلّ على ذلّته و خضوعه أمام موجود.

و أمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع و التذلّل فهي عبارة عن:

1- الاعتقاد بألوهيته.

2- الاعتقاد بربوبيته.

أمّا الأوّل فالألوهية منسوبة إلى اللَّه، و هو ليس بمعنى المعبود- و إن اشتهر في الألسن- بل كونه معبوداً من لوازم كونه إلها لا أنّه نفس معناه، بل الاله- كما يشهد عليه الذكر الحكيم- مرادف، للفظ الجلالة و يختلف معه في الكلّية و الجزئية، فالإله كلّي و لفظ الجلالة علم جزئي.

و توضيح ذلك أنّ الموحّدين عامة و الوثنيّين كلّهم، و عبدة الشمس و الكواكب يعتقدون بألوهية معبوداتهم؛ إمّا لكون المعبود إلهاً كبيراً أو إلهاًصغيراً، إمّا إلهاًصادقاً أو إلهاً كاذباً، فالاعتقاد بألوهية المعبود بهذا المعنى هو المقوّم لصدق العبادة.

و لأجل أنّه لا يستحق العبادة إلّا من كان إلهاً لذلك يؤكّد القرآنَ بأنّه لا إله إلّا اللَّه و مع ذلك فكيف تعبدون غيره؟

يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» «(1)».


1- الحجر: 96.

ص:28

«وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» «(1)».

«وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّا» «(2)».

«أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى» «(3)».

و حاصل الآيات أنّ غيره سبحانه لا يستحقّ العبادة؛ لأنّها من شئون الألوهيّة، و هي من خصائص اللَّه سبحانه لا غير، فيتحصّل من ذلك أنّ العبادة عبارة عن الخضوع أمام موجود للاعتقاد بأنّه إله حقيقيّ أو مجازيّ، و لو لا ذلك الاعتقاد لا يوصف الخضوع بالعبادة، و الشاهد عليه أنّ العاشق الولهان إذا خضع لمعشوقته، خضوعاً بالغاً لا يعدّ عبادة لها؛ لأنّه لم يصدر عن الاعتقاد بألوهيتها و أنّها إله، و إنّماصدر عن اعتقاد بأنّها جميلة تجذب الإنسان بنفسيّتها و جمالها.

و يدلّ على ما ذكرنا من أنّ دعوة المشركين و خضوعهم و نداءهم و سؤالهم كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أصنامهم، أنّه سبحانه يفسّر الشرك في بعض الآيات باتّخاذ إله مع اللَّه.

و يقول: «وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» «(4)».

و في بعض الآيات يندّد بالمشركين بأنّه ليس لهم إله غير اللَّه فكيف يعبدون غيره، و يقول: «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» «(5)».

و الإمعان في هذه الآيات و نظائرها يؤكد أنّ اندفاع المشركين إلى عبادة الأصنام أو اندفاع الموحّدين إلى عبادة اللَّه هو اعتقادهم بكونهم آلهة أو كونه إلهاً،


1- الفرقان: 68.
2- مريم: 81.
3- الأنعام: 19.
4- الحجر: 94- 96.
5- الطور: 43.

ص:29

فهذا الاعتقاد كان يدفعهم إلى العبادة، و لأجل ذلك كانوا يقدّمون لمعبوداتهم النذور و القرابين و غيرهما من التقاليد و السنن. و لمّا كانت كلمة التوحيد تهدِّم عقيدتهم بألوهية غيره سبحانه لذلك كانوا يستكبرون عند سماعها، كما قال سبحانه: «إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ» «(1)».

ثمّ إنّ الاعتقاد بألوهية الأصنام لا يلازم الاعتقاد بكون المعبود خالقاً للعالم حتّى يقال بأنّ المشركين في الجاهلية كانوا موحّدين في الخالقية، كما يدلّ على ذلك أكثر من آية. قال سبحانه:

«وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» «(2)».

إذ للألوهية شئون عندهم يقوم ببعضها الإله الأعلى كخلق السماوات و الأرض، و بعضها الآخر الآلهة المزعومة المتخيّلة عندهم، كغفران الذنوب و الشفاعة المطلقة المقبولة بلا قيد و شرط، و بما أنّ هذين الأمرين الأخيرين من شئون الإله الأعلى أيضاً و ليس للآلهة المزعومة فيها حظّ و لا نصيب، يركّز القرآن على إثباتهما للَّه سبحانه فقط و يقول: «وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» «(3)». و يقول: «قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» «(4)».

و في ضوء ذلك فالمشركون كانوا معتقدين بالإله الأعلى الأكبر، و في الوقت نفسه يعتقدون بآلهة شتّى ليس لهم من الشئون ما للإله الأعلى منها، و في الوقت نفسه كانت الآلهة عندهم مخلوقة للَّه سبحانه، مفوّضة إليهم بعض الشئون كما عرفت.


1- الصافات: 35.
2- الزخرف: 9.
3- آل عمران: 135.
4- الزمر: 44.

ص:30

ترادف الإله و لفظ الجلالة

إنّ الدليل الواضح على أنّ الإله يرادف لفظ الجلالة و لكن يفترق عنها بالجزئية و الكلّية الأُمور التالية:

أ- وحدة المادّة؛ إذ الأصل للفظ الجلالة هو الإله، فحذفت الهمزة و عوّض اللام، و لذلك قيل في النداء: «يا اللَّه، بالقطع كما يقال: يا إله» «(1)».

ب- الآيات التي استدلّ فيها على وحدة الإلهصريحة في أنّ المراد من الإله هو المتصرّف المدبّر، أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من ذلك، و لا يصحّ تفسير الإله بالمعبود و إلّا لفسد الاستدلال، و إليك الآيات الواردة في ذلك المجال:

1- «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» «(2)» فإنّ البرهان على نفي تعدّد الآلهة لا يتمّ إلّا إذا جعلنا «الإله» في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين، و لو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان لبداهة تعدّد المعبودين في هذا العالم، مع عدم فساد النظام الكوني و قد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة بل و مركزها مع انتظام العالم و عدم فساده.

و عندئذ يجب على من يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات- بالحقّ- لفسدتا، و لمّا كان المعبود بالحقّ مدبراً أو متصرّفاً لزم من تعدّده فساد النظام، و هذا كلّه تكلّف لا مبرّر له.

2- «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» «(3)».

و يتمّ هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّيّ ما يطلق عليه لفظ


1- الكشاف 1: 30.
2- الأنبياء: 22.
3- المؤمنون: 91.

ص:31

الجلالة.

و إن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله و شئونه، و المناسب في هذا المقام هو الخالق، و يلزم من تعدّده ما رتّب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق و اعتلاء بعضهم على بعض.

و لو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان، و لا يلزم من تعدّده أيّ اختلال في الكون. و أدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة؛ فإنّ في العالم آلهة متعدّدة، و قد كان في أطراف الكعبة المشرّفة ثلاثمائة و ستّون إلهاً و مع ذلك لم يقع أيّ فساد أو اختلال في الكون.

فيلزم من يفسّر (الإله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

3- «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» «(1)» فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق المدبّر المتصرّف، أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الألوهية، و أمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلّا بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

4- «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها» «(2)» و الآية تستدلّ بورود الأصنام و الأوثان في النار، على بطلان كونها آلهة؛ إذ لو كانت آلهة ما وردوا النار.

و الاستدلال إنّما يتمّ لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه؛ فإنّ خالق العالم أو مدبّره و المتصرّف فيه أو من فوّض إليه أفعال اللَّه أجلّ من أن يُحكم عليه بالنار و أن يكون حصب جهنم.

و هذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتمّ البرهان؛ لأنّ المفروض أنّها كانت معبودات و قد جعلت حصب جهنّم. و لو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ


1- الإسراء: 42.
2- الأنبياء: 98- 99.

ص:32

الإله و الآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.

حصيلة البحث: أنّ العبادة عبارة عن الخضوع الصادر لمن يتّخذه الخاضع إلهاً، و ما ذكرناه على وجه التفصيل هو الذي أفرغه الشيخ جواد البلاغي في قالب التعريف و قال: العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إلهاً، ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالألوهيّة «(1)».

التعريف الثاني: العبادة عبارة عن الخضوع للشي ء على أنّه ربّ

و اللغويون و إن ذكروا للربّ معاني مختلفة كالخالق و المالك و الصاحب و المصلح، و لكنّ الظاهر أنّ أكثر هذه المعاني من لوازم المعنى الواحد، و يمكن تصويره بأنّه من فوّض إليه أمر الشي ء من حيث الإصلاح و التدبير و التربية، فلو أُطلق الربّ على الخالق فلأنّه يقوم بإصلاح مخلوقه و تدبيره، و تربيته. و لو أُطلق علىصاحب المزرعة ربّ الضيعة، أو على سائس القوم أنّه ربّهم، فلأنّ الأوّلَ يقوم بإصلاح أُمور المزرعة، و الثاني بتدبير أُمور القوم و شئونهم، و قس على ذلك سائر الأُمور، فاللَّه سبحانه ربّ العالمين، و «رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» «(2)» و «هُوَ رَبُّ الشِّعْرى» «(3)» فلأجل أنّه سبحانه مدبّر و مدير و متصرّف في شئونها و القائم عليها.

فلو أُطلق الربّ على مالك الدابة فلأجل أنّه فُوِّض إليه إصلاح المملوك.

هذا من جانب، و من جانب آخر نرى اللَّه سبحانه يعلّل في بعض الآيات


1- آلاء الرحمن: 57، ط صيدا.
2- الصافات: 5.
3- النجم: 49.

ص:33

حصر العبادة في اللَّه سبحانه حيث حصر الربوبية به دون غيره، فتدلّ بصراحة على أنّ العبادة من شئون الربوبية، و إليك بعض الآيات:

و قال المسيح:

«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ» «(1)». «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» «(2)». «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذاصِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» «(3)».

و إذا عرفت هذين الأمرين:

1- الربّ من فوّض إليه تدبير الشي ء و إصلاحه و تربيته.

2- إنّ الآيات تعلّل حصر العبادة في اللَّه بكونه ربّاً.

فستعرف أنّ اتّسام الخضوع، و السؤال و الدعاء بالعبادة من شئون الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً بيده مسير الخاضع و مصيره، و إن شئت قلت: بيده شأن أو شئون مَن حياته الدنيوية أو الأُخروية بيده، فالخضوع المقرون بهذا الاعتقاد يُضفي عليه عنوان العبادة.

و ليعلم أنّ المراد من كون الرب مالكاً لشأن من شئون حياته ليس المراد هو المالكية القانونية و الوضعية التي تُعطى للإنسان حيناً و تسلَب عنه حيناً آخر، بل المراد المالكية التكوينية المستمدّة من الخالقية كما في الإله الأعلى أو من تفويض الإله الأعلى لها، كما هو الحال عند آلهة المشركين- على زعمهم- الذين يعتقدون بأنّه سبحانه فوّض إليهم بعضَ شئون حياتهم، كغفران الذنوب و الشفاعة، بل يظهر ممّا نقله ابن هشام في سيرته أنّ الشرك دخل مكّة فيصورة الشرك في الربوبية فيما يرجع إلى الاستمطار، يقول ابن هشام:


1- المائدة: 72.
2- الأنبياء: 92.
3- آل عمران: 51.

ص:34

«كان عمرو بن لحي» أوّل من أدخل الوثنية إلى مكّة و نواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام اناساً يعبدون الأوثانَ و عند ما سألهم عمّا يفعلون قائلًا:

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، و نستنصرها فتنصرنا!

فقال لهم: أ فلا تعطوني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟

و هكذا استحسن طريقتهم و استصحب معه إلى مكةصنماً كبيراً باسم «هبل» و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة، و دعا الناس إلى عبادتها «(1)».

إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان و الاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان دخلًا في تدبير شئون الكون و حياة الإنسان.

نتيجة البحث

إذا عرفنا أنّ مقوّم العبادة عبارة عن اعتقاد السائل و الخاضع و الداعي أو المنادي بأنّ المسئول و المخضوع له «إله» و «ربّ» يملك شيئاً ممّا يرجع إليه في عاجله أو آجله، في مسيره و مصيره، و إنّه يقوم بذلك لكونه خالقاً أو مفوَّضاً إليه من قبل الخالق، فيقوم على وجه الاستقلال و الأصالة، تستطيع أن تقضي في الأعمال التي يقوم بها اشياع الأنبياء و محبّوهم، بأنّها ليست عبادة أبداً و إنّما هي من مصاديق التكريم و الاحترام و إن بلغت نهاية التذلّل، لأنّها لا تنطلق من اعتقاد الخاضع بألوهية النبي، و لا ربوبيته بل تنطلق عن الاعتقاد بكونهم عباد اللَّه الصالحين، و عباده المكرمين الذين لا يعصون اللَّه و هم بأمره يعملون، نظير:


1- سيرة ابن هشام 1: 79.

ص:35

1- تقبيل الأضرحة و أبواب المشاهد التي تضمّ أجساد الأنبياء و الأولياء؛ فإنّ ذلك ليس عبادة لصاحب القبر و المشهد؛ لفقدان عنصر العبادة فيما يفعله الإنسان من التقبيل و اللّمس و ما شابه ذلك.

2- إقامة الصلاة في مشاهد الأولياء تبرّكاً بالأرض التي تضمنت جسد النبيّ أو الإمام، كما تبرّك بالصلاة عند مقام إبراهيم اتّباعاً لقوله تعالى: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» «(1)».

3- التوسّل بالنبيّ سواء كان توسّلًا بذاته و شخصه، أو بمقامه و شخصيته أو بدعائه في حال حياته و مماته؛ فإنّ ذلك كلّه لا يكون عبادة؛ لعدم الاعتقاد بألوهية النبيّ و لا ربوبيته، و يعدّ من التوسّل بالأسباب، سواء كان المدعوّ قادراً على إنجاز العمل أو عاجزاً، غاية الأمر يكون التوسّل فيصورة العجز غير مفيد، لا متّسماً بالشرك، فلو افترضنا أنّ الأنبياء و الأئمة في حال الممات غير قادرين على شي ء فالدعاء و التوسّل بهم مع كونهم عاجزين لا يجعل العمل شركاً، بل يجعله لغواً، مع أنّ أصل المبنى باطل؛ أي أنّهم غير قادرين في حال الممات.

4- طلب الشفاعة من الأنبياء أو النبيّ الأكرم ليس شركاً؛ لأنّه يطلبها منه بقيد أنّه عبد مأذون لا أنّه مفوّض إليه أمرها، و في الواقع إمّا أن يكون مأذوناً فيشفع، و إمّا أن يكون الطلب لغواً.

5- الاستغاثة بالأرواح المقدّسة ليس إلّا كالاستغاثة بهم في حال حياتهم، فهي على وجه تتّسم بالشرك من غير فرق بين حالي الحياة و الممات و لا تتّسم به على وجه آخر، كذلك فلو استغاث به بما أنّه عبد أقدره اللَّه تعالى على الإجابة حيّاً و ميتاً، يكون من قبيل التوسّل بالأسباب، و إن استغاث به بما أنّه إله أو ربّ يقوم بالاستغاثة أصالة و استقلالًا، و أنّه فوّض إليه حياة المستغيث عاجلًا و آجلًا، فهو


1- البقرة: 125.

ص:36

شرك من غير فرق بين الحالتين.

هذا خلاصة البحث حول حصر العبادة باللَّه سبحانه، و إذا أمعنت فيما ذكرنا يمكنك الإجابة على بعض ما أثارته بعض المناهج الفكرية في الأوساط الإسلامية حول هذه الأُمور، التي نسبت جلّ المسلمين إلى الشرك في العبادة مع أنّهم بمنأى عن الشرك.

الفوضى في التطبيق بين الإمام و المأموم

لقد ترك الإهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الإمام و المأموم فنرى أنّ إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (164- 241 ه)صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة، و أفتى بجواز مسِّ منبر النبيّصلى الله عليه و آله و التبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللَّه بن أحمد، و قال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيِّصلى الله عليه و آله و يتبرّك بمسِّه، و يُقَبّله، و يفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللَّه عزّ و جلّ، فقال: «لا بأس بذلك» «(1)».

هذه هي فتوى الإمام- الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، و بعده محمّد بن عبد الوهاب- و لم يرَ بأساً بذلك، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع؛ فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الأجسام و الجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشي ء، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله، و أمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما، كلّ ذلك لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد، و إن كان لغاية التبرّك، فلا يتجاوز التبرّك في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الأشياء.


1- العلل و معرفة الرجال 2: 492/ 3243، تحقيق الدكتور وصيّ اللَّه عباس، ط بيروت 1408.

ص:37

و لمّا كانت فتوى الإمام ثقيلة على محقق الكتاب، أو من علّق عليه لأنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية، و من لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الإمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال:

«أمّا مسّ منبر النبيّ فقد أثبت الإمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص 41) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، و روى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (4/ 121) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: و رأيت يزيد يفعل ذلك.

و هذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعيّة مسحه تبرّكاً به».

و يلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّ بابن عمر، و ما نقله عن المصنّف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ رمانة المنبر:

أوّلًا: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لا يمس كان على الإمام المفتي أن يذكر القيدَ، و لا يُطلق كلامَه، حتّى و لو افترضنا أنّ المنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الأكرم، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يغفل التقسيم و التصنيف.

و ثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، و ذلك لأنّ معناه أنّ لجسمه الشريف تأثيراً في المنبر و ما تبرّك به، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا مؤثّر في الكون إلّا اللَّه سبحانه، فكيف يعترف الوهّابي بأنّ لجسمه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتأثروا به عبر القرون.

ص:38

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسّ قبر النبيصلى الله عليه و آله و التبرّك به، و منعهما و قال في وجهه:

«و أمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جداً لم أرَ أحداً نقله عن الإمام، و قال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص 31): اتّفق الأئمة على أنّه لا يمسّ قبر النبي و لا يقبله، و هذا كلّه محافظة على التوحيد؛ فإنّ من أُصول الشرك باللَّه اتّخاذ القبور مساجد» «(1)».

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الإمام، أ وَ ليس ولده أبو عبد اللَّه راوية أبيه و كتبه يروي هذه الفتوى؟ و هو ثقة عند الحنابلة!

و أمّا التفريق بين مسّ المنبر و القبر بجعل الأوّل نفس التوحيد، و الثاني أساس الشرك، فمن غرائب الأُمور؛ لأنّ الأمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللَّه سبحانه، فلو كان هذا محور الشرك، فالموضوعات سيّان، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ ينتفع بالأوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الأوّل نافعاً و الثاني أمراً باطلًا دون أن يكون شركاً.

و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد و كتب السيرة و التاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين، و لأجل إيقاف القارئ علىصحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

1- إنّ فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بنت رسول اللَّه حضرت عند قبر أبيهاصلى الله عليه و آله و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول:

ما ذا على من شمّ تربة أحمد ألّا يشمّ مدَى الزمان غَواليا

صُبَّت عليَّ مصائب لو أنّهاصُبَّت على الأيّامِصِرنَ لَياليا «(2)»


1- تعليقة المحقّق، نفس الصفحة.
2- لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من المؤرخين، منهم: السمهودي في وفاء الوفا 2: 444؛ و الخالدي في صلح الاخوان: 57، و غيرهما.

ص:39

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومة عليها السلام يدلّ على جواز التبرّك بقبر رسول اللَّه و تربته الطاهرة.

2- إنّ بلالًا- مؤذّن رسول اللَّه- أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب، فرأى في منامه النبيّصلى الله عليه و آله و هو يقول:

«ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟»

فانتبه حزيناً وَجِلًا خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّصلى الله عليه و آله، فجعل يبكي عنده و يمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسين عليهما السلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما... إلى آخر الخبر «(1)».


1- أُسد الغابة 1: 28، و غيره من المصادر.

ص:40

المسألة الثانية: حصر الاستعانة في اللَّه

المسألة الثانية: حصر الاستعانة في اللَّه

اشارة

هذه هي المسألة الثانية التي طرحت فيصدر المقال و قلنا: إنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللَّه سبحانه و مع ذلك يستعينون بالأسباب العاديّة، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، و لا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الأنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم و مزاراتهم، و لا يرون ذلك تعارضاً مع حصر الاستعانة باللَّه سبحانه، و ذلك لأنَّ الاستعانة بغير اللَّه يمكن أن تتحقّق بصورتين:

1- أن نستعين بعامل- سواء أ كان طبيعيّاً أم غير طبيعيّ- مع الاعتقاد بأنّ عونه مستند إلى اللَّه، بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللَّه و إذنه.

و هذا النوع من الاستعانة- في الحقيقة- لا ينفكّ عن الاستعانة باللَّه ذاته، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر، و أذن بها، و إن شاء سلبها و جرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء و حرث الأرض، فقد

ص:41

استعان باللَّه- في الحقيقة- لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل القدرة على إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حدّ الكمال.

2- و إذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّ في وجوده، أو في فعله عن اللَّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد يصير شركاً، و الاستعانة به عبادة.

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها و مادّتها كما في فعلها و قدرتها، فالاعتقاد شرك، و الطلب عبادة.

و بذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللَّه المنصوص عليها في قوله تعالى «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شي ء، فهذا هو المنحصر في اللَّه تعالى، و أمّا الاستعانة بالإنسان الذي لا يقوم بشي ء إلّا بحول اللَّه و قوّته و إذنه و مشيئته، فهي غير منحصرة باللَّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الأساس؛ فإنّ الحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالأسباب التي تؤثّر و تعمل بإذن اللَّه تعالى.

و على ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللَّه سبحانه بمعنى، و تجويزها بغيره بمعنى آخر و هو ما له نظر في الكتاب العزيز.

و لإيقاف القارئ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الأفعال الكونية في اللَّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الأفعال في آيات أُخرى إلى غير اللَّه أيضاً، و ما هذا إلّا لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في اللَّه سبحانه مع قيد الاستقلال، و مع ذلك تنسب إلى غير اللَّه مع قيد التبعية و العرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللَّه و إلى غيره:

1- يقول سبحانه: «وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» «(1)». بينما يقول سبحانه في


1- الشعراء: 80.

ص:42

العسل: «شِفاءٌ لِلنَّاسِ» «(1)».

2- يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ» «(2)» بينما يقول: «وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها» «(3)».

3- يقول سبحانه: «أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» «(4)». بينما يقول سبحانه: «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» «(5)».

4- يقول تعالى: «وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» «(6)». بينما يقول سبحانه: «بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» «(7)».

5- يقول تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» «(8)». بينما يقول سبحانه:

«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» «(9)».

6- يقول سبحانه: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» «(10)». بينما يقول: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ» «(11)».

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللَّه، و تارة إلى غيره تعالى.


1- النحل: 69.
2- الذاريات: 58.
3- النساء: 5.
4- الواقعة: 64.
5- الفتح: 29.
6- النساء: 81.
7- الزخرف: 80.
8- يونس: 3.
9- النازعات: 5.
10- الزمر: 42.
11- النحل: 32.

ص:43

و الحل أن يقال: إنّ المحصور باللَّه تعالى هو انتساب هذه الأُمور على نحو الاستقلال، و أمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، و بإذنه تعالى، و لا تعارض بين النسبتين، و لا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللَّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً و لا مشركاً، و كذا من استعان بالنبيّ أو الإمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر و الصلاة فيقول: «وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ» «(1)» و ليس الصبر و الصلاة إلّا فعل الإنسان نفسه.

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة علىصنفين:

الصنف الأوّل: يحصر الاستعانة في اللَّه فقط و يعتبره الناصر و المعين الوحيد دون سواه.

و الصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعينة (غير اللَّه) و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللَّه.

أقول: اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلّا أنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصنف الأوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللَّه، ثمّ يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الإنسانية و الأسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللَّه بنحو التخصيص، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلّا باللَّه إلّا في الموارد التي أذن اللَّه بها، و أجاز أن يستعان


1- البقرة: 45.

ص:44

فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية و العوامل الطبيعية- مع أنّها استعانة بغير اللَّه- جائزة و مشروعة على وجه التخصيص، و هذا ممّا لا يرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً؛ فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد و هو: عدم الاستعانة بغير اللَّه، و أنّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللَّه، بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللَّه لا استعانة بغيره.

و بتعبير آخر: إنّ الآيات تريد أن تقول: بأنّ المعين و الناصر الوحيد و الذي يستمدّ منه كلّ معين و ناصر قدرته و تأثيره، ليس إلّا اللَّه سبحانه، و لكنّه- مع ذلك- أقام هذا الكون على سلسلة من الأسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمر باستمداد الفرع من الأصل، و لذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللَّه؛ ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

«وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» «(1)».

«إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» «(2)».

«وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «(3)».

هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل، و إليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللَّه من العوامل و الأسباب:

«وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ» «(4)».


1- آل عمران: 126.
2- الحمد: 5.
3- الأنفال: 10.
4- البقرة: 45.

ص:45

«وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى» «(1)».

«ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ» «(2)».

«وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» «(3)».

و مفتاح حلّ التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه، و ملخّصه:

إنّ في الكون مؤثّراً تامّاً، و مستقلًاّ واحداً، غير معتمد على غيره لا في وجوده و لا في فعله و هو اللَّه سبحانه، و أمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة- في وجودها و فعلها- إليه و هي تؤدّي ما تؤدّي بإذنه و مشيئته و قدرته، و لو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أيّة قدرة على شي ء.

فالمعين الحقيقي في كلّ المراحل- على هذا النحو تماماً- هو اللَّه، فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلًاّ. لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللَّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللَّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية) و معلوم أنّ استعانة- كهذه- لا تنافي حصر الاستعانة في اللَّه سبحانه لسببين:

أوّلًا: لأنّ الاستعانة المخصوصة باللَّه هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى؛ فالاستعانة المخصوصة باللَّه هي: ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيرها، في حين أنّ الاستعانة بغير اللَّه سبحانه إمّا هي على نحو آخر أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية،


1- المائدة: 2.
2- الكهف: 95.
3- الأنفال: 72.

ص:46

لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة- على النحول الأوّل- خاصّة باللَّه تعالى، فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّ استعانة- كهذه- غير منفكّة عن الاستعانة باللَّه، بل هي عين الاستعانة به تعالى، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه من فعل اللَّه و مستنداً إليه) مناص من هذا.

و أخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالأرواح إلّاصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«و من هنا تعلمون: إنّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم و نماء حرثهم و زرعهم، و هلاك أعدائهم و غير ذلك من المصالح هم عنصراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللَّه معرضون» «(1)».

و يلاحظ عليه: أنّ الاستعانة بغير اللَّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على نوعين:

إحداهما عين التوحيد، و الأُخرى موجبة للشرك؛ إحداهما مذكّرة باللَّه، و الأُخرى مبعدة عن اللَّه.

إنّ حدّ التوحيد و الشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية، و إنّما هو استقلال المعين و عدم استقلاله. و بعبارة أُخرى المقياس: هو الغنى و الفقر، هو الأصالة و عدم الأصالة.

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللَّه، التي لا تعمل و لا تؤثّر إلّا بإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللَّه، بل هو خير موجّه، و مذكّر باللَّه. إذ معناها:

انقطاع كلّ الأسباب و انتهاء كلّ العلل إليه.


1- تفسير المنار 1: 59.

ص:47

و مع هذا كيف يقولصاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللَّه معرضون»؟ و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللَّه و الغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّ الأعجب من ذلك هو شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل- في هذا المجال- نصّ كلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، و أخذ بالحصر في «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» غافلًا عن حقيقة الآية و عن الآيات الأُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة «(1)».

إجابة على سؤال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بينّاه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللَّه و الاستغاثة بهم في الشدائد و المكاره، و هي غير جائزة؛ و ذلك لأنّ نداء غير اللَّه في المصائب و الحوائج تشريك الغير مع اللَّه، يقول سبحانه: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» «(2)» و يقول تعالى: «وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» «(3)» و يقول عزّ من قائل: «وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» «(4)». إلى غير ذلك من الآيات التي تخصّ الدعاء للَّه و لا تسيغ دعوة غيره.

و قد طرح هذا السؤال الشيخ الصنعاني حيث قال: و قد سمّى اللَّه الدعاء عبادة بقوله: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» «(5)» فمن هتف


1- راجع تفسير شلتوت: 36- 39.
2- الجن: 18.
3- الأعراف: 197.
4- فاطر: 13.
5- سورة غافر: 60.

ص:48

باسم نبيّ أوصالح بشي ء فقد دعا النبيّ و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخُّها، فقد عبد غير اللَّه وصار مشركاً «(1)».

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء و هل كل دعاء، عبادة و بينهما من النسب الأربع هي التساوي حتّى يصحّ لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، و كلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة و أنّ قسماً من الدعاء عبادة و قسماً منه ليس كذلك؟ و الكتاب العزيز يوافق الثاني لا الأوّل، و إليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة، و لا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح: «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً» «(2)» و قال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة: «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» «(3)» إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أ فيصحّ القول بأنّ نوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّ ذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

و الإمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين؛ فلو كان الداعي و المستعين بالغير معتقداً بألوهية المستعان و لو ألوهيةصغيرة كان دعاؤه عبادة، و لأجل ذلك كان دعاء عبدة الأصنام عبادة؛ لاعتقادهم بألوهيتها، قال سبحانه:

«فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ» «(4)».


1- تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب: 284.
2- نوح: 5.
3- إبراهيم: 22.
4- هود: 101.

ص:49

و ما ورد من الآيات في السؤال كلّها من هذا القبيل؛ فإنّها وردت في حقّ المشركين القائلين بألوهية أصنامهم و أوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرّف و الشفاعة و تفويض الأُمور إليهم و لو في بعض الشئون. ففي هذا المجال يعود كلّ دعاء عبادة، و يفسر الدعاء في الآيات الماضية و التالية بالعبادة، قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» «(1)». «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا» «(2)». «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» «(3)». «وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ» «(4)». «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» «(5)». و ما ورد في الأثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللَّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء و إن كان المدعوّ غير إله لا حقيقةً أو اعتقاداً.

و في روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الإمام زين العابدين في ضمن دعائه: «... فسمّيتَ دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين» «(6)» و هو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» «(7)».


1- الأعراف: 194.
2- الإسراء: 56
3- الإسراء: 57.
4- يونس: 106.
5- فاطر: 14.
6- الصحيفة السجادية، دعاؤه برقم 45.
7- غافر: 60.

ص:50

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة، و هناك قسم آخر منه لاصلة بينه و بين العبادة، و هو فيما إذا دعا شخصاً بما أنّه إنسان و عبد من عباد اللَّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى و إذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة، بل سنّة من السنن الإلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سدّاً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله: «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً» «(1)» و ها هو الذي من شيعة موسى يستغيث به، يقول سبحانه: «فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» «(2)» و هذا هو النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله يدعو قومه للذبِّ عن الإسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» «(3)» فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة، و إنّما هو توسّل بالأسباب، فإن كان السبب قادراً على إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياً و إلّا يكون لغواً و عبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات و ما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبّثون بكلّ طحلب حتّى ينجيهم من الغرق و يقولون إنّ هذه الآيات تعود على الأحياء و لاصلة لها بدعاء الأموات، فكون القسم الأول جائزاً و أنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني و كونه غير عبادة.

و لكن عزب عن هؤلاء أنّ الحياة و الموت ليسا حدّين للتوحيد و الشرك و لا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداً أو لا، و بتعبير آخر ملاكان للجدوائية و عدمها.


1- الكهف: 95.
2- القصص: 15.
3- آل عمران: 153.

ص:51

فلو كان الصالح المدعوّ غير قادر لأجل موته مثلًا تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، و من الغريب أن يكون طلب شي ء من الحيِّ نفس التوحيد و من الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد و الشرك، بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفيّة الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» «(1)».

ثمّ إنّ الكلام في أنّ دعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللَّه مفيد أو لا؟ يتطلّب مجالًا آخراً، و سوف نستوفي الكلام عنه في بحث خاص حول وجود الصلة بيننا و بين أولياء اللَّه في ضوء الكتاب و السنة.


1- ص: 29.

ص:52

ص:53

الفصل الثاني: البدعة و آثارها الموبقة

اشارة

ص:54

ص:55

تمهيد

تمهيد

تعدّ البدعة في الدين من المعاصي الكبيرة و المحرّمات العظيمة، التي دلّ على حرمتها الكتاب و السنّة، كما و أُوعِدصاحبُها النار على لسان النبيّ الأكرم، و ذلك لأنّ المبتدع ينازع سلطان اللَّه تبارك و تعالى في التشريع و التقنين، و يتدخّل في دينه و يُشرِّع ما لم يشرِّعه، فيزيد عليه شيئاً و ينقص منه شيئاً في مجالي العقيدة و الشريعة، كلّ ذلك افتراء على اللَّه.

و قد بُعث النبيّ الأكرم بحبل اللَّه المتين، و أمر المسلمين بالاعتصام به، و نهى عن التفرّق، و قال: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» «(1)».

و لكن المبتدع يستهدف حبلَ اللَّه المتين؛ ليوهنه و يخرجه من متانته بما يزيد عليه أو ينقص منه، و بالتالي يجعل من الأُمّة الواحدة أُمماً شتّى، يبغض بعضهم بعضاً و يلعن بعضهم بعضاً، فيتحوّلون إلى شيعٍ و طوائف متفرّقين، فرائس للشيطان و أذنابه، و على شفا حفرة من النار، على خلاف ما كانوا عليه في عصر الرسالة.


1- آل عمران: 103.

ص:56

إنّ المسلمين بعد رحيل الرسول تفرّقوا إلى أُمم و مذاهبَ مختلفة، و لم يكن ذلك إلّا اثْر تلاعب المبتدعين في الدين و الشريعة، بإدخال ما ليس من الدين، في الدين. و كان عملهم تحويراً لصميم العقيدة الإسلامية و شريعتها، فلولا البدعة و المبتدعون و انتحالُ المبطلين، لكانت الأُمّة الإسلامية أُمّة واحدة؛ لها سيادتها على جميع الأُمم و الشعوب في أنحاء المعمورة، و ما أثنى ظهورهم إلّا دبيبُ المبتدع بينهم، فشتَّتهم و فرَّقهم بعد ما كانواصامدين كالجبل الأشم.

و الحروب الدموية- التي خاضها المسلمون في عصر الخلافة و بعدها، و خضّبت الأرض بالدماء الطاهرة، و سلّ المسلمون سيوفهم في وجه بعضهم، فسقط منهم آلاف القتلى و الجرحى على الأرض- هي من جرّاء البدع النابعة عن الأهواء و الميول النفسانية؛ حيث كانوا يتحاربون باسم الدين، و الحال أنّ الدين كان في جانب واحد، لا في جوانب متكثّرة.

إنّصراط النجاة في الإسلام هوصراط واحد مستقيم دعا إليه المؤمنين عامّة و قال: «وَ أَنَّ هذاصِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «(1)».

و أمر المسلمين أن يدعوا اللَّه سبحانه، أن يثبتهم على هذا الصراط كي لا ينحرفوا يميناً و شمالًا كما يقول سبحانه تعليماً لعباده: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» «(2)» و لكن المبتدع يسوق الناس إلى سبل منحرفة لا تنتهي إلى السعادة التي أراد اللَّه سبحانه لعباده.

فحقّ التشريع و التقنين للَّه تبارك و تعالى، و قد استأثر به و قال: «إِنِ الْحُكْمُ


1- الأنعام: 153.
2- الفاتحة: 6.

ص:57

إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» «(1)». و المراد من الحكم هو التشريع بقرينة قوله:

«أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ». فالبدعة هو تشريك الناس في ذلك الحقّ المستأثر، و دفع زمام الدين إلى أصحاب الأهواء، كي يتلاعبوا في الشريعة كيفما شاءُوا، و كيفما اقتضت مصلحتهم و مصلحة أسيادهم و أربابهم، فذلك الحق المستأثر يقتضي ألّا يتدخّل أحد في سلطان اللَّه و حظيرته، قال سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» «(2)».

و المبتدع يتصرّف في التشريع الإسلامي فيجعل منه حلالًا و حراماً بدون إذن منه سبحانه في ذلك. يقول تعالى:

«قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» «(3)» فالآية واردة في عمل المشركين؛ حيث جعلوا ما أنزل اللَّه لهم من الرزق بعضه حراماً و بعضه حلالًا، فحرّموا السائبة و البحيرة و الوصيلة و نحوَها، لذا يردّ عليهم سبحانه: «آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» أي أنّه لم يأذن لكم في شي ء من ذلك، بل أنتم تكذبون على اللَّه، ثمّ يهدّدهم بالعذاب فيقول: «وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» «(4)». و يؤكد عليه في آية أُخرى و يقول:

«وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» «(5)».


1- يوسف: 40.
2- الأحزاب: 36.
3- يونس: 59.
4- يونس: 60.
5- النحل: 116.

ص:58

إنّ أصحاب الأهواء في كلّ زمان حتّى في عصر الرسالة، كانوا يقترحون على النبيّ الأكرم أن يغيّر دينه، و يأتي بقرآن غير هذا، لكي يكون مطابقاً لما تستهويه أنفسهم، فأمر اللَّه سبحانه أن يردّ اقتراحهم بقوله: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «(1)».

و كان في عصر الرسالة من يتقدّم على اللَّه و رسوله، لا مشياً و إنّما يقدّم رأيه على الوحي فنزل الوحي مندِّداً بهم و قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «(2)».

و الكذب من المحرّمات الموبقة التي أوعدَ اللَّهُ عليها النار، و البدعة من أفحش الكذب؛ لأنّها افتراء على اللَّه و رسوله، قال سبحانه: «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» «(3)». فالمبتدع يَظهر بزيّ المحق عند المسلمين؛ فيفتري على اللَّه تعالى دون أن يكشفه الناس فيضلّهم عن الصراط المستقيم.

و من المسلّم به أنّ للَّه في كلّ واقعة حكماً إلهيّاً لا يتبدّل و لا يتغيّر الى يوم القيامة، فاذا حكم الحاكم وِفق ذلك الحكم فهو حاكم عادل معتمد على منصَّة الحق، إلّا أنّ المبتدع يحكم على خلاف ذلك الحق، لذلك يصفه سبحانه بكونه كافراً و ظالماً و فاسقاً، قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» و قال عزّ من قائل: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» و قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» «(4)».


1- يونس: 15.
2- الحجرات: 1.
3- الأنعام: 21.
4- المائدة: 44، 45، 46.

ص:59

فما حال إنسان يحكم عليه القرآن بالكفر تارة، و الظلم ثانياً و الفسق ثالثاً؟

فهل ترجى له النجاة بعد أن أضلّ كثيراً من الناس، و شقّصفوف المسلمين، و جعل السبيل الواحد سُبُلًا كثيرة تضلّهم إلى مهاوي الهالكين.

و لعلّ هذا القدر من التقديم يكفي في بيان موضع البدعة و موقِف اللَّه تعالى من المبتدع، و لأجل ذلك نرى أنّ النبيّ الأكرم قد شدّد على البدعة أو ندّد بالمبتدع بأفصح العبارات و أبلغها كما سيتّضح ذلك في الروايات الآتية.

و قد ألّف العلماء قديماً و حديثاً كتباً و رسائل حول البدعة نذكر بعضها:

1- البدع و النهي عنها، لابن وضّاح القرطبي.

2- الحوادث و البدع، للطرطوشي.

3- الباعث، لأبي شامة.

4- الاعتصام، لأبي إسحاق الشاطبي الغرناطي في جزءين و قد أسهبَ الكلام فيها.

5- البدعة أنواعها و أحكامها، لصالح بن فوزان بن عبد اللَّه فوزان طبع الرياض.

6- البدعة تحديدها و موقف الإسلام منها، تأليف الدكتور عبد الملك السعدي طبع بغداد.

7- البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق، تأليف الدكتور عبد الملك السعدي طبع بغداد.

8- البدع، تأليف أبي الحسين محمّد بن بحر الرُّهني الشيباني، ذكرها النجاشي في رجاله برقم 1044.

9- البدع المحدثة، للشريف أبو القاسم الكوفي المتوفّى بفسا سنة 352 ه و طبع باسم الاستغاثة، في النجف الأشرف.

ص:60

10- البدع، تأليف الدكتور الشيخ جعفر الباقري، و هي دراسة موضوعية لمفهوم البدعة و تطبيقاتها على ضوء منهج أهل البيت.

و مع احترامنا و تكريمنا لجهودهم، إلّا أنّ أغلب هؤلاء الكُتّاب نظروا إلى المسألة على أساس إمام مذهبهم. فالأوّل و الثاني من هذه الكتب اعتمدا على رأي الإمام مالك رضى الله عنه كما أنّ الكتاب الخامس اتّخذ من مذهب ابن تيمية مقياساً في حكمه، فخرج بنفس النتيجة التي خرج بها إمام مذهبه.

و أمّا الإمام الشاطبي فقد أطنب و أسهب كثيراً في تأليفه و لم يركّز على نفس البدعة تحديداً و مصداقاً.

و دراسة البدعة تتوقّف على دراسة منهجيّة غير منحازة لمذهب خاص، و هذا يتوقّف على الاجتهاد الحرّ، من دون أن يتّخذ رأي إمام مِحوراً، و رأي إمام آخر مسنداً، بل ينظر إلى الكتاب و السنّة و سيرة المسلمين نظرة عامة شمولية فاحصة.

نعم لا تفوتنا الإشارة إلى المِيزة الموجودة فيما كتبه الدكتور السعدي، فقد أفاض الكلام في الجزئيات التي ربّما وصفت بالبدعة، و أثبت بدليل قاطع كونها غير بدعة، كما لا تفوتنا الإشادة بمنهجيّة البحث في كتاب الدكتور عزّت علي عطية، و الذي نال به درجة الدكتوراة بمرتبة الشرف الأُولى، و لكنّه في بعض المواضيع افتقد الشجاعة الأدبيّة و لم يتجرّأ على تجاوز الخطوط الحمراء التي فرضتها عليه البيئة، فتراه يتوقّف في التوسّل بالنبيّصلى الله عليه و آله مع تضافر الروايات على جوازه.

و للجميع منّا الشكر الجزيل، و لكن الحقيقة بنت البحث فلا عتب علينا إذا ناقشنا بعض آرائهم نتيجة الاجتهاد الحرّ، رزقنا اللَّه توحيد الكلمة كما رزقنا كلمة التوحيد.

ص:61

نصوص البدعة في الكتاب و السنّة

المبحث الأوّل نصوص البدعة في الكتاب و السنّة

اشارة

اتّفقت الأدلّة الشرعيّة على حرمة البدعة، و قد ذكرنا في المقدّمة قسماً وافراً من الآيات الكريمة و سنأتي بذكر ما تبقى منها:

البدعة في الكتاب

1- قال سبحانه: «وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» «(1)».

فالآية تعتبر الرهبانية من مبتدعات الرهبان التي لم تكن مفروضة عليهم من قبل، و إنّما تكلّفوها من عند أنفسهم و سيوافيك تفسير الاستثناء في مبحث تحديد البدعة.

2- «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» «(2)».


1- الحديد: 27.
2- الأنعام: 159.

ص:62

و قد فُسّرت الآية بأهل الضلالة و أصحاب الشبهات و البدع من هذه الأُمّة.

قال الطبرسي: «و رواه أبو هريرة و عائشة مرفوعاً، و هو المروي عن الباقر عليه السلام، جعلوا دين اللَّه أدياناً لإكفار بعضهم بعضاً وصاروا أحزاباً و فِرَقاً، و يخاطب سبحانه نبيّه بقوله: «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ» و إنّه على المباعدة التامّة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة، و ليس كذلك بعضهم مع بعض؛ لأنّهم يجتمعون في معنى من معانيهم الباطلة، و إن افترقوا في شي ء فليس منهم في شي ء؛ لأنّه بري ءٌ من جميعهم» «(1)».

3- «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» «(2)».

و الآية بعموم لفظها تبيّن أنواع النُّذُر التي أنذر اللَّه بها عباده، فتبدأ من بعث العذاب من فوق، إلى بعثه من تحت الأرجل، و تنتهي بتمزيق الجماعة إلى شيع، فتفرّق الأُمّة إلى فرق و شِيَع يعادل إنزال العذاب عليها من كلّ جهاتها. قال الحسن البصري: «التهديد بإنزال العذاب و الخسف يتناول الكفّار، و قوله: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» يتناول أهل الصلاة» «(3)».

و قال مجاهد و أبو العالية: إنّ الآية لأُمّة محمدصلى الله عليه و آله، أربع؛ ظهر اثنتان بعد وفاة رسول اللَّه فأُلبسُوا شِيعاً و أُذيق بعضكم بأس بعض و بقيت اثنتان «(4)».

4- «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» «(5)».


1- مجمع البيان 2: 389.
2- الأنعام: 65.
3- المصدر نفسه 2: 315.
4- الاعتصام 2: 61.
5- التوبة: 31.

ص:63

يظهر ممّا رواه الطبري و غيره أنّهم كانوا مشركين في مسألة التقنين، روي عن الضحاك: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ» أي قرّاءهم و علماءهم «أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» يعني سادة لهم من دون اللَّه، يُطيعونهم في معاصي اللَّه، فيُحلّون ما أحلّوه لهم ممّا قد حرّمه اللَّه عليهم، و يُحرّمون ما يحرّمونه عليهم ممّا قد أحلّه اللَّه لهم.

و روي أيضاً عن عدي بن حاتم قال: انتهيت إلى النبيّصلى الله عليه و آله و هو يقرأ في سورة براءة: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال: قلت: يا رسول اللَّه إنّا لسنا نعبدهم، فقال: «أ ليس يُحرّمون ما أحلّ اللَّه فتحرّمونه، و يُحلّون ما حرّم اللَّه فتحلّونه؟» قال: قلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم» «(1)»

البدعة في السنّة

روى الفريقان عن النبيّصلى الله عليه و آله حول البدعة و التشديد عليها روايات كثيرة نقتبس منها ما يلي:

1- روى الإمام أحمد عن جابر قال: خطبنا رسول اللَّه فحمد اللَّه و أثنى عليه بما هو أهل له ثمّ قال: «أمّا بعد فانّ أصدقَ الحديث كتاب اللَّه، و إنّ أفضل الهدى هدى محمّد، و شرّ الأُمور محدثاتها، و كلّ بدعة ضلالة» «(2)»

.

2- روى أيضاً عن جابر قال: كان رسول اللَّه يقوم فيخطب فيحمد اللَّه و يُثني عليه بما هو أهله و يقول: «من يهدِ اللَّه فلا مضلّ له، و من يضلل فلا هادي له، إنّ خير الحديث كتاب اللَّه و خير الهدى هَديُ محمدصلى الله عليه و آله و شرّ الأُمور محدثاتها، و كلّ محدثة بدعة» «(3)»

.

3- روى أيضاً عن عرباض بن سارية قال:صلّى بنا رسول اللَّه الفجر ثمّ أقبل


1- الطبري، التفسير 10: 80- 81.
2- مسند أحمد 3: 310 بيروت، دار الفكر.
3- المصدر نفسه: ص 371.

ص:64

علينا فوعظنا موعظة بيّنة، قال: «أُوصيكم بتقوى اللَّه... و إيّاكم و محدثات الأُمور؛ فإنّ كلّ محدثة بدعة، و كلّ بدعة ضلالة» «(1)»

.

4- روى ابن ماجة عن جابر بن عبد اللَّه: كان رسول اللَّه إذا خطب احمرّت عيناه ثمّ يقول: «أمّا بعد فإنّ خير الأُمور كتاب اللَّه، و خير الهدى هَديُ محمّد، و شرّ الأُمور محدثاتها، و كلّ بدعة ضلالة» «(2)»

.

5- روى مسلم فيصحيحه: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إذا خطب احمرّت عيناه و علاصوته، و اشتدّ غضبه، حتى كأنّه منذر جيشٍ، يقول: «صبّحكم و مسّاكم، و يقول:

بُعِثْتُ أنا و الساعة كهاتين، و يقرن بين إصبعيه: السبابة و الوسطى، و يقول: أمّا بعد، فانّ خير الحديث كتاب اللَّه، و خير الهدى هديُ محمد، و شرّ الأُمور محدثاتها، و كلّ بدعة ضلالة، ثمّ يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، من ترك مالًا فلأهله، و من ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ و عليّ» «(3)»

.

6- روى النسائي قال: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول في خطبته: «نحمد اللَّه و نثني عليه بما هو أهله، ثمّ يقول: من يهدِ اللَّه فلا مضلّ له، و من يضلل فلا هادي له، إنّ أصدق الحديث كتاب اللَّه، و أحسن الهدي هديُ محمد، و شرّ الأُمور محدثاتها، و كلّ محدثة بدعة، و كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة في النار، ثمّ يقول: بعثت أنا و الساعة كهاتين، و كان إذا ذكر الساعة احمرّت وجنتاه، و علاصوته، و اشتدّ غضبه، كأنّه نذير جيشٍ، يقول:صبّحكم و مسّاكم، ثمّ قال: من ترك مالًا فلأهله، و من ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ، (أو عليّ) و أنا أولى بالمؤمنين» «(4)»


1- المصدر نفسه 4: 126؛ و لاحظ أيضاً ص 127، و لاحظ البحار 2: 263 فقد جاءت فيها نفس النصوص و في ذيلها: و كلّ ضلالة في النار.
2- سنن ابن ماجة ج 1، الباب 7، باب اجتناب البدع، الحديث 45، ط دار إحياء التراث العربي 1395 ه.
3- جامع الأُصول 5: الفصل الخامس، الخطبة رقم 3974.
4- المصدر نفسه.

ص:65

7- روى ابن ماجة: قال رسول اللَّه: «لا يقبل اللَّه لصاحب بدعةصوماً و لاصلاة و لاصدقة و لا حجّاً و لا عمرة و لا جهاداً» «(1)»

.

8- قال رسول اللَّه: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» «(2)»

.

قال الشاطبي: و هذا الحديث عدّه العلماء ثُلث الإسلام؛ لأنّه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام و يستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية «(3)».

9- روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» «(4)»

.

10- روى مسلم عن جرير بن عبد اللَّه: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها و لا ينقص من أُجورهم شي ء؛ و من سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده، كتب له مثل وزر من عمل بها و لا ينقص من أوزارهم شي ء» «(5)»

.

11- روى مسلم عن حذيفة أنّه قال: يا رسول اللَّه هل بعد هذا الخير شرّ؟

قال: «نعم، قوم يستنّون بغير سنّتي و يهتدون بغير هداي...» «(6)»

.

12- روى مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه خرج إلى المقبرة فقال: «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون- إلى أن قال:- فليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ، أُناديهم ألا هلمّ! ألا


1- ابن ماجة، السنن 1: 19.
2- مسلم، الصحيح 5: 133 كتاب الأقضية الباب 8؛ مسند أحمد 6: 270.
3- الاعتصام 1: 68.
4- مسلم، الصحيح 8: 62 كتاب العلم؛ و رواه البخاري في الصحيح ج 9: كتاب الاعتصام بالكتاب و السنّة.
5- مسلم، الصحيح 8: 61 كتاب العلم.
6- مسلم، الصحيح 5: 206 كتاب الإمارة.

ص:66

هلمّ! ألا هلمّ! فيقال: إنّهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: فسحقاً! فسحقاً! فسحقاً!» «(1)»

.

و عموم اللفظ يشمل أهل البدع أيضاً. و إن لم يرتدّوا عن الدين.

نكتفي بهذا القدر من الأحاديث التي رواها الحفاظ من المحدّثين من هذا الطريق، و أمّا ما رواه أصحابنا عن النبي الأكرم أو عن أئمة أهل البيت فكثير و ربما تكون هناك وحدة في المعنى و اختلاف جزئي في التعبير:

13- روى الكليني عن محمد بن جمهور رفعه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إذا ظهرت البدع في أُمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللَّه» «(2)»

.

14- و بهذا الاسناد قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من أتى ذا بدعة فعظّمه فإنّما يسعى في هدم الإسلام» «(3)»

.

15- و بهذا الاسناد قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أبى اللَّه لصاحب البدعة التوبة» قيل: يا رسول اللَّه و كيف ذلك؟ قال: «إنّه قد اشرِبَ قلبه حبّها» «(4)»

.

16- روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام الناس فقال: «أيّها الناس إنّما بَدأ وقوع الفتن، أهواءٌ تُتَّبَع، و أحكام تُبتدع، يُخالَف فيها كتاب اللَّه، يتولّى فيها رجال رجالًا، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، و لو أنّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث، فيمزجان فهناك يستولي الشيطان على أوليائه، و ينجو الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى» «(5)».

17- روى الحسن بن محبوب رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «إنّ من


1- الموطأ، كتاب الطهارة، الحديث 28، باب جامع الوضوء؛ مسلم، الصحيح 1: 150 كتاب الطهارة.
2- - 5 الكافي 1: 54- 55 ح 2 و 3 و 4 و 1 باب البدع. و لفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة 50، دون الكافي لكونه أتمّ.
3- الكافي 1: 54- 55 ح 2 و 3 و 4 و 1 باب البدع. و لفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة 50، دون الكافي لكونه أتمّ.
4- الكافي 1: 54- 55 ح 2 و 3 و 4 و 1 باب البدع. و لفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة 50، دون الكافي لكونه أتمّ.
5- الكافي 1: 54- 55 ح 2 و 3 و 4 و 1 باب البدع. و لفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة 50، دون الكافي لكونه أتمّ.

ص:67

أبغض الخلق إلى اللَّه عزّ و جلّ لَرَجلين: رجل وكّله اللَّه إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم و الصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضالّ عن هدى من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به في حياته و بعد موته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته» «(1)»

.

18- روى عمر بن يزيد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

المرء على دين خليله و قرينه» «(2)»

.

19- و روى داود بن سرحان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيع...» «(3)»

.

20- قال أمير المؤمنين عليه السلام: «ما اختلفت دعوتان إلّا كانت إحداهما ضلالة» «(4)».

21- و قال عليه السلام: «ما أُحدثت بدعة إلّا تُرك بها سنّة، فاتّقوا البدع و ألزموا المهيع، إنّ عوازم الامور أفضلها، و إنّ محدثاتها شرارها» «(5)»

.

22- قال الإمام الصادق عليه السلام: «من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه» «(6)».

23- قال عليه السلام: «من مشى إلىصاحب بدعة فوقّره فقد مشى في هدم الإسلام» «(7)»

. و قد روي أيضاً باختلاف يسير «مضى» (تحت رقم 14).


1- الكافي 1: 55 ح 6 باب البدع.
2- و 3 الكافي 2: 375.
3- الكافي 2: 375.
4- و 5 البحار 2: 264 الحديث 14 و 15؛ و لاحظ أيضاً 36: 288- 289.
5- البحار 2: 264 الحديث 14 و 15؛ و لاحظ أيضاً 36: 288- 289.
6- البحار 8: 23 الطبعة القديمة و 47: 217.
7- البحار 2: 304 ح 45.

ص:68

24- روي مرفوعاً عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: «عليكم بسنّة، فعمل قليل في سنّة خير من عمل كثير في بدعة» «(1)»

.

25- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إذا رأيتمصاحب بدعة فاكفهرّوا في وجهه؛ فانّ اللَّه ليبغض كلّ مبتدع، و لا يجوز أحد منهم على الصراط، و لكن يتهافتون في النار مثل الجراد و الذباب» «(2)»

.

26- و قالصلى الله عليه و آله: «من غشّ أُمّتي فعليه لعنة اللَّه و الملائكة و الناس أجمعين» قالوا: يا رسول اللَّه و ما الغشّ؟ قال: «أن يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها» «(3)»

.

و للإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة وراء ما نقلناه كلمات دُريّة في ذمّ البدعة، نقتبس ما يلي:

27- «فاعلم أنّ أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل هُدِيَ و هَدى فأقام سنّة معلومة، و أمات بدعة مجهولة... و إنّ شرّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضلّ و ضُلَّ به، فأمات سنّة مأخوذة و أحيى بدعة متروكة» «(4)»

.

28- و قال: «أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، و تدبّروا الفرض فأقاموه، أحيَوا السنّة و أماتوا البدعة» «(5)»

.

29- و قال أيضاً: «و إنّما الناس رجلان: متّبع شرعة، و مُبتدع بدعةً» «(6)»

.

30- و قال: «طوبى لمن ذلّ في نفسه و طاب كسبه- إلى أن قال:- و عزل عن


1- البحار 2: 261 ح 3.
2- و 3 جامع الأُصول 9: 566؛ كنز العمال 1: 221/ 1118 و يشتمل الأخير على أحاديث لم نذكرها و قد بثّها في الأجزاء التالية من كتابه: 8، 15، 7، 11، 2، 3 فلاحظ.
3- جامع الأُصول 9: 566؛ كنز العمال 1: 221/ 1118 و يشتمل الأخير على أحاديث لم نذكرها و قد بثّها في الأجزاء التالية من كتابه: 8، 15، 7، 11، 2، 3 فلاحظ.
4- نهج البلاغة: الخطبة 164.
5- المصدر نفسه: الخطبة 182.
6- المصدر نفسه: الخطبة 176.

ص:69

الناس شرّه وَ وَسِعَتْهُ السنّة و لم يُنسب إلى البدعة» «(1)»

.

هذا قسم ممّا وقفنا عليه من الروايات، و هي كثيرة يفوتنا حصرها. و قد نقل الشاطبي قسماً وافراً من كلمات الصحابة و التابعين و من أراد فليرجع إلى كتابه الاعتصام و نكتفي بهذا المقدار.


1- المصدر نفسه: الحكمة 123.

ص:70

البدعة لغةً و اصطلاحاً

المبحث الثاني البدعة لغة و اصطلاحاً

اشارة

لقد مضت نصوص الكتاب و السنّة في حرمة البدعة و آثارها الهدّامة، و لأجل تحديد مفهومها تحديداً دقيقاً يلزمنا نقل أقوال أهل اللغة و كلمات الفقهاء و المحدّثين في تفسير البدعة، حتى تلقي ضوءاً على ما نتبنّاه من الوقوف على مفهوم البدعة.

البدعة في لغة العرب:

قال الخليل: البدع؛ إحداث شي ء لم يكن له من قبلُ خلق و لا ذكر و لا معرفة... البدع: الشي ء الذي يكون أوّلًا في كلّ أمر كما قال اللَّه: «ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» أي لست بأوّل مرسل، و البدعة اسم ما ابتدع من الدين و غيره، و البدعة ما استحدث بعد رسول اللَّه من الأهواء و الأعمال «(1)».

و قال ابن فارس: البدع له أصلان؛ ابتداء الشي ء وصنعه لا عن مثال، و الآخر الانقطاع و الكلال «(2)».


1- ترتيب كتاب العين: ص 72.
2- المقاييس 1: 209 مادة« بدع».

ص:71

و المقصود في المقام هو المعنى الأوّل.

و قال الراغب: الإبداع إنشاءصنعة بلا احتذاء و لا اقتداء، و البدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها و فاعلها فيه بصاحب الشريعة و أماثلها المتقدّمة و أُصولها المتقنة «(1)».

و قال الفيروزآبادي: البدعة- بالكسر- الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء و الأعمال «(2)».

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة للّغويين، و لا نطيل الحديث بنقل غير ما ذكر.

و الإمعان في هذه الكلمات يثبت بأنّ البدعة في اللغة و إن كانت شاملة لكلّ جديد لم يكن له مماثل سواء أ كان في الدين، أم العادات، كالأطعمة و الألبسة و الأبنية و الصناعات و ما شاكلها، و لكن البدعة التي ورد النص على حرمتها هي ما استحدثت بعد رسول اللَّه من الأهواء و الأعمال في أُمور الدين، و ينصّ عليه الراغب في قوله: «البدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها و فاعلها فيه»، و نظيره قول القاموس: «الحدث في الدين بعد الإكمال».

كل ذلك يعرب عن أنّ إطار البدعة المحرّمة، هو الإحداث في الدين، و يؤيّده قوله سبحانه في نسبة الابتداع إلى النصارى بإحداثهم الرهبانية و إدخالهم إيّاها في الديانة المسيحية، قال سبحانه: «وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» «(3)».

فقوله سبحانه: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» يعني ما فرضناها عليهم و لكنّهم نسبوها


1- المفردات: ص 38 و 39.
2- القاموس المحيط 3: 6.
3- الحديد: 27.

ص:72

إلينا عن كذب.

و أمّا التطوير في ميادين الحياة و شئونها فإن كان بدعة لغة فليس بدعة شرعاً بل يتبع التطوير في الحياة جوازاً و منعاً الحكم الشرعي بعناوينه، فإن حرّمه الشرع و لو تحت عنوان عام فهو محرّم، و إلّا فهو حلال؛ لحاكمية أصل البراءة ما لم يرد دليل على الحرمة. و سيوافيك تفصيلها في المستقبل.

البدعة في اصطلاح العلماء

لا ريب أنّ البدعة حرام، و لا يشك في حرمتها مسلم واع، لكن المهم في الموضوع تحديدها و تعيين مفهومها بشكل دقيق، حتى تكون قاعدة كليّة يرجع إليها عند الشك في المصاديق، فإنّ واجب الفقيه تحديد القاعدة، و واجب غيره تطبيقها على مواردها، و هذا الموضوع من أهمّ المواضيع فيها.

و قد عُرفت البدعة بتعاريف مختلفة، بين متشدد لا يتسامح فيها، و بين متسامح في تعريفها، و إليك بعضها:

1- البدعة: ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً، و إن كان بدعة لغة «(1)».

2- البدعة: أصلها ما أُحدث على غير مثال سابق، و تطلق في الشرع في مقابل السنّة فتكون مذمومة «(2)».

و يقول ابن حجر في موضع آخر: المحدثات جمع محدثة، و المراد بها أي في


1- جامع العلوم و الحكم: ص 160 ط الهند.
2- فتح الباري 5: 156.

ص:73

حديث «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»؛ ما أُحدث و ليس له أصل في الشرع يسمّى في عرف الشرع بدعة، و ما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة «(1)».

3- البدعة لغة: ما كان مخترعاً، و شرعاً: ما أُحدث على خلاف أمر الشرع و دليله الخاص أو العام «(2)».

4- البدعة في الشرع موضوعه: الحادث المذموم «(3)».

5- إنّ البدعة الشرعية هي: التي تكون ضلالة، و مذمومة «(4)».

6- البدعة: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

و عرّفه الشاطبي أيضاً في مكان آخر بنفس ذلك و أضاف في آخره: «يقصد بالسلوك عليها: المبالغة في التعبّد للَّه تعالى» «(5)». و ما أضافه ليس أمراً كليّاً كما سيوافيك عند البحث عن أسباب نشوء البدعة و دواعيها.

و هذه التعاريف، تحدّد البدعة تحديداً، و تصوّر لها قسماً واحداً. و المحدود في هذه التعاريف هو البدعة في الشرع و الدين الإسلامي، و التدخّل في أمر التقنين و التشريع.

و هناك من حدّدها ثمّ قسّمها إلى: محمودة و مذمومة، منهم:

1- عن حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: «البدعة بدعتان:


1- فتح الباري 17: 9.
2- التبيين بشرح الأربعة: ص 221.
3- الإبداع: 22.
4- أحسن الكلام: ص 6.
5- الاعتصام 1: 37.

ص:74

بدعة محمودة و بدعة مذمومة، فما وافق السنّة فهو محمود و ما خالف السنّة فهو مذموم».

2- و قال الربيع: قال الشافعي رحمه الله: «المحدثات من الأُمور ضربان: أحدهما يخالف كتاباً أو سنّة أو إجماعاً أو أثراً، فهذه البدعة الضلالة.

و الثاني: ما أُحدث من الخبر لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهي محدثة غير مذمومة» «(1)».

3- قال ابن حزم: «البدعة في الدين؛ كلّ ما لم يأت في القرآن، و لا عن رسول اللَّه، إلّا أنّ منها ما يؤجر عليهصاحبه و يُعذّر بما قصد إليه من الخير، و منها ما يؤجر عليهصاحبه و يكون حسناً و هو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضى الله عنه:

«نعمت البدعة هذه- إلى أن قال:- و منها ما يكون مذموماً، و لا يُعذَّرصاحبه، و هو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به» «(2)».

4- و قال الغزالي: «و ما يقال: إنّه أُبدع بعد رسول اللَّه، فليس كل ما أبدع منهياً بل المنهي عنه بدعة تضاد سنّة ثابتة، و ترفع أمراً من الشرع مع بقاء علّته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيّرت الأسباب» «(3)».

5- و قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح المشكاة: «اعلم أنّ كل ما ظهر بعد رسول اللَّه بدعة، و كلّ ما وافق أُصول سنّته و قواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة، و كلّ ما خالفها فهو بدعة سيّئة و ضلالة» «(4)».

6- و قال ابن الأثير: «البدعة بدعتان: بدعة هدى، و بدعة ضلال، فما كان في


1- فتح الباري 7: 10.
2- الفصل في الملل و النحل كما في البدعة للدكتور عزت: 161.
3- الاحياء 2: 3 ط الحلبي.
4- الكشّاف لاصطلاحات الفنون كما في البدعة للدكتور عزت: 162.

ص:75

خلاف ما أمر اللَّه به و رسوله صلى الله عليه و آله فهو في حيز الذم و الإنكار، و ما كان واقعاً تحت عموم ما ندب اللَّه إليه، و حثّ عليه اللَّه أو رسوله فهو في حيّز المدح. و ما لم يكن له مثال موجود، كنوع من الجود و السخاء و فعل المعروف، فهو من الأفعال المحمودة، و لا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به؛ لأنّ النبيّصلى الله عليه و آله قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها و أجر من عمل بها» و قال في ضدّه: «و من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها» و ذلك إذا كان في خلاف ما أمر اللَّه به و رسولهصلى الله عليه و آله.

و من هذا النوع قول عمر رضى الله عنه: «نعمت البدعة هذه (التراويح) لما كانت من أفعال الخير و داخلة في حيز المدح» سمّاها بدعة و مدحها، إلّا أنّ النبيّصلى الله عليه و آله لم يسنّها لهم و إنّماصلّاها ليالي ثمّ تركها و لم يحافظ عليها، و لا جمع الناس لها، و لا كانت في زمن أبي بكر، و إنّما عمر رضى الله عنه جمع الناس عليها و ندبهم إليها، فبهذا سمّاها بدعة، و هي على الحقيقة سنّة، لقولهصلى الله عليه و آله: «عليكم بسنّتي و سنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» و قوله: «اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر و عمر» و على هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: «كل محدثة بدعة» إنّما يريد ما خالف أُصول الشريعة و لم يوافق السنّة. و أكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم» «(1)».

هذه كلمات أعلام السنّة و إليك ما ذكره أصحابنا في الموضوع مقتصراً على نماذج منها:

7- قال السيد المرتضى: «البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه من إسناد إلى الدين» «(2)».


1- النهاية 1: 79 و كلامه صريح في أنّ النبيّ لم يصلّها جماعة إلّا ليال و تركها، و إن أقامتها جماعة كانت من سنّة عمر، إذ للخليفتين- حسب الرواية- حقّ التسنين الذي يعبّر عنه بسنّة الصحابي.
2- الشريف المرتضى، الرسائل 2: 264.

ص:76

8- قال العلّامة في المختلف: «إنّ الأذان عبادة متلقّاة من الشرع؛ فالزيادة عليها بدعة كالنقصان، و كلّ بدعة حرام» «(1)».

9- قال الشهيد السعيد محمد بن مكي العاملي (ت 786 ه): «محدثات الأُمور بعد عهد النبيصلى الله عليه و آله تنقسم أقساماً، لا يطلق اسم البدعة عندنا إلّا على ما هو محرّم منها» «(2)».

و مع ذلك كلّه فقد خالف الشهيد كلامه في كتاب الذكرى، و قال:

10- «إنّ لفظ البدعة غيرصريح في التحريم؛ فانّ المراد بالبدعة ما لم يكن في عهد النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ تجدّد بعده، و هو ينقسم إلى: محرّم و مكروه».

11- قال الطريحي (ت 1086 ه): «البدعة: الحدث في الدين و ما ليس له أصل في كتاب و لا سنّة. و إنّما سمّيت بدعة؛ لأنّ قائلها ابتدع هو نفسه، و البِدَع- بالكسر و الفتح-: جمع بدعة و منه الحديث «من توضّأ ثلاثاً فقد أبدع» أي فعل خلاف السنّة؛ لأنّ ما لم يكن في زمنهصلى الله عليه و آله فهو بدعة» «(3)».

12- و قال المجلسي (ت 1110 ه): «البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول و لم يرد فيه نصّ على الخصوص، و لا يكون داخلًا في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً؛ فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس و أمثالها، الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين و إسكانهم و إعانتهم، و كإنشاء بعض الكتب العلمية، و التصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية، و كالألبسة التي لم تكن في عهد الرسولصلى الله عليه و آله و الأطعمة المحدثة؛ فإنّها داخلة في


1- المختلف 2: 131.
2- القواعد و الفوائد 2: 144- 145 القاعدة 205. و قد ذكر الأقسام الخمسة غير واحد من الفقهاء منهم القرافي في الفروق 4: 202- 205. و سيوافيك الكلام في عدم صحة هذا التقسيم.
3- مجمع البحرين ج 1: مادة« بدع» لاحظ« ترتيب المجمع».

ص:77

عمومات الحليّة، و لم يرد فيها نهي.

و ما يفعل منها على وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة على الخصوص كان بدعة، كما أنّ الصلاة خير موضوع و يستحبّ فعلها في كلّ وقت. و لو عيّن ركعات مخصوصة على وجه مخصوص في وقت معيّنصارت بدعة، و كما إذا عيّن أحد سبعين تهليلة في وقت مخصوص على أنّها مطلوبة للشارع في خصوص هذا الوقت بلا نصّ ورد فيها كانت بدعة، و بالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيه نصّ بدعة، سواء كانت أصلها مبتدعة أو خصوصيتها مبتدعة» ثمّ ذكر كلام الشهيد عن قواعده «(1)».

13- و قال المحدّث البحراني (ت 1186 ه): «الظاهر المتبادر من البدعة لا سيما بالنسبة إلى العبادات إنّما هو المحرّم، و لما رواه الشيخ الطوسي عن زرارة و محمد بن مسلم و الفضيل عن الصادقين عليهما السلام: «ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار» «(2)»

.

14- و قال المحقق الآشتياني (ت 1322 ه): البدعة؛ «إدخال ما علم أنّه ليس من الدين في الدين و لكن يفعله بأنّه أمر به الشارع» «(3)».

15- و قال أيضاً: «البدعة: إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين» «(4)».

16- و قال السيد محسن الأمين (ت 1371 ه): «البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرّم أو تحريم مباح، أو إيجاب ما ليس بواجب أو ندبة، أو نحو ذلك سواء كانت في القرون الثلاثة أو بعدها، و تخصيصها بما بعد القرون الثلاثة


1- البحار 74: 202- 203.
2- الحدائق 10: 180؛ وسائل الشيعة 5: 192 ذ ح 1.
3- و 4 بحر الفوائد: 80 و ترى قريباً من هذه الكلمات في فرائد الشيخ الأنصاري: 30 و فوائد الأُصول للمحقق النائيني 2: 130.
4- و 4 بحر الفوائد: 80 و ترى قريباً من هذه الكلمات في فرائد الشيخ الأنصاري: 30 و فوائد الأُصول للمحقق النائيني 2: 130.

ص:78

لا وجه له، و لو سلّمنا حديث «خير القرون قرني» فإنّ أهل القرون الثلاثة غير معصومين بالاتّفاق. و تقسيم بعضهم لها إلى حسنة و قبيحة، أو إلى خمسة أقسام ليس بصحيح، بل لا تكون إلّا قبيحة. و لا بدعة فيما فهم من إطلاق أدلّة الشرع أو عمومها أو فحواها أو نحو ذلك، و إن لم يكن موجوداً في عصر النبيّ» «(1)».

تلك ستة عشر نصّاً من كلمات مشاهير علماء الإسلام، فمنهم من خصّ بالتعريف بالبدعة في الدين فجعله قسماً واحداً، و منهم عمّمها فقسّمها إلى ممدوحة و مذمومة، و الحافز الوحيد إلى ذاك، هو اقتفاء قول عمر فيصلاة التراويح، و لو لاصدور ذاك لما خطر ببال هؤلاء هذا التقسيم.

و يبدو أنّ أوضح التعاريف ما نقلناه عن العلمين: الآشتياني و السيد الأمين؛ فإنّهما 0 أتيا باللبّ، و حذفا القشر، فمقوّم البدعة هو التصرّف في الدين عقيدة و تشريعاً؛ بإدخال ما لم يعلم أنّه من الدين فيه، فضلًا عمّا علم أنّه ليس منه قطعاً.

و الذي يؤخذ على تعريفهما أنّه لا يشمل البدعة بصورة النقص كحذف شي ء من أجزاء الفرائض.


1- كشف الارتياب: 143.

ص:79

تحديد مفهوم البدعة و مقوّماتها

المبحث الثالث تحديد مفهوم البدعة و مقوّماتها

اشارة

إنّ الأمر المهم بعد الوقوف على النصوص، هو تحديد مفهوم البدعة التي وقعت موضوعاً للحكم الشرعي كسائر الموضوعات الواردة في المصدرين الرئيسيّين، فما لم تحدّد و لم نقف على مفهومها الدقيق و على ما هو معتبر فيصميمها عند الشرع، لا يمكن لنا تطبيق الحكم الكلّي على مصاديقها و مواضيعها.

و قد اتّضح بعد دراسة الأدلّة أنّ قيود البدعة التي هي الموضوع لدى الشرع ثلاثة، نذكرها بالتدريج:

الأوّل: التدخّل في الدين عقيدة و حكماً، بزيادة أو نقيصة.

الثاني: أن تكون هناك إشاعة و دعوة.

الثالث: أن لا يكون هناك دليل في الشرع يدعم جوازها لا بالخصوص و لا بالعموم.

و إليك دراسة هذه القيود المكوّنة لمفهوم البدعة التي اتّخذها الكتاب و السنّة موضوعاً للحكم.

ص:80

1- التدخّل في الدين بزيادة أو نقيصة

هل إنّ الموضوع في المصدرين هو نفس البدعة أو خصوص البدعة في الدين؟

فلو قلنا بأنّ الموضوع نفسُ البدعة بسيطاً، سواء كان الإحداث و الإبداع راجعاً إلىصميم الدين أو غيره، فيكون الحكم بحرمة ذلك الموضوع الواسع أمراً غير ممكن، و لأجل ذلك لجأ أصحاب ذلك القول إلى تقسيمها إلى أقسام خمسة حسب انقسام الأحكام.

و أمّا إذا كان الموضوع هو الأمر المركّب، أي البدعة في الدين، فذلك له حكم واحد لا يقبل التخصيص. إلّا أنّصحة إحدى النظرتين متوقفة على دراسة الآيات و الروايات. و قد اتّضح ممّا سبق، عند استعراض النصوص، أنّ الموضوع في الكتاب و السنّة هو البدعة في الدين لا مطلقها، فلو كان الكتاب و السنّة يتكلّمان فيها فإنّما يتكلّمان فيها باسم الدين و الشريعة و عن البدعة فيهما، لأنّ كلّ متكلّم إنّما يتكلّم في إطار اختصاصه و مقامه و حسبَ شأنه، فالكتاب العزيز كتاب إلهي جاء لهداية الناس و إلى ما فيه مرضاة اللَّه بتشريعه القوانين و السنن، و النبيّ الأكرم مبعوث لتبيان ذلك الكتاب بأقواله و أفعاله و تقريراته، قال تعالى: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «(1)».

و على ضوء ذلك فإنّ الكتاب و السنّة يتكلّمان بتلك الخصوصية التي يمتلكانها، فإذا تكلّما عن البدعة فإنّما يتكلّمان عن البدعة الواردة في حوزتهما، و قيد الدين و الشريعة و إن لم يذكرا في متون النصوص غالباً؛ لكنّهما مفهومان من القرائن الموجودة فيها، فلا عبرة بالإطلاق بعد القرائن الحافّة على الكلام، هذا ما نستنبطه


1- النحل: 44.

ص:81

من مجموع الخطابات الواردة في الأدلّة. و إليك بيان و دراسة تلك الأدلّة تفصيلًا:

1- تضافرت الآيات على ذمّ عمل المشركين حينما كانوا يقسمون رزق اللَّه إلى ما هو حلال و حرام فجاء الوحي مندِّداً بقوله: «قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» «(1)» و في آية أُخرى يعدّ عملهم افتراءً على اللَّه كما يقول: «وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» «(2)» و من المعلوم أنّ المشركين كانوا ينسبون الحكمين إلى اللَّه سبحانه، و أنّه سبحانه قد جعل منه حلالًا و حراماً، فكان عملهم بدعة في الدين.

2- وقفت في التمهيد، أنّه سبحانه يصف من لم يحكم بما أنزل اللَّه، بكونه كافراً و ظالماً و فاسقاً و من المعلوم أنّ أحبار اليهود كانوا يحرّفون الكتاب فيصفون ما لم يحكم به اللَّه، بكونه حكم اللَّه، قال سبحانه: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» «(3)» فقوله «هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ»صريح في أنّهم كانوا يتدخّلون في الشريعة الإلهية فيعرِّفون ما ليس من عند اللَّه على أنّه من عند اللَّه، و هذا يؤكد بأنّ الموضوع في هذه الآية و أمثالها هو البدعة في الدين لا مطلقها.

3- ذمّ اللَّه سبحانه الرهبان لابتداعهم ما لم يكتب عليهم، قال سبحانه:

«وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» «(4)» و معنى الآية أنّهم كانوا ينسبون الرهبانية إلى شريعة المسيح مدّعين بأنّه هو الذي شرع لهم ذلك العمل، و القرآن يردّهم بقوله: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ».

4- أنّه سبحانه وصف أهل الكتاب بأنّهم اتّخذوا رهبانهم و أحبارهم أرباباً


1- يونس: 59.
2- النحل: 116.
3- البقرة: 79.
4- الحديد: 27.

ص:82

من دون اللَّه، و قد فسّره النبيّ الأكرم بأنّهم كانوا يحرّمون ما أحلّ اللَّه فيتبعونهم أتباعهم، أو يحلّلون ما حرّم اللَّه عليهم فيقبلونه بلا تردّد، و من المعلوم أنّ الأحبار و الرهبان كانوا يعرِّفون ما تخيّلوه من الحرام و الحلال على أنّه حكم اللَّه سبحانه، و ليس هذا إلّا بدعة في الشرع، و تدخلًا في أمر الشريعة.

و إذا تدبّرت في هذه الآيات و أمثالها يتّضح لك أنّ الآيات تدور حول محور واحد هو البدعة في الدين لا مطلقها، و لا يضرّ عدم ذكر القيد في اللفظ؛ إذ هو مفهوم من القرائن القطعية.

ثمّ إنّ في قوله: «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» وجهين: فمنهم من يجعله استثناءً منقطعاً، أي ما كتبنا عليهم الرهبانية و إنّما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان اللَّه، و منهم من يجعله استثناءً متّصلًا، بمعنى أنّه سبحانه كتب عليهم أصل الرهبانية، لأجل كسب رضوان اللَّه، و لكنّهم لم يراعوا حقّها؛ فتكون البدعة على الأوّل نفس الرهبانية و على الثاني الخروج عن حدودها.

هذا كلّه حول الآيات، و أمّا السنّة، ففيها قرائن كثيرة تعطي نفس المفهوم الذي أعطته الآيات، و إليك تلك القرائن.

1- ففي الرواية الأُولى يبتدئ النبي كلامه بقوله: «أصدق الحديث كتاب اللَّه، و أفضل الهدى هدي محمد» و هذا يدلّ على أنّ ما اتّخذه النبي موضوعاً للبحث هو ما يرجع إلى كتاب اللَّه و هدي نبيّه، فإذا قال بعده: «و شرّ الأُمور محدثاتها» يكون المراد ما دخل في الشريعة من أُمور، و إذا قال: «كلّ بدعة ضلالة»، أي البدعة فيما يتكلّم عنه، و من المعلوم أنّه يتكلّم عن دعوته و شريعته، فتحوير كلامه إلى مطلق البدعة، و إن لم يمسّ الكتاب و السنّة، تأويل للظاهر بلا دليل.

2- ثمّ إنّهصلى الله عليه و آله يحكم على كلّ بدعة بالضلال، و من المعلوم أنّه لا يصدق إلّا على البدعة في الشريعة، و أمّا غيرها فهي على أقسام كما قالوا.

ص:83

3- روى مسلم فيصحيحه أنّ رسول اللَّه إذا خطب احمرّت عيناه و علاصوته، و اشتدّ غضبه كأنّه منذرُ جيشٍ ثمّ يقول: «أمّا بعد فانّ خير الحديث كتاب اللَّه و خير الهدى هدي محمد. ..» و من المعلوم أنّ الأرضية الصالحة لثوران غضبه ليس إلّا تدخّل المبتدع في شريعته، لا مطلق التدخل في شئون الحياة و إن لم تمسّ دينه، خصوصاً إذا كان في مصلحة الإنسان.

4- إنّهصلى الله عليه و آله وصف البدعة بالضلالة و قال: «إنّصاحبها في النار» و لا تصدق تلك القاعدة إلّا علىصاحب البدعة في الشريعة.

5- إنّهصلى الله عليه و آله عند ما رأى أنّ رجالًا يُذادون عن حوضه فأخذ يناديهم بقوله:

«ألا هلمّ ألا هلمّ ألا هلمّ» فإذا ينادي المنادي بقوله: «إنّهم قد بدّلوا بعدك» فيقول النبي: «فسحقاً! فسحقاً! فسحقاً!» و من المعلوم أنّه قد بدّلوا دين الرسول و شريعته و إلّا لما كانوا مستحقّين دعاءه بقوله: «فسحقاً...».

6- دلّت الروايات السابقة على أنّه إذا ظهرت البدع في الأُمّة فعلى العالم أن يظهر علمه و إلّا فعليه لعنة اللَّه.

7- كما دلّت على أنّصاحب البدعة لا تقبل توبته.

8- و إنّ من زار ذا بدعة فقد سعى في هدم الإسلام.

9- و أوضح من الكل خطاب الإمام علي عليه السلام حيث قال: «إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع و أحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللَّه».

10- و في رواية أُخرى: «ما أُحدثت بدعة إلّا تركت فيها سنّة، فاتركوا البدع و الزموا المهيع إنّ عوازم الأُمور أفضلها، و إنّ محدثاتها شرارها» «(1)»

.

11- هذا ما تعطيه نصوص الكتاب و السنّة، و تليهما نصوص لفيفٍ من أهل اللغة التي سبق ذكرها، مثل:


1- قد سبقت مصادرها في نصوص البدعة في الكتاب و السنّة فلاحظ.

ص:84

قول الخليل: و البدعة ما استحدثت بعد الرسول.

و قول الراغب: البدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها و فاعلها فيه بصاحب الشريعة.

و قول الفيروزآبادي: البدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء و الأعمال.

و تليه نصوص لفيف من الفقهاء، نظير قول ابن رجب الحنبلي: البدعة ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه.

و قول ابن حجر العسقلاني: البدعة ما أُحدث و ليس له أصل في الشرع.

و قول ابن حجر الهيتمي: البدعة ما أُحدث على خلاف أمر الشارع و دليله الخاص.

و قول الزركشي: البدعة الشرعية هي التي تكون ضلالة «(1)».

و من يدرس هذه النصوص جليلها و دقيقها يقف على أنّ موضوع البحث في جميع الأدلّة هو الأمر الذي يمت إلى الشريعة بصلة، و أنّ اللَّه سبحانه و نبيّه الصادع بالحق يهيبان بالمجتمع الإسلامي عن البدعة و الكذب على اللَّه، و التدخّل في الكتاب و السنّة، و التلاعب بما أنزل اللَّه في مجالي العقيدة و الشريعة، و هذا أمر واضح لا غبار عليه، و بذلك يختلف اتّجاهنا في تفسير النصوص عن غيرنا.

فإذا ثبت ذلك اتّضح أنّ البدعة ليس لها إلّا قسم واحد، و لها حكم واحد لا يُخصص و لا يُقيّد بل هو بمثابة لا يقبل التخصيص، و هذا نظير قوله سبحانه: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «(2)» فإنّ تلك القاعدة لا تقبل التخصيص أي يمتنع تجويز الظلم و الشرك في مكان دون مكان، نظير قوله سبحانه: «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ


1- قد مضت النصوص في مواضعها.
2- لقمان: 13.

ص:85

كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» «(1)».

ثمّ إنّ النتيجة التي توصّلنا إليها قد توصّل إليها الشاطبي بطريقة أُخرى هذا موجزها:

«قال: الباب الثالث: في أنّ ذمّ البدع و المحدثات عام لا يخصُّ محدثة دون غيرها- إلى أن قال:- فاعلموا- رحمكم اللَّه- أنّ ما تقدّم من الأدلّة حجّة في عموم الذمّ من أوجه:

أحدها: أنّها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة، و لم يأت فيها ما يقتضي، أنّ منها ما هو هدى، و لا جاء فيها: كلّ بدعة ضلالة إلّا كذا و كذا.

و لا شي ء من هذه المعاني فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان، أو أنّها لاحقة بالمشروعات، لذكر ذلك في آية أو حديث، لكنّه لا يُوجد، فدلّ على أنّ تلك الأدلّة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكليّة التي لا يتخلّف عن مقتضاها فرد من الأفراد.

الثاني: أنّه قد ثبت في الأُصول أنّ كلّ قاعدة كليّة أو دليل شرعي كلّي إذا تكرّرت في مواضع كثيرة و أتى بها شواهد على معان أُصوليّة أو فروعية، و لم يقترن بها تقييد و لا تخصيص، مع تكرّرها و إعادة تقررها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم، كقوله تعالى: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» «(2)»، فما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعدّدة أنّ كلّ بدعة ضلالة، و أنّ كلّ محدثة بدعة، و ما كان نحو ذلك من العبارات الدالّة على أنّ البدع مذمومة، و لم يأت في آية و لا حديث، تقييد و لا تخصيص، و لا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها.


1- القلم: 35.
2- النجم: 38- 39.

ص:86

الثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة و التابعين و من يليهم على ذمّها كذلك، و تقبيحها و الهروب عنها- إلى أن قال:- فهو بحسب الاستقراء، إجماع ثابت، فدلّ على أنّ كلّ بدعة ليست بحقّ، بل هي من الباطل.

الرابع: أنّ متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه، لأنّه من باب مضادة الشارع و اطّراح الشرع، و كل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن و قبيح «(1)» و أن يكون منه ما يمدح و منه ما يذمّ، إذ لا يصحّ في معقول و لا منقول استحسان مشاقّة الشارع» «(2)».

إلى هنا تمّ الكلام في تحديد البدعة من حيث كون الموضوع بسيطاً و مركّباً، و يترتّب عليه أنّه لا تعمّ البدعة غير الشريعة، كالعادات و الصناعات و الأعلام و غيرها، بل يستخرج حكمها من الكتاب و السنّة بنفس عناوينها، لا بما هي بدعة، فربّما تكون حلالًا و أُخرى حراماً، لكن ليس كلّ حرام بدعة. كما سيأتي.

2- البدعة إشاعة و دعوة

إذا كانت البدعة هي إدخال ما ليس في الدين فيه أو نقصه منه في مجال العقيدة و الشريعة؛ فهل يتحقّق مفهومها بقيام الشخص بذلك العمل؛ وحده في بيته و منزله، كأن يزيد فيصلاته ما ليس فيها أو ينقص منها شيئاً، أو أنّه ليس ببدعة و إن كان عمله باطلًا و بفعله عاصياً؟ بل البدعة تتوقّف على إشاعة فكرة خاطئة في العقيدة، أو عمل غير مشروع في المجتمع و دعوتهم إليه بعنوان أنّه من الشرع، و لك أن تستظهر ذلك القيد من الآيات و الروايات، فإنّ عمل المشركين في التحليل


1- لا يخفى أنّ الإمام الشاطبي يقول في كلمته هذه بالحسن و القبح العقليين مع أنّه خلاف مذهبه، لاحظ الصفحة 114 من الاعتصام.
2- الاعتصام 1: 141- 142.

ص:87

و التحريم لم يكن عملًا شخصياً في الخفاء، بل إنّ المُبتدع الأوّل قد أحدث فكرة و أشاعها و دعا الناس إليها، كما كان الحال كذلك في الرهبان و الأحبار، و يشهد على ذلك بوضوح ما رواه مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتّبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» «(1)»

.

و يدلّ عليه قول القائل يوم القيامة: «إنّهم قد بدّلوا بعدك» فإنّ تبديل الدين، ليس عملًا شخصياً بل هو عمل جماعي، إلى غير ذلك من القرائن الموجودة في الروايات.

الى هنا خرجنا بنتيجتين:

الأُولى: إنّ مصبّ البدعة في الأدلّة هو الدين و الشرع.

الثانية: إنّ البدعة لا تنفك عن الدعوة إلى الباطل.

و إليك بيان القيد الثالث.

3- عدم وجود أصل لها في الدين

العنصر الثالث المقوّم لمفهوم البدعة هو فقدان الدليل على جواز العمل بها، لا في الكتاب و لا في السنّة، و ذلك ظاهر؛ إذ لو كان هناك دعم من الشارع للعمل؛ لما كان أمراً جديداً في الدين أو تدخّلًا في الشرع، و لأجل ذلك قلنا: إنّ أفضل التعاريف هو قولهم: «إدخال ما ليس من الدين في الدين» أو «إدخال ما لم يُعلم من الدين في الدين».


1- لاحظ المبحث الأوّل: نصوص البدعة في الكتاب و السنّة، الحديث التاسع.

ص:88

و بعبارة واضحة: البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول، و لم يرد فيه نصّ على الخصوص، و لم يكن داخلًا في بعض العمومات.

و إن شئت قلت: إحداث شي ء في الشريعة لم يرد فيه نصّ، سواء كان أصله مبتدعاً، كصوم عيد الفطر، أو خصوصيته مبتدعة كالإمساك إلى غسق الليل ناوياً به الصوم المفروض، معتقداً بأنّه الواجب في الشرع. و في النصوص السابقة للعلماء تصريح بذلك.

قال ابن حجر العسقلاني: «و المراد بالبدعة، ما أحدث و ليس له أصل في الشرع، و ما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة».

قال ابن رجب الحنبلي: «البدعة: ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، أمّا ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً و إن كان بدعة لغة» «(1)».

و قال العلّامة المجلسي: «البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسولصلى الله عليه و آله و لم يرد فيه نصّ على الخصوص و لا يكون داخلًا في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً» «(2)».

و على ضوء ذلك تنحل هنا عويصة المصاديق التي ربّما تعدّ من البدعة؛ لعدم ورود نصّ خاصّ فيها و لكن تشملها العمومات بصورة كليّة، فهذه لا تكون بدعة، و ذلك لأنّه لو كان هناك نصّ خاص؛ لأخرجه عن البدعة و هذا واضح جدّاً، أمّا إذا لم يكن هناك نصّ خاصّ، و لكن العمومات تشمله بعمومها فهذا ما نوضحه بالمثال التالي:

إنّ الدفاع عن بيضة الإسلام و حفظ استقلاله وصيانة حدوده عن الأعداء


1- مضت النصوص في محلّها.
2- البحار 74: 202.

ص:89

أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ» «(1)» فإنّ قوله: «مِنْ قُوَّةٍ» مفهوم كلّي يشمل كيفية الدفاع، و نوعيّة السلاح، و شكل الخدمة العسكرية المتبعة في كلّ عصر و مصر، فالجميع برمّته هو تطبيق لهذا المبدأ، و تجسيد لهذا الأصل، فالتسلّح بالغواصات و الأساطيل البحريّة و الطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من أدوات الدفاع، ليس بدعة بل تجسيد لهذا الأصل و من حلاله.

و إنّ من يعد التجنيد العسكري بدعة فهو غافل عن حقيقة الحال، فإنّ الإسلام يأمر بالأصل و يترك الصور و الأشكال لمقتضيات العصور.

إلى هنا خرجنا بلزوم وجود قيود ثلاثة في تحقّق البدعة وصدقها:

1- أن يكون تدخّلًا في الشريعة و تصرّفاً فيها عقيدةً و حكماً.

2- أن تكون هناك إشاعة بين الناس.

3- أن لا يكون هناك أصل على المشروعية لا خاصّاً و لا عامّاً.

و يجمع الكلّ «القول في الدين بغير علم على الأغلب، بل مع العلم بالخلاف و لكن يقدّم رأيه عليه، بظنّ الإصلاح أو غيره من الحوافز».

هذا هو تحديد البدعة بمفهومها الدقيق الذي نتّخذه قاعدة كليّة، و نستكشف به حال الموضوعات التي تضاربت فيها الأقوال و الأفكار بين موسِّع و مضيِّق.

و سيوافيك شرحها.


1- الأنفال: 60.

ص:90

الابتداع في تفسير البدعة

المبحث الرابع الابتداع في تفسير البدعة

اشارة

لقد ارتحل النبيّ الأكرم إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الشريعة و بيّن جليلها و دقيقها و ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة، قال سبحانه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «(1)» و حفاظاً على دينه وصيانته من التحريف و التبديل، أمر التمسّك بالثقلين. و لم يرضَ للأُمّة غيرهما لئلّا يكون الدين أُلعوبة بأيدي المغرضين و الطامعين. و المقياس في تميّز البدعة عن السنّة هو الرجوع إلى الثقلين سواء أفسر بالكتاب و العترة، كما هو المتضافر، أم بالكتاب و السنّة، كما رواه الإمام مالك في الموطأ بسند مرسل «(2)»، و الحديثان متقاربا المضمون؛ لأنّ العترة لا تنشد إلّا السنّة النبويّة، التي أخذوها كابر عن كابر إلى أن تصل إلى النبيّ الأكرم، فما وافقهما فهو سنّة و ما خالفهما فهو بين معصية و بدعة، مع الفرق الواضح بينهما؛ فلو أُذيعت الفكرة أو شاع العمل بين الناس بها فتصير بدعة، و إن اكتُفي بها من دون دعوة و إشاعة فهي معصية.


1- المائدة: 3.
2- الموطّأ: 648/ 1619.

ص:91

بدعة «ما لم يكن في القرون الثلاثة»

و من العجب أنّ أُناساًصاروا إلى تحديد البدعة و تمييزها عن السنّة، و لكنهم جاءوا حين تحديدها ببدعة و فرية جديدة لا دليل عليها في الكتاب و السنّة، و هي أنّ المقياس في تمييز البدعة عن السنّة هو القرون الثلاثة الأُولى بعد رحيل الرسول.

فما حدث فيها فهو سنّة، و ما حدث بعدها فهو بدعة، و إن تعجب فإليك نصّ القائل:

«و ممّا نحن عليه، أنّ البدعة- و هي ما حدثت بعد القرون الثلاثة- مذمومة مطلقة خلافاً لمن قال: حسنة و قبيحة، و لمن قسّمها خمسة أقسام إلّا إن أمكن الجمع بأن يقال: الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة و المندوبة و المباحة، و تكون تسميتها بدعة مجازاً، و القبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرّمة و المكروهة فلا بأس بهذا الجمع» «(1)».

و هذه النظرية الشاذّة عن الكتاب و السنّة نظرية خاصّة استنتجها القائل ممّا رواه الشيخان في باب فضائل أصحاب النبيّ و إليك نصّهما:

روى البخاري قال: سمعت عمران بن الحصين يقول: قال رسول اللَّه: «خير أُمّتي قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم»، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، «ثمّ إنّ بعدكم قوماً، يشهدون و لا يستشهدون، و يخونون و لا يُؤتمنون، و يَنذرون و لا يفون، و يظهر فيهم السمن».

و روى أيضاً عن عبد اللَّه رضى الله عنه أنّ النبيّ قال: «خير الناس قَرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ يجي ء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، و يمينه شهادته»، قال: قال


1- الهدية السنية، الرسالة الثانية: ص 51.

ص:92

إبراهيم: و كانوا يضربوننا على الشهادة و العهد و نحنصغار «(1)».

إنّ الاحتجاج بهذه الرواية على أنّ الميزان في تمييز البدعة عن السنّة، هو أنّ كلّ ما حدث في القرون الثلاثة الأُولى ليس ببدعة؛ و أمّا الحادث بعدها فهو بدعة؛ باطل بوجوه:

الأوّل: إنّ القرن في اللّغة هو النسل «(2)» و هو الأُمّة بعد الأُمّة و بهذا المعنى استعمل في القرآن الكريم، قال سبحانه: «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» «(3)» و بما أنّ المتعارف في عمر كلّ نسل هو الستّون أو السبعون، يكون المراد، مجموع تلك السنين التي تتراوح بين 180 و 210 و أين هذا من تفسير الحديث بثلاثمائة سنة؟!

الثاني: على الرغم من اختلاف شرّاح الحديث في تفسير الرواية، إلّا أنّ جميعها لا يستفاد منها ما يتبنّاه الكاتب، فبعض قال: إنّ المراد من القرن في قوله:

«قرني» هو أصحابه، و من «الذين يلونهم» أبناءهم و من «الثالث» أبناء أبنائهم.

و قال آخر: بأنّ قرنه ما بقيت عين رأته، و من الثاني ما بقيت عين رأت من رآه، ثمّ كذلك.

و ثالث قال: إنّ قرنه الصحابة، و الثاني التابعون، و الثالث تابعوهم «(4)».

و على كلّ تقدير تكون المدّة أقلّ من ثلاثة قرون، حتى لو أخذنا بالقول الأخير الذي هو أعمّ الأقوال و أوسعها. فإنّ آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل، و قد اختلفوا في تاريخ وفاته على أقوال: فقيل: أنّه توفّي سنة 120 أو


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7: 6 باب فضائل أصحاب النبي؛ صحيح مسلم بشرح النووي 8: 84- 85.
2- لسان العرب 13: 333 مادة« قران».
3- الأنعام: 6.
4- صحيح مسلم، شرح النووي 16: 85.

ص:93

دونها أو فوقها بقليل، و أمّا قرن التابعين فآخر من توفّي منهم كان عام 170 أو 180 و آخر من عاش من أتباع التابعين ممّن يقبل قوله، من توفّي حدود 220، فيقل عن ثلاثة قرون بثمانين سنة، و هذا كثير جدّاً، و لأجل عدم انطباقه على ثلاثة قرون قال ابن حجر العسقلاني: «و في هذا الوقت 220 ه ظهرت البدع فاشياً، و أطلقت المعتزلة ألسنتها، و رفعت الفلاسفة رءوسها، و امتُحِن أهل العلم ليقولوا بخَلْق القرآن، و تغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً و لم يزل الأمر في نقص الى الآن» «(1)».

و لو افترضنا أنّ القرن يستعمل في مائة سنة فلا يصحّ تفسير الحديث به، لأنّ المحور في الحديث في تمييز قرن عن قرن آخر هو الأشخاص حسب أعمارهم، فعلى ذلك يجب أن يكون الملاك في تبادل القرون و تمايزها ملاحظة من كانوا يعيشون فيه حيث قال: «خير أُمّتي قرني» و لم يقل القرن الأوّل، ثمّ قال: «ثمّ الذين يلونهم» فلم يقل ثمّ القرن الثاني، و قال: «ثمّ الذين يلونهم» و لم يقل القرن الثالث، فلا محيص عند حساب السنين ملاحظة الأشخاص الذين كانوا يعيشون في قرنه و القرنين اللّذين يليانه.

*** الثالث: ما ذا يراد من عبارة خير القرون و شرّها، و ما هو الملاك في الوصف بالخير و الشر؟

هناك ثلاثة ملاكات للاتّصاف بالخير و الشر، كلّها محتمل:

1- إنّ أهل القرن الأوّل كانوا خير القرون، و ذلك لأنّهم لم يدبّ فيهم دبيب الخلاف في الأُصول و العقائد، و كانوا متماسكين في الأُصول، متّحدين في العقائد.

2- كونهم خير القرون و ذلك لسيادة الطمأنينة فيهم، و كان الجميع متظلّل بظلّ الصلح و السلم إخواناً.


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7: 4.

ص:94

3- كونهم خير القرون و ذلك لتمسّكهم بأهداف الدين في مقام العمل و تطبيق الشريعة.

و أيّ واحد أُريد من هذه الملاكات؛ فالقرآن و السنّة و التاريخ القطعي لا يدعمه بل يكذبه، و إليك البيان:

فإن كان الملاك هو العقائد الصحيحة و الباطلة، و أنّ المسلمين كانوا متمسّكين جملة واحدة بمعتقد واحدصحيح في القرون الثلاثة الأُولى ثمّ ظهرت رءوس الشياطين، و دبّت فيهم المناهج الكلاميّة الفاسدة،- فإن كان الملاك هذا- فتاريخ الملل و النحل لا يؤيد ذلك بل و يكذّبه، فانّ الخوارج ظهروا بين الثلاثين و الأربعين من القرن الأوّل، و كانت لهم ادّعاءات و شبهات و عقائد سخيفة خضّبوا في طريقها وجه الأرض، و لم يتمّ القرن الأوّل إلّا و ظهرت المرجئة، الذين دعوا المجتمع الإسلامي إلى التحلل الأخلاقي، رافعين عقيرتهم بأنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية، فقد ضلّوا و أضلّوا كثيراً حتّى دبّ الإرجاء بين المحدثين و غيرهم في القرن الثاني، و قد ذكر أسماءهم جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي «(1)». حيث كان الإرجاء يقود المجتمع الإسلامي إلى التحلل الأخلاقي، و الفوضى في جانب العمل. إلى أن ظهرت المعتزلة في أوائل القرن الثاني عام 105 ه قبل وفاة الحسن البصري بقليل، فتوسّع الشقاق بين المسلمين، و انقسموا إلى فرق كثيرة، حيث كان النزاع قائماً على قدم و ساق منذ أن ظهر الاعتزال على يد واصل بن عطاء حتى أواسط القرن الخامس الذي قضي فيه على هذه الفرقة.

و أمّا القرن الثاني فكان عصر ازدهار المذاهب الكلامية، و كانت الأمصار ميداناً لتضارب الأفكار.

فمنهم متزمت يقتصر في وصفه اللَّه سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب


1- تدريب الراوي 1: 328.

ص:95

و السنّة، و يفسّرها بمعانيها الحرفية، من دون إمعان و تدبّر، و يرفعصوته بأنّ للَّه يداً و وجهاً و رجلًا و أنّه مستقرّ على عرشه.

و منهم مرجئيّ يكتفي بالإيمان بالقول، و يقدّمه و يؤخر العمل و يسوق المجتمع إلى التحلل الخلقي و ترك الفرائض.

و آخر محكِّم يكفّر كلّ الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته، الذين كانوا يبغضون الخليفتين عثمان و عليّاً، و كانوا يكفّرون الصدّيق الأعظم عليّ عليه السلام.

و معتزلي يؤوّل الكتاب و السنّة بما يوافق معتقده و عقليّته.

و جهميّ ينفيصفات اللَّه كلّها، و ينفي الاستطاعة و القدرة عن الإنسان، و يحكم بفناء الجنّة و النار، و قد هلك جهم بنصفوان عام 128 ه.

و كرّامي يقول: الإيمان قول باللسان، و إن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن، و انّه سبحانه جسم لا كالأجسام و قد هلك «كرّام» عام 255 ه.

إلى غير ذلك من المناهج الرجعية التي أفسدت المسلمين و المجتمع الإسلامي بعقائدها الفاسدة، فكيف يمكن- من هذا الجانب- وصف هذه القرون خيراً؟!

و أمّا إذا كان الملاك هوصفاء المجتمع من حيث السلم و الصلح و سيادة الطمأنينة على المسلمين، فهذا ما يكذّبه التاريخ، فانّ القرن الأوّل كانصحيفة سوداء في التاريخ الإسلامي، و كان قرناً دموياً لم يرَ التاريخ مثله. فكيف يكون خير القرون؟! و أيّ يوم فيه كان يوم الصفاء و الصلح؟!

أم يوم قُتل فيه الخليفة عثمان بن عفان في عقر داره بمرآى و مسمع من المهاجرين و الأنصار؟

أم يوم فتنة الجمل الذي قتلت فيه عشرات الآلاف من الطرفين بينصحابي و تابعي، و قد عقب ذلك ترميل النساء و أيتام الأطفال، و حدوث الأزمة و الشدّة؟

أم يومصفّين الذي خرج فيه أمير الشام بوجه الإمام عليّ عليه السلام، الذي بايعه

ص:96

المهاجرون و الأنصار بيعة لم ير لها نظير في التاريخ، فوقعصِدَام بين طائفتين من المسلمين كانت نتيجته إراقة دماء عشرات الأُلوف، إلى أن انتهى إلى التحكيم؟

أم يوم ظهر الخوارج على الساحة الإسلامية يَغيرون و يقتلون الأبرياء إلى أن انتهت فتنتهم بقتل مشايخهم في النهروان؟

أم يوم أُغير على آل رسول اللَّه بكربلاء، حيث قتل فيه أبناء المصطفى، و فيهم سبطه و ريحانته سيد شباب أهل الجنّة، و سُبيت بنات الزهراء و من معهنّ من نساء أهل البيت حتى لم يبقَ بيت له برسول اللَّهصلة إلّا و قد ضُجَّت فيه النوائح و عمّته الآلام و الأحزان؟

أم يوم أُبيحت فيه مدينة رسول اللَّه في وقعة الحرّة الشهيرة فقُتل الأصحاب و التابعون، و نهبت الأموال، و بقرت بطون الحوامل و هتكت الأعراض حتى ولدت الأبكار دون أن يعرفن أولادهن؟ «(1)» أم يوم حاصر جيش بني اميّة مكّة المكرّمة و البيت العتيق و رموه بالحجارة، لأجل القضاء على عبد اللَّه بن الزبير؟

أم يوم تسلّم عبد الملك بن مروان منصّة الخلافة، و قد عيّن الحجاج بن يوسف عاملًا على العراق، فسفك دماءً طاهرة، و قتل الأبرياء، و زجّ بالسجون رجالًا و نساءً من دون أن تظلّهم مظلّة تقيهم حرّ الشمس و برد الليل القارص؟

فكل تلك الحوادث الدموية قد وقعت و لمّا ينقضي القرن الأوّل، فكيف يمكن أن يكون خير القرون و أفضلها؟!

و إن كانصاحب القرن هو الرسول الأعظم أفضل الخلق؟ إلّا أنّ سيرته،


1- منهج في الانتماء المذهبي: ص 277.

ص:97

تختلف عن سيرة أُمّته التي وقفْتَ علىصورة مجملة من أفعالها الدموية «(1)».

و إن كان الملاك هو تمسّكهم بالدين في مجال الأحكام و الفروع فهو أيضاً لم يتحقّق، و إن شئت فارجع إلى ما حدث بعد رحيل النبي في نفس عام الرحلة، فإنّ كثيراً ممّن رأى النبيّ الأكرم و أدركه و سمع حديثه أصبح يمتنع عن أداء الزكاة، بل و ارتدّ بعض عن دين الإسلام، لو لا أن يقمعهم الخليفة الأوّل و يرد عاديتهم.

لكن لا ندري هل نصدق هذا الحديث أم نؤمن بما حدّث القرآن الكريم، حيث يعتبر قوماً أعرف بمواقع الإسلام و يفضلهم على من كان في حضرة النبيّ من الصحابة الكرام و قد ارتدّ، يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» «(2)» قل لي من هؤلاء الذين يعتزّ اللَّه بهم سبحانه و يفضّلهم على أصحاب النبيّ؟ فلاحظ التفاسير «(3)».

لا ندري هل نؤمن بهذا الحديث الذي رواه الشيخان أم نؤمن بما روياه أنفسهما في باب آخر، قالا: قال رسول اللَّه: «يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُحلَّئون عن الحوض فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى» «(4)»

.

هل نؤمن بهذا الحديث أم نؤمن بما رواه المؤرّخون في حياة الوليد بن عقبة و هو الذي وصفه سبحانه بكونه فاسقاً و قال: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ


1- للوقوف على هذه الحوادث المرّة، لاحظ تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي، مروج الذهب للمسعودي، و تاريخ الكامل للجزري، و الإمامة و السياسة لابن قتيبة إلى غير ذلك من المعاجم التاريخية المعتبرة.
2- المائدة: 54.
3- مفاتيح الغيب 3: 427؛ تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 6: 165.
4- جامع الأصول 11: 120: 7973.

ص:98

فَتَبَيَّنُوا» «(1)» و قد أطبق المفسّرون في نزولها في الوليد بن عقبة.

هذا و قد ولي الكوفة أيّام خلافة الخليفة الثالث فشرب الخمر، و قام يصلّي بالناسصلاة الفجر فصلّى أربع ركعات، و كان يقول في ركوعه و سجوده:

اشربي و اسقني، ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلّم و قال: هل أزيدكم إلى آخر ما ذكره «(2)».

و ليس الوليد شخصاً وحيداً بين من عاصر النبيَّ الأكرم، بل كان فيهم أصناف مختلفة لا يمكن الحكم باستقامتهم فضلًا عن الحكم بعدالتهم.

فقد كان فيهم المنافقون المعروفون بالنفاق «(3)»، و المختفون به «(4)»، و مرضى القلوب «(5)»، و السمّاعون كالريشة في مهبّ الرياح «(6)»، و خالطوا العمل الصالح بالسيّئ «(7)»، و المشرفون على الارتداد «(8)»، و المسلمون غير المؤمنين «(9)»، و المؤلّفة قلوبهم «(10)»، و المولّون أمام الكفّار «(11)»، و الفاسق «(12)».

نحن نترك تفسير الحديث إلى آونة أُخرى، و لعلّ المحقّقين يجدون له تفسيراً ينطبق على التاريخ القطعي المشهود و الملموس.


1- الحجرات: 6.
2- الكامل 2: 52؛ اسد الغابة 5: 91 إلى غيرهما من المصادر الكثيرة.
3- المنافقون: 1- 8.
4- التوبة: 101.
5- الأحزاب: 12.
6- التوبة: 45- 47.
7- التوبة: 102.
8- آل عمران: 154.
9- الحجرات: 14.
10- التوبة: 60.
11- الأنفال: 16.
12- الحجرات: 6.

ص:99

بدعة «جعل السلف معياراً للحق و الباطل»

إنّ من البدعة في تفسيرها، هو جعل السلف معياراً للحقّ و الباطل و الإصرار عليه، فترى أنّ كثيراً ممّن ينتمون إلى السلفية يصفون كثيراً من الأُمور بالبدعة بحجّة أنّها لم تكن في عصر الصحابة و التابعين، و هذا ابن تيمية يصف «الاحتفال في مولد النبي بدعة بحجّة أنّه لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له و عدم المانع منه، و لو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً، لكان السلف- رضي اللَّه عنهم- أحقّ منّا فإنّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول اللَّه و تعظيماً له منّا و هم على الخير أحرص» «(1)».

و يقول في حقّ القيام للمصحف و تقبيله: «لا نعلم فيه شيئاً مأثوراً عن السلف» «(2)».

و قد ورث هذه الفكرة كثير ممّن يؤمن بمنهجه. و هذا هو عبد اللَّه بن سليمان بن بُليهد الذي قام باستفتاء علماء المدينة بتخريب قباب الصحابة و أئمة أهل البيت في بقيع الغرقد عام 1344 ه و قد نشر مقالًا في جريدة أُمّ القرى في عدد جمادى الآخر سنة 1345 ه جاء فيه: لم نسمع في خير القرون أنّ هذه البدعة (البناء على القبور) حدثت فيها بل بعد القرون الخمسة «(3)».

و بدورنا نشكر الشيخ ابن بليهد حيث وسع الأمر على المسلمين و أدخل عليها قرنين آخرين بعد ما قصر مؤلف الهدية السنية العصمة على أهل القرون الثلاثة الأُولى، و لكن نهيب بصاحب المقال بأنّ المسلمين و في مقدمتهم عمر بن


1- اقتضاء الصراط المستقيم: ص 276.
2- الفتاوي الكبرى 1: 176.
3- كشف الارتياب: ص 357- 358.

ص:100

الخطاب رضى الله عنه قد فتحوا القدس، و فيها مقابر الأنبياء و مقام إبراهيم و يعقوب و أولادهم، و عليها قباب و أبنية و لم يَدُر بخلد أحدٍ حتى الخليفة بأنّها بدعة كي يهدموها بمعاولهم.

إنّ هناك كلاماً جميلًا للأُستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فقد ألّف كتاباً باسم «السلفية مرحلة زمنيّة مباركة لا مذهب إسلامي» و قد أدّى فيه حقّ المقال، نقتطف منه ما يأتي:

إنّ من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة (السلف) فنصوغ منها مصطلحاً جديداً، طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية و الفكر الإسلامي، ألا و هو «السلفية» فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة معيّنة من المسلمين، تتّخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده مفهوماً معيناً، و تعتمد فيه على فلسفة متميزة، بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك جماعة إسلامية جديدة في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة و المتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها و ميولاتها بل تختلف عنهم حتى بمزاجها النفسي و مقاييسها الأخلاقية كما هو الواقع اليوم فعلًا.

بل إنّا لا نعدو الحقيقة إن قلنا: إنّ اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها، بدعة طارئة في الدين، لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأُمّة و لا الخلف الملتزم بنهجه.

فإنّ السلف- رضوان اللَّه عليهم-، لم يتّخذوا من معنى هذه الكلمة بحدّ ذاتها مظهراً لأيّ شخصية متميّزة، أو أي وجود فكري أو اجتماعي خاص بهم، يميّزهم عمّن سواهم من المسلمين، و لم يضعوا شيئاً من يقينهم الاعتقادي أو التزاماتهم السلوكية و الأخلاقية في إطار جماعة إسلامية ذات فلسفة و شخصية فكرية مستقلّة. بل كان بينهم و بين من نسمّيهم اليوم بالخلف منتهى التفاعل و تبادل الفهم

ص:101

و الأخذ و العطاء تحت سلطان ذلك المنهج الذي تمّ الاتّفاق عليه، و الاحتكام إليه، و لم يكن يخطر في بال السابقين منهم و لا اللاحقين بهم أنّ حاجزاً سيختلق ليرتفع ما بينهما بصُنع طائفة من المسلمين فيما بعد، و ليقسم سلسلة الأجيال الإسلامية الى فريقين، يصبغ كلًا منهما بلون مستقلّ من الأفكار و التصوّرات و الاتّجاهات، بل كانت كَلِمتا السلف و الخلف في تصوّراتهم لا تعني- من وراء الانضباط بالمنهج الذي ألمحنا إليه- أكثر من ترتيب زماني كالذي تدلّ عليه كلمتا: (قبل و بعد) «(1)».

إنّ ما ذكره هذا المحقق هو الحق القراح الذي لا يرتاب فيه من له إلمام بالكتاب و السنّة و سيرة المسلمين و تاريخهم، و أين هذا ممّا ذكره الدكتور سيد الجميلي حيث جعل للسلفية و السلف حقيقة شرعية و قال: كلمة السلفية و السلف مصطلحان شرعيان «(2)» و ليس هذا الاشتباه منه ببعيد لضآلة علمه بالتاريخ و إن كنت في شك فانظر كيف فسّر الأشاعرة بقوله: هم أتباع أبي موسى الأشعري المتوفّى سنة 44 ه مع أنّهم من أتباع أبي الحسن الأشعري المولود عام 260 ه و المتوفّى عام 324 ه و هو من أحفاد أبي موسى الأشعري، فهذا مبلغ علمه و يريد أن يقضي بين الفقهاء و المجتهدين و المحدّثين!!


1- السلفية مرحلة زمنية لا مذهب إسلامي: ص 13- 14.
2- مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره: 103.

ص:102

أسباب نشوء البدعة

المبحث الخامس أسباب نشوء البدعة

اشارة

البدعة عمل اختياري للمبدع و لها- كسائر الأفعال الاختيارية- أسباب و غايات يعدّ الجميع مناشئ لها و لا توجد البدعة إلّا في ظلّ أسباب و غايات و من خلال عرض النصوص الدينية و ما دخل في التاريخ من بدع، يمكن التوصّل إلى ما نتبنّاه في هذا الفصل.

1- المبالغة في التعبّد للَّه تعالى

هذا العنوان ذكره الشاطبي لدى تعريفه للبدعة، حيث قال: «طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد للَّه تبارك و تعالى» «(1)».

و هذا و إن لم يكن أمراً كليّاًصادقاً في جميع مواردها لكنّه أحد أسباب نشوء البدع، كما يشهد له التاريخ و لعلّ من هذا المنطلق استأذن عثمان بن مظعون النبيّ في الإخصاء، فقال النبيصلى الله عليه و آله: «ليس منّا من خصي أو اختصى، إنّ اختصاء أُمّتي


1- الاعتصام 1: 37.

ص:103

الصيام» إلى أن قال: ائذن لي في الترهب، قال: «إنّ ترهّب أُمّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة» «(1)»

.

فانّ المبتدع ربّما يتصوّر أنّ ما اخترعه من طريقة توصله إلى رضا اللَّه سبحانه أكثر ممّا رسمهصاحب الشريعة، فلأجل ذلك يترك قول الشارع و يعمل طبق فكرته، و يذيع ذلك بين الناس باسم الشرع، و لهذا أيضاً شواهد في التاريخ نقتطف منها ما يلي:

1- روى جابر بن عبد اللَّه: أنّ رسول اللَّه كان في سفر فرأى رجلًا عليه زحام قد ظُلِّل عليه فقال: «ما هذا؟» قالوا:صائم، قالصلى الله عليه و آله: «ليس من البرّ الصيام في السفر» «(2)»

.

2- روى الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله خرج من المدينة إلى مكّة في شهر رمضان و معه الناس و فيهم المشاة، فلمّا انتهى إلى كُراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر و العصر فشرب و أفطر ثمّ أفطر الناس معه و ثَمّ أُناس علىصومهم فسمّاهم رسول اللَّه العصاة و إنّما يؤخذ بآخر أمر رسول اللَّه «(3)»

.

فإنّ الإنسان المتزمّت يتخيّل انّه لو سافرصائماً يكون عمله أكثر قبولًا عند اللَّه تبارك و تعالى، و لكنّه غافل عن مناطات التشريع و ملاكاتها العامة، التي توجب الإفطار في السفر، ليكون الدين رفقاً بالإنسان، يجذب الناس إليه، قال سبحانه:

«وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «(4)».

3- روى مالك في الموطّأ: أنّ رسول اللَّه رأى رجلًا قائماً في الشمس فقال: «ما


1- الاعتصام 1: 325.
2- أحمد بن حنبل، المسند 3: 319 و 399، و لاحظ الفقيه 2: 92/ 2.
3- الكافي 4: 127/ 5 باب كراهية الصوم في السفر.
4- الحجّ: 78.

ص:104

بال هذا؟» قال: نذر ألا يتكلّم و لا يستظلّ من الشمس و لا يجلس و يصوم، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «مره فليتكلّم و ليستظلّ و ليجلس و ليتمّصيامه» «(1)»

.

4- روى البخاري عن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكر على امرأة فرآها لا تتكلّم فقال: «ما لها لا تتكلّم؟» فقيل: حجّت مصمِتة، قال لها: «تكلّمي فإنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية» فتكلّمت «(2)».

5- إنّ متعة الحج ممّا نصّ عليها الكتاب العزيز فقال: «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» «(3)» و المقصود من متعة الحج هو حجّ التمتع، و هو أن ينشئ المتمتع بها إحرامه في أشهر الحج من الميقات، فيأتي مكّة و يطوف بالبيت ثمّ يسعى بين الصفا و المروة، ثمّ يقصّر و يحلّ من إحرامه، فيقيم بعد ذلك محلّاً حتى ينشئ في تلك السنة نفسها إحراماً آخر للحج من مكة و يخرج إلى عرفات، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام ثمّ يأتي بأفعال الحج على ما هو مبيّن في محله. هذا هو التمتع بالعمرة إلى الحجّ و هو فرض من بعد عن مكة بثمانية و أربعين ميلًا من كلّ جانب، و إنّما أُضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتّع (حج التمتع) أو قيل عنه: بالتمتع بالحجّ، لما فيه من المتعة أي اللّذة بإباحة محظورات الإحرام في المدّة المتخلّلة بين الإحرامين.

و لكن كان بينصحابة النبيّ من يستكره ذلك، فقد روى الدارمي قال: سمعت عام حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك: كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال:

حسنة جميلة، فقال: قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟! قال: عمر خير منّي و قد فعل ذلك النبيّ هو خير من عمر «(4)».


1- الموطّأ 2: 475/ 6 كتاب الأيمان و النذور.
2- البخاري، الصحيح 5: 41- 42 باب أيام الجاهلية.
3- البقرة: 196.
4- الدارمي، السنن 2: 36 كتاب المناسك.

ص:105

و روى الترمذي قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، أنّه سمع سعد بن أبي وقاص و الضحاك ابن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان و هما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلّا من جهل أمر اللَّه تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي! فقال الضحاك: فإنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قدصنعها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وصنعناها معه. هذا حديثصحيح «(1)».

و روى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إنّي لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة الى الحجّ، فقال ابن عمر: حسن جميل. قال: فإنّ أباك كان ينهى عنها. فقال: ويلك! فإن كان أبي نهى عنها و قد فعله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و أمر به، أ فبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله؟! قم عنّي «(2)».

و لأجل ذلك كان هذا الصحابي يحرم بإحرام واحد للعمرة و الحج، مع أنّ النبيّ أمر الإحرام بإحرامين: الإحرام للعمرة ثمّ يتحلّل و يتمتّع بمحظورات الإحرام ثمّ يحرم للحج، و ما هذا إلّا لزعم أنّ ترك التمتع بين العملين أكثر قربة إليه تعالى، و قد برّر فتواه بعد الاعتراف بأنّ عمرة التمتّع سنّة رسول اللَّه بقوله: و لكنّني أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً «(3)».

هذه بعض النماذج التي تعرّض لها التاريخ في شتّى المناسبات، و الجامع لذلك هو المبالغة في التعبّد للَّه- حسب زعمه- و هي ناشئة عن قلّة استيعاب المبتدع لما يجب أن يعرفه، فانّ اللَّه سبحانه أعرف بمصالح العباد و مفاسدهم، و بأسباب السعادة


1- الترمذي، السنن 3: 185، كتاب الحج، ط دار الفكر- بيروت.
2- الجامع لأحكام القرآن 2: 388.
3- أحمد بن حنبل، المسند 1: 49.

ص:106

و الشقاء، و لا يشذّ عن علمه شي ء. و كم في التاريخ الإسلامي من شواهد واضحة على هذا السبب «(1)».

2- اتّباع الهوى

إنّ استعراض تاريخ المتنبّئين الذين ادّعوا النبوّة عن كذب و دجل، يثبت بأنّ الأهواء و حبّ الظهور و الصدارة كان له دور كبير في نشوء هذه الفكرة و ظهورها علىصعيد الحياة، و المبتدع و إن لم يكن متنبِّئاً، إلّا أنّ عمله شعبة من شعب التنبّؤ، و في الروايات إشارات و تصريحات إلى ذلك. فقد خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الناس فقال: «أيّها الناس إنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تُتَّبع، و أحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللَّه، يتولّى فيها رجال رجالًا... «(2)»

.

إنّ لحبّ الظهور دوراً كبيراً في الحياة الإنسانية، فلو كانت هذه الغريزة جامحة لأدّت بالإنسان إلى ادّعاء مقامات و مناصب تختصّ بالأنبياء، و لعلّ بعض المذاهب الظاهرة بين المسلمين في القرون الأُولى كانت ناشئة عن تلك الغريزة.

روى ابن أبي الحديد في شرح النهج أنّ عليّاً مرّ بقتلى الخوارج فقال: «بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم»، فقيل: و من غرّهم؟ فقال: «الشيطان المضلّ، و النفس الأمّارة بالسّوء، غرّهم بالأماني و فسحت لهم في المعاصي و وعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النار» «(3)»


1- لاحظ السيرة النبوية لابن هشام 2: 316- 317، صلح الحديبية.
2- الكافي 1: 45/ 1 باب البدع.
3- شرح نهج البلاغة 19: 235.

ص:107

3- حبّ الاستطلاع إلى ما هو دونه

إنّ حبّ الاستطلاع من نعم اللَّه سبحانه؛ إذ في ظلّه يقف الإنسان على مجاهيله و يكتشف معلومات تهمّه في حياته، و لو لا ذلك الحبّ لكان الإنسان اليوم في أوليات حياته في العلم و المعرفة، قال سبحانه: «وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «(1)» و مع اشتراك الكلّ في تلك النعمة المعنوية إلّا أنّ الطاقات الكامنة لدى الإنسان تختلف من واحد إلى آخر، فليس لكلّ إنسان قابلية التطلّع إلى كلّ شي ء و استعراض جميع المجاهيل، و لهذا ربّما أدّى ذلك العمل إلى الزلّة في الفكر و المعتقد، و لذلك ترى عليّاً عليه السلام ينهى عن الغور في القدر فيقول: «طريق مظلم فلا تسلكوه، و بحر عميق فلا تلجوه، و سرّ اللَّه فلا تتكلّفوه» «(2)»

. و لكن الإمام نفسه تكلّم في مواضيع أُخر عن القضاء و القدر حينما كان يجد إنساناً قادراً على درك المفاهيم الغامضة.

إنّ القرون الثلاثة الأُول، كانت قرون ظهور المذاهب الكلامية و الفقهيّة، و كانت الأمصار و حواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة، و قد ظهرت في تلك القرون أكثر المذاهب و الفرق، مع أنّ الحقّ في طرف واحد، فلو أنّهم توحّدوا في العقائد؛ لما أدّى بهم الأمر إلى شقّ العصى و إيجاد الفرقة، و بالتالي ذهاب الوحدة الإسلامية في مهبّ الريح ضحية البحوث الكلامية و الفقهية و غير ذلك.

كان للخوض في الآيات المتشابهات دور كبير في ظهور البدع في الصفات


1- النحل: 78.
2- نهج البلاغة: الحكمة 287.

ص:108

الخبرية، و في تفسير اليد و الرجل و الوجه للَّه سبحانه الواردة في الكتاب و السنّة، فقد كان البسطاء يخوضون في تفسيرها من دون إرجاعها إلى المحكمات التي هي أُمّ الكتاب و ما هذا إلّا لقصور أفهامهم و قلّة بضاعتهم العلمية، فكان واجبهم السكوت و سؤال الراسخين في العلم، دون الخوض فيها.

إنّ للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا نصيحة لطلاب الفلسفة و الحكمة، يحثّهم على عدم إذاعة ذلك العلم بين اناس ليس لهم قابلية التفكير الواسع، فيقول في آخر كتاب الإشارات:

«أيّها الأخ إنّي قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق، و ألقمتك قفي «(1)» الحكم في لطائف الكلم. فصُنْه عن الجاهلين و المبتذلين و من لم يرزق الفطنة الوقّادة و الدربة و العادة و كانصغاه «(2)» مع الغاغة، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة و من همجهم، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته و استقامة سيرته و بتوقّفه عمّا يتسرّع إليه الوسواس، و ينظر إلى الحقّ بعين الرضا و الصدق فآته ما يسألك منه مدرجاً مجزأً مفرقاً تستفرس ممّا تسلفه لما تستقبله. و عاهدْه باللَّه و بأيمان لا مخارج لها ليجري فيما يأتيه مجراك متأسّياً بك فإن أذعتَ هذا العلم أو أضعته فاللَّه بيني و بينك و كفى باللَّه وكيلًا» «(3)».

4- التعصّب الممقوت

و هناك سبب آخر لا يقل تأثيره عمّا سبق من الأسباب و هو تقليد الآباء و الأجداد، وصيانة كيانهم و سننهم، فإنّ اتّباع الأهواء القبلية و القومية و ما شاكل فإنّها من أعظم سدود المعرفة و موانعها، و هي التي منعت الأُمم عبر التاريخ من


1- القفي: الشي ء الذي يؤثر به للصنف.
2- صغاه: ميله.
3- كتاب الإشارات 3: 419.

ص:109

الخضوع للأنبياء و الرسل رغم البراهين الواضحة كما يقول سبحانه: «وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» «(1)».

و من هذا المنطلق، اقترح تميم بن جراشة على النبيّ- عند ما جاء على رأس وفد من الطائف يخبره بإسلام قومه- أن يكتب لهم كتاباً، بأن يفي لهم بأُمور، يقول:

قدمتُ على النبيّصلى الله عليه و آله في وفد ثقيف فأسلمنا و سألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط فقال: اكتُبوا ما بدا لكم ثمّ ايتوني به، فسألناه في كتابه أن يُحلّ لنا الربا و الزنا، فأبى عليّ رضى الله عنه: أن يكتب لنا، فسألنا خالد بن سعيد بن العاص، فقال له علي: تدرى ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا، و رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أولى بأمره، فذهبنا بالكتاب إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال للقارئ: اقرأ، فلمّا انتهى إلى الربا قال: «ضع يدي عليها في الكتاب»، فوضع يده فقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا» «(2)» الآية، ثمّ محاها، و أُلقيت علينا السكينة فما راجعناه، فلمّا بلغ الزنا وضع يده عليها (و قال:) «وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً» «(3)» الآية، ثمّ محاها و أمر بكتابنا أن ينسخ لنا «(4)».

و رواه ابن هشام بصورة أُخرى قال: و قد كان ممّا سألوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يدع لهم الطاغية؛ و هي اللّات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة، و يأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى، و إنّما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يتسلّموا بتركها من سفهائهم و نسائهم و ذراريهم، و يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى


1- الزخرف: 23.
2- البقرة: 278.
3- الإسراء: 32.
4- أُسد الغابة 1: 216 مادة تميم و 3: 406.

ص:110

يدخلهم الإسلام، فأبى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إلّا أن يبعث أبا سفيان بن حرب و المغيرة بن شعبة فيهدماها، و قد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، و أن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: أمّا كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، و أمّا الصلاة، فانّه لا خير في دين لاصلاة فيه. فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها، و إن كانت دناءة «(1)».

انظر إلى التعصّب المميت للعقل يسأل رسول اللَّه- الذي بعث لكسر الأصنام و تحطيم كلّ معبود سوى اللَّه- أن يدع لهم الطاغية و هي اللّات لا يهدمها ثلاث سنين....

و كان هذا الاقتراح نابعاً عن العصبية لطرق الآباء و سلوكهم، و كان المقترح في حضرة النبيّصلى الله عليه و آله.

هذه هي الأسباب العامّة، و هناك أسباب خاصّة لظهور البدع في المجتمع الإسلامي لا تخفى على القارئ الكريم منها.

