تفسير الصراط المستقيم

اشارة

سرشناسه : بروجردی، حسین بن رضا، ق 1276 - 1238

عنوان و نام پديدآور : تفسیر الصراط المستقیم/ تالیف حسین البروجردی؛ صححه و علق علیه غلامرضابن علی اکبر البروجردی

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان، 1416ق. = - 1374.

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عنوان دیگر: صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم.

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم.

عنوان دیگر : صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم

موضوع : تفاسیر (سوره فاتحه)

موضوع : تفاسیر (سوره بقره)

موضوع : تفسیر

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن ق 13

شناسه افزوده : مولانا بروجردی، غلامرضا، مصحح

رده بندی کنگره : BP102/ب 4ت 7

رده بندی دیویی : 297/18

شماره کتابشناسی ملی : م 75-2634

الجزء الأول

المقدمة

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الذي انزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا، و الصلوة و السلام على النبي الامّي الذي أرسله بالدّين المشهور، و العلم المأثور، و الكتاب المسطور، و النّور الساطع، و الضّياء اللّامع، و الأمر الصادع، إزاحة للشبهات، و احتجاجا بالبيّنات، و تحذيرا بالآيات، و تخويفا بالمثلات، و إخراجا إلى النور من الظلمات، و على أهل بيته الطّيبين الطّاهرين، مصابيح الظلم، و عصم الأمم، ما أنار فجر ساطع، و خوى نجم طالع.

أمّا بعد فيقول العبد الفقير إلى اللّه الغنيّ «غلام رضا بن علي أكبر بن فضل اللّه ابن غفور، مولانا البروجرديّ» انّ من اهمّ العلوم الاسلامية بل أشرفها و أفضلها العلم بالقرآن الكريم و حقائقه و اسراره. فإنّه الكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و هو حبل اللّه المتين، و النور المبين، و الشفاء النافع، و الدواء الناقع، و الشافع المشفّع، و الماحل المصدّق. و هو الدّليل على خير سبيل و هو كتاب

فيه تفصيل و بيان و تحصيل، الّذي لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، و منار الحكمة، و ختم اللّه به الكتب، و أنزله على نبيّ ختم به الأنبياء، و هو

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 6

قانون السماء لهداية الأرض، و ملاذ الّذين الأعلى يستند الإسلام إليه في عقائده و عباداته و حكمه و احكامه و آدابه و أخلاقه و قصصه و مواعظه و علومه و معارفه.

و هو عماد لغة العرب الأسمى، تدين له الّلغة في بقائها و سلامتها، و تفوق سائر الّلغات العالميّة به في اساليبها و مادّتها لذلك كان القرآن موضع العناية الكبرى من النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و صحابته و من سلف الأمّة و خلفها جميعا إلى عصرنا هذا.

و قد اتخذت هذه العناية أشكالا مختلفة، فتارة ترجع إلى لفظه و أدائه، و اخرى إلى أسلوبه و إعجازه، و ثالثة إلى كتابته و رسمه، و رابعة إلى تفسيره و شرحه إلى غير ذلك و قد أفرد العلماء كل ناحية من هذه النواحي بالبحث و التأليف، و وضعوا من أجلها العلوم، و دوّنوا الكتب، و صنّفوا في كلّ علم يخدم القرآن أو يستند إليه مثل علم التفسير، و علم القراءات، و علم قصص القرآن، و علم إعجاز القرآن، و علم غريب القرآن، و علم الناسخ و المنسوخ، و علم متشابهات القرآن، و علوم اخرى كثيرة حتى نقل عن أبي بكر بن العربي «1» في قانونه التأويل كما حكى السيوطي «2» و صاحب مناهل العرفان أنّه قال:

علوم القرآن 77450 علم، على عدد كلم القرآن.

و من أجلّ هذه العلوم علم التفسير، و ذلك لأنّ رقاء الأفراد و الأشخاص

______________________________

(1) محمد بن

على بن المعروف بابن العربي الطائي الاندلسي الفيلسوف المتكلم ولد سنة (560) و توفى بدمشق سنة (638) ه- الاعلام ج 7/ 170-

(2) هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين السيوطي الحافظ المؤرخ الأديب ولد سنة (849) ه و توفي سنة (911) ه- الاعلام ج 4/ 71-

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 7

و نهضة الأمم و الجماعات لا تكون صحيحة إلّا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن الّتي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للبشر، و واضح أنّ العمل بهذه التعاليم لا يمكن إلّا بعد فهم القرآن و تدبّره، و لذلك منزل القرآن حثّنا بتدبّره فقال سبحانه:

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1».

و التدبّر في القرآن لا يختصّ بآية دون آية، و لا بقوم دون قوم آخر، حيث إنّ القرآن أنزل على قواعد لسان فصحاء العرب و مكالماتهم في أنديتهم و سائر محاوراتهم، و أجري فيه علم طريقتهم من الاستعمالات الحقيقيّة و المجازيّة و الكنائيّة و غيرها ممّا يعرف مداليلها الظاهرة أهل اللسان، و يعرفها غيرهم بالتعلّم لقواعد لغتهم، و أمّا حجيّة جميع تلك الظواهر، و الحكم بكون كلّها مرادا واقعيّا لله تعالى فقد منعنا القرآن عنه، حيث صرّح فيه بالتفرقة بين آياته فقال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ .. «2».

جعل قسم المحكمات خاصّة أمّ الكتاب و الحجّة الّتي يرجع إليها و يؤخذ بظواهرها، و حكم في قسم المتشابهات بالوقوف عن التأويل و إيكال علمه إليه تعالى و إلى من خصّه اللّه تعالى بإفاضة

العلوم اللدنيّة المعبّر عنهم بالراسخين في العلم.

و الآراء في تعيين مصداق المحكم و المتشابه مختلفة لكنّ الحقّ المختار لمحقّقي المفسرين أنّ الآيات المحكمات ما يصحّ الأخذ

______________________________

(1) سورة محمّد (ص): 24.

(2) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 8

بظواهرها، و يجوز الحكم بكونها مرادا واقعيّا، حيث إنّه لا يترتّب على كون ظواهرها مرادا واقعيّا أمر باطل أو محال.

و المتشابهات ما لا يمكن فيها ذلك، إمّا لعدم ظاهر لها مثل المقطّعات في فواتح السور، أو للقطع بعدم كون ظواهرها مرادا واقعيّا للزوم الباطل و ترتّب المحال، و بالجملة التعرّض للتأويلات و بيان المراد الواقعي في المتشابهات لا يجوز لغير الراسخين في العلم الذين هم عدل القرآن و حملته و المنزل في بيتهم الكتاب و قد خوطبوا به، فلا بدّ أن نأخذها عنهم، لأنّه لا يعرفها غيرهم بصريح القرآن.

و أمّا تفسير المحكمات فهو وظيفة الرّجال العارفين بقواعد اللغة العربيّة، نعم لا بّد أن يكون استنباطهم للظواهر في الآيات المحكمات مستندا إلى ما يفهم من نفس تلك القواعد، لا أن يكون على حسب اقتضاء الآراء و الأقيسة و الاستحسانات أو الظنّ و التخمين و التخرّصات، فإنّه قد ورد النهي الشديد عن التفسير بالرأي المراد به أمثال ما ذكر من الاستنباطات و بيان المراد الواقعي في الآيات المتشابهات من عند أنفسهم لا أخذا عن أهله، و إلّا فتفسير محكمات القرآن، و بيان المراد و المفهوم منها حسب قواعد اللّغة من أفضل الأعمال و أشرفها لأشرفيّة موضوعها و غايتها، كما صدرت الأوامر الأكيدة عن المعصومين عليهم السلام بذلك.

روي عنهم: «تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، و تفقهوا فيه إنّه ربيع القلوب، و استشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور، و أحسنوا تلاوته فإنّه أنفع

القصص» «1».

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه صرّح بأنّ العمل بهذا القرآن موقوف

______________________________

(1) البحار ج 2/ 36 ح 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 9

على تفسيره و كشف المراد منه في قضيّة التحكيم

بقوله عليه السّلام: «هذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين الدفّتين لا ينطق بلسان، و لا بدّ له من ترجمان، و إنّما ينطق عنه الرجال» «1».

فالقرآن مرشد صامت، و إنّما ينطق عنه لسان الناطقين، فهو حاكم محتاج يحتاج إلى ترجمان، فلا بّد أن يقوم الرجال العارفون بالمراد من هذه الخطوط ببيانه و الكشف عنه و يسمّى هذا الكشف و البيان تفسيرا.

قال الطريحي «2»: التفسير في اللّغة كشف معنى اللفظ و إظهاره، مأخوذ من الفسر و هو مقلوب السفر، يقال: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته.

قال صاحب المناهل في بيان الحاجة إلى التفسير ما ملّخصه:

القرآن إنّما نزل بلسان عربيّ مبين في زمن أفصح العرب، فكانوا يعلمون ظواهره و أحكامه، و أمّا دقائقه فلا تظهر لهم إلّا بعد البحث و النظر و سؤالهم مثل قولهم: «و أيّنا لم يظلم نفسه»؟ حينما نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «3» ففسّره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالشرك، و استدلّ بقوله سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «4» فأول من فسّر القرآن هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ صحابته الذين تعلّموا القرآن و دقائقه منه صلّى اللّه عليه و آله و أفضلهم و أعلمهم هو مولانا و سيّدنا علي بن أبي طالب عليه السّلام لأنّه كان

______________________________

(1) البحار ج 33/ 370 ح 602.

(2) الطريحي: فخر الدين بن محمّد بن عليّ بن أحمد بن طريح الرماح

النجفي المتوفّى سنة (1085) ه له مصنّفات منها «مجمع البحرين» في تفسير غريب القرآن و الحديث.

(3) سورة الأنعام: 82.

(4) سورة لقمان: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 10

باب مدينة العلم، كما

روى الفريقان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها- فمن أراد العلم فليأت الباب».

أخرج الحديث الطبراني «1» في «الكبير» عن ابن عبّاس كما في «الجامع الصغير» ص 107 للسيوطي و أخرجه الحاكم «2» في «المستدرك» ج 3 ص 226 بسندين صحيحين: أحدهما عن ابن عبّاس من طريقين صحيحين، و الآخر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري «3»

و قد أفرد الإمام المغربي أحمد بن محمّد بن الصديق المعاصر لتصحيح هذا الحديث كتابا حافلا سمّاه «فتح الملك العليّ بصحة حديث باب مدينة العلم عليّ» و قد طبع في مصر سنة (1354) ه.

و هو عليه السّلام باب دار الحكمة، كما

اثر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «أنا دار الحكمة و عليّ بابها» أخرجه الترمذي «4» في صحيحة و ابن جرير «5» و نقله عنهما غير واحد من الأعلام كالمتّقي الهندي «6» في «كنز العمّال ج 6

______________________________

(1) هو سليمان بن أحمد بن أيّوب أبو القاسم الطبراني الشامي المحدّث الكبير، ولد سنة (260) بعكا، و توفي بأصبهان سنة (360) ه- وفيات الأعيان ج 1/ 215-

(2) الحاكم: محمّد بن عبد اللّه بن حمدويه النيسابوري المعروف بابن البيّع من أكابر المحدّثين الحفّاظ، ولد بنيسابور سنة (321) ه و توفّى بها سنة (405) ه.

(3) جابر بن عبد اللّه بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري صحابي جليل القدر كثير الرواية، ولد سنة (16) قبل الهجرة و توفي سنة (78) ه، و له

في صحيحي البخاري و مسلم و غيرهما (1540) حديثا.- الاعلام ج 7/ 92-

(4) الترمذي: محمّد بن عيسى بن سورة أبو عيسى المحدث الحافظ ولد سنة (209) و توفي بترمذ (على نهر جيحون) سنة (279) من تصانيفه «الجامع الكبير».

(5) هو محمّد بن جرير بن يزيد أبو جعفر الطبري المؤرخ المفسر، ولد في آمل طبرستان سنة (224) ه، و توفّي ببغداد سنة (310) ه.

(6) المتّقي الهندي: هو عليّ بن عبد الملك حسام الدين بن قاضي خان القادري الشاذلي الهندي المكّي المدني، ولد في رهانفور (من بلاد الدكن) نحو سنة (895) و سكن المدينة و توفّي بها سنة (975) ه، له مصنفات منها «كنز العمال في سنن الأقوال و الأفعال». تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 11

ص 401

و قال: قال ابن جرير: هذا خبر عندنا صحيح سنده.

المفسّرون المشاهير من الصحابة

قال السيوطي في «الإتقان»: اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة:

الخلفاء الأربعة، و ابن مسعود، و ابن عبّاس، و أبىّ بن كعب «1»، و زيد بن ثابت «2»، و أبو موسى الأشعري «3»، و عبد اللّه بن الزبير «4».

ثم قال: أمّا الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم عليّ بن أبي طالب كرم اللّه

______________________________

(1) أبيّ بن كعب بن قيس الخزرجي الانصاري، صحابيّ كان قبل الإسلام من أخبار اليهود، و لّما أسلم صار من كتّاب الوحي، و شهد بدرا و المشاهد كلّها. قال الزركلى: له في الصحيحين و غيرهما (164) حديثا، توفي بالمدينة (21) ه.

(2) زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، أبو خارجة، صحابي، كان من كتّاب الوحي، ولد سنة (11) قبل الهجرة، بالمدينة، و توفي سنة (45) ه.

(3) أبو موسى الأشعري: عبد اللّه بن قيس، صحابي، أحد الحكمين بعد حرب صفين، ولد في

زبيد باليمن سنة (21) قبل الهجرة، و توفّي بالكوفة سنة (44) ه- غاية النهاية ج 1/ 442-

(4) عبد اللّه بن الزبير بن العوّام القرشي، ولد بالمدينة سنة (1) ه، بويع له بالخلافة سنة (64) فحكم مصر و الحجاز و اليمن، و خراسان، و العراق و أكثر الشام، مدة خلافته تسع سنين فقتل بمكة سنة (73) ه- الاعلام ج 4/ 218-

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 12

وجهه، و الرّواية عن الثلاثة قليلة جدّا.

قال محمّد بن عبد العظيم الزرقاني في «المناهل»: معنى هذا السبب في إقلال الثلاثة (أبي بكر و عمر و عثمان) من التفسير أنّهم كانوا في وسط أغلب أهله علماء بكتاب اللّه، عارفون بمعانيه و أحكامه.

أمّا الأمام عليّ رضي اللّه عنه فقد عاش بعدهم حتّى كثرت حاجة الناس في زمانه إلى من يفسّر لهم القرآن، فلا جرم كان ما نقل عن عليّ أكثر ممّا نقل عن غيره.

أضف إلى ذلك ما امتاز به الإمام من خصوبة الفكر، و غزارة العلم و إشراق القلب.

روى معمر «1»، عن وهب بن عبد اللّه «2»، عن أبي الطفيل «3» قال: شهدت عليا رضي اللّه عنه يخطب و يقول: سلوني فو اللّه لا تسألوني عن شي ء إلّا أخبرتكم و سلوني عن كتاب اللّه فو اللّه ما من آية الّا و أنا أعلم أ بليل نزلت أم بنهار، أفي سهل أم في جبل.

و في رواية عنه قال: و اللّه ما نزلت آية إلّا و قد علمت فيم أنزلت، و أين

______________________________

(1) هو معمر بن راشد بن أبي عمرو الازدي أبو عروة الفقيه المحدث الحافظ البصري ولد بالبصرة سنة (95) و توفي سنة (153) ه- الاعلام ج 8/ 190-

(2) هو وهب بن عبد اللّه

بن أبي دبي، ترجمه ابن أبي حاتم في «الجرح و التعديل» ج 9/ 22 رقم 101 و قال: روى عن أبي الطفيل، و روي عنه معمر بن راشد. وثّقه ابن معين.

(3) أبو الطفيل: عامر بن وائلة بن عبد اللّه عمرو، ولد يوم وقعة أحد سنة (3) ه و روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تسعة أحاديث، و حمل راية أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض وقائعه، و توفّي بمكة المكرّمة سنة (100) ه و هو آخر من مات من الصحابة.- الاعلام ج 4/ 26- تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 13

أنزلت إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولا، و لسانا سئولا «1».

و أول شي ء دوّنه أمير المؤمنين عليه السّلام كتاب اللّه عزّ و جلّ فإنّه بعد فراغه من تجهيز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على نفسه أن لا يرتدي إلّا للصلوة، أو يجمع القرآن، فجمعه مرتّبا على حسب النزول، و أشار إلى عامّه و خاصّه، و مطلقة و مقيّده و محكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه، و عزائمه و رخصه، و سننه و آدابه. و نبّه على أسباب النزول في آياته البيّنات، و أوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات، و كان ابن سيرين على ما نقل ابن حجر «2» في «الصواعق» يقول: لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم «3».

و رجوع الصحابة إلى أمير المؤمنين عليه السّلام في معرفة تنزيل الآيات و تأويلها مشهور بن الفريقين.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي «4» في شرح «نهج البلاغة» ج 1/ 6: من العلوم

______________________________

(1) مناهل العرفان ج 1/ 482- 483.

(2) ابن حجر: هو أبو العبّاس شهاب الدين أحمد بن محمّد بن عليّ بن حجر الهيثمي

المكّي الأنصاري الشافعي، ولد سنة (899) أو (909) ه في محلّة أبي الهيثم (من إقليم الغربيّة) بمصر و إليها نسبته، و توفّي بمكّة المكرمة سنة (974) ه- النور السافر: 287-

(3) الصواعق المحرقة ص 128 عن ابن أبي داود عن محمّد بن سيرين.

(4) هو عبد الحميد بن هبة اللّه بن محمّد بن الحسين بن أبي الحديد، أبو حامد الأديب المؤرّخ المعتزلي، ولد في المدائن سنة (586) ه، و انتقل إلى بغداد و خدم في الدواوين السلطانية و برع في الإنشاء، و كان حظيّا عند الوزير ابن العلقمي، توفي بغداد سنة (655) ه- الاعلام ج 4/ 60-

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 14

علم التفسير، عن علي عليه السّلام أخذ، و منه فرع لأنّ أكثره عنه و عن ابن عبّاس، و قد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له و انقطاعه اليه و أنّه تلميذه و خرّيجه.

و قال ابن عبّاس الملقّب بحبر الأمّة و ترجمان القرآن: علمي بالقرآن في علم عليّ عليه السّلام كالقرارة «1» في المثعنجر «2».

روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام في ليلة تكلّم في تفسير الباء من البسملة إلى مطلع الفجر، ثمّ قال: يا بن عبّاس لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من باء بسم اللّه الرحمن الرحيم «3».

في «كشف الظنون عن أسامي الكتب و الفنون»: أنّ الخلفاء الأربعة أكثر من روي عنه علي بن أبي طالب عليه السّلام، و الرواية عن الثلاثة في ندرة، ثم حكي عن ابن عبّاس أنّ عليّا عليه السّلام عنده علم ظاهر القرآن و باطنه «4».

و في كتب الرّجال أنّ ميثم التّمار «5» كان يقول لابن عبّاس: سلني ما شئت من

______________________________

(1) القرارة: الغدير الصغير.

(2) المثعنجر (بضم الميم و سكون الثاء

المثلثة و فتح العين المهملة): أكثر موضع في البحر ماء.

(3) رواه جماعة من العامّة منهم الشعراني في «الطائف المنن» ج 1/ 171.

(4) كشف الظنون ج 1/ 429.

(5) هو ميثم بن يحيى التّمار الأسدي بالولاء، كان عبدا لامرأة من بني أسد فاشتراه على بن أبي طالب عليه السّلام منها و أعتقه، سكن الكوفة و حبسه أميرها ابن زياد، ثمّ أمر به فصلب على خشبة فجعل يحدّث بفضائل أمير المؤمنين عليه السّلام فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فكان أوّل من ألجم في الإسلام، ثم طعن بحربة، و كان ذلك قبل مقدم الامام الحسين عليه السّلام إلى العراق بعشرة أيّام.- روضات الجنات: 752- 754-

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 15

القرآن فإنّي قرأت تنزيله على أمير المؤمنين عليه السّلام و علّمني تأويله «1» و قال الشعبي «2»: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد نبيّ اللّه من علي بن أبي طالب عليه السلام «3» ثم بعد أمير المؤمنين عليه السّلام الذين فسّروا القرآن و كشفوا النقاب عن وجهه هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام الرّاسخون في العلم.

ثم بعدهم أصحابهم الذين اقتبسوا من مشكاة أنوارهم، و التمسوا من جواهر أسرارهم ممّا يتعلّق بالشرائع و الأحكام و الحلال و الحرام و مسائل الأصول و القصص و التفسير و غيرها، فصنّفوا في أنواع علوم القرآن مصنّفات كثيرة.

قال مؤلّف الصّراط المستقيم: المضبوط في كتب الرّجال من كتب أصحاب الأئمّة عليهم السلام أزيد من ستّة آلاف كتاب.

نموذج من أسماء المفسّرين الى عصر المؤلّف

إليك أسماء بعض المفسّرين من القرن الأوّل إلى عصر مؤلّف «صراط المستقيم» على حسب تواريخ وفياتهم:

______________________________

(1) تنقيح المقال في علم الرجال ج 3/ 262.

(2) الشعبي: عامر بن شراحيل الحميري أبو عمرو التابعي ولد سنة (19) بالكوفة

و كان نديم عبد الملك بن مروان و سميره و رسوله إلى ملك الروم، مات بالكوفة فجأة سنة (103) ه- الاعلام ج 4/ 18-

(3) بحار الأنوار ج 92/ 93.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 16

1- أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد الخزرجي أبو المنذر، صحابيّ، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود، مطّلعا على الكتب القديمة، و لمّا أسلم كان من كتّاب الوحي، و شهد المشاهد كلّها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان من الإثني عشر الّذين نصروا الحقّ و رفضوا الباطل و كان نحيفا قصيرا أبيض الرأس و الحلية، توفّي بالمدينة سنة (21) ه أو سنة (22) ه- أنظر ترجمته في غاية النهاية ج 1/ 31، و حلية الأولياء ج 1/ 250، و صفة الصفوة ج 1/ 188- و الاعلام ج 1/ 78 و سفينة البحار ج 1 في الالف بعده الياء.

2- عبد اللّه بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، من أكابر الصحابة فضلا و عقلا، و من السابقين إلى الإسلام، و أوّل من جهر بقراءة القرآن بمكة المكرّمة، و كان خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رفيقه في حلّه و ترحاله و غزواته، و روي عنه روايات كثيرة أحصوها في كتبهم (848) حديثا، أخذ سبعين سورة من القرآن من فيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بقيّته من أمير المؤمنين عليه السّلام.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من أحبّ أن يسمع القرآن غضّا فليسمعه من ابن أمّ عبد.

توفّي بالمدينة سنة (32) ه و دفن بالبقيع، في «المستدرك» نقلا من تلخيص الشافي: أنّه لا خلاف بين الأمّة في

طهارة ابن مسعود و فضله و ايمانه و مدح الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ثنائه عليه و أنّه مات على الحالة المحمودة منه.

أنظر ترجمته المبسوطة من غاية النهاية ج 1/ 458 و صفة الصفوة ج 1/ 154 و حلية الأولياء ج 1/ 124 و تأسيس الشيعة لفنون الإسلام: 327، و سفينة البحار ج 6/ 79- و الاعلام ج 4/ 280 و غيرها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 17

3- عبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطّلب، الصحابي الجليل، ولد بمكة المكرّمة سنة (3) قبل الهجرة، و نشأ في بدء عصر النبوّة فلازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و روى عنه أحاديث كثيرة تبلغ في كتب القوم (1660) حديثا، روي عن ابن مسعود أنّه قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس، توفّي سنة (68) ه بالطائف.

كان ابن عبّاس من تلامذة أمير المؤمنين عليه السّلام و شهد معه الجمل و صفّين و أخذ التفسير عنه عليه السّلام، و دعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

بقوله: «أللهّم فقّهه في الدين و علّمه التأويل».

و روي أنّ رجلا أتى ابن عمر يسأله عن السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما «1» فقال: اذهب إلى ابن عبّاس، ثمّ تعال أخبرني، فذهب فسأله، فقال: كانت السماوات رتقا لا تمطر، و كانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، و هذه بالنبات، فرجع إلى ابن عمر فأخبره فقال: قد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنّه أوتي علما.

كثرت الرواية في التفسير من ابن عباس حتى كان ما يقارب النصف من الأحاديث الواردة في التفسير مسندا إليه.

قال شيخنا المجيز في الرواية قدّس سرّه في

«الذريعة» ج 4/ 244:

نسب إلى ابن عباس تفسيران: أحدهما ما ألّفه أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى ابن أحمد بن عيسى الجلّودي المتوفي سنة (332) ه.

و الثاني «تنوير المقياس» حاو لتفسير بعض الآيات و طبع بمصر سنة (290) ه.

______________________________

(1) سورة الأنبياء: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 18

4- أبو الأسود الدؤلي: ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الكناني كان معدودا من الأدباء و الفقهاء و الأعيان و الأمراء و الشعراء و الفرسان و الحاضري الجواب، و كان من سادات التابعين.

ولد سنة (1) ه و سكن البصرة في خلافة عمر، و ولّى إمارتها في أيّام أمير المؤمنين عليه السّلام، استخلفه عليها عبد اللّه بن عبّاس لمّا شخص إلى الحجاز، و لم يزل في الإمارة إلى شهادة أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان قد شهد معه صفّين.

و هو في أكثر الأقوال أوّل من نقط المصحف، و أوّل من وضع النحو و قد أمره أمير المؤمنين عليه السّلام بوضعه.

و

قيل: إنّ عليّا عليه السّلام وضع له إنّ الكلمة ثلاثة: اسم، و فعل، و حرف،

فشرح أبو الأسود ذلك و بسطه.

ترجم المامقاني في تنقيح المقال أبا الأسود، و قال: عدّه الشيخ في رجاله تارة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام، و اخرى من أصحاب الحسن عليه السّلام، و ثالثة من أصحاب الحسين عليه السّلام، و رابعة من أصحاب السجّاد عليه السّلام.

و قال المامقاني في آخر ترجمته: بقي هنا شي ء و هو أنّ أبا موسى و ابن شاهين عدّا الرجل من الصحابة، و أنكر ذلك عليهما ابن الأثير و غيره و قالوا: إنّه ليس له صحبة و إنما هو تابعيّ من خواصّ أصحاب عليّ عليه السّلام.

توفّي أبو الأسود سنة (69) أو (99)

في طاعون الجارف.

- تنقيح المقال ج 2/ 111- الأعلام ج 3/ 340- 5- جابر بن عبد اللّه بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل القدر، و جلالته أشهر من أن يذكر، و انقطاعه إلى أهل البيت عليهم السلام

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 19

من الحقائق المسلّمة، و الرّوايات الدالّة على فضله كثيرة جدّا، شهد بدرا و ثماني عشر غزوة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعده صار من أصحاب أمير المؤمنين، ثمّ من أصحاب الحسن و الحسين، ثمّ من أصحاب علي بن الحسين ثمّ من أصحاب أبي جعفر الباقر عليهم صلوات اللّه.

قال المؤلّف في منظومته الرجالية «نخبة المقال»:

«و جابر من خاصّة الأطهار» «جخ ل إلى قر و هو الأنصاري» «1».

قال المحدّث القمي في سفينة البحار ج 1/ 536: قال شيخنا في «المستدرك» في ترجمة جابر الأنصاري: هو من السابقين الأوّلين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و حامل سلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى باقر علوم الأوّلين و الآخرين، و أوّل من زار أبا عبد اللّه الحسين عليه السّلام في يوم الأربعين، المنتهى اليه سند أخبار الّلوح السماوي الذي فيه نصوص من اللّه رب العالمين، و له بعد ذلك مناقب اخرى و فضائل لا تحصى.

عدّه السيوطي في «الإتقان» من المفسرين.

ولد سنة (16) قبل الهجرة، و توفّي بالمدينة سنة (74) ه أو (77) ه أو (78) ه- الإصابة ج 1/ 213- و الاعلام ج 2/ 92- 6- سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي التابعيّ، مشهور بالفقه و الزهد و العبادة و علم تفسير القرآن، أخذ العلم عن ابن عبّاس، و كان يسمّى جهبذ

______________________________

(1) (جخ رمز لرجال

الشيخ و (ل) رمز للرسول صلّى اللّه عليه و آله و (قر) رمز للباقر عليه السّلام يعني عدّ الشيخ في رجاله جابرا من أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى الإمام الباقر عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 20

العلماء، و يقرأ القرآن في ركعتين.

قيل: ما على وجه الأرض أحد إلّا و هو محتاج إلى علمه.

ولد سنة (45) ه و قتله الحجّاج «1» في واسط سنة (95) ه.

روي أنّ ابن عبّاس كان إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه قال: أ تسألوني و فيكم ابن أمّ دهماء؟ يعني سعيدا.

روي أنّ سعيد بن جبير كان يأتمّ بعليّ بن الحسين عليهم السلام، فكان زين العابدين عليه السّلام يثني عليه

، و ما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر، و كان مستقيما.

و روي أنّه لمّا دخل على الحجّاج قال هل: أنت شقيّ بن كسير، قال: كانت أمّي أعرف بي سمّتني سعيد بن جبير، قال: ما تقول في أبي بكر و عمر، هما في الجنّة أو في النار؟ قال: لو دخلت الجنّة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها، و لو دخلت الجنّة و رأيت أهلها لعلمت من فيها، قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، قال أيّهم أحبّ إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيّهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الّذي يعلم سرّهم و نجويهم، قال، أبيت أن تصدقني، قال: بل لم أحبّ أن أكذبك «2».

______________________________

(1) الحجّاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، الحاكم السفّاك، ولد بالطائف سنة (40) و انتقل إلى الشام فلحق بروح بن زنباغ و صار من شرطته، فقلّده عبد الملك أمر عسكره و أمره بقتال ابن الزبير فقتله، فولّاه عبد الملك مكّة و

المدينة و الطائف، ثمّ أضاف إليها العراق و ثبتت له الإمارة عشرين سنة، و بنى مدينة واسط بين الكوفة و البصرة و هلك بها سنة (95) ه- الاعلام ج 2/ 175-

(2) سفينة البحار 4/ 155.- بحار الأنوار ج 46/ 134-

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 21

7- مجاهد بن جبر المكّي، أبو الحجّاج، مولى بنى مخزوم، كان أحد الأعلام الأثبات، تابعيّ مفسّر.

قال النووي «1» في «تهذيب الأسماء ج 2/ 83»: إمام متّفق على جلالته و إمامته، ولد سنة (31) ه، و توفّي بمكة و هو ساجد سنة (104) على الأشهر.

قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء ج 4/ 449»: مجاهد بن جبر الإمام شيخ القرّاء و المفسّرين ... روى عن ابن عبّاس فأكثر و أطاب، و عنه أخذ القرآن و التفسير و الفقه.

ثم روى بإسناده عن مجاهد أنّه قال: عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاث عرضات، أقفه عند كلّ آية أسأله فيم نزلت و كيف كانت.

و قال الذهبي في «عبر في خبر من غبر» ج 1/ 125: عن مجاهد أنّه قال:

عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاثين مرّة.

و قال ابن الجزري «2» في «غاية النهاية» ج 2/ 41: مجاهد بن جبر أبو الحجّاج المكّي، أحد الأعلام من التابعين و الأئمّة المفسّرين ... أخذ منه القراءة عرضا عبد اللّه بن كثير، و ابن محيصن «3»، و حميد بن

______________________________

(1) النووي: يحيى بن شرف الحوراني الشافعي الفقيه المحدث، ولد في نوا (من قرى حوران، سورية) سنة (631) ه و توفّي بها سنة (676) ه.

(2) ابن الجزري: شمس الدين محمّد بن محمّد بن محمّد ابو الخير الدمشقي الحافظ المحدّث المقرئ ولد في دمشق سنة (751) ه و مات بشيراز سنة (833).

- الاعلام

ج 7/ 274-

(3) ابن محيصن: محمّد بن عبد الرحمن بن محيصن المقرئ المكي المتوفّي سنة (123) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 22

قيس «1»، و زمعة بن صالح «2»، و أبو عمرو بن العلاء، و قرأ عليه الأعمش.

8- طاوس اليماني ابن كيسان أبو عبد الرحمن الهمداني بالولاء، قال الزركلي في «الأعلام» ج 3/ 322: كان من أكابر التابعين، تفقّها في الدين و رواية الحديث، و تقشّفا في العيش، و جرأة على وعظ الخلفاء و الملوك، أصله من الفرس، ولد في اليمن سنة (33) ه و نشأ فيها و توفّي حاجّا بمزدلفة أو بمنى سنة (106) ه.

قال الدكتور محمّد حسين الذهبي في كتاب «التفسير و المفسرون» ج 1/ 112: كان طاوس عالما متقنا، خبيرا بمعاني كتاب اللّه، و يرجع ذلك إلى مجالسته لكثير من الصّحابة يأخذ عنهم، روى عنه أنّه قال: جالست خمسين من الصحابة، و نجده يجلس الى ابن عبّاس أكثر من جلوسه لغيره من الصحابة و يأخذ في التفسير أكثر ممّا يأخذ من غيره، و لذلك عدّ من تلاميذ ابن عبّاس.

عدّه صاحب «الروضات» في أصحابنا الفقهاء الأمجاد رحمة اللّه عليهم أجمعين، ثم نقل شرح حاله و مدائحه و حكاية ملاقاته للسّجاد عليه السّلام في المسجد الحرام، فتعجّب من ذلك العلّامة النوري قدّس سرّه في «المستدرك» و قال، هذا منه ممّا لا ينقضي تعجّبه فإنّ الرجل من فقهاء العامّة و متصوّفيهم لم يشك فيه أحد، و لم يذكره أحد من علماء الرجال في كتبهم الرجالية و لم يسندوا إليه خبرا في مجاميعهم في الأحاديث أصولا و فروعا، نعم عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب السجاد عليه السّلام، و لعله للحكاية المتقدّمة، و إلّا فليس في الكتب

الأربعة خبر واحد أسند إليه، مع أنّه من الفقهاء الّذين يذكرون أقوالهم في كتب الفروع، مع أنّ ما

______________________________

(1) حميد بن قيس الأعرج أبو صفوان المكي القاري المتوفى سنة (130) ه.

(2) زمعة بن صالح أبو وهب القارئ المكي- انظر ترجمته في غاية النهاية ج 1/ 295-

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 23

ذكره في ترجمته كاف في الدلالة على تسنّنه.- سفينة البحار ج 5/ 337- 339-.

9- عكرمة بن عبد اللّه البربري المدني، أبو عبد اللّه، مولى عبد اللّه بن عبّاس، تابعيّ، كان من أعلم الناس بالتفسير و المغازي، طاف البلدان، و روى عنه زهاء ثلاثمائة رجل، منهم أكثر من سبعين تابعيّا، و ذهب إلى نجدة الحروري «1»، فأقام عنده ستّة أشهر، ثمّ كان يحدث برأي نجدة، و خرج إلى بلاد المغرب فأخذ عنه أهلها رأي الصفريّة، و عاد إلى المدينة، و توفّي بها سنة (105) أو بعدها «2».

قال ابن الجزري: عكرمة مولى ابن عبّاس أبو عبد اللّه المفسّر، وردت الرواية منه في حروف القرآن، و قد تكلّم فيه لرأيه لا لروايته، فإنه كان يرى رأى الخوارج .. إلى أن قال: كذّبه مجاهد و ابن سيرين، مات سنة خمس أو سنة ستّ أو سنة سبع و مائة «3».

قيل: كان ابن عباس يجعل في رجليه الكبل و يعلّمه القرآن، و كان عكرمة يقول: كلّ شي ء أحدّثكم في القرآن فهو عن ابن عبّاس.

قال المحدّث القمي قدّس سرّه في «السفينة» ج 6/ 334 ط الجديد: عكرمة مولى ابن عبّاس كان من علماء الناس ليس على طريقتنا و لا من أصحابنا مات سنة (105) أو (107).

قيل للباقر عليه السّلام: إنّ عكرمة مولى ابن عبّاس قد حضرته الوفاة قال:

إن أدركته علّمته كلاما لم تطعمه

النار.

______________________________

(1) هو نجدة بن عامر الحروري كان من رؤساء الحرورية و الخوارج قتل سنة (69) ه.

(2) الاعلام ج 5/ 43.

(3) غاية النهاية ج 1/ 515 رقم 2132.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 24

10- عطيّة بن سعد بن جنادة العوفي القيسي الكوفي أبو الحسن،

قال أبو جعفر الطبري في ذيل «المذيّل»: جاء سعد بن جنادة الى علي بن أبي طالب عليه السلام و هو بالكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين إنّه قد ولد لي غلام فسمّه، فقال عليه السلام: هذا عطيّة اللّه، فسمّي عطية

، و كانت أمّه روميّة، و خرج عطيّة مع ابن الأشعث، ثم هرب عطيّة الى فارس، و كتب الحجّاج الى محمّد بن القاسم الثقفي أن أدع عطيّة، فإن لعن علي بن أبي طالب و إلّا فاضربه أربعمائة سوط و احلق رأسه و لحيته، فدعاه و أقرأه كتاب الحجّاج و أبى عطيّة أن يفعل، فضربه أربعمائة سوط و حلق رأسه و لحيته، فلمّا ولّى عمر بن هبيرة بن العراق فكتب إليه عطيّة يسأله الإذن له في القدوم، فأذن له فقدم الكوفة فلم يزل بها الى أن توفّي سنة (111) ه، و كان كثير الحديث ثقة.

قال المامقاني في «تنقيح المقال» ج 2/ 253 رقم 7941: عن ملحقات الصراح: عطيّة العوفي بن سعيد، و له تفسير في خمسة أجزاء، قال عطيّة: عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاث عرضات على وجه التفسير، و أمّا على وجه القراءة فقرأت عليه سبعين مرّة «1».

و يظهر من كتاب «بلاغات النساء» أنه سمع عبد اللّه بن الحسن يذكر خطبة فاطمة الزهراء عليها السلام في أمر فدك فراجع «2».

11- عطاء بن أبي رباح أسلم بن صفوان، تابعيّ، ولد في جند باليمن سنة (27) ه و

نشأ بمكّة المكرّمة، فكان مفتي أهلها و محدّثهم، و توفّي فيها سنة (114) ه.

______________________________

(1) سفينة البحار ج 6/ 296 ط. الجديد.

(2) بحار الانوار ج 8/ 11/ 112 ط. القديم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 25

قال ابن الجزري في «غاية النهاية» ج 1/ 513 رقم 2120: عطاء بن أبي رباح أبو محمّد القرشي مولاهم المكّي، أحد الأعلام وردت عنه الرواية في حروف القرآن، عاش مائة سنة كما قال ابن معين، و قال غيره: مات سنة (115) و قيل:

(114) و له (88) سنة.

قال الذهبي في كتابه «التفسير و المفسرون» ج 1/ 114: إذا تتبّعنا الرّواة عن ابن عبّاس نجد أنّ عطاء بن أبي رباح لم يكثر الرواية عنه كما أكثر عن غيره، و نجد مجاهدا، و سعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب اللّه، و لكن هذا لا يقلّل من قيمته بين علماء التفسير، و لعلّ إقلاله في التفسير يرجع الى تحرّجه عن القول بالرأي.

و في سفينة البحار ج 6/ 295 ط. الجديد: كان بنو أميّة يعظّمونه جدّا، حتّى أمروا المنادي ينادي: لا يفتي الناس إلّا عطاء، و كان عطاء أعور، أفطس، أعرج، شديد السّواد، و يظهر انحرافه عن أهل البيت عليهم السلام من حكاية حضوره جنازة رجل من قريش مع أبي جعفر عليه السلام، راجع البحار ج 46/ 300.

12- قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزير أبو الخطاب السدوسي البصري مفسّر حافظ ضرير أكمه.

قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة و كان مع علمه بالحديث رأسا في العربيّة و مفردات اللّغة و أيّام العرب و النسب ولد سنة (61) ه و توفّي بواسط سنة (118) في الطاعون.

ترجمه الذهبي في «سير أعلام النبلاء ج 5/

269 رقم 132» و قال: حافظ أهل العصر، قدوة المفسرين، مولده سنة (60).

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 26

قال معمر: أقام قتادة عند سعيد بن المسيّب ثمانية أيّام فقال له في اليوم الثالث: ارتحل يا أعمى فقد أنزفتني «1».

و قال معمر أيضا: سمعت قتادة يقول: ما في القرآن آية إلّا و قد سمعت فيها شيئا.

و عنه قال: ما سمعت شيئا إلّا و حفظته.

قال سلام بن أبي مطيع: كان يختم القرآن في سبع، و إذا جاء رمضان ختم في كلّ ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كلّ ليلة.

قال المحدّث القمّي في سفينة البحار ج 7/ 222: قتادة بن دعامة من أهل البصرة، كان عالما كبيرا مقصدا للطلّاب و الباحثين، لم يكن يمرّ يوم إلّا يأتيه راحلة من بني أميّة تنيخ ببابه لسؤال عن خبر أو نسب أو شعر، و كان يدور البصرة أعلاها و أسفلها بغير قائد، و بلغ من اشتهاره بالعلم و صحّة الرواية حتّى قالوا: لم يأتنا من علم العرب أصحّ من شي ء أتانا من قتادة.

و قال: كان قتادة من أكابر محدّثي العامّة من تابعي البصرة، و كان شيخا أحمر الرأس و اللّحية، و يظهر ممّا جرى بينه و بين خالد بن عبد اللّه القسري أمير مكّة أنّ قتادة كان محبّا لعليّ عليه السلام حيث إنّه لمّا سمع من خالد الملعون قوله في علي عليه السلام قام فانصرف و قال في حقّ خالد: زنديق و ربّ الكعبة، زنديق و ربّ الكعبة.

13- زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، و يقال له:

______________________________

(1) أي أخذت منّي علمي كلّه و لم يبق منه شي ء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 27

«زيد الشهيد» ولد سنة (79) ه.

قال

في «التكملة»: اتفق علماء الإسلام على جلالته و ثقته و ورعه و علمه و فضله، و قد روي في ذلك أخبار كثيرة، حتى عقد ابن بابويه في «العيون» بابا لذلك.

و قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: كان زيد بن علي بن الحسين عليه السلام عين إخوته بعد أبي جعفر عليه السلام و أفضلهم، و كان ورعا عابدا فقيها سخيّا شجاعا و ظهر بالسيف يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، و يطلب بثارات الحسين عليه السلام.

و صرّح الشهيد رحمه اللّه في «القواعد» في بحث الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بأنّ خروجه كان بإذن الإمام عليه السلام «1».

قال الزركلي في الأعلام: عدّه الجاحظ من خطباء بني هاشم، و قال أبو حنيفة: ما رأيت في زمانه أفقه منه، و لا أسرع جوابا و لا أبين قولا ...

كان إقامته بالكوفة فاشخص الى الشّام، فضيّق عليه هشام بن عبد الملك و حبسه خمسة أشهر، و عاد إلى العراق ثم إلى المدينة، فلحق به بعض أهل الكوفة يحرّضونه على قتال الأمويين، و رجعوا به الى الكوفة سنة (120) ه فبايعه أربعون ألفا على الدعوة الى الكتاب و السنّة، و جهاد الظالمين، و الدفع عن المستضعفين، و إعطاء المحرومين، و نصر أهل البيت و كان العامل على العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفي، فكتب إلى الحكم بن الصلت و هو في الكوفة أن يقاتل زيدا، فنشبت معارك انتهت بمقتل زيد بسنة (121) ه و حمل رأسه إلى الشام فنصب على باب دمشق، ثم أرسل إلى المدينة فنصب عند قبر النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) يوما

______________________________

(1) تنقيح المقال ج 1/ 467.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 28

و ليلة و حمل إلى

مصر فنصب بالجامع فسرقه أهل مصر و دفنوه.

من آثاره العلميّة: «مجموع في الفقه» و «تفسير غريب القرآن» رواهما أبو خالد الواسطي عن زيد «1».

14- السدّي الكبير: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الهاشمي بالولاء، أبو محمّد الكوفي مولى زينب بنت قيس بن مخرمة من بني عبد المطلب، تابعي، حجازي الأصل، كوفيّ المسكن.

روى عن ابن عبّاس و أنس، و طائفة، و روى عنه أبو عوانة، و سفيان الثوري، و حسن بن صالح، و زائدة، و إسرائيل، و أبو بكر بن عيّاش.

أخرج له الجماعة (المسلم و أهل السنن الأربعة) و لم يخرج له البخاري لرميه بالتشيّع.

قال ابن حجر في «التقريب»: إسماعيل السدّي (بضم السين و تشديد الدال المهملتين)، صدوق.

و هذا هو السدّي الكبير المذكور في التفاسير، و تفسيره على ما قال السيوطي في «الإتقان» أمثل التفاسير، و ذكره النجاشي و الطوسي في فهرستيهما في مصنّفي الشيعة.

أدرك السجّاد و الباقر و الصادق عليهم السلام، و توفّي سنة (127) ه.

و السدّي منسوب إلى سدّة مسجد الكوفة لأنّه كان يبيع المقانع فيها، و قيل:

إنّه كان يدرّس التفسير على بعض سدّات المسجد الحرام.

______________________________

(1) الاعلام ج 3/ 98.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 29

- اللباب ج 1/ 308- تنقيح المقال ج 1/ 137- 15- جابر بن يزيد الجعفي بن الحرث أبو عبد اللّه الكوفي، كان من أجلّاء الرّواة و أعاظم الثقات.

قال العلّامة المامقاني في «تنقيح المقال»: إنّ الّذي يستفاد من مجموع ما مرّ من الأخبار أنّ الرّجل في غاية الجلالة و نهاية النبالة، و له المنزلة العظيمة عند الصادقين عليهما السلام، بل هو من أهل أسرارهما و بطانتهما و مورد ألطافهما الخاصّة و عنايتهما المخصومة و أمينهما على ما لا يؤتمن عليه

إلّا أو حديّ العدول من الأسرار و مناقب أهل البيت عليهم السلام.

نقل في ترجمة مولانا الباقر عليه السّلام عن «المناقب» أنّ بابه جابر بن يزيد الجعفي، و لا يعقل تمكين الإمام المعصوم عليه السلام من صيرورة غير العدل بابا له و واسطة بينه و بين شيعته الضعفاء الأخيار.

روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: إنّما سمّي جابرا لأنّه جبر المؤمنين بعلمه، و هو بحر لا ينزح.

عدّه الشيخ في رجاله تارة من أصحاب الباقر عليه السلام و قال: توفّي سنة (128) ه، و أخرى من أصحاب الصادق عليه السلام.

و قال في «الفهرست»: له كتاب التفسير أخبرنا به جماعة من أصحابنا.

- تنقيح المقال ج 1/ 201- 205 رقم 1621- 16- محمّد بن علي بن أبي شعبة أبو جعفر الحلبي من وجوه أصحابنا و فقهائهم ذكره النجاشي في «رجاله» ج 2/ 202 و قال: وجه أصحابنا و فقيههم، و الثقة الذي لا يطعن عليه .. له كتاب التفسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 30

و ذكره الشيخ في رجاله بأرقام 24 و 249 و عدّه من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السلام و قال في الفهرست: محمّد بن علي الحلبي له كتاب، و هو ثقة.

و قال المامقاني في «التنقيح» ج 3/ 152: نقل السيّد صدر الدين وفات الرّجل في زمان الصادق عليه السلام.

و أرّخ بعض وفاته سنة (135) ه.

17- زيد بن أسلم العدوي العمري مولاهم، أبو أسامة أو أبو عبد اللّه المدني، فقيه مفسّر، كان مع عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته، و استقدمه الوليد بن يزيد في جماعة من فقهاء المدينة إلى دمشق مستفتيا في أمر، و له كتاب في التفسير رواه عنه ولده عبد الرحمن.

و عدّه ابن الجزري

من المقرئين و قال: زيد بن أسلم أبو أسامة المدني مولى عمر بن الخطّاب، وردت عنه الرّواية في حروف القرآن، أخذ عنه القراءة شيبة بن نصاح، مات سنة (136) ه.

و عدّه الذهبي و السيوطي من الحفّاظ، قال السيوطي: روى عن أنس، و جابر بن عبد اللّه، و سلمة بن الأكوع، و ابن عمر، أبي هريرة، و عائشة.

و عنه ابنه أسامة، و أيّوب السختياني، و روح بن القاسم، و السفيانان، و ابن جريح، و كان له حلقة في المسجد النبوي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم).

عدّه الشيخ من أصحاب الصادق عليه السلام.

الأعلام ج 3/ 95، غاية النهاية ج 1/ 296- طبقات الحفّاظ: 53.

18- داود بن دينار المعروف بابن أبي هند السرخسي القشيري، عدّه الشيخ في «رجاله» من أصحاب الباقر عليه السلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 31

قال المامقاني في «تنقيح المقال» ج 1/ 406: ظاهره كونه إماميا لكنّا لم نقف فيه على مدح يلحقه بالحسان، توفّي في طريق مكّة سنة (139) ه.

ذكر ابن النديم تفسيره في الفهرست في ص 59.

و ذكر تفسيره أيضا العلّامة المحقّق آقا بزرگ قدّس سرّه في «الذريعة» ج 4/ 240 رقم 1174.

19- أبان بن تغلب بن رباح أبو سعيد البكري الجريري، ثقة، جليل القدر عظيم المنزلة، لقي الأئمة السجّاد و الباقر و الصادق عليهم السّلام، و روى عنهم، و كان له عندهم حظوة، و قدم و

قال له أبو جعفر عليه السّلام: اجلس في مسجد المدينة و أفت النّاس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك.

مات في سنة (141) ه و

لمّا أتى نعيه أبا عبد اللّه عليه السّلام قال: أما و اللّه لقد أوجع قلبي موت أبان.

و

روي أنّ الصادق عليه السّلام قال: يا

أبان ناظر أهل المدينة فإنّي أحب أن يكون مثلك من رواتي و رجالي.

و قد وثّقه في الحديث مع الاعتراف بتشيّعه جمع من العامّة مثل ابن حنبل، و ابن معين، و أبي حاتم، و النسائي، و ابن عدي، و الحاكم، و ابن سعد، و الذهبي، و ابن حجر.

و كان مقدّما في كثير من الفنون سيّما التفسير و الفقه و الحديث، و له تفاسير، مثل «الغريب في القرآن» و «معاني القرآن» و غيرهما.

توجد ترجمته في «تنقيح المقال» ج 1/ 3 و أعيان الشيعة ج 5/ 47 و غاية النهاية ج 1/ 4.

20- محمّد بن السّائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي، أبو النضر

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 32

الكوفي نسّابة، راوية، عالم بالتفسير و الأخبار و أيّام العرب، قال ابن النديم في «الفهرست» ص 95: حكي أنّ سليمان بن عليّ العبّاسي والي البصرة استقدمه إليها و أجلسه في داره، فجعل يملي على الناس تفسير آيات من القرآن حتى بلغ إلى آية في سورة البرائة ففسّرها على خلاف المعروف، فقالوا: لا نكتب هذا التفسير، فقال:

و اللّه لا أمليت حرفا حتّى يكتب تفسير هذه الآية على ما أنزل اللّه، فرفع ذلك إلى سليمان بن علي، فقال: اكتبوا ما يقول و دعوا ما سوى ذلك. صنّف في تفسير القرآن كتابا.

قال الصدر في «تأسيس الشيعة»: أوّل من صنّف في أحكام القرآن هو محمّد بن السائب الكلبي، و هو من الشيعة المخصوصين بالإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام.

قال النسائي: حدّث عنه ثقات من الناس و رضوه في التفسير.

قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ج 6/ 248: العلّامة الأخباري، أبو النضر محمّد بن السائب بن بشر الكلبي المفسّر، و كان أيضا رأسا في

الأنساب إلّا أنّه شيعيّ متروك الحديث.

يروي عنه ولده هشام و طائفة، أخذ عن أبي صالح، و جرير، و الفرزدق و جماعة، توفّي سنة (146) ه.

توجد ترجمة الكلبي مضافا إلى ما ذكر في «طبقات ابن سعد» ج 6/ 249 و «الجرح و التعديل» ج 7/ 270 و تذهيب التهذيب ج 3/ 205 و تهذيب التهذيب ج 9/ 178.

21- الأعمش: سليمان بن مهران الأسدي بالولاء، أبو محمّد، أصله من بلاد

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 33

الرّي، ولد بالكوفة سنة (61) و توفّي بها سنة (148) ه، كان عالما بالقرآن و الحديث و الفرائض، يروي نحو 1300 حديث.