5- التسليم لغير المعصوم

إنّ من أسباب نشوء البدع التسليم لغير المعصوم، فلا شكّ أنّه يخطأ و ربّما يكذب، فالتسليم لقوله سبب للفرية على اللَّه سبحانه و التدخّل في دينه عقيدة و شريعة.

فإذا كان النبيّ الأكرم خاتم النبيين و كتابه خاتم الكتب و شريعته خاتمة الشرائع؛ فلا حكم إلّا ما حكم به، و لا سنّة إلّا ما سنّه، و الخروج عن هذا الإطار تمهيد لطريق المبتدعين. و في ضوء ذلك لا معنى معقول لتقسيم السنّة إلى سنّة النبيّ


1- السيرة النبوية 2: 537- 543.

ص:111

و سنّة الصحابة، و تلقّي الأخيرة حجّة شرعية و إن لم تُسند إلى المصدرين الرئيسيين. و هذه كتب الحديث و الفقه تطفح بسنّة الصحابة؛ فهناك سنن تُنسب إلى الخليفة الأوّل و الثاني و الثالث، فما معنى هذه السنن إذا لم تستند إلى الكتاب و السنّة؟! و لو أُسندت فلا معنى لإضافتها إليهم. كما أنّ الإفتاء بمضمون تلك السنن بدعة في الشريعة.

و هناك كلام للدكتور عزّت علي عطية، جعل فيه الاقتداء بأئمة أهل البيت تسليماً لغير المعصوم ثمّ قال: نتساءل عن الصلة بين هذا الإمام و بين اللَّه جلّ جلاله، هل هي وحي، أم إلهام أم حلول؟ إن كانت وحياً فقد نفوه، و إن كانت حلولًا فهو الكفر بعينه، و إن كانت إلهاماً فما الذي يفرق بينه و بين وساوس الشيطان و خطرات النفوس «(1)».

إنّ الدكتور عطية لم يدرس عقائد الإمامية حقّها و إنّما اكتفى بكتابصغير كتب في بيان العقائد لا في البرهنة عليها، و لو أنّه رجع إلى علمائهم و مؤلّفاتهم لوقف على أدلّة عصمة الأئمة، فإنّ أحد تلك الأدلّة هو حديث الثقلين الذي أطبق المحدّثون على نقله، و هو أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما». فإن كانت العترة عدلًا للكتاب و قريناً له فتوصف بوصفه، فالكتاب معصوم عن الخطأ «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ» «(2)» فتكون العترة مثله.

و أمّا مصدر علومهم؛ فغالب علومهم مأخوذ من الكتاب و السنّة إذ أخذ عليّ عليه السلام عن النبيصلى الله عليه و آله، و أخذ الحسن عليه السلام عن أبيه، و هكذا كل إمام يأخذ عن أبيه، علم يتناقل ضمن هذه السلسلة الطاهرة المعروفة، و لم يأخذ أحد منهم عليهم السلام عن


1- البدعة: 245.
2- فصلت: 42.

ص:112

صحابي و لا تابعي أبداً، بل أخذ الجميع عنهم، و منهم انتقلت العلوم إلى الآخرين كما تلقّاها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من لدن حكيم خبير.

قال الإمام الباقر عليه السلام: «لو كنّا نحدّث الناس برأينا و هوانا لهلكنا، و لكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كما يكنز هؤلاء ذهبهم و فضّتهم».

و هناك مصدر آخر لعلومهم و هو أنّهم محدّثون كما أنّ مريم كانت محدّثة، و كما كان عمر بن الخطاب محدّثاً حسب ما رواه البخاري، روى أبو هريرة قال: قال النبي: «لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن كان من أُمّتي أحد فعمر» «(1)»

. لكن الدكتور خلط بين التحديث و الوحي.

و أمّا أنّهم بما ذا يميّزون الإلهام من وساوس الشيطان، فليس بأمر عسير؛ فإنّ الوساوس تدخل القلب بتردّد و الإلهام يرد النفس بصورة علم قاطع و لأجل ذلك تلقّت مريم و أُمّ موسى ما أُلهمتا به، كلاماً إلهياً، لا وسوسة شيطانية.


1- البخاري، الصحيح 2: 194 باب مناقب عمر بن الخطاب.

ص:113

تقسيمات البدعة

المبحث السادس تقسيمات البدعة

1- تقسيم البدعة إلى حسنة و سيّئة

اشارة

إذا كانت البدعة بمعنى التدخّل في أمر الشرع بزيادة أو نقيصة في مجالي العقيدة و الشريعة، من غير فرق بين العبادات و المعاملات و الإيقاعات و السياسات، فليس لها إلّا قسم واحد لا يُثَنّى و لا يتكثّر و لكن ربّما تقسم البدعة إلى تقسيمات نذكر منها ما يلي:

أصل نشوء هذا التقسيم:

لقد جاء هذا التقسيم في كلمات الإمام الشافعي، و ابن حزم و الغزالي و الدهلوي و ابن الأثير «(1)» و غيرهم، و الأصل في ذلك قول الخليفة عمر بن الخطاب، و قد ظهر على لسانه في السنة الرابعة عشرة من الهجرة، عند ما جمع الناس للصلاة بإمامة أُبيّ بن كعب في شهر رمضان و وصف الجماعة بقوله: «نعم البدعة هذه» و الأصل في ذلك ما رواه البخاري و غيره.


1- النهاية 1: 79.

ص:114

قال عبد الرحمن بن عبد القاري: خرجت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه، و يصلّي الرجال فيصلّي بصلاته الرهط فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى و الناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: «نعم البدعة هذه و التي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» يريد آخر الليل، و كان الناس يقومون أوّله «(1)».

إنّ إقامةصلاة التراويح جماعة لا تخلو منصورتين:

الأُولى: إذا كان لها أصل في الكتاب و السنّة، فعندئذ يكون عمل الخليفة إحياء لسنّة متروكة سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد، فلا يصحّ قوله:

«نعم البدعة هذه» إذ ليس عمله تدخّلًا في الشريعة.

الثانية: إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسيّين، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد، و إنّما كره الخليفة تفرّق الناس، و لأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة، أو بقارئ واحد، و عندئذٍ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.

توضيح ذلك أنّ البدعة التي تحدّث عنها الكتاب و السنّة هي التدخّل في أمر الدين بزيادة أو نقيصة، و التصرّف في التشريع الإسلامي، و هي بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إلّا أمراً محرّماً و مذموماً و لا يصحّ تقسيمه إلى حسنة و قبيحة، و هذا شي ء واضح لا يحتاج إلى استدلال.

نعم، البدعة بالمعنى اللغوي التي تعمّ الدين و غيره تنقسم إلى قسمين، فكلّ شي ء محدث مفيد في حياة المجتمعات من العادات و الرسوم، إذا أُدّي به من دون الاسناد إلى الدين و لم يكن محرّماً بالذات شرعاً، كان بدعة حسنة، أي أمراً جديداً مفيداً للمجتمع، كما إذا احتفل الشعب بيوم استقلاله في كلّ عام، أو اجتمع


1- البخاري، الصحيح 3: 58 كتاب الصوم، باب فضل من قام رمضان.

ص:115

للبراءة من أعدائه أو أقام الأفراح لمولد بطل من أبطاله، و بالجملة ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتّفق عليه الأُمّة، و تتّخذه عادة متبعة في المناسبات، و يكون بدعة لغوية.

و أمّا ما كان محرّماً بالذات فهو محرّم ليس من باب البدعة. فلو اتّخذ أمراً مرسوماً و رائجاً، مثل دخول النساء سافرات متبرّجات في مجالس الرجال في الاستقبالات و الضيافات، فهذا أمر حرام بالذات أولًا، و ليس بمحرم من باب البدعة الشرعية، بمعنى التدخّل في أمر الدين و التسنين فيه و التشريع على خلاف ما شرّعه الشارع، و إنّما هو عمل محرّم اتّخذ رائجاً لا باسم الدين و لا باسم الشريعة، و أقصى ما يعتذر بأنّه مقتضى الحضارة العصرية، مع الاعتراف بكونه مخالفاً للشرع، و لو قيل إنّه بدعة قبيحة أو مذمومة، فإنّما هو بحسب معناها اللغوي.

و بذلك يظهر أنّ أكثر من أطنب الكلام في تقسيم البدعة إلى حسنة و سيّئة فقط خلط البدعة في مصطلح الشرع بالبدعة اللغوية، فأسهبوا في الكلام و أتوا بأمثلة كثيرة زاعمين أنّها من البدع الشرعية مع أنّ أمرها يدور بين أمرين:

إمّا أنّها عمل ديني يؤتى بها باسم الدين و الشريعة، و لكن يوجد لها أصل فيهما، فتخرج بذلك عن عنوان البدعة، كتدوين الكتاب و السنّة إذا خيف عليهما التلف من الصدور، و بناء المدارس و الرُّبُط «(1)» و غيرهما. و قد مثلوا بالتدوين للبدعة الواجبة، و ببناء المدارس و الرُّبَط بالبدعة المستحبّة، مع أنّهما ليسا ببدعة لوجود أصلصالح لهما في الشريعة.

أو أنّها عمل عادي لا يؤتى بها باسم الدين بل يؤتى بها لأجل تطوير الحياة و طلب الرفاه، فتكون خارجاً عن موضوع البدعة في الشرع، كنخل الدقيق، فقد


1- جمع رَباط؛ و هو ما يبنى للفقراء، مولَّد المصباح المنير: ص 215 ط دار الهجرة

ص:116

ورد أنّ أوّل شي ء أحدثه الناس بعد رسول اللَّه، اتّخاذ المناخل و لين العيش من المباحات.

و إنّما يصح إطلاق البدعة عليها بالمعنى اللغوي، بمعنى الشي ء الجديد، سواء كان عملًا دينياً أو عادياً. و قد وافقَنا على نفي ذاك التقسيم لفيف من المحقّقين:

منهم: أبو إسحاق الشاطبي في كلام مسهب نذكر منه ما يلي:

إنّ متعقّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه لأنّه من باب مضادة الشارع و اطّراح الشرع، و كلّ ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن و قبيح، و أن يكون منه ما يمدح و منه ما يذم؛ إذ لا يصح في معقول و لا منقول استحسان مشاقة الشارع.

و أيضاً فلو فرض أنّه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذمّ لم يتصوّر؛ لأنّ البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك.

و كون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها؛ إذ لو قال الشارع «المحدثة الفلانية حسنة» لصارت مشروعة.

و لمّا ثبت ذمّها، ثبت ذمّصاحبها، لأنّها ليست بمذمومة من حيث تصوّرها فقط، بل من حيث اتّصف بها المتّصف، فهو إذن المذموم على الحقيقة، و الذمّ خاصة التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم، و ذلك على الإطلاق و العموم» «(1)».

و منهم: العلّامة المجلسي قال: «إحداث أمر لم يرد فيه نصّ بدعة، سواء كان أصله مبتدعاً أو خصوصياته مبتدعة فلربما يقال: إنّ البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمر باطل؛ إذ لا تطلق البدعة إلّا على ما كان محرّماً، كما قال رسول اللَّه: «كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار» «(2)»

.

و منهم: الشهيد في قواعده قال: محدثات الأُمور بعد النبيّصلى الله عليه و آله تنقسم أقساماً:


1- الموافقات 1: 142.
2- البحار 74: 203.

ص:117

لا يطلق اسم البدعة عندنا إلّا على ما هو محرّم منها «(1)».

سؤال و جواب:

و هناك سؤال يطرح نفسه، و هو أنّه إذا كانت البدعة قسماً واحداً و أمراً محرّماً مقابل السنّة، لا تقبل التقسيم إلى غيره فما معنى قولهصلى الله عليه و آله: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده، كتب له أجر من عمل بها و لا ينقص من أُجورهم من شي ء، و من سنّ سنة سيئة فعمل بها بعده كتب له مثل وزر من عمل بها و لا ينقص من أوزارهم شي ء» «(2)»

.

و الجواب: أنّ الشقّ الأوّل راجع إلى المباحات العامّة المفيدة للمجتمع، كإنشاء المدارس و المكتبات و سائر الأعمال الخيريّة، فلو أنّ رجلًا قام- برفض الأُميّة- بإنشاء مدرسة أو مكتبة وصار عمله أُسوة للغير، فقام الآخرون بإنشاء مدارس في سائر الأمكنة، فهو سنّة حسنة.

و أمّا الشقّ الثاني: فهو راجع إلى الأُمور المحرّمة بالذات، فلو قام أحد بضيافة أشرك فيها النساء السافرات المتبرّجات، ثمّصار عمله قدوة للآخرين، فعلى هذا المسنن وزر عمله و وزر من عمل بسنّته.

و على ضوء ذلك فالحديث لا يمت بصلة الى البدعة المصطلحة، و لم يكن ببال أحد من الشخصين التدخّل في أمر الشرع بالزيادة و النقيصة، بل كلّ قام بعمل خاصّ حسب دواعيه و حوافزه النفسية، فالإنسان العاطفي يندفع إلى القسم الأوّل الذي ربّما يكون مباحاً أو مسنوناً، و من حسن الحظّ، يكون عمله قدوة، و الإنسان الإجرامي يندفع إلى القسم الثاني، فيعصي اللَّه سبحانه لا باسم البدعة بل


1- القواعد و الفوائد 2: 144- 145 القاعدة 205. و نعلّق على كلامه أنّ القسم إنّما يكون بدعة إذا أتى باسم الدين، و إلّا يكون محرّماً و معصية لا بدعة.
2- مسلم، الصحيح 8: 61 كتاب العلم.

ص:118

بارتكاب عمل محرّم، و من سوء الحظّ يكون عمله قدوة.

فكلا العملين لاصلة لهما بالبدعة الشرعية أصلًا، و لو أُطلقت فإنّما تطلق عليهما بالمعنى اللغوي، أي إبداع أمر لم يكن، سواء أ كان مباحاً أم حراماً، و من المعلوم أنّه ليس كلّ محرّم بدعة و إن كانت كلّ بدعة محرّمة.

2- تقسيم البدعة إلى عادية و شرعية

اشارة

قد عرفت أنّ للبدعة تقسيمات باعتبارات مختلفة، و عرفت مدىصحّة تقسيمها إلى حسنة و سيئة، و منها أنّها تنقسم إلى عادية و شرعية، و هذا العنوان أوضح ممّا ذكره الشاطبي حيث قال:

تقسيمها إلى العادية و التعبديّة «(1)»، و ذلك لأنّ الأُمور التعبديّة قسم من الأحكام الشرعية التي يعتبر فيصحة امتثالها قصد القربة، و الإتيان بها لأجل التقرّب و كسب الرضا و امتثال الأمر، و هي منحصِرَة بالطهارات الثلاث: الوضوء و التيمّم و الغسل بأقسامه، و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و النذر و ما ضاهاها، و لكن الأُمور الشرعية هي التي للشارع فيها دور، أوسع من التعبديّات. و لذلك قسّم الفقهاء الأحكام الشرعية إلى أربعة:

1- العبادات، و يدخل فيها ما ذكرناه من الأصناف.

2- العقود، و تدخل فيها عامة المعاملات ممّا تحتاج إلى إيجاب و قبول، كالبيع و الرهن و الوديعة و الصلح و الشركة و المضاربة و المساقاة و المزارعة إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه.

3- الإيقاعات و هي ما تقوم بجانب واحد، كالطلاق بأقسامه و الإيلاء


1- الاعتصام 2: 79.

ص:119

و الظهار، و تدخل فيها المواريث إلحاقاً حكمياً.

4- السياسات، و يدخل فيها القضاء و الحدود و الديات و ما شابهها.

فلو كان هناك شي ء خارج عن الأبواب الأربعة موضوعاً، فهو بوجه ما ملحق بواحد منها، فهذه كلّها أُمور شرعية و للشارع فيها دور، إمّا تأسيساً و اختراعاً كالعبادات و الحدود و الديات، أو إمضاءً و اعترافاً لما في يد العقلاء، لكن مع تحديدها بشروط مذكورة في الفقه. فالتداخل في هذه الأبواب الأربعة بزيادة أو نقيصة كالنكاح بلاصداق، أو البيع بلا ثمن، و الإجارة بلا أُجرة، و الطلاق في أيام الحيض أو تجويز الربا و بيع الكلب و الخنزير، أو تحوير الأحكام الشرعية في باب السياسات، كلّها بدعة في أُمور شرعية.

كلّ هذا يُلْزِمنا أن نعبّر بالشرعية مكان التعبدية إلّا أن يراد منها ما يرادف مطلق الأحكام و الأُمور الشرعية فإذاً لا مشاحة في الاصطلاح.

و أمّا العادية: فهي إمّا تدور مدار تقاليد و أعراف الناس، سواء أ كانت لها جذور تاريخية أم كانت أمراً محدثاً. و إمّا تطوير لمظاهر الحياة العامة، الصناعية أو الثقافية أو الزراعية أو غير ذلك. و كل ذلك أُمور عادية تركها الشارع إلى الناس، و جعل الأصل فيها الإباحة، لكنّه حدّدها بأُطر عامة، و لم يتدخل في جزئياتها، و ما لم تخالف الضوابط العامة فالناس فيها أحرار يفعلون ما يشاءُون، و يعملون ما يريدون.

فعلى ذلك هل يقع البحث فيصدق البدعة في الأُمور العادية مقابل الأُمور الشرعية التي تعرّفت على معناها الواسع، أو لا يقع؟ و بما أنّك وقفت على حدود البدعة، و أنّها عبارة عن الزيادة أو النقيصة في الشريعة و التدخل في الأُمور الدينية، فلا تصدق في مورد الأُمور العادية بأي نحو كانت، إذ ليست هي أُموراً تمتّ إلى الشرع، فأمرها يدور بين الجائز و الحرام لا بين البدعة و السنّة. و ليس كلّ

ص:120

حرام بدعة، و إليك التوضيح:

إنّ لكلّ قوم آداباً خاصة في لقاءاتهم السنويّة، و أُمورهم العمرانية، و في كيفية استغلال الطبيعة، فمثلًا ربّما تقتضي مصلحتهم تخصيص يوم واحد لتكريم زعيمهم، أو يوم واحد للبراءة من عدوّهم، أو توجب المصالح تطوير خدماتهم العمرانية و ما ضاهاها، أو استخدام أجهزة حديثة لاستغلال الطبيعة، فقد ترك الشارع هذه الأُمور إلى الناس، و لم يتدخل فيها إلّا بوضع الأُطر العامة لها، و هي أن لا يكون العمل مخالفاً للقواعد و الضوابط العامة، و لو لا هذه المرونة لما كان الإسلام ديناً عالمياً سائداً، و لتوقّفت حركته منذ أقدم العصور، و نأتي بمثال لمزيد من التوضيح:

قد حدثت في العصور الأخيرة عدّة تقاليد في ميدان الألعاب الرياضية؛ ككرة القدم، و السلّة، و الطائرة، و المصارعة، و الملاكمة، و غير ذلك فبما أنّها امور عادية محدثة فلا تعدّ بدعة في الدين. و لوصحّ إطلاق البدعة فإنّما هو باعتبار المعنى اللغوي، أي الشي ء الجديد في ميادين الحياة، لا في الأُمور الشرعية، غاية الأمر يجب أن تحدد شرعيتها بالضوابط الكلية، بأن لا يكون هناك اختلاط بين الرجال و النساء من اللاعبين، و أن لا يكون هناك ضرر و إضرار كما هو المحتمل في الملاكمة.

و الحاصل: أنّ الأصل في الأُمور العادية هو البراءة حتى يدلّ دليل على خلافه. و قدصرّح بذلك لفيف من العلماء منهم ابن تيمية، يقول: إنّ أعمال الخلق تنقسم إلى قسمين:

1- عبادات «(1)»: يتّخذونها ديناً ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة، و الأصل أن لا يشرَّع منها إلّا ما شرّع اللَّه.


1- يريد من العبادات: الأُمور الشرعية من دون أن تختص بما يعتبر في امتثالها قصد القربة.

ص:121

2- عادات: ينتفعون بها في معايشهم، و الأصل فيها أن لا يُحظر فيها إلّا ما حظر اللَّه» «(1)».

ثمّ إنّه لو أتى في العادات بما حظره اللَّه لا تعدّ بدعة بل يكون محرّماً، لأنّ المفروض أنّه يأتي به و يُحدثه باسم التقاليد لا باسم الدين، و ربما يعترف بكونه على خلاف الدين، كإشراك النساء السافرات في الضيافة مع الرجال. حتى و إنصار الأمر العادي المحرم رائجاً بينهم.

نعم شذّ قول الدكتور عزت علي في المقام حيث يقول: «فيما حظره اللَّه منها إذا كان من الأُمور المحدثة كان بدعة» «(2)».

لكن يلاحظ عليه، بما ذكرناه في تحديد البدعة بتضافر الكتاب و السنّة على كونه التدخل في أمر الشريعة بالزيادة أو النقيصة و تنسيبه إلى الشارع، و هذا لا يصدق على كلّ محدث في الأُمور العادية، و إن كان محرّماً، نعم هو بدعة بالمعنى اللغوي، حتى لوصار عمله الإجرامي سنّة سيئة يكون عليه وزر كل من عمله بها، لكن لا بما أنّه أبْدَع في الدين، و تدخل في الشريعة، و قد مرّ نص في تفسير قولهصلى الله عليه و آله: «من سنّ سنّة حسنة...» ما يفيدك في المقام.

قال الشيخ شلتوت: «التكاليف الشرعية تنقسم إلى عقائد و عبادات و محرّمات «(3)»، ثمّ قال: أمّا ما لم يتعبدنا «(4)» اللَّه بشي ء منه، و إنّما فوّض لنا الأمر فيه باختيار ما نراه موافقاً لمصلحتنا، و محققاً لخيرنا بحسب العصور و البيئات، فانّ التصرّف فيه بالتنظيم أو التغير، لا يكون من الابتداع الذي يؤثّر على تديّن


1- اقتضاء الصراط المستقيم: 129.
2- البدعة: 265.
3- لا يخفى ما من المسامحة في هذا الحصر، لأنّ التكاليف الشرعية أوسع من الثلاثة كالأحوال الشخصية.
4- يريد من التعبّد، ما للشارع فيه دور، فيعم جميع أبواب الفقه و الأقسام الأربعة.

ص:122

الإنسان و علاقته بربّه، بل أنّ الابتداع فيه من مقتضيات التطوّر الزمني الذي لا يسمح بالوقوف عند حدّ الموروث من وسائل الحياة عن الآباء و الأجداد «(1)».

الإسلام بين التزمّت و التحلل من القيود الشرعية

إنّ بين المسلمين من يريد حصر الأُمور السائغة بما هو موجود في عصر الرسول الأكرم، لذا يعد نَخْل الدقيق بدعة، بحجة أنّه لم يكن في عصرهصلى الله عليه و آله أيّ منخل «(2)». و بين من يريد التحلّل من كلّ قيد ديني في مجال العمل، فلا يلتزم في حياته بشي ء مما جاء به الإسلام.

فالإسلام لا هذا و لا ذاك، فهو يرفض التزمّت إذا كان العمل غير خارج عن الأُطر العامة الواردة في الكتاب و السنّة، كما يرفض التحلّل من كلّ قيد. فآفة الدين ليست منحصرة بالثاني بل آفة الأوّل ليست بأقل منه.

فانّ حصر الجائز من الأُمور العادية بما كان رائجاً في عصر النبيّ أو عصر الصحابة كبت للعقول، و تقييد للحركة الحضارية عن التقدّم نحو الكمال. و إظهار الإسلام بأنّه غير قابل للتطبيق في جميع الأعصار المتقدّمة فضلًا عن عصر الذرّة.

علماً أنّ من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي، و أعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف و تعاقب الأجيال كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة و الدعوة إلى الروح، و ديناً وسطاً بين المادية البحتة و الروحية المحضة، فقد آلف بتعاليمه القيّمة بينهما، مؤالفة تفي بحقّ كلّ منهما، بحيث يتيح للإنسان أن يأخذ قسطه من كلّ منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.

و ذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية، حتى كادت أن


1- الفتاوى: 163.
2- الاعتصام 2: 73.

ص:123

تجعل كلّ مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى، فدعت إلى الرهبانية، و ترك ملاذ الحياة، و الانعزال عن المجتمع، و العيش في الأديرة و قلل الجبال، و تحمّل الظلم و الرفق مع المعتدين؛ كما غالت اليهوديّة في الانكباب على المادة حتى نسيت كلّ قيمة روحية و جعلت الحصول على المادّة بأيّ وسيلة كانت، المقصد الأسنى، ودعت إلى القوميّة الغاشمة و الطائفية المقيتة.

و هذه المبادئ سواء أصحّت عن الكليم و المسيح عليهما السلام أم لم تصحّ (و لن تصحّ إلّا أن يكون لإنقاذ الشعب الإسرائيلي من ملاذ الحياة يوم ذاك و إنجائهم عن التوغّل في الماديات، و سحبهم إلى المعنويات بشدة و عنف.

و إن شئت قلت: كانت تعاليمه إصلاحاً موقتاً لإسراف اليهود و غلوّهم في عبادة المال حتى أفسدوا أخلاقهم، و آثروا دنياهم على دينهم) هذه المبادئ لا تتماشى مع الحضارات الإنسانية التقدميّة و لا تسعدها في معترك الحياة، و لا تتلاءم مع حكم العقل و لا الفطرة السليمة.

لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الإنسان، بما هو كائن، لا غنى له عن المادة، و لا عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، و دعا إلى المادة و الالتذاذ بها بشكل لا يضر بالحياة الروحية، كما دعا إلى حياة روحية لا تصطدم مع الفطرة و طبيعتها.

هذه هي حقيقة الإسلام و مرونته و سبب تماشيه مع الحضارات المختلفة حتى حضارة اليوم الصناعية، فلو حصرنا الجائز من العاديات بما في عصر النبيّ تكون النتيجة حياد الإسلام عن الساحة، و بطلانه، مع أنّه خاتم الشرائع، و كتابه خاتم الكتب، و نبيّه خاتم النبيّين.

و الآن هلمّ معي ندرس آراء المتزمّتين في الأُمور العادية ثمّ نبكي على الإسلام و أهله:

1- يقول الشاطبي: إنّ من السلف من يرشد كلامه إلى أنّ العاديات كالعبادات، فكما أنّنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العاديات،

ص:124

و هو ظاهر كلام محمد بن أسلم، حيث كره في سُنّة العقيقة مخالفة من قبله في أمر العاديين، و هو استعمال المناخل، مع العلم بأنّه معقول المعنى نظراً- و اللَّه أعلم- إلى أنّ الأمر باتباع الأوّلين على العموم غلب عليه جهة التعبّد، و يظهر أيضاً من كلام من قال: أوّل ما أحدث الناس بعد رسول اللَّه المناخل «(1)».

2- يحكى عن الربيع بن أبي راشد؛ أنّه قال: لو لا أنّي أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت؛ إذ السكنى أمر عادي بلا إشكال، ثمّ يقول:

و على هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلًا في قسم العباديات، فدخول الابتداع فيه ظاهر و الأكثرون على خلاف هذا «(2)».

3- روى الغزالي: أنّ رجلًا قال لأبي بكر بن عياش: «كيف أصبحت»؟ فما أجابه، قال: دعونا عن هذه البدعة «(3)».

4- روى الشاطبي عن أبي مصعب صاحب مالك أنه قال: «قدم علينا ابن مهدي- يعني المدينة- فصلّى و وضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم و رمقوا مالكاً- و كان قدصلّى خلف الإمام- فلمّا سلّم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان، فقال: خذاصاحب هذا الثوب فاحبساه.

فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي، فوجّه إليه و قال: أما خفت اللَّه و اتّقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف و شغلت المصلّين بالنظر إليه، و أحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنّا نعرفه، و قد قال النبيصلى الله عليه و آله: «من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة اللَّه و الملائكة و الناس أجمعين»؟ فبكى ابن مهدي، و آلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد النبيصلى الله عليه و آله و لا في غيره» «(4)».


1- و 2 الاعتصام 2: 79.
2- و 2 الاعتصام 2: 79.
3- إحياء العلوم 2: 251 كتاب العزلة.
4- الاعتصام 2: 68.

ص:125

5- حكى ابن وضاح قال: ثوَّب المؤذّن بالمدينة في زمان مالك. فأرسل إليه مالك فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه، قد كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بهذا البلد عشر سنين و أبو بكر و عمر و عثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه، فكفّ المؤذّن عن ذلك و أقام زماناً، ثمّ إنّه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك، فقال له: ما الذي تفعل؟ قال:

أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له: أ لم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن؟

فقال: إنّما نهيتني عن التثويب. فقال له: لا تفعل. فكفّ زماناً. ثمّ جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك.

فقال: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه «(1)».

و مراده من التثويب هو ما يقوله المؤذن بين الأذان و الإقامة «قد قامت الصلاة» أو «حيّ على الصلاة» أو «حيّ على الفلاح» أو قوله «الصلاة يرحمكم اللَّه».

و العجب أنّ الشاطبي مع إمامته في الفقه ربّما يتأثّر أحياناً بهذه الكلمات فيقول: فتأمّل كيف منع مالك من إحداث أمر يُخف شأنه عند الناظر فيه ببادي الرأي، و جعلَه أمراً محدثاً، و قد قال في التثويب أنّه ضلال و أنّه بيّن؛ لأنّ كلّ محدثة بدعة، و كلّ بدعة ضلالة، و لم يسامح المؤذّن في التنحنح و لا في ضرب الأبواب؛ لأنّ ذلك جدير بأنّ يتّخذ سنّة، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوفاً من أن يكون حدثاً أحدثه.


1- الاعتصام 2: 69.

ص:126

6- يقول الشاطبي: و قد أحدث في المغرب المسمّى بالمهدي تثويباً عند طلوع الفجر و هو قولهم «أصبح و للَّه الحمد» إشعاراً بأنّ الفجر قد طلع، لإلزام الطاعة، و حضور الجماعة، و للغد و لكلّ ما يؤمرون به فيخصّه هؤلاء المتأخّرون تثويباً بالصلاة كالأذان، و نقل أيضاً إلى أهل المغرب فصار ذلك كلّه سنّة في المساجد إلى الآن. فإنّا للَّه و إنّا إليه راجعون «(1)».

هذه نماذج ممّا ذكره الشاطبي و غيره فتخيّلوها بدعة في الدين، و أين هذه من البدعة في الدين؟ افترى هل يقوم أحد بهذه الأعمال الماضية باسم الدين، أو يقوم باسم الأُمور العادية لتسهيل الأُمور؟ و لو كان الجاهل يتلقّاها أمراً دينياً فوباله على جهله لا على الفاعل. و قد اتّفقنا مع الشاطبي في تحديد البدعة، و قد جعلها هو خاصة بالأُمور الشرعية، و مع ذلك نسي هنا ما ذكره في مقام التحديد.

نحن نفترض أنّ هذه الأعمال تتّخذ سنّة حسب مرور الأيّام، و لكنّها تكون سنّة عادية، لا دينية، و لا يمنع عنها إذا كانت مصلحة و لم ينطبق عليها عنوان محرّم.

و لو تخيّله الجاهل سنناً دينيّة، فعلى العالم إرشاده، لا إعمال الضغط على المجتمع حتى يتنفّر عن الإسلام و أهله و يوادعهما.

و السبب الوحيد لهذه الزلّات و الاشتباهات التي تشوّش سمعة الإسلام، و تعرّفه ديناً متزمّتاً لا يقبل المرونة إنما هو جعل سيرة السلف وجوداً و عدماً معياراً للحقّ و الباطل مكان الكتاب و السنّة في ذلك، فأين هذه الغلظة من المرونة الملموسة من الكتاب و السنّة، يقول سبحانه:

«وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» «(2)».


1- الاعتصام 2: 70.
2- الحج: 78.

ص:127

«ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» «(1)».

«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «(2)».

«رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» «(3)».

فهذه الآيات تصرّح بأنّ اللَّه تعالى رفع عن أُمّة محمد الإصر، و لم يفرض عليهم حكماً حرجاًصعباً كما كان في الأُمم الماضية.

و قد ورد في حديث عن النبيصلى الله عليه و آله أنّه قال: «ممّا أعطى اللَّه أُمّتي و فضّلهم على سائر الأُمم، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا لنبيّ، و ذلك أنّ اللَّه تبارك و تعالى كان إذا بعث نبياً قال له: اجتهد في دينك و لا حرج عليك، و إنّ اللَّه تبارك و تعالى أعطى ذلك لأُمّتي حيث يقول: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «(4)».

و ظاهر هذا الحديث أنّ رفع الحرج الذي منّ اللَّه به على هذه الأُمّة المرحومة كان في الأُمم الماضية خاصاً بالأنبياء، و أنّ اللَّه أعطى هذه الأُمّة ما لم يعط إلّا الأنبياء الماضين صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

و سئل عليّ عليه السلام: أ يتوضّأ من فضل وضوء جماعة المسلمين (أحبّ إليك) أو يُتوضّأ من ركوٍ أبيض مخمر؟ فقال: «لا، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين؛ فإنّ أحبّ دينكم إلى اللَّه الحنيفية السمحة السهلة» «(5)»

.

و اشتهر عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قوله: «بُعثتُ بالحنيفيّة السمحة السهلة» «(6)»

.

إنّ الإسلام دين عالمي لا إقليميّ، و دين خاتم ليس بعده دين. و قد انتشر


1- المائدة: 6.
2- البقرة: 185.
3- البقرة: 286.
4- البرهان 3: 105.
5- الوسائل 1: باب 8 من أبواب الماء المضاف و المستعمل، ح 3.
6- الكافي 1: 164.

ص:128

الدين في المجتمعات البشرية بصورة سريعة و كانت لذلك أسباب و علل؛ منها:

يسر التكاليف و سهولة الشريعة؛ فلو كان الإسلام خاضعاً لهذا النوع من التزمّت و لما يتغنّاه ابن الحاج «(1)» من سمادير الأهازيج في كتابه المدخل، لقرئ السلام على الإسلام من أوّل يومه، فهذا الرجل أخذ يحدث ألواناً من شتى الأباطيل و يفتريها و يسمّيها بدعة مع أنّها لا تمتّ لها بصلة، بل تدور بين كونها إمّا أُموراً عادية خارجة عن موضوع البدعة بتاتاً، و إمّا أُموراً شرعية لها دليلها العام و إن لم يكن لها دليل خاص، و سيوافيك توضيح القسم الأخير في الفصل القادم.

يقول ابن الحاجّ:

1- المراوح في المساجد من البدع و قد منعها علماؤنا رحمة اللَّه عليهم؛ إذ أنّ اتّخاذها في المساجد بدعة «(2)».

2- إنّ فرش البسط و السجادات قبل مجي ء أصحابها من البدع المحدثة و ينبغي لإمام المسجد أن ينهى الناس عمّا أحدثوه من إرسال البسط و السجادات و غيرها قبل أن يأتي أصحابها «(3)».

3- إلى أن جاء ابن الحاج يحدّد ثمن اللباس الذي يجوز لبسه و يقول: أثمان أثوابهم القمص من الخمس إلى العشر و ما بينهما من الأثمان، و كان جمهور العلماء و خيار التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين و الثلاثين، و كان بعض العلماء يكره أن يكون على الرجل من الثياب ما يجاوز قيمته أربعين درهماً و بعضهم إلى المائة و يعدّه إسرافاً فيما جاوزها، و على ذلك فهو من البدع الحادثة بعدهم «(4)».


1- المدخل: أبو عبد اللَّه العبدريّ المالكي المتوفى سنة 737 و مع ذلك له كلمة قيّمة في زيارة القبور، لاحظ 1: 254.
2- و 3 المدخل 2: 212، 224.
3- و 3 المدخل 2: 212، 224.
4- المدخل 2: 238.

ص:129

4- لا بدّ من ترك فرش السجاد على المنبر لأنّها ليست موضعاً للصلاة «(1)».

هذه نماذج من أفكار الرجل حول البدعة، افترى أنّ الإسلام الذي يعرفه هذا الرجل المتزمّت ممّا يصلح نشره في العالم، و يصلح لدعوة المثقّفين و المفكّرين إليه، و هل هذا هو الإسلام الذي يصفه النبيّصلى الله عليه و آله بالحنيفية السمحة السهلة؟!

الأصل في العادات الإباحة

كان على هؤلاء الذين يتحدّثون باسم الإسلام أن يدرسوا الكتاب و السنّة و يقفوا على أنّ الأصل في العادات الإباحة ما لم يدلّ دليل على خلافها، فإنّ كلّ ما ذكره من الأُمور عادية حتّى سكب ماء الورد على قبر الميت احتراماً له، من هذه الأُمور التي يتصوّرها ابن الحاج من البدعة و الأصل فيها الإباحة لا الحظر، فانّ الحكم بالحظر بدعة،صدر من القائل «(2)».

يقول سبحانه: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» «(3)» و يقول: «وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» «(4)» و معنى الآيتين أنّه ليس من شأن اللَّه أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث رسولًا، و ليست لبعث الرسول خصوصية و موضوعية. و لو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان و الإبلاغ، و الملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان و إبلاغ، فتكون النتيجة أنّه لا يحكم على حرمة شي ء قبل بيان حكمه و وصوله إلى يد المكلّف.

و هذه الأُمور التي أضفى ابن الحاج عليها اسم البدعة، كلّها أُمور عادية ما ورد


1- المدخل 2: 264
2- انظر الاعتصام 2: 79- 82.
3- الإسراء: 15.
4- القصص: 59.

ص:130

النهي عنها، مثلًا:

إذا شككنا أنّ لعبة كرة القدم أو الاستماع إلى الإذاعة هل هما جائزان أو لا؟

فالأصل بعد التتبع و عدم العثور على الدليل المحرّم، هو الحلّية.

فبذلك علم أنّ جميع العادات من قول أو فعل فهو محكوم بالإباحة ما لم نجد نصّاً على تحريمه في الكتاب و السنّة، سواء أ كان حادثاً أم غير حادث، سواء أصارت سنّة أم لا، ما لم ينطبق عليه عنوان خاص أو أحد العناوين الكلية المحرّمة ك «الإسراف» و «الإعانة على الإثم» و «تقوية شوكة الكفّار» و «الإضرار بالمسلمين» و «الإضرار بالنفس و النفيس»، تعدّ أمراً مباحاً.

و على أساس ذلك فانّ جميع المصنوعات الحديثة التي هي من نتائج التقدّم الحضاري التكنولوجي، مثل الهاتف و التلغراف و التلفزيون و السيّارة و الطائرة و ما شابهها، و استخداماتها المتعارفة؛ محكومة بالحلّية و الإباحة لعدم وجود نصّ خاصّ على تحريمها في الكتاب و السنّة، و لعدم انطباق أحد العناوين العامة المحرّمة عليها.

و قد كان معظم المشايخ المتزمّتين يحرّمون كلّ ذلك في بدء حركتهم و دعوتهم أيام «عبد العزيز» و لكنّهم عند ما أُزيحوا عن منصّة الحكم، و حلّ الآخرون محلّهم أباحوه وصاروا يتحدّثون في الإذاعة و التلفزيون، و يستخدمون كلّ معطيات الحضارة الحديثة، و يحلّلون كلّ أشيائها و استخداماتها.

فإذا كان قول الرجل «كيف أصبحت» و إدخال المراوح إلى المساجد، و فرش البسط في المساجد و على المنابر و لبس ما زادت قيمته على ما حدّده، و سكب ماء الورد على القبر من البدع، فعلى الإسلام السلام.

ثمّ إنّ بعض ما عدّه ابن الحاج من الأُمور الدينية من البدع يتصوّر أنّه لم يكن بين السلف؛ مردود بوجود دليل عليه في الشرع و هذا ما سندرسه في المبحث القادم.

ص:131

3- تقسيم البدعة إلى حقيقيّة و إضافيّة

اشارة

هذا التقسيم ذكره الشاطبي في كتابه، و عرّف البدعة الحقيقية: بأنّها ما لم يدلّ عليها دليل شرعي لا من كتاب و لا سنّة و لا إجماع و لا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة و لا في التفصيل. و إن ادّعى مبتدعها و من تابعه أنّها داخلة فيما استنبط من الأدلّة؛ لأنّ ما استند إليه شُبَه واهية لا قيمة لها.

أمّا البدعة الإضافية فقد عرّفها بأنّها ما لها شائبتان:

إحداهما: لها من الأدلّة متعلّق فلا تكون من تلك الجهة بدعة.

و الأُخرى: ليس لها متعلّق إلّا مثلَ ما للبدعة الحقيقية، أي أنّها بالنسبة لإحدى الجهتين سنّة لاستنادها إلى دليل، و بالنسبة للجهة الأُخرى بدعة لأنّها مستندة إلى شبهة، لا إلى دليل، أو لأنها غير مستندة إلى شي ء.

و سمّيت إضافية لأنّها لم تتخلص لأحد الطرفين: (المخالفة الصريحة) أو (الموافقة الصريحة) «(1)».

أقول: قد تقدّم البحث عن البدعة الحقيقية فلا حاجة إلى إيضاحها من جديد؛ فانّ تحريم الحلال أو تحليل الحرام استناداً إلى شبه واهية أو بلا شبهة بدعة حقيقية، و قد مرّت الأمثلة فيما سبق، و المهم إيضاح المقصود من البدعة الإضافية التي لها شائبتان، التي من جهة تشبه السنّة و من جهة تشبه البدعة، و تتضح بالأمثلة التالية التي ذكرها الشاطبي نفسه:

1- تخصيص يوم أو أيام، غير ما نهى الشارع عنصومه أو ندب إلىصومه، بالصوم و المداومة عليه.


1- الاعتصام 1: 286- 287.

ص:132

2- تخصيص الأيّام الفاضلة بأنواع من العبادات لم تشرع لها خصوصاً، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا و كذا من الركعات، أو بصدقة كذا و كذا، أو الليلة الفلانية بكذا و كذا من الركعات، أو قراءة القرآن أو الذكر؛ فإنّ ذلك التخصيص و العمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق، أو بقصد يقصد مثله أهل العقل و الفراغ و النشاط، كان تشريعاً زائداً.

3- و من ذلك تحرّي ختم القرآن في بعض ليالي رمضان أو قراءة القرآن أو الدعاء بهيئة الاجتماع في عشية يوم عرفة في المسجد تشبهاً بأهل عرفة و نحو ذلك.

4- و من ذلك الأذان و الإقامة فيصلاة العيدين.

و السبب في كون هذه الأُمور بدعاً وجوه ذكرها الشاطبي:

أوّلًا: أنّ فيها تخصيصاً بغير مخصص من الشرع، و قد أصبحت بهذا التخصيص غير ما كانت عليه بدونه، فكما أنّ الصلاة المفروضة لا تصحّ قبل الوقت مع كونها هي هي؛ لوقوعها في غير وقتها المخصص لها، فكذلك ما تقدم من الأمثلة بما انضمّ إليها من الأوصاف غير الواردة تصير غير مشروعة.

ثانياً: أنّ مثل هذه الأُمور عمل اشتبه أمره، أَ هو بدعة فينهى عنه أَم غير بدعة فيعمل به؟ و مثل هذا جاء الأمر بالتوقّي فيه، و الاحتراز منه، كما يجب التوقف عن تناول اللحم المشتبه فيه.

ثالثاً: مخالفة السنّة، حيث ترك مثل هذا العمل مع ظهور ما يقتضي فعله في عهد الرسولصلى الله عليه و آله و أصحابه، و على فرض أنّه وقع في بعض الأحيان فالأمر الأشهر و الأكثر عدم فعله، كما في سجود الشكر، حيث لم يداوم الرسولصلى الله عليه و آله و الصحابة عليه و إن ورد.

رابعاً: أنّ العمل بمثل هذه الأُمور قد يؤدّي إلى اعتقاد ما ليس بسنّة سنّة،

ص:133

و كذلك فالمداومة على فعل لم يداوم عليه الرسولصلى الله عليه و آله قد تؤدّي إلى اعتقاد النافلة سنّة، و هذا فساد عظيم؛ لأنّ اعتقاد ما ليس بسنّة سنّة، و العمل به على حدّ العمل بالسنّة نحو من تبديل الشريعة، و على ذلك كان قطع عمر للشجرة التي يتبرّك بها الصحابة، و نهيه الصحابي عن الإحرام من بلده، و نحو ذلك، و نهيه عن إتيان المساجد التيصلّى فيها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. و لذلك كان مالك بن أنس و غيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد و تلك الآثار للنبيّصلى الله عليه و آله ما عدا قباء وحده، و أيضاً كان مالك يكره المجي ء إلى بيت المقدس خيفة أن يتّخذ ذلك سنّة، و كان يكره مجي ء قبور الشهداء، و يكره مجي ء قباء خوفاً من ذلك «(1)».

يلاحظ على هذا التقسيم: انّه لا طائل فيه، و يعلم ذلك ببيان أمرين:

1- شمول الدليل لجميع الحالات و الكيفيات

إنّ مورد النقاش في ما إذا كان لدليل العمل العبادي إطلاق يعمّ جميع الصور و الكيفيات، بأن كانت جميع الحالات و الصور المتصوّرة له أمراً مسوّغاً يشمله الدليل بإطلاقه أو عمومه وسعة دلالته، مثلًا إذا دلّ الدليل على استحباب قراءة القرآن مطلقاً من غير تقييد بحالة خاصة فيعمّ جميع الحالات سواء أ كانت بهيئة الانفراد أم بهيئة الاجتماع.

أو دلّ على استحباب قراءة الدعاء مطلقاً من يقين خاصّ فعمّ جميع الكيفيات.

و بعبارة أُخرى: دلّ الدليل بإطلاقه بتسويغ جميع الأقسام من غير تخصيص بتلاوة القرآن بصورة الانفراد أو بهيئة الاجتماع و مثله دليل الدعاء.

و مثل ذلك إقامة الصلاة في المساجد؛ فالدليل يشمل جميع المساجد سواء


1- الاعتصام ج 1، الباب الخامس.

ص:134

أصلّى فيها النبيصلى الله عليه و آله أو لم يصلّ، و سواء أُقيمت الصلاة فيها يوماً أو أيّاماً أو طول السنة أو لا، و هكذا سائر الأمثلة، فلو نفترض عدم وجود إطلاق للدليل فهو خارج عن حريم البحث.

2- التداوم على هيئة أو فرد لا يرجع إلى تخصيص التشريع

إنّ اختيار كيفية خاصّة، كالدعاء بهيئة الاجتماع أو تخصيص يوم في الأُسبوع للصوم، لا يعني تخصيص التشريع بالفرد المختار و إنّ السائغ هو لا غير، بل العامل يعتقد أن جميع الصور و الكيفيات، سائغة، و في الوقت نفسه يختار كيفية أو فرداً خاصاً لأجل أنّه أوفق بنشاطه و بالعوامل المحيطة به.

و بعبارة أُخرى: لا يلتزم بكيفيّة خاصّة إلّا لأجل أن يتلاءم مع نشاطه و يساعده على تحقيق غرضه، مع الاعتراف بأنّ جميع الكيفيات من حيث الفضيلة سواء.

إذا تعرّفت على الأمرين تقف على أنّ الأمثلة التي قدّمها الشاطبي مثالًا للبدعة الإضافية هي إمّا بدعة حقيقية أو سنّة حقيقية، فلو افترضنا عدم إطلاق الدليل للكيفية التي اختارها العامل أو كان له إطلاق، و لكنّه يخصص التشريع بمختاره، و ينفي غيره فيكون عمله هذا مصداقاً للبدعة الحقيقية.

و أمّا إذا لم يكن هناك قصور في سعة الدليل، أو لم يكن في نيته أي تخصيص و تدخّل في أمر الشريعة، و إنّما كان الاختيار لملاكات اتفاقية، فلا يعدّ العمل بدعة؛ إذ لم يكن تدخلًا في أمر الشارع. و بذلك يظهر حكم الأمثلة، كتخصيص يوم أو أيام- غير ما نهي عنصيامه- بالصوم، أو كتخصيص يوم بنوع من العبادة، كقضاء الصلوات الواجبة التي فاتت منه، أو ختم القرآن بهيئة الاجتماع مطلقاً، أو في يوم عرفة؛ فانّ سعة رقعة الدليل كافية في كونها سنّة إذا لم يكن من قصده نفي

ص:135

سائر الكيفيات بل كان التخصيص تابعاً لعوامل داخلة في حياة الإنسان.

و أمّا الأسباب التي اتّخذها ذريعة للحكم بالبدعة فإليك دراستها:

أمّا السبب الأوّل: أعني قوله: «إنّ فيها تخصيصاً بغير مخصص من الشرع» فغير مضر؛ إذ التخصيص إنّما يكون بدعة إذا نسبه إلى الشرع، دون ما كان نتيجة ظروف فرضت عليه اختيار هذا الفرد مع الاعتراف بأنّه مثل سائر الأفراد.

و أمّا السبب الثاني: أعني قوله: «إنّ مثل هذه الأُمور عمل اشتبه أمره...» فهو مثل الأوّل؛ فانّه مشتبه لمن لم يدرس البدعة حقّها دون من درسها.

و أمّا السبب الثالث: أعني قوله: «مخالفة السنّة حيث ترك مثل هذا العمل...» فذلك لأنّ تركهم لا يكون حجّة على كون العمل بدعة بعد افتراض سعة رقعة الدليل، و تركهم فرداً خاصاً لا يدلّ على عدم مشروعيته؛ إذ لم يكونوا يعانون من الإتيان بسائر الأفراد فلأجله تركوا ذاك الفرد، بخلاف الإنسان الذي فرضت الظروف عليه مداومة هذا الفرد أو كان نشاطه محفوظاً فيه دون سائر الأفراد.

و لوصحّ ما ذكره يجب ترك المسنونات أحياناً، لئلّا يتخيّل الجاهل أنّها فريضة، فعلى من يرى القبض في الصلاة سنّة، تركه في حين بعد حين، دفعاً لعادية الجهل.

و على من يقيمصلاة التراويح جماعة تركها و الإتيان بها فرادى؛ لئلّا يعتقد الجاهل أنّ التشريع مختص بالجماعة. إلى غير ذلك من المضاعفات التي لا يلتزم بها الشاطبي و غيره.

فجهل الجاهل، لا يكون سبباً لترك المسنون؛ لأنّه لو قصر في التعليم فما ذنب من يريد الإتيان به و إنّما علينا دفع عاديته. و بذلك يظهر حسن إتيان المساجد التيصلّى النبي فيها؛ و ذلك لعموم الدليل الشامل لتمام المساجد التيصلّى فيها أم لم يصلّ، و إنّما يختار ذلك لأجل التبرّك الذي تضافر النص بجوازه، و ليس تخصيصها

ص:136

بالعبادة، بمعنى ورود النصّ بها بالخصوص، و انّما يختارها لغرض آخر و هو التبرّك.

و أمّا كراهة مالك المجي ء إلى بيت المقدس، فهو على خلاف السنّة؛ حيث رخّص النبي السفر إليه، كما سيوافيك عند البحث عن شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي.

و منه تظهر حال كراهة زيارة قبور الشهداء، أو المجي ء إلى مسجد قباء؛ فإنّه إعراض عن السنّة التي رسمها النبي، حيث أمر بزيارة القبور، و كان يجي ء إلى مسجد قباء كلّ أُسبوع مرّة و يصلّي فيه.

و ما أجمل قول الإمام الصادق: «إنّ هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق» «(1)».

قال التفتازاني: «و من الجهلة من يجعل كلّ أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة، و إن لم يقم دليل على قبحه تمسّكاً بقوله عليه السلام: «إيّاكم و محدثات الأُمور» و لا يعلمون أنّ المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه. عصمنا اللَّه من اتّباع الهوى، و ثبتنا على اقتفاء الهدى بالنبي و آله» «(2)».

و أمّا السبب الرابع: أعني قوله: «انتهاء هذا العمل إلى اعتقاد ما ليس بسنّة سنّة» فهو أيضاً مثله؛ فإنّه يجب على العالم إرشاد الجاهل لا ترك العمل الذي دلّ الشرع على جوازه بالإطلاق و العموم.


1- الكافي 2: 86/ 1.
2- شرح المقاصد 5: 232.

ص:137

لا بدعة فيما فيه الدليل نصّاً أو إطلاقاً

المبحث السابع لا بدعة فيما فيه الدليل نصّاً أو إطلاقاً

عرفت أنّ حقيقة البدعة هي الافتراء على اللَّه و الفرية عليه، بإدخال شي ء في دينه أو نقصه منه، و نسبته إلى اللَّه و رسوله. فإذا كان هذا هو الملاك فكلّ مورد يدلّ عليه الدليل يكون خارجاً عن البدعة موضوعاً.

و الدليل على قسمين:

الأوّل: أن يكون هناك نصّ في القرآن يشخص المورد و حدوده و تفاصيله و جزئياته، كالاحتفال بعيدي الفطر و الأضحى، و الاجتماع في عرفة و منى، فعندئذٍ لا يكون هذا الاحتفال و الاجتماع بدعة، بل سنّة قد أمر بها الشارع بالخصوص، فيكون إتيان العمل امتثالًا، لا ابتداعاً.

الثاني: أن يكون هناك دليل عام في المصدرين الرئيسيين يشمل بعمومه المصداق الحادث، و إن كان الحادث يتّحد مع الموجود في عهد الرسالة حقيقة و ماهية، و يختلف معه شكلًا، و لكن الدليل العام يعمّ المصداقين و يشمل الموردين و يكون حجّة فيهما. و إليك بعض الأمثلة:

1- قال سبحانه: «وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ

ص:138

تُرْحَمُونَ» «(1)» و الآية تأمر باستماع القرآن عند قراءته و الإنصات له، و المصداق الموجود لها في ظرف الرسالة هو استماع القرآن مباشرة من فم القارئ الذي يقرأ القرآن في المسجد أو في البيت، و لكن الحضارة الصناعية أحدثت مصداقاً آخر لم يكن موجوداً في ظرف الرسالة، كقراءة القرآن من خلال المذياع و الإذاعة المرئية، فالآية حجّة في كلا الموردين، و ليس لنا ترك الاستماع و الإنصات في القسم الثاني، بحجّة أنّه لم يكن في ظرف الرسالة؛ و ذلك لأنّ العربي الصميم عند ما يتدبّر في مفهوم الآية لا يرى فرقاً بين القراءتين، فلو قلنا حينئذٍ بوجوب الاستماع أو ندبه فليس هذا قولًا بغير دليل، أو بدعة في الدين.

2- قال النبيّ الأكرم: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» «(2)»

و من الواضح أنّ العلوم حتى ما يمت إلى الشرع، كانت في ظرفصدور الحديث محدودة، و لكن المحدودية لا تمنع عن شمول الحديث للعلوم التي ابتكرها المسلمون لفهم الكتاب و السنّة، كعلم اللغة و الصرف و النحو و البلاغة، بل و الفقه المدوَّن عبر العصور؛ و ذلك لأنّ الحديث بصدد تأسيس قاعدة كليّة، فليس لمسلم أن يصف هذه العلوم بالبدعة بحجّة أنّها لم تكن في عصر الرسالة؛ لأنّ شأن الشارع الصادق إلقاء الأُصول و بيان القواعد و الضوابط لا بيان المصاديق، و بالأخص ما لم يكن في عصره.

3- لا شك أنّ من واجب المسلمين حفظ القرآن و السنّة النبويّة من الضياع، لأنّ الإسلام ليس ديناً إقليميّاً بل ديناً عالمياً و ليس ديناً موقتاً بل خاتماً، فطبيعة ذلك الدين تقتضي لزوم حفظ نصوصه و سنّته حتى ترجع إليها الأجيال اللاحقة.


1- الأعراف: 204.
2- مجمع الزوائد 1: 19.

ص:139

و عند ما التحق النبيّ بالرفيق الأعلى و رأى المسلمون أنّ من واجبهم حفظ القرآن من الضياع خصوصاً بعد ما لحقت بالمسلمين في الحروب خسارة كبيرة باستشهاد مجموعة كبيرة من القرّاء، فصار الحكم الكلّي (لزوم حفظ القرآن) مبدأ لإجراء عمليات مختلفة عبر الزمان، و كلّها أُمور دينية مستمدّة من الحكم الكلي، أي لزوم حفظ القرآن و السنّة؛ فعمدوا إلى كتابة القرآن و تنقيطه و إعراب كلمه و جمله، و عدّ آياته و تمييزها بالنقاط الحمراء، و أخيراً طباعته و نشره، و تشجيع حفّاظه و قرّائه و تكريمهم في احتفالات خاصّة، إلى غير ذلك من الأُمور التي تعتبر كلّها دعماً لحفظ القرآن و تثبيته، و إن لم يفعل بعضها رسول اللَّه و لا أصحابه و لا التابعون؛ إذ يكفينا وجود أصل له في الأدلّة.

4- إنّ من واجب المسلمين الاستعداد الكامل أمام هجمات الكفّار، و أخذ الحيطة و الحذر في كلّ ما يحتمل خطره عليهم، يقول سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ» «(1)» ففي الآية نوعان من الدليل: خاصان في مورد رباط الخيل، فلو جهزت الحكومة الإسلامية جندها بالخيل فقد امتثلت الأمر الإلهي، كما إذا تسلّحت بالغوّاصات و الأساطيل البحرية و الطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع؛ فقد جسّدت الآية و طبّقتها على مصاديقها التي لم تكن موجودة في عصر النبي، و إنّما حدثت بعده.

فهذه الموارد كلّها أُمور شرعية غير عادية، بشهادة أنّ الإنسان يقوم بها بنيّة امتثال ما ورد في الشرع، و ليس للمتزمّت أن يرفضها بحجّة أنّه ليس هنا دليل خاص عليها، و ذلك لأنّ اللازم في نفي البدعة لزوم الدليل عاماً أو خاصّاً، لا وجود دليل خاص؛ فالدليل العام بعمومه حجة في جميع الأجيال على جميع الناس في كلّ


1- الأنفال: 60.

ص:140

الموارد التي تجسّد الضابطة الكليّة.

5- قال رسول اللَّه: «إنّ أفضلكم مَن تعلّم القرآن و علّمه» «(1)»

.

و غير خفيّ على القارئ النابه أنّ كيفية التعليم في عصر الرسالة تختلف كثيراً عن عصرنا، فكلا العملين يعدّان تعليماً و تجسيداً لكلام الرسول يقصد به رضا اللَّه سبحانه و تقرّبه إليه، و ليس للمتزمّت رفض الأساليب الحادثة لتعلّم الكتاب و السنّة.

و الحقّ أنّ هذا الموقف موضع زلّة لأكثر من يصف عمل المسلمين في بعض الموارد بالبدعة، بحجة عدم وجود دليل خاص عليه، فقد ضلّوا و لم يميّزوا بين الدليل الخاص و الدليل العام. و خصّوا الدليل بالأوّل، مع أنّ الكتاب و السنّة مليئان بالضوابط و القوانين العامة و إليك بعض الأمثلة:

أ- قال سبحانه: «لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» «(2)» فالآية تنفي أي سبيل للكافر على المؤمن، و من المعلوم أنّ السبل تختلف حسب تطور الحضارات، و كثرة المواصلات، و تشعّب العلاقات بين الناس. ففي عصر الرسالة كان السبيل السائد هو تسلّط الفرد الكافر على المسلم، ككون العبد المسلم رقّاً للكافر، أو تمليك المصحف منه و ما قاربهما، و أمّا في عصرنا هذا؛ فحدّث عن السبيل و لا حرج، فأين هو من تدخّل الكفّار في مصير المسلمين حكومة و شعباً حتىصار رؤساء الحكومات الإسلامية أسرى بيد الاستكبار العالمي.

ب- يقول سبحانه: «وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ» «(3)» فإنّ التعاون الموجود في العصور السابقة كان محدوداً في إطار ضيّق،


1- البخاري، الصحيح 2: 158؛ لاحظ سنن الترمذي رقم 3071 و غيرهما.
2- النساء: 141
3- المائدة: 2.

ص:141

و أكثر ما كان يتحقّق منه هو اشتراك جمع من مدينة واحدة أو من قبيلة معيّنة على أن يتعاونوا فيما بينهم، و أين هذا من التعاون السائد في عصرنا هذا كتعاون دول المنطقة على إجراء مشروع مفيد للمنطقة، أو تعاونهم على ضرب حكومة إسلامية فتيّة خوفاً على كراسيّهم و مناصبهم.

و لو أنّ المتزمّتين درسوا هذا البحث دراسة عميقة لربّما خمدت ثورتهم ضدّ المسلمين الذين يعملون الخير امتثالًا لحكم الدين.

لقد كان في التاريخ الإسلامي اناس يفهمون- بصفاء أذهانهم و خلوص قرائحهم- أنّ ما ورد في الكتاب و السنّة من وصفه سبحانه بصفات الجمال و الكمال أُسوة لما لم يرد، فللمسلم أن يدعو ربّه بأوصاف جميلة و إن لم ترد حرفياً في الكتاب و السنّة.

روى الطبراني: «أنّ النبيّ عليه الصلاة و السلام مرّ على أعرابي و هو يدعو فيصلاته و يقول: «يا من لا تراه العيون، و لا تخالطه الظنون، و لا يصفه الواصفون، و لا تغيّره الحوادث، و لا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، و مكاييل البحار، و عدد قطر الأمطار، و عدد ورق الأشجار، و عدد ما أظلم عليه الليل، و أشرق عليه النهار، لا توارى سماء منه سماء، و لا أرض أرضاً، و لا بحرٌ ما في قعره، و لا جبل ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، و خير عملي خواتمه، و خير أيّامي يوم ألقاك».

فوكّل رسول اللَّه بالأعرابي رجلًا، و قال: إذاصلّى فأتني به، و كان قد أُهْدِي بعض الذهب إلى رسول اللَّه، فلمّا جاء الأعرابي، وهب له الذهب، و قال له: تدري لم وهبت لك؟

قال الأعرابي: للرحم التي بيني و بينك.

ص:142

قال الرسول الكريم: إنّ للرحم حقّاً، و لكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على اللَّه» «(1)».

و أين هذا الكلام ممّا روي عن الشاذلي أنّه قال: «من دعا بغير ما دعا به رسول اللَّه فهو مبتدع» «(2)».


1- تراثنا الفكري في ميزان الشرع و العقل: ص 102.
2- روح البيان 9: 385.

ص:143

الخطوط العامة لتحصين الدين من الابتداع

المبحث الثامن الخطوط العامة لتحصين الدين من الابتداع

اشارة

كان النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله يتنبّأ دبيب البدعة في دينه بعد رحيله، و يعلم أنّ سماسرة الأهواء سيبثّون بذور البدع في المجتمع الإسلامي. و لما كان الدين أعزّ شي ء عند الرسولصلى الله عليه و آله، و قد ضحّى بالنفس و النفيس لأجله، و تحمّل عبئاً عظيماً في طريق دعوته، لذا اتّخذ عدّة إجراءات لتحصينه من البدعة، نذكر منها ما يلي:

الأوّل: التحذير من البدع و المبتدعين

إنّ الخط الدفاعي الأوّل الذي وضعه رسول اللَّه لحصانة دينه تمثل في ذمّ البدع و المبتدعين، و تحذير المجتمع الإسلامي منهما، من خلال خطبه و أحاديثه البليغة، و قد تعرّفت على قسم منها في التقديم و بعده، و إليك بعضها:

قال رسول اللَّه: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» «(1)»

.

و قال: «إيّاكم و البدع؛ فانّ كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة تسير إلى النار» «(2)»


1- لاحظ كنز العمال ج 1 الحديث 1101.
2- لاحظ كنز العمال ج 1 الحديث 1113.

ص:144

و قال: «أصحاب البدع كلاب النار» «(1)»

.

و قال: «أهل البدع شرّ الخلق و الخليقة» «(2)»

.

و قال: «يجي ء قوم يميتون السنّة و يوغلون في الدين، فعلى أُولئك لعنة اللَّه و لعنة اللاعنين و الملائكة و الناس أجمعين» «(3)»

.

و قال: «من وقّرصاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» «(4)»

.

و قال: «إذا رأيتمصاحب بدعة فاكفهرّوا في وجهه» «(5)»

.

إلى غير ذلك من الأحاديث البليغة التي تحذّر المجتمع الإسلامي من البدعة و المبتدعين الذين سيظهرون بعد رحيله، و بذلك أعطى بصيرة لمن خلفه لكي لا يغترّوا بكلام المبتدعين و يفتتنوا به.

الثاني: الإشارة إلى وجود الكذّابة على لسانه

وقف النبيّ الأكرم على أنّ هناك أُناساً في حياته أو بعد رحيله يكذبون أو سيكذبون على لسانه، فيبدلون دينه، فقال في حديث يرشد المسلمين إلى وجود الكذّابين ليأخذوا حذرهم:

«من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار» «(6)»

.

أو «من يقل عليّ ما لم أَقُل فليتبوّأ مقعده من النار» «(7)»

.

إنّ التاريخ يشهد بأنّ الأُمّة الإسلامية- في عصر الخلفاء- يوم اتّسعت رقعة البلاد الإسلامية و استوعبت شعوباً كثيرة، شهدت دخول جماعات عديدة من


1- لاحظ كنز العمال ج 1 الحديث 1094، 1095، 1124، 1102، 1676.
2- لاحظ كنز العمال ج 1 الحديث 1094، 1095، 1124، 1102، 1676.
3- لاحظ كنز العمال ج 1 الحديث 1094، 1095، 1124، 1102، 1676.
4- لاحظ كنز العمال ج 1 الحديث 1094، 1095، 1124، 1102، 1676.
5- لاحظ كنز العمال ج 1 الحديث 1094، 1095، 1124، 1102، 1676.
6- البخاري، الصحيح 1: 27؛ السنن لابن ماجة 1: 13؛ صحيح مسلم بشرح النووي: 661؛ الترمذي رقم 2796 إلى غير ذلك من المصادر.
7- البخاري، الصحيح 1: 27؛ السنن لابن ماجة 1: 13؛ صحيح مسلم بشرح النووي: 661؛ الترمذي رقم 2796 إلى غير ذلك من المصادر.

ص:145

أحبار اليهود و علماء النصارى في الإسلام، مثل: كعب الأحبار، و تميم الداري، و وهب بن منبّه، و عبد اللَّه بن سلام؛ الذين تسلّلوا إلىصفوف المسلمين، و راحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية، و الخرافات و الأساطير النصرانية في أحاديث المسلمين و كتبهم و أذهانهم.

و قد ظلّت هذه الأحاديث المختلقة، تُخيِّم على أفكار المسلمين ردْحاً طويلًا من الزمن، و تؤثّر في حياتهم العمليّة، و توجهها الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف، في غفلة من المسلمين و غَفْوتهم، و لم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير إلّا من عصمه اللَّه، كعليّ عليه السلام، الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلقة فقال:

«فلو علم الناس أنّه منافق كاذب، لم يقبلوا منه و لم يصدَّقوا، و لكنّهم قالوا:

صاحب رسول اللَّه رآه و سمع منه و لقف عنه» «(1)»

.

نماذج و أرقام عن الأحاديث الموضوعة:

و حسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين و ما تعرّضت له الأحاديث، و لمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الأُمّة ما كُتب في هذا الصدد مثل كتاب:

ميزان الاعتدال للذهبي.

و تهذيب التهذيب للعسقلاني.

و لسان الميزان للعسقلاني.

و نظائرها من الكتب التيصنّفت في هذا المجال.

و لعلّ فيما قاله البخاريصاحب «الصحيح» المعروف، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة، حيث قال ابن حجر في مقدّمة فتح الباري:

إنّ أبا عليّ الغساني روى عنه قال: خرّجت الصحيح من 600 ألف حديث «(2)».


1- نهج البلاغة: الخطبة 210.
2- الهدي الساري مقدمة فتح الباري: ص 4.

ص:146

و روى عنه الإسماعيلي أنّه قال:

أحفظ مائة ألف حديثصحيح و أحفظ مائتي ألف حديث غيرصحيح «(1)».

و يعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم (الصحاح و المسانيد) من أحاديث كثيرة هائلة، و الصفح عن غيرها، و قد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف و ثمانمائة حديثاً و قال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث «(2)».

و يحتويصحيح البخاري من الخالص بلا تكرار على ألفي حديث و سبعمائة و واحد و ستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث «(3)».

و فيصحيح مسلم أربعة آلاف حديث أُصول دون المكرّرات،صنّفه من ثلاثمائة ألف «(4)».

و ذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث، و قد انتخبه من أكثر من سبعمائة و خمسين ألف حديث، و كان يحفظ ألف ألف حديث «(5)».

و قد قام الباحث الكبير المجاهد العلّامة الأميني في موسوعته (الغدير)- الجزء الخامس- باستخراج أسماء الكذّابين و الوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم 700، و ما قام به رحمه اللَّه، و إن كان عملًا كبيراً يشكر عليه، غير أنّه لو قامت بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك البحّاثة الكبير.

و كان تحذير النبي الأكرم من الدجّالين الكذّابين و شيوع الكذب على لسانه سبباً لقيام العلماء بوضع علم الرجال و بيان مقاييس يُميّز به الصحيح عن السقيم.


1- الهدي الساري مقدمة فتح الباري: ص 5.
2- طبقات الحفّاظ للذهبي 2: 154؛ تاريخ بغداد 9: 57.
3- إرشاد الساري 1: 208؛ صفوة الصفوة 4: 143.
4- طبقات الحفّاظ 2: 151، 157؛ شرح صحيح مسلم للنووي 1: 32.
5- طبقات الحفّاظ 9: 17.

ص:147

و قال: و قد تنبّأ الرسول بما سيصيب سنّته الشريفة و يصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين و وضّاعي الحديث و أعداء الإسلام، و في الوقت نفسه أخبر عمّن يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال: «يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين و تحوير الغالين و انتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد» «(1)»

.

روى السيوطي أنّ عثمان بن عفان لمّا أراد أن يكتب المصاحف، أراد أن يحذف الواو التي في سورة براءة في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» «(2)».

قال أُبيّ بن كعب: لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي «(3)».

فإنّ الخليفة كان يريد أن يقرأ قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ» بدون واو العطف، لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار و اليهود. و هذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل و تغييراً فيما نزل به الوحي كما تلاه الرسول و قرأه على مسامع القوم، فإنّ حذف الواو كان يعني أنّ آية حرمة الكنز سوف لا تشمل المسلمين بل ستبقىصفة للأحبار و الرهبان. و كان يقصد من هذه إضفاء طابع الشرعية على اكتناز الأموال الطائلة.

و هذا يكشف عن مدى حفظ الأُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة، بيد أنّ حفظ الأُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحد؛ إذ كان غير شامل لجوانب أُخرى من الشريعة و أُصولها و مصادرها و ينابيعها.


1- الكشي، الرجال: ص 5.
2- التوبة: 34.
3- الدر المنثور 3: 232.

ص:148

الثالث: محاولة كتابة الصحيفة

هذا هو الخطّ الدفاعي الثالث الذي حاول الرسول وضعه لمكافحة دبيب البدعة، و هنا نقتبس ما ذكره الإمام الشاطبي حرفياً، يقول:

لقد كان عليه الصلاة و السلام حريصاً على أُلفتِنا و هدايتنا، حتى ثبت من حديث ابن عباس رضى الله عنه .. أنه قال: لمّا حضر «(1)» النبيّصلى الله عليه و آله قال: و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنهم- فقال: «هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده» فقال عمر: إنّ النبيّصلى الله عليه و آله غلبه الوجع، و عندكم القرآن فحسبنا كتاب اللَّه!! و اختلف أهل البيت و اختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لن تضلّوا بعده، و فيهم من يقول كما قال عمر، فلمّا كثر اللغط و الاختلاف عند النبيصلى الله عليه و آله قال:

«قوموا عنّي» فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللَّه و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب اختلافهم و لغطهم «(2)».

الرابع: التعريف بالثقلين

إنّ النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله نبّه الأُمّة و بيّن لها المرجع و الملاذ بعد رحيله بقوله: «يا أيّها الناس، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي» «(3)».

و قالصلى الله عليه و آله: «إنّي تركت ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي؛ و لن يفترقا حتى يردا عليّ


1- أَي حضرته الوفاة.
2- الاعتصام 2: 171- 172 و لاحظ صحيح البخاري.
3- كنز العمال 1: 44، أخرجه الترمذي و النسائي عن جابر.

ص:149

الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما» «(1)»

.

و قالصلى الله عليه و آله: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب اللَّه حبل ممدود ما بين السماء و الأرض، و عترتي أهل بيتي؛ و انّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض» «(2)»

.

و قالصلى الله عليه و آله: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه، و أهل بيتي، و انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» «(3)»

.

و قالصلى الله عليه و آله: «إنّي أوشك أن ادعى فأُجيب، و إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه عز و جل، و عترتي؛ كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء الى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و إنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروني بمَ تخلفوني فيهما» «(4)»

.

و قالصلى الله عليه و آله في منصرفه من حجة الوداع و نزوله غدير خم: «كأنّي قد دُعيت فأجبت، إنّي تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللَّه و عترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» «(5)».

و للكاتب الإسلامي منشي المنار كلام ذكره في تعليقته على كتاب الاعتصام للشاطبي قال: رواه ابن أبي شيبة و الخطيب في المتّفق و المفترق عنه و هو «تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به، كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي: و رواه الترمذي و النسائي عنه بلفظ «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا:

كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي» و الحديث مرويّ بلفظ العترة بدل السنّة عن كثير من الصحابة، منهم: زيد بن ثابت، و زيد بن أرقم، و أبو سعيد الخدري، و روي عن


1- كنز العمال 1: 44، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.
2- مسند أحمد 5: 282- 289.
3- مستدرك الحاكم 3: 148.
4- مسند أحمد 3: 17 و 26، أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري.
5- مستدرك الحاكم 3: 109، أخرجه عن حديث زيد بن أرقم.

ص:150

أبي هريرة بلفظ «السنّة» بدل العترة، و في كلا السياقين بلفظ «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» و الجمع بينهما في المعنى أنّ عترته أهل بيته يحافظون على سنّته، أي لا يخلو الزمان عن قدوة منهم يقيمون سنّته لا يُثنِيهم عنها التقليد و لا الابتداع و لا الفتن «(1)».

الخامس: التعريف بسفينة النجاة

اشارة

إنّ النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله شبّه أهل بيته بسفينة نوح فقال: «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه؛ من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق» «(2)»

.

و في حديث آخر يقولصلى الله عليه و آله: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق. و إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل؛ من دخله غفر له» «(3)»

.

و في حديث ثالث: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» «(4)»

.

و من المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق؛ لأنّ هذه المنزلة ليست إلّا لحجج اللَّه، و هم ثلّة منتخبة مصطفاة من أهل بيته، و قد فهمه ابن حجر فقال: يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمان، علماؤهم؛ لأنّهم الذين يُهتدى بهم كالنجوم، و الذين إذا فُقِدوا جاء أهل الأرض من آيات ما يوعدون.


1- الاعتصام 2: 156، قسم التعليقة.
2- رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن أبي ذر 3: 151.
3- الأربعون حديثاً للنبهاني: ص 216 نقله عن الطبراني في الأوسط.
4- رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن ابن عباس 3: 149.

ص:151

و قال في مقام آخر: إنّه قيل لرسول اللَّه: ما بقاء الناس بعدهم؟ قال: «بقاء الحمار إذا كسرصلبه» «(1)»

.

و المراد من تشبيههم عليهم السلام بسفينة نوح أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه و أُصوله عنهم نجا من عذاب اللَّه، و من تخلّف عنهم كان كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللَّه فما أفاده شيئاً فغرق و هلك.

و الوجه في تشبيههم بباب حطة هو أنّ اللَّه تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله و البخوع لحكمه، و بهذا كان سبباً للمغفرة، و قد جعل انقياد هذه الأُمّة لأهل بيت نبيّها و اتّباعهم أيضاً مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله و البخوع لحكمه، و بهذا كان سبباً للمغفرة.

و قد أوضح ابن حجر حقيقة التشبيه في الحديث الشريف فقال: «و وجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم و عظّمهم شكراً لنعمة مشرفهم و أخذاً بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، و من تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، و هلك في مفاوز الطغيان- إلى أن قال:- و بباب حطة- يعني و وجه تشبيههم بباب حطة- أنّ اللَّه جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحاء أو بيت المقدس مع التواضع و الاستغفار سبباً للمغفرة، و جعل لهذه الأُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها» «(2)».

دور أئمة أهل البيت في مكافحة البدع:

إنّ لأئمة أهل البيت دوراً بارزاً في مكافحة البدع، و الردّ على الأفكار الدخيلة على الشريعة عن طريق أهل الكتاب، الذين تظاهروا بالإسلام، و تزيّوا بزيّ


1- الصواعق لابن حجر، الباب الحادي عشر: 91، 142.
2- لاحظ المصدر نفسه: 153.

ص:152

المسلمين، نظراء: كعب الأحبار، و تميم الداري، و وهب بن منبه، و من كان على شاكلتهم.

إنّ كتب الحديث، من غير فرق بين الصحاح و غيرها، مشحونة بأخبار التجسيم و التشبيه و الجبر و نفي الاستطاعة المكتسبة و نسبة الكذب و العصيان إلى الأنبياء و الرسل، و قد تأثّر بها المحدّثون السُّذَّج و حسبوا أنّها حقائق راهنة فنقلوها إلى الأجيال اللّاحقة، و قد حيكت العقائد على منوال هذه الأحاديث، و لم يتجرّأ أحد من المفكّرين الإسلاميين القدامى و الجدد على نقدها إلّا من شذّ.

و في مقابل هذه البدع نرى أنّ أئمة أهل البيت يكافحون التجسيم و التشبيه و الجبر و غيرهما بخطبهم و رسائلهم و مناظراتهم أمام حشد عظيم. و في وسع القارئ الكريم مراجعة نهج البلاغة للإمام عليّ عليه السلام و كتاب التوحيد للشيخ الصدوق (306- 381 ه)، و كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي (ت 550 ه)، إلى غير ذلك من الكتب المؤلّفة في هذا المضمار، و ما أحلى المناظرات التي أجراها الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في عاصمة الخلافة الإسلامية (مرو) يوم ذاك مع الماديّين و الملحدين و أحبار اليهود و قساوسة النصارى، بل و مع المتزمّتين المغترّين بتلك الأحاديث.

لقد كان لفكرة الإرجاء التي تدعو إلى التسامح الديني في العمل، واجهة بديعة عند السذّج من المسلمين و لا سيّما الشباب منهم، فقام الإمام الصادق بردّها و التنديد بها، و قد أصدر بياناً فيها حيث قال: «بادروا أولادكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة» «(1)»

.

هذا هو الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضا يكافح فكرة رؤية اللَّه تبارك و تعالى بالعين.


1- الكافي 6: 47/ 5؛ و لاحظ البحار 68: 297.

ص:153

و يرد الفكرة المستوردة من اليهود و التي اغترّ بها بعض المحدّثين، و إليك ما جرى بينه و بين أحدهم باسم أبي قرّة.

قال أبو قرّة: إنّا روينا أنّ اللَّه عز و جل قسم الرؤية و الكلام بين اثنين، فقسم لموسى عليه السلام الكلام و لمحمدصلى الله عليه و آله الرؤية.

فقال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: «فمن المبلّغ عن اللَّه عزّ و جل الى الثقلين الجنّ و الإنس «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» «(1)» و «لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» «(2)» و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» «(3)» أ ليس محمّداًصلى الله عليه و آله؟

قال: بلى.

قال الإمام: «فكيف يجي ء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللَّه و أنّه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه و يقول: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» و «لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ». ثمّ يقول أنا رأيته بعيني و أحطت به علماً و هو علىصورة البشر. أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن اللَّه بشي ء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر» «(4)»

.

هذا نموذج من نماذج كثيرة أوردناه حتى يكون أُسوة لنماذج أُخرى.

و إن أردت أن تقف على مدى مكافحة الأئمة الاثني عشر للبدع المحدثة فعليك مقارنة كتابين قد أُلّفا في عصر واحد بيد محدّثين في موضوع واحد، و هما:

1- التوحيد لابن خزيمة (ت 311 ه).

2- التوحيد للشيخ الصدوق (306- 381 ه).


1- الأنعام: 103.
2- طه: 110.
3- الشورى: 11.
4- التوحيد: 111.

ص:154

قارن بينهما، تجد الأوّل مشحوناً بأخبار التجسيم و التشبيه و الجبر، و ما زال المتسمون بالسلفية ينشرونه عاماً بعد عام، كأنّ ضالّتهم فيه.

و أمّا الثاني ففيه الدعوة إلى التوحيد و تنزيه الحقّ و معرفته بين التشبيه و التعطيل و تبيين الآيات التي اغترّ بعضهم بظواهرها من دون التدبّر بالقرائن الحافّة بها.

و بذلك تبيّن أنّ النبيّ الأكرم قد جعل من الأئمّة واجهة دفاعية لصدّ البدع و أفكار المبتدعين و لا تتبيّن تلك الحقيقة إلّا بعد معرفتهم و مراجعة كلماتهم.

السادس: دعم الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر

إذا كانت البدعة من أعظم الكبائر و المنكرات، فعلى السلطة التنفيذية للحكومات الإسلامية، دعم الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر، للقيام بمواجهة المبتدعين و ردعهم عن أعمالهم؛ فإنّ البدعة أوّل يومها بذرة في الأذهان، ثمّ يستفحل عودها عبر الزمن حتى تصير شجرة خبيثة، و لذلك دعا الذكر الحكيم إلى القيام بهذا الأمر و قال: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «(1)» و في آية أُخرى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «(2)».

و الأُمَّة عبارة عن جماعة تجمعهم رابطة العقيدة و وحدة الفكر، غير أنّ الواجب على الجميع غير الواجب على جماعة خاصة، فيجب على كلّ مسلم ردع المنكر بقلبه و لسانه، و أمّا القيام بأكثر من ذلك فهو على القويّ المطاع العالم


1- آل عمران: 104.
2- آل عمران: 110.

ص:155

بالمعروف، و بذلك يجمع بين الآيتين، حيث إنّ الثانية ترى الأمر بالمعروف فريضة على الجميع، و الأُولى تراه فريضة على أُمّة خاصة، فالمراتب النازلة فريضة على الكلّ، و المراتب العالية وظيفة الأقوياء من أبناء الأُمّة.

و يكفي في أهمية تلك الفريضة قوله سبحانه: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» «(1)».

و هذا الإمام أمير المؤمنين يعلّل قيامه و نضاله، بردع البدع و يقول: «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا، منافسة في سلطان، و لا التماس شي ء من فضول الحطام، و لكن لنردَّ المعالم من دينك، و نُظهر الإصلاح في بلادك» «(2)»

.

و ردّ المعالم من دينه كناية عن رفض البدع التي كانت قد ظهرت على الساحة الإسلامية.

و قال الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء، و منهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، و تأمن المذاهب، و تحلّ المكاسب، و تردّ المظالم، و تعمر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر» «(3)»

.

و قد كان في العصور الماضية نشاط للآمرين بالمعروف في خصوص متابعة المساجد و المؤذّنين و الوعّاظ و القرّاء، حتى لا يخرجوا عن حدود الشريعة.

يقول ابن إخوة القرشي: «و من وظائف المحتسِب مراقبة المساجد و المؤذّنين


1- الحج: 41.
2- نهج البلاغة: الخطبة 127.
3- الوسائل 11: 395.

ص:156

و الوعّاظ و القرّاء، و عدم السماح لتصدّي هذه المشاغل إلّا لمن اشتهر بين الناس بالدين و الخير و الفضيلة و يكون عالماً بالأُمور و العلوم الشرعية» إلى آخر ما ذكره «(1)».

فهذه هي الخطوط الدفاعية التي وضعها الإسلام أمام المبتدعين، و هناك أُمور أُخرى للقضاء على البدعة و الحدّ من نشاط المبتدعين، نؤخّر بيانها إلى مجال آخر.


1- معالم القربة في أحكام الحسبة: 179.

ص:157

خاتمة المطاف كيفية التوصّل إلى مكافحة البدع و القضاء عليها

بقي هنا أمر هام و هو؛ كيف نتوصّل إلى مكافحة البدع و نقضي عليها؟ و هو سؤال مهمّ يبيّن موقفنا في هذا العصر أمام تيارات البدع قديماً و حديثاً. و في الحقيقة أنّ ما نذكره في الجواب، هو واجب العلماء المفكّرين الذين يتحرّقون لمعرفة الحق بين منعرجات الأهواء النفسية و الانتماءات العصبية.

إنّ القضاء على البدع و لو نسبياً يتمّ بالقيام بأُمور هي:

الأوّل: دراسة العقائد الإسلامية في ضوء الكتاب و السنّة الصحيحة، و الفطرة الإنسانية، و العقل السليم، و نفي الاكتفاء برسالة «الطحاوية» للإمام الطحاوي، و «الإبانة» للإمام الشيخ الأشعري؛ فإنّهما- رضوان اللَّه عليهما- قد أدّيا رسالتهما في عصرهما بأحسن وجه، و لم يكن في وسعهما إلّا ما ألّفا و نشرا، و إن تأثّرا بالروايات غير الصحيحة؛ إذ في ثنايا ذينك الكتاب التلميح إلى التشبيه و التعطيل، و تعريف الإنسان بلا اختيار و إرادة، كالريشة في مهبّ الريح، إلى غير ذلك ممّا تردّه الفطرة السليمة، كجواز تعذيب الطفل يوم القيامة بالنار. و من المؤسف جداً الاكتفاء بدراسة العقائد من خلال هذين الكتابين و ما شاكلهما في مقابل التشكيكات البرّاقة

ص:158

التي تثيرها كلّ يوم الوسائل الإعلامية على الإطلاق في معسكر الغرب و الشرق، و هل يمكنصدّ هذا التيار بهذه الكتب؟ كلّا، و من قال نعم؛ فإنّما يقوله بلسانه و ينكره بقلبه.

كلّ ذلك يسوقنا إلى أن نعطي للعقائد و المعارف قسماً أوفر في دراساتنا، حتى تتميز البدع عن غيرها، نعم انّ من يتلقى كلّ ما ذكره أحمد بن حنبل في كتاب السنّة و الإمامين السابقين في رسالتهما لا غبار عليه، و إن كان ضدّ الكتاب و السنّة المتواترة و العقل الفطري الصريح فلا يحسّ وظيفة أصلًا، و كلامنا مع المفكّرين الواعين العالمين بما يجري في البلاد على الإسلام و الشباب، و ما يثار من إشكالات حول الأُصول حتى التوحيد نفسه.

الثاني: تمحيص السنّة و دراستها من جديد دراسة عميقة سنداً و مضموناً مقارنةً مع الكتاب و السنن القطعية عن الرسول، فانّ أكثر البدع لها جذور في السنّة المدوّنة، و هوصلى الله عليه و آله عنها بري ء، و إنّما اختلقها الوضّاعون الكذّابون على لسانه. غير أنّ مسلمة أهل الكتاب و بما أنّهم لم يروا النبي الأكرم قد نسبوها إلى أنبيائهم و كتبهم، و نسبها بعض السلف إلى نفس النبيّ الأكرم، و ها نحن نضع أمامك حديثين رواهما الشيخان في مورد الأنبياء حتى نتخذهما مقياساً لما لم نذكره.

إنّه سبحانه يعرّف فضله على النبيّ الأكرم بقوله: «وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» «(1)» و المراد من فضله سبحانه في ذيل الآية هو علم النبي الذي أفاضه اللَّه عليه و وصفه بكونه عظيماً، مضافاً إلى ما فيصدر الآية من إنزال الكتاب و الحكمة عليه. و مع ذلك نرى أنّ الرسول في الصحيحين يُعرّف بصورة أنّه لا علم له بأبسط الأُمور و أوضح السنن الطبيعية في عالم النباتات، حيث رأى قوماً يلقّحون النخيل فنهاهم عن ذلك


1- النساء: 113.

ص:159

قائلًا بأنّه لا يظن أنّه يغني شيئاً، فتركه الناس و واجهوا الخسارة و عدم الإثمار، فأتوا إلى النبيّ الأكرم، فقال ما قال، و إليك نصّ الرواية:

1- روى مسلم، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت و رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بقوم على رءوس النخل فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يُلقِّحونه، يجعلون الذكر في الأُنثى فتلقح، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ما أظنّ يغني ذلك شيئاً» فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول اللَّه بذلك، فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنّي إنّما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظنّ، و لكن إذا حدّثتكم عن اللَّه شيئاً فخذوا به، فإنّي لن أكذب على اللَّه عزّ و جلّ» «(1)»

.

و روى عن رافع بن خديج، قال: قدم نبيّ اللَّه المدينة و هم يُؤبِّرون «(2)» النخل، يقولون: يلقّحون النخل، فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنّا نصنعه، قال: «لعلّكم لو لم تفعلوا كان خيراً» فتركوه فنقضت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: «إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشي ء من دينكم فخذوا به، و إذا أمرتكم بشي ء من رأيي فانّما أنا بشر» «(3)»

.

و العجب أنّ مؤلّف الصحيح مسلم النيسابوري ذكر الحديث في باب أسماه ب «وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكرهصلى الله عليه و آله من معايش الدنيا على سبيل الرأي» نحن نعلّق على الحديث بشي ء بسيط و نترك التفصيل إلى القارئ.

أوّلًا: نفترض أنّ النبي الأكرم ليس نبياً، و لا أفضل الخليقة، و لا من أُنزل إليه الكتاب و الحكمة، و لا من وصف اللَّه سبحانه علمه بكونه عظيماً، و لكن كان عربياًصميماً ولد في أرض الحجاز، و عاش بين ظهراني قومه و غيرهم في الحضر


1- مسلم، الصحيح 15: 126 الباب 38، كتاب الفضائل.
2- أبر يأبر كبذر يبذر: أدخل شيئاً من طلع الذكر في طلع الأُنثى فتعلق بإذن اللَّه.
3- المصدر السابق: ص 127.

ص:160

و البادية، و قد تكرّرت سفراته إلى الشام، و كلّ إنسان كان هذا شأنه يعرف أنّ النخيل لا يثمر إلّا بالتلقيح، فما معنى سؤاله ما يصنع هؤلاء؟! فيجيبونه بقولهم:

إنّهم «يلقحونه» أ فيمكن أن يكون هذا الشي ء البسيط خفيّاً على النبيّ؟!

ثانياً: كيف يمكن للنبي النهي عن التلقيح و هو سنّة من سنن اللَّه في عالم الحياة، و قال سبحانه: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» «(1)» و مع ذلك فكيف يقول: «ما أظنّ يغني ذلك شيئاً»؟!

ثالثاً: إنّ الاعتذار الوارد في الرواية يُسي ء الظنّ بكلّ ما يقوله النبيّ الأكرم، فإن كان المخبر بهذه الدرجة من العلم؛ فكيف يمكن الاعتماد بما يُخبر عن اللَّه سبحانه؟! كلّ ذلك يسي ء الظن بكلّ ما يذكره بلسانه و يخرج من شفتيه، و الأسوأ من ذلك ما نُسب إليه من الاعتذار بقوله: «و إذا حدّثتكم عن اللَّه شيئاً فخذوا به، فانّي لن أُكذب على اللَّه عزّ و جلّ»، لأنّ فيه تلميحاً إلى أنّه- و العياذ باللَّه- يكذب في مواضع أُخر.

فلو اعتمدنا على هذه الرواية و نظائرها في بناء العقيدة، فستكون النتيجة أنّ النبي ربّما يكون جاهلًا بأبسط السنن الجارية في الحياة، فهل يصحّ التفوّه بذلك؟

2- لو كان الحديث الأوّل يحطّ من منزلة النبيّ الأكرم، فالحديث الثاني يحطّ من مكانة الكليم موسى عليه السلام. فقد أخرج الشيخان فيصحيحيهما بالاسناد إلى أبي هريرة، قال: لمّا جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال له: أجب دعوة ربّك، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى اللَّه تعالى، فقال: إنّك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت، ففقأ عيني، قال: فردّ اللَّه إليه عينه، و قال:

ارجع إلى عبدي فقال: الحياة تريد، فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك على متن


1- فاطر: 43.

ص:161

ثور، فما توارت بيدك من شعرة فانّك تعيش بها سنة «(1)».

و أخرجه ابن جرير الطبري في تأريخه، و قال: «إنّ ملك الموت يأتي الناس عيوناً حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه- إلى أن قال:- فجاء بعد ذلك إلى الناس خفية» «(2)».

و الحديث غنيّ عن التعليق و لا يوافق الكتاب و لا سنّة الأنبياء و لا العقل السليم من جهات هي:

1- انّه سبحانه يقول: «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ» «(3)» فظاهر قوله: «أجب ربك» انّه كان ممّن كتب عليه الموت و جاء أجله و مع ذلك تأخّر.

2- من درس حياة الأنبياء بشكل عام يقف على أنّهم عليهم السلام ما كانوا يكرهون الموت كراهة الجاهلين، و هل كانت الدنيا عند الكليم أعزّ من الآخرة، و هل كانت تخفى عليه نعمها و درجاتها؟!

3- ما ذنب ملك الموت؟ إنْ هو إلّا رسول من اللَّه مجنّد له، يعمل بإمرته، فهل كان يستحق مثل هذا الضرب؟!

4- كيف تُرِك القصاص عن موسى مع أنّه سبحانه يقول: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ» «(4)».


1- مسلم، الصحيح، ج 7، كتاب الفضائل في باب فضائل موسى؛ البخاري، الصحيح 4: 157، كتاب بدء الخلق، باب وفاة موسى.
2- الطبري، التاريخ 1: 305، باب وفاة موسى.
3- يونس: 49.
4- المائدة: 45.

ص:162

5- و هل كان ملك الموت أضعف من موسى حتى غلب عليه و فقأ عينه و لم يتمكن من الدفاع، و لم يزهق روحه مع كونه مأموراً به من ربه؟ أنا لا أدري، و أظنّ أنّ القارئ في غنىً عن هذه التعليقات، فانّ مضمون الحديث يصرّح بأعلىصوته أنّه مكذوب.

فتمحيص السنّة فريضة على المفكّرين لكي يقضوا بذلك على البدع التي ما انفكّت تتلاعب بالدين، و لا يقوم بذلك إلّا من امتحن اللَّه قلبه بالتقوى و لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، و إن رماه المتطرّفون بأنواع التهم و الأباطيل، و لا غرو فإنّ المصلحين في جميع الأجيال كانوا أغراضاً لنبال الجهّال.

ص:163

دراسة لأربع مسائل فقهيّة تدور بين البدعة و السنّة

مقدّمة الحقيقةُ بنت البحث

إنّ الفقه الإسلامي عطاءٌ كبير ورثه الخلف عن السلف عبر جهود جبّارة؛ بذلها علماءُ الأُمّة و فقهاؤُها المتقدّمون و المتأخّرون.

و قد رامَ هؤلاءِ العلماء و الفقهاء الوصولَ إلى التشريع الحقيقي الّذي جاء به النبيّصلى الله عليه و آله في الكتاب و السنّة، فمنهم من أصاب و منهم من أخطأ.

و هذا الجهد العظيم و إن خَلَّفَ تراثاً فقهيّاً و فكرياً عظيماً تعتزّ به الأُمّة، إلّا أنّه انتهى إلى الخلاف في جملة من المسائل بعد الاتّفاق في أكثرها.

و حيث لم يكن حتميّاً أن تبقى المسائلُ الخلافية خلافيّةً إلى الأبد؛ فمن الممكن أن يصل الفقهاءُ- لو بذلوا جهودهم في دراسة الخلافيّات بعيداً عن تقليد أيّ مذهبٍ من المذاهب- إلى وَحدة النظر، و اتّفاق الرأي فيها.

و قد أثبتت التجربةُ هذه الثمرةَ الحلوةَ، و لأجل ذلك عمدنا إلى طرح مسائل

ص:164

أربع اختلفت فيها مواقف الفقهاء و أنظار العلماء على بساط البحث المجدّد، و رائدنا في هذه الدراسة: الكتاب و السنّة.

و ها أنا ذا أُقدّم حصيلة جهودي هذه إلى فقهاء الأُمّة الّذين يهمّهم مصير الأُمّة، و تشتاق نفوسهم إلى وحدتها و عزّتها.

ص:165

المسألة الأُولى: القبض بين البدعة و السنّة

المسألة الأُولى: القبض بين البدعة و السنّة

اشارة

«(1)»

إنّ قبض اليد اليسرى باليمنى ممّا اشتهر ندبه بين فقهاء أهل السنّة.

فقالت الحنفية: إنّ التكتّف مسنون و ليس بواجب، و الأفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى تحت سُرّته، و للمرأة أن تضع يديها على صدرها.

و قالت الشافعية: يُسنّ للرجل و المرأة، و الأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر و فوق السرّة ممّا يلي الجانب الأيسر.

و قالت الحنابلة: إنّه سنّة، و الأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، و يجعلها تحت السرّة.

و شذّت عنهم المالكية فقالوا: يُندَب إسدالُ اليدين في الصلاة الفرض، و قالت به جماعة أيضاً قبلهم، منهم: عبد اللّه بن الزبير، و سعيد بن المسيب، و سعيد بن جبير، و عطاء، و ابن جريج، و النخعي، و الحسن البصري، و ابن سيرين، و جماعة من الفقهاء.

و المنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض و السدل «(2)».

و أمّا الشيعة الإماميّة، فالمشهور أنّه حرام و مبطل، و شذّ منهم من قال بأنّه مكروه، كالحلبي في الكافي «(3)».

و مع أنّ غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصوّبوا و تصعّدوا في المسألة،


1- هو التكتّف، و القبض اصطلاح أهل السنة و أمّا الشيعة فيطلقون عليه: التكفير بمعنى التستير، الفقه على المذاهب الخمسة: ص 110.
2- الفقه على المذاهب الخمسة: 110؛ و لاحظ رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبد الحميد: ص 5.
3- جواهر الكلام 11: 15- 16.

ص:166

لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة، فضلًا عن كونه مندوباً، بل يمكن أن يقال: إنّ الدليل على خلافهم، و الروايات البيانية عن الفريقين الّتي تبيّنصلاة الرسول خالية عن القبض، و لا يمكن للنبيّ الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها، و إليك نموذجين من هذه الروايات: أحدهما من طريق أهل السنّة، و الآخر من طريق الشيعة الإمامية، و كلاهما يُبيّنان كيفيةصلاة النبيّ، و ليست فيهما أيّة إشارة على القبض فضلًا عن كيفيته.

كيفيّةصلاة النبيّ صلى الله عليه و آله في روايات الفريقين
أ- حديث أبي حميد الساعدي:

روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدّثين، و نحن نذكره بنصّ البيهقي، قال: أخبرناه أبو علي عبد اللَّه الحافظ:

فقال أبو حميد الساعدي: أنا أعلمكم بصلاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، قالوا: لِمَ، ما كنت أكثرنا له تبعاً، و لا أقدمنا لهصحبة؟! قال: بلى، قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتّى يحاذي بهما مَنْكَبيه، ثمّ يكبّر حتّى يقرّ كلّ عضو منه في موضعه معتدلًا، ثمّ يقرأ، ثمّ يكبّر و يرفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه، ثمّ يركع و يضع راحتيه على ركبتيه، ثمّ يعتدل و لا ينصب رأسه و لا يقنع، ثمّ يرفع رأسه، فيقول: سمع اللَّه لمن حمده، ثمّ يرفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه، حتّى يعود كلّ عظم منه إلى موضعه معتدلًا، ثمّ يقول: اللَّه أكبر، ثمّ يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثمّ يرفع رأسه، فيثني رجله اليسرى، فيقعد عليها، و يفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثمّ يعود، ثمّ يرفع فيقول: اللَّه أكبر، ثمّ يثني برجله، فيقعد عليها معتدلًا حتّى يرجع أو يقرّ كلّ عظم موضعه معتدلًا، ثمّ يصنع

ص:167

في الركعة الأُخرى مثل ذلك، ثمّ إذا قام من الركعتين كبّر و رفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه كما فعل أو كبّر عند افتتاحصلاته، ثمّ يصنع مثل ذلك في بقيّةصلاته، حتّى إذا كان في السجدة الّتي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى و قعد متورّكاً على شقّه الأيسر، فقالوا جميعاً:صدق هكذا كان يصلّي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله «(1)».

و الّذي يوضّحصحّة الاحتجاج الأُمور التالية:

1- تصديق أكابر الصحابة «(2)» و بهذا العدد لأبي حميد يدلّ على قوّة الحديث، و ترجيحه على غيره من الأدلّة.

2- إنّه وصف الفرائض و السنن و المندوبات و لم يذكر القبض، و لم ينكروا عليه، أو يذكروا خلافه، و كانوا حريصين على ذلك، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر أنّه أعلمهم بصلاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، بل قالوا جميعاً:صدقت هكذا كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يصلّي، و من البعيد جداً نسيانهم و هم عشرة، و في مجال المذاكرة.

3- الأصل في وضع اليدين هو الإرسال؛ لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه.

4- لا يقال انّ هذا الحديث عامّ و قد خصّصته أحاديث القبض؛ لأنّه وصف و عدّد جميع الفرائض و السنن و المندوبات و كامل هيئة الصلاة، و هو في معرض التعليم و البيان، و الحذف فيه خيانة، و هذا بعيد عنه و عنهم.

5- روى بعض من حضر من الصحابة أحاديث القبض، فلم يعترض، فدلّ على أنّ القبض منسوخ، أو على أقل أحواله بأنّه جائز للاعتماد لمن طوّل فيصلاته، و ليس من سنن الصلاة، و لا من مندوباتها، كما هو مذهب الليث بن سعد، و الأوزاعي، و مالك «(3)».


1- البيهقي، السنن 2: 72- 73، 101، 102؛ أبو داود، السنن: 1/ 194 باب افتتاح الصلاة، الحديث 730- 736؛ الترمذي، السنن 2: 98 باب صفة الصلاة.
2- منهم أبو هريرة، و سهل الساعدي، و أبو أسيد الساعدي، و أبو قتادة الحارث بن ربعي، و محمد بن مسلمة.
3- الدكتور عبد الحميد، رسالة مختصرة في السدل: ص 11.

ص:168

هذا هو الحديث الّذي قام ببيان كيفيةصلاة النبيّ، و قد روي عن طريق أهل السنّة، و قد عرفت وجه الدلالة، و إليك ما رواه الشيعة الإمامية.

ب- حديث حمّاد بن عيسى:

روى حماد بن عيسى عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيمصلاة واحدة بحدودها تامّة!!»، قال حمّاد: فأصابني في نفسي الذلّ، فقلت: جعلت فداك فعلّمني الصلاة، فقام أبو عبد اللَّه مستقبل القبلة منتصباً فأرسل يديه جميعاً على فخذيه، قد ضمّ أصابعه و قرّب بين قدميه حتّى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، و استقبل بأصابع رجليه جميعاً لم يُحرفهما عن القبلة بخشوع و استكانة، فقال: اللَّه أكبر، ثمّ قرأ الحمد بترتيل، و قل هو اللَّه أحد، ثمّصبر هنيئة بقدر ما تنفّس و هو قائم، ثمّ قال: اللَّه أكبر، و هو قائم، ثمّ ركع و ملأ كفّيه من ركبتيه مفرجات، و ردّ ركبتيه إلى خلفه حتّى استوى ظهره، حتّى لوصُبّ عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره و تردّد ركبتيه إلى خلفه، و نصب عنقه، و غمض عينيه ثمّ سبّح ثلاثاً بترتيل و قال: سبحان ربّي العظيم و بحمده، ثمّ استوى قائماً، فلمّا استمكن من القيام قال: سمع اللَّه لمن حمده، ثمّ كبّر و هو قائم، و رفع يديه حيال وجهه، و سجد، و وضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه فقال: سبحان ربّي الأعلى و بحمده ثلاث مرّات، و لم يضع شيئاً من بدنه على شي ء منه، و سجد على ثمانية أعظم: الجبهة، و الكفّين، و عيني الركبتين، و أنامل إبهامي الرجلين، و الأنف، فهذه السبعة فرض، و وضع الأنف على الأرض سنّة، و هو الإرغام، ثمّ رفع رأسه من السجود، فلمّا استوى جالساً قال: اللَّه أكبر، ثمّ قعد على جانبه الأيسر، و وضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى، و قال:

استغفر اللَّه ربّي و أتوب إليه، ثمّ كبّر و هو جالس و سجد الثانية و قال كما قال في

ص:169

الأُولى، و لم يستعن بشي ء من بدنه على شي ء منه في ركوع و لا سجود، و كان مجنّحاً، و لم يضع ذراعيه على الأرض، فصلّى ركعتين على هذا.

ثمّ قال: «يا حمّاد هكذاصلّ، و لا تلتفت، و لا تعبث بيدك و أصابعك، و لا تبزق عن يمينك و لا عن يسارك و لا بين يديك» «(1)».

ترى أنّ الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة على الناس، و ليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض بأقسامه المختلفة، فلو كان سنّة لما تركه الإمام في بيانه، و هو بعمله يجسّد لناصلاة الرسولصلى الله عليه و آله؛ لأنّه أخذها عن أبيه الإمام الباقر، و هو عن أبيه عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن الرسول الأعظم-صلوات اللَّه عليهم أجمعين- فيكون القبض بدعة؛ لأنّه إدخال شي ء في الشريعة و هو ليس منها.

ثمّ إنّ للقائل بالقبض أدلّة نأتي على دراستها:

أدلّة القبض عند أهل السنّة
اشارة

إنّ مجموع ما يمكن الاستدلال به على أنّ القبض سنّة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاث:

1- حديث سهل بن سعد. رواه البخاري.

2- حديث وائل بن حجر. رواه مسلم و نقله البيهقي بأسانيد ثلاثة.

3- حديث عبد اللَّه بن مسعود. رواه البيهقي في سننه.

و إليك دراسة كلّ حديث:


1- الوسائل الجزء 4، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1، و لاحظ الباب 17، الحديث 1 و 2.

ص:170

أ- حديث سهل بن سعد

روى البخاري عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: «كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجلُ اليدَ اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» قال أبو حازم: لا أعلمه إلّا يَنمي ذلك إلى النبيّصلى الله عليه و آله «(1)».

قال إسماعيل «(2)»: يُنمى ذلك و لم يقل يَنمي.

و الرواية متكفّلة لبيان كيفية القبض إلّا أنّ الكلام في دلالتها بعد تسليم سندها. لكنها لا تدلّ عليه بوجهين:

أوّلًا: لو كان النبيّ الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله: «كان الناس يؤمرون»؟ أ وَ ما كان الصحيح عندئذٍ أن يقول: كان النبيّ يأمر؟ أ و ليس هذا دليلًا على أنّ الحكم نجم بعد ارتحال النبيّ الأكرم؛ حيث إنّ الخلفاء و أُمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيّل أنّه أقرب للخشوع؟ و لأجله عقد البخاري بعده باباً باسم «باب الخشوع». قال ابن حجر: الحكمة في هذه الهيئة أنّهصفة السائل الذليل، و هو أمنع عن العبث، و أقرب إلى الخشوع، كان البخاري قد لاحظ ذلك و عقّبه بباب الخشوع.

و ثانياً: إنّ في ذيل السند ما يؤيّد أنّه كان من عمل الآمرين، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال: قال إسماعيل: «لا أعلمه إلّا يُنمى ذلك إلى النبي» بناءً على قراءة الفعل بصيغة المجهول.

و معناه أنّه لا يعلم كونه أمراً مسنوناً في الصلاة، غير أنّه يُعزى و ينسب إلى النبيّ، فيكون ما يرويه سهل بن سعد مرفوعاً.


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 2: 224، باب وضع اليمنى على اليسرى. و رواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 28، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.
2- المراد: إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري 5: 325.

ص:171

قال ابن حجر: و من اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي يُنميه، فمراده:

يرفع ذلك إلى النبيّ «(1)».

هذا كلّه إذا قرأناه بصيغة المجهول، و أمّا إذا قرأناه بصيغة المعلوم، فمعناه أنّ سهلًا ينسب ذلك إلى النبيّ، فعلى فرضصحّة القراءة و خروجه بذلك من الإرسال و الرفع، يكون قوله: «لا أعلمه إلّا...» معرباً عن ضعف النسبة، و أنّه سمعه عن رجل آخر و لم يسمّ.

ب- حديث وائل بن حجر:

و قد روي هذا الحديث بصور:

1- روى مسلم، عن وائل بن حُجر: انّه رأى النبيّ رفع يديه حين دخل في الصلاة كبّر، ثمّ التحف بثوبه، ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى، فلمّا أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثمّ رفعهما، ثمّ كبّر فركع... «(2)».

و الاحتجاج بالحديث احتجاج بفعل النبيّ و هو متوقف على تمام دلالته على ذلك؛ لأنّ ظاهر الحديث أنّ النبيّ جمع أطراف ثوبه فغطّى صدره به، و وضع يده اليمنى على اليسرى، أمّا هل فعل ذلك لكونه أمراً مسنوناً في الصلاة، أو فعله لئلّا يسترخي الثوب بل يلصق بالبدن ليقي به نفسه من البرد؟ و الفعل أمر مجهول العنوان، لا يكون حجّة إلّا إذا علم أنّه فعل به لكونه مسنوناً. ثمّ إنّ النبيّ الأكرمصلّى مع المهاجرين و الأنصار أزيد من عشر سنوات، فلو كان ذلك ثابتاً من النبيّ


1- فتح الباري 5: 325. هامش رقم 1.
2- مسلم، الصحيح 1: 382، الباب 5 من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، و في سند الحديث« همام» و لو كان المقصود، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيى القطّان لا يعبأ ب« همام» و قال عمر بن شيبة: حدّثنا عفان قال: كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. و قال أبو حاتم: ثقة في حفظه. لاحظ هدي الساري 1: 449.

ص:172

لكثر النقل و ذاع، و لما انحصر نقله بوائل بن حجر، مع ما في نقله من الاحتمالين.

نعم روي بصورة أُخرى ليس فيه قوله: «ثمّ التحف بثوبه» و إليكصورته:

2- روى البيهقي بسنده عن موسى بن عمير: حدّثني علقمة بن وائل، عن أبيه: أنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه، و رأيت علقمة يفعله «(1)».

و بما أنّه إذا دار الأمر بين الزيادة و النقيصة فالثانية هي المتعيّنة، فيلاحظ على الرواية بما لوحظ على الأُولى، و هو أنّ وجه الفعل غير معلوم فيها. فلو كان النبيّ مقيماً على هذا العمل، لاشتهر بين الناس، مع أنّ قوله: «و رأيتُ علقمة يفعله» يعرب عن أنّ الراوي تعرّف على السنّة من طريقه.

3- رواه البيهقي أيضاً بسند آخر عن وائل بن حجر «(2)» و يظهر الإشكال فيه بنفس ما ذكرناه في السابق.

ج- حديث عبد اللَّه بن مسعود:

روى البيهقي مسنداً عن ابن مسعود رضى الله عنه انّه كان يصلّي فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبيّصلى الله عليه و آله فوضع يده اليمنى على اليسرى «(3)».

يلاحظ عليه- مضافاً إلى أنّه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد اللَّه بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنّه من السابقين في الإسلام: أنّ


1- سنن البيهقي 2: 28، و في سند الحديث عبد اللَّه بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشي ء، و قال النسائي: متروك، و كان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه، متّفق على ضعفه. لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر 1: 87.
2- المصدر نفسه و في سنده عبد اللَّه بن رجاء. قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلط و التصحيف، ليس بحجّة. لاحظ هدى الساري 1: 437.
3- سنن البيهقي 2: 28، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى.

ص:173

في السند هشيم بن بشير؛ و هو مشهور بالتدليس «(1)».

و لأجل ذلك نرى أنّ أئمة أهل البيت كانوا يتحرّزون عنه، و يرونه أنّه منصنع المجوس أمام الملك.

روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر عليهما السلام قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة- و حكى- اليمنى على اليسرى؟ فقال: «ذلك التكفير، لا يُفعل».

و روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «و عليك بالإقبال علىصلاتك، و لا تكفّر؛ فإنّما يصنع ذلك المجوس».

و روى الصدوق باسناده عن عليّ عليه السلام أنّه قال: و عليك بالإقبال علىصلاتك، و لا تكفّر فإنّما يصنع ذلك المجوس.

و روى الصدوق باسناده عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «لا يجمع المسلم يديه فيصلاته و هو قائم بين يدي اللَّه عزّ و جلّ يتشبّه بأهل الكفر- يعني المجوس-» «(2)».

و في الختام نلفت نظر القارئ إلى كلمةصدرت من الدكتور علي السالوس:

فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين، وصف القائلين بالتحريم و الإبطال بقوله:

«و اولئك الذين ذهبوا إلى التحريم و الإبطال، أو التحريم فقط، يمثّلون التعصّب المذهبي و حبّ الخلاف، تفريقاً بين المسلمين» «(3)».

ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد و الفحص في الكتاب و السنّة إلى أنّ القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم، و كان النّاس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضاً أو استحباباً، فقد أحدث في الدين ما ليس منه، أ فهل جزاء من اجتهد أن يُرمى بالتعصّب المذهبي و حبّ الخلاف؟!


1- هدى الساري 1: 449.
2- الوسائل 4: الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1 و 2 و 7.
3- فقه الشيعة الإمامية و مواضع الخلاف بينه و بين المذاهب الأربعة: 183.

ص:174

و لوصحّ ذلك، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنّه كان يكره القبض مطلقاً، أو في الفرض، أَ فهل يصحّ رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحبّ الخلاف؟

أجل، لما ذا يا ترى لا يكون عدم الإرسال ممثلًا للتعصب المذهبي و حبّ الخلاف بين المسلمين؟!

ص:175

المسألة الثانية:صلاة الضحى

المسألة الثانية:صلاة الضحى

اشارة

صلاة الضحى من النوافل الرواتب المشهورة في كتب الفقه و الحديث لأهل السنّة و إن كانت مجهولة و متروكة عند الكثير من عامّتهم.

و يمكننا في هذه العجالة أن نلقي نظرة خاطفة على ما يتعلّق بصلاة الضحى من قبيل: حكمها و أقوال الفقهاء حولها، و وقتها، و عدد ركعاتها، و أدلّتهم على مشروعيّتها، و نظر فقهاء الشيعة حولها.

ما هو حكمها؟

صلاة الضحى على المشهور عندهم سنّة، كما عليه الحنابلة و الحنفية و الشافعية.

و في مقابل المشهور هناك أقوال أُخر، و هي:

1- أنّها مندوبة «(1)»- كما عليه المالكية- فيستحبّ المداومة عليها.

2- لا تستحبّ أصلًا.

3- يستحبّ فعلها تارة و تركها أُخرى، فلا يستحبّ المداومة عليها.

4- تستحبّصلاتها و المحافظة عليها في البيوت.

5- لا تشرع إلّا بسبب مثل الشكر و غيره.

6- أنّها بدعة «(2)».


1- يفرق بين المسنون و المندوب، بأنّ الأوّل هو ما واظب عليه النبي صلى الله عليه و آله و الخلفاء الراشدون، و الثاني هو ما أمر به النبي صلى الله عليه و آله و لم يواظب عليه. الفقه على المذاهب الخمسة، للشيخ محمد جواد مغنية: 78.
2- راجع: الشرح الكبير على المغني، لشمس الدين ابن قدامى المقدسي 1: 775؛ الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري 1: 332؛ فقه السنة، للسيّد سابق 1: 185، زاد المعاد لابن قيم الجوزية 1: 116- 119، نيل الأوطار للشوكاني 3: 62.

ص:176

متى وقتها؟

و وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح، إلى زوالها، و الأفضل أن يبدأها بعد ربع النهار. و عبر عن وقتها بهذه العبارة أيضاً: و أفضل وقتها إذا علت الشمس و اشتدّ حرّها، و يمتدّ وقتها إلى زوال الشمس، و أوّله حين تبيضّ الشمس «(1)».

كم عدد ركعاتها؟

أقلّها ركعتان و أكثرها ثمان، و قيل اثنتا عشرة ركعة، و قال الحنفية: أكثرها ستّ عشرة، و ذهب بعض الشافعية و الطبري إلى أنّه لا حدّ لأكثرها.

و قالوا بأنّه يكره أن يصلّى في نفل النهار زيادة على أربع ركعات بتسليمة واحدة «(2)».

أدلّتها؟
اشارة

لا دليل لهم على مشروعيّتها إلّا مجموعة أحاديث وردت في مجاميعهم الحديثية. و لكن بعد التمحيص و التنقيب يتجلّى عدم نهوضها للحجّية على ذلك؛ لأنّها إمّا مجملة تقصر دلالتها عن الإثبات، و إمّا مروية عن طرق لا يصحّ الاحتجاج بها، مضافاً إلى معارضتها بأحاديث نافية للمشروعية، راجحة عليها سنداً و دلالة.


1- راجع: الشرح الكبير على المغني، لشمس الدين ابن قدامى المقدسي 1: 775، الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري 1: 332، فقه السنة، للسيّد سابق 1: 185، زاد المعاد لابن قيم الجوزية 1: 116- 119، نيل الأوطار للشوكاني 3: 62.
2- راجع: الشرح الكبير على المغني، لشمس الدين ابن قدامى المقدسي 1: 775، الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري 1: 332، فقه السنة، للسيّد سابق 1: 185، زاد المعاد لابن قيم الجوزية 1: 116- 119، نيل الأوطار للشوكاني 3: 62.

ص:177

و إليك نماذج من تلك الطوائف الثلاث، و عليها يمكن قياس سائر الأحاديث التي لم نذكرها هنا رعاية للاختصار.

الطائفة الأُولى:

الأحاديث المجملة، منها:

1- ما روي عن نعيم بن هماز، قال: سمعت النبيّصلى الله عليه و آله يقول:

«قال اللَّه عزّ و جلّ يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول نهارك أكفك آخره» «(1)».

رواه أبو داود و أحمد و الترمذي.

و لفظه: «ابن آدم اركع من أوّل النهار أربع ركعات أكفك آخره».

و ليس في هذا تصريح بصلاة الضحى، و لا ظهور لاحتمال أنّ المقصود من الأربع هو فريضة الفجر و نافلتها، كما اختاره مثل ابن تيمية و ابن قيّم «(2)»، و احتمله البعض الآخر مثل الشوكاني و العراقي «(3)».

2- ما روي عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهنّ حتّى أموت:صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر، وصلاة الضحى و نوم على وتر «(4)».

احتمل في هذا الحديث اختصاص الوصية بأبي هريرة و أمثاله الذين لا يستيقظون لنافلة الليل أو ينشغلون عنها، بأن يصلّوها في الضحى قضاءً، و يؤيده قوله: «و نوم على وتر».

قال ابن قيم: «و أما أحاديث الترغيب فيها و الوصية بها فالصحيح منها،


1- التاج الجامع للأُصول 1: 321.
2- زاد المعاد 1: 120.
3- نيل الأوطار 3: 64.
4- صحيح البخاري 2: 73.

ص:178

كحديث أبي هريرة و أبي ذر لا يدلّ على أنّها سنّة راتبة لكلّ أحد، و إنّما أوصى أبا هريرة بذلك؛ لأنّه قد روي أنّ أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلًا من قيام الليل، و لهذا أمره لا ينام حتّى يوتر و لم يأمر بذلك أبا بكر و عمر و سائر الصحابة» «(1)».

3- روي عن عبيد اللَّه بن عُتيبة أنّه قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة، فوجدته يُسبِّحُ، فقمت وراءه، فقرّبني حتّى جعلني حِذاءَهُ عن يمينه، فلمّا جاء «يرفأ» «(2)» تأخّرتُ فَصَفَفْنا وراءه «(3)».

و لكن عمل الخليفة مجهول العنوان، فمن أين يعلم بأنّه كان يصلّي الضحى؟

خاصّة مع شهادة ولده كما سيأتي بأنّه ما كان يصلّيها. ثمّ إنّ الهاجرة لغة ليست بمعنى الضحى، بل بمعنى «نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر» «(4)» على المشهور، فسبحة الهاجرة تنطبق على نافلة الظهر، و بناءً على ما حكي عن ابن السكيت بأنّ:

الهاجرة إنّما تكون بالقيظ، و قبل الظهر بقليل و بعدها بقليل «(5)» فالرواية مجملة؛ إذ كما يحتمل فيهاصلاة الضحى يحتمل نافلة الظهر، و لا مرجّح للأوّل على الثاني.

4- ما روي عن أبي هريرة قال: ما رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يصلّي الضحى قطّ إلّا مرّة «(6)».

فصدر الحديث ينفيصلاة الضحى و ذيله مجمل؛ لاحتمال أنّ النبيصلى الله عليه و آله كان قدصلّى صلاة بسبب آخر، كالحاجة أو غيرها، و خفى على أبي هريرة، فتصوّر أنّهصلّى الضحى؛ إذ ليس فيه أنّ النبيّصلى الله عليه و آله أعرب عن نيّة عمله.


1- زاد المعاد 1: 119.
2- « يرفأ» اسم خادم عمر.
3- الموطأ للامام مالك 1: 143 باب جامع سبحةِ الضّحى، ط. دار الجيل و دار الآفاق.
4- و 5 لسان العرب، مادة« هجر».
5- 5
6- مسند الإمام أحمد بن حنبل 2: 446.

ص:179

5- ما روي عن أنس أنّه قال: رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في سفرصلّى سبحة الضحى ثماني ركعات، فلمّا انصرف قال:

«إنّيصلّيتصلاة رغبة و رهبة، سألت ربّي ثلاثاً فأعطاني اثنتين و منعني واحدة: سألته ألّا يبتلي أُمّتي بالسنين ففعل، و سألته ألّا يُظهر عليهم عدوّهم ففعل، و سألته ألّا يلبسهم شيعاً فأبى عليَّ» «(1)».

يرد على الاستدلال به، أوّلًا: مثل ما مضى على سابقه، و ثانياً: انّ ذيله يتناقض مع الواقع التاريخي للأُمة الإسلامية. فكم من بلد إسلامي ابتلى بالقحط و السنين، و ما أكثر البلدان الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة أعدائها في الزمن الغابر و الحاضر.

و هذا ممّا يطمئننا باختلاقه و وضعه.

الطائفة الثانية:

الأحاديث الموضوعة:

قال ابن قيم الجوزية (691- 751 ه) في تقييم أحاديثصلاة الضحى:

«و عامّة أحاديث الباب في أسانيدها مقال، و بعضها موضوع لا يحلّ الاحتجاج به» «(2)».

ثمّ ذكر عدّة أحاديث قدصرّح أعلام الرجاليين بكون نقلتها وضّاعين كذبة، منها:

1- ما روي عن أنس مرفوعاً: «من داوم علىصلاة الضحى و لم يقطعها إلّا عن علّة كنت أنا و هو في زورق من نور في بحر من نور».


1- فقه السنة 1: 185؛ كنز العمال 11: 174.
2- زاد المعاد 1: 119.

ص:180

وضعه زكريا بن دريد الكندي عن حميد.

2- حديث يعلى بن أشدق، عن عبد اللَّه بن جراد، عن النبيصلى الله عليه و آله أنّه قال:

«منصلّى منكمصلاة الضحى فليصلّها متعبّداً، فانّ الرجل ليصلّيها السنّة من الدهر ثمّ ينساها و يدعها، فتحنّ إليه كما تحنّ الناقة على ولدها إذا فقدته».

و يا عجباً للحاكم كيف يحتجّ بهذا و أمثاله؟! فانّه يروي هذا الحديث في كتاب أفرده للضحى، و هذه نسخة موضوعة على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، يعني نسخة يعلى بن الأشدق.

و قال ابن عدي: روى يعلى بن الأشدق، عن عمّه عبد اللَّه بن جراد، عن النبيّصلى الله عليه و آله أحاديث كثيرة منكرة، و هو و عمّه غير معروفين. و بلغني عن أبي مسهر قال: قلت ليعلى بن الأشدق: ما سمع عمّك من حديث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: جامع سفيان و موطّأ مالك و شيئاً من الفوائد، و قال أبو حاتم بن حبّان: لقي يعلى عبد اللَّه ابن جراد، فلمّا كبر اجتمع عليه من لا دين له فوضعوا له شبهاً بمائتي حديث، فجعل يحدّث بها و هو لا يدري. و هو الذي قال له بعض أصحابنا: أيّ شي ء سمعته عن عبد اللَّه بن جراد؟ فقال: هذه النسخة، و جامع أبي سفيان، لا تحلّ الرواية عنه بحال.

3- حديث عمر بنصبيح، عن مقاتل بن حبّان، عن عائشة: «كان رسول اللَّه يصلّي الضحى اثنتي عشرة ركعة».

و هو حديث طويل ذكره الحاكم فيصلاة الضحى، و هو حديث موضوع، و المتهم به عمر بنصبيح.

قال البخاري: حدّثني يحيى بن عليّ بن جبير، قال: سمعت عمر بنصبيح يقول: أنا وضعت خطبة النبيصلى الله عليه و سلم. و قال ابن عديّ: منكر الحديث. و قال ابن حبّان: يضع الحديث على الثقات، لا يحلّ حديثه إلّا على جهة التعجّب منه. و قال

ص:181

الدارقطني: متروك، و قال الأزدي: كذّاب.

4- حديث عبد العزيز بن أبان، عن الثوري، عن حجّاج بن فرافصة، عن مكحول، عن أبي هريرة مرفوعاً:

«من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه، و إن كانت بعدد الجراد و أكثر من زبد البحر».

ذكره الحاكم أيضاً، و عبد العزيز هذا، قال ابن نمير: هو كذّاب. و قال يحيى:

ليس بشي ء كذاب، خبيث يضع الحديث. و قال البخاري و النسائي و الدارقطني:

متروك الحديث.

5- حديث النهاس بن فهم، عن شدّاد، عن أبي هريرة يرفعه:

«من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه و إن كانت أكثر من زبد البحر».

و النهاس، قال يحيى: ليس بشي ء ضعيف، كان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة.

و قال النسائي: ضعيف. و قال ابن عديّ: لا يساوي شيئاً. و قال ابن حبان:

كان يروي المناكير عن المشاهير، و يخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. و قال الدارقطني: مضطرب الحديث تركه يحيى القطان «(1)».

الطائفة الثالثة:

الأحاديث النافية لمشروعيةصلاة الضحى الّتي هي معارضة للأحاديث المثبتة، و باعتبار قوّة دلالتها و اسنادها رجّحها جماعة من علماء العامّة على غيرها، كماصرّح بذلك ابن قيم.


1- راجع حول الأحاديث الموضوعة و عمّا جاء حول رواتها، زاد المعاد 1: 119- 120.

ص:182

قال: «و طائفة ثانية ذهبت إلى أحاديث الترك، و رجحتها من جهةصحّة اسنادها و عمل الصحابة بموجبها» «(1)».

منها:

1- ما رواه البخاري بسنده عن مورق قال: «قلت لابن عمر: أ تصلّي الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت:

فالنبيصلى الله عليه و آله؟ قال: لا أخاله» «(2)».

2- و ما رواه أيضاً بسنده عن عائشة، قالت: «ما رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله سبّح سبحة الضحى، و إنّي لأُسبّحها» «(3)».

و قد استدلّ بعضهم بهذه الرواية لنفي الضحى لصحّة اسنادها. «قال أبو الحسن عليّ بن بطّال: فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة و لم يرواصلاة الضحى، و قال قوم: إنّها بدعة» «(4)».

و أما قول عائشة «بأنّي أُسبّحها»، فهو اجتهاد في مقابل النص، و لا قيمة له في سوق الاعتبار الشرعي.

3- و ما رواه أيضاً بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنّه قال: ما حدّثنا أحد انّه رأى النبيصلى الله عليه و آله يصلّي الضحى غير أُمّ هانئ، فإنّها قالت: «إنّ النبيّصلى الله عليه و سلم دخل بيتها يوم فتح مكّة فاغتسل وصلّى ثماني ركعات، فلم أرصلاة قطّ أخفّ منها، غير انّه يتمّ الركوع و السجود» «(5)».

أقول: انّ رواية أُمّ هانئ ليست ظاهرة فيصلاة الضحى، و يحتمل قوياً أنّ


1- زاد المعاد 1: 117.
2- صحيح البخاري 2: 73.
3- المصدر نفسه؛ مسند أحمد بن حنبل 6: 209.
4- زاد المعاد 1: 117.
5- صحيح البخاري 2: 73.

ص:183

النبيّصلى الله عليه و آلهصلّى تلك الركعات شكراً للَّه على ما منّ عليه بفتح مكّة. و لذلك ذهبت جماعة من علماء العامّة «بأنّها لا تشرع إلّا بسبب الخ» «(1)».

4- ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: «رأى أبو بكرة ناساً يصلّون الضحى فقال: إنّهم ليصلّونصلاة ماصلّاها رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم، و لا عامّة أصحابه- رضي اللَّه عنهم-» «(2)».

5- ما رواه مسلم فيصحيحه بسنده عن حفص بن عاصم قال: مرضت مرضاً فجاء ابن عمر يعودني قال: و سألته عن السبحة في السفر؟ فقال: «صحبت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في السفر فما رأيته يسبّح، و لو كنت مسبحاً لأتممت، و قد قال اللَّه:

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»» «(3)».

6- و ما رواه البخاري بسنده عن مجاهد، قال: دخلت أنا و عروة بن الزبير المسجد فإذا عبد اللَّه بن عمر جالس إلى حجرة عائشة و إذا أُناس يصلّون في المسجدصلاة الضحى. قال: فسألناه عنصلاتهم، فقال: بدعة» «(4)».

7- و روي عن الشعبي قال: «سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل منصلاة الضحى» «(5)».

ففي هاتين الروايتينصرّح ابن عمر بكونصلاة الضحى بدعة، و إن رآها فضيلة بناء على مسلك والده في جواز الابتداع الحسن.

8- روي عن ابن عباس أنّه قالصلى الله عليه و آله: «أُمرت بالضحى و لم تؤمروا بها» «(6)».


1- نيل الأوطار 3: 53.
2- مسند الإمام أحمد بن حنبل 5: 45.
3- صحيح مسلم 5: 199 كتاب المسافرين، و الآية من سورة الأحزاب: 21.
4- صحيح البخاري 3: 3 باب العمرة.
5- زاد المعاد 1: 118.
6- نيل الأوطار 3: 61.

ص:184

بناءً على صحة الحديث فالظاهر انّ المراد من الأمر هنا هو أصل التشريع لا الوجوب، لأنّه لم يثبت وجوب شي ء من النوافل على النبيصلى الله عليه و آله خاصّة عدا نافلة الليل. و عليه فلم تشرع نافلة له و ضحى للمسلمين لأنّه نفى الأمر بها عليهم.