قال الذهبي: كان رأسا في العلم النافع و العمل الصالح.

كان معروفا بالفضل و الثقة و الجلالة و التشيّع و الاستقامة، و العامّة أيضا يثنون عليه، و مطبقون على فضله و ثقته، و مقرّون بجلالته مع اعترافهم بتشيّعه.

قال يحيى القطّان: هو علّامة الإسلام.

قال هيثم: ما رأيت بالكوفة أحدا أقرأ لكتاب اللّه و لا أجود حديثا من الأعمش: الإمام الجليل، أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم النخعي، و زرّ بن حبيش، و زيد بن وهب، و عاصم بن أبي النجود، و مجاهد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، و جرير بن عبد الحميد .. إلى أن قال: و روينا عنه أنّه قال: إنّ اللّه زيّن بالقرآن أقواما و إنّي ممّن زيّنه اللّه بالقرآن، و لو لا ذلك لكان على عنقي دنّ أطوف به في سكك الكوفة.

عدّه الشيخ الطوسي قدّس سرّه من أصحاب الصادق عليه السّلام، و عدّه السروي في «المناقب» من خواصّ أصحابه.

قال السيّد شرف الدين في «المراجعات» ص 75: سليمان بن مهران أحد شيوخ الشيعة و أثبات المحدثين .. احتجّ به أصحاب السنّة و

غيرهم.

و هو واقع في رواة تفسير علي بن إبراهيم القمي قدّس سرّه.

توجد ترجمة الأعمش في غير واحد من كتب التراجم منها: الأعلام ج 3/ 2198 و تنقيح المقال ج 2/ 65، و معجم رجال الحديث ج 8/ 280، و تاريخ بغداد ج 9/ 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 34

22- هشام بن سالم الجواليقي الجعفي مولى بشير بن مروان بن محمّد الكوفي، عدّه الشيخ تارة من أصحاب الصادق عليه السّلام، و اخرى من أصحاب الكاظم عليه السّلام.

و قال النجاشي في «رجاله» ج 2/ 399 رقم 1166: كان من سبى الجوزجان، روى عن أبي عبد اللّه، و أبي الحسن عليهما السّلام، ثقة ثقة، له كتاب يرويه جماعة.

أخبرنا محمّد بن عثمان، قال: حدّثنا جعفر بن محمّد، قال: حدّثنا عبيد اللّه بن أحمد، قال: حدّثنا ابن أبي عمير عنه بكتابه، و كتابه الحج، و كتابه التفسير، و كتابه المعراج.

قال المحدّث القمي في «سفينة البحار» ج 8 ص 701 ط الجديد: هشام بن سالم الجواليقي أبو الحكم كان من سبى الجوزجان روى عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السّلام، ثقة ثقة.

و عدّه الشيخ المفيد من فقهاء الأصحاب، و له أصل، و يروى عنه كثير من الأجلّاء كابن أبي عمير، و صفوان، و ابن محبوب، و البزنطي، و الحسين بن سعيد، و ابن بزيع، و غيرهم.

و هو الذي كان أوّل من دخل على موسى بن جعفر عليهما السّلام بعد وفاة أبيه و اطّلع على إمامته ثمّ أخبر أصحابه بذلك، و صرفهم عن عبد اللّه الأفطح «1».

______________________________

(1) هو عبد اللّه بن جعفر الصادق عليه السّلام، كان أكبر إخوته بعد إسماعيل، و لم يكن منزلته عند أبيه بمنزلة غيره من ولده

في الإكرام، و كان متّهما بالخلاف على أبيه في الإعتقاد و ادّعى بعد أبيه الإمامة و بايعه جماعة و سمّوا بالفطحيّة لأنّ داعيهم أي عبد اللّه كان أفطح

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 35

23- مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن كان من أعلام المفسّرين، أصله من بلخ انتقل إلى البصرة و دخل بغداد فحدّث بها و توفّي بالبصرة سنة (150) ه.

من كتبه «آيات الأحكام» ذكره ابن النديم في «الفهرست» ص 254، و «التفسير الكبير» و «نوادر التفسير» و «متشابه القرآن» و «الناسخ و المنسوخ» ذكرها الزركلي في الأعلام ج 8/ 206.

عدّه الشيخ قدّس سرّه في رجاله تارة من أصحاب الباقر عليه السّلام و اخرى من أصحاب الصادق عليه السّلام.

قال المامقاني في «التنقيح» ج 3/ 244: عن «ملحقات الصراح» في ذكر معارف أهل التفسير من التابعين و من تبعهم الإمام أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن زيد تفسيره مجلّدان.

و عن «تاريخ اليافعي»: أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي بالولاء الخراساني كان مشهورا بتفسير كتاب اللّه العزيز، و له التفسير المشهور و كان من العلماء الأجلّاء، حكي عن الشافعي أنّه قال: الناس كلّهم عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، و على زهير بن أبي سلمى في الشعر و على أبي حنيفة في الكلام.

قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ج 7/ 201 رقم 79: كبير المفسّرين أبو الحسن مقاتل بن سليمان يروي على ضعفه البيّن عن مجاهد، و الضّحاك، و ابن بريدة،

______________________________

الرجلين، و مات بعد أبيه بتسعين يوما (148) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 36

و عطاء، و ابن سيرين، و عمرو بن شعيب، و شرحبيل بن سعد، و المقبري، و الزهري

و عدّة.

و عنه سعد بن الصلت، و بقيّة، و عبد الرزّاق، و حرمي بن عمارة و غيرهم.

24- أبو حمزة الثمالي: ثابت بن دينار الأزدي بالولاء الكوفي جليل القدر، عظيم المنزلة عند الأئمّة عليهم السّلام لقي السّجاد، و الباقر، و الصادق، و الكاظم عليهم السّلام، و روى عنهم- على خلاف في الأخير، توفّي سنة (150) ه.

ترجم لأبي حمزة الثمالي أكثر أرباب المعاجم.

قال السيد بحر العلوم الطباطبائي في «الفوائد الرجالية) ج 1/ 258 في ترجمته: له كتب، منها كتاب التفسير، و الظاهر أنّه أوّل من صنّف فيه من أصحابنا، روى عنه كثير من الأجلّاء،

قال الكشي رحمه اللّه: قال: الفضل بن شاذان: سمعت الثقة يقول: سمعت الرضا عليه السّلام يقول: أبو حمزة الثمالي في زمانه كسلمان الفارسي في زمانه، و ذلك أنّه خدم أربعة منّا، علي بن الحسين عليه السّلام و محمّد بن علي عليه السّلام و جعفر بن محمّد عليه السّلام و برهة من عصر موسى عليه السّلام «1».

و قال ابن حجر العسقلاني في «تهذيب التهذيب» ج 2/ 7: ثابت بن أبي صفيّة دينار- و قيل: سعد- أبو حمزة الثمالي الأزدي الكوفي مولى المهلّب، روى عن أنس، و الشعبي، و أبي إسحاق، و زاذان أبي عمر، و سالم بن أبي الجعد، و أبي جعفر الباقر عليه السّلام و غيرهم.

______________________________

(1) رجال الكشي ص 133 ط بمبئي و فيه بدل (سلمان) «لقمان».

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 37

و روى عنه الثوري، و شريك، و حفص بن غياث، و أبو أسامة، و عبد الملك بن سليمان، و أبو نعيم، و وكيع، و عبيد اللّه بن موسى، و عدّة.

و قال السيّد العلّامة الفقيه الصدر الكاظمي في «تأسيس الشيعة» ص 327: أبو حمزة

الثمالي من التابعين و مقدّم في التفسير و الحديث، مصنّف فيهما و ذكر تفسيره الثعلبي في تفسيره و اعتمد عليه و أخرج الكثير من روايته.

25- أبو الجارود زياد بن المنذر الهمداني الخراساني، رأس الجارودية من الزيديّة، ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1/ 387 رقم 446 و قال: أبو الجارود الهمداني الخارقي الأعمى، كوفي، كان من أصحاب أبي جعفر عليه السّلام و روى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و تغيّر لمّا خرج زيد رضي اللّه عنه، له كتاب تفسير القرآن رواه عن أبي جعفر عليه السّلام.

قال البخاري في «التاريخ الكبير» ج 2/ 371 رقم 1255: سمع عطية، و روى عن أبي جعفر عليه السّلام، و روى عنه مروان بن معاوية، و على بن هاشم بن البريد، يتكلّمون فيه (أي يتّهمونه بالتشيّع) ذكره الشيخ في «الفهرس»، برقم 305 و قال: زيديّ المذهب، و إليه تنسب الزيدية الجاروديّة كما ذكره كذلك في أصحاب الباقر عليه السّلام من «رجاله» برقم 4.

و ذكره الكشي في «رجاله» برقم 104 و قال: سمّي سرحوبا و تنسب إليه السرحوبيّة من الزيدية،

سمّاه بذلك أبو جعفر عليه السّلام

، و ذكر أنّ سرحوبا اسم شيطان أعمى يسكن البحر، و كان أبو الجارود مكفوفا أعمى أعمى القلب .. إلخ.

و ذكره المصنّف في «منظومته الرجالية»:

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 38 ثمّ ابن منذر أبو الجارودزيديّ الرّئيس للجارودي

و طق ضعيف قال قر: سرحوب ضعيف الأعمى هو الكذوب

توفّي أبو الجارود سنة (150) أو بعده.

26- أبو بصير الأسدي أو أبو محمّد يحيى بن القاسم، أو يحيى بن أبي القاسم إسحاق كان مكفوفا، توفّي سنة (150) ه و كان من أصحاب الإمامين الهمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام.

ترجم

له النجاشي ج 2/ 411 رقم 1188 و قال: ثقة، وجيه، روى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهم السّلام، له كتاب يوم و ليلة.

قال في «الذريعة» ج 4/ 251 رقم 1201: قال السيّد الصدر: لأبي بصير كتاب تفسير ذكره النجاشي، و لكني لم أظفر على مأخذ في هذا الباب، و ليس في نسخة عندي من رجال النجاشي ذكر منه، نعم روى أبو بصير تفسير أبي الجارود عنه و رواه القمي في تفسيره عن أبي بصير.

27- وهيب بن حفص أبو علي الجريري مولى بني أسد الكوفي عدّه الشيخ في «رجاله» ص 328 من أصحاب الصادق عليه السّلام.

و ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 393 رقم 1160 و قال: روى عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السّلام، و وقف، و كان ثقة، و صنّف كتبا: كتاب تفسير القرآن، و كتاب الشرائع مبوّب.

و ترجم له آية اللّه العظمى الخوئي قدّس سرّه في «معجم رجال الحديث» ج 19 ص 204 رقم 13185 و قال: وقع في «الكافي» بلفظ (وهب) و في «الوافي» و «الوسائل» بلفظ (وهيب) و الظاهر أنّه متّحد مع وهب بن حفص النخّاس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 39

لم أظفر على تاريخ وفاته.

28- المنخّل بن جميل الأسدي الكوفي بيّاع الجواري.

عدّه الشيخ من أصحاب الصادق عليه السّلام، و روى عنه و عن أبي الحسن عليهما السّلام و حدّث عنه أحمد بن ميثم، و عمّار بن مروان، و محمّد بن سنان.

كان من مفسّري القرن الثاني و لكن ضعّفه أرباب الرجال و نسبوه إلى فساد الرواية و الغلوّ.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 372 رقم 1128 و قال: ضعيف فساد الرواية، روى

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، له كتاب التفسير.

و ترجم له المامقاني في «تنقيح المقال» ج 2/ 247 رقم 12135 و قال:

المنخلّ (بضمّ الميم و فتح النون و الخاء المعجمة المشدّدة) و نقل عن العلّامة في الخلاصة و ابن الغضائري أنّهما قالا في ترجمته: كوفي ضعيف و في مذهبه غلوّ و ارتفاع، روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السّلام.

ثمّ قال: و كأنّ الكلّ متّفقون على ضعفه، و لكن المحقّق الوحيد رحمه اللّه بنى على المناقشة و قال: الظاهر أنّ رميهم بالغلوّ لروايته الروايات الدالّة عليه على زعمهم، و في ثبوت الضعف بذلك تأمّل، و روي عنه في كتب الأخبار ما يدلّ على عدم غلوّه قطعا.

29- الحسن بن واقد المروزي.

قال المامقاني في «التنقيح» ج 1/ 313: لم أقف فيه إلّا على عدّ الشيخ إيّاه في رجاله من أصحاب الصادق عليه السّلام، و ظاهره كونه إماميّا إلّا أنّ حاله مجهول.

كان من المفسّرين كما ذكره ابن النديم في «الفهرست» ص 144، و له «النّاسخ

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 40

و المنسوخ» المسمّى «بالرغيب في علوم القرآن» كما ذكره العلّامة المحقّق في «الذريعة» ج 4/ 319.

30- حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل التيمي الزيات الكوفي، ولد سنة (80) ه، و توفّي سنة (156) ه، كان عالما بالقراءات.

قال ابن النديم في «الفهرست»: أوّل من صنّف في متشابه القرآن حمزة بن حبيب الزيّات الكوفي من شيعة أبي عبد اللّه الصادق و صاحبه سنة (156) بحلوان.

ترجم له الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ج 7/ 90 رقم 38 و قال: حمزة بن حبيب بن عمارة الكوفي الزيّات، مولى عكرمة بن ربعي.

تلا عليه حمران بن أعين، و الأعمش، و ابن

أبي ليلى و طائفة.

و حدّث عن عديّ بن ثابت، و الحكم، و عمرو بن مرّة، و حبيب بن أبي ثابت، و طلحة بن مصرّف، و منصور، و عدّة.

31- السدّي الصغير محمّد بن مروان بن عبد اللّه الكوفي ترجم له غير واحد من أرباب التراجم، و قالوا: كان صاحب محمّد بن السائب الكليني المتوفّى سنة (146) ه، و لذلك يعرف بالكلبي أيضا.

قال ابن أبي حاتم في «الجرح و التعديل» ج 8/ 86 رقم 364: محمّد بن مروان الكوفي و يعرف بالسدّي، روى عن يحيى بن عبد اللّه، و الكلبي، روى عنه هشام بن عبيد اللّه، و محمّد بن عبد اللّه، و الكلبي، روى عنه هشام بن عبيد اللّه، و محمّد بن عبيد المحاربي، و يوسف بن عدي.

و قال ابن الجزري في «غاية النهاية» ج 2/ 261 رقم 3464: محمّد بن مروان السدّي صاحب «التفسير» كوفيّ يكنّى أبا عبد الرحمن سمع التفسير من

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 41

الكلبي، ذكره الحافظ أبو عمرو و قال: ورد عنه الرواية في حروف القرآن.

توجد ترجمته أيضا في «الذريعة: 4/ 276 و «جامع الرواة» ج 2/ 190، و معجم رجال الحديث ج 17/ 221 رقم 11751.

32- الكسائي علي بن حمزة بن عبد اللّه الكوفي الأسدي بالولاء، كان إماما في اللّغة و النحو و القراءة، قرأ النحو، بعد الكبر، سكن بغداد و توفّي بالري عن سبعين عاما سنة (189) ه، و هو مؤدّب الرشيد، و الأمين و المأمون العباسيّين، له تصانيف منها «معاني القرآن» و القراءات» و «مقطوع القرآن و موصوله».

- غاية النهاية ج 1/ 535- 540- 33- سفيان بن عيينة بن ميمون أبي عمران الهلالي الكوفي المكّي أبو محمّد، الفقيه، المحدّث،

المفسّر، ولد بالكوفة في النصف من شعبان سنة (107) ه و توفّي بمكة المكرّمة في النصف من شعبان سنة (198) ه أو قبلها، و من آثاره «تفسير القرآن الكريم» ذكر تفسيره ابن النديم في «الفهرست» ص 59.

و عدّه الشيخ في «رجاله» من أصحاب الصادق عليه السّلام.

و ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1 ص 426 رقم 504 و قال: له نسخة عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام.

قال العلّامة المامقاني في «تنقيح المقال» ج 2/ 40: و تنقيح المقال أنّ كون الرّجل عاميّا و عدم ورود توثيق فيه منّا يوقفنا عن العمل برواياته.

34- دارم بن قبيصة بن نهثل بن مجمع أبو الحسن التميمي الدارمي السائح، روى عن الإمام الرضا عليه السّلام كما قال النجاشي في «رجاله» ج 1/ 372 رقم

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 42

427، من آثاره كتاب «الوجوه و النظائر» و كتاب «الناسخ و المنسوخ» رواهما عن الإمام عليه السّلام.

35- علي بن أسباط بن سالم أبو الحسن المقرئ الكوفي، كان من أصحاب الإمامين الرضا و الجواد عليهما السّلام.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 73 رقم 661 و قال: ثقة، كان فطحيّا، جرى بينه و بين علي بن مهزيار رسائل في ذاك رجعوا فيها إلى أبي جعفر الثاني عليه السّلام فرجع علي بن أسباط عن ذلك القول و تركه، و قد روى عن الرّضا عليه السّلام من قبل ذلك، و كان أوثق الناس و أصدقهم لهجة.

له كتب منها التفسير.

36- عبد اللّه بن الصلت أبو طالب القمي، مولى بني تيم اللّات بن ثعلبة.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 14 رقم 662 و قال: ثقة، مسكون إلى روايته، روى عن الرضا عليه السّلام، يعرف له

كتاب «التفسير».

و عدّه الشيخ في أصحاب الرضا و الجواد عليهما السّلام.

37- معلّى بن محمّد البصري أبو الحسن، ترجم له النجاشي في ج 2 ص 365 رقم 1118 و عدّ من كتبه كتاب التفسير.

و عدّه الشيخ الطوسي في «رجاله» ممّن لم يرو عنهم عليهم السّلام.

و قال العلّامة في ترجمته في «الخلاصة»: مضطرب الحديث و المذهب مثل ما قال في ترجمته الشيخ.

و ترجم له العلّامة المامقاني في «تنقيح المقال» ج 3/ 233 رقم 11203

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 43

و قال بعد نقل الأقوال: روايته عن الضعفاء غير قادحة فيما روى عن الثقة، و فساد مذهبه لم يثبت، و كونه شيخ إجازة يغنيه عن التوثيق، كما شهد به العلّامة المجلسي (قدّس سرّه) و لا أقلّ من عدّ الرّجل من الحسان.

38- أبو عبد اللّه أحمد بن صبيح الأسدي الكوفي.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1/ 208 رقم 182 و قال: ثقة، و الزيدية تدّعيه و ليس بصحيح، له كتب منها التفسير.

و ذكر كتابه في التفسير الشيخ في «الفهرست» و ابن شهر آشوب في «المعالم» و شيخنا المجيز قدّس سرّه في «الذّريعة» ج 4 رقم 1183.

39- هشام بن محمّد بن السائب الكلبي أبو المنذر.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 399 رقم 1167 و قال: الناسب، العالم بالأيّام، المشهور بالفضل و العلم، و كان يختصّ بمذهبنا.

و له الحديث المشهور،

قال: اعتللت علّة عظيمة نسيت علمي، فجلست إلى جعفر بن محمّد عليهما السّلام، فسقاني العلم في كأس، فعاد إليّ علمي، و كان أبو عبد اللّه عليه السّلام يقرّبه و يدنيه و يبسطه.

توفّي بالكوفة سنة (204) ه، و أرّخ وفاته ابن النديم في الفهرست ص 51 سنة (206) ه.

ذكر في «الذريعة» ج 4/

234 تفسيره و قال: «تفسير الآي الّتي نزلت في أقوام بأعيانهم» لهشام بن محمّد بن السّائب الكلبي ذكره ابن النديم في «الفهرست».

40- الواقدي: محمّد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء المدني، أبو

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 44

عبد اللّه، كان من أقدم المؤرّخين في الإسلام و من أشهرهم، و من حفّاظ الحديث، ولد بالمدينة سنة (130) ه، و توفي ببغداد سنة (207) ه.

قال ابن النديم في «الفهرست» ج 1 ص 98: خلّف الواقدي بعد وفاته ستمائة قمطر كتبا كلّ قمطر منها حمل رجلين و كان له غلامان مملوكان يكتبان اللّيل و النهار.

له مصنّفات كثيرة بعضها مطبوع مثل «المغازي النبوية» و بعضها لم يطبع إلى الآن مثل «تفسير القرآن».

41- يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين، أبو محمّد كان جليل القدر، عظيم المنزلة.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 420 رقم 1209 و قال: كان وجها في أصحابنا، متقدّما، عظيم المنزلة.

ولد في أيّام هشام بن عبد الملك، و رأى جعفر بن محمّد عليهما السّلام بين الصّفا و المروة، و لم يرو عنه، و روى عن أبي الحسن موسى و الرّضا عليهما السّلام، و كان الرضا عليه السّلام يشير اليه في العلم و الفتيا، و كان ممّن بذل له على الوقف مال جزيل و امتنع من أخذه.

و عدّه الشيخ في «رجاله» من أصحاب الكاظم و الرضا عليهما السّلام و وثّقه.

و ذكره الكشي من أصحاب الإجماع من أصحاب أبي إبراهيم و أبي الحسن عليهما السّلام ملحقا برقم 433 و قال: أفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن.

و أرّخ العلّامة في القسم الأوّل من «الخلاصة» ص 184 وفاته سنة (208) ه.

له تصانيف كثيرة في الفقه و الكلام و التفسير،

منها «كتاب تفسير القرآن» و «كتاب فضل القرآن».

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 45

توجد ترجمته مع تصانيفه مضافا إلى ما ذكرنا في: «الفهرست» للشيخ ص 181- 182، و «الفهرست» لابن النديم ج 1/ 220، و «تنقيح المامقاني» ج 3/ 338 رقم 13357، و «معجم المؤلفين» ج 13/ 348.

42- الفرّاء: يحيى بن زياد بن عبد اللّه بن منظور الديلمي أبو زكرياء الكوفي، كان أعلم الكوفيّين في النحو، و اللغة، و فنون الأدب ولد بالكوفة سنة (144) ه، و انتقل إلى بغداد، و عهد إليه المأمون العبّاسي بتربية ابنيه، و كان مع تقدّمه في الأدب، فقيها مفسّرا، متكلّما، عالما بأيّام العرب و أخبارها، عارفا بالنجوم و الطّب، توفّي في طريق مكّة سنة (207) ه، له تصانيف قيّمة منها «المصادر في القرآن» و «معاني القرآن» أملاه في مجالس عامّة كان في جملة من يحضرها نحو ثمانين قاضيا.

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها «الأعلام ج 9/ 178، و إرشاد الأريب ج 7/ 276.

43- الصنعاني: عبد الرزّاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم كان من حفّاظ الحديث الثقات، كان يحفظ نحوا من سبعة عشر ألف حديث و من مصنّفاته كتاب في «تفسير القرآن» ولد سنة (126) ه و توفي سنة (211) ه.

و ذكر ابن النديم في «الفهرست» ص 52 من تصنيفاته: «نظم القرآن» و «قواعد القرآن» و «تفسير سورة الفاتحة» و «الحروف المقطّعة في أوائل السور».

44- أبو نعيم الفضل بن دكين عمرو بن حمّاد بن زهير بن درهم الكوفي كان من أكابر محدّثي قدماء علماء الخاصة، معتمدا موثوقا بين العامّة و الخاصّة، و كان من

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 46

شيوخ البخاري و مسلم، ولد سنة (130) ه

و توفّي سنة (219) ه و من مصنّفاته «كتاب التفسير» ذكره ابن النديم ص 52.

45- ابن فضّال: أبو محمّد الحسن بن علي بن فضّال بن عمرو بن أيمن الكوفي، ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1/ 127 رقم 71 ط. بيروت و قال: كان الحسن عمره كلّه فطحيّا مشهورا بذلك حتّى حضره الموت فمات و قد قال بالحقّ رضي اللّه عنه، و مات سنة (224) ه.

و قال الشيخ في «الفهرست» برقم 164: روى عن الرّضا عليه السّلام و كان خصّيصا به، كان جليل القدر عظيم المنزلة، زاهدا، ورعا ثقة في الحديث.

له مصنّفات منها «الناسخ و المنسوخ» كما ذكره ابن النديم في «الفهرست» ج 1/ 223.

46- أبو جعفر محمّد بن عيسى بن عبيد بن يقطين بن موسى، جليل القدر من أصحاب الإمام الهادي عليه السّلام، ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 218 رقم 897 و قال: جليل في أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصانيف، روى عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام مكاتبة و مشافهة.

و من مصنّفاته «تفسير القرآن» كما صرّح به في «معجم رجال الحديث» ج 17/ 113- 120 رقم 11509.

47- الحسن بن محبوب أبو علي السرّاد، أو الزرّاد الكوفي ولد سنة (149) ه و توفّي سنة (224) ه.

قال المامقاني في «التنقيح» ج 1/ 304 رقم 2710: عدّه الشيخ تارة من

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 47

أصحاب الكاظم عليه السّلام، و قال: ثقة، و أخرى من أصحاب الرضا عليه السّلام، و قال: مولى لبجيلة كوفيّ ثقة، و قال في «الفهرست»: روى عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، و روى عن ستّين رجلا من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و كان جليل القدر، يعدّ في

الأركان الأربعة في عصره له كتب كثيرة منها «كتاب التفسير» صرّح به ابن النديم في «الفهرست» ص 309 و أوّل ما ذكر من كتبه الكثيرة كتاب التفسير.

48- علي بن مهزيار أبو الحسن الأهوازي دورقيّ الأصل، ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 74 رقم 662 ط. بيروت و قال: كان أبوه نصرانيّا فأسلم و قيل: إنّ علي بن مهزيار أيضا أسلم و هو صغير، و منّ اللّه عليه بمعرفة هذا الأمر و تفقّه، و روى عن الرّضا و أبي جعفر عليهما السّلام، و اختصّ بأبي جعفر الثاني عليه السّلام و توكّل له، و عظم محلّه منه، و كذلك أبو الحسن الثالث عليه السّلام و توكّل لهم في بعض النواحي، و خرجت الى الشيعة فيه توقيعات بكلّ خير، و كان ثقة في روايته، و لا يطعن عليه صحيحا اعتقاده ... ثمّ قال: و صنّف الكتب المشهورة .. فعدّ نحو ثلاثين كتابا و عدّ منها «كتاب التفسير».

و كان حيّا في سنة (229) لأنّ محمّد بن علي بن يحيى الأنصاري قال: حدّثنا علي بن مهزيار أبو الحسن في المحرم سنة (229) ه، راجع «رجال النجاشي» ج 1/ 342 رقم 343.

49- البرقي محمّد بن خالد بن عبد الرحمن الكوفي.

عدّه الشيخ في «رجاله» من أصحاب الكاظم و الرضا و الجواد عليهم السّلام، و وثّقه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 48

و ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 220 رقم 899 و قال: كان في الحديث ضعيفا، و كان أديبا حسن المعرفة بالأخبار و علوم العرب و له كتب .. منها «كتاب التفسير».

قال العلّامة المامقاني في «تنقيح المقال» ج 3/ 112: إنّ منشأ ضعفه روايته عن الضعفاء و اعتماده على المراسيل كما

ذكره ابن الغضائري، و هذا لا دلالة فيه على عدم حجيّة حديثه المسند بسند معتمد .. إلخ.

50- الأشعري: أحمد بن محمّد بن عيسى أبو جعفر القمي، شيخ القمّيين و وجههم و فقيههم غير مدافع، لقي الرضا و الجواد و الهادي عليهم السّلام، و الظاهر عدم تأمّل المشايخ في علوّ شأنه و وثاقته.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1/ 216 رقم 196، و قال: أوّل من سكن قم من آباءه: سعد بن مالك بن الأحوص .. ثم وصفه بالوجاهة و الفقاهة .. ثم قال:

و له كتب: التوحيد، و فضل النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) .. و «كتاب الناسخ و المنسوخ».

51- الحسن بن سعيد بن حمّاد بن مهران أبو محمّد الأهوازي.

ذكره الشيخ في «الفهرس» برقم 197 و وثّقه، و في «رجاله» من أصحاب الرضا و الجواد عليهما السّلام بأرقام 4 و 1.

لاحظ ترجمته المبسوطة في «تنقيح المقال» ج 1/ 282 قال بعد نقل الأقوال:

تلخيص المقال أنّ الحسن بن سعيد من الثقات المسلّم و ثقتهم الغير المغموز فيه بوجه من الوجوه و قد نصّ على توثيقه جماعة.

شارك أخاه الحسين في الكتب الثلاثين المصنّفة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 49

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1/ 171 رقم 135 و عدّ مصنّفاته المشتركة مع أخيه الحسين، و عدّ منها «كتاب تفسير القرآن».

52- المازني: بكر بن محمّد بن حبيب بن بقيّة البصري، كان إمام عصره في النحو و الأدب، و أخذ عن أبي عبيده و الأصمعي، و أبي زيد الأنصاري، و أخذ عنه أبو العبّاس المبرّد، له تصانيف منها «تفسير القرآن» كما صرّح به في «الذريعة» ج 4/ 312، و ترجمته توجد في غير واحد من كتب التراجم

منها: وفيات الأعيان ج 1/ 92 و «رجال النجاشي» ج 1/ 272 رقم 277، و تاريخ بغداد ج 7 رقم 3529، و «معجم الأدباء» ج 3/ 280 و غيرها، و أرّخوا تاريخ وفاته سنة (248) أو قبلها أو بعدها.

53- محمّد بن أورمة أبو جعفر القمي، ترجم له المامقاني في «التنقيح» ج 2/ رقم 10425 و قال: قد وقع الخلاف في الرجل فضعّفه جماعة، و اعتمد عليه آخرون، و توقّف ثالث .. ثم بعد نقل الأقوال قال: الأقوى كون الرجل من الحسان بل من أعلاهم و كونه معتمد الرّواية صحيح الكتاب، له مصنّفات منها «تفسير القرآن».

54- ابن وضّاح، قال العلّامة المحقّق في «الذريعة» ج 4/ 249 رقم 1198:

تفسير ابن وضّاح، لم يعلم اسمه، ذكره الشيخ في باب الكنى من الفهرست و قال:

يرويه عنه أحمد بن ميثم حفيد الفضل بن دكين الشهيد (219) ه فيظهر أنّه من أواسط القرن الثالث.

55- ابن عبدك: محمّد بن علي بن عبدك أبو جعفر الجرجاني، ترجم له

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 50

تفسير الصراط المستقيم ج 1 99

النجاشي في «رجاله» ج 2/ 300 رقم 1041 و قال: جليل القدر من أصحابنا، فقيه متكلّم، له كتب منها «كتاب التفسير».

و ترجم له الشيخ في آخر كنى «الفهرست» فقال: له كتب كثيرة منها: كتاب «التفسير» كبير حسن.

56- البراوستاني: سلمة بن الخطّاب أبو الفضل أو ابو محمّد الأزدورقاني (براوستان بفتح الباء الموحّدة و الراء المهملة و الواو المفتوحة و السين المهملة الساكنة): قرية من قرى قم (و الأزدورقان) بفتح الهمزة و سكون الزاي و ضم الدال المهملة: قرية من سواد الري.

عدّه الشيخ في «رجاله» ممّن لم يرو عنهم عليهم السّلام.

و ترجم له النجاشي في «رجاله»

ج 1/ 422 رقم 496 و قال: كان ضعيفا في حديثه، له عدّة كتب .. منها: كتاب «تفسير ياسين».

57- البرقي: الحسن بن خالد بن محمّد بن علي أبو علي، وثّقه النجاشي.

و عدّه الشيخ فيمن لم يرو عنهم عليهم السّلام، و قال: له كتب.

و قال ابن شهر آشوب في «معالم العلماء» ص 189: الحسن بن خالد البرقي أخو محمّد بن خالد، من كتبه «تفسير العسكري» عليه السّلام من إملاء الإمام في مائة و عشرين مجلّدا.

ترجم له السيّد الخوئي قدّس سرّه في «المعجم» ج 4/ 317 و قال: إن صحّ قول ابن شهر آشوب فهو ليس ممّن لم يرو عنهم عليهم السّلام.

58- الأسترابادي: محمّد بن القاسم، أو محمّد بن أبي القاسم المفسّر

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 51

الأسترابادي، روى الصدوق عنه في «الفقيه»، و «التوحيد»، و «عيون أخبار الرضا عليه السّلام» و في كلّ موضع روى عنه يقول: رضي اللّه عنه، و هو يروي التفسير المعروف بتفسير الإمام العسكري عليه السّلام عن يوسف بن محمّد بن زياد، و علي بن محمّد بن يسار عن أبيهما عن الإمام العسكري عليه السّلام.

59- الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمّد الأزدي النيسابوري كان ثقة، جليل القدر، فقيها متكلّما له عظم شأن في هذه الطائفة، قيل: إنّه صنّف (180) كتابا، توفّي سنة (260) ه، و من مصنّفاته «تفسير القرآن» صرّح به ابن النديم في «الفهرست» ص 323 و توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها: «رجال النجاشي» ج 2/ 168 رقم 838، و «رجال الكشي» رقم 416، و «معجم رجال الحديث» ج 13/ 285- 302 رقم 9355.

60- ابن فضّال الصغير: علي بن الحسن بن علي بن فضّال بن عمر بن

أيمن.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 82 رقم 674 و قال: كان فقيه أصحابنا بالكوفة، و وجههم، وثقتهم، و عارفهم بالحديث .. ثم قال: و قد صنّف كتبا كثيرة، ثم عدّ منها «كتاب التفسير».

ترجم له الزركلي في «الاعلام» ج 5/ 79، و أرّخ وفاته نحو سنة (290) ه.

61- البرقي: أحمد بن محمّد بن خالد بن عبد الرحمن أبو جعفر الكوفي الأصل ذكره الشيخ في «رجاله» بأرقام 8 و 16 و عدّه من أصحاب الجواد و الهادي عليهما السّلام.

و ذكره ابن حجر في «لسان الميزان» ج 1 رقم 813 و قال: من كبار الرافضة،

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 52

له تصانيف جمّة أدبيّة.

و ذكره الحموي في «معجم الأدباء» ج 2/ 30 و نقل عن الشيخ الطوسي ترجمته و تعداد كتبه و قال: تصانيفه تقارب مائة تصنيف.

و قد عدّ منها «التفسير و التأويل».

توفّي بقم سنة (274) أو سنة (280) ه كما في «رجال النجاشي» ج 1/ 206.

62- ابن قتيبة: عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبو محمّد ولد سنة (213) ه و توفّي سنة (276) ه ببغداد، ترجم له الزركلي في «الاعلام» ج 4/ 280 و عدّ من كتبه «مشكل القرآن» مطبوع و «المشتبه من الحديث و القرآن» مخطوط، و «غريب القرآن» مخطوط.

63- الدينوري: أحمد بن داود بن ونند (بفتح الواو و النون الأولى و سكون النون الثانية) أبو حنيفة.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 1/ 119 و قال: مهندس مؤرّخ نباتي، من نوابغ الدهر، جمع بين حكمة الفلاسفة و بيان العرب، له تصانيف، ثمّ عدّ منها «تفسير القرآن» ثلاثة عشر مجلّدا، و أرّخ وفاته سنة (282) ه.

64- إبراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفي الكوفي الإصفهاني،

كان يرى رأي الزيدية ثم انتقل الى القول بالاماميّة، توفّي بأصفهان سنة (283) ه له مصنّفات منها «ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السّلام» كما صرّح به النجاشي في «رجاله» ج 1/ 90 رقم 18.

65- سهل بن عبد اللّه بن يونس التستري أبو محمّد أحد علماء الصوفية ولد

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 53

سنة (200) ه و توفّي سنة (283) ه، من مصنّفاته «تفسير القرآن» مطبوع، ترجم له أبو نعيم في «حلية الأولياء» ج 10/ 189.

66- الحبري: أبو عبد اللّه الحسين بن حكم بن مسلم الكوفي المحدّث المفسّر الزيدي، توفّي سنة (286) ه، من مصنفاته «ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم السّلام» مطبوع، صرّح به ابن شهر آشوب في «معالم العلماء» ص 144.

67- المبرّد: محمّد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العبّاس، كان إمام العربيّة و الأدب ببغداد في عصره، ولد بالبصرة سنة (210) ه و توفّي ببغداد سنة (286) ه، من مصنّفاته «إعراب القرآن».

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها «تاريخ بغداد» ج 3/ 380، «وفيات الأعيان» ج 1/ 495.

68- سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري أبو القاسم القمي محدّث، فقيه، مفسّر، توفّي سنة (299) أو سنة (301) ه.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1/ 401 رقم 465 و قال في ترجمته: شيخ هذه الطائفة و فقيهها، و وجهها، كان سمع من حديث العامّة شيئا كثيرا، و سافر في طلب الحديث، لقي من وجوههم الحسن بن عرفة المتوفى (277) ه، و عبّاس الترقفى المتوفى (267) ه، و لقي مولانا أبا محمّد عليه السّلام، و رأيت بعض أصحابنا يضعّفون لقائه لأبي محمّد عليه السّلام، و يقولون: هذه حكاية

موضوعة عليه و اللّه أعلم.

ثم ذكر من مصنّفاته الكثير ما يقارب أربعين كتابا، و عدّ منها كتاب ناسخ

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 54

القرآن و منسوخه، و كتاب محكم القرآن و متشابهه.

69- الحسين بن سعيد بن حمّاد بن مهران الأهوازي، كتب مع أخيه الحسن ثلاثين كتابا، منها «تفسير القرآن»، و كان حيّا في سنة (300) ه كما يستفاد من النجاشي في «رجاله» ج 1/ 175 أنّ الحسين بن سعيد الأهوازي حدّث بكتبه و جميع مصنّفاته عند منصرفه من زيارة الرّضا عليه السّلام أيّام جعفر بن الحسن الناصر بآمل طبرستان سنة ثلاث مائة.

70- محمّد بن عبّاس بن عيسى أبو عبد اللّه الغاضري.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 232 رقم 917، و قال: ثقة، روى عن أبيه، و الحسن بن علي بن أبي حمزة، و عبد اللّه بن جبلة، له كتب منها: «كتاب التفسير» .. ثم روى كتبه باسناده عن حميد (أي حميد بن زياد النينوائي المتوفّى (310) ه) كما صرّح به الطهراني في «الذريعة» ج 4/ 295، و أضاف الى ما ذكره النجاشي: «غريب القرآن» و «تفسير غرر الفوائد».

71- أبو جعفر الصيرفي محمّد بن علي بن إبراهيم بن موسى الملقّب بأبي سمينة.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 216 رقم 895 و قال: ضعيف جدّا فاسد الإعتقاد، لا يعتمد في شي ء، و كان ورد قم، و قد اشتهر بالكذب بالكوفة، و نزل على أحمد بن محمّد بن عيسى مدّة، ثمّ تشهّر بالغلوّ .. و أخرجه أحمد عن قم، و له قصّة.

ثم ذكر كتبه و عدّ منها «تفسير عمّ يتساءلون».

72- الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن زين العابدين عليه السّلام ابو

تفسير الصراط المستقيم، ج 1،

ص: 55

محمّد الناصري العلوي.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 2/ 216 و قال: ثالث ملوك الدولة العلوية بطبرستان، كان شيخ الطالبيّين و عالمهم .. و كان شاعرا مفلقا توفّي في طبرستان سنة (304) ه، له «تفسير» في مجلّدين احتجّ فيه بألف بيت من ألف قصيدة.

73- علي بن إبراهيم بن هاشم ابو الحسن القمي.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 76 رقم 678 و قال: ثقة في الحديث، ثبت، معتمد، صحيح المذهب، سمع فأكثر، و صنّف كتبا، و أضرّ في وسط عمره.

و له «كتاب التفسير» و كتاب الناسخ و المنسوخ ..

و هو من أجلّ مشايخ الكليني، و قد كان حيّا الى سنة (307) ه.

74- فرات بن إبراهيم الكوفي، هو من مشايخ أبي الحسن علي بن بابويه القمّي له «تفسير» بلسان الأخبار، و أغلبه في شأن الأئمّة الأطهار عليهم السّلام.

قال المجلسي في الفصل الثّاني من أوّل البحار: «تفسير فرات» و إن لم يتعرّض الأصحاب لمؤلّفه بمدح و لا قدح لكن لكون أخباره موافقة لما وصل إلينا من الأحاديث المعتبرة و حسن الضبط في نقلها ممّا يعطي الوثوق بمؤلّفه و حسن الظنّ به و قد روى الصدوق عنه أخبارا بتوسّط الحسن بن محمّد بن سعيد الهاشمي، و روى عنه الحاكم ابو القاسم الحسكاني في «شواهد التنزيل» و غيره.

و روى المترجم أكثر رواياته عن الحسين بن سعيد الأهوازي المتقدّم الذي كان حيّا في سنة (300) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 56

75- الحسن بن موسى أبو محمّد النوبختي.

ترجم له الشيخ في «رجاله» و وثّقه في باب من لم يرو عنهم عليهم السّلام رقم 4.

و ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1/ 179 رقم 146 و قال: في ترجمته:

شيخنا المتكلّم، المبرّز

على نظرائه في زمانه قبل الثلاث مائة و بعدها، له على الأوائل كتب كثيرة.

ثمّ عدّ منها: «كتاب التنزيه و ذكر متشابه القرآن».

و ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 2/ 239 و قال: فلكيّ عارف بالفلسفة، كانت تدّعيه المعتزلة و الشيعة، و هو من أهل بغداد، توفّي سنة (310) ه.

76- الطبري: محمّد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر المؤرّخ المفسّر، ولد في آمل طبرستان سنة (224) ه، و استوطن بغداد و توفّي بها سنة (310) ه و له مصنّفات منها: «جامع البيان في تفسير القرآن» مطبوع يعرف بتفسير الطبري في ثلاثين جزءا، و «القراءات».

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم.

77- قتيبة بن أحمد بن شريح أبو حفص.

ترجم له كحّالة في «معجم المؤلّفين» ج 8/ 127 نقلا عن طبقات المفسّرين للسيوطي ص 28 و «هداية العارفين» ج 1/ 835، و قال: النجاري، الشيعي، أبو حفص مفسّر من آثاره: «التفسير الكبير».

و ترجم له السيّد الحسن الصدر في «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» ص 341 في عداد المفسّرين من الإمامية و ذكر «تفسيره الكبير».

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 57

توفّي سنة (316) ه.

78- الكعبي: عبد اللّه بن أحمد بن محمود البلخي الخراساني.

ترجم له الزركلي في «الاعلام» ج 4/ 189، و قال: أحد أئمّة المعتزلة، كان رأس طائفة منهم تسمّى «الكعبيّة» و له آراء و مقالات في الكلام انفرد بها، و له كتب منها: «التفسير»، توفّي سنة (319) ه.

79- البلخي: أحمد بن سهل، أبو زيد البلخي، أحد الكبار الأفذاذ من علماء الإسلام، ولد في إحدى قرى بلخ سنة (235) ه و مات ببلخ سنة (322) ه، و أورد ابن النديم في «الفهرست» ص 51 قائمة مؤلّفاته منها: «نظم القرآن» و «تفسير

الفاتحة» و «ما أغلق من غريب القرآن» و غيرها.

توجد ترجمته في كتب التراجم منها «معجم الأدباء» ج 3/ 64، و «الاعلام» ج 1/ 131، و «لسان الميزان» ج 1/ 183.

80- الصابوني: محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن سليم الجعفي الكوفي المعروف بأبي الفضل الصابوني و المشهور بين الفقهاء بصاحب «الفاخر» و الجعفي.

عدّه الشيخ في «رجاله» رقم 8 من أصحاب الإمام الهادي عليه السّلام.

و ترجمه السيّد بحر العلوم الطباطبائي في «الفوائد» ج 3/ 199 و قال: من قدماء أصحابنا، و أعلام فقهائنا من أصحاب كتب الفتوى، و من كبار الطبقة السابعة ممّن أدرك الغيبتين: الصغرى و الكبرى، عالم، فاضل، فقيه، عارف بالسير و الأخبار، و النجوم له كتب .. منها: «كتاب تفسير معاني القرآن».

81- ابن الخيّاط: محمّد بن أحمد بن منصور، نحويّ، أصله من سمرقند أقام في

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 58

بغداد، و توفّي بالبصرة سنة 320 ه من كتبه «معاني القرآن».

توجد ترجمته في «نزهة الألبّاء» ص 312، و «بغية الوعاة» ص 19.

82- العيّاشي: محمّد بن مسعود السلمي أبو النضر، كان من أهل سمرقند، اشتهرت كتبه في نواحي خراسان اشتهارا عظيما و هي تزيد على مائتي كتاب أورد ابن النديم أسماء أكثرها منها: تفسيره المعروف بتفسير العيّاشي، توفّي نحو سنة (320) ه.

توجد ترجمته في «الفهرست» لابن النديم ج 1/ 194، و «رجال النجاشي» ج 2/ 247 رقم 945، و «الذريعة» ج 4/ 295، و غيرها.

83- محمّد بن بحر، أبو مسلم الإصفهاني: وال، من كبار الكتّاب، كان عالما بالتفسير و بغيره من صنوف العلم، ولّي أصفهان و بلاد فارس للمقتدر العبّاسي الى سنة (321) ه، ولد سنة (254) و توفّي سنة (322) ه و من تصانيفه:

«جامع التأويل» في التفسير أربعة عشر مجلّدا.

ترجمته توجد في «إرشاد الأريب» ج 6/ 420، و «الاعلام» ج 6/ 273.

84- ابن أبي الثلج: محمّد بن أحمد بن محمّد بن عبد اللّه بن إسماعيل الكاتب المتوفّى سنة (325) ه.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 299 رقم 1038 و قال: ثقة، عين كثير الحديث، له كتب منها: «كتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السّلام» ..

85- ابن الحجّام: محمّد بن العبّاس بن علي بن مروان بن الماهيار، أبو عبد

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 59

اللّه البزّاز.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 295 رقم 1031، و قال: ثقة ثقة، من أصحابنا، عين، سديد، كثير الحديث، له «كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم السّلام» و قال جماعة من أصحابنا: إنّه كتاب لم يصنّف معناه مثله، و قيل: إنّه ألف ورقة.

ترجم له كحّالة في «معجم المؤلّفين» ج 10/ 120 و قال: كان حيّا في سنة (328) ه.

86- ابن بابويه القمي: علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أبو الحسين شيخ القميين في عصره، و متقدّمهم، و فقيههم، و ثقتهم، قدم العراق و اجتمع مع أبي القاسم الحسين بن روح رحمه اللّه، و سأله مسائل،

ثم كاتبه بعد ذلك، و سأله أن يوصل له رقعة الى الصاحب عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف و يسأله فيها الولد فكتب عليه السّلام إليه: «قد دعونا اللّه لك بذلك، و سترزق ولدين ذكرين خيّرين» فولد له أبو جعفر الصدوق و أخوه الحسين بن علي

، توفّي بقم سنة (329) ه و له مصنّفات منها «كتاب التفسير».

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها «رجال النجاشي» ج 2/ 89 رقم 682.

87-

السجستاني: محمّد بن عزيز (أو عزيز) المفسّر البغداديّ المكن، المتوفّى سنة (330) ه اشتهر بكتابه «غريب القرآن» المطبوع، صنّفه على حروف المعجم في 15 سنة.

توجد ترجمته في «طبقات مفسّران شيعة» للفاضل المعاصر العقيقي

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 60

البخشايشي ج 1/ رقم 114، و الأعلام ج 7/ 149 و «نزهة الألبّاء» ص 386، و «معجم المطبوعات»/ 1008.

88- الجلّودي: عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الأزدي البصري مؤرّخ، أديب، نسبته الى جلود (قرية) توفّي سنة (332) ه، له كتب كثيرة تقارب المائتين، منها: «كتاب التفسير عن علي عليه السّلام» و «ما نزل فيه من القرآن» و «كتاب التفسير عن ابن عبّاس» و غيرها، أوردها كلّها بأسمائها النجاشي في «رجاله» ج 2/ 54- 59 رقم 638.

89- ابن عقدة: أحمد بن محمّد بن سعيد، أبو العبّاس الكوفي الحافظ ولد سنة (250) ه أو قبلها و توفّي سنة (332) ه أو بعدها، كان زيديّا جاروديا، له تصانيف منها: «التفسير» أورده الطهراني في «الذريعة» ج 4 رقم 1188.

90- الصولي: محمّد بن يحيى بن عبد اللّه، من أكابر علماء الأدب، و نادم ثلاثة من خلفاء بني العبّاس هم: «الراضي و المكتفي و المقتدر» توفّي سنة (335) أو بعدها، و له تصانيف منها «الشامل في علم القرآن» لم يتمّه.

ترجمته توجد في «تاريخ بغداد» ج 3/ 427- 432 و «وفيات الأعيان» ج 1/ 643 و «معجم الأدباء» ج 19/ 109- 111، و «تذكرة الحفّاظ» ج 3/ 63، و غيرها.

91- محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد أبو جعفر نزيل قم المتوفّى سنة (343) ه.

ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 2/ 301 رقم 1043 و قال: شيخ القميين،

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص:

61

و فقيههم، و متقدّمهم، و وجههم، و يقال: إنّه نزيل قم، و ما كان أصله منها، ثقة ثقة، عين، مسكون إليه، له كتب منها: «كتاب تفسير القرآن».

92- ابن دؤل: أحمد بن محمّد بن الحسين بن دؤل القمي المتوفّى سنة (350) ه ترجم له النجاشي في «رجاله» ج 1/ 232 رقم 221 و قال: له مائة كتاب، ثمّ عدّها بأسمائها و عدّ منها: «كتاب التفسير».

93- النقّاش: محمّد بن الحسن بن محمّد بن زياد بن هارون الموصلي البغدادي، ولد سنة (266) ه و توفي سنة (351) ه، كان عالما بالتفسير و القراءات، له مصنّفات.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 6/ 310 و ذكر أسماء كتبه فعدّ منها: «شفاء الصدور» في التفسير، و «الإشارة» في غريب القرآن، و «الموضح» في القرآن و معانيه.

94- أبو القاسم الكوفي: علي بن أحمد العلوي، باحث متفلسف، كان في بدايته إماميا، و لكن غلا في آخر أمره و أظهر مذهب «المخمّسة» القائلين بألوهيّة علي بن أبي طالب عليه السلام، و بأنّ سلمان، و المقداد، و أبا ذرّ، و عمّارا، و عمرو بن أميّة الضمري، هم الموكّلون بمصالح العالم من قبل الربّ، أعاذنا اللّه من الانحرافات الاعتقاديّة و الأخلاقيّة و العلميّة.

له مصنّفات كثيرة منها: «كتاب تفسير القرآن» قيل: إنّه لم يتمّه، توفّي سنة (352) ه، توجد ترجمته في «رجال النجاشي» ج 2/ 96 رقم 689، و «فهرست» الشيخ ص 91 رقم 391، و «الأعلام» ج 5/ 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 62

95- ابن مقسم العطّار: محمّد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن مقسم البغدادي العالم بالقراءات و التفسير، ولد سنة (265) ه، و توفّي سنة (354) ه، من مصنّفاته: «الأنوار في تفسير القرآن».

اطلب

ترجمته المبسوطة في الأعلام» ج 6/ 311، غاية النهاية ج 2/ 120 و غيرهما.

96- الجصّاص: أحمد بن علي الرازي الحنفي ولد سنة (305) ه و كان من أهل الرّي، و سكن بغداد و مات فيها سنة (370) ه، و من مصنّفاته: «أحكام القرآن» اطلب ترجمته في «الجواهر المضيئة» ج 1/ 84 و «تذكرة الحفّاظ» ج 3/ 159، و «النجوم الزاهرة» ج 4/ 138.

97- الشيخ الصدوق: محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي رئيس المحدّثين، ولد بدعاء صاحب الأمر صلوات اللّه عليه، نزل بالرّي و توفّي بها سنة (381) ه و له نحو ثلاثمائة مصنّف منها: «كتاب تفسير القرآن»، و «كتاب الناسخ و المنسوخ» و «كتاب مختصر تفسير القرآن».

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها: «رجال النجاشي» ج 2/ 311- 316 رقم 1050.

98- ابو الحسن الرّماني: علي بن عيسى بن علي بن عبد اللّه، ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 5/ 134 و قال: باحث معتزليّ مفسّر، من كبار النحاة، أصله من سامرّاء، ولد في بغداد سنة (296) ه و توفّي بها سنة (384) ه، له نحو مائة مصنّف، منها «كتاب التفسير».

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 63

99- عبّاد الطالقاني: ابن العبّاس بن عبّاد أبو الحسن، والد إسماعيل الصاحب، ولد سنة (326) ه و توفّي سنة (385) ه.

توجد ترجمته في «المنتظم» ج 7/ 184، و «النجوم الزاهرة» ج 4/ 385، و ترجم له كحّالة في «معجم المؤلّفين» ج 5/ 57 و قال: له كتاب في «أحكام القرآن».

100- الأدفوي: محمّد بن علي بن أحمد، من أهل «أدفو» بصعيد مصر ولد سنة (304) ه و توفّي بالقاهرة سنة (388) ه.

ترجم له الزركلي في «الأعلام»

ج 7/ 160 و قال: نحويّ مفسّر، له «الاستغناء» في علوم القرآن، مائة جزء، رأى منها صاحب «الطالع السعيد» عشرين مجلّدا.

101- أبو الفرج الجريري: المعافي بن زكريّا بن يحيى بن حميد بن حمّاد المعروف بابن طرّار، فقيه، أصولي، أديب كان متفقها على مذهب ابن جرير الطبري، ولد سنة (303) ه، و توفّي بالنهروان سنة (390) ه من تصانيفه: «تفسير القرآن» في ستّ مجلّدات.

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها: معجم المؤلّفين ج 12/ 302.

102- ابن فارس: أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي الأديب اللغوي، ولد سنة (329) ه و توفي بالري سنة (395) ه و من مصنّفاته: «جامع التأويل» في تفسير القرآن في أربع مجلّدات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 64

له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 184.

103- أبو عبيد الهروي: أحمد بن محمّد بن عبد الرحمن، توفي سنة (401) ه له كتاب «الغريبين» غريب القرآن و غريب الحديث.

له ترجمة في «وفيات الأعيان» ج 1/ 19.

104- الشريف الرضي: محمّد بن الحسين بن موسى أبو الحسن الموسوي ولد ببغداد سنة (359) ه و توفي بها سنة (406) ه.

من مصنّفاته: «مجاز القرآن» و «حقائق التنزيل و دقائق التأويل».

توجد ترجمته في «رجال النجاشي» ج 2/ 325، و «معجم رجال الحديث» ج 16/ 19- 20.

105- أبو طاهر الزيادي أحمد بن محمّد بن محمش، حدث عن محمّد بن يعقوب بن يوسف بن أخرم المتوفى سنة (344) ه، ولد سنة (317) ه و توفي سنة (410) ه له «مختصر التفاسير».

- الذريعة ج 20/ 188- 106- أبو القاسم البغدادي الضرير: هبة اللّه بن سلامة بن نصر بن علي المفسر المقرئ، كان أحفظ أهل زمانه لتفسير القرآن و اختلاف السلف فيه.

ترجم له

ابن الجزري في «غاية النهاية» ج 2/ 351 رقم 3771 و قال:

صاحب «الناسخ و المنسوخ»، يقال: إنّه روى خمسة و تسعين تفسيرا، و كان يملي التفسير و الناسخ و المنسوخ من حفظه، توفّي ببغداد سنة (410) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 65

107- ابن مردوية: أحمد بن موسى بن مردوية الإصبهاني، و يقال له: ابن مردوية الكبير، حافظ مؤرّخ مفسّر.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 1/ 246 و قال: ولد سنة (323) ه و توفّي سنة (410) ه له كتاب في «تفسير القرآن».

108- محمّد السلمي: محمّد بن الحسين بن محمّد بن موسى بن خالد بن سالم الأزدي النيسابوري أبو عبد الرحمن، ولد في سنة (325) ه، و توفّي بنيسابور سنة (412) ه.

ترجم له كحالة في «معجم المؤلّفين» ج 9/ 258 و قال: صوفي، محدّث، حافظ، مفسّر، مؤرّخ، من تصانيفه الكثيرة: «حقائق تفسير القرآن».

109- الشيخ المفيد: محمّد بن محمّد بن نعمان بن عبد السلام المعروف بابن المعلّم ولد سنة (336) ه في عكبرا (على عشرة فراسخ من بغداد) و توفي ببغداد سنة (413) انتهت إليه رئاسة الإمامية في عصره، له نحو مائتي مصنّف، منها: «الردّ على الجبائي» في التفسير، «الكلام في دلائل القرآن» و «المسائل العكبرية» في تفسير الآيات المتشابهات القرآنية. له ترجمة في غير واحد من كتب التراجم.

110- الخطيب الإسكافي: محمّد بن عبد اللّه الإصفهاني، الأديب اللغوي الخطيب بالرّي، توفي سنة (420) ه، من مصنّفاته «درّة التنزيل و غرّة التأويل» في الآيات المتشابهة.

له ترجمة في «إرشاد الأديب» ج 7/ 20، و الوافي بالوفيات» ج 3/ 337.

111- الثعلبي: أحمد بن محمّد بن إبراهيم أبو إسحاق النيسابوري المفسّر

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 66

توفّي سنة (427) ه، و من

مصنّفاته: «الكشف و البيان في تفسير القرآن».

له ترجمة في «وفيات ابن خلّكان» ج 1/ 22، و الأعلام ج/ 206.

112- أبو علي سيناء: الشيخ الرئيس الحسين بن عبد اللّه بن سيناء الفيلسوف، أصابه من بلخ، ولد في إحدى قرى بخارى سنة (370) ه و توفّي سنة (428) أو قبلها في الطريق إلى همذان، له مصنّفات منها: «تفسير سورة التوحيد» و «تفسير سورة الحمد»، و تفسير سورتي الفلق و الناس» و غيرهما.

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم: منها «تاريخ حكماء الإسلام ص 27- 72.

113- الأسفراييني: عبد القاهر بن طاهر بن محمّد بن عبد اللّه البغدادي أبو منصور، عالم متفنّن، توفّي في أسفرائين سنة (429) ه، له تصانيف منها «تفسير القرآن».

أنظر ترجمته في طبقات السبكي ج 3/ 238.

114- المعافري: أحمد بن محمّد بن عبد اللّه بن أبي عيسى المعافري الأندلسي المقرئ المفسّر، ولد سنة (340) و توفي سنة (429) ه، له «تفسير القرآن» نحو مائة جزء، و «البيان» في إعراب القرآن.

ترجم له ابن الجوزي في «غاية النهاية» ج 1/ 120، و الزركلي في «الأعلام» ج 1/ 206.

115- الحوفي: علي بن إبراهيم بن سعيد أبو الحسن النحوي المصري المتوفّى سنة (430) ه، من كتبه «البرهان في تفسير القرآن» كبير جدّا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 67

له ترجمة في بغية الوعاة ص 325 و وفيات الأعيان ج 1/ 332.

116- الحيري: إسماعيل بن أحمد بن عبد اللّه المفسّر الفقيه الشافعي النيسابوري ولد سنة (361) ه و توفي بعد سنة (430) ه، له تصانيف في علم القرآن منها «الكفاية» في التفسير.

له ترجمة في «نكت الهميان» ص 119 و طبقات الشافعية ج 3/ 115.

117- الهروي: عبد اللّه بن أحمد بن محمّد أبو

ذرّ الأنصاري الحافظ المحدث المالكي، توفي بمكة المكرمة سنة (434) ه، له تصانيف منها «تفسير القرآن».

انظر ترجمته في «الأعلام» ج 4/ 41.

118- الشريف المرتضى: علي بن الحسين بن موسى بن محمّد بن إبراهيم الموسوي ولد ببغداد سنة (355) ه و توفي بها سنة (436) ه، و له مصنّفات ثمينة في التفسير منها: «الأمالي» يتضمّن لتفسير آيات كثيرة.

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها: «روضات الجنّات» ص 383.

119- الجويني: عبد اللّه بن يوسف بن محمّد بن حيّوية، ولد في جوين (من نواحي نيسابور) و توفي بنيسابور سنة (438) ه، له مصنّفات منها «التفسير» كبير.

له ترجمة في الأعلام ج 4/ 290.

120- أبو العبّاس المهدوي: أحمد بن عمّار التميمي: نزيل الأندلس، كان نحوّيا مقرئا مفسّرا، توفي سنة (440) ه، و من مصنّفاته «التفسير الكبير الموسوم

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 68

بالتفصيل الجامع لعلوم التنزيل»، و مختصره باسم «التحصيل».

له ترجمة في «طبقات أعلام الشيعة» ج 2/ 23، الطبقة الخامسة، و في «البغية» ص 153.

121- الناصر الديلمي: الناصر بن الحسين بن محمّد بن عيسى الحسني ولد و تعلّم في بلاد الديلم، و قتل في وقعة بينه و بين الصليحي سنة (444) ه و من آثاره:

«كتاب في التفسير» في أربعة أجزاء.

توجد ترجمته في «معجم المؤلّفين» ج 13/ 69، و «الأعلام» ج 8/ 309.

122- السماّن: إسماعيل بن علي بن الحسين بن زنجويه الرازي أبو سعد الحافظ المعتزلي، قيل: بلغت شيوخه ثلاثة آلاف و ستمائة، و توفي سنة (447) بالري، من مصنّفاته: «تفسير» في عشر مجلّدات.

له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 316، و «الجواهر المضيئة» ج 1/ 156.

123- الكراجكي: محمّد بن علي بن عثمان أبو الفتح، كان من كبار أصحاب الشريف

المرتضى، توفي سنة (449) ه، و له «تفسير» يسمّى: «كنز الفوائد».

انظر ترجمته في «الأعلام» ج 7/ 162.

124- الماوردي: علي بن محمّد بن حبيب أبو الحسن، ولد بالبصرة سنة (364) و توفّي ببغداد سنة (450) ه، له تصانيف كثيرة: منها «تفسير القرآن».

له ترجمة في «معجم الأدباء» ج 15/ 52، و طبقات الشافعية ج 3/ 3/ 3.

125- أبو جعفر الطوسي: محمّد بن الحسن الشيخ الفقيه الجليل ولد سنة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 69

(358) و توفي بالنجف الأشرف سنة (460) ه، من مصنّفاته «التبيان الجامع لعلوم القرآن» تفسير كبير.

ترجمته توجد في غير واحد من كتب التراجم منها «الأعلام» ج 6/ 315.

126- القشيري: عبد الكريم بن هوازن النيسابوري شيخ خراسان في عصره، ولد سنة (376) ه و توفي سنة (465) ه، له تصانيف منها «التيسير في التفسير» و «لطائف الإشارات» أيضا في التفسير.

ترجمته توجد في غير واحد من كتب التراجم منها «طبقات السبكي» ج 3/ 243.

127- الواحدي: علي بن أحمد بن محمّد بن علي بن متّويه الواحدي، مفسّر توفي بنيسابور سنة (468) ه، من كتبه «أسباب النزول» مطبوع.

له ترجمة في «النجوم الزاهرة» ج 5/ 104 و عنه الأعلام ج 5/ 59.

128- الحافظ الحسكاني: عبيد اللّه بن أحمد الحاكم النيسابوريّ المتوفّي بعد سنة (470) ه، من كتبه «شواهد التنزيل» مطبوع.

ترجم له السيوطي في «طبقات الحفّاظ» ص 443.

129- أبو معشر القطّان: عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري الشافعي المقرئ المفسّر، و توفي بمكة المكرمة سنة (478) ه و من تصانيفه «عيون المسائل» و «الدرر» كلاهما في التفسير.

له ترجمة في «الأعلام» ج 4/ 177 عن «غاية النهاية» ج 1/ 401.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 70

130- ابن ناقيا: عبد اللّه بن محمّد بن

الحسين بن ناقيا البغدادي ولد سنة (410) ه، من مصنّفاته «الجمان في تشبيهات القرآن».

له ترجمة في «وفيات الأعيان» ج 1/ 266.

131- الزوزني: حسين بن أحمد بن حسين، كان من أهل زوزن (كجعفر) بين هراة و نيسابور، توفي سنة (486) ه من مصنّفاته «ترجمان القرآن» بالعربيّة و الفارسيّة.

أطلب ترجمته في «بغية الوعاة» ص 232 و «هديّة العارفين» ج 1/ 310.

132- أبو الفرج الشيرازي: عبد الواحد بن محمّد بن علي المقدسي الدمشقي الحنبلي، توفي سنة (486) ه، من مصنّفاته «الجواهر» في التفسير.

له ترجمة في «الأنس الجليل» ج 1/ 263 و هو فيه عبد الواحد بن أحمد بن محمّد.

133- ابن بندار: عبد السلام بن محمّد بن يوسف بن بندار القزويني، ولد سنة (932) و توفي ببغداد سنة (488) ه، له «حدائق ذات بهجة» في التفسير، كبير في ثلاث مائة جزء.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 4/ 131.

134- ابن الفتى: سلمان بن أبي طالب عبد اللّه الحلواني الشهرواني الأديب توفّي سنة (493) ه، له «تفسير على القراءات».

له ترجمة في «إرشاد الأديب ج 4/ 246 و عنه «الأعلام» ج 3/ 169.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 71

135- شيذلة: عزيزي بن عبد الملك بن منصور الجيلي الفقيه الشافعّي القاضي ببغداد، توفّي سنة (494) ه، من كتبه «البرهان في مشكلات القرآن».

له ترجمة في «وفيات الأعيان» ج 1/ 318 و عنه الأعلام ج 5/ 25.

136- ابن كرّامة: المحسن بن محمّد بن كراّمة البيهقي، مفسّر زيديّ، ولد سنة (413) ه و توفي سنة (494) ه، من كتبه «التهذيب» في تفسير القرآن.

له ترجمة في «الأعلام» ج 6/ 176.

137- الفامي: عبد الوهاب بن محمّد بن عبد الوهّاب الشيرازي البغدادي الشافعي، ولد سنة (414) ه و توفي سنة

(500) ه بشيراز و له سبعون تأليفا منها «التفسير» كبير جدّا.

له ترجمة في الأعلام ج 4/ 336.

138- الفتّال: محمّد بن الحسن بن علي النيسابوري الواعظ، كان من مشايخ ابن شهر آشوب استشهد بعد سنة (500) ه قتله حاكم نيسابور أبو المحاسن عبد الرزاق، من كتبه «التنوير في معاني التفسير».

ترجم له الطهراني في طبقات أعلام الشيعة ج 3/ 275.

139- الرّاغب الإصفهاني: الحسين بن محمّد بن المفضل المتوفّي سنة (502) ه، من كتبه «جامع التفاسير» كبير، أخذ عنه البيضاوي في تفسيره، و «المفردات في غريب القرآن» و «حلّ متشابهات القرآن».

توجد ترجمته في «الأعلام» ج 2/ 279 عن «روضات الجنّات» ص 249.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 72

140- الخطيب التبريزي: يحيى بن علي الشيباني، ولد سنة (421) ه و توفّي سنة (502) ه، من كتبه «تفسير القرآن».

ترجم له ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» ج 20/ 27.

141- الكيا الهرّاسي: علي بن محمّد بن علي الطبري الفقيه الشافعي، مفسّر ولد سنة (450) ه، و توفّي سنة (504) ه، من كتبه «أحكام القرآن».

أنظر ترجمته في «وفيات الأعيان» ج 1/ 327.

142- البغوي: الحسين بن مسعود بن محمّد الفقيه المفسّر الشافعي ولد سنة (436) ه، و توفّي سنة (516) من كتبه «معالم التنزيل» في التفسير.

ترجم له ابن عساكر في «التهذيب» ج 4/ 345.

143- ابن برّجان: عبد السلام بن عبد الرحمن أبو الحكم الإشبيلي، متصوّف توفّي سنة (436) ه، له «كتاب في تفسير القرآن» أكثر كلامه فيه على طريق الصوفيّة.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 4/ 129.

144- الزمخشري: محمود بن عمر بن محمّد الخوارزمي. ولد في زمخشر من قرى خوارزم سنة (468) ه و توفّي سنة (538). أشهر كتبه «الكشّاف» في تفسير القرآن.

ترجمته توجد في

غير واحد من كتب التراجم منها «الأعلام» ج 8/ 55.

145- ابن عطيّة: عبد الحق بن غالب بن عطيّة المحاربي الغرناطي الفقيه

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 73

المفسّر الأندلسي، ولد سنة (481) ه و توفي سنة (542)، من كتبه: «المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» في عشر مجلّدات.

توجد ترجمته في «قضاة الأندلس» ص 109، و «بغية الملتمس» ص 376.

146- البيهقي: أحمد بن علي بن محمّد أبو جعفرك النيسابوري اللغوي ولد سنة (470) ه و توفي سنة (544)، من تصانيفه «المحيط بلغة القرآن».

له ترجمة في «بغية الوعاة» ص 147 و «غاية النهاية» ج 1/ 83.

147- الحلواني: عبد الرحمن بن محمّد بن عليّ أبو محمّد ابن أبي الفتح، مفسّر، فقيه حنبلي بغدادي، ولد سنة (490) ه و توفي سنة (546) ه.

و من مصنّفاته «تفسير القرآن» في 41 جزءا.

له ترجمة في «الأعلام» ج 4/ 104.

148- الطبرسي: الفضل بن الحسن بن الفضل المفسّر الجليل المتوفّي سنة (548) ه من كتبه «مجمع البيان في تفسير القرآن» و «جوامع الجامع» أيضا في التفسير.

ترجم له غير واحد من أرباب التراجم، منهم الخوانساري في «روضات الجنّات» ص 512.

149- الشهرستاني: محمّد بن عبد الكريم بن أحمد، من فلاسفة الإسلام ولد سنة (479) و توفي سنة (548) ه، من كتبه «تفسير سورة يوسف» بأسلوب فلسفي.

له ترجمة في الأعلام ج 7/ 84 عن وفيات الأعيان ج 1/ 482.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 74

150- أبو الفتوح الرازي: الحسين بن علي بن محمّد الخزاعي النيسابوري المفسّر، كان حيّا في سنة (552) ه و من آثاره «تفسير القرآن» بالفارسيّة.

ترجمته توجد في «معجم المؤلفين» ج 4/ 35.

151- المهذّب الأسواني: الحسن بن علي بن إبراهيم المتوفّي بالقاهرة سنة (561) ه، له «تفسير»

في خمسين جزءا.

ترجم له الزركلي في الأعلام ج 2/ 220 عن «الطالع السعيد» ص 100.

152- السمعاني: عبد الكريم بن محمّد منصور المروزي، ولد بمرو سنة (506) ه و توفي بها سنة (562) و من مصنّفاته «تبيين معادن المعاني» في لطائف القرآن الكريم.

توجد ترجمته في كثير من كتب التراجم منها «طبقات السبكي» ج 4/ 259.

153- ابن الدهّان: سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري البغدادي الأديب ولد سنة (494) ه ببغداد و توفّي بها سنة (569)، من كتبه «تفسير القرآن» في أربع مجلّدات.

له ترجمة في «الأعلام» ج 3/ 154 عن وفيات الأعيان ج 1/ 209.

154- القطب الراوندي: سعيد بن هبة اللّه بن الحسن المتوفّي بقم سنة (573) ه، له مصنّفات منها «فقه القرآن» و «خلاصة التفاسير».

ترجمته تطلب من سفينة البحار ج 2/ 437، و الذريعة ج 7/ 145.

155- نشوان الحميري: بن سعيد الأديب اللغوي المتوفّي سنة (573) من

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 75

كتبه «التبيان في تفسير القرآن».

ترجمته توجد في بغية الوعاة ص 43 و إرشاد الأديب ج 7/ 206.

156- ابن الخرّاط: عبد الحقّ بن عبد الرحمن أبو محمّد الإشبيلي الحافظ المحدّث الفقيه الأندلسي، ولد سنة (510) و توفّي سنة (581) ه و من مصّنفاته «غريب القرآن و الحديث».

له ترجمة في «تهذيب الأسماء و اللغات ج 1/ 292.

157- السهيلي: عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أحمد الخثعمي، ولد في مالقة سنة (508) ه و عمى و عمره 17 سنة، و توفّي سنة (581) ه له مصنّفات منها «التعريف و الاعلام في ما أبهم في القرآن من الأسماء و الأعلام» و «الإيضاح و التبيين لما أبهم من تفسير الكتاب المبين».

له ترجمة في «نكت الهميان» ص 187 و «تذكرة

الحفّاظ» ج 4/ 137.

158- الغزنوي: عالي بن إبراهيم بن إسماعيل الفقيه الحنفي المفسّر، كان مقيما بحلب، توفّي سنة (582)، من كتبه «تفسير التفسير» في مجلّدين ضخمين.

توجد ترجمته في «الأعلام» ج 4/ 15.

159- العتّابي: أحمد بن محمّد بن عمر أبو نصر البخاري الحنفي، المتوفى سنة (586) ه من كتبه «التفسير».

له ترجمة في «الجواهر المضيئة» ج 1/ 114.

160- ابن شهر آشوب: محمّد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 76

ولد سنة (488) و توفي سنة (588) من كتبه «أسباب نزول القرآن» و «تأويل متشابهات القرآن».

ترجمته توجد في غير واحد من كتب التراجم منها «الأعلام» ج 7/ 167.

161- عزّ الدين الرّاوندي: عليّ بن فضل اللّه بن عليّ، فقيه، فاضل، كان حيّا في سنة (589) ه و من كتبه «تفسير القرآن».

له ترجمة في طبقات الشيعة في القرن السادس ص 198.

162- رضي الدين القزويني: أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني الشافعي الواعظ، ولد سنة (512) ه بقزوين و توفّي بها سنة (590). له «التبيان في مسائل القرآن».

له ترجمة في «طبقات الشافعية» ج 4/ 35.

163- ابن بنان: محمّد بن محمّد بن محمّد بن بنان الأنباريّ المصريّ من كتّاب عصره، ولد سنة (507) و توفّي سنة (596) ه، له «تفسير القرآن».

ترجم له الزركلي في «الاعلام» ج 7/ 253.

164- ابن الكال: محمّد بن محمّد بن هارون الحلّي المقرئ المفسّر، ولد سنة (515) و توفّي سنة (579) ه من كتبه «مختصر التبيان في تفسير القرآن» و «متشابه القرآن».

ترجم له ابن الجزري في «غاية النهاية» ج 2/ 256 رقم 3447.

165- ابن الجوزي: عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد البغدادي أبو الفرج ولد في

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 77

بغداد سنة

(508) و توفّي بها سنة (597) له مصنّفات كثيرة منها: «الناسخ و المنسوخ» و «فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن» و «زاد المسير في علم التفسير».

توجد ترجمته في كثير من كتب التراجم منها «وفيات الأعيان» ج 1/ 279، و «البداء و النهاية ج 13/ 28.

166- ابن الفرس: عبد المنعم بن محمّد الخزرجي، قاض، أندلسّي ولد سنة (534) ه و توفّي في البيرة سنة (599) ه، له تصانيف منها «أحكام القرآن».

له ترجمة في «الديوان المذهب» ص 218.

167- ابن إدريس الحلّي: محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس المولود حدود سنة (543) ه، و توفّي سنة (598) ه، من كتبه «مختصر التبيان من تفسير القرآن».

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها «طبقات أعلام الشيعة» في القرن السّادس ص 290.

168- النيريزي: عليّ بن محمّد بن عليّ الفقيه المحدث المفسّر المتوفّي سنة (602) أو (604) أو (605)، من تصانيفه «مجمع البحرين في التفسير و التأويل» في عشر مجلّدات.

ترجمته توجد في «معجم المؤلفين» ج 7/ 224.

169- ابن الأثير الجزري: المبارك بن محمّد بن محمّد الشافعي، ولد سنة (544) و توفّي سنة (606) ه، من كتبه «الإنصاف في الجمع بين الكشف و الكشّاف»

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 78

في التفسير.

ترجمته توجد في غير واحد من كتب التراجم منها «وفيات الأعيان» ج 1/ 557.

170- روزبهان بن أبي نصر الشيرازي المتوفّي سنة (606) ه من تصانيفه الكثيرة «لطائف البيان في تفسير القرآن».

له ترجمة في «كشف الظنون»/ 196- 1011- 1079- 1131.

171- الفخر الرازي: محمّد بن عمر بن الحسن الطبرستاني الرازي الشافعي، ولد في (543) ه و توفّي سنة (606) من مصنفاته «مفاتيح الغيب» في التفسير، مطبوع معروف.

ترجمته توجد في غير واحد من كتب

التراجم منها «معجم المؤلفين» ج 11/ 79.

172- تاج العلاء: الأشرف بن الأغّر بن هاشم العلوي توفّي في حلب سنة (610)، له «جنّة الناظر و جنّة المناظر» في التفسير خمس مجلّدات.

يقال: إنّ مولده كان سنة (482) ه فعاش طويلا.- الأعلام ج 1/ 333-.

173- المنصور الزيدي: عبد اللّه بن حمزة بن سليمان، أحد أئمّة الزيدّية في اليمن، ولد سنة (561) ه و توفّي سنة (614) ه، له مصنّفات منها «التبيان في تفسير القرآن».

له ترجمة في «الأعلام» ج 4/ 213 عن «العقود اللؤلؤية» ج 1/ 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 79

174- الوهراني: عليّ بن عبد اللّه بن ناشر بن المبارك، مفسّر، فاضل توفّي سنة (615) ه كان خطيب دار يا من قرى دمشق، له مصنّفات منها «تفسير القرآن».

له ترجمة في «الأعلام» ج 5/ 120 عن بغية الدعاة ص 340.

175- الغافقي: عبد الكبير بن محمّد بن عيسى أبو محمّد الفقيه الأندلسي، ولد سنة (536) ه و توفي سنة (617)، له كتاب في «التفسير».

توجد ترجمته في «الأعلام» ج 4/ 175.

176- ابن بقّي: أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن الأموي القرطبي ولد سنة (537) ه و توفي سنة (625) ه، له «الآيات المتشابهات» قيل: إنّه من أحسن ما كتب في بابه.

له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 257.

177- الحرّالي: عليّ بن أحمد بن الحسن التجيبي، مفسّر، توفي سنة (638) ه من كتبه «مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل» في التفسير.

له ترجمة في «نفح الطيب» ج 1/ 417 و عنه الأعلام ج 5/ 62.

178- الصعدي: عبد اللّه بن محمّد بن أبي النجم المتوفّي سنة (646) ه كان من أعلام الزيديّة، من كتبه «البيان في الناسخ و المنسوخ».

أورده السيّد المحقّق الإشكوري في «مؤلّفات الزّيدية»

ج 1/ 226.

179- ابن تيميّة: عبد السّلام بن عبد اللّه بن الخضر بن محمّد الحراني، فقيه

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 80

حنبلي، محدّث مفسّر، توفّي بحرّان سنة (652) ه، من كتبه «تفسير القرآن العظيم».

له ترجمة في «غاية النهاية» ج 1/ 385.

180- نجم الدين الأسدي: عبد اللّه بن محمّد الرازي الصوفي، ولد بخوارزم سنة (564) ه و توفي سنة (654) ه ببغداد من كتبه «بحر الحقائق» في التفسير.

ترجم له كحّالة في «معجم المؤلفين» ج 6/ 122 181- ابن أبي الإصبع: عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر البغدادي ثمّ المصري، ولد سنة (585) ه و توفّي سنة (654) ه من كتبه «بديع القرآن» في أنواع البديع الواردة في الآيات الكريمة.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 4/ 156.

182- الرّسعني: عبد الرزاق بن رزق اللّه بن أبي بكر خلف، مفسّر فقيه حنبلي، ولد برأس عين الخابور سنة (589) ه و توفي سنة (660) ه من كتبه «رموز الكنوز» تفسير في أربعة مجلّدات.

له ترجمة في «الأعلام» ج 4/ 125 عن ذيل طبقات الحنابلة ج 2/ 274.

183- ابن طاوس: عليّ بن موسى بن جعفر الحسني الداودي المولود سنة (589) ه و توفي سنة (664) ه من كتبه «سعد السعود» في تاريخ القرآن و تفسيره.

ترجم له الطّهراني في «طبقات الشيعة» في القرآن السابع ص 116.

184- عطيّة النجراني: عطيّة بن محمّد بن أحمد الفقيه المفسّر الزيدي ولد سنة (603) ه و توفّي سنة (665) ه، من كتبه «البيان الكاشف عن معاني القرآن».

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 81

له ترجمة في «معجم المؤلفين» ج 6/ 287، و مؤلفات الزيديّة ج 1/ 226.

185- زين الدين الرازي: محمّد بن أبي بكر بن عبد القادر الفقيه المفسّر

الحنفي المتوفّي بعد سنة (666) ه من كتبه «الذهب الإبريز في تفسير الكتاب العزيز» و «أنموذج جليل في أسئلة و أجوبة من غرائب أي التنزيل».

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 6/ 279.

186- القرطبي: محمّد بن أحمد الأندلسي المالكي، من كبار المفسّرين توفّي سنة (671) ه، من كتبه «الجامع لأحكام القرآن» مطبوع في عشرين جزءا.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 6/ 218.

187- نصير الدين الطوسي: محمّد بن محمّد بن الحسن، الفيلسوف الإلهي ولد سنة (597) ه و توفّي سنة (672) ه له مصنّفات كثيرة في المعقول و المنقول منها «تفسير سورة الإخلاص» و «نقد التنزيل».

أنظر «الذريعة» ج 4/ 252 و ج 24/ 274.

188- ابن طاوس: أحمد بن موسى بن جعفر الحسني الحلّي المتوفّي سنة (673) ه. من كتبه «شواهد القرآن» في مجلّدين.

أنظر «الذريعة» ج 4/ 313 و معجم رجال الحديث ج 2/ 344.

189- القونوي: محمّد بن إسحاق بن محمّد الرومي الصوفي المتوفّي سنة (673) من تصانيفه «إعجاز البيان» في تفسير الفاتحة.

توجد ترجمته في «طبقات السبكي» ج 5/ 19، و مفتاح السعادة ج 1/

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 82

451.

190- بهاء الدين الديلمي: يوسف بن أبي الحسن الجيلاني، كان حيّا في سنة (675) ه، من كتبه «تفسير القرآن».

راجع «الذريعة» ج 4/ 322، و «مؤلفات الزيدية» ج 1/ 314.

191- البنّاء: عليّ بن يحيى بن محمّد الزيدي، كان حيّا حوالي سنة (680) من تصانيفه «المنهج القويم في تفسير القرآن الكريم».

راجع «معجم المؤلفين» ج 7/ 261، و «مؤلفات الزيديّة» ج 3/ 80.

192- الكواشي: أحمد بن يوسف بن الحسن الموصلي الفقيه الشافعي المفسّر، ولد سنة (590) ه و توفّي سنة (680) ه له مصنفات منها «تبصرة المتذكر» في تفسير القرآن، و «كشف

الحقائق» المعروف بتفسير الكواشي.

له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 259.

193- العكبري: عبد الجبّار بن عبد الخالق بن محمّد المفسّر الفقيه الحنبلي البغدادي، ولد سنة (619) ه من كتبه «تفسير القرآن» ثماني مجلّدات.

له ترجمة في «ذيل طبقات الحنابلة» ج 2/ 300.

194- ابن المنيّر: أحمد بن محمّد بن منصور السكندري، ولد سنة (620) ه و توفّي سنة (683) ه، له تصانيف منها «تفسير».

له ترجمة في «فوات الوفيات» ج 1/ 72.

195- البيضاوي: عبد اللّه بن عمر بن محمّد بن عليّ الشيرازي، قاض،

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 83

مفسّر، توفّي سنة (685) ه في تبريز، من تصانيفه «أنوار التنزيل» المعروف بتفسير البيضاوي، مطبوع.

ترجمته توجد في «البداية و النهاية» ج 13/ 309.

196- يحيى بن سعيد بن أحمد بن يحيى الهذلي الحلّي المتوفى سنة (689) ه أو بعدها، له مصنّفات منها «الفحص و البيان عن أسرار القرآن».

انظر «الذريعة» ج 16/ 124 رقم 248.

197- الدّيريني: عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري الشافعي، ولد سنة (612) ه و توفّي بديرين في غربيّة مصر سنة (694) ه، من كتبه «التيسير في علم التفسير» مطبوع، ارجوزة تزيد على (3000) بيت.

له ترجمة في «الأعلام» ج 4/ 137 عن طبقات الشافعية ج 5/ 75.

198- القفطي: هبة اللّه بن عبد اللّه المصري العارف بالتفسير و الحديث ولد سنة (600) ه و توفّي سنة (697) ه من تصانيفه «التفسير» وصل فيه إلى سورة (كهيعص).

أنظر ترجمته في «طبقات السبكي» ج 5/ 163.

199- جمال الدين البلخي: عبد اللّه بن محمّد بن سليمان، مفسّر، ولد سنة (611) بالقدس و توفّي فيها سنة (698) ه له كتاب في «التفسير» جمعه من خمسين تفسيرا.

له ترجمة في «البداية و النهاية» ج 14/ 4.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 1، ص: 84

200- ابن بنت العراقي: عبد الكريم بن عليّ بن عمر الأنصاري الاندلسي الأصل ولد بمصر سنة (632) ه و توفّي بها سنة (704) ه من مصنّفاته «مختصر في تفسير القرآن» احتوى على فوائد.

له ترجمة في «بغية الوعاة» ص 311.

201- النسفي: عبد اللّه بن أحمد بن محمود الفقيه الحنفي المفسّر المتوفّي سنة (710) ه له مصنّفات منها «مدارك التنزيل» في تفسير القرآن مطبوع في ثلاث مجلّدات.

ترجمته توجد في «الجواهر المضيئة» ج 1/ 270.

202- القطب الشيرازي: محمود بن مسعود بن مصلح المولود سنة (634) و المتوفّى سنة (710) ه، من تصانيفه «فتح المنّان في تفسير القرآن».

أنظر ترجمته في «الدرر الكامنة» ج 4/ 339.

203- رشيد الدولة فضل اللّه بن أبي الخير الوزير المقتول سنة (716) أو بعدها، من كتبه «تفسير القرآن» المسّمى «بمفتاح التفاسير».

له ترجمة في «الأعلام» ج 5/ 259 ع الدرر الكامنة ج 3/ 32.

204- أبو المحاسن الحسين بن الحسن الجرجاني كان حيّا في سنة (722) من كتبه «جلاء الأذهان» في تفسير القرآن.

له ترجمة في «ريحانة الأدب».

205- المرقاني: بهاء الدين يوسف بن الحسن بن أبي القاسم المتوفّى سنة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 85

(727) ه من كتبه «تفسير القرآن».

أنظر «الذريعة» ج 4/ 256 و «مؤلّفات الزيديّة» ج 2/ 101.

206- العلّامة الحلّي: الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر، ولد بالحلّة سنة (648) و توفّي بها سنة (726) ه، له كتب كثيرة منها «نهج الإيمان» في التفسير، و أيضا «السّر الوجيز في تفسير القرآن العزيز».

ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها «الأعلام» ج 2/ 244.

207- المهدي اليمني: محمّد بن المطهّر بن يحيى الحسني من أئمّة اليمن توفّي سنة (728) أو بعدها، من تصانيفه «عقود العقيان في

الناسخ و المنسوخ من القرآن».

اطلب ترجمته في «البدر الطالع» ج 2/ 271.

208- الأعرج: الحسن بن محمّد بن محمّد الحسين الخراساني نظام الدين النيسابوري المفسّر الساكن بقم المتوفّي سنة (728)، من كتبه ثلاثة تفاسير للقرآن الكريم: كبير، و متوسط، و موجز.

له ترجمة في «الأعلام» ج 2/ 233.

209- أبو الغنائم الكاشاني: عبد الرزّاق بن أحمد العارف الصوفي المتوفّي سنة (730) ه من كتبه «تأويلات القرآن».

انظر «طبقات الشيعة» في القرآن الثامن ص 112.

210- البناكتي: داود بن محمّد بن داود أبو سليمان المتوفّى سنة (735)، كما أرّخه الطّهراني في «طبقات الشيعة» في القرن الثامن ص 75 عن «شاهد صادق»

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 86

من كتبه «تفسير» يقال: هو ملتقط من «مجمع البيان» للطبرسي.

211- السيّد محمّد بن إدريس الحمزي الصنعاني الزيديّ المتوفّي سنة (736) ه من كتبه «الإكسير الإبريز» و «التيسير» و «النهج القويم» كلّها في التفسير.

له ترجمة في مؤلفات الزّيدية» ج 1/ 327 و ج 3/ 221.

212- العشّاب: أحمد بن محمّد بن إبراهيم المرادي القرطبي المقرئ ولد سنة (549) و توفّي بالإسكندريّة سنة (736) ه له «تفسير».

ترجم له ابن الجزري في «غاية النهاية» ج 1/ 100.

213- ابن جزّي الكلبي: محمّد بن أحمد بن محمّد الفقيه المالكي الغرناطي ولد سنة (693) و توفي سنة (741) ه، من كتبه «التسهيل لعلوم التنزيل» في التفسير، مطبوع.

له ترجمة في «الأعلام» ج 6/ 221 عن نفح الطيب ج 3/ 272.

214- الخازن: عليّ بن محمّد بن إبراهيم البغدادي الفقيه الشافعي المولود سنة (678) و المتوفّى سنة (741) ه، من كتبه «لباب التأويل في معاني التنزيل» في التفسير.

توجد ترجمته في «الدرر الكامنة» ج 3/ 97- 98 و «شذرات الذهب» ج 6/ 132.

215- الطيّبي: الحسين بن محمّد

بن عبد اللّه المفسّر، المتوفّى سنة (743) ه من مصنّفاته «شرح الكشاف» في التفسير، أربعة مجلّدات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 87

انظر ترجمته في «الدرر الكامنة» ج 2/ 68. و «البدر الطالع» ج 1/ 229.

216- أبو حيّان الأندلسي: محمّد بن يوسف بن عليّ الغرناطي المولود سنة (654) و المتوفّي (745).

من كتبه «البحر المحيط في تفسير القرآن».

ترجمته توجد في «طبقات الشافعية» ج 6/ 31- 44 و الدرر الكامنة ج 4/ 302- 310.

217- علاء الدولة السمناني: أحمد بن محمّد بن أحمد البيابانكي المولود (659) و المتوفّي سنة (746) أو قبلها، من كتبه «مدارج السالكين» في التفسير.

ترجمته توجد في «طبقات الشيعة» في القرن الثامن ص 10 و «معجم المؤلفين» ج 2/ 69.

218- الشعيبي: محمّد بن محمّد بن محمّد الإسفراييني العراقي الفقيه الشافعي المولود (670) و المتوفّي (747) ه من مصنّفاته «الناسخ و المنسوخ».

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 7. 265.

219- ابن مكتوم: أحمد بن عبد القادر بن أحمد القيسي المصري، مفسّر ولد سنة (682) ه و توفّي بالقاهرة سنة (749) ه، من كتبه «الدّر اللقيط من البحر المحيط» في التفسير.

له ترجمة في «الدرر الكامنة» ج 1/ 174.

220- الفاضل اليمني: يحيى بن القاسم بن عمرو عماد الدين الصنعاني المولود

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 88

سنة (680) ه و توفّي سنة (750) أو بعدها، من كتبه «تحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف» و «درر الأصداف في حلّ عقد الكشاف» له ترجمة في «الأعلام» ج 9/ 204 عن الكتبخانة ج 1/ 137.

221- السبكي: عليّ بن عبد الكافي الحافظ المفسّر المولود في سبك بمصر سنة (683) و المتوفّى (756) ه من تصانيف «الدّر النظيم» في التفسير.

ترجمته توجد في «حسن المحاضرة» ج 1/ 177، «و

غاية النهاية» ج 1/ 551.

222- السمين: أحمد بن يوسف الحلبي الشافعي المتوفّي سنة (756) ه من كتبه «تفسير القرآن» عشرون جزءا.

له ترجمة في «غاية النهاية» ج 1/ 152، و «أعلام النبلاء» ج 5/ 24.

223- الأنصاري: محمّد بن عليّ بن العايد الفاسي المغربي المتوفّى بغرناطة سنة (762) ه من كتبه «مختصر الكشّاف» للزمخشري في التفسير.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 7/ 771 عن «الإحاطة» ج 2/ 211.

224- الهكّاري: أحمد بن أحمد بن الحسين، مفسّر مصريّ، توفّي سنة (763) ه، له «التفسير» في ستّة مجلّدات.

له ترجمة في «الدرر الكامنة» ج 1/ 98 و «الأعلام» 1/ 87.

225- الدكّالي: محمّد بن على بن عبد الواحد المصري المولود (720) و المتوفّى (763) ه، من مصنّفاته «السابق و اللاحق» تفسير مطوّل، التزم فيه أن لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 89

ينقل حرفا من تفسير أحد ممّن تقدّمه.

له ترجمة في «الأعلام» ج 7/ 177 عن «الدرر الكامنة» ج 4/ 71.

226- القطب التحتاني: محمّد بن محمّد الرازي المولود (694) ه و المتوفّى (766) من كتبه «بحر الأصداف» حاشية مبسوطة على «الكشّاف» للزمخشري.

راجع «الذريعة» ج 4/ 301. و «الأعلام» ج 7/ 268.

227- ابن كثير: إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الدمشقي أبو الفداء ولد في بصرى من أعمال الشام سنة (701) ه و توفّي سنة (774) ه، من تصانيفه «تفسير القرآن الكريم» عشرة أجزاء.

توجد ترجمته في «الدرر الكامنة» ج 1/ 373.

228- الأقسرائي: محمّد بن محمّد بن محمّد الطيب المفسّر المتوفّى نحو (775) ه من كتبه «حواش» على الكشّاف في التفسير.

انظر ترجمته في «كشف الظنون» ص 1900 و الأعلام ج 7/ 270.

229- ابن الصائغ: محمّد بن عبد الرحمن بن عليّ الحنفي المولود (708) و المتوفّى سنة

(776) من كتبه «المنهج القويم في فوائد تتعلّق بالقرآن العظيم».

ترجم له السيوطي في «بغية الوعاة» ص 66.

230- الواسطي: محمّد بن الحسن بن عبد اللّه الحسيني المفسّر الفقيه الشافعي ولد سنة (717) و توفّي بدمشق (776)، من كتبه «تفسير» كبير.

له ترجمة في «الدرر الكامنة» ج 3/ 420 و شذرات الذهب 6/ 244.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 90

231- ابن البغدادي: عبد الرحمن بن أحمد بن عليّ المفسّر المصري، ولد سنة (702) ه و توفّي سنة (781) من كتبه: «مختصر البحر المحيط» لأبي حيّان في «التفسير».

ترجمته توجد في «الدرر الكامنة» ج 2/ 323.

232- عليّ بن غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد الحسيني الإمامي النجفي، كان حيّا سنة (786) من كتبه «الأنوار المضيئة» في الرّد على «الكشّاف» للزمخشري.

له ترجمة في «ريحانة الأدب» ج 1/ 294.

233- ابن الشهاب: عليّ بن شهاب الدين حسن الحسيني الهمذاني المولود سنة (714) و المتوفّى (786) من كتبه «الناسخ و المنسوخ» في التفسير.

انظر «الذريعة» ج 22/ 12.

234- ركن الدين الآملي: حيدر بن عليّ بن حيدر، كان حيّا في سنة (787) ه، من كتبه «المحيط الأعظم» و «البحر الضخيم في تفسير القرآن العظيم».

له ترجمة في «الذريعة» ج 5/ 39.

235- ابن العتائقي: عبد الرحمن بن محمّد بن إبراهيم الحلّي، ولد بالحلّة سنة (699) و توفّي نحو سنة (790) ه، من مصنّفاته «مختصر تفسير عليّ بن إبراهيم».

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 4/ 106.

236- ابن يعيش: الحسن بن محمّد بن الحسن بن سابق الدين الصنعاني

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 91

الفقيه الزيدي التوفي سنة (791) ه من كتبه «التيسير» في التفسير.

له ترجمة في «البدر الطالع» ج 1/ 210، و مؤلفات الزيدية ج 1/ 246.

237- ابن أبي الرضا:

أحمد بن عمر بن محمّد بن أبي الرضا الحموي الحلبي الشافعي المتوفّي (791)، من كتبه «الناسخ و المنسوخ» و «منظومة في غريب القرآن».

له ترجمة في «معجم المؤلفين» ج 2/ 34 عن «الدرر الكامنة» ج 1/ 227.

238- البرسي: الحافظ رضي الدين رجب بن محمّد بن رجب كان حيّا في سنة (813) من كتبه «تفسير سورة الإخلاص».

انظر طبقات الشيعة في القرن التاسع ص 58.

239- ابن الهائم: أحمد بن محمّد الرياضي المصري، ولد سنة (753) ه و توفّي بالقدس سنة (815) ه، له «التبيان في تفسير القرآن».

له ترجمة في «الأنس الجليل» ج 2/ 456.

240- ابن المتوّج: أحمد بن عبد اللّه بن محمّد أبو الناصر البحراني توفّي سنة (820) ه من كتبه «تفسير القرآن».

له ترجمة في أعيان الشيعة» ج 9/ 38. و عنه «الأعلام» ج 1/ 153.

241- محمّد البخاري: محمّد بن محمّد بن محمود الجعفري الفقيه الحنفي المولود سنة (746) ه و المتوفّي سنة (822) ه من كتبه «تفسير القرآن» في مائة مجلّد.

ترجمته توجد في «الأعلام» ج 7/ 273 في إعلام النبلاء ج 5/ 161.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 92

242- المقداد الحلّي: ابن عبد اللّه بن محمّد السيوري الفقيه الإمامي توفّي بالنجف الأشرف سنة (826) ه، له كتب منها «كنز العرفان» في فقه القرآن.

انظر «الذريعة» ج 18/ 159 رقم 1184.

243- القطب الجيلي: عبد الكريم بن إبراهيم الجيلاني المتصوّف، ولد سنة (767) و توفّي سنة (832) ه، له كتب كثيرة، منها «الكهف و الرقيم في شرح بسم اللّه الرحمن الرحيم».

له ترجمة في كشف الظنون ص 181، و معجم المطبوعات ص 728.

244- الثلاثي اليمني: يوسف بن أحمد الفقيه الزيدي المتوفّى سنة (832) من كتبه «الثمرات اليانعة» في تفسير آيات الأحكام».

ترجمته توجد

في «طبقات مفسّري الشيعة» ج 2/ 312 عن مؤلّفات الزيديّة ج 1/ 351.

245- المخدوم المهائمي: عليّ بن أحمد بن عليّ الهندي المولود سنة (776) و المتوفّى سنة (835) ه من كتبه «تبصير الرحمن و تيسير المنّان ببعض ما يشير الى إعجاز القرآن» مطبوع في مجلّدين.

له ترجمة في «الأعلام» ج 5/ 63.

246- محمّد بن جبرئيل المفسّر الفقيه الزيدي المتوفّى بعد سنة (836) ه من كتبه «تفسير آيات الأحكام».

له ترجمة في «طبقات مفسّري الشيعة» ج 2/ 316 عن «مؤلفات الزيدية»

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 93

ج 1/ 28.

247- السيّد عليّ بن محمّد الحسني الزيدي المتوفّى سنة (837) ه من كتبه «تفسير القرآن الكريم» في ثمان مجلّدات.

له ترجمة في «طبقات مفسّري الشيعة» ج 2/ 317 رقم 229 عن «مؤلفات الزيدية» ج 1/ 350.

248- الشريف: أحمد بن عليّ بن عبد الرّشيد المفسّر كان حيّا في سنة (838) ه من كتبه «عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ و الناسخ» فرغ منه في (838).

أورده الطهراني في «الذريعة» ج 15/ 336.

249- ابن الوزير: محمّد بن إبراهيم بن عليّ القاسمي اليمني المولود سنة (775) و المتوفّى (840) من كتبه «قواعد التفسير» و «حصر آيات الأحكام الشرعية».

له ترجمة في «البدر الطالع» ج 2/ 81- 93.

250- المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى الحسني الزيدي المولود سنة (775) ه و المتوفّى (840) ه من كتبه «تفسير الآيات المعتبرة في الاجتهاد».

ترجم له في «الأعلام» ج 1/ 255 عن «تاريخ اليمن» ص 40.

251- ابن خطيب الناصرية: عليّ بن محمّد بن سعد الجبريني الحلبي المولود (774) و المتوفّى سنة (843) ه، من كتبه: «تفسير الفاتحة».

له ترجمة في «الضوء اللامع» ج 5/ 303.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 94

252- ابن زاغو: أحمد بن

عبد الرحمن المغراوي التلمساني الفقيه المولود سنة (782) و المتوفّي سنة (845) ه من كتبه «تفسير الفاتحة».

ترجم له في «الأعلام» ج 1/ 143 عن «البستان» ص 41.

253- النّظام النيسابوري: الحسن بن محمّد بن الحسين القمي النيسابوري توفّي بعد (850) له كتب منها «غرائب القرآن و رغائب الفرقان» مطبوع، في ثلاثة مجلّدات يعرف بتفسير النيسابوري.

له ترجمة في «أعيان الشيعة» ج 23/ 112- 115.

254- ابن حجر العسقلاني: أحمد بن عليّ بن محمّد، ولد بالقاهرة سنة (773) ه و توفّي بها سنة (852) ه له مصنّفات منها «الإحكام لبيان ما في القرآن من الأحكام».

توجد ترجمته في غير واحد من كتب التراجم منها «الأعلام» ج 1/ 173.

255- الزواوي: إبراهيم بن فائد بن موسى القسطنطيني، فقيه مالكي جزائري، ولد سنة (796) ه و توفّي سنة (857) ه، من كتبه «تفسير القرآن».

له ترجمة في «الضوء اللامع» ج 1/ 116 «و الأعلام» ج 1/ 51.

256- السمرقندي: عليّ بن يحيى المفسّر الحنفي المتوفّي سنة (860) ه، من تصانيفه «تفسير القرآن» في أربع مجلّدات.

ترجم له كحّالة في «معجم المؤلفين» ج 7/ 261.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 95

257- ابن إمام الكامليّة: محمّد بن محمّد بن عبد الرحمن الفقيه الشافعي المصري ولد سنة (808) ه و توفي (874) ه من كتبه «مختصر تفسير البيضاوي».

له ترجمة في «البدر الطالع» ح 2/ 244 و نظم العقيان ص 163.

258- مصنّفك: عليّ بن محمّد بن مسعود الشاهرودي البسطامي، ولد سنة (803) و المتوفى سنة (875) ه من كتبه «حاشية على الكشّاف».

له ترجمة في «البدر الطالع» ج 1/ 497.

259- أبو زيد الثعالبي: عبد الرحمن بن محمّد بن مخلوف الجزائري، مفسّر ولد سنة (786) ه و توفي (875) ه، من كتبه «الجواهر

الحسان في تفسير القرآن» في أربعة مجلّدات.

له ترجمة في «الأعلام» ج 4. 107 عن تعريف الخلف ج 1/ 63.

260- طيفور بن سراج الدين جنيد، عفيف الدين الحافظ الواعظ المفسّر الإمامي كان حيّا في سنة (876) ه من كتبه «تفسير القرآن» على أساس الأحاديث المرويّة عن المعصومين عليهم السّلام.

انظر «الذريعة» ج 4/ 280 رقم 128.

261- النجري: عبد اللّه بن محمّد بن أبي القاسم الزيدي الفقيه ولد سنة (825) و توفي (877) ه من كتبه «شفاء العليل في خمسمائة آية من التنزيل».

له ترجمة في «البدر الطالع» ج 1/ 397.

262- البياضي: عليّ بن محمّد بن يونس الموفى سنة (877) ه من كتبه «زبدة البيان في تلخيص مجمع البيان».

ترجم له مبسوطا أستاذنا في الإجازة آية اللّه العظمى المرعشي قدّس سرّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 96

في «مقدمة الصراط المستقيم الى مستحقي التقديم» ص 3- 10.

263- ابن أمير حاجّ: محمّد بن محمّد بن محمّد، يقال له: ابن الموقّت، ولد سنة (823) ه و توفّي (879) ه من كتبه «ذخيرة القصر في تفسير سورة و العصر».

له ترجمة في «الضوء اللامع» ج 9/ 210.

264- الإبشيطي: أحمد بن إسماعيل بن أبي بكر الفقيه الشافعي، ولد بإبشيط من قرى مصر سنة (802) و توفّي بالمدينة سنة (883) ه.

من تصانيفه «ناسخ القرآن و منسوخه».

له ترجمة في «البدر الطالع» ج 1/ 37 و «الضوء اللامع» 1/ 235.

265- ابن العماد: محمّد بن محمّد بن عليّ القاهري الشافعي، ولد سنة (825) ه و توفّي سنة (887) ه من كتبه «مختصر تفسير البيضاوي».

له ترجمة في «الضوء اللامع» ج 9/ 162.

266- الإسترابادي: الحسن بن محمّد بن الحسن، كمال الدين النجفي، كان حيّا سنة (891) ه من كتبه «معارج السئول» في

تفسير آيات الأحكام في مجلدين.