*** إلى هنا تبيّن أنّه لم يوجد حديثصحيح فيه دلالة واضحة على مشروعيةصلاة الضحى. و أما ما ادّعيتصحّته فهو إمّا معارض بالراجح عليه سنداً و دلالة، أو فيه إجمال لا يمكن أن يستدلّ به على المقصود.

موقف الإمامية منصلاة الضحى

إنّصلاة الضحى عند فقهاء الإمامية، بدعة لا يجوز فعلها. و قد اتّفقوا و أجمعوا على هذا الرأي، كماصرّح بذلك السيد الشريف المرتضى في رسائله «(1)»، و شيخ الطائفة في الخلاف «(2)»، و العلّامة الحلي في المنتهى «(3)»، و العلامة المجلسي في البحار «(4)»، و المحدِّث البحراني في الحدائق الناضرة «(5)».

و يدلّ على هذا الرأي قبل الإجماع، أوّلًا: عدم الدليل الشرعي المعتبر على مشروعيّةصلاة الضحى، و هذا يكفي للقول بعدمها؛ إذ لا يطالب النافي بدليل، بل الدليل على المدّعي.


1- رسائل الشريف المرتضى 1: 221.
2- الخلاف، نقلًا عن موسوعة الينابيع الفقهية 28: 220.
3- البحار 80: 158.
4- المصدر نفسه: 155.
5- الحدائق الناضرة 6: 77.

ص:185

و ثانياً: الأخبار المستفيضة الواردة عن طرق أهل البيت عليهم السلام النافية لمشروعيةصلاة الضحى، و المصرّح في بعضها أنّ العمل بها بدعة و معصية، منها:

1- ما رواه الشيخ الطوسي، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة و ابن مسلم و الفضيل، قالوا: سألناهما عليهما السلام عن الصلاة في رمضان نافلة بالليل جماعة، فقالا:

إنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان إذاصلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله، ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي. فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي، كما كان يصلّي، فاصطفّ الناس خلفه فهرب منهم إلى بيته و تركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال، فقام في اليوم الرابع على منبره فحمد اللَّه و أثنى عليه ثمّ قال: «أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة فلا تجتمعوا ليلًا في شهر رمضان، و لا تصلّواصلاة الضحى؛ فانّ ذلك معصية، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار» ثمّ نزل و هو يقول: «و قليل في سنّة خير من كثير في بدعة» «(1)».

2- ما حكي عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال لرجل من الأنصار سأله عنصلاة الضحى، فقال: «إنّ أوّل من ابتدعها قومك الأنصار، سمعوا قول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «صلاة في مسجدي تعدل ألفصلاة» فكانوا يأتون من ضياعهم ضحى فيدخلون المسجد فيصلّون، فبلغ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فنهاهم عنه» «(2)».


1- التهذيب 3: 69- 70، و مثله في الاستبصار 1: 467- 468، و الفقيه 2: 132، و الوسائل 5: 192.
2- البحار 80: 159؛ مستدرك الوسائل 3: 70. لاحظ من لا يحضره الفقيه 1: 566 و في الأخير زيادة على ما في المتن.

ص:186

المسألة الثالثة: إقامةصلاة التراويح جماعة

المسألة الثالثة: إقامةصلاة التراويح جماعة

اشارة

اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ نوافل شهر رمضان (صلاة التراويح) سُنّة مؤكّدة، و أوّل من سنّها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و قال:

«من قام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» «(1)».

إنّ استجلاء الحقّ في جواز إقامتها جماعة، أو كونها بدعة يتطلّب تقديم أمرين:

1- هل تُسنُّ الجماعة في مطلق النوافل أو لا؟

المشهور عند أهل السنّة جواز إقامة النوافل جماعة، و الأفضل في بعضها إقامتها منفرداً، و إليك تفصيل مذاهبهم:

قالت المالكية: الجماعة فيصلاة التراويح مستحبّة، أمّا باقي النوافل فإنّصلاتها جماعة تارةً يكون مكروهاً، و تارة يكون جائزاً، فيكون مكروهاً إذاصلّيت بالمسجد أوصلّيت بجماعة كثيرين، أو كانت بمكان يكثر تردّد الناس عليه، و تكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة، و وقعت في المنزل و نحوه من الأمكنة التي لا يتردّد عليها الناس.

و قالت الحنفية: تكون الجماعة سنّة كفاية فيصلاة التراويح و الجنازة، و تكون مكروهة فيصلاة النوافل مطلقاً، و الوتر في غير رمضان، و إنّما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاثة، أمّا الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان


1- البخاري، الصحيح باب فضل من قام رمضان برقم 2008؛ مسلم، الصحيح ج 2 باب الترغيب في قيام رمضان، و هو التراويح: ص 176 ط دار الجيل و دار الآفاق.

ص:187

مُصحّحان، أحدهما: أنّها مستحبّة فيه، ثانيهما: أنّها غير مستحبّة، و لكنها جائزة؛ و هذا القول أرجح.

و قالت الشافعية: أمّا الجماعة فيصلاة العيدين و الاستسقاء و الكسوف و التراويح و وتر رمضان فهي مندوبة.

و قالت الحنابلة: أمّا النوافل فمنها ما تُسَنّ فيه الجماعة، و ذلك كصلاة الاستسقاء و التراويح و العيدين، و منها ما تباح فيه الجماعة، كصلاة التهجّد و رواتب الصلاة المفروضة «(1)».

و قال المقدسي في الشرح الكبير: و يجوز التطوّع في جماعة و فرادى؛ لأنّ النبيّصلى الله عليه و آله فعل الأمرين كليهما، و كان أكثر تطوّعه منفرداً، و مع ذلك اتّفقوا على أنّ التطوّع في البيت أفضل، لقول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«عليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فانّ خيرصلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة».

و قال عليه السلام: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فلْيجعل لبيته نصيباً منصلاته؛ فإنّ اللَّه جاعل في بيته منصلاته خيراً» رواهما مسلم.

و عن زيد بن ثابت أنّ النبيصلى الله عليه و آله قال:

«صلاة المرء في بيته أفضل منصلاته في مسجدي هذا إلّا المكتوبة» رواه أبو داود، و لأنّ الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص و أبعد من الرياء و هو من عمل السرّ، و السرّ أفضل من العلانية «(2)».

قالت الإمامية: تشرع الجماعة في الصلوات الواجبة، و لا تشرع في المستحبّة،


1- الفقه على المذاهب الأربعة، كتاب الصلاة، حكم الامامة في صلاة الجمعة و الجنائز و النوافل: ص 407، و في ص 340: هي سنة عين مؤكّدة عند ثلاثة من الأئمة، و خالفت المالكية.
2- المغني و الشرح 1: 771، دار الكتاب العربي ط أفست 1403/ 1983.

ص:188

إلّا في الاستسقاء و العيدين مع فقد الشروط «(1)»، و قالت المذاهب الأربعة: تشرع مطلقاً في الواجبة و المستحبّة «(2)».

2- التراويح لغةً و اصطلاحاً:
اشارة

التراويح: جمع ترويحة؛ و هي في الأصل اسم للجلسة مطلقاً، ثمّ سمّيت بها الجلسة بعد أربع ركعات في ليالي رمضان؛ لاستراحة الناس بها، ثمّ سُمّي كلّ أربع ركعات ترويحة، و هي أيضاً اسم لعشرين ركعة في الليالي نفسها.

قال ابن منظور: و الترويحة في شهر رمضان: سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كلّ أربع ركعات. و في الحديث:صلاة التراويح؛ لأنّهم كانوا يستريحون بين كلّ تسليمتين. و التراويح جمع ترويحة؛ و هي المرّة الواحدة من الراحة، تفعيلة منها، مثل تسليمة من السلام «(3)».

عدد ركعاتها عند الفريقين

اختلف الفقهاء في عددصلاة نوافل شهر رمضان، أمّا الشيعة فقد ذهبت إلى أنّ نوافل ليالي شهر رمضان ألف ركعة في تمام الشهر.

قال الامام الصادق عليه السلام: «ممّا كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يصنع في شهر رمضان، كان يتنفّل في كلّ ليلة و يزيد علىصلاته الّتي كان يصلّيها قبل ذلك منذ أوّل ليلة إلى تمام عشرين ليلة؛ في كلّ ليلة عشرين ركعة؛ ثماني ركعات منها بعد المغرب، و اثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة، و يصلّي في العشر الأواخر في كلّ


1- إذ عند اجتماع الشروط تكون واجبة.
2- الفقه على المذاهب الخمسة 1: 133.
3- لسان العرب، ج 2 مادة« روح».

ص:189

ليلة ثلاثين ركعة؛ اثنتي عشرة منها بعد المغرب، و ثماني عشرة بعد العشاء الآخرة، و يدعو و يجتهد اجتهاداً شديداً، و كان يصلّي في ليلة إحدى و عشرين مائة ركعة، و يصلّي في ليلة ثلاث و عشرين: مائة ركعة و يجتهد فيهما» «(1)».

و أما غيرهم فقد قال الخرقي في مختصره: و قيام شهر رمضان عشرون ركعة، يعنيصلاة التراويح «(2)».

و قال ابن قدامة في شرحه: و المختار عند أبي عبد اللَّه «الإمام أحمد» عشرون ركعة، و بهذا قال الثوري، و أبو حنيفة و الشافعي، و قال مالك: ست و ثلاثون، و زعم أنّه الأمر القديم، و تعلّق بفعل أهل المدينة «(3)».

و الظاهر أنّه ليس في عددها عند أهل السنّة دليل معتمد عليه، يحكي عن قول الرسول أو فعله أو تقريره، و القول بالعشرين يعتمد على فعل عمر، كما أنّ القول بالستّ و الثلاثين يعتمد على فعل عمر بن عبد العزيز.

و قد فصّل القول في ذلك عبد الرحمن الجزيري في «الفقه على المذاهب الأربعة» و قال:

روى الشيخان أنّهصلى الله عليه و آله خرج من جوف الليل ليالي من رمضان، و هي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث، و الخامس، و السابع و العشرين، وصلّى في المسجد، وصلّى الناس بصلاته فيها، و كان يصلّي بهم ثماني ركعات، و يُكْملون باقيها في بيوتهم، فكان يسمع لهم أزيز، كأزيز النحل... و قال: و من هذا يتبيّن أنّ النبيّصلى الله عليه و آله سنّ لهم التراويح و الجماعة، و لكن لم يصلّ بهم عشرين ركعة، كما جرى عليه العمل من عهد الصحابة و من بعدهم إلى الآن، و لم يخرج إليهم بعد ذلك، خشية أن تُفْرض عليهم، كماصرّح به في بعض الروايات، و يُتَبيّنُ أنّ عددها ليس قاصراً على الثماني ركعات


1- التهذيب 3: 62/ 213.
2- المغني 2: 137- 138.
3- المغني 2: 137- 138.

ص:190

الّتيصلّاها بهم؛ بدليل أنّهم كانوا يكملونها في بيوتهم، و قد بيّن فعل عمر رضى الله عنه أنّ عددها عشرون، حيث إنّه جمع الناس أخيراً على هذا العدد في المسجد، و وافقه الصحابة على ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه و جعلت ستاً و ثلاثين ركعة. و لكن كان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكّة في الفضل؛ لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرّة، فرأى رضى الله عنه أن يصلّي بدل كلّ طواف، أربع ركعات «(1)».

هذا و قد بسط شرّاح البخاري و غيرهم القول في عدد ركعاتها إلى حدٍّ قلّ نظيره في أبواب العبادات، فمن قائل أنَّ عدد ركعاتها 13 ركعة، إلى آخر أنّها 20 ركعة، إلى ثالث أنَّها 24 ركعة، إلى رابع أنّها 28 ركعة، إلى خامس أنّها 36 ركعة، إلى سادس أنّها 38 ركعة، إلى سابع أنّها 39 ركعة، إلى ثامن أنّها 41 ركعة، إلى تاسع أنّها 47 ركعة، و هلم جراً «(2)».

و الأغرب من هذا تدخّل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة! فأدخل فيها ما ليس منها ليتساوى- في رأيه- أهل المدينة و أهل مكة، في الفضل و الثواب؛ فإنّ فسح المجال لهذا النوع من التدخّل يجعل الشريعة أُلعوبة بيد الحكّام، يحكمون فيها بآرائهم.


1- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 251، كتاب الصلاة، مبحث صلاة التراويح. و لا يخفى أنّه لو كان المقياس في الزيادة، هو عدد الطواف بعد كلّ أربع ركعات فعندئذٍ يصل عددها إلى أربعين ركعة في كلّ ليلة، لأنّهم إذا كانوا يطوفون بعد كلّ أربع ركعات مرّة واحدة، يكون عددها خمس مرّات، فاذا كان مقابل كلّ مرّة منه أربع ركعات، يبلغ عددها عشرين ركعة 5* 4/ 20 فتضاف إلى العشرين ركعة الأصلية فيصير المجموع 40 ركعة. نعم ذلك يصحّ على ما نقله ابن قدامة المقدسي من أنّ الطواف كان بين كلّ ترويحة. لاحظ 1: 749
2- فتح الباري 4: 204؛ إرشاد الساري 3: 426؛ عمدة القاري 11: 126، و قد تكلفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتتة، فلاحظ.

ص:191

حكم إقامتها جماعة

إنّ الشيعة الإمامية- تبعاً للإمام عليّ و أهل بيته عليهم السلام- يقيمون نوافل شهر رمضان بلا جماعة، و يرون إقامتها جماعة بدعة حقيقية حدثت بعد رسول اللَّه، بمقياس «(1)» ما أنزل اللَّه به من سلطان.

قال الشيخ الطوسي: نوافل شهر رمضان تصلّى انفراداً، و الجماعة فيها بدعة، و قال الشافعي:صلاة المنفرد أحبّ إليَّ منه، و شنّع ابن داود على الشافعي في هذه المسألة، فقال: خالف فيها السنّة و الإجماع.

و اختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين؛ فقال أبو العباس و أبو إسحاق و عامّة أصحابه:صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكلّ حال، و تأوّلوا قول الشافعي فقالوا: إنّما قال: النافلة ضربان، نافلة سُنَّ لها الجماعة، و هي العيدان، و الخسوف، و الاستسقاء و نافلة لم تُسنَّ لها الجماعة، مثل ركعتي الفجر و الوتر، و ما سنّ له الجماعة أوكد مما لم تُسَنَّ له الجماعة، ثمّ قال: فأمّا قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحبّ إليّ منها يعني ركعات الفجر و الوتر، الّتي تفعل على الانفراد أوكد من قيام شهر رمضان.

و القول الثاني: منهم من قال بظاهر كلامه، فقال:صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة، بشرطين، أحدهما: أن لا تختلّ الجماعةُ بتأخّرهِ عن المسجد، و الثاني: أن يطيل القيام و القراءة فيصلّي منفرداً، أو يقرأ أكثر ممّا يقرأ إمامه.

و قد نصّ في القديم على أنّه إنصلّى في بيته في شهر رمضان فهو أحبّ إليّ، و إن


1- فتح الباري 4: 204، ذكره لجمع الناس على إمام واحد.

ص:192

صلّاها في جماعة فهو حسن، و اختار أصحابه مذهب أبي العبّاس و أبي إسحاق.

ثمّ استدلّ الشيخ الطوسي على مذهب الإمامية بإجماعهم على أنّ ذلك بدعة.

و أيضاً روى زيد بن ثابت «(1)» أنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال:

«صلاة المرء في بيته أفضل منصلاته في المسجد إلّا المكتوبة» «(2)».

و إذا وقفت على آراء الفقهاء فإليك دراسة الأدلّة:

أمّا أئمة أهل البيت فقد اتّفقت كلمتهم على أنّ الجماعة في النوافل مطلقاً بدعة، من غير فرق بينصلاة التراويح و غيرها، و هناكصنفان من الروايات:

أحدهما: يدلّ على عدم تشريع الجماعة في مطلق النوافل.

ثانيهما: ما يدلّ على عدم تشريعها فيصلاة التراويح.

أمّا الصنف الأوّل فنذكر منه روايتين.

1- قال الإمام الباقر عليه السلام: «و لا يُصلّى التطوعُ في جماعة، و كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة في النار» «(3)».

2- قال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون: «و لا يجوز أن يصلّى تطوّع في جماعة؛ لأنّ ذلك بدعة» «(4)».

و أمّا الصنف الثاني، فقد تحدّث عنه الإمام الصادق عليه السلام و قال: «لمّا قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن عليّ أن ينادي في الناس: لاصلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسنُ بن عليّ بما أمره به أمير المؤمنين، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن عليه السلامصاحوا: وا عُمَراه! وا عُمَراه!


1- أبو داود، السنن 2: 69.
2- الخلاف، كتاب الصلاة، المسألة 268.
3- الخصال 2: 152.
4- عيون أخبار الرضا: ص 266.

ص:193

فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له: ما هذا الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين الناس يصيحون: وا عُمَراه وا عُمَراه، فقال أمير المؤمنين: قل لهم:

صلّوا» «(1)».

و ربما يتعجّب القارئ من قول الإمام «قل لهم:صلّوا» حيث تركهم يستمرّون في الإتيان بهذا الأمر المبتدع، و لكن إذا رجع إلى سائر كلماته يتجلّى له سرّ تركهم على ما كانوا عليه.

قال الشيخ الطوسي: إنّ أمير المؤمنين لمّا أنكر، أنكر الاجتماع، و لم يُنكر نفس الصلاة، فلمّا رأى أنّ الأمر يَفسُد عليه و يفتتن الناس، أجاز أمرهم بالصلاة على عادتهم «(2)».

و يدلّ عليه:

ما رواه سليم بن قيس، قال: خطب أمير المؤمنين فحمد اللَّه و أثنى عليه ثمّصلّى على النبيّ ثمّ قال:

«ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خلّتان: اتّباع الهوى، و طول الأمل- ثمّ ذكر أحداثاً ظهرت بعد رسول اللَّه- و قال: و لو حملتُ الناسَ على تركها... لتفرق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي... و اللَّه لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غُيِّرتْ سنّة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً، و قد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري...» «(3)».


1- التهذيب 3: ح 227.
2- المصدر نفسه.
3- الكافي 8: 58.

ص:194

تسنّم الامام منصة الخلافة بطوع و رغبة من جماهير المسلمين، و واجه أحداثاً ظهرت بعد رسول اللَّه، و أراد إرجاع المجتمع الإسلامي إلى عهد رسول اللَّه في مجالات مختلفة، و لكن حالت العوائق دون نيّته، فترك بعض الأُمور بحالها، حتّى يشتغل بالأهمّ فالأهمّ، فلأجله أمر ابنه الحسن أن يتركهم بحالهم حتّى لا يختلّ نظام البلاد، و لا يثور الجيش ضدّه.

روى أبو القاسم بن قولويه (ت 369 ه) عن الإمامين الباقر و الصادق قالا:

«كان أمر أمير المؤمنين بالكوفة إذا أتاه الناس فقالوا له: اجعل لنا إماماً يؤمّنا في رمضان، فقال لهم: لا، و نهاهم أن يجتمعوا فيه، فلمّا أحسّوا، جعلوا يقولون أبكوا رمضان وا رمضاناه، فأتى الحارث الأعور في أُناس فقال: يا أمير المؤمنين ضجّ الناس و كرهوا قولك، قال: فقال عند ذلك: دعوهم و ما يريدون، يُصلّ بهم من شاءُوا» «(1)».

هذه الروايات تدلّنا على موقف أئمة أهل البيت في إقامة نوافل شهر رمضان جماعة.

صلاة التراويح في حديث الرسولصلى الله عليه و آله

تختلف روايات أئمة أهل البيت عن بعض ما رواه أصحاب السنن، فرواياتهم عليهم السلامصريحة في أنّ النبيّ الأكرم كان ينهى عن إقامة نوافل رمضان جماعة، و أنّهصلى الله عليه و آله لمّا خرج بعض الليالي إلى المسجد ليقيمها منفرداً، ائتمّ به الناس فنهاهم عنه، و لمّا أحسّ إصرارهم على الائتمام به ترك الصلاة في المسجد و اكتفى بإقامتها في البيت، و إليك بعض ما روي في ذلك:


1- السرائر 3: 638.

ص:195

سأل زرارة و محمد بن مسلم و الفضيلُ الباقرَ و الصادقَ عليهما السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة فقالا:

«إنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان إذاصلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله، ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي، كما كان يصلّي، فاصطفّ الناس خلفه، فهرب منهم إلى بيته و تركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال، فقام في اليوم الرابع على منبره فحمد اللَّه و أثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلًا في شهر رمضان لصلاة الليل، و لا تصلّواصلاة الضحى، فإنّ تلك معصية، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار ثمّ نزل و هو يقول: قليل في سنّة خير من كثير في بدعة» «(1)».

روى عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يزيد فيصلاته في رمضان، إذاصلّى العتمةصلّى بعدها، فيقوم الناس خلفه فيدخل و يدعهم، ثمّ يخرج أيضاً فيجيئون و يقومون خلفه فيدعهم و يدخل مراراً» «(2)».

و لعلهصلى الله عليه و آله قام بهذا العمل مرّتين، تارة في آخر الليل- كما في الرواية الأُولى، و أُخرى بعدصلاة العتمة- كما في الرواية الثانية.

لكن المروي عن طريق أهل السنّة يخالف ذلك، و إليك نصّ الشيخين البخاري و مسلم:

روى الأوّل و قال: حدّثني يحيى بن بكير: حدّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن


1- الفقيه، كتاب الصوم 2: 87.
2- الكافي 4: 154.

ص:196

شهاب: أخبرني عروة أنّ عائشة- رضي اللَّه عنها- أخبرته أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم خرج ليلة من جوف الليل فصلّى في المسجد، وصلّى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدّثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلّى فصلّوا معه، فأصبح الناس فتحدّثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فصلّى بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتّى خرج لصلاة الصبح، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثمّ قال:

«أما بعد فانّه لم يخفَ عليّ مكانكم، و لكنّي خشيتُ أن تُفرض عليكم فتعجزوا عنها» فتوفّي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و الأمر على ذلك «(1)».

و روى أيضاً في باب التهجّد: «أنّ رسول اللَّهصلّى ذات ليلة في المسجد فصلّى بصلاته ناس، ثمّصلّى من القابلة فكثر النّاس ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول اللَّه، فلمّا أصبح قال:

«قد رأيتُ الذيصنعتم و لم يمنعني من الخروج إليكم إلّا أني خشيت أن تُفرَض عليكم و ذلك في رمضان» «(2)».

روى مسلم قال: حدّثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آلهصلّى في المسجد ذات ليلة فصلّى بصلاته ناس، ثمّصلّى من القابلة فكثر الناس، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة «(3)» فلم يخرج إليهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فلمّا أصبح قال: قد رأيت الذيصنعتم فلم


1- أي على ترك الجماعة في صلاة التراويح. لاحظ البخاري، الصحيح، باب فضل من قام رمضان: 61/ 2012.
2- البخاري، الصحيح 2: 63 باب التهجد بالليل، و بين الروايتين اختلاف فيما خرج صلى الله عليه و آله فيها من الليالي، فعلى الأُولى خرج ثلاث ليال، و على الثانية خرج ليلتين.
3- مسلم، الصحيح 6: 41 و غيره، و الظاهر وحدة الرواية الثانية للبخاري مع هذه الرواية لاتّحاد الراوي و المروي عنه و المضمون.

ص:197

يمنعني من الخروج إليكم إلّا أنّي خشيت أن تفرض عليكم. قال: و ذلك في رمضان.

و حدّثني حرملة بن يحيى: أخبرنا عبد اللَّه بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم خرج من جوف الليل فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدّثون بذلك فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم في الليلة الثانية فصلّوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلّوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلم يخرج إليهم رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم حتّى خرج لصلاة الفجر، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثمّ تشهّد فقال:

«أمّا بعد؛ فإنّه لم يخف عليَّ شأنكم الليلة، و لكنّي خشيت أن تُفرض عليكمصلاة الليل؛ فتعجزوا عنها» «(1)».

و الاختلاف بين ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام و ما رواه الشيخان واضح؛ فعلى الأوّل، نهى النبيصلى الله عليه و آله عن إقامتها جماعة، و أسماها بدعة، و على الثاني؛ ترك النبيّصلى الله عليه و آله الإقامة جماعة خشية أن تُفرض عليهم، مع كونها موافقةً للدين و الشريعة، إذاً فأي القولين أحقّ أن يتّبع، يعلم ذلك بالبحث التالي:

إنّ في حديث الشيخين مشاكل جديرة بالوقوف عليها:

الأُولى: ما معنى قوله: «خشيتُ أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها»؟

فهل مفاده: أنّ ملاك التشريع هو إقبال الناس و إدبارهم؛ فإن كان هناك اهتمام ظاهر من قبل الناس، يفرض عليهم و إلّا فلا يفرض، مع أنّ الملاك في الفرض هو وجود مصالح واقعية في المتعلّق، سواء أ كان هناك اهتمام ظاهر أم لا. فإنّ تشريعه


1- مسلم، الصحيح 6: 41.

ص:198

سبحانه ليس تابعاً لرغبة الناس أو إعراضهم، و إنّما يتبع لملاكات هو أعلم بها سواء أ كان هناك إقبال أم إدبار.

الثانية: لو افترضنا أنّ الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح بإقامتها جماعة أ فيكون ذلك ملاكاً للفرض؛ فإنّ مسجد النبيّصلى الله عليه و آله يومذاك كان مكاناً محدوداً لا يسع إلّا ستّة آلاف نفر أو أقلّ، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة:

«كان مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 35 متراً في 30 متراً ثمّ زاده الرسول و جعله 57 متراً في 50 متراً» «(1)».

أ فيمكن جعل اهتمامهم كاشفاً عن اهتمام جميع الناس بها في جميع العصور إلى يوم القيامة؟

الثالثة: وجود الاختلاف في عدد الليالي التي أقام النبيّ فيهما نوافل رمضان جماعة. فعلى ما نقله البخاري في كتاب الصوم أنّ النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آلهصلّى التراويح مع الناس أربع ليال، و على ما نقله في باب التحريض على قيام الليل، أنّهصلّاها ليلتين، و وافقه مسلم على النقل الثاني، و يظهر ممّا ذكره غيرهما- كما مرّ فيصدر المقال- أنّهصلى الله عليه و آله أقامها في ليال متفرّقة (ليلة الثالث، و الخامس، و السابع و العشرين). و هذا يعرب عن عدم الاهتمام بنقل فعل الرسول على ما عليه، فمن أين تطمئن على سائر ما جاء فيه من أنّ النبيّ استحسن عملهم.

الرابعة: أنّ الثابت من فعل النبيّ أنّهصلاها ليلتين، أو أربعاً في آخر الليل، و هي لا تزيد على ثماني ركعات. فلو كان النبيّ أُسوة فعلينا الاقتداء به فيما ثبت، لا فيما لم يثبت، بل ثبت عدمه بماصرّح القسطلاني و وصف ما زاد عليه بالبدعة و ذلك:

1- أنّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.


1- الفقه على المذاهب الخمسة: 2850.

ص:199

2- و لا كانت في زمن الصديق.

3- و لا أوّل الليل.

4- و لا كلّ ليلة.

5- و لا هذا العدد «(1)».

ثمّ التجأ في إثبات مشروعيّتها إلى اجتهاد الخليفة، و سيوافيك الكلام فيه.

و قال العيني: إنّ رسول اللَّه لم يسنّها لهم، و لا كانت في زمن أبي بكر، ثمّ اعتمد في شرعيّته إلى اجتهاد عمر و استنباطه من إقرار الشارع الناس يصلّون خلفه ليلتين «(2)». و سيوافيك الكلام فيه.

الخامسة: أنّه إذا أخذنا برواية أحد الثقلين، (أهل بيت النبيّ) تُصبح إقامة النوافل جماعة بدعة على الإطلاق، و إن أخذنا برواية الشيخين، فالمقدار الثابت ما جاء في كلام القسطلاني، و الزائد عنه يصحّ بدعة إضافية، حسب مصطلح الإمام الشاطبي، و المقصود منها ما يكون العمل بذاته مشروعاً، و الكيفية الّتي يقام بها، غير مشروعة.

و لم يبق ما يحتجّ به على المشروعية إلّا جمع الخليفة الناس على إمام واحد و هو ما سنشرحه في البحث التالي:

جمع الناس على إمام واحد في عصر عمر

روى البخاري: توفّي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و الناس على ذلك (يعني ترك إقامة التراويح بالجماعة) ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدراً من


1- إرشاد الساري 3: 426.
2- عمدة القاري 11: 126.

ص:200

خلافة عمر «(1)».

و روى أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرّقون، يصلّي الرجلُ لنفسه، و يصلّي الرجلُ فيصلّي بصلاته الرهط «(2)».

فقال عمر: إنّي أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى و الناس يُصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه. و الّتي ينامون عنها أفضل من الّتي يقومون- يريد آخر الليل- و كان الناس يقومون أوّله.

و لكن الظاهر من شرّاح الصحيح أنّ الإتيان جماعة لم تكن مشروعة، و إنّما قام التشريع لعمله. و إليك بيانه في ضمن أمرين:

1- قوله: «فتوفّي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و الناس على ذلك، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر» فقد فسّره الشرّاح بقولهم: أي على ترك الجماعة في التراويح، و لم يكن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله جمع الناس على القيام «(3)».

و قال بدر الدين العيني: و الناس على ذلك (أي على ترك الجماعة) ثمّ قال: فإن قلت: روى ابن وهب عن أبي هريرة: خرج رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم و إذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد، فقال: «ما هذا؟» فقيل: ناس يصلّي بهم أُبي بن كعب، فقال: «أصابوا و نعم ماصنعوا»، ذكره ابن عبد البر. ثمّ أجاب بقوله: قلت: فيه مسلم بن خالد و هو ضعيف، و المحفوظ أنّ عمر رضى الله عنه هو الذي جمع الناس على أُبي ابن كعب رضى الله عنه «(4)».


1- البخاري، الصحيح، باب فضل من قام رمضان: الحديث 2010.
2- الرهط: بين الثلاثة إلى العشرة.
3- فتح الباري، 4: 203.
4- عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 6: 125، و جاء نفس السؤال و الجواب في فتح الباري.

ص:201

و قال القسطلاني: «و الأمر على ذلك (أي على ترك الجماعة في التراويح) ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، إلى آخر ما ذكره» «(1)».

2- قوله: نعم البدعة؛ إنّ الظاهر من قوله: «نعم البدعة هذه» أنّها من سُنن نفس الخليفة و لاصلة لها بالشرع، و قدصرّح بذلك لفيف من العلماء.

قال القسطلاني: سمّاها (عمر) بدعة لأنّهصلى الله عليه و آله لم يسنّ لهم الاجتماع لها، و لا كانت في زمن الصدّيق، و لا أوّل الليل، و لا كلّ ليلة و لا هذا العدد- إلى أن قال:- و قيام رمضان ليس بدعة؛ لأنّهصلى الله عليه و آله قال: «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر و عمر» و إذا أجمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة.

و قال العيني: «و إنّما دعاها بدعة؛ لأنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لم يسنّها لهم، و لا كانت في زمن أبي بكر رضى الله عنه و لا رغب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فيها» «(2)».

و هناك من نقل أنّ عمر أوّل من سنّ الجماعة، و نذكر منهم ما يلي:

1- قال ابن سعد في ترجمة عمر: «هو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان- بالتراويح- و جمع الناس على ذلك، و كتب به إلى البلدان و ذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة» «(3)».

2- و قال ابن عبد البرّ في ترجمة عمر: «و هو الّذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه» «(4)».

3- قال الوليد بن الشّحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 ه: «و هو أوّل من نهى عن بيع أُمّهات الأولاد... و أوّل من جمع الناس على إمام يصلّي


1- إرشاد الساري 3: 425.
2- عمدة القاري 6: 126. و قد سقط لفظة لا من قوله« رغب» كما أنّ كلمة بقوله- بعد هذه الجملة- في النسخة مصحف« قوله»، فلاحظ.
3- الطبقات الكبرى 3: 281.
4- الاستيعاب 3: 1145.

ص:202

بهم التراويح» «(1)».

فإذا كان المفروض أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لم يسنّ الجماعة فيها، و انّما سنّها عمر، فهل هذا يكفي في كونها مشروعة؟! مع أنّه ليس لإنسان حتّى الرسول حقّ التسنين و التشريع، و إنّما هوصلى الله عليه و آله مبلّغ عن اللَّه سبحانه.

إنّ الوحي يحمل التشريع إلى النبيّ الأكرم و هوصلى الله عليه و آله الموحَى إليه، و بموته انقطع الوحي، و سدّ باب التشريع و التسنين، فليس للأُمّة إلّا الاجتهاد في ضوء الكتاب و السنّة، لا التشريع و لا التسنين، و من رأى انّ لغير اللَّه سبحانه حقّ التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي.

قال ابن الأثير في نهايته: و من هذا النوع قول عمر رضى الله عنه: «نعم البدعة هذه (التراويح) لمّا كانت من أفعال الخير و داخلة في حيز المدح سمّاها بدعة و مدحها، إلّا أنّ النبيّصلى الله عليه و آله لم يسنّها لهم، و إنّماصلّاها ليالي ثمّ تركها، و لم يحافظ عليها، و لا جمع الناس لها، و لا كانت في زمن أبي بكر، و إنّما عمر رضى الله عنه جمع الناس عليها، و ندبهم إليها، فبهذا سمّاها بدعة، و هي في الحقيقة سنّة، لقولهصلى الله عليه و آله: «عليكم بسنّتي و سنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»، و قوله: «اقتدوا بالّذين من بعدي أبي بكر و عمر» «(2)».

التشريع مختصّ باللَّه سبحانه

إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأنّ النبيّ لم يسنّ الاجتماع، برّروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة، و معنى ذلك أنّ له حقّ التسنين و التشريع، و هذا يضادّ إجماع الأُمّة؛ إذ لا حقَّ لإنسان أن يتدخّل في أمر الشريعة بعد إكمالها لقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ


1- روضة المناظر عنه النص و الاجتهاد: 214 ط. مؤسّسة البعثة طهران.
2- النهاية 1: 79.

ص:203

لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «(1)» و كلامه يخالف الكتاب و السنّة؛ فإنّ التشريع حقّ اللَّه سبحانه لم يفوّضه لأحد، و النبيّ الأكرم مبلّغ عنه.

أضف إلى ذلك لو أنّ الخليفة قد تلقّى ضوءاً أخضرَ في مجال التشريع و التسنين، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك، مع كون بعضهم أقرأ منه، كأُبي بن كعب، و أفرض؛ كزيد بن ثابت، و أعلم و أقضى منه؛ كعليّ بن أبي طالب عليه السلام؟! فلو كان للجميع ذلك لانتشر الفساد و عمّت الفوضى أمر الدين، و كان أُلعوبة بأيدي غير المعصومين.

و أمّا التمسّك بالحديثين، فلوصحّ سندهما؛ فانّهما لا يهدفان إلى أنّ لهما حقّ التشريع، بل يفيدان لزوم الاقتداء بهما؛ لأنّهما يعتمدان على سنّة النبيّ الأكرم، لا أنّ لهما حقّ التسنين.

نعم يظهر ممّا رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يعتقد أنّ للخلفاء حقّ التسنين، قال: قال حاجب بن خليفة: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب و هو خليفة، فقال في خطبته: ألا إنّ ما سنّ رسول اللَّه وصاحباه فهو دين نأخذ به، و ننتهي إليه، و ما سنّ سواهما فإنّا نرجئه «(2)».

و على كلّ تقدير نحن لسنا بمؤمنين بأنّه سبحانه فوّض أمر دينه في التشريع و التقنين إلى غير الوحي، و في ذلك يقول الشوكاني: و الحقّ أنّ قول الصحابي ليس بحجّة؛ فانّ اللَّه سبحانه لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلّا نبيّنا محمداًصلى الله عليه و آله و ليس لنا إلّا رسول واحد و كتاب واحد، و جميع الأُمّة مأمورة باتّباع كتابه و سنّة نبيّه، و لا فرق بين الصحابة و من بعدهم في ذلك، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية و باتّباع


1- المائدة: 3.
2- أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، كما في بحوث أهل السنّة: ص 235.

ص:204

الكتاب و السنّة؛ فمن قال إنّها تقوم الحجّة في دين اللَّه عزّ و جلّ بغير كتاب اللَّه و سنّة رسوله و ما يرجع إليهما فقد قال في دين اللَّه بما لا يثبت» «(1)».

نعم نقل القسطلاني عن ابن التين و غيره: انّ عمر استنبط ذلك من تقرير النبيصلى الله عليه و آله منصلّى معه في تلك الليالي و إن كان كره لهم خشية أن يفرض عليهم. فلمّا غاب النبيّ حصل الأمن من ذلك، و رجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، و لأنّ الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلّين «(2)».

يلاحظ عليه أولًا: أنّ ما ذكره في آخر كلامه ليبرّر جمع الناس على إمام واحد، مكان الأئمة المتعدّدة، دون ما إذا كان موضع النقاش إقامتها جماعة، واحداً كان الإمام أو كثيراً.

و ثانياً: أنّ معنى كلامه أنّ هناك أحكاماً لم تسنّ ما دام النبيّ حيّاً لمانع خاص، كخشية الفرض، و لكن في وسع آحاد الأُمّة تشريعها بعد موتهصلى الله عليه و آله و مفاده فتح باب التشريع بملاكات خاصّة في وجه الأُمّة إلى يوم القيامة، و هذه رزيّة ليست بعدها رزية، و تلاعب بالدين و استئصاله.

*** ثمّ إنّ لسيّدنا شرف الدين العاملي هناك كلاماً نافعاً نورده بنصّه، قال:

«كان هؤلاء عفا اللَّه عنهم و عنّا، رأوه رضى الله عنه قد استدرك (بتراويحه) على اللَّه و رسوله حكمة كانا عنها غافلين. بل هم بالغفلة- عن حكمة اللَّه في شرائعه و نظمه- أحرى، و حسبنا في عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان و غيرها، انفراد مؤدّيها- جوف الليل في بيته- بربّه عزّ و علا يشكو إليه بثّه و حزنه و يناجيه بمهمّاته مهمّة مهمّة حتّى يأتي على آخرها ملحّاً عليه، متوسّلًا بسعة رحمته إليه،


1- إرشاد العقول: ص 214.
2- فتح الباري 4: 204.

ص:205

راجياً لاجئاً، راهباً راغباً، منيباً تائباً، معترفاً لائذاً عائذاً، لا يجد ملجأ من اللَّه تعالى إلّا إليه، و لا منجى منه إلّا به.

لهذا ترك اللَّه السنن حرّة من قيد الجماعة، ليتزوّدوا فيها من الانفراد باللَّه ما أقبلت قلوبهم عليه، و نشطت أعضاؤهم له، يستقلّ منهم من يستقلّ، و يستكثر من يستكثر، فإنّها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيّد البشر. أما ربطها بالجماعة فيحدّ من هذا النفع، و يقلّل من جدواه.

أضف إلى هذا أنّ إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظّها من البركة و الشرف بالصلاة فيها، و يمسك عليها حظّها من تربية الناشئة على حبّها و النشاط بها، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء و الأُمّهات و الأجداد و الجدّات، و تأثيره في شدّ الأبناء إليها شدّاً يرسّخها في عقولهم و قلوبهم، و قد سأل عبد اللَّه بن مسعود رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: أيّما أفضل الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ فقالصلى الله عليه و آله:

«أ لا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فلئن أُصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أُصلّي في المسجد إلّا أن تكونصلاة مكتوبة» رواه أحمد و ابن ماجة و ابن خزيمة فيصحيحه، كما في باب الترغيب فيصلاة النافلة من كتاب الترغيب و الترهيب للإمام زكيّ الدين عبد العظيم بن عبد القويّ المنذري.

و عن زيد بن ثابت أنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال:

«صلّوا أيّها الناس في بيوتكم؛ فإنّ أفضلصلاة المرء في بيته إلّا الصلاة المكتوبة». رواه النسائي و ابن خزيمة فيصحيحه.

و عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«أكرموا بيوتكم ببعضصلاتكم».

و عنهصلى الله عليه و آله قال: «مثل البيت الذي يذكر اللَّه فيه و البيت الذي لا يذكر اللَّه فيه مثل الحيّ و الميّت». و أخرجه البخاري و مسلم.

ص:206

و عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً منصلاته، و إنّ اللَّه جاعل في بيته منصلاته خيراً»، رواه مسلم و غيره و رواه ابن خزيمة فيصحيحه بالإسناد إلى أبي سعيد، و السنن في هذا المعنى لا يسعها هذا الإملاء.

لكن الخليفة رضى الله عنه رجل تنظيم و حزم، و قد راقه منصلاة الجماعة ما يتجلّى فيها من الشعائر بأجلى المظاهر إلى ما لا يحصى من فوائدها الاجتماعية الّتي أشبع القول علماؤنا الأعلام ممن عالجوا هذه الأُمور بوعي المسلم الحكيم، و أنت تعلم أنّ الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية، بل اختصّ الواجبات من الصلوات بها، و ترك النوافل للنواحي الأُخر من مصالح البشر: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» «(1)»» «(2)».

خاتمة المطاف

إنّ عمل الخليفة، لم يكن إلّا من قبيل تقديم المصلحة على النصّ، و ليس المورد أمراً وحيداً في حياته، بل له نظائر في عهده منها:

1- تنفيذ الطلاق الثلاث، بعد ما كان في عهد الرسول و بعده طلاقاً واحداً.

2- النهي عن متعة الحجّ.

و قد مرّ البحث في المسألة الثانية في كتابنا «أضواء على تأريخ الشيعة الإماميّة و عقائدهم». و نبحث الآن عن المسألة الأُولى:


1- الأحزاب: 36.
2- النص و الاجتهاد: 151- 152.

ص:207

المسألة الرابعة: الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات في مجلس واحد

المسألة الرابعة: الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات في مجلس واحد

اشارة

من المسائل التي أدّت إلى تعقيد الحياة الزوجيّة، و مزّقت و قطّعتصلات الأرحام في كثير من البلاد، هي مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة، بأن يقول: أنتِ طالق ثلاثاً، أو يكرّره ثلاث دفعات و يقول في مجلس واحد: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق. فتحسب ثلاث تطليقات حقيقةً، و تَحرُم المطلّقةُ على زوجها حتّى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط تحول دون إيقاعه، ككون المرأة غير حائض، أو وقوع الطلاق في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فلربّما يتغلّب الغيظ على الزوج و يأخذه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة تضيق عليه الأرض بما رحبت، فيطلب المخلَص من ذلك و لا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة و الدعاة إليها مخلصاً، فيقعد ملوماً محسوراً، و لا يزيده السؤال و الفحص إلّا نفوراً عن الفقه و الفتوى.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سهل و سمح، و ليس فيه حرج، و هذا يدفع الدعاة المخلصين إلى إعادة دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن الأبحاث الجامدة، التي أفرزها غلق باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية، و أن يبحثوا المسألة في ضوء الكتاب و السنّة الصحيحة، بعد التجرّد عن خلفية الفتاوى السابقة.

أمّا أهمّ تلك الأقوال فهي:

ص:208

قال ابن رشد: «جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، و قال أهل الظاهر و جماعة: حكمه حكم الواحدة، و لا تأثير للّفظ في ذلك» «(1)».

قال الشيخ الطوسي: «إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد، كان مبدعاً و وقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، و فيهم من قال: لا يقع شي ء أصلًا، و به قال عليّ عليه السلام و أهل الظاهر، و حكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه، و روي أنّ ابن عباس و طاووساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية.

و قال الشافعي: فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه، دفعة أو متفرّقة، كان ذلك مباحاً غير محذور و وقع. و به قال في الصحابة عبد الرحمن بن عوف، و رووه عن الحسن بن عليّ عليهما السلام، و في التابعين ابن سيرين، و في الفقهاء أحمد و إسحاق و أبو ثور.

و قال قوم: إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة، أو متفرّقة، فعل محرّماً و عصى و أثم. ذهب إليه في الصحابة عليّ عليه السلام و عمر، و ابن عمر، و ابن مسعود، و ابن عباس. و في الفقهاء أبو حنيفة و أصحابه و مالك، قالوا: إلّا أنّ ذلك واقع «(2)».

قال أبو القاسم الخرقي في مختصره: و إذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، لزمه تطليقتان إلّا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأُولى؛ فتلزمه واحدة. و إن كانت غير مدخول بها بانت بالأُولى، و لم يلزمها ما بعدها؛ لأنّه


1- بداية المجتهد 2: 62 ط بيروت.
2- الخلاف: 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. و على ما ذكره، نُقل عن الإمام عليّ رأيان متناقضان: عدم الوقوع و الوقوع مع الإثم.

ص:209

ابتداء كلام.

و قال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: «إذا قال لامرأته المدخول بها:

أنت طالق مرّتين و نوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية، وقعت لها طلقتان بلا خلاف، و إن نوى بها إفهامها أنّ الأُولى قد وقعت بها أو التأكّد لم تُطلّق إلّا مرّة واحدة، و إن لم تكن له نيّة وقع طلقتان، و به قال أبو حنيفة و مالك؛ و هو الصحيح من قولي الشافعي. و قال في الآخر: تطلّق واحدة».

و قال الخرقي أيضاً في مختصره: «و يقع بالمدخول بها ثلاثاً إذا أوقعها، مثل قوله: أنت طالق فطالق فطالق، أو أنت طالق ثمّ طالق ثمّ طالق، أو أنت طالق ثمّ طالق و طالق أو فطالق».

و قال ابن قدامة في شرحه: «إذا أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهنّ معاً، فوقعن كلّهنّ، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً» «(1)».

و قال عبد الرحمن الجزيري: «يملك الرجل الحرّ ثلاث طلقات، فاذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة؛ و هو رأي الجمهور، و خالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاووس و عكرمة و ابن إسحاق و على رأسهم ابن عبّاس- رضي اللَّه عنهم-» «(2)».

إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات الّتي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق، و رائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب، الطلاق الثلاث بمرأى و مسمع من الصحابة. و لكن لو دلّ الكتاب و السنّة على خلافه فالأخذ بهما متعيّن.


1- المغني 7: 416.
2- الفقه على المذاهب الأربعة 4: 341.

ص:210

دراسة الآيات الواردة في المقام

قال سبحانه:

«وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ...» «(1)».

جئنا بمجموع الآيات الأربع- مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية- للاستشهاد بها في ثنايا البحث. و قبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات:

1- قوله سبحانه: «وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» كلمة جامعة لا يؤدّى حقّها إلّا بمقال مسهب؛ و هي تفيد أنّ الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلّا و على الرجل عمل يقابله، فهما- في حقل المعاشرة- متماثلان


1- البقرة: 228- 231.

ص:211

في الحقوق و الأعمال، فلا تسعد الحياة إلّا بالاحترام المتبادل بين الزوجين، و قيام كلّ بوظيفته تجاه الآخر، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل و إنجاز ما به من أعمال، و على الرجل السعي و الكسب خارجه.

هذا هو الأصل الأصيل في حياة الزوجين الّذي تؤيده الفطرة، و قد قسّم النبيّ الأُمور بين ابنته فاطمة و زوجها عليّ عليه السلام فجعل شئون البيت في عهدة ابنته، و عمل الخارج على زوجها-صلوات اللَّه عليهما-.

2- «المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل، و «الإمساك» خلاف الإطلاق، و «التسريح» مأخوذ من السرح و هو الإطلاق يقال: سرح الماشية في المرعى: إذا أطلقها لترعى. و المراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية.

كما أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها، لتنقضي عدّتها في كلّ طلاق، أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح؛ على اختلاف في معنى الجملة. و إن كان الأقوى هو الثاني، و سيوافيك توضيحه و دفع ما أثاره الجصّاص من الإشكالين حول هذا التفسير بإذن اللَّه سبحانه.

3- قيّد الإمساك بالمعروف، و التسريح بإحسان، مشعراً بأنّه يكفي في الإمساك قصد عدم الإضرار بالرجوع، و أمّا الإضرار فكما إذا طلّقها حتّى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثمّ يطلّق كذلك، يريد بها الإضرار و الإيذاء، و على ذلك يجب أن يكون الإمساك مقروناً بالمعروف، و عندئذٍ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل لا يعدّ أمراً منكراً غير معروف؛ إذ ليس إضراراً.

و هذا بخلاف التسريح؛ فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقروناً بالإحسان إليها؛ فلا يطلب منها ما آتاها من الأموال. و لأجل ذلك يقول تعالى: «وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» أي لا يحلّ للمطلق استرداد ما آتاها من المهر، إلّا إذا كان الطلاق خلعاً فعندئذٍ لا جناح عليها في ما افتدت به نفسها من زوجها.

ص:212

و قوله سبحانه: «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» دليل على وجود النفرة من الزوجة، فتخاف أن لا تقيم حدود اللَّه، فتفتدي بالمهر و غيره لتخلّص نفسها.

4- لم يكن في الجاهلية للطلاق و لا للمراجعة في العدّة، حدّ و لا عدّ، فكان الأزواج يتلاعبون بزوجاتهم؛ يضارّوهنّ بالطلاق و الرجوع ما شاءوا، فجاء الإسلام بنظام دقيق و حدّد الطلاق بمرّتين، فإذا تجاوز عنه و بلغ الثالث تحرم عليه حتّى تنكح زوجاً غيره.

روى الترمذي: كان الناس و الرجل يُطلِّق امرأته ما شاء أن يطلّقها، و هي امرأته إذا ارتجعها و هي في العدّة، و إن طلّقها مائة مرة أو أكثر، حتّى قال رجل لامرأته: و اللَّه لا أُطلّقك فتبيني منّي، و لا آويك أبداً قالت: و كيف ذلك؟ قال:

أُطلّقك فكلّما همَّت عدَّتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبيّ فسكت حتّى نزل القرآن: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ...» «(1)».

5- اختلفوا في تفسير قوله سبحانه: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» إلى قولين:

أ- إنّ الطلاق يكون مرّتين، و في كلّ مرّة إمّا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، و الرجل مخيّر بعد إيقاع الطلقة الأُولى بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته و يعاشرها بإحسان، و بين أن يدع زوجته في عدّتها من غير رجعة حتّى تبلغ أجلها و تنقضي عدّتها.

و هذا القول هو الّذي نقله الطبري عن السّدي و الضحّاك فذهبا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرّتان فإمساك في كلّ واحدة منهما لهنّ بمعروف أو تسريح لهنّ بإحسان، و قال: هذا مذهب ممّا يحتمله ظاهر التنزيل لو لا الخبر الذي رواه


1- الترمذي، الصحيح ج 3 كتاب الطلاق، الباب 16، الحديث 1192.

ص:213

إسماعيل بن سميع عن أبي رزين «(1)».

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير ينافيه تخلّل الفاء بين قوله: «مَرَّتانِ» و قوله «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ» فهو يفيد أنّ القيام بأحد الأمرين بعد تحقّق المرّتين، لا في أثنائهما. و عليه لا بدّ أن يكون كلّ من الإمساك و التسريح أمراً متحقّقاً بعد المرّتين، و مشيراً إلى أمر وراء التطليقتين.

نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الأمرين بعد كلّ تطليقة، من آية أُخرى أعني قوله سبحانه: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا» «(2)».

و لأجل الحذر عن تكرار المعنى الواحد في المقام يفسّر قوله: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» «(3)» بوجه آخر سيوافيك.

ب- ينبغي على الزوج بعد ما طلّق زوجته مرّتين، أن يفكّر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى، فليس له بعد التطليقتين إلّا أحد أمرين: إمّا الإمساك بمعروف و إدامة العيش معها، أو التسريح بإحسان بالتطليق الثالث الّذي لا رجوع بعده أبداً، إلّا في ظرف خاص، فيكون قوله تعالى: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» إشارة إلى التطليق الثالث الّذي لا رجوع فيه و يكون التسريح متحقّقاً به.

وقفة مع الجصّاص في تفسير الآية:

و هنا سؤالان أثارهما الجصّاص في تفسيره:

1- كيف يفسّر قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بالتطليق الثالث، مع أنّ المراد من


1- الطبري، التفسير 2: 278 و سيوافيك خبر أبي رزين.
2- البقرة: 231. و أيضاً في سورة الطلاق:« فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف» الطلاق: 2.
3- البقرة: 229.

ص:214

قوله في الآية المتأخّرة: «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِإحْسَانٍ» هو ترك الرجعة، و هكذا المراد من قوله: «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» «(1)» هو تركها حتّى ينتهي أجلها، و معلوم أنّه لم يرد من قوله: «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أو قوله: «أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ»: طلّقوهنّ واحدة أُخرى «(2)».

يلاحظ عليه: أنّ السؤال و الإشكال ناشئ من خلط المفهوم بالمصداق؛ فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في التسريح و الطلاق، غير أنّه يتحقّق في مورد بالطلاق، و في آخر بترك الرجعة، و هذا لا يعدّ تفكيكاً في معنى لفظ واحد في موردين، و مصداقه في الآية (229) هو الطلاق، و في الآية (231) هو ترك الرجعة، و الاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

2- أنّ التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالى: «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» و عندئذٍ يجب حمل قوله تعالى: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» المتقدّم عليه على فائدة مجدّدة و هي وقوع البينونة بالاثنين «(3)» بعد انقضاء العدّة.

و أيضاً لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى: «فَإِنْ طَلَّقَها» عقيب ذلك هي الرابعة؛ لأنّ الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقاً مستقلًاّ بعد ما تقدّم ذكره «(4)».

و الإجابة عنه واضحة؛ لأنّه لا مانع من الإجمال أوّلًا ثمّ التفصيل ثانياً، فقوله تعالى: «فَإِنْ طَلَّقَها» بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي، و التفصيل مشتمل


1- الطلاق: 2.
2- الجصاص، التفسير 2: 389.
3- الأولى أن يقول: بكلّ طلاق.
4- الجصّاص، التفسير 1: 389.

ص:215

على ما لم يشتمل عليه الإجمال من تحريمها عليه حتّى تنكح زوجاً غيره. فلو طلّقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنّا أن يُقيما حدود اللَّه، فأين هذه التفاصيل من قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ».

و بذلك يعلم أنّه لا يلزم أن يكون قوله: «فَإِنْ طَلَّقَها» طلاقاً رابعاً.

و قد روى الطبري عن أبي رزين أنّه قال: أتى النبيّصلى الله عليه و آله رجل فقال: يا رسول اللَّه أ رأيت قوله: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» فأين الثالثة؟ قال رسول اللَّه: « «إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» هي الثالثة» «(1)».

نعم الخبر مرسل و ليس أبو رزين الأسديصحابياً بل تابعي.

و قد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت أنّ المراد من قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» هي التطليقة الثالثة «(2)».

إلى هنا تمّ تفسير الآية و ظهر أنّ المعنى الثاني لتخلّل لفظ «الفاء» أظهر بل هو المتعيّن بالنظر إلى روايات أئمّة أهل البيت.

بقي الكلام في دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً بمعنى عدم وقوعه بقيد الثلاث، و أمّا وقوع واحدة منها فهو أمر آخر، فنقول:

الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً
اشارة

إذا عرفت مفاد الآية، فاعلم أنّ الكتاب و السنّة يدلّان على بطلان الطلاق ثلاثاً، و أنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة. أو كرّر الصيغة فلا تقع الثلاث. و أمّا احتسابها


1- الطبري، التفسير 2: 278.
2- البرهان 1: 221. و قد نقل روايات ستّ في ذيل الآية.

ص:216

طلاقاً واحداً، فهو و إن كان حقاً، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا، و إليك الاستدلال بالكتاب أوّلًا، و السنّة ثانياً.

أوّلًا: الاستدلال بالكتاب:

1- قوله سبحانه: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ».

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، و المفسّرون بين من يجعلها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة أعني قوله: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ...» و من يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الّذي جاء في الآية التالية، و قد عرفت ما هو الحق، فتلك الفقرة تدلّ على بطلان الطلاق ثلاثاً على كلا التقديرين.

أمّا على التقدير الأوّل، فواضح؛ لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.

قال ابن كثير: أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح و الإحسان و بين أن تتركها حتّى تنقضي عدّتها، فتبين منك، و تطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقّها شيئاً و لا تضارّ بها «(1)». و أين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل بواحد من الأمرين- الإمساك أو تركها حتّى ينقضي أجلها- سواء طلّقها بلفظ: أنتِ طالق ثلاثاً، أو: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق.

و أمّا على التقدير الثاني؛ فإنّ تلك الفقرة و إن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث، و ساكتة عن حال الطلاقين الأوّلين، لكن قلنا إنّ بعض الآيات، تدلّ على أنّ مضمونه من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فرق بين الأوّلين و الثالث فالمطلّق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين:


1- ابن كثير، التفسير 1: 53.

ص:217

1- الإمساك بمعروف.

2- التسريح بإحسان.

فعدم دلالة الآية الأُولى على خصيصة الطلاقين الأوّلين، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين «(1)». و لعلّهما تصلحان قرينة لإلقاء الخصوصية من ظاهر الفقرة «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» و إرجاع مضمونها إلى مطلق الطلاق، و لأجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة على لزوم إتباع الطلاق بأحد الأمرين على كلا التقديرين. و على أيّ حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها- كما ذكرنا- فالمحصّل من المجموع هو كون إتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الّذي يصلح للرجوع.

و يظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله: «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» من القيود الغالبية، و إلّا فالواجب منذ أن يطلّق زوجته، هو القيام بأحد الأمرين، لكن تخصيصه بزمن خاص، و هو بلوغ آجالهنّ، هو لأجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه و غيظه، لا تنطفئ سورة غضبه فوراً حتّى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح لأن يتفكّر في أمر زوجته و يخاطب بأحد الأمرين، و إلّا فطبيعة الحكم الشرعي «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» تقتضي أن يكون حكماً سائداً على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدّة.

و على ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان طلاق الثلاث و أنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها، و على القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

2- قوله سبحانه: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ»


1- الآية 231 من سورة البقرة و الآية 2 من سورة الطلاق.

ص:218

إنّ قوله سبحانه: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة و إلّا يصير مرّة و دفعة، و لأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل و أنّه الواحد منه، كما أنّ الدفعة و الكرّة و النزلة، مثل المرّة، وزناً و معنى و اعتباراً.

و على ما ذكرنا فلو قال المطلّق: أنت طالق ثلاثاً، لم يطلِّق زوجته مرّة بعد أُخرى، و لم يطلّق مرّتين، بل هو طلاق واحد، و أمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره، و تشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضمّ عدد فوق الواحد.

مثلًا اعتبر في اللعان شهادات أربع؛ فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله «أربعاً». و فصول الأذان المأخوذة فيها التثنية؛ لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة و إردافها بقوله: «مرّتين». و لو حلف في القسامة و قال: «اقسم باللَّه خمسين يميناً أنّ هذا قاتله» كان هذا يميناً واحداً. و لو قال المقرّ بالزنا: «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان إقراراً واحداً، و يحتاج إلى ثلاثة إقرارات أُخرى، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

قال الجصّاص: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ»، و ذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، و كذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرّتين، حتّى يفرّق الدفع، فحينئذٍ يُطلق عليه، و إذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين؛ إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكر المرّتين إنّما هو أمر بإيقاعه مرّتين، و نهى عن الجمع بينهما في مرّة واحدة «(1)».


1- أحكام القرآن 1: 378.

ص:219

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة، أمّا إذا كرّر الصيغة- كما عرفت- فربّما يغترّ به البسطاء و يزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية، لكنّه مردود من جهة أُخرى و هي:

أنّ الصيغة الثانية و الثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق؛ فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجيّة؛ فلا زوجية بعد الصيغة الأُولى حتّى تقطع، و لا رابطة قانونية حتّى تصرم.

و بعبارة واضحة: إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه و بين امرأته و يطلق سراحها من قيدها، و هو لا يتحقّق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية، و من المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلّق، و المسرَّحة لا تسرّح.

و ربّما يقال: إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل و حكمها حكم الزوجة، فعندئذٍ يكون للصيغة الثانية و الثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة، و لكن الإجابة عنه واضحة؛ و ذلك لأنّ الصيغة الثانية لغوٌ جداً؛ لأنّ الزوجة بعدها أيضاً بحكم الزوجة، و إنّما تخرج عنه إذاصار الطلاق بائناً، و هو يتحقّق بالطلاق ثلاثاً.

و الحاصل: أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث، العدد الخاص الّذي هو موضوع للآية التالية، أعني قوله سبحانه: «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» و كيف لا يكون ذلك، و قد قالصلى الله عليه و آله: «لا طلاق إلّا بعد نكاح»، و قال: «لا طلاق قبل نكاح» «(1)».

فتعدّد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين، و لو بالرجوع، و إذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال السماك: إنّما النكاح عقدة تعقد، و الطلاق يحلّها، و كيف تُحلّ عقدة قبل أن


1- السنن الكبرى 7: 318- 321؛ مستدرك الحاكم 2: 24.

ص:220

تعقد؟! «(1)» 3- قوله سبحانه: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»

إنّ قوله سبحانه: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ»، وارد في الطلاق الّذي يجوز فيه الرجوع «(2)». و من جانب آخر دلّ قوله سبحانه: «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ» «(3)». على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد و إحصاء العدّة، من غير فرق بين أن نقول: إنّ «اللام» في «عدتهن» للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ» أو بمعنى الغاية، و المراد لغاية أن يعتددنَ؛ إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد و إحصاء العدّة، و هو لا يتحقّق إلّا بفصل الأوّل عن الثاني، و إلّا يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة و إحصاء و لو طلّق اثنتين مرّة. و لو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل و الثاني كذلك.

و قد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً:

روىصفوان الجمّال عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: أنّ رجلًا قال له: إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس؟ قال: «ليس بشي ء»، ثمّ قال: «أما تقرأ كتاب اللَّه: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ- إلى قوله سبحانه- لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» ثمّ قال: كلّ ما خالف كتاب اللَّه و السنّة فهو يردّ إلى كتاب اللَّه و السنّة» «(4)».

أضف إلى ذلك: أنّه لوصحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه: «لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» فائدة، لأنّه يكون بائناً و يبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، و لا تحلّ العقدة إلّا بنكاح رجل آخر و طلاقه مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ


1- السنن الكبرى 7: 321.
2- فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، و طلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن و غيرهما.
3- الطلاق: 1.
4- قرب الاسناد: ص 30؛ و رواه الحرّ العاملي في وسائل الشيعة ج 15، الباب 29، الحديث 25، من أبواب مقدّمات الطلاق.

ص:221

المشكلة عن طريق الرجوع، أو العقد في العدّة.

ثانياً: الاستدلال بالسنّة:

تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة، و أمّا حكم السنّة، فهي تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

1- أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول اللَّه عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبانَ ثمّ قال: «أ يُلعب بكتاب اللَّه و أنا بين أظهركم»؟ حتّى قام رجل و قال: يا رسول اللَّه أ لا أقتله؟ «(1)».

إنّ محمود بن لبيدصحابيّصغير و له سماع، روى أحمد باسنادصحيح عنه قال: أتانا رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم فصلّى بنا المغرب في مسجدنا فلمّا سلّم منها... «(2)».

و لو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري «(3)» فهوصحابيّ و مراسيل الصحابة حجّة بلا كلام عند الفقهاء، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

2- روى ابن إسحاق عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول اللَّه: «كيف طلّقتها»؟ قال: طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال: إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها «(4)».

و السائل هو ركانة بن عبد يزيد، روى الإمام أحمد بإسنادصحيح عن ابن


1- النسائي، السنن 6: 142؛ الدر المنثور 1: 283.
2- أحمد بن حنبل، المسند 5: 427.
3- فتح الباري 9: 315، و مع ذلك قال: رجاله ثقات، و قال في كتابه الآخر بلوغ المرام: ص 224: رواته موثّقون، و نقل الشوكاني في نيل الأوطار 7: 11 عن ابن كثير أنّه قال: إسناده جيد، انظر« نظام الطلاق في الإسلام» للقاضي أحمد محمد شاكر: ص 37.
4- بداية المجتهد 2: 61. و رواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان: 156، و السيوطي في الدرّ المنثور 1: 279 و غيرهم.

ص:222

عبّاس قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً قال: فسأله رسول اللَّه: «كيف طلّقتها؟» قال: طلّقتها ثلاثاً. قال، فقال: «في مجلس واحد؟» قال: نعم. قال: «فإنّما تلك واحدة فرجعها إن شئت». قال: فأرجعها. فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر «(1)».

الاجتهاد مقابل النص
اشارة

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى، و قد حدث بين المسلمين اتّجاهان مختلفان، وصراعان فكريّان؛ فعليّ و من تبعه من أئمّة أهل البيت، كانوا يحاولون التعرّف على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية أو رواية، و لا يعملون برأيهم أصلًا، و في مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرّف على الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة و وضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه، و وضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث و النقاش، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نصّ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتّى فيما كان فيه نصّ و دلالة.

يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الّذي ذكرناه، و ذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب و لا سنّة، و لكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة الّتي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في


1- أحمد بن حنبل، المسند 1: 265.

ص:223

أحكامه، و هو أقرب شي ء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته «(1)».

إنّ الاسترشاد بروح القانون الّذي أشار إليه أحمد أمين أمر، و نبذ النصّ و العمل بالرأي أمر آخر، و لكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النصّ و يعملون بالرأي، و ما روي عن الخليفة في هذه المسألة، من هذا القبيل. و إن كنت في ريب من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه:

1- روى مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب:

إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم «(2)».

2- و روي عن ابن طاوس عن أبيه: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبيّصلى الله عليه و سلم و أبي بكر و ثلاثاً من إمارة عمر؟

فقال: نعم «(3)».

3- و روى أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، أ لم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه و أبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم «(4)».

4- روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبيّصلى الله عليه و آله و أبي بكر رضى الله عنه وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنه فلمّا رأى الناس قد


1- فجر الإسلام: 238، نشر دار الكتاب.
2- مسلم، الصحيح 4 باب طلاق الثلاث، الحديث 1 و 2 و 3. و هناتك يعني أخبارك و أُمورك المستغربة.
3- مسلم، الصحيح 4 باب طلاق الثلاث، الحديث 1 و 2 و 3. و هناتك يعني أخبارك و أُمورك المستغربة.
4- مسلم، الصحيح 4 باب طلاق الثلاث، الحديث 1 و 2 و 3. و هناتك يعني أخبارك و أُمورك المستغربة.

ص:224

تتابعوا فيها، قال: أجيزوهنّ عليهم «(1)».

5- أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال: لمّا كان زمن عمر رضى الله عنه قال:

يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة، و إنّه من تعجّل أناة اللَّه في الطلاق ألزمناه إيّاه «(2)».

6- عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم، و قد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك «(3)».

7- عن الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة، و لكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزِم كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه. من قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، فهي حرام، و من قال لامرأته: أنتِ بائنة، فهي بائنة، و من قال: أنتِ طالق ثلاثاً، فهي ثلاث «(4)».

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه، و لا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط و إسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تشارك المنصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كلّ مسكرٍ أخذاً بروح القانون، و هو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجودة في المنصوص و غير المنصوص، و إنّما كان عمله من نوع ثالث و هو الاجتهاد تجاه النصّ و نبذ الدليل الشرعي، و السير وراء رأيه و فكره و تشخيصه، و قد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة إذ إنّه: لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض


1- البيهقي، السنن 7: 339؛ الدر المنثور 1: 279. و التتابع: الإكثار من الشر.
2- عمدة القاري 9: 537، و قال: إسناده صحيح.
3- كنز العمال 9: 676/ 27943 و 27944.
4- كنز العمال 9: 676/ 27943 و 27944.

ص:225

الوجوه حتّى يُبرِّر حكمه و يصحّحه و يخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النصّ، بل يكونصادراً عن دليل شرعي، و من تلك الوجوه:

1- نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص:

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فإن قلت: ما وجه هذا النسخ و عمر رضى الله عنه لا ينسخ، و كيف يكون النسخ بعد النبيّصلى الله عليه و آله؟ قلت: لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار،صار إجماعاً، و النسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النسخ به، و الإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فإن قلت: هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقهم.

قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ و لم ينقل إلينا «(1)».

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الإجماع على قول واحد، و قد عرفت الأقوال فيصدر المسألة. و لأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الإجماع البتة و يقول: «و قد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظٍ واحدٍ واحدة، و لم ينقض هذا الإجماع بخلافه، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا» «(2)».

و ثانياً: إنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم، و لو كان هناك نصّ عند الخليفة؛ لكان التبرير به هو المتعيّن.


1- عمدة القاري 9: 537.
2- تيسير الوصول 3: 162.

ص:226

و في الختام نقول: أين ما ذكرهصاحب العمدة ممّا ذكره الشيخصالح بن محمد العمري (المتوفّى 1298 ه) حيث قال: إنّ المعروف عند الصحابة و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، و عند سائر العلماء المسلمين: أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب اللَّه تعالى أو سنّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وجب نقضه و منع نفوذه، و لا يعارض نصّ الكتاب و السنّة بالاحتمالات العقليّة و الخيالات النفسيّة، و العصبيّة الشيطانية بأن يقال: لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ و تركه لعلّة ظهرت له، أو أنّه اطّلع على دليل آخر، و نحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين، و أطبق عليه جهلة المقلّدين «(1)».

2- تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود اللَّه:

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس، إلّا عقابهم من جنس عملهم، و تعزيرهم على ما تعدّوا حدود اللَّه، فاستشار أُولي الرأي، و أُولي الأمر و قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم و قال: أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة، و أنّه من تعجّل أناة اللَّه ألزمناه إيّاه «(2)».

لم أجد نصّاً فيما فحصت في مشاورة عمر أُولي الرأي و الأمر، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله: «لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة...» «(3)» و هو يخبر عن عزمه و همّه و لا يستشيره، و لو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين و الأنصار


1- إيقاظ همم أُولي الأبصار: ص 9.
2- أحمد بن حنبل، المسند 1: 314/ ح 2877، و قد مرّ تخريج الحديث أيضاً. لاحظ نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر: 79.
3- كنز العمال 9: 676/ 27943.

ص:227

القاطنين في المدينة و على رأسهم عليّ بن أبي طالب، و قد كان يستشيره في مواقف خطيرة و يقتفي رأيه.

و لا يكون استعجال الناس، مبرّراً لمخالفة الكتاب و السنّة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة و منعة، و كيف تصحّ مؤاخذتهم بما أسماه رسول اللَّه لعباً بكتاب اللَّه «(1)».

يقول ابن قيم: إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب و السنّة و القياس و الإجماع القديم، و لم يأت بعده إجماع يبطله، و لكن رأى أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق و كثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، و حرمت عليه، حتّى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة؛ يراد للدوام، لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرِّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، و رأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ و عهد الصدّيق، وصدراً من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنّهم لم يتابعوا فيه و كانوا يتّقون اللَّه في الطلاق، و قد جعل اللَّه لكلّ من اتّقاه مخرجاً، فلمّا تركوا تقوى اللَّه و تلاعبوا بكتاب اللَّه و طلّقوا على غير ما شرّعه اللَّه ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ اللَّه شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة، و لم يشرّعه كلّه مرّة واحدة «(2)».

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غيرصحيح؛ إذ لو كانت المصالح المؤقتة مبرّرة لتغيّر الحكم، فما معنى «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة» و لوصحّ ما ذكره لتسرّب التغيّر إلى أركان الشريعة، فيصبح الإسلام أُلعوبة بيد الساسة؛ فيأتي سائس فيحرِّم الصوم على


1- الدر المنثور 1: 283.
2- اعلام الموقعين 3: 36.

ص:228

العمّال لتقوية القوّة العاملة في المعامل.

و في الختام فقد تنبّه بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق، و لأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعيّة، و خالفت مذهب الحنفية بعد استقلالها و تحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية.

و للأسف فإنّ كثيراً من مفتي أهل السنّة على تنفيذ هذا النوع من الطلاق، و لأجل ذلك يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: «ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة و المفتين عن مذاهبهم؛ فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث و غيرها و لا يبالي بها؛ لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللَّه و سنّة رسوله» «(1)».

اللّهمّ إنّا نسألك التوفيق لإحياء السُّنَن، و إماتة البِدَع، و العمل بكتابك و سنّة نبيّك سيد رُسُلك، و أفضل خليقتك.

و نسألك الابتعاد عن أهل الزِّيَغ و البدع، و مكافحة الرأي المخترَع، و التمسّك بحبلك المتين، و نبذ ما أُلصِق بدينك القويم.

وصلّى اللَّه على رسول اللَّه و على عترته الطاهرين وصحبه المنتجبين و السائرين على دربهم إلى يوم الدين.


1- تفسير المنار 2: 386- 387، ط الثالثة 1376 ه.

ص:229

الفصل الثالث: الزيارة في الكتاب و السنّة

اشارة

ص:230

ص:231

تمهيد: الإسلام دين الفطرة

اشارة

عند ما نقول إنّ الإسلام دين الفطرة فهذا لا يعني أنّ كل حكم جزئيّ منه يوافقها، بل يعني أنّ الأُصول الكلّية في مجالي العقائد و الشريعة، تنسجم مع الفطرة و توحي إليها بشكل واضح، و لذلك كانت تعاليم الأنبياء، و في مقدَّمتهم الشريعة الإسلامية، تثير مكنون الفطرة، لذا فهم قبل أن يكونوا معلِّمين كانوا مذكِّرين بما أودع اللَّه سبحانه في فطرة الإنسان من ميول نحوَ العبودية للَّه سبحانه، و الانشداد إلى ما وراء الطبيعة، و الجنوح إلى العدل و مكارم الأخلاق، و النفور عن الظلم و مساوئ العادات. فكأنَّ الفطرة أوّلُ مدرسة يتعلّم فيها الإنسان أُصولَ المعارف و مكارمَ الأخلاق و آدابها، من دون معلِّم، و هذا لطف و امتنان منه سبحانه لعباده و يعدّ الحجرَ الأساس لسائر الهدايات الإلهية الواصلة إليهم عن طريق أنبيائه و رسله.

و إلى ذلك يشير قوله سبحانه: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» «(1)» فإنّ المراد من الدين في الآية مجموع العقيدة و الشريعة، كما فسّره به


1- الروم: 30.

ص:232

مشاهير المفسّرين، و كلمة «فِطْرَتَ اللَّهِ» الّتي نصبت على الاختصاص تفسير للدين، فالدين- بتمام معنى الكلمة- يوافق فطرة الإنسان، بالمعنى الّذي عرفت، أي أنّ أُصوله و كلّياته تنسجم مع الفطرة و ليست الآية وحيدة في بابها، بل لها نظائر في الذكر الحكيم تؤكّد مضمونها، و تثبت بوضوح كون معرفة المحاسن و المساوئ و الفجور و التقوى و الميل إلى الفضائل، و الانزجار عن الرذائل أمراً فطرياً إلى حدّ يقول سبحانه: «وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها» «(1)» و في آية أُخرى: «أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ* وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» «(2)».

فالإنسان الطبيعي الّذي لم يتأثّر بالمناهج البشرية، يدرك المحاسن و المساوئ، و الفجور و التقوى و الخير و الشرّ، كرامة من اللَّه سبحانه إليه.

و من روائع الكلم ما روي عن الإمام عليّ عليه السلام حول تحديد دعوة الأنبياء و أنّ دورهم في مجال التربية تذكيرهم بمقتضيات الفطرة، يقول عليه السلام:

«فبعثَ اللَّه فيهم رُسُلَه، و واتَرَ إليهم أنبياءه؛ لِيستَأدوهم ميثاقَ فطرته، و يُذكِّروهم منسيَّ نعمتِه، و يحتجّوا عليهم بالتبليغ، و يُثيروا لهم دفائنَ العقول» «(3)».

فالشرائع السماوية كأنّها تستنطِق الفطرة، و تُذكِّر بالنعمة المنسية بفعل الأهواء و الدعايات الباطلة، و قد أُمر حملتها بإثارة ما دفن في فطرة الإنسان من جواهر المعقولات في مجالي العقيدة و الشريعة.

و على ذلك فالشريعة- وفقَ الفطرة- مصباح ينير الدرب لكلّ ساع في طلب الحقّ. و كلّ فكرة أو ميل، توحي إليهما الفطرة فهو آية كونه حقّاً، و كلّ فكرة أو


1- الشمس: 7- 8.
2- البلد: 8- 10.
3- نهج البلاغة: الخطبة 1.

ص:233

جنوح، يناقض الفطرة و ترفضهما فهو آية كونه باطلًا. و لأجل ذلك تخلّينا عن الرهبانية و التعزّب و وأْد البنات؛ لأنّها تخالف مقتضى الفطرة.

إنّ البحث في كون الشريعة الإلهية شريعة فطرية، يتطلّب مجالًا واسعاً لما يترتّب على البحث من نتائج مشرقة تعين على حلّ مشاكل أثارها خصوم الإسلام في مجال خاتمية الشريعة الإسلامية، حيث إنّهم يرفضون كون الدين ديناً خاتماً، بزعمهم أنّ الحياة الإنسانية حياة متغيّرة و متحوّلة فكيف يمكن تدبير المجتمع المتغيّر، بقوانين ثابتة جامدة؟

و لكنّهم لعدم معرفتهم بحقيقة الشريعة الإسلامية، غفلوا عن أمر هامّ، و هو أنّ المتغيّر في الحياة الإنسانية هو القشر، لا اللبّ، و إلّا فالإنسان بما له من غرائز و ميول عُلوية و سفلية لم و لن يتغيّر، و بهذه الميزة و الخصوصية هو محكوم بالقوانين الثابتة.

فالإنسان القديم كان يُحبُّ العدلَ و ينفر من الظلم و يميل إلى الزواج و الحياة الاجتماعية و هكذا الإنسان في العصر الحاضر، إذن فالقانون في حقّهما سواء و إن تغيّرت أجواء الحياة و قشورها و لباسها و ظواهرها.

الصلة بين الأحياء و الأموات

إنّ زيارة الإنسان لقبر حبيبه و من كانت له بهصلة روحية أو مادّية، هي ممّا تشتاق إليه النفوس السليمة؛ فكلّ من يعيش تحت السماء باسم الإنسان السويّ اذا فارقَ أحبّته و أقرباءه، لا يقطع علاقته بمن شغف قلبه حبّاً، بل هو على حبّه باق، و يريد أن يُجسِّد محبَّته و شوقه بصور مختلفة، فهو تارةً يأوي إلى آثار حبيبه و رسوم داره و أطلاله، فيحتفظ بألبسته و أثاثه و قلمه و خطوطه، و لا

ص:234

يكتفي بذلك بل يحاول أن يزور قبره و تربته حيناً بعد حين. كلّ ذلك بباعث ذاتي منصميم خلقته، فلا يصحّ لدين أُسُّه الفطرة أن يخالفه أو يمنعه من وصل أحبّائه و تعاهدهم.

لكن للإسلام أن يحدّدها و يذكر آدابها و يمنع عن بعض الأُمور غير الدخيلة فيصميمها، لكن ليس في وسعه- بما أنّه منادٍ لدين الفطرة- أن يقوم بقطع العلائق مع الأحبّة بتاتاً.

و على ضوء ذلك ترى أنّ السنّة حثّت على زيارة القبور و ذكرت آثارها البنّاءة، و لو منعت في فترة خاصّة- لوصحّ المنع- فإنّما هو لمانع عن تطبيق الحكم و تنفيذه كما سيظهر لك.

هذا هو أصل الزيارة، و قضاء الفطرة على وفقه. مضافاً إلى ذلك فلها آثار تربويّة و هي ما يلي:

الآثار التربوية لزيارة القبور

الآثار التربوية لزيارة القبور

إنّ زيارة القبور تنطوي على آثار تربوية و أخلاقية، و ذلك لأنّ مشاهدة المقابر التي تضمُّ في طياتها مجموعة كبيرة من الذين عاشوا في هذه الحياة الدنيا، و كانوا بمكان عال من القدرة و السلطة، ثمّ انتقلوا إلى الآخرة، تؤدّي إلى الحدّ من روحِ الطمع، و الحرص على الدنيا، و ربّما تُغيّر سلوك الإنسان لما يرى أنّ المنزل الأخير لحياته إنّما هو بيت ضيّق و مظلم باق فيه إلى ما شاء اللَّه، فعند ذلك ربما يترك المظالم و المنكرات و يتوجّه إلى القيم و الأخلاق.

و إلى هذا الجانب من الأثر التربوي يشير النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و يقول:

«كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنّها ترقُّ القلوب، و تدمعُ

ص:235

العين و تذكِّر الآخرة، و لا تقولوا هجراً» «(1)».

و في لفظ آخر: «كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروا القبور؛ فإنّها تزهّد في الدنيا» «(2)». و في لفظ ثالث: «و تُذكّر الآخرة» «(3)».

و عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى الله عليه و آله زار قبر أُمّه و لم يستغفر لها، قال: «أُمرتُ بالزيارة و نُهيت عن الاستغفار، فزوروا القبور؛ فإنّها تذكّر الموت» «(4)».

و عنهصلى الله عليه و آله أنّه قال: «زوروا القبور؛ فإنّها تذكّركم الآخرة» «(5)».

و يظهر من بعض الروايات أنّ النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله نهى يوماً عن زيارة القبور ثمّ رخّصها، و كان النهي و الترخيص من اللَّه سبحانه.

و لعلّ النهي كان بملاك أنّ أكثر الأموات يومذاك كانوا من المشركين، فنهى النبيّصلى الله عليه و آله عن زيارتهم، و لمّا كثر المؤمنون بينهم رخّص بإذن اللَّه.

و لعلّ هناك ملاكاً آخر للنهي و هو أنّ زيارة القبور تُذكّر بالموتى و القتلى، و تورث الجبن عن الجهاد، و إذ قوي الإسلام رخّص في الزيارة «(6)».

و عن أُمّ سلمة عنهصلى الله عليه و آله: «نَهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنّ لكم فيها عِبرة» «7».


1- كنز العمال: ج 15، ح 42555 و 42998.
2- كنز العمال 15: ح 42552.
3- ابن ماجة، السنن 1: 501/ 1571.
4- مسلم، الصحيح 2: 671/ 108؛ أحمد بن حنبل، المسند 1: 444؛ ابن ماجة، السنن 1: 676؛ أبو داود، السنن 2: 72؛ البيهقي، السنن 4: 76؛ النسائي، السنن 4: 90؛ الحاكم، المستدرك 1: 376.
5- ابن ماجة، السنن 1: 500/ 1569.
6- منهج الرشاد: ص 144.

ص:236

الآثار الاجتماعية لزيارة أكابر الدين

الآثار الاجتماعية لزيارة أكابر الدين

قد تعرّفت على الآثار التربوية لزيارة قبور المسلمين، و هنا آثار تختصّ بزيارة أكابر المسلمين و رؤسائهم، و في طليعتهم زيارة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله و هي: أنّ في زيارتهم نوعاً من الشكر و التقدير على تضحياتهم، و إعلاماً للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الَّذين يسلكون طريقَ الحقّ و الهدى و الدفاع عن المبدأ و العقيدة.

و لأجل هذا الأثر الممتاز لزيارةصُلحاء الأُمّة، نجد أنّ الأُمم الحيّة تتسابق على زيارة مدفن رؤسائهم و شخصيّاتهم، الّذين ضحّوا بأنفسهم و أموالهم في سبيل إحياء الشعب و استقلاله من أيدي المستعمرين و الظالمين، و يقيمون الذكريات المئوية لإحياء معالمهم، و يعدّونه تعظيماً و تكريماً لأهدافهم.

و هذا هو العالم بغربه و شرقه، فيه قبور و أضرحة لشخصيّاته و عظمائه وصلحائه من غير فرق بين دينيّ و دنيويّ؛ لأنّ الإنسان يرى زيارتهم تكريماً لهم، و تأدية لحقوقهم، و وفاءً لعهدهم، فكلّ ما يقوم به فهو بوحي الفطرة و دعوتها إلى ذلك.

إنّ القبور الّتي تحظى باهتمام و احترام المؤمنين باللَّه في العالم- و خاصّة المسلمين- هي في الغالب قبور حملة الرسالات الإصلاحيّين الذين أدّوا مهمّتهم على الوجه المطلوب.

و هؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

1- الأنبياء و القادة الدينيّون الّذين حملوا على عاتقهم رسالة السماء و ضحَّوا- من أجلها- بالنفس و المال و الأحباب، و تحمّلوا أنواع المتاعب و المصاعب من أجل هداية الناس.

ص:237

2- العلماء و المفكّرون الّذين كانوا كالشّمعة تُحرقُ نفسها لتضي ء للآخرين، و قد عاش هؤلاء حياة الزهد و الحرمان، و قدّموا للعالم، البحوثَ القيّمة و التحقيقات الرائعة في مجالات العلم و الفكر و الطبيعة و مفاهيم السماء و علوم الكون و المخلوقات و غير ذلك.

3- المجاهدون الثائرون الّذين ضاقوا ذرعاً بما يعيشه المجتمع من الظلم و سحق الحقوق و التمييز العنصري أو القومي، فثاروا ضدّ الظلم و الطغيان و طالبوا بحفظ كرامة الإنسان و أداء حقوقه، و أقامواصرح العدالة بدمائهم الغالية.

إنّ أيّة ثورة أو تغيير اجتماعي لا يُقدَّر له النجاحُ إلّا بدفع الثمن، و إنّ ثمن الثورة التي تستهدف تدمير قصور الظالمين، و خنق أنفاسهم هو الدماء الزكية التي يُضحّي بها المقاتلون الأبطال لإعادة الحقّ و الحرّية إلى الوطن الإسلامي.

و لذا فإنّ الناس يزورون قبور هؤلاء و يذرفون عندها الدموع، و يتذكّرون بطولاتهم و تضحياتهم، و يُسعدون أرواحهم بتلاوة آيات من القرآن الحكيم هديّة إليهم، و ينشدون قصائد في مدحهم و ثنائهم و تقدير مواقفهم المشرّفة.

إنّ زيارة مراقد هذه الشخصيات هي نوع من الشكر و التقدير على تضحياتهم، و إعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الّذين يسلكون طريقَ الحقّ و الهدى و الفضيلة و الدفاع عن المبدأ و العقيدة.

إنّ جزاءهم هو خلود الذكر الحسن و الثناء الجميل، بالرغم من مرور الزمان على وفاتهم، و تعريفُ الناس بتلك الشخصيات الراقية و بمعتقداتهم الّتي ضحّوا من أجلها، و احترام مراقدهم و تجنّب كلّ ما يمسّ بكرامتها؛ لأنّ احترام قبورهم احترام لرسالاتهم و عقائدهم، كما أنّ أيّ نوع من الإهانة و التحقير تجاه مراقدهم هو في الحقيقة إهانة لرسالاتهم و تحقير لشخصيّتهم.

ثمّ إنّ لبعض أهل المعرفة تحليلًا علمياً رائعاً في زيارة النبي الأكرم نذكره

ص:238

بنصّه قال:

اعلم أنّ النفوس القوية القدسية، لا سيّما نفوس الأنبياء و الأئمة عليهم السلام، إذا نفضوا أبدانهم الشريفة و تجرّدوا عنها، وصعدوا إلى عالم التجرّد، و كانوا في غاية الإحاطة و الاستيلاء على هذا العالم يكون العالم عندهم ظاهراً منكشفاً، فكلّ من يحضر مقابرهم لزيارتهم يطّلعون عليه، لا سيّما و مقابرهم مشاهدُ أرواحهم المقدّسة العليّة، و محالّ حضور أشباحهم البرزخيّة النورية؛ فإنّهم هناك يشهدون «بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» «(1)»، و بما آتاهم اللَّه من فضله فرحون، فلهم تمامُ العلم و الاطّلاع بزائري قبورهم، و حاضري مراقدهم و ما يصدر عنهم من السؤال و التوسّل و الاستشفاع و التضرّع، فتهبّ عليهم نسماتُ ألطافهم، و تفيض عليهم من رشحات أنوارهم، و يشفعون إلى اللَّه في قضاء حوائجهم، و إنجاح مقاصدهم، و غفران ذنوبهم و كشف كروبهم.

فهذا هو السرّ في تأكّد استحباب زيارة النبيّ و الأئمة عليهم السلام مع ما فيه منصلة لهم، و برّهم و إجابتهم، و إدخال السرور عليهم، و تجدّد عهد ولايتهم، و إحياء أمرهم، و إعلاء كلمتهم، و تبكيت أعدائهم. و كلّ واحد من هذه الأُمور ممّا لا يخفى عظيمُ أجرِهِ و جزيل ثوابه.

و كيف لا تكون زيارتُهم أقربَ القربات، و أشرفَ الطاعات، و أنّ في زيارة المؤمن- من جهة كونه مؤمناً فحسب- عظيم الأجر و جزيل الثواب، و قد ورد به الحثّ و التوكيد و الترغيب الشديد من الشريعة الطاهرة، و لذلك كثر تردّد الأحياء إلى قبور أمواتهم للزيارة، و تعارف ذلك بينهم، حتّىصارت لهم سنّة طبيعية.

و أيضاً قد ثبت و تقرّر جلالة قدر المؤمن عند اللَّه، و ثوابُصلته و برّه و إدخال السرور عليه، و إذا كان الحال في المؤمن من حيث إنّه مؤمن، فما ظنّك بمن


1- آل عمران: 169.

ص:239

عصمه اللَّه من الخطأ، و طهّره من الرجس، و بعثه اللَّه إلى الخلائق أجمعين، و جعله حجّة على العالمين، و ارتضاه إماماً للمؤمنين، و قدوة للمسلمين، و لأجله خلق السماوات و الأرضين، و جعلهصراطه و سبيلَه، و عينه و دليله، و بابه الّذي يُؤتى منه، و نورَه الّذي يستضاء به، و أمينَه على بلاده، و حبله المتّصل بينه و بين عباده، من رسل و أنبياء و أئمة و أولياء «(1)».

و في الختام نقول: ليس الهدف من هذا التقديم تصويبَ بعض ما يقع عند الزيارة من محرّمات الأفعال؛ فإنّها أُمور جانبيّة لا تمتّ لأصل الزيارة بصلة، و الّذي ندّعيه- و عليه يشهد عمل العقلاء في العالم ديّنهم و غيره- أنّ للإنسان علاقة بمن كان يعشقه و يحبّه، فلا يقطع علاقته به بموته بل يحتفظ بها بشكل خاص بعد الفراق أيضاً، و هذا شي ء يلمسه الإنسان منصميم ذاته، و ليس لشريعة سماوية بما أنّها تجاوب الفطرة تمنعه من ذلك، بل لها أن تعدله و تحدّده و تعزل عنه ما ليس منه.

و ها نحن نعالج الموضوع بالبحث في الأُمور التالية:

1- زيارة القبور في الكتاب و السنّة النبوية.

2- أعلام الأُمّة و زيارة النبي الأكرم.

3- زيارة النبيّصلى الله عليه و آله في الكتاب.

4- زيارة النبيصلى الله عليه و آله في السنّة.

5- شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبيّ الأعظم.

6- شبهات و تشكيكات حول زيارة النبيّ الأكرم.

7- خاتمة: تذكرة و إنذار.


1- جامع السعادات 3: 398 و 399.

ص:240

المبحث الأوّل زيارة القبور في الكتاب و السنّة

اشارة

قد عرفت أنّ زيارة الإنسان لمن له بهصلة روحية أو مادّية، ممّا تشتاق إليه النفوس السليمة، بل هي من وحي الفطرة، و لأجل ذلك نرى أنّ الكتابَ و السنّة يدعمان أصلَ الزيارة بوجه خاص.

زيارة القبور في القرآن الكريم

أمّا الكتاب فقوله سبحانه: «وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ» «(1)».

إنّ الآية تسعى لهدم شخصية المنافق، و رفع العصا في وجوه حزبه و نظرائه.

و النهي عن هذين الأمرين بالنسبة إلى المنافق، معناه و مفهومه مطلوبية هذين الأمرين (الصلاة و القيام على القبر) بالنسبة لغيره أي للمؤمن.

و الآن يجب أن ننظر في قوله تعالى: «وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» ما معناه؟


1- التوبة: 84.

ص:241

هل المعنى هو القيام وقت الدفن فقط، حيث لا يجوز ذلك للمنافق، و يستحب للمؤمن، أو المعنى أعمّ من وقت الدفن و غيره؟

إنّ بعض المفسّرين و إن خصّوا القيامَ نفياً و إثباتاً بوقت الدفن، لكن البعض الآخر فسّروه في كلا المجالين بالأعمّ من وقت الدفن و غيره.

قال السيوطي في تفسيره: و لا تَقم على قبره لدفن أو زيارة «(1)».

و قال الآلوسي البغدادي: و يفهم من كلام بعضهم أنّ «على» بمعنى «عند» و المراد: لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة «(2)».

و قال الشيخ إسماعيل حقّي البروسوي: «وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» أي و لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة و الدعاء «(3)».

إلى غير ذلك من المفسّرين، و قد سبقهم البيضاوي في تفسيره «(4)».

و الحقّ مع من أخذ بإطلاق الآية و إليك توضيحه:

إنّ الآية؛ تتألّف من جملتين:

الأُولى: قوله تعالى: «وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ».

إنّ لفظة «أحد» بحكم ورودها في سياق النفي تفيد العموم و الاستغراق لجميع الأفراد، و لفظة «أبداً» تفيد الاستغراق الزمني، فيكون معناها: لا تصلّ على أحد من المنافقين في أيّ وقت كان.

فمع الانتباه إلى هذين اللَّفظين نعرف- بوضوح- أنّ المراد من النهي عن الصلاة على الميّت المنافق ليس خصوص الصلاة على الميت عند الدفن فقط؛ لأنّها ليست قابلة للتكرار في أزمنة متعدّدة، و لو أُريد ذلك لم تكن هناك حاجة إلى لفظة


1- تفسير الجلالين: سورة التوبة في تفسيره الآية.
2- روح المعاني 10: 155.
3- روح البيان 3: 378.
4- أنوار التنزيل 1: 416، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.

ص:242

«أبداً»، بل المراد من الصلاة في الآية مطلق الدعاء و الترحّم سواء أ كان عند الدفن أم غيره.

فإن قال قائل: إنّ لفظة «أبداً» تأكيد للاستغراق الأفرادي لا الزماني.

فالجواب بوجهين:

1- أنّ لفظة «أحد» أفادت الاستغراق و الشمول لجميع المنافقين بوضوح؛ فلا حاجة للتأكيد.

2- أنّ لفظة «أبداً» تستعمل في اللّغة العربية للاستغراق الزماني، كما في قوله تعالى: «وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً» «(1)».

فالنتيجة أنّ المقصود هو النهي عن الترحّم على المنافق و عن الاستغفار له، سواء أ كان بالصلاة عليه عند الدفن أم بغيرها.

الثانية: «وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ».

إنّ مفهوم هذه الجملة- مع الانتباه إلى أنّها معطوفة على الجملة السابقة- هو:

«لا تَقُم على قبر أحدٍ منهم مات أبداً» لأنّ كلّ ما ثبت للمعطوف عليه من القيد- أعني «أبداً»- يثبت للمعطوف أيضاً، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأنّ المقصود من القيام على القبر هو وقت الدفن فقط؛ لأنّ المفروض عدم إمكان تكرار القيام على القبر وقت الدفن، كما كان بالنسبة للصلاة، و لفظة «أبداً» المقدّرة في هذه الجملة الثانية تفيد إمكانية تكرار هذا العمل، فهذا يدلّ على أنّ القيام على القبر لا يختصّ بوقت الدفن.

و إن قال قائل: إنّ لفظة «أبداً» المقدّرة في الجملة الثانية معناها الاستغراق الأفرادي.

قلنا: قد سبق الجواب عليه، و أنّ لفظة «أحد» للاستغراق الأفرادي، لا لفظة


1- الأحزاب: 53.

ص:243

«أبداً» فهي للاستغراق الزماني.

فيكون معنى الآية الكريمة: أنّ اللَّه تعالى ينهى نبيّهصلى الله عليه و آله عن مطلق الاستغفار و الترحّم على المنافق، سواء كان بالصلاة أو مطلق الدعاء، و ينهى عن مطلق القيام على القبر، سواء كان عند الدفن أو بعده. و مفهوم ذلك هو أنّ هذين الأمرين يجوزان للمؤمن.

و بهذا يثبت جواز زيارة قبر المؤمن و جواز قراءة القرآن على روحه، حتّى بعد مئات السنين.

هذا بالنسبة إلى المرحلة الأُولى و هي أصل الزيارة من وجهة نظر القرآن، و أمّا بالنسبة إليها من ناحية الأحاديث فإليك بيانها:

زيارة القبور في السنّة النبوية

إنّ النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله جسّد بعمله مشروعية زيارة القبور- مضافاً إلى أنّه أمر بها كما مرّ- و علّم كيفيتها، و كيف يتكلّم الإنسان مع الموتى، فقد ورد في غير واحد من المصادر، أنّهصلى الله عليه و آله زار البقيع، و إليك النصوص:

1- روى مسلم عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كلّما كان ليلتها من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين و أتاكم ما توعدون، غداً مؤجَّلون و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد» «(1)».

2- و عن عائشة في حديث طويل أنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال لها: «أتاني جبرئيل فقال:

إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قالت: قلت: كيف أقول لهم يا


1- مسلم، الصحيح 3: 63، باب ما يقال عند دخول القبور و الدعاء لأهلها من كتاب الجنائز.

ص:244

رسول اللَّه؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمين، و رحم اللَّه المستقدمين منّا و المستأخرين و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون» «(1)».

3- و روى ابن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يُعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول:- في رواية أبي بكر- «السلام على أهل الديار» و في رواية زهير: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين و المسلمين، و إنّا إن شاء اللَّه لَلاحقون، أسأل اللَّه لنا و لكم العافية» «(2)».

4- عن ابن بريدة، عن أبيه: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» «(3)».

5- و رويت في كنز العمال الروايات التالية: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون. و وددتُ أنّا قد أُرينا إخواننا قالوا: أ و لسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، و إخواننا الذين لم يأتوا بعد. إلخ» «(4)».

6- «السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين و المسلمين، يغفر اللَّه لنا و لكم، أنتم سلفنا و نحن بالأثر» «(5)».

7- «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، و إنا و إياكم متواعدون غداً و متواكلون، و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» «(6)».

8- «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط، و إنّا بكم لاحقون،


1- مسلم، الصحيح 3: 64، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز؛ النسائي، السنن 4: 91.
2- مسلم، الصحيح 3: 65، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز.
3- مسلم، الصحيح 7: 46، الترمذي، السنن 3: 370 ح 1054؛ النسائي، السنن 4: 89.
4- مسلم، الصحيح، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة و التحصيل في الوضوء/ ح 249.
5- كنز العمال 15: 247- 248/ ح 42561.
6- كنز العمال 15: 247- 248/ ح 42562.

ص:245

اللّهمّ لا تحرمنا أجرهم و لا تفتنّا بعدهم» «(1)».

9- «إنّي نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها لتذكِّركم زيارتها خيراً» «(2)».

10- «نهيتكم عن ثلاث و أنا آمركم بهنّ؛ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنّ في زيارتها تذكرة» «(3)». إلى غير ذلك من الآثار النبوية الحاثّة على زيارة القبور، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كنز العمال.


1- كنز العمال 15: 247- 248/ ح 42563.
2- كنز العمال 15: 247- 248/ ح 42564.
3- كنز العمال 15: 247- 248/ ح 42565.

ص:246

أعلام الأُمّة و زيارة قبر النبي الأكرمصلى الله عليه و آله

المبحث الثاني أعلام الأُمّة و زيارة قبر النبي الأكرمصلى الله عليه و آله

اشارة

إذا كانت زيارة قبور المسلمين من السنن التي دعا إليها النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله و عمل بها بمرأى و مسمع من نسائه وصحابته، فزيارة قبر سيد ولد آدم و من أُنيطت إليه سعادة البشر أولى بها، لذا جرت سيرة المسلمين على زيارة قبره، وصرّح بها فقهاء الأُمّة، و تضافرت السنّة على استحبابها.

و لنقدّم بعض الكلمات من أكابر الأُمّة الّتي تعرب عن موقف المسلمين طيلة القرون تجاه المسألة، فقد قيّض سبحانه في كلّ عصر رجالًا يجاهرون بالحقّ، و ينفون غبار الباطل عن وجهه نذكر منهم شخصيتين كبيرتين من السنّة و الشيعة:

1- الإمام تقي الدين السبكي الشافعي المتوفّى سنة (756 ه) عليه سحائب الرحمة و الرضوان. فقد خصّ في كتابه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» باباً لنقل نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيّدنا رسول اللَّه، و قد بيّن أنّ الاستحباب أمر مجمع عليه بين المسلمين «(1)».


1- شفاء السقام: 65- 79 و نحن نغترف من هذا العين المعين، و نذكر كلمات المحقّقين من أهل السنة حول زيارة النبي صلى الله عليه و آله.

ص:247

2- العلّامة الكبير الأميني في الغدير 5: 109- 125، فقد استدرك عليه بما لم يقف عليه الإمام السبكي، و نقل كلمات أعلام المذاهب الأربعة بما يتجاوز الأربعين كلمة. شكر اللَّه مساعيهما.

و قد راجعنا أكثر المصادر الّتي نقلا عنها حسب ما حضرنا منها. و اكتفينا بالنقل عنهما في غيره، و أضفنا بعض ما فات عنهما. و لعلّ المعثور عليه من الكلمات أقلّ ممّا لم يُعثر عليه.

كلمات أعلام المذاهب حول الزيارة

1- قال أبو عبد اللَّه الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني الشافعي (ت 403 ه) بعد الحث على تعظيم النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله: فأمّا اليوم فمن تعظيمه زيارته «(1)».

2- قال أبو الحسن أحمد بن محمد المحاملي الشافعي (ت 425 ه): و يستحب للحاجّ إذا فرغ من مكّة أن يزور قبر النبيّصلى الله عليه و آله «(2)».

3- قال القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد اللَّه الطبري (ت 450 ه): و يستحب أن يزور النبيّصلى الله عليه و آله بعد أن يحجّ و يعتمر «(3)».

4- قال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي (ت 450 ه): فإذا عاد (وليّ الحاج) سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ليجمع لهم بين حج بيت اللَّه عزّ و جلّ و زيارة قبر رسول اللَّه؛ رعاية لحرمته و قياماً بحقوق طاعته، و ذلك و إن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبّة و عبادات


1- المنهاج في شعب الإيمان، كما في شفاء السقام: ص 65.
2- التجريد، كما في شفاء السقام: ص 65.
3- نقله عنه السبكي في شفاء السقام: ص 65.

ص:248

الجميع المستحسنة «(1)».

و قال أيضاً في كتابه الحاوي: أمّا زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله فمأمور بها و مندوب إليها «(2)».

5- حكى عبد الحقّ بن محمد الصقلي (ت 466 ه) عن الشيخ أبي عمران المالكي أنّ زيارة قبر النبي واجبة، قال عبد الحقّ: يعني من السنن الواجبة «(3)».

6- قال ابو إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي الفقيه الشافعي (ت 476 ه):

و يستحب زيارة قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله «(4)».

7- و ممّن بسط الكلام في زيارة النبي الأكرمصلى الله عليه و آله الإمام الغزالي في كتاب الحجّ من إحياء العلوم قال: الجملة العاشرة في زيارة المدينة و آدابها قالصلى الله عليه و آله: «من زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي». و قالصلى الله عليه و آله: «من وجد سعة و لم يَفِد إليَّ فقد جفاني» إلى أن قال: فمن قصد زيارة المدينة فليصلّ على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في طريقه كثيراً، فإذا وقع بصره على حيطان المدينة و أشجارها قال: اللّهمّ هذا حرم رسولك فاجعله لي وقاية من النار، و أماناً من العذاب و سوء الحساب، ثمّ ذكر آداب الزيارة وصيغتها، كما ذكر زيارة الشيخين و زيارة البقيع بمن فيها، كزيارة قبر عثمان و قبر الحسن بن علي، ثمّ قال: و يصلّي في مسجد فاطمة رضي اللَّه عنها، و يزور قبر إبراهيم ابن رسول اللَّه و قبرصفيّة عمّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فذلك كلّه بالبقيع، و يستحبّ له أن يأتي مسجد قباء في كلّ سبت و يصلّي فيه لما روي أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «من خرج من بيته حتّى يأتي مسجد قباء و يصلّي فيه كان له عدل عمرة» «(5)».


1- الأحكام السلطانية: ص 109، دار الفكر، بيروت.
2- الحاوي، كما في شفاء السقام: ص 65.
3- تهذيب الطالب، كما في شفاء السقام: ص 68.
4- المهذّب في فقه الإمام الشافعي 1: 233، دار الفكر، بيروت.
5- إحياء علوم الدين 1: 305 و 306.

ص:249

8- قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوداني الفقيه البغدادي الحنبلي (ت 510 ه): و إذا فرغ من الحجّ استحبّ له زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله و قبرصاحبيه «(1)».

9- قال القاضي عياض المالكي (ت 544 ه): و زيارة قبرهصلى الله عليه و آله سنّة مجمع عليها و فضيلة مرغّب فيها، ثمّ ذكر عدّة من أحاديث الباب فقال: قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: و ممّا لم يزل من شأن من حجّ المزور «(2)» بالمدينة و القصد إلى الصلاة في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و التبرّك برؤية روضته «(3)» و منبره و قبره و مجلسه و ملامس يديه و مواطن قدميه و العمود الّذي استند إليه و منزل جبرئيل بالوحي فيه عليه «(4)».

10- قال ابن هبيرة (ت 560 ه): اتّفق مالك و الشافعي و أبو حنيفة و أحمد بن حنبل- رحمهم اللَّه تعالى- على أنّ زيارة النبيصلى الله عليه و آله مستحبّة «(5)».

11- عقد الحافظ ابن الجوزي الحنبلي (ت 597 ه) في كتابه باباً في زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله و ذكر حديث ابن عمر و حديث أنس اللَّذين سنذكرهما «(6)».

12- قال أبو محمد عبد الكريم بن عطاء اللَّه المالكي (ت 612 ه): إذا كمل لك حجّك و عمرتك على الوجه المشروع لم يبق بعد ذلك إلّا إتيان مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله للسلام على النبيّصلى الله عليه و آله و الدعاء عنده، و السلام علىصاحبيه، و الوصول إلى البقيع و زيارة ما فيه من قبور الصحابة و التابعين، و الصلاة في مسجد الرسول، فلا ينبغي للقادر على ذلك تركه «(7)».


1- الهداية، كما في شفاء السقام: 66.
2- قيل بكسر الميم و سكون الزاء و فتح الواو: مصدر ميمي بمعنى الزيارة شرح الشفا للخفاجي 3: 515.
3- ففي الحديث الشريف:« ما بين قبري و منبري روضة من رياض الجنة» صحيح البخاري 2: 137 و ج 9: 188، مسلم 2: 2011.
4- الشفاء 2: 194- 197، ط دار الفيحاء، عمان.
5- المدخل 1: 256.
6- مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، كما في شفاء السقام: 67.
7- المناسك، كما في الغدير 5: 110.

ص:250

13- قال أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن إدريس السامريّ الحنبليّ (ت 616 ه): و إذا قدم مدينة الرسولصلى الله عليه و آله استحبّ له أن يغتسل لدخولها. ثمّ ذكر أدب الزيارة و كيفية السلام و الدعاء و الوداع «(1)».

14- قال الشيخ موفق الدين عبد اللَّه بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي (ت 620 ه): يستحب زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله، ثمّ ذكر حديثي ابن عمر و أبي هريرة من طريق الدار قطني و أحمد «(2)».

15- قال محيي الدين النووي الشافعي (ت 677 ه): و يُسنُّ شرب ماء زمزم و زيارة قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بعد فراغ الحجّ «(3)».

16- قال نجم الدين بن حمدان الحنبلي (ت 695 ه): و يسنّ لمن فرغ عن نسكه زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله و قبرصاحبيه رضي اللَّه عنهما، و له ذلك بعد فراغ حجّه و إن شاء قبل فراغه «(4)».

17- قال القاضي الحسين: إذا فرغ من الحجّ فالسنّة أن يقف بالملتزم و يدعو، ثمّ يشرب من ماء زمزم، ثمّ يأتي المدينة و يزور قبر النبيّصلى الله عليه و آله «(5)».

18- قال القاضي أبو العباس أحمد السروجي الحنفي (ت 710 ه): إذا انصرف الحاجّ و المعتمرون من مكّة فليتوجّهوا إلى طيبة مدينة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و زيارة قبره؛ فإنّها من أنجح المساعي «(6)».

19- قال الإمام القدوة ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني


1- المستوعب، كما في شفاء السقام: 67.
2- المغني 3: 788.
3- المنهاج، المطبوع بهامش شرحه المغني 1: 494 كما في الغدير 5: 111.
4- الرعاية الكبرى في الفروع الحنبلية، كما في شفاء السقام: ص 67.
5- نقله السبكي في شفاء السقام: ص 66.
6- الغاية، كما في شفاء السقام: ص 66.

ص:251

المالكي (ت 738 ه) بعد أن ذكر لزوم و كيفية زيارة الأنبياء و الرسل-صلوات اللَّه و سلامه عليهم أجمعين- و التوسّل بهم إلى اللَّه تعالى و طلب الحوائج منهم قال: و أمّا في زيارة سيد الأوّلين و الآخرينصلوات اللَّه عليه و سلامه فكلّ ما ذكر يزيد عليه أضعافه، أعني في الانكسار و الذلّ و المسكنة؛ لأنّه الشافع المشفّع الّذي لا تُردّ شفاعته، و لا يُخيّب من قصده، و لا من نزل بساحته، و لا من استعان أو استغاث به، إذ إنّه عليه الصلاة و السلام قطب دائرة الكمال و عروس المملكة- إلى أن قال-:

فمن توسّل به أو استغاث به أو طلب حوائجه منه، فلا يردّ و لا يخيب لما شهدت به المعاينة و الآثار، و يحتاج إلى الأدب الكلّي في زيارته عليه الصلاة و السلام، و قد قال علماؤنا رحمة اللَّه عليهم: إنّ الزائر يشعر بنفسه بأنّه واقف بين يديه عليه الصلاة و السلام كما هو في حياته «(1)».

20- و قال شمس الدين ابن قدامة الأندلسي: فإذا فرغ من الحجّ استحبّ زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله و قبرصاحبيه- رضي اللَّه عنهما- و استدلّ على ذلك بروايتي ابن عمر، و أبي هريرة «(2)».

21- قال أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي: إنّ ابن تيمية ذكر في مناسكه «باب زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله: إذا أشرف على مدينة النبيّصلى الله عليه و آله قبل الحجّ أو بعده، فليقل ما تقدّم، فإذا دخل استحب له أن يغتسل، نصّ عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى و قال: بسم اللَّه و الصلاة على رسول اللَّه، اللّهمّ اغفر لي ذنوبي، و افتح لي أبواب رحمتك، ثمّ يأتي الروضة بين القبر و المنبر فيصلّي بها و يدعو بما شاء، ثمّ يأتي قبر النبيّ فيستقبل جدار القبر و لا يمسّه و لا يقبّله، و يجعل القنديل الّذي في القبلة عند القبر على رأسه؛ ليكون قائماً وجاه


1- المدخل 1: 257.
2- الشرح الكبير على المقنع 3: 494.

ص:252

النبيّ، و يقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع و سكون منتكس الرأس، غاضّ الطرف، متحضّراً بقلبه جلالة موقفه ثمّ يقول:

السلام عليك يا رسول اللَّه و رحمة اللَّه و بركاته، السلام عليك يا نبيّ اللَّه و خيرته من خلقه، السلام عليك يا سيّد المرسلين، و خاتم النبيين، و قائد الغرّ المحجّلين، أشهد أنْ لا إله إلّا اللَّه و أشهد أنّك رسول اللَّه، أشهد أنّك قد بلّغت رسالات ربك، و نصحت لأُمتك، و دعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة و الموعظة الحسنة، و عبدت اللَّه حتّى أتاك اليقين، فجزاك اللَّه أفضل ما جزى نبياً و رسولًا عن أُمّته اللّهمّ آته الوسيلة و الفضيلة، و ابعثه مقاماً محموداً...» «(1)».

22- ألّف الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي (ت 756 ه) كتاباً حافلًا في زيارة النبيّ الأعظمصلى الله عليه و آله و أسماه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» ردّاً على ابن تيمية، و ممّا قال فيه: لا حاجة إلى تتبّع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم بإجماعهم و إجماع سائر العلماء عليه. و الحنفية قالوا: إنّ زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله من أفضل المندوبات و المستحبّات، بل تقرّب من درجة الواجبات، و ممّنصرّح بذلك منهم أبو منصور محمد بن مكرم الكرماني في مناسكه، و عبد اللَّه بن محمود بن بَلَدحي في شرح «المختار» و في فتاوى أبي الليث السمرقندي في باب أداء الحجّ «(2)».

ثمّ قال: و كيف يتخيّل في أحد من السلف نهيهم عن زيارة المصطفى صلى الله عليه و آله و هم مجمعون على زيارة سائر الموتى، فالنبيّصلى الله عليه و آله و سائر الأنبياء الّذين ورد فيهم أنّهم أحياء كيف يقال فيهم هذه المقالة «(3)» و حكى عن القاضي عياض و أبي زكريا


1- الصارم المنكي في الردّ على السبكي: ص 16- 17، الطبعة الأُولى 1992 مؤسسة الريان- بيروت. و لو صحّ ما نقله يحمل على تبدّل الاجتهاد و المعروف أنه نهى عن السفر للزيارة لا عن أصلها. و سيوافيك بعض شبهاته.
2- شفاء السقام: ص 66، طبع دار الجيل.
3- المصدر نفسه: ص 79.

ص:253

النووي إجماع العلماء و المسلمين على استحباب الزيارة «(1)».

و قال أيضاً: و إذا استحبّ زيارة قبر غيرهصلى الله عليه و آله فقبره أولى لما له من الحق و وجوب التعظيم «(2)». ثمّ إنّه استدلّ في الباب السادس على أنّ السفر إلى الزيارة قربة بالكتاب و السنّة و الإجماع- إلى أن قال-:

الرابع: الإجماع إطباق السلف و الخلف؛ فإنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحج يتوجّهون إلى زيارتهصلى الله عليه و آله، فمنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه و شاهده من قبلنا و حكاه العلماء عن الأعصار القديمة... و من ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على الخطأ فهو المخطئ «(3)».

23- قال زين الدين أبو بكر بن الحسين بن عمر القريشي العثماني المصري المراغي (ت 816 ه): و ينبغي لكلّ مسلم اعتقاد كون زيارتهصلى الله عليه و آله قربة عظيمة، للأحاديث الواردة في ذلك، و لقوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ» الآية، لأنّ تعظيمه لا ينقطع بموته «(4)».

24- قال السيد نور الدين السمهودي (ت 911 ه) بعد ذكر أحاديث الباب:

و أمّا الإجماع، فأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي بل قال بعض الظاهرية بوجوبها، و قد اختلفوا في النساء، و قد امتاز القبر الشريف بالأدلّة الخاصّة به. قال السبكي: و لهذا أقول: إنّه لا فرق في زيارته بين الرجال و النساء. و قال الجمال الريمي في «التفقيه»: يستثنى من محل الخلاف قبر النبيصلى الله عليه و آله وصاحبيه ثمّ قال: و قد ذكر ذلك بعض المتأخرين و هو الدمنهوري الكبير،


1- شفاء السقام: ص 83، طبع دار الجيل.
2- المصدر نفسه: ص 84.
3- المصدر نفسه: ص 100.
4- المواهب اللدنية للقسطلاني 4: 570- 574 المكتب الإسلامي، بيروت. و الآية من سورة النساء: 64.

ص:254

و أضاف إليه قبور الأولياء و الصالحين و الشهداء «(1)».

25- قال الحافظ أبو العباس القسطلاني المصري (ت 933 ه): اعلم أنّ زيارة قبره الشريف من أعظم القربات و أرجى الطاعات و السبيل إلى أعلى الدرجات، و من اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، و خالف اللَّه و رسوله و جماعة العلماء الأعلام، و قد أطلق بعض المالكية و هو أبو عمران الفاسي كما ذكره في «المدخل» عن «تهذيب الطالب» لعبد الحقّ: أنّها واجبة، قال: و لعلّه أراد وجوب السنن المؤكدة، و قال القاضي عياض: إنّها من سنن المسلمين مجمع عليها و فضيلة مرغّب فيها...

ثمّ قال: و قدصحّ أنّ عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبيّصلى الله عليه و آله فالسفر إليه قربة لعموم الأدلّة، و من نذر الزيارة وجبت عليه كما جزم به ابن كج من أصحابنا، إلى أن قال: و للشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شدّ الرحال للزيارة النبوية، و أنّه ليس من القُرب بل بضدّ ذلك، و ردّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في «شفاء السقام» فشفىصدور المؤمنين «(2)».

26- ذكر شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي (ت 925 ه) في باب ما يستحب لمن حج و قال: ثمّ يزور قبر النبيّصلى الله عليه و آله و يسلّم عليه و علىصاحبيه بالمدينة المشرّفة «(3)».

27- قال ابن حجر الهيثمي المكي الشافعي (ت 973 ه) بعد ما استدلّ على مشروعية زيارة قبر النبي بعدّة أدلة منها: الإجماع؛ فإن قلت: كيف تحكي الإجماع على مشروعية الزيارة و السفر إليها و طلبها و ابن تيمية من متأخّري الحنابلة منكر


1- وفاء الوفا، المجلد الثاني 4: 1362، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.
2- المواهب اللدنية 4: 570 المكتب الإسلامي، بيروت.
3- أسنى المطالب في شرح روض الطالب 1: 501.

ص:255

لمشروعية ذلك كلّه كما رآه السبكي في خطّه؟ و قد أطال ابن تيمية الاستدلال لذلك بما تمجّه الأسماع، و تنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً و أنّه لا تقصَّر فيه الصلاة، و أنّ جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة، و تبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه.

قلت: من هو ابن تيمية؟! حتّى ينظر إليه أو يقول في شي ء من مورد الدين عليه؟!! و هل هو إلّا كما قال جماعة من الأئمة- الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة و حججه الكاسدة حتّى أظهروا عوار سقطاته، و قبائح أوهامه، و غلطاته كالعزّ بن جماعة-: عبد أضلّه اللَّه تعالى و أغواه، و ألبسه رداء الخزي و أرداه، و بواه من قوّة الافتراء و الكذب ما أعقبه الهوان، و أوجب له الحرمان، و لقد تصدّى شيخ الإسلام و عالم الأنام المجمع على جلالته و اجتهاده وصلاحه و إمامته، التقيّ السبكي- قدس اللَّه روحه و نوّر ضريحه- للردّ عليه في تصنيف مستقل أفاد فيه و أجاد، و أصاب و أوضح بباهر حججه طريق الصواب ثمّ قال:

هذا ما وقع من ابن تيمية ممّا ذكر و إن كان عثرة لا تقال أبداً، و مصيبة يستمر شؤمها سرمداً، و ليس بعجب؛ فإنّه سوّلت له نفسه و هواه و شيطانه أنّه ضرب مع المجتهدين بسهمصائب، و ما درى المحروم أنّه أتى بأقبح المعايب؛ إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، و تدارك على أئمتهم لا سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة، شهيرة حتّى تجاوز إلى الجناب الأقدس، المنزّه سبحانه عن كلّ نقص، و المستحق لكل كمال أنفس، فنسب إليه الكبائر و العظائم، و خرق سياج عظمته بما أظهره للعامّة، على المنابر من دعوى الجهة و التجسيم، و تضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدّمين و المتأخّرين، حتّى قام عليه علماء عصره و ألزموا السلطان بقتله أو حبسه و قهره، فحبسه إلى أن مات، و خمدت تلك البدع، و زالت تلك الضلالات، ثمّ انتصر له أتباع لم يرفع اللَّه لهم رأساً، و لم يظهر لهم جاهاً، و لا بأساً، بل ضربت

ص:256

عليهم الذلّة و المسكنة و باءُوا بغضب من اللَّه بما عصوا و كانوا يعتدون «(1)».

و نقل حسن العدوي الحمزاوي عنه أيضاً ما هذه عبارته:

اعلم- وفّقني اللَّه و إياك لطاعته و فهم خصوصيات نبيّهصلى الله عليه و آله، و المسارعة إلى مرضاته-: أنّ زيارتهصلى الله عليه و آله مشروعة مطلوبة بالكتاب و السنّة و إجماع الأُمّة و بالقياس- إلى أن قال-: و أمّا الإجماع فقد حكاه الإمام السبكي قال: و لا عبرة بما تفرّد به ابن تيمية و تبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه «(2)».

28- قال الشيخ محمد الخطيب الشربيني (ت 977 ه): أمّا زيارتهصلى الله عليه و آله فمن أعظم القربات للرجال و النساء، و ألْحقَ الدمنهوري به قبور بقية الأنبياء و الصالحين و الشهداء و هو ظاهر «(3)».

و قال في موضع آخر بعد بيان مندوبية زيارة قبره الشريفصلى الله عليه و آله و ذكر جملة من أدلّتها: ليس المراد اختصاص أدب الزيارة بالحجّ؛ فإنّها مندوبة مطلقاً بعد حجّ أو عمرة أو قبلهما أو لا مع نسك، بل المراد تأكّد الزيارة فيها «(4)».

29- قال الشيخ عبد الرحمن شيخ زاده (ت 987 ه): من أحسن المندوبات، بل يقرب من درجة الواجبات زيارة قبر نبينا و سيدنا محمدصلى الله عليه و آله و قد حرّض عليه السلام على زيارته و بالغ في الندب إليها «(5)».

30- قال الشيخ زين الدين عبد الرءوف المناوي (ت 1031 ه): و زيارة قبرهصلى الله عليه و آله الشريف من كمالات الحج، بل زيارته عند الصوفية فرض، و عندهم


1- الجوهر المنظّم في زيارة القبر المكرّم: ص 22، طبع سنة 1279 بمصر.
2- كنز المطالب: ص 179 و 181، الطبعة الحجرية.
3- مغني المحتاج 1: 36، ط دار الفكر.
4- المصدر نفسه 1: 512.
5- مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1: 312، ط دار إحياء التراث العربي.

ص:257

الهجرة إلى قبره كهي إليه حيّاً «(1)».

و قال في موضع آخر: إنّ أثر الزيارة إمّا الموت على الإسلام مطلقاً لكلّ زائر، و إمّا شفاعة تخصّ الزائر أخصّ من العامّة، و قوله: شفاعتي في الإضافة إليه تشريف لها، إذ الملائكة و خواص البشر يشفعون؛ فللزائر نسبة خاصة فيشفع هو فيه بنفسه، و الشفاعة تعظّم بعظم الزائر «(2)».

31- قال الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي: زيارة النبيصلى الله عليه و آله من أفضل القربات و أحسن المستحبّات تقرب من درجة ما لزم من الواجبات، فإنّهصلى الله عليه و آله حرّض عليها و بالغ في الندب إليها. قالصلى الله عليه و آله: «من وجد سعة فلم يزرني فقد جفاني» و قالصلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي». و قالصلى الله عليه و آله: «من زارني بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي» إلى أن قال: و ممّا هو مقرر عند المحقّقين أنهصلى الله عليه و آله حيّ يُرزق ممتّع بجميع الملاذ و العبادات، غير أنّه حجب عن أبصار القاصرين عن شرف المقامات «(3)».

32- و قال قاضي القضاة شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري (ت 1069 ه):

و اعلم أنّ هذا الحديث (شدّ الرِّحال إلى المساجد) هو الّذي دعا ابن تيمية و من معه كابن قيّم إلى مقالته الشنيعة الّتي كفّروه بها، وصنّف فيها السبكي مصنّفاً مستقلًا، و هي منعه من زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله و هو كما قيل:

لمهبط الوحي حقّاً ترحل النجُبُ و عند ذاك المُرَجَّى ينتهي الطلبُ

فتوهم أنّه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها؛ فإنّها لا تصدر عن


1- شرح الجامع الصغير 6: 160.
2- شرح الجامع الصغير 6: 93.
3- مراقي الفلاح في شرح متن نور الإيضاح: 292- 293، ط مكتبة و مطبعة محمد علي صبيح و أولاده، مصر.

ص:258

عاقل فضلًا عن فاضل سامحه اللَّه تعالى! «(1)» 33- قال الشيخ محمد بن علي بن محمد الحصني المعروف بعلاء الدين الحصكفي الحنفي المفتي بدمشق (ت 1088 ه): و زيارة قبرهصلى الله عليه و آله مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة «(2)».

34- قال أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي المصري (ت 1132 ه): قد كانت زيارته مشهورة في زمن كبار الصحابة معروفة بينهم، لمّاصالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به و قال: هل لك أن تسير معي إلى المدينة و تزور قبرهصلى الله عليه و آله و تتمتّع بزيارته؟

قال: نعم «(3)».

35- قال أبو الحسن السندي محمد بن عبد الهادي الحنفي (ت 1138 ه): قال الدميري: فائدة زيارة النبيّصلى الله عليه و آله من أفضل الطاعات و أعظم القربات لقولهصلى الله عليه و آله:

«من زار قبري وجبت له شفاعتي إلخ» «(4)».

36- قال محمد بن عبد الوهاب: تسنّ زيارة النبيصلى الله عليه و آله إلّا أنّه لا يشدّ الرحال إلّا لزيارة المسجد و الصلاة فيه «(5)».

37- قال الشيخ محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 ه): قد اختلفت فيها (في زيارة النبيصلى الله عليه و آله، أمّا أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أنّها مندوبة، و ذهب بعض المالكية و بعض الظاهرية إلى أنّها واجبة، و قالت الحنفية: إنّها قريبة من الواجبات، و ذهب ابن تيمية الحنبلي حفيد المصنّف المعروف بشيخ الإسلام إلى أنّها


1- شرح الشفاء 3: 566، طبع المطبعة العثمانية، سنة 1315.
2- الدر المختار في شرح تنوير الأبصار، آخر كتاب الحج: 190، مطبعة الفتح الكريم، سنة 1302 ه.
3- شرح المواهب 8: 299، الطبعة الأُولى بالمطبعة الأزهرية المصرية، سنة 1302 ه.
4- شرح سنن ابن ماجة 2: 268، كما في الغدير 5: 120.
5- الهدية السنية، الرسالة الثانية.

ص:259

غير مشروعة. ثمّ فصل الكلام في الأقوال، إلى أن قال و في آخر كلامه: احتجّ أيضاً من قال بالمشروعية بأنّه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحجّ في جميع الأزمان على تباين الديار و اختلاف المذاهب، الوصول إلى المدينة المشرّفة لقصد زيارته، و يعدّون ذلك من أفضل الأعمال، و لم ينقل أن أحداً أنكر ذلك عليهم فكان إجماعاً «(1)».

38- قال الشيخ محمد أمين بن عابدين (ت 1253 ه): زيارة النبيصلى الله عليه و آله مندوبة بإجماع المسلمين إلى أن قال: و هل تستحب زيارة قبرهصلى الله عليه و آله للنساء؟

الصحيح نعم بلا كراهة، بشروطها على ماصرّح به بعض العلماء، و أمّا على الأصح من مذهبنا و هو قول الكرخي و غيره من أنّ الرخصة في زيارة القبور ثابتة للرجال و النساء جميعاً فلا إشكال، و أمّا على غيره فذلك نقول بالاستحباب لإطلاق الأصحاب «(2)».

39- قال الشيخ محمد بن السيد درويش الحوت البيروني (ت 1276 ه):

زيارة النبيصلى الله عليه و آله مطلوبة؛ لأنّه واسطة الخلق، و زيارته بعد وفاته كالهجرة إليه في حياته، و من أنكرها؛ فإن كان ذلك إنكاراً لها من أصلها فخطؤه عظيم، و إن كان لما يعرض من الجهلة ممّا لا ينبغي فليبيّن ذلك «(3)».

40- قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي (ت 1277 ه): و تسنّ زيارة قبرهصلى الله عليه و آله و لو لغير حاجّ و معتمر كالّذي قبله، و يسنّ لمن قصد المدينة الشريفة لزيارتهصلى الله عليه و آله أن يكثر من الصلاة و السلام عليه في طريقه، و يزيد في ذلك إذا رأى حرم المدينة و أشجارها، و يسأل اللَّه أن ينفعه بهذه الزيارة و يتقبّلها منه. ثمّ ذكر


1- نيل الأوطار 4: 324.
2- رد المحتار على الدر المختار 5: 278.
3- التعليق على« حسن الأثر»: 246 كما في الغدير 5: 121.

ص:260

جملة كثيرة من آداب الزيارة و ألفاظها «(1)».

41- قال الشيخ حسن العدوي الحمزاوي الشافعي (ت 1303 ه)، بعد نقل جملة من الأحاديث الواردة في أنّ النبيّصلى الله عليه و آله يسمع سلام زائريه و يردّ عليهم:

إذا علمت ذلك علمت أنّ ردّهصلى الله عليه و آله سلام الزائر عليه بنفسه الكريمةصلى الله عليه و آله أمر واقع لا شكّ فيه، و إنّما الخلاف في ردّه على المسلِّم عليه من غير الزائرين. فهذه فضيلة عظيمة ينالها الزائرون لقبرهصلى الله عليه و آله فيجمع اللَّه لهم بين سماع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لأصواتهم من غير واسطة و بين ردّه عليهم سلامهم بنفسه، فأنّى لمن سمع بهذين بل بأحدهما أن يتأخّر عن زيارتهصلى الله عليه و آله أو يتوانى عن المبادرة إلى المثول في حضرتهصلى الله عليه و آله؟ تاللَّه ما يتأخّر عن ذلك مع القدرة عليه إلّا من حقّ عليه البعد من الخيرات، و الطرد عن مواسم أعظم القربات، أعاذنا اللَّه تعالى من ذلك بمنّه و كرمه آمين.

و علم من تلك الأحاديث أيضاً أنّهصلى الله عليه و آله حيّ على الدوام؛ إذ من المحال العادي أن يخلو الوجود كلّه من واحد يسلّم عليه في ليل أو نهار، فنحن نؤمن و نصدق بأنّهصلى الله عليه و آله حيّ يرزق، و أنّ جسده الشريف لا تأكله الأرض، و كذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، و الإجماع على هذا «(2)».

42- قال السيد محمد بن عبد اللَّه الجرداني الدمياطي الشافعي (ت 1357 ه):

زيارة قبرهصلى الله عليه و آله من أعظم الطاعات و أفضل القربات حتى أنّ بعضهم جرى على أنّها واجبة فينبغي أن يحرّض عليها، و ليحذر كلّ الحذر من التخلّف عنها مع القدرة و خصوصاً بعد حجّة الإسلام؛ لأنّ حقّهصلى الله عليه و آله على أُمّته عظيم، و لو أنّ أحدهم يجي ء على رأسه أو بصره من أبعد موضع من الأرض لزيارتهصلى الله عليه و آله لم يقم بالحقّ الّذي عليه لنبيّه جزاه اللَّه عن المسلمين أتمّ الجزاء.


1- حاشية على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي شجاع في الفقه الشافعي 1: 347 كما في الغدير 5: 122.
2- كنز المطالب: 195، الطبعة الحجرية.

ص:261

و يسنّ لمن قصد المدينة الشريفة (إلخ) ثمّ فصّل القول في آداب الزيارة و ذكر التسليم على الشيخين و زيارة السيدة فاطمة و أهل البقيع و المزارات المشهورة؛ و هي نحو ثلاثين موضعاً كما قال و ما أحسن ما قيل:

هنيئاً لمن زار خير الورى و حطّ عن النفسِ أوزارها

فإنّ السعادة مضمونةٌ لمن حلّ طيبة أو زارها «(1)»

43- قال الشيخ عبد الباسط بن الشيخ علي الفاخوري مفتي بيروت:

الفصل الثاني عشر: في زيارة النبيصلى الله عليه و آله: و هي متأكّدة مطلوبة و مستحبّة محبوبة، و تسنّ زيارته في المدينة كزيارته حيّاً و هو في حجرته حيّ يردّ على من سلّم عليه السلام، و هي من أنجح المساعي و أهمّ القربات و أفضل الأعمال و أزكى العبادات، و قد قالصلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي». و معنى «وجبت» ثبت بالوعد الصادق الّذي لا بدّ من وقوعه و حصوله، و تحصل الزيارة في أيّ وقت و كونها بعد تمام الحج أحبّ، يجب على من أراد الزيارة التوبة من كل شي ء يخالف طريقه و سنتهصلى الله عليه و آله إلى أن قال: و يستحب التبرّك بالاسطوانات الّتي لها فضل، و شرف؛ و هي ثمان: أُسطوانة محلّصلاتهصلى الله عليه و آله، و أُسطوانة عائشة (رض) و تسمى أُسطوانة القرعة، و أُسطوانة التوبة محلّ اعتكافهصلى الله عليه و آله، و أُسطوانة السرير، و أُسطوانة عليّ رضى الله عنه و أُسطوانة الوفود، و أُسطوانة جبرئيل عليه السلام، و أُسطوانة التهجّد «(2)».

44- قال الشيخ عبد المعطي السقّا في زيارة النبيّصلى الله عليه و آله:

إذا أراد الحاجّ أو المعتمر الانصراف من مكّة- أدام اللَّه تشريفها و تعظيمها- طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنوّرة للفوز بزيارته عليه الصلاة و السلام؛ فإنّها


1- مصباح الظلام 2: 145، كما في الغدير 5: 123
2- الكفاية لذوي العناية: ص 125، كما في الغدير 5: 123.

ص:262

من أعظم القربات و أفضل الطاعات و أنجح المساعي المشكورة، و لا يختصّ طلب الزيارة بالحاجّ غير أنّها في حقّه آكد، و الأولى تقديم الزيارة على الحجّ إذا اتّسع الوقت فإنّه ربما يعوقه عنه عائق... «(1)».

45- قال الشيخ محمد زاهد الكوثري:

و الأحاديث في زيارتهصلى الله عليه و آله في الغاية من الكثرة، و قد جمع طرقها الحافظصلاح الدين العلائي في جزء، و على العمل بموجبها استمرت الأُمة إلى أن شذّ ابن تيمية عن جماعة المسلمين في ذلك، قال علي القاري في شرح «الشفاء»: و قد أفرط ابن تيمية من الحنابلة؛ حيث حرّم السفر لزيارة النبيّصلى الله عليه و آله كما أفرط غيره حيث قال:

كون الزيارة قربة معلوم من الدين بالضرورة، و جاحده محكوم عليه بالكفر، و لعلّ الثاني أقرب إلى الصواب؛ لأنّ تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفراً؛ لأنّه فوق تحريم المباح المتّفق عليه «(2)».

46- قال فقهاء المذاهب الأربعة المصريّون في (الفقه على المذاهب الأربعة):

زيارة قبر النبيصلى الله عليه و آله أفضل المندوبات، و قد ورد فيها أحاديث. ثمّ ذكروا أحاديث ستّة، و جملة من أدب السرائر و زيارة النبيّصلى الله عليه و آله و أُخرى للشيخين «(3)».

47- قال الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز إجابة عن الأسئلة حول زيارة المسجد النبوي: الزيارة للمسجد النبوي سنّة و ليست واجبة- إلى أن قال-: و إذا زار المسجد النبويّ شرع له أن يصلّي في الروضة ركعتين، ثمّ يسلّم على النبيّصلى الله عليه و آله و علىصاحبيه أبي بكر و عمر (رضي اللَّه عنهما)، كما يشرع له زيارة البقيع و الشهداء بالسلام على المدفونين هناك من الصحابة و غيرهم، و الدعاء لهم


1- الإرشادات السنية: ص 260، كما في الغدير 5: 123.
2- تكملة السيف الصقيل: ص 156، ط دمشق.
3- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 590.

ص:263

و الترحّم عليهم، كما كان النبيّصلى الله عليه و آله يزورهم و كان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين و المسلمين، و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، نسأل اللَّه لنا و لكم العافية. و في رواية عنهصلى الله عليه و آله أنّه كان يقول إذا زار البقيع: «يرحم اللَّه المستقدمين منّا و المستأخرين، اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» و يشرع أيضاً لمن زار المسجد النبويّ أن يزور مسجد قباء و يصلّي فيه ركعتين؛ لأنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان يزوره كلّ سبت، و يصلّي فيه ركعتين إلى آخر ما قال «(1)».

«وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَصِدْقاً وَ عَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «(2)»


1- جريدة الجزيرة المؤرخة: يوم الجمعة 24 ذو القعدة 1411، العدد 6826.
2- الأنعام: 15.

ص:264

المبحث الثالث زيارة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في الكتاب و السنّة

زيارة النبيّ الأكرم في القرآن الكريم

أمر القرآن الكريم المسلمين بالحضور عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ليستغفر لهم اللَّه؛ لأنّ دعاءه يستجاب فيهم، قال عزّ و جلّ: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» «(1)».

قال الإمام السبكي: «دلّت الآية على الحث على المجي ء إلى الرسولصلى الله عليه و آله و الاستغفار عنده و استغفاره لهم، و ذلك و إن كان ورد في حال الحياة؛ فهي رتبة له لا تنقطع بموته تعظيماً له» «(2)».

ثمّ إنّه بسط الكلام في دلالة الآية على شمولية المجي ء إلى الرسولصلى الله عليه و آله بعد موته، فمن أراد فليرجع إليه، غير أنّا نستدلّ بالآية بوجه آخر و نقول:

لو كانت هذه الآية هي الوحيدة في هذا المجال، لذهبنا إلى القول بأنّها خاصّة


1- النساء: 64.
2- شفاء السقام: ص 81.

ص:265

بحياة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و مدة وجوده بين الناس، و لكنّنا نستخلص منها حكماً عامّاً شاملًا لا يختص بالحياة الدنيوية و ذلك من خلال ما يلي:

أوّلًا: أنّ القرآن الكريم يصرّح بحياة الأنبياء و الأولياء- و جماعات أُخرى- في البرزخ، و يعتبرهم مبصرين و سامعين في ذلك العالم.

ثانياً: أنّ الأحاديث الشريفة تصرّح بأنّ الملائكة تبلّغ خاتمَ الأنبياءصلى الله عليه و آله سلامَ من يسلّم عليه، فقد جاء في الصحاح: «ما من أحد يسلّم عليَّ إلّا ردّ اللَّه عليَّ روحي حتّى أردَّ عليه السلام» «(1)».

و قالصلى الله عليه و آله: «صلّوا عليّ؛ فإنّصلاتكم تبلغني حيثما كنتم» «(2)».

ثالثاً: إنّ المسلمين- منذ ذلك اليوم- فهموا من هذه الآية معنى مطلقاً لا ينتهي بموت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حتّى أنّ بعض الأعراب- بوحي من أذهانهم الخالصة من كلّ شائبة- كانوا يقصدون قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و يزورونه و يتلون هذه الآية عند قبره المطهّر و يطلبون منه الاستغفار لهم.

و قد ذكر تقيّ الدين السبكي في كتاب «شفاء السقام» و السمهودي في كتاب «وفاء الوفا» نماذج من زيارة المسلمين لقبر رسول اللَّه، و تلاوة هذه الآية عند قبره الشريف، و فيما يلي نذكر بعض تلك النماذج:

روى سفيان بن عنبر عن العتبي- و كلاهما من مشايخ الشافعي و أساتذته- أنّه قال: كنت جالساً عند قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فجاء أعرابيّ فقال:

«السلام عليك يا رسول اللَّه، سمعت اللَّه يقول: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» «(3)» و قد


1- سنن أبي داود 1: 470 و 471، كتاب الحج، باب زيارة القبور.
2- التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول 2: 189.
3- النساء: 64.

ص:266

جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربّي». ثمّ بكى و أنشأ يقول:

يا خيرَ من دُفنت بالقاع أعظمُهُ فطاب من طيبهنّ القاعُ و الأكمُ

نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُهُ فيه العَفافُ و فيه الجودُ و الكرمُ

ثمّ استغفر و انصرف «(1)».

و يروي أبو سعيد السمعاني عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّ أعرابياً جاء بعد ثلاثة أيام من دفن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فرمى بنفسه على القبر الشريف و حثا من ترابه على رأسه و قال: يا رسول اللَّه قلتَ فسمعنا قولك، و وعيت عن اللَّه ما وعينا عنك، و كان فيما أنزله عليك: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ...» و قد ظلمت نفسي و جئتك تستغفر لي إلى ربّي «(2)».

إنّ كل هذا يدلّ على أنّ المنزلة الرفيعة الّتي منحها اللَّه تعالى لحبيبه المصطفىصلى الله عليه و آله كماصرّحت بها هذه الآية ليست خاصّة بحياته، بل تؤكّد على أنّها ثابتة له بعد وفاته أيضاً.

و بصورة عامّة... يَعتبر المسلمون كلّ الآيات النازلة في تعظيم رسول اللَّه و احترامه، عامّة لحياته و بعد مماته، و ليس هناك من يُخصِّصها بحياتهصلى الله عليه و آله.

و قد جاء في التاريخ: لمّا استُشهد الإمام الحسن بن عليّ عليهما السلام و جي ء بجثمانه الطاهر إلى مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ظنّ بنو أُمية أنّ بني هاشم يريدون دفن الإمام بجوار قبر جدّه المصطفى، فأثاروا الفتنة و الضجّة للحيلولة دون ذلك، فتلا الإمام الحسين عليه السلام قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَصَوْتِ النَّبِيِّ» «(3)».


1- وفاء الوفا 4: 1361؛ الدرر السنيّة: ص 75 ط. دار جوامع الكلم.
2- ابن حجر، الجوهر المنظم، و ذكره السمهودي في وفاء الوفا 2: 612، و زيني دحلان في الدرر السنية: 21.
3- الحجرات: 2.

ص:267

و لم يردَّ عليه أحد- حتّى من الأُمويين- بأنّ هذه الآية خاصّة بحياة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

و اليوم نصب المسلمون هذه الآية على الجدار المقابل لقبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، و هم يقصدون بذلك المنع من رفع الأصوات هناك.

و من هذا المنطلق يمكننا أن نستنتج من الآية معنىً واسعاً عامّاً، و هو أنّ للمسلمين اليوم أن يَقِفوا أمام قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و يسألوه أن يستغفر اللَّهَ لهم. و ليس لزيارة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله معنى سوى ما تضمّنته هذه الآية و أمثالها؛ فإنّها تدلّ على موضوعين هما:

1- إنّ للإنسان أن يقف عند قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بعد وفاته و يسأله أن يستغفر اللَّه له.

2- إنّ هذه الآية تشهد على جواز زيارة قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لأنّ حقيقة الزيارة لا تعني سوى «حضور الزائر عند المزور» فإذا كان الوقوف عند قبر النبيّ و سؤاله أن يستغفر اللَّه له جائزاً فقد تحقّق أمران:

أ- سألناه أن يستغفر اللَّه لنا.

ب- حضرنا عنده و تحدّثنا إليه، و الزيارة ليست إلّا هذا.

ص:268

زيارة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله في السنّة النبوية

تضافرت السنّة على استحباب زيارة قبر النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله حيث رواها أئمة المذاهب الأربعة و أصحاب السنن و المسانيد في كتبهم. و لمّا ظهرت بدعة التشكيك في زيارة النبيّ الأكرم قام الإمام تقي الدين السبكي (ت 756 ه) بجمع ما رواه الحفّاظ في هذا المجال، فبلغت خمسة عشر حديثاً، و قدصحّح كثيراً من أسانيدها بما كان له من اطّلاع واسع في مجال رجال الحديث «(1)».

و ممّن قام بنفس العمل الحافظ نور الدين علي بن أحمد السمهودي (ت 911 ه) في كتابه «وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى» حيث أحصى سبعة عشر حديثاً غير ما ورد في ذلك المجال، و لم يشتمل على لفظ «الزيارة» «(2)».

و قد قام بنفس ما قام به الإمام السبكي من تصحيحٍ للاسناد و ذِكر لمصادر الروايات على وجه بديع.

من جهة أُخرى قام الكاتب الإسلامي الشيخ محمد الفقي، من علماء الأزهر الشريف، بجمع ما ورد في زيارة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله من غير تحقيق للاسناد بل مجرد النقل فبلغ اثنين و عشرين حديثاً «(3)».

و بذل المجاهد الكبير الشيخ الأميني جهداً كبيراً في العثور على مظانّ الروايات في كتب الحديث و التفسير و التاريخ، و ربما نقل بعض الأحاديث، كالحديث الأوّل، عن واحد و أربعين مصدراً.

و الأحاديث التي سنسردها علىصفحات هذه الرسالة بلغت من الكثرة ما


1- شفاء السقام في زيارة خير الأنام، الباب الأول: ص 5- 39 و في طبعة أُخرى: ص 65- 115.
2- وفاء الوفا 4: 1336- 1348، الباب الثاني.
3- التوسل و الزيارة في الشريعة الإسلامية: 48- 50.

ص:269

يغنينا عن التحقيق في أسانيدها و رواتها؛ حيث سجّلها الحفّاظ في كتبهم وصحاحهم، و هي بمجموعها كافية للحكم باستحبابها، و لأجل ذلك سنكتفي بذكر متون الأحاديث مجرّدة عن الأسناد و ما دار حول رواتها من كلام للرجاليين، تاركين كلّ ذلك إلى كتاب شفاء السقام للإمام السبكي، و سنذكر بعض المصادر لكلّ حديث دون الاستيعاب لجميعها.

الحديث الأوّل: روى الدارقطني في سننه بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» «(1)».

و رواه البيهقي أيضاً في سننه «(2)»، و أبو الحسن الماوردي: في الأحكام السلطانية «(3)».

إلى غير ذلك من الحفّاظ الّذين نقلوه في كتبهم «(4)».

الحديث الثاني: روى الطبراني في المعجم الكبير «(5)»، و الغزالي في إحياء العلوم «(6)»، عن عبد اللَّه بن عمر مرفوعاً عن النبيصلى الله عليه و آله: «من جاءني زائراً لا تَحمِلُه حاجة إلّا زيارتي كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

الحديث الثالث: أخرج الدارقطني عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي، فكأنّما زارني في حياتي» «(7)».


1- الدار قطني، السنن 2: 278، باب المواقيت، الحديث 194، ط دار المحاسن، القاهرة.
2- البيهقي، السنن 5: 245.
3- الأحكام السلطانية: ص 105.
4- أخرجه العلّامة الأميني عن واحد و أربعين مصدراً حديثياً و فقهياً، انظر: الغدير 5: 93- 96.
5- المعجم الكبير.
6- إحياء العلوم 1: 306، و فيه« لا يهمّه إلّا زيارتي» مكان قوله:« لا تحمله»؛ و قد نقله الإمام السبكي، في شفاء السقام: ص 16؛ و السمهودي، في وفاء الوفا 4: 1340؛ و نقله العلّامة الأميني عن ستة عشر مصدراً حديثياً و فقهياً في الغدير 5: 97 و 98.
7- الدار قطني، السنن 2: 278، باب المواقيت، الحديث 192.

ص:270

و أخرجه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه «(1)» و رواه الإمام السبكي في شفاء السقام «(2)» و السمهودي في وفاء الوفا «(3)».

الحديث الرابع: أخرج الدار قطني عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني بعد موتي، فكأنّما زارني في حياتي، و من مات بأحد الحرمين بُعث من الآمنين يوم القيامة» «(4)».

الحديث الخامس: أخرج البيهقي في سننه قال:

روى ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زار قبري (أو من زارني) كنت له شفيعاً (أو شهيداً)» «(5)».

الحديث السادس: أخرج الحافظ ابن عدي (ت 365 ه) في كتابه الكامل عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من حجّ البيت و لم يزرني فقد جفاني» «(6)».

الحديث السابع: روي عن أنس بن مالك أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً و شهيداً» «(7)».


1- البيهقي، السنن 5: 246.
2- شفاء السقام: ص 21.
3- وفاء الوفا 4: 1340، و رواه العلّامة الأميني عن خمسة و عشرين مصدراً في الغدير 5: 98- 100.
4- الدار قطني، السنن 2: 278، باب المواقيت، الحديث 193- و رواه الإمام السبكي في شفاء السقام: ص 233، و السمهودي، في وفاء الوفا 4: 1344، و نقله العلّامة الأميني في الغدير 5: 101، عن ثلاثة عشر مصدراً حديثياً.
5- البيهقي، السنن الكبرى 5: 245، و رواه الإمام السبكي، في شفاء السقام: ص 29، و السمهودي في وفاء الوفا 4: 1342. و قال: أخرجه الدار قطني في السنن.
6- شفاء السقام: ص 27؛ و نقله السمهودي في وفاء الوفا 4: 1342 و قد ذكر اسناد ابن عدي إلى ابن عمر؛ و نقله العلّامة الأميني عن مصادر تسعة في الغدير 5: 100.
7- رواه الإمام السبكي في شفاء السقام بسنده إلى أنس بن مالك: ص 35، كما رواه السمهودي في وفاء الوفا عن ابن أبي الدنيا بسنده إلى أنس 4: 1345، و رواه العلامة الأميني عن واحد و عشرين مصدراً، الغدير 5: 102 و 103.

ص:271

الحديث الثامن: روى أنس بن مالك أنّه قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني ميتاً فكأنّما زارني حيّاً، و من زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، و ما من أحد من أُمّتي له سعة ثمّ لم يزرني، فليس له عذر» «(1)».

الحديث التاسع: روى علقمة، عن عبد اللّه بن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجّ حجّة الإسلام و زار قبري و غزا غزوة وصلّى عليَّ في بيت المقدس لم يسأله اللَّه عزّ و جلّ فيما افترض عليه» «(2)».

الحديث العاشر: أخرج الفردوس في مسنده عن ابن عبّاس أنّه قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من حجّ إلى مكّة ثمّ قصدني في مسجدي كُتِبَت له حجّتان مبرورتان» «(3)».

و اكتفينا بهذا العدد من الروايات و من أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى المصادر.

تجريد المتون عن الأسانيد

و بما أنّ الشيخ محمداً الفقي قد جمع متون الروايات بشكل موجز نذكر ما جمعه و إن مضى ذكر قسم منها، و يستحبّ زيارة قبر النبيّصلى الله عليه و آله لما روى الدار قطني باسناده عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي» و في رواية: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه


1- شفاء السقام: ص 37؛ و أخرجه السمهودي عن كتاب ابن النجّار في أخبار المدينة بسنده عن أنس 4: 1345؛ و نقله العلّامة الأميني عن مصادر ستة في الغدير 5: 104.
2- شفاء السقام: 303، عن كتاب الفوائد لأبي الفتح الأزدي؛ و أخرجه السمهودي، في وفاء الوفا 4: 1344؛ و العلامة الأميني في غديره 5: 102 عن مصادر خمسة.
3- وفاء الوفا 4: 1347؛ و رواه الشوكاني في نيل الأوطار 4: 326.

ص:272

باللفظ الأوّل سعيد، حدثنا حفص بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر.

و قال أحمد في رواية عبد اللَّه بن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة: إنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال:

«ما من أحد يسلّم عليَّ عند قبري إلّا ردّ اللَّهُ عليَّ روحي حتّى أردَّ عليه السلام» رواه أبو داود بدون زيادة «عند قبري».

فإقراره للزيارة و تقريره لها اعتراف بالغ الأهمية باستحبابها و روعة الترغيب فيها، و انتصار للحقّ و وقوف بجانبه، و لا يمكن أن يوصف ذلك الإمام بالتحيّز، و لا ينبغي أن يرمى بضعف التقدير، إذ إنّ إقراره ذلك يتّفق تماماً مع هدى الدين و الرسائل السماوية و الأحاديث النبوية المتعدّدة الطرق المختلفة الأسانيد، و الّتي ندعها وحدها تتكلّم عن مدى تقدير الزيارة و عظم اهتمام الشارع بها، و ما تتجلّى عنه من مزايا واسعة الآفاق كبيرة النوال:

1- عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه ابن خزيمة فيصحيحه.

2- و عن أنس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني في قبري حلّت له شفاعتي يوم القيامة» رواه ابن أبي الدنيا.

3- و عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زار قبري حلّت له شفاعتي يوم القيامة» رواه الدار قطني.

4- و عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي» رواه العقيلي.

5- و عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني بالمدينة بعد موتي كنت له شفيعاً يوم القيامة» رواه أبو داود الطيالسي.

6- و عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني و أنا حيّ» رواه الحافظ سعيد بن محمد.

ص:273

7- و عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً» رواه العقيلي.

8- و عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من جاءني زائراً لا تعلم له حاجة إلّا زيارتي كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً» رواه الدارقطني.

9- و عن بكر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من أتى المدينة زائراً إليَّ وجبت له شفاعتي يوم القيامة» رواه يحيى بن حسين.

10- و عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني كنت له شهيداً و شفيعاً يوم القيامة» رواه ابن مردويه.

11- و عن أنس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً و شفيعاً يوم القيامة» رواه أبو عوانة.

12- و عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي» رواه ابن عدي.

13- و عن أنس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه ابن النجّار.

14- و عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من جاءني زائراً لا تعمده حاجة إلّا زيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة» رواه الطبراني.

15- و عن ابن عباس عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من حجّ إلى مكّة ثمّ قصدني في مسجدي كُتِبَت له حجّتان مبرورتان» رواه الديلمي في مسند الفردوس.

16- و عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من جاءني زائراً لا يهمّه إلّا زيارتي كان حقّاً على اللَّه أن أكون له شفيعاً يوم القيامة» رواه الطبراني وصحّحه ابن السكن.

ص:274

17- و عن أنس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ما من أحد من أُمّتي له سعة ثمّ لم يزرني فليس له عذر» رواه ابن النجار.

18- و عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من وجد سعة و لم يفد إليّ فقد جفاني» رواه ابن حبّان.

19- و عن أنس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «لا عذر لمن كان له سعة من أُمّتي أن لا يزورني» رواه ابن عساكر.

20- و عن ابن عمر: «من حجّ و زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» رواه سعيد بن منصور.

21- و عن أنس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من حجّ و لم يزر قبري فقد جفاني» رواه ابن عساكر.

22- و عن ابن عمر: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من حج البيت و لم يزرني فقد جفاني» رواه ابن عديّ بسند حسن «(1)».

زيارة النبيّ الأكرم في حديث العترة

تضافر الحديث عن العترة الطاهرة حول زيارة قبر النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله نقتبس منه ما يلي:

1- روى الحميري (ت 299 ه) عن هارون، عن ابنصدقة عن الصادق عن أبيه الباقر عليهما السلام أنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال: «من زارني حيّاً و ميّتاً، كنت له شفيعاً يوم القيامة» «(2)».


1- التوسل و الزيارة في الشريعة الإسلامية: ص 48 و 49.
2- قرب الاسناد: 31، البحار 97: 139.

ص:275

2- روى الصدوق (306- 381 ه) بسنده عن الإمام عليّ (صلوات اللَّه عليه):

«أتمّوا برسول اللَّه حجّكم إذا خرجتم إلى بيت اللَّه؛ فإنّ تركه جفاء و بذلك أُمرتم، و أتمّوا بالقبور الّتي ألزمكم اللَّه زيارتها و حقّها» «(1)».

3- روى الصدوق بسنده عن الامام الرضا عليه السلام أنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال: «من زارني في حياتي و بعد موتي فقد زار اللَّه تعالى...» «(2)».

4- روى الصدوق عن إبراهيم بن أبي حجر الأسلمي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من أتى مكّة حاجّاً و لم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، و من جاءني زائراً وجبت له شفاعتي، و من وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة» «(3)».

5- روى ابن قولويه (ت 369 ه) عن أبي حجر الأسلمي قال: قال رسول اللَّه (و ذكر مثل ما سبق و زاد في آخره) «و من مات في أحد الحرمين- مكّة أو المدينة- لم يعرض إلى الحساب و مات مهاجراً إلى اللَّه و حشر يوم القيامة مع أصحاب بدر» «(4)».

6- روى الصدوق بسنده عن المعلى بن شهاب عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

قال الحسن بن عليّ عليه السلام لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يا أبتاه ما جزاء من زارك؟ فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يا بني: من زارني حيّاً أو ميّتاً أو زار أباك أو أخاك أو زارك كان حقّاً عليَّ أن أزوره يوم القيامة فأُخلِّصه من ذنوبه «(5)».

7- روى ابن قولويه بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:


1- الخصال 2: 406؛ البحار 97: 139.
2- عيون أخبار الرضا 1: 115؛ البحار 97: 140.
3- علل الشرائع: 460؛ البحار 97: 140.
4- كامل الزيارات: ص 460؛ البحار 97: 140.
5- علل الشرائع: ص 460؛ البحار 97: 140.

ص:276

«من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة» «(1)».

8- روى ابن قولويه عن ابن أبي نجران قال: قلت لأبي جعفر الثاني (الإمام الجواد عليه السلام): جعلت فداك، ما لمن زار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله متعمّداً؟ قال: «له الجنّة» «(2)».

9- روى ابن قولويه باسناده عن عبد اللَّه بن الحسن، عن أبيه، عن عليّ بن أبي طالب قال: «قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي و كنت له شهيداً أو شافعاً يوم القيامة» «(3)».

10- روى ابن قولويه بسنده عن علي بن الحسين عليه السلام قال: «قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إليَّ في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إليَّ بالسلام فإنّه يبلغني» «(4)».

نكتفي بهذا القدر من الروايات، و بهذا يتضح اتفاق الفريقين على استحباب زيارة قبر النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، و قد بلغ الاتفاق إلى حدّ نرى وحدة المضمون بل التعبير في رواياتهم، و هناك روايات أُخرى عن العترة الطاهرة لم نذكرها روماً للاختصار.

و من تجرّد عن الرأي المسبق أو التشكيك الذي أثاره بعض الناس، و نظر إلى كلمات أعلام المذاهب و روايات الفريقين يحصل له القطع و اليقين على أنّ استحباب زيارتهصلى الله عليه و آله من الأُمور الواضحة في الشريعة الإسلامية الغرّاء، و أنّ التشكيك فيها تشكيك في الأُمور المسلَّمة و المتَّفق عليها.


1- كامل الزيارات: ص 12؛ البحار 97: 142.
2- المصدر نفسه؛ البحار 97: 143.
3- المصدر نفسه: 13؛ البحار 97: 143.
4- المصدر نفسه: 14؛ البحار 97: 144.

ص:277

شدّ الرحال إلى زيارة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله

المبحث الرابع شدّ الرحال إلى زيارة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله

اشارة

إذا كانت زيارة النبيّ الأكرم أمراً مطلوباً و عملًا مستحبّاً كما دلّت عليه الروايات المتضافرة و السيرة القطعية، يكون شدّ الرحال الّذي هو بمنزلة المقدمة أمراً مستحبّاً، بناءً على الملازمة بين استحباب الشي ء و استحباب مقدّمته، كما عليه أكثر الأُصوليين، و هذا له نظائر في الشريعة الإسلامية تحكي أنّ وسيلة القربة، قربة قال سبحانه: «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» «(1)» فهذا الإنسان مأجور بخروجه هذا و إن كان مقدمة لأمر مطلوب آخر.

يقول سبحانه في حقّ المجاهدين: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌصالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةًصَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» «(2)».


1- النساء: 100.
2- التوبة: 120- 121.

ص:278

و هذه الأُمور الّتي كتب اللَّه لهم بها أجراً، وسيلة للجهاد، و مقدمة للقتال، و هذا يكشف عن التلازم بين الاستحبابين، أو الثوابين.

نعم، ذهب بعض الأُصوليين إلى عدم الملازمة، و لكنّهم متّفقون على لزوم كون المقدمة مباحة لا محرّمة؛ لاستلزامه التناقض في التشريع؛ حيث لا يعقل البعث إلى أمر، مع المنع عمّا يوصل المكلّف إليه، و على كلّ تقدير لا يصحّ تحريم السفر مع افتراض كون الزيارة أمراً راجحاً، و فعلًا مستحبّاً، فلا محيص عن القول باستحبابه، أو إباحته. و لا تجتمع حرمة المقدمة مع استحباب ذيها.

نعم، هنا فرق بين زيارة قبر النبيّ، و زيارة قبور المسلمين؛ فإنّ الأوّل مستحبّ بالخصوص، بخلاف الآخرين؛ فإنّها مسنونة على وجه العموم؛ فلو زار إنسان قبر أبيه أو أخيه، فإنّما يزورهما بما أنّ زيارتهما داخلة تحت عموم قولهصلى الله عليه و آله: «فزوروا القبور؛ فإنّ زيارتها تذكّركم الآخرة»، و هذا بخلاف زيارة الرسول، فإنّها- مضافاً إلى أنّها داخلة تحت العموم- مستحبّة في نفسها.

و قد جرت سيرة المسلمين من عصر الصحابة إلى يومنا هذا على شدِّ الرحال إلى زيارة النبيّ الأكرم و عدّوا زيارتها قربة، و السفر إليها مثلها، و لم ينكر أحد قربيّة الزيارة و لا جواز السفر إلّا ابن تيمية في أوائل القرن الثامن لشبهة طرأت له، و سنتعرض لها في فصل مستقل.

و لأجل إيقاف القارئ على اتصال السيرة إلى عصر الصحابة نذكر بعض ما يدلّ عليه:

1- روى ابن عساكر بإسناده عن أبي الدرداء قال: لمّا فرغ عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن فتح بيت المقدس فصار إلى الجابية سأله بلال أن يقرَّه بالشام ففعل ذلك- إلى أن قال-: ثمّ إنّ بلالًا رأى في منامه رسول اللَّه و هو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال، فانتبه حزيناً وجلًا خائفاً، فركب راحلته

ص:279

و قصد المدينة فأتى قبر النبيّصلى الله عليه و آله فجعل يبكي عنده و يمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسين (رضي اللَّه عنهما) فجعل يضُمّهما و يقبّلهما فقالا له: نشتهي أذانَك الّذي كنت تؤذِّن به لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله في المسجد ففعل، فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الّذي كان يقف فيه فلمّا أن قال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ارتجّت المدينة، فلمّا أن قال: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه، ازدادت رجّتها، فلمّا أن قال: أشهد أنّ محمداً رسول اللَّه، خرجت العواتق من خدورهنّ و قالوا: بُعِثَ رسول اللَّه. فما رئي يوم أكثر باكياً و لا باكية بالمدينة بعد رسول اللَّه من ذلك اليوم «(1)».

2- استفاض أنّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرئ النبيّ السلام ثمّ يرجع. قال ابن الجوزي: و كان عمر بن عبد العزيز يرد البريد من الشام يقول: سلّم لي على رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم «(2)».

و ربّما كان يجتمع مع قصد الزيارة قصد أمر آخر. فكان يُشَدّ لغايتين.

3- روى يزيد بن أبي سعيد، مولى المهري قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز فلمّا ودّعته قال: إليك حاجة إذا أتيت المدينة سترى قبر النبيّ فاقرئه منّي السلام «(3)».

4- روى أبو الليث السمرقندي الحنفي في الفتاوي في باب الحجّ: قال أبو القاسم: لمّا أردت الخروج إلى مكّة قال القاسم بن غسان: إنّ لي إليك حاجة، إذا أتيت قبر النبي فاقرئه منّي السلام، فلمّا وضعت رحلي في مسجد المدينة ذكرت.

قال الفقيه: فيه دليل إن لم يقدر على الخروج يأمر غيره ليسلّم عنه؛ فإنّه ينال


1- مختصر تاريخ دمشق 5: 265؛ تهذيب الكمال 4: 289.
2- مثير العَزْم الساكن إلى أشرف الأماكن 2: 297، تحقيق مرزوق علي إبراهيم ط. دار الراية- الرياض 1415 ه.
3- شفاء السقام: ص 56.

ص:280

فضيلة السلام «(1)».

5- روى الواقدي في فتوح الشام: كان أبو عبيدة منازلًا بيت المقدس، فأرسل كتاباً إلى عمر مع ميسرة بن مسروق رضى الله عنه يستدعيه الحضور، فلمّا قدم ميسرة مدينة رسول اللَّه دخلها ليلًا و دخل المسجد و سلّم على قبر رسول اللَّه و على قبر أبي بكر رضى الله عنه... ثمّ إنّ عمر لمّاصالح أهل بيت المقدس و قدم عليه كعب الأحبار و أسلم و فرح عمر بإسلامه قال عمر رضى الله عنه له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة و تزور قبر النبيّ و تتمتّع بزيارته، فقال لعمر: يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك، و لمّا قدم عمر المدينة، أول ما بدأ بالمسجد و سلّم على رسول اللَّه «(2)».

6- قال ابن بطّة العكبري الحنبلي (ت 387 ه) في كتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية: إنّ كل عالم من علماء المسلمين و فقيه من فقهائهم ألَّف كتاباً في المناسك ففصّله فصولًا و جعله أبواباً، يذكر في كلّ باب فقهه، و لكلّ فصل عمله و ما يحتاج إليه الحاج إلى عمله و العمل به قولًا و فعلًا من الإحرام و الطواف و السعي و الوقوف، و النحر، و الحلق، و الرمي، و جميع ما لا يسع الحاجّ جهله، و لا غنى بهم عن عمله، حتّى زيارة قبر النبي فيصف ذلك فيقول: تأتي القبر فتستقبله و تجعل القبلة وراء ظهرك و تقول: السلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللَّه و بركاته، حتى تصف السلام و الدعاء ثمّ يقول: و تتقدّم على يمينك و تقول: السلام عليك يا أبا بكر و عمر- إلى أن قال-: و لقد أدركنا الناس و رأيناهم و بلغنا عمّن لم نره أنّ الرجل إذا أراد الحجّ فسلّم عليه أهله وصحابته قالوا: و تقرأ على النبيّ و أبي بكر و عمر منّا السلام، فلا ينكر ذلك أحد و لا يخالفه «(3)».


1- شفاء السقام: ص 56.
2- فتوح الشام 1: 244، ط. دار الجيل، بيروت.
3- الإبانة عن شريعة الفرق الناجية، كما في شفاء السقام: ص 60.

ص:281

إطباق السلف و الخلف على جواز السفر إليه

جرت سيرة المسلمين على زيارة الرّسول- عند الوفود إلى الحج- بالمرور بالمدينة أو رجوعاً من مكة إليها، و هذا أمر ملموس و ظاهر مشهود من الوافدين من كل فجّ عميق، و على ذلك جرت السيرة في جميع القرون؛ فلا يمكن لأحد إنكارها، بل هي كاشفة عن استحبابها عند الشرع، و هذا هو الإمام السبكي يذكر سيرة المسلمين في أيام الحج و يقول: إنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجَّ يتوجّهون إلى زيارتهصلى الله عليه و آله و منهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه و شاهده من قبلنا، و حكاه العلماء عن الأعصار القديمة، و ذلك أمر لا يرتاب فيه، و كلّهم يقصدون ذلك و يعرجون إليه، و إن لم يكن في طريقهم، و يقطعون فيه مسافة بعيدة، و ينفقون فيه الأموال، و يبذلون فيه المهج، معتقدين أنّ ذلك قربة و طاعة. و إطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض و مغاربها على ممرّ السنين و فيهم العلماء و الصلحاء، و غيرهم يستحيل أن يكون خطأً، و كلهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى اللَّه عزّ و جلّ، و من تأخّر عنه من المسلمين فإنّما يتأخّر بعجز أو تعويق المقادير، مع تأسّفه و ودّه لو تيسّر له، و من ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ.

و من نازع في ذلك و قال فانّهم يقصدون من سفرهم زيارة المسجد، لا زيارة الرسول الأكرم، فلم ينصف و كابر في أمر بديهي؛ فإنّ الناس من حين يعرجون إلى طريق المدينة، لا يخطر ببالهم غير الزيارة من القربات إلّا قليلًا منهم، و غرضهم الأعظم هو الزيارة، و لو لم يكن ربّما لم يسافروا، و لهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه و ليس الصلاة فيه بأقل ثواباً من الصلاة في مسجد النبيّ «(1)».


1- شفاء السقام: ص 100 و 101.

ص:282

حديث عدم شدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة

لقد تجلّى جواز السفر إلى زيارة النبيّ الأكرم و لم يبق في المقام سوى ما رواه أبو هريرة عن رسول اللَّه من عدم شدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة، و هو المستمسك الوحيد اليوم لمن يحرّم السفر، و إليك توضيحه:

إنّ الرواية نقلت بصور مختلفة، و المناسب لما يرومه المستدلّ الصورة التالية:

«لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، و المسجد الحرام، و المسجد الأقصى».

فتحليل الحديث يتوقّف على تعيين المستثنى منه و هو لا يخلو منصورتين:

1- لا تُشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلّا إلى ثلاثة مساجد...

2- لا تُشدّ الرحال إلى مكان من الأمكنة إلّا إلى ثلاثة مساجد...

فلو كانت الأُولى كما هو الظاهر، كان معنى الحديث النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، و لا يعني عدم جواز شدِّ الرحال إلى أيّ مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً، فالحديث يكون غير متعرض لشدّ الرحال لزيارة الأنبياء و الأئمة الطاهرين و الصالحين؛ لأنّ موضوع الحديث إثباتاً و نفياً هو المساجد، و أمّا غير ذلك فليس داخلًا فيه، فالاستدلال به على تحريم شدّ الرحال إلى غير المساجد، باطل.

و أمّا الصورة الثانية: فلا يمكن الأخذ بها؛ إذ يلزمها كون جميع السفرات محرّمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة، و هذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء.

ثمّ إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً، و إنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا، و ذلك لأنّ المساجد

ص:283

الأُخرى لا تختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلّها متساوية في الفضيلة، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد و السفر إلى جامع بلد آخر مع أنّهما متماثلان.

و في هذا الصدد يقول الغزالي: «القسم الثاني، و هو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد... و يدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام و زيارة قبور الصحابة و التابعين و سائر العلماء و الأولياء، و كلّ من يُتبرَّك بمشاهدته في حياته يُتبرك بزيارته بعد وفاته، و يجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، و لا يمنع من هذا قولهصلى الله عليه و آله: «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، و المسجد الحرام، و المسجد الأقصى»، لأنّ ذلك في المساجد؛ فانّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، و إلّا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء و الأولياء و العلماء في أصل الفضل، و إن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللَّه «(1)».

يقول الدكتور عبد الملك السعدي: إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى لأجل أنّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب؛ لأنّها في الثواب سواء، بخلاف الثلاثة؛ لأنّ العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف، و في المسجد النبوي بألف، و في المسجد الأقصى بخمسمائة فزيادة الثواب تُحبِّب السفر إليها، و هي غير موجودة في بقية المساجد «(2)».

و الدليل على أنّ السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرّماً، ما رواه أصحاب الصحاح و السنن: «كان رسول اللَّه يأتي مسجد قبا راكباً و ماشياً فيصلّي فيه ركعتين» «(3)».


1- إحياء علوم الدين 2: 247، كتاب آداب السفر، ط دار المعرفة- بيروت.
2- البدعة: 60.
3- مسلم، الصحيح 4: 127؛ البخاري، الصحيح 2: 76؛ النسائي، السنن 2: 137، المطبوع مع شرح السيوطي.

ص:284

و لعلّ استمرار النبيّ على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قبا و الصلاة فيه مع كون الصلاة فيه أقلّ ثواباً من الثواب في مسجده.

دراسة كلمة ابن تيمية في النهي عن شدّ الرحال

إنّ لابن تيمية في المقام كلمة فيها مغالطة واضحة؛ إذ مع أنّه قدّر المستثنى منه لفظ المساجد، إلّا أنّه استدلّ على منع شدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء و الصالحين بمدلوله أي القياس الأولوي، فقال في الفتاوى:

«فإذا كان السفر إلى بيوت اللَّه غير الثلاثة ليس بمشروع باتّفاق الأئمة الأربعة، بل قد نهى عنه الرسولصلى الله عليه و آله فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الّذين تتّخذ قبورهم مساجد و أوثاناً و أعياداً، و يشرك بها، و تدعى من دون اللَّه، حتّى أنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحجّ إليها على الحج إلى بيت اللَّه» «(1)».

و لوصحّ ذلك النقل عن ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتى إليك بيانها:

1- قال: «إذا كان السفر إلى بيوت اللَّه غير الثلاثة ليس بمشروع».

يلاحظ عليه: من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم؟! و قد عرفت أنّ النهي ليس تحريمياً مولوياً، و إنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى، و لأجل ذلك لو ترتّبت على السفر مصلحة لجاز كما عرفت في سفر النبيّ إلى مسجد قبا مراراً.

2- نسب عدم المشروعية إلى الأئمة الأربعة، إلّا أنّنا لم نجد نصّاً منهم على التحريم، و وجود الحديث في الصحاح لا يدلّ على أنّهم فسّروا الحديث بنفس ما فسّر به ابن تيمية.


1- الفتاوى كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي: ص 61.

ص:285

و لا يخفى على الأئمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى، لا كون العمل محرّماً.

3- أنّ عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلًا على عدم جوازه إلى «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» «(1)» إذ لا ملازمة بينهما؛ لأنّه لا تترتّب على السفر في غير مورد الثلاثة أية فائدة سوى تحمّل عناء السفر، و قد عرفت أنّ فضيلة أيّ جامع في بلد، نفسها في البلد الآخر، و ليس اكتساب الثواب متوقّفاً على السفر، و هذا بخلاف المقام؛ فإنّ درك فضيلة قبر النبيّ يتوقّف على السفر، و لا يدرك بدونه.

4- يقول: «إنّ المسلمين يتّخذون قبور الأنبياء أوثاناً و أعياداً و يشرك بها» «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» «(2)» أ فمن يشهد كلّ يوم بأنّ محمداً عبده و رسوله، و يكرّمه و يعظّمه؛ لأنّه سفير التوحيد و مبلّغه- أ فهل- يمكن أن يتّخذ قبره وثناً؟!

5- يقول: «تدعى من دون اللَّه» إنّ عبادة الغير حرام لا مطلق دعوته، فعامّة المسلمين حتّى ابن تيمية يقولون فيصلاتهم: «السلام عليك أيها النبيّ و رحمة اللَّه و بركاته». و المراد من قوله سبحانه: «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» «(3)» لا تعبدوا مع اللَّه أحداً، قال سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» «(4)» فسمّى سبحانه دعوته: عبادة. فإذاً الدعوة على قسمين: دعوة عبادية؛ إذا كان معتقداً بألوهية المدعوّ بنحو من الأنحاء، و دعوة


1- النور: 36.
2- الكهف: 5.
3- الجن: 18.
4- غافر: 60.

ص:286

غير عبادية؛ إذا دعاه على أنّه عبد من عباده الصالحين، يستجاب دعاؤه عند اللَّه، و الدعوة بهذا النوع تؤكّد التوحيد.

6- نَقَل: «إنّ بعض المسلمين يفضّل السفر إلى تلك الأماكن على الحجّ إلى بيت اللَّه» و هي فرية بلا مرية؛ فليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا و يعمل به.

7- لو كان السفر إلى القبور أمراً محرّماً فلما ذا شدّ النبيّ الرحال لزيارة قبر أُمّه بالأبواء و هي منطقة بين مكّة و المدينة، أ فصار النبيّ- و العياذ باللَّه- مشركاً أو أنّ الرواية الّتي أطبق المحدّثون على نقلها مكذوبة، و اللَّه لا هذا و لا ذاك و إنّما...

8- إنّ ما ذكره من أسباب المنع تتحقّق للمجاور للقبر بدون شدّ الرحال، فاللازم منع ارتكاب المحرّمات عند قبره لا منع السفر إليه.

9- احتمال أنّ المراد من زيارة القبور (زوروا القبور) هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخّص، احتمال ساقط و ذلك لأنّ «ال» الجنسية إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيته وصار المراد بالمدخول أيّ فرد يتحقّق به جنس القبر، و يستوي في ذلك المفرد و الجمع.

10- كيف يقال ذلك مع أنّ السيدة عائشة (رض) كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه «(1)» حتّى أنّ النبيّ يخصّ بعض القبور بالزيارة، و قد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مظعون و قال: «لتعرف بها قبر أخي» و لا تترتّب على التعرّف فائدة سوى زيارته.


1- المغني 2: 270.

ص:287

شبهات حول زيارة الرسول الأكرم

المبحث الخامس شبهات حول زيارة الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله

اشارة

استفاضت السنّة النبوية- كما مرّ- على استحباب زيارة الرسول، و دلّت السيرة القطعية طوال القرون، المنتهية إلى عصر الصحابة و التابعين، على أنّها من السنن المطلوبة، و أنّ شدّ الرحال إليها كشدّ الرحال إلى سائر الأُمور المسنونة، و أكّد أعلام المذاهب على كونها أمراً قُرْبيّاً، لذا فالتشكيك في جواز زيارة الرسول أشبه بالتشكيك في أمر بديهي، و لا غرو في التشكيك فيها، فقد شكك عدّة من فلاسفة الاغريق في أبده الأُمور و أوضحها، حتّى شكّوا في كلّ شي ء، بما في ذلك ذواتهم و أنفسِهم، و تفكيرهم و تعقّلهم، حتّى في حرارة النار و برودة الماء، و لو لا قيام الحكماء الإلهيين كسقراط، و بعده أفلاطون و أرسطو، في وجوه هؤلاء المنسلخين عن الإنسانية لعمّ الداء العياء وجه البسيطة.

و ما نذكره في المقام من الشبه و التشكيكات لم يذكرها ابن تيمية في كتبه، و إنّما نقلها الإمام السبكي عن خطّه، و يجترّها أتباعه من دون وعي، و إليك بيانها و تحليلها.

ص:288

الشبهة الأُولى: في تقسيم الزيارة إلى شرعية و بدعية

إنّ زيارة القبور على قسمين: زيارة شرعية، و زيارة بدعية؛ فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام على الميّت و الدعاء له إن كان مؤمناً، و تذكّر الموت سواء أ كان الميت مؤمناً أم كافراً. و الزيارة لقبر المؤمن نبياً كان أو غير نبيّ من جنس الصلاة على جنازته، يدعى له، كما يدعى إذاصُلِّي على جنازته.

و أمّا الزيارة البدعية فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت، مثل طلب الحوائج منه أو به أو التمسّح بقبره أو تقبيله أو السجود له و نحو ذلك.

فهذا كلّه لم يأمر اللَّه به و رسوله و لا استحبّه أحد من المسلمين، و لا كان أحد من السلف يفعله، لا عند قبر النبيّ و لا غيره، و لا يسألون ميتاً و لا غائباً سواء كان نبياً أو غير نبيّ بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير اللَّه شيئاً «(1)».

يلاحظ عليه: بأمرين:

1- حصر الزيارة في قسمين مع أنّها ذات أقسام كما سنذكر.

2- إدخال الامور الجانبية، كالاستغاثة و السؤال به أو منه في ماهية الزيارة مع أنّها ليست منها، فصار هذا و ذاك ذريعة لتبلور الشبهة لديه و لدى أتباعه. و ها نحن نذكر معنى الزيارة و أقسامها؛ ليتبيّن أنّ القسم الأخير الّذي يقصد فيها الإشراك لا يمت لزيارة المسلمين قبور أكابر الدين بصلة، و لعلّ الغاية من ذكره دعم الشبهة في أذهان البسطاء.

فالزيارة في اللّغة هي العدول عن جانب و الميل إلى جانب آخر، قال ابن فارس: «الزور» أصل واحد يدلّ على الميل و العدول، و من هذا الباب الزائر؛ لأنّه


1- شفاء السقام: ص 124- 125، نقلًا عن خط ابن تيمية.

ص:289

إذا زارك فقد عدل عن غيرك «(1)».

و يظهر من غيره أنّه «بمعنى القصد» و هو لا يخالف ما سبق؛ لأنّ الميل إلى جانب لا ينفكّ عن القصد، قال الطريحي: زاره يزوره زيارة: قصده فهو زائر، و في الحديث من زار أخاه في جانب المصر، أي قصد، و في الدعاء: اللّهمّ اجعلني من زوّارك أيّ من القاصدين لك، الملتجئين إليك، و الزيارة قصد المزور إكراماً له و تعظيماً و استئناساً به «(2)».

و الظاهر كما يظهر من ذيل كلامه أنّ معناها ليس مجرّد القصد بل القصد المنتهي إلى حضور الزائر لدى المزور لإحدى الغايات المذكورة في كلامه، من التكريم و التعظيم و الاستئناس به.

هذا هو معنى الزيارة، و ليس فيها شي ء من الأُمور التي ذكرها ابن تيمية، بل هي الحضور عن قصد لدى المزور لإحدى الغايات، و هي تختلف حسب اختلاف المزور شأناً، و مقاماً، و مهنة.

نعم في إمكان الزائر أن يزور الرسول لإحدى الغايات التالية:

1- أن يزور الرسولصلى الله عليه و آله لمجرّد تذكّر الموت و الآخرة، و هذا ثابت في زيارة جميع القبور من غير فرق بين الرسول و غيره، بل المؤمن و الكافر، و دلالة القبور على ذلك متساوية، كما أنّ المساجد- غير المساجد الثلاثة- متساوية لا يتعيّن شي ء منها بالتعيين بالنسبة إلى هذا الغرض، و لا معنى لشدّ الرحال إلى المدينة لزيارة الرسول لتلك الغاية المتحققة في زيارة كلّ قبر في بلد الزائر النائي.

2- أن يزور الرسولصلى الله عليه و آله للدعاء له، كما زار الرسول أهل البقيع، و هذا مستحبٌ في حقّ كلّ ميت من المسلمين، و يتحقّق في زيارتهصلى الله عليه و آله إذاصلّى عليه،


1- مقاييس اللغة 3: 36.
2- مجمع البحرين 2: 304.

ص:290

و طلب الدرجة الرفيعة له، كما ورد في الحديث: كان عليّ عليه السلام يقول: «اللّهمّ اعل على بناء البانين بناءه، و أكرم لديك نُزُلَه، و شرِّف عندك منزله، و آته الوسيلة، و أعطه السناء و الفضيلة، و احشرنا في زمرته» «(1)».

3- أن يزورهصلى الله عليه و آله للتبرّك به، لأنّه ليس في الخلف أعظم بركة منه و هو حيّ يرزق، و الصلة بيننا و بينه غير منقطعة، و قد استفاضت الروايات على أنّه يسمع كلامنا، و يرد سلامنا، بشهادة أنّ عامّة المسلمين يسلّمون عليه في تشهّدهم، و يخاطبونه بقولهم: السلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللَّه و بركاته.

4- أن يزورهصلى الله عليه و آله لأداء حقّه؛ فإنّ من كان له حقّ على الشخص فينبغي له برّه في حياته، و بعد موته و الزيارة من جملة البرّ؛ لما فيها من الإكرام و ليس إنسان أوجب حقّاً على الأُمّة من النبيّ. هذه هي الغايات المتصوّرة في زيارة النبيّ الأكرم.

و أمّا الزيارة البدعية التي تحدّث عنها ابن تيمية و أسماها بدعية تارة و إشراكاً للَّه تعالى أُخرى، فهو ممّا ابتدعها ابن تيمية، و ليس بين المسلمين من يسوِّي بين اللَّه و رسوله، كما هو شعار المشركين، كما قال سبحانه حاكياً عنهم: «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» «(2)»، و المسلمون بعامّة طوائفهم براء من الشرك و سماته و قد عرف سبحانه أهل الشرك بسمة خاصّة مذكورة في آيتين، قال سبحانه: «ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» «(3)».

و قال تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ» «(4)» فلا تجد مسلماً عند ما يزور النبيّ تحت قبّته الخضراء و في مسجده يكون على تلك الحالة أي إذا


1- نهج البلاغة، الخطبة 106.
2- الشعراء: 98.
3- غافر: 12.
4- الصافات: 35.

ص:291

دُعِيَ اللَّهُ وحدَه كفَر به، و إن يشرك به يؤمن به، أو إذا سمع لا إله إلّا اللَّه يستكبر عن عبادته.

و لا أدري كيف تجرّأ الرجل و حكم بشرك قاطبة المسلمين بمجرد أنّهم يطلبون منه الدعاء بعد رحيله، و كم منصحابيّ جليل، تكلّم معه و طلب منه الدعاء بعد وفاته.

1- هذا أبو بكر: أقبل على فرسه من مسكنه بالسنح حتّى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتّى دخل على عائشة (رض) فتيمّم النبيصلى الله عليه و آله و هو مسجّى ببرد حِبرة، فكشف عن وجهه ثمّ أكبّ عليه فقبّله ثمّ بكى، فقال: بأبي أنت يا نبيّ اللَّه لا يجمع اللَّه عليك موتتين، أمّا الموتة التي كتبت عليك فَقَدْ مُتَّها «(1)».

فلو لم تكن هناكصلة بين الحياتين فما معنى قوله: «بأبي أنت يا نبيّ اللَّه» فإن لم يسمع، فما ذا قصد ذلك الصحابي من قوله: «لا يجمع اللَّه عليك موتتين».

2- روى أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (508- 581 ه) في الروض الأنف: «دخل أبو بكر على رسول اللَّه في بيت عائشة و رسول اللَّه مسجّى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتّى كشف عن وجه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ثمّ أقبل عليه فقبّله، ثمّ قال: بأبي أنت و أُمّي أمّا الموتة التي كتب اللَّه عليك فقد ذقتها ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً» «(2)».

3- روى الحلبي علي بن برهان الدين (975- 1044 ه) في سيرته و قال:

«جاء أبو بكر من السنح وعيناه تهملان فقبّل النبيّصلى الله عليه و آله فقال: بأبي أنت و أُمّي طبت حيّاً و ميتاً» «(3)».

4- روى مفتي مكة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه، و قال:

قال أبو بكر: طبت حيّاً و ميّتاً، و انقطع بموتك ما لم ينقطع للأنبياء قبلك، فعظمت


1- البخاري، الصحيح 2: 17، كتاب الجنائز.
2- الروض الأنف 4: 260.
3- السيرة الحلبية 3: 74، ط دار المعرفة، بيروت.

ص:292

عن الصفة و جُلِّلتَ عن البكاء، و لو أنّ موتك كان اختياراً، لجُدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربّك و لنكن على بالك «(1)».

5- قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عند ما ولي غسل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «بأبي أنت و أُمّي يا رسول اللَّه لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة و الأنباء و أخبار السماء- إلى أن قال-: بأبي أنت و أُمّي اذكرنا عند ربّك و اجعلنا من بالك» «(2)».

إلى هنا تمّت الإجابة عن الشبهة الأُولى، و أمّا ما ذكره في ضمنها من أنّه ممّا لم يأمر به اللَّه و لا رسوله فستوافيك الإجابة عنه في تحليل الشبهة الثانية.

الشبهة الثانية: إنّ زيارة النبيّ بدعة

«إنّ زيارة النبيّ ليس مشروعاً و انّه من البدع التي لم يستحبّها أحد من العلماء لا من الصحابة و لا من التابعين و من بعدهم».

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره فيها هو نفس ما ذكره في ذيل الشبهة الأُولى غير أنّه أضاف في المقام كون الزيارة بدعة.

نقول: إنّ البدعة عبارة عن إدخال ما ليس من الدين فيه، و التصرّف في التشريع بإيجاد السعة أو الضيق فيه، و هذا إنّما يتصور فيما إذا لم يكن في المورد دليل، و قد عرفت تضافر السنّة النبوية، و السيرة القطعية المسلّمة بين المسلمين على زيارته، و مع هذا كيف يصحّ لمسلم واع تسمية تلك بدعة؟!

ثمّ إنّ السلفي يطلق على من يقفو أثر السلف، و قد عرفت أنّ السلف منذ


1- سيرة زيني دحلان، بهامش السيرة الحلبية 3: 391، ط مصر.
2- نهج البلاغة: الخطبة 235.

ص:293

رحيل الرسول، دأبوا على زيارة قبره و التبرّك به، حتّى أنّ الخليفتين أوصيا بدفنهما عند النبيّ، لما فيه من التبرّك بتربته، فأين وصف زيارته بالبدعة من عملصحابتهصلى الله عليه و آله؟ كما أنّه تضافر عن ابن عمر أنّه كان يأتي قبر النبيّ فيسلّم عليه، و عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يبرد البريد لزيارة الرسول نيابة عنه، و أنّ بلالًا شدّ الرحال إلى المدينة لزيارة الرسول.

و إضافة ذلك فإنّ الحوار الدائر بين الإمام مالك و أبي جعفر المنصور، يكشف الغطاء، و يجلّي الحقيقة:

روى القاضي عياض في الشفاء بإسناده عن ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أميرُ المؤمنين مالكاً في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفعصوتك في هذا المسجد، فإنّ اللَّه تعالى أدّب قوماً، فقال: «لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَصَوْتِ النَّبِيِّ» «(1)»، و مدح قوماً فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» «(2)» و ذمّ قوماً فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ» «(3)». و إنّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً، فاستكان لها أبو جعفر، و قال: يا أبا عبد اللَّه أستقبل القبلة و أدعو، أم أستقبل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله؟ فقال: و لِمَ تصرفُ وجهَك عنه و هو وسيلتك و وسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى اللَّه تعالى يوم القيامة، بل استقبله و استشفع به فيشفّعه اللَّه تعالى، قال اللَّه تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ» «(4)».

فانظر هذا الكلام من مالك رحمه اللَّه و ما اشتمل عليه من الزيارة و التوسّل


1- الحجرات: 2.
2- الحجرات: 3.
3- الحجرات: 4.
4- النساء: 64.

ص:294

بالنبيصلى الله عليه و آله و حسن الأدب معه «(1)».

و أمّا التبرّك بالقبر، أو القَسَم على اللَّه بأحد من خلقه و الاستغاثة بالميت، فالكل خارج عن ماهية الزيارة، و إنّما هي أُمور جانبية؛ لا تكون سبباً لتسمية الزيارة بدعة، على أنّ الجميع جائز بدلالة الكتاب و السنّة، و ليست تربة النبيّ الأكرم بأقلّ من قميص يوسف؛ حيث تبرّك به يعقوب فعاد بصره، قال سبحانه:

«اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ... فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» «(2)».

و ليس ضريح النبيّ و مدفنه بأقل كرامة من تابوت بني إسرائيل و ما ترك آل موسى و آل هارون من قميص و عصيّ و غيرهما، و كان بنو إسرائيل يتبرّكون به في الحروب قال تعالى: «وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «(3)» قال الرازي: إذا حضر (بنو إسرائيل) القتال قدّموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوّهم، و كانت الملائكة تحمله فوق العسكر و هم يقاتلون العدوَّ فإذا سمعوا من التابوتصيحة استيقنوا بالنصر، فلمّا عصوا و فسدوا سلّطَ اللَّهُ عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت و سلبوه، فلَمّا سألوا نبيَّهم البيّنة على مُلك طالوت قال ذلك النبي: إنّ آية ملكه أنّكم تجدون التّابوت في داره «(4)».

إنّ الاستغاثة بالنبيّ و الولي أحياءً و أمواتاً ترجع إلى طلب الدعاء منهم؛ فلو لم


1- شفاء السقام: 70.
2- يوسف: 93- 96.
3- البقرة: 248.
4- مفاتيح الغيب 6: 177.

ص:295

تكن للميت مقدرة على الإجابة يكون العمل لغواً لا شركاً، و ليست الحياة و الموت حدّاً للتوحيد و الشرك حتّى يكون خطاب الحيّ عين التوحيد، و خطاب الميّت نفس الشرك.

على أنّا قد ذكرنا استفاضة الأثر على أنّ الصحابة كانوا يستغيثون بنبيّهم؛ نبيّ الرحمة و قد ذكر موارده فلاحظ «(1)».

الشبهة الثالثة: إنّ الزيارة تؤدّي إلى الشرك

هذه آخر ما في كنانة الرجل من سهام مرشوقة و قد استدلّ عليه بما لا يمت إلى مدعاه بصلة، قال: إنّ من أُصول الشرك اتخاذ القبور مساجد كما قال بعض السلف في قوله تعالى: «وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً» «(2)» قالوا: كان هؤلاء قوماًصالحين فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمّصوّروا علىصورهم تماثيل، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوها.

يلاحظ عليه:

أنّ محور البحث هو الزيارة على ما جرت عليه سيرة السلف و الخلف، و لم تؤدِّ طوال القرون الأربعة إلى الشرك، و لم تكن عكوفاً على القبور، و لا بتصوير تماثيلهم و عبادتهم مكان عبادة اللَّه، فأيّصلَة لهذا الكلام بمدّعاه من تحريم الزيارة.

إنّ زيارة قبر نبيّ التوحيد و رسوله، دعم للمبدأ الّذي جاء به، و تأكيد لصحّة رسالته الّتي كانت في طريق تحطيم الوثنية و عبادة الأنداد و الأمثال المزعومة، فكيف تقع مثلها ذريعة إلى الشرك يا ترى؟!


1- راجع بحث التوسّل ص 569 من هذا الكتاب.
2- نوح: 23.

ص:296

يقول ابن زهرة:

«فإنّ التقديس الذي يتّصل بالرسل إنّما هو لفكرتهم التي حملوها، فالتقديس لمحمدصلى الله عليه و آله تقديس للمعاني الّتي دعا إليها، و حثّ عليها فكيف يتصوّر من مؤمن عرف حقيقة الدعوة المحمدية أن يكون مضمراً لأيّ معنى من معاني الوثنية و هو يستعبر العبر، و يستبصر ببصيرته عند الحضرة الشريفة و الروضة المنيفة، فإذا كان خوف ابن تيمية من أن يؤدّي ذلك إلى الوثنية بمضي الأعصار و الدهور فإنّه خوف من غير جهة؛ لأنّ الناس كانوا يزورون قبر الرسولصلى الله عليه و آله إلى أوّل القرن الثامن ثمّ استمرّوا على هذه السيرة في العصور من بعده إلى يومنا هذا، و مع ذلك لم ينظر أحد إلى هذا العمل نظرة عبادة أو وثنية، و لو تفرّط أحد فهو من العوام و لا يمنع تلك الذكريات العطرة، بل يجب إرشادهم لا منعهم من الزيارة و تكفيرهم» «(1)».

قال الشيخ محمد زاهد الكوثري من علماء الأزهر الشريف:

«إنّ سعي ابن تيمية في منع الناس من زيارة النبيّصلى الله عليه و آله يدلّ على ضغينة كامنة فيه نحو النبيّصلى الله عليه و آله، و كيف يتصوّر الإشراك بسبب الزيارة، و التوسّل في المسلمين الّذين يعتقدون في حقّه أنّه عبده و رسوله، و ينطقون بذلك فيصلاتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقلّ تقدير، إدامة لذكرى ذلك و لم يزل أهل العلم ينهون العوام من البدع في كل شئونهم، و يرشدونهم إلى السنّة في الزيارة و غيرها إذا حدث منهم بدعة في شي ء، و لم يعدّوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل، و أوّل من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية و جرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين و دمائهم لحاجة في النفس «(2)».

و أمّا ما رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة عن النبيصلى الله عليه و آله أنّه قال: «اللّهمّ


1- كلام ابن زهرة في كتابه حول حياة ابن تيمية.
2- تكملة السيف الصقيل: 156.

ص:297

لا تجعل قبري وثناً، لعن اللَّه قوماً اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «(1)». فإنّ الحديث- إذا افترضناصحة الاحتجاج به- لاصلة له بالزيارة، و إنّما يهيب بالَّذين يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد، يصلّون إليها- إذا اتّخذوها قبلة- أولها، إذا عبدوها، و يدلّ على ما ذكرنا ما روي أيضاً من أنّهصلى الله عليه و آله قال: «اللّهم لا تجعل قبري يصلّى إليه فإنّه اشتدّ غضب اللَّه على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «(2)».

«وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً» «(3)»


1- الإمام أحمد، المسند 2: 246.
2- كنز العمال 2/ ح 3802.
3- الفرقان: 21.

ص:298

تذكرة و إنذار

خاتمة تذكرة و إنذار

اشارة

إنّ لزيارة العظماء و القدّيسين؛ أصحاب الرسالات آثاراً ايجابيةً تعود تارة إلى الزائر، و أُخرى إلى المزور.

أمّا الأُولى: فلأنّ الزيارةصلة بين الكامل و من يروم الكمال، فالدوام على مواصلته محاولة للتخلّق بأخلاقه، و اتّباعِ منهجه و تجديد العهد معه، و لذلك لا تجد إنساناً وَقف أمام قبر النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله و زاره إلّا و يتأثّر بشخصه و شخصيّته، و إن كان التأثّر قليلًا مؤقّتاً، فزيارتهم تقترن غالباً بذرف الدموع، و العطف و الحنان على المزور؛ و هي لا تنفكّ عن تحوُّل نفسيّ و أخلاقيّ و حبّ و وُدٍّ لهم، و بالتالي شعوره بقربه منهم، و مشاطرته لأهدافهم، إلى غير ذلك من الآثار الإيجابية الّتي تعود على الزائر و الّتي أشرنا إليها في تمهيدنا الّذي تصدّرت هذه الرسالة به، و لا نعود إلى تلك الآثار التي تعود إلى الزائر.

أمّا الثانية: أعني الآثار الإيجابية التي تعود إلى المزور فهذا هو المقصود في بياننا، و هو أنّ زيارة العظماء هي تخليد لذكراهم، و تجسيد لرسالاتهم في الأذهان، و بالتالي تكون سبباً لبقائهم أحياءً في كلّ عصر و قرن، لا يتسرّب إلى وجودهم و رسالاتهم و بطولاتهم أدنى ريبٍ و شكٍّ، فبذلك يتجلّى المزور في كلّ زمان حيّاً في القلوب و في المجتمع، كما لو كان موجوداً بشخصه في زمن الزائر، فكأنَّ الزيارةَ استمرار لبقائهم في القلوب تُجلي الصدأ عنها، و تتجلّىصحة وجودهم للخلف كما تجلّت للسلف، و تكون بمنزلة الدليل على وجودهم و رسالاتهم و بطولاتهم.

فلو حذفنا الزيارة من قاموس حياتنا، و تركنا مزارهم، و أقفلنا أبواب بيوتهم، و لم نهتمّ بآثارهم طوالَ قرون، فقد جعلنا آثارهم في مهبِّ الفناء و التدمير،

ص:299

و بالنتيجة التشكيك في أصل وجودهم و بعثهم، و بالتالي تصبح تلك الشخصيات بعد قرون أساطيرَ تاريخية للخلق، فيتلقّون النبيّ و الإمام بل الأنبياء كلّهم قصصاً تاريخية نسجتها يدُ الخيال، كما هو الحال في كثير من القصص التاريخية الّتي أصبحت تُروى على ألسن الأطفال و في المنتديات.

إنّ الإنسان الغربيّ يتمتّع في حياته بكلّ ما هو غربيّ إلّا الدين و المذهب؛ فإنّ مذهبه شرقيّ؛ لأنّ المسيح وليد الشرق و مبعوثه سبحانه إلى أرض فلسطين و غيرها، و بما أنّ الغربيّ لا يجد أثراً ملموساً للمسيح في حياته فمثلًا ليس له قبر حتّى يُزار و لا لأُمّه قبر حتّى يُنسب إليها، و لا لكتابهصورةصحيحة يؤمن به، و لا لتلاميذه و حوارييه آثار ملموسة، فلذلكصارت الديانة المسيحية أُسطورة تاريخية في نظر الغرب و شبابه المثقّفين بعد ألفي عام، و إن كان الشيوخ و العجائز يُؤمنون به إيماناً تقليديّاً لا علمياً، فالجُدد منهم مسيحيّون في هويّاتهم الشخصية لا في هوياتهم العقلية و الفكرية، و ممّا أثّر في ذلك هو فقدان كلّ أثر ملموس عن سيّدنا المسيح في حياتنا البشريّة، و لو لا أنّ القرآن الكريم جاء بذكره و رسالته و مواقفه لكان الشكّ متسرِّباً إلى أذهاننا و أفكارنا.

و هذا بخلاف ما لو كان له أثر ملموس يُزار بين آن و آخر، و تشدُّ الرحال إليه عندئذٍ لكانت الديانة المسيحية حيّة نابضة بلا شكّ و ريب.

و من الأسباب و الوسائل التي أضفت على الإسلام حيوية، و على نبيّه بقاءً في القلوب، و على مواقفه و بطولاته خلوداً في الأذهان و الضمائر، هو وفود المسلمين في كلّ شهرٍ و سنة إلى موطنه (مكّة) و مهجَرِه (المدينة) و زيارة قبره و آثاره و قبور أولاده و أصحابه، و مشاهدة مولده و مبعثه و ما يمتُّ إليه بصلة طوال حياته؛ حيث أضفت هذه الوفادة المستمرة على وجوده و رسالته نوراً و ضياءً، و واقعية تُذهِب كلّ ريب و شكّ و تقرّ في النفوس عظمته و بطولاته.

ص:300

و إذا كانت الذكرى ناقوساً يدِقّ في وادي النسيان يذكّرك الحبيب و يرِنُّ في أسماعك جماله و كماله، فزيارته و المثول أمام آثاره و عظمته تُؤثّر في خلوده و بقائه في النفوس، و تزيل غبار النسيان عنه. لذا نرى أنّ الفقهاء أفتوا بأنّه يجب على الحاكم الإسلامي تجهيز المسلمين من بيت المال و إرسالهم إلى الحجّ إذا خلت الكعبة عن الزوّار لئلّا تُنسى، و حتّى تبقى خالدة في قلوب المسلمين و مهوى أفئدتهم، فكذلك قبور الأنبياء و المرسلين و في مقدّمتهم سيّدنا سيد الرسل نبيّنا الأكرمصلوات اللَّه عليه و على آله و من تبعه بإحسان؛ و ذلك لأنّ هجر قبورهم و عدم الاهتمام بها تمهيد لنسيانهم و رسالاتهم و بالتالي القضاء على الإسلام.

*** أخي القارئ الكريم؛ لقد عالجتُ مسألة الزيارة معالجة علميّة في ضوء القرآن و الحديث الصحيح و قضاء الفطرة الإنسانية، فلم يبق في رجحان الزيارة و استحبابها شرعاً شكّ و لا ريب، و قد تعرفتَ على آثارها الإيجابية للزائر و المزور، و قد أزحنا بعضَ الأشواك النامية في هذا الطريق، فعلى المشرفين على القبور و الأضرحة و نخصّ بالذكر قبرَ سيد البشر- عليهصلوات اللَّه و سلامه- استقبال الوافدين عليها بوجوه مشرقة مرَحِّبين بضيوف النبي مهيّئين الأجواء الودّية المناسبة للزيارة، و حشد كلّ الإمكانات المادّية و المعنوية لإقامتهم في مدينة الرسولصلى الله عليه و آله إقامة مقرونة بالارتياح.

و لا تفوتنا الاشارة هنا إلى واجب الخطباء و العلماء في إرشاد المسلمين و توجيههم إلى الآداب الصحيحة للزيارة، و تذكيرهم بما ينفعهم في الدنيا و الآخرة، حتّى يتلقّى الزائر أنّ الحضور في مزاره الشريف وسيلة للتذكرة به؛ و هي لا تنفك عن العمل بشريعته و دينه و سنّته و التخلّق بأخلاقه.

ص:301

الاحتفال بمولد النبيّ صلى الله عليه و آله

الاحتفال بمولد النبيّ صلى الله عليه و آله

لقد طال النزاع في الأوان الأخير عن طريق وسائل الإعلام و غيرها حول الاحتفال بمولد النبيّ الأكرم، و قد رفع بعضهم شعار البدعة فيه، بينما يرى الأكثرون أنّه من السنّة. و إليك دراسة الموضوع في ضوء الأدلّة.

حبّ النبيّ أصل في الكتاب و السنّة

المعلوم أنّ العنصر المقوّم للبدعة هو عدم الدليل على جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص على جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المحدثة فليس ذلك ببدعة، و قد ذكرنا لك أمثلة كثيرة، و في ضوء ما ذكر نركّز في هذا الفصل على وجود دليل عام على الاحتفال بيوم ميلاده، و إن لم يكن هناك دليل خاصّ، و أمّا الدليل فكما يلي:

الحبّ و البغض خلّتان تتواردان على قلب الإنسان، تشتدّان و تضعفان، و لنشوءهما و اشتدادهما أو ضعفهما عوامل و أسباب. و لا شكّ أنّ حبّ الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحبّ، و هو أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان، و جبليّ لا يخلو منه إنسان.

و من هذا المنطلق حبّ الإنسان لما يرتبط به أيضاً؛ فهو كما يحبّ نفسه يحب كذلك كلّ ما يمت إليه بصلة، سواء كان اتّصاله به جسمانياً كالأولاد و العشيرة، أو معنوياً كالعقائد و الأفكار و الآراء و النظريات التي يتبنّاها، و ربّما يكون حبّه للعقيدة أشدّ من حبّه لأبيه و أُمّه، فيذبّ عن حياض العقيدة بنفسه و نفيسه، و تكون العقيدة أغلى عنده من كلّ شي ء حتّى نفسه الّتي بين جنبيه.

ص:302

فإذا كان للعقيدة هذه المنزلة العظيمة يكون لمؤسّسها و مغذّيها و الدعاة إليها منزلة لا تقلّ عنها؛ إذ لو لا هم لما قام للعقيدة عمود، و لا اخضرّ لها عود، و لأجل ذلك كان الأنبياء و الأولياء، بل جميع الدعاة إلى الأُمور المعنوية و الروحية محترمين لدى جميع الأجيال، من غير فرق بين نبيّ و آخر، و مصلح و آخر، فالإنسان يجد منصميم ذاته خضوعاً تجاههم، و إقبالًا عليهم.

و لهذا لم يكن عجيباً أن تحترم، بل تعشق النفوس الطيبة، طبقة الأنبياء و الرسل، منذ أن شرّع اللَّه الشرائع و بعث الرسل، فترى أصحابها يقدّمونهم على أنفسهم بقدر ما أُوتوا من المعرفة و الكمال.

حبّ النبي في الكتاب:

و لوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية و الفطرة البشريّة، تضافرت الآيات و الأحاديث على لزوم حبّ النبيّ و كلّ ما يرتبط به، و ليست الآيات إلّا إرشاداً إلى ما توحي إليه فطرته، قال سبحانه: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» «(1)».

و قال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» «(2)».

و يقول سبحانه: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «(3)».


1- التوبة: 24.
2- المائدة: 56.
3- الأعراف: 157.

ص:303

فالآية الكريمة تأمر بأُمور أربعة:

1- الإيمان به.

2- تعزيره.

3- نصرته.

4- اتّباع كتابه، و هو النور الّذي أُنزل معه.

و ليس المراد- هنا- من تعزيره؛ نصرته؛ لأنّه قد ذكره بقوله: «وَ نَصَرُوهُ» و إنّما المراد توقيره، و تكريمه، و تعظيمه بما أنّه نبيّ الرحمة و العظمة، و لا يختصّ تعزيره و توقيره بحال حياته، بل يعمّها و غيرها، تماماً كما أنّ الإيمان به و التبعيّة لكتابه لا يختصّان بحال حياته الشريفة.

هذه هي العوامل الباعثة إلى حبّ النبيّصلى الله عليه و آله و هذه هي الآيات المرشدة إلى ذلك.

و لأجل دعم المطلب نذكر بعض ما ورد من الروايات في الحثّ على حبّه و مودّته.

حبّ النبيّ صلى الله عليه و آله في السنّة

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

1- «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده و ولده و الناس أجمعين».

2- «و الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ الناس إليه من والده و ولده».

3- «ثلاث من كنّ فيه ذاق طعم الإيمان: من كان لا شي ء أحبّ إليه من اللَّه و رسوله، و من كان لئن يحرق بالنار أحبّ إليه من أن يرتدّ عن دينه، و من كان

ص:304

يحبّ للَّه و يبغض للَّه».

4- «و اللَّه لا يكون أحدكم مؤمناً حتّى أكون أحبّ إليه من ولده و والده».

5- «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه».

6- «من أحبّ اللَّه و رسولهصادقاً غير كاذب، و لقى المؤمنين فأحبّهم، و كان أمر الجاهلية عنده كمنزلة نار أُلقي فيها، فقد طعَم طعْم الإيمان، أو قال: فقد بلغ ذروة الإيمان».

إنّ الذي يرى سعادته فيما جاء به رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من شريعة و دين، هو الّذي يذوق طعم الإيمان، و تذوّق طعم الإيمان لا يتحقّق إلّا عند ما يستنّ الإنسان بسنّة رسول اللَّه، و يعمل بشريعته فيحصل على سعادته.

7- عن أبي رزين قال: قلت يا رسول اللَّه ما الإيمان؟ قال: «أن تعبد اللَّه و لا تشرك به شيئاً، و يكون اللَّه و رسوله أحبّ إليك ممّا سواهما، و تكون أن تحرق بالنار أحبّ إليك من أن تشرك باللَّه شيئاً، و تحبّ غير ذي نسب لا تحبّه إلّا للَّه، فإذا فعلت ذلك فقد دخل حبّ الإيمان في قلبك، كما دخل قلب الظمآن حبُّ الماء في اليوم القائظ».

8- «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللَّه و رسوله أحبّ إليه ممّا سواهما».

9- عن أنس أنّ رجلًا سأل النبيّصلى الله عليه و آله عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال:

«و ما أعددت لها؟» قال: لا شي ء، إلّا أنّي أُحبّ اللَّه و رسوله، فقال: «أنت مع من أحببت». قال أنس: فما فرحنا بشي ء فرحنا بقول النبيّصلى الله عليه و آله: «أنت مع من أحببت».

10- أبو ذر قال: يا رسول اللَّه، الرجل يحبّ القوم و لا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: «أنت يا أبا ذر مع من أحببت». قال: فإنّي أُحبّ اللَّه و رسوله. قال:

ص:305

«فإنّك مع من أحببت»، قال: فأعاد (ها) أبو ذر، فأعادها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

11- «من أحيا سنّتي فقد أحبّني، و من أحبّني كان معي في الجنّة».

12- «و الّذي نفس محمد بيده ليأتينّ على أحدكم يوم و لا يراني، ثمّ لئن يراني أحبُّ إليه من أهله و ماله معهم».

13- «إنّ أحدكم سيوشك أن يحبّ ينظر إليّ نظرة بما له من أهل و عيال».

14- «من أشدِّ أُمّتي لي حُبّاً أُناس يكونون بعدي؛ يودّ أحدهم لو رآني بأهله و ماله».

15- «أشدّ أُمّتي لي حبّاً قوم يكونون بعدي يودّ أحدهم أنّه فقد أهله و ماله و أنّه رآني».

16- «إنّ أُناساً من أُمّتي يأتون بعدي يودّ أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله و ماله».

17- «من دعا بهؤلاء الدعوات في دبر كلّصلاة مكتوبة حلّت له الشفاعة منّي يوم القيامة: اللّهمّ أعطِ محمداً الوسيلة، و اجعل في المصطفين محبّته، و في العالمين درجته، و في المقرّبين ذكر داره».

18- «من قال في دبر كلّصلاة مكتوبة: «اللّهمّ أعطِ محمّداً الدرجة و الوسيلة، اللّهمّ اجعل في المصطفين محبّته و في العالمين درجته، و في المقرّبين ذكره» من قال تلك في دبر كلّصلاة فقد استوجب عليّ الشفاعة، و وجبت له الشفاعة».

و قد روي عن أبي بكر قال: الصلاة على النبيّصلى الله عليه و آله أمحق للخطايا من الماء للنار، و السلام على النبيّصلى الله عليه و آله أفضل من عتق الرقاب، و حبّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أفضل من عتق الأنفس أو قال: من ضرب السيف في سبيل اللَّه عزّ و جلّ «(1)».


1- راجع للوقوف على هذه الأحاديث و نظائرها جامع الأُصول ج 1 نقلًا عن صحيح البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي، و كنز العمال ج 2 و 6 و 12.

ص:306

اختلاف الأُمّة في درجات حبّهم للنبيّصلى الله عليه و آله

و ليست الأُمّة المؤمنة في ذلك شرعاً سواء، بل هم فيه متفاوتون على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حبّ اللَّه تعالى.

قال القرطبي: «كلّ من آمن بالنبيّصلى الله عليه و آله إيماناًصحيحاً لا يخلو عن وجدان شي ء من تلك المحبّة الراجحة، غير أنّهم متفاوتون؛ فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظّ الأوفى، و منهم من أخذ منها بالحظّ الأدنى، كمن كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبيّصلى الله عليه و آله اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله و ولده و ماله و والده، و يبذل نفسه في الأُمور الخطيرة، و يجد مخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردّد فيه» «(1)».

مظاهر الحبّ في الحياة

إنّ لهذا الحبّ مظاهر؛ إذ ليس الحبّ شيئاً يستقرّ فيصقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان و تصرّفاته، بل إنّ من خصائص الحبّ أن يظهر أثره على جسم الإنسان و ملامحه، و على قوله و فعله، بصورة مشهودة و ملموسة.

فحبّ اللَّه و رسوله الكريم لا ينفكّ عن اتّباع دينه، و الاستنان بسنّته، و الإتيان بأوامره و الانتهاء عن نواهيه، و لا يعقل أبداً أن يكون المرء محبّاً لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله أشدَّ الحبّ، و مع ذلك يخالفه فيما يبغضه و لا يرضيه، فمن ادّعى حبّاً في نفسه و خالفه في


1- فتح الباري 1: 50- 51.

ص:307

عمله، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادّين.

و لنعم ما قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذا الصدد موجهاً كلامه إلى مدّعي الحبّ الإلهي كاذباً:

تعصي الإله و أنتَ تُظهر حبّهُ هذا لعمري في الفعال بديعُ

لو كان حبّكصادقاً لأطعتهُ إنّ المحبّ لمن يحبُّ مطيعُ «(1)»

للحبّ مظاهر وراء الاتباع

نعم لا يقتصر أثر الحبّ على هذا، بل له آثار أُخرى في حياة المحبّ؛ فهو يزور محبوبه و يكرمه و يعظّمه و يقضي حاجته، و يذبّ عنه، و يدفع عنه كلّ كارثة و يهيّئ له ما يريحه، و يسرّه إذا كان حيّاً.

و إذا كان المحبوب ميّتاً أو مفقوداً حزن عليه أشدّ الحزن، و أجرى له الدموع كما فعل النبيّ يعقوب عليه السلام عند ما افتقد ولده الحبيب يوسف عليه السلام فبكاه حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، و بقي كظيماً حتّى إذا هبّ عليه نسيم من جانب ولده الحبيب المفقود، هشَّ له و بشَّ، و هفا إليه شوقاً و حبّاً.

بل يتعدّى أثر الحبّ عند فقد الحبيب و موته هذا الحدّ؛ فنجد المحبّ يحفظ آثار محبوبه، و كلّ ما يتّصل به، من لباسه و أشيائه، كقلمه و دفتره و عصاه و نظّارته، كما و يحترم أبناءه و أولاده، و يحترم جنازته و مثواه، و يحتفل كلّ عام بميلاده و ذكرى موته، و يكرمه و يعظّمه حبّاً به و مودّة له.

إلى هنا ثبت أنّ حبّ النبيّ و تكريمه أصل من أُصول الإسلام لا يصحّ لأحد إنكاره، و من المعلوم أنّ المطلوب ليس الحبّ الكامن في القلب من دون أن


1- سفينة البحار، مادة« حب»

ص:308

يرى أثره على الحياة الواقعية، و على هذا يجوز للمسلم القيام بكلّ ما يعدّ مظهراً لحبّ النبيّ، شريطة أن يكون عملًا حلالًا بالذات، و لا يكون منكراً في الشريعة، نظير:

1- تنظيم السنّة النبويّة؛ و إعراب أحاديثها، و طبعها، و نشرها بالصور المختلفة، و الأساليب الحديثة، و فعل مثل هذا بالنسبة إلى أقوال أهل البيت و أحاديثهم.

2- نشر المقالات و الكلمات؛ و تأليف الكتب المختصرة و المطوّلة حول حياة النبيّ و عترته، و نظم القصائد بشتّى اللغات و الألسن في حقّهم، كما كان يفعله المسلمون الأوائل.

فالأدب العربي بعد ظهور الإسلام يكشف عن أنّ نظم القصائد في مدح رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كان ممّا يعبّر به أصحابها عن حبّهم لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله. فهذا هو كعب بن زهير ينظم قصيدة مطوّلة في مدح رسول اللَّهصلى الله عليه و آله منطلقاً من إعجابه و حبّه لهصلى الله عليه و آله، فيقول في جملة ما يقول:

بانت سعاد فقلبي اليومَ متبولُ متيّمٌ إثرَها لم يُفْدَ مكبولُ

نُبِّئتُ أنّ رسولَ اللَّهِ أوعدني و العفوُ عند رسول اللَّهِ مأمولُ

و يقول:

مهلًا هداك الّذي أعطاك نافلة - القرآنِ فيها مواعيظ و تفصيلُ

إنّ الرسولَ لنورٌ يستضاء بِهِ مهنّدٌ من سيوفِ اللَّهِ مسلولُ «(1)»


1- السيرة النبوية 2: 513

ص:309

و قد ألقى هذه القصيدة في حضرة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و أصحابه، و لم ينكر عليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

و هذا هو حسّان بن ثابت الأنصاري يرثي النبيّصلى الله عليه و آله، و يذكر فيه مدائحه، و يقول:

بطيبة رسمٌ للرسول و مَعْهَدٌ مُنيرٌ و قد تعفو الرسومُ و تحمدُ

إلى أن قال:

يدلّ على الرحمن من يقتدي به و ينقذ من هول الخزايا و يرشدُ

إمام لهم يهديهم الحقّ جاهداً معلمُصدقٍ إن يطيعوه يَسْعَدوا «(1)»

و هذا هو عبد اللَّه بن رواحة ينظم أبياتاً في هذا السياق فيقول فيها:

خلّوا بني الكفار عن سبيلِهِ خلّوا فكلُّ الخيرِ في رسولِهِ

يا ربّ إنّي مؤمنٌ بقيلهِ أعرف حقّ اللَّه في قبولِهِ «(2)»

هذه نماذج ممّا نظمه الشعراء المعاصرون لعهد الرسالة في النبيّ الأكرم و نكتفي بها لدلالتها على ما ذكرنا.

و لو قام باحث بجمع ما قيل من الأشعار و القصائد حول النبي الأكرم لاحتاج في تأليفه إلى عشرات المجلّدات؛ فإنّ مدح النبيّ كان الشغلَ الشاغل للمخلصين و المؤمنين منذ أن لبّى الرسول دعوة ربّه، و لا أظنّ أنّ أحداً عاش في هذه البسيطة، و نال من المدح بمقدار ما ناله الرسولصلى الله عليه و آله من المدح بمختلف الأساليب و النظم.

و هناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائلَ النبيّ و مناقبه في قصائد رائعة و خالدة، مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم و السنّة المطهّرة في هذا المجال، فشكر اللَّه


1- السيرة النبويّة: 2/ 666
2- السيرة النبوية 2: 371

ص:310

مساعيهم الحميدة و جهودهم المخلصة.

3- تقبيل كلّ ما يمت إلى النبيّ بصلة؛ كباب داره، و ضريحه و أستار قبره، انطلاقاً من مبدأ الحبّ الذي عرفت أدلّته. و هذا أمر طبيعي و فطري؛ فبما أنّ الإنسان المؤمن لا يتمكّن بعد رحلة النبيصلى الله عليه و آله من تقبيل الرسولصلى الله عليه و آله «(1)» فيقبّل ما يتّصل به بنوع من الاتصال، و هو كما أسلفنا أمر طبيعي في حياة البشر؛ حيث يلثمون ما يرتبط بحبيبهم و يقصدون بذلك نفسه. فهذا هو مجنون بني عامر كان يقبّل جدار بيت ليلى و يصرّح بأنّه لا يقبّل الجدار، بل يقصد تقبيلصاحب الجدار، يقول:

أمرّ على الديار ديار ليلى أُقبّل ذا الجدارَ و ذا الجدارا

فما حبُّ الديار شغفْنَ قلبي و لكن حبُّ من سكن الديارا «(2)»

4- إقامة الاحتفالات في مواليدهم؛ و إلقاء الخطب و القصائد في مدحهم، و ذكر جهودهم و درجاتهم في الكتاب و السنّة، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيّات و المحرّمات.

و من دعا إلى الاحتفال بمولد النبيّ في أيّ قرن من القرون، فقد انطلق من هذا المبدأ، أي حبّ النبيّ الذي أمر به القرآن و السنّة بهذا العمل.

هذا هو الديار بكري مؤلّف تاريخ الخميس يقول في هذا الصدد: «لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، و يعملون الولائم، و يتصدّقون في لياليه بأنواع


1- دخل أبو بكر حجرة النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله و هو مسجّى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثمّ أكبّ عليه يُقبّله ثمّ بكى فقال: بأبي أنت يا نبيّ اللَّه لا يجمع اللَّه عليك موتتين، أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد متّها. لاحظ صحيح البخاري 2: 17 كتاب الجنائز
2- أغاني الأغاني 1: 146 ط. سوريا

ص:311

الصدقات، و يظهرون السرور، و يزيدون في المبرّات، و يعتنون بقراءة مولده الشريف، و يظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم» «(1)».

و قال أبو شامة المقدسي في كتابه: «و من أحسن ما ابتدع!! في زماننا ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولدهصلى الله عليه و آله من الصدقات و المعروف بإظهار الزينة و السرور؛ فإنّ في ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء شعاراً لمحبّته» «(2)».

أنا لا أوافق الشيخ المقدسي في تسميته للاحتفال بالبدعة إلّا أن يريد البدعة بالمعنى اللغوي، كما أنّ الاحتجاج على حسن الاحتفالِ بالأعمال الجانبيّة منصدقات و معروف و إظهار الزينة...، فإنّ هذه الأُمور الجانبيّة لا تسوغ الاحتفال، و لا تضفي عليهصبغة شرعية ما لم يكن هناك دليل في الكتاب و السنّة، و قد عرفت وجوده.

و قال القسطلاني: «و لا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام، و يعملون الولائم، و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، و يظهرون السرور، و يزيدون في المبرّات، و يعتنون بقراءة مولده الكريم، و يظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عظيم..

فرحم اللَّه امرأ اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض و أعيى داء» «(3)».

إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظنّ أن يشكّ أحد في جواز الاحتفال بمولد النبيّ الأكرم، احتفالًا دينياً فيه رضا اللَّه و رسوله، و لا تصحّ تسميته بدعة؛ إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب و السنّة، و ليس المراد من الأصل؛ الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك.


1- تاريخ الخميس 1: 323.
2- السيرة الحلبيّة 1: 83- 84.
3- المواهب اللدنية 1: 148.

ص:312

و يرشدك إلى أنّ هذه الاحتفالات تجسيد لتكريم النبيّ، وجدانك الحرّ؛ فإنّه يقضي بلا مرية على أنّها إعلاء لمقام النبي و إشادة بكرامته و عظمته، يتلقاها كلّ من شاهدها عن كثب، على أنّ المحتفلين يعزّرون نبيّهم و يكرمونه و يرفعون مقامه اقتداء بقوله سبحانه: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «(1)».

السنّة النبويّة و كرامة يوم مولده

1- أخرج مسلم فيصحيحه عن أبي قتادة أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله سئل عنصوم يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، و فيه أُنزل عليّ» «(2)».

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي- عند الكلام في استحبابصيام الأيام التي تتجدّد فيها نعم اللَّه على عباده- ما هذا لفظه: «إنّ من أعظم نعم اللَّه على هذه الأُمّة إظهار محمدصلى الله عليه و آله و بعثه و إرساله إليهم، كما قال اللَّه تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» «(3)» فصيام يوم تجدّدت فيه هذه النعمة من اللَّه سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل، و هو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر» «(4)».

2- روى مسلم فيصحيحه عن ابن عباس رضى الله عنه قال: قدم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر اللَّه فيه موسى و بني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال النبيّصلى الله عليه و آله: «فنحن أحقّ و أولى بموسى منكم» فصامه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله


1- الانشراح: 4.
2- مسلم 2: 819.
3- آل عمران: 164.
4- لطائف المعارف: 98.

ص:313

و أمر بصومه «(1)».

و قد استدلّ ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعيّة الاحتفال بالمولد النبوي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: «فيستفاد فعل الشكر للَّه على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة، و يعاد ذلك، في نظير ذلك اليوم من كلّ سنة. و الشكر للَّه يحصل بأنواع العبادة، كالسجود و الصيام و الصدقة و التلاوة، و أي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبيّ الرحمة في ذلك اليوم» «(2)».

3- و للسيوطي أيضاً كلام آخر نأتي بنصّه، يقول: «و قد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، و هو ما أخرجه البيهقي عن أنس أنّ النبيّصلى الله عليه و آله عقّ عن نفسه بعد النبوة مع أنّه قد ورد أنّ جدّه عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، و العقيقة لا تعاد مرّة ثانية، فيحمل ذلك على أنّ الذي فعله النبيّصلى الله عليه و آله إظهار للشكر على إيجاد اللَّه إيّاه رحمة للعالمين و تشريع لأُمّته كما كان يصلّي على نفسه، لذلك فيستحبّ لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، و إطعام الطعام، و نحو ذلك من وجوه القربات و إظهار المسرّات» «(3)».

4- أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنّ رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً؟ فقال:

أيّ آية؟ قال: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «(4)».

فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، و المكان الذي نزلت فيه،


1- شرح صحيح مسلم مج 4، ص 7- 8، برقم 1130؛ و أخرجه البخاري 7: 215.
2- الحاوي للفتاوي 1: 196.
3- المصدر نفسه.
4- المائدة: 3.

ص:314

و رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائم بعرفة يوم الجمعة «(1)».

و أخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و قال: فيه نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة، و قال الترمذي: و هوصحيح «(2)».

«و في هذا الأثر موافقة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه على اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة عيداً؛ لأنّ الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسماً لشكر تلك النعمة، و فرصة لإظهار الفرح و السرور» «(3)».

نرى أنّ المسيح عند ما دعا ربّه أن ينزل مائدة عليه و على حواريه قال: «اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» «(4)». فقد اتّخذ يوم نزول النعمة المادية التي تشبع البطون عيداً، و الرسول الأكرم نعمة عظيمة منّ بها اللَّه على المسلمين بميلاده، فلم لا نتّخذه يوم فرح و سرور؟

الاستدلال بالإجماع

ذكروا أنّ أوّل من أقام المولد هو الملك المظفرصاحب إرْبَل، و قد توفي عام 630 ه، و ربما يقال أوّل من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، أوّلهم المعز لدين اللَّه، توجه من المغرب إلى مصر في شوال 361 ه، و قيل في ذلك غيره، و على أيّ تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً و أعواماً من دون أن يعترض عليهم أحد،


1- البخاري 8: 270؛ كما أخرجه الترمذي في 5: 250. و في الروايات المتضافرة انّها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجّة الوداع.
2- البخاري 8: 270؛ كما أخرجه الترمذي في 5: 250. و في الروايات المتضافرة انّها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجّة الوداع.
3- بلوغ المأمول: 29.
4- المائدة: 114.

ص:315

و على أيّ حال فقد تحقّق الإجماع على جوازه و تسويغه و استحبابه قبل أن يولد باذر هذه الشكوك، فلما ذا لم يكن هذا الإجماع حجّة؟ مع أنّ اتّفاق الأُمّة بنفسه أحد الأدلّة، و كانت السيرة على تبجيل مولد النبيّ إلى أن جاء ابن تيمية، و عبد العزيز ابن عبد السلام «(1)»، و الشاطبي فناقشوا فيه و وصفوه بالبدعة، مع أنّ الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرنين أو قرون، أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجّة بنفسه؟

أوهام و تشكيكات

اشارة

إنّ للقائلين بالمنع تشكيكات و شبهاً كلّها سراب، نذكرها بنصوصها:

أ- الاحتفال نوع من العبادة

قال محمد حامد الفقي: «و المواليد و الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم و تعظيمهم» «(2)».

يلاحظ عليه: أنّ العنصر المقوّم لصدق العبادة على العمل هو الاعتقاد بألوهية المعظّم له أو ربوبيّته، أو كونه مالكاً لمصير المعظّم المحتفل، و أنّ بيده عاجله و آجله، و منافعه و مضارّه، و لا أقل بيده مفاتيح المغفرة و الشفاعة.

و أمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر، و احتفل بذكرى رجل ضحّى بنفسه و نفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يعدّ ذلك عبادة له، و إن أُقيمت له عشرات الاحتفالات، و أُلقيت فيها القصائد و الخطب.


1- هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي 577- 660 ه فقيه شافعي، له من الكتب« التفسير الكبير» و« مسائل الطريقة» و غيرها أعلام الزركلي 4: 21 ط دار العلم للملايين، بيروت.
2- محمد حامد الفقي في تعليقه على فتح المجيد: ص 154.

ص:316

و من المعلوم أنّ المحتفلين المسلمين يعتقدون أنّ النبيّ الأكرم عبد من عباد اللَّه الصالحين، و في الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، و نعمة من اللَّه إليهم، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداءً لشكر النعمة.

ب- لم يحتفل السلف بمولد النبي

قال ابن تيمية: إنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، و عدم المانع منه، و لو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف- رضي اللَّه عنهم- أحقّ به منّا، فانّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و تعظيماً له منّا، و هم على الخير أحرص «(1)».

يلاحظ عليه: بما تعرّفت عليه في المبحث الرابع من أنّ المقياس في السنّة و البدعة هو الكتاب و السنّة و إجماع المسلمين أو السيرة العملية المتّصلة بعصر النبيّ، و أمّا غير ذلك فليس له وزن و لا قيمة ما لم يعتمد على هذه الأُصول الأربعة، و لم يكن السلف أنبياء و لا رسلًا، و ليس الخلف بأقلّ منهم، بل الجميع أمام الكتاب و أمام السنّة سواسية، فلو كان هناك دليل من الكتاب و السنّة على جواز الاحتفال؛ فترك السلف لا يكون مانعاً، على أنّ ترك السلف لم يكن مقارناً بتحريم الاحتفال أو كراهيّته فغاية ما هناك أنّهم لم يفعلوا، و قد أمر اللَّه بما في هذه الآية:

«وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «(2)» و لم يقل في حقّ النبي «و ما تركه فانتهوا عنه» فكيف الحال في حقّ السلف؟!

ج- إنّها مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح

يقول ابن تيمية: و كذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح عليه السلام، و إمّا محبّة للنبي و تعظيماً له و اللَّه قد يثيبهم على هذه المحبّة و الاجتهاد لا


1- اقتضاء الصراط المستقيم: ص 293- 294.
2- الحشر: 7.

ص:317

على البدع «(1)».

يلاحظ عليه: أنّ ابن تيمية ليس على يقين بأنّ المسلمين يقيمون الاحتفال مضاهاةً للنصارى، أضف إلى ذلك أنّ الأساس الذي يجب أن يبنى عليه عمل المسلم هو انطباق العمل على الكتاب و السنّة، فلا تكون المضاهاة مانعة عن اتّباع الكتاب و السنّة، و إن افترضنا انّ أوّل من احتفل، احتفل مضاهاةً إلّا أنّ المحتفلين في هذه القرون براء من هذه التهمة.

د- تخصيص المولد بيومٍ للاحتفال به بدعة!!

إنّ عموم الدليل يقتضي أن تكون جميع الأيام بالنسبة للاحتفال سواسية، فتخصيص يوم واحد في جميع البلاد بالاحتفال بدعة، و إن لم يكن أصل العمل بدعة «(2)».

هذا هو الدليل الهام للقائلين بالمنع، و لكن الجواب عنه واضح، و ذلك لأنّ جميع الأيام بالنسبة إلى الاحتفال و إن كانت سواسية إلّا أنّ تخصيص يوم واحد للاحتفال به، لأجل خصوصيات في ذلك اليوم، و ليست في غيره إلّا ما شذّ، و هو أنّ ذلك اليوم تشرّف بولادته، فهو من أفضل الأيام، كما أنّ البقعة التي ضمّت جسده الشريف هي من أفضل البقاع، و من ثمّ خصّ النبيّ الأكرم يوم الاثنين بفضيلة الصوم، و بيّن أنّ سبب التخصيص هو أنّهصلى الله عليه و آله ولد فيه، فصار كلّ ذلك سبباً لاختيار هذا اليوم دون سائر الأيام، نعم في وسعهم الاحتفال في غير هذا اليوم أيضاً، بل كلّ يوم أرادوا تكريم النبي و الاحتفال به.

ثمّ إنّ الذي نلفت نظر القائل بالمنع إليه، هو أنّه لم يقترن و لن يقترن ادّعاء ورود


1- اقتضاء الصراط المستقيم: ص 293.
2- البدعة: 17.

ص:318

الأمر الشخصي على هذا التخصيص، و انّما الكلّ يتّفق على جواز الاحتفال في جميع الأيام، غير أنّ تخصيص ذلك اليوم هو لأجل خصوصية كامنة فيه.

نعم من احتفل في مولد النبي و ادّعى ورود الشرع به، أو حثّه على هذا التخصيص فهو مبتدع، و لا أظن على أديم الأرض رجلًا يدّعي ذلك.

و بعبارة موجزة؛ فإنّ كون الاحتفال بدعة رهن أمرين؛ و كلاهما منتفيان:

1- عدم الدليل العام على الاحتفال.

2- ادّعاء ورود الشرع بذلك اليوم الخاص و حثّه عليه.

فعندئذٍ فلا معنى لادّعاء البدعة.

ه- الاحتفالات تشتمل على أُمور محرّمة

إنّ هذه الاحتفالات مشتملة على أُمور محرّمة في الغالب، كاختلاط النساء بالرجال، و قراءة المدائح مع الموسيقى و الغناء «(1)».

يلاحظ عليه: أنّ هذا النوع من الاستدلال ينمّ عن قصور باع المستدلّ، و هذا يدلّ على أنّه قد أعوزه الدليل، فأخذ يتمسّك بالطحلب شأن الغريق المتمسّك به.

فإنّ البحث في نفس مشروعية العمل بحد ذاتها، و أمّا الأُمور الجانبية العارضة عليه فلا تكون مانعاً من الحكم بالجواز، و ما ذكره لا يختصّ بالاحتفال، بل كلّ عمل يجب أن يكون بعيداً عن المحرّمات، فعلى المحتفلين أن يلتزموا بذلك، و يجعلوا مجالسهم مهبطاً للنور.

و في الختام نركز على أمر؛ و هو أنّ الاستدلال على الجواز أو المنع بالأُمور الجانبية خروج عن الاستدلال الفقهي، فانّ الحكم بالجواز و المنع ذاتاً يتوقّف على كون الشي ء بما هو هو جائزاً أو ممنوعاً، و أمّا الاستدلال على أحدهما بالأُمور


1- المدخل 2: 2.

ص:319

الطارئة فليس استدلالًاصحيحاً.

و هناك نكتة أُخرى؛ و هي أنّ الاستدلال على الجواز بما جرت عليه سيرة العقلاء من إقامة الاحتفالات على عظمائهم قياس مع الفارق، لأنّ الاحتفالات الرائجة بين العقلاء من الأُمور العادية، و الأصل فيها هو الحلّية، و أمّا الاحتفال بمولد النبي فإنّما هو احتفال ديني، و عمل شرعي، فلا يقاس بتلك الاحتفالات، بل لا بدّ من طلب دليل شرعي على جوازه، و بذلك تقدر على القضاء بين أدلّة الطرفين.

نعم لا يمكن أن ننكر أنّ ما يقيمه العقلاء من احتفال يؤثّر في نفوسنا و يحفزنا للإقبال على الاحتفال بمولد النبيّ، و في هذا الصدد يقول العلّامة الأميني:

«لعلّ تجديد الذكرى بالمواليد و الوفيات، و الجري على مراسم النهضات الدينية، أو الشعبية العامة، و الحوادث العالمية الاجتماعية، و ما يقع من الطوارق المهمّة في الطوائف و الأحياء، بعدِّ سنيها، و اتّخاذ رأس كلّ سنة بتلكم المناسبات أعياداً و أفراحاً، أو مآتمَ و أحزاناً، و إقامة الحفل السارّ، أو التأبين، من الشعائر المطّردة، و العادات الجارية منذ القدم، و دعمتها الطبيعة البشرية، و أسّستها الفكرة الصالحة لدى الأُمم الغابرة، عند كلّ أُمّة و نحلة، قبل الجاهلية و بعدها، و هلم جرّاً حتّى اليوم.

هذه مراسم اليهود، و النصارى، و العرب، في أمسها و يومها، و في الإسلام و قبله، سجّلها التاريخ فيصفحاته.

و كأنَّ هذه السُنّة نزعة إنسانية، تنبعث من عوامل الحبّ و العاطفة، و تسقى من منابع الحياة، و تتفرع على أُصول التبجيل و التجليل، و التقدير و الإعجاب، لرجال الدين و الدنيا، و أفذاذ الملأ، و عُظماء الأُمّة إحياءً لذكراهم، و تخليداً لأسمائهم، و فيها فوائد تاريخية اجتماعية، و دروس أخلاقية ضافية راقية، لمستقبل الأجيال،

ص:320

و عظات و عبر، و دستور عملي ناجح للناشئة الجديدة، و تجارب و اختبارات تولد حنكة الشعب، و لا تختص بجيل دون جيل، و لا بفئة دون فئة.

و انّما الأيام تقتبس نوراً و ازدهاراً، و تتوسّم بالكرامة و العظمة، و تكتسب سعداً و نحساً، و تتخذصيغة مما وقع فيها من الحوادث الهامّة و قوارع الدهر و نوازله...» «(1)».


1- سيرتنا و سنّتنا: 38- 39 ط الثانية.

ص:321

الفصل الرابع صيانة الآثار الإسلاميّة

اشارة

ص:322

ص:323

الآثار الإسلاميّة و نتائجها الإيجابيّة

تمهيد الآثار الإسلاميّة و نتائجها الإيجابيّة

الأُمم الحيّة المهتمَّة بتاريخها تسعى إلىصيانة كلّ أثر تاريخيّ لهصلة بماضيها؛ ليكون آيةً على أصالتها و عَراقتها في العلوم و الفنون، و أنّها ليست نبتة بلا جذور أو فرعاً بلا أُصول.

و الأُمّة اليقظة تحتفظ بآثارها و تراثها الثقافيّ و الصناعيّ و المعماريّ، و ما له علاقة بماضيها ممّا ورثته عن أسلافها،صيانةً لكيانها و بَرهنةً على عزّها الغابر.

و قد دعت تلك الغايةُ السامية الشعوبَ الحيّة لإيجاد دائرة خاصّة في كلّ قطر لحفظ التراث و الآثار: من ورقة مخطوطة، أو أثر منقوش على الحجر، أو إناء، أو منار، أو أبنية، أو قِلاع و حصونٍ، أو مقابر و مشاهد لإبطالهم و شخصيّاتهم الّذين كان لهم دور في بناء الأُمّة و إدارة البلد و تربية الجيل، إلى حدّ يُنفقون في سبيلها أموالًا طائلة، و يستخدمون عمّالًا و خُبراء يبذلون سعيهم في حفظها و ترميمها وصيانتها عن الحوادث.

إنّ التراث بإطلاقه آية رُقيّ الأُمّة و مقياس شعورها و دليل تقدّمها في معترك الحياة. و لذلك نرى أنّ الشخصية البارزة إذا زارت بلداً و حلّت فيه ضيفاً، يجعل في

ص:324

برنامجها زيارة المناطق الأثرية و المشاهد و المقابر العامرة الّتي ضمَّت جثمانَ الشخصيّات الّتي تنبضُ بالحياة الحاضرة بتضحياتهم و مجاهدتهم من غير فرق بين دولةٍ إلهيّة أو علمانيّة.

هذا هو موجز الكلام في مطلق الآثار، و هَلُمَّ معي ندرس أهميّةصيانة الآثار الإسلامية الّتي تركها المسلمون من عصر الرسول إلى عصرنا هذا في مناطق مختلفة.

لا شكّ أنّ كلّ أثر يمت للإسلام و المسلمين بوجه من الوجوه بصلة، له تأثيره الخاصّ في التدليل على أنّ للشريعة الإسلامية وصاحبها حقيقة، و ليست هي ممّا نسجَتْها يدُ الخيال أوصنعتها الأوهام.

و بعبارة واضحة: أنّ الآثار المتبقّية من المسلمين إلى يومنا هذا تدلُّ على أنّ للدعوة الإسلامية و داعيها واقعيّة لا تُنكر، و أنّه بُعِثَ في زمن خاصّ بشريعة عالميّة، و بكتاب معجز تحدّى به الأُمم، و آمن به لفيف من الناس.

ثمّ إنّه هاجر من موطنه إلى يثرب، و نشر شريعته في الجزيرة العربيّة، ثمّ اتّسعت بفضل سعي أبطالها و معتنقيها إلى سائر المناطق، و قد قدّم في سبيلِها تضحيات، و تربّى في أحضانها علماء و فقهاء و غير ذلك. فهذه آثارهم و مشاهدهم و قبورهم تشهد بذلك.

فصيانةُ هذه الآثار على وجه الإطلاق تُضفي على الشريعة في نظر غير معتنقيها واقعية و حقيقة، و تزيل عن وجهها أيّ ريب أو شك فيصحّة البعثة و الدعوة، و جهاد الأُمّة و نضال المؤمنين.

فإذا كانت هذه نتيجةُصيانتها؛ فإنّ نتيجة تدميرها و تخريبها أو عدم الاعتناء بها مسلَّماً عكس ذلك.

و ممّا يؤسف له أنّنا نرى الأُمّة الإسلامية ابتُليت في هذا الأوان بأُناس

ص:325

جعلوا تدميرَ الآثار و هدمها جزءاً من الدين، و الاحتفاظ بها ابتعاداً عنه؛ فهذه عقليّتهم و هذا مبلغ إدراكهم الّذي لا يقلّ عن عقلية و إدراك الصبيان، الّذين لا يعرفون قيمة التراث الواصل إليهم عن الآباء، فيلعبون به بين الخرق و الهدم و غير ذلك.

لا شكّ أنّ لهدم الآثار و المعالم التاريخية الإسلامية و خاصّة في مهد الإسلام؛ مكّة، و مهجر النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، المدينة المنوّرة، نتائج و آثاراً سيّئة على الأجيال اللّاحقة الّتي سوف لا تجد أثراً لوقائعها و حوادثها و أبطالها و مفكّريها، و ربّما يؤول بها الأمر إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضيّة مفتعلة، و فكرة مبتدعة ليس لها أيّ أساسٍ واقعي تماماً.

فالمطلوب من المسلمين أن يُكوِّنوا لجنة من العلماء من ذوي الاختصاص؛ للمحافظة على الآثار الإسلامية و خاصّة آثار النبيّصلى الله عليه و آله، و آثار أهل بيته، و العناية بها وصيانتها من الاندثار، أو من عمليات الإزالة و المحو، لما في هذه العناية و الصيانة من تكريمٍ لأمجاد الإسلام و حفظ لذكريات الإسلام في القلوب و العقول، و إثبات لأصالة هذا الدين، إلى جانب ما في أيدي المسلمين من تراث ثقافيّ و فكريّ عظيم، و ليس في هذا العمل أيُّ محذور شرعي، بل هو أمر محبَّذ، اتّفقت عليه كلمة المسلمين الأوائل كما سيوافيك، فالسلف الصالح وقفوا- بعد فتح الشام- على قبور الأنبياء ذات البناء الشامخ.. فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم و على رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب أنْ يُهدم، و هكذا الحال في سائر القبور المشيّدة بالأبنية في أطراف العالم. و إنْ كنت في ريبٍ من هذا فاقرأ تواريخَهم، و على سبيل المثال إليك نصّ ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية:

إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعة من قبيلة «لخم» النصرانيّة

ص:326

يقومون على حرم إبراهيم ب «حِبْرون» «(1)» و لعلّهم استغلّوا ذلك ففرضوا أتاوة على حجّاج هذا الحرم... و ربّما يكون لقب تميم الداري نسبة إلى الدار أي الحرم، و ربّما كان دخول هؤلاء اللخميين في الإسلام؛ لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الّذي قدّسه المسلمون تقديسَ اليهود و النصارى من قبلهم «(2)».

و جاء أيضاً في مادة «الخليل»: يقول المقدسي- و هو أوّل من أسهب في وصف الخليل-: إنّ قبر ابراهيم كانت تعلوه قُبّة بُنيت في العهد الإسلامي. و يقول مجير الدين: إنّها شُيّدت في عهد الأُمويين، و كان قبر إسحاق مغطّى بعضُه، و قبر يعقوب قباله، و كان المقدسي أوّل من أشار إلى تلك الهِبات الثمينة الّتي قدّمها الأُمراء الوَرِعون من أقاصي البلاد إلى هذا الضريح، إضافةً إلى الاستقبال الكريم الّذي كان يلقاه الحجّاج من جانب التميميين «(3)».

و لو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء و الصالحين قبل ظهور الإسلام و ما بناه المسلمون في عصر الصحابة و التابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان لجاء بكتاب فخم ضخم، و هو يَكشف عن أنّ السيرة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام و بعده من عصر الرسول و الصحابة و التابعين لهم إلى يومنا هذا كانت هي العناية بحفظ آثار رجال الدين، الكاشفة عن مشروعية البناء على القبور، و إنّه لم ينبس أيّ شخص في رفض ذلك ببنت شفة و لم يعترض عليها أحد، بل تلقّاها الجميع بالقبول و الرضا، إظهاراً للمحبّة و الودّ لأصحاب الرسالات و النبوّات و أصحاب العلم و الفضل، و من خالف تلك السنّة و عدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين، قال


1- كلمة عبرية تعني: مدينة الخليل.
2- دائرة المعارف الإسلامية 5: 484 مادة تميم الداري.
3- دائرة المعارف الإسلامية 8: 431.

ص:327

سبحانه: «وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً» «(1)».

و اليوم و بعد مضيّ عشرين قرناً على ميلاد السيد المسيح عليه السلام تحوّل المسيح و أُمّه العذراء و كتابه الإنجيل و كذلك الحواريون، تحوّلوا- في عالم الغرب- إلى أُسطورة تاريخية، وصار بعض المستشرقين يشكِّكون- مبدئياً- في وجود رجل اسمه المسيح و أُمّه مريم و كتابه الإنجيل، و يعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه أُسطورة «مجنون ليلى».

لما ذا؟

لأنّه لا يوجد أيّ أثر حقيقيّ و ملموس للمسيح، فمثلًا لا يُدرى- بالضبط- أين وُلِد؟ و أين داره الّتي كان يسكنها؟ و أين دفنوه بعد وفاته- على زعم النصارى أنّه قتل-؟

أمّا كتابه السماوي فقد امتدّت إليه يد التحريف و التغيير و التزوير، و هذه الأناجيل الأربعة لا تمتّ إليه بصلة و ليست له، بل هي ل «متّى» و «يوحنّا» و «مرقس» و «لوقا»، و لهذا ترى في خاتمتها قصّة قتله المزعوم و دفنه، و من الواضح- كالشمس في رائعة النهار- أنّها كتبت بعد غيابه.

و على هذا الأساس يعتقد الكثير من الباحثين و المحقّقين أنّ هذه الأناجيل الأربعة إنّما هي من الكتب الأدبيّة الّتي يعود تاريخها إلى القرن الثاني من الميلاد، فلو كانت الآثار الخاصّة بعيسى محفوظة، لكان ذلك دليلًا على حقيقة وجوده و أصالة حياته و زعامته، و ما كان هناك مجال لإثارة الشكوك و التساؤلات من قِبَل المستشرقين ذوي الخيالات الواهية.


1- النساء: 115.

ص:328

أمّا المسلمون، فهم يواجهون العالَم مرفوعي الرأس، و يقولون: يا أيّها الناس لقد بُعثَ رجلٌ من أرض الحجاز، قبل ألف و أربعمائة سنة لقيادة المجتمع البشري، و قد حقّق نجاحاً باهراً في مهمّته، و هذه آثار حياته، محفوظة تماماً في مكّة و المدينة؛ فهذه الدار الّتي وُلد فيها، و هذا غار حراء حيث هبط إليه الوحي و التنزيل فيها، و هذا هو مسجده الّذي كان يُقيم الصلاة فيه، و هذا هو البيت الّذي دُفن فيه، و هذه بيوت أولاده و زوجاته و أقربائه، و هذه قبور ذريّته و أوصيائه عليهم السلام.

و الآن، إذا قَضينا على هذه الآثار فقد قضينا على معالم وجودهصلى الله عليه و آله و دلائل أصالته و حقيقته، و مهّدنا السبيلَ لأعداءِ الإسلام ليقولوا ما يريدون.

إنّ هدم آثار النبوّة و آثار أهل بيت العصمة و الطهارة ليس فقط إساءة إليهم عليهم السلام و هتكاً لحرمتهم، بل هو عداء سافر مع أصالة نبوّة خاتم الأنبياء و معالم دينه القويم. إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبديّة، و سوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة، و لا بدّ للأجيال القادمة- على طول الزمن- أنْ تعترف بأصالتها و تؤمن بقداستها. و لأجلِ تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ- أبداً- على آثارصاحب الرسالة المحمّديةصلى الله عليه و آله لكي نكون قد خَطَوْنا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين و بقائه على مدى العصور القادمة، حتّى لا يشكّك أحد في وجود نبيّ الإسلامصلى الله عليه و آله كما شكّكوا في وجود النبيّ عيسى عليه السلام.

لقد اهتمَّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبيّ محمدصلى الله عليه و آله و سيرته و سلوكه، حتّى أنّهم سجّلوا دقائق أُموره و خصائص حياته و مميّزات شخصيّته، و كلّ ما يرتبط به كخاتمه، و حذائه، و سواكه، و سيفه، و درعه، و رمحه، و جواده، و إبله، و غلامه، و حتّى الآبار الّتي شرب منها الماء، و الأراضي الّتي أوقفها لوجه اللَّه سبحانه، و الطعام المفضّل لديه، بل و كيفية مشيته و أكله و شربه، و ما يرتبط بلحيته المقدّسة و خضابه لها، و غير ذلك، و لا زالت آثار البعض منها باقية إلى

ص:329

يومنا هذا «(1)».

هذه كلمة موجزة عن هذا الموضوع و موقف العقلاء عامّة و المسلمين خاصّة منه، فهلمّ معي ندرس المسألة في ضوء الكتاب و السنّة حتّى تتجلّى الحقيقة بأعلى مظاهرها، و نثبت أنّصيانة قبور الأنبياء و الأولياء و الشهداء و تعميرها و تشييدها بقباب، هي ممّا دعا إليها الكتاب و السنّة النبويّة و سيرة المسلمين إلى أوائل القرن الثامن، عصر إثارة الشكوك حول هذا الموضوع و غيره، عصر ابن تيمية (661- 728 ه) الّذي أثار تلك الفكرة لتفريق كلمة الأُمّة، و تلقّى ذلك بالقبول وارث منهجه محمد بن عبد الوهاب النجدي (1115- 1206 ه)، إلى أن أحيا منهج شيخه بعد الاندراس بفضل سيف آل سعود، و حمايتهم له لغاية في نفوسهم لا تُنكَر.

و سندرس الموضوع من خلال مباحث و لنقدِّم ما تدلّ عليه من الآيات.


1- راجع الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 360- 503 حول هذا الموضوع.

ص:330

صيانة الآثار من منظار القرآن الكريم

المبحث الأوّل:صيانة الآثار من منظار القرآن الكريم

الآية الأُولى: الإذن برفعِ بيوتٍ خاصة

اشارة

إذا كان لصيانة الآثار الإسلاميّة ذلك التأثير الكبير الّذي اتّضح للقارئ فيما مرّ من التمهيد، فعلينا استنطاق كتاب اللَّه حولَ هذا الموضوع حتّى نقف على حكم اللَّه فيه.

و سنشير هنا إلى الآيات ذات الصلة الواضحة بالموضوع، و الّتي لا تتجاوز أربع آيات:

قال سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ» «(1)».

و للمفسّرين حول هذه الآية بحوث، منها: تعيين متعلّق الظرف، أعني قوله:

«فِي بُيُوتٍ»، فهل هو متعلّق بما قبله، أي قوله سبحانه في الآية المتقدّمة عليها


1- النور: 36- 37.

ص:331

«كَمِشْكاةٍ» أي المشكاة في بيوت، أو هو متعلّق بفعل مقدّر يدلّ عليه لفظ «يُسَبِّحُ» في الآية، و لا مانع من التكرار، أو متعلّق بشي ء آخر مثل قوله: سبّحوا في بيوت؟

و المهم بيان أمرين:

الأوّل: ما هو المراد من هذه البيوت الّتي أذن اللَّه أن ترفع؟

الثاني: ما هو المراد من الرفع فيها؟

أمّا الأوّل، فالمفسّرون فيه على أقوال:

1- المراد المساجد الأربعة.

2- مطلق المساجد.

3- بيوت النبيّ.

4- المساجد و بيوت النبيّ.

و استفدنا هذه الأقوال من المصادر «(1)»، و المهم تعيين المراد منها وفق الموازين الصحيحة في تفسير الآية.

1- أنّ القولين: الأوّل و الثاني مبنيان علىصحّة إطلاق البيت على المسجد، و لوصحّ ذلك لغة- و لن يصحّ كما سيوافيك- إلّا أنّه إطلاق شاذ، و لا يصحّ تفسير القرآن بالاستعمال الشاذ، و ذلك لأنّ البيت في القرآن غير المسجد، فالمسجد الحرام غير بيت اللَّه الحرام الّذي جعله اللَّه قياماً للناس «(2)».

2- أنّ البيت لا ينفكّ عن السّقف لقوله تعالى: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ


1- الطبري، التفسير، 18: 111- 112؛ الدُّر المنثور 6: 203؛ الكشاف 2: 390؛ الرازي، التفسير 24: 3؛ الجامع لأحكام القرآن 12: 266؛ ابن كثير، التفسير 3: 292؛ روح البيان 2: 158؛ محاسن التأويل 7: 213؛ فتح البيان 6: 372؛ البحر المحيط 6: 458.
2- المائدة: 97.

ص:332

تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ» «(1)»، و قال سبحانه: «وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ» «(2)»، و قال سبحانه: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» «(3)».

فهذه الآيات تدلّ على أنّ البيت لا ينفكُّ عن السقف، بخلاف المساجد فإنّها ربما تكون مكشوفة بلا سقف، و هذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً بلا سقف، و معه كيف يمكن تفسير البيوت بالمساجد؟

3- أنّ سورة النور الّتي وردت فيها هذه الآية تعتني بشأن البيوت عامّة، و يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ» «(4)» فقد تكرّر في هذه الآيات ذكر البيوت ظاهراً و مستتراً سبع مرّات.

ثمّ إنّه سبحانه يسترسل في ذكر البيوت في الآية (61) و يقول: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْصَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا


1- الأحزاب: 33.
2- الزخرف: 33.
3- النمل: 52.
4- النور: 27- 29.

ص:333

جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «(1)» فقد ذكر فيها البيوت عشر مرّات.

فالآيةُ قيدَ البحث وقعت بين هاتين الطائفتين من الآيات، أ فيصحُّ لنا أن نفسّر قوله «فِي بُيُوتٍ» بالمساجد مع هذه الآيات الكثيرة الّتي تضمّنت استعمال البيت قبال المسجد؟

4- إنّ من يُفسّر البيوت بالمساجد يعتمد على رواية موقوفة لابن عباس و مجاهد، لكنّها لا تقاوم ما ورد مسنداً عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله:

روى الحافظ السيوطي قال: أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة:

أنّ رسول اللَّه قرأ هذه الآية: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقام إليه رجل قال:

أيُّ بيوتٍ هذه يا رسول اللَّه؟ قال: «بيوت الأنبياء»، فقام إليه أبو بكر و قال: يا رسول اللَّه و هذا البيت منها- مشيراً إلى بيت علي و فاطمة- فقال النبيصلى الله عليه و آله: «نعم و من أفاضلها» «(2)».

و لأجل رجحان الحديث المسند على الموقوف، قال الآلوسي في تفسيره بعد نقل الحديث: و هذا إنصحّ لا ينبغي العدول عنه «(3)».

و لأجل بعض ما ذكرنا قال أبو حيان: الظاهر أنّ البيوت مطلق يصدق على المساجد و البيوت الّتي تقع الصلاة فيها و هي بيوت الأنبياء «(4)».

و قد روي عن الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين عليه السلام: أنّ المقصود


1- النور: 61.
2- الدرّ المنثور 6: 203.
3- روح المعاني 18: 174.
4- البحر المحيط 6: 458.

ص:334

بيوت الأنبياء و بيوت عليّ عليهم السلام «(1)».

5- إنّ القرآن الكريم يعتني ببيوت النبيّ و أهلها، يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» «(2)» و يعتني بأهلها و يقول: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «(3)».

6- و إذا راجعنا اللغة، نرى أنّ أصحاب المعاجم يفسّرونه على وجه لا ينطبق على المسجد، يقول الراغب: أصل البيت مأوى الإنسان بالليل، لأنّه يقال: بات:

أقام بالليل، كما يقال: ظلّ بالنهار، ثمّ قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه، و جمعه أبيات و بيوت، لكن البيوت للمسكن أخصّ، و الأبيات بالشعر «(4)».

و قال ابن منظور في اللسان: البيت معروف، و بيت الرجل داره، و بيته قصره، و منه قول جبرئيل عليه السلام: «بشّر خديجةَ ببيتٍ من قصب» أراد: بشّرها بقصر من لؤلؤة مجوّفة أو بقصر من زمردة «(5)».

فهذه القرائن لو تدبّر فيها المفسّر لأذعن أنّ المراد من «بُيُوتَ» غير المساجد، سواء أُريد منه المسجد الحرام و مسجد النبي و المسجد الأقصى و مسجد قبا، أو أُريد مطلق المساجد.

7- أضف إلى ذلك أنّ تفسير البيوت بالمساجد مرويّ عن كعب الأحبار، ذلك الحبر اليهودي الّذي أدخل الإسرائيليّات في السنن و الأحاديث، روى ابن كثير قال: قال كعب الأحبار: مكتوب في التوراة: «أنّ بيوتي في الأرض


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 137.
2- الأحزاب: 53.
3- الأحزاب: 33.
4- المفردات: 64 مادة بيت.
5- اللسان 2: 14 مادة بيت.

ص:335

المساجد» «(1)»، و لوصحّ أنّ ابن عباس أخذه عن كعب الأحبار كما يدّعيه علماء الرجال في ترجمة كعب الأحبار فلعلّه أخذ منه، و مرويّات كعب إسرائيليّات لا يصحّ الاحتجاج بها.

غير أنّ ما تضافر عن النبيّ الأكرم خلاف ذلك، حيث قال: «جُعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً» «(2)»، فإذا كان جميع الأرض مسجداً للَّه تبارك و تعالى فيكون جميعها معبداً و مسجداً.

8- و ربّما يتصوّر أنّ ذيل الآية الّذي جاء فيه قوله: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ» قرينة على أنّ المراد من البيوت هي المساجد، و لكنّه غَفِلَ عن أنّ شأن بيوت الأنبياء و الأولياء و الصالحين، شأن المساجد، فهم فيها بين قائم و راكع و ساجد و ذاكر.

و قد اعتنى النبيّ الأكرم بشأن البيوت؛ فقد عقد مسلم باباً فيصحيحه لاستحباب إقامةصلاة النافلة في البيت و روى فيه الروايات التالية:

أ- عن ابن عمر عن النبيّصلى الله عليه و آله: «اجعلوا منصلاتكم في بيوتكم و لا تتّخذوها قبوراً».

ب- عن ابن عمر عن النبيصلى الله عليه و آله: «صلّوا في بيوتكم و لا تتّخذوها قبوراً».

ج- عن جابر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً منصلاته فإنّ اللَّه جاعل في بيته منصلاته خيراً».

د- عن أبي موسى عن النبيصلى الله عليه و آله: «مثل البيت الّذي يذكر اللَّه فيه و البيت الّذي لا يذكر اللَّه فيه مثل الحيّ و الميّت».


1- ابن كثير، التفسير 3: 292.
2- البخاري، الصحيح 1: 91 كتاب التيمم/ ح 2؛ البيهقي، السنن: 433 باب أينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد.

ص:336

ه- و عن زيد بن ثابت في حديث: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإنّ خيرصلاة المرء في بيته إلّا الصلاة المكتوبة» «(1)».

و- روى أحمد أنّ عبد اللَّه بن سعد سألَ رسول اللَّه و قال: أيّما أفضل: الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: «فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، و لئن أُصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أُصلّي في المسجد إلّا أن تكونصلاة مكتوبة» «(2)».

فهذه القرائن المؤكّدة ترفع الستار عن وجه المعنى؛ فإنّ المراد من الآية هو بيوت الأنبياء و بيوت النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله و بيت عليّ عليه السلام و ما ضاهاها، فهذه البيوت لها شأنها الخاصّ؛ لأنّها تخصُّ رجالًا يُسبّحونه سبحانه ليلًا و نهاراً، غُدُوّاً و آصالًا، تعيش فيها رجال لا تُلهيهم تجارةٌ و لا بيع عن ذكر اللَّه و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة و قلوبهم مليئة بالخوف من يوم تتقلّب فيه القلوب و الأبصار.