أنظر «الذريعة ج 15/ 377.

267- الشرجي: أحمد بن عبد اللطيف الزيدي المتوفي سنة (893) ه من كتبه «الطريقة الواضحة في أسرار الفاتحة».

انظر «طبقات مفسران شيعة» ج 2/ 333 عن «مؤلّفات الزيدية» ج 2/ 248.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 97

268- الكوراني: أحمد بن إسماعيل بن عثمان الشافعي ثم الحنفي، مفسّر ولد سنة (813) و توفّي بالقسطنطينيّة سنة (893) ه، له كتب منها «غاية الأماني في تفسير السبع المثاني».

له ترجمة في «الاعلام» ج 1/ 94 عن «الضوء اللامع» ج 1/ 241.

269- السنوسي: محمّد بن يوسف بن عمر الحسني التلمساني ولد سنة (832) ه و توفّي (895) ه، و من كتبه «تفسير سورة ص و ما بعدها من السور».

له ترجمة في «الأعلام» ج 8/ 29.

270- الجامي: عبد الرحمن بن أحمد بن محمّد، نور الدين المتصوف الأديب المفسّر الشاعر، ولد في جام سنة (817) ه، و توفّي بهراة سنة (898) ه و من مصنّفاته «تفسير القرآن».

توجد ترجمته في كثير من كتب التراجم منها «الأعلام» للزركلي ج 4/ 67.

271- الخلوتي: إسماعيل بن عبد اللّه الرومي الصوفي، مفسّر تركي الأصل، توفّي سنة (899) ه في طريقه الى الحجّ، له كتب منها «تفسير سورة الفاتحة» و «تفسير سورة الضحى الى أخر القرآن» و «تفسير آية الكرسي».

له ترجمة في «هدية العارفين» ج 1/ 217.

272- الإيجي: محمّد بن عبد الرحمن بن محمّد الشافعي، ولد سنة (832) ه و توفّي سنة (905) ه، من كتبه «جامع البيان في تفسير القرآن» مطبوع.

له ترجمة في «الأعلام ج 8/ 68.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 98

273- الكفعمي: إبراهيم بن عليّ بن الحسن الحارثي، ولد سنة (840) ه و توفّي (905) ه، من كتبه «المقام الأسنى

في تفسير الأسماء الحسنى».

له ترجمة في «أعيان الشيعة» ج 5/ 336- 358.

274- الفراهي: معين الدين محمّد بن شرف الدين محمّد مسكين الهروي المتوفّى سنة (907) ه، من كتبه «تفسير سورة يوسف» و «تفسير آيات قصص موسى».

انظر «الذريعة ج 4/ 328 و 3/ 37.

275- عليّ بن عبد اللّه الشيفتكي الشيرازي المتوفّى سنة (907) ه من كتبه «تفسير آيات الأحكام».

انظر «الذريعة ج 1/ 43 و «رياض العلماء ج 4/ 108.

276- المغيلي: محمّد بن عبد الكريم بن محمّد المفسّر الفقيه التلمساني المتوفّى سنة (909) ه، من كتبه «البدر المنير في علوم التفسير».

الاعلام ج 7/ 84 عن البستان ص 353.

277- الكاشفي: الحسين بن عليّ البيهقي السبزواري الواعظ المتوفّى سنة (910) ه من كتبه «جواهر التفسير» و «المواهب العليّة» المعروف بالتفسير الحسيني.

انظر «أعيان الشيعة» ج 27 ص 50.

278- السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمّد الحافظ المحدّث الأديب

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 99

المفسّر المؤرخ، ولد سنة (849) ه و توفّي سنة (911) ه، له مصنفات تقرب نحو (600) مصنّف، منها «الإتقان في علوم القرآن» و «ترجمان القرآن» و «تفسير الجلالين» و «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» في ستّة أجزاء.

ترجمته توجد في غير واحد من كتب التراجم منها «الأعلام» للزركلي ج 4/ 71.

279- النبيسي: إبراهيم بن الحسن الحلبي المقتول في أرزنجان سنة (915) ه، من كتبه «تفسير» من أول القرآن الى سورة يوسف.

أنظر «معجم المؤلفين» ج 1/ 22.

280- الدواني: محمّد بن أسعد الصديقي جلال الدين ولد سنة (830) و توفّي سنة (917) ه من كتبه «تفسير سور القلاقل».

انظر الأعلام ج 6/ 257.

281- ابن الشحنة: عبد البرّ بن محمّد أبو البركات الحلبي المصري ولد بحلب سنة (851) و توفّي بالقاهرة

سنة (921) ه صنّف كتبا منها «غريب القرآن».

انظر ترجمته في «الأعلام» للزركلي ج 4/ 47.

282- أبو اليمن العليمي: عبد الرحمن بن محمّد الحنبلي، ولد في القدس سنة (860) ه و توفّي بها سنة (928) ه، له مصنّفات منها «فتح الرحمن في تفسير القرآن».

له ترجمة في «آداب اللغة» ج 3/ 183.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 100

تفسير الصراط المستقيم ج 1 149

283- ابن همام العارف الشيرازي، كان حيّا في سنة (940) ه، من كتبه «روضة القلوب» في تفسير سورة يس، و «فتح نامه» في تفسير سورة الفتح.

انظر «الذريعة» ج 28/ 128.

284- الأسترابادي: شرف الدين علي الحسيني الغروي كان حيّا في سنة (940) ه من كتبه «تأويل الآيات الظاهرة» مطبوع.

انظر «الذريعة» ج 4 ص 304.

285- ملّا سعد اللّه بن عيسى بن أمير خان المتوفّى سنة (945) ه من كتبه:

«الحاشية على تفسير أنوار التنزيل».

انظر طبقات مفسّران شيعة» ج 2/ 368.

286- الشيرازي الحنفي: عليّ بن محمّد المشهور بالعلائي، المفسّر توفّي سنة (945) ه، من كتبه: «أسئلة القرآن و أجوبتها»، و «حاشية على تفسير البيضاوي».

انظر «معجم المؤلفين» ج 7/ 204.

287- الزواري: أبو الحسن عليّ بن الحسن، كان حيّا في سنة (947) ه من كتبه: «ترجمة تفسير المنسوب الى الإمام عليه السّلام».

انظر «الذريعة» ج 20/ 47.

288- الدشتكي: الأمير غياث الدين منصور بن صدر الحكماء الشيرازي المتوفّى سنة (948) أو بعدها، من كتبه «تفسير سورة الدهر».

انظر «الإحياء الدائر» ص 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 101

289- الإلهي: كمال الدين حسين بن خواجة عبد الحقّ الأردبيلي، توفّي سنة (950) أو (940) من كتبه: «تفسير» يعرف بتفسير الأردبيلي.

انظر «إحياء الداثر» ص 69 و «الذريعة» ج 5/ 265.

290- الإسترابادي: المير فخر الدين محمّد بن الحسين الحسيني،

كان حيّا في سنة (952) ه من كتبه: «تفسير آية الكرسي».

انظر «الذريعة» ج 4/ 330.

291- الكاشاني: المير شاه طاهر بن رضي الدين الحسيني، نزيل دكن توفّي سنة (956) ه، من كتبه: «حاشية تفسير البيضاوي».

انظر «طبقات أعلام الشيعة» في القرن العاشر ص 112.

292- الخفري: شمس الدين محمّد بن أحمد المتوفّى سنة (957) ه من كتبه:

«تفسير آية الكرسي».

انظر فهرست مكتبة آية اللّه المرعشي قدّس سرّه ج 7/ 116.

293- الصعدي: محمّد بن يحيى بن محمّد بن أحمد بهران، ولد في صعدة باليمن سنة (888) و توفّي بها سنة (957) ه من كتبه: «التكميل الشاف لتفسير الكشّاف».

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 8/ 11.

294- عليّ بن عبد اللّه الراوع الزيدي المتوفّي سنة (959) ه من كتبه:

«التفسير» كبير في مجلدات.

انظر «مؤلفات الزيدية» ج 1/ 310.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 102

295- المكناسي: عبد العزيز بن عبد الواحد المغربي، شيخ القرّاء بالمدينة توفّي سنة (964) ه، له «نظم جواهر السيوطي» في التفسير.

له ترجمة في «الأعلام» ج 4/ 146.

296- الشهيد الثاني: الشيخ زين الدين بن نور الدين عليّ المولود سنة (911) و الشهيد سنة (966) ه، من كتبه: «تفسير البسملة» فرغ منه سنة (940) ه.

انظر «طبقات مفسران شيعة» ج 2/ 386.

297- أبو المحاسن الجرجاني: الحسين بن الحسن المفسّر، كان حيّا في سنة (968) ه من كتبه «جلاء الأذهان و جلاء الأحزان» تفسير فارسيّ متخّذ من تفسير أبي الفتوح.

انظر «طبقات مفسران شيعة» ج 2/ 388.

298- الشيخ عبد الجليل بن أحمد الحسيني القاري، كان حيّا سنة (976)، من كتبه: «شرح الناسخ و المنسوخ» لابن متوّج المقدم ذكره.

انظر «الذريعة» ج 5/ 118.

299- السيّد مير أبو الفتح الحسيني الجرجاني المتوفّى سنة (976) ه من كتبه:

«تفسير شاهي» في

آيات الأحكام.

انظر «طبقات مفسران شيعة» ج 2/ 398 رقم 271.

300- نجم الدين ملّا عبد اللّه بن شهاب الدين حسين اليزدي المتوفّى سنة (981) ه، من كتبه، «التجارة الرابحة في تفسير الفاتحة».

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 103

انظر «ريحانة الأدب» ج 6/ 390- 391.

301- أبو السعود: محمّد بن محمّد بن مصطفى العمادي الحنفي المفسّر المولود في سنة (898) و المتوفّى بالقسطنطينيّة (982) ه من كتبه: «إرشاد العقل السليم» في التفسير.

له ترجمة في «الاعلام» ج 7/ 288.

302- عطيّة بن عليّ بن حسن السلمي المكّي الفقيه المتوفّى سنة (983) ه من كتبه «تفسير القرآن العظيم» في ثلاثة أجزاء.

له ترجمة في الأعلام ج 5/ 33.

303- الدولتشاهي: عبد الأحد بن برهان الدين بن عليّ، كان حيّا في سنة (984) ه من كتبه: «تفسير سورة الروم».

انظر «طبقات مفسران شيعه» ج 2/ 406 من الذريعة ج 26/ 218.

304- الأماسي: يوسف، سنان الدين المعروف بمحشي البيضاوي توفّي سنة (986) ه، من كتبه: «حاشية على تفسير البيضاوي».

انظر «الأعلام» ج 9/ 309، و شذرات الذهب ج 8/ 412.

305- الشيرازي: المولى محمّد بن أحمد المعروف بخواجكي المتوفّى سنة (988) ه من كتبه: «مختصر مجمع البيان».

انظر «الذريعة» ج 20/ 206 رقم 2599.

306- الكاشاني: «المولى فتح اللّه بن شكر اللّه بن المولى لطف اللّه، توفّي

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 104

سنة (988) ه، من كتبه: «منهج الصادقين» و «زبدة التفاسير».

انظر «الذريعة» ج 4/ 320.

307- الأردبيلي: أحمد بن محمّد الفقيه الزاهد الإمامي توفّي بكربلاء سنة (993) ه، من تصانيفه: «زبدة البيان في شرح أحكام القرآن» مطبوع.

ترجم له غير واحد من أرباب التراجم منهم السيّد الأمين في «أعيان الشيعة» ج 9/ 292.

308- الأماسي: يوسف سنان الدين الخلوتي الواعظ الحنفي المتوفّى حدود

سنة (1000) ه من كتبه: «تبيين المحارم» رتبه على 98 بابا في تفسير الآيات الدالة على حرمة المحرمات.

انظر «الأعلام» ج 9/ 309، و هو غير الأماسي المتقدم ذكره.

309- الكرخي: محمّد بن محمّد بدر الدين المصري المولود سنة (910) و المتوفّى سنة (1006) ه، من كتبه: «مجمع البحرين» حاشية على تفسير الجلالين في أربع مجلدات.

له ترجمة في «خلاصة الأثر» ج 4/ 152.

310- البكري: محمّد بن محمّد بن محمّد المتصوف المصري المفسّر المولود (971) و المتوفّى سنة (1007) ه من كتبه: «تفسير سورة الأنعام و تفسير سورة الكهف و تفسير سورة الفتح.

له ترجمة في «خلاصة الأثر ج 1/ 474.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 105

311- الملّا عليّ القاري: عليّ بن محمّد سلطان الهروي الحنفي المتوفّى سنة (1014) ه، من كتبه: «تفسير القرآن» في ثلاثة مجلدات، و «حاشية على تفسير الجلالين».

انظر «الأعلام» ج 5/ 166.

312- الحموي: عبد النافع بن عمر، من أهل حماة، توفّي سنة (1016) ه، من تصانيفه: «تفسير سورة الإخلاص» في مجلّد.

له ترجمة في «خلاصة الأثر» ج 3/ 90، و الأعلام ج 4/ 320.

313- الأسترابادي: الميرزا محمّد بن عليّ بن إبراهيم المتوفّى بمكة المكرمة سنة (1028) ه، من كتبه: «تفسير آيات الأحكام».

انظر ترجمته في «روضات الجنّات» ص 527.

314- بهاء الدين العاملي: محمّد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي نزيل اصفهان، ولد في بعلبك (953) ه و توفّي بأصفهان سنة (1031) ه و دفن بمشهد الامام الرضا عليه السّلام، من كتبه: «العروة الوثقى» في تفسير سورة الفاتحة.

315- البيلوني: فتح اللّه بن محمود بن محمّد الحلبي المولود سنة (977) و المتوفّى سنة (1042) ه، من كتبه: «حاشية على تفسير البيضاوي».

له ترجمة في «خلاصة الأثر» ج 3/ 254.

316- غلامك:

محمّد بن موسى من علماء الترك المستعربين المتوفّى سنة (1045) ه، من كتبه: «حاشية على تفسير البيضاوي».

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 106

له ترجمة في «خلاصة الأثر ج 4/ 302.

317- الصدر الشيرازي: محمّد بن إبراهيم القوامي، فيلسوف توفّي بالبصرة سنة (1050) ه، من كتبه: «تفسير سور الواقعة و الحديد، و الجمعة، و الطلاق، و الطارق، و الأعلى، و غيرها.

ترجم له الخوانساري في «روضات الجنّات» ص 331.

318- العمادي: عبد الرحمن بن محمّد بن محمّد الدمشقي، ولد سنة (978) ه توفّي سنة (1051) ه و من مصنّفاته «تحرير التأويل» في التفسير.

له ترجمة في «خلاصة الأثر» ج 2/ 378.

319- الشهاب الخفاجي: أحمد بن محمّد المصري قاضي القضاة، ولد سنة (977) ه و توفّي بمصر سنة (1069) ه، له مصنّفات منها «حاشية على تفسير البيضاوي» ثماني مجلدات.

له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 227 عن «خلاصة الأثر» ج 1/ 331.

320- الشيرازي: إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم المتوفّى بشيراز سنة (1070) ه، له «العروة الوثقى» في تفسير القرآن.

له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 64 عن أعيان الشيعة ج 5/ 391.

321- العروسي: عبد العلي بن جمعة الحويزي ساكن شيراز، كان حيّا في سنة (1073) ه من كتبه: «تفسير نور الثقلين» طبع في خمس مجلدات سنة (1384) ه.

له ترجمة في «طبقات أعلام الشيعة في القرن الحادي عشر ص 331.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 107

322- ابن أبي السرور: محمّد بن محمّد المصري المولود سنة (1005) ه و المتوفّى سنة (1087) ه من كتبه: «تفسير» يعرف بتفسير ابن أبي السرور.

له ترجمة في «الاعلام» ج 7/ 293.

323- الفيض الكاشاني: محسن بن محمّد بن مرتضى المفسّر المحدث المتوفّى سنة (1091) ه، من كتبه: «الصافي» و «الأصفى» في التفسير.

له

ترجمة في غير واحد من كتب التراجم منها «الروضات» ص 542.

324- فخر الدين المشهدي: الخراساني الحكيم المتوفّى سنة (1097) ه من كتبه: «تفسير سورة الحمد».

له ترجمة في «طبقات أعلام الشيعة» في القرن الحادي عشر ص 436.

325- البخشي: محمّد بن محمّد الخلوتي الحلبي الشافعي المولود سنة (1038) و المتوفّى سنة (1098) ه، من كتبه: «تفسير سورة الأعلى».

له ترجمة في «إعلام النبلاء» ج 6/ 402- 406.

326- البحراني: هاشم بن سليمان الحسيني التوبلي، مفسر يحدّث، توفّي سنة (1107) ه، من كتبه: «البرهان في تفسير القرآن» في خمسة مجلدات.

له ترجمة في «روضات الجنّات» ص 736.

327- إسماعيل حقي: ابن مصطفى الإسلامبولي الحنفي، متصوف مفسّر تركي مستعرب، توفّي سنة (1127) ه له مصنّفات منها «روح البيان في تفسير القرآن» مطبوع.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 108

له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 309 عن «إيضاح المكنون» ج 1/ 585.

328- عبد الغني بن إسماعيل النابلسي، ولد في دمشق سنة (1050) ه و توفّي بها سنة (143) ه، له مصنّفات كثيرة منها: «شرح أنوار التنزيل» للبيضاوي في التفسير.

توجد ترجمته في «سلك الدرر» ج 3/ 30 و آداب اللغة ج 3/ 324.

329- السفرجلاني: عبد الرحمن بن عمر بن إبراهيم الشافعي الدمشقي، مفسّر، توفّي سنة (1150) ه، له «حاشية على تفسير البيضاوي».

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 4/ 93 عن «سلك الدرر» ج 2/ 308.

330- شاه ولي اللّه: احمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي، فقيه حنفي ولد سنة (1110) ه و توفّي سنة (1176) ه، من كتبه «فتح الرحمن في ترجمة القرآن».

له ترجمة في فهرس الفهارس ج 1/ 125.

331- السحيمي: أحمد بن محمّد بن عليّ الفقيه الشافعي المصري المتوفّى سنة (1178) من مصنّفاته: «تفسير سورة الفجر».

له ترجمة

في «الأعلام» ج 1/ 230 عن «إيضاح المكنون» ج 2/ 102.

332- الأجهوري: عطية اللّه بن عطية البرهاني الشافعي الفقيه المتوفّى بالقاهرة سنة (1190) ه، من كتبه: «إرشاد الرحمن لأسباب النزول و النسخ و المتشابه في القرآن».

له ترجمة في سلك الدرر ج 3/ 265- 273، و فيه: «وفاته سنة (1194) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 109

333- التافلاتي الأزهري: محمّد بن محمّد المغربي المتوفّى بالقدس سنة (1191) ه من من تصانيفه: «أحسن التبيان في معنى مدلول القرآن».

له ترجمة في «سلك الدرر» ج 4/ 102.

334- الدمنهوري: أحمد بن عبد المنعم بن يوسف شيخ الجامع الأزهر ولد سنة (1101) ه و توفّي سنة (1192) ه بالقاهرة، من كتبه: «الفيض العميم في معنى القرآن العظيم» له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 158.

335- القونوي: إسماعيل بن محمّد بن مصطفى الفقيه الحنفي المفسّر، توفّي بدمشق سنة (1195) ه من كتبه: «حاشية على تفسير البيضاوي» في سبع مجلدات مطبوع.

له ترجمة في «سلك الدرر» ج 1/ 258.

336- السّليمى: عليّ بن محمّد بن عليّ الشافعي الدمشقي المولود (1113) ه و المتوفّى (1200) ه من كتبه: «شرح تفسير البيضاوي» من سورة الإسراء الى آخر القرآن.

له ترجمة في «سلك الدرر» ج 3/ 219.

337- الطسوجي: عبد النبيّ بن محمّد المولود (1117) ه و المتوفّى سنة (1203) ه، من كتبه: «تفسير القرآن».

له ترجمة في «أعيان الشيعة» ج 39/ 180- 181.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 110

338- عليّ بن قطب الدين البهبهاني المفسّر المتوفّى سنة (1206) ه من كتبه:

«تفسير القرآن».

انظر «الذريعة» ج 4/ 293.

339- الزيني: السيّد محمّد بن أحمد بن زين الدين الحسيني الحسني البغدادي النجفي المتوفّى سنة (1216) ه.

من كتبه: «تفسير القرآن» ترجم له كحالة في «المعجم» ج 8/ 262.

340-

القنوجي: عبد الباسط بن رستم الهندي، ولد سنة (1159) و توفّي سنة (1223) ه، من مصنفاته: «عجيب البيان في أسرار القرآن».

له ترجمة في «أبجد العلوم» ص 841.

341- ابن عجيبة: أحمد بن محمّد بن عجيبة الفاسي المتوفّى سنة (1224) ه، من كتبه «تفسير القرآن العظيم» في ثماني مجلدات.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 1/ 234.

342- ابن الحاجّ: حمدون بن عبد الرحمن بن حمدون السلمي المرداسي ولد سنة (1174) ه و كان أديبا فقيها مالكيّا، توفّي سنة (1232) ه، له كتب منها:

«تفسير سورة الفرقان» و حاشية على تفسير أبي السعود.

له ترجمة في «الأعلام» ج 2/ 306 عن «شجرة النور» ص 379.

343- سراج الهند الدهلوي: عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي ولد سنة (1159) ه و توفّي سنة (1239) ه، له تصانيف منها «فتح العزيز» في

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 111

التفسير.

ترجم له الزركلي في «الأعلام» ج 4/ 138 عن إيضاح المكنون ج 1/ 182.

344- الصاوي: أحمد بن محمّد الخلوتي الفقيه المالكي، ولد سنة (1175) ه و توفّي بالمدينة المنوّرة سنة (1241) ه، من كتبه «حاشية على تفسير الجلالين» مطبوع.

له ترجمة في «الأعلام» ج 1/ 233.

345- السيّد الشبّر: عبد اللّه بن محمّد رضا الحسيني الكاظمي، ولد سنة (1888) أو (1192) ه و توفّي سنة (1242) ه له مصنّفات كثيرة منها: «الجوهر الثمين» صفوة التفاسير، و تفسير وجيز مطبوع.

انظر «روضات الجنّات» ص 374.

346- الرضوي: الميرزا هداية اللّه بن الميرزا مهدي الشهيد سنة (1248) ه من كتبه: «تفسير».

له ترجمة في «هداية العارفين» ج 2/ 507.

347- الشوكاني: محمّد بن عليّ بن محمّد المفسّر الصنعاني المولود سنة (1173) ه و المتوفى سنة (1250) ه، من كتبه: «فتح القدير» في التفسير.

348-

الآلوسي: أبو الثناء محمود بن عبد اللّه المفسّر المولود سنة (1217) ه و المتوفي سنة (1270) ه، من كتبه: «روح المعاني في تفسير القرآن».

له ترجمة في «معجم المؤلّفين» ج 12/ 175.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 112

له ترجمة في «معجم المؤلفين» ج 11/ 53.

349- و ممّن وفّقه اللّه في هذا المضمار بالتنسيق و الترصيف العالم العامل الأوحد، و الفاضل الكامل الأرشد، ذو المفاخر الوافرة، و الفضائل الفاخرة، الخبير المحقّق، و النحرير المدقق، آية اللّه السيّد حسين البروجردي طاب ثراه.

إنّه قد منّ على المستفيدين بكتابه القيّم العظيم (الصراط المستقيم) في تفسير القرآن الكريم، و لعمري إنّه من أحسن ما ألّف في كشف النقاب عن وجه الكتاب، و لكنّ الأسف أنّ هذا التفسير الثمين إلى الآن لم تطبع و لم تنشر، و كانت في مكتبة حفيديه: العالم الفاضل، و السيّد السند حجة الإسلام و المسلمين السيّد حسن النوري البروجردي، و السيّد الجليل السيّد محمّد النوري البروجردي، نسختان منه: نسخة بخط المؤلف، و نسخة أخرى مستنسخة من الأصل.

و كنت مذ اطّلعت عليه ولعا بإذاعته و طبعه و انتشاره إلى أن ساعدني في ذلك السيّدان السندان حفيد المؤلف حيث جعلا نسختيه في اختياري فشمّرت الذيل بحول اللّه و قوّته في تحقيقه و تخريج مصادره و طبعه بأجمل صورة و أجود أسلوب مزدانا بالتعليقات، و مذيّلا بتخريج أحاديثه و الإشارة إلى مواضع آياته، حتى يكون نفعه أعمّ، و حرّرت وجيزة في ترجمة المؤلّف أخذتها من كتابي: «تاريخ بروجرد» ج 2 بالفارسية المطبوع في قم سنة (1354) ه.

ترجمة المؤلّف الكتاب (الصراط المستقيم)

- حياة المؤلّف-

هو العلّامة السيّد حسين بن السيّد محمّد رضا الحسيني البروجردي، ينتهي نسبه على ما قال حفيده السيّد محمّد بستّ و عشرين واسطة إلى العالم

الزاهد العابد

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 113

الشهيد زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ عليهم السّلام، استشهد سنة (121) ه.

هذا من طرف الأب، و أما من جانب الأمّ ينتهي إلى إبراهيم بن موسى الكاظم عليه السّلام المتوفّى مسموما ببغداد سنة (210) ه.

والده السيّد محمّد رضا هو العالم العامل، و الفاضل الكامل من أكابر عصره و كان مجازا من المحدّث الخبير، و الفقيه البصير السيّد عبد اللّه الشبر المتوفّى سنة (1242) ه، كما قال المؤلّف في «منظومته الرجالية»:

و ابن الرضا الشبّر ذو المحامدصنّف مكثرا أجاز والدي

ميلاده لسبع ليال بقين من شوال سنة (1238) كما في حواشي «نخبة المقال» للعلّامة النسّابة و شيخنا المجيز الفهّامة آية اللّه العظمى المرعشي قدّس سرّه و صرّح به المترجم في منظومته حيث قال:

و ابن الرضا مصنّف الكتاب أرشده اللّه الى الصواب

و مولدي (أخير من شوال)فاختم لي اللّهم بالكمال

و لا يخفى أنّ جملة (أخير من شوال) تنطبق من حيث العدد مع (1238) فعلى هذا ترديد صاحب «الأعيان» في ج 26 ص 57 في ميلاده بين سنة (1228) و (1238) و قول صاحب «معجم المؤلفين»: أنّ ميلاده في (1228) ليسا في محلّه، و هكذا قول العلامة آية اللّه المرعشي: إنّ ميلاده كان في رجب سنة (1228) كلّها خلاف ما صرّح به المترجم نفسه، و خلاف ما قال المرعشي نفسه في مقام آخر كما تقدّم أنّ ميلاده كان لسبع ليال بقين من شوال المكرّم.

- مشايخه و أساتذته-

تلمذ على جمع من أكابر علماء عصره في بروجرد، و النجف الأشرف

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 114

و استفاض من بحار علومهم الى أن بلغ النهاية و ارتقى من حضيض التقليد الى درجة سامية من الاجتهاد، منهم:

1- العلّامة

المحقّق الحاج مولى أسد اللّه البروجردي الشهير بحجّة الإسلام كان من أعاظم فضلاء عصره، ماهرا في الفقه و الأصول، مصنّفا فيهما، قرأ على صاحب «القوانين» و تزوّج بابنته و رزق منها أولادا فضلاء، توفى سنة (1271) ه، ترجمت أحواله بالتفصيل في «تاريخ بروجرد ج 2/ 318- 344.

2- السيّد السند و الحبر المعتمد، منبع الأسرار، و مطلع الأنوار، كشّاف الآيات و الأخبار السيّد جعفر الدارابي الكشفي البروجردي، كان من أعاظم علماء الإمامية متبحرا محقّقا و مفسّرا مدقّقا، جامعا بين العلم و الإيمان، و الذوق و العرفان، توفي سنة (1267) ه في بروجرد و دفن بها و قبره مزار للخاص و العام.

ترجمته بالتفصيل في تاريخ بروجرد ج 2/ 272- 306.

قال تلميذه المؤلّف في «منظومته الرجالية» في حرف الجيم:

سيدنا الأصفى الجليل جعفرابن أبي إسحاق المفسّر

قد كان بدرا لسماء العلم و بعد لمح (غاب نجم العلم)

3- العالم الرفيع، ذو الفضل و المقام المنيع آية اللّه الحاج السيّد محمّد شفيع البروجردي، كان في عصره من أكابر المجتهدين في الفروع و الأصول، و من أعاظم الجامعين للمعقول و المنقول، توفّي سنة (1280) ه، ترجمته في «تاريخ بروجرد» ج 2/ 402- 427.

4- العلامة الفقيه الشيخ حسن بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كان من أجلّاء عصره، توفي بالعراق سنة (1262) ه، و قد صرّح المترجم في منظومته الرجالية بتلمذه عليه حيث قال:

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 115 و شيخنا ابن الشيخ جعفر حسن منه استفدنا برهة من الزمن

5- الفقيه الأصولي المحقّق المدقّق، الشيخ محمّد حسين صاحب «الفصول» توفّي سنة (1261) ه.

قال المترجم في «منظومته الرجالية»:

أخو التقيّ قدوة الفحول مصنّف «الفصول» في الأصول

6- رئيس الشيعة المحقّة، و حامي الشريعة الحقّة، إمام الفقهاء و

المجتهدين، صاحب «الجواهر» الشيخ محمّد حسن الذي انتهت إليه رئاسة المذهب الجعفريّة في العرب و العجم، توفّي سنة (1266) ه، و قد صرّح المترجم في «منظومته الرجالية» بتعلّمه لديه، حيث قال:

ثم محمّد حسن بن الباقرشيخ جليل صاحب «الجواهر»

منه استفدنا برهة مما سلف كان وفاته (علا أرض النجف).

- كلمات العلماء في حقّه-

قال معاصره العلامة الفقيه الرجالي الحاج السيّد عليّ أصغر الجابلقي البروجردي في «الطوائف» ج 1/ 44 ط. قم:

السيّد حسين بن السيّد البروجردي كان عالما جليلا، و فقيها نبيلا، مجتهدا في الأصول و الفقه و الرجال، بل التفسير، و غيرها من العلوم، في غاية الزهد من أحد تلامذة الوالد، و له منه إجازة له تصنيفات، إلا أنّ ما خرج هو المنظومة في الرجال.

و قال في ج 2 في الخاتمة/ 639 في ضمن أسماء المؤلفين في الرجال:

و منهم: السيّد السند، و الركن المعتمد، المولى المسدّد، الأخ الروحاني و المحقّق الصمداني، المؤيّد بالتأييدات، مجمع الكمالات، و منبع السعادات السيّد

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 116

حسين بن السيّد رضا الحسيني الهاشمي جعل اللّه الجنّة مثواه.

و هذا السيّد كان فاضلا جليلا، و عالما نبيلا و رعا، كثير الإشتغال، متحرّزا عن الاشغال، مرجعا للطلّاب، و متبوعا لأولي الألباب، مطاعا لغالب الأصحاب في بلدة بروجرد، مجتهدا صرفا، مع اطلاعه بالقواعد الرياضيّة و الهيئة، و علم الحساب، و علم التفسير، و علوم الآداب جامعا للفنون و حافظا للرجال و الدراية.

قد تلمذ عند الوالد الأستاذ العلّامة الفقه و الأصول و الرجال و الدراية، فترقّى من حضيض التقليد إلى مراتب الاستنباط و الاجتهاد، فاستجاز من الوالد طاب ثراه، فأجازه اجتهادا و رواية كما هو دأب المشايخ و الأساتيد حفظا لاتصال الأسانيد و صونا عن الإرسال و الانقطاع.

و قد

قرأ عند الفاضل المدقق و الفقيه المحقق «1» كثيرا من المسائل الفقهيّة.

و عند السيّد السديد و العالم الرشيد سيّد السادة و قدوة القادة بحر العلوم الزاخرة ذو الكرامات الباهرة المنقطع عن الدنيا الفانية المتوجّه الى الديار الباقية «2».

قال المدرس الميرزا محمّد عليّ في «ريحانة الأدب» ج 1/ 252: ما تعريبه:

«البروجردي»: السيّد حسين بن السيّد رضا، فقيه كامل، عالم عامل، جليل نبيل، محدّث، مفسّر، أصولي رجالي، شاعر ماهر، من أكابر علماء الدين في القرن الثالث عشر، كان في الأصول و الرجال من تلامذة الحاج السيّد محمّد شفيع

______________________________

(1) لعلّ المراد به المولى حجة الإسلام الحاج ملا أسد اللّه البروجردي.

(2) الظاهر أنّ المراد به هو السيّد السند و الحبر المعتمد السيّد جعفر الكشفي البروجردي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 117

الجابلقي، و في الحديث و التفسير ممّن أخذ عن السيّد جعفر الكشفي الدارابي، و استفاض الفقه الجعفري من صاحب «الجواهر» و الشيخ حسن كاشف الغطا.

و كان في عصره معدودا من أكابر الفقهاء.

و من تأليفاته: «المستطرفات» في الكنى و النسب و الألقاب، و «نخبة المقال في علم الرجال» و هي منظومة في ذلك الفنّ الشريف مع وجازة اللفظ و إيجاز العبارات كانت في نهاية الفصاحة حاوية لتراجم جمع كثير من معاريف العلماء الدينيّة، مضافا على تراجم الرواة المشاهير.

و قال العلّامة المحدّث الخبير و المؤرّخ البصير الحاج الشيخ عباس القمي رحمة اللّه عليه في «الفوائد الرضوية» ص 155: الحسين بن محمّد رضا الحسيني البروجردي سيد جليل، عالم نبيل، شاعر فاضل مفسر ماهر، له في مدح أمير المؤمنين عليه السّلام:

يا واصف المرتضى قد صرت في تيه هيهات هيهات ممّا قد تمنّيه

هو الذي كان بيت اللّه مولده و صاحب البيت أدرى بالذي فيه

- وفاته-

في تاريخ وفاته اختلاف بين سنة (1276) كما ذكر الكحّالة في «معجم المؤلّفين» و سنة (1277) كما قال المرعشي و سنة (1284) ه كما عن دهخدا في «لغت نامه» و قيل في تاريخ وفاته:

بدر سماء العلم و الرجال و (نجم العلم غائب في حال)

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 118

- آثاره العلميّة-

له آثار علميّة قيّمة و مؤلّفات ثمينة، منها:

1- «نخبة المقال في علم الرجال» منظومة رجاليّة و أرجوزة عدّة أبياتها 1313 فرغ منها سنة (1260) ه و قال في تاريخه و عدد أبياته:

عدّته (زيّن بالغرايب)تاريخه (باسم الإمام الغايب)

(1313) (1260) طبعت في سنة (1313) بالطهران، و طبع جزء منها مع توضيحات لآية اللّه العظمى المرعشي قدّس سرّه سنة (1378) في قم.

ترك الناظم في «منظومته» المجاهيل، و جملة من العلماء المتأخّرين، فتمّمها المولى عليّ بن عبد اللّه بن محمّد بن محبّ اللّه بن محمّد جعفر القراجه داغي التبريزي المتوفى سنة (1327) ه بمنظومة سمّاها «منتهى المقال في تتمة زبدة المقال» ثمّ شرح الأصل و التتمة بشرح سماه «بهجة الآمال في شرح زبدة المقال و منتهى الآمال في علم الرجال» في خمس مجلدات، ثلاث منها في شرح منظومة السيّد، و مجلّدان في شرح التتمة و فرغ من الخامس في سنة (1318).

2- المستطرفات في الكنى و الألقاب و مصطلحات المجلسي، و الفيض في «البحار» و «الوافي» طبعت بضميمة «نخبة المقال».

3- تفسير سورة الأعلى، قرب 1300 بيت.

4- تفسير آية النور.

5- تعليقات على قواعد استاذه السيّد شفيع في الأصول.

6- ديوان شعر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 119

7- رسالة أصوليّة في أنّ الأمر بشي ء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟

8- تعليقات تفسيريّة على تفسير البيضاوي.

9- مقباس الدراية في أحكام الولاية.

10- اللّوامع.

11- شرح «خلاصة

الحساب» للشيخ بهاء الدين العاملي، كما صرّح به في «الصراط المستقيم» عند تعريف علم الحساب و موضوعه، و هل الواحد من الأعداد أو لا، قال: و تمام البحث في هذا الباب يطلب من شرحنا على «خلاصة الحساب».

12- الصراط المستقيم في تفسير الكتاب الكريم.

- كلمة حول الصراط المستقيم-

قال شيخنا المجيز العلّامة الخبير آية اللّه الشيخ آغا بزرگ الطهراني رحمة اللّه عليه في «الذريعة» ج 15/ 35:

«الصراط المستقيم» في تفسير الكتاب الكريم للسيد حسين بن رضا الحسيني الفاطمي العلوي البروجردي خرج منه ثلاث مجلّدات ضخمات:

المجلد الأول في المقدّمات المهمّة الّتي مهّدها قبل الشروع في التفسير و هي أربع عشر مقدمة.

و المجلد الثاني تفسير سورة الفاتحة شرع فيه في (15) من ذي القعدة سنة (1271) ه و انتهى الى الفرق المغضوب عليهم في مجلّد ضخم.

و المجلد الثالث في تفسير سورة البقرة، بدأ فيه في جمادى الثانية سنة (1275) ه و انتهى الى تفسير آية الكرسي و لم يتجاوز عنها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 120

- أولاده-

من أخلافه العالم العامل، و الفاضل الكامل الحاج السيّد نور الدين، كان بعد أبيه موردا لتعظيم الناس و تكريمهم.

قال المحدّث الخبير الحاج شيخ عباس القمي في الفوائد الرضوية ص 155:

السيّد الزاهد المتقي الصالح الحاج السيّد نور الدين بن السيّد الجليل، العالم النبيل، المفسّر الماهر السيّد حسين بن محمّد رضا الحسيني البروجردي توفّي بالمدينة بعد مراجعته من مكة المكرمة.

خلّف السيّد نور الدين السيّد عبد الحسين النوري، كان عالما عاملا، و فاضلا كاملا ولد في سنة 1286 ه و أخذ المبادي في بروجرد و رحل الى النجف للتكميل في الخمس و الثلاثين من عمره، و تلمذ على علماء النجف سيّما آية اللّه العظمى الآخوند المولى كاظم الخراساني، و اية اللّه الكبرى السيّد كاظم اليزدي قدّس سرّهما ثم رجع الى بلده و اشتغل بالتدريس، و استفاد من السرّاج الوهاّج، و البحر المواّج آية اللّه العظمى البروجردي قدّس سرّه. توفّى عصر التاسع من المحرم سنة 1372 ه و خلّف أحد عشر ولدا: ثلاثة أبناء

و ثماني بنات.

من أبنائه السيّد الجليل، و العالم النبيل السيّد محمّد حسن النوري البروجردي تلمذ بالنجف على علمائها الأفاضل و استفاض من بحار علومهم ثمّ رجع إلى إيران و أقام في الطهران و اشتغل بالافاضة وفّقه اللّه لمراضيه.

تمّت المقدّمة على يد الحقير الفقير غلام رضا مولانا البروجردي في جمادى الثانية سنة 1414.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 121

[مقدمة المؤلف و خطبته الشريفة]

بسم اللّه الرحمن الرحيم تبارك الّذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، و جعل في سماء الولاية بروجا، و جعل فيها شمس النبوّة سراجا و قمر الإمامة منيرا، و رشّح من إشراق أشعّة أنوارهم على الأكوان التائهة «1» في فيافي «2» العدم كأسا قدّروها تقديرا، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً، و الصلاة على نبيّه المبعوث إلى أهل العالم كافّة في جميع العوالم شاهدا و مبشّرا و نذيرا، و داعيا إلى أهل العالم كافّة في جميع العوالم شاهدا و مبشّرا و نذيرا، و داعيا إلى اللّه سبحانه باذنه و سراجا منيرا، و على مهابط وحي اللّه و خزّان علمه و تراجمة كتابه الّذين أذهب اللّه عنهم الّرجس و طهّرهم تطهيرا.

امّا بعد فيقول المتعطّش إلى رشحات فيوض ربه الغنيّ، الحسين بن الرّضا الحسيني الفاطميّ العلويّ البروجردي- عفى اللّه عن جرائمهما و حشرهما مع أئمّتهما-.

اعلموا يا إخواني المؤمنين هداكم اللّه بنور اليقين، و أرشدكم الى ولاية الأئمة الطّاهرين- صلوات اللّه عليهم أجمعين-: أنّ أنفس ما تنافست «3» فيه النفوس

______________________________

(1) التائهة فاعلة من تاه يتيه تيها و تيهانا: أي ذهب متحيرا- المنجد ص 67.

(2) الفيافي جمع الفيفاة و الفيفى بمعنى المفازة التي لا ماء فيها- (المنجد ص 603).

(3) التنافس و المنافسة في الشي ء الرغبة فيه على وجه المباراة

في الكرم و منه تنافسوا في زيارة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 122

و الأرواح، و أولى ما تسابقت في مضماره «1» خيول عقول الفحول للارتياح «2» إنّما هو اقتباس الفضائل النفسانيّة، و اقتناص العلوم الإلهيّة الّتي هي الذّخيرة الأبديّة و السعادة السرمديّة، و انّ للعلوم رياضا عامرة و حياضا غامرة و أفلاكا رفيعة و أسماكا منيفة، و أقمارا طالعة، و أنوارا ساطعة، و لقد يسّر اللّه سبحانه و له الحمد و المجد في عنوان لبابي و عنفوان شبابي تسريح النظرة في معقولها و منقولها، و إمعان الفكر في فروعها و أصولها، حتى وردت حياضها، و أتيت رياضها، فشربت من كلّ منهل منها جرعة بعد جرعة فما رويت و أخذت من كلّ بيدر «3» حضنة بعد حضنة «4» فما استغنيت.

فلمّا تفكّرت في ذلك، و سرّحت النظر فيما هنالك، رأيتها فاقدة اللبوب كالقشور، ليس فيها نور و لا سرور، فطفقت أجدّد النظر في المعارف الحقيقيّة و الأسرار الربانيّة، و العلوم اللدنيّة، و الفيوض القدسيّة و أسرار الدين، و أنوار

______________________________

الحسين (ع)- مجمع البحرين ص 314-.

(1) المضمار بكسر الميم الموضع الذي تضمر فيه الخيل و يكون وقتا للأيّام التي تضمر فيها و تضمر الخيل أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلّا قوتا لتخفّ و ذلك في مدة أربعين يوما- مجمع البحرين ص 263-.

(2) الارتياح السرور و النشاط و أخذ الراحة و الارتياح من اللّه الرحمة و منه يا مرتاح- مجمع البحرين ص 170-.

(3) البيدر بفتح الباء و الدال مجمع الطعام حيث يداس و في الحديث قال ابن أبي العوجاء إلى كم تدوسون هذا البيدر يعني بذلك الكعبة المشرفة و الطائفين بها استهزاء و شبههم بالحيوانات التي لا

تعقل و تدوس بيدر الطعام- مجمع البحرين ص 231-.

(4) الحضن بكسر الحاء ما دون الإبط إلى الكشح، و أعطاه حضنا من زرع أي قدر ما يحتمله في حضنه و هو مجاز كما في الأساس- تاج العروس في شرح القاموس ج 9 ص 182-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 123

شريعة سيّد المرسلين، صلّى اللّه عليه و آله أجمعين، فرأيتها في القرآن الكريم و الذّكر الحكيم ساطعة الأنوار، عليّة المنار، جارية الأنهار، فإنّه هو الكتاب المبين، و الماء المعين، و الحقّ اليقين، و الحبل المتين، نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، و هو المهيمن على زبر الأوّلين، المشتمل على علم ما كان و ما يكون الى يوم الدّين، بل أبد الأبدين، وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1»، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «2».

و هو المعجزة الباقية على مرّ الدهور و الأعصار الكاشف عن خفيّات الحقائق و الأسرار، إلّا أنّ جهات علومه و فنونه، و مراتب ظهوره و بطونه لا يطّلع عليها إلّا- الرّاسخون في العلم، الّذين هم كانوا الأئمة المصطفين، و ثاني الثقلين الّذين لا يفترقان أبدا في الكونين، لأنّهم ورثة الكتاب، و مفاتيح هذا الباب، و إليهم الإياب في المبدء و المآب، و عندهم فصل الخطاب و منهج الثواب.

فسرّحت كليل طرفيّ «3» في طرف «4» من أخبارهم، و أجريت ظالع حرفي «5» في حرف من آثارهم، فرأيت أنّه لا سبيل الى العلم بالكتاب إلّا بالاستضائة من أنوارهم الّتي هي الطريق و المنهج، و علمت أنّ الكلمة من آل محمّد

______________________________

(1)

سورة الانعام: 59.

(2) سورة يوسف: 111.

(3) الطرف بفتح الطاء و سكون الراء بمعنى العين و كليل طرفي أي ضعيف بصري من قبيل اضافة الصفة الى الموصوف.

(4) الطرف بفتح الطاء و الراء بمعنى الناحية، و بضم الطاء و فتح الراء جمع الطرفة كغرفة و غرف بمعنى ما يستطرف و يستملح.

(5) الحرف الأول بمعنى الناقة المزولة و ضالع حرفي أي ناقتي المهزولة المثقلة السير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 124

صلّى اللّه عليهم لتصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج.

ثمّ إنّي قد كنت برهة من الزّمان كثير التوقان إلى بيان شي ء ممّا منّ اللّه الوهّاب المنّان على عبده من معاني هذا القرآن، فرأيت أنّ الخطب جسيم، و الكتاب كريم و النّبأ عظيم، فاعتصمت بعروة وثقى ولاية صراطه المستقيم و إنّه في أمّ الكتاب، لدى اللّه لعليّ حكيم «1».

و شرعت فيه مع قلّة البضاعة و كثرة الإضاعة، و قصور الباع «2» في هذه الصناعة و بذلت جهدي «3» في استقصاء الأخبار المتعلقة بكلّ آية من الآيات، و الرّجوع مهما أمكن في استيضاح المشكلات و المتشابهات منها الى الأخبار المأثورة عن حجج اللّه على البريّات، مع بسط الكلام على حسب مقتضى المقام فيما يتعلّق بها من المعاني اللّغويّة، و الفنون الأدبيّة، و المقاصد الحكميّة، و المسائل الفقهيّة، و الاختلافات المذهبيّة، و الأصول الكلاميّة، و الحقائق الربانيّة، و العلوم النبويّة و الإماميّة، و غير ذلك ممّا يمكن استفادته من الآيات بشي ء من الإشارات و الدلالات.

و لم أقتصر من ذلك على شي ء دون شي ء إذ فيه تفصيل كلّ شي ء فليأخذ كلّ ناظر فيه بضاعته، و لا يتعرّض فيما يخالف صناعته، قد علم كلّ أناس مشربهم، و فهم أهل كلّ فنّ مطلبهم، فإنّ الأغراض

مختلفة، و المقاصد متفنّنة من غير

______________________________

(1) اقتباس من سورة الزخرف: 4.

(2) الباع قد مدّ اليدين يقال طويل الباع و رحب الباع أي كريم مقتدر و قصير الباع و ضيق الباع أي بخيل عاجز- المنجد ص 54-.

(3) الجهد بضم الجيم و فتحها و سكون الهاء أي الطاقة و الاستطاعة يقال بذل جهده أي طاقته- المنجد ص 106-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 125

تأنيب «1» منّي في تقصير من قصّر أو طوّل، و لا تعييب على من أجمل أو فصّل، بل أقرّ على قريحتي القريحة الجامدة، و فطنتي الجريحة الخامدة بالقصور و النقصان، سيمّا في عداد حلبة «2» فرسان هذا الميدان، على أنّي أعلم أنّ من تصدّى لتصنيف شي ء من الكلام فعليه أن يستعدّ لسهام النقض و الإبرام، بل قيل: قلّما سلم مكثار أو أقيل له عثار، و مع كلّ ذلك فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «3» إنّه مجمع لجوامع العلوم المتعلّقة بالكتاب الكريم، إذ هو الكافي لتيسير إستبصار تهذيب تبيان مجمع بيانه، الوافي للوسائل إلى بحار علومه و رياض جنانه، الصّافي من عيون ينابيع الحكمة، و بحر حقائق مصباح الشريعة، الشّافي عن الشّرائع بمحاسن صفات الشّيعة، الكشّاف عن وجوه عرائس معالم أنوار التنزيل، الوصّاف لمفاتيح الغيب بلباب نفائس أسرار التأويل، الجامع لفنون الإرشاد الى نهج البلاغة في إكمال الدّين و إتمام النعمة، النافع لأصحاب البصائر و الإختصاص في كشف الغمّة بمعرفة الأئمّة.

و لم آل جهدا في نقل ما ظفرت به من أخبار أهل البيت الّذين جعلهم اللّه تعالى خزنة العلم و مهابط الوحي، و لم أقتصر غالبا على نقل موضع الحاجة حذرا من تقطيع الخبر،- و تفويت الفائدة الّتي سيق لأجلها الأثر.

و

سمّيته «الصراط المستقيم في تفسير الكتاب الكريم» و المرجوّ من فضله و رحمته سبحانه أن يمنّ عليّ بلطفه العميم و فيضه الجسيم، ذلك فضل اللّه يؤتيه من

______________________________

(1) التأنيب: الملامة.

(2) الحلبة بفتح الحاء جمع حلبات و حلائب: الخيل تجمع للساق- المنجد ص 148-.

(3) سورة الواقعة: 75- 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 126

يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم، و أسئله أن ينفعني به و سائر المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين- صلّى اللّه عليه و على ذريّته المعصومين-.

و لنمهّد قبل الشروع في تفسير الآيات أربع عشر مقدّمة مهمّات في أبواب:

أحدهما: في الإشارة إلى حقيقة العلم و أنواع العلوم و مراتبها و شرفها و فضلها، و محلّ علم التفسير منها، و توقّفه عليها عموما أو خصوصا، و التنبيه على تعريف هذا العلم و موضوعه و غايته و بيان الحاجة إليه.

ثانيهما: في بيان جملة ممّا يدلّ على شرف القرآن و فضله و تمثّله يوم القيامة لأهله و الحثّ و الترغيب على تعليمه، و تعلّمه و التمسّك به، و قراءته في الصلاة و غيرها و حفظه و حمله، و إكرامه و تعظيم أهله و المواظبة عليه، و غيرها من المباحث المتعلّقة بذلك.

ثالثها: في بيان حقيقة القرآن و مراتبه في الكون و ظهوره عند التنزل في كسوة الحروف و الكلمات و الإشارة الى الصامت و النّاطق الّذين هما الثقلان و هما لا يفترقان بل لا يفارقان ليلة القدر، و البيّنة على سرّ كونه الثقل الأكبر و العترة هم الثقل الأصغر.

رابعها: في الإشارة الى ما له من الأسماء الشريفة و الألقاب المنيفة و تحقيق القول في حدوثه و الإشارة الى كلامه سبحانه و معنى الكلام النفسي، و كيفيّة الوحي و الإلهام،

و التحديث و أنّه هل للأئمّة و ساير الأوصياء عليهم السلام حظّ من الوحي و الإلهام أم لا، و معنى التلقّي و سرّ الغشوة، و تحقيق الحقّ في أنواع المكاشفات و الميزان المميّز للحقّ عن الباطل، و البحث عن كيفيّة الخطابات الواردة فيه و شمولها للغائبين و المعدومين في زمن الخطاب.

خامسها: في أنّ فيه تبيان كلّ شي ء، و تفصيل كلّ علم من العلوم الإلهيّة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 127

و الحقائق الكلّية، و الأمور الجزئيّة، و بيان كيفيّة انشعابها منه.

سادسها: في بيان معنى التفسير و التنزيل و التأويل، و الظاهر و الباطن و المحكم و المتشابه، و الناسخ و المنسوخ، و الكلام في حجيّة القرآن، و صحّة الاستدلال بظواهره في الأصول و الفروع، و المنع عن التفسير بالرأي و ضابط التأويل.

سابعها: في معنى الإنزال، و الفرق بينه و بين التنزيل، و معنى السّورة و أقسامها الأربعة، و الآية و الكلمة و الحروف و غيرها، و فيه ضبط السور و الآيات و حروف القرآن.

ثامنها: في أنّ علم القرآن مخزون عند أهل البيت عليهم الصّلاة و السلام و بيان انتهاء سلسلة القرآن، و علم التفسير إليهم، و أنّ كلّ ما في أيدي النّاس من علم حقّ فهو منهم.

تاسعها: في أنّ جلّ القرآن بل كلّه إنّما نزل فيهم، و في شيعتهم، و في أعدائهم.

عاشرها: في وجوه إعجازه، و الفرق بينه و بين الحديث القدسي.

حادي عشرها: في بيان ما ورد من أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، و الإشارة الى منشأ اختلاف القرّاء في القراءة من حيث موادّ الحروف، و هيأتها، و تحقيق الكلام فيما ذكر الفقهاء من الإجماع على قراءة السّبع أو العشر، و هل هي متواترة أم لا،

و فيه نبذ من أحوال القرّاء و طرقهم، و جواز الأخذ بقرائتهم.

ثاني عشرها: في كيفية القراءة، و البحث عن آدابها الظاهرة، و وظائفها الباطنة، و فيه تحقيق معنى الغناء، و بيان حرمته و معنى التّرتيل و الإشارة الى الحجب القلبيّة المانعة عن القراءة، و كيفيّة رفعها، و غير ذلك من الوظائف.

ثالث عشرها: في أحكام القراءة من الوجوب و الحرمة و الكراهة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 128

و الاستحباب.

رابع عشرها: في جملة من الفوائد الّتي ينبغي التّنبيه عليها قبل الشروع في المقصود كالاستشفاء، و الاستكفاء بالآيات، و الإشارة الى سبب مخالفة القرآن لغيره في رسم الخطّ، و ما فيه من سجدات العزائم و غيرها و كيفيّة الإستخارة به.

و هذا أوان الشروع في الأبواب و من اللّه التّيسير و حسن المعونة في كلّ باب.

الباب الأوّل:

اشارة

في الإشارة إلى حقيقة العلم و أقسام العلوم و مراتبها و شرفها و محلّ علم التفسير منها و توقفه عليها عموما أو خصوصا و فيه فصول:

الفصل الأوّل

في تعريف العلم قيل: إنّه لا يحدّكما اختاره في التجريد و غيره، و حكى العلّامة (أعلى اللّه مقامه) عن أكثر المحقّقين أنّه غنيّ عن التعريف لأنّه من الكيفيّات النّفسانيّة الّتي يجدها كلّ عاقل كالفرح و الشبع و غيرهما «1» و قد يقال أنّه لا يمكن تحديده نظرا الى

______________________________

(1) قال العلامة في شرحه على التجريد في شرح قول المتن: (و لا يحدّ) أقول: اختلف العقلاء في العلم فقال قوم لا يحدّ لظهوره فإنّ الكيفيات الوجدانيّة لظهورها لا يمكن تحديدها لعدم انفكاكه عن تحديد الشي ء بالأخفى و العلم منها.

و قال صدر المتألّهين في الأسفار في الجزء الثالث في المرحلة العاشرة في الفصل الأوّل:

لا شي ء أعرف من العلم لأنّه حالة وجدانيّة نفسانيّة يجدها الحيّ العليم من ذاته ابتداء من غير لبس و لا اشتباه و ما هذا شأنه يتعذّر أن يعرف بما هو أجلى و أظهر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 129

أنّ غير العلم لا يعلم إلّا به فلو علم بغيره لدار «1» و هو مدفوع باختلاف الحيثيّة فإنّ غير العلم متوقّف عليه من جهة كونه إدراكا له و هو متوقّف على غيره من جهة كونه صفة مميّزة له عمّا سواه.

و أمّا ما يقال من أنّ المطلوب من حدّ العلم هو العلم بالعلم و ما عدى العلم ينكشف بالعلم لا بالعلم بالعلم فغير حاسم لمادّة الإشكال فإنّ العلم بالعلم من جزئيّات العلم أو من متعلّقاته و المطلوب من الحدّ معرفة ماهيّة العلم.

ثمّ المعرّفون قد اختلفوا في تعريفه فقد يقال: إنّه معرفة الشي ء

على ما هو عليه مع طمأنينة النّفس، أو أنّه صفة يحصل بها لنفس المتّصف بها التمييز بين حقايق المعاني الكلّية حصولا لا يتطرّق إليه احتمال، أو إنّه صورة مطابقة للمعلوم حاصلة في قوى النّفس، أو أنّه الإعتقاد المقتضى لسكون النّفس «2» أو انّه استبانة الحق، أو أنّه حضور إشراقيّ للمعلوم عند النفس المدركة، أو أنّه حصول صورة المعلوم في الذهن.

______________________________

(1) قال العلّامة في كشف المراد بعد قوله المذكور سابقا: و لان غير العلم انما يعلم بالعلم فلو علم العلم بغيره لزم الدور.

و قال الصدر بعد كلامه المذكور آنفا: و لان كل شي ء يظهر عند العقل بالعلم به فكيف يظهر العلم بشي ء غير العلم.

و قال السبزواري الحاج ملّا هادي في تعليقته على الأسفار ذيل هذا الدليل: و الحاصل أنه يلزم الدور و دفعه بأن ظهور غير العلم انما هو بوجود العلم لا بمفهومه فلا بأس بأن يتوقف ظهور مفهومه على مفهوم غيره.

(2) قال العلّامة في كشف المراد بعد نقل قول المنكرين لتحديد العلم: و قال آخرون: يحدّ، فقال بعضهم أنهم اعتقاد أن الشي ء كذا مع إعتقاد أنه لا يكون إلّا كذا و قال آخرون: إنّه إعتقاد يقتضي سكون النفس و كلاهما غير مانعين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 130

أو انّه إدراك جازم، أو أنّه نور شعشعاني يتجلّى به الأشياء، أو انّه كشف الحجب الغاسقة الّتي على النفس الإنسانيّة، أو انّه اتّحاد القوى الدرّاكة بالمعلوم، أو أنّه ما لا يعلم الشي ء إلّا به، أو أنّه الواسطة بين العالم و المعلوم، أو أنّه انطباع صورة الأشياء في مرايا النفوس، الى غير ذلك من التعاريف الكثيرة الّتي ليس في التعرض لها فضلا عن المناقشة فيها و دفع ما ربما يورد

أو يرد عليها شي ء من الفائدة بعد وضوح كون أمثال هذه المباحث فاقدة الفائدة، سيمّا بعد حصول معرفة إجماليّة مقنعة إن لم تكن أوّلا بالتأمّل في كلّ من هذه التعاريف فضلا عن جميعها مع أنّ كثيرا من مباحثهم في المقام مناقشات لفظيّة لا تسمن و لا تغني من جوع كما يظهر بالرجوع. بل و كذا حال مناقشاتهم المعنويّة الّتي منها الإيراد على تعريفه بالصورة الحاصلة في النفس المطابقة للمعلوم كما هو الموروث من الحكماء في تعريفه بلزوم اجتماع الضدّين فيها عند تصوّرها لهما و كون النّفس عند تصوّرها الحرارة و البياض و الاستقامة و الوحدة حارّة مبيّضة مستقيمة و كذا أضدادها بل و غيرها.

و بأنّا نتصوّر الأجسام الجسيمة العظيمة كالجبال و البراري و البحار و البلاد بل الكواكب و الأفلاك العظيمة على الوجه الجزئي المانع من الشركة فوجب أن يحصل تلك الأمور في القوى النفسانيّة الّتي ليست جسما و لا جسمانيّا، و في القوى الخياليّة الّتي لا حظّ لها من المقدار طبعا و انطباعا فضلا عن مثل هذه المقادير العظيمة.

و بأنّ جوهريّة الجوهر ذاتيّة فكيف تفارقه بحصوله في الذهن بل و كذا غيرها من المقولات المتباينة الذوات الّتي ترجع جميعها عند العلم بها الى قسم من الكيف.

و هم قد أجابوا عن الأوّل بأنّ المحال اجتماع المتناقضين بحسب الوجود

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 131

الخارجي لا الظلّي الذهني «1» مع أنّ من شروط التناقض اتّحاد الموضوع وحدة حسّية وضعيّة و وحدة القوّة العاقلة ليست وضعيّة تضيق عن المتقابلات بل عقليّة تجامعها كوحدة الطبائع النوعيّة و الجنسيّة فإنّها عقليّة لا تمنع اتّصافها بالفصول و المشخّصات المتقابلة.

و عن الثاني بأنّ الحارّة مثلا ما تقوم به الحرارة في الخارج أن

ما يمكن إدراك حرارتها بالمشاعر الظاهرة، و كذا الكلام في غيره، أو أنّه المتّصف بالحرارة لكنّها كيفيّة محسوسة.

و عن الثالث بأنّ القوّة الخياليّة لمّا لم تكن في نفسها مقدارا يجوز اتصافها بجميع المقادير و الكمّيّات.

و فيه أنّ فقدها للمقدار إن كان لعدم صلاحيّة اتّصافها به أصلا فكيف يتّصف بجميعها و إن كان لعدم فعليّة شي ء منها فبعد اتّصافها بالأوّل لا يتّصف بالثاني إلّا مع زوال الصورة الأولى مع إنّا نتصوّر في آن واحد مقادير عظيمة متخالفة الأوضاع و الأشكال و الجهات اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ للانطباق الحاصل في القوى النفسانيّة أحكاما مغايرة لأحكام الانطباق في الأجسام الكثيفة الخارجيّة و لذا حكى في المواقف «2».

______________________________

(1) قال الحكيم القدوسي نصير الدين الطوسي (قدس سره) في التجريد: و حلول المثال مغايرة و قال الشارح العلّامة في شرح كلام الماتن: أقول: هذا إشارة إلى كيفية حصول الصورة في العاقل و تقريره أنّ الحالّ في العاقل إنّما هو مثال المعقول و صورته لا ذاته و نفسه و لهذا جوّزنا حصول صورة الأضداد في النفس و لم نجوّز حصول الأضداد في الخارج فعلم أنّ حلول المثال و الصورة مغاير لحلول ذات الشي ء.

(2) المواقف في علم الكلام لعضد الدين عبد الرحمن المتوفى سنة 756 ق ألفه لغياث الدين وزير

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 132

و شرحه «1» عن الحكماء أنّهم قالوا: الصّور العقليّة تمتاز عن الخارجيّة بوجوه:

الأوّل: أنّها غير متمانعة في الحلول إذ يجوز حلولها معا في محلّ واحد بخلاف الخارجيّة فإنّ المتشكّل بشكل مخصوص مثلا يمتنع أن يتشكّل بشكل آخر مع بقاء الشكل الأوّل بل الصور العقليّة متعاونة في الحلول فإنّ النّفس إذا كانت خالية عن العلوم كان تصورّها لشي ء من

الحقائق عسرا جدّا، و إذا اتّصف ببعض العلوم زاد استعدادها للباقي و سهل انتقاشها.

الثاني: تحلّ الكبيرة من الصّور العقليّة في محلّ الصغيرة منها معا و لذا تقدر النفس على تخيّل السماوات و الأرض و الأمور الصغيرة معا بخلاف الصور المادّيّة فإنّ العظيمة منها لا تحلّ في محلّ الصغيرة مجتمعة معها.

الثالث: لا تنمحي الضعيف بالقويّ في العقليّة دون الخارجيّة.

الرابع: أنّ الصورة العقليّة إذا حصلت في العاقلة لا تجب زوالها و إذا زالت سهل استرجاعها من غير حاجة إلى تجشّم كسب جديد بخلاف الصورة، الخارجيّة فإنّها واجبة الزوال عن المادّة العنصريّة لإستحالة بقاء قواها أبدا و إذا زالت احتيج

______________________________

خدا بنده و هو كتاب اعتنى به الفضلاء و شرحوه بشروح و حواش و تعليقات كشرح السيد الشريف الجرجاني و شرح شمس الدين الكرماني المتوفى سنة 786 ق و شرح سيف الدين أحمد الأبهري- كشف الظنون ج 2-.

(1) أشهر شروح المواقف شرح ألّفه السيّد شريف علي بن محمّد الجرجاني المتوفى سنة 816 ق فرغ منه في أوائل شوال سنة 807 ق بسمرقند و كتب على شرح الشريف جماعة تعرّض كل منهم لحلّ مغلقاته مثل المولى حسن چلبي المتوفى سنة 886 ق و المولى أحمد بن سليمان المتوفى سنة 940 ق- كشف الظنون ج 2-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 133

في استرجاعها إلى مثل السبب الأوّل.

الخامس: أنّ الخارجيّة قد تكون محسوسة بالحواسّ الظّاهرة بخلاف العقليّة.

السادس: أنّ العقليّة كليّة بخلاف الخارجيّة.

أقول: و من جميع ما مرّ يظهر الجواب عن الرابع أيضا و لذا قال ابن سينا «1» و غيره ممّن اقتفى أثره: أنّ الجوهر و العرض متباينان في الوجود الخارجي، و أمّا في الوجود العلمي فالجوهر الموجود في النفس جوهر و

عرض معا لأنّ معنى الجوهر ما يكون وجوده الخارجي لا في موضوع، و هذا لا ينافي كون وجوده الذهني في موضوع، و هذا لا ينافي كون وجوده الذهني في موضوع هو الذهن، ثمّ لا يخفى أنّ الجواب المذكور بل أصل التعريف مبنيّ على أحد الأقوال في كيفيّة الإدراك و هو انطباع صورة المعلومات في النّفس فإنّ القوّة العاقلة كالمرآة المصقولة فمتى حصل بينها و بين المعقولات مقابلة انطبعت صورها فيها فيحصل إدراكها بواسطة استعداد

______________________________

(1) ابن سيناء هو الحسين بن عبد اللّه بن سيناء الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف في الطب و المنطق و الطبيعيات و الإلهيات، أصله من بلخ و مولده في إحدى قرى بخارى، نشأ و تعلم في بخارى و طاف البلاد و ناظر العلماء، و تقلد الوزارة في همدان، و ثار عليه عسكرها و نهبوا بيته فتوارى ثم صار الى اصفهان و صنف بها أكثر كتبه و عاد في أواخر أيامه إلى همذان فمرض في الطريق و مات سنة 447 ق. و دفن في همذان و على لوح قبره بيتان فيهما تاريخ ميلاده و وفاته و عمره بالفارسية:

373

حجة الحق أبو علي سينادر شجع آمد از عدم بوجود

391 427

در شصا كرد كسب جمله علوم در تكز كرد از اين جهان بدرود تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 134

القوّة بالأفكار المعدّة لذلك و هذا المذهب هو المحكي عن الأكثر بل قال صاحب المجلي «1» انّ الاتّفاق واقع على انطباع صور المعقولات في القوّة العاقلة على هيئة انطباع الصور المرئيّة في المرآة المحسوسة إلّا أنّ ما ينطبع في القوة العاقلة أقوى و أتمّ و أشمل لأنّه لا يزول عنها و لوصولها بذلك الانطباع الى معرفة ذاتياته و عوارضه

اللّازمة و الفارقة و كون المنطبع فيها صور المرئيّات و غيرها من المحسوسات بالحواسّ الخمس و المعقولات الّتي لها في الخارج ما يطابقها المسماّة بالمعقولات الأولى بل و ما لا يكون كذلك من المعقولات الثانية «2» بل و المعدومات و الممتنعات، بخلاف المرآة الحسّيّة، ثم بعد دعوى الاتّفاق حرّر نزاعا آخر قال:

و حينئذ يكون هناك ثلاثة أمور: نفس الصورة و قبول النفس لها بالانفعال، و النسبة الحاصلة بينهما من جهة الحال و المحلّ أعني الاتّصاف: فاسم العلم هل هو موضوع لنفس الصورة أو لذلك القبول و الانفعال أو لتلك النسبة و مجرّد الاتّصاف.

ثمّ حكى الأوّل عن محقّقي الفلاسفة و أكثر المنطقيّين و المتكلّمين حيث جعلوه نفس الصورة و ان تكلّموا في كيفيّة كون الصورة الشخصيّة القائمة بالقوّة العاقلة متعلّقة بالمعقولات الكلّية مع كونها جزئيّة متشخّصة.

و الثاني عن شذوذ من الحكماء حيث جعلوه نفس ذلك الانفعال، و لذا قالوا:

______________________________

(1) المجلي مرآت المنجي كتاب كلامي في أصول الإعتقاد بطريق العرفان تأليف ابن أبي جمهور الأحسائي شمس الدين محمّد بن زين الدين علي بن الفقهاء و المتكلمين و العرفاء و المحدّثين، ولد في الأحساء و تعلم من علمائها الفنون الأدبية و العلوم الرسميّة ثمّ ارتحل الى النجف و اشتغل بكسب الفضائل. و في العاقبة أقام في المشهد المقدّس الرضوي و ناظر مع أكبر علماء الهرات و غلبه و المناظرة مطبوعة في آخر كتاب نامه دانشوران ج 1 ص 733.

(2) ص 14 في المعقول الثاني اصطلاحان .. الى آخره ج ذكر في ذيل الصفحة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 135

إنّه قبول القوّة العاقلة للمعقول و انفعالها عنه و اتّحادها به نوعا من الاتّحاد كما هو المحكيّ عن ابن سيناء في

المبدأ و المعاد «1».

و الثالث عن بعض المتكلّمين الّذين جعلوه نفس النسبة و لذا عرّفوه بأنّه إضافة بين العالم و المعلوم فهو على الأوّل من مقولة الكيف لعرضية الصورة و احتياجها في القيام الى العاقلة و على الثاني من مقولة الانفعال، و على الثالث، من مقولة الإضافة.

أقول: و هذه الأقوال كلّها على فرض القول بارتسام صور المدركات في القوى، النفسانيّة و انطباعها فيها، و هذا القول «2» و إن ذهب إليه جمهور الحكماء و المتكلّمين إلّا أنّ الّذي يقتضيه التحقيق هو خلافه، و جملة الكلام في المقام أنّه قد اختصّ الإنسان بأنواع الإدراكات الأربعة الّتي هي الإحساس و التخيّل و التوهّم و التعقّل و المراد بالإحساس إدراك الشي ء الموجود في المادّة الحاضرة عند المدرك على هيئات مخصوصة من الأين و المتى و الوضع، و سائر المشخّصات، و التخيّل إدراكه مع الهيئات المذكورة في حالي حضوره و غيبته، و التوهّم إدراك لمعان غير محسوسة من الكيفيّات و الإضافات مخصوصة بالشي ء الجزئي الموجود في المادة،

______________________________

(1) المبدأ و المعاد كتاب نفيس من مصنّفات الشيخ الرئيس حسين بن عبد اللّه ابن سيناء في التوحيد و المعاد على طريق الحكمة المشائية.

(2) أشار الحاج السبزواري في منظومته الحكمية الى هذه الأقوال في العلم حيث قال: من تلك أن في جنسه أقوال كيف إضافة أو انفعال

فليدر بعد ما تشكّك علم أنّ هنا نقشا بعقلنا رسم

ففينا الانفعال من مرسوم له إضافة إلى المعلوم

فتخرج النسبة و الانفعال عمّا له علما و كيفا قالوا تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 136

و التعقّل إدراك الشي ء من حيث هو هو فقط لا من حيث هو شي ء آخر سواء أخذ وحده أو مع غيره من الصفات فهذه إدراكات مترتبة في

التجريد.

الأوّل: مشروط بثلاثة أشياء حضور المادّة، و اكتناف الهيئات، و كون المدرك جزئيّا.

و الثاني: تجرّد عن الشرط الأوّل.

و الثالث: عن الأوّلين.

و الرابع: عن الجميع على ما حقّقه المحقّق الطوسي طاب ثراه «1».

ثمّ إنّ إنّية الإدراك بأقسامه و إن كانت في غاية الوضوح و الظهور بحيث يقضي به الضرورة الوجدانيّة إلّا انّه قد صعب عليهم إدراك حقيقة و كيفيّته فاختلفوا فيه على أقوال:

أحدها: القول بالانطباع حسب ما مرّت إليه الإشارة، و استدلّوا له بأنّا إذا تصوّرنا شيئا فإمّا أن يحدث في أذهاننا أثر، أو لا يحدث شي ء بل حالنا قبل التصوّر و بعده سواء.

و الثاني: باطل بالضرورة الوجدانيّة، و على الأوّل فذلك الأمر الحاصل إن لم يكن مطابقا لذلك الشي ء لم يكن متصوّرا له و إن كان مطابقا له فهو إمّا عينه أو مثله،

______________________________

(1) في شرح الإشارات (ج 2 ص 323) قال و أنواع الإدراك أربعة إلخ و قال القطب الرازي في شرحه على الشرح: قوله (و أنواع الإدراك أربعة): إمّا جزئية مادية أو غير مادية أمّا الجزئيات المادية فإمّا محسوسة أو غير محسوسة. و المحسوسات إمّا أن يتوقّف إدراكها على حضورها و هو الإحساس أو لا يتوقف و هو التخيل و إدراك غير المحسوسات هو التوهم. و أمّا غير الجزئيات المادية فإمّا أن لا يكون جزئية بل كلية، أو تكون جزئيات غير مادية و أيا ما كان فإدراكها التعقل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 137

و الأوّل باطل إذ كثيرا ما نتصوّر أمورا لا وجود لها في العين مع أنّ الشي ء الواحد لا يكون موجودا في موضعين: خارج النّفس و داخلها.

فتعيّن أن يكون الموجود في النفس صورة مطابقة للموجود في الخارج و هو المطلوب.

و بأنّ حسن الإدراك

و الحفظ و ضدّهما تابعان للكيفيّات الأربعة الموجبة لسهولة التشكّل و عدمها و لذا قال الأنطاكي «1» في نزهته «2»: العلم حصول صورة المعلوم انتقاشا في قوى العقل و النفس المعبّر عنها بالذهن فهي كالمرآة و الانتقاش فيها كانطباع المرئيّات في تلك، فعليه قد يسهل النقش و زواله إذ أفرطت عليه الرطوبة أو يسهل الأوّل دون الثّاني إذا أفرطت الحرارة و العكس، فالمراتب أربعة ضرورة و هذه القاعدة أصل يتفرّع عليها الحفظ و النسيان و ما يغلب على الدماغ من الأخلاط و علاج ذلك.

أقول: و الوجهان ضعيفان.

أمّا الأوّل فلأنّ المراد بالأثر الحادث إن كان هو خصوص الصورة فنحن نمنع من حدوثها و الضّرورة الوجدانيّة غير قاضية بإثباته كيف و هو أوّل الكلام و إن كان المراد منه الأعمّ من انطباع الصورة و من مشاهدة ذي الصورة فدعوى الضّرورة، حينئذ و إن كانت في محلّها إلّا أنّه لا ينبغي التكلّم حينئذ في المطابقة

______________________________

(1) الأنطاكي هو داود بن عمر الطبيب نزيل القاهرة: صنف كتبا كثيرة في الطلب و توفي سنة 1008 ق.

(2) نزهة الأذهان في طب الأبدان للأنطاكي و هو مختصرة على مقدمة و سبعة فصول و خاتمة جمع فيها الأهم من قواعد الطب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 138

و عدمها بعد احتمال كون الأمر الحاصل هو المشاهدة الحضورية حسب ما تسمع، سلّمنا لكنّ المراد بالمطابقة حينئذ إنّما هي مطابقة الإدراك للمدرك لا الصّورة لديها.

و أمّا الثّاني فلأنّ لتلك الكيفيّات مدخلا تامّا في كلا الأمرين كما لا يخفى.

ثانيهما: ما ذهب إليه صدر المحققين ناسبا له إلى إلهام اللّه سبحانه و هو أنّ هذه الصورة المقداريّة لنا إنّما هي موجودة بإيجاد النّفس لها لا لقبول النّفس إيّاها و ليست

هي قائمة بالنّفس قيام الأعراض و الصّور لموضوعاتها، و موادّها بل قيام الأشياء الموجودة بمقيمها و فاعلها، و ذلك سرّ إلهي في النّفس حيث أبدعها اللّه تعالى مثالا له تعالى ذاتا و صفة و أفعالا. فللنّفس عالم جسماني مخصوص موجود في صقع من ذاتها و ليست النفس داخلة في عالمها و لا خارجة عنه و لها معيّة بكلّ جزء من أجزاء عالمها أين ما كان و يكون و حيثما كان و يكون شبه المعيّة القيّوميّة الواجبة بكلّ ذرّة من ذرّات السماوات و الأرضين من جهة أنّها ليست كمعيّة جسم بجسم و لا جوهر بجوهر و لا حال بحال و لا عكسه و لا معيّة حالّين بمحلّ واحد، و لا شي ء من سائر المعيّات بل معيّة قيوميّة وجوديّة يعجز عن دركها أكثر الأنام بل لا يدركها إلّا الفاضل الأوحديّ التامّ.

و قال في عرشيته «1»: إنّ الصور المقداريّة و الأشكال و هيئاتها كما تحصل من الفاعل لأجل استعداد الموادّ و مشاركة القوابل فهي قد تحصل أيضا بالإبداع بمجرّد تصوّرات المبادي و جهات الفاعليّة من غير مشاركة قابل و وصفه و استعداده، و من هذا القبيل وجود الأفلاك و الكواكب من تصوّرات المبادئ و الجهات الفاعليّة، و علمه

______________________________

(1) العرشية أو الحكمة العرشية كتاب حكمي في معرفة المبدأ و المعاد محتو على مشرقين، الأوّل في العلم باللّه و صفاته و أسمائه و آياته، و الثاني في علم المعاد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 139

تعالى بالنظام الأتمّ من غير سابقة قابليّة و استحقاق، و من هذا القبيل أيضا إنشاء الصّور الخياليّة القائمة لا في محلّ بمحض الإرادة من القوّة الخياليّة الّتي قد علمت أنّها مجرّدة من هذا العالم.

و هذا القول

و إن شارك القول الأوّل من حيث إثبات الصورة الذهنيّة، للمدركات إلّا أنّه يقابله و يضادّه من جهة ابتنائه على القول بالفعل دون الانفعال و هو و إن التجأ إلى ذلك القول فرارا عمّا ربّما يرد على القول بالصّور من الاعتراضات الكثيرة و حسبما تصدّوا لذكرها في محلّه إلّا أنّه لا يغني عنه شيئا من ذلك حسبما تسمع.

الفصل الثاني

في الإشارة الى أنواع العلوم و أصنافها اعلم أنّ مطلق العلم الّذي هو انكشاف الشي ء على ما هو عليه قد يسمّى حكمة و لذا عرّفوها بأنّها العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليها بحسب الطّاقة البشريّة الّتي لا إحاطة لها بالحقائق من حيث هي بل من حيث بعض الآثار و اللّوازم و المبادئ و الترتّبات و نحوها كما صرّح به غير واحد ممّن يظنّ رسوخهم في الحكمة المتعالية و هي تنقسم الى عقليّة و شرعيّة، و إن كان كلّها عقليّة شرعيّة كما أنّها تنقسم الى نظريّة و عمليّة، و إن كان كلّها نظريّة عمليّة، فالحكمة النظريّة الّتي يعبّر عنها بالعلوم العقليّة ما كان المقصود من معرفتها نفس تلك المعرفة قصدا أوّليّا و إن قصد بها العمل أيضا كمعرفة الواجب و العلم بحدوث النفس و بقائها و عودها فإنّ هذه العلوم مقصودة في أنفسها و إن ترتّب عليها التعبّد بالشرعيّات أيضا، و لذا

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 140

تراهم يعدّون الطبيعيّات و الرياضيّات من الحكمة النظريّة و إن ترتّب على كثير من مسائلها مزاولة الأعمال بل ربما تكون هي المقصودة منها، و من هنا قسّم كثير منهم الهندسة الى العلميّة و العمليّة، و كذا الطبّ و غيره كما أنّ الحكمة العمليّة ما يتعلّق بكيفيّة العمل فهو علم بشي ء يكون

المقصود إدخاله في الوجود أو منعه عنه كالعلم بالفضائل النفسانيّة و رذائلها بل و كذا العلم بالمسائل الفقهيّة فإنّه على الأصحّ عندي معدود من الحكمة العمليّة حسب ما تسمع.

و بالجملة فالعلوم إمّا عقليّة أو شرعيّة، و كلّ منهما إمّا نظريّة أو عمليّة، فالأقسام أربعة.

الأوّل: العقليّة النظريّة و تنقسم الى إلهيّة و رياضيّة و طبيعيّة لأنّها إن كانت متعلّقة بأمور مستغنية في نحوي الوجود العيني و الذهني عن المادّة و المدّة فهي الحكمة الإلهيّة تسمية لها بأشرف ما يبحث فيها عنه و لو على وجه التّنزيه و التقديس و إن كان يبحث فيها أيضا عن مبادئ الموجودات و عن الأكوان الجبروتيّة و الملكوتيّة من العقل و النفس و الرّوح و غيرها من المجرّدات العالية عن الموادّ الخالية عن القوّة و الاستعداد و إن كان شي ء منها ليس مجرّدا على سبيل الإطلاق لأنّ كلّ ممكن زوج تركيبي، و عن الأمور العامّة الّتي هي الوجود و الماهيّة، و العلّة و المعلول و الكلّي و الجزئي، و الوحدة و الكثرة، و غيرها، و عن الصفات الجلاليّة و الجماليّة من الذاتيّة و الفعليّة مع التنزيه التّام من التّشبيه و التعطيل، و انثلام الوحدة و تعدد القدماء، و غير ذلك من المفاسد الّتي منها الفاعليّة بالعليّة و الإيجاب بإثبات العقول العشرة و نحوها، و عن خصوص العدل الّذى تفرّدت به العدليّة، و عن أحوال النفس بعد مفارقة البدن و بقائها و تنعّمها و عودها، و غير ذلك ممّا يتبعها فهذه هي الفنون الستّة الّتي للعلم الإلهي، و زاد أهل الإسلام على ما دوّنه الفلاسفة فنّا سابعا و هو مباحث

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 141

الحسن و القبح و شكر المنعم و

حسن التكليف، و وجوب اللّطف و بعث الأنبياء، و غير ذلك ممّا يتعلّق بمباحث النبوّة، قيل: و أوّل من زاده الشّيخ ابن سيناء، و أهل الإيمان ثامنا و هو بحث الإمامة و ضرورة الحجّة، و عدم خلوّ الأرض منها لحظة.

قال الأنطاكي: و أوّل من أدخله ابن نوبخت من الشيعة الإماميّة في الياقوت «1» ثمّ تبعهم أهل السنّة و توسّعوا فيه و ضمّوا إليه مباحث التصوّف و الأرزاق و الآجال و غيرها. فهذه الفنون الثمانية من أصول الحكمة الإلهيّة و إن كان قد يعدّ بعضها من الفروع كما أنّه قد يعدّ الكلّ فنّا واحدا لانفراده بالتصنيف الّذي لا عبرة به، و لذا قد تداول بين المتأخّرين منهم ضمّ الطبيعيّ معها بل و المنطق و ربما يعدّ من فروعها علوم أخر كعلم الأعداد و الحساب و السحر و التّسخير و غيرها ممّا هو أليق بغيرها و إن كان بعضها من العلوم المركّبة المتولّدة من الفنّين نعم قد يقال: إنّ الحقّ إدخال المنطق في الحكمة و جعلها من أقسام النظريّة كما فعله الشّيخ الرئيس كيف و لو اختصّ موضوع الحكمة بالموجودات العينيّة لخرج منها العلم بتقاسيم الوجود من الأمور العامّة.

______________________________

(1) ابن نوبخت هو إبراهيم بن إسحاق بن أبي سهل من أكابر المتكلّمين و من عظماء الشيعة الإماميّة في أواسط القرن الرّابع له كتب منيفة منها كتابه «الياقوت» في علم الكلام و هو كتاب نفيس من أقدم كتب الكلامية و مورد لتوّجه الأعلام حتّى شرحوه بشروح منها كتاب «أنوار الملكوت» في شرح الياقوت للعلّامة الحلّي- قدّس سرّه قال في ديباجة هذا الشرح: كتاب «الياقوت» حاو لأشرف المسائل الكلاميّة و جامع لأسنى مباحثها، و شرح السيد عميد الدين ابن أخت

العلّامة كتاب خاله المعظّم: «أنوار الملكوت» و حاكم بين الماتن و الشارح.

و لا يخفى أنّ نسبة كتاب «الياقوت» الى إسماعيل بن إسحاق النوبختي كما عن رياض العلماء و كتاب الشيعة و فنون الإسلام خطاء- ريحانة الأدب ج 4 ص 240-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 142

و أمّا ما أجيب عنه من أنّ الأمور العامّة هناك ليست موضوعات بل محمولات تثبت للأعيان فلا يخلو من تكلّف مستغنى عنه، و كذا في جعلها المشتقّات دون المبادي إذا لا فرق بين الموجود بما هو موجود و الوجود و الممكن بما هو ممكن و الإمكان كما نصّ عليه الشّيخ في الشّفاء «1» و على هذا فيحتمل كونه من العلوم الإلهيّة أو الرياضيّة أو من مبادئ الأولى خاصّة أو مطلق الحكمة النظرية، و إن كانت متعلقة بالأمور المجرّدة عن المادّة في الذهن خاصّة فهو العلم الرّياضي الّذي كانت العلماء يرتاضون به نفوسهم حيث يقدّمون شيئا منه في تعاليمهم على سائر العلوم حتّى المنطق تقويما لأفكار المتعلّمين، و تأنيسا لطبايعهم بالبراهين كيلا يقبلوا شيئا من المطالب حتى يبلغ درجة الضرورة أو اليقين، و لذا سمّي تعليميا أيضا لأنّه يبحث في أكثر فنونه عن الأجسام و السطوح و الخطوط التعليميّة لأنّ المنشأ في تسميتها أيضا هو الأوّل، و يسمّى بالعلم الأوسط لتوسّطه بين الإلهي الأعلى، و الطّبيعي الأدنى و إن كان ربما يقدّم عليه الطبيعي لوجوه ضعيفة نشير إليها إن شاء اللّه و أصوله أربعة:

أحدها: جو مطريا المفسّرة بالهندسة لأنّها بمعنى الأربعة الّتي هي الموضوع في هذا الفن أعني الجسم التعليمي الّذي هو الكميّة السارية في الأبعاد الثلاثة و نهايته

______________________________

(1) الشّفاء في المنطق قيل هو من ثمانية عشر مجلدا و شرحه أبو

عبد اللّه محمّد بن أحمد الأديب التيجاني صاحب «تحفة العروس» و اختصره شمس الدين الخسروشاهي التبريزي المتوفى سنة 652 ق.

كتب الشيخ أبو سعيد أبو الخير معرّضا لابن سيناء: قطعنا الأخوّة عن معشربهم مرض من كتاب الشفا

فماتوا على دين رسطالس و عشنا على سنّة المصطفى تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 143

الّتي هي السطح المنقسم في جهتين و نهايته الّتي هي الخطّ المنقسم في جهتين و نهايته الّتي هي النقطة، و لا تنقسم أصلا، و هذه الثلاثة هي الأصل لما يبحث منه في هذا العلم من الخطوط و الدوائر و الأشكال المسطّحة و المجسّمة و الزوايا و النسبة الكلّية بين المقادير كما تصدّى لأصولها «أقليدس» الصوري في كتابه «1» و حرّره النحرير في التحرير «2» و من جزئياتها علم الأكر الساكنة و المتحركة و المخروطات و الزّوايا و غيرها «3» ممّا أفردها بالتصنيف ثاوذوسيوس «4»

______________________________

(1) أقليدس بضم الهمزة و كسر الدال و بالعكس لفظ يونانيّ مركّب من أقلي بمعنى المفتاح و دس بمعنى المقدار اسم كتاب في الهندسة ألّفه رجل يقال له ابلونيوس النجار و رسمه خمسة عشر قولا من كل وارد عليه فأخبره بعضهم بأنّ في بلدة صور رجلا مبرزا في الهندسة و الحساب يقال له: أقليدس فطلبه و التمس منه تهذيب الكتب و ترتيبه فرتّبه و هذّبه فاشتهر باسمه بحيث إذا قيل كتاب أقليدس يفهم منه هذا الكتاب. ثم نقل الكتاب من اليونانية الى العربية جماعة منهم حجاج بن يوسف الكوفي فإنّه نقله نقلين: أحدهما يعرف بالهاروني و الآخر بالمأموني و منهم حنين بن إسحاق المطبب المتوفى سنة 260 ق، و منهم أبو الحسن ثابت بن قرة الحرّاني المتوفى سنة 288 ق، و منهم أبو

عثمان الدمشقي.

(2) أخذ كثير من العلماء في تحرير كتاب أقليدس متصرّفين فيه إيجازا و ضبطا و إيضاحا و بسطا و الأشهر ممّا حرّروه تحرير العلّامة النحرير المحقق نصير الدين الطوسي فإنّه حرّره بتحرير موجز غير مخلّ و أضاف إليه ما يليق به ممّا استفاد و استنبط و ذكر أنّه حرّره بعد تحرير المجسطي و إنّ الكتاب يشتمل على خمس عشرة مقالا و أربعمائة و ثمانية و ستون شكلا في نسخة الحجّاج و بزيادة عشرة أشكال في نسخة ثابت- كشف الظنون-.

(3) علم الأكر علم يبحث فيه عن الأحوال العارضة للكرة من حيث إنّها كرة من غير نظر إلى كونها بسيطة أو مركبة عنصرية أو فلكية و فيه كتب للأوائل و الأواخر منها ما يأتي.

(4) ثاوذوسيوس مهندس يوناني و كتابه في علم الأكر من أجلّ الكتب المتوسطات بين أقليدس و المجسطي و هو ثلاث مقالات مشتملة على تسعة و خمسين شكلا و عرّب من اليونانية بأمر

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 144

و اوطولوقس «5» و ابن الهيثم «6» و غيرهم من أصحاب الصناعة.

و فرّعوا عليه كثيرا من العلوم أيضا كعلم مركز الأثقال الّذي استنبطوا منه الموازين، و القبّان، و غيرها، و علم مساحة الدّوائر و السّطوح و الأجسام الكروية و المخروطة و المكعّبة و غيرها، و علم استنباط الماء و إجراء القنوات و معرفة ارتفاع المرتفعات و غيرها و علم الأسطرلاب «7» الّذي يستعمل منه كثير من أحوال الفلكيات و العنصريّات و الزمانيّات، و علم الرّبع المجيّب الّذي مبناه على أخذ الظلال و الجيوب المستوية و المعكوسة، و يعلم به أكثر ما يعلم بالأسطرلاب، و علم الدوائر و الخطوط المرسومة على سطوح الرخامات، و علم وضع الآلات المفيدة

للمطلوب لا من جهة التناسب، و لا من محاكات وضع من أوضاع الفلك كالأسطوانة و الحلزون و الحافر و ساق الجرادة و الميزان الغزاري، و علم عمل الساعات المستوية

______________________________

المستعين باللّه العبّاسي و تولّى نقله الى العربية قسطا بن لوقا البعلبكي في حدود سنة خمسين و مائتين ثم حرّره العلّامة نصير الدين الطوسي و غيره- كشف الظنون-.

(5) اوطولوقس مهندس فاضل يوناني و كتابه في علم الأكر معروف بالأكر المتحركة و قد عرّبوه في زمن المأمون ثم أصلحه يعقوب بن إسحاق الكندي.

(6) ابن الهيثم محمّد بن الحسن بن الهيثم أبو عليّ الفيلسوف البصري كان عالما بالرياضيات و الطب و الفلسفة انتقل الى مصر و توفّي بها في حدود سنة 430 ق و صنف في الهندسة و علم الأكر و الطبّ و الفلسفة كتبا كثيرة- هدية العارفين ج 6 ص 66-.

(7) علم الأسطرلاب علم يبحث فيه عن كيفيّة استعمال آلة معهودة يتوصل بها الى معرفة كثير من الأمور النجومية على أسهل طرق و هو من فروع علم الهيئة و كلمته يونانية و معناها ميزان الشمس و يقال له أيضا اصطرلافون و اصطر هو النجم و لافون هو المرآة و قيل أوّل من وضعه لاب بن إدريس فلما وصلت الآلة التي صنعها إلى إدريس قال من سطره قيل له سطره لاب و قيل فارسي أصله استاره ياب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 145

و المعوجّة في السطوح الموازية لدائرة الأفق أو لنصف النّهار أو للمعدّل أو لأوّل السّماوات أو لغيرها من دوائر السماوات و غيرها، و علم وضع الآلات الجيبيّة و الكروية و الحادثة عن تسطيح الكرة، و علم وضع الآلات الرصدية كذات الحلق و ذات الثقبتين و ذات الشعبتين و

غيرها، و علم المناظر المتعلّق بالنظر من غير التفات الى الأشعّة، و علم المرايا و المحرقة و المتعلّق بالأشعّة من حيث الانعكاس الى غير ذلك من العلوم الكثيرة، الّتي يستعملها صنّاع الإفرنج، و غيرهم في صنائعهم العجيبة المبتنية على ملاحظة الحدود و المقادير، و النسب الهندسيّة بل المتأمّل في صنائع الناس و حرفهم يجد جلّها بل كلّها مبتنية على القواعد المنتهية الى هذا العلم، بل صنائع أكثر حيوانات العجم من الطيور و غيرها مبنيّة عليه و من أظهرها الهام النحل لبناء البيوت المسدّسة من غير استعانة بالمسطر و الفرجار «1» و غيرهما من الآلات و الأدوات.

و ذلك انّ البيوت المسدّسة جامعة لخاصيّتين لا يجتمعان معا في غيرها من الأشكال و هما امتلاء الفضاء بها و عدم ضيق الزوايا فتبقى معطّلة، و ذلك ان الأشكال المتماثلة إذا ضمّ بعضها الى بعض فمنها ما لا تملأ العرصة كالمسبّع و المثمّن فصاعدا، و منها ما تملأ العرصة لاتّصال بعضها ببعض إلّا انّ زواياه ضيّقة جدّا فتبقى معطّلة كالمثلّث و المربّع، و أمّا المسدّس فزواياها واسعة لا تتعطّل و إذا ضمّ بعضها الى بعض لا تبقى بينها فرجة زائدة فهي الجامعة لكلتا الخاصيّتين.

و بالجملة فهذه العلوم الإثنى عشر من فروع الهندسة و إن كانت جزئيّاتها لا يمكن استقصائها و جلّها نافعة في جلّ العلوم لو لم ينفع الكلّ في الكلّ سيمّا الفلسفة

______________________________

(1) الفرجار بكسر الفاء و سكون الراء البركار و الكلمة فارسيّ معرّب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 146

و لذا كان أفلاطون الإلهي «1» يقول لا يدخل بيوتنا من لا يعرف الهندسة.

ثانيها: اسطرنوميا و هو علم النجوم و الهيئة الباحث عن الأجرام المسيطة الفلكيّة، و بعض العناصر من حيث الكم

و الكيف و الجهة و الوضع و الحركة بأقسامها و السكون، و هذا العلم و إن عدّ من فنون الرياضي قسيما للهندسة إلّا أنّ الأظهر كما حقّقناه في «اللوامع النورية» أنّ الهيئة المسطّحة من فنون الهندسة أو من مطلق الرياضي على وجه كما تصدّى له فاضل الصناعة بطلميوس «2» و أمّا المجسّمة الّتي فرضوا فيها الخطوط و الدوائر في الأجسام فوردت عليهم إشكالات لا تنحلّ إلّا بتكلّفات ربما يقطع بفسادها فالظاهر انّها من العلوم المتولّدة من الرياضي و الطبيعيّ، و بالجملة فممّا يتفرّع على هذا العلم علم معرفة التواريخ و الحصص، الزمانية و انقسام الشهور و السنين إلى الشمسيّة و القمرية و الحقيقيّة و الصناعيّة، و فيه مداخل سني التوارخ و شهورها و كبائسها و استخراج بعضها من بعض- و الأيّام المشهورة في كلّ منها، و علم الزيج الذي يستخرج منه تقاويم الكواكب في كلّ وقت و نظراتها و تحاويلها و عروضها و أطوالها، و غير ذلك ممّا جرت العادة بإثباتها في صفحات التقويم، و علم الأحكام الباحث على وجه الظن و التخمين لا التحقيق و اليقين كما صرّحوا به عن الأحكام المترتّبة على وجه التجربة أو القياس

______________________________

(1) أفلاطون الحكيم تلميذ سقراط و أستاذ أرسطاطاليس ولد في جزيرة بيونان سنة 430 قبل الميلاد و مات قبل ميلاد المسيح سنة 348 و أفلاطون الالهي يقال له في مقابل أفلاطون الطبيب و هو غيره و سابق عليه.

(2) بطلميوس من علماء الهيئة و التاريخ و الجغرافية و القائل بأنّ الأرض ساكنة و أنّ الفلك يدور حولها. ولد في صعيد مصر و توفى قرب الاسكندرية سنة 167 من الميلاد و أشهر مؤلفاته المجسطي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 147

على

تلك النظرات و التناظرات و الحدود و الوجوه الاشراف و البيوت و السّهام و الطوالع و أوتاد الزوائج و المستولى عليه و الكدخدا و الهيلاج و التيسيرات و التحويلات و القواطع، و ما يستدلّ بها عليه من السعادات و الأرزاق و الاعمار و غيرها و منه يستخرج أحكام طوالع السنين و المواليد و الاجتماع و الاستقبال و التحويل، و السؤال حسب ما فصّلوها في كتب الأحكام الّتي هي أشبه شي ء بأضغاث الأحلام و لذا ورد في الشريعة الحقّة النبويّة المصطفوية- على صادعها و آله آلاف الف سلام، و تحيّة- المنع عن تعلّم النجوم و الاعتقاد بتأثيرها حتى

ورد «إنّ المنجم كالكاهن و الكاهن كالسّاحر، و السّاحر كالكافر و الكافر في الّنار «1»».

نعم قد حمل ذلك على من يزعم استقلالها بالتأثير و قدمها كما يظهر من خبر الإحتجاج «2» و غيره و لذا قال الصدوق بعد ذكر الخبر إنّ المنجم الملعون، هو

______________________________

(1)

في نهج البلاغة- كلام 77- و من كلام له عليه السّلام قاله لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج فقال له: يا أمير المؤمنين إنّ سرت في هذا الوقت خشيت ان لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم فقال عليه السّلام: أ تزعم أنّك تهدي إلى الساعة الّتي من سار فيها صرف عنه السوء؟ و تخوّف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضّر؟ فمن صدّق بهذا فقد كذّب القرآن و استغنى عن الاعانة باللّه في نيل المحبوب و دفع المكروه و تبتغي في قولك للعامل بأمرك إن يوليك الحمد دون ربّه لانّك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع و امن الضّر ثم اقبل عليه السّلام على الناس فقال: أيها

الناس إيّاكم و تعّلم النجوم إلّا ما يهتدى به في بر أو بحر فانها تدعو إلى الكهانة و المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر كالكافر و الكافر في النار، سيروا على اسم اللّه.

(2) الاحتجاج على أهل اللجاج كتاب في احتجاجات المعصومين عليهم السّلام تأليف أبو منصور أحمد بن عليّ الطبرسي المتوفى 622 ق و يمكن أن يكون المراد من خبر الاحتجاج خبرا طويلا و

فيه انه سأل الزنديق عن الصادق عليه السلام ما تقول في علم النجوم؟ قال عليه تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 148

«3» الذي يقول بقدم الفلك و لا يقول بمفلكه و خالقه- عزّ و جلّ-.

و منه يظهر وجه الجمع بين نوع هذه الأخبار على كثرتها و الأخبار الكثيرة الدالّة على

أنّ له أصلا و انّه كان علم نبيّ من الأنبياء و أنّه علم بنبوّة نوح بالنجوم، و إيّاكم و الّتكذيب بالنجوم فإنّه علم من علوم النبوّة، و أنّ من اقتبس علما من علم النجوم من حملة القرآن إزداد به إيمانا و يقينا ثمّ تلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ «4».

و أنّ مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام كان اعلم الّناس به، و أنّه لا يعلمها إلّا أهل بيت من العرب و أهل بيت من الهند.

و زاد ابن طاووس «5» في آخر الخبر و أولاد وصىّ إدريس

و لعلّ المراد به

______________________________

السلام: هو علم قلّت منافعه و كثرت مضارّه لأنّه لا يدفع به المقدور و لا يتقى به المحذور. إنّ خبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء إلخ.

(3) الصدوق هو محمّد بن عليّ بن حسين بن بابويه القمي شيخ جليل قيل ولد بدعاء صاحب الزمان عجل اللّه فرجه و

صنف كتبا مفيدة كمن لا يحضره الفقيه و الامالي و العيون و غيرها و توفى سنة 381.

(4) آل عمران: 190.

(5) ابن طاووس هو عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن احمد رضى الدين الطاوسي الحسيني نقيب الطالبين ببغداد ولد سنة 589 ق و توفى سنة 664 ق له مصنفات جليلة منها فرج الهموم بمعرفة منهج الحلال و الحرام من علم النجوم و جوّز في هذا الكتاب تعليم علم النجوم و تعلمه و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد إنها مؤثرة و أنكر على السيد المرتضى في تحريمه و حمل أخبار النهى على ما إذا اعتقد الإنسان إنها مؤثرة بالاستقلال ثم ذكر رحمه اللّه تأييدا لما رامه أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفن به كحسن بن موسى النوبختي و احمد بن محمّد بن خالد البرقي، و ابن أبي عمير، و العياشي، و المسعودي، و الفضل بن سهل، وزير المأمون و أخيه حسن بن سهل، و بوران بنت الحسن بن سهل، و عضد الدولة، و الشيخ محمود بن عليّ الحمصي

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 149

أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما أنّهم المراد بالأول قطعا إلى غير ذلك من الأخبار الّتي تأتي الإشارة إليها، و إلى ما يعارضها، و تحقيق الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ «1» و غيرها من الآيات بل يستفاد من الأخبار و من صحيح الاعتبار انّه يترتّب عليها جملة من الآثار كما يترتّب الإحراق على النّار و ذلك بإفاضة القادر المختار و انّ خطأ الأحكاميّين إنّما هو لعدم اطلاعهم على تمام تلك القواعد مع اختلاط ما بأيديهم منها بما اختلقوها بأذهانهم

القاصرة على انّ تحقّق التأثير و فعليّة الأثر موقوف على الانفعال و القابليّة كتوقّفه على الاقتضاء و الفاعليّة و لذا قال بطلميوس في ثمرته «2» في أحكام علم النجوم منك و منها يريد الاشارة إلى القابل و الفاعل لكن على وجه يقول به الموحّدون كما انّ إحراق النار موقوف على قابليّة المحلّ «3».

و علم مقادير أجرام الفلكيّة من الأفلاك و الكواكب بعض العنصريّة و معرفة أبعادها من مراكز العلم، و نسبة أبعاد بعضها ببعض على ما استخرجوه بالأصول

______________________________

و غيرهم.

(1) صافات آية: 88.

(2) الثمرة في أحكام النجوم لبطلميوس و اسمها بالرومية انطرومطا أي مائة كلمة و هي تمام الكتب الأربعة التي الفها لسورس تلميذه يعني ثمرة تلك الكتب و لها شروح منها شرح أبو يوسيف الاقليدسي و شرح أبي محمّد الشيباني و شرح أبي سعيد الثمالي و شرح ابن الطيب السرخسي و منها شرح العلامة نصير الدين الطوسي و هو شرح مفيد بالفارسية ألفه لصاحب ديوان محمّد بن شمس الدين- كشف الظنون-.

(3) و من أراد التفصيل في المبحث فعليه ببحار الأنوار ج 48 ص 145 و ج 57 ص 338 و ج 58 ص 84 إلى ص 308.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 150

تفسير الصراط المستقيم ج 1 199

الهندسيّة سيمّا بطلميوس بعد مشاهدة بعض الاختلافات الّتي من جملتها مشاهدة تلك الأجرام في بعدي الأقرب و الأبعد، و بعض الكسوفات و الخسوفات الواقعة في زمنه و في عهد أبي حسن «1» و غيره. و لذا يحكى في الحكمة القديمة على نوع من الرمز أنّ بطلميوس كان يعشق علم النجوم فجعل علم الكسوف سلّما يصعد به إلى الفلك بقّوته الروحانيّة فمسح الأفلاك و أبعادها بجملتها و الكواكب

باعظامها ثمّ دوّنه في المجسطي، و جعلوا معيارهم نصف قطر الأرض المعلوم بمقايسة المحيط المستعلم بمحاذات الدرجات الفلكيّة الّتي حصّة كلّ درجة من العظيمة الأرضيّة ستّة و ستّون و ثلثا ميل و بالرصد المأموني «2» الّذي قيل: إنّه صحيح ممتحن أنقص منه بعشرة أميال و عند حكماء الأندلس على ما اعتبروها بمقايساتهم الصحيحة تسعة و ستون ميلا و ثلث خمس.