ما هو المراد من الرفع؟

قد تعرّفت على المقصود من البيوت، فهلمّ معي ندرس معنى الرفع، و من حسن الحظّ أنّ المفسّرين لم يختلفوا فيه اختلافاً موجباً لغموض المعنى؛ فقد ذكروا فيه المعنيين التاليين:

الأوّل: أنّ المراد من الرفع هو البناء، بشهادة قوله سبحانه: «أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها» «(3)»، و قوله سبحانه: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ...» «(4)».


1- مسلم، الصحيح 2: 187- 188 باب استئجار صلاة النافلة في البيت.
2- أحمد، المسند 4: 342.
3- النازعات 27- 28.
4- البقرة: 127.

ص:337

الثاني: أنّ المراد هو تعظيمها و الرفع من قدرها، قال الزمخشري: رَفْعُها: إمّا بناؤها؛ لقوله تعالى: «رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها» و «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ...» أمر اللَّه أن تُبنى، و إمّا تعظيمها و الرفع من قدرها «(1)».

و قال القرطبي: ترفع: تُبْنى و تعْلى «(2)».

و قال إسماعيل حقي البروسوي: أن ترفع: بالبناء، و التعظيم و رفع القدر «(3)».

و قال حسنصدّيق خان: المراد من الرفع، بناؤها «أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها» و رفع ابراهيم القواعد من البيت، و ترفع أي تعظّم و تطهر من الأنجاس عن اللغو و لها مجموع الأمرين «(4)»، إلى غير ذلك من الكلمات المتشابهة، و لا حاجة إلى ذكرها، إنّما المهم بيان دلالة الآية و تحقيقها.

قد عرفت أنّ المراد من البيوت هو بيوت الأنبياء و العترة و الصالحين منصحابة النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله، فالآية تأذن أن تُبنى هذه البيوت بناءً حسّياً و ترفع من قدرها رفعاً معنوياً، فهنا نستنتج من الآية أمرين:

1- أنّ المراد من رفع البيوت ليس إنشاؤها؛ لأنّ المفروض أنّها بيوت مبنيّة، بل المراد هوصيانتها عن الاندثار، و ذلك كرامة منه سبحانه لأصحاب هذه البيوت، فقد ترك المسلمون الأوائل بيوتاً للرسول الأكرم و العترة الطاهرة و للصالحين منصحابته، و حرستها الدول الإسلامية طيلة أربعة عشر قرناً، فعلى المسلمين قاطبة و الدول الإسلاميّة عامّة بذل السعي فيصيانتها عملًا بالآية المباركة، و الحيلولة دون تهديمها بحجّة توسعة المسجد النبوي أو المسجد الحرام.

و لكن من سوء الحظّ، أو من تسامح الدول في ذلك المجال أن هُدّمت هذه


1- الكشاف 2: 390 بتصرّف يسير بإضافة كلمة« أما».
2- جوامع الأحكام 12: 266.
3- روح البيان 6: 158.
4- فتح البيان 6: 372.

ص:338

البيوت و دمّرت بمعاول الوهابيين، و من هذه البيوت بيت الحسنين و الصادقين عليهم السلام في محلّة بني هاشم، فلا ترى لها أثراً، كما لا ترى من بيت أبي أيوب الأنصاري مُضيِّف النبيّ الأكرم أثراً، و مثلها مولد النبيّ في مكّة المكرّمة و غيرها.

فعلى المسلمين مسئولية إعادة هذه الأبنية في أماكنها عملًا بالآية و رفع قدرها مهما أمكن، و لئنصارت الإعادة أُمنية لا تُدرَك، ما دام السيف على هامة المسلمين في أرض الوحي و التوحيد، لكنصيانةُ ما بقي منها في مختلف الأقطار أمرٌ ممكن.

2- أنّ قسماً من البيوت في المدينة المنوّرة مقابر و مشاهد لهؤلاء، فقد دُفن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في بيته.

كما أنّ بيت العسكريين يعني الإمام علياً الهادي و الحسن العسكري في سامرّاء بمنزلة مقابرهما و مشاهدهما، فليس لأحد قلعها بمعاول الجور باسم التوحيد، و أيّ توحيد أعلى و أجل ممّا دعا إليه الذكر الحكيم الّذي يأمر بصيانة بيوت هؤلاء مطلقاً، سواء كانت مقابرهم أمْ لا.

باللَّه عليك أيّها القارئ الكريم هل زرتَ بقيع الغرقد مراقدَ الأئمة و الصحابة و زوجات النبيّ و الشخصيّات الإسلاميّة الكبيرة، و هل شاهدت قيام الحكومة بواجبها من رفع قدره و تنظيف أرضه، أم شاهدت نقيض ذلك؟! و قد كانت بعض هذه القبور بيوت الصحابة، و لعمري أنّ القلب ليحترق إذا رأى أنّ الوهابيين يتعاملون مع قبور أفلاذ كبد النبيّ و خيار أصحابه معاملة العدوّ مع العدوّ، و نعم من قال:

لعمري أنّ فاجعة البقيع يشيب لهولها فُود الرّضيعِ

لقد خرجنا من دراسة هذه الآية بنتيجة خاصّة، و هي أنّصيانة بيوت الأنبياء و الأولياء أمر ندب اللَّه سبحانه المسلمين إليه، سواء كان فيها قبر أم لا، و أنّ رفعها بالبناء، وصيانتها عن الانطماس، و تنظيفها عن الرجس و اللغو عمل بالشريعة المقدّسة؛ حيثُ نزل به الوحي و سار عليه المسلمون في جميع القرون.

ص:339

الآية الثانية: اتّخاذ المساجد على قبور المضطهدين في سبيل التوحيد

اشارة

يذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف، و أنّهم اعتزلوا قومَهم للحفاظ على عقيدتهم و دينهم، حتّى وافاهم الأجل و هم في الكهف، و قد أعثر اللَّه عليهم قوماً بعد ثلاثة قرون و أطلعهم عليهم، يقول سبحانه: «وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» «(1)».

و معنى الآية أنّا أعثرنا على أصحاب الكهف أهلَ تلك المدينة ليعلموا أنّ وعد اللَّه بالبعث حقّ، فإنّ بَعْثَ هؤلاء بعد لَبْثهم في كهفهم ثلاثمائة سنة و ازدادوا تسعاً دليل على إمكان الحياة الثانوية، ليعلموا أنّ الساعة لا ريب فيها.

ثمّ إنّ القوم الذين أعثرهم اللَّه على أجسادهم اتّفقوا على تكريمهم، و لكن اختلفوا في طريقة التكريم، كما يقول سبحانه: «إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ»، فظاهرُ المنازعة هو ما جاء بعد هذه الجملة بضميمة لفظة الفاء، فقال جماعة:

«ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً»، أي اجعلوا عليهم بنياناً كبيراً، و يدلّ على الوصف تنكير «بُنْياناً»، و قدصرّح الجوهري و ابن منظور بأنّ البنيان بمعنى الحائط «(2)»، و لذلك فسّره القاسمي بقوله: أي باب كهفهم بنياناً عظيماً كالخانقاهات «(3)» و المشاهد


1- الكهف: 21.
2- الصحاح 6: 228 مادة بناء؛ لسان العرب 1: 510 تلك المادة.
3- الخانقات كلمة فارسية مفردها: خانقاه و تعني محلّ اجتماع الصوفيّين و الدراويش. لغت نامه 20: 169 بالفارسية.

ص:340

و المزارات المبنيّة على الأنبياء و أتباعهم «(1)»، تستر أجسادهم و تعظّم أبدانهم، ربهم أعلم بهم.

و لكن قال آخرون و هم الذين غلبوا على أمر القائلين بالقول الأوّل وصار البلد تحت سلطتهم «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» و معبداً و موضعاً للعبادة و السجود يتعبّد الناس فيه ببركاتهم.

هذا هو الظاهر المستفاد من الآية.

قال الرازي: «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ» قيل: المراد به الملك المسلم و أولياء أصحاب الكهف، و قيل: رؤساء البلد، «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» نعبد اللَّه، و ستبقى آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد «(2)».

و قال أبو حيان الأندلسي (654- 754 ه): روي أنّ الّتي دَعت إلى البنيان كانت، كافرة؛ أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم، فمانعهم المؤمنون و بنوا عليهم مسجداً «(3)».

و قال أبو السعود (ت 951 ه): «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ» و هم الملك و المسلمون «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» «(4)».

و قال الزمخشري في الكشّاف: «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ» من المسلمين و ملكهم و كانوا أولى بهم و بالبناء عليهم: ليتّخذ على باب الكهف مسجداً يصلّي فيه المسلمون و يتبرّكون بمكانهم «(5)».

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية، و كأنَّ الاتفاق موجود على أنّ القول بإيجاد البنيان على باب الكهف كان لغير المسلمين، و القول ببناء المسجد


1- محاسن التأويل 7: 21.
2- مفاتيح الغيب 21: 105.
3- البحر المحيط 6: 109 ط. دار الكتب العلمية.
4- أبو السعود محمد بن محمد العمادي، التفسير 5: 215.
5- الكشاف 2: 245.

ص:341

على بابه قول المسلمين، و الّذي يدلّ على ذلك أمران:

الأوّل: أنّ اتّخاذ المسجد دليل على أنّ القائل كان موحّداً مسلماً غير مشرك؛ فأيّصلة للمشرك ببناء مسجد على باب الكهف، و إذا كان المشركون يهتمّون بعمارة المسجد الحرام فلأجل أنّه أُنيطَ بالبيت كيانهم و عظمتهم في الأوساط العربيّة، بحيث كان التخلّي عنها مساوقاً لسقوطهم عن أعين العرب في الجزيرة كتكريمهم البيت الحرام.

أ فبعدَ اتّفاق أكابر المفسّرين هل يصحّ لباحثٍ أن يشكّ في أنّ القائلين ببناء المسجد على قبورهم كانوا هم المسلمين الموحّدين؟!

الثاني: ما رواه الطبري في تفسير قوله: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ» «(1)» قال: إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أُناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فزعاً و رأى أنّه حيران، فقام مسنِداً ظهرَه إلى جدار من جُدران المدينة و يقول في نفسه: أمّا عشيّة أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلّا قُتل، أمّا الغداة فأسمعهم و كلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف!! ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه ليست بالمدينة الّتي أعرف «(2)».

و هذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحّدة مؤمنة متديّنة بشريعة المسيح، رغم كونهم على ضدّه قبل ثلاثمائة سنة.

و قال في تفسير قوله تعالى: «فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً» «(3)» فقال الّذين أعثرناهم على أصحاب الكهف: «ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ» يقول: ربّ الفتية أعلم بشأنهم، و قوله: «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ» يقول جلّ ثناؤه:


1- الكهف: 19.
2- الطبري، التفسير 15: 219 في تفسير سورة الكهف، الآية 19 ط. مصطفى الحلبي، مصر.
3- الكهف: 21.

ص:342

قال القوم الّذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف: «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً».

و قد نُقل عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير: فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً؛ فإنّهم أبناءُ آبائنا و نعبد اللَّه فيها، و قال المسلمون: نحن أحقّ بهم، هم منّا، نبني عليهم مسجداً نصلّي و نعبد اللَّه فيه «(1)».

الرأي المسبق يضرب عرض الجدار

إنّ الشيخ الألباني ربيب الوهابيّة و مروّجها، لمّا رأى دلالة الآية على أنّ المسلمين حاولوا أنْ يبنوا مسجداً على قبورهم، و كان ذلك على طرف الخلاف من عقيدته، حاول تحريف الكلم و قال: إنّ المراد من الغالبين هم أهل السلطة، و لا دليل على حجيّة فعلهم! و لكنّه عزب عن رأيه أنّ البيئة قد انقلبت عن الشرك إلى التوحيد و من الكفر إلى الإسلام حسبما نقله الطبري، و ليس القائل ببناء المسجد على بابهم الملك، و إنّما القائل هم الّذين توافدوا على باب الكهف عند ما أعثرهم سبحانه على أحوالهم، و طبع الحال يقتضي توافد الأكثرية الساحقة القاطنين في المدينة على باب الكهف لا خصوص الملك، و لا وزراؤه، بل الموحّدون بأجمعهم، و هو في هذه النسبة عيال على ابن كثير حيث قال: و الظاهر أنّهم أصحاب النفوذ «(2)».

نحن نفترض أنّهم أصحاب النفوذ، إلّا أنّهم نظروا إلى الموضوع من خلال منظار دينهم و مقتضى مذهبهم لا مقتضى سلطتهم.

تقرير القرآن على صحّة كلا الاقتراحين

إنّ الذكر الحكيم يذكر كلا الاقتراحين من دون أيّ نقدٍ ورد، و ليسصحيحاً


1- الطبري، التفسير 15: 225 و في ط أُخرى: ص 149؛ و لاحظ تفسير القرطبي و الكشاف للزمخشري و غرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية.
2- ابن كثير، التفسير 5: 375.

ص:343

قطعاً أن يذكر اللَّه سبحانه عن هؤلاء الموجودين على باب الكهف أمراً باطلًا من دون أيّة إشارة إلى بطلانه؛ إذ لو كان كذلك كأن يكون أمراً محرّماً أو مقدّمة للشرك و الانحراف عن التوحيد، لكان عليه أن لا يمرّ عليها بلا إشارة إلى ضلالهم و انحرافهم، خصوصاً أنّ سياق الآية بصدد المدح، و أنّ أهل البلد اتّفقوا على تكريم هؤلاء الّذين هجروا أوطانهم لأجلصيانة عقيدتهم، غاية الأمر اختلفوا في كيفيّته، فمن قائل ببناء البنيان إلى آخر قائلٍ ببناء المسجد.

إنّ القرآن كتاب نزل لهداية الإنسان و تربية الأجيال، و الهدف من عرض حياة الأُمم و وقائعهم هو الاعتبار، فلا ينقل شيئاً إلّا فيه عبرة، فلو كان الاقتراحان يمسّان كرامة التوحيد، لِمَ سكت عنه؟!

و هذا ظاهر فيمن تدبّر في القرآن الكريم، و سيوافيك بقيّة الكلام عند بيان النتيجة.

و لكن تعال معي لنقف على بعض ما قاله جمال الدين القاسمي الدمشقي (1283- 1332 ه) الذي كان يصوّر نفسه مصلحاً إسلاميّاً يسعى إلى توحيد كلمة المسلمين و لَمِّ شَعْثِهم، و من شروط من يتبنّى لنفسه ذلك المقام الرفيع أن ينظر إلى المسائل من منظار وسيع، و يستقبل الخلاف بين المسلمين بسعةصدر، و لكنّه- عفا اللَّه عنه- يريد توحيد الكلمة في ظلّ الأُصول الّتي ورثها عن ابن تيمية، فزاد في الطين بلّة، و يشهد لذلك ما علّقه على عبارة ابن كثير.

قال ابن كثير بعد تفسير الآية: هل هم كانوا محمودين أم لا؟ فيه نظر؛ لأنّ النبيّ قال: «لعن اللَّه اليهود و النصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» يحذّر ما فعلوا.

و قال جمال الدين: و عجيب من تردّده في كونهم غير محمودين، مع إيراده

ص:344

الحديث الصحيح بعده المسجّل بلعن فاعل ذلك، و السبب في ذلك أنّ البناء على قبر النبيّ مَدعاة للإقبال عليه و التضرّع إليه، ففيه فتح لباب الشرك، و توسّل إليه بأقرب وسيلة... «(1)».

يلاحظ عليه: أنّ القرآن هو الحجّة الكبرى للمسلمين، و فيه تبيان لكلّ شي ء، و هو المهيمن على الكتب، فإذا دلّ القرآن على جوازه فما قيمة الخبر الواحد الّذي روي في هذا المجال إذا كان مضادّاً للوحي، و مخالفاً لصريح الكتاب، و إن كانت السنّة المحمديّة الواقعية لا تختلف عنه قيد شعرة، إنّما الكلام في الرواية الّتي رواها زيد عن عمرو حتّى ينتهي إلى النبيّ، فإنّ مثله خاضع للنقاش، و مرفوض إذا خالف الكتاب، لكن ما ذكره يعرب عن أنّ الأساس عنده هو الحديث لا الذكر الحكيم.

و كان عليه بعد تسليم دلالة القرآن أن يبحث في سند الحديث و دلالته، و أنّ الحديث على فرض الصحّة ناظر إلى ما كان القبر مسجوداً له، أو مسجوداً عليه أو قِبلة، و من المعلوم أنّ المسلمين لا يسجدون إلّا للَّه، و لا يسجدون إلّا على ماصحّ السجود عليه، و لا يستقبلون إلّا القِبلة، و سيتّضح نصّ محقّقي الحديث، على أنّ المراد هو ذلك، فانتظر.

و أعجب منه ما في ذيل كلامه: من أنّه رأى التوسّل بالنبيّ شركاً، مع أنّ النصوص الصحيحة في الصحاح تدلّ على جوازه، فقد توسّل الصحابي الضرير بالنبيّ الأكرم حسب تعليمه و قال: اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى «(2)».


1- محاسن التأويل 7: 30- 31.
2- الترمذي، الصحيح 5: كتاب الدعوات، الباب 119/ ح 2578؛ ابن ماجة، السنن 1: 441/ ح 1385؛ الإمام أحمد، المسند 4: 138، إلى غير ذلك من المصادر.

ص:345

و قد اتّفقوا على صحّة الحديث، حتّى أنّ ابن تيمية- مُثيرَ هذه الشكوك- اعترف بصحّته و قال: و قد روى الترمذي حديثاًصحيحاً عن النبيّ أنّه علّم رجلًا يدعو فيقول:...، و قد أوردنا نصوص القوم في بحث «التوسّل» «(1)».

و من زعم أنّ هذه التوسّلات أساس الشرك، فلينظر إلى المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً؛ فإنّهم ما برحوا يتوسّلون بالنبيّصلى الله عليه و آله، و ما عدلوا عن سبيل التوحيد قيد شعرة.

إنّ إنشاء البناء على قبر نبيّ التوحيد تأكيدٌ على مبدأ التوحيد و رسالته العالمية الّتي يشكّل أصلها الأوّل قوله سبحانه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» «(2)».

و قد خرجنا عن هذه الدراسة بالنتيجتين التاليتين:

1- جواز البناء على قبور الأولياء و الصالحين و دعاة التوحيد فضلًا عن النبيّ، و ما ذلك إلّا أنّ القرآن ذكر ذلك من دون أن يغمض فيه، و ليس القرآن كتاباً قصصيّاً و لا مسرحيّاً للتمثيل، بل هو كتاب هداية و نور، فإن نقل شيئاً و لم يغمض عليه فهو دليل على أنّه محمود عنده.

نرى أنّه سبحانه يحكي كيفيّة غرق فرعون و يقول: «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» «(3)».

و لمّا كانت تلك الفكرة باطلة عنده سبحانه، أراد إيقاف المؤمنين على أنّ الإيمان في هذا الظرف غير مفيد، فلأجل ذلك عقّب عليه بقوله: «آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» «(4)».


1- راجع ص 611 من هذا الكتاب.
2- النحل: 36.
3- يونس: 90.
4- يونس: 91.

ص:346

فالإنسان العارف بالكتاب يقف على أنّه لم يترك علىصعيد العقائد أُموراً إلّا و ذكر أوضحها و بيّنها بطرق مختلفة، و من تلك الطرق القصص الواردة في الكتاب العزيز؛ فكلّ ما وقع في الأُمم السالفة وصار القرآن بصدد ذكره فهو على أقسام ثلاثة: كونه بيّن الصحة، أو بيّن البطلان، أو المردّد بين الأمرين.

فقد يترك البيان في الأوّلين لعدم الحاجة، و أمّا الثالث فلا يتركه إلّا إذا كان مقبولًا لديه.

2- جواز بناء المسجد على قبور الصالحين فضلًا عن الأنبياء و جواز الصلاة فيها و التبرّك بتربته، فلو كانت الصلاة في المقابر مكروهة فالأدلّة المرغّبة إلى الصلاة في جِوار الصالحين و الأنبياء تخصّص تلك العمومات؛ و ذلك لأنّ للصلاة في مشاهدهم مصلحة تغلب على المضاضة الموجودة في الصلاة في المقابر المطلقة.

ص:347

الآية الثالثة:صيانة الآثار و تعظيم الشعائر

اشارة

قال سبحانه: «ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» «(1)».

و الاستدلال بالآية يتوقّف على ثبوتصغرى و كبرى:

فالصغرى عبارة عن كون الأنبياء و أوصيائهم و من يرتبط بهم أحياءً و أمواتاً من شعائر اللَّه، و الكبرى عبارة عن كون البناء وصيانة الآثار و المقابر تعظيماً لشعائر اللَّه.

و لا أظنّ أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان، إنّما المهم بيان الصغرى، و أنّ الأنبياء و الأوصياء و ما يرتبط بهم من شعائر اللَّه، و بيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر اللَّه من الآيات:

1- «إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» «(2)».

2- «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً» «(3)».

3- «وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ» «(4)».

و في آية أُخرى جعل مكان شعائر اللَّه حرمات اللَّه و قال:

«ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ...» «(5)».


1- الحجّ: 32.
2- البقرة: 158.
3- المائدة: 2.
4- الحجّ: 36.
5- الحج: 30.

ص:348

ما هو المقصود من شعائر اللَّه؟

هنا احتمالات:

1- تعظيم آيات وجوده سبحانه.

2- معالم عبادته و أعلام طاعته.

3- معالم دينه و شريعته، و كلّ ما يمت إليهما بصلة.

أمّا الأوّل، فلم يقل به أحد؛ إذ كل ما في الكون آيات وجوده، و لا يصحّ تعظيم كلّ موجود بحجّة أنّه دليل على الصانع.

و أمّا الثاني؛ فهو داخل في الآية قطعاً، و قد عدّ الصَّفا و المروةَ و البُدْن من شعائر اللَّه، فهي من معالم عبادته و أعلام طاعته، إنّما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة و أعلام الطاعة، و لا دليل عليه، بل المتبادر هو الثالث، أي معالم دينه سبحانه، سواء كانت أعلاماً لعبادته و طاعته أم لا؛ فالأنبياء و الأوصياء و الشهداء و الصحف و القرآن الكريم و الأحاديث النبويّة كلّها من شعائر دين اللَّه و أعلام شريعته، فمن عظّمها فقد عظّم شعائر الدين.

قال القرطبي: فشعائر اللَّه، أعلام دينه، لا سيما ما يتعلّق بالمناسك «(1)».

و لقد أحسن حيث عمّم أوّلًا، ثمّ ذكر مورد الآية ثانياً، و ممّا يعرب عن ذلك أنّ إيجاب التعظيم تعلّق ب «حرمات اللَّه» في آية أُخرى.

قال سبحانه: «وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» «(2)»، و الحرمات ما لا يحلّ انتهاكه، فأحكامه سبحانه حرمات اللَّه؛ إذ لا يحلّ انتهاكها، و أعلام طاعته و عبادته حرمات اللَّه؛ إذ يحرم هتكها، و أنبياؤه و أوصياؤهم و شهداء دينه و كتبه وصحفه من حرمات اللَّه، يحرم هتكهم، فلو عظّمهم المؤمن أحياءً


1- القرطبي، التفسير 12: 56 طبع دار إحياء التراث.
2- الحجّ: 30.

ص:349

و أمواتاً فقد عمل بالآيتين: «وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ»، «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ».

الآية الرابعة:صيانة الآثار و مودّة ذوي القربى

إنّ القرآن الكريم يأمرنا- بكلّصراحة- بحبّ النبيّصلى الله عليه و آله و أقربائه، و مودّتهم و محبّتهم فيقول:

«وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» «(1)» و «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» «(2)».

و من الواضح لدى كلّ من يخاطبه اللَّه بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبيّصلى الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام، هو نوع من إظهار الحبّ و المودّة لهم، و بذلك يخرج عن كونه بدعة، لوجود أصل له في الكتاب و السنّة، و لو بصورة كليّة.

و هذه العادة متّبعة عند كافة الشعوب و الأُمم في العالم، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودّة لصاحب ذلك القبر، و لذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية و العلمية في كنائس و مقابر مشهورة و يزرعون أنواع الزهور و الأشجار حولها.


1- المائدة: 56.
2- الشورى: 23.

ص:350

صيانة الآثار من منظار القواعد الفقهيّة

المبحث الثاني:صيانة الآثار من منظار القواعد الفقهيّة

الأصل في الأشياء الإباحة و الحلّية

إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ما لم يرد فيها نهي في الشريعة، و هذه هي القاعدة المحكمة الّتي اعتمد عليها الفقهاء عبر القرون إلّا المتزمّتين غير الواعين.

حتّى أنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ وظيفة النبيّ الأكرم هو بيان المحرّمات دون المحلّلات، و أنّ الأصل هو حلّية كلّ عمل و فعل، إلّا أن يجد النبيّ حرمته في شريعته، و أنّ وظيفة الأُمّة هو استفراغ الوسع في استنباط الحكم من أدلّته، فإذا لم تجد دليلًا على الحرمة تحكم عليه بالجواز.

و نكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى مجموعة من الآيات، و إن كان في السنّة الغرّاء أيضاً كفاية:

1- قال سبحانه: «وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَ

ص:351

رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ» «(1)».

فإنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الّذي يحتاج إلى البيان إنّما هو المحرّمات لا المباحات، و لأجل ذلك لا وجه للتوقّف في العمل، بعد ما لم يكن مبيّناً في جدول المحرّمات.

و بعبارة أُخرى: أنّ المسلم إذا لم يجد شيئاً في جدول المحرّمات لم يكن له تبرير لتوقّفه و عدم الحكم عليه بالإباحة و الجواز و الحلّية.

2- قال سبحانه: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» «(2)».

إنّها تكشف عن أنّ ما يلزم بيانه إنّما هو المحرّمات لا المباحات، و لذلك يستدلّ مبلغ الوحي- و نعني به النبيّ الكريمصلى الله عليه و آله- بأنّه لا يجد فيما أُوحي إليه محرّماً على طاعم يطعمه سوى الأُمور المذكورة، فإذا لم يكن هناك منها شي ء فهو محكوم بالحلّية و الإباحة.

3- قال سبحانه: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» «(3)».

4- قال سبحانه أيضاً: «وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ» «(4)».

إنّ دلالة هاتين الآيتين على المقام واضحة، فإنّ جملة «و ما كان» تارة تستعمل في نفي الشأن و الصلاحية، و أُخرى في نفي كون الشي ء أمراً ممكناً.


1- الأنعام: 119.
2- الأنعام: 145.
3- الإسراء: 15.
4- القصص: 59.

ص:352

أمّا الأوّل، فمثل قوله: «ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» «(1)» و غيرها كسورة آل عمران «(2)»، أي ليس من شأن اللَّه سبحانه و هو العادل الرءوف أن يضيع إيمانكم.

و أمّا الثاني، فمثل قوله: «ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» «(3)»، أي لا يمكن لنفس أن تموت بدون إذنه سبحانه.

فيكون معنى الآيتين بناءً على الاستعمال الأوّل: هو ليس من شأن اللَّه تعالى أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولًا.

و على الاستعمال الثاني: هو ليس من الممكن أن يعذّب اللَّه الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولًا.

و على كلّ تقدير، فدلالة الآيتين على الإباحة واضحة؛ إذ ليست لبعث الرسل خصوصية و موضوعية، و لو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان و الإبلاغ، و الملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان و إبلاغ، و أنّ التعذيب بلا بيان و إبلاغ ليس من شأنه سبحانه، أو أنّه ليس أمراً ممكناً حسب حكمته.

5- قال سبحانه: «وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ» «(4)».

فإنّ هذه الآية مشعرة بأنّ الهلاك كان بعد الإنذار و التخويف، و أنّ اشتراط الإنذار كناية عن البيان و إتمام الحجّة.

6- قوله سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ


1- البقرة: 143.
2- الآيات 79 و 161.
3- آل عمران: 145.
4- الشعراء: 208.

ص:353

إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى» «(1)».

فإنّ هذه الآية تدلّ على أنّ التعذيب قبل بعث الرسول مردود بحجّة المعذّبين و هي قولهم: «لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ»، فلا يصحّ التعذيب إلّا بعد إتمام الحجّة عليهم ببعث الرسل.

و هذا يعني أنّ الأشياء مباحة جائزة الارتكاب خالية عن العقوبة أصلًا، إلّا إذا ردع عنها الشارع بشكل من الأشكال الّتي منها إرسال الأنبياء.

7- قوله سبحانه: «يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «(2)».

فإنّ ظاهر قوله: «ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ» أنّه حجّة تامّةصحيحة، و يحتجّ به على كلّ من عذّب قبل البيان، و لأجل ذلك قام سبحانه بإرسال الرسل حتّى لا يُحتج عليه، بل تكون الحجة للَّه سبحانه.

و هذا يدلّ على أنّه لا يحكم على حرمة شي ء، و لا يجوز التعذيب على ارتكابه قبل بيان حكمه؛ و ذلك لأنّ بعث البشير و النذير كناية عن بيان الأحكام.


1- طه: 134.
2- المائدة: 19.

ص:354

المشاهد و المقابر من خلال سيرة المسلمين في خير القرون

المبحث الثالث: المشاهد و المقابر من خلال سيرة المسلمين في خير القرون

اشارة

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في تكريم الأنبياء و الأولياء، و أنّ البناء على قبورهم أو بناء المساجد حول مراقدهم أمر محبّذ؛ ندبت إليه الشريعة الإلهيّة، و لم ترَ أيّ أثر فيها للتحريم، و على ذلك درج السلف الصالح عبر القرون، و لم يزل الإلهيّون من أهل الكتاب و المسلمين على مدى العصور يهتمّون بمقابر الأنبياء و الأولياء بالبناء و التعمير ثمّ التطهير و التنظيف لها، حتّى أنّ كثيراً من المتمكّنين يُخصّصُون شيئاً من أموالهم لهذه الغاية.

فهذه القباب الشاهقة و المنائر الرفيعة و الساحات الوسيعة حول مراقد الأنبياء و الأولياء و حول مراقدصحابتهم في مختلف الديار شرقها و غربها، لهي دليل قاطع على أنّ هذه السيرة سيرة مشروعة، و إلّا كان على الصحابة الكرام و التابعين لهم بإحسان رفضها و ردّها بالبيان و البنان و السلطة و القوّة، و إلّا فالسكوت عليها إلى عصر إثارة هذه الشكوك، عصر ابن تيمية، أدلّ دليل على كونها سيرة مشروعة.

و عند ما قام ابن تيمية بوجه هذه السيرة أثار ثائرة المسلمين ضدّه شرقاً و غرباً، و قد بيّنوا ضلالة تلك الفكرة و انحرافها عن الشرع.

ص:355

و قد وقف السلف الصالح- بعد فتح الشام- على قبور الأنبياء ذوات البناء الشامخ، فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم- و على رأسهم عمر بن الخطاب- بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب هدمه.

و هكذا الحال في سائر القبور المشيّدة عليها الأبنية في أطراف العالم، و إن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم.

و لو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء و الصالحين قبل ظهور الإسلام، و ما بناه المسلمون في عصر الصحابة و التابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان، لجاء بكتاب فخم ضخم، يعرب عن أنّ السنّة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام و بعده، من عصر الرسول و الصحابة و التابعين لهم إلى يومنا هذا، هي مشروعيّة البناء على القبور و العناية بحفظ آثار علماء الدين، و لم ينبس أي ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة، و ما اعتُرض عليها، بل تلقّوها إظهاراً للمحبّة و الودّ لأصحاب الرسالات و النبوّات و أصحاب العلم و الفضل، و من خالف تلك السنّة و عدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين، قال سبحانه:

«وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً» «(1)».

و قد وارى المسلمون جسد النبيّ الأكرم في بيته المسقّف، و لم يزل المسلمون منذ واروا جثمانه، على العناية بحجرته الشريفة بشتّى الأساليب.

و قد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً، حيث جاء تفصيل كلّ ذلك مع ذكر وصف الأبنية الّتي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلّقة بتاريخ


1- النساء: 115.

ص:356

المدينة، لا سيّما وفاء الوفا للإمام السمهودي المتوفّى عام 911 ه «(1)»، و البناء الأخير الّذي شيّد عام 1270 ه قائم لم يمسّه سوء، و سوف يبقى بفضل اللَّه تبارك و تعالى محفوظاً عن الاجتراء.

و أمّا المشاهد و القباب المبنيّة في المدينة منذ العصور الأُولى فحدّث عنها و لا حرج، لا سيّما في بقيع الغرقد، و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ و أخبار المدينة.

و قد ذكر كثير من المؤرّخين و السيّاح شيئاً كثيراً من أبنية شاهقة على قبور الأنبياء و الصالحين في خير القرون.

و بدورنا نذكر شيئاً يسيراً ممّا جاء في كتبهم، و نكتفي بذكر كلمات ثلاثة من المؤرّخين المعروفين بالتثبّت و الضبط، ثمّ نذكر ما ذكره الرحّالة المعروف ابن جبير في رحلته على وجه التفصيل:

1- كلمة المسعودي في حقّ قبور أئمة أهل البيت عليهم السلام

هذا هو المسعودي الّذي توفّي عام (345 ه)، و قد أدرك خير القرون، و ولد في أواخره- إذا كان خير القرون هو القرون الثلاثة الأُولى- يقول:

و على قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه مبيد الأُمم و محيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللَّه عليهما السلام سيّدة نساء العالمين، و قبر الحسن بن عليّ بن أبي طالب، و عليّ بن الحسين بن أبي طالب، و محمّد بن علي، و جعفر بن محمد «(2)».


1- وفاء الوفا 2: 458 الفصل التاسع.
2- مروج الذهب و معادن الجوهر 2: 288.

ص:357

2- كلمة ابن الجوزي:

يقول ابن الجوزي: و هذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيّبة و بقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله: و قبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترفع إليه قليلًا، عليه مكتوب: هذا قبر الحسن بن علي، دفن إلى جنب أُمّه فاطمة رضي اللَّه عنها و عنه «(1)».

3- كلمة الحافظ محمد بن محمود بن النجّار:

يقول: و القبران (أي قبر العباس بن عبد المطلب، و قبر الحسن بن علي و معه السجّاد و الباقر و الصادق عليهم السلام) في قبّة كبيرة عالية قديمة البناء في أوّل البقيع، و عليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم للزيارة رضي اللَّه عنهم «(2)».

4- الرحّالة ابن جبير و الأبنية على المشاهد:

اشارة

هذا هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي الشاطبي، أحد علماء الأندلس الأكابر في الفقه و الحديث، يحكي لنا في رحلته عن الأبنية الرفيعة و القباب العالية في المشاهد و المزارات المعروفة يومذاك للأنبياء و الصالحين و النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله و أهل بيته وصحابته و التابعين لهم بإحسان.

فقد قام برحلات ثلاث، أهمّها استغرقت أكثر من ثلاث سنوات، حيث


1- مجلة العربي: العدد السادس سنة 1393 ه.
2- أخبار مدينة الرسول: 153 تحقيق صالح محمد جمال- ط. مكة المكرمة سنة 1401 ه.

ص:358

بدأها يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة 578 ه، و ختمها في يوم الخميس الثاني و العشرين من شهر محرم سنة 581 ه، و قد وصف في هذه الرحلة ما مرّ به من مدن و ما شاهد من عجائب البلدان.

كما و عنى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية و المساجد و المشاهد و قبور الأنبياء و الأولياء و أهل البيت و الصحابة و التابعين، وصفاً دقيقاً، يعرب عن أنّ هذه القباب و الأبنية الرفيعة شُيّدت من قبل قرون تتّصل إلى عصر الصحابة و التابعين.

و لم يكن يومذاك أيُّ معترض على بنائها فوق قبور هؤلاء، و لم يدر بِخَلَدِ أحد أنّ هذه القباب و الأبنية ستبعدنا عن التوحيد، بل كانوا يتبرّكون بهذا العمل و يبدون ما في مشاعرهم من ودّ و حبّ لأصحابها.

و كان التبرّك و التقبيل سنّة رائجة بين المسلمين، و هم لم يكونوا يقبّلون باباً و يتبرّكون بجدار، بل يتبرّكون بمن حوتهم، على حدّ قول مجنون بني عامر:

أمرُّ على الديار ديار ليلى أُقبِّل ذا الجدار و ذا الجدارا

و ما حبّ الديار شغفن قلبي و لكن حبّ من سكن الديارا

و فيما يلي نشير بشكل مقتضب إلى مجمل كلامه:

مشهد رأس الحسين بالقاهرة:

يقول ابن جبير في ذكر مصر و القاهرة و بعض آثارها العجيبة: فأوّل ما نبدأ بذكره منها الآثار و المشاهد المباركة الّتي ببركتها يمسكها اللَّه عزّ و جلّ، فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الّذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي اللَّه عنهما، و هو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بُنيَ عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه و لا يحيط الإدراك به....

ص:359

إلى أن يقول: و من أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الّذي يستقبله الداخل، شديد السواد و البصيص، يصف الأشخاص كلّها، كأنّه المرآة الهندية الحديثة الصقل.

و شاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، و إحداقهم به، و انكبابهم عليه، و تمسّحهم بالكسوة الّتي عليه، و طوافهم حوله، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى اللَّه سبحانه و تعالى ببركة التربة المقدّسة، و متضرّعين ما يذيب الأكباد و يصدع الجماد، و الأمر فيه أعظم، و مرأى الحال أهول، نفعنا اللَّه ببركة ذلك المشهد الكريم «(1)».

مشاهد الأنبياء و أهل البيت في مصر:

يقول ابن جبير عن الجبّانة المعروفة بالقرافة: هي أيضاً إحدى عجائب الدنيا، لِما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياءصلوات اللَّه عليهم، و أهل البيت رضوان اللَّه عليهم، و الصحابة و التابعين و العلماء و الزهّاد و الأولياء... فمنها قبر ابن النبيصالح، و قبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمنصلوات اللَّه عليهم أجمعين، و قبر آسية امرأة فرعون رضي اللَّه عنها، و مشاهد أهل البيت رضي اللَّه عنهم أجمعين؛ مشاهد أربعة عشر من الرجال، و خمس من النساء «(2)».

إلى أن يقول: مشهد عليّ بن الحسين بن عليّ ..، و مشهدان لابنَي جعفر بن محمد الصادق رضي اللَّه عنهم، و القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور، رضي اللَّه عنهم، و مشهدان لابنيه الحسن و الحسين رضي اللَّه عنهما، و مشهد ابنه عبد اللَّه بن القاسم ..، و مشهد ابنه يحيى بن القاسم، و مشهد عليّ بن عبد اللَّه بن القاسم، رضي اللَّه عنهم، و مشهد أخيه عيسى بن


1- رحلة ابن جبير: ص 18- 19، ط. بيروت 1986.
2- المصدر السابق.

ص:360

عبد اللَّه، رضي اللَّه عنهما، و مشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن، رضي اللَّه عنهم، و مشهد محمد بن عبد اللَّه بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي، رضي اللَّه عنهم، و مشهد جعفر بن محمد من ذريّة عليّ بن الحسين، رضي اللَّه عنهم.

و أمّا عن النساء فيقول ابن جبير: مشهد السيّدة امّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد ابن جعفر، رضي اللَّه عنهم، و مشهد السيّدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، رضي اللَّه عنهم، و مشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق رضي اللَّه عنهم، و مشهد السيّدة أُمّ عبد اللَّه بن القاسم بن محمد، رضي اللَّه عنهم «(1)».

مشاهد الصحابة في مصر:

و يذكر أيضاً من المشاهد في قوله: مشهد معاذ بن جبل رضى الله عنه، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، مشهدصاحب بردة الرسولصلى الله عليه و آله، مشهد أبي الحسنصائغ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، مشهد سارية الجبل رضى الله عنه، مشهد محمد بن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، مشهد أولاده رضي اللَّه عنهم، مشهد أحمد بن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، مشهد ابن الزبير بن العوام رضي اللَّه عنهما، مشهد عبد اللَّه بن حذافة السهميصاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، مشهد ابن حليمة رضيع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله «2».

مشاهد الفقهاء الكبار في مصر:

و عن مشاهد الأئمة العلماء الزهّاد يقول: مشهد الإمام الشافعي رضى الله عنه، و هو من المشاهد العظيمة احتفالًا و اتّساعاً، و بُني بإزائه مدرسة لم يُعْمر بهذه البلاد مثلها،


1- رحلة ابن جبير: 20، ط. بيروت 1986.

ص:361

يخيّل لمن يطوف عليها أنّها بلد مستقل بذاته، بإزائها الحمّام، إلى غير ذلك من مرافقها، و البناء فيها حتّى الساعة، و النفقة عليها لا تُحصى، تولّى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الحُبوشاني.

و سلطان هذه الجهاتصلاح الدين، يسمح له بذلك كلّه و يقول: زد احتفالًا و تأنّقاً و علينا القيام بمئونة ذلك كله، فسبحان الّذي جعلهصلاح دينه كاسمه «(1)».

ثمّ يذكر مشاهد أُخرى و يقول:

مشهد المُزَنيّصاحب الإمام الشافعي رضى الله عنه، مشهد أشهبصاحب مالك رضى الله عنه، مشهد عبد الرحمن بن القاسمصاحب مالك رضي اللَّه عنهما، مشهد أصبغصاحب مالك رضي اللَّه عنهما، مشهد القاضي عبد الوهاب رضى الله عنه، مشهد عبد اللَّه بن عبد الحكم و محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم رضي اللَّه عنهما، مشهد الفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري رضى الله عنه، مشهد بُنان العابد رضى الله عنه، مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الإبريق، و قصّته عجيبة في الكرامة، مشهد أبي مُسلم الخَوْلاني رضى الله عنه، مشهد المرأة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي اللَّه عنها، مشهد الروذباريّ رضى الله عنه، مشهد محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرّشيد المعروف بالسّبتي رضى الله عنه، مشهد الرجل الصالح مُقبل الحبشيّ رضى الله عنه، مشهد ذي النون ابن إبراهيم المصري رضى الله عنه، مشهد القاضي الأنباري، قبر الناطق الّذي سُمع عند وضعه في لحده يقول: اللّهمّ أنزلني مُنزلًا مباركاً و أنت خيرُ المنزلين رضى الله عنه، مشهد العروس و لها أثر من الكرامة في حال جَلْوَتها على زوجها لم يُسمع أعجب منه، مشهد الصامت الّذي يُحكى عنه أنّه لم يتكلّم أربعين سنة، مشهد العصافيري، مشهد عبد العزيز بن أحمد بن علي بن الحسن الخوارزمي، مشهد الفقيه الواعظ الأفضل الجوهريّ و مشاهد أصحابه بإزائه رضي اللَّه عنهم أجمعين، مشهد شُقْران


1- رحلة ابن جبير: ص 18- 19، ط. بيروت 1986.

ص:362

شيخ ذي النّون المصري، مشهد الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربيّ، مشهد المقرئ وَرْش، مشهد الطبري، مشهد شيبان الراعي.

و المشاهد الكريمة بها أكثر من أن تُضبَط بالتقييد أو تتحصّل بالإحصاء، و إنّما ذكرنا منها ما أمكنَتْنا مشاهدتهُ.

و بقبلة القرافة المذكورة بسيط متّسع يُعرف بموضع قبور الشهداء، و هم الذين استُشهدوا مع سارية رضي اللَّه عن جميعهم، و البسيط المذكور مُسنّم كلّه للعيان على مثال أسنِمة القبور دون بناء «(1)».

القباب الرفيعة لأهل البيت في مكّة المكرّمة:

و عن مشاهد مكّة المكرّمة يقول ابن جبير: فمن مشاهدها الّتي عاينّاها قبّة الوحي؛ و هي في دار خديجة أُمّ المؤمنين رضي اللَّه عنها، و بها كان ابتناء النبيّصلى الله عليه و آله بها، و قبّةصغيرة أيضاً في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي اللَّه عنها، و فيها أيضاً ولدت سيدي شباب أهل الجنّة؛ الحسن و الحسين رضي اللَّه عنهما، و هذه المواضع المقدّسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناءً يليق بمثلها.

و من مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبيّصلى الله عليه و آله، و التربة الطاهرة الّتي هي أوّل تربة مسّت جسمه الطاهر بُني عليها مسجد لم يُر أحفل بناءً منه، أكثره ذهب منزّل به، و الموضع المقدّس الّذي سقط فيهصلى الله عليه و آله ساعة الولادة السعيدة المباركة الّتي جعلها اللَّه رحمةً للأُمّة أجمعين محفوف بالفضة.

ثمّ يعد بعض المشاهد فيقول: دار الخيزران؛ و هي الدار الّتي كان النبيّصلى الله عليه و آله يعبد اللَّه فيها سراً مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه رضي اللَّه عنهم ... دار أبي بكر الصديق... قبّة بين الصفا و المروة تنسب


1- رحلة ابن جبير: ص 21- 22، ط. بيروت 1986.

ص:363

لعمر ابن الخطاب... «(1)» يقول ابن جبير: دخلنا مولد النبيّصلى الله عليه و آله، و هو مسجد حفيل البنيان و كان داراً لعبد اللَّه بن عبد المطلب... إلى أن يقول: و على مقربةٍ منه أيضاً مسجد عليه مكتوب: هذا المسجد هو مولد عليّ بن أبي طالب، رضوان اللَّه عليه، و فيه تربّى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، و كان داراً لأبي طالب عمّ النبيّصلى الله عليه و آله و كافله «(2)».

المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد:

و في ذكر المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد يقول ابن جبير: فأوّل ما نذكر من ذلك مسجد حمزة رضى الله عنه، و هو بقِبْلَي الجبل المذكور، و الجبل جوفي المدينة، و هو على مقدار ثلاثة أميال، و على قبره رضى الله عنه مسجد مبنيّ، و القبر برحبة جوفي المسجد، و الشهداء رضي اللَّه عنهم بإزائه... و حول الشهداء تربة حمراء هي التربة الّتي تنسب إلى حمزة و يتبرّك الناس بها.

و بقيع الغرقد شرقي المدينة، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع، و أوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور مشهدصفيّة عمّة النبيّصلى الله عليه و آله أُمّ الزبير بن العوام رضى الله عنه، و أمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني رضى الله عنه و عليه قبّةصغيرة مختصرة البناء، و أمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبيصلى الله عليه و آله و عليه قبّة بيضاء، و على اليمين منها تربة ابنٍ لعمر بن الخطاب رضى الله عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط، و هو المعروف بأبي شَحْمة، و هو الّذي جَلَده أبوه الحدّ، فمرض و مات، رضي اللَّه عنهما، و بإزائها قبر عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه، و عبد اللَّه بن جعفر الطيار رضى الله عنه، و بإزائهم روضة فيها أزواج النبيّصلى الله عليه و آله، و بإزائها روضةصغيرة فيها


1- رحلة ابن جبير: ص 81- 82، ط. بيروت 1986.
2- لا يخفى على ذي بصيرة أن ولادة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام انّما كانت في جوف الكعبة المشرّفة، و هو من الشهرة و الشيوع بحيث لا يحتاج إلى ذكر مصادره.

ص:364

ثلاثة من أولاد النبيّ صلى الله عليه و آله، و يليها روضة العبّاس بن عبد المطّلب و الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، و هي قبّة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور و عن يمين الخارج منه، و رأس الحسن إلى رجلي العبّاس رضي اللَّه عنهما، و قبراهما مرتفعان عن الأرض متّسعان مُغشّيان بألواح ملصقة أبدَع إلصاق، مرصّعة بصفائح الصُّفْر، و مكوكَبة بمساميره على أبدعصفة و أجمل منظر، و على هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه و آله، و يلي هذه القبّة العبّاسيّة بيت يُنسَب لفاطمة بنت الرسولصلى الله عليه و آله، و يعرف ببيت الحُزن، يقال: إنّه الّذي أوت إليه و التزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى صلى الله عليه و آله، و في آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النّورين رضى الله عنه، و عليه قبّةصغيرة مختصرة، و على مقربةٍ منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُمّ عليّ رضي اللَّه عنها و عن بنيها.

و مشاهد هذا البقيع أكثر من أن تُحصى؛ لأنّه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين و الأنصار، رضي اللَّه عنهم أجمعين، و على قبر فاطمة المذكورة مكتوب: ما ضمّ قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي اللَّه عنها و عن بنيها «(1)».

مشاهد الكوفة:

و يقول ابن جبير عن مسجد الكوفة:

و بهذا الجامع المكرّم آثار كريمة: فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة، يقال: إنّه كان مصلّى إبراهيم الخليل، و عليه ستر أسودصوناً له، و منه خرج الخطيب لابساً ثيابَ السواد للخطبة، فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه، و على مقربة منه ممّا يلي الجانب الأيمن من القبلة، محراب محلّق عليه بأعواد الساج مرتفع عنصحن البلاط كأنّه مسجدصغير، و هو محراب أمير


1- رحلة ابن جبير: ص 154- 156، ط. بيروت 1986.

ص:365

المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، و في ذلك الموضع ضربه الشقيّ اللعين عبد الرحمن ابن ملجم بالسيف، فالناس يصلّون فيه باكين داعين، و في الزاوية من آخر هذا البلاط القبليّ، المتّصل بآخر البلاط الغربيّ، شبيه مسجدصغير محلّق عليه أيضاً بأعواد الساج، هو موضع مَفار التنّور الّذي كان آيةً لنوح عليه السلام، و في ظهره، خارج المسجد، بيته الّذي كان فيه، و في ظهره بيت آخر يقال إنّه كان متعبَّد إدريس عليه السلام، و يتّصل بهما فضاء متّصل بالجدار القبلي من المسجد، يقال إنّه مُنشأ السفينة، و مع آخر هذا الفضاء دار عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، و البيت الّذي غسل فيه، و يتّصل به بيت يُقال إنّه كان بيت ابنة نوح عليه السلام.

و هذه الآثار الكريمة تلقّيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد فأثبتناها حسبما نقلوها إلينا، و اللَّه أعلم بصحّة ذلك كلّه.

و في الجهة الشرقيّة من الجامع بيتصغير يُصعَد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه، و في غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، و حيث بركت ناقته و هو محمول عليها مسجّى ميتاً على ما يُذكر، و يقال: إنّ قبره فيه «(1)».

قبور العلماء و الأولياء المشيّدة ببغداد:

يقول ابن جبير:

و بإحدى هذه المحلّات قبر معروف الكَرخي، و هو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء، و في الطريق إلى باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متّسع السّنام، عليه مكتوب: هذا قبر عَون و مَعين، من أولاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، و في الجانب الغربي أيضاً قبر موسى بن جعفر، رضي اللَّه عنهما.


1- رحلة ابن جبير: 168- 169، ط. بيروت 1986.

ص:366

إلى مشاهد كثيرة ممّن لم تحضرنا تسميتُه من الأولياء و الصالحين و السلف الكريم، رضي اللَّه عن جميعهم.

و بأعلى الشرقيّة خارج البلد محلّة كبيرة بإزاء محلّة الرّصافة، و بالرصافة كان باب الطّاق المشهور على الشطّ، و في تلك المحلّة مشهد حفيل البنيان؛ له قبّة بيضاء سامية في الهواء؛ فيه قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه، و به تعرف المحلّة، و بالقرب من تلك المحلّة قبر الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه، و في تلك الجهة أيضاً قبر أبي بكر الشبلي رحمه الله، و قبر الحسين بن منصور الحلّاج، و ببغداد من قبور الصالحين كثير، رضي اللَّه عنهم «(1)».

المشاهد المكرّمة و الآثار المعظّمة في الشام:

يقول ابن جبير:

فأوّلها مشهد رأس يحيى بن زكريا عليه السلام، و هو مدفون بالجامع المكرّم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابيّة «(2)»، رضي اللَّه عنهم، و عليه تابوت خشب معترض من الأُسطوانة، و فوقه قنديل كأنّه من بلّور مجوّف، كأنّه القدح الكبير، لا يُدرى أمن زجاج عراقيّ أمصُوريّ هو أم من غير ذلك.

و مولد إبراهيمصلّى اللَّه عليه و سلّم و على نبيّنا الكريم، و هو بصفح جبل قاسيون عند قرية تُعرف بِبَرْزَة؛ و هي من أجمل القرى، و هذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنّه مصعد الأنبياء،صلوات اللَّه عليهم، و مطلعهم، و هو في الجهة الشماليّة من البلد و على مقدار فرسخ، و هذا المولد المبارك غار مستطيل ضيّق، و قد بُني عليه مسجد كبير مرتفع مُقسّم على مساجد كثيرة كالغُرف المطلّة، و عليهصومعة عالية، و من ذلك الغار رأى عليه السلام الكوكب ثمّ القمر ثمّ الشمس، حسبما


1- رحلة ابن جبير: 168- 169، ط. بيروت 1986.
2- هي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان.

ص:367

ذكره اللَّه تعالى في كتابه عزّ و جلّ «(1)»، و في ظهر الغار مقامه الّذي كان يخرج إليه، و هذا كلّه ذكره الحافظ محدّث الشام أبو القاسم بن هبة اللَّه بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق، و هو ينوف على مائة مجلّد.

و ذكر أيضاً أنّ بين باب الفراديس، و هو أحد أبواب البلد، و في الجهة الشماليّة من الجامع المبارك، على مقربة منه إلى جبل قاسيون، مدفن سبعين ألف نبي، و قيل: سبعون ألف شهيد، و أنّ الأنبياء المدفونين به سبعمائة نبيّ، و اللَّه أعلم.

و خارج هذا البلد الجبّانة العتيقة، و هي مدفن الأنبياء و الصالحين، و بركتها شهيرة، و في طرفها ممّا يلي البساتين وَهْدَة من الأرض متّصلة بالجبّانة، ذكر أنّها مدفن سبعين نبيّاً، و عصمها اللَّه و نزّهها من أن يُدفن فيها أحد، و القبور محيطة بها، و هي لا تخلو من الماء حتّى عادت قرارة له، كلّ ذلك تنزيه من اللَّه تعالى لها.

و بجبل قاسيون أيضاً لجهة الغرب، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك، مغارة تعرف بمغارة الدم؛ لأنّ فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل ابني آدم عليه السلام، يتّصل من نحو نصف الجبل إلى المغارة، و قد أبقى اللَّه منه في الجبل آثاراً حُمراً في الحجارة تُحك فتستَحيل، و هي كالطريق في الجبل، و تنقطع عند المغارة، و ليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها، فكان يقال: إنّها لون حجارة الجبل، و إنّما هي من الموضع الّذي جرّ منه القاتل لأخيه حيث قتله حتّى انتهى إلى المغارة؛ و هي من آيات اللَّه تعالى، و آياته لا تُحصى.

و قرأنا في تاريخ ابن المعلّى الأسدي أنّ تلك المغارةصلّى فيها إبراهيم و موسى و عيسى و لوط و أيوب، عليهم و على نبيّنا الكريم أفضل الصلاة و السلام.

و عليها مسجد قد أُتقن بناؤه، و يُصعد إليه على أدراج، و هو كالغرفة المستديرة، و حولها أعواد مشرجبة مطيفة بها، و به بيوت و مرافق للسكنى، و هو


1- الأنعام: 76- 78.

ص:368

يفتح كلّ يوم خميس، و السُّرُج من الشمع و الفتائل تَقِد في المغارة، و هي متّسعة.

و في أعلى الجبل كهف منسوب لآدم عليه السلام، و عليه بناء، و هو موضع مبارك، و تحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجُوع، ذكر أنّ سبعين نبيّاً ماتوا فيها جوعاً، و كان عندهم رغيف، فلم يزل كلّ واحد منهم يؤثر بهصاحبه و يدور عليه من يد إلى يد، حتّى لحقتهم المنيّة،صلوات اللَّه عليهم. و على هذه المغارة أيضاً مسجد مبنيّ، و أبصرنا فيه السُّرُج تَقِد نهاراً.

و لكلّ مشهد من هذه المشاهد أوقاف معيّنة من بساتين و أرض بيضاء و رباع، حتّى إنّ البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه.

و كلّ مسجد يُستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يُعيّن لها السلطان أوقافاً تقوم بها و بساكنيها و الملتزمين لها، و هذه أيضاً من المفاخر المخلّدة.

و من النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة و تُنفِق فيها الأموال الواسعة و تعيّن لها من مالها الأوقاف.

و من الأُمراء من يفعل مثل ذلك، لهم في هذه الطريقة المباركة مُسارعة مشكورة عند اللَّه عزّ و جلّ.

و بآخر هذا الجبل المذكور، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد، الربوة المباركة المذكورة في كتاب اللَّه تعالى، مأوى المسيح و أُمّه،صلوات اللَّه عليهما، و هي من أبدع مناظر الدنيا حسناً و جمالًا و إشراقاً، و إتقان بناء و احتفال تشييد و شرف وضع، هي كالقصر المشيّد، و يُصعَد إليها على أدراج، و المأوى المبارك منها مغارةصغيرة في وسطها، و هي كالبيت الصغير، و بإزائها بيت يقال: إنّه مصلّى الخضر عليه السلام، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين، و لا سيّما المأوى المبارك، و له باب حديدصغير ينغلق دونه، و المسجد يطيف بها، و لها شوارع دائرة، و فيها سقاية لم يُرَ أحسن منها، قد سِيقَ إليها الماء من علوّ، و ماؤها

ص:369

ينصبّ على شاذَرْوان «(1)» في الجدار متّصل بحوض من رخام يقع الماء فيه، لم يُرَ أحسن من منظره، و خلف ذلك مطاهر يجري الماء في كلّ بيت منها و يستدير بالجانب المتّصل بجدار الشاذروان.

و هذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد و مَقْسِم مائه، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار، يأخذ كلّ نهر طريقه، و أكبر هذه الأنهار نهر يُعرف بثوار، و هو يشقّ تحت الربوة، و قد نُقِر له في الحجر الصلد أسفلها حتّى انفتح له متسرّب واسع كالغار، و ربّما انغمس الجَسُور من سُبّاح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر و اندفع تحت الماء حتّى يشقّ متسرّبه تحت الربوة و يخرج أسفلها، و هي مخاطرة كبيرة.

و يُشرَف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد، و لا إشراف كإشرافها حسناً و جمالًا و اتّساعَ مسرح للأبصار، و تحتها تلك الأنهار السبعة تتسرّب و تسيح في طرق شتّى، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها و افتراقها و اندفاع انصبابها، و شرفُ موضوع هذه الربوة و مجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلوّ مدحه، و شأنها في موضوعات الدّنيا الشريفة خطير كبير «(2)».

و من أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، قد بُني عليه مسجد حفيل رائق البناء، و بإزائه بستان كلّه نارنج، و الماء يطرد فيه من سقاية معيّنة، و المسجد كلّه ستور معلّقة في جوانبهصغار و كبار.

و من المشاهد المكرّمة مشهد سعد بن عُبادة رئيس الخزرج،صاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، و هو بقرية تعرف بالمَنِيحة شرقي البلد و على مقدار أربعة أميال منه،


1- الشاذروان: حائط صغير بجوار الجدار الأصلي لتقويته.
2- المصدر السابق: ص 221- 224.

ص:370

و على قبره مسجدصغير حسن البناء، و القبر في وسطه، و عند رأسه مكتوب: هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج،صاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

و من مشاهد أهل البيت رضي اللَّه عنهم: مشهد أُمّ كلثوم ابنة عليّ بن أبي طالب، رضي اللَّه عنهما، و يقال لها زينب الصغرى، و أُمّ كلثوم كنية أوقعها عليها النبيصلى الله عليه و سلم، لشبهها بابنته أُمّ كلثوم، رضي اللَّه عنها، و اللَّه أعلم بذلك، و مشهدها الكريم بقرية قبليّ البلد تعرف ب «راوية» على مقدار فرسخ، و عليه مسجد كبير، و خارجه مساكن، و له أوقاف، و أهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الستّ أُمّ كلثوم، مشَينا إليه و بتنا به و تبرّكنا برؤيته، نفعنا اللَّه بذلك.

و بالجبّانة الّتي بغربي البلد، من قبور أهل البيت كثير، رضي اللَّه عنهم، منها قبران عليهما مسجد يقال إنّهما من ولد الحسن و الحسين، رضي اللَّه عنهما، و مسجد آخر فيه قبر يقال إنّه لسكينة بنت الحسين، رضي اللَّه عنهما، أو لعلّها سُكينة أُخرى من أهل البيت.

و من المشاهد أيضاً قبر بجامع النَّيْرب، في بيت بالجهة الشرقيّة منه، يقال إنّه لأُمّ مريم، رضي اللَّه عنها.

و بقرية داريّا قبر أبي مسلم الخولاني رضى الله عنه، و عليه قبّة هي علامة القبر، و بها أيضاً قبر أبي سليمان الداراني رضى الله عنه.

و بين هذه القرية و بين البلد مقدار أربعة أميال، و هي لجهة الغرب منه.

و من المشاهد الكريمة الّتي لم نعاينها و وصفت لنا قبرا شيث و نوح عليهما السلام، و هما بالبِقاع، و هي على يومين من البلد، و حدّثنا من ذَرَع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعاً، و في قبر نوح ثلاثين، و بإزاء قبر نوح قبر ابنة له، و على هذه القبور بناء، و لها أوقاف كثيرة، و لها قيّم يلتزمها.

و من المشاهد المباركة أيضاً، بالجبّانة الغربيّة و بمقربة من باب الجابية، قبر

ص:371

أُويس القرني رضى الله عنه، و قبور خلفاء بني أُمية، يقال: إنّها بإزاء باب الصغير بمقربة من الجبّانة المذكورة، و عليها اليوم بناء يُسكَن فيه.

و المشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد، و إنّما رُسِم من ذلك ما هو مشهور و معلوم.

و من المشاهد الشهيرة أيضاً مسجد الأقدام، و هو على مقدار ميلين من البلد ممّا يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى بلاد الحجاز و الساحل و ديار مصر، و في هذا المسجد بيتصغير فيه حجر مكتوب عليه: كان بعض الصالحين يرى النبيّصلى الله عليه و آله في النوم فيقول: هاهنا قبر أخي موسىصلى الله عليه و آله، و الكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع، و هو بين غالية و غُويلية كما ورد في الأثر، و هما موضعان.

و شأن هذا المسجد في البركة عظيم، و يقال: إنّ النور ما خلا قطّ من هذا الموضع الّذي يذكر أنّ القبر فيه حيث الحجر المكتوب، و له أوقاف كثيرة.

فأمّا الأقدام ففي حجارة في الطريق إليه مُعْلَم عليها، تَجد أثر القدم في كلّ حجر، و عدد الأقدام تسع، و يقال: إنّها أثر قدم موسى عليه السلام، و اللَّه أعلم بحقيقة ذلك، لا إله سواه «(1)».

هذا و قد أخذنا من رحلة ابن جبير المواضيع اللّازمة، و إلّا فالذي يسبر الكتاب يقف على أُمور لم نذكرها، و الكلّ يدلّ على أنّ البناء على القبور وصيانتها عن الانطماس و زيارتها في فترات مختلفة كان أمراً رائجاً في خير القرون الّذي جُعِل مقياساً بين الحقّ و الباطل.


1- رحلة ابن جبير: 226- 229، ط. بيروت 1986.

ص:372

5- ابن الحجّاج و القبّة البيضاء على قبر الإمام علي عليه السلام

اشارة

إنّ الحسين بن أحمد بن محمد المعروف بابن الحجّاج البغدادي أحد الشعراء المفلقين في القرنين الثالث و الرابع (المتوفّى 391 ه) أنشأ قصيدته الفائيّة في مدح الإمام أمير المؤمنين، و أنشدها في الحضرة العلويّة عند ما زارها يقول في مستهلّها:

ياصاحبَ القبّة البيضا على النجفِ من زارَ قبرَك و استشفى لديك شُفي

زوروا أبا الحسن الهادي لعلّكمُ تحظون بالأجرِ و الاقبالِ و الزُّلَفِ «(1)»

و القصيدة تعرب عن وجود البناء و القبّة البيضاء على القبر، و الزلف و التفاف الزائرين حوله في عصره، و مع ذلك يدّعي بعض الوهابيين؛ أنّ البناء على القبور لم يكن في خير القرون و أنّه من البدع المستحدثة.

و لأجل شيوع البناء على القبور في جميع الأقطار الإسلاميّة نجد أنّ الأمير محمد بن إسماعيل اليماني (ت 1186 ه) الّذي توهّب مع كونه زيدياً يفترض على نفسه و يقول في كتابه: و هذا أمر عمّ البلاد و طبق الأرض شرقاً و غرباً بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلّا فيها قبور و مشاهد، و لا يسع عقل عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة و يسكت علماء الإسلام «(2)».


1- اقرأ ترجمته في يتيمة الدهر 3: 35؛ معجم الأُدباء 4: 6؛ المنتظم 7: 216؛ تاريخ بغداد 8: 14؛ وفيات الأعيان 1: 168؛ الكامل لابن الأثير 9: 63 إلى غير ذلك من مصادر الترجمة؛ و في روضات الجنّات 3: 148- 155 له ترجمة ضافية
2- تطهير الاعتقاد: ص 17، ثمّ إنّه حاول أن يُجيب عن هذا الاستنكار بما الإعراض عن ذكره أحسن.

ص:373

فلو كانت هذه سيرة المسلمين من خير القرون إلى عصرنا فلما ذا لا تكون حجّة؟ فلو كان التهديم أمراً واجباً فلما ذا ترك الخلفاء تلك الفريضة؟! و هل يصحّ لنا اتّهامهم بالتسامح في أمر الدين مع أنّ الصحابة و التابعين مرّوا على تلك الآثار و لم ينبسوا فيها ببنت شفة؟ و إذا لم يكن ذلك الإجماع حجّة، فأيّ إجماع يكون حجّة شرعيّة؟

فهذه النصوص من المؤرّخين تدلّ بوضوح على جريان السيرة على بناء القباب و الأبنية على قبور الأولياء من دون أن يخطر ببال أحد أنّه مقدّمة للشرك و مفضٍ إليه، فإذا لم يكن مثل هذا الإجماع حجّة فأيّ إجماعٍ حجّة؟

و العجب من ابن بليهد قاضي الحكومة السعودية أيام تدمير آثار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عام (1344 ه). فبعد ما نفّذ ما أُمر به من قبل المشايخ، نشر بياناً في جريدة أُمّ القرى في عددها الصادر في شهر جمادى الآخرة من شهور سنة (1345 ه). و ممّا جاء فيه قوله: إنّ القِباب على مراقد العلماءصار متداولًا منذ القرن الخامس الهجري.

فهل هذاصحيح أو افتراء أمام كلّ هذه النصوص من المسعودي و غيره؟

و ليس البحث في خصوص العلماء، بل مطلق قبور المسلمين، نبيّاً كان أو وليّاً،صحابيّاً كان أو تابعياً، فقيهاً كان أو محدّثاً.

السيّد محسن الأمين و الردّ على ابن تيميّة

و نعم ما قال السيد المحقّق محسن الأمين في قصيدته المسمّاة بالعقود الدُّريّة في ردّ شبهات الوهابية:

أو ليس أُمّة أحمد إجماعُها فيه الصوابُ و حجّةٌ لم تردد

ص:374

و على ضلالٍ كلّها لم تجتمع فيما رويتم في الحديث المسندِ

مضت القرون وذي القباب مَشِيدةٌ و الناس بين مؤسّسٍ و مجدّدِ

في كلّ عصر فيه أهل الحلّ و - العقد الّذين بغيرهم لم يُعقد

لم يُنكروا أبداً على من شادها شيدت و لا من منكر و مفنّدِ

مِنْ قبل أنْ تلد ابنها تيميةٌ أو يخلق الوهّاب بعضَ الأعبدِ

أ فأيّ إجماع لكم أقوى على أمثاله من مورد لم يوردِ

فبسيرة للمسلمين تتابعت في كلّ عصر نستدلّ و نقتدي

أقوى من الإجماع سيرتهم و من قد حاد عنها فهو غير مسدّد

هيهات ليس نبيّاً ابن بليهد في الناس لم يُخطئ و لم يتعمّدِ

كلّا و لا العلماء قد حصرت به هي في بقاع الأرض ذات تعدّدِ

كلّا و لا من وافقوه لخوفهم أو جهلهم من خائف و مقلّدِ

و الجُلُّ من علماء طيبة ساكت للخوف مكفوف اللسان مع اليدِ «(1)»

كيف يدّعي الإجماع على التحريم مع أنّ فقهاء المذاهب الأربعة في العصر الحاضر اتّفقوا على الكلمة التالية: يكره أن يبنى القبر ببيت أو قبّة أو مسجد «(2)»، أين الكراهة من الحرمة، و أين هي من الشرك؟

و هذا النووي شارحصحيح مسلم يقول في شرح حديث أبي الهياج الّذي سيوافيك نصّه: أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه و إن كان في مقبرة مسبلة فحرام، نصّ عليه الشافعي و الأصحاب «(3)».

إنّ التحريم في الصورة الثانية لكونه مزاحماً للانتفاع، و على خلاف أهداف


1- كشف الارتياب: ص 411
2- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 431.
3- صحيح مسلم بشرح النووي ج 7، ص 42 شرح الحديث رقم 969 كتاب الجنائز ط مصر.

ص:375

الواقف و أغراضه، و أين هو من البناء على أرض مشتراة أو مهداة أو موات؛ فلا تترتّب عليها تلك الحرمة.

دُفن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله في بيته الرفيع و لم يخطر ببال أحد من الصحابة الحضور أنّ البناء على القبر حرام و أنّهصلى الله عليه و آله نهى عنه نهياً مؤكداً، و لمّا كان البيت متعلّقاً بالسيدة عائشة جعلوا في وسطه ساتراً، و لمّا توفّي الشيخان أوصيا بدفنهما في حجرة النبيّصلى الله عليه و آله تبرّكاً بذاته و مكانه، و لم تُسْمَع عن أيّ ابن أُنثى نعيرةُ أنّه حرام و لا مكروه، و على ذلك استمرّت سيرة المسلمين في حقّ العلماء و الأولياء، يدفنونهم في البيوت المعدّة لذلك، أو يرفعون لمراقدهم قواعد و سقفاً بعد الدفن، تكريماً لهم و تقديراً لتضحياتهم، و لم يخطر ببال أحد أنّه على خلاف الدين و الشرع.

و هذا عمل المسلمين و سيرتهم القطعيّة في جميع الأقطار و الأمصار، على مرأى و مسمع الجميع و إنْ اختلفت نزعاتهم، من بدء الإسلام إلى هذا العصر، من الشيعة و السنّة، و أيّ بلاد من بلاد الإسلام من مصر و العراق أو الحجاز أو سورية، و تونس و مراكش و إيران، و هلم جرّاً، ليس فيها قبور مشيّدة، و ضرائح منجدة، و هؤلاء أئمة المذاهب: الشافعي في مصر، و أبو حنيفة في بغداد، و مالك بالمدينة، و تلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم شاهقة القباب، شامخة المباني، غير أنّ الوهابيّين لمّا استولوا على المدينة هدموا قبر مالك.

و هذه القبور قد شُيّدت و بنيت في الأزمنة الّتي كانت حافلة بالعلماء و أرباب الفتاوى، و زعماء المذاهب، فما أنكر منهم مُنكِر، و ليس هذا رائجاً بين المسلمين فقط، بل جرى على هذا جميع عقلاء العالم، بل يعدّ تعمير قبور الشخصيات من غرائز البشر و مقتضيات الحضارة و شارة الرقيّ، فكلّ هذا دليل على الجواز لو لم نقل يفوق ذلك، و لو لم تكن السيرة المسلّمة بين المسلمين و العقلاء

ص:376

عامّة غير مفيدة في المقام، فلا يصحّ الاستناد إلى أيّة سيرة قاطعة بين المسلمين أو الناس.

و ليس يصحّ في الأذهان شي ءٌ إذا احتاج النهار إلى دليلِ

ثمّ إنّ الوهابيّين تمسّكوا بروايات، إمّا عديمة الدلالة، أو ضعيفة السند، و سنذكر في المبحث الآتي بشكل عام مجملَ ما تمسّكوا به ليتبيّن مدى وعيهم.

ص:377

ذرائع الوهابية في هدم الآثار

المبحث الرابع: ذرائع الوهابية في هدم الآثار

اشارة

استدلّت الوهابية بروايات نذكرها واحدةً بعد الأُخرى:

الأُولى: رواية أبي الهياج الأسدي

اشارة

روى مسلم فيصحيحه قال: حدّثنا يحيى بن يحيى و أبو بكر بن أبي شيبة و زهير بن الحرب، قال يحيى: أخبرنا، و قال الآخران: حدّثنا وكيع عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ ابن أبي طالب: أ لا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللَّه.. أن لا تدع تمثالًا إلّا طمسته و لا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته «(1)».

زعم المستدلّ أنّ معناه: و لا قبراً عالياً إلّا سوّيته بالأرض.

أقول: الاستدلال بالحديث فرعصحّة سنده، و تماميّة دلالته، و لكنّه موهون من كلا الجانبين.


1- مسلم، الصحيح 3: 61 كتاب الجنائز؛ الترمذي، السنن 2: 256 باب ما جاء في تسوية القبور؛ النسائي، السنن 4: 88 باب تسوية القبر.

ص:378

سند الرواية و أقوال العلماء فيه:

أمّا السند، فيكفي أنّ علماء الرجال تحدّثوا في رجال الحديث و نقلوا تصريح الأئمة بضعفهم، و هم عبارةً عن:

1- وكيع.

2- سفيان الثوري.

3- حبيب بن أبي ثابت.

4- أبو وائل الأسدي.

و إليك أقوال العلماء في حقّهم:

1- وكيع:

هو وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي الكوفي، روى عن عدّة، منهم: سفيان الثوري، و روى عنه جماعة منهم: يحيى بن يحيى و هو كما ورد في حقّه المدح، ورد في حقّه الجرح كثيراً، و هذا ابن حجر يعرّفه في تهذيب التهذيب بالنحو التالي: عن الإمام ابن حنبل: كان وكيع أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيراً، و قال في موضع آخر: ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع و وكيع أكثر خطأً منه.

و قال ابن عمار: قلت له: عدّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث خلطتَ فيها؟

فقال: حدّثتهم بعبادان بنحو من ألف و خمسمائة، و أربعة ليس بكثير في ألف و خمسمائة.

و قال عليّ بن المديني: كان وكيع يلحن و لو حدّثَ بألفاظه لكان عَجَباً.

و قال محمد بن نصر المروزي: كان يُحدّث بآخره من حفظه فيغيّر ألفاظ الحديث كأنّه يحدّث بالمعنى و لم يكن من أهل اللسان «(1)».


1- تهذيب التهذيب 11: 123، 131.

ص:379

و قال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد ما مدحه: قال ابن المديني: كان وكيع يلحن و لو حدّث بألفاظه كان عجباً «(1)».

2- سفيان الثوري:

و هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، فقد مدحوه، و لكن الذهبي يقول: إنّه كان يدلِّس عن الضعفاء، و لكن كان له نقد و ذوق، و لا عبرة بقول من قال يدلِّس و يكتب عن الكذّابين «(2)».

و قال ابن حجر: قال ابن المبارك: حدّث سفيان بحديث فجئته و هو يدلِّس، فلمّا رآني استحيا و قال: نرويه عنك؟ «(3)».

و قال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ: قال أبو بكر و سمعت يحيى يقول:

جهد الثوري أن يدلِّس عليّ رجلًا ضعيفاً فما أمكنه «(4)».

و التدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه و بينهما واسطة فلا يذكر الواسطة.

و قال أيضاً في ترجمة سفيان: قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص و لا حيان بن إياس، و لم يسمع من سعيد بن أبي البردة، و قال البغوي: لم يسمع من يزيد الرقاشي، و قال أحمد: لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية «(5)» يضع ماله حيث يشاء، و لم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً و لا من ابن عون إلّا حديثاً واحداً «(6)».


1- ميزان الاعتدال 4: 336.
2- ميزان الاعتدال 2: 169 برقم 3322.
3- تهذيب التهذيب 4: 15 في ترجمة سفيان.
4- تهذيب التهذيب 11: 218.
5- العبد المعتق.
6- تهذيب التهذيب 4: 115.

ص:380

و هذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مُدلِّساً، ربّما يروي عن اناس يوهم أنّه لقيهم و لم يلقَهُم و لم يسمع منهم.

3- حبيب بن أبي ثابت:

هو حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار، وَثّقهُ بعض، و لكن قال ابن حبّان في الثّقات: كان مدلّساً، و قال العقيلي: غمزه ابن عون، و قال القطّان: له غير حديث عن عطاء، لا يُتابع عليه و ليست محفوظة.

و قال ابن خزيمة فيصحيحه: كان مدلّساً «(1)».

و قال ابن حجر أيضاً في موضع آخر: كان كثير الإرسال و التدليس، مات سنة 119 ه.

و نقل عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخطّ المنذري أنّه نقل فيه حديثاً عن أُبيّ بن كعب في قول جبرئيل: لو جلست معك مثلما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر، و قال: لم يُعِلْه ابن الجوزي إلّا بعبد اللَّه بن عمّار الأسلمي شيخ حبيب بن ثابت «(2)».

4- أبو وائل الأسدي:

هو شقيق بن سلمة الكوفي، كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب، قال ابن حجر: قيل لأبي وائل: أيّهما أحبُّ إليك عليّ أو عثمان؟ قال: كان عليّ أحبّ إليّ ثمّصار عثمان «(3)».

و يكفي في قدحه أنّه كان من ولاة عبيد اللَّه بن زياد، قال ابن أبي الحديد: قال


1- تهذيب التهذيب 2: 179.
2- تهذيب التهذيب 1: 148.
3- تهذيب التهذيب 4: 362.

ص:381

أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة.

هذا كلّه حول سند الرواية و هؤلاء رواتها، و لو ورد فيهم مدح فقد ورد فيهم الذم، و عند التعارض يقدم الجارح على المادح فيسقط الحديث عن الاستدلال.

و يكفي أيضاً في ضعف الحديث أنّه ليس لراويه- أعني أبا الهياج- في الصحاح حديث غير هذا، فكيف يستدلّ بحديث يشتمل على المدلِّسين و المضعِّفين؟ و كيف يُعْدَل بهذا الحديث عن السيرة المستمرّة بين المسلمين؟!

و الآن إليك بيان عدم دلالة الحديث على الموضوع بتاتاً:

ضعف دلالة الحديث

إنّ توضيح ضعف دلالة الحديث يتوقّف على بيان معنى اللّفظين الواردين فيه:

1- قبراً مشرفاً.

2- إلّا سوّيته.

أمّا الأوّل: فقالصاحب القاموس: و الشرف- محركة- العلو، و من البعير سنامه، و على ذلك يحتمل المراد منه مطلق العلوّ، أو العلوّ الخاص كسنام البعير الّذي يعبّر عنه بالمسنَّم، و لا يتعيّن أحد المعنيين إلّا بالقرينة.

أمّا الثاني: فهو تارةً يُستخدم في بيان مساواة شي ء بشي ء في الطول أو العرض، فيقال: هذا القماش يساوى بهذا الآخر في الطول.

و أُخرى في التسوية، أي كون الشي ء مسطّحاً لا انحناء و لا تعرّج فيه.

و الفرق بين المعنيين واضح؛ فإنّ التسوية في الأوّل وصف للشي ء بمقايسته مع شي ء آخر، و في الثاني وصف لنفس الشي ء و لا علاقة له بشي ء آخر.

فلو استعمل في المعنى الأوّل لتعدّى إلى مفعولين: أحدهما بلا واسطة، و الآخر بمعونة حرف الجرّ، قال تعالى حاكياً عن لسان المشركين و أنّهم يخاطبون آلهتهم

ص:382

بقولهم: «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» «(1)»، أي نعدّ الآلهةَ الكاذبة مساويةً لربّ العالمين في العبادة أو في الاعتقاد بالتدبير.

و قال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» «(2)»، أي يودّون أنْ يكونوا تراباً أو ميتاً مدفوناً تحت الأرض، و يكونون كذلك و الأرض متساوية.

ترى أنّ تلك المادة تعدّت إلى مفعولين و أُدخل حرف الجرّ على المفعول الثاني.

و أمّا إذا استعمل في المعنى الثاني أي فيما يكون وصفاً للشي ء بلا علاقة له بشي ء آخر فيكتفي بمفعول واحد، قال سبحانه: «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» «(3)»، و قال سبحانه:

«بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» «(4)»، و قال سبحانه: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» «(5)»، ففي جميع هذه الموارد يراد من التسوية كونها وصفاً للشي ء بما هو هو، و هو فيها كناية عن كمال الخلقة و أنّها بعيدة عن النقص و الاعوجاج.

هذا هو مفهوم اللفظ لغةً، و هلم معي ندرس الحديث و أنّه ينطبق على أيٍّ من المعنيين.

نلاحظ أنّه تعدّى إلى مفهومٍ واحد، و لم يقترن بالباء، فهو آية أنّ المراد هو المعنى الثاني، و هو تسطيح القبر في مقابل تسنيمه، و بسطه في مقابل اعوجاجه لا مساواته مع الأرض، و إلّا كان عليه عليه السلام أن يقول: سوّيته بالأرض، و لم يكتف


1- الشعراء: 98.
2- النساء: 42.
3- الأعلى: 2.
4- القيامة: 4.
5- الحجر: 29.

ص:383

بقوله سوّيته.

أضف إلى ذلك أنّ ما ذكرناه هو الّذي فهمه شرّاح الحديث و هو دليل على أنّ التسطيح سنّة و التسنيم بدعة و أمر عليّ عليه السلام أن تكافح هذه البدعة و يسطّح كلّ قبر مسنّم، و إليك ذكر نصوصهم:

قال القرطبي في تفسير الحديث: قال علماؤنا: ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور و رفعها و أن تكون واطئة «(1)».

أقول: إنّ دلالة الحديث على منع تسنيم القبور ظاهر، و أمّا دلالتها على عدم ارتفاعها كما هو ظاهر قوله: «و منع رفعها» فغير ظاهر، بل مردود باتّفاق أئمة الفقه على استحباب رفعها قدر شبر «(2)».

2- قال ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري ما هذا نصّه:

مُسنّماً بضمّ الميم و تشديد النون المفتوحة أي: مرتفعاً، زاد أبو نعيم في مستخرجه: و قبر أبي بكر و عمر كذلك، و استدلّ به على أنّ المستحب تسنيم القبور، و هو قول أبي حنيفة و مالك و أحمد و المزني و كثير من الشافعية.

و قال أكثر الشافعية و نصّ عليه الشافعي: التسطيح أفضل من التسنيم؛ لأنّهصلى الله عليه و آله سطّح قبر إبراهيم، و فعله حجّة لا فعل غيره، و قول سفيان التمّار: رأى قبر النبيّ مسنّماً في زمان معاوية، لا حجّة فيه، كما قال البيهقي؛ لاحتمال أنّ قبرهصلى الله عليه و آله و قبرَيصاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنّمة- إلى أن قال:- و لا يخالف ذلك قول علي عليه السلام: أمرني رسول اللَّه أن لا أدع قبراً مشرفاً إلّا سوّيته، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض، و إنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار، و نقله في المجموع عن الأصحاب «(3)».


1- القرطبي، التفسير 2: 380 تفسير سورة الكهف.
2- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 42.
3- إرشاد الساري 2: 468.

ص:384

3- و قال النووي في شرحصحيح مسلم: إنّ السنّة أنّ القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، و لا يُسنَّم بل يُرفع نحو شبر، و هذا مذهب الشافعي و من وافقه، و نقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أنّ الأفضل عندهم تسنيمها، و هو مذهب مالك «(1)».

و يؤيّد ذلك أنّصاحب الصحيح (مسلماً) عنون الباب ب «باب تسوية القبور» ثمّ روى بسنده إلى تمامه، قال: كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفّيصاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّى، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأمر بتسويتها، ثمّ أورد بعده في نفس الباب حديث أبي الهياج المتقدّم «(2)».

و في الختام نذكر أُموراً:

1- القول بوجوب مساواة القبر بالأرض مخالف لما اتّفقت عليه كلمات فقهاء المذاهب الأربعة، و كلّهم متّفقون على أنّه يندب ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر «(3)».

و لو أخذنا بالتفسير الّذي يرومه الوهابي من حديث أبي الهياج من مساواة القبر بالأرض يجب أن يكون القبر لاطئاً مساوياً معه.

2- لو افترضناصحّة حديث أبي الهياج سنداً و دلالة، فغاية ما يدلّ عليه هو تخريب القبر و مساواته بالأرض، و لا يدلّ على هدم البناء الواقع عليه، فتخريب القباب المشيّدة الّتي هي مظاهر الودّ لأصحابها استناداً إلى هذا الحديث عجيب جدّاً.

3- إنّ الصحابة دفنوا النبيّ الأكرم في بيته من أوّل يوم، و قد وصّى الخليفتان


1- صحيح مسلم بشرح النووي 7: 36 ط الثالثة، دار إحياء التراث العربي.
2- المصدر السابق.
3- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 42.

ص:385

بأنْ يُدفنا تحت البناء جنب النبيّ الأكرم تبرّكاً بالقبر وصاحبه، فلو كان البناء على القبور أمراً محرّماً و من مظاهر الشرك؛ فلما ذا وارت الصحابة جثمانه الطاهرصلى الله عليه و آله تحت البناء؟ و لما ذا أوصى الخليفتان بالدفن تحته؟

و لمّا واجهت الوهابية عمل الصحابة في مواراة النبيّ قامت بالتفريق و قالت:

إنّ الحرام هو البناء على القبر لا الدفن تحت البناء، و قد دفنوا النبيّ تحت البناء و لم يبنوا على قبره شيئاً «(1)».

و نترك هذا الجواب بلا تعليق؛ إذ هو في غاية السقوط، إذ أيّ فرق بين الأمرين؟ فإنّ البناء على القبر مَدْعاة للإقبال إليه و التضرّع إليه، ففيه فتح لباب الشرك و توسّل إليه بأقرب وسيلة... «(2)».

فإذا كان البناء على وجه الإطلاق ذريعة للشرك و توجّهاً إلى المخلوق، فلما ذا نرخّص في بعضصوره و نحرّم بعضها الآخر؟ و ما هذا إلّا لأنّ الوهابية و إن كانوا ينسبون أنفسهم إلى السلفية، إلّا أنّ السلفية بعيدون عنهم بُعد المشرقين.

إلى هنا تمّت دراسة حديث أبي الهياج، و لندرس حديث جابر الّذي هو المستمسك الآخر لمدمّري آثار الرسالة.

الثانية: حديث جابر

إنّ الوهابيين يستدلّون بحديث جابر على حرمة البناء على القبور، و قد ورد بنصوص مختلفة، و نحن نذكر نصاً واحداً منها:

روى مسلم فيصحيحه: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا حفص بن


1- عقيل بن الهادي، رياض الجنّة، ط الكويت.
2- محاسن التأويل 7: 30.

ص:386

غياث، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يجصّص القبر، و أن يقعد عليه، و أن يُبنى عليه «(1)».

و حديث جابر هذا لا يحتجّ به، لكونه غيرصحيح سنداً و ضعيفاً دلالةً.

أمّا الأوّل: فلأنّ جميع أسانيده مشتملة على رجلين هما في غاية الضعف:

1- ابن جريج: و هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.

2- أبو الزبير: و هو محمد بن مسلم الأسدي.

أمّا الأوّل: فإليك كلمات أئمة الرجال في حقّه:

سئل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج قال: فقال: ضعيف، فقيل له: إنّه يقول: أخبرني؟ قال: لا شي ء.. كلّه ضعيف، و قال أحمد بن حنبل: إذا قال ابن جريج: قال فلان و قال فلان جاء بمناكير.

و قال مالك بن أنس: كان ابن جريج حاطب ليل.

و قال الدارقطني: يُجتنب تدليس ابن جريج؛ فإنّه قبيح التدليس، لا يدلِّس إلّا فيما سمعه من مجروح.

و قال ابن حبّان: كان ابن جريج يدلِّس في الحديث «(2)».

و أمّا الثاني: فإليك أقوال علماء الرجال فيه:

فعن إمام الحنابلة عن أيوب أنّه كان يعتبر أبا الزبير ضعيف الرواية.

و عن شعبة: لم يكن في الدنيا أحبّ إليّ من رجل يقدِمُ فأسأله عن أبي الزبير،


1- لاحظ للوقوف على متونها المختلفة و أسانيدها: صحيح مسلم، كتاب الجنائز 3: 62؛ و سنن الترمذي 2: 208 ط المكتبة السلفية؛ صحيح ابن ماجة 1: 473 كتاب الجنائز؛ صحيح النسائي 4: 87- 88؛ سنن أبي داود 3: 216 باب البناء على القبر؛ مسند أحمد 3: 295 و 332، و رواه أيضاً مرسلًا عن جابر: ص 399.
2- تهذيب التهذيب 6: 2- 4 و 5- 6 ط دار المعارف العثمانية.

ص:387

فقدمت مكّة فسمعت منه، فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فردّ عليه، فافترى عليه، فقلت: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟ قال: إنّه أغضبني، قلت: و من يغضبك تفتري عليه؟ لا رويت عنك شيئاً.

و عن ورقاء قال: قلت لشعبة: ما لَكَ تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يزن و يسترجع في الميزان.

و قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير، فقال: يُكتب و لا يحتجّ به، قال: و سألت أبا زرعة عن أبي الزبير، فقال: يروي عنه الناسُ، قلت: يُحتجُّ بحديثه؟ قال: إنّما يحتجّ بحديث الثّقات «(1)».

باللَّه عليك، أ يصحّ الاستدلال بهذا الحديث؟ أ فهل يصحّ هدم آثار النبوّة و الرسالة و الصحابة بهذه الرواية؟

على أنّ بعض الأسانيد مشتمل على عبد الرحمن بن أسود المتّهم بالكذب و الوضع.

هذا كلّه ما يتعلّق بالسند.

و أمّا الثاني: أي المتن، ففيه ملاحظتان:

الأُولى: أنّ الحديث روي بصورٍ ستّ، مع أنّ النبيّ نطق بصورة واحدة، و لو رجعت إلى متونه المبعثرة في المصادر الّتي أوعزنا إليها ترى فيها الاضطراب العجيب، و إليكصورها:

1- نهى رسول اللَّه عن تجصيص القبر و الاعتماد عليه.

2- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن الكتابة على القبر.

3- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن تجصيص القبر، و الكتابة و البناء عليه، و المشي عليه.


1- تهذيب التهذيب، ترجمة أبي الزبير 9: 442 ط حيدرآباد- دكن عام 1326؛ و لاحظ الطبقات الكبرى 5: 481.

ص:388

4- نهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن الجلوس على القبر، و تجصيصه، و البناء و الكتابة عليه.

5- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن الجلوس على القبر و تجصيصه و البناء عليه.

6- نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عن الجلوس على القبر و تجصيصه و البناء عليه، و الزيارة و الكتابة عليه «(1)».

مضافاً إلى اختلافات أُخرى في أداء مقصود واحد، فيعبّر عنه تارةً بالاعتماد، و أُخرى بالوطء، و ثالثة بالقعود.

و من المعلوم أنّ الاعتماد غير الوطء، و هما غير القعود، فمع هذا الاضطراب و الاختلاف في المضمون لا يمكن لأيّ فقيه أن يعتمد عليه؟!

الثانية: أنّ الحديث على فرضصحّته لا يُثبت سوى ورود النهي من النبيّ، و لكن النهي منه تحريمي و منه تنزيهي. و بعبارة أُخرى: نهي تحريم، و نهي كراهة.

و قد استعمل النهي في كلمات الرسول في القسم الثاني كثيراً، و لأجل ذلك حمله الفقهاء على الكراهة، فترى الترمذي يذكر هذا الحديث فيصحيحه تحت عنوان كراهية تجصيص القبور، و السندي شارحصحيح ابن ماجة ينقل عن الحاكم النيسابوري أنّه لم يعمل بهذا النهي (بالمضمون التحريمي) أحد من المسلمين، بدليل أنّ سيرة المسلمين قائمة على الكتابة على القبور.

و أمّا الكراهة فربّما تكون مرتفعة بالنسبة إلى المصالح العظيمة المترتّبة عليه، كما إذاصار البناء على القبر سبباً لحفظ الآثار الإسلامية، و إظهار المودّة لصاحب القبر الّذي فرض اللَّه مودّته على الناس «(2)»، أو يكون لاستظلال الزائر و تمكّنه من تلاوة القرآن و إهداء ثوابه إلىصاحب القبر، إلى غير ذلك من الأُمور الّتي يتمكّن


1- لاحظ في الوقوف على المتون المختلفة للحديث المصادر الّتي أوعزنا إليها.
2- قال سبحانه:« قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» الشورى: 23.

ص:389

الإنسان منها تحت الظلّ لا تحت الشمس و لا في برد الليل، فالنهي التنزيهي أشبه بالمقتضيات الّتي ترتفع بأقوى منها.

الثالثة: أحاديث ثلاثة في الميزان

اشارة

فقد ورد في ذلك المجال أحاديث أُخر نذكرها بسندها و متنها:

روى ابن ماجة فيصحيحه ما يلي:

1- حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا محمد بن عبد اللَّه الرقاشي، حدّثنا وهب، حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي سعيد: أنّ النبيّ نهى أن يُبنى على القبر «(1)».

و يذكر ابن حنبل حديثاً آخر بسندين هما:

2- حدّثنا حسن، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا يزيد بن أبي حبيب، عن ناعم مولى أُمّ سلمة، عن أُمّ سلمة قالت: نهى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يُبنى على القبر أو يُجصّص.

3- عليّ بن اسحاق، حدّثنا عبد اللَّه بن لهيعة، حدّثني بريد بن أبي حبيب، عن ناعم مولى أُمّ سلمة: أنّ النبيّ نهى أن يجصّص قبر أو يبنى عليه أو يجلس عليه «(2)».

فسند الحديث الأوّل يشمل على (وهب)، و هو مردّد بين سبعة عشر رجلًا، و فيهم الوضّاعون و الكذّابون «(3)».

و الحديث الثاني و الثالث لا يُحتجّ بهما، لاشتمالهما على «عبد اللَّه بن لهيعة» الّذي


1- صحيح ابن ماجة 1: 474.
2- مسند أحمد 6: 299.
3- ميزان الاعتدال 3: 350- 355.

ص:390

يقول فيه ابن معين: ضعيف لا يحتجّ به، و نقل الحميدي عن يحيى بن سعيد: أنّه كان لا يراه شيئاً «(1)».

هذه حال الأحاديث الّتيصارت ذريعة بيد الوهابيين لتدمير الآثار الإسلامية منذ أن استولوا على الحرمين الشريفين، حيث لا تمرّ سنة إلّا و يدمّر أثر من الآثار الإسلاميّة بحجّة توسيع الحرم الشريف، حتّى المكتبات و بيوتات بني هاشم و مدارسهم، و بيت مضيِّف النبي أبي أيّوب الأنصاري، و في الوقت نفسه يعكفون على حفظ آثار اليهود في خيبر و غيره، حتّى بيت كعب بن الأشرف ذلك اليهودي الّذي أهدر دمه رسول اللَّه، و قتل بأمره غيلة باسم الحفاظ على الآثار التاريخية.

ثمّ إنّ القاضي ابن بليهد قد أعوزته الحجّة فتمسّك بكون البقيع مسبلة موقوفة، و أنّ البناء على القبور مانع عن الانتفاع بأرضها.

سبحان اللَّه ما أتقنها من برهنة؟ من أين علم أنّ البقيع كانت أرضاً حيّة وقفهاصاحبها على دفن الأموات؟!

و من أراد أن يقف على حال البقيع، و أنّه لم يكن فيها يوم اعدّت للتدفين أيّ أثر من الحياة، فليرجع إلى كتاب «وفاء الوفا».

آخر ما في كنانة المستدلّ

ذكر البخاري فيصحيحه في باب كراهة اتّخاذ المساجد على القبور الخبر التالي:

لمّا مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبّة على قبره سنة، ثمّ


1- ميزان الاعتدال 2: 476؛ و تهذيب التهذيب 1: 444.

ص:391

رفعت، فسمعواصالحاً يقول:

ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا «(1)».

إنّ هذا الخبر لوصحّ فهو على نقيض المطلوب أدلّ، فهو يدلّ على جواز نصب المظلّة على القبر، و لو كان ذلك حراماً لماصدر من امرأة الحسن بن الحسن عليهما السلام؛ لأنّه كان بمرأى و مسمع من التابعين و فقهاء المدينة، و لعلّها نصبت تلك القبّة لأجل تلاوة القرآن في جوار زوجها و إهداء ثوابها إلى روحه.

و أمّا قول الصالح فهو قول غيرصالح، كما أنّ الجواب أيضاً مثله، لأنّه بصدد الشماتة؛ بامرأة افتقدت زوجها و هي مستحقّة للتعزية و التسلية لا الشماتة، لأنّها ليست من أخلاق المسلمين، و لم تكن المرأة تأمل عودة زوجها إلى الحياة حتّى يقال: إنّها يئست، بل كان نصبها للمظلّة للغايات الدينية و الأخلاقية، و الشامت و المجيب كانا من أعداء أهل البيت، و العجب أنّ البخاري ينقله و لا يعلّق عليه شيئاً!

ترى هؤلاء الأغبياء يدمّرون آثار الرسالة و هم يتمسّكون في ذلك بركام من الأوهام، و يسخرون من الذين أظهروا حبّاً لأهل بيت رسول اللَّه الّذين أذهب اللَّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً، و فرض مودّتهم و ولاءهم و قال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» «(2)».

إلى هنا تبيّن أنّه ليس للقوم دليل، بل و لا شبهة على حرمة البناء على القبور، و إنّهم لم يدرسواصحاحهم و مسانيدهم حسبما درسها السلف الصالح.


1- صحيح البخاري 2: 111 كتاب الجنائز؛ السنن للنسائي 2: 171 كتاب الجنائز.
2- الشورى: 23.

ص:392

ص:393

الفصل الخامس الحياة البرزخيّة

اشارة

ص:394

ص:395

ابن تيميّة و أثر منهجه في العقيدة و الشريعة

تمهيد: ابن تيميّة و أثر منهجه في العقيدة و الشريعة

في العصر الذي تحالفت فيه الوثنيّة و الصليبيّة على تدمير الإسلام و تحطيم كيانه في أراضيه، و الذي ينبغي فيه للعالِمِ المسئول في مثل هذا الظرف الحرج، أن يتصدّى لهذه المواقف الخطيرة، و يعمد إلى تجميع القوى و تكريسها؛ ليكون المسلمونصفاً واحداً و يداً واحدة و قوة حامية للإسلام أمام الزحف الوثني القادم من المشرق، المتمثل آنذاك في الهجمة المغوليّة الشرسة المدمِّرة، و الزحف الصليبي القادم من الغرب، المتمثّل في الحملات النصرانية الحاقدة، على مقدسات المسلمين في فلسطين.

في مثل هذا العصر نرى من يطرح نفسه عالماً دينيّاً عارفاً بالكتاب و السنّة، يطرح على الساحة قضايا و مسائل من شأنها تعكير الصفو، و بلبلة الأذهان، و شقّ الصفوف، و بالتالي تضعيف القوة الإسلامية التي قوامها الوحدة.

أ فيمكن و الحال هذه وصف مثل هذا الشخص بأنّه عالم عارف أو شيخ إسلام أحيا السنّة و أمات البدعة؟!

لقد كانت النصارى بالمرصاد للمسلمين و كان من أمانيّهم الاستيلاء على القدس الشريف، و انتزاعه من أيدي المسلمين بحجّة كونه مولِد المسيح، و قبلة

ص:396

النصارى، و لهذا شنّوا الغارة تلو الغارة، و الحملة تلو الحملة على بلاد المسلمين من أواخر القرن الخامس (سنة 490 ه) إلى أواسط القرن السابع، و كان للحروب الصليبية هذه مراحل ثمان و كان انتصر المسيحيون في بعضها و هزمت قواتهم في البعض الآخر.

و قد تحمّل المسلمون جرّاء هذه الحملات الكبرى خسائر كبرى، لا يستطيع البنان و اللسان عدّها و إحصاءها، و لا تصويرها، و بيانها.

و فيما كان الجرح نازفاً من جهة الغرب، تعرّضت البلاد الإسلامية من ناحية الشرق في عام 616 ه لحملة شعواء وثنيّة الجذور لاقتلاع الإسلام من أساسه و القضاء على أُصوله و فروعه، و إبادة حضارته و مدنيّته و امتدّت إلى أن سقطت الخلافة العباسية بأيدي أُولئك الوثنيين عام 656 ه، و كانت الخسائر في النفوس و الأرواح كبيرة قاربت المليون، بل أكثر.

و بقي التدمير و الحرب سائدَين في البلاد إلى أواخر هذا القرن، بل امتدّا إلى أواخر القرن الثامن.

ثمّ وقعت في الشمال الغربي من البلاد الإسلامية أعني الأندلس كارثة أُخرى، هي إبادة المسلمين و تصفيتهم بقتلهم أو بترحيلهم عن بلادهم و أوطانهم بأعداد كبيرة و هائلة.

فإذا نظرنا إلى الجدول التاريخي نرى أنّ هذه القرون الأربعة تعدّ من شرّ القرون على العالم الإسلامي حيث فيها:

1- ابتدأت الحروب الصليبية من عام 490 ه و استمرت إلى عام 690 ه «(1)».

2- ابتدأت الحروب التترية (المغولية) من عام 616 ه و انتهت عام 807 ه «(2)».


1- و 2 الدولة العباسيّة: 2/ 374- 398.
2- و 2 الدولة العباسيّة: 2/ 374- 398.

ص:397

3- أُبيد المسلمون في أوطانهم بإسبانيا و الأندلس، أو رحّلوا من عام 609 ه إلى عام 898 ه.

ففي هذه الظروف المأساوية المتّسمة بالقتل و التنكيل و التشريد، و الهدم، و المقرونة بإحراق المكتبات و تدمير الثقافة الإسلامية، نرى أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية يطرح مسائل باسم التوحيد و الشرك و يُقسِّم المسلمين إلى قسمين:

موحّد و مشرك.

فالأوّل هو مَن يتّبع خطواته و أفكاره، و الثاني هم المخالفون؛ و هم الأكثرية الساحقة من المسلمين.

فهل طرحت هذه المسائل المفرّقة لصفوف المسلمين بدوافع إيمانية، و بحجّة الدفاع عن حوزة الدين و الإيمان. أو أنه كان وراء الأكمة ما وراءها، و أنّه كانت هناك وراء الكواليس أُمور أُخرى لا يعلمها إلّا اللَّه، أو أنّ طارح هذه الأفكار كان إنساناً ساذجاً و مغفّلًا غير واقف على مصالح الإسلام و المسلمين و لا عارف بما يصلحهم في ذلك الظرف العصيب و ما يفسدهم. و بكلمة قصيرة: ما كان يعرف الداء و لا الدواء.

و نحن لا نقضي بشي ء عليه فالتاريخ خير قاضٍ، و العلم عند اللَّه تبارك و تعالى.

و على أيّ نحو فسّر موقفُ الشخص المذكور، فقد أنتج هذا الموقف ثلاث نتائج سيئة، لم تزل آثارها الخطيرة باقية إلى الآن:

1- الحطّ من شأن الأنبياء و الأولياء و الصالحين و الشهداء و الصدّيقين، و إنزالهم عن مقاماتهم المعنوية العالية الّتي أعطاهم اللَّه إيّاها بجهادهم، و إخلاصهم، و وفائهم للعقيدة و دفاعهم عن الشريعة.

2- تعريض الآثار الإسلامية للمحو و الإبادة و الطمس و الهدم، على حدّ لا يبقى من آثار النبيّ و المسلمين الأوائل شي ء يدلّ على وجودهم، و على تفانيهم

ص:398

و تضحياتهم، لو أُتيح لأتباع هذه الفكرة، و أنصار هذا الرجل أن ينفِّذوا كلّ مآربهم، و مراميهم.

و بالتالي لوْ وُفِّقوا لذلك، لَتحوّل الإسلام في رؤية الأجيال المستقبلة إلىصورة أُسطورية لا واقع لها و لا أساس، إلّا بين الكتب و الأوراق، أو في عالم الأذهان و الأفكار.

3- تفريغ الدين من محتواه الداخلي، الغني، حيث قاموا بتفسير القرآن بحرفيته، فأثبتوا للَّه سبحانه الجسمانية و الجهة، و المكان، و سائر ما تتمتع به المخلوقات من الأوصاف و الحالات، و ما لها من الأعضاء و الجوارح. و هذا واضح لمن طالع رسائل الرجل المذكور، و كتاباته.

هذه أبرز النتائج التي ترتّبت على هذا المنهج الفكري الذي قدّمه ابن تيمية، و لكنّه لم يوفّق لتأصيل و تعميم ما كان ينويه و يهدف إليه و يسعى إلى نشره و حمل الناس عليه، و ذلك لأنّه:

أوّلًا: واجه مخالفة العلماء الكبار من جميع المذاهب في البلاد المنعمة بالعلم و الإيمان، و الحبّ للرسول و آله في مصر و الشام و غيرهما، و لأجل ذلك بقيت فكرته بذرة في ثنايا الكتب تنتظر أرضية مناسبة لنموّها، و تجدّدها.

ثانياً: واجه ما كان المسلمون مفطورين عليه من حبٍّ للإسلام، و الرسالة المحمديّة الشريفة، و تعلّق فطري سليم بالرسول الكريمصلى الله عليه و آله و آثاره، و ما كان مركوزاً في أذهانهم منذ قرون من مشروعية لمظاهر التكريم و التبجيل للأنبياء و الأولياء و الصالحين.

و كانت الظروف على هذه الحال، و لم تكن مناسبة لنموّ و توسع هذه البذرة إلى أن انتقلت إلى أراض قاحلة من العلم و المعرفة من بقاع نجد، فسقيت البذرة على يد محمّد بن عبد الوهاب النجدي (1115- 1206 ه) فأخذت البذرة تنمو بين قوم أُمّيين لا يعرفون المعارف الصحيحة، بل تغلب عليهم البداوة و الجاهلية، و قد

ص:399

استغل محمّد بن عبد الوهاب هذا النمط من الناس لتعميق هذه الفكرة، و دعمها و إشاعتها، و من سوء الحظ أنّ أمير المنطقة محمّد بن سعود (حاكم الدرعية)، من أمارات نجد، أيّده في فكرته و اتّفقا على المناصب و الدعم المتقابل، و بذلك عادت الفكرة إلى الساحة باسم الوهّابية، و أخذت تنمو شيئاً فشيئاً بين أعراب نجد و ما حولها، و قد وقعت مناوشات و حروب دامية بين هذه الفرقة و الخلافة الإسلامية العثمانية مرّات، بفضل القوات المصرية التابعة للخلافة آنذاك.

و في خلال الحرب العالمية الأُولى انهارت الخلافة الإسلامية و تبدّلت إلى ملكيات، و أمارات يحميها الاستعمار البريطاني و الفرنسي، فاستولى أمير الوهابية عبد العزيز بن سعود على مكة و المدينة عام 1344 ه، و بذلك سيطروا على أقوى مركز من مراكز التبليغ و الدعوة، وصار لهم نشاط نسبيّ في تبليغ الفكرة و نشرها، و كبح الألسن و إلجامها و السيطرة على المخالفين و المعارضين.

و مع ذلك لم يكن النجاح حليفهم إلى أن اكتُشِفَت في المنطقة الشرقية (الظهران) أكبر معادن البترول، فصار أمير الوهابية يملك أكبر ثروة في العالم سخّرها لصالح قبيلته، و نشر الفكرة التي نشأ عليها هو و آباؤه، و لو لا هذه الظروف الاتفاقية لا تحسّ منهم من أحد، و لا تسمع لهم رِكْزاً.

إنّ التاريخ يعيد نفسه، ففي الوقت الذي تشنّ القوى الكافرة من الصهاينة و الصليبيين، الغارة تلو الغارة على الأطفال و الشباب لمسخ هويتهم الإسلامية بشتى الوسائل، حتّى أنّ الإنجيل قد ترجم في عقر دار المسلمين بمختلف اللغات الدارجة في البلاد الإسلامية.

ففي هذا الوقت العصيب الذي تدمع عين الإسلام دماً، نرى الوهابيّين مستمرين على تهديم الآثار الإسلامية الباقية، بمعاولهم الهدامة تحت غطاء توسيع المسجدين، و موزّعين ملايين الكتب و الأشرطة، كلّها مكرَّسة للهجمة الشرسة

ص:400

على المسلمين قاطبة و الشيعة الإمامية خاصة، و لا تتبنى من العلم الصحيح الناجع لداء المسلمين اليوم، شيئاً، سوى أنّ البناء على القبور و تقبيل الضريح و التوسّل بالأولياء و طلب الشفاعة منهم شرك و بدعة.

فيا للَّه و للمسلمين من هذا التفريق و التبديد، و الإسراف و التبذير!! أما آن لهؤلاء المغفّلين أن ينتبهوا من غفلتهم، و يسعوا في سبيل وحدة المسلمين، مكان تفريقهم و إذلالهم، إذا كانوا يعتبرون أنفسهم مسلمين؟

و على كلّ تقدير، فنحن أمام هذه الكارثة التي هزّت وحدة المسلمين و جعلتهم فريسة للمستعمرين و وسيلة للتقاتل و التخاصم و التنازع و التناوش، مكان بذل الجهد و تكريس التعاون لأهم الأُمور و هو حفظ استقلالهم و التخلّص من مخالب المستعمرين و تنشيط اقتصادهم و تجديد سيادتهم على العالم.

و هنا نحن نغضّ الطرف عن جميع ما ذكرنا و ندعو علماء الوهابية في الحجاز و الرياض أن يقيموا مؤتمراً إسلامياً يحضره علماء من كافة المذاهب الإسلامية، لدراسة مسائل عديدة- ممّا يتميز بها الوهابيون عن غيرهم- في جوّ هادئ تسيطر عليه الروح الموضوعية و العلمية، و البعيدة عن السيطرة السياسية حتى يتبيّن الحقّ عن الباطل، و تتم الحجة على الجاحد، و لعلّ في هذا المؤتمر نجاح الإسلام و المسلمين و توحيد الكلمة، كما أنّ لهم كلمة التوحيد.

و بما أنّ الحياة البرزخيّة بعد الانتقال من الدنيا، هي الأساس لنقد دعاياتهم و عقائدهم خصّصنا هذا البحث لتحقيقها و البرهنة عليها بالكتاب و السنّة و العقل الصريح، في ضمن مباحث.

ص:401

حقيقة الإنسان؛ روحه و نفسه

المبحث الأوّل حقيقة الإنسان؛ روحه و نفسه

اشارة

لم يزل الإنسان عبر القرون يبحث عن الحياة و حدّها و منشئها و مُنتهاها بحثاً حثيثاً، كي يقف على معالمها و آثارها و كيفية حدوثها بين الموجودات الحيّة. و قد أدّى هذا البحث و الولع الشديدان إلى نشوء قسم مختص يعرف ب «عالم الأحياء»، و قد كرّس لفيف من العلماء جُلَّ أعمارهم في سبيل ذلك و خرجوا بنتائج باهرة معروفة.

و الغاية القصوى من دراسة الظاهرة الحياتية، هي الوقوف على واقعِ الإنسان، و هل هو عبارة عن هيكل ماديّ متكوّن من عروق و أعصاب و عظام و غيرها من المكوّنات المادية فحسب، أم أنّ هناك وراء هذا المظهر المادّي جوهراً آخرَ يكوِّن حقيقة الإنسان و يُشيّد واقعه و الإنسان به يكون إنساناً؟

و بعبارة أُخرى: أنّ الباحث يحاول أن يقف على ذاته و واقعه، و أنّه هل هو موجود آليّ مركب من أدوات مادية مختلفة تتفاعل أجزاؤه بعضها ببعض، أو أنّ وراء هذا الموجود الآليّ حقيقة قدسية هي واقع الإنسان و هي المدبّرة لما تراه و تظنّه إنساناً؟

ص:402

فالعلماء في هذا المجال على رأيين:

الأوّل: الإنسان موجود آلي مركّب من عرق و عصب و لحم و عظم، و ما الشعور إلّا نتيجة تفاعل هذه الأجزاء بعضها ببعض، و ليس وراءَ هذا التركيب المادّي أيّ وجود آخر باسم الروح و النفس، و أنّ الإنسان يفنى بموته، و به تنتهي شخصيته و «ليس وراء عبّادان قرية» و قد انطلت هذه النظرية في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر على كثير من الباحثين في الغرب، و بذلك قاموا بنفي العوالم الغيبيّة وراء المادة، و حسِبوا أنّ الوجود يساوي المادة و هي أيضاً تساويه، و بذلك شيّدوا المذهب المادّي في ذينك القرنين.

الثاني: أنّ واقع الإنسان الذي به يعدّ إنساناً، هو نفسه و روحه، و ليس جسمه إلا أداة بيد روحه و جهازاً يعمل به في هذا العالم المادّي، و هذا لا يعني أنّه مركّب من جسم و روح، بل أنّ الواقع فوق ذلك، فالإنسان هو الروح، و الجسم كسوة عليه، و نِعْمَ ما قيل:

يا خادَم الجسم كم تسعى لخِدمته أ تطلب الربح فيما فيه خسرانُ

أقبل على النفس و استكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

و من حسن الحظ أنّه في الوقت الذي كان المادّي يرفع عقيرته و ينادي بأنّه ليس وراء المادة شي ءٌ أثبتت البحوث العلمية بطلان هذه النظرية، فقام الروحيّون بنشر رسائل عديدة و كتب كثيرة تشتمل على تجاربهم و أدلّتهم في هذا المضمار، و بذلك دمّروا ما بُني من تفكيرات مادية بمعاولهم العلمية.

و بما أنّ بحثنا في هذه الفصل يعتمد على الكتاب و السنّة فنترك أدلّتهم للقارئ

ص:403

الكريم للبحث عنها في مظانّها، و لكن قبل أن ندرس قضاء الكتاب و السنّة في المقام نأتي ببعض الأدلّة العقلية التي تتجاوب و شعور قرّائنا فإنّها دلائل واضحة- على أنّ وراء الجسم واقعاً آخر باسم الروح- يخضع أمامها كل إنسان واع و إن لم يقرأ كتاباً فلسفياً، و لم يقرع باب العلوم العقلية، لأنّ ما يمرّ عليه كلّها أُمور وجدانية يحسّ بها كلّ إنسان إذا تجرّد عن رأي مسبق.

ص:404

الشخصيّة الإنسانيّة المعبّر عنها بال «أنا»:

لم يزل كلّ واحد منّا ينسُب جميعَ أفعاله إلى موجود نعبّر عنه بال «أنا» و يقول:

«أنا فعلتُ» «أنا أكلتُ» و «أنا ضربتُ» و ربما ينسبها إلى الضمائر المتصلة القائمة مكان «أنا» فيقول: «قرأت»، «كتبت»، «أردت» و «أجبت»، فإذن يقع السؤال حول تعيين الموضوع الذي تنسب إليه هذه الأفعال، فما هو إذن؟ هل هو هذا الجسم المادّي، أو شي ء آخر وراء ذلك؟ فلو كان الموضوع هو الجسم المادّي منه، لا يكون دليلًا على وجود جوهر آخر مجرد عن المادة و آثارها، و لو كان الموضوع أمراً غيره، يثبت به موضوع وراء المادة، مقترن بجسمه و حياته المادية.

ثمّ إنّنا ننسب أعضاءنا إلى شي ء آخر وراء الجسم المادّي هذا و نقول: «رأسي» و «قلبي» و «بطني» و «قدمي» فهذه أعضاء رئيسية للجسم الماديّ «الإنسان»، و مع ذلك فإنّنا ننسبها إلى شي ء آخر وراء هذا الجسم المادّي.

و ربما نتجاوز إلى أكثر من هذا فننسب نفس الجسم بأكمله إلى شي ء آخر، فنقول: «بدني»، فإذن ما هذا المضاف إليه في جميع هذه الانتسابات، من انتساب الأفعال و الأعضاء و البدن بأكمله؟

و بما أنّ كلّ قضية تتركّب من موضوع و محمول، فبداهة العقل تحكم بأنّ لهذه المحمولات موضوعاً و إن لم يكن مرئياً إلّا أنّنا ندركه من خلال هذه المحمولات.

و بعبارة واضحة: أنّ الأفعال البشرية رغمصدورها من أعضاء مختلفة كالإبصار بالعين، و الرفع باليد، و المشي بالرجل، و السمع بالأُذن، فالإنسان ينسبها جميعاً إلى مصدر واحد، فيقول:

«أنا شاهدت»، «أنا مشيت» و «أنا سمعت» كما ينسب كلّ عضو من جسمه

ص:405

إلى مصدر كذلك، فإذن تطّلب هذه المحمولات موضوعاً واحداً لنفسها، حتى لا تكون القضية مجرّد انتسابات بلا موضوع، و عندئذ يكون هذا المصدر الواحد هو الشخصية الواقعية للإنسان التي نعبّر عنها بروحه و نفسه.

فالنتيجة: أنّ الشخصية الإنسانية تكمن وراء جسمه وصورته الظاهرية.

ثبات الشخصية الإنسانية في دوّامة التغييرات الجسدية:

إنّ كل واحد منّا يحس بأنّه باقٍ في دوّامة التغيّرات و التحوّلات التي تطرأ على جسمه، فمع أنّه تمرّ عليه أحوال كثيرة و تبدّلات جوهرية عبر مراحل الطفولة، و الصّبي، و الشباب، و الشيخوخة، إلا أنّه يجد أنّ شيئاً واحداً ينسب إليه جميع هذه الصفات و الحالات و هو باق خلال هذه التغييرات، غير متغير. فيقول: أنا الذي كنت طفلًا، ثمّ يافعاً، ثمّ شاباً، ثمّ كهلًا، ثمّ شيخاً، فيدرك أنّ هناك حقيقة باقية ثابتة رغم تغيير كلّ هذه الأحوال و الأوضاع و تصرّم الأزمنة و انقضاء الأوقات، فقد تغير كل شي ء خلال سبعين سنة و لكن هناك أمر باق لم يتغير و لم يتبدل، و هو الذي يحمل تلك الصفات و الأحوال، فالمتغير غير الثابت، و التغير آية المادية، و الثبات آية التجرّد عن أحكام المادة.

بل نرى أنه ينسب إلى نفسه الفعل الذي قام به قبل خمسين سنة و يقول: «أنا الذي كتبت هذا الخط يوم كنت طفلًا» و هذا يعرب عن إدراكه بوجدانه أنّه هو الذي كتب ذلك الخط سابقاً، فلو لم يكن هناك شي ء ثابت إلى زمان نطقه بهذا الكلام لزم كذب القضية و عدمصحّتها، و ذلك لأنّه لو كان الإنسان خلاصة الأجزاء المادية الظاهرة فالمفروض أنّها زالت و حدثت بعدها شخصيات جسمانية متعددة، فأين الإنسان أيامصباه، منه أيام شيخوخته، و قد تحوّلت و تبدّلت عظامه و عروقه و أعصابه في دوامة التغيّرات و تحلّل منه كلّ شي ء و تخلّفت عنه

ص:406

أشياء اخر؛ مثلها شكلًا و غيرها حقيقة.

فعملية التغيّر في جسمه مستمرة؛ و لا زالت الخلايا تتلف و تُستعاض بأُخر، و لكن الإنسان يرى نفسه ثابتاً في مهبّ تلك التحوّلات، فكأنَّ هناك أمراً ثابتاً طيلة سبعين عاماً يحمل تلك التحولات، فهو يشعر في جميع مراحل حياته أنه هو الإنسان السابق الذي وجد منذ عشرات السنين.

نفترض أنّ إنسانا جنى و له من العمر عشرون عاماً، و لم يقع في قبضة السلطات إلى أن ألقت القبض عليه و له من العمر ستون عاماً، فعند ذلك يقف في قفص الاتّهام ليُحاكم على جرمه، فإذا به محكوم بالإعدام على ما جنت يداه بقتله أُناساً أبرياء، فلا القاضي و لا الحاضرون في جلسة المحكمة يرون الحكم الصادر بحقّه جائراً، بل يراه الجميع أنّه وفق العدالة.

و لو كان الإنسان عبارة عن جسم مادي، فقد تغيّرت خلاياه مرات عديدة طيلة تلك الأعوام، لكنّ الحاضرين و القاضي و كل سامع، يرى أنّه نفس ذلك الإنسان الجاني، فما هذا إلّا لأنّ هناك حقيقة ثابتة في دوّامة المتغيّرات، لم يطرأ عليها أيّ تغيير، بل بقيت محفوظة مع كل هذه التبدّلات، و إذا كان التغيّر منصفات المادة، و الثبات و الدوام منصفات الموجود غير المادّي، نستكشف من ذلك أنّ واقع الإنسان غير مادّي و ثابت في جميع الحالات، و هذا ما نعبّر عنه بالروح المجرّدة، أو النفس المجرّدة.

و لا يخفى أنّ هذا البرهان غير البرهان السابق، فمنطلق الأوّل هو وجود الموضوع لجميع المحمولات، و منطلق البرهان الثاني هو ثبات الموضوع في دوّامة التحوّلات و التغيرات الطارئة على البدن.

و في النهاية نقول: قد لخص الرازي هذا البرهان في تفسيره و قال: إنّ أجزاء هذا الهيكل أبداً في النموّ و الذبول، و الزيادة و النقصان، و الاستكمال و الذوبان، و لا

ص:407

شكَّ أنّ الإنسان من حيث هو هو أمر باق من أوّل عمره، و الباقي غير ما هو غير باق، و المشار إليه عند كل أحد بقوله «أنا» وجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل «(1)».

علم الإنسان بنفسه مع غفلته عن بدنه:

ترى الإنسان يغفل في ظروف خاصة عن كل شي ء حتى عن بدنه و أعضائه، لكنّه لا يغفل عن نفسه، و هذا برهان تجريبي يمكن لكلّ منّا القيام به، و بذلك يصح القول بأنّ للإنسان وراء جسمه الماديّ حقيقة أُخرى، حيث إنّه يغفل عن الأُولى و لا يغفل عن الثانية، و بتعبير علمي: المغفول، غير المغفول عنه، و إليك توضيح ذلك:

إنّ إدراك هذه الحقيقة (يغفل عن كل شي ء حتى جسمه و لا يغفل عن نفسه) يتوقف على ظروف خاصة بالشكل التالي:

1- أن يكون في جوّ لا يشغله فيه شاغل و لا يلفت نظره لافت.

2- أن يتصور أنّه وجد في تلك اللحظة بالذات و أنّه كان قبل ذلك عدماً، و ما هذا إلّا ليقطعصلته بماضيه و خواطره قطعاً كاملًا.

3- أن يكونصحيح العقل سليم الإدراك، في تلك اللحظة.

4- أن لا يكون مريضاً لا يلفت المرض انتباهه إليه.

5- أن يستلقي على قفاه و يفرّج بين أعضائه و أصابع يديه و رجليه حتى لا تتلامس فتجلب انتباهه إليها.

6- أن يكون في هواء طلق معتدل لا حار و لا بارد و يكون كأنّه معلّق في الفضاء حتى لا يشغله وضع المناخ، أو يلفته المكان الذي يستند إليه.

ففي هذه الحالة التي يقطع الإنسان كلصلاته بالعالم الخارجي عن نفسه تماماً


1- مفاتيح الغيب 4: 147.

ص:408

و يتجاهل حتى أعضاءه الداخلية و الخارجية و يجعل نفسه في فراغ من كل شي ء و عندئذ يستشعر بذاته، أي سيدرك شيئاً غير جسمه و أعضائه و أفكاره و بيئته التي أحاطت به، و تلك هي «الذات الإنسانية» أي الروح أو النفس الإنسانية التي لا يمكن أن تفسّر بشي ء من الأعضاء و الحواس و القوى.

و هذه البينونة أظهر دليل على أنّ للإنسان وراء جسمه و أعضائه المغفول عنها في بعض الظروف، حقيقة واقعية غير مغفول عنها أبداً، و أنّ الإنسان ليس هو جسمه و أعضاؤه و خلاياه.

و قد لخّص الرازي هذا البرهان و قال: إنّي أكون عالماً بأنّي «أنا» حال، أكون غافلًا عن جميع أجزائي و أبعاضي، و المعلوم، غير ما هو غير معلوم فالذي أُشير إليه بقولي مغاير لهذه الأعضاء و الأبعاض «1».

إلى هنا اكتفينا بالبراهين الواضحة التي يسهل التمعّن فيها لكل إنسان واع و إن لم يدخل مدرسة كلامية أو فلسفية، و بذلك استغنينا عن البراهين المعقدة التي أقامها الفلاسفة على وجود الروح في كتبهم، و بما أنّ رسالتنا في هذه البحوث مقتصرة على الاعتماد على الكتاب و السنّة، لذلك ندرس واقع الإنسان و حقيقته على ضوء ذينك المصدرين و نكتفي في هذا الحقل بآيات ثلاث.

القرآن و حقيقة الشخصية الإنسانية:

اشارة

إذا استعرضنا آيات القرآن الكريم نقف على أنها تدلّ تارة بوضوح و أُخرى بالإشارة على أنّ واقع الإنسان و شخصيته غير جسمه الماديّ، و نحتج في المقام بآيات:

ص:409

الآية الأُولى:

قال سبحانه: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» «(1)».

الآية تردّ على ادّعاء المشركين القائلين بأنّ الموت بطلان الشخصية و انعدامها، و أنّها منوطة بجسده المادي، بأنّ شخصيته قائمة بشي ء آخر لا يضلّ و لا يبطل، بل يؤخذ عن طريق ملك الموت إلى أن يحشره اللَّه يوم القيامة.

و إليك بيان الشبهة و الإجابة، في ضمن تفسير آيتين:

قال سبحانه:

1- «وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» «(2)».

2- «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ».

تدلّ هاتان الآيتان على «خلود الروح» بعد انحلال الجسد و تفكّكه و ذلك بالبيان الآتي:

كان المشركون يستبعدون إمكانية عودة الإنسان بعد تفكّك جسمه الماديّ و تبدّده في التراب.

و لهذا اعترضوا على فكرة الحشر و النشر يوم القيامة، و قد عبّر القرآن الكريم عن اعتراضهم بقوله:

«قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ».

يعني أنّ الموت يوجب فناء البدن، و تبعّض أجزائه، و ضياعها في ذرات التراب، فكيف يمكن جمع هذه الأجزاء الضّالة المتبعثرة، و إعادة تكوين الإنسان


1- السجدة: 11.
2- السجدة: 10.

ص:410

مرة أُخرى من جديد؟

فردّ القرآن الكريم هذا الاستبعاد و الاعتراض بجملتين هما:

1- «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» «(1)».

2- «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ» «(2)».

فلا شك أنّ الجملة الأُولى ليست هي الجواب على اعتراضهم حول إمكانية إعادة المعدوم من أجزاء الجسد، بل هي توبيخ لهم على إنكارهم لقاء اللَّه و كفرهم بذلك، و إنّما ترى الجواب الواقعي على ذلك في الجملة الثانية، و حاصله هو: أنّ ما يضلّ من الآدمي بسبب الموت إنّما هو الجسد و هذا ليس حقيقةُ شخصيته، فجوهر شخصيته باقٍ، و إنّ الذي يأخذه ملك الموت و ينتزعه من الجسد ليس إلّا الجانب الأصيل الذي به تناط شخصيته و هو محفوظ عندنا.

إذن فالضال في التراب من الإنسان- بسبب الموت- هو القشر و البدن، و أمّا حقيقته و هي الروح الإنسانية التي بها قوام شخصيته، فلا يطالها الفناء و لا ينالها الدثور.

التوفّي في الآية ليس بمعنى الإماتة، بل بمعنى الأخذ و القبض و الاستيفاء، نظير قوله سبحانه: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» «(3)» و قوله تعالى: «وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» «(4)» و من قولهم «وافاه الأجل» و بعبارة أُخرى: لو ضلّ بالموت كلّ شي ء من وجودكم لكان لاستبعادكم إمكان إعادة الإنسان وجه مقبول.


1- السجدة: 10.
2- السجدة: 11.
3- الزمر: 42.
4- الأنعام: 60.

ص:411

و أمّا إذا بقي ما به واقعيتكم و حقيقتكم و هي النفس الإنسانية و الروح التي بها قوام الجسد، فلا يكون لهذا الاستبعاد مبرّر؛ إذ تكون الإعادة حينئذ أمراً سهلًا و ممكناً لوجود ما به قوام الإنسان.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية:

«إنّه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنيّة على الاستبعاد، بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم، و ضلالًا منكم في الأرض، بل ملَكُ الموت الموكَّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم، بمعنى قطع علاقتها من الأبدان، و أرواحكم تمام حقيقتكم، فأنتم أي ما يعنى بلفظة «كُم»:

محفوظون لا يَضلّ منكم شي ء في الأرض، و إنّما تَضَلّ الأبدان، و تتغيّر من حال إلى حال، و قد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها، ثمّ إنّكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث و رجوع الأرواح إلى أجسادها.

و بهذا تندفع حجّتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء أ قُرّرت على نحو الاستبعاد أم قُرّرت على أنّ تلاشي البدن يُبطل شخصية الإنسان فينعدم، و لا معنى لإعادة المعدوم، فإنّ حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها يقول «أنا» و هي غير البدن، و البدن تابع لها في شخصيته، و هي تتلاشى بالموت و لا تنعدم، بل محفوظة في قدرة اللَّه حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب و الجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر اللَّه سبحانه» «(1)».

الآية الثانية:

قال سبحانه: «يأيَّتُها النَّفسُ المُطمئِنَّةُ* ارجِعِي إلى ربِّكِ راضيةً مَرضيَّةً* فادخُلي في عِبادي* وَ ادْخُلِي جَنَّتي» «(2)»


1- تفسير الميزان 16: 252.
2- الفجر: 27- 30.

ص:412

فالآية لم تخاطب جسد الإنسان و أعضاءه كما ترى، بل واقعه و حقيقته التي يعبِّر عنها الذكر الحكيم بالنفس، و اختار من بين النفوس الكثيرة النفس المطمئنة و هي التي تسكن إلى ربِّها، و ترضى بما رضي به لها، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ، أو نفعٍ أو ضرّ.

و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر، أو أيّ نفع و ضرٍّ ابتلاءً و امتحاناً إلهياً؛ فلا يدعوه تواترُ النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد، و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر.

ثمّ يخاطبها بخطاب آخر و يقول: «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً»، و ظرف الخطابين من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد، ثمّ يخاطبها بخطاب ثالث و رابع و يقول: «فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» و هما تفريعان على الخطاب الثاني الماضي أعني: «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ...» و قوله: «فِي عِبادِي» يدلّ على أنّها حائزة مقام العبودية و في قوله: «جَنَّتِي» تعيين لمستقرّها و في إضافة الجنة إلى ضمير التكلّم، تعريف خاص، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية «(1)».