و علم جغرافيا بأعجام الأوّلين و هو في الأصل كتاب لبطلميوس صنّفه بعد المجسطي في صور الأقاليم و البحار أو في خصوص الثاني غلب على هذا العلم الّذي يبحث فيه عن القدر المكشوف من الأرض و كيفيّة إحاطة الماء بها و صور البحار المحيطة و المحاطة و الخليجات و الأنهار و عروضها و أطوالها و بعض الجزائر الواقعة فيها، و تقسيم بسايط الأرض عند القدماء إلى الأقاليم الواقعة في الربع الشمالي الّذي

______________________________

(1) ابو حسن كوشيار بن لبان بن باشهري الجيلي بالياء المثناة أو الجبلي بالباء الوحدة من جملة المنجمين الكبار سكن بغداد و مات في حدود 450. صنف من الكتب الزيج الجامع. الكيافي النجوم. اللامع في الزيج الجامع. مجمل الأصول في احكام النوم هدية العارفين ج 1 ص 838.

(2) أمر المأمون العباسي في سنة 214 ه العلماء أن يصنعوا الآلات الرصدية كما صنعها بطلميوس فامتثلوا امر الخليفة و اشتغلوا بها ثم قطع بهم من استيفاء غرضهم موت الخليفة في 218 فقيد و ما انتهوا إليه و سموه الرصد المأموني.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 151

هو المعمور منها إذ غيرها أمّا مغمور في الماء أو غير مسكون بزعمهم أصلا و مبدئه عند جمهورهم من خطّ الاستواء أو من حيث نهاره الأطول اثنتا عشرة ساعة و نصف و

ربع و عرضه اثنتا عشرة درجة و ثلثا درجة و قسمة كلّ إقليم من جهة العرض ما يوجب التفاضل نصف ساعة في مقادير النهر الطوال في أوساط الأقاليم، و لذا اختلفت مقاديرها عرضا مع وقوع الجميع بين ما يجاوز عشر درجات في العرض إلى حدود خمسين كما اختلفت طولا لزيادته فيما يلي خطّ الاستواء على ما يقتضيه النظر التعليمي و عند المتأخّرين من حكماء الإفرنج و غيرهم بعد ما ظفروا في أوائل المائة العاشرة من التاريخ الهجري على الأرض الجديدة المسماّة عندهم بأمريكا الجنوبيّة الّتي لم يظفر عليها قبل الكلمب أحد إلى أقسام اربعة:

أحدها: ممالك يورپ (أوربا) المحدودة من جهة الشمال بالمحيط- المنجمد طول السنة لشدّة البرودة، و من الجنوب ببحر الروم الفاصل بينه و بين الإفريقيّة، و من المشرق بممالك آسيا، و من المغرب بالمحيط الفاصل بينه و بين آمريكا، و في هذا القسم بعض بلاد الّروم كقسطنطنيّة و غيرها، و تمام بلاد الافرنج الّتي فيها دول كثيرة أغلبهم جمهورية، و أمرهم شورى بينهم بل قد رأيت في بعض مسفوراتهم أنّ فيهم في هذه السنين أزيد من أربعين دولة جزئية و كليّة كلّها مستقلّة أعظمها بأسا و بطشا و عدّة مملكة الروس حتّى قيل: إنّ طول مملكهم قريب من ألفي فرسخ و عرضها ثمانمائة و خمسون فرسخا.

ثانيها: ممالك آسيا المحدودة شمالا بالمحيط المنجمد أيضا و جنوبا ببحر الهند و شرقا بالمحيط و غربا بممالك يورپ، و فيها ممالك إيران و توران و الترك و الهند و الشام و الصين و الخطاء و بعض ممالك الروس و غيرها.

ثالثها: الإفريقيّة المحدودة شمالا ببحر الروم الفاصل بينها و بين يورپ

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 152

و جنوبا

بالمحيط، و غربا بالمحيط الفاصل بينه و بين القسم الثاني، و شرقا بالمحيط الفاصل بينها و بين ممالك آمريكا و يورپ، و فيها مصر و بلاد السودان و تمام بلاد المغرب.

رابعها: ممالك آمريكا الجنوبيّة الخارجة عن الربع المكشوف المحدودة شرقا بالمحيط الفاصل بينها و بين الإفريقيّة و يورپ، و غربا بالمحيط الفاصل بينها و بين آسيا، جنوبا بالمحيط المنجمد دائما من شدّة البرد، قيل: ساروا في شمالها إلى ثمانين درجة حتّى و صلوا إلى موضع تنجمد فيه رطوبات أبدان الحيوان فضلا عن غيرها من الرطوبات بل قيل: انّه تنجمد فيه النار و ان اجتهدوا في اشتعالها و ذلك لشدّة البرودة و حيث أن عرضها قريب من ثمانين درجة فوسعتها قريبة من تمام هذه المعمورة الّتي قسّموها إلى الأقاليم السبعة، و لذا قيل: أنّهم رصدوها وجدوها كذلك، و مجمل أحوالهم و أديانهم و شمائلهم و أخلاقهم و كيفيّة الاستيلاء عليهم في مسفورات غيرنا مسطور و على ألسنتهم مشهور و بعضها في تحفة العالم «1» مذكور بل فيها أنّ وفور النّعمة و انتظام السلطنة و كثرة العدّة و العدّة و البلاد العامرة في ذلك الربع الجنوبي أزيد منها في هذا الربع الشمالي سيّما في هذه الازمنة إلى غير ذلك ممّا يظهر منه عظمة خلقه- سبحانه في أرضه و سمائه و أن الأرض برحبها و سعتها الّتي سمعت شطرا منها لا قدر لها محسوسا في جنب السماء الاولى فضلا عن غيرها.

______________________________

(1) تحفة العالم كتاب عجيب في جغرافيا العمومي سيما جغرافيا خوزستان و التستر تأليف السيد عبد اللطيف التستري ولد في التستر سنة 1172 ه طبع تحفة العالم في بمبئى إلى الآن ثلاث مرات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 153

بل

لعلّك قد سمعت ما

في خبر زينب العطارة «1» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أنّ كلّ طبقة من الأرضين السّبع و السموات بما فيها بالنسبة إلى ما فوقها كحلقة ملقاة في فلاة قيّ «2».

فضلا عن غيرها من العرش و الكرسي و السرادقات و الحجب فسبحانه من مدبّر حكيم، ربّ العرش العظيم.

ثالثها: الأرثماطيقي المفسّر بالعدد للبحث فيه عن من حيث أقسامه و أحكامه و آثاره و خواصه و تناسبه، و غير ذلك ممّا يتعلّق به من حيث إنّه عدد مطلق مع قطع النظر عن حصوله في المادة و من فروعه علم الحساب الّذي يستخرج به كميّات المقادير المجهولة من الأعداد المعلومة الّتي لا ريب في احتياجها إلى المادّة في التحقّق دون التعقل و لذا أعدّ من الرياضي، و إن تأمل فيه الشيخ في الشفا نظرا إلى أنّ المحاسب يبحث عن العدد المفارق للمادّة في الخارج أيضا لعروضه المجّردات أيضا كالعقول و النفوس و ذات الواجب تعالى إن قلنا إنّ الواحد عدد «3» و أجيب بأنّ

______________________________

(1)

الخبر بطوله مروي في توحيد الصدوق رواه مسندا عن الصادق عليه السلام أنّه قال: جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء رسول اللّه و بناته و كانت تبيع منهن العطر فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هي عندهن فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا أتيتنا طابت بيوتنا فقالت بيوتك بريحك أطيب يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا بعت فاحسني و لا تغشي فانه أتقى و أبقى للمال فقالت ما جئت لشي ء من بيعي و انما جئتك أسئلك عن عظمة اللّه قال: صلّى اللّه عليه

و آله و سلم جل جلال اللّه سأحدثك عن بعض ذلك ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّ هذه الأرض بمن فيها و من عليها عند التي تحتها كحلقة ملقاة في فلاة قيّ إلخ. رواه المجلسي في البحار ج 6 ص 83 عن التوحيد.

(2) الفلاة هي المغازة و القيّ بكسر القاف و تشديد الياء الأرض القفر الخالية.

(3) اختلفوا في أن الواحد عدد أم لا بعد تعريفهم العدد بأنه نصف مجموع حاشيتيه كالاثنين مثلا فان حاشية الأعلى ثلاث و حاشيته الأسفل واحد و الاثنان نصف مجموع هاتين الحاشيتين فعلى

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 154

موضوع الحساب ليس العدد مطلقا بل من حيث حصوله في المادّة و البحث عن العدد ليس على وجه تشمل المجردات لعدم تعلّق الغرض به و تمام البحث في هذا الباب يطلب من شرحنا على «خلاصة الحساب».

نعم من غرائب الأوهام في المقام ما قيل: من أنّه قد تقرّر أنّ مراتب الأعداد غير موجودة في الخارج فلا يظهر وجه جعل الحساب من أقسام الحكمة الباحثة عن أحوال أعيان الموجودات. إذ فيه أنّه ليس المراد بالوجودات العينيّة خصوص الماديّة بل المتقرّرة في عالم الكون سواء أ كانت من سرادق الملك أو الملكوت و من البيّن أنّ مراتب الأعداد و تناسبها و ساير أحكامها و لوازمها من الموجودات في المتقرّرة في مراتبها لا بمجرّد الفرض فيتحقّق بالنسبة إليها الصدق و الكذب و إن أنكر وجودها العيني كثير ممّن لا دربة له بل أنكروا نصف العالم بل الأكثر.

ثمّ إنّ التعريف المتقدّم يشمل علم الجبر و المقابلة و علم الأعداد المتناسبة ثلاثة كانت أو أربعة و الخطائين بل مع اعتبار عروض العدد المقادير المجهولة يشمل

علم المساحة أيضا. و لذا يعدّ الجميع فنّا واحدا و إن أفرد بعض كلّا بالتصنيف بل جعلها علوما متعددة إلّا أنّ الأنسب ما ذكرناه كما أنّه يشتمل نوعيه الّذين هما الهوائي الّذي يستخرج منه المجهولات، و الفلاتي المحتاج فيه إلى استعمالها و يسمّى بالتخت و التراب بل قد يقال: إنّ علم الحساب عمليّ منقسم إليهما، و نظريّ يبحث فيه عن ثبوت الأعراض اللازمة للعدد و سلبها عنه و هو المسمّى بالأرثماطيقي لكنّه

______________________________

هذا يخرج الواحد من الاعداد و ان تركبت منه الاعداد لأنه ذو حاشيته واحدة و هو الاثنان فقط و أجيب بأنه أيضا ذو حاشيتين السفلى و هي النصف و العليا و هي واحد و نصف و الواحد نصف مجموع هاتين الحاشيتين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 155

مخالف لما اصطلحوا عليه في الجملة، و إن أمكن التطبيق مع أنّ الخطب سهل فيه و في دخول حساب التنجيم فيه انّ مبناه على تعلّق الضرب و التقسيم و الجمع و التفريق و غيرهما من الأعمال على الدرجات- و الدقائق و الثواني و غيرها بل و في عدّ علم حساب اليد من فنونه حيث إنّهم اصطلحوا على وضع عقود الأنامل للأعداد من الواحد إلى عشرة آلاف كما سنشير إليه إنشاء اللّه في شرح خبر إسلام أبي طالب و العقد بيده ثلثا و سبعين «1».

و علم الرمل الّذي يبحث فيه عن الأشكال المركّبة من الأفراد و الأزواج أو- أحدها و إن كان كثير من قواعده مأخوذة من علم النجوم و ربما يقال: إنّه راجع إلى علم التخت و الّتراب الّذي هو أحد قسمي الحساب و أمّا صحة انتسابه إلى واحد من الأنبياء عليهم السلام أو إلى خصوص دانيال- على

نبيّنا و آله و عليه السّلام و البحث عن شرائطه و صحته و موانعه يستدعي مجالا أوسع نعم قد يقال: انّ

______________________________

(1)

في الكافي مسندا عن الصادق عليه السلام إنه قال: أسلم ابو طالب بحساب الجمل قال بكل لسان و عقد بيده ثلاثا و ستين

، فعلى هذا لفظ سبعين غلط و اشتباه. و قد ذكر في توجيه الحديث وجوه:

الاول: ما في معاني الأخبار عن حسين بن روح أنّه قال: معناه اله أحد جواد.

الثاني: أنّه أراد به عقد الخنصر و البنصر و الوسطى من اليمين للثلاثة كما هو المعهود بين الناس في عدّ الواحد إلى الثلث و لكن توضع رؤس الأنامل في هذه العقود قريبة من أصولها و أن يوضع للستين ظفر إبهام اليمنى على باطن العقدة اليمنى للسبابة كما يفعله الرماة للحصاة.

الثالث: أنّ أبا طالب علم نبوة نبينا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل بعثته بالجفر.

و ذكر في معناه وجوه آخر و من أراد التفصيل فليراجع إلى التاسع من البحار ص 16 ط القديم و ج 45 ص 79 و مصابيح الأنوار ج 1 ص 376.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 156

التشكلات الرمليّة محصورة في عدد معيّن بحسب اعتبار كلّ شكل في كلّ بيت و هو أقلّ بكثير من الحوادث اليوميّة الّتي لا تكاد تتناهى بخلاف الفلكيّة المعتبرة بحسب أوضاع الكواكب و نسبها المنطبقة على جميع الحوادث سيمّا بعد ملاحظة الأمور الأرضيّة من المطالع و الطوالع و المواليد و الآفاق و الأطوال و العروض و غيرها ممّا لا يتفّق مع اعتبارها اتحاد شكلين منها و لذا قد يقال باعتبار النجوم دون الرّمل.

و فيه أنّه لعلّ مبني إصابة الرّمل على إرائة الصانع العالم الحكيم

بعد التوجه و الإستخارة منه سبحانه على أنّ لخصوص الطوالع فضلا عن غيره من المتشخّصات تأثيرا غريبا في اختلاف الأحكام فالتشكلات الرمليّة تزيد على التشكّلات الملكيّة بل الّنجومية بالعدد المذكور. فتأمل جدّا كي يظهر ضعف ما ذكره، الفاضل القزويني في لسان الخواص «1».

و علم الأعداد الوفقيّة الّذي يبحث فيه عن كيفيّة وضع الأعداد في بيوت سطح المربّع المتساوي الأضلاع بشرط اتحاد كلّ من قطريه و أضلاعه في الكميّة و اختلاف بيوته فيها سواء كان الوفق طبيعيا أولا و المربّع زوجا أو فردا بقسميها محلقا أو ملفقا أو ذا الكتابة إلى غير ذلك من اقسامه و احكامه و شرائطه و موانعه و آدابه و اختلاف مراتب السير فيه طولا و عرضا و خواصّه الغريبة الّتي علمها فضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم.

______________________________

(1) الفاضل القزويني محمّد بن الحسين عالم جليل و فاضل نبيل من تلامذة العلامة ملا خليل القزويني شارح الكافي بالفارسية. توفى سنة 1096 و له مؤلفات منيفه مثل ابطال الرمل.

و ضيافة الاخوان. و قبلة الآفاق. و كحل الأبصار. و هدية الخلان. و لسان الخواصّ و هو كتاب مفيد في شرح اصطلاحات العلماء و في حل مشكلات الآيات و الاخبار و هو مرتب على ترتيب حروف التهجي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 157

و علم الحروف الّذي يبحث فيه من أعداد الحروف و موادّها و صورها و صفاتها و منسوباتها و الرّوحانيات المتعلّقة بها و انقسامها حسبما نشير إلى شطر منها فيما بعد إن شاء اللّه.

و علم التكسير الذي يقال له: علم الجفر أيضا و هو من العلوم المكنونة المخزونة عند الأئمّة عليه السّلام كما ورد عنهم في أخبار كثيرة بل اشتهر عند

المخالفين أيضا انتسابه إليهم، و لذا قال المحقّق الشريف في «شرح المواقف»: الجفر و الجامعة كتابان لعليّ عليه السّلام قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم و كان الأئمّة المعروفون من أولاده يعرفونهما و يحكمون بهما و

في كتاب قبول العهد الذي كتبه عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام إلى المأمون: إنّك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرفه آباؤك فقبلت منك عهدك إلّا أنّ الجفر و الجامعة يدلّان على أنّه لا يتمّ.

و لمشايخ المغاربة نصيب من علم الحروف ينتسبون فيه الى أهل البيت عليهم السلام. الى آخر ما ذكره صاحب «شرح المواقف».

و لخواصّ شيعتهم حظّ من أشعّة أنوارهم و نصيب من لمعات أسرارهم.

و مبناهم على وجوه التكسير و البسط و أقسام الطرح و النظيرة و المستحصلة و المستحضرة و غيرها ممّا يعرفه أهله و لهم في ذلك رموز و إشارات الى كنوز. و أمّا المسطور في الصفحات فعدد كلّ من أجزائه و صفحات كلّ جزء و سطور كلّ صفحة و بيوت كلّ سطر ثمانية و عشرون عدد الحروف.

و قال بعض السادة الأجلّاء (عطّر اللّه مرقده): إنّ الجفر اسم بقرة أتى بها جبرئيل حين كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و أمير المؤمنين (عليه آلاف التحيّة و الثناء) على جبل فاران فذبحها أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 158

رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) فانسلخت و هي مدبوغة فأمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) عليّا أن يجعلها ثمانية و عشرين جزءا و كلّ جزء ثمانية و عشرين ورقة و كلّ ورقة صفحتين يمنى و يسرى، و

كل صفحة ثمانية و عشرين سطرا، و كلّ سطر ثمانية و عشرين بيتا، و كلّ بيت جعل فيه أربعة أحرف.

ففي البيت الأوّل من السطر الأوّل من الصفحة الأولى من الجزء الأوّل أربع ألفات و في البيت الثاني ثلاث ألفات و باء، و هكذا الى تمام السطر فيكون آخره ثلاث ألفات و غين، و هكذا الى آخر الأجزاء. قال: و أسرار هذه الحروف على هذا النحو كثيرة و فوائدها خطيرة.

قلت: لكن في ذكره لكلّ جزء ثمانية و عشرين ورقة و لكلّ ورقة صفحتين نظر لا يخفى إلّا على بعض الوجوه الّتي لا تخلو عن تكلّف، و هذا الخبر لم أظفر به في غير كلامه (رحمه اللّه) نعم

في البصائر «1» و الاختصاص «2» عن الحسن بن راشد قال: سمعت أبا إبراهيم (عليه السلام) يقول: إنّ اللّه تعالى أوحى الى محمّد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) انّه قد فنيت ايّامك و ذهبت دنياك و اقترب لقاء ربّك فرفع النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) يده الى السّماء و قال اللّهمّ عدتك الّتي وعدتني إنّك لا تخلف الميعاد. فأوحى اللّه اليه أن ائت أحدا أنت و من تثق به فأعاد الدعاء فأوحى اللّه إليه امض أنت و ابن عمّك علي حتى تأتي أحدا ثمّ اصعد على ظهره

______________________________

(1) البصائر في فضائل محمّد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) كتاب نفيس تأليف محمّد بن فروخ الصفار القمي من أكابر الإمامية في القرن الثالث و توفي سنة 290 ق و له غير البصائر كتب أخر مثل الملاحم، فضائل القرآن، الأشربة، التقية، الجهاد، الدعاء، المثالب، المؤمن.

(2) الاختصاص من تأليفات محمّد بن محمّد بن نعمان المعروف بالمفيد

من محقّقي الاماميّة تقدّم في المقدّمة في المفسّرين المشاهير. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 159

فاجعل القبلة قبالك «1» ثمّ ادع وحش الجبل تجبك فإذا أجابتك فاعمد الى جفرة منهنّ أنثى و هي التي تدعى الجفرة حسن ناهد قرناها للطلوع، و تشخب أوداجها دما و هي الّتي لك. فمر ابن عمّك ليعمد إليها فيذبحها و يسلخها فإنّه سيجدها مدبوغة و سأنزل عليك الرّوح الأمين و جبريل معه دواة و قلم و مداد ليس هو من مداد الأرض يبقى الجلد لا تأكله الأرض و لا يبليه التّراب لا يزداد كلّ ما ينشر إلّا جدّة «2» غير أنّه يكون محفوظا مستورا فيأتي وحيي بما كان و تمليه على ابن عمّك و ليكتب و يمدّ من ذلك المداد. فمضى (عليه السلام) حين انتهى الى الجبل ففعل ما أمره فصادف ما وصف له ربّه فلمّا ابتدأ في سلخ الجفرة نزل جبريل و الرّوح الأمين و عدّة من الملائكة لا يحصى عددهم إلّا اللّه و من حضر ذلك المجلس ثمّ وضع عليّ (عليه السلام) الجلد بين يديه و جائته الدواة و المداد أخضر كهيئة البقل و أشدّ خضرة و أنور ثمّ نزل الوحي على محمّد صلّى اللّه عليه و آله فجعل يملي على عليّ و يكتب عليّ (عليه السّلام) إنّه يصف كلّ زمان و ما فيه، و يخبره بالظهر و البطن و خبره بكلّ ما كان و ما هو كائن الى يوم القيامة، و فسّر له أشياء لا يعلم تفسيرها و تأويلها إلّا اللّه و الرّاسخون في العلم.

فأخبره بالكائنين من أولياء اللّه من ذرّيته أبدا الى يوم القيامة و أخبره بكلّ عدوّ يكون لهم في كلّ زمان من الأزمنة حتّى فهم

ذلك كلّه و كتبه ثمّ أخبره بأمر ما يحدث عليه و عليهم من بعده فسئله عنها فقال الصّبر الصّبر و أوصى الى الأولياء و أشياعهم بالصّبر و التسليم حتّى يخرج الفرج و أخبره بأشراط أوانه و أشراط تولّده

______________________________

(1) في بحار الأنوار ج 17 ص 137 روى الخبر و فيه مكان كلمة «قبالك» كلمة «ظهرك».

(2) الجدة كأنه مصدر جد يجد: أي صار جديدا- بحار الأنوار- ج 7 ص 281. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 160

و علامات تكون في ملك بني هاشم فمن هذا الكتاب استخرجت أحاديث الملاحم كلّها و صار الوصي إذا أفضى إليه الأمر تكلّم بالعجب.

رابعها: علم الموسيقى الّذي يقال له الموسيقار بمعنى النغم و الألحان و لذا قيل:

إنّ موضوعه الصوت المشتمل على الألحان المخصوصة. و المشهور أنّ مخترع هذه الصناعة هو الفارابي «1» و به سمّي معلّما ثانيا.

و ما يقال: إنّه وقع في تراجم فرفوريوس «2» انّه قال للمعلم يعني أرسطاطاليس «3» حين فرغ من المنطق: هل أبقيت شيئا؟ قال: نعم ما دوّنته نصف مادّة الألفاظ و بقي في النفس شي ء لا يدخل تحت الألفاظ بل هو مجرّد الهواء.

ففيه أنّه قد يقال: إنّه إشارة إلى الهندسة الّتي هي أيضا كالمنطق من البراهين على انّهم أجمعوا على أنّ المعلّم الثاني هو الّذي الّف و أبدع، و قسّم و نّوع و رتّب

______________________________

(1) محمّد بن محمّد بن طرخان أبو نصر الفارابي المعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين تركي الأصل مستعرب. ولد في فاراب على نهر جيحون سنة 260 ق و انتقل الى بغداد و ألّف بها أكثر كتبه و رحل الى مصر و الشام. و اتصل بسيف الدولة بن حمدان. و توفي بدمشق سنة 339 ق،

قيل كان زاهدا في الزخارف. يميل الى الانفراد بنفسه، و لم يكن يوجد غالبا في مدة إقامته بدمشق إلّا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، له نحو مائة كتاب منها المدخل صناعة الموسيقى.

- وفيات الأعيان ج 2 ص 76- الأعلام للزركلي ج 7 ص 242.

(2) فرفوريوس من أهل مدينة صور من ساحل الشام و له التقدم في معرفة كلام أرسطو و اتحاد العاقل و المعقول في الفلسفة منسوب اليه و كذا ايساغوجي في المنطق (الكلّيات الخمسة) ولد في صور و توفي سنة 204 ق. م.

(3) أرسطاطاليس أو أرسطو هو المعلّم الأول تلميذ أفلاطون و اليه انتهيت فلسفة اليونانيين و ينسب اليه الحكمة المشاء و له تصانيف كثيرة و وثيقة، نقل كثير منها الى العربية في زمن المأمون العباسي ولد سنة 384 قبل الميلاد و توفي سنة 322 ق. م.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 161

الألحان و وقف الأمراض و الأبدان و حرّر النسب الفلكية في النغم- و الأصوات و ركّب في ذلك بعض الآلات.

قال شيخنا البهائي في كشكوله: علم الموسيقى علم يعرف منه النغم و الأيقاع و أحوالها و كيفيّة تأليف الّلحون و اتّخاذ الآلات الموسيقارية و موضوعه الصوت من وجه تأثيره في النفس باعتبار نظامه. و النغمة صوت لابث زمانا تجري فيه الألحان مجرى الحروف من الألفاظ و بسائطها سبعة عشر و أوتارها أربعة و ثمانون و الأيقاع اعتبار زمان الصوت و لا مانع شرعا من تعلّم هذا العلم و كثير من الفقهاء كانوا مبرّزين فيه. نعم الشريعة المطهّرة على صادعها أفضل السّلام منعت من عمله و الكتب المصنّفة فيه إنّها مسموعة على العموم من أيّ آلة اتفقت و صاحب العمل إنّما يأخذها على أنّها

مسموعة من الآلات الطبيعيّة كالحلوق الإنسانيّة و الصناعيّة كالآلات الموسيقاريّة. و أمّا ما يقال: من أنّ الألحان الموسيقيّة مأخوذة من نسب الاصطكاكات الفلكيّة فهو من جملة رموزهم إذ لا اصطكاك في الأفلاك و لا قرع فلا صوت انتهى.

و على كلّ حال فالإعراض عن فنون هذه الصناعة كعلم الأيقاع و معرفة النقرات و كيفيّة تألّف الأصوات و علم النسبة و تفكيك الدائرة و التلحين و غيرها اولى، كما إنّي أعرضت عن تعلّمها و الاشتغال بها رأسا فإنّه مع كونه من تضييع العمر الّذي نسئل اللّه العافية منه لا تحصل الخبرة فيها إلّا بالممارسة العمليّة المحرّمة في الشريعة المطهّرة النبويّة (على صادعها ألف ألف سلام و تحيّة).

نعم قد يعدّ من فروعها علم العروض الّذي ربما يعدّ منه علم القواعد أيضا و إن كانت متعلّقة بالأمور المحتاجة إلى المادة تحققا و تعقلا فهي الحكمة الطبيعيّة الّتي موضوعها الجسم الطبيعي من حيث اشتماله على قوّة التغيّر و لذا يبحث- فيها عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 162

الهيولي و الصورة الحركة و السكون و الأجسام العنصرية و الفلكيّة و أحوالها و لوازمها و أعراضها و غير ذلك ممّا يطلب في محلّه. نعم قد حكى الأنطاكي عن المعلّم أنّه قسّم الطبيعي ثمانية أقسام:

الأوّل: علم سماع الكيان بفتح السين على أنّه مصدر سمع و كسرها على أنّه ذكر الأشياء و هو ما يبحث فيه عن الموادّ و الصور و الحركة و السكون و النهاية و اللانهاية و العلل. و المتأخرون سمّوه الأمور العامّة.

قلت: و من الغريب ما وقع في «الأخلاق الناصرية» «1» من تسميته بالأرثماطيقي.

الثاني: علم السماء و العالم، و يبحث فيه عن الأفلاك و العناصر و ارتباطهما و ما يكوّن عن

ذلك و ما فيه من الحكم الالهيّة و أحكام البسائط العلوية و السفلية الثالث: علم الآثار العلوية، و يبحث فيه عن تغيّرات العناصر في أنفسها و استحالاتها و أحكام الصاعدات عندها من بخار و غيره و كيف ارتبطت الحوادث العنصريّة بالحركات الّسماوية و ما علّة حدوث نحو الّصواعق و قوس قزح و ذوات الأذناب و غيرها بعد العناية الالهيّة و هل هي علامات لحوادث الدهر أم لا. قال الأنطاكي: و هذه المكوّنات قد ألحقتها بالمواليد الثلاث و جعلت المواليد أربعة رعاية لمطابقة المزاج العنصري، و سمّيتها بالآثار الناقصة، و لم أسبق إلى ذلك.

الرابع: علم الكون و الفساد، و سمّاه بذلك لتعلّقهما بالمركّبات يبحث فيه عن

______________________________

(1) أخلاق الناصري كتاب في الأخلاق فارسي لنصير الدين الطوسي ألفه بقهستان لاميرها ناصر الدين المحتشم لما التمس منه ترجمة كتاب «طهارة الاعراق» في الحكمة العمليّة لعلي بن مسكوية فضمّ إليه قسمي المدني و المنزلي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 163

كيفيّة كيان المواليد الثلاثة و استقصاء أنواعها و أشخاصها و آجالها و تدابير أمورها و صورها و بيان علل ذلك.

الخامس: علم المعادن و كيفيّة انقسامها، و أنّها إمّا تامّة جامدة كالياقوت أو تامّة متطرقة كالذّهب و الفضّة أو ناقصة صحيحة سيّالة كالزئبق أو شعاّلة كالكبريت أو فاسدة يرجى صلاحها و ننقلها إلى كيان آخر مثل الكحل أو لا مثل الزاج و ما وجه تولّد كلّ ذلك.

السادس: علم النباتات يبحث فيه عن موادّه من العصارات و المياه و عن تقسيمه إلى ما ينبت و يستنبت إمّا من بذر أو قصب أو ثمر و أنّ كلّا إمّا طويل أو قصير و الطويل إمّا كامل و هو ما جمع الأصول و الفروع و الورق

و الحبّ و الثمر و الصمغ و الليف و القشر و العصارات كالنخل و الناقص ما كان عادما أحدها و ناقص الناقص هو ما عدم الأكثر.

السابع: علم الحيوان، و يبحث فيه عن موادّ صوره و أنواعه و أصنافه و مبادئ حركاتها الإراديّة و احكام نفوسها و قويها.

الثامن: علم النفس من حيث هي كيفيّة بثّها في الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و أنّ هذه النفوس هل هي متغايرة بالذّات أو بالنقصان و الكمال و أنّ النفس الإنسانية باقية بعد انحلال هذا الهيكل. هذا حاصل ما ذكره مع زيادة تحرير.

و أما فروعها فكثيرة جدّا كعلم الطبّ الّذي يعرف منه أحوال الإنسان من جهة ما يعرض لها من صحة و مرض لتحفظ الصحّة الحاصلة و تستردّ زائلة و ينقسم إلى نظري يبحث فيه من الأمور الطبيعيّة و الستّة الضروريّة و أحوال البدن و كليّات التدابير و غيرها، و عمليّ يبحث فيه من الأمراض الجزئيّة و أسبابها و علاماتها و علاجها و غيرها ممّا يلحقها. و منه يظهر أنّ علم الجراحة و جبر الكسر و الكحالة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 164

و غيرها من عمل اليد حتى الحجامة و الفصادة كلّها من الطبّ و إن افردوا بعضا منها بالتصنيف أو بالصنعة.

و علم معرفة الأدوية و العقاقير الّذي أفردها بالتصنيف ويسقوريدوس بعد ما صرف عمره في استقصاء أنواعها و طبائعها و آثارها و منافعها و مضاّرها ثمّ وسع فيه المتأخرون بعد تلاحق الأفكار و التجارب المكرّرة في مدى الأعصار بل الحقه كثير منهم بالطبّ مع كونه من مبادئه كما ألحقوا به قوانين معرفة الأمزجة و كيفيّة التراكيب و خواصّها بل خواصّ المركّبات و كيفيّة تراكيبها و أجزائها و غيرها

ممّا سمّوها بالإقرابادين الّذين يضرب المثل لا كذب الكذب عند الأدباء بإقرابادين «1» الاطبّاء.

و علم السنبره بمعنى القوانين يذكر فيه أن كلّ نوع من أنواع النبات يحتاج إلى اثني عشر قانونا معرفة حفظه و زمن غرسه أو زرعه و ما ماهيّته من يوم ينبت إلى يوم قلعه و يخدمه أيّ كوكب و كم يبقى حتّى تسقط قواه فلا يستعمل في دواء بعدها، و بم يعرف الصحيح و الفاسد منه، و بأيّ شي ء يغشّ و كيف يعرف، و ما درجته و ما نفعه، و ما القدر المأخوذ منه في اختلاف الأبدان و البلدان و الفصول و الإنسان و ما ضرره و ما إصلاحه، و بما يبدّل عند العدم، و أكثر مسائله مأخوذ من العلم السابق و من الفلاحة.

و علم التشريح الّذي يبحث فيه عن أعداد الأعضاء الأصلية البدنيّة و المركب الآليّة و أجزائها و كيفيّة وضعها و غير ذلك ممّا يلحقها، و تعيين الرئيسيّة الّتي هي

______________________________

(1) اقربادين لفظة فارسية معناها فن تركيب الادوية، وافر نجيتها يونانية الأصل: و كان غير منفصل عن الطب ثم صار فنا قائما برأسه- دائرة المعارف للبستاني ج 4 ص 86.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 165

القلب و الدماغ و الكبد و الأنثيان، إذ في الأوّل قوّة الحياة، و في الثاني قوّة الحسّ و الحركة، و في الثالث قوّة التغذية المحتاج إليها في بقاء الشخص بل في إمداد الروح الحيواني و النفساني، و في الرّابع قوّة التوليد و حفظ النسل المحتاج إليه في بقاء النوع، لكن الرئيس على الإطلاق القلب الّذي هو ينبوع الحرارة الغريزية المصلحة المدبّرة للبدن بإذن اللّه و هو أوّل متكوّن في الحيوان و منه يسري قسط من الروح

الى الدّماغ الّذي يفاض عليها فيه و لو بمعونة قبول الآلات و صلاحيّة المحلّ للرّوح النفسانيّة الّتي هي منشأ الحسّ و الحركة كما أنّه يسري منها قسط، الى الكبد و الأنثيين فيقويان بها على أفعالهما و لعلّك بما ذكرناه تقدر على دفع ما قيل في إطلاق رئاسة غيره مع أنّ في النواميس الشرعيّة إشارات الى ما ذكرناه و ستسمعها في موضعها. ثمّ إنّ هذا العلم أيضا من مبادئ الطبّ و إن كان الأظهر أنّه منه.

و علم الخواصّ الذي يبحث فيه عن خاصيّة العقاقير و المراد بها كلّ فعل لا يتخلّف بعد مباشرة الفاعل القابل دون استناد الى طبع بل الى الصورة النوعيّة قيل: و هي إمّا مطلقة و هي الفاعلة بلا شرط أصلا كجذب المغناطيس الحديد، أو بشرط متعلّق بالزّمان خاصّة كإبطال شهوة النكاح ببذر الفرفخ «1» شتاء، أو بالمكان كالقتل بالبنج في أرض فارس خاصّة، أو بشي ء معيّن من جنس ككيّ الثالول بذكر التين، أو عضو معيّن كخززة الزعفران على الفخذ الأيسر للولادة، أو وزن معيّن يخلّ تغييره بالمطلوب ككونها عشرة محرّرة الى غير ذلك. و هل يعلّل فعل

______________________________

(1) الفرفخ: معرّب (پر پهن) أي عريض الجناح، و يقال لها أيضا خرفه و رجلة قال الطريحي في «مجمع البحرين»: في الحديث: «ليس على وجه الأرض بقلة أشرف من الفرفخ» و في «في» عنهم عليهم السّلام: سمّوها بنو أميّة البقلة الحمقاء بغضا لنا و عداوة لفاطمة عليها السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 166

الخواصّ أم لا؟ قيل: أكثر الحكماء على الثاني، قال الأنطاكي: و المتّجه هو الأوّل لتحرّي المشاكلة و النسبة الفلكيّة و شهادة الأكوان و الأكوان و متعلّقها المواليد الثلاث و الكواكب و علم الفلاحة.

و

علم الصناعة الأكسيريّة الّذي قد تاه في بيداء طلبه كثير ممّن استولى الشيطان عليهم فأنساهم ذكر اللّه، أولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون، و لذا ترى كثيرا ممّن صرف فيه أعمارا طويلة و أموالا جزيلة لا حاصل لهم سوى أعين عمش كليلة، و أدمغة مختبطة عليلة، و نفوس لشدّة الفاقة ذليلة، و قد فاتت عنهم مراتب عظيمة جليلة، و هم مع ذلك يشتغلون لرجاء تحصيل شي ء من الغشّ و التركيب و الإكسير بصنوف العقد و الحلّ و التشويه و التنكيس و التقطير، و لا يظفرون فيها إلّا بأدخنة متصاعدة و أرمدة متقاعدة. فصار وجود العنقاء، و طلبهم له طلب الحمقاء لا يستشمّون منه إلّا روائح الكبريت و الزرنيخ، و لا يستمدّون إلّا من سواد زحل و نحوسة المرّيخ، فإذا قدم عليهم في بلدهم من يدّعي شيئا من ذلك ظنّوا به كلّ خير، و استمكنوا له في كلّ ضير، و بادر كلّ منهم مستخفيا إليه في السير لئلّا يطّلع الغير، و هو يشتدّ عليهم و على أموالهم الغارة بعد الغارة، و يتلعّب بهم تلعّب السنّور بالفأرة، يستعجلون الفقر الدائم طمعا في الغنى، و يرضون بالمنيّة لنيل المنى، يتّبعون كلّ شيطان مارد، و يضربون في حديد بارد، و إذا سمعوا

أنّ مولانا أمير المؤمنين (روحي له الفداء) قال: إنّ الكيمياء في الأسرب و الزّاج و الزّئبق الرجراج و الحديد المزعفر و النحاس الأخضر

، و

أنّه قال: إنّها أخت النبوّة و عصمة المروّة و الناس يعلمون ظاهرها، و أنا أعلم ظاهرها و باطنها

، و

قال (عليه السّلام): ما هو إلّا ماء جامد و هواء راكد و أرض سائلة و نار حائلة

، و

قال (عليه السّلام): خذ الفرّار و الطلقا،

البيتين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 167

و

أنّ مولانا (عليه السّلام) قال: الرّصاص فضّة مبروصة من قدر على علاجها انتفع بها

«1» الى غير ذلك ظنّوا أنّهم سيطّلعون عليها بمعونة القرع و الأنبيق.

أو يحلّون عقدها بنداوة القعر العميق، أو بحرارة النار النمروديّة ذات الحريق.

و ما يشعرون أنّ الأصباغ الشعريّة و غيرها من النباتيّة بل المعدنيّة ليست صبّاغة و غواصّة نافذة صابرة ثابتة رزينة امينة.

و بالجملة فقد غشيتهم العطالة و البطالة و الخسران كالّذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، و ذلك لأنّهم ضلّوا السبيل و لم يطلبوا المطلوب من الدليل، و لو أنّهم أمنوا و اتّقوا لوجدوا كيمياء السعادة من طريق العبادة و الزهادة فإنّه الاسم الأعظم و الحجر المكرّم، فافهم فإنّي قد أوقفتك على كنوز الأسرار إن وفّقت لحلّ الرموز و كشف الأستار.

و علم معرفة الجواهر الغير المتطرّقه كالياقوت و اللؤلؤ و الزبرجد و الألماس و غيرها و فيه حصر أجناسها و استقصاء أنواعها و معرفة خواصها و آثارها و علاماتها.

و علم التعبير الذي يذكر فيه حقيقة الرؤيا الّتي هي جزء من سبعين جزءا أو

______________________________

(1) لم أجد في كتب الحديث أصلا لتلك الأحاديث و الأبيات المنسوبة إلى المعصومين (عليهم السّلام) في الكيمياء.

نعم نقل في بعض الكتب المتفرّقة بعض هذه الأحاديث مرسلا كما

في نفائس الفنون تأليف شمس الدين محمّد بن محمود الآملي من علماء القرن الثامن ج 3 ص 160 عن علي (عليه السّلام) انه قال: إن في الزّجاج و الزاج و الزئبق الرجراج و قشر بيض الدجاج و الزنجار الأخضر و الحديد المزعفر لكنز لوليّ، فقيل: زدنا يا أمير المؤمنين فقال (عليه السّلام): هو هواء راكد و ماء جامد و أرض سائلة و نار خامدة. تفسير الصراط المستقيم،

ج 1، ص: 168

من ستّة أو أربعة جزء من النبوّة و هي المبشّرات، و فيه سبب توجّه النفس إلى عالمها و اتصالها بمبادئها العالية الّتي يحصل لها به بعض العلوم الحقّة، الواقعة على سبيل المشاهدة النفسانيّة أو الانطباع و الانتقاش الرّوحانيّة و انقسامها إلى الصادقة الّتي هي ما سمعت و الكاذبة الّتي هي من تركيب المتخيّلة ببعض الصور المخزونة في الخيال مع بعض و لذا تسمّى بأضغاث الأحلام، و لكلّ منهما أسباب و معدّات و شرائط داخلة و خارجة كالزّمان و المكان و فراغ النفس و علّوها و اعتياد الصدق و الطهارة و نورانية جوهر النفس و قوّتها و قدرتها على خرق الحجب السبعة و الاعتدال في الأحوال و الأفعال بين طريقي الإفراط و التفريط سيمّا اعتدال مزاجه الشخصيّ و العضوي الدماغي، و غير ذلك ممّا هي كالمعدّات للرّؤيا الصادقة و أضدادها لضدّها و الملفقّ للملفق و معرفة أنّ الرؤيا من أيّ القسمين و تبعيّة التعبير للواقع أو الواقع للتعبير أو كلّ لكلّ على وجه و تطبيق عالمي المثال و الخيال و إن سمّي كلّ بكلّ مع قيدي الاتصال و الانفصال و شرائط المعبّر و التعبير و كيفيته و أنّ هذا العلم إلهامّي أو كسبي أو الهامّي و كسبيّ إلى غير ذلك من المباحث الّتي سنشير إلى تحقيق جملة منها في سورة يوسف و الّصافات و غيرهما إنشاء اللّه.

و علم الفراسة الّذي قيل: هو علم بأمور بدنيّة ظاهرة تدلّ على ما خفي من السجايا و الأخلاق، و أوّل من استخرجه فليمون الرومي الطرسوسي «1» في عهد المعلّم فقبله و أجازه ثمّ توسّع الناس فيه حتى استأنس المسلمون له بقول تعالى:

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ «2» و

لذا يسمّى علم التوسّم أيضا و

بقوله صلّى اللّه

______________________________

(1) قال كاتب چلبي في كشف الظنون ج 2 ص 1342: و لا فليمون كتاب في الفراسة يختص بالنسوان.

(2) سورة الحجر آية: 75. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 169

عليه و آله و سلم: (اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه)

«1» و إن كان الأظهر أنّ التوسّم و الفراسة المشار إليهما في الآية و الخبر أشبه بالمكاشفات الغيبيّة و المشاهدات الإيمانيّة الّتي يراها من ينظر بنور اللّه، و لذا لا يختصّ بخصوص الأخلاق و السجايا بل يجري أيضا في قاطبة الحقائق و القضايا كما أنّه و إن كان يسمّى بالقيافة أيضا لكنّه غير القيافة المحرّمة عند الفقهاء، و هي الاستناد إلى علامات و مقادير يترتّب عليها إلحاق بعض الناس ببعض بمجرّد المشابهة الّتي لا عبرة بها أصلا في الشريعة بعد مشاهدة عدم مطابقتها للنسب الشرعي بل الحقيقي أيضا سيّما بعد إناطة الإلحاق في الشريعة على الولادة على الفراش و الإقرار، و غير هما من الطرق الشرعيّة الّتي ليست منها القيافة الّتي تعرف بها الأنساب وقفوا لآثار الجاهليّة، و لذا حكموا بحرمتها إذا جزم بها أو ترتب عليها محرّم، و الّا فلا حرمة لها و إن كان ربما يقال: انّها من الكهانة بل

عن الصادق (عليه السّلام): من تكهّن أو تكهّن له فقد بري ء من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله قيل: فالقيافة. قال (عليه السّلام): ما أحبّ أن تأتيها، قيل: ما يقولون شيئا إلّا كان قريبا ممّا يقولون فقال عليه السّلام: القيافة فضلة من النبّوة ذهبت من الناس حيث بعث النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم)

______________________________

(1)

في بحار المجلسي (قدس سره) ج 9 ص 278 ط

القديم عن محمّد بن حرب الهلالي أمير المدينة يقول: سألت جعفر بن محمّد (عليه السّلام) فقلت: يا ابن رسول اللّه في نفسي مسألة أريد أن أسئلك عنها فقال إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسئلني و إن شئت فاسئل قال:

قلت: يا ابن رسول اللّه بأي شي ء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي؟ فقال (عليه السّلام): بالتوسّم و التفرّس أما سمعت قول اللّه تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ و قول رسول اللّه اتّقوا فراسته المؤمن فانّه ينظر بنور اللّه إلخ. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 170

الخبر

«1» و ان كان الظاهر منه أنّها غير القيافة المحكوم بحرمتها عندهم.

و بالجملة فالأصل فيه موافقة الهيئات و الأشكال البدنيّة للأحوال و الأخلاق النفسانيّة على سبيل التابعيّة أو المتبوعيّة على خلاف فيه يأتي في موضعه إن شاء اللّه و على الوجهين يستدلّ بها عليها، بل قد يستكشف بها بعض العواقب من الأرزاق و الاعمار و السّعادات و أضدادها، و أصولها عندهم مأخوذ من أصلين: التجربة طول الزّمان حيث إنّهم تأمّلوا غالب الأشخاص و ما يصدر منهم ثم عدّوا ما استمرّ مطابقا أصلا يرجع إليه و القياس على حيوانات العجم، و لذا صرّح صاحب الصناعة بانّه إنّما حكم على واسع الصدر غليظ المنكبين بالشجاعة قياسا على الأسد فإنّه كذلك، و لم يجعل هذه العلامة دليلا على الكرم مع أنّ الأسد كريم أيضا لاتّصاف النمر بها و هو شحيح سجيع، و هكذا باقي الأحكام فلا بدّ من النظر في تركيب العلامات و لزومها و مشاركتها و العمدة فيه هو الحدس الصحيح.

و لذا قال الطرطوسي مبدع الصناعة على ما يحكى عنه: و علمي هذا حرام على الأغبياء لاحتياجه إلى صحّة الفكر و الحذاقة

و الدراية و لعلّك تسمع إن شاء اللّه بعض الكلام فيه في تفسير الآية.

و علم التسخير و العزائم المحرّمة في الشريعة الحقّة، و إن كان المقصود منه استخدام الملائكة و الجنّ و استنزال الشياطين، و تسخير الأرواح للتصرف فيها في النفوس و الأبدان و استكشاف الغايبات، و علاج المرضى، و الاطّلاع على الأخبار البعيدة و خواصّ العقاقير و استجلاب الثمار و الفواكه و الفصة الطرية في غير أو انها إلى غير ذلك ممّا لا يحصل إلّا بأقسام الأقسام و الأعزام و الرّياضيات الشاقّة الصعبة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ط الجديد ج 12 ص 108 عن الخصال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 171

الخطرة الّتي قلّ من يسلم معها من الموت أو الجنون أو اختلاف العقل و ضعف الدماغ و الوسوسة إلى غير ذلك من الضرر الراجع إلى العقول و الأبدان فضلا عن الإيمان الذي لا يكاد يبقى لمن ابتلى بتلك البليّات و أصيب بهذه المصيبات و مع ذلك فلهم في الدنيا ذلّة دائمة و كثافة لازمة و الفقر العاجل و انقطاع النسل و البوار ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النّار.

و علم النيرنجات و هو فارسيّ معرّب نيرنك و نورنك: أي اللّون الجديد و ربما يقال: النيرنجات بالياء و النسبة المشدّدة و هي إظهار غرائب خواصّ الامتزاجات أو أنّها التخيّلات و الأخذ بالعيون الّتي لا ينكر أغلاطها سيمّا مع السرعة و الخطفة، و شدّة الإشتغال بالشواغل الحسيّة، و لذا قيل: إنّها قريبة أو متّحدة مع الشعبدة الّتي عرّفوها بالحركات السريعة الّتي تترتّب عليهما الأفعال العجيبة بحيث يخفى على الحسّ الفرق بين الشي ء و شبهه. فيحكم الرائي له بخلاف الواقع، و لذا قيل: إنّ المشعبد يأخذ

بالعيون يعني إلى غير الجهة الّتي يحتال فكلّما كان أخذه للعيون و الخواطر و جذبه لها إلى سوى مقصوده أقوى كان أحذق في علمه كما أنّه كلّما كانت الأحوال الّتي تفيد حسّ البصر نوعا من أنواع الخلل أشدّ كان هذا العمل أحسن.

و بالجملة فبناء العمل فيها على الإغراء و التدليس و اللهو بل السحر و غيرها من الأباطيل الّتي ورد النهي عنها في الكتاب و السنة، و لذا أجمع الأصحاب على حرمة تعليمها، و التكسب بها كإجماعهم على حرمة السحر تعليما و تعلّما و تكسّبا و عملا بل ظاهر قوله تعالى: وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ «1» حصول الكفر بمجرّد تعليمه و

في النبوي: (ساحر المسلمين يقتل

______________________________

(1) البقرة: 102. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 172

و ساحر الكفّار لا يقتل)

«1» و

في العلوي: (من تعلّم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا فقد كفر و كان آخر عهده بربّه و حدّه أن يقتل)

«2» بل المشهور عدّ النيرنجات و الشعوذة و السيميا و غيرها منه، و لذا قال الشهيد في «الدروس»: تحرم الكهانة و السحر بالكلام و الرقية و الدخنة بعقاقير الكواكب و تصفية النفس و التصوير و العقد و النفث و الأقسام و العزائم بما لا يفهم معناه، و يضرّ بالغير فعله و من السحر الاستخدام للملائكة و الجنّ و الاستنزال للشياطين في كشف الغائب و علاج المصاب، و منه الاستحضار بتلبّس الروح ببدن منفعل كالصّبي و المرأة و كشف الغائب عن لسانه، و منه النيرنجات و هي إظهار غرائب خواصّ الامتزاجات و أسرار النيّرين، و يلحق به الطلسمات و هي تمزيج القوى العالية الفاعلة بالقوى السافلة المنفعلة ليحدث عنها فعل غريب

فعمل هذا كلّه و التكسب به حرام، أمّا علمه ليتوفّى أو لئلّا يغترّ به فلا و ربّما وجب على الكفاية ليدفع المتنبّي بالسحر و يقتل مستحلّه و يجوز حلّه بالقرآن و الذكر و الأقسام لا به و عليه

قوله (عليه السلام): و لا تعقد

«3» انتهى «4».

و علم الطلسم الّذي عدّه الشهيد و غيره من السحر و فسّره بما سمعت و عن «وسيلة القاصد» أنّ معناه عقد لا ينحلّ، و قيل هو مقلوب اسمه يعني مسلّط، و قيل:

______________________________

(1) الكافي ج 2: ص 311، التهذيب ج 10 ص 147. وسائل الشيعة ج 18: ص 576.

(2) وسائل الشيعة ج 18: ص 577 بدون كلمات «قليلا أو كثر فقد كفر». و في آخره: «وحدّه القتل إلّا أن يتوب».

(3) الفروع من الكافي ط الجديد ج 5 ص 115 باب الصناعات من كتاب المعيشة.

(4) الدروس ص 325 و في آخر العبارة: و يجوز حلّه بالقرآن و الذكر و الأقسام لا به و عليه يحمل رواية العلا بحله.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 173

إنّه الظلّ بمعنى الأثر يعني إنّه أثر الاسم أو الفعل، و في «الدروس» قيل: الطلسمات كانت معجزات لبعض الأنبياء على نبيّنا و آله (عليه السّلام).

قلت: و ستسمع بعض الكلام في تفسير قوله تعالى: رب العالمين عند الإشارة الى ربّ النوع و في تفسير الآيات المتعلّقة بالسحر.

و علم السيمياء، و عرّفه في «الدروس» بأنّه إحداث خيالات لا وجود لها في الحسّ للتأثير في شي ء آخر، و ربما ظهر الى الحسّ. و عن بعض أهل الصناعة أنّه مزج القوى العالية بالقوى السافلة ليحدث عن ذلك أمر غريب في عالم الكون و الفساد، و قيل: إنّه ربط الطبائع بالطبائع الجسمانية لذلك و لارتباطها

بالطبائع العلوية قالوا: السيمياء روح في الجسد و الكيمياء جسد في الجسد، و لعلّه إليه و إلى غيره من أسرار العلوم المكتومة أشار العبد الصالح آصف بن برخيا في قوله: إنّ الأشكال مغناطيس لأرواحها، و بعض هذه العلوم أسرار و حقائق و غير ما في أيدي الناس. فافهم أنّ ما عرفوا بل سمعوا بعض التمويهات و التخييلات و الخدع و الأباطيل، و أمّا حقائقها فمكنونة في مستجنّات القلوب و علمها معدودة في جملة الغيوب فألواحها صفائح الأرواح و سطورها منقوشة في الصدور و من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور.