و المخاطب في هذه الخطابات الأربعة، ليس جسده البارد الذيصار بالموت بمنزلة الجماد، و لا عظامه الرميمة الدفينة في طبقات الثرى، بل نفسه و روحه الباقية غير الداثرة.

و لو خُصَّ ظرف الخطاب بيوم البعث من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة، لما ضرّ بالاستدلال و إن كان على الوجه الأوّل أظهر.

و الحاصل: فسواء قلنا بأنّ ظرف الخطاب هو زمان الموت أو زمان البعث،


1- تفسير الميزان 20: 213؛ مجمع البيان 5: 489.

ص:413

فالمخاطب هو نفس الإنسان لا بدنه و لا أعضاؤه فتدلّ على أنّها واقعهُ و الباقي كسوة عليها.

الآية الثالثة:

قال سبحانه: «فَلَو لا إذا بَلغتِ الحُلْقومَ* و أنتم حِينئذٍ تَنظُرُونَ» «(1)»

.

وجه الدلالة: أنّ الحلقوم جزء من جسمه فهناك أمر آخر يبلغ الحلقوم عند الموت و ليس إلّا النفس التي تنتقل من دار إلى دار. و لو كانت حقيقة الإنسان هو جسده المادّي، فلا معنى للبلوغ و لا للنزوع و الخروج.

و بذلك يُعلم أنّ بعض ما سنستدل به في الفصل الآتي، يدل ضمناً على ما نحن الآن بصدد بيانه، و لأجل ذلك نقتصر في المقام على الآيات الثلاث، و نحيل الاستدلال بغيرها إلى ما سيوافيك في المبحث القادم.

ما هي حقيقة النفس الإنسانية؟

إنّ كثيراً من القوى الطبيعية معروفة بآثارها لا بحقائقها، فالكهرباء نعرفها بآثارها، كما أنّ الذرّة أيضاً كذلك، فالعالِم بالحقائق هو اللَّه سبحانه، و ليس حظّ الإنسان في ذلك الباب إلّا الوقوف على الآثار، فإذا كانت هي حال القوى الكامنة في الطبيعة، فالروح أولى بأن تكون كذلك، غير أنّ كثيراً من المتكلّمين و بعض المحدّثين خاضوا في هذا الباب و لم يأتوا بشي ء واضح، و أقصى ما عندهم: أنّها جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، و هو جسم نوراني، علوي، خفيف، حي، متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء و يسري فيها سريان الماء في الورد، و الدهن في الزيتون، و النار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاءصالحة لقبول الآثار الفائضة


1- الواقعة: 83- 84.

ص:414

عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء و أفادها هذه الآثار من الحس و الحركة الإرادية.

و إذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، و خرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، و انفصل إلى عالم الأرواح.

قال ابن قيم الجوزية: و هذا القول هو الصواب في المسألة، و هو الذي لا يصح غيره، و كل الأقوال سواه باطلة، و عليه دلّ الكتاب و السنّة و إجماع الصحابة و أدلّة العقل و الفطرة «(1)».

أقول: ما قاله و نقله ابن قيم، أحسن ما نقل عنهم في المقام، و لكن واقع الروح و منزلته أرفع بكثير مما جاء في هذا الكلام، و تشبيهه بسريان الماء في الورد و الدهن في الزيتون و النار في الفحم يعرب عن سطحية الدراسة في المعارف الغيبية، و عدم التفريق بين مراتب الروح؛ فإنّ مرتبة منها يشبه بما ذكر، و أمّا المرتبة العليا أعني المخاطب بقوله سبحانه: «يأيّتها النفسُ المطمئنَّةُ* ارجِعي إلى ربِّكِ راضيةً مَرضيةً* فادخُلي في عِبادي* و ادخُلي جَنَّتي» «(2)»

فهي أرفع كرامة من أن يكون شأنها شأن الأُمور المادّية اللطيفة، و التفصيل موكول إلى محلِّه.


1- الروح: ص 178.
2- الفجر: 27- 30.

ص:415

استمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا

المبحث الثاني استمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا أو بقاء الروح بعد الموت

اشارة

قد تعرّفت في الفصل السابق على أنّ واقع الإنسان روحه و نفسه، و أنّ الجسم المادّي منه ليس إلّا كسوة عليه، و النفس هي اللبّ، و البدن قشره، و قد قرّبناه إلى ذهن القارئ تقريباً سهلًا مستندين في ذلك على ما ورد في الكتاب العزيز مضافاً إلى ما مرّ من قضاء العقل الصريح في هذا المضمار.

و نركّز في فصلنا هذا على خلود الروح بعد الموت، و أنّها باقية بإذنه سبحانه إلى أن يرث اللَّه سبحانه الأرض و من عليها و ما فيها، و نقتصر في المقام- بدل الاستدلال بالبراهين العقلية- علىصريح الآيات و نصوص الذكر الحكيم حتى لا يبقى لمريب ريب و لا لمشكّك شكّ.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «اللَّهُ يَتوفّى الأنفُسَ حِينَ مَوتها و التي لَمْ تَمُتْ في منَامِها فَيُمسِكُ الّتي قَضَى عَليها الموتُ و يُرسِلُ الأُخرى إلى أجلٍ مُسمًّى إنّ في ذلكَ

ص:416

لآياتٍ لِقومٍ يتَفكَّرون» «(1)»

توضيح الاستدلال يتوقف على التمعّن في أمرين:

1- المراد بالأنفس هي الأرواح المتعلّقة بالأبدان لا مجموعهما؛ لأنّ المقبوض عند الموت ليس هو المجموع، بل المقبوض هو الروح، و الآية تدلّ على أنّ الأنفس تغاير الأبدان حيث تفارقها و تستقلّ عنها و تبقى بحيالها.

2- أنّ لفظة «يتوفّى» و «يمسك» و «يرسل» تدلّ على أنّ هناك جوهراً غير البدن المادّي في الكيان الإنساني، يتعلّق به كل من «التوفّي» و «الإمساك» و «الإرسال» و ليس المراد من التوفّي في الآية إلّا أخذ الأنفس و قبضها، و معناها أنّه سبحانه يقبض الأنفس إليه، وقت موتها و منامها، بيد أنّ من قضى عليه بالموت يمسكها إلى يوم القيامة و لا تعود إلى الدنيا، و من لم يقض عليه به يرسلها إلى الدنيا إلى أجل مسمّى، فأيّة دلالة أوضح من قوله أنّه سبحانه يمسك الأنفس، فهل يمكن إمساك المعدوم أو أنّه يتعلّق بالأمر الموجود؟ و ليس ذلك إلّا الأنفس.

الآية الثانية

قوله سبحانه: «و لا تَقولُوا لِمَنْ يُقتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ أمواتٌ بَلْ أحياءٌ و لكنْ لا تَشعُرون» «(2)»

.

و قد جاء في أسباب نزولها، أنّ المشركين كانوا يقولون: إنّ أصحاب محمّدصلى الله عليه و آله يقتلون أنفسهم في الحروب بغير سبب ثمّ يموتون فيذهبون، فأعلمهم اللَّه أنه ليس


1- الزمر: 42.
2- البقرة: 154.

ص:417

الأمر على ما قالوه، بل هم أحياء على الحقيقة إلى يوم القيامة «(1)».

و أدب التفسير الصحيح يبعثنا على أن نفسّر الحياة بمعناها الحقيقي أي ما يفهمه عموم الناس من لفظة «حيّ» خصوصاً بقرينة الآية الثالثة؛ حيث أثبتت للشهداء الرزق و الفرح و الاستبشار كما سيجي ء، فتفسير الآية بأنّهم سيحيون يوم القيامة تفسير باطل؛ لأنّ الإحياء في ذلك اليوم عامّ لجميع الناس و لا يختصّ بالشهداء، كما أنّ تفسير الحياة في الآية بمعنى الهداية و الطاعة قياساً لها بقوله سبحانه: «أ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأحيَيناهُ و جَعلْنا لَهُ نُوراً يَمشي بهِ في النّاس» «(2)»

حيث جعل الضلال موتاً و الهداية حياة قياس باطل؛ لوجود القرينة على تفسير الحياة بالهداية و الموت بالضلال فيها دون هذه الآية.

و سيوافيك تفنيد هذين الرأيين عن الرازي في تفسير الآية الثالثة.

و معنى الآية «و لا تَقولوا لِمَنْ يُقتلُ فِي سبيلِ اللَّهِ أمواتٌ» أي لا تعتقدوا فيهم الفناء و البطلان، فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء و لكن حواسّكم لا تنال ذلك و لا تشعر به.

و على ذلك فالآيتان تثبتان للشهداء حياة برزخية غير الحياة الدنيوية و غير الأُخروية، بل حياة متوسطة بين العالمين.

الآية الثالثة

قال سبحانه:

1- «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ


1- الواحدي، أسباب النزول: ص 27. ط. دار الكتب العلمية- بيروت.
2- الأنعام: 122.

ص:418

رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

2- «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ».

3- «يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» «(1)».

و الآيات هذهصريحة- كلّ الصراحة- في بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان، و بعد انحلال الأجسام و تفكّكها كما يتّضح ذلك من التمعّن في المقاطع الأربعة الآتية:

1- «أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ».

2- «يُرْزَقُونَ».

3- «فَرِحِينَ...».

4- «يَسْتَبْشِرُونَ...».

فالمقطع الثاني يشير إلى التنعم بالنعم الإلهية، و الثالث و الرابع يشيران إلى النعم الروحية و المعنوية، و في الآية دلالة واضحة على بقاء الشهداء بعد الموت إلى يوم القيامة.

و قد نزلت الآية إمّا في شهداء بدر؛ و كانوا أربعة عشر رجلًا؛ ثمانية من الأنصار، و ستّة من المهاجرين، و إمّا في شهداء أُحد؛ و كانوا سبعين رجلًا؛ أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، و مصعب بن عمير، و عثمان بن شماس، و عبد اللَّه بن جحش، و البقية من الأنصار، و على قول نزلت في حقّ كلتا الطائفتين.

قال الرازي في تفسير الآية: إنهم في الوقت أحياء كأنّ اللَّه أحياهم، لإيصال الثواب إليهم، و هذا قول أكثر المفسرين، و هذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم و هم في القبور.

ثمّ أشار إلى التفسيرين الآخرين اللّذين أوعزنا إليهما:


1- آل عمران: 169- 171.

ص:419

أحدهما: للأصمّ؛ حيث فسّر الحياة بالحياة الدينية، و أنّهم على هدى من ربّهم و نور.

و ثانيهما: لبعض المعتزلة، و أنّ المراد من كونهم أحياء أنّهم سيُحيون.

ثمّ قال: إنّ أكثر العلماء على ترجيح القول الأوّل، ثمّ فنّد الرأيين الأخيرين بوجوه نذكر بعضها:

1- لو كان المراد ما قيل في القول الثاني و الثالث لم يكن لقوله: «و لكن لا تشعرون» معنى؛ لأنّ الخطاب للمؤمنين و قد كانوا يعلمون أنّهم سيحيون يوم القيامة، و أنّهم على هدى و نور.

2- أنّ قوله: «و يستبشرون بالَّذِين لم يلحقوا بهم» دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث، أي: و يستبشرون بأُناس لم يلحقوا بهم و هم في الدنيا، فإذا كان هذا ظرف الاستبشار فيكون هو ظرف الحياة و يكون قبل البعث.

3- لو كان المراد أحد المعنيين لا يبقى لتخصيص الشهداء بهذا فائدة؛ فإنّ غيرهم و كثيراً من غير الشهداء على نور و هدى من ربّهم.

و ما أجاب به أبو مسلم أنّه سبحانه إنّما خصّهم بالذكر؛ لأنّ درجتهم في الجنّة أرفع و منزلتهم أرفع ضعيف؛ لأنّ منزلة النبيّين و الصدّيقين أعظم من الشهداء مع أنّه سبحانه ما خصّهم بالذكر «(1)».

بقي الكلام في أمرين:

أ- في إعراب الظرف أي «عند» في قوله «عِنْدَ رَبِّهِمْ» و فيه وجوه:

1- أن يكون حالًا في محل النصب من الضمير في «أحياء».

2- أن يكون خبراً ثانياً و التقدير: هم أحياء عندهم.


1- مفاتيح الغيب 4: 146.

ص:420

3- أن يكون ظرفاً للفعل المتأخر أي يرزقون.

و الأوّل أقرب.

و على أيّ تقدير فليس «عند» هنا للقرب المكاني؛ لاستحالته؛ إذ ليس له سبحانه مكان، و لا بمعنى في علمه و حكمه، لعدم مناسبته، بل يعني القرب و الشرف أي ذو زلفى و رتبة سامية «(1)».

ب- معنى قوله: «و يستبشرون» و أصل الاستبشار و إن كان بمعنى طلب البشارة، و لكن الظاهر أنّ اللفظة مجرّدة عن معنى الطلب، و المراد: و يسرّون و يفرحون، استعمالًا للفظ في لازم معناه هي معطوفة على قوله سبحانه: «فرحين» أي: يسرّون و يفرحون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم في سبيل اللَّه تعالى بأن يلحقوا بهم من خلفهم، لما تبيّن لهم حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء، و هو أنّهم عند قتلهم في سبيل اللَّه تعالى يفوزون كما فازوا و يحوزون من النعم ما حازوا بدلالة قوله: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ».

و يمكن أن يكون المراد: يسرّون بقدوم إخوانهم الباقين بالشهادة أو بالموت الطبيعي و اللَّه العالم.

الآية الرابعة

قوله سبحانه: «وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ


1- روح المعاني 2: 122.

ص:421

فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كانَتْ إِلَّاصَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» «(1)».

اتّفق المفسرون على أنّ الآيات نزلت في رُسل عيسى، و قد نزلوا بأنطاكية داعين أهلها إلى التوحيد و ترك عبادة غيره سبحانه، فعارضهم من كان فيها بوجوه مذكورة في القرآن.

فبينما كان القوم و الرسل يتحاجّون إذ جاء رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى اللَّه سبحانه و قال لهم:

اتّبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الأجر و لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، و هم مهتدون إلى طريق الحق، سالكون سبيله، ثمّ أضاف قائلًا:

و ما لي لا أعبدُ الَّذي فَطرني و أنشأني و أنعم عليّ و هداني و إليه تُرجعون عند البعث، فيجزيكم بكفركم، أ تأمرونني أن أتَّخذ آلهةً من دون اللَّه مع أنّهم لا يُغنون شيئاً و لا يردّون ضرراً عنّي، و لا تنفعني شفاعتهم شيئاً و لا ينقذونني من الهلاك و الضرر، و عند ما مهّد الجوّ بإبطال حجّة المشركين و بيان أحقيّة منطقه، فعندئذ خاطب الناس أو الرسل بقوله «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» فسواء أ كان الخطاب للمشركين أو للرسل فإذا بالكفار قد هاجموه فرجموه حتى قتل.

و لكنّه سبحانه جزاه بالأمر بدخول الجنة بقوله: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» فلمّا دخل الجنة خاطب قومه الذين قتلوه بقوله «يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ».

ثمّ إنّه سبحانه لم يمهل القاتلين طويلًا و لم يرسل جنداً من السماء لإهلاكهم، بل


1- يس: 20- 29.

ص:422

أهلكهم بالصّيحة يقول سبحانه: «وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كانَتْ إِلَّاصَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ»

أي: كان إهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر و هيصيحة واحدة حتى هلكوا بأجمعهم فإذا هم خامدون ساكتون.

و دلالة الآية على بقاء النفس و إدراكها و شعورها و إرسالها الخطابات إلى من في الحياة الدنيا واضحة جداً، حيث كانَ دخول الجنة «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» و التمنّي «يا لَيْتَ قَوْمِي» كان قبل قيام الساعة، و المراد من الجنة هي الجنة البرزخية دون الأُخروية.

إلى هنا تمّ بيان بعض الآيات الدالة على بقاء أرواح الشهداء الذين بذلوا مهجهم في سبيل اللَّه، و هناك مجموعة من الآيات تدلّ على بقاء أرواح الكفار بعد انتقالهم عن هذه الدنيا، لكن مقترناً بألوان العذاب و الطائفة الأُولى منعّمة بألوان النعم، و إليك الطائفة الثانية:

الآية الخامسة

قال سبحانه: «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» «(1)».

و الآيةصريحة في أنّه سبحانهصرف عن مؤمن آل فرعون سوء مكرهم فَنَجا مع موسى، لكن أحاط بآل فرعون سوء العذاب، و أما كيفية عذابهم فتدلّ الآية على:

أوّلًا: أنّ هناك عرضاً لهم على النار و إدخالًا لهم فيها، و الثاني أشدّ من الأول.


1- غافر: 45- 46.

ص:423

ثانياً: أنّ العرض على النار قبل قيام الساعة، كما أنّ الإدخال حين قيامها.

و ثالثاً: أنّ التعذيب بعد الموت و قبل قيام الساعة (البرزخ) و التعذيب عند قيام الساعة، بشي ء واحد و هو نار الآخرة، لكن العذاب قبل قيامها بالعرض على النار، و بعد قيامها بالدخول فيها، و ينتج أنّ البرزخيّين يعذّبون من بعيد «(1)» و أهل الآخرة بالدخول.

و رابعاً: أنّ آل فرعون و إن ماتوا بالغرق في البحر، لكن موتهم لم يكن بمعنى بطلانهم و فنائهم رأساً، بل بمعنى خروج أرواحهم من أبدانهم و انتقالهم إلى عالم آخر حائل بين العالمين، فقُضيَ عليهم بسوء العذاب إلى يوم القيامة بالعرض على النار، و الدخول فيها بعد قيامها، و لو لم يكن إحياء، فلا معنى لتعذيب الجماد الفاقد للشعور بالعرض على النار.

و خامساً: أنّ شخصية آل فرعون بأرواحهم لا بأبدانهم، بشهادة بطلان أجسادهم و تشتّت أجزائها، لكنّهم معادون بعد الموت بالعرض على النار، و بالدخول فيها بعد قيام الساعة.

الآية السادسة

«حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُصالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «(2)».

و قبل أن ننوّه بدلالة الآية على بقاء الحياة بعد الموت نفسر لفظين من الآية:

أحدهما: «البرزخ»، و هو الحاجز بين الشيئين، قال سبحانه: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ


1- يستفاد من الآية 25 من سورة نوح- على القول بأنّها راجعة إلى البرزخ- أنّ الدخول لا يختص بيوم القيامة، بل يعمّه و الحقبة البرزخية، و لعلّ هناك فرقاً بين النارين أعاذنا اللَّه منهما.
2- المؤمنون: 99- 100.

ص:424

يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» «(1)» ذكر سبحانه عظيم قدرته، حيث خلق البحرين، العذب و المالح يلتقيان ثمّ لا يختلط أحدهما بالآخر لوجود حاجز بينهما.

و الثاني: لفظة «وراء» و هو في الآية بمعنى أمام، و معنى قوله: «وَ مِنْ وَرائِهِمْ» أي: من أمامهم و قدّامهم.

قال سبحانه: «وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» «(2)».

و الاستدلال بهذه الآية من وجهين:

1- إنّ الإنسان المذنب يرى حين الموت ما أُعدّ له في مستقبل أمره من عذاب أليم، و لأجل ذلك يطلب من ملائكة اللَّه أن يرجعوه إلى عالم الدنيا، حتى يتدارك ما فاته و يتلافى ما فرّط، و إلى هذا يشير قوله سبحانه: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُصالِحاً فِيما تَرَكْتُ».

2- إنّ قوله تعالى: «وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» تصريح لا غموض فيه بوجود حياة متوسطة بين الموت و البعث، و إنّما سميت برزخاً لكونها حائلًا بين الدنيا و الآخرة، و لا تتحقق الحيلولة إلّا بأن يكون للإنسان واقعية في هذا الحدّ الفاصل؛ إذ لو كان الإنسان بين هاتين الفترتين معدوماً لماصحّ أن يقال بين الحالتين برزخٌ، و هو حائل و فاصل بين الإنسان في الدنيا و الإنسان في الآخرة.

الآية السابعة

«وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ


1- الرحمن: 19- 20.
2- الكهف: 79.

ص:425

وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» «(1)».

و الاستدلال بالآية على بقاء الروح بعد فناء الجسد من طريقين:

أ- قوله «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ»صريح في أنّ الملائكة تنتزع الروح من البدن و يعني هذا أنّ المتروك هو البدن، و أمّا الروح فتؤخذ و تخرج من الجسد إخراجاً.

ب- إنّ ظاهر قوله: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» هو الإشارة إلى يوم الموت، و ساعته، و لو كان الموت فناءً كاملًا للإنسان لما كان لهذه العبارة معنى، إذ بعد فناء الإنسان فناءً كاملًا شاملًا لا يمكن أن يحسّ بشي ء من العذاب.

و من هنا يتبيّن أنّ الفاني إنّما هو الجسد، و أمّا الروح فتبقى و ترى العذاب الهون و تذوقه و تحسّ به.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية: إنّ كلامه تعالى ظاهر في أنّ النفس ليست من جنس البدن، و لا من سنخ الأُمور المادية الجسمانية، و إنّما لها سنخ آخر من الوجود يتّحد مع البدن و يتعلّق به نوعاً من الاتحاد و التعلّق غير مادّي.

فالمراد بقوله: «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» قطع علقة أنفسهم من أبدانهم و هو الموت «(2)».

الآية الثامنة

«وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ


1- الأنعام: 93.
2- تفسير الميزان 7: 285.

ص:426

بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» «(1)».

تدلّ الآية على أنّ الكافرين يعذَّبون حين الموت بوجهين:

الأوّل: بضرب الملائكةِ وجوهَهم و أدبارهم، و قد أُشير إليه في آية أُخرى أيضاً، قال سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ» «(2)».

الثاني: بعذاب الحريق، الذي يدلّ عليه قوله سبحانه: «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ»، فالآية تدلّ على أنّ هناك عذابين منفصلين موضوعاً و محمولًا، فالعذاب الأوّل موضوعه الجسد، و الثاني موضوعه روح الإنسان المنتقل إلى الحياة غير الدنيوية.

الآية التاسعة

قال سبحانه: «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» «(3)» و الآية نازلة في شأن قوم نوح الذين غرقوا لخطيئاتهم أوّلًا، «فَأُدْخِلُوا ناراً» ثانياً.

و من المفسرين من فسر الجملة الثانية بنار الآخرة و يقول: جي ء بصيغة الماضي لكون تحقّقه قطعياً «(4)». و لكنّه بعيد؛ لأنّ ظاهر الآية كون الدخول في النار متّصلًا بغرقهم لا منفصلًا، بشهادة تخلّل لفظة «فاء» و إلّا كان اللازم التعبير ب «ثمّ».


1- الأنفال: 50- 51.
2- محمد: 27.
3- نوح: 25.
4- مجمع البيان 5: 364.

ص:427

الآية العاشرة

اشارة

قوله سبحانه: «قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» «(1)» الآية تدلّ بوضوح على أنّه مرّت على الإنسان المحشور يوم القيامة، إماتتان و إحياءان.

فالإماتة الأُولى: هي الإماتة الناقلة للإنسان من الدنيا.

و الإحياء الأوّل: هو الإحياء بعد الانتقال منها.

و الإماتة الثانية: قُبيل القيامة عند نفخ الصور الأوّل.

و الإحياء الثاني: عند نفخ الصور الثاني.

قال سبحانه: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» «(2)».

و على ما ذكرنا فكل من الإحياءَين لاصلة له بالدنيا، بل يتحقّقان بعد الانتقال من الدنيا، أحدهما في البرزخ بعد الإماتة في الدنيا، و الآخر يوم البعث بعد الإماتة بنفخ الصور الأوّل.

و عندئذٍ تتضح دلالة الآية على الحياة البرزخية بوضوح.

نعم لم يتعرض القائلون بالحياة الدنيوية و لم يقولوا «و أحييتنا ثلاثاً» و إن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح، و لعلّ الوجه هو أنّ الغرض تعلّق بذكر الإحياء الذي يعدّ سبباً للإيقان بالمعاد و مورِّثاً للإيمان و هو الإحياء في البرزخ ثمّ يوم القيامة، و أمّا الحياة الدنيوية، فإنّها و إن كانت إحياء بلا


1- غافر: 11.
2- الزمر: 68.

ص:428

شكّ لكنّها لا توجب بنفسها يقيناً بالمعاد، فقد كانوا مرتابين في المعاد و هم أحياء في الدنيا «(1)».

تفسير خاطئ للآية:

إنّ بعض المفسّرين فسّروا الآية بالنحو التالي:

الإماتة الأُولى: حال النطفة قبل ولوج الروح.

الإحياء الأوّل: حال الإنسان بعد ولوجها فيها.

الإماتة الثانية: إماتته في الدنيا.

و الإحياء الثاني: إحياؤه يوم القيامة للحساب.

و عندئذ تنطبق الآية على قوله سبحانه «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» «(2)».

و لكنّه تفسير خاطئ و قياس باطل.

أمّا كونه خاطئاً، فلأنّ الحالة الأُولى للإنسان أي حالته قبل ولوج الروح في جسده لا تصدق عليها الإماتة، لأنّه فرع سبق الحياة، و المفروض عدمه.

و أمّا كونه قياساً باطلًا، فلأنّ الآيتين مختلفتان موضوعاً، إذ المأخوذ و الوارد في الآية الثانية هو لفظة «الموت» و يصحّ تفسيره بحال النطفة قبل ولوج الروح، بخلاف الوارد في الآية الأُولى، إذ الوارد فيها «الإماتة» فلا يصح تفسيره بتلك الحالة التي لم يسبقها الإحياء.

و لأجل ذلك يصحّ تفسير الآية الثانية بالنحو التالي:

1- كنتم أمواتاً: الحالة الموجودة في النطفة قبل ولوج الروح.

2- فأحياكم: بولوج الروح فيها ثمّ الانتقال من البطن إلى فسيح الدنيا.


1- تفسير الميزان 17: 313.
2- البقرة: 28، أنظر تفسير الكشاف 3: 363 ط دار المعرفة- بيروت.

ص:429

3- ثمّ يُميتُكم: بالانتقال من الدنيا إلىصوب الآخرة.

4- ثمّ يُحييكُم: يوم البعث للحساب و الجزاء.

و بما أنّ موقف الآيتين مختلف هدفاً و غاية، اختلف السياقان، فصارت احداهما تلمح بالحياة المتوسطة بين الدنيا و الآخرة (البرزخ) دون الأُخرى، و لا ملزم لتطبيق إحداهما على الأُخرى بعد اختلافهما في الموضوع و الغاية.

تلك عشر كاملة تورث اليقين، باستمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا، و لا ينكر دلالتها إلّا الجاحد، و ليس ما يدل من الآيات على بقائها بعد الموت منحصراً في هذه الآيات العشر، بل هناك مجموعة من الآيات تصلح للاستدلال على المقصود، مثل: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» «(1)»، و قوله سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «(2)» لكنّا نقتصر عليها روماً للاختصار.

و أمّا الاستدلال بالسنّة الشريفة على أنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان برأسه، و إنّما هو الانتقال من دار إلى دار، فسيوافيك قسم من الروايات في المبحث التالي المتكفّل لبيان وجود الصلة بين أهل الدنيا و النازلين في البرزخ، بحيث يسمعون كلامهم و يجيبون دعاءهم و إن كنّا نحن غير سامعين و لا فاهمين.

و لا عجب في أن يكون هناك رنين أوصراخ و كنّا بمعزل عن السمع و الفهم، قال سبحانه: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» «(3)».


1- البقرة: 142.
2- النساء: 41، فلو قلنا: بأن موت النبيّ صلى الله عليه و آله عبارة عن فنائِه المطلق، فما معنى كونه شهيداً على أُمّته في تمام الأجيال؟.
3- الإسراء: 44.

ص:430

وجود الصلة بين الحياة الدنيوية و الحياة البرزخيّة

المبحث الثالث وجود الصلة بين الحياة الدنيوية و الحياة البرزخيّة

اشارة

لا أظنّ أنّ مسلماً ملمّاً بالقرآن و السنّة ينكر الحياة البرزخية، و أنّ للإنسان بعد موته و قبل بعثه حياة متوسطة بين الدنيا و الآخرة، و هو فيها بين مرتاح و منعَّم، و متعب معذّب.

و لكن الجدير بالدراسة، في ضوء الكتاب و السنّة، هو تبيين الصلة بين الحياتين، و أنّ البرزخيّين غير منقطعين عمّا يجري في الحياة الدنيوية، و إنهم يسمعون إذا دُعُوا، و يجيبون إذا سُئلوا، بإذنٍ منه سبحانه، و البرزخ و إن كان بمعنى المانع و الحائل، لكنّه حائل عن الرجوع إلى الدنيا الذي نفاه سبحانه بصريح كلامه عند ما طلب لفيف من الظالمين الرجوعَ إلى الدنيا لتدارك ما فات منهم من العبادة و الطاعة قائلين: «رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُصالِحاً فِيما تَرَكْتُ» «(1)»، فأُجيبوا بالحرمان بقوله: «كلّا» و ليس بمانع عن السماع و الاستماع و لا عن السؤال و الجواب، كل ذلك بإذن منه سبحانه.


1- المؤمنون: 99- 100.

ص:431

و تدلّ على وجود الصلة بين الحياتين بهذا المعنى، مجموعة من الآيات و قسم وافر من الروايات نأتي في المقام بصريحهما، حتى يُزال الشك عن المرتاب.

القرآن الكريم و الصلة بين الحياتين

1- النبيّ صالح يكلّم قومه بعد هلاكهم:

أخبر اللَّه تعالى في القرآن الكريم عن النبيّصالح عليه السلام أنّه دعا قومه إلى عبادة اللَّه، و ترك التعرّض لمعجزته (الناقة) و عدم مسّها بسوءٍ، و لكنّهم عقروا الناقة و عتوا عن أمر ربّهم:

«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» «(1)».

ترى أنّ اللَّه تعالى يخبر على وجه القطع و البتّ بأنّ الرجفة أهلكت أُمّةصالح عليه السلام فأصبحوا في دارهم جاثمين، و بعد ذلك يخبر أنّ النبيّصالحاً تولّى عنهم ثمّ خاطبهم قائلا: «لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ».

و الخطابصدر منصالح لقومه بعد هلاكهم و موتهم بشهادة جملة «فتولّى» المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.

ثمّ إنّ ظاهر قوله: «وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ»، يفيد أنّهم بلغت بهم العنجهية أن كانوا لا يحبُّونَ النّاصحينَ حتى بعد هلاكِهِمْ.

2- النبي شعيب يخاطب قومه الهالكين:

لم تكن قصة النبيّصالح هي القصة الوحيدة من نوعها في القرآن الكريم، فقد


1- الأعراف: 78- 79.

ص:432

تبعه في ذلك شعيب؛ إذ خاطب قومه بعد أن عمّهم الهلاك قال سبحانه:

«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ» «(1)».

و هكذا يخاطب شعيب قومه بعد هلاكهم، فيكونصدور هذا الخطاب بعد هلاكهم بالرجفة.

فلو كان الاتصال غير ممكن، و غير حاصل، و لم يكن الهالكون بسبب الرجفة سامعين لخطابصالح و شعيب فما معنى خطابهما لهم؟

أ يصح أن يفسّر ذلك الخطاب بأنّه خطاب تحسّر و إظهار تأسّف؟

كلّا، إنّ هذا النوع من التفسير على خلاف الظاهر، و هو غيرصحيح حسب الأُصول التفسيرية، و إلّا لتلاعب الظالمون بظواهر الآيات و أصبح القرآن الكريم لعبة بيد المغرضين، يفسرونه حسب أهوائهم و أمزجتهم.

على أنّ مخاطبة الأرواح المقدسة ليست أمراً ممتنعاً في العقل حتى تكون قرينة عليه.

3- النبي يأمر بالتكلّم مع الأنبياء:

جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى لنبيّه:

«وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» «(2)».

ترى أنّ اللَّه سبحانه يأمر النبيّ الأكرم بسؤال الأنبياء الذين بُعِثُوا قبله، و من


1- الأعراف: 91- 93.
2- الزخرف: 45.

ص:433

التأويل الباطل إرجاعها إلى سؤال علماء أهل الكتاب استظهاراً من قوله سبحانه:

«فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ* وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ» «(1)».

و قوله سبحانه: «فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» «(2)».

و وجه البطلان هو: أنّ الخطاب في الآية الأُولى و إن كان متوجّهاً إلى النبيّ لكن المقصود هو الأُمّة بقرينة قوله: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» و «وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا».

و مثلها الآية الثانية، فالخطاب و إن كان للنبي و أمره سبحانه بأنّ يسأل بني إسرائيل عن الآيات النازلة إلى موسى، و لكنّه من قبيل «إياك أعني و اسمعي يا جارة» و النبيّ أجلّ و أعظم من أن يشكل عليه شي ء و يسأل علماء بني إسرائيل عمّا أشكل عليه.

فهاتان الآيتان راجعتان إلى سؤال الأُمّة علماءَ بني إسرائيل و قرّاء كتبهم، و هذا بخلاف قوله: «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا» فإنّه خطاب للنبيّ حقيقة.

و أمّا ما هو الوجه في سؤال الأنبياء في مجال التوحيد أي قوله: «أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ»، فقد ذكره المفسرون، و أنّهصلى الله عليه و آله تكلّم مع الأنبياء السالفين ليلة المعراج.

4- السلام على الأنبياء:

إنّ القرآن الكريم يسلّم على الأنبياء في مواضع متعدّدة و يقول:


1- يونس: 94- 95.
2- الإسراء: 101.

ص:434

1- «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ».

2- «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ».

3- «سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ».

4- «سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ».

5- «وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ» «(1)».

و لا شك أنّ ما ورد فيها ليس سلاماً سطحيّاً أجوف، بل هو سلام حقيقيّ و تحيّة جديدة يوجّهها القرآن إلى أنبياء اللَّه و رسله.

و هل يصحّ التسليم الجدّي على الجماد الذي لا يَعرف و لا يُدرك و لا يشعر؟! و ليس لنا تفسير المفاهيم القرآنية النابعة عن الحقيقة تفسيراً قشرياً، بأن نقول:

إنّ كافة التحيات في القرآن و التي نتلوها في آناء الليل و أطراف النهار ليست إلّا مجاملات جوفاء و في مستوى تحيات المادّيين لرفقائهم و زملائهم الذين أدركهم الموت.

إنّ المادّي لمّا يساوي الوجودَ بالمادة و لا يرى أنّ وراءها حقيقة، فعند ما يسلّم في محاضراته و شعاراته على زملائه الميّتين يعود و يفسره بالتكريم الأجوف.

و أمّا نحن المسلمين، فبما أنّ الوجود عندنا أعمّ من المادة و آثارها، فليس علينا تفسير الآيات تفسيراً مادّيّاً خارجاً عن الإطار المحدّد في الكتاب و السنّة لتفسير الذكر الحكيم، و هذا ما يبعثنا على تفسير تلك التسليمات بنحو حقيقي، و هو يلازم حياة المسلَّم عليهم و وجود الصلة بيننا و بينهم، سلام اللَّه عليهم أجمعين.

هذا هو ما يرشدنا إليه الوحي في مجال إمكان ارتباط الأحياء بالأرواح.


1- الصافّات: 79، 109، 120، 130، 181 على الترتيب.

ص:435

السنّة الشريفة و الصلة بين الحياتين

اشارة

ما تلوناه عليك كان مجموعة من الآيات الناصعة الدالّة على وجود الصلة بين الحياتين، و أنّ قسماً من الأنبياء تكلّموا مع البرزخيين.

و أمّا السنّة الشريفة، فهناك روايات وافرة دالّة على ما نتوخّاه نأتي بقسم منها:

1- النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله يكلّم أهل القليب:

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم للمسلمين و هزيمة نكراء للمشركين؛ فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربينصوبَ مكة مخلِّفين وراءهم سبعين قتيلًا منصناديدهم و ساداتهم، و وقف النبيّ يخاطب القتلى واحداً واحداً و يقول:

«يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، و يا شيبة بن ربيعة، و يا أُمية بن خلف، و يا أبا جهل (و هكذا عدّد من كان منهم في القليب) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟

فإنّي قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً».

فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللَّه أ تنادي قوماً موتى؟

فقالصلى الله عليه و آله: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، و لكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

و كتب ابن هشام يقول: إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أضاف بعد هذه المقالة و قال:

«يا أهل القليب، بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيكم، كذّبتموني وصدّقني الناس، و أخرجتموني و آواني الناس، و قاتلتموني و نصرني الناس».

ثمّ قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّاً» «(1)»


1- السيرة النبوية 1: 649؛ السيرة الحلبية 2: 179 و 180 و غيرهما.

ص:436

روى البخاري عن نافع أنّ ابن عمر- رضي اللَّه عنهما- أخبره قال: اطّلع النبيصلى الله عليه و آله على أهل القليب فقال: «وجدتم ما وعد ربكم حقّاً»، فقيل له: تدعو أمواتاً، فقال: «ما أنتم بأسمعَ منهم، و لكن لا يجيبون».

ثمّ روى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة- رضى اللَّه عنها- قالت: إنما قال النبيّصلى الله عليه و آله: «إنّهم ليعلمون الآن أنّ ما كنت أقول حقّ»، و قد قال اللَّه تعالى: «إنّك لا تُسمِعُ المَوتى» «(1)»

.

و لا يذهب عليك أنّ السيدة عائشة سلّمت الحياة البرزخية لهم، و لذلك قالت: إنّ النبيّ قال: «إنهم ليعلمون الآن أنّ ما كنت أقول حق» و لكنّها نفت أن يقول النبيّ «ما أنتم بأسمع منهم و لكن لا يجيبون» من دون أن تسنده إلى قائل حاضر في الواقعة، و إنّما استنبطت قولها من الآية الكريمة، و من المعلوم أنّ ابن عمر يدّعي السماع عن النبيّ، أو عمّن سمعه منهصلى الله عليه و آله و لا يعارضه استنباطها، و إنما يكون نظرها حجة على نفسها لا على من عاين و شهد تكلّم النبي معهم.

أضف إلى ذلك أنّه لاصلة للآية بما تدّعيه، كما سيوافيك.

و لأجل التأكيد على صحة القصة نأتي أيضاً بنصّصحيح البخاري في باب معركة بدر (غير كتاب الجنائز) و نردفه بذكر مصادر أُخرى، و ما ظنّك بأمر يرويه الإمام البخاري و لفيف من المحدّثين قال: وقف النبيصلى الله عليه و آله على قليب «بدر» و خاطب المشركين الذين قُتلوا و أُلقيت جثثهم في القليب: «لقد كنتم جيران سوء لرسول اللَّه، أخرجتموه من منزله، و طردتموه، ثمّ اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً»، فقال له رجل: يا رسول اللَّه ما خطابك لهم؟!

فقالصلى الله عليه و آله: «و اللَّه ما أنتم بأسمع منهم، و ما بينهم و بين أن تأخذهم الملائكة


1- البخاري: الصحيح الجزء 9، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، ص 98.

ص:437

بمقامع من حديد إلّا أن أعرض بوجهي عنهم».

و قد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض أبياتها إلى هذه الحقيقة أعني قصة القليب إذ يقول:

يناديهم رسول اللَّه لمّا قذفناهم كباكب في القليبِ

أ لم تجدوا كلامي كان حقّا و أمر اللَّه يأخذ بالقلوبِ

فما نطقوا و لو نطقوا لقالواصدقت و كنت ذا رأي مصيبِ

على أنّه لا توجد عبارة أشدّصراحة ممّا قاله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في المقام حيث قال: «ما أنتم بأسمع منهم»، و هل ثمة بيان أكثر إيضاحاً و أشد تقريراً لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيصلى الله عليه و آله لواحد واحد من أهل القليب، و مناداتهم بأسمائهم، و تكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة؟!

فلا يحق لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة و الرسول أن يسارع إلى إنكار هذه القضية التاريخية الإسلامية المسلّمة و يبادر قبل التحقيق و يقول: إنّ هذه القضية غيرصحيحة لأنّها لا تنطبق على عقلية المادّي المحدودة.

و قد نقلنا هنا نصّ هذا الحوار، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّصلى الله عليه و آله يصرّح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة و الدلالة على هذه الحقيقة.

و من أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش أدناه «(1)».


1- صحيح البخاري ج 5 معركة بدر ص 76، 77، 86، 87؛ صحيح مسلم ج 8 كتاب الجنة باب معتمد الميت: 163؛ سنن النسائي ج 4 باب أرواح المؤمنين ص 89- 90؛ مسند الإمام أحمد 2: 121؛ المغازي للواقدي غزوة بدر و غيرها.

ص:438

2- الإمام عليّ عليه السلام يكلّم رؤساء الناكثين:

إنّ الإمام علياً عليه السلام بعد أن وضعت الحرب في معركة الجمل أوزارها مرّ على كعب بن سور و كان قاضي البصرة فقال لمن حوله: «أجلسوا كعب بن سور» فاجلسوه بين شخصين يمسكانه- و هوصريع- فقال عليه السلام: «يا كعب بن سور قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا فهل وجدت ما وعدك ربُّك حقّا»؟ ثمّ قال:

«أضجعوه».

ثمّ سار قليلًا حتى مرّ بطلحة بن عبيد اللَّهصريعاً فقال: «أجلسوا طلحة» فأجلسوه، فقال عليه السلام: «يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا»؟ ثمّ قال: «أضجعوا طلحة».

فقال له رجل: يا أمير المؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟! فقال عليه السلام:

«يا رجل، و اللَّه لقد سمعا كلامي، كما سمع أهل القليب كلام رسول اللَّه» «(1)».

3- السلام على النبيّ صلى الله عليه و آله في ختام الصلاة:

إنّ جميع المسلمين في العالم- بالرغم من الخلافات المذهبية بينهم في فروع الدين- يسلّمون على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الصلاة عند ختامها فيقولون:

«السلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللَّه و بركاته»

و قد أفتى الشافعي و آخرون بوجوب هذا السلام بعد التشهد، و أفتى الآخرون باستحبابه، لكن الجميع متفقون على أنّ النبيصلى الله عليه و آله علّمهم السلام و أنّ سنّة النبي ثابتة في حياته و بعد وفاته «(2)».


1- الجمل للمفيد؛ حقّ اليقين 2: 73.
2- راجع كتاب تذكرة الفقهاء 3: 233 المسألة 294، و كتاب الخلاف للشيخ الطوسي 1: 47، لمعرفة أقوال المذاهب و الفقهاء في هذا المجال.

ص:439

و السؤال الآن: اذا كانتصلتنا و علاقتنا بالنبيصلى الله عليه و آله قد انقطعت بوفاته، فما معنى مخاطبته و السلام عليه يومياً؟!

4- الميت يسمع قرع النعال:

الميت يسمع كلام من يتكلم قرب قبورهم لا بجسمه، بل بروحه التي كانت لها ارتباط و إشعاع على الجسم، و لا يعني أنّها داخلة في قبره كما كانت في حياته ملازمة لجسمه و معلّقة به، بل المراد أنّ لها ارتباطاً و إشعاعاً على الجسم الذي فارقه، و يدلّ على ذلك:

ما رواه البخاري عن أنس بن مالك أنّه حدّثهم عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «إنّ العبد إذا وضع في قبره و تولّى عنه أصحابه حتى أنّه ليسمع قرعَ نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمّدصلى الله عليه و آله؟ فيقول:

أشهد أنّه عبد اللَّه و رسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللَّه به مَقعداً في الجنة فيراهما جميعا، و أمّا الكافر و المنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس، فيقال: لا دَريتَ و لا تَلَيتَ، ثمّ يُضرب بمطارق من حديد ضربة بين أُذنيه، فيصيحصيحة يسمعها من يليه إلّا الثقلين» «(1)»

.

وجه الاستدلال به أنّه قال: «أنّه ليسمع قرع نعالهم» فالميت إذاً يسمع قرع النعال، فالكلام من باب أوْلى.

5- قول الميت عند حمل الجنازة:

روى البخاري فيصحيحه عن أبي سعيد الخدريّ (رض): أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «إذ وضعت الجنازة و احتملها الرجال على أعناقهم؛ فإن كانتصالحة


1- البخاري، الصحيح 2: 90 باب الميت يسمع خفق النعال، و لاحظ في تفسير الحديث فتح الباري لابن حجر العسقلاني 3: 160، و شرح الكرماني 7: 117.

ص:440

قالت قدّموني، و إنّ كانت غيرصالحة قالت: يا ويلي أين تذهبون بها، يسمعصوتها كل شي ء إلّا الإنسان و لو سمعه لصعق» «(1)»

6- النبيّ صلى الله عليه و آله يسلّم على الأموات:

روى مسلم عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كلّما كان ليلتَها من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين و آتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد» «(2)»

.

فلو كان الأموات لا يسمعون كالجماد يكون السلام عليهم عبثاً، و أين منزلة نبيّ الحكمة من العبث و قد تضافر أنّ النبيّ كان يمارس زيارة البقيع؟!

و بذلك يعلم أنّ المقصود من الموت في المقام هو وقف سريان الدم في الأوردة، و الشرايين في جسم الإنسان، و هو الممد بجوارحه و حواسه بالحركة و الشعور و الإحساس، و المحرّك الرئيس لها هو القلب و الرئتان بواسطة التنفّس.

و أمّا ما يرجع إلى واقع الإنسان و شخصيته الحقيقية و هو الجوهر؛ المدرك المفكر فهو باق عالم شاعر.

7- تعذيب الميت في القبر:
اشارة

روى البخاري عن ابنة خالد بن سعيد بن العاص أنّها سمعت النبيّ و هو يتعوّذ من عذاب القبر.

و روى عن أبي هريرة كان رسول اللَّه يدعو: «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من


1- البخاري، الصحيح 2: 86 رواه في ما بين: حمل الرجال الجنازة دون النساء ص 85 و باب قول الميت و هو على الجنازة« قدموني»، لاحظ شرح الحديث في فتح الباري 3: 144 و شرح الكرماني 7: 104.
2- مسلم: الصحيح 7: 41.

ص:441

عذاب القبر و من عذاب النار و من فتنة المحيا و الممات و من فتنة الشيخ الدجال» «(1)»

.

و فيصحيح مسلم و جميع السنن عن أبي هريرة أنّ النبيّ قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهّد الأخير فليتعوذ باللَّه من أربع: من عذاب جهنم، و من عذاب القبر، و من فتنة المحيا و الممات و من فتنة الدجال».

و فيصحيح مسلم أيضاً و غيره عن ابن عباس أنّ النبيّ كان يعلّمهم هذا الدعاء كما يعلّمهم السورة من القرآن: «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب جهنم، و أعوذ بك من عذاب القبر، و أعوذ بك من فتنة المحيا و الممات، و أعوذ بك من فتنة الدجال» «(2)»

كلام لابن عبد البرّ في المقام:

قال ابن عبد البر ثبت عن النبيصلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا ردّ اللَّه عليه روحه حتّى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنّه يعرفه بعينه و يرد عليه السلام.

و في الصحيحين عنهصلى الله عليه و آله من وجوه متعددة أنّه أمر بقتلى بدر فأُلقوا في قليب، ثمّ جاء حتى وقف عليهم و ناداهم بأسمائهم «يا فلان بن فلان، و يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً، فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّاً» فقال له عمر: يا رسول اللَّه ما تخاطب من أقوام قد جُيّفوا فقال: «و الذي بعثني بالحقّ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم و لكنّهم لا يستطيعون جواباً».


1- البخاري، الصحيح 2: 99، و لاحظ في شرح الأحاديث فتح الباري لابن حجر 3: 188.
2- الروح: ص 52 و قد بسط الكلام في إثبات الموضوع و أحاط بأطرافه و من أراد التوسع فليرجع إلى كتابه.

ص:442

و ثبت عنه صلى الله عليه و آله أنّ الميت يَسمع قرعَ نعال المشيّعين له إذا انصرفوا عنه.

و قد شرّع النبيصلى الله عليه و آله لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن يسلّموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» و هذا خطاب لمن يسمع و يعقل- و لو لا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم و الجماد.

و السلف مجمعون على هذا و قد تواترت الآثار عنهم بأنّ الميت يعرف زيارة الحيّ له و يستبشر به.

قال أبو بكر عبد اللَّه بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء:

(حدثنا) محمّد بن عون: حدثنا يحيى بن يمان، عن عبد اللَّه بن سمعان، عن زيد ابن أسلم، عن عائشة رضى اللَّه تعالى عنها قالت: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ما من رجل يزور قبر أخيه و يجلس عنده إلّا استأنس به و ردّ عليه حتى يقوم».

(حدثنا) محمّد بن قدامة الجوهري: حدثنا معن بن عيسى القزاز: أخبرنا هشام بن سعد: حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه، ردّ عليه السلام و عرفه، و إذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم ردّ عليه السلام. إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة في الصحاح و المسانيد.

ص:443

الحياة البرزخية في كلمات العلماء

المبحث الرابع الحياة البرزخية في كلمات العلماء

اشارة

كلّ من يعبأ بعلمه و تعبّده أمام النصوص من علماء الإسلامصرّحوا باستمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا، نذكر من كلماتهم ما يلي:

1- الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 ه):

قال: و الأعور الدّجال خارج لا شكّ في ذلك و لا ارتياب، و هو أكذب الكذّابين، و عذاب القبر حقّ، و يُسأل العبد عن دينه و عن ربّه و يَرى مقعده من النار و الجنة، و منكر و نكير حقّ، و هما فتّانا القبور، نسأل اللَّه تعالى الثبات «(1)».

2- أبو جعفر الطحاوي (ت 321 ه):

قال: (نؤمن) بعذاب القبر لمن كان له أهلًا، و سؤال منكر و نكير في قبره عن ربّه و دينه و نبيّه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول اللَّه و عن الصحابة رضوان اللَّه عليهم، و القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران «(2)».


1- السنّة: ص 50.
2- شرح الرسالة الطحاوية لابن أبي العز، قسم المتن: ص 396.

ص:444

3- الإمام الأشعري (260- 324 ه):

قال: و نؤمن بعذاب القبر، و بالحوض، و أنّ الميزان حقّ و الصراط حقّ، و البعث بعد الموت حقّ، و أنّ اللَّه عزّ و جلّ يُوقِفُ العبادَ في الموقف يحاسب المؤمنين «(1)».

4- البغدادي:

قال: أنكرت الجهميّة و الضرارية سؤال القبر، و زعم بعض القدرية أنّ سؤال الملكين في القبر إنّما يكون بين النفختين في الصور و حينئذ يكون عذاب قوم في القبر.

و قالت السالمية بالبصرة: إنّ الكفّار لا يُحاسَبون في الآخرة.

و زعم قوم يقال لهم الوزنية: أنْ لا حساب و لا ميزان.

و أقرّت الكرّامية بكل ذلك كما أقرّ به أصحابنا، غير أنّهم زعموا أنّ منكراً و نكيراً هما الملكان اللّذان وكّلا بِكلّ إنسان في حياته، و على هذا القول يكون منكر و نكير كل إنسانٍ غير منكر و نكيرصاحبه.

و قال أصحابنا: إنّهما ملكان غير الحافظين على كل إنسان «(2)».

5- أبو اليسر محمد البزدوي (421- 493 ه) (و هو من الماتريدية):

قال: سؤال منكر و نكير في القبر حقّ عند «أهل السنّة و الجماعة»، و هما ملكان يسألان من ماتَ بعد ما حُيِّي: مَنْ ربّك و ما دينُك و من نبيّك، فيقدر المؤمن على الجواب و لا يقدر الكافر.

و فيه أحاديث كثيرة عن النبيصلى الله عليه و آله في هذا الباب أنّ الملكين يجيئان في القبر إلى


1- الإبانة، الأصل: ص 26.
2- أُصول الدين: 245.

ص:445

الميت و يحيي اللَّه تعالى الميت فيسألان عمّا ذكرنا «(1)».

6- الفخر الرازي:

قال: إنّ قوله: «و يَستبشِرونَ بالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ» «(2)»

دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث، مضافاً إلى قولهصلى الله عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حُفَرِ النيران» و الأخبار في ثواب القبر و عذابه كالمتواترة، و كان عليه السلام يقول في آخرصلاته: «و أعوذ بك من عذاب القبر» إلى أن قال: الإنسان هو الروح؛ فإنّه لا يعرض له التفرّق و التمزّق، فلا جرم يصل إليه الألم و اللذة (بعد الموت).

ثمّ إنّه سبحانه و تعالى يردّ الروح إلى البدن يومَ القيامة الكبرى حتى تنضم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية «(3)».

7- ابن أبي العزّ الدمشقي:

قال: إنّ الدور ثلاث: دار الدنيا، و دار البرزخ، و دار القرار.

و قد جعل اللَّه لكلّ دارٍ أحكاماً تخصّها، و ركّب هذا الإنسانَ من بدن و نفس، و جعلَ أحكام الدنيا على الأبدان و الأرواح تبع لها، و جعل أحكام البرزخ على الأرواح و الأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم حشر الأجساد و قيام الناس من قبورهم،صار الحكم و النعيم و العذاب على الأرواح و الأجساد جميعاً.

فإذا تأملت هذا المعنى حقّ التأمل، ظهر لك أنّ كون «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار» مطابق للعقل، و أنّه حقّ لا مِرية فيه، و بذلك يتميز


1- أُصول الدين: 165/ المسألة 49.
2- آل عمران: 170.
3- التفسير الكبير 4: 146 و 149.

ص:446

المؤمنون بالغيب من غيرهم.

و يجب أن يعلم أنّ النار التي في القبر و النعيم ليس من جنس نار الدنيا و لا نعيمها، و إن كان اللَّه تعالى يَحمي عليه الترابَ و الحجارةَ التي فوقه و تحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، و لو مسّها أهل الدنيا لم يحسّوا بها.

و الأعجب من هذا أنّ الرجلين يدفن أحدهما إلى جنبصاحبه؛ و هذا في حفرة من النار، و هذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شي ء من حرّ ناره، و لا من هذا إلى جاره بشي ء من نعيمه، و قدرة اللَّه أوسع من ذلك و أعجب «(1)».

و قال الرازي في تفسير قوله: «وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» و القوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد و أن يكونوا في الدنيا، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد و أن يكون قبل قيام القيامة، و الاستبشار لا بد و أن يكون مع الحياة، فدلّ هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة «(2)».

8- ابن تيمية:

قال: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدلّ على عود الروح إلى البدن وقت السؤال، و سؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس، و أنكره الجمهور، قابلهم آخرون بأنّ السؤال للروح بلا بدن، و هذا ما قاله ابن مرة و ابن حزم، و كلاهما غلط، و الأحاديث الصحيحة تردّه، و لو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص «(3)».


1- شرح الرسالة الطحاوية: 396- 397.
2- مفاتيح الغيب 4: 146 و 9: 90.
3- الروح: 50 معبّراً عن ابن تيمية ب« شيخ الإسلام».

ص:447

9- التفتازاني:

قال: و يدلّ على الحياة بعد الموت قوله تعالى: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا» «(1)» و قوله: «أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً» «(2)» و قوله: «رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» «(3)».

و ليست الثانية إلّا في القبر، و قوله: «يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ» «(4)».

و قولهصلى الله عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران».

و الأحاديث في هذا الباب متواترة المعنى.

و قال في موضع آخر:

اتّفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر و نكير في القبر، و عذاب الكفار و بعض العصاة فيه، و نسب خلافه إلى بعض المعتزلة.

قال بعض المتأخرين منهم: حُكي إنكار ذلك عن ضرار بن عمرو، و إنّما نسب إلى المعتزلة، و هم براء منه لمخالطة ضرار إيّاهم، و تبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق.

لنا الآيات، كقوله تعالى في آل فرعون: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا» «(5)»، أي قبل القيامة، و ذلك في القبر، بدليل قوله تعالى: «وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» «(6)»، و كقوله تعالى في قوم نوح: «أُغْرِقُوا


1- غافر: 46.
2- نوح: 25.
3- غافر: 11.
4- آل عمران: 169- 170.
5- غافر: 46.
6- غافر: 46.

ص:448

فَأُدْخِلُوا ناراً» «(1)»، و الفاء للتعقيب، و كقوله تعالى: «رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» «(2)»، و إحدى الحياتين ليست إلّا في القبر، و لا يكون إلّا نموذج ثواب أو عقاب بالاتفاق، و كقوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ» «(3)».

و الأحاديث المتواترة المعنى كقولهصلى الله عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» و كما روي أنّه مرّ بقبرين، فقال: «إنّهما ليعذّبان..» «(4)»

، و كالحديث المعروف في الملكين اللّذين يدخلان القبر و معهما مرزبتان، فيسألان الميت عن ربه و عن دينه و عن نبيّه.. إلى غير ذلك من الأخبار و الآثار المسطورة في الكتب المشهورة، و قد تواتر عن النبيصلى الله عليه و آله استعاذته من عذاب القبر، و استفاض ذلك في الأدعية المأثورة «(5)».

10- الشريف الجرجاني:

قال: إحياء الموتى في قبورهم، مسألة منكر و نكير، و عذاب القبر للكافر و الفاسق كلّها حقّ عندنا، اتّفق عليه سلف الأُمّة قبل ظهور الخلاف، و اتّفق عليه (الأكثر بعده) أي بعد ظهور الخلاف، (و أنكره) مطلقاً «ضرار بن عمرو و بشر المريسي و أكثر المتأخرين من المعتزلة»، و أنكر الجبّائي و ابنه و البلخي تسمية الملكين منكراً و نكيراً و قالوا: إنّما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا


1- نوح: 25.
2- غافر: 11.
3- آل عمران: 169.
4- أخرجه الإمام البخاري في كتاب الوضوء: ص 55- 56 و كتاب الجنائز: ص 89.
5- شرح المقاصد 5: 112، 114.

ص:449

سئل، و النكير إنما هو تفريع الملكين له.

لنا في إثبات ما هو حقّ عندنا وجهان: الأوّل قوله تعالى: «النّار يُعرضونَ عَليها غدوّاً وَ عشياً و يومَ تقومُ الساعةُ أدخِلوا آلَ فِرعونَ أشدَّ العَذاب»، عطف في هذه الآية عذابَ القيامة على العذاب الذي هو عرض النارصباحاً و مساءً، فعلم أنّه غيره، و لا شبهة في كونه قبل الإنشار من القبور، كما يدلّ عليه نظم الآية بصريحه، و ما هو كذلك ليس غير عذاب القبر اتّفاقاً، لأنّ الآية وردت في حقّ الموتى، فهو هو «(1)».

11- الآلوسي:

قال: إنّ حياة الشهداء حقيقة بالروح و الجسد، و لكنّا لا ندركها في هذه النشأة «(2)».

هذه كلمات أعلام السنّة، و إليك كلام بعض مشايخ الشيعة الإمامية:

12- الشيخ المفيد قدس سره:

قال في شرح عقائد الصدوق: فأمّا كيفية عذاب الكافر في قبره و تنعّم المؤمن فيه، فإنّ الخبر أيضاً قد ورد بأنّ اللَّه تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جناته، ينعّمه فيها إلى يوم الساعة، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي في التراب و تمزّق، ثمّ أعاده إليه و حشره إلى الموقف و أمر به إلى جنة الخلد و لا يزال منعماً بإبقاء اللَّه.

غير أنّ جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل يعدل طباعه، و يحسنصورته و لا يهرم مع تعديل الطباع و لا يمسّه نصب في الجنة و لا لغوب.


1- شرح المواقف 8: 317 و قد مزَج كلامه مع عبارة المواقف للإيجي، فما ذكره نظرية الماتن و الشارح.
2- روح المعاني 2: 20.

ص:450

و الكافر يجعل في قالب كقالبه في محلّ عذاب يعاقب، و نار يعذب بها حتى الساعة ثمّ ينشئ جسدَه الذي فارقه في القبر فيعاد إليه فيعذّب به في الآخرة عذاب الأبد و يركّب أيضاً جسده تركيباً لا يفنى معه «(1)».

هذه اثنتا عشرة كلمة من أعلام السنّة و الشيعة تعرب عن اتفاق الأُمّة على استمرار الحياة بعد الانتقال عن الدنيا، أو تجديد الحياة بعده، و أنّ الموت ليس بمعنى بطلان الإنسان إلى يوم القيامة، بل هناك مرحلة بين المرحلتين، لها شئون و أحكام.

و يؤيد ما ذكره، و ما جرى عليه عمل الناس قديماً و إلى الآن من تلقين الميت في قبره، و لو لا أنّه يسمع ذلك و ينتفع به لم يكن فيه فائدة و كان عبثاً، و قد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه و احتجّ عليه بالعمل.

و قال ابن القيم- تلميذ ابن تيمية- بعد نقل ما ذكرنا عن الإمام أحمد: إنّ اتّصال العمل به في سائر الأمصار و الأعصار من غير إنكار؛ كاف في العمل به.

إلى أن قال: فلولا أنّ المخاطب يسمع، لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب و الخشب و الحجر و المعدوم، و هذا و إن استحسنه واحد، لكن العلماء قاطبة على استقباحه و استهجانه، و قد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به: أنّ النبيصلى الله عليه و آله حضر جنازة رجل فلمّا دفن قال: «سلوا لأخيكم التثبت فإنّه الآن يسأل»، فأخبر أنّه يسأل حينئذ، و إذا كان يسأل فانّه يسمع التلقين «(2)».

و قال: إن إلّا رواح على قسمين: أرواح معذّبة، و أرواح منعّمة، فالمعذبة في شغل ما هي فيه من العذاب، عن التزاور و التلاقي، و الأرواح المنعّمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى و تتزاور، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها،


1- أوائل المقالات: ص 49 ط تبريز؛ و شرح عقائد الصدوق: ص 44 ط تبريز.
2- الروح: 13 ط. بيروت.

ص:451

و روح نبينا في الرفيق الأعلى، قال اللَّه تعالى: «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» و هذه المعية ثابتة في الدنيا و في دار البرزخ و في دار الجزاء، و المرء مع من أحبّ في هذه الدور الثلاثة «(1)».

إجابة عن سؤال

إنّ هنا سؤالًا أثاره كثير من المفسرين و كلّ تخلّص منه بوجه: و هو أنّا نشاهد أجساد الموتى ميتة في القبور، فكيف يصحّ ما ذهبتم إليه من التنعيم و التعذيب، و السؤال و الإجابة؟

هناك من تخلّص منه زاعماً أنّ الحياة البرزخية حياة مادية بحتة، قائمة بذرات الجسد المادّي المبعثرة في الأرض، منهم الرازي قال:

أمّا عندنا فالبنية ليست شرطاً في الحياة، و لا امتناع في أن يعيد اللَّه الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات و الأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب و التأليف «(2)».

يلاحظ عليه: أنّ الاعتراف بأنّ الحياة البرزخية من أقسام الغيب الذي يجب الإيمان به و إن لم نعرف حقيقتها، أولى من هذا الجواب الغامض الذي لا يفيد القارئ شيئاً سوى أنَّ التعبّد ورد بذلك.

لكن الظاهر من أكثر أهل السنّة المعتمدين في العقائد على الأخبار و الآثار، أنّ هنا جسداً علىصورة الطير تتعلّق به الروح، و قد استدلّ له بما أخرجه عبد الرزاق، عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال: قال رسول اللَّه: «إنّ أرواح الشهداء في


1- الروح: 17 ط. بيروت. و الآية من سورة النساء: 69.
2- التفسير الكبير 4: 145- 146.

ص:452

صور طير خضر معلّقة في قناديل الجنة حتى يرجعها اللَّه تعالى إلى يوم القيامة».

و في بعض الروايات: «أنّ أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلّق من ثمر الجنة أو شجر الجنة».

أخرج مسلم فيصحيحه عن ابن مسعود: مرفوعاً: «أن أرواح الشهداء عند اللَّه في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثمّ تأوى إلى قناديل تحت العرش» «(1)»

.

و يبدو أنّ الروايات إسرائيليات، و قد رُدّ مضمون هذه الروايات في روايات أئمة أهل البيت، فعالجوا مشكلة الحياة البرزخية بشكل قريب إلى الأذهان، و هو خلق جسد آخر علىصور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال «رأيت فلاناً».

روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام مسنداً إلى علي بن مهزيار، عن القاسم بن محمّد، عن الحسين بن أحمد، عن يونس بن ظبيان قال:

كنت عند أبي عبد اللَّه (الإمام الصادق) عليه السلام جالساً فقال: «ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟» قلت: يقولون: في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد اللَّه: «سبحان اللَّه، المؤمن أكرم على اللَّه أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر، يا يونس المؤمن إذا قبضه اللَّه تعالىصيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

روى ابن أبي عمير، عن حماد، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن أرواح المؤمنين؟ فقال: «في الجنة علىصور أبدانهم لو رأيته لقلت: فلان» «(2)»


1- روح المعاني 2: 21.
2- مجمع البيان 1: 236 ط صيدا لاحظ الكافي 3: 245 و بما أنّ الشيخ الطبرسي نقل الرواية عن الكافي، ذكرنا موضع الرواية منه.

ص:453

البرزخيّون ينتفعون بأعمال المؤمنين

المبحث الخامس البرزخيّون ينتفعون بأعمال المؤمنين

اشارة

إذا كانت حقيقة الإنسان هو روحهُ و نفسه الباقية غير الداثرة، و كانت الصلة بين الدارين (دار الدنيا و دار البرزخ) موجودة، و كانت متعلقة بأجسام تناسبها و هم بين منعّم و معذّب، يقع الكلام في انتفاع أهل البرزخ بأعمال المؤمنين الموجودين في دار الدنيا إذا قاموا بالاستغفار لهم بأعمال نيابة عنهم، و عدمه.

و قبل الدخول فيصلب الموضوع لنا كلامٌ نقدّمه: هو أنّ الإيمان إنّما ينتفع به الإنسان إذا انضمّ إليه العمل الصالح، و لا ينفع إيمان إذا خلا عنه، و لأجل ذلك يذكر سبحانه العمل الصالح إلى جانب الإيمان في أكثر آيات الكتاب العزيز.

و قد أخطأت «المرجئة» لمّا زعموا أنّ الإيمان المجرّد وسيلة نجاة و مفتاح فلاح، فقدّموا الإيمان و أخّروا العمل.

و قد فنَّد أهل البيت عليهم السلام هذه الفكرة الباطلة حيث حذّروا الآباء و دعوهم إلى حفظ أبنائهم منهم: «بادروا أولادكم بالأدب قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة» «(1)»

.

فالاعتماد على الإيمان مجرداً عن العمل فعل النوكى و الحمقى، و هو لا يفيد


1- الكافي 6: 47/ 5.

ص:454

و لا ينفع أبداً.

و لقد كانت لهذه الفكرة الباطلةصيغة أُخرى عند اليهود، فهم كانوا يعتمدون على مسألة الانتساب إلى الآباء و بيت النبوة، فزعموا أنّ الثواب لهم و العقاب على غيرهم حيث قالوا: «نَحنُ أبناءُ اللَّهِ و أحبّاؤُهُ» «(1)»

أو قالوا: «لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّاماً مَعدودَة» «(2)»

، و في ظلّ هذه الفكرة اقترفوا المنكرات و استحلّوا سفك دماء غيرهم من الأقوام و الأُمم و الاستيلاء على أموالهم.

و الحق الذي عليه الكتاب و السنّة هو: أنّ المنجي هو الإيمان المقترن بالعمل الصالح، كما أنّ التسويف في إتيان الفرائض باطل جداً، و هو أن يؤخّر الإنسان الواجب و يقول سوف أحجّ مثلًا، و يقول ذلك كلّ سنة و يؤخر الفريضة.

و هذا هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يؤكّد في خطبته على العمل إذ يقول:

«و إنّ اليوم عمل و لا حساب، و غداً حساب و لا عمل» «(3)»

.

و يقول: «ألا و إنَّ اليومَ المِضمارَ و غداً السباق، و السَّبَقةُ الجنّة، و الغايةُ النار، أ فلا تائب من خطيئته قبل منيته، أَ لا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه» «(4)»

.

و هذا هو ما اتّفقت عليه الأُمّة الإسلامية و تضافرت عليه الأحاديث و الأخبار.

انتفاع الإنسان بعمله و بعمل غيره

لكنّه سبحانه بفضله و جوده الواسعين وسّع على الإنسان دائرة الانتفاع بالأعمال بحيث شمل الانتفاع بعد الموت، بالأعمال التي تتحقّق بعد الموت، و هي


1- المائدة: 18.
2- آل عمران: 24.
3- نهج البلاغة، الخطبة 42.
4- نهج البلاغة، الخطبة 28.

ص:455

على نوعين:

الأوّل: ما إذا قام الإنسان بعمل مباشرة في زمانه و مات و لكن بقي العمل يستفيد منه الناس كصدقة جارية أجراها، أو إذا ترك علماً ينتفع به، و يقرب منه ما إذا ربّى ولداًصالحاً يدعو له، فهو ينتفع بصدقاته و علومه؛ لأنّها أعمال مباشرية باقية بعد موته و ليست كسائر أعماله الفانية بفنائه الزائلة بموته، فالجسر الذي بناه، و النهر الذي أجراه، و المدرسة التي شيّدها، و الطريق الذي عبّده، إنّما تحقّق بسعيه، فهو ينتفع به.

و قد وردت في هذا المجال روايات كثيرة، قام بنقل بعضها ابن القيم في المسألة السادسة في كتاب له باسم «الروح» قال:

و ذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنّه لا يصل إلى الميت شي ء البتة لا بدعاء و لا غيره، ثمّ قال: فالدليل على انتفاعه بما تسبّب إليه في حياته ما رواه مسلم فيصحيحه من حديث أبي هريرة رضى الله عنه: أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلّا من ثلاث:صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدصالح يدعو له» فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدلّ على أنّها منه، فإنّه هو الذي تسبّب إليها.

و في سنن ابن ماجة في حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته: علمٌ علّمه و نشره، أو ولدٌصالحٌ تركه، أو مصحفٌ ورثه، أو مسجدٌ بناه، أو بيتٌ لابن السبيل بناه، أو نهرٌ أكراه، أوصدقةٌ أخرجها من ماله فيصحّته و حياته يلحقه من بعد موته».

و فيصحيح مسلم أيضاً من حديث جرير بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أُجورهم شي ء، و من سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها و وزر

ص:456

من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء».

و هذا المعنى روي عن النبيصلى الله عليه و آله من عدة وجوهصحاح و حسان.

و في المسند عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فأمسك القوم، ثمّ إنّ رجلًا أعطاه فأعطى القوم، فقال النبيصلى الله عليه و آله: «من سنّ خيراً فاستنّ به كان له أجره و من أُجور من تبعه غير منتقص من أُجورهم شيئاً، و من سنّ شراً فاستنّ به كان عليه وزره و من أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً».

و قد دلّ على هذا قولهصلى الله عليه و آله: «لا تُقتل نفس ظلماً إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها؛ لأنّه أوّل من سنّ القتل» فإذا كان هذا في العذاب و العقاب ففي الفضل و الثواب أولى و أحرى «(1)».

و يؤيده ما ورد في شأنصلاة الجماعة حيث تُفضَّل بسبع و عشرين درجة أو خمس و عشرين درجة علىصلاة بغير جماعة «(2)».

فكيف ينتفع المصلّون بعضهم ببعض؟ و كلّما زاد المصلّون ازدادوا انتفاعاً.

الثاني: فيما إذا لم يكن للميت في العمل سعي و لا تسبيب، فهل يصل ثواب عمل الغير إليه؟

الظاهر من الكتاب و السنّة هو أنّه سبحانه بعميم فضله و واسع جوده يوصل ثواب عمل الغير إلى الميت، فيما إذا قام الغير بعملصالح نيابة عن الميت، و بعث ثوابه إليه، و يدلّ على ذلك طائفة كبيرة من الآيات و الأحاديث و الأخبار.

عرض المسألة على الكتاب:

لقدصرّحت الآيات بأنّ الإنسان المؤمن ينتفع بعمل غيره، و إن لم يكن له فيه


1- كتاب الروح، المسألة السادسة عشرة، و نقلها برمتها محمّد الفقي من علماء الأزهر في كتابه التوسل و الزيارة: ص 226- 227.
2- صحيح مسلم 2: 128، باب فضل صلاة الجماعة.

ص:457

سعي، و نحن نشير إلى بعض هذه الموارد على سبيل المثال لا الحصر:

1- استغفار الملائكة للمؤمن، قال تعالى:

«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» «(1)».

و قال تعالى أيضاً:

«تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «(2)».

2- دعاء المؤمنين للذين آمنوا:

«وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «(3)».

الأحاديث الدالة على انتفاع الميت بفعل الحيّ:

تدلّ روايات كثيرة على أنّ الميت ينتفع بعمل الغير، إمّا بدعائه فيكفي في ذلك ما تواتر عن النبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله من زيارته لأهل بقيع الغرقد و دعائه لهم، و زيارته لشهداء أُحد و تعميمهم بالدعاء، و تكرار ذلك منه، و لو لم ينتفعوا بدعائه لما قام به عليه السلام، و قد عرفتَ الآيات الدالة على انتفاع الميت بدعاء الحي.

إنّما الكلام فيما إذا قام بعمل (لا بدعاء) قربي نيابة عن الميت، فالروايات المتضافرة تدلّ علىصحة العمل و وصول ثوابه إليه و انتفاع الميت به، و قد وزّعت


1- غافر: 7.
2- الشورى: 5.
3- الحشر: 10.

ص:458

الروايات في الصحاح و المسانيد في مختلف الأبواب كالصوم و الحج و العتق و النذر و التصدّق و السقي و قراءة القرآن، فنحن نذكر هذه الروايات على هذا الترتيب، و لعلّ المتتبِّع في الصحاح و المسانيد يقف على أكثر من ذلك.

أ- انتفاع الميت بصوم الغير نيابة عنه:

1- روى الشيخان عن عائشة: أنّ رسول اللَّه قال: «من مات و عليهصيام،صام عنه وليّه».

2- روى الشيخان أيضاً عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبيّ و قال: يا رسول اللَّه إنّ أُمّي ماتت و عليهاصوم شهر أ فأقضي عنها؟ قال: «نعم فدين اللَّه أحق أن يقضى».

3- و في رواية: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه و قالت: يا رسول اللَّه إنّ أُمّي ماتت و عليهاصوم نذر أ فأصوم عنها؟ قال: «أ فرأيتِ لو كان على أُمّك دين فقضيْتيهِ أ كان يؤدّى ذلك عنها؟ قالت: نعم قال: «فصومي عن أُمّك».

4- روى بريدة قال: بينا أنا جالس عند رسول اللَّه إذ أتته امرأة و قالت: «إني تصدّقت على أُمّي بجارية و إنّها ماتت، فقال: «وجب أجرك، و ردّها عليك الميراث».

فقالت: يا رسول اللَّه إنّه كان عليهاصوم شهر أ فأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها» قالت: إنّها لم تحجّ قطّ، أ فأحج عنها؟ قال: «حجّي عنها».

ب- انتفاع الميت بحجّ الغير نيابة عنه:

5- قال سعد بن عبادة: يا رسول اللَّه، إنّ أُمّ سعد في حياتها كانت تحجّ من مالي و تتصدّق و تَصِل الرحم و تنفق من مالي، و إنّها ماتت فهل ينفعها أن أفعل ذلك عنها؟ قال: «نعم» «(1)».


1- هذه الروايات 1- 5 رواها مسلم في صحيحه، ج 3، باب قضاء الصيام عن الميت: ص 155- 156.

ص:459

6- و قالصلى الله عليه و آله: «لو كان مسلماً فَأَعْتقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك».

و قد مضى جواز الحج نيابة في الرواية الرابعة.

ج- انتفاع الميت بعتق الغير عنه:

7- عن عطاء بن رباح قال: قال رجل: يا رسول اللَّه أعتق عن أُمّي؟ قال:

«نعم» قال: أ ينفعها؟ قال: «نعم».

8- عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري: أنّ أُمّه أرادت أن تعتق فأخّرت ذاك إلى أن تصبح فماتت؟ قال عبد الرحمن: قلت للقاسم بن محمّد: أ ينفعها أن أعتق عنها؟ قال القاسم: أتى سعد بن عبادة رسول اللَّه فقال: إنّ أُمّي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ فقال رسول اللَّه: «نعم».

و قد مضى في الرواية السادسة ما يدلّ على جواز العتق عن الغير.

د- انتفاع الميت بعمل الغير فيما إذا نذر و لم يعمل:

9- جاء سعد بن عبادة إلى رسول اللَّه فقال: إنّ أُمّي كان عليها نذر، أ فأقضيه؟

قال: «نعم» قال: أ ينفعها؟ قال: «نعم».

و رواه مسلم بلفظ آخر قال: استفتى سعد بن عبادة رسول اللَّه في نذر كان على أُمّه توفيت قبل أن تقضيه؟ قال رسول اللَّه: «فاقضه عنها».

ه- انتفاع الميت بصدقة الغير نيابة عنه:

10- عن أبي هريرة: أنّ رجلًا قال للنبيّ: إنّ أبي مات و ترك مالًا و لم يوص، فهل يكفّر عنه أن أتصدّق عنه؟ قال: «نعم».

11- عن معاذ قال: «أعطاني رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عطية، فبكيت فقال: «ما يبكيك يا معاذ»؟ قلت: يا رسول اللَّه كان لأُمّي من عطاء أبي نصيب تتصدّق به و تقدّمه لآخرتها و إنّها ماتت و لم توص بشي ء قال: «فلا يبك اللَّه عينك يا معاذ، أ تريد أن

ص:460

تُؤجر أُمّك في قبرها؟» قلت: نعم يا رسول اللَّه، قال: «فانظر الذي كان يصيبها من عطائك فامضه لها، و قل اللّهم تقبّل من أُمّ معاذ».

فقال قائل: يا رسول اللَّه لمعاذ خاصة أم لأُمّتك عامة؟ قال: «لأُمّتي عامة».

12- عن سعد أنّه سأل النبيصلى الله عليه و آله قال: يا نبيّ اللَّه إنّ أُمّي قد افتلتت و أعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت، أ فإن تصدَّقتُ عنها أ ينفعها ذلك؟ قالصلى الله عليه و آله: «نعم» فسأل النبيصلى الله عليه و آله: أيّ الصدقة أنفع يا رسول اللَّه؟ قال: «الماء»، فحفر بئراً، و قال: هذه لأُمّ سعد.

و اللام في قوله: «هذه لأُمّ سعد» هي اللام الداخلة على الجهة التي وجهت إليه الصدقة، و ليست من قبيل اللام الداخلة على المعبود المتقرّب إليه، مثل قولنا:

نذرت للَّه، و إن شئت قلت: اللام في قوله «لأُمّ سعد» مثل اللام الواردة في قوله تعالى: «إنَّما الصَّدقاتُ للفُقراءِ» «(1)»

.

13- و فيصحيح البخاري عن عبد اللَّه بن عباس رضى الله عنه: «إنّ رجلًا أتى النبيّ فقال: يا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إنّ أُمّي افتلتت نفسها و لم توصِ، و أظنّها لو تكلّمت تصدقت، أ فلها أَجر إن تَصدّقتُ عنها؟ قال: «نعم».

14- و فيصحيح البخاري عن عبد اللَّه بن عباس رضى الله عنه: «إنّ سعد بن عبادة توفّيت أُمّه و هو غائب، فأتى النبيصلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه إنّ أُمّي توفّيت و أنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدّقتُ عنها؟ قال: «نعم»، قال: فإنّي أشهدك إنّ حائطي المخرافصدقة عنها. و المراد بالحائط البستان، و المخراف عبارة عن اسم ذلك الحائط.

15- و عن عبد اللَّه بن عمر: إنّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة


1- التوبة: 60.

ص:461

بدنة، و إنّ هشام بن العاص نحر خمساً و خمسين، و إنّ عمراً سأل النبيصلى الله عليه و آله عن ذلك فقال: «أمّا أبوك فلو أقرّ بالتوحيد فصمت و تصدّقت عنه نفعه ذلك». و رواه الإمام أحمد.

و- انتفاع الميت بالذكر و الدعاء و القراءة و التحية:

16- روى ابن ماجة فيصحيحه: إنّ رسول اللَّه قال: «اقرءوا (يس) على موتاكم».

17- و عن أبي هريرة: «زوروا موتاكم ب (لا إله إلّا اللَّه)».

18- «ما من رجل يزور قبر حميمه فيسلّم عليه و يقعد عنده إلّا ردّ عليه السلام و أنس به حتى يقوم من عنده».

19- «ما من رجل يمرّ بقبر كان فيه (من) يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا عرفه و ردّ عليه السلام».

20- «ما الميت في قبر إلّا شبه الغريق المتغوث ينتظر دعوة من أب أو أُمّ أو ولد أوصديق ثقة، فإذا لحقته كانت أحبّ إليه من الدنيا و ما فيها، و إنّ اللَّه عزّ و جلّ ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الدنيا أمثال الجبال، و إنّ هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم و الصدقة عنهم».

21- من حديث أبي هريرة رضى الله عنه: قال: قال رسول اللَّه: «إذاصلّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء».

22- و فيصحيح مسلم من حديث عوف بن مالك: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله على جنازة، فحفظت دعاءه و هو يقول: «اللّهمّ اغفر له و ارحمه و عافه و اعف عنه، و أكرم نزله و أوسع مدخله، و أغسله بالماء و الثلج و البرد، و نقّه من الخطايا كما نقّيت الثوب الأبيض من الدنس، و أبدله داراً خيراً من داره، و أهلًا خيراً من

ص:462

أهله، و زوجاً خيراً من زوجه، و أدخله الجنة و أعذه من عذاب القبر و عذاب النار».

23- و في السنن عن واثلة بن الأسقع قال:صلّى رسول اللَّه على رجل من المسلمين فسمعته يقول: «اللّهم إنّ فلاناً ابن فلان في ذمّتك و حبل جوارك، فقهِ فتنة القبر و عذابه، و أنت أهل الوفاء و الحقّ، فاغفر له و ارحمه إنّك أنت الغفور الرحيم».

24- و في السنن من حديث عثمان بن عفان (رض) كان النبيصلى الله عليه و آله إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم و اسألوا له التثبت فإنّه الآن يسأل».

و لو استقصيت الصحاح و السنن لوقفت على روايات كثيرة من هذا القسم.

أضف إلى ذلك ما ننقله عن النبي الأكرمصلى الله عليه و آله عند ما زار بقيع الغرقد، من دعائه لأهله و ترحيمه لهم.

إلى غير ذلك من الأحاديث و الأخبار الواردة في هذا المجال، و من أراد التبسط فليرجع إلى مظانّها «(1)».

موقف المذاهب الإسلامية من هذه المسألة

و هؤلاء هم أئمة المذاهب الثلاثة (الحنبلي و الشافعي و الحنفي) يفتون بانتفاع الميت بعمل الحي حتى إذا لم يوص به و لم يكن له فيه سعي.

فهؤلاء هم فقهاء الحنابلة يقولون: و من توفّي قبل أن يحجّ الواجب عليه سواء


1- لاحظ للوقوف على مصادر هذه الروايات: صحيح مسلم، كتاب النذر 5: 73- 78 و كنز العمال 6: 598- 602/ 17050- 17071، و الروح لابن القيم: ص 118- 121 و غيره، و التوسل و الزيارة في الشريعة الإسلامية للشيخ الفقي: ص 229 و غيرها.

ص:463

أ كان ذلك بعذر أو بغير عذر، وجب عليه أن يخرج من جميع ماله نفقة حجة و عمرة و لو لم يوص «(1)».

و هذا هو الفقه الحنفي يقول: أمّا إذا لم يوص و تبرّع أحد الورثة أو غيرهم فإنّه يرجى قبول حجتهم عنه إن شاء اللَّه «(2)».

و هذا هو الشافعي يقول: فإن عجز عن مباشرة الحج بنفسه يحج عنه الغير بعد موته من تركته (و لم يقيد بالإيصاء و عدمه) «(3)».

و قال ابن القيم: و اختلفوا في العبادة البدنية كالصوم و الصلاة و قراءة القرآن و الذكر: فذهب الإمام أحمد و جمهور السلف إلى وصولها، و هو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، نصّ على هذا الإمام أحمد في رواية محمّد بن أحمد الكحال قال: قيل لأبي عبد اللَّه: الرجل يعمل الشي ء من الخير منصلاة أوصدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو أُمّه، قال: أرجو، أو قال: الميت يصل إليه كل شي ء منصدقة أو غيرها، و قال: أيضاً اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات و قل هو اللَّه أحد و قل: اللّهمّ إنّ فضله لأهل المقابر.

و قال: فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه و الخلال في جامعه عن الشعبي بسندصحيح، قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره، يقرءون القرآن.

و قال النووي في شرح المهذب: يستحب (أي للزائر للأموات) أن يقرأ ما تيسّر و يدعو لهم عقبها، نص عليه الشافعي و اتفق عليه الأصحاب.

و قال في الأذكار: قال الشافعي و الأصحاب: يستحب أن يقرءوا عند الميت شيئاً من القرآن قالوا: فإن ختموا القرآن كلّه كان حسناً.


1- الفقه على المذاهب الأربعة للجزري 1: 571.
2- المصدر نفسه 1: 567.
3- المصدر نفسه 1: 569.

ص:464

ثمّ قال: و قد روي عن بعض الشافعية أنه لا يصل ثوابها للميت.

و نقل عن جماعات من الشافعية أنّهم أوّلوه بحمله على ما إذا لم يقرأ بحضرة الميت، أو لم ينو ثواب قراءته له، أو نواه و لم يدع «(1)».

و هذه الروايات و إن أمكن المناقشة في إسناد بعضها، لكن المجموع متواتر مضموناً، فلا يمكن ردّ الكل.

أضف إلى ذلك وجود رواياتصحيحة قاطعة للنزاع، و الفقيه إذا لاحظ مع ما أفتى به أئمة المذاهب الثلاثة ينتزع ضابطة كلية، و هو وصول ثواب كلّ عمل قربى إلى الميت إذا أتى به نيابة عنه، سواء كان العمل داخلًا فيما ذكر من الموضوعات أو خارجاً عنها؛ لأنّ الظاهر أنّ الموضوعات كالصوم و الحج و غيرهما من باب المثال، لا من باب الحصر.

فتلك الآيات و الروايات و هذه الفتاوىصريحة في جواز القيام بعمل ما عن الميت من دون إيصاء، و بعبارة أُخرى: من دون سعي له فيه، فإذا لم ينتفع الميت بعمل الغير فكيف جاز الحج عنه أو وجب، و كذا في سائر الأُمور الأُخرى كالاستغفار و الدعاء له و شفاعته و التصدّق و العتق عنه.

و قال الدكتور عبد الملك السعدي: لم يثبت أنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان يقرأ شيئاً من القرآن إذا زار المقابر سوى ما ورد أنّهصلى الله عليه و آله قال: «يس قلب القرآن اقرءوها على موتاكم» إذا حملنا لفظ الموتى على المعنى الحقيقي و هو خروج الروح من الجسد، لأنّ حمله على حالة النزع حمل اللفظ على معناه المجازي، و الحمل على الحقيقة أولى، و مع هذا فلا مانع من قراءة القرآن في المقبرة لعدم ورود المنع من ذلك، و لأنّ الأموات يسمعون القراءة فيستأنسون بها، و لأنّ الإمام أحمد كان يرى ذلك حيث قد نهى ضريراً يقرأ عند القبور ثمّ أذن له بعد أن سمع أنّ ابن عمر رضى الله عنه أوصى أن يقرأ


1- الروح: ص 235- 236.

ص:465

إذا دفن عنده بفاتحة البقرة و خاتمتها، كما جاء في المغني لابن قدامة في مسألة زيارة القبور «(1)».

أمّا القول بأنّ القراءة عند القبور بدعة، فغير مسلّم؛ لأنّ البدعة هي التي لم يرد بها نص خاص أو لم تدخل تحت القواعد العامة للإسلام، و القراءة مشروعة على الإطلاق في الإسلام بغضّ النظر عن مكان القراءة و زمانها ما لم يرد نهي عنها بوقت معين و زمان معين أو مكان معين «(2)».


1- المغني 2: 567.
2- البدعة: ص 136.

ص:466

حول الشبهات المطروحة

المبحث السادس حول الشبهات المطروحة

اشارة

لقد وقفت بفضل الآيات الكريمة الناصعة، و السّنة النبوية المطهّرة، و كلمات العلماء الأبرار على أنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان و بطلانه، أو القضاء على حقيقته و شخصيته، بل هو قنطرة تعبر بالإنسان من دار إلى أُخرى إمّا محفوفة بالنعمة و الراحة، أو ملفوفة بالنقمة و التعذيب.

كما وقفت على أنّ الصلة بين الدارين غير منقطعة، و أنّ هناك مبادلة كلام بكلام حتى إنّ البرزخيين يسمعون خفق نعال المشيِّعين.

كما اتّضح أنّ المؤمنين ينتفعون بخير الأعمال التي يقوم بها أقرباؤهم و أصدقاؤهم.

كلّ ذلك بفضل منه سبحانه على عباده حتى ينتفعوا بما يُقدّم لهم إخوانُهم- بعد انتقالهم من الدنيا- من أدعيةصالحة، و أعمال طيبة تهدى ثوابها إلى آبائهم و إخوانهم و أساتذتهم الذين وجبت حقوقهم عليهم.

غير أنّ تبعية الأهواء ربما تصدّ الإنسان عن البخوع للحق، و الخضوع أمام الحقيقة فيقدِّم رأيه الساقط على البراهين الواضحة، فتارة يُنكر الحياة البرزخية،

ص:467

و أُخرى يردّ الصلة بين الدارين، و ثالثة يَجحد انتفاع البرزخيين بأعمال إخوانهم المؤمنين، كلّ ذلك في قوالب شبه ضئيلة نمّقته الأهواء و التقليد الأعمى و لا يقام له في سوق الاعتبار وزن و لا في مبوّأ الحق مقيل، «فظُنَّ خيراً و لا تسأل عن الخبرِ» و إليك تلكم الشبهات مع أجوبتها:

الشبهة الأُولى

إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلّا اللَّه، فهي حياة مستقلّة نؤمن بها و لا نعلم ماهيتها، و إن بين الأحياء و الأموات حاجزاً يمنع الاتّصال فيما بينهم، و على هذا فيستحيل الاتصال بينهم لا ذاتاً و لاصفاتٍ، و اللَّهُ سبحانه يقول: «وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «(1)».

الجواب: هذه العبارة تتضمن أمرين قد خلط الكاتب بينهما:

أ- إنّ الحياة البرزخيّة لا نعلم حقيقتها.

ب- إنّ البرزخ حاجز مانع عن الاتصال.

فعلى هامش الأمر الأوّل نقول: إنّ حقيقة الحياة مطلقاً- مادية كانت أم برزخية- أمر مجهول لا يعلمها إلّا خالقها، و الذي يعود إلى إمكاننا هو التعرّف على آثارها و خصوصياتها، فكما أنّ الحياة المادية معلومة لنا ببعض آثارها، و كلّما يتقدّم العلم يتقدّم الإنسان في ميادين التعرّف على آثارها، فهكذا الحياة البرزخية فهي مجهولة الحقيقة و لكنّها معلومة بآثارها، و قد ذكر الكتاب العزيز بعضها، و أنّ الشهداء الأحياء بحياتهم البرزخية يُرزَقون، يَفْرحون بما آتاهم اللَّه، يَستبشِرون بالذين لم يلحقوا بهم، و يستبشِرون بنعمة من اللَّه، و أنّهم ربّما يتمنّون أُموراً كتمنّي


1- التوصّل إلى حقيقة التوسل: ص 267، سورة المؤمنون: 100.

ص:468

حبيب النجار عرفان قومه بمصيره كما قال سبحانه: «قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» «(1)».

إنّ الحياة البرزخية لا تختص بالمؤمنين، بل هناك من المذنبين الكافرين من تعمّهم كآل فرعون إذ يعرضون على النار غدواً و عشياً، قال سبحانه: «وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» «(2)».

و هذا المقدار من المعرفة يكفينا في القضاء بأنّ لهم شعوراً و استشعاراً و دركاً و تعقّلًا و ظواهر نفسية من الفرح و الألم و غير ذلك، و لا تتطلب مسألة التوسّل سوى كون المتوسّل به عاقلًا حيّاً مدركاً شاعراً ملتفتاً إلى الدنيا و ما يجري فيها.

و على هامش الأمر الثاني نقول: إنّ البرزخ بمعنى الحاجز لا بمعنى انقطاع الصلة بين أهل الدنيا و أهل الآخرة و من فسّره بالمعنى الثاني فإنّما أراد دعم مذهبه، و إنّما هو مانع من رجوع الناس إلى حياتهم الدنيا.

و يدلّ على ذلك: أنّه سبحانه ذكر أمر البرزخ بعد ما ذكر تمنّي العصاة الرجوع إلى الدنيا، قال سبحانه: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُصالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» «(3)».

فقوله: «كلّا» ردع لتمنّي رجوعهم، يعني لا يستجاب دعاؤهم، ثمّ عاد سبحانه يؤكده بقوله: «وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» أي حائل مانع من الرجوع إلى الدنيا إلى يوم يبعثون.

إنّ اتّخاذ موقف مسبق في المسألة يشكّل مانعاً من الوصول إلى الحقيقة، و يعد


1- يس: 26- 27.
2- غافر: 45- 46.
3- المؤمنون: 99- 100.

ص:469

من موانع المعرفة الصحيحة، فبما أنّ القائل يقتفي أثر من يقول لا يصح التوسّل بدعاء النبي الأكرم في البرزخ، فقد أراد نحتَ دليل لقوله، ففسّر البرزخ في الآية بمعنى المانع عن الاتصال لا المانع عن انتقال أهل البرزخ إلى الدنيا، فكأنّه يصوّر أنّ بين الحياتين ستاراً حديدياً أو جداراً ضخماً يمنع من اللقاء و السماع، و ليس لما يتخيّله دليل، بل الدليل على خلافه، ترى أنّه سبحانه يحكي عن ماء البحرين أحدهما عذب فرات و الآخر ملح أُجاج ثمّ يقول: «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» أي مانع يمنع عن اختلاط الماءين، يقول سبحانه: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» «(1)» و لم يكشف العلم عن وجود سدّ مادّي بين البحرين.

الشبهة الثانية

إنّ اللَّه سبحانه يقول: «و أن ليسَ للإنسانِ إلّا ما سَعَى» «(2)»

فالآية تحصر الانتفاع في العمل الذي سعى فيه الإنسان قبل موته، و معه كيف ينتفع بعمل الغير الذي لم يسع فيه؟

و الجواب على هذه الشبهة من وجوه متعددة، و لكنّنا نذكر قبل الجواب ما يفيد القارئ في المقام، و هو: أنّه لو كان ظاهر الآية هو ما يرومه المستدل و هو: أنّ الغير لا ينتفع بعمل الغير ما لم يكن قد تسبب إليه في الحياة، لعارَض هذا ظاهر الآيات الأُخر و الروايات المتضافرة في ذلك المجال؛ إذ لو كان كذلك فما معنى استغفار المؤمنين لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان؟! و ما معنى استغفار حملة العرش و من حوله لأهل الإيمان؟! و ما معنى هذه الروايات الواردة في مجالات مختلفة، الدالة على انتفاع الميت بعمل الغير؟


1- الرحمن 19- 20.
2- النجم: 39.

ص:470

كل ذلك يعرب عن أنّ للآية مفاداً آخر و هو غير ما يرومه المستدل، و إليك تفسير الآية بالإمعان فيها، و ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل:

إنّ سياق الآيات المحيطة بهذه الآية سياق ذمّ و تنديد، و سياق إنذار و تهديد، فإنّ اللَّه سبحانه يبدأ كلامه العزيز بقوله: «أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى* وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى* أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى* أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِيصُحُفِ مُوسى* وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى* أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى* وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى* وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى* ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى* وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» «(1)».

فإنّك ترى أنّ الآيات الحاضرة مثل سبيكة واحدةصيغت لغرض الإنذار و التهديد، خصوصاً قوله: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» فإنّ هذه الآية وقعت بين آيتينصريحتين في التهديد المتقدمة قوله: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» و المتأخّرة قوله: «وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى» ثمّ قوله: «وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى».

فإنّ كلّ ذلك يعطي أنّ موضوع هذه الآية و الآيات السابقة و اللاحقة هو العقاب لا الثواب، و السيئة لا الحسنة، فالآية تصرّح بأنّ كل إنسان يحمل وزر نفسه و يعاقب بالعمل السيّئ الذي سعى فيه، و أمّا العمل السيّئ الذي اقترفه الغير و لم يكن للإنسان سعي فيه فلا يؤخذ به و لا يعاقب عليه.

و على ذلك فاللام في قوله: «للإنسان» ليس للانتفاع بل اللام لبيان الاستحقاق، و هو أحد معانيها «(2)» مثل قوله: «وَيلٌ لِلمُطفّفينَ» «(3)»

و قوله: «لَهُمْ في


1- النجم: 33- 42.
2- قال ابن هشام في مغني اللبيب 1: 208 و للّام الجارة اثنان و عشرون معنى، أحدها: الاستحقاق، و هي الواقعة بين معنى و ذات.. مثل:« لهم في الدنيا خزي».
3- المطففين: 1.

ص:471

الدُّنيا خِزيٌ و لَهمْ في الآخرةِ عذابٌ عَظيمٌ» «(1)»

و قولهصلى الله عليه و آله: «الولد للفراش و للعاهر الحجر».

و على ذلك فالموضوع الذي تركّز عليه الآيات هو العقاب لا الثواب، و لهذا تكون الآية خارجة عن مصبّ البحث، و هذا ظاهر لمن أمعن النظر.

الوجه الثاني:

لو فرضنا أنّ محور البحث في هذه الآيات هو الأعم من الثواب و العقاب، و أنّ اللّام في الآية للانتفاع، و لكن الآية مع ذلك لا تنفي انتفاع الإنسان بعمل غيره إذا كان للإنسان المنتفع سعي فيه و لو بإيجاد أرضيةصالحة للانتفاع به في ذاته، في قبال من لا توجد في نفسه و ذاته مثل هذه الأرضية و الاستعداد و القابلية و المقتضى.

فمثلًا الإنسان ينتفع بشفاعة النّبي الأكرمصلى الله عليه و آله يوم القيامة باتفاق جميع المسلمين حتى الوهابيين، و لكن انتفاعه هذا ناشئ من أنّه سعى لهذا الانتفاع حيث دخل في حظيرة الإيمان باللَّه و آياته.

و كذلك الأمر في استغفار المؤمنين للمؤمن بعد موته، و كذا الأعمال الصالحة التي يهدى ثوابها إلى أحد و تكون على وجه يرتبط بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين.

و لذلك لو كان مشركاً أو ممّن تحبط أعماله، لا يصل إليه ذلك الثواب و لا ينتفع بعمل الغير.

و قد تفطّن لهذا الجواب بعض أئمة أهل السنّة.

قال أبو الوفاء بن عقيل: إنّ الإنسان بسعيه و حسن معاشرته اكتسب الأصدقاء و أولد الأولاد و تزوّج و أسدى الخير و تودّد للناس، فنشأ عن ذلك أنّهم


1- البقرة: 114.

ص:472

ترحّموا عليه و أهدوا له العبادات، و قد كان ذلك من آثار سعيه كما قالصلى الله عليه و آله: «إنّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه» و يدلّ على ذلك الحديث الآخر: «و إذا مات العبد انقطع عمله إلّا من ثلاث..».

و قال الشيخ الفقي: «هذا جواب يحتاج إلى إتمام؛ فإنّ العبد بإيمانه و طاعته للَّه و رسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله؛ فإنّ المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة؛ فإنّ كلّ واحد منهم تضاعفصلاته إلى سبع و عشرين ضعفاً لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سبباً لزيادة أجره، كما أنّ عمله كان سبباً لزيادة أجر الآخر.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، و إنّما نفى ملكه لغير سعيه، و بين الأمرين فرق كبير، فأخبر تعالى أنّه لا يملك إلّا سعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، و إن شاء أن يبقيه لنفسه، فهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلّا بما سعى «(1)».

الوجه الثالث:

إنّ الآية بصدد بيان أنّ عمل كل إنسان راجع إليه دون غيره، و أين هذا من عدم انتفاع الإنسان بعمل الغير؟ فإنّه غير داخل في منطوق الآية و لا في مفهومها، و لا الآية ناظرة إلى نفيه.

و إن شئت قلت: إنّ الآية بصدد بيان أنّ كلّ إنسان رهن عمله، فإن عمل شراً فلا يتحمّله غيره «و لا تَزرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى» «(2)»

، و إن عمل خيراً فيسعد به و يرى عمله و سعيه ف «الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير و إن شراً فشر» و «مَنْ عَمِلَصالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» «(3)»، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*


1- التوسّل و الزيارة: 234.
2- الإسراء: 15.
3- الجاثية: 15.

ص:473

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» «(1)»، و هذه هي الضابطة الأصلية في حياة الإنسان عاجلًا و آجلًا، و ليس لأحد رفضها و الاعتماد على غيرها، و لكنّ هذا لا ينافي جواز أن يهدي العامل ثواب عمله إلى غيره و يسعد الغير به، فهو خارج عن مفاد الآية إيجاباً و سلباً.

و هذا مثل قول الوالد لولده: إنّما تنتفع بتجارتك و سعيك، و إنّ سعي كلّ إنسان له نفسه لا للغير، و هذا لا ينافي أن ينتفع هذا الولد بعمل غيره إذا أهدى إليه ذلك الغير شيئاً من الطعام و الفواكه و الألبسة بنيّات مختلفة، فليس للولد حينئذ أن يعترض على والده و يقول: إنّك قلت إنّك تنتفع بسعيك مع أنّني انتفعت بسعي الغير؛ إذ للوالد أن يقول: إنّ كلامي في نفس العمل الصادر منك و من غيرك، فكلّ يملك عمل نفسه و لا يتجاوزه، و لكن كلامي هذا ليس ناظراً إلى ما لو وهب أحد حصيلة سعيه إليك بطيبة نفسه.

و كيف يمكن أن نقول بما يقوله هذا الوهابي و نظراؤه و قد تضافرت الآيات و الأحاديث- كما مر عليك بعضها- بانتفاع الإنسان بعمل الغير في ظروف معيّنة، و تحت شرائط خاصة و إن لم يكن له أدنى سعي فيها.

هذه الآية تشير إلى نكتة و هي: أنّه يجب على الإنسان الاعتماد على السعي و العمل لا على الحسب و النسب، و إلّا يكون المسلم مثل اليهود الذين كانوا يتمنّون تمنّي الحمقى إذ كانوا يعتمدون علىصلتهم و انتمائهم إلى الأنبياء بقولهم: «نَحنُ أبناءُ اللَّهِ و أحبّاؤهُ» «(2)»

أو قولهم: «لَنْ تَمسَّنا النّار إلّا أيّاماً مَعدودَة» «(3)»


1- الزلزلة: 8- 7.
2- المائدة: 18.
3- البقرة: 80.

ص:474

نعم، هذه- كما قلنا- ليست ضابطة أصلية في سعادة الإنسان في دنياه و أُخراه، و ليس له أن يعتمد عليها و يتّخذها سنداً، و إن كان أمراًصحيحاً في نفسه، و ليس كل أمرصحيح يصح أن يعتمد عليه الإنسان و يعيش عليه كشفاعات الأنبياء و الأولياء، فلا يجوز ترك العمل بحجة أنّهم يشفعون.

الشبهة الثالثة

دلّت السنّة على أنّ الإنسان ينقطع عملُه بعد موتهِ إلّا عن أُمور ثلاثة؛ إذ يقولصلى الله عليه و آله:

«إذا ماتَ الإنسان انقطع عملُه إلّا من ثلاث:صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍصالح يدعو له» و ليس عمل الغير أحد هذهِ الأُمور الثلاثة، فلا ينتفع به.

يلاحظ عليه:

أنّ الحديث يدلّ على أنّ عمل الإنسان ينقطع بموته إلّا عن ثلاثة، و لا يدلّ على أنّه لا ينتفع بشي ء من غير هذه الثلاثة، و كم فرق بين القول بالانقطاع و عدم الانتفاع؛ فإنّ الأوّل ناظر إلى الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حال حياته؛ فإنّها تنقطع بالموت بالضرورة إلّا ما كان له وجود استمراري كالأُمور الثلاثة، و أمّا الثاني فهو تعبير أعمّ ممّا يقوم به الإنسان بنفسه، أو يقوم به الغير، فلا ينفي الحديث انتفاع الإنسان بعمل قام به الغير و أهدى ثوابَه إليه.

بعبارة أُخرى: الموضوع في الحديث هو الأعمال التي للإنسان فيها دور مباشر، أو تسبيباً كالولد، و أَمّا الأعمال الخارجة عن هذا الإطار، التي ليست للإنسان فيها أية مدخلية إلّا بإيجاد الأرضية الصالحة فهي خارجة عن موضوع الحديث.

ص:475

الشبهة الرابعة

الحوالة إنّما تكون بحق لازم، و هي تتحقّق في حوالة المخلوق على المخلوق، و أمّا حوالة المخلوق على الخالق فأمر آخر؛ لا يصح قياسه على حوالة العبيد بعضهم على بعض.

الجواب: إن هذا الموقف و هذا الكلام اجتهاد في مقابل النص، فقد تضافرت الأدلّة على أنّ الميت ينتفع بعمل الحي، و قد عرفت نصوصه كتاباً و سنّة، و بعد هذا فما معنى هذا الاستدلال؟

أضف إليه أنه ليس هناك حوالة مخلوق على الخالق، و إنما هو امتثال لأمره سبحانه بأن نستغفر للمؤمنين و نصوم و نصلّي عنهم و نحجّ و ننحر عنهم، و إنّا لو فعلنا ذلك لانتفع الأموات، و نحن نقوم بذلك حَسب أمر النبي، و ليس هناك حوالة مخلوق على اللَّه.

ثمّ هَبْ أنّ الثواب على العمل تفضلي لا استحقاقي و له سبحانه أن لا يعطي شيئاً للعامل، و لكنّه سبحانه تفضّل و جعل ثواباً على العمل ثمّ رخص في أن يؤتى العمل بنية الميت و من جانبه و أنه سيصل إليه الثواب، بل و تبرأ ذمته، فلا يصح لنا اللجاج و العناد في مقابل النصوص تعصّباً للمنهج.

الشبهة الخامسة

أنّ العبادات على قسمين: قسم يمكن فيه النيابة كالصدقة و الحج، و قسم لا يمكن فيه النيابة كالإسلام و الصلاة و قراءة القرآن و الصيام، فهذا النوع يختصّ ثوابه بفاعله لا يتعدّاه و لا ينتقل عنه لغيره.

ص:476

و الجواب: إنّ هذا أيضاً اجتهاد في مقابل النص، فما الدّليل على هذه التفرقة و قد شرّع النبي الصومَ عن الميتِ مع أَنّ الصوم لا تدخله النيابة؟ و اللَّه الذي وعد الثواب للحج و الصدقة و العتق يتفضّل بإيصال ثواب الصيام و الصلاة و القراءة و غيرها مما يصح أن يفعله الغير تبرّعاً إلى الميت.

و ما ذا تقولون في قوله صلى الله عليه و آله: «أيّما ميّت مات و عليهصيام فليصمه عنه وليُّه» «(1)» و هو حديثصحيح.

و قال البيهقي: قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير، و مجاهد، و عطاء، و عكرمة، عن ابن عباس، و في رواية بعضهم: «صومي عن أُمّك».

و قد روى أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول اللَّه إنّ أُمّي ماتت، و عليهاصيام شهر أ فَأَقْضِي عنها؟ فقال النبيصلى الله عليه و آله: «لو كان عليها دين أ كنتَ قاضيه عنها؟» قال: نعم، قال: «فدين اللَّه أحق أنْ يُقضى».

و أخرج أصحاب السنن، و ابن حبان، و الحاكم في المستدرك، و البيهقي في «الشعب» و الإمام أحمد عنهصلى الله عليه و آله: «يس قلب القرآن و لا يقرؤُها رجل يريد اللَّه و الدار الآخرة إلّا غفر له و اقرأوها عند موتاكم».

و روى البيهقي: أنّ ابن عمر استحب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة البقرة و خاتمتها.

الشبهة السادسة

اشارة

إنّ اللام في قولهم: هذا للنبي أو للإمام أو للولي أو للوالد، هو نفس اللام الموجودة في قولنا: نذرت للَّه، أو للَّه عليّ.


1- مسند أحمد 6: 69.

ص:477

و على ذلك فإنّ النذر للأموات شرك و عبادة لهم، بحجة اشتراك العملين في الصورة.

و لكن المتوهم غفل عن اختلاف معنى اللام في الموردين: فاللّام في قوله هذا للنبي، نفس اللام الواردة في قوله تعالى: «إنّما الصدقاتُ للفقراء و المساكين...» «(1)»

و يختلف معناها مع الموجود في قوله: «ربِّ إنّي نذرتُ لكَ ما في بطني محرَّراً» «(2)»

، فإن اللام فيه للغاية، و بين المعنيين بون بعيد، و الذي يضفي على العمل لون العبادة كون الشخص هو الغاية و المقصد لا المهدى إليه.

ثمّ يجب أن لا نحصر جواز إهداء الثواب في الأعمال المذكورة في الروايات، بل نعمّم الجواز بحيث يشمل جميع الأعمال، و ذلك بإلغاء الخصوصية، فكما يجوز إهداء ثواب الصدقة و الحج و العتق يجوز إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الموتى.

خاصة و أنّ هناك أحاديث مروية عن أهل البيت عليهم السلام جوّزت مثل هذا العمل، و سوّغت إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الميت، وصرّحت بوصوله إليه و انتفاعهِ به، فلما ذا يترك رأي أهل البيت عليهم السلام و يكتفى بقول أحد أئمة المذاهب الأربعة؟!

أ فلا ينبغي الرجوع إلى قول أهل البيت عليهم السلام إلى جنب أقوال أئمة المذاهب الأربعة على قدم المساواة؟!

و أظن إن للقوم وراء هذا الإنكار أهدافاً خطيرة، و هو: أن القول بعدم انتفاع الموتى من عمل الأحياء ذريعة لإنكار حياتهم، و بالتالي فإنّ الأنبياء و الأولياء أموات لا ينتفعون بشي ء مما يقدم إليهم من أحبائهم و شيعتهم.

فإذا كانوا كذلك فما معنى التوسل و الاستغاثة بهم و ندائهم؟


1- التوبة: 60.
2- آل عمران: 35.

ص:478

كلمة في النذور
اشارة

قد تفضّل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فضحّى عن أُمّته أَحياءً و أَمواتاً و ضحّى الصحابة و التابعون عن نبيهم، فقد أخرج ابن ماجة و عبد الرزاق و غيرهما عن عائشة و أبي هريرة: أن النبيصلى الله عليه و آله كان إذا أراد أن يُضحِّي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين... فذبح أحدهما عن محمّدٍ و آل محمّد و الآخر عن أُمّته من شهد للَّه بالتوحيد و له بالبلاغ.

و أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي: أنّ النبي ذبح بيده و قال: «اللّهمّ هذا عنّي و عمّن لم يُضحِّ من أُمّتي» وصريح ذلك وصول الثواب إليهم و انتفاعهم.

روى أبو داود بسنده في باب الأضحية عن الميت، عن علي بن أبي طالب: إنّه كان يضحي عن النبي بكبش و كان يقول: «أوصاني أن أُضحي عنه فأنا أُضحي عنه» «(1)»

ما يترتّب على هذا الأصل:

و يترتب على هذا الأصلصحة عمل المسلمين؛ حيث يقومون بأعمال حسنةصالحة، و ربما أهدوا ثوابها إلى أحبائهم و أعزّتهم الموتى، و هو أمر يوافق عليه الكتاب و السنّة، بلصرّحا به تصريحاً.

فما يقوم به المسلمون لموتاهم من إهداء ثواب الأعمال الصالحة لهم، أو ما يفعلونه عند قبور الأنبياء و الأولياء من إطعام الطعام، و تسبيل الماء بنيّة أن يصل ثوابُها إليهم إنّما يقتدون فيها بسعد بن عبادة الذي سأل النبي عن حكم الصدقة عن


1- سنن أبي داود ج 2 ص 94 رقم الحديث 2790، كتاب الضحايا.

ص:479

أُمِّه أ ينفعها؟ فقال صلى الله عليه و آله: «نعم»، فقال: فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: «الماء»، فحفر بئراً، و قال: هذه لأُمّ سعدٍ.

فهم في هذا سعديون لا وثنيون، لا يريدون عبادة الموتى، بل يريدون إيصال الثواب إليهم كما فعل سعد.

ص:480

ص:481

الفصل السادس الشفاعة في الكتاب و السنّة

اشارة

ص:482

ص:483

تمهيد

تمهيد

يتّسم الدين الإسلامي في أبرز ما يتّسم به، بأنّه دين الدنيا و الآخرة، و من هنا يجب على المسلم أن يهتم بالجانبين، فيعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، و يتزوّد من حياته الحاضرة لحياته الأبديّة المستقبلة كما قال تعالى: «وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» «(1)»

و لهذا كان من الواجب على المسلم أن يعمل بالفرائض الدينية، و يتجنّب المحرّمات الإلهية، و يلتزم بقواعد الشرع الحنيف، جهد إمكانه، فيصلّي الخمس، و يصوم شهر رمضان، و يزكّي ماله، و يحجّ بيت اللَّه الحرام، و يأمر بكل خير قَدِر عليه، و يعتمد في تحصيل السعادة الأُخروية على العمل الصالح، و الطاعة للَّه تعالى، كيف و قد نصّت الآيات القرآنية على أنّ كلّ امرئ مرهون بعمله، إن خيراً فخير و إن شراً فشر؟!

كما نصّت الأحاديث الشريفة المأثورة عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و عترته الطاهرة وصرّحت بضرورة العمل و الطاعة للحصول على النجاة و السعادة الأُخرويّتين.


1- القصص: 77.

ص:484

فقد روي أنّ الإمام الصادق عليه السلام أمر بحضور جميع أقربائه قبيل وفاته، ثمّ التفت إليهم و أكّد على أهمية الصلاة. و إليك الحديث بأكمله:

روى أبو بصير عن أصحاب الإمام قال: دخلت على أُمّ حميدة (زوجة الإمام جعفر الصادق عليه السلام) أُعزِّيها بأبي عبد اللَّه عليه السلام فبكت و بكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد اللَّه عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه، ثمّ قال:

«اجمعوا كلّ من بيني و بينه قرابة».

قالت: فما تركنا أحداً إلّا جمعناه، فنظر إليهم ثمّ قال: «إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة» «(1)»

.

فليس للمسلم أن يعول على شي ء إذا أهمل الواجبات و ترك الفرائض، أو استهان بها.

نعم، خلق الإنسان ضعيفاً- بحكم جبلته- محاصَراً بالشهوات، محاطاً بالغرائز، و لذلك ربما سها و لها، و ربّما بدرتْ منه معصية، و استحوذ عليه الشيطان، و وقع في شباكه و شراكه، فعصى من حيث لا يريد، و خالف من حيث لا يجب، ثمّ تعرّض لضغط الوجدان، و وخْزِ الضمير، فهل له أن ييأس في هذه الحالة و يقنط، و قد قال ربّ العزّة: «لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» «(2)»

كلّا ليس له إلّا الرجاء في رحمة اللَّه، و الأمل في عفوه و لطفه، و قد فتح الإسلام نوافذ الأمل و الرجاء أمام العاصي النادم، ليعود إلى ربه، و يواصل مسيرة تكامله في ثقة و طمأنينة.

و من هذه النوافذ: التوبة و الإنابة و الاستغفار، و منها: الشفاعة للمذنبين، الشفاعة التي تنالهم وفق معايير وردت في الكتاب و السنّة، الشفاعة التي يبعث


1- الوسائل 3: 71.
2- يوسف: 87.

ص:485

الأمل فيها بصيصاً من الرجاء في نفوس العصاة، و يمنع من قنوطهم و يأسهم، و يبعث فيهم روح العمل و النشاط.

و هذا لا يعني تمهيد الطريق للعصاة، لما للشفاعة من شروط و قيود، بل هي عملية زرع الأمل، و الرجاء في النفوس، ما دام الأصل هو العمل و الإتيان بالواجبات و اجتناب المحرمات.

و توضيحاً لهذه الحقيقة، و تبييناً لهذا المفهوم القرآني الإسلامي أعددنا هذا الفصل، آملين أن نلقي الضوء على إحدى السبل الإسلامية لمعالجة اليأس و القنوط الذي يصيب المذنبين و يقع الكلام في مباحث.

ص:486

موقف علماء الإسلام من الشفاعة

المبحث الأوّل موقف علماء الإسلام من الشفاعة

أجمع علماء الأُمّة الإسلاميّة على أنّ النبيّصلى الله عليه و آله أحد الشفعاء يوم القيامة مستدلّين على ذلك بقوله سبحانه: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» «(1)» و الذي أُعْطي هو حقّ الشفاعة الذي يُرضيه، و بقوله سبحانه: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» «(2)» و اتّفق المفسّرون على أنّ المقصود من المقام المحمود، هو مقام الشفاعة.

إنّ الشفاعة من المعارف القرآنية التي لا يصح لأحد من المسلمين إيجاد الخلاف و النقاش في أصلها، و إن كان يمكن لهم الاختلاف في بعض فروعها، فها نحن نورد آراء كبار علماء الإسلام- من القدامى و الجدد- حتى يُعلَم موقفهم من هذا الأصل:

1- أبو منصور الماتريدي السمرقندي (ت 333 ه)، إمام أهل السنّة في المشرق الإسلامي، قال بعد أن أورد قوله سبحانه: «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» «(3)»،


1- الضحى: 5.
2- الإسراء: 79.
3- البقرة: 48.

ص:487

و قوله تعالى: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» «(1)» قال: إنّ الآية الأُولى و إن كانت تنفي الشفاعة، و لكن هنا شفاعة مقبولة في الإسلام و هي التي تشير إليها هذه الآية «(2)».

2- تاج الإسلام أبو بكر الكلاباذي (ت 380 ه) قال: إنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ الإقرار بجملة ما ذكر اللَّه سبحانه و جاءت به الروايات عن النبيصلى الله عليه و آله في الشفاعة واجب، لقوله تعالى: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» «(3)» و لقوله: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» «(4)» و قوله: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» «(5)». و قال النبيصلى الله عليه و آله: «شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي» «(6)».

3- الشيخ المفيد (336- 413 ه) قال: اتّفقت الإماميّة على أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته، و إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، و إنّ أئمة آل محمد: كذلك، و ينجي اللَّه بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين «(7)».

و قال في موضع آخر: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يشفع يوم القيامة في مذنبي أُمّته فيشفّعه اللَّه عزّ و جلّ، و يشفع أمير المؤمنين فيشفّعه اللَّه عزّ و جلّ، و تشفع الأئمة في مثل ما ذكرناه فيُشفّعهم اللَّه، و يشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته، و يشفّعه اللَّه. و على هذا القول إجماع الإمامية إلّا من شذّ منهم، و قد نطق


1- الأنبياء: 28.
2- تفسير الماتريدي المعروف ب« تأويلات أهل السنّة»: ص 148، و المشار إليه هي الآية الثانية.
3- الضحى: 5.
4- الإسراء: 79.
5- الأنبياء: 28.
6- التعرّف لمذهب أهل التصوّف: ص 54- 55 تحقيق د. عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق.
7- أوائل المقالات، ص 15.

ص:488

به القرآن، و تظاهرت به الأخبار، قال اللَّه تعالى في الكفّار عند إخباره عن حسراتهم و على الفائت لهم ممّا حصل لأهل الإيمان: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَ لاصَدِيقٍ حَمِيمٍ» «(1)»؛ و قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله «إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، و يشفع عليّ عليه السلام فيشفّع، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه» «(2)»

.

4- الشيخ الطوسي (385- 460 ه) قال: حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في إسقاط المضار دون زيادة المنافع، و المؤمنون عندنا يشفع لهم النبيصلى الله عليه و آله فَيشفِّعه اللَّه تعالى و يسقط بها العقاب عن المستحقين من أهل الصراط لما روي من قوله عليه السلام:

«ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي، و الشفاعة ثبت عندنا للنبي، و كثير من أصحابه و لجميع الأئمة المعصومين و كثير من المؤمنين الصالحين» «(3)»

.

5- الإمام أبو حفص النسفي (ت 538 ه) قال: و الشفاعة ثابتة للرسل و الأخيار في حقّ الكبائر بالمستفيض من الأخبار «(4)».

و قد أيّد التفتازاني في «شرح العقائد النسفية» هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد أو توقّف «(5)».

6- الزمخشري (ت 538 ه) قال في تفسير قوله تعالى: «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» «(6)»: كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فَأُويِسوا.

ثمّ أتى بكلام في حد الشفاعة و أنّها للمطيعين لا للعاصين، و سنوافيك عن ذلك


1- الشعراء: 100- 101.
2- أوائل المقالات: ص 53.
3- التبيان 1: 213- 214.
4- العقائد النسفية: ص 148.
5- المصدر نفسه.
6- البقرة: 48.

ص:489

في فصل خاص «(1)».

7- القاضي عياض بن موسى (ت 544 ه) قال: مذهب أهل السنّة هو جواز الشفاعة عقلًا و وجودها سمعاً بصريح الآيات و بخبر الصادق، و قد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحّة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، و أجمع السلف الصالح و من بعدهم من أهل السنّة عليها «(2)».

8- الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الاسكندري المالكي قال في كتابه «الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال»: و أمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها، و أمّا من آمن بها وصدّقها و هم أهل السنّة و الجماعة فأُولئك يرجون رحمةَ اللَّه، و معتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين و إنما ادّخرت لهم، و ليس في الآية دليل لمنكريها؛ لأنّ قوله «يوماً» في قوله: «(3)» «وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» أخرجه منكراً. و لا شك أنّ في القيامة مواطن، يومها معدود بخمسين ألف سنة. فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة و بعضها هو الوقت الموعود، و فيه المقام المحمود لسيّد البشر، عليه أفضل الصلاة و السلام.

و قد وردت آيات كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها و اختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى: «فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ» «(4)»، مع قوله: «وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» «(5)»، فيتعيّن حمل الآيتين على يومين مختلفين و وقتين


1- الكشاف 1: 314- 315.
2- صحيح مسلم بشرح النووي 3: 35، ط دار إحياء التراث العربي.
3- البقرة: 48.
4- المؤمنون: 101.
5- الصافات: 27.

ص:490

متغايرين، أحدهما محل للتساؤل، و الآخر ليس له، و كذلك الشفاعة، و أدلّة ثبوتها لا تُحصى كثرة «(1)».

9- البيضاوي قال في تفسير قوله تعالى: «وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» «(2)»: ربّما تجعل الآية ذريعة على نفي الشفاعة لأهل الكبائر. و أُجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفّار، للآيات و الأحاديث الواردة في الشفاعة. و يؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفّار، و الآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم «(3)».

10- الفتال النيسابوري- من علماء القرن السادس الهجري- قال: لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة مقتضاها إسقاط المضار و العقوبات «(4)».

11- الرصاص- من علماء القرن السادس الهجري- قال في كتابه «مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم»: إنّ شفاعة النبيصلى الله عليه و آله يوم القيامة ثابتة قاطعة «(5)».

12- ابن تيمية الحرّاني الدمشقي (ت 728 ه) قال: للنبيصلى الله عليه و آله في يوم القيامة ثلاث شفاعات- إلى أن قال:- و أمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحقّ النار و هذه الشفاعة لهصلى الله عليه و آله و لسائر النبيّين و الصدّيقين و غيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها و يشفع في من دخلها «(6)».

13- ابن كثير الدمشقي (ت 773 ه) قال في تفسير قوله سبحانه: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» «(7)»: هذا من عظمته و جلاله و كبريائه عزّ و جلّ أنّه لا


1- الانتصاف المطبوع بهامش الكشاف 1: 214، ط 1367 ه.
2- البقرة: 48.
3- أنوار التنزيل و أسرار التأويل 1: 152.
4- روضة الواعظين: 406.
5- مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف ب ثلاثين مسألة.
6- مجموعة الرسائل الكبرى 1: 403- 404.
7- البقرة: 255.

ص:491

يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلّا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة عن الرسولصلى الله عليه و آله: «آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً، فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني، ثمّ يقال: ارفع رأسك و قل تسمع، و اشفع تشفع. قال: فيحدّ لي حدّاً فأدخلهم الجنّة» «(1)»

.

14- نظام الدين القوشجي (ت 879 ه) قال في شرحه على «تجريد الاعتقاد»: اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» و فسّر بالشفاعة «(2)».

15- المحقّق الدواني قال: الشفاعة لدفع العذاب، و رفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء، و المؤمنين بعضهم لبعض، لقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا» «(3)».

16- الشعراني قال في المبحث السبعين: إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة، و أوّل مشفّع و أولاه فلا أحد يتقدّم عليه، ثمّ نقل عن جلال الدين السيوطي: إنّ للنبيصلى الله عليه و آله يوم القيامة ثمان شفاعات، و ثالثها: فيمن استحقّ دخول النار أن يدخلها «(4)».

17- العلّامة المجلسي (ت 1110 ه) قال: أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين و ذلك بأنّ الرسول يشفع لأُمّته يوم القيامة، بل للأُمم الأُخرى، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة و آثارها هل هي بمعنى الزيادة في المثوبات، أو إسقاط العقوبة عن المذنبين؟ و الشيعة ذهبت إلى


1- تفسير ابن كثير 1: 309. و الحديث مروي في صحيح البخاري في تفسير سورة الإسراء، ج 6، لكن بلفظ آخر.
2- شرح التجريد: ص 501، ط 1307 ه.
3- شرح العقائد العضدية: ص 207، ط مصر.
4- اليواقيت و الجواهر 2: 170.

ص:492

أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب و إن كانت ذنوبهم من الكبائر، و يعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبيصلى الله عليه و آله و الأئمة من بعده، بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن اللَّه لهم بذلك «(1)».

18- محمد بن عبد الوهاب (1115- 1206 ه) قال: و ثبتت الشفاعة لنبينا محمدصلى الله عليه و آله يوم القيامة و لسائر الأنبياء و الملائكة و الأولياء و الأطفال حسبما ورد، و نسألها من المالك لها و الآذن فيها بأن نقول: اللّهمّ شفِّعْ نبينا محمداً فينا يوم القيامة أو اللّهمّ شَفِّعْ فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من اللَّه لا منهم- إلى أن قال:- إنّ الشفاعة حقّ في الآخرة، و وجب على كلّ مسلم الإيمان بشفاعته، بل و غيره من الشفعاء إلّا أنّ رجاءها من اللَّه، فالمتعيّن على كل مسلمصرف وجهه إلى ربّه، فإذا مات استشفع اللَّه فيه نبيه «(2)».

19- السيد سابق قال: المقصود بالشفاعة سؤال اللَّه الخير للناس في الآخرة.

فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب، و منها الشفاعة الكبرى، و لا تكون إلّا لسيّدنا محمد رسول اللَّه؛ فانّه يسأل اللَّه سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف، فيستجيب اللَّه له فيغبطه الأوّلون و الآخرون، و يظهر بذلك فضله على العالمين و هو المقام المحمود الذي وعد اللَّه به في قوله سبحانه: «وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» «(3)». ثمّ نقل الآيات و الروايات الخاصة بالشفاعة و المثبتة لها و قد ذكر بعض شروط قبولها «(4)».

20- الدكتور سليمان دنيا قال: و الشفاعة لدفع العذاب و رفع الدرجات حقّ


1- بحار الأنوار 8: 29- 63؛ حق اليقين: ص 473.
2- الهدية السنية، الرسالة الثانية: ص 42.
3- الإسراء: 79.
4- العقائد الإسلامية: ص 73.

ص:493

لمن أذن له الرحمن من الأنبياء: و المؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا» «(1)» و قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» «(2)» «(3)».

21- الشيخ محمد الفقي قال: و قد أعطى اللَّه الشفاعة لنبيه و لسائر الأنبياء و المرسلين و عباده الصالحين و كثير من عباده المؤمنين؛ لأنّه و إن كانت الشفاعة كلّها للَّه كما قال: «لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» «(4)» إلّا أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه و اصطفاهم من عباده و كما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء و لا حرج «(5)».

هذا نزر من كثير، و غيض من فيض أوردناه ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام من هذه المسألة المهمة. و الاستقصاء لكلمات المفسّرين و المحدّثين و المتكلّمين، يدعونا إلى تأليف مفرد في خصوص هذا الفصل و الغرض إراءة نماذج من كلماتهم. و هي نصوص و تصريحات لا تترك ريباً لمرتاب، و لا شكاً لأحد بأنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق بها الكتاب الكريم، وصرّحت بها السنّة النبوية و الأحاديث المعتبرة من العترة الطاهرة، و أنّ الاختلاف إنّما هو في معناها و بعض خصوصياتها و سنوافيك بالتفاصيل.


1- طه: 109.
2- البقرة: 255.
3- محمد عبده، بين الفلاسفة و الكلاميين 2: 628.
4- الزمر: 44.
5- التوسل و الزيارة في الشريعة المقدسة، ص 206، ط. مصر.

ص:494

الشفاعة في القرآن الكريم

المبحث الثاني الشفاعة في القرآن الكريم

اشارة

وردت مادة الشفاعة في القرآن الكريم بصورها المتنوعة ثلاثين مرّة في سور شتّى، و وقعت فيها مورداً للنفي تارة و الإثبات أُخرى. هذا و ينمّ كثرة ورودها و البحث حولها عن مدى اهتمام القرآن بهذا الأصل سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات. غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات علىصعيد واحد، حتى يفسّر بعضها بعضاً و يكون البعض قرينة على الأُخرى.

و من الواضح أنّ الآيات المتعلّقة بالشفاعة على أصناف، يرمي كلّصنف إلى هدف خاص كالآتي:

1- الصنف الأوّل: ما ينفي الشفاعة

و هو آية واحدة، يقول سبحانه و تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» «(1)»:


1- البقرة: 254.

ص:495

إلّا أنّ الآية اللاحقة لهذه الآية تصرّح بوجود الشفاعة عند اللَّه سبحانه، إلّا أنّها مشروطة بإذنه: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» «(1)».