و علم حصر الأعمار بالانفاس المستأنس له بقوله تعالى: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا «1» و

بالعلوي المذكور في النهج: اعلموا عباد اللّه أنّ عليكم رصدا من

______________________________

(1) مريم: 84. قال الطريحي في مجمع البحرين في كلمة عدد: قوله تعالى: فَسْئَلِ الْعادِّينَ بتشديد الدال المراد بهم الملائكة تعد الأنفاس، و مثله قوله: نَعُدُّ لَهُمْ يريد به عد الأنفاس كما جاءت به الرواية عن الصادقين عليهم السلام. المراد بالرواية ما رواه محمّد بن يعقوب بإسناد تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 174

أنفسكم، و عيونا من جوارحكم و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم، و يعدّون أنفاسكم «1».

و بالجملة فقد توهّم قوم من الهنود أنّ الاعمار محصورة بالأنفاس فيرتاضون بحبس الأنفاس و تقليلها، و يستعينون على ذلك بترك الأطعمة الحيوانيّة من الّلحم و اللبن و البيض و غيرها، و الاقتصار على الأغذية النباتية إلى أن يبلغوا حدّا يكتفون في يوم أو يومين بل أيّام عديدة بنفس واحد ثم تحتبس النفس في أدمغتهم فلا يتحلّل شي ء من أبدانهم أصلا، و مع تحلّل شي ء يسير من رطوبتها فربما تستمّد الطبيعة من بدلها

من الهواء المجاور بواسطة المنافذ الضيّقة المنتشرة في أطراف البدن فيعيشون بلا غذاء و يزعمون أنّه ينكشف عليهم حينئذ أو بعد أزمنة طويلة شي ء من الحقائق و المعارف و لهم في ذلك قصص و حكايات لا مساغ للعقل إلى التصديق بأمثالها.

الثاني من أقسام الحكمة العقلية هو الحكمة العمليّة الّتي يكون المقصود منها العمل و إن كان كثير من العلوم المتقدّمة أيضا كذلك إلّا أنّنا، تابعناهم في اصطلاحهم، و عرّفوها بأنّها معرفة مصالح الحركات الإرادّية و الأفعالية الصناعية لنوع الإنسان من حيث إنّه يؤدّي إلى النظام الأتمّ الأصلح فيما يتعلّق بمعاشه و معاده، و قسّموها إلى أقسام ثلاثة لأنّها إمّا أن يتعلق بكلّ نفس بانفرادها، و تسمّى سياسة النفس، و علم تهذيب الأخلاق أو بها و بما تحتاج إليه من شهوات قواها الثلاثة الّتي هي الناطقة و الشهوية و الغضبيّة، يسمّى تدبير المنزل، و كان أرسطو يسمّيه المدينة

______________________________

عن الصادق عليه السلام كما في تفسير البرهان ج 3 ص 22.

(1) في ظلال نهج البلاغة: الخطبة 155 ج 2 ص 413.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 175

الفاضلة أو بما يعمّ من ليس لهم مشاركة معه في المنزل و البيت و الدار بل يعرف بها الأحوال الكليّة الّتي تشترك فيها أهل البلدان و الأقاليم، و هو السياسة الملكيّة و السلطانيّة قالوا: و هذا كلّه فيما إذا كان مبدء الحكم فيها العقول المستقيمة و التجارب الصحيحة و هذا في الأحكام الّتي لا يختلف فيها الشرائع و الأديان. و أمّا ما يختلف باختلاف الأدوار و تقلّب الأطوار و الآثار فمبدؤها هو الوضع لا الطبع.

ثمّ الواضع إن كان اتفاق جماعة فيما يتعلّق بأمر المعاش فهو علم الآداب و الرسوم العرفّية و إن كان

شخصا مؤيّدا من عند اللّه مخصوصا بالفيوض الربانيّة و الإلهامات الالهيّة الّتي منها الوحي و العصمة و المعجزة فهي الدولة النبويّة و النواميس الإلهيّة الّتي ختمها اللّه سبحانه بالشريعة الحقة النبوية المصطفويّة المشتملة على جميع العلوم الحقّة الالهيّة و الأسرار المصونة الربانية ممّا يتعلّق بالتوحيد و المبدء و المعاد و معاش العباد من حيث الوحدة و العشرة و العبادة بما يحفظ به المقاصد الخمسة الّتي هي العقل و النفس و الدين و النسب و المال و غير ذلك من أسرار علم الأخلاق، و السياسة البدنيّة و المدنيّة و العشرة مع الأهل و الأولاد و الإخوان، و غيره من افراد الإنسان إلى غير ذلك ممّا يجد المتأمّل فيها جميع محفوظات الحكماء السالفين في طوال تلك الأدوار و السنين بل و جميع ما أورثت الأمم من الأنبياء و المرسلين و الأوصياء الصدّيقين بالنسبة إلى ما ورثنا اللّه سبحانه من نبيّنا و آله الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) كقطرة من المحيط و شعرة في البسيط.

و امّا الحكمة الشرعيّة، فتنقسم إلى اصوليّة و فروعيّة، و المراد بالأولى المسائل الاعتقادية الّتي لا تتعلّق بكيفيّة العمل سواء وجب الإعتقاد بها في الشريعة على عامّة الناس بحيث لا يعذر جاهلها، و هي أصول الأصول أو لا يجب معرفتها

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 176

جميع طبقات الناس لاختلاف أفهامهم و مراتبهم في العلم و المعرفة، و هي فروع الأصول، فكلّ من الأصول الخمسة الإسلاميّة بل الإيمانّية و إن كانت عن أصول الأصول لكنّ المباحث المتعلّقة بكلّ منها بعد الاتّفاق على الأصول كالبحث عن الصفات الذاتيّة و الفعليّة و الفرق بينهما و تعيين كلّ منهما و البحث عن خصوص كلّ من الصفات فيه سبحانه و

الاشتراك اللفظي و غيرها من المباحث كلّها من فروع الأصول، كما أنّ المسائل العمليّة المتعلّقة ببيان أحكام أفعال المكلّفين هي فروع الفروع و القواعد الكلّية الّتي يستنبط منها تلك الأحكام كقاعدة اليد و الإقرار و الضرر و السلطنة و غيرها من القواعد الكلّية هي أصولها.

و بالجملة فيبحث في الأصول الشرعيّة عن الوجود و انقسامها على سبيل الاشتراك اللفظي إلى الأقسام الثلاثة الّتي هي الوجود الحقّ و الوجود المطلق و الوجود المقّيد و بيان التوحيد في المقامات الأربعة الّتي الذّات و الصفات و الأفعال و العبادة، و الفرق بين مقام الأحدّية و الواحدّية و أنّ كمال التوحيد نفي الصفات و أنّها تنقسم إلى ذاتّية هي عين الذّات بلا مغيرة أصلا لا في الخارج و لا في الذهن، و لا بحسب الإعتبار و إلى فعليّة مخلوقة في مرتبة بالإمكان و الأكوان، و أيضا إلى جماليّة و جلاليّة و إن كان الكلّ قدسّية تنزيهيّة، و بيان معنى القدم و الحدوث، و أنّ كلّا منهما إمّا حقيقي أو اضافي ذاتيّ أو غيري، و أنّ الأزل و الأبد نفس الذات لا من الأوعية الّتي هي السرمد و الدهر و الزمان، و أنّ الارادة و الكلام و المشّية كلّها من صفات الفعل فهي حادثة مخلوقة، و أنّ القران حادث مخلوق غير مختلق و لا مختلف، و تحقيق معنى الاسم و الفعل، و أنّ الأول ما يدلّ على المسمّى و الثاني أثر الفاعل و انقسام الأسماء إلى الحسنى و السوءى، و شرح الأسماء الحسنى، و خصوص التسعة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 177

و التسعين الّتي من أحصى ألفاظها أو معانيها أو التحقّق و التخلّق بها دخل الجنّة «1» و تعيين الاسم المقدّم الجامع

و الاسم العظيم الأعظم، و كيفيّة المداومة على كلّ اسم من أسماء اللّه و شرائطها و آدابها و أعدادها، و التكلّم في روحانياتها، و بيان مباحث العدل، و سبب ذكره بخصوصه من جملة أصول الدين دون غيره من صفات الأفعال بل و من صفات الذات أيضا، و إبطال الجبر و القدر و تعيين الأمر بين الأمرين،، و أنّ حقيقة الفعل هو الوجود المطلق المنقسم الى المشيّة و الإرادة و القدر و القضاء و الإمضاء، و أنّ صفات الفعليّة مرجعها الى المشيّة الفعليّة الّتي خلقها اللّه بنفسها و أمسكها في ظلّها، و أنّ المشيّة بقسميها أعني الإمكانيّة و الكونيّة حادثة كحدوث الأعيان الثابتة في مراتب المشيّة ردّا على من زعم أنّها غير مجعولة بل هي قديمة كقدم بعض الصفات الّتي يسمّونها المعاني و الأحوال و غيرها، و أنّ أوّل ما خلق اللّه نور نبيّنا محمّد و آله الطّاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) «2» و بيان حقيقة المعجزة

______________________________

(1) اشارة إلى الحديث الذي رواه الفريقان عن المعصوم كما

روي الصدوق في توحيده عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) انه قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما مائة الّا واحدة من أحصاها دخل الجنّة إلخ

و كما

روي السيوطي في الدر المنثور انه سأل الباقر (عليه السلام) أباه السجاد (عليه السلام) عن الأسماء التسعة و التسعين التي من أحصاها دخل الجنّة فقال (عليه السلام): هي في القرآن ففي الفاتحة خمسة أسماء: يا اللّه. يا رب يا رحمن يا رحيم. يا مالك إلخ.

(2) الأخبار بهذا المضمون كثيرة منها

ما رواه المجلسي قدس سره في بحار الأنوار ج 15 ط. الجديد ص 23: عن أبي جعفر عليه السلام

قال لجابر الجعفي: يا جابر كان اللّه و لا شي ء غيره، لا معلوم و لا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلقه أن خلق محمدا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و خلقنا أهل البيت من نور عظمته إلخ. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 178

و الكرامة و أنواعهما و مراتب المعراج، و خصوص ما اختصّ به نبيّنا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و أنّ جميع الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقرّبين و العباد الصالحين بل الجنّة و طينة عليّين كلّها مخلوقة من أشعّة أنوارهم و تجلّيات أطوارهم على حسب تدرّج المراتب و ترتّب الدرجات، و بيان المراد بالنبوّة و الولاية المطلقتين و المقيّد في مقام التكوين و التشريع، و بيان النسب بين الثمانية، و أنّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) كان متحقّقا بجميع ذلك بنفسه، و بأوصيائه، و بسفرائه المبعوثين الى جميع الأمم الّذين منهم الألف ألف آدم في ألف ألف عالم، و بيان عالم الذرّ و تعدّده، و كيفيّته، و سبب الإجابة و الإنكار، و أنّ من أجاب خلق بصورة الإجابة و من أنكر خلق بصورة الإنكار، و بيان، السرادقات النوريّة و الحجب الّتي هي سبعون ألف حجاب من نور و ظلمة و العرش و الكرسي و القلم و لوحي المحو و الإثبات و سائر الألواح الجزئيّة و لوح القدر و القضاء و البداء و حقيقته و موضعه من الكون، و حملة العرش و أصناف الملائكة من العالين و الكرّوبيّين و الصّافين و الحافّين و غيرها ممّا لا يعلم عدد أنواعها فضلا عن أشخاصها إلّا اللّه و الراسخون في العلم الّذين أشهدهم اللّه خلق السماوات و الأرض، و بيان المجرّدات

و الملأ الأعلى العالية عن الموادّ الخالية عن القوّة و الاستعداد، و كيفيّة ترتّب العوالم و تنزّلها من الدرّة الى الذرة، و بيان العمق الأكبر، و الأرض الجرز، و أرض الزعفران، و ورق الأس، و ورق الزيتون، و خلق النور و الظلمة و طينة عليّيين و سجّين، و بحر نون و صاد و المزن، و طينة خبال، و تلاقي الرشحات النازلة عن الأولى و الأدخنة الصاعدة عن الثانية في هذا العالم الّذي هو ملتقى البحرين و البرزخ في البين، و أنّ حقيقة النور هو قبول الولاية و الظلمة إنكارها، و عرض ولاية النبيّ و الأئمّة عليهم الصلاة و السلام على أهل جميع العوالم و جميع الآدميين، و أنّهم هم الحجج على جميع ما خلق اللّه تعالى و تحقّقهم في

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 179

مقام الخضوع و الانقياد و العبوديّة الّتي كنهها الربوبيّة إذ مربوب و بيان بدو خلقهم و كينونتهم، و ميمنتهم، و علمهم، و معرفتهم بالنورانيّة و تصرّفهم في الملك و الملكوت، و اختصاصهم بمزايا الّتي اصطفاهم اللّه لمعرفتها و علم الخلفاء و التقلّب في القوالب المثاليّة، و علم طيّ الزمان و المكان و القرائة، و سائر الحركات، و علم نشر كلّ ذلك و علم التكسير و الإكسير و الجفر و الجامعة و صحيفة جدّتنا فاطمة الزهراء (روحي لها الفداء، و على أبيها و بعلها و بنيها و عليها أفضل الصلاة و الثناء) و علم البلايا و المنايا، و معرفة الأنساب و فصل الخطاب، و معرفة حقائق هذه العلوم و غيرها من غرائب علومهم و عجائب أحوالهم و أطوارهم في جميع النشئات، و في هذه النشأة السفلية الناسوتيّة الّتي كانوا مخلوقين قبلها بألوف

من السنين بل كان نور نبيّنا خاتم النبيّين (صلّى اللّه عليه و آله أجمعين) مقدّما في الخلق على نور خاتم الوصيّين الّذي هو عينه و نفسه حيث خلقهم اللّه تعالى نورا واحدا بثمانين ألف سنة من سني الربوبيّة الّتي كلّ يوم منه كألف سنة ممّا تعدّون فما ظنّك بتقدّمهم على غيرهم من المنغمسين في الغواسق الظلمانيّة الهيولانيّة الّتي تتقدّم خلق أرواحها عليها بأربعة آلاف عام أو بسبعين ألف عام، و معرفة المراتب الأربعة للعقل النظري و العملي و إبطال العقول العشرة، و بيان العقول الجزئيّة الّتي هي من رؤوس المشيّة و بيان الأرواح الخمسة الّتي خامسها روح القدس، و بيان حقيقتها و رتبتها و تأييدها، و مغايرتها، للروح الّتي هي من أمر الربّ، و أقسام النفوس الأربعة الّتي هي نامية نباتيّة، و حسيّة حيوانيّة، و ناطقة قدسيّة، و كليّة الهيّة، و السبعة الّتي هي الأمّارة، و الملهمة، و اللّوّامة، و المطمئنّة، و الرّاضية، و المرضيّة، و الفائزة، و كيفيّة تزكية النفس و رياضتها بالتخلّي من الرّذائل و التحلّي بالفضائل، و بيان تبعيّة التشريع للتكوين، و سبب التكليف، و بعث الأنبياء و نصب الأوصياء، و حقيقة العصمة، و تجلّيها على

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 180

قلوب شيعتهم على حسب قربهم، و عدم خلوّ أرض الأكوان عن الحجّة، و أنّها لو خلت منها ساعة لساخت بأهلها و رجعت الى عدمها، و كيفيّة ظهور التوحيد في الدول الثلاث الّتي هي دولة النبوّة و الولاية الظاهرة و الولاية الباطنة، و أنّ الأمر في غير الأخيرة على الامتزاج و الاختلاط و لطخ الطينين، و تلاقي البحرين و تشابه الحركتين، و فيها على صريح الحق و محض التوحيد، و بيان سرّ

الغيبة، و وجه انتفاع الأنام به (عليه السلام) في التكوين و التشريع حالة الغيبة و غيرها نوّابه الخاصّة و العامّة، و الأوتاد و الأركان و الأبدال و السيّاح و البدلاء و النخباء و النقباء و رجال الغيب المشار إليهم في دعاء أمّ داود «1» و في حديث جابر و غيره، و ترتيب طبقاتهم و مراتبهم و شئونهم، و سرّ الدّعاء و الإجابة و التوسّلات و الرّياضيّات و التوجّهات و المنامات المبشّرات و الاطّلاع على المغيّبات، و بيان كيفيّة الرجعة و ظهور الدولة الحقّة، و أنّ لكلّ نفس ميتة و قتلة، و حقيقة الموتتين و النفختين و ما يحدث في البين، و كيفيّة الضغطة و السؤال و البرزخ و الحشر و الموقف و الميزان و الحساب و الكتاب و الجنّة و النار و الروحانيّين و الجسمانيّين و بيان المراد من الجسمين و الجسدين، و مراتب الكسر و الصوغ و سرّ الصوغ الّذي بعده كسر و الّذي لا كسر بعده، و سرّ

______________________________

(1) دعاء أم داوود دعاء جليل مشهور بين أهل الروايات و قد صار موسما عظيما في يوم النصف من رجب معروف بالإجابة

رواه الصدوق، و الشيخ الطوسي، و ابن طاووس في الإقبال و غيرهم. و من جملة فقراتها: اللّهمّ صلّ على الأبدال و الأوتاد و السياح إلخ.

و أمّ داوود اسمها حبيبة أو فاطمة بنت عبد اللّه بن إبراهيم زوجة الحسن المثنّى و ابنها داوود بن الحسن بن الحسن المجتبى (عليه السلام) كان من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، حبسه المنصور الدوانيقي فعلّم الصّادق (عليه السلام) أمّه الدعاء المعروف، و عمل الاستفتاح في نصف رجب لنجاة ابنها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 181

الخلود و ابطال انقطاع العذاب،

و بيان الأعراف و أهلها، و سرّ عدد الدرجات و الطبقات و الزبانيّة و الخطائر، و أنّ في الجنّة عبادة من غير تكليف، و تعدّد الأكوان و النشآت و العوالم و الخلق الجديد و الشفاعة (الكليّة و الوسيلة و المقام المحمود) الى غير ذلك من المباحث الكثيرة الّتي ستسمع استيفاء الكلام في شرحها في مواضع من هذا التفسير إن شاء اللّه الموفّق الفيّاض.

و أمّا الحكمة الشرعيّة الفرعيّة: فقد يدرج فيها ما مرّت إليه الإشارة كعلم الأخلاق و المعاشرة و تزكية النفس و غيرها. لكنّ المراد بها حيثما أطلقت الأحكام العمليّة الفقهيّة الّتي يبحث فيها عن أحوال أفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء و التخيير و الوضع. و المراد بالاقتضاء طلب الفعل أو الترك مع المنع من النقيض أو الإذن فيه، و بالتخيير الإباحة الشرعية أو العقليّة و إن لم يرد فيه شرع خاص و إن لم يخل عن شرع عامّ لاندراجة تحت الأصول و العمومات مع أنّ كلّما حكم به العقل حكم به الشرع و بالعكس على ما بيّناه في الأصول، و بالوضع جميع الأحكام الوضعية المعتبرة باعتبار الشرع لها كالصحّة و الفساد و الطهارة و النجاسة و الشرطيّة و الجزئيّة و السببيّة و المانعيّة و اللزوم و الإشتغال و غيرها ممّا يبحث فيها عنه حتّى القواعد الفقهيّة الّتي هي مغايرة لمسائلها، و القواعد الأصوليّة و مسائلها أيضا.

نعم ها هنا علوم آليّة هي كالمبادئ لها بل لغيرها أيضا و علوم هي الأصول لها. أمّا العلوم الآليّة فكثيرة كعلم النحو الّذي وضعه مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) و علّمه أبا الأسود الدئلي ثمّ انتشر منه و وسع الناس فيه.

و السبب في ذلك على ما ذكره ابن طاووس

و غيره أنّ قريشا كانوا يزوّجون

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 182

الأنباط «1» فوقع فيما بينهم أولاد ففسد لسانهم حتّى أنّ بنتا لخويلد الأسدي كانت متزوّجة في الأنباط فقالت: إنّ أبوي مات و ترك على مال كثير فلمّا رأى عليّ (عليه السلام) فساد لسانها أسّس النحو «2».

و

روي أنّ إعرابيّا سمع عن سوقيّ يقرأ إنّ اللّه بري ء من المشركين و رسوله «3» بالجرّ فشجّ رأسه فخاصمه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له في ذلك. فقال:

إنّه كفر باللّه في قراءته فقال (عليه السلام): إنّه لم يتعمّد بذلك «4».

و

روي أنّ أبا الأسود كان في بصره سوء و له بنت تقوده الى عليّ (عليه السلام) فقالت: يا أبتاه ما أشدّ حرّ الرّمضاء (بضمّ الدال و الراء) تريد التعجب فنهاها عن مقالها و أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك فأسّس «5».

و

روي أنّ أبا الأسود كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل: من المتوفّي (بكسر الفاء) «6»، فقال: اللّه، ثمّ إنّه أخبر عليّا (عليه السّلام) بذلك فأسّس «7».

______________________________

(1) النبط بفتحتين و بكسر الباء قوم من العرب دخلوا في العجم و الروم و اختلفت أنسابهم و فسدت ألسنتهم، و ذلك لمعرفتهم بإنباط الماء أي استخراجه لكثرة فلاحتهم و الجمع أنباط.- مجمع البحرين كتاب الطاء باب ما أوّله النون-.

(2) الشيعة و فنون الإسلام تأليف السيد حسن الصدر نقلا عن المناقب لابن شهر آشوب ص 159.

- بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج 40 ص 161-.

(3) التوبة: 3.

(4) بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج 40 ص 162.

(5) بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج 40 ص 162.

(6) بصيغة أسم الفاعل.

(7) بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج 40 ص 162.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 183

فعلى أيّ

وجه كان دفعه (عليه السّلام) الى أبي الأسود و قال: ما أحسن هذا النحو أحش له «1» في المسائل فسمّي نحوا.

و

عن ابن سلّام «2» كانت الرقعة: الكلام ثلاثة أشياء: اسم و فعل و حرف جاء لمعنى، فالإسم ما أنبأ عن المسمّى، و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، و الحرف ما أوجد معنى في غيره، و بعضهم اقتصر على هذا القدر، و بعضهم حكى أزيد من ذلك: و كتب (عليه السلام) في آخره كتبه عليّ بن أبو طالب فعجزوا عن ذلك فقالوا أبو طالب اسمه لا كنيته و قالوا: هذه تركيب مثل حضر موت.

و عن الزمخشري في «الفائق»: ترك في حال الجرّ على لفظه في حال الرّفع لأنّه اشتهر بذلك و عرف فجرى مجرى المثل الذي لا يغيّر «3».

و

في «محاضرات الأوائل» عن السيوطي عن أبي الأسود قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) فرأيته مطرقا متفكّرا فقلت: فبم تفكّر يا سيّدي؟ فقال (عليه السلام): إنّي سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربيّة.

فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا و بقيت فينا هذه اللّغة، قال: ثمّ أتيته بعد ثلاث فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم اللّه الرحمن الرحيم الكلمة اسم و فعل و حرف. فالإسم ما أنبأ عن المسمّى، و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، و الحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم و لا فعل ثمّ قال (عليه السلام) لي: تتبّعه و زد فيه ما وقع لك، و اعلم يا أبا الأسود أنّ

______________________________

(1) أحش: علق عليه حواشي.

(2) هو أبو عبيد قاسم بن سلّام بن مسكين بن زيد الهروي الفقيه الأذيب اللّغوي المحدّث القاري توفي بالمدينة المنوّرة أو مكّة المكرّمة سنة (224) ه

أو قبلها.

(3) بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج 40 ص 162. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 184

الأشياء، ثلاثة: ظاهر و مضمر و شي ء ليس بظاهر و لا مضمر، قال أبو الأسود:

فجمعت منه أشياء و عرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت فيها إنّ و أنّ وليت و كأنّ و لعلّ و لم أذكر لكنّ، فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها.

فقال: بلى هي منها فزدها فيها. و رواه الزجّاج في «الأمالي» بالإسناد عن أبي الأسود «1» و أرسله غير واحد من أصحابنا أيضا.

و علم التصريف الّذي ربما يذكر فيه علم الاشتقاق و علم الخطّ أيضا.

و علم اللّغة الذي لم يكن في أوّل الأمر اهتمام بتدوينه و نقله و ضبطه الى أن شرّف اللّه تعالى هذا اللّسان بنبيّه المرسل و كتابه المنزل بعد ما كانت اللّغة العربيّة في نفسها أفصح اللّغات و أوجزها و أوسعها كما يشهد به مقايستها بغيرها من اللّغات، بل

روى الشيخ الصّدوق في «العلل» عن مولانا الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: ما أنزل اللّه (تبارك و تعالى) كتابا و لا وحيا إلّا بالعربيّة فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم و كان يقع في مسامع نبيّنا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بالعربيّة فإذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربيّة فيقع في مسامعهم بلسانهم و كان أحد لا يخاطب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بأيّ لسان خاطبه إلّا وقع في مسامعه بالعربيّة كلّ ذلك يترجم جبرائيل تشريفا من اللّه تعالى له.

و علم المعاني و البيان و البديع و غيرها من العلوم المتداولة الّتي يغني عن التعرّض لها شيوع تداولها.

و أمّا العلوم الشرعيّة الّتي

ليست بأصليّة اعتقاديّة محضة فهي ثلاثة: علم الكتاب العزيز، و علم الأحاديث المأثورة عن النّبي و الأئمّة الطّاهرين (صلوات اللّه

______________________________

(1) معجم الأدباء: ج 14 ص 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 185

عليهم أجمعين) و علم الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

أمّا علم الأخبار المأثورة و الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الّتي يقابل بها الأصوليّة و غيرهما ممّا يتوقّف كلّ منها عليه كأصول الفقه و الدّراية و الرجال و غيرها من المبادئ العامّة و الخاصّة لكلّ منهما فاشتهار القول فيها و كثرة تداولها أغنانا عن التعرض لها في خصوص المقام الّذي كان المقصود فيه الإشارة الى نوع العلوم.

و أمّا علم تفسير الكتاب و هو المقصود بالبحث في هذا الكتاب فلنشر الى تعريفه و موضوعه و غايته و مرتبته من العلوم و جملة من مبادئه على وجه الاختصار بعد التنبيه على شرف العلم سيّما ما تعلّق فيه بالكتاب السنّة.

الفصل الثالث

في شرف العلم و فضله من الكتاب و السنة و العقل أمّا الشواهد القرآنيّة فكثيرة جّدا كقوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «2» فإنّه أثبت الرفعة و الفضيلة أولا للمؤمنين ثمّ خصّ من بينهم أولى العلم و فضّلهم على غيرهم بدرجات مبهمة غير معيّنة تعظيما و تفخيما و تكثيرا لها و أشعارا على أنّها على حسب اختلاف مراتبهم في العلم. ثمّ إنّ التفضيل بالدرجات و إن كان للمؤمنين أيضا من أهل بدر في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى قوله:

______________________________

(2) المجادلة: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 186

لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ «1» و للمجاهدين في قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً «2» و لمن وفّق للايمان و العمل

الصالح في قوله تعالى:

وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى «3» إلّا أنّ درجات أهل العلم أرفع من درجات الجميع لأنّ الايمان يجمعهم و يشملهم و قد جعله عامّا متعقّبا بالخاص لمزيد الإختصاص سيّما بعد كون المخاطب بقوله: منكم من مؤمني أهل بدر و مع اتّصافهم بالجهاد و الإيمان و العمل الصالح فدلّت الآية الشريفة على أشرفيّة أهل العلم على غيرهم من بني آدم المفضّلين على غيرهم من أهل العالم بل يستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ «4» وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «5» و كقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «6» الدالّ على نفي المساواة بين العالم و الجاهل بل قيل: إنّه يرجع إليه أيضا ما في القرآن من نفي الدالّ المساواة في المواضع الستّة الباقية تمام السبعة الّتي فرّق بينهما و هي مضافا إليه الخبيث و الطّيب، الأعمى و البصير، و الظلمات و النور، و الظلّ و الحرور، و الأحياء و الأموات، و أصحاب الجنة و أصحاب النّار.

و كقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ «7» فبدء، سبحانه أوّلا بنفسه و ثنّى بالملائكة، و ثلّثهم بأولى العلم، و كفى به شرفا و فضلا

______________________________

(1) الأنفال: 2.

(2) النساء: 95.

(3) طه: 75.

(4) الانعام: 83. و يوسف: 76.

(5) يوسف: 76.

(6) الزمر: 9.

(7) آل عمران: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 187

بل اقتصر عليهم بعد ذكر نفسه سبحانه في قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1» على أظهر الوجهين بل و في قوله تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ

عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «2» و قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «3» حيث شاركوا الملائكة في أجلّ صفاتهم فإنّهم من خشية ربّهم مشفقون، بل قد يقال: إنّه يستفاد من الحصر الظاهر منه بضميمة قوله تعالى:

جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إلى قوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ «4» إنّه ليس للجنّة أهل إلّا العلماء الّذين هم أهل الخشية. و قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ «5» و قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «6» و قوله تعالى: وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ «7» و قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ «8» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا يخفى التقريب في كلّ منها.

و أمّا الأخبار فكثيرة،

ففي «الأمالي» عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) من خرج من بيته يطلب علما شيّعه سبعون ألف ملك يستغفرون له «9».

و

فيه عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم» فاطلبوا العلم من مظانه و اقتبسوه من أهله فانّ تعليمه للّه حسنة و طلبه عبادة،

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) الرعد: 43.

(3) فاطر: 28.

(4) البينة: 8.

(5) النمل: 15.

(6) العنكبوت: 49.

(7) سبأ: 6.

(8) الروم: 22.

(9) أمالي الشيخ الطوسي- بحار الأنوار- ط الاخوندي ج 1 ص 170. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 188

و المذاكرة به تسبيح، و العمل به جهاد، و تعليمه من لا يعلمه صدقة، و بذله لأهله قربة الى اللّه تعالى، لأنه معالم الحلال و الحرام، و منار سبل الجنة، و المؤنس

في الوحشة، و الصاحب في الغربة و الوحدة، و المحدّث في الخلوة، و الدليل على السرّاء و الضرّاء و السلاح على الأعداء، و الزّين عند الأخلّاء، يرفع اللّه به أقواما فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم، و يهتدي بفعالهم، و ينتهى الى رأيهم، و ترغب الملائكة في خلّتهم، و بأجنحتها تمسحهم، و في صلاتها تبارك عليهم يستغفر لهم كل رطب و يابس حتى حيتان البحر، و هو امه و سباع البر و أنعامه، إنّ العلم حياة القلوب من الجهل و ضياء الأبصار من الظلمة، و قوّة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، و مجالس الأبرار، و الدرجات العلى في الآخرة و الاولى، الذكر فيه يعدل بالصيام، و مدارسته بالقيام، به يطاع الرّب و يعبد، و به توصل الأرحام، و به يعرف الحلال و الحرام، العلم امام العمل و العمل تابعه يلهمه السعداء، و يحرّمه الأشقياء، فطوبى لمن لا يحرمه اللّه منه حظّه «1».

و

فيه عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): العالم بين الجهّال كالحيّ بين الأموات، و إنّ طالب العلم ليستغفر له كل شي ء حتى حيتان البحر و هو امه، و سباع البر و أنعامه فاطلبوا العلم، فانه السبب بينكم و بين اللّه «2».

و

في «غوالي الليالي» «3» عنه عليه السلام، من خرج من بيته يلتمس بابا من

______________________________

(1) أمالي الشيخ الطوسي- بحار الأنوار- ط الاخوندي ج 1 ص 171.

(2) أمالي الشيخ الطوسي- بحار الأنوار- ط الاخوندي ج 1 ص 172.

(3) غوالي الليالي- بحار الأنوار- ط الاخوندي ج 1 ص 177. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 189

العلم لينتفع و يعلّمه غيره كتب اللّه له بكل خطوة «1» عبادة ألف سنة صيامها و قيامها و

حفّته الملائكة بأجنحتها، و صلّى عليه طيور السماء و حيتان البحر و دوابّ البر، و أنزله اللّه منزلة سبعين صدّيقا، و كان خيرا له من أن كانت الدنيا كلّها له فجعلها في الآخرة.

و

في «منية المريد» عنه عليه السلام: من أحبّ أن ينظر الى عتقاء اللّه من النار فلينظر الى المتعلّمين، فو الذي نفسي بيده ما من متعلّم يختلف الى باب العلم إلّا كتب اللّه له بكل قدم عبادة سنه، و بنى اللّه له بكل قدم مدينة في الجنة و يمشي على الأرض و هي تستغفر له، و يمسي و يصبح مغفورا له و شهدت الملائكة أنّهم عتقاء اللّه من النار «2»

، و

قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): من جائه الموت و هو يطلب العلم ليحيا به الإسلام كان بينه و بين الأنبياء درجة واحدة في الجنة «3».

و

قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): نوم مع علم خير من صلاة مع جهل «4».

و

قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): من تعلّم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل كان أفضل من أن يصلّي ألف ركعة تطوعا «5».

و

في «جامع الاخبار» عنه عليه السلام: يا أبا ذر من خرج من بيته يلتمس بابا من العلم كتب اللّه- عز و جل- له بكل قدم ثواب نبي من الأنبياء و أعطاه اللّه بكل حرف يسمع أو يكتب مدينة في الجنة، و طالب العلم أحبه اللّه و أحبّه الملائكة

______________________________

(1) الخطوة بضم الخاء و سكون الطاء: ما بين القدمين عند المشي.

(2) بحار الأنوار ط الاخوندي ج 1 ص 184.

(3) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص 184 عن منية المريد.

(4) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص

185 عن منية المريد.

(5) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص 180 عن روضة الواعضين. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 190

و احبّه النبيون، لا يحبّ العلم إلّا السعيد، فطوبى لطالب العلم يوم القيامة، و من خرج من بيته يلتمس بابا من العلم كتب اللّه له بكل قدم ثواب شهيد من شهداء بدر، و طالب العلم حبيب اللّه، و من أحبّ العلم وجبت له الجنة، و يصبح و يمسي في رضا اللّه، و لا يخرج من الدنيا حتى يشرب من الكوثر، و يأكل من ثمرة الجنة و يكون في الجنة رفيق الخضر عليه السلام، و هذا كله تحت هذه الآية: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «1».

و

قال مولينا أمير المؤمنين عليه السلام: كفى بالعلم شرفا أنه يدّعيه من لا يحسنه و يفرج إذا نسب اليه، كفى بالجهل ذما أن يتبرّأ منه من هو فيه.

و

عنه عليه السلام، العلم أفضل من المال بسبعة: الأوّل: أنه ميراث الأنبياء، و المال ميراث الفراعنة، و الثاني: العلم لا ينقص بالنفقة و المال ينقص، و الثالث يحتاج المال إلى الحافظ، و العلم يحفظ صاحبه، الرابع: العلم يدخل في الكفن و يبقى المال، الخامس: المال يحصل للمؤمن و الكافر و العلم لا يحصل الّا للمؤمن خاصّة، السادس: جميع الناس يحتاجون إلى العلم «العالم» .. في أمر دينهم، السابع: العلم يقوّي الرجل على المرور على الصراط و المال يمنعه «2».

و

قال عليه السلام: الجاهل صغير و إن كان شيخا، و العالم كبير و إن كان حدثا «3».

و

قال عليه السلام: الناس أبناء ما يحسنون.

و

قال عليه السلام: من عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار.

______________________________

(1) بحار الأنوار ط الاخوندي ج 1 ص 178 عن جامع

الاخبار.

(2) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص 185.

(3) الحديث: الشاب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 191

و

قال عليه السلام: المودّة اشبك الأنساب و العلم أشرف الأنساب «1».

و

قال عليه السلام: لا كنز أنفع من العلم، و لا قرين سوء شر من الجهل «2».

و

قال عليه السلام: الشريف من شرّفه علمه «3».

و

قال عليه السلام: عليكم بطلب العلم فإنّ طلبه فريضة، و هو صلة بين الأخوان، و دالّ على المروئة، و تحفة في المجالس، و صاحب في السفر، و انس في الغربة «4».

و

قال عليه السلام: كل وعاء يضيق بما جعل فيه الّا و وعاء العلم فإنّه يتسع.

و

في عدّة الداعي عنه عليه السلام: جلوس ساعة عند العلماء أحبّ إلى اللّه من عبادة ألف سنة، و النظر إلى العالم أحبّ إلى اللّه من اعتكاف سنة في البيت الحرام، و زيارة العلماء أحبّ إلى اللّه تعالى من سبعين طوافا حول البيت و أفضل من سبعين حجّة و عمرة مبرورة متقبّلة، و رفع اللّه له سبعين درجة و أنزل اللّه عليه الرحمة، و شهدت له الملائكة أنّ الجنة وجبت له «5».

و

عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إن للّه- عز و جل- كلّ يوم و ليلة ألف رحمة على جميع خلقه فتسعمأة و تسعة و تسعون رحمة للعلماء و طالب العلم و المسلمين و رحمة واحدة لسائر الناس.

و

عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): حملة القرآن عرفاء أهل الجنة، و الشهداء

______________________________

(1) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص 183.

(2) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص 183.

(3) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص 183.

(4) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص 183.

(5) بحار الأنوار ط الجديد ج 1 ص 205

عن عده الداعي. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 192

قوّاد أهل الجنة، و الأنبياء سادة أهل الجنة «1».

و

عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّ فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب، و فضل العابد على غير العابد كفضل القمر على الكواكب «2».

و

في البصائر عن أبي جعفر عليه السلام، قال: عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد «3».

و

في الغوالي: علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل،

إلى ذلك من الاخبار الكثيرة الدالّة على فضل العلم و المعرفة على العبادة فضلا عن غيرها.

هذا مضافا إلى أنّ فضيلة الإنسان و شرفه على غيره ليس بشي ء مما يرجع إلى الأمور البدنية الجسمانية، و لا بشي ء من القوى الحيوانية التي هي أقوى في كثير من الحيوانات منها الإنسان بل إنّما هو بالعلم و العمل المتعلّقين بإصلاح أمور المعاش و المعاد، فيما يتعلّق بالدين و الدنيا، و لا ريب أنّ الأصل في العمل هو العلم لأنّ العامل على غير علم و بصيرة كالسائر على غير طريق لا يزيده كثرة السير إلّا بعدا و انحرافا عن الطريق، و هذا العلم قد اختصّ به الإنسان من بين الأكوان و الأعيان، و لذا قال: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ «4»، و كان أول ما أنزل على رسوله اللّه في النزول الثانوي التفصيلي الجسماني مطابقا لما في النزول الجملي الروحاني النوراني قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «5»، ثم

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 606 بتفاوت يسير.

(2) بحار الأنوار ط الجديد- ج 2 ص 19.

(3) بحار الأنوار ط الجديد- ج 2 ص 19.

(4)

الرحمن: 1- 3.

(5) العلق: 1- 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 193

لا يخفى أنّ الإنسان ميّت و حياته بالعلم و المعرفة.

فالعلم يحيي نفوسا قطّ ما عرفت من قبل ما الفرق بين الصدق و المين

العلم للنفس نور يستدلّ به على الحقائق مثل النور في العين

و ربما

ينسب إلى مولينا أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

و في الجهل قبل الموت موت لأهله و أبدانهم قبل القبور قبور

و إن أمرأ لم يحيى بالعلم ميّت و ليس له حتى النشور نشور

و من بعضهم:

الّناس موتى و أهل العلم أحياءو الناس مرضى و هم فيهم أطبّاء

و الّناس أرض و أهل العلم فوقهم سماء نور و ما في النور ظلماء

و زمرة العلم روح الخلق كلّهم و ساير الناس في التمثيل أعضاء

و عن بعض اليونانيين: كما أن البدن الخالي عن النفس يفوح منه نتن الجيف فكك النفس الخالية عن العلم و الأدب، فالحياة الحقيقة الدائمة للنفس الإنسانية إنما هي بالعلم و المعرفة و اليه إشارات كثيرة في الكتاب العزيز.

كقوله تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ «1»، و قوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ «2» أي ظلمات الجهالة و الضلالة، و قوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «3» و قوله تعالى:

______________________________

(1) يس: 70.

(2) الانعام: 122.

(3) الأعراف: 179.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 194

وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «1» يعني قبور الأجسام الناسوتية.

و

عن مولينا أمير المؤمنين عليه

السلام: إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة «2» «3».

و

كان عليه السلام يقول روّحوا أنفسكم ببديع الحكمة فإنّها تكلّ كما تكلّ الأبدان «4».

و

في النبوي: الناس كلهم موتى إلّا العالمون.

و عن بعض الحكماء: إنّ القلب ميّت و حياته بالعلم، و العلم ميّت و حياته بالطلب، و الطلب ضعيف و قوّته بالمدارسة، فهو محتجب و إظهاره بالمناظرة، و هو عقيم نتاجه العمل، فإذا زوّج العلم بالعلم توالد و تناسل ملكا أبديا لا آخر له.

و قال سقراط: من فضيلة العلم أنّك لا تقدر أن يخدمك فيه أحد كما يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك، و لا يقدر أحد على سلبه عنك.

و من جوامع الكلم قولهم: العلم أحسن حلية، و العلم أفضل قنية، العلم أفضل خلف، و العمل به أكمل شرف، لا سمير كالعلم، و لا ظهير كالحلم، خير إلّا المواهب العقل، و شرّ المصائب الجهل، من صاحب العلماء وقر، و من صاحب السفهاء حقر، من قلّ عقله كثر هزله، من لم يتعلّم في صغره لم يتقدّم في كبره.

العلم كنز لا يفنى، و العقل ثوب لا يبلى، لا يستخف بالعلم إلّا وكيع جاهل أو

______________________________

(1) فاطر: 22.

(2) نهج البلاغة ج 2- ص 181.

(3) طرائف الحكمة: لطائفها و غرائبها المعجبة للنفس اللذيذة لها- مجمع البحرين ط النجف ج 5 ص 89.

(4) في مجمع البحرين ج 4 ص 298: بديع الحكمة: غرائبها، و منه

الحديث روّحوا أنفسكم ببديع الحكمة. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 195

وضيع خامل، كم من عزيز أذلّه جهل، و كم من ذليل أعزّه عقله، الرأي بغير علم ضلال، و العلم بغير علم و بال، العلم جمال و استعماله كمال.

و عن بعضهم إذا تجرّد العلم

عن العلم يكون عقيما، و إذا خلى العمل عن العلم كان سقيما.

العقل و الشرع و إن تطابقا على شرف العلم و فضله إلّا أنّه لا ريب في اختلاف أنواع العلم من حيث الشرف و الرتبة، إمّا باعتبار الموضوع أو الغاية أو غيرها، بل ربما يكون بعض العلوم مما لا يضرّ جهله، و لا ينفع علمه و بعضها مما يضرّ و لا ينفع كالسحر المشار اليه بقوله تعالى: وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ «1»، و من هنا يظهر أنّ الوجه انقسام العلوم بانقسام الأحكام الخمسة، و قد أشير

في خبر إبراهيم بن عبد الحميد المرويّ في الكافي و غيره عن مولينا الكاظم عليه السلام إلى الأقسام منها:

قال عليه السلام: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم المسجد و إذا جماعة قد أطافوا برجل فقال (صلّى اللّه عليه و آله): ما هذا؟ فقيل: العلّامة، فقال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): و ما العلّامة فقالوا له: اعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها، و أيّام الجاهلية و الأشعار و العربية: قال: فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): ذلك علم لا يضرّ من جهله و لا ينفع من علمه، ثم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنّة قائمة، و ما خلاهن فهو فضل «2».

______________________________

(1) البقرة: 102.

(2) الأصول من الكافي ط الجديد ص 32 كتاب فضل العلم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 196

و المراد بالآية المحكمة غير المتشابهات بأن تكون واضحة الدلالة و غير المنسوخة كي يجوز العمل بها، و أمّا المتشابه و المنسوخ فلا ينتفع بهما، و الفريضة العادلة كلّ

ما علم وجوبها في الشريعة، أو خصوص ما علم من الكتاب كما هو أحد إطلاقات الفرض، أو خصوص ما علم من غيره لمقابلته في المقام للآية المحكمة و التعميم أقرب، و أبعد من الكلّ إرادة الفرائض المستعملة في باب الميراث بأن يراد العدل في القسمة أي معدّله على السهام المذكورة في الكتاب و السنّه من غير جور، أو خصوص ما اتّفق عليه المسلمون من الأحكام «1» إذ لا وجه للحمل عليهما.

و أمّا السنّة فالمراد إمّا خصوص المستحبّات، أو مع المكروهات بناء على استحباب ترك المكروه، أو ما علم بالسنّة و إن كان واجبا، و قيامها بقائها من غير نسخ.

و قد يقال في بيان هذه الأقسام: إنّ العلوم الاخرويّة قسمان: علوم معاملة و علوم مكاشفة، و الثاني لا يوجد في كل وقت إلّا في أقلّ قليل من الناس و هو أعزّ من الكبريت الأحمر و المذكور منه في القرآن إنّما هو على سبيل الرمز و الإيماء بحيث لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم. و امّا علوم المعاملة فهذه الأقسام الثلاثة المذكورة في الخبر كلّها منها، و ذلك لأنّ العلوم الدينيّة النافعة في الآخرة إمّا متعلّقة بالأصول الاعتقادية أو بالفروع العلمية، و الثانية إمّا متعلّقة بالأفعال و أعمال الجوارح من الحلال و الحرام و امّا متعلّقة بالأحوال و أعمال القلب من محاسن الأخلاق و أضدادها فهذه أقسام ثلاثة.

______________________________

(1) كما قال ابن الأثير في النهاية ج 3 ص 433: الفريضة العادلة: العدل في القسمة بحيث تكون على السهام المذكورة في الكتاب و السنة- و قيل: ما اتفق عليه المسلمون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 197

فالآية المحكمة أشارة إلى أصول العقائد و أركانها المستفادة من الآيات المحكمات القرآنيّة.

و الفريضة العادلة إشارة إلى العلم بالفرائض و الواجبات و المحرمات الّتي يجب على المكلّفين الإتيان بها أو الكفّ عنها.

و السنّة القائمة إشارة إلى العلم بالسنن و النوافل فانّها من الأعمال الّتي تؤثّر في جلب الأحوال للقلوب و كسب الأخلاق الحسنة و إزالة الملكات الرديّة و كلّها ثابتة من طريق الكتاب و السنّة.

قلت: و يحتمل أيضا أن يكون المراد بالآية المحكمة العلم بالكتاب العزيز و وجوه آياته و تفسيرها و تنزيلها و تأويلها و ظاهرها و باطنها إلى سبعين بطنا و أزيد، فإنّ الكلمة من آل محمّد (عليهم السلام) لتنصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج فما ظنّك بالقرآن الذي لا يعلمه إلّا من خوطب به و المعصومين من ذريّته و هم الرّاسخون في العلم الّذين قرنهم اللّه تعالى بنفسه في محكم كتابه.

قال (عليه السلام): ما من شي ء إلّا و فيه كتاب و سنّة.

و

قال (عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه تعالى و لكن لا تبلغه عقول الرّجال «1».

و بالفريضة العادلة ما يجب على المكلّفين علمه و لا يعذر أحد بجهله من الواجبات و المحرّمات المتعلّقة بالعبادات و غيرها، و المراد بعدلها توسطها بين طرفي الإفراط و التفريط.

و بالسنّة القائمة الطريقة المستفادة من الشريعة الحقّة في السنن و الآداب و العقود و الإيقاعات و الأحكام و الأخلاق و غيرها.

______________________________

(1) المحاسن ص 267- بحال الأنوار ج 92 ص 100 نقلا عن المحاسن.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 198

و على كلّ حال فلا ريب أنّ الأصل في العلوم الشرعية من الأصولية الاعتقادية و الفروعيّة العملية هو كتاب اللّه المشتمل على جميع المعارف و الحقائق و الأصول و الفروع، و لذا

قال

مولانا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) على ما رواه الإمام (عليه السلام) في تفسير: عليكم بالقرآن فإنّه الشفاء النّافع، و الدّواء المبارك.

عصمة لمن تمسّك به. و نجاة لمن تبعه لا يعوجّ فيقوم، و لا يزيغ فيستعتب. و لا تنقضي عجائبه، و لا يخلق على كثرة الردّ إلى أن قال (صلّى اللّه عليه و آله) ما أنعم اللّه (عزّ و جلّ) على عبد بعد الإيمان باللّه أفضل من العلم بكتاب اللّه و المعرفة بتأويله و من جعل اللّه له في ذلك حظّا ثمّ ظنّ أنّ أحدا لم يفعل به ما فعل به قد فضّل عليه فقد حقّر نعم اللّه تعالى عليه «1».

و

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «2»: فضل اللّه القرآن و العلم بتأويله، و رحمته توفيقه لمولاه محمد و آله الطاهرين و معاداة أعدائهم.

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: و كيف لا يكون ذلك خيرا مما يجمعون و هو ثمن الجنة و نعيمها، فأنه يكتسب بها رضوان اللّه الذي هو أفضل من الجنة و يستحق بها الكون بحضرة محمّد و آله الطيبين الذي هو أفضل من الجنة، ان محمد للّه و آله الطيبين أشرف زينة في الجنان.

ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): يرفع اللّه بهذا القرآن و العلم بتأويله و بموالاتنا أهل البيت و التبّري من أعدائنا أقواما فيجعلهم في الخير قادة أئمة في الخير

______________________________

(1) تفسير الامام ص 4 و 5.

(2)

يونس: 57- 58. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 199

تقتص آثارهم و ترمق أعمالهم، و يقتدى بأفعالهم و ترغب الملائكة في خلّتهم و بأجنحتها تمسحهم، و في صلواتها تبارك عليهم و يستغفر لهم كل رطب و يابس حتى حيتان البحر و هوامّه، و سباع البر و أنعامه، و السماء و نجومها «1».

و

في «نهج البلاغة» انّ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في خطبة له: و تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، و تفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، و استضيئوا و استشفوا (خ ل) بنوره فإنّه شفاء الصدور، و أحسنوا تلاوته فإنّه أحسن القصص فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم و الحسرة له ألزم و هو عند اللّه ألوم «2».

و

فيه عن مولينا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له قال عليه السلام: إنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلّا من ذاق طعمه فعلم بالعلم به جهله و بصّر به عماه و سمّع به صممه و أدرك به ما قد فات، و حيي به بعد أن مات، فاطلبوا ذلك من عند أهله و خاصّته، فإنّهم خاصّة نور يستضاء به و أئمة يقتدى بهم، هم عيش العلم و موت الجهل، و هم الذين يخبركم حلمهم عن علمهم و صمتهم عن منطقهم و ظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه «3».

______________________________

(1) تفسير الامام ص 4 و 5- بحار الأنوار ج 92 كتاب القرآن ص 183.

(2) نهج البلاغة: الخطبة- 108.

(3) نهج البلاغة: الخطبة- 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 200

الفصل الرابع

تفسير الصراط المستقيم ج 1 253

في علم التفسير علم التفسير هو علم يبحث فيه عن مراد اللّه تعالى من

قرآنه المجيد، و هذا التعريف هو المحكيّ عن مولينا قطب الدين الرازي البويهي تلميذ العلامة أعلى اللّه مقامه في شرحه للكشاف.

و أورد عليه بأنّ البحث فيه ربما يكون عن أحوال الألفاظ كمباحث القراءة و ناسخيّة الألفاظ و منسوخيّتها و أسباب نزولها و ترتيب نزولها إلى غير ذلك فلا يجمعها حدّه.

و أيضا يدخل فيه البحث في الفقه عما يثبت بالكتاب فإنّه البحث عن مراد اللّه تعالى من قرآنه، فالحدّ غير جامع و لا مانع.

قيل: و لذا عدل الشارح التفتازاني عنه إلى قوله: هو العلم الباحث عن أحوال ألفاظ كلام اللّه تعالى من حيث الدلالة على مراد اللّه تعالى.

أقول: أمّا النقض في مراده بمباحث القرائة و غيرها مما ذكره فهو غير وارد عليه، و ذلك لأنّ تلك المباحث و ما ضاهاها إن كانت له مدخلية في اختلاف المعنى المراد من اللفظ فلا ريب في دخوله من تلك الجهة في علم التفسير و الحدّ أيضا يشمله و إن لم يكن لها مدخليّة أصلا في اختلاف المعاني فدخولها في علم التفسير ممنوع جدا، و لذا أفردوا علم القرائة و غيرها بالتصنيف و إنّما أشاروا إليها في كتب التفسير على وجه الإجمال و الاختصار مع الحوالة إلى تلك الكتب و ربما لم يشيروا إليها أصلا.