قال العلّامة الطباطبائي: «إنّ لوازم المخالّة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره، فإذا كانت لغير وجه اللَّه كان نتيجتها الإعانة على الشقوة الدائمة و العذاب الخالد كما قال تعالى بشأن الظالمين يوم القيامة: «يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا 28 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي» «(2)». أمّا الأخلّاء من المتقين فإنّ خُلَّتهم تتأكد و تنفعهم يومئذٍ. و في الخبر النبوي: إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام و قلّت الأنساب و ذهبت الإخوة إلّا الأخوة في اللَّه، و ذلك قوله: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» «(3)» «(4)».

و على ذلك، فكما أنّ المنفيّ هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها، فهكذا الشفاعة، فالمنفيّ بحكم السياق، قسم خاص من الشفاعة. أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية، حيث قال:

«وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

2- الصنف الثاني: ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

و هو الآيات التي خاطبت اليهودَ الذين كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم و أسلافهم يشفعون لهم و ينجُّوهم من العذاب سواء كانوا عاملين بشريعتهم أو عاصين، و أنّ مجرد الانتماء و الانتساب يكفيهم في ذلك المجال. يقول تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ


1- البقرة: 255.
2- الفرقان: 28- 29.
3- الزخرف: 67.
4- تفسير الميزان 18: 128.

ص:496

اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» «(1)».

إنّ وحدة السياق تقضي بأنّ الهدفَ من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في تلك الفترة من دون أن يشترطوا في الشفيع و المشفوع له شرطاً أو أمراً. و لاصلة لها بالشفاعة المحدودة المأذونة.

3- الصنف الثالث: ما ينفي شمولَ الشفاعة للكفّار

و هو الآيات التي يستشف منها نفي وجود الشفيع يوم القيامة للكفّار الذين انقطعت علاقتهم عن اللَّه لأجل الكفر به و برسله و كتبه، كما انقطعت علاقتهم الروحية عن الشفعاء الصالحين لأجل انهماكهم في الفسق و الأعمال السيّئة، فانّه ما لم يكن بين الشفيع و المشفوع له، ارتباطٌ روحي لا يقدر أو لا يقوم الشفيع على إنقاذه و تطهيره و تزكيته. يقول تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» «(2)» و يقول تعالى أيضاً: «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ* فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَ لاصَدِيقٍ حَمِيمٍ» و يقول أيضاً: «وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ* فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» «(3)».


1- البقرة: 47- 48.
2- الأعراف: 53.
3- المدثر: 46- 48.

ص:497

4- الصنف الرابع: ما ينفيصلاحية الأصنام للشفاعة

و هذا الصنف يرمي إلى نفيصلاحية الأصنام للشفاعة، و ذلك لأنّ عرب الجاهلية كانت تعبد الأصنام لاعتقادها بشفاعتها عند اللَّه، و هذه الآيات هي:

أ- «وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» «(1)».

ب- «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» «(2)».

ج- «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» «(3)».

د- «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ» «(4)».

ه- «أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ» «(5)».

و الحاصل أنّ القرآن مع أنّه فنّد العقائد الجاهلية و عقائد الوثنيين في باب الشفاعة، و أبطل كون النظام السائد في الآخرة عين النظام السائد في الدنيا، لم يُنكِر الشفاعة بالمرّة، بل أثبتها لأوليائها، في إطار خاص و بمعايير خاصة. و على ذلك فالآيات النافية نزلت بشأن تلك العقيدة السخيفة التي التزمت بها الوثنية و زعمت


1- الأنعام: 94.
2- يونس: 18.
3- الروم: 13.
4- الزمر: 43.
5- يس: 23.

ص:498

بموجبها وحدة النظامين، و أنّ تقديم القرابين و الصدقات إلى الأصنام و الخشوع و البكاء لديهم، يُصحِّح قيامهم بالشفاعة و أنّهم قادرون على ذلك بتفويض منه سبحانه إليهم، بحيثصاروا مستقلين في الفعل و الترك.

و الآيات المثبتة تشير إلى الشفاعة الصحيحة التي ليست لها حقيقةٌ سوى جريان فيضه سبحانه و مغفرته من طريق أوليائه إلى عباده بإذنه و مشيئته تحتَ شرائط خاصة.

5- الصنف الخامس: يخصّ الشفاعة به سبحانه

و هذه الآيات تبيّن أنّ الشفاعة مختصّة باللَّه سبحانه لا يشاركه فيها غيره، و الآيات الكريمة هي:

أ- «وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» «(1)».

ب- «وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ» «(2)».

ج- «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ» «(3)».

د- «قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» «(4)».

و جدير بالذكر أنّ اللَّه سبحانه لا يشفع لأحد عند أحد؛ فإنّه فوق كل شي ء،


1- الأنعام: 51.
2- الأنعام: 70.
3- السجدة: 4.
4- الزمر: 44.

ص:499

و ذلّ كل شي ء لديه، و بذلك يُصبح معنى قوله سبحانه: «لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» رفضاً لعقيدة المشركين التي أشار إليها سبحانه في آية سابقة، أعني: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ» «(1)»، فيكون المراد أنّ كل شفاعة فانّها مملوكة للَّه فانّه المالك لكل شي ء و منه شفاعتهم، فلا يشفع أحد إلّا بإذنه.

فهنا شفاعتان: إحداهما للَّه، و الأُخرى لعباده المأذونين. فما للَّه فمعناها: مالكيّته لكل شفاعة مأذونة بالأصالة لا أنّه سبحانه يشفع لأحد لدى أحد. و أما ما لعباده المأذونين، فهي شفاعتهم لمن ارتضاه سبحانه: و سنوافيك توضيحه في الصنف السادس من الآيات.

6- الصنف السادس: يثبت الشفاعة لغيره سبحانه بشروط

إنّ هذا الصنف من الآيات يصرّح بوجود شفيع غير اللَّه سبحانه و أن شفاعته تقبل عند اللَّه تعالى في إطار خاص و شرائط معيّنة في الشفيع و المشفوع له. و هذه الآيات و إن لم تتضمن أسماء الشفعاء، أو أصناف المشفوع لهم، إلّا أنّها تحدّد كلّاً منهما بحدود واردة في الآيات:

أ- «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» «(2)».

ب- «ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» «(3)».

ج- «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» «(4)».

و الضمير في قوله «لا يَمْلِكُونَ» يرجع إلى الآلهة التي كانت تعبد، و أُشير إليه


1- الزمر: 43.
2- البقرة: 255.
3- يونس: 3.
4- مريم: 87.

ص:500

في قوله سبحانه: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا* كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» «(1)».

د- «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا» «(2)».

ه- «وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» «(3)».

و- «وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» «(4)».

و الضمير المتّصل في «يدعون» يرجع إلى الآلهة الكاذبة كالأصنام فهؤلاء لا يملكون الشفاعة إلّا من شهد بالحق و هم يعلمون، أي شهد بعبوديّة ربّه و وحدانيّته كالملائكة و المسيح.

و يستفاد من هذه الآيات الأُمور التالية:

1- إنّ هذه الآيات تصرّح بوجود شفعاء يوم القيامة يشفعون بشروط خاصة و إن لم تصرّح بأسمائهم و سائر خصوصياتهم.

2- إنّ شفاعتهم مشروطة بإذنه سبحانه، حيث يقول: «إلّا بإذنه».

3- يشترط في الشفيع أن يكون ممّن يشهد بالحق، أي يشهد باللَّه سبحانه و وحدانيته و سائرصفاته.

4- أن لا يظهر الشفيع كلاماً يبعث غضب اللَّه سبحانه، بل يقول قولًا مرضياً عنده، و يدلّ عليه قوله: «وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا».


1- مريم: 81- 82.
2- طه: 109.
3- سبأ: 23.
4- الزخرف: 86.

ص:501

5- أن يعهد اللَّه سبحانه له بالشفاعة كما يشير إليه قوله: «إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً».

ثمّ إنّ هناك سؤالًا يطرح في هذا المقام، و هو كيف يصح الجمع بين هذا الصنف من الآيات التي تثبت الشفاعة لغيره سبحانه، و الصنف الخامس الذي يخصّها باللَّه سبحانه؟

و الجواب: أنّ مقتضى التوحيد في الأفعال، و أنّه لا مؤثر في عالم الكون إلّا اللَّه سبحانه، و لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه، و أنّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه و مشيئته، و الاعتراف بمثل العلل التابعة لا ينافي انحصار التأثير الاستقلالي في اللَّه سبحانه، و من ليس له إلمامٌ بالمعارف القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات؛ إذ كيف يمكن أن تنحصر شئون و أفعال، كالشفاعة، و المالكية، و الرازقية، و توفّي الأرواح، و العلم بالغيب، و الإشفاء باللَّه سبحانه، كما عليه أكثر الآيات القرآنية، بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير اللَّه من عباده. فكيف ينسجم هذا الانحصار مع هذه النسبة؟

غير أن الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ هذه الأُمور على وجه الاستقلال و الأصالة قائمة باللَّه سبحانه، مختصة به، في حين أنّ هذه الأُمور تصدر من الغير على وجه التبعية و في ظل القدرة الإلهية.

و قد اجتمعت النسبتان في قوله تعالى: «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى» «(1)». فهذه الآية عند ما تنسب الرمي بصراحة إلى النبي الأعظم، تَسْلِبه عنه و تنسِبه إلى اللَّه سبحانه، ذلك لأنّ انتساب الفعل إلى اللَّه (الذي منه وجود العبد و قوّته و قدرته) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد، بحيث ينبغي أن يعتبر الفعلُ فعلًا


1- الأنفال: 17.

ص:502

للَّه، و لكن شدّة الانتساب لا تسلب المسئولية عن العبد.

و على ذلك فإذا كانت الشفاعة عبارة عن سريان الفيض الإلهي (أعني: طهارة العباد عن الذنوب و تخلّصهم عن شوائب المعاصي) على عباده، فهي فعل مختصّ باللَّه سبحانه لا يقدر عليه أحد إلّا بقدرته و إذنه. و بذلك تصح نسبتُه إلى اللَّه سبحانه بالأصالة و إلى غيره بالتبيعة، و لا منافاة بين النسبتين، كالملكية، فاللَّه سبحانه مالك الملك و الملكوت، ملك السماوات و الأرض بإيجاده و إبداعه، ثمّ يملكه العبد منه بإذنه و لا منافاة في ذلك، لأنّ الملكية الثانية على طول الملكية الأُولى.

و نظيرها كتابة أعمال العباد، فالكاتب هو اللَّه سبحانه، حيث يقول: «وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» «(1)» و في الوقت نفسه ينسبها إلى رسله و ملائكته، و يقول: «بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» «(2)». فإذا كانت الملائكة و الأنبياء و الأولياء مأذونين في الشفاعة؛ فلا مانع من أن تنسب إليهم الشفاعة، كما تنسب إلى اللَّه سبحانه، غير أنّ أحدهما يملك هذا الحقّ بالأصالة و الآخر يملكها بالتبعية.

الصنف السابع: يُسمّى من تقبل شفاعتُه

اشارة

و يتضمّن هذا الصنف أسماء و خصوصيات من تُقْبل شفاعته يوم القيامة. و هذه الآيات هي:

أ- «وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» «(3)».


1- النساء: 81.
2- الزخرف: 80.
3- الأنبياء: 26- 28.

ص:503

و هذه الآيات تصرّح بأنّ الملائكة التي اتّخذها المشركون أولاداً للَّه سبحانه، معصومون من كل ذنب لا يسبقون اللَّه بالقول و هم بأمره يعملون، و لا يشفعون إلّا لمن ارتضاه اللَّه سبحانه، و هم مشفقون من خشيته.

ب- «وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى» «(1)».

و هذه الآية كالآية السابقة تفيد كون الملائكة ممّن ترضى شفاعتهم بإذن اللَّه سبحانه في حقّ من يشاء اللَّه و يرضاه.

ج- «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» «(2)».

و هذه الآية تعد حملة العرش و من حوله ممّن يستغفرون للّذين آمنوا. و الآية مطلقة؛ تشمل ظروف الدنيا و الآخرة. و هل طلب المغفرة إلّا الشفاعة في حقّ المؤمنين؟

هذه هي الأصناف السبعة من الآيات الواردة في الشفاعة. فهي غير نافية على وجه الإطلاق، و لا مثبتة كذلك، بل تثبتها تحت شروط خاصة و تصرّح بوجود شفعاء مأذونين و لا يذكر أسماءهم سوى الملائكة و ذلك للمصلحة الكامنة في هذا الإبهام، و لأجل أن يتميّز المقبول من المرفوض نورد خلاصة الآيات:

الشفاعات المرفوضة:

1- الشفاعة التي كانت تعتقدها اليهود الذين رفضوا كل قيد و شرط في جانب الشافع و المشفوع له، و اعتقدوا أنّ الحياة الأُخروية كالحياة


1- النجم: 26.
2- غافر: 7.

ص:504

الدنيوية، حيث يُمكن التخلّص من عذاب اللَّه سبحانه بالفداء. و قد ردّ القرآن في كثير من الآيات و قال: «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» «(1)» و قد أوردنا هذا في الصنف الثاني من الأصناف السبعة المذكورة.

2- الشفاعة في حقّ من قطعوا علاقاتهم الإيمانية مع اللَّه سبحانه فلم يؤمنوا به أو بوحدانيته أو بقيامته، أو أفسدوا في الأرض، و ظلموا عباده، أو غير ذلك ممّا يوجب قطع رابطة العبد مع اللَّه سبحانه حتىصاروا أوضح مصداق لقوله سبحانه:

«نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» «(2)»، و قوله سبحانه: «قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى» «(3)»، و قوله سبحانه: «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا» «(4)» إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حق المشركين و الكافرين و الظالمين و المفسدين؛ و هؤلاء كما قطعوا علاقتهم الإيمانية مع اللَّه سبحانه كذلك قطعواصلاتهم المعنوية مع الشافع، فلم تبق بينهم و بين الشافعين أيّة مشابهة تصحح شفاعتهم له.

و قد ورد في الصنف الثالث من الأصناف السبعة المذكورة ما يوضح هذا الأمر.

3- الأصنام التي كانت العرب تعبدها كذباً و زوراً، و قد نفى القرآن أن تكون هذه الأصنام قادرة على الدفاع عن نفسها فضلًا عن الشفاعة في حقّ عبادها.

(لمزيد من التوضيح راجع الصنف الرابع من الأصناف المذكورة).

هذه هي الشفاعات المرفوضة في القرآن الكريم.


1- البقرة: 48.
2- الحشر: 19.
3- طه: 126.
4- الأعراف: 51.

ص:505

الشفاعات المقبولة:

أما الشفاعات المقبولة فهي:

1- الشفاعة التي هي من حقّ اللَّه سبحانه، و ليس للمخلوق أن ينازعه في هذا الحق أو يشاركه فيه (لاحظ الصنف الخامس من الأصناف السبعة).

2- شفاعة فئة خاصة من عباد اللَّه سبحانه، الذين تقبل شفاعتهم عند اللَّه بشروط خاصة ذكرت في الآيات الواردة في الصنف السادس و إن لم تُذكَر أسماؤهم و خصوصياتهم.

3- شفاعة الملائكة و حملة العرش و من حوله، حيث يستغفرون للّذين آمنوا، فهؤلاء يقبل استغفارهم الذي هو قسم من الشفاعة، و الفرق بين هذا و ما تقدّم، هو أنّه قد ذكرت أسماء الشفعاء و خصوصياتهم في هذه الآيات دون ما تقدمها.

و بالوقوف على هذه الأصناف السبعة بإمكاننا تمييز الشفاعة المرفوضة عن المقبولة كما نصّ عليها القرآن الكريم.

ص:506

حقيقة الشفاعة

المبحث الثالث حقيقة الشفاعة

اشارة

إنّ الشفاعة في القرآن الكريم على معان أو أقسام ثلاثة:

أ- الشفاعة التكوينية.

ب- الشفاعة القيادية.

ج- الشفاعة المصطلحة.

أ- الشفاعة التكوينية

اتّفق الواعون من المسلمين على أنّه لا مؤثر مستقل في الوجود غيره سبحانه، و أنّ غيره مفتقر في الوجود و التأثير إليه سبحانه، و لأجل ذلكصار شعار القرآن في حق الإنسان و في حق غيره قوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» «(1)»


1- فاطر: 15- 17.

ص:507

و قوله سبحانه: «وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ» «(1)» و قال سبحانه على لسان نبيّه الكريم موسى عليه السلام: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» «(2)».

فبما أنّ عالم الكون عالم إمكاني لا يملك من لدن ذاته وجوداً و لا كمالًا، بل كلّ ما يملك من وجود و كمال فقد أُفيض إليه من جانبه سبحانه فهو بحكم الإمكان موجود مفتقر في عامة شئونه و تأثيره و علّيته.

و نظراً لتوقف تأثير كل ظاهرة كونيّة على إذنه سبحانه كما جاء في قوله تعالى:

«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ» «(3)» فانّ الآية بعد ما تصف اللَّهَ سبحانه بأنّه خالق السماوات و الأرض في ستة أيام و أنّه استوى بعد ذلك على العرش، و أنّه يدبر أمر الخلق، تُعلِن بأنّ كل ما في الكون من العلل الطبيعية و الظواهر المادية يؤثر بعضه في البعض بإذنه سبحانه، و أنّه ليست هناك علّة مستقلة في التأثير، بل كل ما في الكون من العلل، ذاته و تأثيره، قائمان به سبحانه و بإذنه، فالمراد من الشفيع في الآية هو الأسباب و العلل المادية و غيرها، الواقعة في طريق وجود الأشياء و تحقّقها و إنّما سمِّيت العلة شفيعاً؛ لأنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه، فهي (مشفوعةً إلى إذنه سبحانه) تؤثر و تعطي ما تعطي.

و على ذلك تخرج الآية عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بين المفسّرين و علماء الكلام، و إنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن في نفس الآية، فانّها تبحث في


1- محمد: 38.
2- القصص: 24.
3- يونس: 3.

ص:508

صدرها عن خلق السماوات و الأرض و تحديد مدّة الخلق و الإيجاد بستة أيام، ثمّ ترجع الآية، و تنص على سعة قدرته على جميع ما خلق و إحاطته بهم، و أنّه بعد ما خلق السماوات و الأرض، استوى على عرش القدرة و أخذ يدبّر العالم. و عند ذلك يتساءل القارئ: إذا كان اللَّه جلّ و علا هو المدبّر و المؤثّر فما حال سائر المدبّرات و المؤثّرات التي يلمسها البشر في حياته؟ فللإجابة على هذا السؤال قال سبحانه:

«ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» مصرِّحاً بأنّ كل تأثير و تدبير في سبب من الأسباب إنّما هو بإذنه و مشيئته، و لو لا إذنه و مشيئته لما قام السبب بالسببية، و لا العلة بالعلية، و هذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما يجري في عالم الكون و الوجود من التأثير و العلية، و تفسيرها بالشفاعة التكوينية، و أنّ كل ظاهرة مؤثرة كالشمس و القمر و النار و الماء لا تؤثر إلّا بالاستمداد من قدرته سبحانه و الاعتماد على إذنه و مشيئته حتى يتم بذلك التوحيد في الخالقية و التدبير.

ب- الشفاعة القيادية

و هو قيام قيادة الأنبياء و الأولياء و الأئمة و العلماء و الكتب السماوية مقام الشفيع و الشفاعة في تخليص البشر من عواقب أعمالهم و آثار سيئاتهم. و الفرق بين الشفاعة المصطلحة و الشفاعة القيادية هو أنّ الشفاعة المصطَلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له، و الشفاعة القيادية توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة حتى يستحق. و الظاهر أنّ إطلاق الشفاعة على هذا القسم ليس إطلاقاً مجازياً، بل إطلاق حقيقي. و قد شهد بذلك القرآن و الأخبار، قال سبحانه: «وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» «(1)». و الضمير المجرور في «به» يرجع


1- الأنعام: 51.

ص:509

إلى القرآن «(1)».

و لا شك أنّ ظرف شفاعة هذه الأُمور إنّما هو الحياةُ الدنيويةُ، فانّ تعاليم الأنبياء و قيادتهم الحُكمية و هداية القرآن و غيره، إنّما تتحقّق في هذه الحياة الدنيوية، و إن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأُخروية، فمن عمل بالقرآن و جعله أمامه في هذه الحياة؛ قاده إلى الجنّة في الحياة الأُخروية.

و لأجل ذلك نرى أنّ النبي الأكرمصلى الله عليه و آله يأمر الأُمّة بالتمسك بالقرآن و يصفه بالشفاعة و يقول: «فإذا التَبَست عليكم الفتنُ كقطع الليل المظلم فعليكُم بالقرآن فإنّه شافعٌ مشفَّع و ماحِل مصدَّق، و من جَعَلَه أمامَه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفَه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدلّ على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و برهان» «(2)»

.

فإنّ قوله: «و من جعله أمامه»، تفسير لقوله: «فإنّه شافع مشفَّع».

و الحاصل: أنّ الشفاعة القيادية شفاعة بالمعنى اللغوي، فإنّ المكلّفين بضمّ هداية القرآن و توجيهات الأنبياء و الأئمة إلى إرادتهم و طلباتهم، يفوزون بالسعادة و يصلون إلى أرقى المقامات في الحياة الأُخروية و يتخلّصون عن تبعات المعاصي و لوازمها.

فالمكلّف وحده لا يصل إلى هذه المقامات، و لا يتخلّص من تبعات المعاصي، كما أنّ خطاب القرآن و الأنبياء وحده- من دون أن يكون هناك من يسمع قولهم و يلبّي نداءهم- لا يؤثر ما لم ينضم عمل المكلّف إلى هدايتهم، و هدايتهم إلى عمل المكلّف فعندئذٍ تتحقّق هذه الغاية.


1- مجمع البيان 2: 304.
2- الكليني الكافي 2: 238.

ص:510

ج- الشفاعة المصطلحة

و حقيقة هذه الشفاعة تعني أن تصل رحمتهُ سبحانه و مغفرته و فيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده، و ليس هذا بأمرٍ غريب؛ فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه، تصل إلى عباده في هذه الدنيا عن طريق أنبيائه و كتبه، فهكذا تصل مغفرته سبحانه و تعالى إلى المذنبين و العصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.

و لا يبعد في أن يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خِيرة عباده، فإنّ اللَّه سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً، و نصّ بذلك في بعض آياته. فنرى أنّ أبناء يعقوب لمّا عادوا خاضعين، رجعوا إلى أبيهم، و قالوا له: «قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ» «(1)» فأجابهم يعقوب بقوله:

«سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «(2)».

و لم يقتصر الأمر على يعقوب فحسب، بل كان النبي الأكرمصلى الله عليه و آله ممّن يستجاب دعاؤه أيضاً في حق العصاة، قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» «(3)». و هذه الآيات و نظائرها ممّا لم نذكرها مثل قوله: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّصَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» «(4)» تدلّ على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالأنبياء، و قد تصل بلا توسيط واسطة، كما يفصح عنه سبحانه بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى


1- يوسف: 97.
2- يوسف: 98.
3- النساء: 64.
4- التوبة: 103.

ص:511

اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» «(1)» و قوله: «وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» «(2)». إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد و قد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده و أفضل خليقته و بريته.

و تتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق- و بخاصة دعاء الصالحين- من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة و المعلول، و لا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا و حواسنا، بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا، يقول سبحانه: «وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً* وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً* وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً* فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً* فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» «(3)».

فما المراد من هذه «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» أ هي مختصة بالمدبّرات الطبيعية المادية، أو المراد هو الأعم منها؟ فقد روي عن علي عليه السلام تفسيرها بالملائكة الأقوياء الذين عهد اللَّه إليهم تدبير الكون و الحياة بإذنه سبحانه، فكما أنّ هذه المدبّرات يجب الإيمان بها و إن لم تعلم كيفية تدبيرها و حقيقة تأثيرها، فكذلك الدعاء يجب الإيمان بتأثيره في جلب المغفرة، و دفع العذاب و إن لم تعلم كيفية تأثيره.


1- التحريم: 8.
2- هود: 90.
3- النازعات: 1- 5.

ص:512

مبرّرات الشفاعة

المبحث الرابع مبرّرات الشفاعة

اشارة

هناك مبررات لجعل الشفاعة من أسباب المغفرة و رفع العذاب، نورد بعضها على سبيل المثال:

أ- ابتلاء الناس بالذنب و التقصير

ربما يقال: إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو عمله الصالح كماصُرّح به في الآيات فلما ذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة و سبباً لرفع العذاب، أ وَ ليس اللَّه بقائل: «وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَصالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى» «(1)»، «فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَصالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» «(2)»، «وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَصالِحاً» «(3)» و على ذلك فلما ذا أُدْخِلت الشفاعة في سلسلة العلل لجلب المغفرة؟


1- الكهف: 88.
2- القصص: 67.
3- القصص: 80.

ص:513

الإجابة على هذا السؤال واضحة فالفوز بالسعادة و إن كان يعتمد على العمل أشدّ الاعتماد، غير أنصريح الآيات الأُخر هو أنّ العمل بنفسه ما لم تنضم إليه رحمته الواسعة لا يُنقِذ الإنسان من تبعات تقصيره، قال سبحانه: «وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» «(1)»، «وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» «(2)».

ب- سعة رحمته لكل شي ء

إنّ التدبّر في الآيات القرآنية يعطي أنّ رحمة اللَّه سبحانه واسعة تسع كلّ الناس، إلّا من بلغ حداً لا يقبل التطهّر و لا الغفران. قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» «(3)» نرى أنّ حملة العرش يدلّلون طلب غفرانه سبحانه للتائبين و التابعين لسبيله، بكون رحمته واسعة وسعت كل شي ء.

كما نرى أنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يواجه الناس كلّهم- حتى المكذّبين لرسالته- بقوله: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ» «(4)» و نرى في آية ثالثة يعد الذين يجتنبون الكبائر بالرحمة و المغفرة و يقول: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ


1- النحل: 61.
2- فاطر: 45.
3- غافر: 7.
4- الأنعام: 147.

ص:514

إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ» «(1)» و هذه الآيات توضح مضامين الأدعية الإسلامية من قوله عليه السلام: «يا من سبقت رحمتُه غضبَه».

كيف لا! و نحن نرى أنّ اللَّه سبحانه يعد القانط من رحمة اللَّه و الآيس من روحه كافراً و ضالًاّ، و يقول: «وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» «(2)»، و يقول تعالى أيضاً: «وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» «(3)»، و يقول سبحانه: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «(4)».

فإذا عرَّفنا القرآن أنّ اللَّه سبحانه ذو رحمة واسعة تفيض على كل شي ء، فعند ذلك لا مانع من أن تفيض رحمته و غفرانه عن طريق أنبيائه و رسله و أوليائه، فيقبل أدعيتهم في حقّ عباده بدافع أنّه سبحانه ذو رحمة واسعة، كما لا مانع أن يعتقد العصاة في شرائط خاصة بغفرانه سبحانه من طرق كثيرة لأجل أنّه عدّ القانط ضالًاّ و الآيس كافراً.

و إجمالًا: فكما يجب على المربّي الديني أن يذكّر عباد اللَّه بعقوبته و عذابه و ما أعدّ للعصاة و الكفّار من سلاسل و نيران، يجب عليه أيضاً أن يذكّرهم برحمته الواسعة و مغفرته العامة التي تشمل كل شي ء، إلّا من بلغ من الخبث و الرداءة درجة لا يقبل معها التطهير كما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» «(5)».


1- النجم: 32.
2- يوسف: 87.
3- الحجر: 56.
4- الزمر: 53.
5- النساء: 48.

ص:515

ج- الأصل هو السلامة

دلّت التجارب و البراهين العقلية على أنّ الأصل الأوّلي في الخليقة هو السلامة، و أنّ المرض و الانحراف أمران يعرضان على المزاج، و يزولان بالمداواة و المعالجة، و ليس هذا الأصل مختصاً بالسلامة من حيث العيوب الجسمانية، بل الأصل هو الطهارة من الأقذار و الأدران المعنوية، فقد خلق الإنسان على الفطرة النقيّة السليمة من الشرك و العصيان التي أشار إليها القرآن بقوله: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» «(1)»، و قال النبي الأكرمصلى الله عليه و آله: «كُل مولود يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» «(2)»

.

و على ذلك فلا غرو في أن تزول آثار العصيان عن الإنسان بالعلاج و المداواة الخاصة في مواقف شتى حتى تظهر الخليقة الأُولى التي فُطِر عليها؛ فقد جعل اللَّه سبحانه المواقف التي يمرّ بها الإنسان بعد موته في البرزخ و يوم القيامة؛ وسائل لتطهير الإنسان و تصفيته من آثار الذنوب و تبعاتها. و لا غرو في أن يكون الشفعاء المرضيون عند اللَّه، أطباء يعالجون أُولئك المرضى، بتصرفاتهم و نفوسهم القويّة حتى يزيلوا عنهم غبار المعصية، و درن الذنب حتى تعود الجوهرة الإنسانية نقيّةًصافيةً ناصعةً، فيستحقّ الإنسان نعيمَ الآخرة و دخول الجنة إلّا من بلغ حداً لا يقبل العلاج و التداوي، لأجل أنّ ذاته قد انقلبت إلى ما يضاد الجوهرة الإنسانية النقية التي لا تقبل أيّةَ مداواة أو علاج، كما لو اتّخذ لربّه شريكاً فاستحق الخلودَ في النار.


1- الروم: 30.
2- التاج الجامع للأُصول 4: 180؛ تفسير البرهان 3: 261/ 5.

ص:516

فليس التوقّف في البرزخ و لا في المراحل المتنوعة في يوم القيامة و لا الدخول في النار مدةً محدودة و لا شفاعة الأنبياء و الأولياء في حقّهم، إلّا تصرّفاً تكوينياً في حقّهم حتى تعود الجوهرة الأوليّة إلى حالتها الطبيعية الأُولى و تصفو من كل شائبةٍ تعلَّقت بها نتيجة العصيان و التمرّد.

د- الآثار البنّاءة و التربويّة للشفاعة

إنّ تشريع الشفاعة، و الاعتراف بها في النظام الإسلامي إنّما هو لأجل غايات تربويةٍ تترتب على ذلك التشريع و الاعتقاد به؛ ذلك لأنّ الاعتقاد بالشفاعة المقيّدة بشروط معقولة، من شأنه بعث الأمل في نفوس العصاة و أفئدة المذنبين، يدفعهم إلى العودة عن سلوكهم الإجراميّ، و إعادة النظر في منهج حياتهم.

و لكن هناك من يعترض و يقول: إنّ الشفاعة توجب الجرأة و تحيي روح التمرّد في العصاة و المجرمين. إلّا أنّ الواقع يفصح أنّ الشفاعة سبب في إصلاح سلوك المجرم و وسيلة لتخلّيه عمّا يرتكبه من آثام و ما يقترفه من ذنوب.

و تظهر حقيقة الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة، و هي التي اتفقت عليها الأُمّة و نصّ عليها الكتاب المجيد و الحديث الشريف؛ فإنّه لو كان باب التوبة مُوصداً في وجه العصاة و المذنبين، و اعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرّة واحدة أو مرّات سيخلده في عذاب اللَّه، و لا مناص له منه، فلا شك أنّ هذا الاعتقاد يوجب التمادي في اقتراف السيّئات و ارتكاب الذنوب؛ لأنّه يعتقد بأنّه لو غيّر وضعه و سلوكه في مستقبل أمره لا يقع ذلك مؤثراً في مصيره و خلوده في عذاب اللَّه؛ فلا وجه لأن يترك المعاصي و يغادر اللذة المحرّمة، و يتحمّل عناء العبادة و الطاعة، بل يستمر في وضعه السابق حتى يوافيه الأجل.

ص:517

و هذا بخلاف ما إذا وجد الطريق مفتوحاً، و النوافذ مشرعة و اعتقد بأنّه سبحانه سيقبل توبته إذا كانت نصوحاً، و أنّ رجوعه هذا سيغيّر مصيره في الآخرة، و يُنقِذه من تبعات أعماله، و أليم العذاب، فعند ذاك سيترك العصيان و يرجع إلى الطاعة و يستغفر لذنوبه و يطلب الإغضاء عن سيئاته.

فهذا الاعتقاد له الأثر البنّاء في تهذيب الناس و الشباب خاصة، و كم من شباب اقترفوا السيئات و أمضوا الليالي في اللذة المحرّمة، ثمّ عادوا إلى خلاف ما كانوا عليه في ظل التَّوبة و الاعتقاد بأنّها تجدي المذنبين، و بأنّ أبواب الرحمة و الفلاح مفتوحةٌ لم تغلق بعد، فعادوا يسهرون الليالي في العبادة، و يحيونها بالطاعة.

و ليس هذا إلّا أثر ذلك الاعتقاد، و ذاك التشريع. و مثل ذاك، الاعتقاد بالشفاعة المحدودة، فإنّه إذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء اللَّه سبحانه قد يشفعون في حقّه في شرائط خاصة إذا لم يهتك الستر، و لم يبلغ حداً لا تنفع معه شفاعة الشافعين، فعند ذاك سوف يعيدُ النظر في سيرته الشخصيّة، و يحاول تطبيق سلوكه على شرائط الشفاعة حتى يستحقّها، و لا يحرمها.

نعم، إنّ الاعتقاد بالشفاعة المطلقة، المحرّرة من كلّ قيد، من جانب الشفيع و المشفوع له، هو الذي يوجب التجرّي و التمادي في العصيان. و هذه الشفاعة مرفوضة في منطق العقل و القرآن، و كأنّ المعترض قد خلط بين الشفاعة المحدودة و الشفاعة المطلقة من كل قيد، و لم يُميز بينهما و بين آثارهما.

فالشفاعة الموجبة للتجرّي و مواصلة العناد و التمرّد، هي الاعتقاد بأنّ الأنبياء و الأولياء سيشفعون في حقّه يوم القيامة على كلّ حال و في جميع الشرائط و إن فعل ما فعل، و ارتكب ما ارتكب. و عند ذلك سيستمر في عمله الإجرامي إلى آخر حياته رجاءَ تلك الشفاعة التي لا تخضع لضابط و لا قانون، و لا تقيّد بقيد و لا شرط.

ص:518

و أمّا الشفاعة التي نطق بها الكتاب و أقرّت بها الأحاديث و اعترف بها العقل فهي الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له و الشافع. و مجمل تلك الشرائط هو أن لا يقطع جميع علاقات العبودية مع اللَّه، و لا يفصم وشائجه الروحية مع الشافعين، و لا يصل تمرّده إلى حدّ القطيعة و نسف الجسور. فالاعتقاد بهذا النوع من الشفاعة مثل الاعتقاد بتأثير التوبة في الغفران ماهية و أثراً.

ه- الأمر بيده سبحانه أوّلًا و آخراً

ما ذكرناه من الوجوه هي مبررات الشفاعة و الجهات التعليلية لجعلها فيصميم العقائد الإسلامية، و مع ذلك كلّه فالأمر إليه سبحانه فهو إن شاء أذن في الشفاعة و إن لم يشأ لم يأذن، و هو القائل سبحانه: «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «(1)».

وصفوة القول: أنّ الشفيع إنّما يشفع بإذنه، و في إطار مشيئَته، و تحت الشروط التي يرتضيها؛ إذ هو الذي يبعثُ الشفيعَ على أن يشفع في حقّ المشفوع له. و عند ذلك فلا تستلزم شفاعة الشافعين خروج الأمر عن يده، و تحديد سلطته (تعالى) و ملكه.


1- فاطر: 2.

ص:519

أثر الشفاعة هل هو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب

المبحث الخامس أثر الشفاعة

هل هو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب؟

هل إنّ نتيجة الشفاعة هو حطّ ذنوب المذنبين و إسقاط العقاب و المضار عنهم و العفو عن العصاة، أم هي زيادة الثواب و رفع الدرجات للمطيعين؟

لقد ذهب جمهور المسلمين إلى الأوّل، و المعتزلة إلى الثاني.

إنّ فكرة الشفاعة كانت عند اليهود و الوثنيين قبل الإسلام، إلّا أنّ الإسلام طرحها مهذّبةً ممّا علق بها من الخرافات.

و غير خفي على من وقف على آراء اليهود و الوثنيين في أمر الشفاعة، أنّ الشفاعة الدارجة بينهم- خصوصاً اليهود- كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم و آبائهم في حطّ ذنوبهم و غفران آثامهم، و لأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي، و يرتكبون الذنوب تعويلًا على ذلك الرجاء.

و في هذا الموقف يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة الباعثة على الجرأة: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» «(1)». و يقول أيضاً رفضاً لتلك الشفاعة المحرّرة من


1- البقرة: 255.

ص:520

كل قيدٍ: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» «(1)». و حاصل الآيتين أنّ أصل الشفاعة التي يدّعيها اليهود و يلوذ بها الوثنيّون حقّ ثابتٌ في الشريعة السماوية، غير أنّ لها شروطاً أهمّها إذنه سبحانه للشافع و رضاؤه للمشفوع له.

و لعلّ أوضح دليل على عمومية الشفاعة في الإسلام ما اتّفق على نقله المحدِّثون من قولهصلى الله عليه و آله: «ادّخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي» «(2)»

.

فكان دافع المعتزلة بتخصيص آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة هو الموقف الذي اتخذوه في حقّ العصاة و مقترفي الذنوب في أبحاثهم الكلامية؛ فإنّهم قالوا بخلود أهل العصيان في النار.

و من الواضح أنّ من يتخذ مثل هذا الموقف لا يصح له أن يعمّم آيات الشفاعة إلى العصاة، و ذلك لأنّ التخليد في النار لا يجتمع مع التخلص عنها بالشفاعة.

قال الشيخ المفيد: اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النار موجهة إلى الكفّار خاصّة، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة باللَّه تعالى، و الإقرار بفرائضه من أهل الصلاة. و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، و زعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفّار و جميع فسّاق أهل الصلاة.

و اتّفقت الإمامية على أنّ من عُذِّب بذنبه من أهل الإقرار و المعرفة و الصلاة لم يخلد في العذاب و أُخرج من النار إلى الجنة، فينعم فيها على الدوام و وافقهم على ذلك من عددناهم، و أجمعت المعتزلةُ على خلاف ذلك و زعموا أنّه لا يخرج من النار أحدٌ دخلها للعذاب «(3)».

نعم، نسب العلّامة الحلي في «كشف المراد» تلك العقيدة إلى بعض المعتزلة لا


1- الأنبياء: 28.
2- سنن ابن ماجة 2: 1441 و غيرها.
3- أوائل المقالات: ص 14.

ص:521

إلى جميعهم «(1)»، و كذلك نظامُ الدين القوشجي في شرحه على التجريد «(2)».

و قد خالفهم أئمة المسلمين و علماؤهم في هذا الموقف و قالوا بجواز العفو عن العصاة عقلًا و سمعاً.

أمّا العقل فلأنّ العقاب حق للَّه تعالى فيجوز تركه.

و أمّا السمع، فللآيات الدالّة على العفو فيما دون الشرك، قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» «(3)».

و الآية واردة في حق غير التائب؛ لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً، و قال سبحانه: «وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ» «(4)» أي تشملهم المغفرة مع كونهم ظالمين.

و قال سبحانه: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» «(5)»، إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة على العفو في حق العصاة. و مع ذلك لا مانع من شمول أدلّة الشفاعة لهم.

و أوضح دليل على العفو بدون التوبة قوله سبحانه: «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» «(6)» فإنّ عطف قوله: «وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» على قوله: «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ» ب «واو العطف»، يدلّ على التغاير بين الجملتين، و إنّ هذا العفو لا يرتبط بالتوبة و إلّا كان اللازم عطفُه بالفاء.

و قال سبحانه: «وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 261، ط صيدا.
2- شرح التجريد: ص 501.
3- النساء: 48.
4- الرعد: 6.
5- الزمر: 53.
6- الشورى: 25.

ص:522

كَثِيرٍ» «(1)». فإنّ الآية واردةٌ في غير حق التائب، و إلّا فإنّ اللَّه سبحانه يغفر ذنوب التائب جميعها لا كثيرها مع أنّه سبحانه يقول: «وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ».

فتلخّص من ذلك أنّه لا مانع من القول بجواز العفو في حق العصاة كما لا مانع من شمول آيات الشفاعة لهم.

نعم، يجب إلفات النظر إلى نكتة و هي أنّ بعض الذنوب الكبيرة ربما تقطع العلائق الإيمانية باللَّه سبحانه، كما تقطع الأواصر الروحية مع النبي الأكرمصلى الله عليه و آله فصاحب هذه المعصية لا تشمله الشفاعة، فيجب عليه دخول النار حتى يتطهّر بالعذاب و تصفو روحه من آثار العصيان، و يليق لشفاعة الشافعين.


1- الشورى: 30.

ص:523

المبحث السادس طلب الشفاعة من المأذونين بالشفاعة

اشارة

قد تجلّتِ الحقيقة بأجلى مظاهرها و تبيّن أنّ النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و لفيفاً من الأولياء و الصالحين يشفعون عند اللَّه في ظروف خاصة و أنّهم مأذونون من جانبه سبحانه يوم القيامة.

كما تبيّن أنّ المفهوم الواضح لدى العامّة من الشفاعة، هو دعاء الرسول و طلبه من اللَّه غفرانَ ذنوب عباده، إذا كانوا أهلًا لها. إذن يرجع طلب الشفاعة من الشفيع إلى طلب الدعاء منه لتلك الغاية، و هل ترى في طلب الدعاء من الأخ المؤمن إشكالًا؟! فضلًا عن النبي الأكرمصلى الله عليه و آله، الذي يُستجاب دعاؤه و لا يُردّ بنص الذكر الحكيم «(1)».

فعند ما كان النبي الأكرمصلى الله عليه و آله حيّاً في دار هجرته، كان طلبُ أصحابِه الدعاءَ منه، راجعاً إلى طلب الشفاعة منه و الاختلاف في الاسم لا في الواقع و الحقيقة.

و بعد انتقاله من الدنيا إلى عالم البرزخ، يرجع طلب الشفاعة منه أيضاً إلى


1- النساء: 64، المنافقون: 5.

ص:524

طلب الدعاء منه لا غير.

فلو أنّ أعرابياً جاء إلى مسجده فطلب منه أن يستغفر له، فقد طلب منه الشفاعة عند اللَّه. و لو جاء ذاك الرجل بعد رحيله، و قال له: يا أيّها النبي، استغفر لي عند اللَّه. أو قال: اشفع لي عند اللَّه، فالجميع بمعنى واحدٍ لبّاً و حقيقةً، و إنّما يختلفانصورةً و ظاهراً. فالإذعان بصحة أحدِهما، و الشك فيصحة الآخر كالتفكيك بين المتلازمين.

نعم، هناك سؤالٌ يطرح نفسَه و هو أنّه إذا كان النبيصلى الله عليه و آله حيّاً يُرزَق في هذه الدنيا و يسمع كلام السائل، فلا فرق بين طلب الدعاء و طلب الشفاعة.

و أمّا بعد رحيله و انتقاله إلى رحمة اللَّه الواسعة، فلا يسمع كلام السائل، بأيّصفة خاطبَه و كلَّمه سواء أ قال: استغفر لي، أم قال: اشفع لي.

و الإجابة واضحة، لأنّ الكلام مركَّزٌ في تبيين معنى طلب الشفاعة منه حيّاً و ميّتاً و أنّ حقيقته أمرٌ واحدٌ بجميعصوره، و أمّا أنّه يسمع أو لا يسمع، أو أنّ الدعوة تنفع أو لا تنفع، فهو أمرٌ نرجع إليه بعد الفراغ منصميم البحث. و لإيضاح الأمر نورد بعض النصوص من المفسّرين في تفسير الشفاعة:

قال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» «(1)» إنّ الآية تدلّ على حصول الشفاعة للمذنبين، و الاستغفار طلب المغفرة، و المغفرة لا تُذْكر إلّا في إسقاط العقاب، أمّا طلب النفع الزائد فإنّه لا يسمّى استغفاراً. و قوله تعالى: «وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» يدلّ على أنّهم يستغفرون لكل


1- غافر: 7.

ص:525

أهل الإيمان، فإذا دللنا على أنّصاحب الكبيرة مؤمن، وجب دخوله تحت هذه الشفاعة «(1)».

نرى أنّ الإمام الرازي جعل قول الملائكة في حق المؤمنين و التائبين، من أقسام الشفاعة، و فسّر قوله: «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا» بالشفاعة. و هذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق المؤمن، شفاعة في حقّه، و طلبه منه طلبُ الشفاعة.

و نقل نظام الدين النيسابوري، في تفسير قوله تعالى: «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها» «(2)» عن مقاتل: إنّ الشفاعة إلى اللَّه إنّما هي دعوة اللَّه لمسلمٍ، لما روي عن النبيصلى الله عليه و آله: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له، و قال الملك: و لك مثل ذلك» «(3)».

و الذي يوضح أنّ شفاعة النبي عبارة عن دعائه في حقّ المشفوع له، ما رواه مسلم في «صحيحه» عن النبي الأكرم أنّه قال: «ما من ميّت يُصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلّا شُفِّعوا فيه» «(4)».

و فسّر الشارح قولهصلى الله عليه و آله: «يشفعون له» بقوله: أي يدعون له، كما فسّر قولهصلى الله عليه و آله: «إلّا شُفِّعوا فيه» بقوله: أي قبلت شفاعتهم.

و روي أيضاً عن عبد اللَّه بن عباس أنّه قال: سمعت رسول اللَّه يقول: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون باللَّه شيئاً إلّا شفّعهم اللَّه فيه» «(5)»

أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.

فإذا كان مرجع الاستشفاع من الصالحين إلى طلب الدعاء، فكل من يطلب


1- مفاتيح الغيب 7: 285- 286، ط. مصر، الجزء 27: 34 ط دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت.
2- النساء: 85.
3- غرائب القرآن بهامش تفسير الطبري: 5: 118.
4- صحيح مسلم 4: 53، ط. مصر، مكتبة محمد علي صبيح و أولاده.
5- المصدر نفسه.

ص:526

من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلّا المعنى الشائع «(1)».

إلى هنا تبيّن أنّ طلب الشفاعة يرجع إلى طلب الدعاء، و هو أمر مطلوب في الشرع من غير فرق بين طلبه من الشفيع في حال حياته أو مماته، فهو لا يخرج عن حد طلب الدعاء، و أمّا كونه ناجعاً أو لا؟ فهو أمر آخر نرجع إليه كما مرّ.

و الذي يحقّق هذا الأمر هوصدور مثله من السلف الصالح في العصور المتقدمة و إليك نزراً منه:

السلف و طلب الشفاعة من النبي الأكرمصلى الله عليه و آله

1- الأحاديث الإسلامية و سيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب، و وجوده في زمن النبيصلى الله عليه و آله فقد روى الترمذي في «صحيحه» عن أنس قوله:

سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: «أنا فاعل»، قال: قلت: يا رسول اللَّه فأنّى أطلبك، فقال: «اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط» «(2)»

.

فالسائل يطلب من النبي الأعظم، الشفاعة دون أن يخطر بباله أنّ هذا الطلب يصطدم مع أُصول العقيدة.

2- هذا سواد بن قارب، أحد أصحاب النبيصلى الله عليه و آله يقول مخاطباً إيّاه:

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلًا عن سواد بن قارب «(3)»

3- روى أصحاب السير و التاريخ، أنّ رجلًا من قبيلة حمير عرف أنّه سيولد


1- لو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين، و تصفيتهم في البرزخ، و مواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجّه إليه إلّا الأوحدي من الناس.
2- صحيح الترمذي 4: 621، كتاب صفة القيامة، الباب 9.
3- الإصابة 2: 95، الترجمة 3576، و قد ذكر طرق روايته البالغة إلى ست، و راجع أيضاً الروض الأنف 1: 139؛ بلوغ الإرب 3: 299؛ عيون الأثر 1: 72

ص:527

في أرض مكة نبي الإسلام الأعظم صلى الله عليه و آله، و لما خاف أن لا يدركه، كتب رسالة و سلّمها لأحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبيصلى الله عليه و آله حينما يبعث، و ممّا جاء في تلك الرسالة قوله: «و إن لم أدرك فاشفع لي يوم القيامة و لا تنسني» «(1)» و لمّا وصلت الرسالة إلى يد النبيصلى الله عليه و آله قال: «مرحباً بتُبَّع الأخ الصالح» فإنّ وصف النبيصلى الله عليه و آله لطالب الشفاعة بالأخ الصالح، أوضح دليل على أنّه أمر لا يتعارض و أُصول العقيدة.

4- و روى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا غسّل النبيصلى الله عليه و آله و كفّنه كشف عن وجهه و قال: «بأبي أنت و أُمّي طبتَ حيّاً و طبت ميتاً... اذكرنا عند ربك» «(2)».

و روى الشريف الرضي في «نهج البلاغة»: أنّ عليّاً عليه السلام قال عند ما ولي غسل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «بأبي أنت و أُمّي اذكرنا عند ربك و اجعلنا من بالك» «(3)»

.

5- روي أنّه لمّا توفي النبيصلى الله عليه و آله أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه ثمّ أكبّ عليه فقبّله و قال: «بأبي أنت و أُمّي طبت حيّاً و ميتاً اذكرنا يا محمد عند ربّك و لنكن من بالك» «(4)».

و هذا استشفاع بالنبيصلى الله عليه و آله في دار الدنيا بعد موته.

6- و ختاماً نذكر ما ذكره الدكتور عبد الملك السعدي في كتابه «البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق»: أمّا طلب الشفاعة من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بصورة عامّة و بدون قيد بعد أذان أو غيره فقد ورد في السنّة، حيث قد طلبها منه بعض الصحابة- رضي اللَّه عنهم- دون نكير من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. و الأحاديث الواردة بهذا


1- ابن شهرآشوب 1: 12؛ السيرة الحلبية: 2: 88.
2- مجالس المفيد، المجلس الثاني عشر: ص 103.
3- نهج البلاغة: الخطبة 235.
4- السيرة الحلبيّة 3: 474، ط دار المعرفة بيروت.

ص:528

الخصوص و بمواضع و مناسبات عديدة كثيرة جداً نذكر منها:

عن مصعب الأسلمي قال: انطلق غلام منّا فأتى النبيصلى الله عليه و آله و قال: إنّي سائلك سؤالًا قال: «و ما هو؟» قال: أسألك أن تجعلني ممَّن تشفع له يوم القيامة، قال: «من أمرك هذا؟» أو «من علّمك هذا؟» أو «من دلّك على هذا؟» قال: ما أمرني به أحد إلّا نفسي، قال: «فإنّك ممّن أشفع له يوم القيامة». أورده الهيتمي في مجمع الزوائد و قال: رواه الطبراني.

و قد أورد الهيتمي بهذا الموضوع كثيراً من الأحاديث «(1)». هذا في حياتهصلى الله عليه و آله.

أمّا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى فهل يصح طلب الشفاعة منه لا سيما أمامَ قبره الشريف و عند السلام عليه؟ بما أنّه ثبت بما لا يقبل الشك أنّ الأموات يسمعون و يتكلّمون و يدعون في عالم البرزخ و بخاصة هوصلى الله عليه و آله عند ما يُسلَّم عليه تردّ إليه روحه الشريفة، فلا موجب للتفرقة في طلب الشفاعة بين حياته قبل انتقاله و بين حياته؛ الحياة البرزخية بعد انتقاله. و من ادّعى المنع فعليه بالدليل و اللَّه الموفق «(2)».

كل هذه النصوص تدلّ على أنّ طلب الشفاعة من النبيصلى الله عليه و آله كان أمراً جائزاً و شائعاً، و ذلك لأنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه، و لا فرق بينها و بينه إلّا في اللّفظ، و قد عرفتصحّة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء، و الاستشفاع على طلب الدعاء، و ممّا يدلّ على ذلك أنّ البخاري عقد بابين بهذين العنوانين، و هما:

1- إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.

2- و إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط «(3)».

فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الاستشفاع على الدعاء و طلبه من الإمام في


1- مجمع الزوائد 10: 369؛ صحيح مسلم 1: 289.
2- البدعة في مفهومها الإسلامي: ص 105- 106.
3- البخاري الصحيح: الجزء 2، كتاب الاستسقاء، الباب 11- 12.

ص:529

العام المجدب، من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غيرصحيح.

و على العموم أنّ طلب الشفاعة من النبيصلى الله عليه و آله داخل فيما ورد من الآيات التالية:

«وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» «(1)»، «قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ» «(2)».

و قوله سبحانه: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «(3)» فكلّ ما يدلّ على جواز طلب الدعاء من المؤمن الصالح يمكن الاستدلال به علىصحة ذلك.


1- النساء: 64.
2- يوسف: 97- 98.
3- المنافقون: 5.

ص:530

أسئلة حول طلب الشفاعة

المبحث السابع أسئلة حول طلب الشفاعة

اشارة

قد اتّضح أنّ طلب الشفاعة بمعنى طلب الدعاء؛ ليس ممّا يرتاب في جوازه مؤمن واعٍ، عارفٌ بالكتاب و السنّة، نعم ربما تُثار هنا شبهات أو أسئلة يجب رفعها أو الإجابة عليها و ليست الأسئلة مطروحة علىصعيد واحد، و لأجل ذلك نذكر كلّ واحدٍ بعنوان يُعرّف مغزاه، و الجميع يرجع إلى طلب الدعاء من الشفيع بعد رحيله بعد تجويزه في حياته.

السؤال الأوّل: الشفيع ميّت كيف يُطلبُ منه الدّعاء؟

اشارة

إنّ طلب الشفاعة و إن كان طلب الدعاء لكنّه لا جدوى فيه لكون الشفيع بعد الموت لا يستطيع أن يقوم بالدعاء.

على هامش السؤال:

السؤال جدير بالدراسة و التحليل، و هو عالق في ذهن لفيف من الناس فهم يناجون في أنفسهم كيف يُطلَب الدّعاء و الشفاعة من النبي الأكرم و هو ميّت

ص:531

لا يستطيع على إجابة طلب الطالب؟

أوّلًا: إنّ الرجوع إلى القرآن المجيد، و استنطاقه في هذا المجال يوقفنا على جليّة الحال، و هو يعترف بموتهم ماديّاً لا موتهم على الإطلاق، بل يصرّح بحياة لفيف من الناس الذين انتقلوا من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة منصالحٍ و طالحٍ، و سعيدٍ و شقيٍّ، و ها نحن نتلو على القارئ الكريم قسماً منها ليقف على أنّ الموت أمرٌ نسبي، و ليس بمطلق، و لوصار بدن الإنسان جماداً، ليس معناه بطلانه و انعدام شخصيته، و ليس الموت إلّا انتقالًا من دارٍ إلى دارٍ، و من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة و إليك لفيفاً من الآيات:

1- قال سبحانه: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» «(1)».

و الآيةصريحة في المقصود،صراحةً لا تتصوّر فوقهاصراحة، حيث أخبرت الآية عن حياتهم و رزقهم عند ربهم و تبشيرهم لمن لم يلحقوا بهم، و ما يتفوهون به في حقّهم بقولهم: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ».

و على ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل اللَّه تعالى فهل يكون هذا المطلب لغواً؟!

2- إنّ القرآن يعدّ النبي شهيداً على الأُمم جمعاء، و يقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «(2)».

فالآية تصرّح بأنّ النبيصلى الله عليه و آله شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم فإذا كان النبيصلى الله عليه و آله شاهداً على الأُمم جمعاء، أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون


1- آل عمران: 169- 170.
2- النساء: 41.

ص:532

الحياة، و بدون الاطلاع على ما يجري فيهم من الأُمور من الكفر و الإيمان و الطاعة و العصيان؟!

و لا يصح لك أن تفسّر شهادة النبيصلى الله عليه و آله بشهادته على معاصريه فقط، و ذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشّراً و نذيراً، و هل يتصوّر أحدٌ أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصر النبي؟!

كلّا. فإذن لا وجه لتخصيص كونِهِ شاهداً على الأُمّة المعاصرة للنبيصلى الله عليه و آله.

3- الآيات القرآنيةصريحة في امتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته، يقول سبحانه في حقّ الكافرين: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُصالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «(1)».

فهذه الآية تصرّح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ، و إنّ هذا العالم وعاءٌ للإنسان يعذّب فيها مَن يُعذّب و ينعَّم فيها من ينعَّم.

أمّا التنعُّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حقّ الشهداء.

و أمّا العقوبة، فيقول سبحانه: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» «(2)».

4- هذا هو الذكر الحكيم ينقل بياناً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، و أيّد رسل المسيح، فلمّا قتل خوطب باللّفظ التالي: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» فأجاب بعد دخوله الجنة: «يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» «(3)» إلى غير ذلك من الآيات الدالة على امتداد الحياة، و استشعار لفيف


1- المؤمنون: 99- 100.
2- غافر: 46.
3- يس: 26- 27.

ص:533

من عباد اللَّه لما يجري هنا و هناك، غير أنّا لا نَسمع بيانَهم و لا نفهم خِطابهم، و هم سامعون، عارفون بإذن اللَّه سبحانه.

ثانياً: إنّ الأحاديث الواردة في هذا المورد فوق الحصر فحدِّث عنها و لا حرج، و قد روى المحدِّثون عنهصلى الله عليه و آله: «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ اللَّه روحي حتى أردّ عليه السلام» «(1)». كما نَقَلوا قوله: «إنّ للَّه ملائكةً سيّاحين في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام» «(2)»

.

ثالثاً: نرى أنّه سبحانه يسلّم على أنبيائه في آيات كثيرة، و يقول: «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ»، «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ»، «سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ»، «سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ»، «وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ» «(3)».

كما يأمرنا بالتسليم على نبيّه و الصلوات عليه و يقول بصريح القول: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواصَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً» «(4)»، فلو كان الأنبياء و الأولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات و الصلوات فأيّ فائدة في التسليم عليهم و في أمر المؤمنين في الصلاة؛ بالسلامِ على النبيصلى الله عليه و آله؟ و المسلمون أجمع يسلّمون على النبي فيصلواتهم بلفظِ الخطاب، و يقولون: السلامُ عليك أيّها النبي و رحمة اللَّه و بركاته، و حَمْلُ ذلك على الشعارِ الأجوف و التحية الجوفاء، أمرٌ لا يجترئ عليه من له إلمامٌ بالقرآن و الحديث.


1- وفاء الوفا 4: 1349.
2- المصدر نفسه: ص 1350.
3- الصافات: 79، 109، 120، 130، 181 على الترتيب.
4- الأحزاب: 56.

ص:534

السؤال الثاني: الشفيع ميّت و هو لا يسمع؟

اشارة

هذا هو السؤال الثاني الذي ربّما يُطرَح في المقام، و هو أيضاً جديرٌ بالدراسة، و لكنّه في التحقيقصورةٌصغيرة من السؤال السابق، فالتركيز- هنا- على خصوص عدم السماع، و لكنّه في السابق على معنىً أعم و هو عدم الاستطاعة على شي ء سماعاً كان أو غيره.

و نقول: ربما يقال: ظاهر الذكر الحكيم على أنّ الموتى لا يسمعون، حيث شبّه المشركين بهم. و وجه الشبه هو عدم السماع. قال: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» «(1)»، فالآية تصف المشركين بأنّهم أموات و تشبِّهُهُم بها، و من المعلوم أنّصحة التشبيه تتوقّف على وجود وجه الشبه في المشبَّه به بوجهٍ أقوى و ليس وجه الشبه إلّا أنّهم لا يسمَعون، فعند ذلك تُصبح النتيجة: إنّ الأموات مطلقاً غير قابلين للإفهام، و يدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» «(2)».

و وجه الدلالة في الآيتين واحد.

على هامش السؤال

القرآن الكريم منزّه عن التناقض و الاختلاف و كيف لا يكون كذلك و هو يقول: «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» «(3)» و هو يصرّح في


1- النمل: 80.
2- فاطر: 22.
3- النساء: 82.

ص:535

غير واحد من آياته على أنّ الأنبياء كانوا يكلّمون الموتى و يخاطبونهم. و نلمس ذلك بوضوح في قصتيصالح و شعيب.

أمّا الأُولى: فالقرآن يحكي خطابَه لقومه- بعد هلاكهم و أخذ الرجفة لهم- فيقول: «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» «(1)».

أمعن النظر في قوله: «فَتَوَلَّى» حيث تصدَّر بالفاء الدالة على الترتيب: أي بعد ما عمّهم الهلاك أعرضصالح بوجهه عنهم و خاطبهم بقوله: يا قوم...

أمّا الثانية فهي أيضاً قرينة الأُولى و نظيرتها قال سبحانه: «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ» «(2)».

إنّ الأُوليين من الآياتصريحتان في نزول البلاء عليهم و إبادتهم و إهلاكهم جميعاً- فبعد ذلك- يخاطبهم نبيُّهم شعيب معرِضاً بوجهه عنهم، مشعراً بالتبرّي و يقول: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي... و ليس لنا، و لا لغيرنا تأويل القرآن لأخذ موقف مسبق في الموضوع، بل يجب عرض الرأي عليه لا عرض القرآن على الفكر الإنساني.

و نكتفي من الآيات بما تلوناه عليك و هناك آيات أُخرى موحدة في المضمون نترك نقلها للاختصار.


1- الأعراف: 78- 79.
2- الأعراف: 91- 93.

ص:536

السنّة لا تتفق مع عدم السماع
اشارة

إنّ السنّة الكريمة، عدل القرآن، يُحتَجُّ بها كما يُحتجّ به، فقد أخذت موقف الإيجاب فهي لا تتفق مع عدم السماع و إليك نزراً يسيراً منها:

1- ما أنتم بأسمعَ منهم

هذه الكلمة ألقاها النبي الأكرمصلى الله عليه و آله عند ما كان بمقربة من قتلى قريش، و قد تقدّم ذكرها مفصّلًا في فصل: الحياة البرزخية فراجع «(1)».

2- رواية الصحابي الجليل: عثمان بن حنيف

روى الحافظ الطبراني عن الصحابي الجليل عثمان بن حنيف: أنّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، و كان لا يلتفت إليه و لا ينظر في حاجته، فلقى ابنَ حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له ابنُ حنيف: ائت الميضاة، فتوضّأ ثمّ ائتِ المسجد فصلِّ ركعتين، ثمّ قل: اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّنا محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك أن تقضي حاجتي، و تذكر حاجتك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثمّ أتى باب عثمان فجاءَه البوّاب حتى أخذ بيده، فأُدخِلَ على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته و قضى له، ثمّ قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة، و قال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقى ابن حنيف فقال له: جزاك اللَّه خيراً، ما


1- إنّ تكلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم مع رءوس الشرك الموتى الذين أُلقيت أجسادُهم في البئر من مسلّمات التاريخ و الحديث، و قد أشار إلى هذا من بين المحدّثين و المؤرّخين: صحيح البخاري 5: 76 و 77- 87 في معركة بدر؛ صحيح مسلم 8: 163 كتاب الجنة باب مقعد الميت؛ سنن النسائي 4: 89 و 90 باب أرواح المؤمنين؛ مسند الامام أحمد 2: 131؛ السيرة النبوية 1: 639؛ المغازي 1: 112 غزوة بدر؛ بحار الأنوار 19: 346.

ص:537

كان ينظر في حاجتي و لا يلتفت إليّ حتى كلّمتَه في.

فقال ابن حنيف: و اللَّه ما كلّمته، و لكن شهدتُ رسول اللَّه، و أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبيصلى الله عليه و آله: إن شئت دعوتُ أو تصبر، فقال: يا رسول اللَّه إنّه ليس لي قائدٌ و قد شقّ عليّ، فقال له النبي: ائت الميضاة فتوضّأْ ثمّصلّ ركعتين ثمّ ادعُ بهذه الدَعَوات. قال ابنُ حنيف: فو اللَّهِ ما تفرَّقْنا و طال بنا الحديثُ حتى دَخَلَ علينا الرجلُ كأنّه لم يكن به ضر «(1)».

قال الترمذي: هذا حديث حقٌّ حسنٌصحيحٌ.

و قال ابن ماجة: هذا حديثٌصحيحٌ.

و قال الرفاعي: لا شك أنّ هذا الحديثصحيحٌ و مشهورٌ «(2)».

السؤال الثالث: الشفاعة فعل اللَّه

اشارة

الشفاعة فعل اللَّه سبحانه، و لا يُطلب فعلُه من غيره، قال سبحانه: «قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» «(3)».

فاذا كانت الشفاعة مملوكة للَّه و هو المالك لها، فكيف يُطلَب ما يرجع إليه من غيره؟

على هامش السؤال

لا شك أنّ الشفاعة للَّه كما هوصريح الآية و ما يرجع إليه سبحانه لا يُطلَب من غيره. مثلًا إنّ الرزق و الإحياء و الإماتة له لا تُطلَب من عباده. غير أنّ المهم


1- صحيح الترمذي ج 5 كتاب الدعوات، الباب 119، رقم 3578؛ سنن ابن ماجة 1: 441/ 1385؛ مسند أحمد 4: 138 و غير ذلك.
2- التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 158.
3- الزمر: 44.

ص:538

تشخيص ما يرجع إليه سبحانه، و تمييزه ما أعطاه لعباده الصالحين.

إنّ الشفاعة المطلقة ملك للَّه سبحانه، فلا شفيع و لا مشفوع له، بلا إذنه و رضاه؛ فهو الذي يسنُّ الشفاعة و يأذن للشافع، و يبعث المذنب إلى باب الشافع ليستغفر له، إلى غير ذلك من الخصوصيات. فلا يملك الشفاعة بهذا المعنى إلّا هو، و بذلك يردّ القرآن على المشركين الذين كانوا يزعمون أنّ أربابهم يملكون الشفاعة المطلقة فالشفاعة بهذا المعنى غير مسئولة و لا مطلوبة من النبيصلى الله عليه و آله.

و المسئول و المطلوب من النبي و الصالحين هو الشفاعة المرخّصة المحدّدة، من اللَّه سبحانه، أي ما رخّص لهم في أن يشفعوا و يطلبوا لعباده الغفران، فمثل هذه الشفاعة المرخّصة المأذونة ليست له؛ لأنّه سبحانه فوق كل شي ء، لا يَستأذن و لا يُؤذن و لا يُحدّد فعله.

و بعبارة واضحة: المراد من قوله سبحانه: «قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» «(1)» ليس أنّه سبحانه هو الشفيع دون غيره؛ إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع عند غيره، بل المراد أنّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه و أنّه لا يشفع أحد في حقّ أحد إلّا بإذنه للشفيع و ارتضائه للمشفوع له، و لكن هذا المقام ثابت للَّه سبحانه بالأصالة و الاستقلال، و لغيره بالاكتساب و الإجازة، قال سبحانه: «وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» «(2)».

فالآيةصريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة و لكن تمليكاً منه سبحانه و في طول ملكه.

و على ذلك فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق و ملكوا الشفاعة، و أُجيزوا في أمرها في حقّ من ارتضاهم لها.


1- الزمر: 44.
2- الزخرف: 86.

ص:539

و أنت أيّها الأخ المتحرر من كل رأي مسبق، إذا لاحظتَ ما ذكرته سابقاً في تفسير الآية، يتضح لك، أنّ طلب الشفاعة من الصالحين، ليس طلبَ فعله سبحانه من غيره.

السؤال الرابع: طلب الشفاعة يشبه عمل المشركين

اشارة

إنّ طلب الشفاعة يشبه عمل عَبَدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة، و قد حكى القرآن ذاك العمل منهم، قال سبحانه: «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» «(1)» و على ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.

على هامش السؤال

ما كنت أُفكّر أيّها الأخ أن تغتر بظواهر الأعمال و تقضي بالبساطة و السذاجة، مع أن القرآن أمر بالتدبّر و التفكّر و الدقّة في مصادر الأعمال و جذورها، لا بالاغترار بظاهرها.

فالفرق واضحٌ بين عمل المسلم و المشرك لأنّك إذا أمعنتَ النظر في مضمون الآية تقف على أنّ المشركين كانوا يقومون بعملين:

1- عبادة الآلهة و يدلّ عليه: «وَ يَعْبُدُونَ...».

2- طلب الشفاعة و يدل عليه: «وَ يَقُولُونَ...».

و كان علّة اتّصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني؛ إذ لو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها بالحقيقة، لما كان هناك مبرّرٌ للإتيان بجملة أُخرى، أعني قوله:


1- يونس: 18.

ص:540

«وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا» بعد قوله: «وَ يَعْبُدُونَ...» إذ لا فائدة لهذا التكرار، و توهم أنّ الجملة الثانية توضيحٌ للأُولى خلاف الظاهر؛ فإنّ عطف الجملة الثانية على الاولى يدلّ على المغايرة بينهما.

إذاً لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة، فضلًا عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.

و هناك فرق واضح بين طلب شفاعة الموحِّد من أفضل الخليقة- عليه أفضل التحية- و طلب شفاعة المشرك، حيث إنّ الأوّل يطلب الشفاعة منه بما أنّه عبدٌصالح أذن له سبحانه ليشفع في عباده تحت شرائط خاصة، بخلاف المشرك؛ فإنّه يطلب الشفاعة منه، بما أنّه ربّ يملك الشفاعة يعطيها من يشاء و يمنعها عمّن يشاء.

أ فيصح عطفُ أحدهما على الآخر و الحكم بوحدتهما جوهراً و حقيقة؟!

كيف يصح لمسلم واع اتخاذ المشابهة دليلًا على الحكم، فلوصح ذلك لزم عليه الحكم بتحريم أعمال الحج و العمرة فانّها مشابهة لأعمال المشركين، أمام أربابهم و آلهتهم.

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ» «(1)».

السؤال الخامس: إن طلب الشفاعة دعاء الغير، و هو عبادة له

اشارة

طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام؛ فانّ ذلك دعاء لغير اللَّه و هو حرام. قال سبحانه: «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» «(2)» و إذا كانت الشفاعة ثابتة لأوليائه و كان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الأمرين يتحقّق بانحصار جواز طلبها


1- ق: 37.
2- الجن: 18.

ص:541

من اللَّه سبحانه خاصة، و يوضح ذلك قوله سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» «(1)»، فقد عبّر عن العبادة في الآية بلفظ الدعوة فيصدرها و بلفظ العبادة في ذيلها، و هذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى. و قد ورد قولهصلى الله عليه و آله: «الدعاء مخّ العبادة».

على هامش السؤال

لا أظن أنّ أحداً على وجه البسيطة يجعل الدعاء مرادفاً للعبادة. و إلّا لم يمكن تسجيل أحد من الناس- حتى الأنبياء- في ديوان الموحدين، فلا بد أن يقترن بالدعاء شي ءٌ آخر، و يصدر الدعاء عن عقيدة خاصة في المدعوّ و إلّا فمجرّد دعوة الغير حيّاً كان أو ميتاً، لا يكون عبادة له.

هل ترى أنّ الشاعرة التي تخاطب شجر الخابور بقولها:

أيا شجر الخابور ما لك مورِقا كأنّك لم تجزع على ابن طريف

أنّها عبدته؟ كلّا ثمّ كلّا.

إنّ العمل لا يتّسم بالعبادة إلّا إذا كانت في نية الداعي عناصر تضفي عليهصفة العبادة و حدّها؛ و هو الاعتقاد بألوهية المدعو و ربوبيته و إنّه المالك لمصيره في عاجله و آجله، و إن كان مخلوقاً أيضاً. و المراد من الدعاء في قوله تعالى: «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» ليس مطلق دعوة الغير، بل الدعوة الخاصة المضيّقة المترادفة للعبادة، و يدلّ عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ».

و ما ورد في الحديث من «أنّ الدعاء مُخُّ العبادة» فليس المراد منه مطلق الدعاء، بل المراد دعاء اللَّه مخ العبادة. كما أنّ ما ورد في الروايات من أنّه: من أصغى إلى ناطق فقد عَبَدَه، فإنْ كان ينطق عن اللَّه فقد عبد اللَّه، و إن كان ينطق عن غير


1- غافر: 60.

ص:542

اللَّه فقد عبد غير اللَّه. «(1)»

فليس المراد من العبادة هنا: العبادة المصطلحة، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.

و على ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد، أي كون المدعو ذا اختيارٍ تامّ في التصرّف في الكون و قد فُوِّض إليه شأن من شئُونه سبحانه.

فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة فانّه يُعَدُّ عبادةً للمشفوع إليه. و إلّا فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونه عبادة.

و بعبارة أُخرى: طلب الشفاعة إنّما يُعَدُّ عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بألوهيته و ربوبيته، و أنّه مالك لمقام الشفاعة أو مفوَّض إليه، يتصرّف فيها كيف يشاء، و أمّا إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبدٌ من عباد اللَّه الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة، و ارتضائه للمشفوع له، فلا يُعَدُّ عبادة للمدعوّ، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين، فلا يعدُّ عبادة بل طلباً محضاً، غاية الأمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء- عقلًا- أمراًصحيحاً، و إلا فيكون لغواً.

فلو تردّى إنسان و سقط في قعر بئر و طلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجاته و إنقاذه، يُعَدّ الطلب أمراًصحيحاً، و لو طلبه من الأحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء و الطلب منها لغواً مع كون الدعاء و الطلب هذا في الصورتين غير مقترن بشي ء من الألوهية و الربوبية في حق الواقف عند البئر، و لا الأحجار المنضودة حولها.


1- الكافي 6: 434/ 4.

ص:543

إنّ الآية تحدّد الدعوة التي تُعَد عبادة بجعل المخلوق في رتبة الخالق سبحانه كما يفصح عنه قوله: «مع الله» «(1)» و على ذلك فالمنهيُّ هو دعوة الغير، و جعله مع اللَّه، لا ما إذا دعا الغيرَ معتقداً بأنّه عبدٌ من عباده لا يملك لنفسه و لا لغيره ضراً و لا نفعاً و لا حياةً و لا بعثاً و لا نشوراً إلّا بما يتفضل عليه بإذنه و يقدر عليه بمشيئته، فعند ذاك فالطلب منه بهذا الوصف يرجع إلى اللَّه سبحانه.

و بذلك يبدو أنّ ما تدل عليه الآيات القرآنية من أنّ طلب الحاجة من الأصنام كان شركاً في العبادة، إنّما هو لأجل أنّ المدعوّ عند الداعي كان إلهاً أو ربّاً مستقلًا في التصرف في شأن من شئُون وجوده أو فعله. قال سبحانه: «الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» «(2)» ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله: «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» و قوله: «عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» «(3)» مُذكِّراً بأنّ عقيدتهم في حق هؤلاء عقيدة كاذبة و باطلة فالأصنام لا تستطيع نصرة أحد، و هذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا على جانب النقيض من تلك العقيدة و كانوا يعتقدون بتملّك الأصنام لنصرهم و قضاء حوائجهم من عند أنفسهم.

و حصيلة البحث: أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة، و ما ورد في الآية و الحديث من تفسير الدعاء بالعبادة لا يدل على ما يراه المستدِلّ، فالمراد من الدعاء فيهما قسمٌ خاصٌّ منه، و هو الدعاء المقترن باعتقادِ الألوهية في المدعو و الربوبيّة في المطلوب منه كما عرفت.


1- النمل: 60 و غيرها.
2- الأعراف: 197.
3- الأعراف: 194.

ص:544

الشفاعة في الأحاديث الإسلامية

المبحث الثامن الشفاعة في الأحاديث الإسلامية

اشارة

لقد اهتمّ الحديث بأمر الشفاعة و حدودها و شرائطها و أسبابها و موانعها اهتماماً بالغاً لا يوجد له مثيل إلّا في موضوعات خاصة تتمتع بالأهمية القصوى، و أنت إذا لاحظت الصحاح و المسانيد و السنن و سائر الكتب الحديثية لوقفت على جمهرة كبرى من الأحاديث حول الشفاعة بحيث تدفع الإنسان إلى الإذعان بأنّها من الأُصول المسلّمة في الشريعة الإسلامية. و لأجل هذا التضافر نرى أنفسنا في غنىً عن المناقشة في الاسناد.

نعم لو كانت هناك رواية اختصت بنكتة خاصة غير موجودة في الروايات الأُخر فإثبات النكتة الخاصة يحتاج إلى ثبوتصحة سندها كما هو المحقّق في علم الحديث.

و لما كانت الأحاديث حول الشفاعة و فروعها كثيرة جداً، و مبثوثة في الكتب جمعناها في هذه الصحائف تحت عناوين خاصة، و لسنا ندّعي أنّنا قد أحطنا بكل الأحاديث في هذا المجال، و إنّما ندّعي أنّا قد جئنا بقسم كبير من الأحاديث «(1)».


1- لقد جمع العلّامة المجلسي أحاديث الشفاعة الواردة من طرق أئمة أهل البيت في موسوعته« بحار الأنوار» فلاحظ 8: 29- 63 كما أنّه أورد بعضها في الأجزاء التالية من موسوعته: بحار الأنوار 100: 116، 162، 170، 265، 303، 307، 331، 340، 345، 349، 351، 376، 379، و لاحظ 101: 8، 211، 212، 213، 293، 297، 298، 299، 372، 374، و لاحظ 102: 31، 32، 33، 35، 36، 44، 47، 71، 171، 181، 183، إلى غير ذلك من الموارد. و عقد أحمد بن محمد بن خالد البرقي باباً للشفاعة في موسوعته« المحاسن» فلاحظ 1: 184.

ص:545

أحاديث الشفاعة عند أهل السنّة:

«(1)»

1- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «لكلّ نبي دعوة مستجابة فتعجّل كل نبي دعوته و أنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأُمّتي و هي نائلة من مات منهم لا يشرك باللَّه شيئاً» «(2)»

.

2- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «اعطيت خمساً... و اعطيت الشفاعة فادّخرتها لأُمّتي فهي لمن لا يشرك باللَّه شيئاً» «(3)»

.

3- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «شفاعتي نائلة إن شاء اللَّه من مات و لا يشرك باللَّه شيئاً» «(4)»


1- و قد عقد العلّامة علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي المتوفّى 975 ه باباً خاصاً للشفاعة نقل فيه طائفة من الأخبار، فلاحظ كنز العمال 4: 638- 640. كما عقد الشيخ منصور علي ناصف في كتابه التاج الجامع للأُصول أبواباً للشفاعة لاحظ التاج 5: 348- 360 و قد جاء فيها بأحاديث طوال قد أخذنا موضع الحاجة منها. غير أنّ ملاحظة مجموع الأحاديث لا تخلو عن فائدة. و عقد النسائي في سننه أبواباً أربعة خاصة للشفاعة لاحظ 3: 622 ط دار إحياء التراث الإسلامي.
2- سنن ابن ماجة 2: 1440، و بهذا المضمون راجع مسند أحمد 1: 281، و موطّأ مالك 1: 166، و سنن الترمذي 5: 238، و سنن الدارمي 2: 328، و صحيح مسلم 1: 130، و صحيح البخاري 8: 83 و 9: 170.
3- مسند أحمد 1: 301 و 4: 416 و 5: 148 و بهذا المضمون سنن النسائي 1: 172، و سنن الدارمي 1: 323 و 2: 224، و صحيح البخاري 1: 92 و 119.
4- مسند أحمد 2: 426.

ص:546

4- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في تفسير قوله: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً»: «هو المقام الذي أشفع لأُمّتي فيه» «(1)»

.

5- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أنا أوّل شافع و أوّل مشفّع» «(2)»

.

6- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلّا اللَّه مخلصاً يصدق قلبه لسانه و لسانه قلبه» «(3)»

.

7- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أُمّتي» «(4)»

.

8- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «رأيت ما تلقى أُمّتي بعدي (أي من الذنوب) فسألت اللَّه أن يوليني شفاعة يوم القيامة فيهم ففعل» «(5)»

.

9- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلّا اللَّه خالصاً من قلبه أو نفسه» «(6)»

.

10- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أنا أوّل شافع في الجنة» «(7)»

.

11- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «شفاعتي لكل مسلم» «(8)»

.

12- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين و خطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر» «(9)»


1- مسند أحمد 2: 528، 444، 478؛ سنن الترمذي 3: 365.
2- سنن الترمذي 5: 448؛ سنن الدارمي 1: 26 و 27.
3- مسند أحمد 2: 307 و 518.
4- سنن ابن ماجة 2: 1441؛ و بهذا المضمون مسند أحمد 3: 213، و سنن أبي داود 2: 537، و سنن الترمذي 4: 45.
5- مسند أحمد 6: 428.
6- صحيح البخاري 1: 36.
7- صحيح مسلم 1: 130؛ سنن الدارمي 1: 27.
8- سنن ابن ماجة 2: 1444.
9- سنن الترمذي 5: 247؛ سنن ابن ماجة 2: 1443.

ص:547

13- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أنا سيد ولد آدم و أوّل شافع و أوّل مشفع و لا فخر» «(1)».

14- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّي لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة و مدرة» «(2)»

.

15- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ليخرجنّ قوم من أُمّتي من النار بشفاعتي يسمّون الجهنميين» «(3)»

.

16- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «خُيّرت بين الشفاعة و بين أن يدخل نصف أُمّتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنّها أعم و أكفى، أ ترونها للمتقين؟ لا، و لكنّها للمذنبين الخطّائين المتلوثين» «(4)»

.

17- و حكى أبو ذر: أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آلهصلّى ليلة فقرأ آية حتى أصبح يركع بها و يسجد بها: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «(5)» فلمّا أصبح قلت: يا رسول اللَّه ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها و تسجد بها، قال: «إنّي سألت ربّي عزّ و جلّ الشفاعة لأُمّتي فأعطانيها فهي نائلة إن شاء اللَّه لمن لا يشرك باللَّه عزّ و جلّ شيئاً» «(6)»

.

18- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «يشفع النبيّون و الملائكة و المؤمنون، فيقول الجبار:

بقيت شفاعتي» «(7)»


1- سنن ابن ماجة 2: 1440؛ و بهذا المضمون صحيح مسلم 7: 59، و مسند أحمد 2: 540.
2- مسند أحمد 5: 347.
3- سنن الترمذي 4: 114؛ سنن ابن ماجة 2: 1443؛ بهذا المضمون مسند أحمد 4: 434، و سنن أبي داود 2: 537.
4- سنن ابن ماجة 2: 1441.
5- المائدة: 118.
6- مسند أحمد 5: 149.
7- صحيح البخاري 9: 160؛ و بهذا المضمون مسند أحمد 3: 94.

ص:548

19- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّه يخرج قوماً من النار بالشفاعة» «(1)»

.

20- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشهداء» «(2)»

.

21- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «فإذا فرغ اللَّه عزّ و جلّ من القضاء بين خلقه و أخرج من النار من يريد أن يخرج، أمر اللَّه الملائكة و الرسل أن تشفع فيعرفون بعلاماتهم: إنّ النار تأكل كل شي ء من ابن آدم إلّا موضع السجود» «(3)»

.

22- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «... فيؤذن للملائكة و النبيّين و الشهداء أن يشفعوا فيشفعون و يخرجون من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان» «(4)»

.

23- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إذا ميّز أهل الجنة و أهل النار، فدخل أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار قامت الرسل و شفعوا» «(5)»

.

24- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «يشفع الأنبياء في كل من يشهد أن لا إله إلّا اللَّه مخلصاً، فيخرجونهم منها» «(6)»

.

25- ذكرت الشفاعة عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: «إنّ الناس يعرضون على جسر جهنم... و بجنبتيه الملائكة يقولون: اللّهمّ سلّم سلّم...» «(7)»

.

26- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في حديث: «أمّا أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها و لا يحيون و لكن ناس أصابتهم نار بذنوبهم أو بخطاياهم فأماتتهم إماتة،


1- صحيح مسلم 1: 122 و بهذا المضمون صحيح البخاري 8: 143.
2- سنن ابن ماجة 2: 1443.
3- سنن النسائي 2: 181.
4- مسند أحمد 5: 43 بتلخيص منّا.
5- مسند أحمد 3: 325.
6- مسند أحمد 3: 12.
7- مسند أحمد 3: 26.

ص:549

حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فيخرجون ضبائر ضبائر» «(1)»

.

27- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في حديث: «... فيشفعون حتى يخرج من قال لا إله إلّا اللَّه ممّن في قلبه ميزان شعيرة» «(2)»

.

28- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «يشفع الشهيد في سبعين إنساناً من أهل بيته» «(3)»

.

29- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من تعلّم القرآن (من قرأ القرآن) فاستظهره فأحلّ حلاله و حرّم حرامه أدخله اللَّه به الجنة و شفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت له النار» «(4)»

.

30- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في حديث: «إذا بلغ الرجل التسعين غفر اللَّه ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر و سمّي أسير اللَّه في الأرض، و شفّع في أهله» «(5)»

.

31- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل من أُمّتي أكثر من بني تميم» «(6)»

.

32- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ من أُمّتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة و مضر» «(7)»

.

33- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيّين أو مثل أحد الحيّين ربيعة و مضر» «(8)»

.

34- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ الرجل من أُمّتي ليشفع للفئام من الناس


1- مسند أحمد 3: 79؛ و بهذا المضمون سنن ابن ماجة 2: 1441، و سنن الدارمي 2: 332، و مسند أحمد 3: 5.
2- مسند أحمد 3: 345.
3- سنن أبي داود 2: 15؛ و بهذا المضمون مسند أحمد 4: 131، و سنن الترمذي 3: 106.
4- سنن الترمذي 4: 245؛ سنن ابن ماجة 1: 78؛ مسند أحمد 1: 148 و 149.
5- مسند أحمد 2: 89، و بهذا المضمون ما في 3: 218.
6- سنن الدارمي 2: 328؛ سنن الترمذي 4: 46؛ سنن ابن ماجة 2: 1444؛ مسند أحمد 3: 470 و 5: 366.
7- مسند أحمد 4: 212.
8- مسند أحمد 5: 257.

ص:550

فيدخلون الجنة، و إنّ الرجل ليشفع للقبيلة، و إنّ الرجل ليشفع للعصبة، و إنّ الرجل ليشفع للثلاثة، و للرجلين، و للرجل» «(1)»

.

35- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «يصف الناس (أهل الجنة)صفوفاً: فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول: يا فلان أما تذكر يوم استقيت فسقيتك شربة؟ قال:

فيشفع له، و يمرّ الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهوراً؟ فيشفع له» «(2)»

.

36- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في حديث: «لا يصبر على لأوائها (أي المدينة) و شدتها إلّا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة» «(3)»

.

37- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لخادمه: «ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة، قال: و من دلّك على هذا؟ قال: ربي، قال: أما فأعنّي بكثرة السجود» «(4)»

.

38- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «منصلّى على محمد و قال: اللّهمّ أنزله المقعد المقرّب عندك يوم القيامة، وجبت له شفاعتي» «(5)»

.

39- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من قال حين يسمع النداء: «اللّهمّ ربّ هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته» حلّت له شفاعتي يوم القيامة» «(6)»

.

40- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثمّصلّوا عليّ؛ فإنّه منصلّى عليّصلاةصلّى اللَّه عليه عشراً، ثمّ سلوا اللَّه عزّ و جلّ لي


1- مسند أحمد 3: 20 و 63؛ سنن الترمذي 4: 46.
2- سنن ابن ماجة 2: 1215.
3- موطأ مالك 2: 201؛ مسند أحمد 2: 119 و 133 و مواضع أُخر من هذا الكتاب.
4- مسند أحمد 3: 500، و بهذا المضمون ما في 4: 59.
5- مسند أحمد 4: 108.
6- صحيح البخاري 1: 159؛ و بهذا المضمون ما في مسند أحمد 3: 354، و سنن ابن ماجة 1: 239، و سنن الترمذي 1: 136، و سنن النسائي 2: 22، و سنن أبي داود 1: 126.

ص:551

الوسيلة؛ فمن سأل اللَّه لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة» «(1)»

.

41- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من غشّ العرب، لم يدخل في شفاعتي و لم تنله مودّتي» «(2)»

.

42- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ اللعّانين لا يكونون شهداء و لا شفعاء يوم القيامة» «(3)»

.

43- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «تعلّموا القرآن؛ فإنّه شافع لأصحابه يوم القيامة» «(4)»

.

44- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له و هي: تبارك الذي بيده الملك» «(5)»

.

45- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربّي منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفّعني فيه، و يقول القرآن:

منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، قال: فيشفعان» «(6)»

.

46- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إن أقربكم منّي غداً و أوجبكم عليَّ شفاعة:

أصدقكم لساناً و أدّاكم لأمانتكم، و أحسنكم خلقاً، و أقربكم من الناس» «(7)»


1- سنن أبي داود 1: 124؛ صحيح مسلم 2: 4؛ سنن الترمذي 5: 246 و 247؛ سنن النسائي 2: 22؛ و مسند أحمد 2: 168.
2- مسند أحمد 1: 72. و لا يتوهم أنّ هذا الحديث تكريس للقومية المبغوضة في الإسلام؛ لأنّ من المعلوم أنّ المراد من العرب المسلمين فيكون بمنزلة« من غشّ مسلماً فليس بمسلم» لأنّ المسلم يوم ذاك كان منحصراً في العرب.
3- مسند أحمد 6: 448؛ صحيح مسلم 8: 24.
4- مسند أحمد 5: 251.
5- مسند أحمد 2: 199 و 321؛ سنن الترمذي 4: 238.
6- مسند أحمد 2: 174.
7- تيسير المطالب في أمالي الإمام علي بن أبي طالب، تأليف السيد يحيى بن الحسين من أحفاد الإمام زيد المتوفّى 424 ه، ص 442- 443.

ص:552

47- روى أنس بن مالك عن أبيه قال: سألت النبيصلى الله عليه و آله أن يشفع لي يوم القيامة فقال: «أنا فاعل»، قلت: يا رسول اللَّه فأين أطلبك؟ قال: «اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط»، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: «فاطلبني عند الميزان»، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: «فاطلبني عند الحوض فإنّي لا أخطئ هذه الثلاث المواطن» «(1)»

.

48- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في حديث: «أنا سيد الناس يوم القيامة... ثمّ يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه و اشفع تشفّع، فأرفع رأسي فأقول: يا ربّي أُمّتي يا ربّي أُمّتي يا ربّي أُمّتي، فيقول: يا محمد أدخل من أُمّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة» «(2)»

.

49- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أنا أوّل الناس يشفع في الجنة و أنا أكثر الأنبياء تبعاً» «(3)»

.

50- أخرج ابن مردويه عن طلق بن حبيب: كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد اللَّه فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر اللَّه فيها خلود أهل النار، فقال: يا طلق أتراك أقرأ لكتاب اللَّه و أعلم لسنّة رسول اللَّه منّي؟

إنّ الذين قرأت هم أهلها هم المشركون، و لكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذّبوا ثمّ أخرجوا منها ثمّ أهوى بيديه إلى أُذنيه، فقال:صمّتا إن لم أكن سمعت رسول اللَّه يقول: يخرجون من النار بعد ما دخلوا، و نحن نقرأ كما قرأت.

و عن ابن أبي حاتم عن يزيد الفقير، قال: جلست إلى جابر بن عبد اللَّه و هو يحدّث، فحدّث أنّ ناساً يخرجون من النار، قال: و أنا يومئذٍ أنكر ذلك، فغضبت


1- سنن الترمذي ج 4 الباب التاسع، الحديث 2550.
2- سنن الترمذي ج 4 الباب العاشر، الحديث 2551.
3- صحيح مسلم 1: 130.

ص:553

و قلت: ما أعجب من الناس و لكن أعجب منكم يا أصحاب محمد تزعمون أنّ اللَّه يخرج ناساً من النار و اللَّه يقول: «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها» «(1)» فانتهرني أصحابه و كان أحلمهم، فقال: دعوا الرجل إنّما ذلك للكفّار، فقرأ: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ» حتى بلغ «وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» «(2)» أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قد جمعته، قال: أ ليس اللَّه يقول: «وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» «(3)» فهو ذلك المقام فإنّ اللَّه تعالى يحتبس أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء لا يكلّمهم فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم قال: فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به... «(4)».

*** هذه خمسون حديثاً رواها أهل السنّة عن النبي الأعظمصلى الله عليه و آله و لو أضفنا إليها الصور المختلفة لكل حديث لتجاوز عدد الأحاديث المائة حديث، و لكن اكتفينا بهذا المقدار و أشرنا إلى المواضع التي نقلت فيهاصورها المختلفة و الناظر فيها يذعن بأنّ الاعتقاد بالشفاعة كان أمراً مسلّماً بين جماهير المسلمين كما يذعن بأنّها لم تكن عندهم مطلقة عن كل قيد، بل لها شرائط خصوصاً في جانب المشفوع له، و أنّ هناك شفعاء و سنشير في خاتمة المطاف إلى فذلكة الروايات و عصارتها في المواضع المختلفة.

هلمّ معي نقرأ ما روته الإمامية في هذا الباب من الأحاديث الكثيرة عن النبي


1- المائدة: 37.
2- المائدة: 36- 37.
3- الإسراء: 79.
4- تفسير ابن كثير 2: 54 كما في حياة الصحابة للشيخ محمد يوسف الكاندهلوي 3: 471- 472.

ص:554

الأكرم و الأئمة المعصومين، و لأجل سهولة الإرجاع إليها نحافظ على التسلسل المذكور في الأحاديث السابقة.

أحاديث الشفاعة عند الشيعة الإمامية

51- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّي لأشفع يوم القيامة و أُشفّع، و يشفع عليٌّ فيُشفّع، و يشفع أهل بيتي فيشفّعون» «(1)»

.

52- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أُعطيت خمساً... أُعطيت الشفاعة» «(2)»

.

53- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّه أعطاني مسألة فادّخرت مسألتي لشفاعة المؤمنين من أُمّتي يوم القيامة ففعل ذلك» «(3)»

.

54- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ من امتي من سيدخل اللَّه الجنة بشفاعته أكثر من مضر» «(4)»

.

55- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي» «(5)»

.

56- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «الشفعاء خمسة: القرآن، و الرحم، و الأمانة، و نبيكم، و أهل بيت نبيكم» «(6)»

.

57- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة: أي ربّي عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا، فشفّعني فيه فيقول: اذهب فأخرجه


1- مناقب ابن شهرآشوب 2: 15؛ و بهذا المضمون في مجمع البيان 1: 104.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 155.
3- أمالي الطوسي: ص 36.
4- مجمع البيان 10: 392.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 376.
6- مناقب ابن شهرآشوب 2: 14.

ص:555

من النار فيذهب فيتجسس في النار حتى يخرجه منها» «(1)»

.

58- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي» «(2)»

.

59- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه» «(3)»

.

60- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أيّما امرأةصلّت في اليوم و الليلة خمس صلوات، وصامت شهر رمضان، و حجّت بيت اللَّه الحرام، و زكّت مالها، و أطاعت زوجها، و والت علياً بعدي دخلت الجنة بشفاعة بنتي فاطمة» «(4)»

.

أحاديث الشفاعة عن الإمام عليّ عليه السلام:

61- قال علي عليه السلام: «لنا شفاعة و لأهل مودّتنا شفاعة» «(5)»

.

62- قال علي عليه السلام: «ثلاثة يشفعون إلى اللَّه عزّ و جلّ فيشفّعون: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء» «(6)»

.

63- قال علي عليه السلام لولده محمد الحنفية: «اقبل من متنصّل عذره، فتنالك الشفاعة» «(7)»

.

64- قال علي عليه السلام: «اعلموا أنّ القرآن شافع و مشفّع، و قائل و مصدّق، و أنّه من شفّع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه» «(8)»


1- مجمع البيان 10: 392.
2- مجمع البيان 1: 104، و يقول الطبرسي: إنّ هذا الحديث ممّا قبلته الأُمّة الإسلامية.
3- مجمع البيان 1: 104.
4- أمالي الصدوق: ص 291.
5- خصال الصدوق: ص 624.
6- خصال الصدوق: ص 156.
7- من لا يحضره الفقيه 4: 279.
8- نهج البلاغة: الخطبة 171.

ص:556

65- قال علي عليه السلام: «قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من أُمّتي فيشفّعني اللَّه فيهم، و اللَّه لا تشفّعت فيمن آذى ذرّيتي» «(1)»

.

66- قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ للجنة ثمانية أبواب باب يدخل منه النبيون و الصدّيقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا فلم أزل واقفاً على الصراط أدعو و أقول: ربّ سلّم شيعتي و محبّي و أنصاري و من تولّاني في دار الدنيا، فإذا النداء من بطنان العرش: قد أُجيبت دعوتك و شفّعت في شيعتك، و يشفع كل رجل من شيعتي و من تولّاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفاً من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا اللَّه و لم يكن في قلبه مقدار ذرّة من بغضنا أهل البيت» «(2)»

.

67- قال أمير المؤمنين عليه السلام: «سمعت النبي يقول: إذا حشر الناس يوم القيامة ناداني مناد: يا رسول اللَّه إنّ اللَّه جلّ اسمه قد أمكنك من مجازاة محبيك و محبّي أهل بيتك الموالين لهم فيك و المعادين لهم فيك فكافهم بما شئت فأقول: يا ربّ الجنة فأبوِّئُهم منها حيث شئت، فذلك المقام المحمود الذي وعدت به» «(3)»

.

68- عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «قالت فاطمة عليها السلام لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يا أبتاه أين ألقاك يوم الموقف الأعظم و يوم الأهوال و يوم الفزع الأكبر؟ قال: يا فاطمة عند باب الجنة و معي لواء الحمد و أنا الشفيع لأُمّتي إلى ربّي. قالت: يا أبتاه فإن لم ألقك هناك؟ قال: ألقيني على الحوض و أنا أسقي أُمّتي، قالت: يا أبتاه إن لم


1- أمالي الصدوق: ص 177.
2- بحار الأنوار 8: 39 نقلًا عن أمالي الصدوق: ص 39.
3- بحار الأنوار 8: 39- 40 نقلًا عن أمالي الصدوق: ص 187.

ص:557

ألقك هناك؟ قال: ألقيني على الصراط و أنا قائم أقول: ربّ سلّم أُمّتي، قالت: فإن لم ألقك هناك؟ قال: ألقيني و أنا عند الميزان، أقول: ربّي سلّم أُمّتي، قالت: فإن لم ألقك هناك؟ قال: ألقيني على شفير جهنّم أمنع شررها و لهبها عن امتي فاستبشرت فاطمة بذلك،صلّى اللَّه عليها و على أبيها و بعلها و بنيها» «(1)»

.

أحاديث الشفاعة عن سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام:

69- قال الحسن عليه السلام: «إنّ النبي قال في جواب نفر من اليهود سألوه عن مسائل: و أمّا شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك و الظلم» «(2)»

.

70- عن الحسين عليه السلام و هو ينقل كلام جده معه في منامه قائلًا: «حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرمّلًا بدمائك مذبوحاً بأرض كربلا على أيدي عصابة من أُمّتي و أنت مع ذلك عطشان لا تسقى، و ظمآن لا تروى، و هم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم اللَّه شفاعتي يوم القيامة» «(3)»

.

71- قال علي بن الحسين عليهما السلام في الدعاء الثاني منصحيفته: «عرّفه في أهله الطاهرين، و أُمّته المؤمنين من حسن الشفاعة، أجل ما وعدته» «(4)»

.

72- قال علي بن الحسين عليهما السلام: «اللّهمّصلّ على محمد و آل محمد و شرّف بنيانه و عظّم برهانه، و ثقّل ميزانه، و تقبّل شفاعته» «(5)»

.

73- قال علي بن الحسين عليهما السلام: «فإنّي لم آتك ثقة منّي بعملصالح قدمته: و لا شفاعة مخلوق رجوته إلّا شفاعة محمد و أهل بيته عليه و عليهم سلامك» «(6)»


1- بحار الأنوار 8: 35 نقلًا عن أمالي الصدوق: ص 166.
2- خصال الصدوق: ص 355.
3- مكاتيب الأئمة 2: 41.
4- الصحيفة السجادية، الدعاء الثاني.
5- الصحيفة السجادية، الدعاء الثاني و الأربعون.
6- الصحيفة السجادية: الدعاء الثامن و الأربعون.

ص:558

74- قال علي بن الحسين عليهما السلام: «إلهي ليس لي وسيلة إليك إلّا عواطف رأفتك، و لا ذريعة إليك إلّا عوارف رحمتك، و شفاعة نبيك نبي الأُمّة» «(1)»

.

75- قال علي بن الحسين عليهما السلام: «صلّ على محمد و آله و اجعل توسلي به شافعاً يوم القيامة نافعاً إنّك أنت أرحم الراحمين» «(2)»

.

76- قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام: «إنّ لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله شفاعة في أُمّته» «(3)»

.

77- قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام: «من تبع جنازة مسلم أُعطي يوم القيامة أربع شفاعات» «(4)»

.

78- قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام: «يشفع الرجل في القبيلة، و يشفع الرجل لأهل البيت، و يشفع الرجل للرجلين على قدر عمله، فذلك المقام المحمود» «(5)».

79- قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام: «إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنساناً، فعند ذلك يقول أهل النار: فما لنا من شافعين، و لاصديق حميم» «(6)»

.

80- سئل محمد بن علي الباقر عليهما السلام عن أرجى آية في كتاب اللَّه؟ فقال الإمام عليه السلام للسائل (بشر بن شريح البصري): «ما يقول فيها قومك»؟ قال: قلت: يقولون:

«قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ»، قال: «لكنّا أهل البيت لا نقول بذلك»، قال السائل: قلت: فأيّ شي ء تقولون فيها؟ قال:

«نقول: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» الشفاعة، و اللَّه الشفاعة، و اللَّه الشفاعة» «(7)».


1- ملحقات الصحيفة: ص 250.
2- ملحقات الصحيفة: ص 229.
3- المحاسن للبرقي: ص 184.
4- التهذيب 1: 455.
5- مناقب ابن شهرآشوب 2: 14.
6- الكافي 8: 101، و بهذا المضمون في تفسير فرات الكوفي: ص 108.
7- تفسير فرات الكوفي: ص 18.

ص:559

81- دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين عليهما السلام على أبي جعفر (الباقر) يقال له أبو أيمن فقال: يغرون الناس فيقولون شفاعة محمد، قال: فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه، ثمّ قال: «ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عفّ بطنك و فرجك، أما و اللَّه لو قد رأيت أفزاع يوم القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد، ويلك و هل يشفع إلّا لمن قد وجبت له النار» «(1)»

.

82- عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «لفاطمة وقفة على باب جهنم فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل مؤمن أو كافر فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار، فتقرأ بين عينيه محباً، فتقول: إلهي و سيدي سمّيتني فاطمة و فطمت بي من تولّاني و تولّى ذريتي من النار و وعدك الحق و أنت لا تخلف الميعاد، فيقول اللَّه عزّ و جلّ:صدقت يا فاطمة إنّي سمّيتك فاطمة و فطمت بك من أحبك و تولّاك و أحب ذريتك و تولّاهم من النار و وعدي الحق، و أنا لا أخلف الميعاد و إنّما أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه فأُشفّعك ليتبيّن لملائكتي و أنبيائي و رسلي و أهل الموقف موقفك منّي و مكانتك عندي فمن قرأت بين عينيه مؤمناً فجذبت بيده و أدخلته الجنة» «(2)»

.

83- قال جعفر بن محمد عليهما السلام: «و اللَّه لنشفعنّ لشيعتنا، و اللَّه لنشفعنّ لشيعتنا، و اللَّه لنشفعنّ لشيعتنا حتى يقول الناس فما لنا من شافعين و لاصديق حميم» «(3)»

.

84- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «لكل مؤمن خمس ساعات يوم القيامة يشفع فيها» «(4)»


1- المحاسن 1: 183.
2- بحار الأنوار 8: 51 نقلًا عن علل الشرائع: ص 178.
3- مناقب ابن شهرآشوب 2: 164.
4- صفات الشيعة: ص 36.

ص:560

85- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «شفاعتنا لأهل الكبائر من شيعتنا، و أمّا التائبون فإنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول: ما على المحسنين من سبيل» «(1)»

.

86- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا:

المعراج، و المساءلة في القبر، و الشفاعة» «(2)»

.

87- قال معاوية بن عمار لجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «من ذا الذي يشفع عنده إلّا بإذنه؟ قال: «نحن أُولئك الشافعون» «(3)»

.

88- سئل جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن المؤمن هل يشفع في أهله؟ قال:

«نعم المؤمن يشفع فيشفّع» «(4)»

.

89- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «إذا كان يوم القيامة نشفع في المذنب من شيعتنا و أمّا المحسنون فقد نجّاهم اللَّه» «(5)»

.

90- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «نمجّد ربنا و نصلّي على نبيّنا و نشفع لشيعتنا فلا يردنا ربّنا» «(6)»

.

91- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «إنّ المؤمن ليشفع لحميمه، إلّا أن يكون ناصباً، و لو أنّ ناصباً شفع له كل نبي مرسل و ملك مقرّب ما شفعوا» «(7)»

.

92- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «إنّ الجار ليشفع لجاره و الحميم لحميمه، و لو أنّ الملائكة المقربين و الأنبياء و المرسلين شَفّعوا في ناصب


1- من لا يحضره الفقيه 3: 376.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 177.
3- تفسير العياشي 1: 136، و بهذا المضمون في المحاسن: ص 183.
4- المحاسن: ص 184.
5- فضائل الشيعة للشيخ الصدوق: ص 109 ح 45.
6- المحاسن: ص 183، و بهذا المضمون في البحار 8: 41 عن الإمام الكاظم عليه السلام.
7- ثواب الأعمال: ص 251.

ص:561

ما شُفّعوا» «(1)»

.

93- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفّع فيهم حتى يبقى خادمه فيقول- فيرفع سبابتيه- يا رب خويدمي كان يقيني الحر و البرد، فيشفّع فيه» «(2)»

.

94- كتب جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام إلى أصحابه: «و اعلموا أنّه ليس يغني عنهم من اللَّه أحد من خلقه شيئاً، لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا من دون ذلك، فمن سرّه أن تنفعه شفاعة الشافعين عند اللَّه فليطلب إلى اللَّه أن يرضى عنه» «(3)»

.

95- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «إذا كان يوم القيامة بعث اللَّه العالم و العابد، فإذا وقفا بين يدي اللَّه عزّ و جلّ قيل للعابد: انطلق إلى الجنة، و قيل للعالم: قف تشفّع للناس بحسن تأديبك لهم» «(4)»

.

96- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام في تفسير قوله سبحانه: « «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» «لا يشفّع و لا يشفّع لهم و لا يشفعون إلّا من أذن له بولاية أمير المؤمنين و الأئمة من ولده فهو العهد عند اللَّه» «(5)»

.

97- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «يا معشر الشيعة فلا تعودون و تتّكلون على شفاعتنا، فو اللَّه لا ينال شفاعتنا إذا ركب هذا (الزنا) حتى يصيبه ألم العذاب و يرى هول جهنم» «(6)»


1- المحاسن: ص 184.
2- بحار الأنوار 8: 56 و 61 نقلًا عن الاختصاص للمفيد و تفسير العياشي بتفاوت يسير.
3- الكافي 8: 11.
4- بحار الأنوار 8: 56 نقلًا عن عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق.
5- تفسير علي بن ابراهيم القمي ص 417، و نقل عن الإمام الباقر أيضاً كما في البحار 8: 37.
6- الكافي 5: 469؛ من لا يحضره الفقيه 4: 28.

ص:562

98- سئل جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: «نعم»، فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد؟ قال: «نعم، إنّ للمؤمنين خطايا و ذنوباً و ما من أحد إلّا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذٍ» «(1)»

.

99- قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام أو محمد بن علي الباقر عليهما السلام في تفسير قوله: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» قال: «هي الشفاعة» «(2)»

.

100- عن سماعة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن شفاعة النبيصلى الله عليه و آله يوم القيامة؟ قال: «يلجم الناس يوم القيامة العرق و يقولون: انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا عند ربّه، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا عند ربّك فيقول: إنّ لي ذنباً و خطيئة فعليكم بنوح، فيأتون نوحاً فيردّهم إلى من يليه، و كلّ نبي يردّهم إلى من يليه حتى ينتهون إلى عيسى فيقول: عليكم بمحمد رسول اللَّه-صلّى اللَّه عليه و على جميع الأنبياء- فيعرضون أنفسهم عليه و يسألونه فيقول: انطلقوا، فينطلق بهم إلى باب الجنة و يستقبل باب الرحمن و يخرّ ساجداً فيمكث ما شاء اللَّه، فيقول عزّ و جلّ:

ارفع رأسك و اشفع تشفّع وسل تعط و ذلك قوله: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً»» «(3)».

101- عن عيسى بن القاسم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «إنّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فسألوه أن يستعملهم علىصدقات المواشي و قالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعله للعاملين عليها فنحن أولى به، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يا بني عبد المطلب إنّ الصدقة لا تحل لي و لا لكم و لكنّي وُعدت الشفاعة ثمّ قال: و اللَّه


1- تفسير العياشي المعاصر للشيخ الكليني 2: 314، و في المحاسن 1: 184 و مع زيادات في بحار الأنوار 8: 48.
2- تفسير العياشي 2: 314.
3- بحار الأنوار 8: 35- 36 نقلًا عن تفسير علي بن إبراهيم: ص 387. الذنب الذي ورد في الحديث بمعنى ما يتبع الإنسان لا بمعنى المعصية، و على كل حال فحسنات الأبرار سيئات المقرّبين.

ص:563

أشهد أنّه قد وعدها فما ظنّكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة الباب أ تروني مؤثراً عليكم غيركم، ثمّ قال: إنّ الجن و الإنس يجلسون يوم القيامة فيصعيد واحد فإذا طال بهم الموقف طلبوا الشفاعة فيقولون: إلى من؟ فيأتون نوحاً فيسألونه الشفاعة، فقال: هيهات قد رفعت حاجتي، فيقولون إلى من؟

فيقال: إلى إبراهيم...» «(1)»

.

102- عن سماعة، عن أبي إبراهيم عليه السلام في قول اللَّه تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» قال: «يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاماً و يؤمر الشمس فيركب على رءوس العباد و يلجمهم العرق، و يؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئاً، فيأتون آدم فيتشفّعون منه فيدلّهم على نوح، و يدلّهم نوح على إبراهيم، و يدلّهم إبراهيم على موسى، و يدلّهم موسى على عيسى، و يدلّهم عيسى فيقول:

عليكم بمحمد خاتم البشر، فيقول محمد: أنا لها، فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدقّ فيقال له: من هذا- و اللَّه أعلم- فيقول: محمد! فيقال: افتحوا له، فإذا فتح الباب استقبل ربه فيخر ساجداً فلا يرفع رأسه حتى يقال له: تكلّم وسل تعط و اشفع تشفّع، فيرفع رأسه فيستقبل ربّه فيخر ساجداً فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنّه ليشفع من قد احترق بالنار، فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأُمم أوجه من محمدصلى الله عليه و آله و هو قول اللَّه تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً»» «(2)».

103- قال موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام: «لمّا حضر أبي (جعفر بن محمد) الوفاة قال لي: يا بني إنّه لا ينال شفاعتنا من استخفّ بالصلاة» «(3)»


1- بحار الأنوار 8: 47- 48 و ذيل الحديث موافق لما تقدمه و لأجل ذلك تركناه.
2- بحار الأنوار 8: 48- 49 نقلًا عن تفسير العياشي، و المراد من« استقبل ربه»: استقبل رضوانه أو باب رحمته أو ما يناسب ذلك كما ورد في الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
3- الكافي 3: 270 و 6: 401؛ التهذيب 9: 107؛ بهذا المضمون في من لا يحضره الفقيه 1: 133، و نقله الشيخ في التهذيب 9: 106 عن الإمام الصادق عليه السلام.

ص:564

104- قال موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام: «كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: لا تستخفوا بفقراء شيعة علي؛ فإنّ الرجل منهم ليشفع بعدد ربيعة و مضر» «(1)»

.

105- قال موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام: «شيعتنا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و يحجّون البيت الحرام و يصومون شهر رمضان و يوالون أهل البيت و يتبرءون من أعدائهم، و إنّ أحدهم ليشفع في مثل ربيعة و مضر فيشفّعه اللَّه فيهم لكرامته على اللَّه عزّ و جلّ» «(2)»

.

106- قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام ناقلًا عن علي عليه السلام: «من كذّب بشفاعة رسول اللَّه لم تنله» «(3)»

.

107- قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام: «مذنبو أهل التوحيد لا يخلّدون في النار و يخرجون منها و الشفاعة جائزة لهم» «(4)»

.

108- قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام ناقلًا عن آبائه عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريّتي، و القاضي لهم حوائجهم، و الساعي في أُمورهم عند ما اضطرّوا إليه، و المحبّ لهم بقلبه و لسانه» «(5)»

.

109- قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام، ناقلًا عن آبائه عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله شفاعتي، ثمّ قال عليه السلام: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل»، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا عليه السلام: يا بن رسول اللَّه فما معنى قول اللَّه عزّ و جلّ: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ


1- بحار الأنوار 8: 59؛ و بهذا المضمون في أمالي الشيخ الطوسي: ص 63، و بشارة المصطفى: ص 55.
2- صفات الشيعة: ص 164، الحديث الخامس.
3- عيون أخبار الرضا 2: 66.
4- عيون أخبار الرضا 2: 125.
5- عيون أخبار الرضا 2: 24، و باختصار يسير في بشارة المصطفى: ص 140.

ص:565

ارْتَضى»*؟ قال: «لا يشفعون إلّا لمن ارتضى اللَّه دينه» «(1)»

.

110- قال علي بن محمد الهادي عليهما السلام كما في الزيارة الجامعة: «و لكم المودّة الواجبة و الدرجات الرفيعة و المقام المحمود، و المقام المعلوم عند اللَّه عزّ و جلّ و الجاه العظيم، و الشأن الكبير و الشفاعة المقبولة» «(2)»

.

111- قال الحسن بن علي العسكري عليهما السلام ناقلًا عن أمير المؤمنين عليه السلام في ضمن حديث: «لا يزال المؤمن يشفع حتى يشفع في جيرانه و خلطائه و معارفه» «(3)»

.

112- قال الحجة بن الحسن عليهما السلام في الصلوات المنقولة عنه: «اللّهمّصلّ على سيد المرسلين و خاتم النبيين و حجة ربّ العالمين، المرتجى للشفاعة» «(4)»

.

هذه هي الأحاديث الواردة عن طرق الشيعة الإمامية و أنت إذا أضفتها إلى ما رواه أصحاب الصحاح و المسانيد، يتجلّى لك موقف الشفاعة في الشريعة الإسلامية و انها من الأُمور الثابتة و القطعية كما يتجلّى لك معناها إلى غير ذلك من الخصوصيات التي مرّ بيان الخلاف فيها.

ثمّ بقيت في المقام روايات مبعثرة في الكتب و الصحاح و المسانيد، يستلزم جمعها إفراد رسالة في المقام، و لأجل ذلك اكتفينا بما ذكرناه.


1- أمالي الصدوق: ص 5.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 616.
3- بحار الأنوار 8: 44.
4- مصباح المتهجّد: ص 284.

ص:566

بحث و تمحيص: حول الروايات الواردة في الشفاعة

خاتمة المطاف: بحث و تمحيص حول الروايات الواردة في الشفاعة

قد وقفت على النصوص و الروايات التي نقلناها من الصحاح و المسانيد لأهل السنّة و المجاميع الحديثية للشيعة الإمامية و الواجب هنا هو الوقوف على مضمون هذه الروايات على وجه الاختصار و إليك ما تدلّ عليه تلك المأثورات:

1- يستفاد من الروايات المختلفة أنّ الشفاعة من ضروريات التشيع و أنّ أئمة أهل البيت يجاهرون بذلك، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث المتقدّمة: 86، 106، 109.

2- إنّ الدقة فيما مرّ من الروايات المتواترة يقضي ببطلان ما ذهب إليه المعتزلة في معنى الشفاعة، و أنّ الحقّ في الشفاعة هو ما عليه جمهور المسلمين من أنّه عبارة عن غفران الذنوب الكبيرة ببركة شفاعة الشفيع و دعائه، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث المقدّمة: 1، 7، 15، 16، 55، 58، 65، 66، 85، 109 و غيرها من الروايات.

3- إنّ الشفاعة كما تحفظ من دخول النار توجب خروج المذنب من النار بعد الدخول فيها، فلاحظ الأرقام التالية: 26، 50، 57، 107 و غيرها.

ص:567

4- إنّ شفاعة الشافعين مشروطة بوجود مؤهلات في المشفوع لهم و قد جاءت شروطها في الروايات. منها: أن لا يكون مشركاً، و منها: أن يكون مسلماً، و منها: أن يكون مؤمناً، و منها: أن يكون محبّاً لأهل البيت لا ناصباً لهم العداء، و منها: أن لا يكون مستخفاً بالصلاة، نعم من كان مؤدياً للأمانة، و حسن الخلق، و قريباً من الناس يشفع قبل كل أحد، فلاحظ في ذلك كلّه الأرقام التالية: 2، 3، 6، 9، 11، 17، 24، 91، 92، 103.

5- إنّ القرآن و إن أجمل مسألة الشفيع و لم يصرّح في ذلك إلّا في مورد أو موردين، غير أنّ الأحاديث أعطتصورة مفصّلة عن الشفعاء، و إليك أسماءهم مع الإشارة إلى الأحاديث الدالّة عليها.

أ- الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله من الشفعاء، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث الماضية: 4، 5، 7، 8، 10، 14، 56، 69، 73، 74، 76، 100، 101.

ب- الملائكة من الشفعاء، فلاحظ الأرقام التالية: 18، 21، 22.

ج- الأنبياء من الشفعاء، فلاحظ الأرقام التالية: 20، 21، 22.

د- أهل البيت من الشفعاء، فلاحظ الأرقام التالية: 51، 56.

ه- علي من الشفعاء، فلاحظ الرقم: 61.

و- فاطمة من الشفعاء، فلاحظ: 60، 82.

ز- العلماء من الشفعاء، فلاحظ: 20، 62، 95.

ح- الشهداء من الشفعاء، فلاحظ: 20، 22، 28، 62.

ط- القرآن من الشفعاء، فلاحظ: 43، 44، 56، 64.

ي- متعلّم القرآن و العامل به من الشفعاء، فلاحظ: 29.

ك- المؤمن من الشفعاء، فلاحظ: 77، 78، 88، 91، 93، 105، 111.

ل- من بلغ التسعين يشفع، لاحظ: 30.

ص:568

م- من كان حافظاً للرحم مؤدّياً للأمانة يشفع، لاحظ: 56.

ما ذكرناه عصارة هذه الروايات، و أمّا الوقوف على الجزئيات فيتوقف على ملاحظتها واحدة بعد الأُخرى.

ص:569

الفصل السابع التوسّل

اشارة

مفهومه و أقسامه و حكمه

في الشريعة الإسلامية الغرّاء

ص:570

ص:571

تمهيد

تمهيد

الحمد للَّه رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف أنبيائه و أفضل سفرائه محمد و آله الطاهرين و على عباد اللَّه الصالحين.

أمّا بعد: فقد خلق اللَّه سبحانه العالم التكويني على أساس الأسباب و المسبّبات، فلكل ظاهرة في الكون سبب عادي يؤثّر فيها بإذنه سبحانه، و ليس للعلم و العالم التجريبي شأن سوى الكشف عن تلك الروابط الموجودة بين الظواهر الكونية، و كلّما تقدّم العلم في ميادين الكشف، تتجلّى تلك الروابط بأعمقصورة لدينا و الكلُّ يدلّ على أنّه سبحانه خلق النظام الكوني على أساس وسائل و أسباب تتبنّى مسبّباتها بتنظيم منه سبحانه إذ «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً» «(1)» و الماء سبباً للحياة فالكل مؤثرات فيما سواه حسب مشيئته و إذنه، قال سبحانه: «وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» «(2)» و الباء في الآية بمعنى السببية و الضمير يرجع إلى الماء، و قال أيضاً: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ


1- يونس: 5.
2- البقرة: 22.

ص:572

الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ» «(1)»، فالآيةصريحة في تأثير الماء على الزرع، و أنّه سبحانه أعطى له تلك المقدرة و كلٌّ من الأسباب جنود له سبحانه، قال: «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» «(2)» فإذا كانت الملائكة جنوداً للَّه تبارك و تعالى كما يقول سبحانه: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» «(3)» فالأسباب العادية التي تعتمد عليها الحياة الجسمانية للإنسان، جنوده سبحانه في عالم المادة و مظاهر إرادته و مشيئته.

و هذا ليس بمعنى تفويض النظام لهذه الظواهر المادية، و القول بتأصّلها في التأثير و استقلالها في العمل، بل الكل متدلٍّ بوجوده سبحانه، قائم به، تابع لمشيئته و إرادته و أمره.

هذا هو الذي نفهمه من الكون و يفهمه كل من أمعن النظر فيه، فكما أنّ الحياة الجسمانية قائمة على أساس الأسباب و الوسائل، فهكذا نزول فيضه المعنوي سبحانه إلى العباد تابع لنظام خاص كشف عنه الوحي، فهدايته سبحانه تصل إلى الإنسان عن طريق ملائكته و أنبيائه و رسله و كتبه، فاللَّه سبحانه هو الهادي، و القرآن أيضاً هادٍ، و النبي الأكرم أيضاً هادٍ و لكن في ظل إرادة اللَّه سبحانه، قال سبحانه: «وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» «(4)» و قال سبحانه: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» «(5)» و قال سبحانه في حقّ نبيّه: «وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «(6)».


1- السجدة: 27.
2- المدثّر: 31.
3- التوبة: 40.
4- الأحزاب: 4.
5- الإسراء: 9.
6- الشورى: 52.

ص:573

فهداية اللَّه تعالى تصل إلى الإنسان عن طريق الأسباب و الوسائل التي جعلها اللَّه سبحانه طريقاً لها و إلى هذا الأصل القويم يشير الإمام الصادق عليه السلام في كلامه و يقول: «أبى اللَّه أن تجري الأشياء إلّا بأسباب فجعل لكل شي ءٍ سبباً، و جعل لكل سبب شرحاً» «(1)»

.

فعلى ضوء هذا الأساس فالعالم المعنوي يكون على غرار العالم المادي فللأسباب سيادة و تأثير بإذنه سبحانه، و قد شاء اللَّه أن يكون لها دور في كلتا النشأتين، فلا ضير على من يطلب رضا اللَّه أن يتمسّك بالوسيلة، قال اللَّه سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «(2)».

فاللَّه سبحانه حثّنا للتقرب إليه على التمسّك بالوسائل و ابتغائها، و الآية دعوة عامة لا تختص بسبب دون سبب، بل تأمر بالتمسّك بكل وسيلة توجب التقرّب إليه سبحانه، و عندئذٍ يجب علينا التتبّع في الكتاب و السنّة، حتّى نقف على الوسائل المقرّبة إليه سبحانه، و هذا ممّا لا يعلم إلّا من جانب الوحي، و التنصيص عليه في الشريعة، و لو لا ورود النص لكان تسمية شي ء بأنّه سبب للتقرّب، بدعة في الدين؛ لأنّه من قبيل إدخال ما ليس من الدين في الدين.

و نحن إذا رجعنا إلى الشريعة نقف على نوعين من الأسباب المقرّبة إلى اللَّه سبحانه:

النوع الأوّل: الفرائض و النوافل التي ندب إليها الكتاب و السنّة، و منها التقوى، و الجهاد الواردان في الآية، و إليه يشير عليّ أمير المؤمنين عليه السلام و يقول: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللَّه سبحانه و تعالى، الإيمان به، و برسوله،


1- الكافي 1: 183.
2- المائدة: 35.

ص:574

و الجهاد في سبيله؛ فإنّه ذروة الإسلام، و كلمة الإخلاص؛ فإنّها الفطرة، و إقام الصلاة؛ فإنّها الملّة، و إيتاء الزكاة؛ فإنّها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان؛ فإنّه جُنّة من العقاب، و حجّ البيت و اعتماره؛ فإنّهما ينفيان الفقر، و يرحضان الذنب، وصلة الرحم؛ فإنّها مثراة في المال، و منسأة في الأجل، وصدقة السرّ؛ فإنّها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية؛ فإنّها تدفع ميتة السوء؛ وصنائع المعروف؛ فإنّها تقي مصارع الهوان» «(1)»

.

غير أنّ مصاديق هذا النمط من الوسيلة لا تنحصر فيما جاء في الآية أو في تلك الخطبة بل هي من أبرزها.

النوع الثاني: وسائل ورد ذكرها في الكتاب و السنّة الكريمة، و حثّ عليها الرسول و توسّل بها الصحابة و التابعون و كلّها توجب التقرّب إلى اللَّه سبحانه، و هذا هو الذي نطلبه في هذا الأصل حتى يعلم أنّ الوسيلة لا تنحصر في الفرائض و المندوبات الرائجة بل هناك وسائل للتقرّب دلّت عليها السنّة، و هي التوسّل بالنبي الأكرم على أشكاله المختلفة التي سنذكرها، فهذا عليّ عليه السلام يقول في ذكر النبيّصلى الله عليه و آله: «اللّهمّ اعل على بناء البانين بناءه، و أكرم لديك نُزُله، و شرِّف عندك منزله و آته الوسيلة و أعطه السناء و الفضيلة، و احشرنا في زمرته» «(2)»

.

فإذا وقفنا على أنّ النبيّ هو الوسيلة المقرّبة إلى اللَّه، فتجب علينا مراجعة السنّة لنطّلع على كيفية التوسّل به فهي تبيّن لنا تلك الكيفية. فعلى من يطلب استجابة دعائه، أن يتوسّل إلى اللَّه بأسباب جعلها اللَّه سبحانه وسيلة لهذا المبتغى.


1- نهج البلاغة: الخطبة 110.
2- المصدر نفسه: الخطبة 106.

ص:575

التوسّل لغة و اصطلاحاً

التوسّل لغة و اصطلاحاً

التوسّل لغة من وسلت إلى ربّي وسيلة: عملتُ عملًا أتقرّبُ به إليه، و توسّلت إلى فلان بكتاب أو قرابة، أي تقربتُ به إليه «(1)».

و قال الجوهري في الصحاح: الوسيلة ما يتقرّب به إلى الغير و الجمع: الوُسُل و الوسائل «(2)».

و نحن في غنى عن تحقيق معنى الوسيلة في اللغة؛ لأنّها من المفاهيم الواضحة لدينا و حقيقتها لا تتجاوز اتّخاذ شي ء ذريعة إلى أمر آخر يكون هو المقصود و المبتغى، و هي تختلف حسب اختلاف المقاصد.

فمن ابتغى رضا اللَّه تبارك و تعالى يتوسّل بالأعمال الصالحة التي بها يكتسب رضاه، و من طلب استجابة دعائه يتوسّل بشي ء جُعِل في الشريعة وسيلة لها، و من أراد زيارة بيت اللَّه الحرام يتوسّل بما يوصله إليها، فوضوح معناه يبعثنا إلى أن نترك نقل أقوال اللغويين في ذلك المضمار و إن كانت أكثر كلماتهم في المقام متماثلة.


1- الخليل، ترتيب العين، مادة« وسل».
2- الصحاح، ج 5، مادة« وسل».

ص:576

و المقصود من التوسّل في المقام، هو أن يقدِّم العبدُ إلى ربّه شيئاً، ليكون وسيلةً إلى اللَّه تعالى لأن يتقبّل دعاءه و يجيبه إلى ما دعا، و ينالَ مطلوبه، مثلًا إذا ذكر اللَّه سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا و مجّده و قدّسه و عظّمه، ثمّ دعا بما بدا له، فقد اتّخذ أسماءه وسيلة لاستجابة دعائه و نيل مطلوبه، و مثله سائر التوسّلات، و التوسّل بالأسباب في الحياة أمر فطري للإنسان، فهو لم يزل يدق بابها ليصلَ إلى مسبباتها، و قال الإمام الصادق عليه السلام: «أبى اللَّه أن تجري الأشياء إلّا بأسباب فجعل لكل شي ء سبباً» «(1)».

إنّ الوسيلة إذا كانت وسيلة عادية للشي ء و سبباً طبيعياً له، فلا يشترط فيها إلّا وجود الصلة العادية بين الوسيلة و المتوسّل إليه، فمن يريد الشبع فعليه الأكل و لا يُريحه شربُ الماء؛ إذ لاصلة بين شرب الماء، و سدِّ الجوع، فالعقلاء في حياتهم الدنيوية ينتهجون ذلك المنهج بوازع فطري، أو بعامل تجريبي، نرى أنّ ذا القرنين عند ما دُعي إلى دفع شرّ يأجوج و مأجوج اللّذين كانوا يأتيان من وراء الجبل و يفسدان و يقتلان و يغيران عليهم، لبّى دعوتهم و تمسّك بالسبب الطبيعي القويم الذي يدفع به شرّهم فخاطبهم بقوله: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً* فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» «(2)».

ففي هذا الموقف العصيب توسّل ذو القرنين- ذلك الإنسان الإلهي- بسبب طبيعي؛ إذ إنّه وقف على الصلة بين الوسيلة و ما يهدف إليه، و هو سدّ الوديان بِقِطَعِ الحديد حتى إذا ساوى بين الجبلين أمر الحدّادين أن ينفخوا في نار الحديد التي أُوقدت فيه حتى جعله ناراً، و عند ذلك قال: ائتوني نحاساً مذاباً أوصفراً مذاباً،


1- الكافي 1: 183.
2- الكهف: 96- 97.

ص:577

حتى أصبَّه على السد بين الجبلين و ينسد بذلك النقب و يصير جداراً مصمتاً، فكانت حجارته الحديد و طينه النحاس الذائب.

ففي المورد و أضرابه التي بنيت عليها الحياة الإنسانية في هذا الكوكب، لا يشترط بين الوسيلة و الهدف سوى الرابطة الطبيعية أو العادية التي كشف عنها العلم و التجربة و أمّا التوسّل في الأُمور الخارجة عن نطاق الأُمور العادية، فبما أنّ التعرّف على أسبابه خارج عن إطار العلم و التجربة بل يُعدّ من المكنونات الغيبية، فلا يقف عليها الإنسان إلّا عن طريق الشرع و تنبيه الوحي، و بيان الأنبياء و الرسل و ما ذاك إلّا لأنّهم هم الذين يرفعون الستار عن وجه الحقيقة و يصرّحون بالوسيلة و يبيّنون بأنّ هناكصلة بينها و بين ما يبغيه الإنسان المتوسّل.

و هذا الأصل يبعثنا إلى أن لا نتوسل بشي ء فيما نبتغيه من رضا الربّ، و غفران الذنوب و استجابة الدعاء و نيل المنى، إلّا عن طريق ما عيّنه الشارع وصرّح بأنّه وسيلة لذلك الأمر، فالخروج عن ذلك الإطار يسقطنا في مهاوي التشريع و مهالك البِدع التي تعرّفتَ على مضاعفاتها.

فالمسلمون سلفُهم و خلفهم،صحابيّهم و تابعيّهم، و التابعون لهؤلاء بإحسان في جميع الأعصار ما كانوا يخرجون عن ذلك الخط الذي رسمناه، فما نَدَب إليه الشرع في مجال التوسّل يأخذون به، و ما لم يذكره، أو نهى عنه يتركونه، و لا اعتبار بالبدَعِ المحدثة التي ما أنزل اللَّه بها من سلطان.

و ها نحن نتلو عليك التوسّلات المشروعة التي ندب إليها الشرع، و حثّ عليها النبي الأكرم و خلفاؤه مجتنبين عن الإسهاب في الكلام، مقتصرين على اللبّ تاركين القشر.

ص:578

اقسام التوسل

(1) التوسّل بأسمائه وصفاته

أمر اللَّه سبحانه عباده بدعائه بأسمائه الحسنى فقال تعالى: «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» «(1)».

إنّ الآية تصف أسماءه كلَّها بالحسنى لحسن معانيها، من غير فرق بين ما يرجع إلىصفات ذاته كالعالم و القادر، و الحي، و ما يرجع إلىصفات فعله كالخالق و الرازق و المحيي و المميت، و من غير فرق بين ما يفيد التنزيه و رفع النقص كالغنيّ و القدّوس، و ما يعرب عن رحمته و عفوه كالغفور و الرحيم، فعلى المسلم دعاؤه سبحانه بها فيقول: يا اللَّه يا رحمن يا رحيم، يا خالق السماوات و الأرض، يا غافر الذنوب و يا رازق الطفل الصغير. و تركِ عملِ الذين يعدلون بأسماء اللَّه تعالى عمّا هي عليه فيسمّون بها أصنامهم بالزيادة و النقصان، فيسمّون أصنامهم باللات و العزّى أخذاً من اللَّه العزيز، سيجزون ما كانوا يعملون في الآخرة.

فعند ما يذكره العبد بأسمائه التي تضمّنت كل خير و جمال، و رحمة و مغفرة


1- الأعراف: 180.

ص:579

و عزّة و قدرة، ثمّ يعقبه بما يطلبه من مغفرة الذنوب و قضاء الحوائج فيستجيب له سبحانه، و قد دلّت على ذلك، الآثار الصحيحة التي نذكر منها ما يلي:

1- أخرج الترمذي عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه أنّ رسول اللَّه سمع رجلًا يقول: اللّهمّ إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت اللَّه لا إله إلّا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفواً أحد، فقال النبي: «لقد سألتَ اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، و إذا سُئل به أعطى» «(1)»

.

و الحديث تضمّن بيان الوسيلة، و التوسّل بالأسماء، و إن لم يأت فيه الغرض الذي لأجله سأل اللَّه تعالى بأسمائه.

2- عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى النبيصلى الله عليه و آله تسأله خادماً، فقال لها:

«قولي: اللّهمّ ربّ السماوات السبع، و ربّ العرش العظيم، ربّنا و ربّ كل شي ء و منزل التوراة و الإنجيل و القرآن، فالق الحبّ و النوى، أعوذ بك من شرّ كل شي ء أنت آخذ بناصيته، أنت الأوّل فليس قبلك شي ء، و أنت الآخر فليس بعدك شي ء، و أنت الظاهر فليس فوقك شي ء، و أنت الباطن فليس دونك شي ء، اقض عني الدين و أغنني من الفقر» «(2)»

.

3- و أخرج أحمد و الترمذي عن أنس بن مالك، أنّه كان مع رسول اللَّه جالساً و رجل يصلّي، ثمّ دعا: اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت، أنت المنّان بديع السماوات و الأرض يا ذا الجلال و الإكرام يا حيّ يا قيّوم، فقال النبي: «تدرون بم دعا اللَّه؟ دعا اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، و إذا سُئل به أعطى» «(3)»


1- الترمذي، الصحيح 5: 515 برقم 3475، الباب 65 من كتاب الدعوات.
2- الترمذي، الصحيح 5: 518 برقم 3481، الباب 68 من كتاب الدعوات.
3- الترمذي، الصحيح 5: 549- 550 برقم 3544، الباب 100 من كتاب الدعوات.

ص:580

و في روايات أئمة أهل البيت: نماذج من هذا النوع من التوسّل يقف عليها الذي يسبر رواياتهم و أحاديثهم.

4- فقد روى الإمام الرضا عليه السلام عن جدّه محمد الباقر عليه السلام أنّه كان يدعو اللَّه تبارك و تعالى في شهر رمضان بدعاء جاء فيه: «اللّهمّ إنّي أسألك بما أنت فيه من الشأن و الجبروت، و أسألك بكلّ شأن وحده و جبروت وحدها، اللّهم إنّي أسألك بما تجيبني به حين أسألك فأجبني يا اللَّه» «(1)»

.

5- روى الشيخ الطوسي في مصباحه عن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام دعاءً باسم دعاء السمات مستهلّه:

«اللّهمّ إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم، الأعزّ الأجلّ الأكرم، الذي إذا دُعيتَ به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة، انفتحت؛ و إذا دُعيتَ به على مضايق أبواب الأرض للفرج، انفرجت؛ و إذا دعيت به على العسير لليسر تيسّرت...» «(2)»

.

إنّ ثناء اللَّه و تقديسه و وصفه بما وصف به في كتابه و سنّة نبيّه، يوجد أرضيةصالحة لاستجابة الدعاء، و يكشف عن استحقاق الداعي لرحمته و عفوه و كرمه.

و بما أنّ هذا القسم من التوسّل اتّفقت عليه الأُمّة سلفها و خلفها و لم يذكر فيه أيّ خلاف فلنقتصر فيه على هذا المقدار.


1- إقبال الأعمال: 348، ط 1416 ه.
2- مصباح المتهجد: ص 374.

ص:581

التوسّل بالقرآن الكريم

(2) التوسّل بالقرآن الكريم

إنّ الإنسان مهما كان مبدعاً في الوصف و التعبير، لا يستطيع أن يصف كلام اللَّه العزيز بمثل ما وصفه به سبحانه، فقد وصف هو كتابه بأنّه نور، و كتاب مبين، و هدًى للمتّقين، نزل بالحق تبياناً لكل شي ء، إلى غير ذلك من المواصفات الواردة فيه.

و كتابه سبحانه، فعله، فالتوسّل بالقرآن و السؤال به، توسّل بفعله سبحانه و رحمته التي وسعت كل شي ء، و مع ذلك كلّه يجب على المتوسّل، التحقّق من وجود دليل على جواز هذا النوع من التوسّل، لما عرفت من أنّ كل ما يقوم به المسلم من التوسّلات يلزم أن لا يخدش أصل التوحيد و حرمة التشريع، و لحسن الحظ أنَّك ترى وروده في الشرع.

روى الإمام أحمد، عن عمران بن الحصين، أنّه مرّ على رجل يقصّ، فقال عمران: إنّا للَّه و إنّا إليه راجعون سمعت رسول اللَّه يقول: «اقرءوا القرآن و اسألوا اللَّه تبارك و تعالى به قبل أن يجي ء قوم يسألون به الناس» «(1)»

. فعموم لفظ الحديث


1- الإمام أحمد، المسند 4: 445. و رواه في كنز العمال عن الطبراني في الكبير، و البيهقي في شعب الإيمان، لاحظ ج 1: 608/ 2788.

ص:582

يدلّ على جواز سؤاله سبحانه بكتابه المنزل ما شاء من الحوائج الدنيوية و الأُخروية.

و الإمعان في الحديث يرشدنا إلى حقيقة واسعة و هي جواز السؤال بكل من له عند اللَّه منزلة و كرامة، و ما وجه السؤال بالقرآن إلّا لكونه عزيزاً عند اللَّه، مكرّماً لديه، و هو كلامه و فعله، و هذا أيضاً متحقّق في رسوله الأعظم و أوليائه الطاهرين عليهم سلام اللَّه أجمعين.

و ورد عن أئمة أهل البيت: أنّه يستحبّ في ليلة القدر أن يفتح القرآن فيقول:

«اللّهمّ إنّي أسألك بكتابك المنزل و ما فيه، و فيه اسمك الأكبر و أسماؤك الحسنى و ما يخاف و يرجى أن تجعلني من عتقائك من النار» «(1)»


1- إقبال الإعمال: ص 41. رواه حريز بن عبد اللَّه السجستاني عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.

ص:583

التوسّل بالأعمال الصالحة

(3) التوسّل بالأعمال الصالحة

إذا كان التوسّل بمعنى تقديم شي ء إلى ساحة اللَّه ليستجيب الدعاء، فلا شك في أنّ العمل الصالح أحسن شي ء يتقرّب به الإنسان إلى اللَّه تعالى، و أحسنُ وسيلةٍ يُتمسّك بها فتكون نتيجة التقرّب هي نزول رحمته عليه و إجابة دعائه، و في بعض الآيات الكريمة تلميح إلى ذلك، و إن لم يكن فيها تصريح إلّا أنّ السنّة النبويّةصرّحت بذلك، أمّا الآيات فنأتي بنموذجين منها:

1- «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «(1)».

ترى أنّ إبراهيم و ولده الحليم قدّما إلى اللَّه تبارك و تعالى وسيلة و هي بناء البيت، فعند ذلك طلبا من اللَّه سبحانه عدّة أُمور تجمعها الأُمور التالية:

تقبّل منّا، و اجعلنا مسلمين لك، و من ذريّتنا أُمّة مسلمة لك، و أرنا مناسكنا، و تب علينا.


1- البقرة: 127- 128.

ص:584

و الآية و إن لم تكنصريحة فيما نبتغيه غير أنّ دعاء إبراهيم في الظروف التي كان يرفع فيها قواعد البيت مع ابنه، ترشدنا إلى أنّ طلب الدعاء في ذلك الظرف، لم يكن أمراً اعتباطياً، بل كانت هناكصلة بين العمل الصالح و الدعاء، و أنّه في قرارة نفسه تمسك بالأوّل ليستجيب دعاءه.

2- قوله سبحانه: «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ» «(1)».

ترى أنّه عطف طلب الغفران بالفاء على قوله: «رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا»، ففاء التفريع تعرب عنصلة بين الإيمان و طلب الغفران.

و أنت إذا سبرت الآيات الكريمة تقف على نظير ذلك فكلّها من قبيل التلميح لا التصريح، غير أنّ في السنّة النبوية تصريح على أنّ ذكر العمل الصالح الذي أتى به الإنسان للَّه تبارك و تعالى، يثير رحمته، فتنزل رحمته على عبده و يُستجاب دعاؤه، و قد روى الفريقان القصّة التالية و فيها غنى و كفاية:

روى البخاري عن ابن عمران عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر، فآووا إلى غارٍ فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنّه و اللَّه يا هؤلاء لا ينجيكم إلّا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنّه قدصدق فيه.

فقال واحد منهم: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمِلَ لي على فرق من أرُز، فذهب و تركه، و إنّي عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً، و أنّه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنّما لي عندك فَرَق من أرُز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فإنّها من ذلك


1- آل عمران: 16.

ص:585

الفَرَق، فساقها، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة.

فقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأتُ عليهما ليلةً، فجئتُ و قد رقدا، و أهلي و عيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أُوقظهما و كرهت أن أدعهما فَيسْتَكنّا لشربتهما، فلم أزل انتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبّ الناس إليّ و أنّي راودتها عن نفسها فأبت إلّا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرتُ، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعدت بين رجليها فقالت: اتّق اللَّه و لا تفضّ الخاتم إلّا بحقّه، فقمت و تركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، ففرّج اللَّه عنهم فخرجوا» «(1)»

.

لم تكن الغاية من تحديث النبي بما ذكر إلّا تعليم أُمّته حتى يتّخذوا ذكر العمل الصالح وسيلة لاستجابة دعوتهم. و لو كان ذلك من خصائص الأُمم الماضية لصرّح بها. و قد رواه الفريقان باختلاف في اللّفظ.

3- روى البرقي أحمد بن خالد (ت 274 ه) في محاسنه، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن المفضل بنصالح، عن جابر الجعفي، يرفعه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«خرج ثلاثة نفر يسيحون في الأرض، فبينما هم يعبدون اللَّه في كهف في قلّة جبل حتى بدتصخرة من أعلى الجبل حتى التقمت باب الكهف، فقال بعضهم


1- البخاري، الصحيح 4: 173، كتاب الأنبياء، الباب 53؛ و رواه في كتاب البيوع، الباب 98، و اللفظ لكتاب الأنبياء.

ص:586

لبعض: عباد اللَّه و اللَّه ما ينجيكم ممّا وقعتم إلّا أن تصدقوا اللَّه، فهلمّوا ما عملتم للَّه خالصاً، فانّما أُسلمتم بالذنوب.

فقال أحدهم: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي طلبت امرأة لحسنها و جمالها، فأعطيت فيها مالًا ضخماً، حتى إذا قدرت عليها و جلست منها مجلس الرجل من المرأة و ذكرت النار، فقمت عنها فزعاً منك، اللّهمّ فارفع عنّا هذه الصخرة، فانصدعت حتى نظروا إلى الصدع.

ثمّ قال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي استأجرت قوماً يحرثون كل رجل منهم بنصف درهم، فلمّا فرغوا أعطيتهم أُجورهم، فقال أحدهم: قد عملت عمل اثنين و اللَّه لا آخذ إلّا درهماً واحداً، و ترك ماله عندي، فبذرت بذلك النصف الدرهم في الأرض، فأخرج اللَّه من ذلك رزقاً، و جاءصاحب النصف الدرهم فأراده، فدفعت إليه ثمن عشرة آلاف، فإن كنت تعلم أنّما فعلته مخافة منك فارفع عنّا هذه الصخرة، قال: فانفرجت منهم حتى نظر بعضهم إلى بعض.

ثمّ إنّ الآخر قال: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّ أبي و أُمّي كانا نائمين، فأتيتهما بقعب من لبن، فخفت أن أضعه أن تمج فيه هامة، و كرهت أن أُوقظهما من نومهما، فيشق ذلك عليهما، فلم أزل كذلك حتى استيقظا و شربا، اللّهمّ فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك ابتغاء وجهك فارفع عنّا هذه الصخرة، فانفرجت لهم حتى سهل لهم طريقهم، ثمّ قال النبيصلى الله عليه و آله: منصدق اللَّه نجا» «(1)»

.

4- و قال الإمام الطبرسي: أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في


1- نور الثقلين: الجزء 3 في تفسير قوله:« أم حسبت أنّ أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجباً» الكهف: 9 نقلًا عن محاسن البرقي في تفسير الآية.

ص:587

غار، فانسدّ عليهم، فقالوا: ليدعُ اللَّه تعالى كل واحد منّا بعمله حتى يفرّج اللَّه عنّا، ففعلوا، فنجّاهم اللَّه. رواه النعمان بن بشر مرفوعاً «(1)».

و لعل فيها غنىً و كفاية و من أراد التوسّع فعليه السبر في غضون الروايات.


1- مجمع البيان 3: 452.

ص:588

التوسّل بدعاء الرسول الأكرم

(4) التوسّل بدعاء الرسول الأكرم

إنّ للنبي الأكرم مكانة مرموقة عند ربّه ليس لأحدٍ مثلها، فهو أفضل الخليقة، و قد بلغت عناية القرآن الكريم ببيان نواح من مناقبه إلى حد لا ترى مثل ذلك إلّا في حق القليل من أنبيائه، و ربما يطول بنا الكلام إذا قمنا بعرض جميع الآيات الواردة في حقّه، و إنّما نشير إلى بعضها.

فقد أشار الذكر الحكيم إلى مكانته المرموقة و لزوم توقيره و تكريمه و أنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء البعض للبعض بقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَصَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» «(1)» و قال سبحانه أيضاً: «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» «(2)».

و إلى كماله الرفيع و إمامته و كونه قدوة و أُسوة للمؤمنين يتأسّون به في قِيَمه و مُثُله العليا، بقوله سبحانه: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ


1- الحجرات: 2.
2- النور: 63.

ص:589

يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» «(1)».

و إلى عظمته و كرامته عند اللَّه بحيث يصلّي عليه سبحانه و ملائكته فأمر المؤمنين أن يصلّوا عليه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواصَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً» «(2)».

و إلى صفاء نفسه و قوة روحه و جمال خلقه بقوله: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «(3)».

و إلى عكوفه على عبادة ربّه و تهجّده في الليل و سهره في طريق طاعة اللَّه بقوله:

«إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» «(4)».

و إلى غزارة علمه بقوله: «وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» «(5)».

و إلى أنّهصلى الله عليه و آله أحد الأمانين في الأرض بقوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» «(6)».

و قد بلغت كرامة الرسول- عند اللَّه- إلى حدّ يتلو اسمه اسمَ اللَّه و ينسب إليهما فعل واحد و يقول: «وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ» «(7)».

و قال سبحانه: «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً» «(8)».


1- الأحزاب: 21.
2- الأحزاب: 56.
3- القلم: 4.
4- المزمل: 20.
5- النساء: 113.
6- الأنفال: 33.
7- التوبة: 94.
8- الأحزاب: 71.

ص:590

و قال اللَّه سبحانه: «وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» «(1)».

إلى غير ذلك من الآيات التي اقترن فيها اسم نبيه باسمه سبحانه و نسب إليهما فعل واحد و شهدت بكرامته عند اللَّه و قربه منه، فإذا كانت هذه منزلته عند اللَّه، فلا يرد دعاؤه، و تستجاب دعوته، فيكون دعاء مثل تلك النفس غير مردود، و المتمسك بدعائه متمسكاً بركن وثيق و عماد رصين، و لأجل تلك الخصوصية نرى أنّه سبحانه يأمر المذنبين من المسلمين بالتمسّك بذيل دعائه، و يأمرهم بأن يحضروا الرسول الأعظم و يستغفروا اللَّه في مجلسه و يسألوه أن يستغفر لهم أيضاً، فكان استغفاره لهم سبباً لنزول رحمته و قبوله توبتهم، قال سبحانه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» «(2)».

كما نرى أنّه سبحانه في آية أُخرى يندّد بالمنافقين بأنّه، إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللَّه، لوّوا رءوسهم، يقول سبحانه: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «(3)».

و ما هذا إلّا لأنّ دعاء الرسول دعاء مستجاب، و دعوته مقبولة، و استغاثته مستجابة، لأنّه نابع من نفس طاهرة مؤمنة راضية مرضية.

إنّ من الظلم الواضح تسوية دعاء النبي بدعاء سائر المسلمين و التعبير عن دعائهصلى الله عليه و آله بدعاء الأخ المؤمن! و جعل الجميع تحت عنوان واحد، فانّ لدعاء الأخ المؤمن مقاماً رفيعاً، و لكن أين هو من دعاء الرسول؟!

إنّ التوسّل بدعاء الإنسان الأمثل كان رائجاً في الرسالات السابقة، فنرى أنّ


1- التوبة: 74.
2- النساء: 64.
3- المنافقون: 5.

ص:591

أبناء يعقوب بعد ما كُشِفَ أمرهم و بان ظلمهم توسّلوا بدعاء أبيهم النبيّ و قالوا له:

«يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «(1)».

ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أنّ رحمة اللَّه الواسعة تارة تنزل على العبد مباشرة و بدون واسطة، و اخرى تنزل عن طريق أفضل خلائقه و أشرف رسله، بل مطلق رسله و سفرائه.

و في ذلك دلالة على وهن ما يلوكه بعض أشداق الناس فيقولون: إنّه سبحانه أعرف بحال عبده و أقرب إليه من حبل الوريد يراه و يسمع دعاءه؛ فلا حاجة لتوسط سبب و التوسّل بمخلوق و... هذه الكلمات تصدر عمّن ليس له إلمام بالقرآن الكريم و لا بالسنّة النبوية و لا بسيرة السلف الصالح؛ إذ ليس الكلام في علمه سبحانه، بل الكلام في أمر آخر و هو أنّ دعاء الإنسان الظالم لنفسه ربما لا يكونصاعداً إلى اللَّه تبارك و تعالى و مقبولًا عنده، و لكنّه إذا ضمّ إليه دعاء الرسول أصبح دعاؤه مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه.

و للشيخ محمد الفقي- من علماء الأزهر الشريف- كلام في المقام نأتي بملخّصه.

لقد شرّف اللَّه تعالى نبيّهصلى الله عليه و آله بأسمى آيات التشريف، و كرّمه بأكمل و أعلى آيات التكريم، فأسبغ عليه نِعَمه ظاهرة و باطنة، و توّجه بأعظم أنواع التيجان قدراً و ذكراً، و أرفع الأكاليل شأناً و خطراً. فذكر منزلته منه جلّ شأنه حيّاً و ميتاً في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواصَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً» «(2)» فأيّ تشريف أرفع و أعظم منصلاته سبحانه و تعالى هو و ملائكته عليهصلى الله عليه و آله؟ و أيّ تكريم أسمى بعد ذلك من دعوة عباده و أمره لهم بالصلاة


1- يوسف: 97- 98.
2- الأحزاب: 56.

ص:592

و السلام عليه صلى الله عليه و آله؟

و لم يقف تقدير اللَّه تعالى له عند هذا التقدير الرائع، بل هناك ما يدعو إلى الإعجاب و يلفت الأنظار إلى تعظيم على جانب من الأهمية، أ لم تر في قوله تعالى:

«لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» «(1)» ما يأخذ بالألباب و يدهش العقول، فقد أقسم سبحانه و تعالى بنبيّه في هذه الآية: «وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» «(2)» قال ابن عباس رضى الله عنه: ما خلق اللَّه و لا ذرأ و لا برأ نفساً أكرم على اللَّه من محمدصلى الله عليه و آله.

و ما سمعتُ أنّه تعالى أقسم بحياة أحد غيره، و القرآن الكريم تفيض آياته بسموّ مقامه، و توحي بعلوّ قدره، و جميل ذكره، فقد جعل طاعتهصلى الله عليه و آله طاعة له تعالى و قوله عزّ من قائل: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» «(3)» و علّق حبّه تعالى لعباده على اتّباعهصلى الله عليه و آله فيما بعث به و أرسل للعالمين، إذ يقول سبحانه: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» «(4)».

و ممّا يدل على مبلغ تقديره، و مدى محبة اللَّه تعالى، و تشريفه لرسولهصلى الله عليه و آله قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ» «(5)» الآية، قال عليّ رضى الله عنه: «لم يبعث اللَّه نبياً من آدم فمن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمدصلى الله عليه و آله لئن بعث و هو حيّ ليؤمننّ به و لينصرنّه و يأخذ العهد».

ففي ملازمة جبريل لهصلى الله عليه و آله من مكّة إلى بيت المقدس أكبر مظهر من مظاهر الشرف و الفخار، و أسمى آية من آيات التقدير للرسول الأعظم في حياة الأُمم


1- الحجر: 72.
2- الواقعة: 76.
3- النساء: 80.
4- آل عمران: 31.
5- آل عمران: 81.

ص:593

و تأريخها. فهذه الآيات التي قصصتها و جئتكم بها و إن كانت كلّها بصائر و هدى و رحمة لقوم يؤمنون لا أرى مانعاً من ذكر ما عداها، ففيها تنبيه الغافلين إلى مزيد من النظر فيما عساه أن يقنعهم و يهديهم إلى الإيمان بما جاءت به الآيات البيّنات، و ما يوحي به الدين و تعاليمه القويمة، فمن روائع ما يتمتع به من العظمة الصلاة عليهصلى الله عليه و آله عند بدء الدعاء و ختمه؛ فانّ في ذلك القبول و الاستجابة، فقدصحّ عن عمر و عليّ- رضي اللَّه عنهما- أنّهما قالا لرجل دعا و لم يصلِّ على النبيصلى الله عليه و آله: «إنّ الدعاء موقوف بين السماء و الأرض لا يرفع و لا تفتح له الأبواب حتى يصلّي الداعي على النبيصلى الله عليه و آله»، و مثل هذا لا يقال من قبيل الرأي فهو في حكم المرفوع، بل قد ثبت هذا مرفوعاً إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

و أخيراً قد دلّ قوله تعالى: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «(1)» على علوّ مكانته و جليل قدره و عظم شأنه؛ إذ المعنى في ذلك أنّنا قرنّا اسمك باسمنا، و جعلنا الإيمان لا يتحقّق إلّا بالنطق بالشهادتين، و غير ذلك من براهين الشريعة و أدلّتها التي لا تحصى و لا يمكن أن تستقصى.

و إليك ما قاله حسان بن ثابتصاحب الرسول و شاعره:

أغرَّ عليه للنبوّة خاتم من اللَّه من نور يلوح و يشهد

و ضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

و شقَّ له من اسمه لِيُجلَّه فذو العرش محمود و هذا محمد «(2)»

إنّ السبب الواقعي لاستجابة دعائه إنّما هو روحه الطاهرة و نفسه الكريمة


1- الانشراح: 4.
2- التوسّل و الزيارة ص 156- 160، و قد أورد في بحثه كثيراً من الآيات التي تشهد على عظمة رسول اللَّه و مكانته و قربه و قد لخّصنا كلامه

ص:594

و قربها من اللَّه سبحانه، و هي التي تضفي على الدعاء أثراً و تجعلهصاعداً و مدعماً لدعاء الغير.

نعم هناك كلام في اختصاص ذلك الأمر بحياة النبي الجسمانية، أو يعمّ حياته البرزخية التي فيها يُرزق و يفرح و يستبشر، فهناك من يخص الآية بحياته الجسمانية بحجة وروده فيها، و لكن الأدلة التي سنبيّنها توقفك على جلي الحال، فانتظر...

ص:595

التوسّل بدعاء النبيّ في حياته البرزخية

(5) التوسّل بدعاء النبيّ في حياته البرزخية

اشارة

ذكرنا لك دعوة القرآن الكريم المذنبين للتوسّل بدعاء النبي الأكرم، و هناك من يخصّ مفاد الآيات بحياة النبي الجسمانية قائلًا بانقطاعه عنّا بموته و انتقاله إلى الحياة البرزخية، و ما ذلك إلّا أخذاً بظاهر الآية الواردة في حياته الدنيوية، و هذه الفكرة لها قيمتها لدى أصحابها، و لكن للمناقشة فيها مجال واسع. فاذا دلّت الآيات الكريمة و السنّة النبوية على امتداد حياته بعد انتقاله إلى البرزخ و وجود الصلة بينه و بيننا، لزم القول بعموم مفاد الآية و شمولها لما بعد الموت، خصوصاً إذا دعمها عمل السلف الصالح و التابعين لهم بإحسان، فهناك مواضيع من البحث لا يمكن القضاء البات فيها إلّا بعد دراستها في ضوء الكتاب و السنّة، و هذه المواضيع هي:

1- حياة الأنبياء و الأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ.

2- وجود الصلة بيننا و بينهم، حيث يسمعون كلامنا و يجيبون دعوتنا.

3- سيرة السلف الصالح على التوسّل بالنبيصلى الله عليه و آله بعد انتقاله إلى البرزخ.

و إليك دراسة المواضيع واحداً تلو الآخر.

ص:596

الأوّل: حياة الأنبياء و الأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ:

هذا الموضوع هو المهم بين المواضيع التي ذكرت، و يمكن الاستدلال عليه من خلال أُمور بعضها يدلّ على حياتهم بصورة مباشرة و أُخرى غير مباشرة، و إذا لاحظنا مجموع الأدلّة نقطع بحياتهم البرزخية بلا ريب، و إليك هذه الأُمور:

أ- دلّت الآيات الشريفة على حياة الشهداء؛ حياة حقيقية مقترنة بآثارها من الرزق و الفرح و الاستبشار و درك المعاني و الحقائق، قال سبحانه: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» «(1)».

فالآية تدل على حياة الشهداء و ارتزاقهم عند ربهم مقترنة بالآثار الروحية من الفرح و الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، و تبشيرهم على أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، إلى غير ذلك ممّا جاء في الآيتين.

إنّ اللَّه سبحانه يطرح حياتهم لأجل إظهار إكرامه و نعمته عليهم، و بذلك يرد الفكرة السائدة فيصدر الرسالة من أن موت الشهيد انتهاءُ حياته. و إذا كان الشهداء أحياءً لأجل استشهادهم في سبيل دين اللَّه الذي جاء به النبي الأكرم، فهل يُتصوّر أن يكون الشهداء أحياءً، و لا يكون النبيّ- الأفضل- القائد حيّاً، و هذا ما لا تقبله الفطرة السليمة، و أيّ مسلم لهج بخلافه فانّما يلهج بلسانه و ينكره بقلبه و عقله.


1- آل عمران: 169- 171.

ص:597

ب- هذا هو حبيب النجار لم يكن له شأن سوى أنّهصدّق المرسلين و لقى من قومه أذىً شديداً حتى قضى نحبه شهيداً. فنرى أنّه بعد موته خوطب بقوله سبحانه: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» ثمّ إنّه بعد دخوله الجنة يتمنّى عرفان قومه مقامه و مصيره بعد الموت فيقول: «قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» «(1)» فهو يتمنّى في ذلك الحال لو أنّ قومه الموجودين في الدنيا علموا أنّ اللَّه سبحانه غفر له و جعله من المكرمين، يتمنّى ذلك لأجل أن يرغب قومه في مثل ثوابه و ليؤمنوا لينالوا ذلك.

و من المعلوم أنّ الجنة التي حلّ فيها حبيب النجار كانت قبل يوم القيامة، بشهادة أنّه تمنّى عرفان أهله مقامه و إكرام اللَّه له و هم على قيد الحياة الدنيوية، و إن لحقهم العذاب بعد ذلك، قال: «وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ* إِنْ كانَتْ إِلَّاصَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» «(2)» فإذا كان الشهداء و الصالحون- أمثال حبيب النجار المصدِّق للرسل- أحياءً يرزقون فما ظنّك بالأنبياء و الصدّيقين المتقدّمين على الشهداء، قال سبحانه: «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» «(3)» فلو كان الشهيد حيّاً يرزق فالرسول الأكرم الذي ربّى الشهداءَ و استوجب لهم تلك المنزلة العليا، أولى بالحياة بعد الوفاة و بعدهم الصدّيقون.

ج- دلّت الآيات الكريمة و البراهين العقلية على أنّ الموت ليس فناء الإنسان و نفاده، و إنّما هو انتقال من عالم إلى آخر، نعم الماديون المنكرون لعالمِ الأرواح،


1- يس: 26- 27.
2- يس: 28- 29.
3- النساء: 69.

ص:598

و النافون لما وراء الطبيعة يعتقدون بأنّ الموت فناء الإنسان و ضلاله في الأرض بحيث لا يبقى شي ء من بعد ذلك إلّا الذرّات المادية المبعثرة في الأرض، و لهذا كانوا ينكرون إمكان إعادة الشخصية البشرية؛ إذ ليس هناك شي ء متوسط بين المبتدأ و المعاد.

و لهذا جاء الوحي يندد بتلك الفكرة و يفنِّد دليلهم المبني على قولهم: «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» فردّهم بقوله: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» «(1)».

و توضيح الردّ أنّ الموت ليس ضلالًا في الأرض و أنّ شخصية الإنسان ليست هي الضالة الضائعة في ثنايا التراب، و إنّما الضال في الأرض هو أجزاء البدن المادّي، فهذه الأجزاء هي التي تتبعثر في الأجواء و الأرض، و لكن هذه لا تشكّل شخصية الإنسان، بل شخصيته شي ء آخر هو الذي يأخذه ملك الموت، و هو عند اللَّه محفوظ، كما يقول: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» فإذاً لا معنى للتوفّي إلّا الأخذ و هو أخذ الأرواح و الأنفس و نزعها من الأبدان و حفظها عند اللَّه.

و هناك آية أُخرى تفسّر لنا معنى التوفّي بوضوح و أنّه ليس بمعنى الموت و الفناء، بل الأخذ و القبض أي قبض شي ء موجود و أخذ شي ء واقعي، يقول سبحانه:

«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» «(2)» فمفاد الآية أنّ اللَّه يقبض الأنفس و يأخذها في مرحلتين: حين الموت و حين النوم، فما قضى عليها بعدم الرجوع إلى الدنيا أمسكها، و لم يردّها إلى الجسد، و ما لم يقض


1- السجدة: 10- 11.
2- الزمر: 42.

ص:599

عليها كذلك أرسلها إلى أجل مسمّى. كل ذلك يكشف عن أنّ الموت ليس فناءَ الإنسانِ و آية العدم، بل هناك انخلاع عن الجسد و ارتحال إلى عالم آخر.

د- و هناك كلمة قيّمة لأبي الشهداء الحسين بن علي عليه السلام توضح هذه الحقيقة إذ قال لأصحابه في يوم عاشوراء: «صبراً يا بني الكرام فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس و الضراء، إلى الجنان الواسعة و النعم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، و ما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن و عذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول اللَّه: أنّ الدنيا سجن المؤمن، و جنّة الكافر، و الموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، و جسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبتُ و لا كُذِّبتُ» «(1)».

و في هذه الآيات غنى و كفاية لثبوت الحياة البرزخية للأنبياء و الشهداء و الصدّيقين، بل لغيرهم و قد شهدت بذلك الآيات الكريمة التي لا مجال لنقلها «(2)»، و هذه الحقيقة ممّا أجمع عليها أئمة أهل السنّة، فهذا الإمام الأشعري يقول: «و من عقائدنا أنّ الأنبياء: أحياءٌ» و قد ألّف كتاباً أسماه «حياة الأنبياء» «(3)».

فلنقتصر بهذا البيان في إثبات الموضوع الأوّل و قد تركنا الاحتجاج على حياتهم بما ورد في السنّة النبويّة و سيوافيك بعضها في المستقبل.

الثاني: الصلة بين الحياة الدنيوية و الحياة البرزخية:

هذا هو الموضوع الثاني من المواضيع الثلاثة التي يتوقف عليها إثبات ما هو المقصود في هذا المبحث.


1- بلاغة الحسين: ص 47.
2- و قد أشبعنا الكلام في ذلك عند البحث في الحياة البرزخيّة فلاحظ.
3- طبقات الشافعية 3: 406.

ص:600

القول بالحياة البرزخية للأنبياء و الصدّيقين لا يفي وحده بما هو المهم هنا ما لم يثبت أنّ هناكصلة بيننا و بينهم في البرزخ، بحيث يسمعوننا و يستطيعون أن يردّوا علينا، و هذا هو الموضوع الثاني الذي أشرنا إليه و هنا نكتفي بأبرز الآيات الواردة في هذا المضمار التي تدلّ على إمكان الاتصال بالأرواح المقدسة الموجودة في عالم البرزخ، و هذا و إن أثبته علم النفس بعد تجارب كثيرة، و لكنّنا أخذنا على أنفسنا أن نستدلّ بالكتاب و السنّة، و لو كان هناك شي ء في العلم فهو أيضاً يدعم مدلول الكتاب و السنّة.

إنّ الكتاب و السنّة تضافرا على إمكان اتصال الإنسان الموجود في الدنيا بالإنسان الحي في عالم البرزخ و قد مرّت البرهنة على وجود الصلة بين الحياتين عند البحث في الحياة البرزخية فراجع «(1)».

الثالث: سيرة السلف الصالح في التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله:
اشارة

النظر إلى سيرة المسلمين بعد لحوق النبي الأكرمصلى الله عليه و آله بالرفيق الأعلى يثبت أنّهم كانوا يتوسّلون بدعائه، كتوسّلهم به قبل لحوقه به فما كانوا يرون فرقاً بين الحالتين، فمن تصفّح سيرة المسلمين و رجع إلى غضون الكتب و شاهد عملهم في المسجد النبوي قرب مزاره الشريف، يلمس بسهولة استقرار السيرة على التوسّل بدعائه من غير فرق بين حياته و انتقاله، و ها نحن نذكر من أعمال بعض الصحابة و التابعين شيئاً يسيراً و نترك الباقي للمتصفّح في غضون الكتب.

إنّنا لا يمكننا تصديق جميع ما روي لكنّ بين المرويات قضاياصادقةصدرت


1- يراجع ص 430 من هذا الكتاب.

ص:601

عن أُناسصالحين ثمّ إنّها بكثرتها تدل على أنّ التوسّل كان أمراً رائجاً منذ عصر الصحابة إلى زماننا هذا، و لم يكن أمراً غريباً عند المسلمين.

و لو فرضنا أنّ بعض هذه القضايا تخالف الواقع، فلا ريب أنّه من باب استغلال الوضّاعين لأصل مسَلَّمصحيح بين المسلمين، و هوصحّة التوسّل بدعاء النبي الأكرم بعد رحيله؛ فانّهم نسجوا بعض القضايا في ظل ذلك الأصل.

و لو فرضنا أنّه لم يكن أمراً رائجاً بين المسلمين بل كان أمراً غريباً أو محظوراً لما تجرّأ المستغِل أن ينسج قضية كاذبة على نول الشرك أو المحرم، فانّ الذي يحفّز الوضّاع على نسج الخرافة هو استعداد العامة لقبول تلك الخرافة و لولاه لما تجرّأ عليه لعدم حصول الغاية المتوخّاة من نسجها.

فهذه القضايا الكثيرة تدلّ- على كلا التقديرين- على المطلوب، فإن كانتصادقة فبصدقها، و إن كانت كاذبة فلأجل حكايتها عن وجود أصل مسلّم بين المسلمين و هو التوسّل بدعاء النبي الأكرم قبل و بعد موته، و كان هذا الأصل ربما يستغل أحياناً من بعض المتاجرين بالدين.

على أنّ بعضها ممّا رواه الإمام البخاري و سائر أصحاب الصحاح فلنذكر نماذج:

1- هذا أبو بكر: أقبل على فرسه من مسكنه بالسنخ حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة- رضي اللَّه عنها- فتيمم النبيصلى الله عليه و آله و هو مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثمّ أكب عليه فقبّله ثمّ بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي اللَّه لا يجمع اللَّه عليك موتتين أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها «(1)».

فلو لم تكن هناكصلة بين الحياتين فما معنى قوله: «بأبي أنت يا نبي اللَّه» لو لم يكن سماع فما ذا قصد ذلك الصحابي من قوله: «لا يجمع اللَّه عليك موتتين».


1- البخاري، الصحيح 2: 17، كتاب الجنائز.

ص:602

2- روى أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (508- 581 ه) في الروض الأنف:

«دخل أبو بكر على رسول اللَّه في بيت عائشة و رسول اللَّه مسجّى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ثمّ أقبل عليه فقبّله، ثمّ قال: بأبي أنت و أُمّي أمّا الموتة التي كتب اللَّه عليك فقد ذُقتها ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً» «(1)».

3- روى الحلبي علي بن برهان الدين (975- 1044 ه) في سيرته و قال:

«جاء أبو بكر من السنخ وعيناه تهملان فقبّل النبيصلى الله عليه و آله فقال: بأبي أنت و أُمّي طبت حيّاً و ميتاً» «(2)».

4- روى مفتي مكّة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه، و قال: قال أبو بكر: طبت حيّاً و ميتاً، و انقطع بموتك ما لم ينقطع للأنبياء قبلك، فعظمت عن الصفة و جللت عن البكاء، و لو أنّ موتك كان اختياراً لجدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك و لنكن على بالك «(3)».

5- قال أمير المؤمنين علي عليه السلام عند ما ولي غسل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «بأبي أنت و أُمّي يا رسول اللَّه لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة و الإنباء و أخبار السماء- إلى أن قال:- بأبي أنت و أُمّي اذكرنا عند ربك و اجعلنا من بالك» «(4)»

.

و قد أوضح السبكي أمر الإجماع على الزيارة قولًا و فعلًا، و سرد كلام الأئمة في ذلك، و بيّن أنّها قربة بالكتاب و السنّة، و الإجماع، و القياس.


1- الروض الأنف 4: 260.
2- السيرة الحلبية 3: 474 ط. دار المعرفة، بيروت.
3- سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية 3: 391، ط. مصر.
4- نهج البلاغة: الخطبة 235.

ص:603

و أمّا الكتاب فقوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ» الآية دالّة على الحث بالمجي ء إلى الرسولصلى الله عليه و آله، و الاستغفار عنده، و استغفاره لهم و هذه رتبة لا تنقطع بموتهصلى الله عليه و آله، و قد حصل استغفاره لجميع المؤمنين، لقوله تعالى: «اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» فإذا وجد مجيئهم، فاستغفارهم، كملت الأُمور الثلاثة الموجبة لتوبة اللَّه و لرحمته. و قوله: «وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ»* معطوف عليه قوله:

«جاءوك» فلا يقتضي أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنّا لا نسلّم أنّه لا يستغفر بعد الموت، لما سبق الدليل على حياته و على استغفاره لأُمَّته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه، و يعلم من كمال رحمته أنّه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربّه.

و العلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت و الحياة، و استحبّوا لمن أتى القبر أن يتلوها و يستغفر اللَّه تعالى، و حكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمة عن العُتبى، و اسمه محمد بن عبد اللَّه بن عمرو، أدرك ابن عيينة و روى عنه، و هي مشهورة حكاها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب، و استحسنوها، و رأوها من أدب الزائر، و ذكرها ابن عساكر في تاريخه، و ابن الجوزي في مثير الغرام الساكن، و غيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبيصلى الله عليه و آله، فزرته و جلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثمّ قال: يا خير الرسل إنّ اللَّه أنزل عليك كتاباًصادقاً قال فيه: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ- إلى قوله- رَحِيماً» و إنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي، متشفعاً بك، و في رواية: و قد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثمّ بكى و أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهنّ القاع و الأكم

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه فيه العفاف و فيه الجود و الكرم

ثمّ استغفر و انصرف، قال: فرقدت فرأيت النبيصلى الله عليه و آله في نومي و هو يقول: احق

ص:604

الرجل و بشّره بأنّ اللَّه غفر له بشفاعتي، فاستيقظت، فخرجت أطلبه فلم أجده.

قلت: بل قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام»: إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبيصلى الله عليه و آله، و حثا من ترابه على رأسه، و قال: يا رسول اللَّه قلت فسمعنا قولك، و وعيت عن اللَّه سبحانه و ما وعينا عنك، و كان فيما أُنزل عليك: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ...» و قد ظلمت، و جئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: انّه قد غفر لك، انتهى.

و روى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد اللَّه الكرخي عن علي بن محمد ابن علي، قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن ابنصادق، عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه، فذكره، و لا منافاة بين النقلين؛ لإمكان التعدّد، و على فرض الوحدة فأحد الناقلين اقتصر؛ و الآخر أسهب في النقل، فنقل جميع القصة. و قد أدرك ذلك الأعرابي بسلامة فطرته أنّ الآية الكريمة التي تدعو المسلمين إلى المجي ء إلى النبي حتى يطلبوا منه أن يستغفر لهم، ليست خاصة بحياة النبي الدنيوية، بل تعم الحياة الأُخروية، فلأجل ذلك قام يطلب من النبي أن يستغفر له.

و قال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد- أحد الرواة- عن مالك فيما يظهر، قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فقال له مالك: «يا أمير المؤمنين لا ترفعصوتك في هذا المسجد فانّ اللَّه تعالى أدّب قوماً فقال: «لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَصَوْتِ النَّبِيِّ» الآية، و مدح قوماً فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» الآية، و ذمّ قوماً فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ» الآية، و إنّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً، فاستكان لها

ص:605

أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد اللَّه أستقبلُ القبلة و أدعو أم أستقبلُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله؟

فقال: لِمَ تصرف وجهك عنه و هو وسيلتك و وسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى اللَّه تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله و استشفع به، فيشفّعه اللَّه تعالى قال اللَّه تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» الآية «(1)».

فانظر هذا الكلام من مالك، و ما اشتمل عليه من أمر الزيارة و التوسّل بالنبيصلى الله عليه و آله و استقباله عند الدعاء و حسن الأدب التام معه.

و قال أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب «باب زيارة قبر النبيصلى الله عليه و آله» و ذكر آداب الزيارة، و قال: ثمّ يأتي حائط القبر فيقف ناحيته و يجعل القبر تلقاء وجهه، و القبلة خلف ظهره، و المنبر عن يساره، و ذكر كيفية السلام و الدعاء.

منه: اللّهم إنّك قلت في كتابك لنبيك عليه السلام: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ» الآية، و إنّي قد أتيت نبيّك مستغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهمّ إنّي أتوجه إليك بنبيّكصلى الله عليه و آله و ذكر دعاءً طويلًا «(2)».

هذه نماذج قدمناها إليك لتكون على بيّنة من هذا الأمر و أنّه لم يكن هناك فرق بين الحياتين، و قد نقل المؤرّخون أُموراً كثيرة يضيق الوقت بنقلها و لو كنّا شاكّين فيصدق بعض هذه التوسّلات، و لكن نقل علماء السيرة و التاريخ المقدار الهائل من التوسّلات بدعاء النبي- بعد رحيله- يكشف عن أنّ التوسّل بدعاء النبي الأكرم كان أمراً رائجاً بين المسلمين و لم يكن أمراً غريباً و لا محظوراً و إلّا لماصحّ أن ينقل المؤرّخ ما يراه المسلمون أمراً مرغوباً عنه. و قد ذكرها بعض من المحقّقين في


1- الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 92.
2- وفاء الوفا 4: 1360- 1362.

ص:606

كتبهم فراجعها «(1)».

و ليس لنا أن نترك السيرة المستمرة الهائلة التي يلمسها من توقف هنيئة لدى القبر الشريف النبوي و قد قال سبحانه: «وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً» «(2)».

و قد نقل السمهودي نبذاً ممّا وقع لمن استغاث بالنبي أو طلب منه شيئاً عند قبره فأُعطي مطلوبه و نال مرغوبه ممّا ذكره الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» «(3)».

التلوّن في الاستدلال

نرى أنّ المانعين عن التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية يتلوّنون في الاستدلال، فتارة ينفون حياة النبي بعد الموت، و أُخرى ينفون إمكان الاتصال، و ثالثة يدعون لغوية هذا العمل، و نعوذ باللَّه من قولهم الرابع إذ يعدّون العمل شركاً و عبادة للرسول، أمّا الثلاث الأُول فقد ظهرت حالها، و أمّا الشرك فلا يدرى كيف يوصف به، مع أنّ هذا عمل واحد يُطلَب في حياة النبي و يُطلَب بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أ فيمكن أن يكون شي ء واحد توحيداً في حالة و شركاً في أُخرى؟

مع أنّه لا يسأل الرسولُ بما أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الداعي، و إنّما يسأله بما أنّه عبدصالح ذو نفس طاهرة و كريمة و هو أفضل الخلائق و أحد الأمانين في الأرض يستجاب دعاؤه و لا يرد.


1- لاحظ شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي، و الدرر السنية لزيني دحلان، و المبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي لابن علان، و نصرة الإمام السبكي برد الصارم المنكي للسمهودي.
2- النساء: 115.
3- وفاء الوفا 4: 1380- 1387. طالع ذلك الفصل تجد فيه حكايات و قضايا كثيرة تدل على جريان السيرة بين المسلمين على التوسّل بدعاء النبي الأكرم.

ص:607

التوسّل بدعاء الأخ المؤمن

(6) التوسّل بدعاء الأخ المؤمن

التوسّل بدعاء الأخ المؤمن تمسّك بما جعله اللَّه سبحانه سبباً لاستجابة الدعاء، و قد دلّت الآيات على أنّ الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا، و أنَّ المؤمنين اللاحقين يستغفرون للسابقين، و هذا يدلّ على أنّ دعاء الأخ في حقّ أخيه، أمر مرغوب فيه و مطلوب و مستجاب، فإذا كان كذلك فعلى المذنب أن يتوسّل بهذا السبب المشروع و يطلب من أخيه الدعاء له، قال سبحانه: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» «(1)».

و قال سبحانه: «وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «(2)».


1- غافر: 7.
2- الحشر: 10.

ص:608

فدعاء حملة العرش و اللاحقين من المؤمنين سببصالح لإجابة الدعاء، فعلى المسلم الواعي التمسك بمثل هذا السبب و طلب الدعاء منهم.

و في السنّة الشريفة ما يدلّ على ذلك، روى مسلم و الترمذي عن عبد اللَّه عن عمرو بن العاص أنّه سمع رسول اللَّه يقول: «إذا سمعتم المؤذّن، فقولوا مثلما يقول، ثمّصلّوا عليّ؛ فانّه منصلّى عليّصلاة،صلّى اللَّه عليه بها عشراً، ثمّ سلوا اللَّه لي الوسيلة؛ فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبدٍ من عباد اللَّه، و أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» «(1)».

فهذا الحديث يدلّ بظاهره على أنّ الرسول يتوسّل إلى اللَّه تعالى بدعاء أُمّته له، أن يؤتيه الوسيلة و المقام المحمود في الجنة، و يكون جزاؤه شفاعتَه في حقّهم. فإذا كان هذا حال النبي فنحن من باب أولى يحقّ لنا أن نتمسك بهذه الوسيلة:

و في روايات أئمة أهل البيت تصاريح بذلك، نذكر بعضها لتتجلّى الحقيقة بأجلِّ مظاهرها، فانّ العترة الطاهرة أحد الثقلين اللّذين أمر النبي بالتمسّك بهما و المتمسّك بهما لن يضل:

1- روى أبو بصير، عن أبي جعفر، قال: «إنّ عليّ بن الحسين قال لأحد غلمانه: يا بنيّ اذهب إلى قبر رسول اللَّه فصلِّ ركعتين، ثمّ قل: اللّهمّ اغفر لعليّ بن الحسين خطيئته يوم الدين، ثمّ قال للغلام: اذهب فأنت حرّ لوجه اللَّه» «(2)»

.

2- روى محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: «كان علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له و لا أمة، و كان إذا أذنب العبد يكتب عنده: أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا و كذا و لم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب


1- مسلم: الصحيح 2: 4، كتاب الصلاة، الباب 6؛ الترمذي الجامع الصحيح 5: 589، كتاب المناقب، الباب الأوّل، و اللفظ للأوّل.
2- البحار 46: 92، نقلًا عن كتاب الزهد لحسين بن سعيد الأهوازي.

ص:609

حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم و جمعهم حوله ثمّ أظهر الكتاب، ثمّ قال يا فلان: فعلت كذا و كذا و لم أُؤدِّبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا ابن رسول اللَّه، و يقررهم جميعاً، ثمّ يقوم وسطهم و يقول لهم: ارفعوا أصواتكم و قولوا: يا علي بن الحسين إنّ ربّك قد أحصى عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا... فاعف و اصفح كما ترجو من المليك العفو، و كما تحب أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عفوّاً ربك رحيماً- إلى أن قال:- فيقول لهم: قولوا اللّهمّ اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنّا، فأعتِقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك، فيقول: اللّهمّ آمين ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوتُ عنكم و أعتقتُ رقابكم رجاءً للعفو عنّي و عتق رقبتي» «(1)»

.

3- و كان أصحاب أئمة أهل البيت يتوسّلون بدعائهم، و هذا هو علي بن محمد الحجال كتب إلى أبي الحسن الإمام الهادي و جاء في كتابه: «أصابتني علّة في رجلي و لا أقدر على النهوض و القيام بما يجب فإن رأيت أن تدعو اللَّه أن يكشف علّتي و يعينني على القيام بما يجب عليّ و أداء الأمانة في ذلك...» «(2)».


1- البحار 46: 102، نقلًا عن كتاب الإقبال للسيد ابن طاوس المتوفّى عام 664 ه.
2- كشف الغمة 3: 251.

ص:610

التوسّل بالأنبياء و الصالحين أنفسهم

(7) التوسّل بالأنبياء و الصالحين أنفسهم

اشارة

هناك قسم آخر من التوسّل و هو التوسّل بذوات الأنبياء و الصالحين و جعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء، و التنويه بما لهم من المقام و المنزلة عند اللَّه سبحانه، و هذا غير القسم الخامس، ففي القسم الماضي كنّا نتوسّل بدعاء النبي و نجعل دعاءه وسيلة إلى الرب و في هذا القسم نجعل نفس الرسول و كرامته عند اللَّه وسيلة إلى الرب.

و من الإمعان في القسم السابق يُعرف مفهوم هذا التوسّل؛ لأنّ التوسّل بدعائه لأجل أنّه دعاء روح طاهرة، و نفس كريمة، و شخصية مثالية و أفضل الخلائق، ففي الحقيقة ليس الدعاء بما هو دعاء وسيلة، و إنّما الوسيلة هي الدعاء النابع عن تلك الشخصية الإلهية التي كرّمها اللَّه و عظّمها و رفع مقامها و ذكرها و قال: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «(1)».

و أمر المسلمين بتكريمه و تعزيره حيث قال: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ


1- لانشراح: 4.

ص:611

وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «(1)» فقوله «عزَّروه» بمعنى أكرموه.

فإذا كان رصيد استجابة الدعاء هو شخصيته الفذّة المثالية، و منزلته عند اللَّه فالأولى أن يتوسّل بها الإنسان كما يتوسّل بدعائه، فمن اعترف بجواز الأوّل و منع الثاني فقد فرّق بين أمرين متلازمين، و ما دعاهم إلى التفريق بينهما إلّاصيانة لمعتقدهم.

و بدورنا نغض النظر عن هذا الدليل و نذكر ما ورد في السنّة النبوية مروياً عن طريقصحيح أقرّ به الأقطاب من أهل الحديث.

توسل الضرير بنبيّ الرحمة

عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلًا ضريراً أتى النبي فقال: ادعُ اللَّه أن يعافيني فقالصلى الله عليه و آله: «إن شئتَ دعوتُ و إن شئتَصبرتَ و هو خير».

قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه و يصلّي ركعتين و يدعو بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهمّ شفّعه فيَّ».

قال ابن حنيف: فو الله ما تفرّقنا و طال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ «(2)».

إنّ الاستدلال بالرواية مبني علىصحّتها سنداً و تمامية دلالتها مضموناً.

أمّا الأوّل: فلم يناقش فيصحّتها إلّا الجاهل بعلم الرجال، حتى أنّ ابن تيمية


1- الأعراف: 157.
2- الترمذي، الصحيح كتاب الدعوات، الباب 119، برقم 3578؛ و سنن ابن ماجة 1: 441 برقم 1385؛ مسند أحمد 4: 138 إلى غير ذلك من المصادر و سيأتي في المتن نصوصهم حول وصف الحديث.

ص:612

قال: قد روى الترمذي حديثاًصحيحاً عن النبي أنّه علّم رجلًا أن يدعو فيقول:

اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّك. و روى النسائي نحو هذا الدعاء» «(1)».

و قال الترمذي: هذا حديث حق حسنصحيح.

و قال ابن ماجة: هذا حديثصحيح.

و قال الرفاعي: لا شك أنّ هذا الحديثصحيح و مشهور «(2)».

و بعد ذلك فلم يبق لأحد التشكيك فيصحّة سند الحديث إنّما الكلام في دلالته و إليك البيان:

إنّ الحديث يدل بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبي بتعليم منهصلى الله عليه و آله و الأعمى و إن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر إلّا أنّ النبي علّمه دعاء تضمن التوسّل بذات النبي، و هذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.

و بعبارة ثانية: أنّ الذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران:

الأوّل: أنّ الرجل طلب من النبيصلى الله عليه و آله الدعاء و لم يظهر منه توسّل بذات النبي.

الثاني: أنّ الدعاء الذي علّمه النبي، تضمّن التوسّل بذات النبي بالصراحة التامة، فيكون ذلك دليلًا على جواز التوسّل بالذات.

و إليك الجمل و العبارات التي هيصريحة في المقصود.

1- اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّك:

إنّ كلمة «بنبيّك» متعلقة بفعلين هما «أسألك» و «أتوجّه إليك» و المراد من النبيصلى الله عليه و آله نفسه القدسية و شخصيته الكريمة لا دعاؤه.

و تقدير كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيّك» حتى يكون المراد هو «أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك» تحكّم و تقدير بلا دليل، و تأويل بدون مبرّر، و لو


1- مجموعة الرسائل و المسائل 1: 13.
2- التوصل إلى حقيقة التوسّل: ص 158.

ص:613

أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجَهْمية و القدريّة.

2- محمد نبي الرحمة:

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من اللَّه بواسطة النبيصلى الله عليه و آله و شخصيته فقد جاءت بعد كلمة «بنبيّك» جملة «محمد نبي الرحمة» لكي يتّضح نوع التوسّل و المتوسّل به بأكثر ما يمكن.

3- يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي:

إنّ جملة «يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» تدلّ على أنّ الرجل الضرير- حسب تعليم الرسول- اتّخذ النبي نفسَه، وسيلة في دعائه أي أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائهصلى الله عليه و آله.

4- و شفّعه في:

إنّ قوله «و شفّعه في» معناه يا رب اجعل النبي شفيعي، و تقبّل شفاعته في حقّي، و ليس معناه تقبل دعاءه في حقّي؛ فإنّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتى يكون معنى هذه الجملة: استجب دعاءه في حقّي.

و لو كان هناك دعاء من النبي لذكره الراوي؛ إذ ليس دعاؤهصلى الله عليه و آله من الأُمور غير المهمّة حتى يتسامح الراوي في حقّه.

و حتى لو فرضنا أنّ معناه «تقبّل دعاءه في حقّي» فلا يضر ذلك بالمقصود أيضاً؛ إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان: دعاء الرسول و لم يُنْقَل لفظه، و الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، و قد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبي و شخصه وصفاته، و ليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاء.

لقد أورد هذا الحديث النسائي و البيهقي و الطبراني و الترمذي و الحاكم في مستدركه، و لكن الترمذي و الحاكم ذكرا جملة «اللّهمّ شفّعه فيه» بدل «و شفّعه في».

ص:614

إجابة عن سؤال

إنّ من يمنع التوسّل بشخصية الرسول المثالية لمّا وقع أمام هذا الحديث تعجّب عاضّاً على أُنملته، فحمل الحديث على أنّه من قبيل التوسّل بدعاء الرسول لا بشخصه و ذاته الكريمة مستدلّاً بقول الضرير «ادع اللَّه أن يعافيني» و قد خلط بين أمرين:

الأوّل: المحاورة الابتدائية التي وقعت بين النبي و الضرير، فكان المطلوب بلا شك هو طلب الدعاء من النبي، و هذا ما لا ينكره أحد، إنّما الكلام فيما يأتي.

الثاني: الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير؛ فإنّه تضمّن التوسّل بذات النبي و لا يمكن لأحد أن ينكر التصاريح الموجودة في الحديث.

و التصرّف في النصّ الثاني بحجة أنّ الموضوع في المحاورة الأُولى هو طلب الدعاء، تصرف نابع من اتخاذ موقف مسبق قبل النظر إلى الحديث؛ فإنّ الأعمى لم يدر في خلده في البداية سوى دعاء الرسول المستجاب، و لكن الدعاء الذي علّمه الرسول أن يدعوَ به بعد التوضّؤ، مشتمل على التوسّل بذات النبي.

قال الدكتور عبد الملك السعدي: و قد ظهر في الآونة الأخيرة أُناس ينكرون التوسّل بالذات مطلقاً، سواء كانصاحبها حيّاً أو ميّتاً، و قد أوّلوا حديث الأعمى و قالوا: إنّ الأعمى لم يتوسّل و لم يأمره النبيصلى الله عليه و آله به بل قال له:صلِّ ركعتين ثمّ اطلب منّي أن أدعو لك ففعل.

و أنت يا أخي عليك أن تقرأ نص الحديث هل يحتمل هذا التأويل، و هل فيه هذا المدّعى؟ أم أنّه أخذ يطلب من اللَّه مستشفعاً بالنبيصلى الله عليه و آله، و لم يدع لهصلى الله عليه و آله. و لو أراد منه ذلك لاستجاب له أوّل مرّة حيث طلب منه الدعاء بالكشف عن بصره فأبى إلّا أن يصلّي و يتولّى الأعمى بنفسه الدعاء «(1)».


1- البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق: ص 46 ط بغداد.

ص:615

التوسّل بذات النبيّ بعد رحيله
اشارة

إنّ الصحابي الجليل عثمان بن حنيف فهم من الحديث السابق أنّ التوسّل بذات النبي و شخصه يعمّ حياته و مماته، فلأجل ذلك عند ما رجع إليه بعضُ أصحاب الحاجة علّمه نفس الدعاء الذي علّمه الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله للضرير لحسن الحظ كان ما توصّل إليه ناجحاً.

روى الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (ت 360 ه) عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف، أنّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه و لا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضاة فتوضّأ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثمّ قل: «اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّنا محمدصلى الله عليه و آله نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي» فتذكر حاجتك و رح إليَّ حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان رضى الله عنه، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان بن عفان رضى الله عنه، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال:

ما حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثمّ قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة، و قال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك اللَّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي و لا يلتفت إليّ حتى كلّمته في، فقال عثمان بن حنيف: و اللَّه ما كلّمته، و لكنّي شهدت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيصلى الله عليه و آله: أ فتبصر؟ فقال: يا رسول اللَّه ليس لي قائد و قد شقّ عليّ.

فقال النبيصلى الله عليه و آله: ائت الميضاة فتوضّأ ثمّصلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.

ص:616

قال ابن حنيف: فو الله ما تفرّقنا و طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط «(1)».

إنّ دلالة الحديث على جواز التوسّل بذوات الصالحين و أخصّ منهم الأنبياء أمر لا سترة فيه، نعم بعض من لا يروقه هذا النوع من التوسّل، أراد التشكيك في الرواية بوجهين، فقال:

أوّلًا: إنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو دعاء الشخص المتوسّل به إلى اللَّه تعالى بقضاء حاجة المتوسّل لا كما يعرفه القوم في زماننا هذا من التوسّل بذات المتوسّل به.

ثانياً: لو كان دعاء الأعمى الذي علّمه رسول اللَّه دعاءً ينفع في كلّ زمان و مكان لما رأينا أيّ أعمى على وجه البسيطة «(2)».

يلاحظ على كلامه الأوّل: بأنّه من غرائب الكلام فقد جعل من مذهبه دليلًا على ضعف الرواية، و هو أنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو التوسّل بدعاء الشخص لا بذاته. فمن أين علم أنّه مذهب الصحابة؟! و هل يعرف مذهبهم إلّا من خلال أحاديثهم، مع أنّ الحديثين المرويين عن طريق الصحابي الجليل عثمان بن حنيف يدلّان على خلافه؟

و أمّا الثاني: فهو اطّراح للوحي، و ازدراء به، و لوصحّ ما ذكره فلقائل أن يقول: لوصحّ قوله سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» «(3)» يجب أن لا يبقى على وجه البسيط ذو عاهة.

و الجواب عن تلك الوسوسة في كلا المقامين واحد، و هو أنّ الدعاء مقتض


1- المعجم الكبير 9: 16- 17، باب ما أُسند إلى عثمان بن حنيف، برقم 8310، و المعجم الصغير له أيضاً 1: 183- 184.
2- التوصل إلى حقيقة التوسّل: ص 335.
3- غافر: 60.

ص:617

لنزول الرحمة و دفع الكُربة و لكن ليس السبب تامّاً لنجاح المقصود، بل له شروط و له موانع و عوائق، و لأجل ذلك نرى أنّ بعض الأدعية لا تستجاب، مع أنّه سبحانه يحثّ على الدعاء و أنّه يستجيب دعاء من دعاه، و يقول: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» «(1)».

مناقشة في سند الرواية

لقد تعرّفت على تمامية دلالة الرواية و هناك من يريد المناقشة في سندها، و لا يخدش فيها إلّا لأنّ الرواية تضاد عقيدته فيقول:

إنّ في سند هذا الحديث رجلًا اسمه روح بنصلاح و قد ضعّفه الجمهور و ابن عديّ و قال ابن يونس: يروي أحاديث منكرة «(2)».

أظنّ أنّ الكاتب لم يرجع إلى مصدرها و إنّما تبع تقوّل الآخرين، و نحن نضع أمامك سند الحديث من المصدرين اللّذين روي عنهما الحديث و لا ترى فيهما أثراً من روح بنصلاح و إليك السند:

روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدّثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري: حدثنا أصبغ بن الفرح: حدثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي، عن روح ابن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عمّه عثمان بن حنيف «(3)».

و رواه البيهقي بالسند التالي:

أخبرنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد رحمه الله: أنبأنا الإمام أبو بكر محمد ابن علي بن الشاشي القفال قال: أنبأنا أبو عروبة: حدّثنا العباس بن الفرج: حدّثنا


1- غافر: 60.
2- التوصل إلى حقيقة التوسّل: ص 237.
3- المعجم الكبير 9: 17، و في المعجم الصغير له« أصبغ بن الفرج» مكان« أصبغ بن الفرح».

ص:618

إسماعيل بن شبيب: حدّثنا أبي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني... إلخ السند «(1)».

و أنت ترى أنّه ليس في طريق الرواية روح بنصلاح بل هو روح بن القاسم و الكاتبصرّح بأنّ الرواية رواها الطبراني و البيهقي، و هذا يعرب عن أنّ الكاتب لم يرجع إلى المصدرين و إنّما اعتمد على تقوّل الآخرين.

نحن نفترض أنّه ورد في سند الرواية روح بنصلاح و لكن ما ذكره من أنّ الجمهور ضعّفوه أمر لا تصدّقه المعاجم الموجودة فيما بين أيدينا، و إنّما ضعّفه ابن عدي و في الوقت نفسه وثّقه ابن حِبّان و الحاكم. قال الذهبي: روح بنصلاح المصري يقال له ابن سيّابة ضعّفه ابن عدي، يكنّى أبا الحارث و قد ذكره ابن حبان في الثقات و قال الحاكم: ثقة مأمون «(2)».

سيرة الأُمم في توسّلهم بالذوات الطاهرة
اشارة

لم يكن التوسّل بالصالحين و الطيبين و المعصومين و المخلصين من عباد اللَّه أمراً جديداً في زمن النبي و بعده، بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الإسلام، و نحن نضع أمامك قسماً من هذه التوسلات لتكون على علم بأنّ الفطرة السليمة تدعو الإنسان إلى التوسّل بالموجودات الطاهرة لجلب رحمته تعالى.

1- استسقاء عبد المطلب بالنبي و هو رضيع

إنّ عبد المطلب استسقى بالنبي الأكرم و هو طفلصغير، حتى قال ابن حجر: إنّ


1- دلائل النبوة 6: 168.
2- ميزان الاعتدال 2: 85/ 2801.

ص:619

أبا طالب يشير بقوله:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل

إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش و النبي معه غلام «(1)».

2- استسقاء أبي طالب بالنبي و هو غلام

أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة، قال: قدمت مكة و هم في قحط، فقالت قريش، يا أبا طالب أقحط الوادي، و أجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب و معه غلام يعني النبيصلى الله عليه و آله كأنّه شمس دجى تجلّت عن سحابة قتماء، و حوله أُغيلمه، فأخذ النبيَّ أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، و لاذَ إلى الغلام و ما في السماء قزعة، قأقبل السحاب من هاهنا و هاهنا و أغدق و اغدودق، و انفجر له الوادي، و أخصب النادي و البادي، و في ذلك يقول أبو طالب:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل «(2)»

و قد كان استسقاء أبي طالب بالنبي و هو غلام، بل استسقاء عبد المطلب به و هوصبي أمراً معروفاً بين العرب، و كان شعر أبي طالب في هذه الواقعة ممّا يحفظه أكثر الناس.

و يظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي صلى الله عليه و آله كان موضع رضا منهصلى الله عليه و آله فانّه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس فجاء المطر و أخصب الوادي فقال النبي: لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه، و من ينشدنا قوله؟ فقام علي عليه السلام و قال: يا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كأنّك أردت قوله:


1- فتح الباري 2: 398؛ دلائل النبوة 2: 126.
2- فتح الباري 2: 494؛ السيرة الحلبية 1: 116

ص:620

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل «(1)»

إنّ التوسّل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع، قال الدكتور عبد الملك السعدي: من السنّة أن نُخرج معنا إلى الصحراء الشيوخ و الصبيان و البهائم لعلَّ اللَّه يسقينا بسببهم «(2)».

و هذا هو الإمام الشافعي يقول في آدابصلاة الاستسقاء: «و أُحب أن يخرج الصبيان، و يتنظفوا للاستسقاء، و كبار النساء، و من لا هيبة منهنّ، و لا أُحبّ خروج ذات الهيبة، و لا آمر بإخراج البهائم» «(3)».

فما الهدف من إخراج الصبيان و النساء الطاعنات في السن، إلّا استنزال الرحمة بهم و بقداستهم و طهارتهم؟ كل ذلك يعرب عن أنّ التوسّل بالأبرياء و الصلحاء و المعصومين مفتاح استنزال الرحمة و كأنّ المتوسّل يقول: ربّي و سيّدي!! الصغير معصوم من الذنب، و الكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، و كلتا الطائفتين أحقّ بالرحمة و المرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا، حتى تعمّنا في ظلّهم.

إنّ الساقي ربّما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة، و في ظلّها تُسقى الأعشاب و سائر الخضراوات غير المفيدة.

3- توسّل الخليفة بعمّ النبي: العباس

روى البخاري فيصحيحه قال: كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضى الله عنه و قال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، و إنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال: فيُسقون «(4)».


1- إرشاد الساري 2: 338
2- البدعة: ص 49.
3- الأُم 1: 230.
4- البخاري، الصحيح 2: 32 باب صلاة الاستسقاء.

ص:621

و الحديثصحيح السند، فما ظنك برواية رواها الإمام البخاري، لكن من لا يروق له التوسّل بالذوات الطاهرة أخذ يؤوّل الحديث بأنّ الخليفة توسّل بدعاء العباس لا بشخصه و منزلته عند اللَّه. و أضاف على ذلك أنّه لو كان قصده ذات العباس لكانت ذات النبيصلى الله عليه و آله أفضل و أعظم و أقرب إلى اللَّه من ذات العباس، بلا شك و لا ريب، فثبت أنّ القصد كان الدعاء «(1)».

لا أظنّ أن أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف، يسوِّغ لنفسه أن يفسر الحديث بما ذكره أي التوسّل بالدعاء؛ لأنّ في الموضوع نصوصاً تردُّ ذلك، و إليك الإشارة إليها:

1- قول الخليفة عند الدعاء... قال: «اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، و إنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا». و هذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء، و توسّل بعمّ الرسول في دعائه، و لو كان المقصود هو التوسّل بدعائه، كان عليه أن يقول: يا عمّ رسول اللَّه كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا اللَّه، و الآن نطلب منك الدعاء فادع لنا.

2- روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لمّا اشتدّ القحط، فسقاهم اللَّه تعالى به، و أخصبت الأرض، فقال عمر:

هذا و اللَّه الوسيلة إلى اللَّه و المكان منه. و قال حسّان:

سأل الإمام و قد تتابع جدبنا فسقى الغمامُ بغُرّة العباسِ

عمِّ النّبي وصنوِ والده الذي ورث النبي بذاك دون الناسِ

أحيا الإله به البلاد فأصبحت مخضرّة الأجناب بعد الياسِ

و لمّا سُقي طفقوا يتمسّحون بالعباس و يقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين «(2)».


1- التوصل إلى حقيقة التوسّل: ص 253.
2- اسد الغابة 3: 111 ط مصر.

ص:622

أمعن النظر في قول الخليفة: هذا و اللَّه الوسيلة.

3- و يظهر من شعر حسّان أنّ المستسقي كان هو نفس الخليفة و هو الداعي حيث قال: «سأل الإمام...» و كان العباس وسيلته لاستجابة الدعاء.

قال الدكتور عبد الملك السعدي: و قد أوّلوا حديث العباس بأنّ عمر طلب من العباس أن يدعو لأنّهم كانوا إذا أجدبوا طلبوا من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يدعو لهم فكذا هنا طلب الدعاء من العباس. و هذا التأويل غير مقبول لوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ السنّة أن يدعو الإمام نفسه و القوم يؤمنون و هذا ما حصل حيث كان الداعي هو سيدنا عمر لا العباس.

الوجه الثاني: إنّ نص الحديث لا يدلّ على أنّ عمر طلب الدعاء من العباس بل كان هو الداعي، بدليل قوله: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل... و هذا عين الدعاء و لم يرد أيّ لفظ يشير إلى أنّه قال للعباس: ادع لنا بالسقيا.

و مع ذلك فأيّ خلل يحصل في الدين أو العقيدة إذا أجرينا النص على ظاهره و تركنا العناد و التعصّب؟

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: و يستبين من قصة العباس استحباب الاستسقاء بأهل الخير و الصلاح و أهل بيت النبوّة و فيه فضل العباس، و فضل عمر لتواضعه للعباس و معرفته بحقّه «(1)».

و أظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تبقي شكّاً و لا ريباً في خلد أحد في جواز التوسّل بالصالحين.

و أمّا ما ذكره من أنّه لو كان المقصود التوسّل بذات العباس لكان النبي بذلك أفضل و أعلم، فيلاحظ عليه أنّ الهدف من إخراج عمّ النبي إلى المصلّى و ضمّه إلى


1- البدعة: ص 46.

ص:623

الناس هو استنزال الرحمة، فكأنّ المصلّين يقولون ربّنا إذا لم نكن مستحقّين لنزول الرحمة، فإنّ عمّ النبيّ مستحقّ لها، فأنزل رحمتك إليه لتريحه من أزمة القحط و الغلاء و عندئذٍ تعمّ الرحمة لغير العباس، و من المعلوم أنّ هذا لا يتحقق إلّا بالتوسّل بإنسان حيّ يكون شريكاً مع الجماعة في المصير و في هناء العيش و رغده لا مثل النبيّ الراحل الخارج عن الدنيا و النازل في الآخرة، نعم يجوز التوسّل بشخصه أيضاً و لكن لا بهذا الملاك بل بملاك آخر لم يكن مطروحاً للخليفة في المقام.

و لو افترضناصحّة ما يُدَّعى من أنّ الخليفة توسّل بدعاء عمّ النبيّصلى الله عليه و آله فهو عبارة أُخرى عن التوسّل بذات النبيّ لبّاً؛ إذ لو لاصلته به لما قُدِّم للدعاء.

ص:624

التوسّل بحقّ الصالحين و حرمتهم و منزلتهم

(8) التوسّل بحقّ الصالحين و حرمتهم و منزلتهم

اشارة

إنّ من التوسّلات الرائجة بين المسلمين منذ وقعوا في إطار التعليم الإسلامي، التوسّل بمنازل الصالحين و حقوقهم على اللَّه، و هناك سؤال يطرح نفسه و هو أنّه:

كيف يمكن أن يكون لإنسان حقٌّ على اللَّه؟

بل الحقوق كلّها للَّه على العباد، و لكن الإجابة على السؤال واضحة؛ إذ ليس معنى ذلك أنّ للعباد أو لبعضهم على اللَّه سبحانه حقّاً ذاتياً يلزم عليه سبحانه الخروج عنه، بل للَّه سبحانه الحقّ كلّه، فله على الناس حقّ العبادة و الطاعة إلى غير ذلك، بل المراد المقام و المنزلة التي منحها سبحانه عباده تكريماً لهم، و ليس لأحد على اللَّه حقّ إلّا ما جعله اللَّه سبحانه حقّاً على ذمّته لهم تفضّلًا و تكريماً، قال سبحانه: «وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» «(1)».

روى مسلم عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال: قال لي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «هل تدري ما حقّ اللَّه على العباد؟» قال: قلت: اللَّه و رسوله أعلم، قال: «فإنّ حقّ اللَّه على العباد أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئاً»، ثمّ سار ساعة قال: «يا معاذ» قلت: لبيك رسول اللَّه


1- الروم: 47.

ص:625

و سعديك قال: «هل تدري ما حقّ العباد على اللَّه إذا فعلوا ذلك؟» قال: قلت: اللَّه و رسوله أعلم، قال: «أن لا يعذبهم» «(1)»

.

و روى الترمذي و قال: حديث حسن صحيح، و ابن حبان فيصحيحه، و الحاكم و قال:صحيح على شرط مسلم، عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ثلاثة حقّ على اللَّه عونهم: المجاهد في سبيل اللَّه، و المكاتب الذي يريد الأداء، و الناكح الذي يريد العفاف» «(2)»

.

فهذان الحديثان قد ثبت بهما وجود حقّ للعباد على اللَّه تعالى، إلّا أنّه حقّ تكريم لا حقّ إلزام و إيجاب.

إنّ للإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كلمة قيّمة في تفسير حقّ العباد على اللَّه، و أنّ هذا الحقّ ممّا منحه سبحانه تفضّلًا على عباده، قال: «فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف لا يجري لأحد إلّا جرى عليه، و لا يجري عليه إلّا جرى له، و لو كان لأحد أن يجري له و لا يجرى عليه لكان ذلك خالصاً للَّه سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده، و لعدله في كل ما جرتصروف قضائه، و لكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلًا منه و توسّعاً بما هو من المزيد أهله» «(3)»

.

و قد أوضح الإمام معنى حقّ الناس على اللَّه و أنّه ليس حقّاً ذاتياً للناس عليه بل كلّها تفضّل منه سبحانه: و ترى مثله في سائر المواضع حيث نرى أنّه يقترض من العباد و هو مالك للعباد و ما في أيديهم و يقول: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ» «(4)».


1- و 2 الترغيب و الترهيب 3: 43؛ و شرح النووي على صحيح مسلم 1: 231.
2- الترغيب و الترهيب 3: 43؛ و شرح النووي على صحيح مسلم 1: 231.
3- نهج البلاغة: الخطبة 216.
4- البقرة: 245 و الحديد: 11.

ص:626

فبعد هذه التصاريح على أنّ حقّ الناس على اللَّه مقتضى تفضّله سبحانه و تكرّمه على عباده ليس لنا أن نستشكل في تصوير حقّ الناس على اللَّه.

على أنّ هذا النوع من التوسّل لا يفترق عن التوسّل بذات النبي و شخصه فإنّ المنزلة و المقام مرآة لشخصه، و إنّ حرمة الشخص و كرامته نابعة من كرامة ذاته و فضيلتها، فلوصحّ التوسّل بالأوّل كما تعرّفت عليه من خلال الأحاديث يصح بالثاني بدون إشكال، و يدل عليه من الأحاديث ما نذكره:

1- التوسّل بحقّ السائلين

روى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: «اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، و أسألك بحق ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً و لا بطراً و لا رياءً و لا سُمعة إنّما خرجت اتّقاء سخطك و ابتغاء مرضاتك أن تعيذني من النار و أن تغفر ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت»، إلّا أقبل اللَّه عليه بوجهه و استغفر له سبعون ألف ملك «(1)»

.

إنّ دلالة الحديث واضحة لا يمكن لأحد التشكيك فيها، و سند الحديثصحيح و رجاله كلّهم ثقات، نعم اشتمل السند على عطية العوفي و قد وثّقه لفيف من أهل الجرح و التعديل.

قال أبو حاتم: يكتب حديثه، و قال ابن معين:صالح، و قال ابن حجر: عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي أبو الحسنصدوق، قال ابن عدي: قد روى عن جماعة من الثقات، توفّي سنة إحدى عشرة و مائة، قال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم أن يعرض عليه سبّ علي- إلى


1- ابن ماجة، السنن 1: 256/ 778؛ الإمام أحمد، المسند 3: 21.

ص:627

أن قال:- كان ثقة، و له أحاديثصالحة، و كان أبو بكر البزّاز يعدّه في التشيّع، روى عن جلّة الناس «(1)».

نعم، هناك من ضعّفه لا لأنّه غيرصدوق، بل لأنّه كان يتشيّع، و ليس تشيّعه إلّا ولاؤه لعلي و أهل بيته، و هل هذا ذنب؟!

إنّ لوضع الحديث دوافع خاصة توجد أكثرها في أبواب المناقب و المثالب و خصائص البلدان و القبائل، أو فيما يرجع إلى مجال العقائد، كالبدع الموروثة من اليهود و النصارى في أبواب التجسيم و الجهة وصفات الجنة و النار، و أمّا مثل هذا الحديث الذي يعرب بوضوح عن أنّه كلام إنسان خائف من اللَّه سبحانه ترتعد فرائصه من سماع عذابه فبعيد عن الوضع.

2- التوسّل بحقّ النبي و بحقّ من سبقه من الأنبياء

روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنّه لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ علي- رضي اللَّه عنها- دخل عليها رسول اللَّه فجلس عند رأسها فقال: «رحمكِ اللَّه يا أُمّي كنتِ أُمِّي بعد أُمِّي تجوعين و تشبعيني، و تعرين و تكسينني، و تمنعين نفسك طيب الطعام و تطعمينني، تريدين بذلك وجه اللَّه و الدار الآخرة».

ثمّ أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول اللَّه بيده، ثمّ خلع رسول اللَّه قميصه فألبسها إيّاه و كفّنها ببرد فوقها، ثمّ دعا رسول اللَّه أُسامة بن زيد و أبا أيوب الأنصاري و عمر بن الخطاب و غلاماً أسود يحفرون فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول اللَّه بيده و أخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول اللَّه فاضطجع فيه و قال: «اللَّه الذي يحيي و يميت و هو حي لا يموت


1- تقريب التهذيب 2: 24/ 216، و تهذيب التهذيب 7: 227/ 413.

ص:628

اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد و لقّنها حجتها، و وسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك و الأنبياء الذين من قبلي فإنّك أرحم الراحمين» و كبّر عليها أربعاً و أدخلها اللحد و العباس و أبو بكر.

و الاستدلال بالرواية يتوقف على تمامية الرواية سنداً و مضموناً.

أمّا المضمون فلا مجال للخدشة فيه، و أمّا السند فصحيح، رجاله كلّهم ثقات؛ لا يغمز في حقّ أحد منهم، نعم فيه روح بنصلاح وثّقه ابن حبّان و الحاكم؛ و قد عرفت كلام الذهبي فيه «(1)».

و قد رواه أئمة الحديث و أساتذته، و إليك أسماء من وقفنا على روايتهم:

1- رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في المعجم الأوسطص 356- 357.

2- رواه أبو نعيم عن طريق الطبراني في حلية الأولياء 3: 121.

3- رواه الحاكم في مستدركه 3: 108 و هو لا يروي في هذا الكتاب إلّا الصحيح على شرط الشيخين البخاري و مسلم.

4- رواه ابن عبد البرّ في الاستيعاب على هامش الإصابة 4: 382.

5- نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء 2: 118 برقم 7.

6- رواه الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفّى 708 في معجم الزوائد و منبع الفوائد 9: 256- 257، و قال: و رواه الطبراني في الكبير و الأوسط و فيه روح بنصلاح وثّقه ابن حبان و الحاكم.

7- رواه المتّقي الهندي في كنز العمال 13: 636 برقم 37608.

هؤلاء الحفّاظ نقلوا الحديث في جوامعهم، وصرّحوا بأنّ رجال السند رجال الصحيح، و لو كان هناك شي ء ففي روح بنصلاح و قد عرفت توثيقه من أساتذة


1- لاحظ للوقوف على حال روح بن صلاح المصري ميزان الاعتدال 2: 85/ 2801.

ص:629

الفن كابن حبان و الحاكم.

و أمّا التوسّل بحقّ الأولياء و الشخصيّات الإلهيّة ففي أدعية أئمة أهل البيت نماذج من أدعية التوسّل، و هي كثيرة و موزعة في الصحيفة العلوية «(1)» و دعاء عرفة «(2)» و الصحيفة السجادية «(3)» و غيرها من كتب الدعاء.

و فيما يلي نذكر نماذج من تلك الأدعية:

1- يقول الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء له:

«... بحقّ محمّد و آل محمّد عليك، و بحقّك العظيم عليهم أن تصلّي عليهم كما أنت أهله، و أن تعطيني أفضل ما أعطيت السائلين من عبادك الماضين من المؤمنين و أفضل ما تعطي الباقين من المؤمنين..» «(4)»

.

2- و يقول الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام في دعاء عرفة:

«... اللّهمّ إنّا نتوجّه إليك- في هذه العشية التي فرضتها و عظّمتها- بمحمد نبيّك و رسولك و خيرتك من خلقك».

3- و يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه بمناسبة حلول شهر رمضان:

«... اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا الشهر و بحقّ من تعبّد فيه» «(5)»

.

إلى هنا تمّت بعض الأدلّة على جواز التوسّل بالشخصيات الطاهرة التي لها منزلة و مكانة، و هناك روايات أُخرى في هذا الصدد نتركها لئلّا يطول بنا الكلام؛ فإنّ الغرض الإيجاز لا الإطناب.


1- و هي المجموعة التي تضم بعض أدعية الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام جمعها الشيخ عبد اللَّه السماهيجي.
2- و هو دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفات، يوم عرفة.
3- هي بعض أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام.
4- الصحيفة العلوية: 51.
5- الصحيفة السجادية: دعاء رقم 44.

ص:630

3- توسّل آدم بحقّ النبي
اشارة

قد تعرّفت على حقيقة حقّ العبد على اللَّه و ربّما يحتمل أن يراد منه منزلته و جاهه عند اللَّه و كرامته لديه قال نور الدين السمهودي:

اعلم أنّ الاستغاثة و التشفّع بالنبيصلى الله عليه و آله و بجاهه و بركته عند ربّه تعالى من فعل الأنبياء و سير السلف الصالح، واقع في كلّ حال، قبل خلقهصلى الله عليه و آله و بعد خلقهصلى الله عليه و آله في حياته الدنيوية و مدّة البرزخ و عرصات القيامة.

«و إذا جاز السؤال بحق الأعمال- كما في حديث الغار الصحيح و هي مخلوقة- فالسؤال بالنبيصلى الله عليه و آله أولى. و في العادة أنّ من له عند شخص قدر فتوسّل به إليه من غيبته فإنّه يجيب إكراماً للمتوسل به و قد يكون ذكر المحبوب أو المعظّم سبباً للإجابة» «(1)».

قال الدكتور عبد الملك السعدي: «إذا قلت: اللّهمّ إنّي توسّلت إليك بجاه فلان، لنبي أوصالح فهذا أيضاً مما ينبغي أن لا يحصل بجوازه خلاف؛ لأنّ الجاه ليس له ذات المتوسّل به بل مكانته و مرتبته عند اللَّه و هي حصيلة الأعمال الصالحة؛ لأنّ اللَّه تعالى قال عن موسى- عليه الصلاة و السلام- «وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» «(2)» و قال عن عيسى- عليه الصلاة و السلام- «وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ» «(3)» فلا ينكر على من يتوسّل بالجاه إذا كنّا منصفين؛ لأنّه لا يحتمل نسبة التأثير إلى المتوسّل به إذ ليس هو المقصود بل المتوسّل به جاهه و مكانته عند اللَّه لا غير «(4)».


1- وفاء الوفا 4: 1372.
2- الأحزاب: 69.
3- آل عمران: 45.
4- البدعة: ص 45.

ص:631

و قال أيضاً في قصة استسقاء الخليفة بالعباس: «إنّ عمر لم يقل و اليوم نستسقي بالعباس بن عبد المطلب بل قال: بالعباس عمّ نبيّك، فالوجاهة حصلت له لأنّه عمّ النبيصلى الله عليه و آله الميّت، و هذا اعتراف بأنّ جاه النبيصلى الله عليه و آله بعد موته ما زال باقياً حتى سرى إلى عمّه العباس «(1)».

و نحن نضيف إلى ذلك: أنّه إذا جاز التوسّل بالقرآن- كما مرّ في الفصل الثاني- لمكانته عند اللَّه و منزلته لديه و هو كلام اللَّه الصامت، فالتوسّل بالنبي الأكرم و هو كلام اللَّه الناطق بطريق أولى.

عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «اقترف آدم الخطيئة قال: ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرتَ لي، فقال اللَّه عزّ و جلّ: يا آدم، كيف عرفت محمّداً و لم أخلقه؟ قال: لأنّك يا ربّ لمّا خلقتني بيدك و نفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنّك لم تُضِفْ إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال اللَّه عزَّ و جلّ:

صدقت يا آدم إنّه لأحبّ الخلق إليَّ، و إذا سألتني بحقّه فقد غفرت لك، و لو لا محمّد لما خلقتك» «(2)»

.

يقع الكلام في سند الحديث أوّلًا و متنه ثانياً.

أمّا الأوّل: فرجاله ثقات، نعم وقع الكلام في واحد منهم و هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقد قال البيهقي: و هو ضعيف، و لكن الحاكمصحّح الحديث على شرط الشيخين، و لو قلنا بأنّه لا يعتمد على تصحيح الحاكم وحده فتكون الرواية مؤيّدة؛ إذ ليس معنى كون الراوي ضعيفاً أن الرواية مكذوبة.


1- المصدر نفسه: 49.
2- دلائل النبوة و معرفة أحوال صاحب الشريعة، 5: 489 ط دار الكتب العلمية بيروت. لاحظ الدر المنثور 1: 59، و نقله كثير من المفسرين في قصة توبة آدم.

ص:632

و هناك نكتة أشرنا إليها سابقاً، و هي أن لو كان التوسّل بشخص النبي أمراً منكراً بين المسلمين لما تجرّأ الواضع بوضع الحديث الذي يتضمّن ذلك الأمر المنكر؛ لأنّ هدفه من الوضع إقبال الناس إلى كلامه و تسليمهم بالرواية، و هذا لا يجتمع مع كون المضمون أمراً مخالفاً لما عليه المسلمون في ظرف النقل، و بذلك يُعلم أنّ الرواية سواء أ كانتصحيحة أم لا، تُثْبت ما بيّناه في جواز التوسّل بذات النبي.

نعم هنا شبهات حول الرواية، تجب الإجابة عنها:

الشبهة الأُولى

إنّ الحديث يتضمّن الإقسام على اللَّه بمخلوقاته، فالأقسام على اللَّه بمحمد و هو مخلوق بل و أشرف المخلوقين لا يجوز؛ لأنّ حلف المخلوق لمخلوق حرام، فالحلف للَّه بمخلوقاته من باب أولى.

يلاحظ عليه: أنّ ما استدلّ به على حرمة الإقسام على اللَّه بمخلوقاته عن طريق أنّ الحلف بمخلوق لمخلوق حرام، مردود جداً، لأنّ القرآن ملي ء بالحلف بمخلوق لمخلوق، قال سبحانه:

«وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ* وَ طُورِ سِينِينَ* وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» «(1)».

«وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى* وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى» «(2)».

«وَ الْفَجْرِ* وَ لَيالٍ عَشْرٍ* وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ* وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» «(3)».

ففي هذه الآيات حلف بمخلوق على مخلوق، و الحالف هو اللَّه و المحلوف به هو هذه الموجودات و المحلوف لهم هم الناس أو المسلمون قاطبة.

فلو كان الحلف بمخلوق لمخلوق أمراً خطيراً و بمقربة من الشرك أو هو نفسه كما


1- التين: 1- 3.
2- الليل: 1- 2.
3- الفجر: 1- 4.

ص:633

يقوله بعض الناس «(1)» لما حلف به سبحانه؛ لأنّ ماهية العمل إذا كانت ماهية شركيّة فلا يفرق بينه و بين عباده كما أنّه إذا كانت ماهية الشي ء ظلماً و تجاوزاً على البري ء، فاللَّه و عباده فيه سيّان، قال اللَّه تعالى: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» «(2)».

إنّ الحلف بهذه العظائم ذات الأسرار إنّما لأجل أحد الأمرين: إمّا للدعوة إلى التدبّر و الدقة فيصنعها و النواميس السائدة عليها و اللطائف الموجودة فيها، أو لإظهار عظمة المحلوف به و كرامته عند اللَّه كما هو الحال في حلفه سبحانه بحياة النبي، قال: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» «(3)».

و لا عتب علينا إذا عرضنا المسألة على السنّة النبويّة، فقد جاءت فيها موارد قد ورد فيها الحلف بمخلوق على مخلوق، نكتفي بما رواه مسلم فيصحيحه، و ما ظنّك برواية مسلم في جامعه!

1- روى مسلم فيصحيحه:

جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول اللَّه أيّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: «أما و أبيك لَتُنَبَّأنَّهُ: أن تَصَدَّق و أنتصحيح شحيح، تخشى الفقر و تأمل البقاء» «(4)»

.

2- روى مسلم أيضاً:

و جاء رجل إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله- من نجد- يسأل عن الإسلام، فقال رسول اللَّه:

«خمسصلوات في اليوم و الليل».

فقال: هل عليّ غيرهنّ؟


1- التوصل إلى حقيقة التوسّل: ص 217.
2- الأعراف: 28.
3- الحجر: 72.
4- صحيح مسلم 3: 94 كتاب الزكاة، باب أفضل الصدقة.

ص:634

قال: «لا... إلّا أن تطّوع، وصيام شهر رمضان».

فقال: هل عليّ غيره؟

قال: «لا... إلّا أن تطّوع»، و ذكر له رسول اللَّه الزكاة.

فقال الرجل: هل عليَّ غيرها؟

قال: «لا... إلّا أن تطّوع».

فأدبر الرجل و هو يقول: لا أزيد على هذا و لا أنقص.

فقال رسول اللَّه: «أفلح و أبيه «(1)» إنصدق».

أو قال: «دخل الجنة- و أبيه- إنصدق» «(2)»

.

فإذ بطل الأصل: حرمة الحلف بمخلوق على مخلوق، بطل ما بُني عليه من حرمة الإقسام على اللَّه بحقّ مخلوقه.

إلى هنا تمّ بيان أنّ الشبهة شبهة غيرصحيحة، و إنّما دعا القائل إلى التمسّك بها لدعم رأيه المسبق.

الشبهة الثانية

إنّ الحوار الوارد في الحديث كان بعد اقتراف الخطيئة و لكنّه قبل أن يخطأ، علّمه اللَّه الأسماء كلّها، و من جملة الأسماء اسم محمد و عَلِم أنّه نبيّ و رسول و أنّه خير الخلق أجمعين، فكان أحرى أن يقول آدم: ربّي إنّك أعلمتني به أنّه كذلك لما علّمتني الأسماء كلّها «(3)».

نقول على هامش الشبهة: إنّ ردّ السنّة الشريفة بمثل هذه التشكيكات جرأة عليها؛ إذ أيّ مانع أن يكون هنا عِلْمان: علم جزئي وقف عليه عند ما فتح عينيه على


1- أي حلفاً بأبيه، فالواو للقسم.
2- صحيح مسلم 1: 32، باب ما هو الإسلام.
3- التوصل إلى حقيقة التوسّل: ص 218.

ص:635

الحياة في الجنّة، و علم واسع علّمه سبحانه بعد ذلك الظرف، عند ما أراد سبحانه إثبات كرامته على الملائكة.

إنّ هذا النوع من التشكيك يستمد من إثبات الرأي و الصمود على العقيدة و إن كان الحديث على خلافها.

و هناك نكتتان ننبّه عليهما:

الأُولى: إنّ أحاديث التوسّل و إن كانت تتراوح بين الصحيح و الحسن و الضعيف، لكن المجموع يعرب عن تضافر المضمون و تواتره، فعند ذلك تسقط المناقشة في أسنادها بعد ملاحظة ورود كمية كبيرة من الأحاديث في هذا المجال، و أنت إذا لاحظت ما مضى من الروايات، و ما يوافيك تذعن بتضافر المضمون أو تواتره.

الثانية: نحن نفترض أنّ الحديث الراهن مجعول موضوع، و لكنّه يعرب عن أنّ التوسّل بالمخلوق و الإقسام على اللَّه بمخلوقاته ليس شركاً و لا ذريعة إليه، بل و لا حراماً. و ذلك لأنّه لو كان شركاً و ذريعة إليه أو حراماً، لما رواه الثقات واحد عن واحد، و هم أعرف بموازين الشرك و معاييره، و لما أورده الأكابر من العلماء في المعاجم الحديثية، كالبيهقي في دلائل النبوة و الحاكم في مستدركه، و السيوطي في تفسيره، و الطبراني في المعجم الصغير، و أكابر المفسّرين في القرون الغابرة؛ لأنّ الشرك أمر بيّن الغي، فلا معنى و لا مسوغ لنقله بحجة أنّه رواية.

فكل ذلك يعرب عن الفكرة الخاطئة في الحكم على الحلف على اللَّه بمخلوقاته شركاً.

ص:636

التوسّل بمقام النبيّ و منزلته عند اللَّه

(9) التوسّل بمقام النبيّ و منزلته عند اللَّه

اشارة

إنّ هذا النوع من التوسّل ليس قسماً آخر بل يرجع إلى التوسّل بحقّهم، بل التحقيق هو: أنّ التوسّل ليس له إلّا قسم واحد و هو توسيط قداسة النبي و شخصيته و حرمته عند اللَّه تبارك و تعالى، حتى يستجيب دعاء الإنسان لأجلها، و لو كان لدعاء النبي أثر هو الإجابة فإنّما هو في ظلّ قداسته و شخصيته، و هناك كلمة قيّمة للشيخ محمد الفقي على هذا الصعيد نأتي بنصّها:

يمتاز الأنبياء و الرسل عن سواهم بمميزات لها خطورتها و عِظَم شأنها، و يتمتعون بخصوصيات تجل عن التقدير و التعبير، فهم يتفاوتون عن الخلائق بشتّى الخوارق، و يختصّون بأنواع رائعة من المعجزات و أسمى المقامات: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» «(1)».

و الذي وهبهم هذه العطايا و أنعم عليهم بهذه الامتيازات، كتب لهم في سجل الحوائج قضاء ما يطلبون و ما يرجون؛ لأنّهم رسله إلى خلقه يُلجأ إليهم عند الشدائد، و يستغاث بهم في الملمّات، و قد أكرم اللَّه كذلك من بين خلقه رجالًا لا


1- الحديد: 21.

ص:637

تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللَّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب و الأبصار، و هم أولياؤه الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، فلهم الحظوة لديه، و القبول عنده بتفضيل عليهم بالاستجابة لدعائهم و قبول الاستغاثة منهم.

و في جواز التشفّع و الاستغاثة بجاهه تواترت الأحاديث، و استفاضت الأخبار، خصوصاً عند ما يطول الموقف و يشتدّ الكرب و يعظم الهول، يوم تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت، و تضع كل ذات حملٍ حملها، و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى. فتطلب الخلائق في هذا الموقف من الأنبياء إغاثتهم، و الاستشفاع بهم، فيحيلونهم كل بدوره إلى خير شفيع، و أعظم مغيث فيقصدون كعبة الشفاعة و قبلة الإغاثة، فيستجيب لرغباتهم و يسارع لإغاثتهم و إنقاذهم و يهمّ لمرضاتهم بما عهد فيه من فضل، و ما عرف عنه من كرم «(1)».

روى البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه: «أنا سيّد الناس يوم القيامة. هل تدرون بِمَ ذلك؟ يجمع اللَّه يوم القيامة الأوّلين و الآخرين فيصعيد واحد و يسمعهم الداعي و ينفذهم البصر و تدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغمّ و الكرب ما لا يطيقون و لا يحتملون فيقول الناس: أ لا ترون ما قد بلغكم؟

أ لا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك اللَّه بيده و نفخ فيك من روحه و أمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربّك أ لا ترى إلى ما نحن فيه؟ أ لا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لا يغضب بعده مثله، و إنّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح.


1- التوسّل و الزيارة: ص 161.

ص:638

فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض و قد سمّاك اللَّه عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربّك، أ لا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي عزّ و جلّ قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إنّه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم.

فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ اللَّه و خليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربّك أ لا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعد مثله (و إنّي قد كنت كذبت ثلاث كذبات- فذكرهنّ أبو حيان «(1)»- في الحديث)، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى.

فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول اللَّه فضّلك اللَّه برسالته و بكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك أ لا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله، و إنّي قد قتلت نفساً لم أُومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى.

فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول اللَّه و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه، و كلّمت الناس في المهدصبيّاً، اشفع لنا، أ لا ترى إلى ما نحن فيه؟

فيقول عيسى: إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله (و لم يذكر ذنباً)، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدصلى الله عليه و آله.

فيأتون محمّداًصلى الله عليه و آله فيقولون: يا محمد أنت رسول اللَّه و خاتم الأنبياء، و قد


1- ما تفرّد به أبو حيان مخالف للكتاب و العقل فلا عبرة به.

ص:639

غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر، اشفع لنا إلى ربّك أ لا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقَعُ ساجداً لربّي عزّ و جلّ ثمّ يفتح اللَّه عليَّ من محامده و حسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثمّ يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه و اشفع تشفّع، فأرفَعُ رأسي فأقولُ: أُمّتي يا ربّ أُمّتي يا ربّ، فيقال: يا محمد أدخل من أُمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، و هم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثمّ قال: و الذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكة و حميرا و كما بين مكّة و بصرى» «(1)»

.

فالحديث يدلّ على جواز التوسّل بالمقام و المنزلة لقولهم: يا من أنت رسول و خاتم الأنبياء، كما أنّ فيه دلالة على طلب الشفاعة منه لقولهم اشفع لنا إلى ربك.

إنّ التوسّل بالأنبياء و الأولياء ليس بملاك جسمانيتهم فإنّهم و غيرهم في ذلك المجال سواسية، و إنّما يتوسّل بهم بروحانيتهم العالية؛ و هي محفوظة في حال الحياة و بعد الارتحال إلى البرزخ و إلى الآخرة.

فالتفريق في التوسّل بين الحياة و الممات ينشأ من نظرة مادية تعطي الأصالة للجسم و المادة و لا تقيم للمعنى و الروحانية وزناً و لا قيمةً.

فالنبي الأكرم مدار الفضائل و الكمالات و هو يتمتع بأروع الكرامات و كلّها ترجع إلى روحانيته و معنويته القائمة المحفوظة في جميع الحالات.

فما هذا التفريق بين الحياة المادية و البرزخية و الأُخروية؟

فمن اتّخذ الأنبياء و الأولياء و غيرهم ممّن باتوا لربّهم سجّداً و قياماً، أسباباً حال حياتهم أو بعد مماتهم، و وسائل لقضاء حوائجهم و وسائط لجلب الخير و دفع


1- البخاري، الصحيح 6: 84- 85، صحيح مسلم 1: 127- 130، مسند أحمد 2: 412.

ص:640

الشر، لم يحيدوا عمّا تهدف إليه الشريعة و لم يتجاوزوا الخط المشروع و لم يتعدّوا مقصود الرسالة النبوية و غاياتها.

فالأسباب لا يمكن إنكارها، و لا يعقل تجاهلها، و لا يتأتّى جحودها؛ لأنّه تعالى هو الذي خلق الأسباب و المسبّبات و رتّب النتائج على المقدّمات فمن تمسك بالأسباب فقد تمسّك بما أمر اللَّه سبحانه.

خاتمة المطاف: آيتان على مائدة التفسير

ص:641

خاتمة المطاف: آيتان على مائدة التفسير
اشارة

قد تعرّفت على أدلّة جواز التوسّل بالأنبياء و الصالحين، بأقسامه المختلفة، و ربّما تثار شبهة حول التوسّل يُتمسك لها ببعض الآيات، فإكمال البحث يقتضي توضيح بعض هذه الآيات التي وقعت ذريعة للشبهة لأجل التفسير بالرأي، فحاشا أن يكون بين الآيات تهافت و اختلاف بأن يدلّ بعضها على جواز التوسّل و بعضها الآخر على المنع، و حاشا أن تكون السنّة المتواترة على جواز التوسّل مضادّة للقرآن الكريم و إنّما استغلّهما القائل إذ ولج في تفسير الآية من غير بابها و إليك بعض هذه الآيات:

الآية الأُولى

قوله سبحانه: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا* أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» «(1)».

و توضيح الآيتين على وجه يقلع الشبهة من رأس:

تردّ الآيتان على الذين كانوا يعبدون الوسائط و الوسائل بتخيّل أنّها تستطيع كشف الضرّ و تحويله عنهم، و أنّها تملك ذلك، فلأجل تلك الغاية كانوا يعبدون الجنّ و الملائكة و غيرهم، و كانوا يسمّونهم آلهة، و الآيتان تحتجّان على نفي ألوهيتهم بحجة أنّ الإله المستحقّ للعبادة يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع و دفع الضرر، إذ هو لازم ربوبية الربّ، لكن الذين يدعون هؤلاء و يعبدونهم لا


1- الإسراء: 56- 57.

ص:642

يستطيعون ذلك، أي كشف ضُرٍّ مسّهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم، فعند ذلك تبطل ربوبيتهم فلا يستحقّون العبادة، و إلى ذلك المعنى يشير سبحانه بقوله: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا».

هذا هو الدليل الأوّل الذي أبطل به سبحانه ألوهيتهم و ربوبيتهم و استحقاقهم للعبادة.

ثمّ إنّه سبحانه عاد إلى الاحتجاج عليهم بدليل آخر و حاصله: أنّ الذين تعبدونهم و تزعمون أنّهم يستطيعون كشف الضرّ و تحويله- نفس هؤلاء- يدعون اللَّه تعالى و يطلبون القربة إليه بفعل الخيرات حتى أنّ الأقرب منهم يبتغي الوسيلة إلى اللَّه فكيف بغير الأقرب، و الجميع يرجون رحمة اللَّه و يخافون عذابه، إنّ عذاب ربّك كان محذوراً، فإذا كان الحال كذلك فاللازم عليكم ترك عبادة هؤلاء و رفضهم و الإقبال على عبادة اللَّه تبارك و تعالى و إلى ذلك يشير قوله سبحانه في الآية الثانية:

«أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً».

فأشار «بأُولئك» إلى آلهتهم، و بقوله: «الذين يدعون» إلى عبادتهم لهم، ثمّ وصف آلهتهم بالجمل التالية و هي، هؤلاء الآلهة:

1- يبتغون إلى ربّهم الوسيلة.

2- الذي هو أقربهم إلى اللَّه يبغي الوسيلة فكيف بغير الأقرب.

3- و الجميع الأقرب و غير الأقرب «يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» فالآيتان بصدد إبطال ألوهية هؤلاء و عدم استحقاقهم للعبادة لعدم ثبوت ملاك العبادة فيهم.

فأيّصلة للآيتين بنفي التوسّل، أي التوسّل بعبادصالحين لا يعتقد المتوسّل

ص:643

فيهم شيئاً من الربوبية و لا استطاعة لكشف الضر و تحويله، بل هم عبادصالحون تستجاب دعوتهم، فلو كانت الآية عامة لصورة التوسّل بدعائهم يلزم التهافت بينها و بين قوله سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» «(1)».

فالإنسان المصر على عقيدته الذي لا يريد أن يعدل عنها أمام الآيات البيّنات ليس له إلّا إخراج الآية عن مفادها و تفسيرها لأجل رأي مسبق، فشتّان بين مفاد الآية، أي عبادة الوسائط بزعم أنّهم آلهة يستطيعون كشف الضر و تحويله و قضاء الحاجة، و بين توسيط الشخصيات الصالحة بما هم عباد اللَّه، و بما لهم من منزلة و كرامة عند اللَّه حتى يدعوا للمتوسّل أو يستجيب اللَّه تعالى دعاءه لأجل قربهم و كرامتهم عنده، فالآية ناظرة إلى المعنى الأوّل دون الثاني.

الآية الثانية

قال سبحانه: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» «(2)».

ربما يقال: إنّ التوسّل نوع من الاستعانة بغير اللَّه سبحانه، و هو ينافي الحصر الموجود في قوله: «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

و الجواب: أنّ الاستعانة بالناس و الاستغاثة بهم لا يتنافى مع حصر الاستعانة باللَّه في قوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» لأنّ الاستعانة بهم (باعتقاد أنّه سبحانه هو الذي جهزهم بالقوة، فلو قاموا بعمل فإنّما يقومون به بحوله و قوّته سبحانه) يؤكد حصر الاستعانة فيه عزّ و جلّ.

و إنّما ينافي الحصر لو اعتقدنا بأنّ للأسباب و الوسائط أصالة و استقلالًا في


1- النساء: 64.
2- الفاتحة: 5.

ص:644

العمل و التصرف، و هذا ما لا يليق أن ينسب إلى موحّد أبداً.

إنّ القرآن حافل بحصر أفعال باللَّه سبحانه، فينسبها إليه فيصورة الحصر، و لكنّه يعود فينسبها في نفس الوقت إلى غيره و ليس هناك تهافت و تضادّ بين الإسنادين و النسبتين؛ لأنّ المحصور في اللَّه سبحانه غير المنسوب إلى غيره.

يقول سبحانه: «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» و في الوقت نفسه يقول عزّ و جلّ: «وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ» «(1)».

قال الدكتور عبد الملك السعدي: أمّا من يمنع ذلك و يستدلّ بقوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» و بقوله صلى الله عليه و آله لابن عباس: «و إذا استعنت فاستعن باللَّه» و بقوله: «لا يستغاث بي و إنّما المغيث هو اللَّه».

فالجواب عنه: أنّ الإعانة تكون حقيقية و مجازية، فالمعين الحقيقي هو اللَّه و طلب الإعانة من غيره مجاز، و لو لا إمداد اللَّه له بالعون و القوّة لما استطاع أن يعينك، فالاستعانة بالإنسان هي استعانة بالقوة و الملكة و السلطة التي منحه اللَّه إيّاه إذ لا حول و لا قوّة إلّا باللَّه، فالآية حصرت الاستعانة الحقيقية باللَّه تعالى، و كذا وصية النبيصلى الله عليه و آله لابن عباس من هذا القبيل، و الآية و الحديث فيهما توجيه للعبد، أن لا ينسب إلى المخلوق حولًا و لا قوة، و لو طلب العون المجازي منه و إذا لم توجّه الآية و الحديث هذا التوجيه فانّه ستتعارض مع قوله تعالى: «وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى» «(2)» و قوله صلى الله عليه و آله: «و اللَّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه».

أمّا الحديث الأخير فإنّه ضعيف؛ لأنّ في سنده ابن لهيعة فلا يقاوم الأحاديث الصحاح و لا مدلول الآية «(3)».


1- البقرة: 45.
2- المائدة: 2.
3- البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق: ص 53- 54.

ص:645

و الأولى أن يعبّر عن الحقيقي و المجازي بالاستقلال و عدم الاستقلال، بالأصالة و التبع، فاللَّه سبحانه يملك كلّ شي ء استقلالًا و أصالة و العبد يملك العون و القدرة، و لكن بإذنه و مشيئته في كل آن، فهو الذي أراد أن يقدر العبد و يستطيع على إقامة الفرائض و السنن.

فالعون القائم بالذات غير المفاض هو عون اللَّه سبحانه، و أمّا العون المفاض المحدود فهو عون العبد، فلو استعان بالعبد بما أنّه معين مستقل و بالأصالة فهو مشرك، لأنّه جعلَ المخلوق مكان الخالق، و لو طلب منه بما أنّه أقدر اللَّه عليه و أجاز له أن يعين أخاه، فقد طلب شيئاً مشروعاً و هو نفس التوحيد.

هذا من غير فرق بين من يستعين بالأحياء و بالأموات، غاية الأمر إذا كان الميت غير مستطيع على الإعانة تكون الاستعانة لغواً، و إن كان قادراً فتكون الاستعانة عقلائية، فالحياة و الموت ليسا ملاكاً للتوحيد و الشرك، بل ملاكان للجدوى و عدمها.

ص:646

التوسّل بالنبي متواتر إجمالًا

(10) التوسّل بالنبي متواتر إجمالًا

اشارة

إنّ هناك لفيفاً من التوسّلات المبثوثة في كتب التاريخ و التفسير و السيرة و غيرها؛ و هي بأجمعها تدلّ على جريان السيرة على التوسّل بالرسول؛ و هي تدلّ على جواز التوسّل بدعاء الرسول أو بذاته أو بمنزلته حيّاً و ميتاً، و الكل يعرب عن كونه أمراً رائجاً بين المسلمين غير منكر، و انّما حدث الإنكار في الآونة الأخيرة أي بعد سبعة قرون متكاملة، فلم ينبس فيها أحد ببنت شفة بالإنكار أبداً.

نعم هناك بعض يمنعون التوسّل، و لكنّهم لمّا وقعوا أمام هذه الروايات الهائلة الدالّة على جواز التوسّل بدعائه أو بذاته و شخصه حيّاً و ميتاً، حاولوا أن يناقشوا في أسناد هذه الروايات، غافلين عن أنّ هذه الروايات مستفيضة، بل متواترة في مفادها الإجمالي؛ أي جواز التوسّل بنفسه، و لا وجه للمناقشة في اسنادها و قال ابن تيميّة: «و المراسيل إذا تعدّدت طرقها و خلت عن المواطأة قصداً أو الاتفاق بغير قصد كانتصحيحة قطعاً» «(1)».


1- مقدمة في أُصول التفسير: ص 24.

ص:647

و أنت إذا لاحظت ما سبق من الصحاح و الحسان و ما نذكره الآن تذعن لتواترها الإجمالي:

1- توسّل الأعرابي بالنبي نفسه
اشارة

روى جمع من المحدّثين أنّ أعرابياً دخل على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و قال: لقد أتيناك و ما لنا بعير يئط، و لاصغير يغط، ثمّ أنشأ يقول:

أتيناك و العذراء تَدمى لبانها و قد شغلت أُمّ الصبي عن الطفل

و لا شي ء ممّا يأكل الناس عندنا سوى الحنظل العامي و العلهز الفسل

و ليس لنا إلّا إليك فرارنا و أين فرار الناس إلّا إلى الرسل؟

فقام رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه و قال: اللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً... فما ردّ النبي يديه حتى ألفت السماء... ثمّ قال: للَّه درّ أبي طالب، لو كان حيّاً لقرّت عيناه. من ينشدنا قوله؟

فقام علي بن أبي طالب عليهما السلام و قال: كأنّك تريد يا رسول اللَّه قوله:

و أبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الهلّاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضل

فقال النبيصلى الله عليه و آله: أجل.

فأنشد علي عليه السلام أبياتاً من القصيدة، و الرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثمّ قام رجل من كنانة و أنشد يقول:

لك الحمد و الحمد ممّن شكر سُقينا بوجه النبي المطر «(1)»


1- السيرة الحلبية 1: 116. لاحظ فتح الباري 2: 494، و القصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام 1: 272- 280

ص:648

دلالة الحديث:

إنّ الإمعان في مجموع الرواية يعرب عن أنّ الأعرابي توسّل بشخص النبي و طلب منه قضاء حاجته، و الدليل على ذلك الأُمور الآتية:

أ- أتيناك و ما لنا بعير يئط.

ب- أتيناك و العذراء تدمى لبانها.

ج- و ليس لنا إلّا إليك فرارنا.

د- و أين فرار الناس إلّا إلى الرسل؟

ه- إنشاء علي بن أبي طالب شعر والده، و هو يتضمّن قوله: و أبيض يستسقي الغمام بوجهه.

2- شعرصفيّة في رثاء النبي

أنشدتصفية بنت عبد المطلب عمّة النبي قصيدة بعد وفاة النبي في رثائهصلى الله عليه و آله و جاء فيها قولها:

ألا يا رسول اللَّه أنت رجاؤنا و كنت بنا برّاً و لم تك جافيا

و كنت بنا برّاً رءوفاً نبيّنا ليبك عليك اليوم من كان باكيا «(1)»

إنّنا نستنتج من هذه المقطوعة الشعرية- التي أُنشدت على مسمع من الصحابة و سجّلها المؤرّخون و أصحاب السير- أمرين:

الأوّل: إنّ مخاطبة الأرواح- و بالخصوص مخاطبة رسول اللَّه بعد وفاته- كان


1- ذخائر العقبى: ص 252؛ مجمع الزوائد 9: 36؛ و نشير إلى أنّ جملة:« أنت رجاؤنا» في الشطر الأوّل جاءت في هذا المصدر هكذا كنت رجاؤنا

ص:649

أمراً جائزاً و جارياً و قولها: «يا رسول اللَّه» لم يكن لغواً و لا شركاً.

الثاني: إنّ قولها: «أنت رجاؤنا» يدلّ على أنّ النبيصلى الله عليه و آله هو أمل المجتمع الإسلامي في كل العصور و الأحوال، و لم تنقطع الروابط و العلاقات معهصلى الله عليه و آله حتى بعد وفاته.

3- خبر العتيق

روى الإمام القسطلاني في المواهب اللدنية: وقف أعرابي على قبره الشريفصلى الله عليه و آله و قال: اللّهمّ إنّك أمرت بعتق العبيد و هذا حبيبك و أنا عبدك فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا سألت العتق لك وحدك؟ هلّا سألت العتق لجميع المؤمنين اذهب فقد أعتقتك.

ثمّ أنشد القسطلاني البيتين المشهورين و هما:

إنّ الملوك إذا شابت عبيدهم في رقّهم أعتقوهم عتق أحرار

و أنت يا سيدي أولى بذا كرماً قد شِبتُ في الرقّ فاعتقني من النار «(1)»

4- خبر حاتم الأصمّ

نقل في المواهب عن الحسن البصري، قال: وقف حاتم الأصم على قبرهصلى الله عليه و آله فقال: يا ربّ إنّا زرنا قبر نبيّكصلى الله عليه و آله فلا تردّنا خائبين، فنودي: يا هذا ما أذنّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلّا و قد قبلناك فارجع أنت و من معك من الزوّار مغفوراً لكم.

ثمّ ذكر في المواهب كثيراً من البركات التي حصلت له ببركة توسّله بالنبي «(2)».


1- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 4: 584 ط. دار الكتب الإسلامي
2- المصدر نفسه.

ص:650

5- اللّهمّ ربّ جبرئيل و ميكائيل

روى النووي أنّ النبي أمر أن يقول العبد بعد ركعتي الفجر: «اللّهمّ ربّ جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و محمد أجرني من النار» (أو) «أعوذ بك من النار». و خصّ هؤلاء بالذكر للتوسّل بهم في قبول الدعاء و إلّا فهو سبحانه ربّ جميع المخلوقات.

و الحديثصحّحه الحاكم، و قال ابن حجر: إنّه حسن «(1)».

6- حديث السؤال بالأنبياء

يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جدّه أنّ أبا بكر الصدّيق أتى النبيصلى الله عليه و آله قال: إنّي أتعلّم القرآن و ينفلت منّي. فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«قل: اللّهمّ إنّي أسألك بمحمد نبيّك، و إبراهيم خليلك، و بموسى نجيّك، و عيسى روحك و كلمتك، و بتوراة موسى، و إنجيل عيسى، و فرقان محمد و بكل وحي أوحيته و قضاءً قضيته...».

قال ابن تيمية: هذا الحديث ذكره زرين بن معاوية العبدري في جامعه. و نقله ابن الأثير في جامع الأُصول، و لم يعزه لا هذا، و لا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكنّه رواه منصنَّف في عمل يوم و ليلة كابن السنّي، و أبي نعيم. و قد رواه أبو الشيخ الاصبهاني في كتاب «فضائل الأعمال» «(2)».


1- الدرر السنيّة: ص 30؛ التوصل إلى حقيقة التوسّل: 306 عن كتاب الأذكار للنووي.
2- التوصّل إلى حقيقة التوسّل: ص 310.

ص:651

7- حديث دعاء حفظ القرآن

ذكر موسى بن عبد الرحمن الصنعانيصاحب التفسير باسناده عن ابن عباس مرفوعاً، أنّه قال: من سرّه أن يوعيه اللَّه القرآن فليكتب هذا الدعاء: «... اللّهمّ إنّي أسألك بأنّك مسئول لم يُسأل مثلك و لا يسأل و أسألك بمحمد نبيّك، و إبراهيم خليلك، و بموسى نجيّك، و عيسى روحك و كلمتك و وجيهك...» «(1)»

8- حديث استفتاح اليهود على المشركين بمحمدصلى الله عليه و آله

يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان... فكلّما التقوا هزمت يهود، فعاذت بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ محمد النبي الأُمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان... فلما بُعث النبيصلى الله عليه و آله كفروا به فأنزل اللَّه تعالى: «وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا...» «(2)».

9- توسّل الشافعي بآل البيت

ذكر ابن حجر المكي في كتابه المسمّى ب «الصواعق المحرقة» من أشعار الإمام الشافعي هذين البيتين:


1- التوصّل إلى حقيقة التوسّل: ص 310.
2- المصدر نفسه، نقلًا عن الحاكم في المستدرك على الصحيحين. و لم نعثر عليه فيه بعد الفحص الأكيد. و الآية في سورة البقرة: 89.

ص:652

آل النبي ذريعتي و هم إليه وسيلتي

أرجو بهم أُعطى غداً بيدي اليمينصحيفتي «(1)»

10- استسقاء بلال بن حرث

روى البيهقي و ابن أبي شيبة أنّ الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضى الله عنه، فجاء بلال بن الحرث رضى الله عنه و كان من أصحاب النبي إلى قبر النبي، و قالوا: يا رسول اللَّه استسق لأُمّتك فإنّهم قد هلكوا، فأتاه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في المنام و أخبره بأنّهم سيسقون «(2)» ففيه النداء بعد وفاتهصلى الله عليه و آله و الخطاب بالطلب منه أن يستسقي لأُمّته.

و مراده من الاستسقاء بقرينة الحال دعاؤه سبحانه أن ينزل رحمته، إليهم، لا أن يصلّيصلاة الاستسقاء، و ليس العبرة بنوم بلال، و إنّما العبرة بعمل ذلك الصحابي الذي كان في بعض غزواته «(3)».

قال زيني دحلان: و من تتبع أذكار السلف و الخلف و أدعيتهم و أورادهم وجد فيها شيئاً كثيراً في التوسّل و لم ينكر عليهم أحد في ذلك حتى جاء هؤلاء المنكرون، و لو تتبّعنا أكابر الأُمّة في التوسّل لامتلأت بذلك الصحف، و فيما ذكر كفاية و مقنع لمن كان بمرأى من التوفيق و مسمع «(4)».

تلك عشرة كاملة

و نلفت نظر القارئ بأنّ الاحتجاج بهذه الأحاديث العشرة الكاملة و ما قبلها مبني على أمرين أُشير إليهما فيما سبق:


1- الصواعق المحرقة: ص 180، ط. مكتبة القاهرة، تحقيق عبد الوهاب
2- الدرر السنية: ص 18.
3- تهذيب الكمال 4: 282؛ تهذيب تاريخ دمشق الكبير 3: 301- 303.
4- الدرر السنية: ص 31.

ص:653

1- إنّ أصل التوسّل إذا كان شركاً أو محرّماً لم يتجرأ الوضّاع على أن يجعله أساساً لما يريده من الوضع و الدس، فهذا يعرب عن أنّ أساس (جواز التوسّل) كان أمراً مسلّماً فبنى عليه ما بنى من القصص و الروايات لو افترضنا عدمصحتها، لكن أنّى لنا هذه الفرية.

2- إنّ مجموع الروايات العشرة و ما تقدّم عليها من الصحاح و الحسان يثبت كون التوسّل بالنبي الأعظمصلى الله عليه و آله بعامةصوره أمر استُفيض جوازه من النبي و الصحابة، بل تواتر إجمالًا و إن كانت الخصوصيات غير متواترة.

و ليس المورد ممّا يقبل الجرح و الدقّة في إسناد الروايات؛ إذ ليس المقصود الإذعان بصحة كل ما جاء فيها من الخصوصيات، و إنّما المقصود ثبوت جواز التوسّل بصورة عامة ببركة هذه الحكايات و القصص و إن كان بعضها ضعيف السند عند البعض وصحيحاً عند آخر.

و من أراد ردّ هذه الروايات بضعف السند، فقد ولج البيت من غير باب.

حكم التوسل

ما أُلّف حول التوسّل بقلم علماء الإسلام

لقد أُلّف حول التوسّل بخير الأنام و أولياء اللَّه الكرام كتبٌ و رسائل قام بتأليفها لفيف من علماء الإسلام و أكابرهم الذين يعتمد على أقوالهم و آرائهم، فأحببت أن أُنوّه ببعض أسمائها حتى يقف القارئ عليها، و إذا أراد التوسّع فعليه الرجوع إليها:

1- كتاب الوفا في فضائل المصطفى: لابن الجوزي (المتوفّى سنة 597 ه) و قد أفرد باباً حول التوسّل بالنبيصلى الله عليه و آله و باباً حول الاستشفاء بقبره الشريف.

2- مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام: تأليف محمد بن نعمان

ص:654

المالكي (المتوفّى سنة 673 ه) و قد نقل السمهودي في كتاب وفاء الوفا، باب التوسّل بالنبيصلى الله عليه و آله عن هذا الكتاب نقلًا كثيراً.

3- البيان و الاختصار: لابن داود المالكي الشاذلي، و قد ذكر فيه توسّل العلماء و الصلحاء بالرسول الأكرمصلى الله عليه و آله في المحن و الأزمات.

4- شفاء السقام: لتقي الدين السبكي (المتوفّى عام 756 ه) و قد تحدّث عن التوسّل بالنبيصلى الله عليه و آله بشكل تحليلي رائع منص 120- 133.

5- وفاء الوفا لأخبار دار المصطفى: للسيد نور الدين السمهودي (المتوفّى سنة 911 ه) و قد بحث عن التوسّل بحثاً واسعاً في الجزء الرابع منص 413- 419.

6- المواهب اللدنية: لأبي العباس القسطلاني (المتوفّى سنة 932 ه) و سيوافيك كلامه في التوسّل.

7- شرح المواهب اللدنية: للزرقاني المالكي المصري (المتوفّى سنة 1122 ه) في الجزء الثامن،ص 317.

8-صلح الإخوان: للخالدي البغدادي (المتوفّى سنة 1299 ه) و له أيضاً رسالة خاصة في الردّ على الآلوسي حول موضوع التوسّل بالنبيصلى الله عليه و آله و قد طبعت الرسالة في سنة 1306 ه.

9- كنز المطالب: للعدوي الحمزاوي (المتوفّى سنة 1303 ه).

10- فرقان القرآن: للعزامي الشافعي القضاعي، و قد طبع هذا الكتاب مع كتاب الأسماء و الصفات للبيهقي في 140صفحة.

أيُّها القارئ الكريم: إنّ مطالعة هذه الكتب- و خاصة تلك التي تحدّثت بالتفصيل عن التوسّل، و يأتي كتابصلح الإخوان و فرقان القرآن في طليعتها- تثبت جريان سيرة المسلمين- في كلّ عصر و مصر- على التوسّل بالنبيصلى الله عليه و آله و لنقتصر على هذا المقدار ففيه كفاية لمن ألقى السمع و هو شهيد.

ص:655

كلام لابن حجر حول التوسّل

قال: و ينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء و التضرّع و الاستغاثة و التشفّع و التوسّل بهصلى الله عليه و آله فجدير بمن استشفع به أن يشفعه اللَّه تعالى فيه.

و اعلم أنّ الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ: الاستغاثة أو التوسّل أو التشفّع أو التجوّه أو التوجّه، لأنّهما من الجاه و الوجاهة، و معناه: علو القدر و المنزلة.

و قد يتوسّل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثمّ إنّ كلّاً من الاستغاثة و التوسّل و التشفّع و التوجّه بالنبيصلى الله عليه و آله كما ذكره في «تحقيق النصرة» و «مصباح الظلام» واقع في كل حال، قبل خلقه و بعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا و بعد موته في مدّة البرزخ، و بعد البعث في عرصات القيامة.

فأمّا الحالة الأُولى فحسبك ما قدّمته في المقصد الأوّل من استشفاع آدم عليه السلام به لما أُخرج من الجنّة، و قول اللَّه تعالى له: «يا آدم لو تشفّعت إلينا بمحمد في أهل السماوات و الأرض لشفّعناك».

و في حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم و البيهقي و غيرهما: و إن سألتني بحقّه فقد غفرت لك. و يرحم اللَّه ابن جابر حيث قال:

به قد أجاب اللَّه آدم إذ دعا و نجا في بطن السفينة نوح

و ما ضرت النار الخليل لنوره و من أجله نال الفداء ذبيح

وصحّ أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمد لما غفرت لي، قال اللَّه تعالى: يا آدم، و كيف عرفتَ محمّداً و لم أخلقه؟ قال: يا ربّ إنّك لمّا خلقتني بيدك و نفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوباً عليها لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، فعرفت أنّك

ص:656

لا تضيف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك. فقال اللَّه تعالى:صدقتَ يا آدم، إنّه لأحبّ الخلق إليّ، و إذ سألتني بحقّه، فقد غفرت لك و لو لا محمّد ما خلقتك».

ذكره الطبري، و زاد فيه: «و هو آخر الأنبياء من ذريتك» «(1)»

.

و أمّا التوسّل بعد خلقه في مدّة حياته، فمن ذلك الاستغاثة بهصلى الله عليه و آله عند القحط و عدم الأمطار، و كذلك الاستغاثة به من الجوع و نحو ذلك ممّا ذكرته في مقصد المعجزات و مقصد العبادات في الاستسقاء، و من ذلك استغاثة ذوي العاهات به، و حسبك ما رواه النسائي و الترمذي عن عثمان بن حنيف أنّ رجلًا ضريراً أتى النبيصلى الله عليه و آله فقال: ادع اللَّه أن يعافيني، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه و يدعو بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك في حاجتي لتقضى، اللّهمّ شفّعه في» وصحّحه البيهقي و زاد: «فقام و قد أبصر».

و أمّا التوسّل بهصلى الله عليه و آله بعد موته في البرزخ و هو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء و في كتاب «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» للشيخ أبي عبد اللَّه ابن النعمان طُرَف من ذلك.

إنّ لابن حجر العسقلاني مقاماً شامخاً عند أهل الحديث، لا يعدل عنه إلى غيره إلّا بدليل و هو خرّيت فنّ الحديث و أُستاذه، فكلامه يعرب عن تسليمهصحة ما نقل من الأحاديث التي تقدّمت في الفصول السابقة.

*** أخي العزيز: لقد عالجت في هذا الفصل مسألة التوسّل التي قد أثارت في بعض الأجواء قلقاً و اضطراباً، و لو أنَّ إخواننا نظروا إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه نظرة


1- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 4: 593- 595.

ص:657

فاحصة متجردة عن كل رأي مسبق لوجدوا فيهما بياناً شافياً، لا يدع شكّاً لشاك و لا ريباً لمرتاب، و بما أنّ بعضهم- سامحه اللَّه- ربّما يرمي المتوسّل بتأليه المتوسِّل به، أو يعد عمله بدعة؛ وضعنا أمامك بحثاً موجزاً حول التوسّل ليقف القارئ على أنّ المتوسِّل بالأسباب- مادية كانت أم معنوية- يؤمن بالتوحيد في العبادة و حرمة البدعة أتمّ الإيمان، و أنّه مع إيمانه و تسليمه بهما يتوسل بما سُوِّغ في الشريعة الإسلامية التمسّك به.

نسأله سبحانه أن يرزقنا توحيد الكلمة، كما تفضّل علينا بكلمة التوحيد إنّه على ذلك قدير و بالإجابة جدير.

تمّ الكتاب بيد مؤلّفه الفقير الى اللَّه الغنيّ

جعفر السبحاني

عُفي عنه

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.