و بعضهم تصدّى لذكر المشاهير منها دون الشواذّ النوادر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 201

و منهم من أشار إلى ما يختلف به المعنى الظاهر في أنظارهم دون غيره و نحن لمّا رأينا اختلاف المعاني غالبا باختلافها و لو باعتبار التأويل و البطون و دلالة الإشارة و الفحوى و غيرها فلذلك التزمنا بنقل ما ظفرنا منها في هذا التفسير مع الإشارة إلى ما ذكره من الوجوه المرجّحة لكل

منها على غيره بالنسبة إلى القراءات.

و البحث عن الناسخ و المنسوخ و أسباب النزول و ترتيبه و غيرها مع أنّ ما لا مدخليّة له منها في اختلاف المعاني مذكور في التفاسير على وجه- الاستطراد، و كذا ما يذكر فيها من البحث عن كون السورة أو الآية مكيّة أو مدنيّة و عن عدد السور و الآيات و الكلمات و الحروف و خواص السور و الآيات على الوجه المذكور في الأخبار و غيرها فإنّ ذلك كلّه مذكور على وجه الاستطراد.

و توهّم كون الجميع من التفسير ضعيف جدا بعد ظهور كون الظاهر من اللفظ حسبما يستفاد من الأخبار و يساعده العرف و اللغة هو الكشف عن المعنى المراد من اللفظ على ما سنشير إليه إن شاء اللّه في الباب السادس.

و امّا ما أورده على عكسه من النقض بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة المستفاد من الكتاب مع كونها معدودة من الفقه فهو ضعيف جدا كيف و من البيّن أنّ الاعتبارين مغايران، فإنّ الحكم المستفاد من جهة البحث من كونه مراد اللّه تعالى، من قرآنه معدود من التفسير، و من جهة كونه حكما شرعيا مستنبطا من الدليل التفصيلي معدود من الفقه.

و من هنا يظهر أنّ البحث عن آيات الأحكام و مداليلها معدود من التفسير و إن أفرده جمّ غفير منّا و ممّن خالفنا بالتصنيف.

و أما ما آثره التفتازاني فهو غير سالم عما أورد على الأول على فرض الورود و ذلك لأنّ البحث عن القراءات و أخواتها ربما لا يكون بحيث يؤثّر في المعنى المراد

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 202

بالدلالة و البيان سيمّا ما كان مثل التفخيم و الإمالة و الجهر و الشدّة و غيرهما من الصفات، و كذا الإدغام و الإخفاء، و

نحوها مع اللّهم إلّا أن يلتزم بخروجها عن التفسير رأسا كما أشرنا اليه، و منه يظهر ضعف ما قيل: من أنّ علم القرائه جزء من التفسير أفرز عنه لمزيد الاهتمام إفراز الكحالة من الطبّ و الفرائض من الفقه.

ثم إنّه يمكن الإيراد على تعريف التفتازاني بوجوه:

منها أنّه ينتقض في طرده بالعلوم الأدبيّة و اللغة و وجوه الإعراب و- مسائل الاشتقاق و علم المعاني و البيان و غيرهما ممّا له مدخلية تامّة في اختلاف المعاني و وجوه الدلالة إذ يصدق على كل منها أنّه علم يبحث فيه إلخ.

و يمكن الجواب بأنّ ظاهر التعريف كون موضوع العلم ألفاظ كلام اللّه تعالى من الحيثية المذكورة، من البيّن أنّ الموضوع لتلك العلوم مغاير لذلك و لو باعتبار العموم و الخصوص، ألا ترى أنّ موضوع علم النحو هو الكلمة و الكلام مطلقا لا خصوص ألفاظ القرآن، نعم يبقى الإشكال حينئذ بالنسبة إلى الكتب المصنّفة في البحث من جهات العلوم المتقدّمة عن خصوص القرآن أو عنه و عن الحديث كالكتب المصنّفة في غريب القرآن و الغريبين كمجمع البحرين و كذا ما صنّفوه في بيان وجوه إعراب القرآن و نكاته البيانية و البديعيّة، اللّهم إلّا أن يقال بالتزام دخول كل ذلك في التفسير و لا بأس به غير أنّه مخالف لظاهر الأكثر.

و منها أنّه إن أريد بمراد اللّه سبحانه مراده في نفس الأمر فلا يفيد بحث التفسير لأنّ طريقه غالبا إمّا نقل الآحاد، أو الاعتماد على أقوال المفسرين و الأدباء و اللغويين، و شي ء منها لا يفيد القطع بمراده سبحانه سيمّا بعد ملاحظة كثرة الاختلافات و تعارض الاحتمالات، على ان ما يستفاد علما أو ظنا على فرض المصادقة و الموافقة انما هو لبعض

المراد من اللفظ لإتمامه، و ان أريد به مراده في زعم

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 203

المفسّر ففيه أنّه يكون علم التفسير بالنسبة إلى كلّ مفسر بل بالنسبة إلى كل أحد شيئا آخر على أنّ المنساق من الألفاظ بحسب الوضع و الاستعمال هو المعاني النفس الأمريّة حسبما قرّر في الأصول، فلو أريد في الحدّ الدلالة على ما يظنّ أنّه المراد لوجب التقييد به صونا للتعريف عن الإجمال فضلا عن إرادة خلاف الظاهر.

و الجواب أنّ المراد هو مراده الواقعي لكن البحث عنه لا يستلزم المصادفة و الإصابة فإنّ هذا العلم إنّما سمّي بالتفسير باعتبار الاستكشاف عن مراده، فإذا أطلق على شي ء فإنّما هو باعتبار كونه كشفا عن مراد اللّه سبحانه من كتابه، فاذا فرض أنّه مخالف لما هو المراد من الآية تبيّن منه أنّه ليس بتفسير لها، و باب العلم بالمراد و إن كان مسدودا بالنظر الى معاني كثير من الآيات إلّا أنّ العلم بالطريق حاصل لثبوت حجية الأخبار المعصومية و حجّية الظن من الطريق المعتبر في باب اللغات.

و أمّا كون المستفاد بعض المراد فغير قادح بعد ظهور إرادة عدم- الإستيعاب، و ربما يجاب عن أصل الإيراد بأنّ التعدد ليس في حقيقة النوعيّة بل في جزئياتها المختلفة باختلاف القوابل، و بأنه قد ذكر القونوي و غيره أنّ جميع المعاني مراد اللّه تعالى لكن بحسب المراتب و القوابل لا في حقّ كل واحد.

أقول: أمّا الثاني ففاسد قطعا ضرورة أنّ إرادة اللّه سبحانه من كلامه المنزل على نبيّه المرسل ليست تابعة لأهواء الجهّال و آراء الرجال التابعين لطرق أهل الضلال، و لذا

ورد في أخبار متواترة أنّ علم الكتاب مخزون عند النبي و آله المعصومين صلى اللّه عليهم أجمعين،

و إنّه يجب على الناس الرجوع إليهم في معرفته

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 204

و أنّه لا يجوز التفسير بالرأي «1»

بل قد

روت العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنه قال: من فسّر القرآن برايه و أصاب الحق فقد أخطأ «2».

و

عن «فردوس الأحاديث» عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) من فسّر القرآن برايه و أصاب كتب عليه خطيئة لو قسمت بين الخلائق لوسعتهم.

و

من طرق الفريقين عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار «3»

، و لعلّ الظاهر أنّ مراد القونوي كون المعاني الصحيحة في مراتب الظهور و البطون كلّها مرادة للّه سبحانه و هو كلام صحيح لكنّه لا يجدي في دفع الإيراد كما لا يخفى، و مما ذكرنا يظهر الحال بالنسبة إلى الجواب الأوّل أيضا.

و منها أنّ عبارة العلم الباحث ينصرف في المتعارف إلى الأصول و القواعد الكلية أو ملكتها، و من البيّن أنّه ليس لعلم التفسير قواعد يتفرّع عليها الجزئيات إلّا في مواضع نادرة فلا يتناول غير تلك المواضع إلّا بالعناية، و لذا قيل: إنّ الأولى أن يقال: علم التفسير معرفة أحوال كلام اللّه من حيث إنّه مراد اللّه تعالى بقدر الطاقة الإنسانية.

و الجواب المنع من الانصراف المذكور بعد ظهور عموم الموصولة، بل المفرد المحلّى باللام أيضا و لو على وجه الحكمة مع تعليق البحث بالأمور الشخصية

______________________________

(1)

عن الصادق عليه السلام قال: من فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يوجر، و إن اخطأ كان أئمة عليه، تفسير العياشي ج 1 ص 17- بحار الأنوار ج 92 ص 110.

و

عنه عليه السلام: من فسّر آية من كتاب اللّه فقد كفر- المصدران المتقدمان

.

(2) رواه أبو داود و الترمذي و النسائي في صحاحهم.

(3) بحار الأنوار ج 92 ص 11 عن منية المريد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 205

من جهة خاصة.

و دعوى انّ الكلية هي المنساقة من لفظ العلم بخلاف المعرّفة ممنوعة جدا مع أنّ قضية ذلك المنع من إطلاق علم اللغة و علم التاريخ و علم الرجال و نحوها و هو كما ترى مضافا إلى أنّه يمكن المناقشة في المقدّمة الثانية أيضا.

و أمّا ما ذكره من التعريف ففيه أنّ من الظاهر أنّ الضمير في قوله: من حيث إنّه مراد اللّه للكلام.

ثم المراد به إن كان هو اللفظ فلا وجه لتقييده بحيثيّة إلّا اخرج الألفاظ المشتركة بين القرآن و غيره فيرجع الحاصل إلى معرفة ألفاظ القرآن من حيث إنّها ألفاظ القرآن و إن كان هو المعنى ففيه مع استلزامه التجوّز في الحدود أو القول بالكلام النفسي أنّه ليس للمعاني أحوال تعرف ثمّ إنّ ما يتحصّل من ذلك، ليس هو المراد بعلم التفسير كما لا يخفى، الّلهم إلّا أن يقال: إنّ المراد بكلام اللّه لفظا هو اللفظ، و مرجعا للضمير هو المعنى على وجه الاستخدام. و أنت ترى أنّ ارتكابه في التعاريف ليس على ما ينبغي.

ثمّ لا يخفى أنّ المقصود من التعاريف و الحدود المذكورة في العلوم إنّما هو مجرّد التعبير و الإشارة إلى نوع المعنى أو ما يقرب عن حقيقته بذكر بعض الآثار و اللوازم بل سبيلهم في ذلك سبيل أرباب اللّغة في الكشف من معاني الألفاظ بالتعاريف اللفظيّة إرشادا إلى تصوير نوع المعنى كقولهم: سعدانة نبت، و على هذا فلا يقدح فيها بعض المساحات الموجبة لعدم سلامة طرده أو عكسه عن بعض المناقشات، بعد إحراز الفرض الّذي هو الاشارة

إلى سنخ المعنى ليتصور الطالب فيكون على بصيرة في طلبه، و من هنا يظهر التعويل على كلّ من التعاريف المتقدّمة، و إن كان الأولى ما ذكره أوّلا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 206

و اعلم أنّ ما ذكرناه هو حدّ هذا العلم من حيث العلميّة، و أمّا من حيث الإضافة فالعلم قد مرّ بعض الكلام فيه، و ستسمع البحث عن معنى التفسير في الباب السادس إن شاء اللّه.

ثمّ أنّه قد ظهر من جميع ما مرّ أنّ موضوع هذا العلم الكتاب الّذي هو منبع كلّ حكمة و معدن كلّ فضيلة ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «1» و غايته التوصّل إلى فهم معاني كتاب اللّه تعالى بنيل الحقائق العلمية و المقاصد العملّية للفوز بسعادة الدارين و كمال النشأتين، و قد تقرّر في محلّه أنّ شرف العلم و جلالته إنّما هو باعتبار شرف موضوعه و غايته و المقاصد، و من البيّن أنّ الموضوع و الغاية في هذا العلم أشرف منهما في غيره فيكون أشرف العلوم و أعظمها على الإطلاق. أمّا شرف موضوعه فلأنّه هو الثقل الأكبر الذي قرنه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بعترته المعصومين (صلّى اللّه عليهم أجمعين) و

قال: (إنّهما لن يفترقا أبدا حتى يردا عليّ الحوض «2»

بل قد سمّاه بالثقل الأكبر و الأعظم و العترة بالثقل الأصغر، و

قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّه هو النور المبين و الحبل المتين، و العروة الوثقى، و الدرجة العليا. و الشفاء الأشفى، و الفضيلة الكبرى، و السعادة العظمى «3».

و أمّا شرف غايته فواضح بعد ما

ورد: أنّه هدى من الضلالة، و

تبيان من

______________________________

(1) سورة يوسف: 111.

(2) رواه غير واحد من الفريقين كابن سعد في الطبقات ج 2 ص 194 و الطبراني في المعجم الصغير ص 73 و السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 60 و العسقلاني في المواهب اللدنية ج 7 ص 7 و المتقي الهندي في كنز العمال ج 1 ص 342 و غيرهم كما فصّل في احقاق الحق ج 9 من صفحة 309 الى ص 375.

(3) تفسير الإمام ص 203. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 207

العمى، و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة و عصمة من الهلكة «1».

إلى غير ذلك ممّا يأتي إليه الإشارة في أخبار متواترة بل يستفاد منها فضله على جميع العلوم.

و أمّا علم أصول الدين المشتمل على معرفة اللّه سبحانه و صفاته الجماليّة و غيرها من العقائد الحقّة فهو و إن كان مفصّلا على غيره من العلوم إلّا أنّه غير خارج من علم التفسير، فإنّ إثبات التوحيد و أدلّتها و سائر المعارف الحقّة كلّها مستفادة من كتاب اللّه سبحانه بل ليس من علم حقّ إلّا و في كتاب اللّه تعالى أصله و معدنه كما

في الخبر بل فيه تبيان كل شي ء «2»، و تفصيل كل شي ء «3»، و ما فرط اللّه فيه من شي ء «4»

كما في الآيات فهو محتو على علم الحقائق الكلية و العقائد الأصلية و الأحكام الفرعية و العملية و غيرها من العلوم الحقّة المتعلقة بالدين و الدنيا و ان كان الناس في جهالة و ضلالة عن العلم بها و معرفة طرق استنباطها منه: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «5».

و من هنا يظهر أنّ مباديه علوم كثيرة بل

أكثر العلوم من جملة مباديه، و قد أنهاها بعضهم الى ثلثين علما مع تقصير واضح في ترك بعض العلوم أيضا، بل التأمّل الصحيح قاض بأنّ استنباط بعض المعاني و البطون القرآنية موقوف على علوم غيبية و أسرار إلهية و معرفة أنواع من الدلالات و الإشارات المحجوبة عن غير الأئمة المعصومين عليهم صلوات اللّه و بتلك الطرق يستنبطون منه جميع المعارف

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 5.

(2) كما في المصحف الشريف: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ النحل: 89.

(3) كما في القرآن: وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ يوسف: 111.

(4) كما في الكتاب العزيز: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ: الانعام: 38.

(5) النساء: 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 208

و الأحكام الشرعية و الحوادث الواقعة مما كان أو يكون إلى يوم القيامة، و إلّا فمن البيّن أنّ العلم بالأوضاع الظاهرة اللغوية و الدلالات المستفادة العرفية غير واف باستنباط عشر عشير من معشار تلك العلوم الجمّة المحتوية على تمام عالم التكوين و التشريع، و لذا

ورد في أخبار كثيرة أنّهم عليهم السلام، هم المخصوصون بعلم تفسير كتاب اللّه و أنّ عليا هو تفسير الكتاب، و أنّه هو الّذي عنده علم الكتاب

كما يستفاد ذلك من الأخبار المتواترة المأثورة في تفسير آيات كثيرة كقوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «1» و قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «2» و قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «3» و قوله تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «4» و قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «5» و قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ

حَقَّ تِلاوَتِهِ «6» و قوله تعالى:

وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «7» و قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «8» و قوله تعالى: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «9» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة بل أخبار المتواترة التي تأتي إلى بعضها الإشارة، و لذا أطبقت أمّة النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) من العامّة و الخاصّة على أنّه عليه

______________________________

(1) الرعد: 43.

(2) آل عمران: 7.

(3) العنكبوت: 49.

(4) النساء: 82.

(5) فاطر: 32.

(6) البقرة: 121.

(7) الانعام: 59.

(8) الانعام: 38.

(9) يس: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 209

السلام، كان أعلم الناس، بكتاب اللّه بعد النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) «1»، و رجوع الصحابة إليه في معرفة تنزيل الآيات و تأويلها مشهور بين الفريقين «2».

و قول ابن عباس الذي هو من أعظم مفسريهم بل سمّوه ترجمان القرآن «3»:

إنّ علمي إلى علم علي عليه السلام كالقرارة في المتفجّر «4» مشهور، و في كتب الفريقين مسطور و قد

روى أنّه عليه السلام تكلّم معه في تفسير الباء من البسملة إلى مطلع الفجر ثم قال له يا ابن عباس لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من باء بسم اللّه الرحمن الرحيم «5»

و عن تفسير النقاش عن ابن عباس: جلّ ما تعلمت من التفسير من علي بن أبي طالب عليه السلام.

و عن ابن مسعود: أنّ القرآن انزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلّا له ظهر و بطن، و إنّ علي بن أبي طالب علم الظاهر و الباطن «6».

______________________________

(1) قال سعيد بن المسيب: ما كان أحد بعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) أعلم من علي بن أبي طالب،

الكنى و الأسماء للدولابي (ج 1 ص 197).

(2) قال ابن أبي الحديد: من العلوم علم التفسير و عن علي عليه السلام أخذ و منه فرّع لأنّ أكثره عنه و عن ابن عباس و قد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له و انقطاعه اليه، و انه تلميذه و خرّيجه، شرح النهج- ج 1 ص 6.

(3) كما عن ابن مسعود انه قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس، الاعلام زركلي ج 4 ص 229.

(4) الصحيح: المثعنجر بضم الميم و سكون الثاء و فتح العين كما قال ابن الأثير في النهاية في كمله ثعجر: المثعنجر أكثر موضع في البحر ماء، و منه حديث ابن عباس «علمي بالقرآن في علم علي كالقرارة في المثعنجر» و الميم و النون زائدتان، و القرارة: الغدير الصغير، النهاية ج 1 ص 212.

(5) رواه جماعة من العامة منهم الشعراني في لطائف المنن ج 1 ص 171 قال (ع) لو شئت لأوقرت ثمانين بعيرا من معنى الباء.

(6) رواه جماعة من العامة منهم الحافظ ابو نعيم في حلية الأولياء (ج 1 ص 65) و منهم العلامة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 210

و في «كشف الظنون عن أسامي الكتب و الفنون»: أنّ الخلفاء الأربعة أكثر من روى عنه علي بن أبي طالب عليه السلام، و الرواية عن الثلاثة في ندرة، ثم حكى عن ابن مسعود أنّ عليا عنده علم ظاهر القرآن و باطنه، و أنّ ابن مسعود ينتهي أكثر رواياته اليه.

و في كتب الرجال: أنّ ميثم الّتمار كان يقول لابن عباس: سلني ما شئت من القرآن فإنّي قرأت تنزيله على أمير المؤمنين عليه السلام و علّمني تأويله «1».

و عن فضائل العكبري قال الشعبي: ما أحد أعلم بكتاب

اللّه بعد نبي اللّه من علي بن أبي طالب عليه السلام «2».

و

عن «تاريخ البلاذري» و «حلية الأولياء» قال علي عليه السلام: و اللّه ما نزلت آية إلا و قد علمت فيما نزلت و أين نزلت أ بليل نزلت أم بنهار، و نزلت في سهل أو جبل، إنّ ربي وهب لي قلبا عقولا و لسانا سئولا «3».

و

عن «قوت القلوب» قال علي عليه السلام: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الكتاب «4».

و

في «كتاب سليم بن قيس» عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: كنت إذا سئلت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) أجابني و أن فنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية في ليل أو نهار و لا سماء و لا أرض و لا دنيا و لا آخرة و لا جنة و لا نار و لا سهل و لا جبل و لا نور و لا ظلمة إلّا أقرأنيها و أملأها علي و كتبتها بيدي،

______________________________

الخواجة بارسا في فصل الخطاب على ما في ينابيع المودة ص 373.

(1) كشف الظنون ج 1 ص 429.

(2) بحار الأنوار ج 92 ص 93.

(3) بحار الأنوار ج 92 ص 93.

(4) بحار الأنوار ج 92 ص 93. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 211

و علّمني تأويلها و تفسيرها، و محكمها و متشابهها، و خاصّها و عامّها، و كيف نزلت، و أين نزلت، و فيمن أنزلت إلى يوم القيامة دعا اللّه لي أن يعطيني فهما و حفظا فما نسيت آية من كتاب اللّه و لا على من أنزلت «1».

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التي تأتي إلى بعضها الإشارة في الأبواب الآتية.

ثم إنّ الأئمة المعصومين صلّى اللّه عليهم قد أورثوا منه علم الكتاب

كما أنّهم قد أورثوا منه الكتاب الذي جمعه بعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) و أصحابهم (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) كانوا في كل عصر يقتبسون من مشكاة أنوارهم، و يلتمسون من جواهر أسرارهم مما يتعلّق بالشرايع و الأحكام و الحلال و الحرام و مسائل الأصول و القصص و التفسير، و غيرها فكم صنّفوا فأكثروا و قصّروا و طوّلوا في فنون العلوم الدينية و الأحكام الشرعية حتّى أنّ المضبوط في كتب الرجال من كتبهم المصنّفة في عصر الأئمة عليهم السلام، أزيد من ستة آلاف كتاب و كانوا يقتصرون في كل ذلك ما هو المستفاد من نصوص أهل الخصوص من دون استعمال شي ء من الآراء و الأهواء.

فمن مصنّفاتهم في علم التفسير تفسير أبان بن تغلب، و تفسير إبراهيم بن محمد الثقفي، و له أيضا كتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام، و تفسير أحمد بن الحسن الأسفرايني الضرير المفسّر، الموسوم «بالمصابيح في ذكر ما نزل من القرآن في أهل البيت».

قال النجاشي: و هو كتاب كثير الفوائد، و تفسير أحمد بن صبيح، و تفسير

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 99 بتفاوت يسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 212

أحمد بن محمد بن الحسن القمي، و تفسير ابن عقدة، قال النجاشيّ: و هو كتاب حسن.

و تفسير أحمد بن محمد بن عيّاش المشتمل على الناسخ و المنسوخ، و تفسير أبي حمزة الثمالي و قد روى عنه الثعلبي و غيره و للشيخ طريق اليه.

و تفسير جابر بن يزيد الجعفي، و تفسير الحسن بن أحمد العلوي النقيب في خصائص أمير المؤمنين عليه السلام من القرآن، و تفسير الحسن بن محبوب، و تفسير الحسن بن

فضّال، و تفسير الحسين بن سعيد، و تفسير الحسين بن علي العربي، و تفسير الحصين بن مخارق، و كتاب ناسخ القرآن و منسوخه و محكمه و متشابهه لسعد بن عبد اللّه الاشعري، و تفسير سلمة بن الخطاب، و كتاب ما نزل في الخمسة لعبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري، و له تفسير آخر كبير، و له أيضا كتاب ما نزل من القرآن في علي عليه السلام، و كتاب الناسخ و المنسوخ لعبد اللّه بن عبد الرحمن المسمعي، و تفسير علي بن إبراهيم القمي، و قد حكينا عنه كثيرا في هذا التفسير، و له أيضا كتاب الناسخ و المنسوخ، و تفسير علي بن أبي حمزة البطائني و تفسير علي بن أبي سهل القزويني، و تفسير علي بن الحسن بن فضّال، و تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي، و هو و إن لم يكن مذكورا في كتب الرجال إلّا انه مذكور في أسانيد الأخبار و لو أظفر على أحد قبل شيخنا المجلسي حكى عن تفسيره نعم قال في أول البحار: انه و ان لم يتعرض الأصحاب لمؤلفه بمدح و لا قدح لكن كون أخباره موافقة لما وصل إلينا من الأحاديث المعتبرة، و حسن الضبط في نقلها مما يعطي الوثوق بمؤلفه، و حسن الظن، قال و قد روى الصدوق عنه أخبارا بتوسط الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، و روى عنه الحاكم أبو القاسم الحسكاني في «شواهد التنزيل» و غيره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 213

أقول: و في «مجمع البحرين» في مادة فرت: فرات بن إبراهيم له تفسير عظيم الشأن، و هو من جملة الرواة الذين يروي عنهم علي بن إبراهيم.

أقول: و على كل حال فهو ممدوح جدّا و أخباره

في غاية الاعتماد.

و تفسير علي بن مهزيار، و تفسير عيسى بن داود الكوفي، و تفسير الفضل بن شاذان، و تفسير محمد بن إبراهيم الجعفي الموسوم بتفسير معاني القرآن و تسمية أصناف كلامه، و تفسير محمد بن أحمد بن أبي الثلچ الموسوم بكتاب التنزيل في أمير المؤمنين عليه السلام، و كتاب نوادر القرآن لمحمد بن أحمد أبي الحسن المحاربي، و كتاب تفسير الباطن لمحمد بن أرومة، و له تفسير آخر، و له أيضا كتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام، و كتاب المجاز من القرآن لمحمد بن جعفر الهمداني، و كتاب إعراب القرآن لمحمد بن الحسن بن أبي سارة الرواسي أستاذ الكسائي، و تفسير محمد بن الحسن بن الوليد القمي، و تفسير محمد بن خالد البرقي، و له أيضا كتاب التنزيل و التأويل، و كتاب تأويل ما أنزل في البني (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) لمحمد بن عيّاش، و له أيضا تفسير كبير، كتاب ما نزل في شيعتهم، و كتاب ما نزل في أعدائهم، و كتاب الناسخ و المنسوخ له أيضا، و تفسير الشلمغاني، و العبدكي الجرجاني، و تفسير محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، و تفسير محمد بن مسعود العياشي، و له تفسيران آخران، أحدهما التنزيل و الآخر باطن القرآن، و المشهور من الثلاثة هو الأول لكن الموجود منه نسخة محذوفة الأسانيد، قال شيخنا المجلسي: إن بعض الناسخين حذف أسانيده للاختصار و ذكر في أوله عذرا هو اشنع من جرمه.

تفسير معلى بن محمد البصري، و تفسير منخل بن جميل، و كتاب جوامع التفسير لموسى بن إسماعيل، و تفسير وهب بن حفص أبي علي الجريري، و كتاب

تفسير الصراط المستقيم، ج 1،

ص: 214

ما نزل من القرآن في علي عليه السلام، لهارون بن عمر المجاشعي، و تفسير يونس بن عبد الرحمن، و كتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام، و أهله لابي الفرج الأصفهاني، و تفسير أبي منصور الصرّام النيسابوري قال الشيخ في الفهرست: إنه كبير حسن و تفسير ابن عبدك، قال الشيخ في الفهرست: انه كبير حسن، و تفسير الأصول ابن وضاح إلى غير ذلك من التفاسير المصنفة في أعصار الأئمة عليهم السلام، بل سائر الأصول و مصنّفاتهم، التي هي أكثر من ذلك و أكثرها مشتمل على كثير من الأخبار المتضمنة للتنزيل و تأويل الآيات هذا مضافا إلى ما رووه عنهم عليهم السلام، من كتب التفسير ككتاب التفسير الذي رواه الصادق عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام، المشتمل على أنواع آيات القرآن و شرح ألفاظه برواية محمد بن إبراهيم النعماني و قد أورده شيخنا المجلسي بتمامه في كتاب القرآن، و التفسير المنسوب إلى الامام الهمام الحسن ابن علي العسكري عليه و على آبائه و على ولده الخلف الحجة أفضل الصلاة و السلام، و الإسناد اليه مذكور في أوله و شهرته بين الإمامية و تلقّيهم له بالقبول و إيرادهم أخباره في كثير من الكتب و الأصول يكفينا مؤنة التأمل في أحوال رجاله فضلا عن الإصغاء إلى قدح من يقدح فيه من المحدّثين سيما مع كون الأصل في ذلك هو ابن الغضايري الذي لا يكاد يسلم من طعنة جليل.

و لذا قال شيخنا المجلسي- رحمه اللّه- في أول البحار: انّ تفسير الامام عليه السلام من الكتب المعروفة و اعتمد الصدوق عليه و أخذ منه و إن طعن فيه بعض المحدثين لكن الصدوق (رحمه اللّه) أعرف

و أقرب عهدا ممن طعن فيه و قد روى عنه أكثر العلماء من غير غمز فيه انتهى كلامه- زيد مقامه-.

مع ان الأصل في قدحه انما هو رمي محمد بن القاسم المفسر بالضعف و الكذب

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 215

و انه يرويه عن رجلين مجهولين، و فيهما ما لا يخفى، أما محمد بن القاسم فقد أكثر الصدوق من النقل عنه في كثير من كتبه «كالفقيه» و كتاب «التوحيد» و عيون أخبار الرضا عليه السلام و غيرها، و في كل موضع يذكره يقول رحمه اللّه أو رضي اللّه عنه مع انه قد قال في أول «الفقيه» ما قال «1»، و أما الرجلان فالصدوق أعرف بحالهما مع أن شيخنا الطبرسي قال في أول «الاحتجاج» قال اي الصدوق- رحمه اللّه-: حدّثني ابو الحسن محمد بن القاسم الإسترابادي المفسّر قال: حدّثني أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، و أبو الحسن علي بن محمد السيّار، و كانا من الشيعة- الإمامية الحديث، و من هنا و غيره قد بالغ غير واحد من الإمامية في الذبّ عنه و حكموا بالاعتماد عليه، و لذا أوردناه بتمامه في هذا التفسير مفرّقا على ما يناسبه من الآيات.

ثم إنّ طريقة المفسرين من أصحاب الأئمة عليهم السلام، كانت مستقره على الاقتصار على إيراد الاخبار بل و كذا غيرهم من مصنّفي الأصول و الأحكام، و اما الطبقة المتاخرة عنهم فإنّهم و إن اقتفوا آثارهم في الاعتماد على الأخبار إلّا أنّه بسطوا الكلام مضافا الى ذلك في البحث و الاستدلال و وجوه الاستنباط و النظر في اللغات و إعراب الكلمات و اختلاف القراءات و ربما تصدّوا لحكاية أقوال المفسّرين من العامّة لا لاعتماد عليها بل لترجيح بعض ما

وافق الحقّ منها على غيره، أو للردّ عليها، أو للتنبيه على ضعفها و قصورها، أو لغير ذلك من الأغراض الصحيحة، و بالجملة فمن التفاسير المصنفة بعد الطبقة الاولى كتاب التفسير للصدوق الأوّل و كتاب التفسير للصدوق الثاني محمد بن علي بن بابويه القمي، قال النجاشي: له

______________________________

(1) قال: إني لا أورد في هذا الكتاب إلّا ما أفتي به و أحكم بصحته، و هو حجة بيني و بين ربي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 216

جامع كبير، و كتاب مختصر تفسير القرآن، و كتاب الناسخ و المنسوخ، و كتاب تفسير ثالث لم يتمّه.

و مما صنّفه الشيخ السعيد المفيد كتاب الكلام في وجوه إعجاز القرآن، و كتاب البيان تأليف القرآن، و كتاب الكلام في حروف القرآن، و كتاب البيان من غلط قطرب في القرآن.

و من مصنّفات المرتضى رضي اللّه عنه كتاب الصرفة في إعجاز القرآن، و كتاب الغرر و الدرر المتضمن لتفسير كثير من الآيات، و قد حكينا عنه كثيرا في هذا التفسير.

و للسيد الرضي رضي اللّه عنه كتاب تفسير القرآن و كتاب «المتشابه في القرآن» و كتاب «حقايق التنزيل» و كتاب «مجازات القرآن».

و للشيخ أبي جعفر الطوسي طاب ثراه كتاب «التبيان في تفسير القرآن».

و للشيخ أمين الدين أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي كتاب «مجمع البيان في معاني القرآن» عشر مجلدات، و كتاب «الوسيط في التفسير» أيضا أربع مجلدات، و هو المسمى بجوامع الجامع، و التفسير الوجيز مجلد، و له أيضا التفسير الكافي الشاف من كتاب الكشّاف، و لعله هو الثالث المتقدم.

و للحسين بن علي الخزاعي الرازي المفسر التفسير المسمى «بروض الجنان و روح الجنان» في تفسير القرآن عشرون مجلدا قال ابن شهر آشوب: فارسي عجيب.

أقول: و قد

رأيت قطعة وافرة من أواخر سورة البقرة و أواسط القرآن و ذكر بعض الاصحاب: أنّ له تفسيرا آخر بالعربية.

و للشيخ الجليل قطب الدين الراوندي كتاب خلاصة التفاسير عشر مجلّدات.

و للعلامة الحلي- أعلى مقامه- كتاب إيضاح مخالفة السنة لنص الكتاب

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 217

و السنّة، قال في «أمل الآمل»: رأينا منها نسخة قديمة من الخزينة الموقوفة الرضوية سلك فيها مسلكا عجيبا، قال: و الذي وصل إلينا هو المجلد الثاني و فيه سورة آل عمران لا غير ذكر فيها مخالفتهم لكلّ آية من وجوه كثيرة بل لأكثر الكلمات، و له تفسير آخر سماه بنهج الإيمان في تفسير القرآن، و له تفسير ثالث سماه بكتاب الأنس لأهل التميز في تفسير الكتاب العزيز.

و للشيخ أحمد بن متوّج البحراني كتاب تفسير القرآن، و له رسالة في الآيات الناسخة و المنسوخة.

و لشيخنا البهائي طاب ثراه التفسير الموسوم بالعروة الوثقى لم يتمّ و آخر موسوم بعين الحياة، و له حواش و تعليقات على الكشاف و تفسير البيضاوي.

و للسيد هاشم البحراني كتاب البرهان في تفسير القرآن ستّ مجلدات، قد جمع فيه جملة من الأخبار الواردة من الكتب القديمة، و له أيضا كتاب الهادي و ضياء النادي مجلدات.

و للشيخ عبد على الحويزي تفسير «نور الثقلين» و للمحدث الكاشاني «الصافي» و «الاصفى»، و لختنه «1» الصدر الأجلّ الشيرازي التفسير الموسوم «بمفاتح الغيب»، و له أيضا تفسير سورة الحديد و سورة التوحيد و الواقعة و الأعلى و آية الكرسي و غيرها من الآيات و السور.

و أما تفاسير العامّة فهي بكثرتها مقصورة على النقل عن بعض الصحابة و التابعين أو الاعتماد على آرائهم و أهوائهم التي لا طريق لها إلى فهم حقايق معاني آيات الكتاب

المبين لأنّهم لم يأتوا البيوت من أبوابها و لم يتوصّلوا إلى المقاصد

______________________________

(1) الختن بفتح الخاء و التاء كل من كان من قبل المرأة من الأب و الأخ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 218

بأسبابها و هم يروون في كتبهم على ما ستأتي الإشارة اليه

أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: أنا مدينة العلم و علي بابها،

و أنّ علم القرآن مخزون عنده و عند ذريته الطاهرين- صلّى اللّه عليهم أجمعين- و مع ذلك تريهم يتكلّمون على أهوائهم بغير علم وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و لذا لا ترى في تفاسيرهم شيئا من النور و السرور، بل لو فتّشتها لوجدتها إمّا من الأهواء المبتدعة أو مقصورة على مجرّد القشور، و من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور.

قال مصنّف كتاب «كشف الظنون» و هو من أعاظم متأخّريهم بعد الاشارة إلى طريقة أسلافهم في التفسير من الاعتماد على قول الصحابة و التابعين ما لفظه:

ثم ألّف في التفسير طائفة من المتأخرين فاختصروا الأسانيد و نقلوا الأقوال بتراء فدخل من هنا الدخيل، و التبس الصحيح بالعليل، ثم صار كل من سنح له قول يورده و من خطر بباله شي ء يعتمد عليه غير ملتفت إلى تحرير، ما ورد عن السلف الصالح و هم القدوة في هذا الباب، ثم صنّف بعد ذلك قوم برعوا في شي ء من العلوم و ملئوا كتابهم بما غلب على طبعهم من الفنّ، و اقتصروا فيه على ما تمهّروا فيه كأنّ القرآن أنزل لأجل هذا العلم لا غير، مع أنّ فيه تبيان كل شي ء، فالنحوي تراه ليس له همّ إلا الإعراب و تكثير الأوجه

المحتملة فيه و إن كان بعيدة، و ينقل قواعد النحو و مسائله و فروعه، و خلافيّاته كالزجّاج، و الواحدي في «البسيط»، و أبو حيّان في «البحر و النهر»، و الأخباري ليس له شغل إلا القصص و استيفاؤها و الإخبار عمن سلف سواء كانت صحيحة أو باطلة و منهم الثعلبي، و الفقيه يكاد يسرد فيه الفقه، جمعا و ربما استطرد الى اقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلّق لها بالآية أصلا و الجواب عن أدله المخالفين كالقرطبي، و صاحب العلوم العقلية

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 219

خصوصا الامام فخر الدين قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء و الفلاسفة، و خرج من شي ء إلى شي ء حتى يقضي الناظر العجب، لذا قال أبو حيان في «البحر»: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة إليها في علم التفسير، و المبتدع ليس له قصد إلّا تحريف الآيات و تسويتها على مذهبه الفاسد بحيث إنّه كلما لاح له شاردة من بعيد اقتصها، أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع اليه كما نقل عن البلقيني «1» أنه قال: استخرجت من الكشاف اعتزالا بالمناقيش، و الملحد فلا تسئل عن كفره و إلحاده في آيات اللّه لا فترائه على اللّه ما لم يقله كقول بعضهم في قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ «2»: ما على العباد أضرّ من ربهم، و ينسب هذا القول إلى صاحب «قوت القلوب» أبي طالب المكي، و من ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند و لا نقل عن السلف و لا رعاية الأصول الشرعية و القواعد العربية كتفسير محمود بن حمزة بن الكرماني «3» في مجلدين سمّاه العجائب و الغرائب ضمّنه أقوالا هي عجائب عند العوام و

غرائب عمّا عهد عن السلف أقوال منكرة لا يحل الإعتقاد عليها و لا ذكرها إلّا للتحذير كقوله من قال في رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ «4»: إنّه الحبّ و العشق، و من ذلك قولهم في و من شر غاسق إذا وقب «5»: انه الذكر إذا قام،

______________________________

(1) هو عمر بن رسلان بن نصير بن صالح القاهري الشافعي سراج الدين البلقيني الحافظ الأديب المفسر المتكلم توفي بالقاهرة سنة (805) ه ص 85 و من مصنفاته حاشية على الكشاف للزمخشري في ثلاث مجلدات- الضوء اللّامع ج 1-.

(2) الأعراف: 155.

(3) هو محمود بن حمزة بن نصر الكرماني الشافعي المعروف بتاج القراء، كان مقرئا مفسرا، أديبا توفي سنة (500) ه من تصانيفه عجائب التأويل في مجلدين.

(4) سورة البقرة: 286.

(5) الفلق: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 220

و قولهم من ذا الذي يشفع عنده «1»، معناه من ذلّ أي من الذلّ و ذي إشارة إلى النفس و يشف جواب من، و ع من الوعي إلى آخر ما ذكره.

______________________________

(1) البقرة: 255.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 221

الباب الثاني

اشارة

و فيه فصول

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 223

الفصل الاول

في شرفه و فضله و تمثله يوم القيامة و شفاعته لأهله الشواهد العقلية و النقلية من الكتاب و السنّة على ذلك كثيرة فإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه، و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، و قد نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله أجمعين)، و هو الحبل المتين، و الكتاب المبين، و النسخة التدوينية المطابقة لعالم التكوين، و لذا قال سبحانه: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «1»، وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «2».

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) على ما في تفسير الإمام عليه الصلاة و السلام: إنّ هذا القرآن هو النور المبين، و الحبل المتين، و العروة الوثقى، و الدرجة العليا،- و الشفاء الأشفى و الفضيلة الكبرى، و السعادة العظمى، من استضاء به نورّه اللّه و من عقد به أموره عصمه اللّه، و من تمسك به أنقذه اللّه، و من لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، و من استشفى به شفاه اللّه، و من آثره على ما سواه هداه اللّه، و من طلب الهدى في غيره أضلّه اللّه، و من جعله شعاره و دثاره أسعده اللّه، و من جعله إمامه الذي يقتدى به و معوّله الذي ينتهى اليه أدّاه اللّه الى جنات النعيم،

______________________________

(1) يس- 12.

(2) الانعام- 59. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 224

و العيش السليم «1».

و

في «الكافي»، «و تفسير العياشي» عن مولينا الصادق عليه السلام: قال:

قال- رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): القرآن هدى من الضلالة و تبيان من العمى، و

استقالة من العثرة، و نور من الظلمة، و ضياء من الأجداث (الأحزان خ ل، و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد من القرآن إلّا إلى النار «2».

أقول: الأجداث بالمعجمة جمع الجدث محرّكة بمعنى القبر و المراد من ظلمة القبور على تقدير المضاف، و يحتمل أن يكون بالحاء المهملة، فان أحداث الدهر نوائبه، و إن كان لا يخلو عن تكلف.

و

فيهما بالإسناد عن مولينا الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): أيها الناس إنكم في دار هدنة، و أنتم على ظهر سفر، و السير بكم سريع، و قد رأيتم الليل و النهار، و الشمس و القمر يبليان كل جديد، يقرّبان كل بعيد، و يأتيان بكلّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود و قال: يا رسول اللّه ما دار الهدنة؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): دار بلاغ و انقطاع فاذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفع، و ما حل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدل على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق- و باطنه عميق، له تخوم و على تخومه تخوم لا تحصى

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 302.

(2) تفسير العياشي ج 1 ص 5. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص:

225

عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، و منار الحكمة، و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة «1»، و زاد في الكافي: فليجل جال بصره، و ليبلغ الصفة نظره ينج من عطب و يخلص من نشب، فإنّ التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور فعليكم بحسن التخلّص و قلّة التربص «2».

قلت: إنّما عبّر (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) عن الدنيا بدار الهدنة و هي المصالحة و الدعة و السكون إذ فيها اختلاط الحق و الباطل مع عدم الفصل و التميز التام و التباس كل منهما بالآخر فلا يقصد فيها الاقامة بل السير على وجه السلامة، و نيل الكرامة، و هي ما أشار اليه بقوله: إنّه بلاغ إلى الآخرة و انقطاع عن الدنيا، و ما حل مصدّق أي قويّ شديد يصدّق من اتّبعه أو يصدّقه اللّه تعالى فيمن يشهد له و يشفعه فيمن يشفع فيه، أو أنه يسعى بصاحبه إلى اللّه، أو أنّه خصم مجادل لأعدائه، مصدّق موافق لأوليائه، و من جعله خلفه، يعني بالمخالفة و الإهانه و التكذيب، و التخوم كالنجوم جمع تخم بفتح المثناة و سكون الخاء المعجمة كفلس و فلوس.

و عن ابن الأعرابي و ابن السكّيت أن الواحد تخوم كرسول و الجمع تخم كرسل، و على كلّ حال فهو حدّ الأرض و في القاموس: إنه الفصل بين الأرضين من المعالم و الحدود.

و

قوله (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): لمن عرف الصفة

: أي صفه التعرّف و كيفية الاستنباط، كما قيل، أو أنّه دليل على معرفة الذات لمن عرف الصفات فإنّه لا يمكن معرفته سبحانه إلّا بالصفات التي هي نفس فعله و هو مقام المشيئة و هو الأعراف

الذين لا يعرفون اللّه إلّا بسبيل و لا يتهم و محبتهم و ذلك لأنّ القرآن إنما نزل فيهم و في

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 2.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 599.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 226

شيعتهم و في أعدائهم كما تأتي الاشارة اليه.

و

روي العياشي بالإسناد عن الحارث الأعور قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين إنّا إذا كنّا عندك سمعنا الذي نسدّد به ديننا و إذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة، و لا ندري ما هي؟ قال أو قد فعلوها؟ قال: قلت نعم قال عليه السلام: سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) يقول: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد ستكون في أمتك فتنة قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب اللّه فيه بيان ما قبلكم من خبر و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم، و هو الفصل ليس بالهزل، و من وليه من جبّار و عمل بغيره قصمه اللّه، و من التمس الهدى في غيره أضلّه اللّه، و هو حبل اللّه المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، لا تزيغه الأهوية و لا تلبسه الألسنة، و لا يخلق على الردّ، و لا ينقضي عجائبه، و لا يشبع منه العلماء، هو الذي لم تلبث الجن إذا سمعته أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «1» من قال به صدق، و من عمل به أجر، و من اعتصم به فقد هدي صراط مستقيم، هو الكتاب العزيز الذي، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد «2».

و

في «الكافي» عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يجي ء القرآن

يوم القيامة في أحسن منظور اليه صورة إلى ان قال عليه السلام: حتى ينتهي إلى رب العزة فيقول: يا ربّ فلان بن فلان أظمأت هواجره «3» و أسهرت ليله في دار الدنيا، و فلان بن فلان لم أظمئ هو اجره لم اسهر ليله فيقول- تبارك و تعالى- أدخلهم الجنة

______________________________

(1) الجن: 1.

(2) تفسير العياشي ج 1 ص 3.

(3) الهواجر جمع الهاجرة و هي شدة حر النهار. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 227

على قدر منازلهم فيقوم فيتبعونه فيقول للمؤمن اقرأ و ارق قال: فيقرأ و يرقى حتى يبلغ كلّ منهم منزلته التي هي له فينزلها «1».

و

فيه عن مولينا الصادق عليه السلام في حديث يدعى ابن آدم فيقدم القرآن أمامه في أحسن صورة فيقول: يا ربّ أنا القرآن و هذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي و يطيل ليله بترتيلي، و تفيض عيناه إذا تهجّد فأرضه كما أرضاني قال:

فيقول العزيز الجبار: عبدي أبسط يمينك فيملأها من رضوان اللّه و يملأ شماله من رحمة اللّه ثم يقال هذه الجنة مباحة لك فاقرء و اصعد فإذا قرء آية صعد درجة «2».

أقول: رضوان اللّه تعالى إشارة إلى فضله و رحمته عدله، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «3» أو أنّهما للإشارة إلى قسمي الرحمة، و هي الواسعة و المكتوبة.

و لذا

ورد في تفسير الآية عن مولينا الباقر عليه السلام: إنّ فضل اللّه رسول اللّه، و رحمته علي بن أبي طالب عليه السلام.

بل

عنه عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) فضل اللّه نبّوة نبيّكم و رحمته ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام

فبذلك

قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): بالنبوة و الولاية فليفرحوا

يعني الشيعة هو

خير مما يجمعون يعني مخالفيهم من الأهل و المال و الولد، و اختصاص اليمين بالرضوان و الشمال بالرحمة لا يخفى وجهه بعد ما سمعت و لذلك قال: و رضوان من اللّه أكبر كما أنّ امتلاء الكفّين منهما إشارة إلى عموم فيضه و شمول فضله و أنه إنّما يختلف فيهما الناس باختلاف استعداداتهم

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 601.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 602.

(3) يونس: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 228

و قبولهم و اختيارهم، كما قال سبحانه: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «1» و أما

قوله عليه السلام: اقرأ و اصعد

فكانّ الأمر فيه تكويني و إن كان مستفادا من التشريع بل مقارنا له لتطابق العوالم فالتحقق بحقيقة كلّ آية من الآيات الفرقانية، أو القرآنية يوجب تجوهر تلك الحقيقة على قدر التحقق بها في المراتب الغير المتناهية إذ به تبلى السرائر و تكشف الضمائر و تجلو الغطاء من البصائر.

و

في «الكافي» بالإسناد عن سعد الخفّاف عن مولينا أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: يا سعد تعلموا القرآن فإنّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر اليه الخلق و الناس صفوف عشرون و مأة ألف صف ثمانون ألف صفّ أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) و أربعون الف صفّ من ساير الأمم فيأتي على صفّ المسلمين في صورة رجل فيسلم فينظرون اليه ثم يقولون: لا إله إلّا اللّه الحليم الكريم إنّ هذا الرجل من المسلمين نعرفه بنعته و صفته غير أنه كان أشد اجتهادا منّا في القرآن فمن هناك أعطى من البهاء و الجمال و النور ما لم نعطه ثم يجاوز حتى يأتي على صفّ الشهداء فينظر إليه الشهداء ثم

يقولون: لا إله إلّا اللّه الرب الرحيم إنّ هذا الرجل من الشهداء نعرفه بسمته و صفته غير أنّه من شهداء البحر في صورة شهيد فينظر اليه شهداء البحر فيكثر تعجبهم و يقولون: إنّ هذا من شهداء البحر نعرفه بسمته و صفته غير ان الجزيرة التي أصيب فيها كان أعظم هولا من الجزيرة التي أصبنا فيها فمن هناك أعطى من البهاء و الجمال و النور ما لم نعطه، ثم يجاوز حتى يأتي صف النبيين و المرسلين في صورة نبي مرسل فينظر النبيون و المرسلون إليه فيشتدّ لذلك تعجبهم

______________________________

(1) الرعد: 17. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 229

و يقولون: لا إله إلا اللّه الحليم الكريم إنّ هذا النبيّ مرسل نعرفه بصفته و سمته غير أنه أعطي فضلا كثيرا قال: فيجتمعون فيأتون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) فيسألونه و يقولون: يا محمد من هذا فيقول (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): أو ما تعرفونه فيقولون: ما نعرفه هذا مما لم يغضب اللّه عليه، فيقول رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): هذا حجّة اللّه على خلقه فيسلّم ثم يجاوز حتى صفّ الملائكة في صورة ملك مقرّب فينظر اليه الملائكة فيشتدّ تعجبهم و يكبر ذلك عليهم لما رأو من فضله و يقولون: تعالى ربنا و تقدس إنّ هذا العبد من الملائكة نعرفه بسمته و صفته غير أنّه كان أقرب الملائكة من اللّه- عز و جل- مقاما من هناك البس من النور و الجمال ما لم نلبس، ثم يجاوز حتى ينتهي إلى رب العزة تبارك و تعالى: فيخرّ تحت العرش فيناديه تبارك و تعالى يا حجتي في الأرض و كلامي الصادق الناطق ارفع

رأسك و سل تعط و اشفع تشفع فيرفع رأسه فيقول اللّه تبارك و تعالى: كيف رأيت عبادي، فيقول: يا رب منهم من صانني و حافظ علي و لم يضيّع شيئا و منهم من ضيّعني و استخفّ بحقي و كذّب بي و أنا حجتك على جميع خلقك، فيقول اللّه تبارك و تعالى: و عزتي و جلالي و ارتفاع مكاني لاثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب و لأعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب قال فيرفع القرآن رأسه في صورة اخرى.

قال: فقلت له: يا أبا جعفر في أي صورة يرجع؟ قال عليه السلام: في صورة رجل شاحب متغيّر ينكره أهل الجمع فيأتي الرجل من شيعتنا الذي كان يعرفه و يجادل به أهل الخلاف، فيقول: ما تعرفني؟ فينظر اليه الرجل فيقول: ما أعرفك يا عبد اللّه قال: فيرجع في صورته التي كانت في الخلق الأول فيقول: ما تعرفني؟ فقال:

نعم، فيقول القرآن: أنا الذي أسهرت ليلك، و أنصبت عيشك و سمعت الأذى و رجمت بالقول فيّ ألا و إنّ كل تاجر قد استوفى تجارته، و أنا ورائك اليوم، قال:

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 230

فينطلق به إلى رب العزة- تبارك و تعالى- فيقول: يا رب عبدك و أنت أعلم به قد كان نصبا بي مواظبا عليّ يعادي بسبي و يحب في فيقول اللّه- عز و جل- أدخلوا عبدي جنّتي و أكسوه حلّة من حلل الجنة و توجوه بتاج، فاذا فعل به ذلك عرض على القرآن فيقال له: هل رضيت بما صنع بوليك؟ فيقول: يا رب أستقلّ هذا له فزده مزيد الخير كله فيقول: و عزّتي و جلالي و علوي و ارتفاع مكاني لأنحلنّ له اليوم خمسة أشياء مع المزيد له و لمن كان

بمنزلته الا إنّهم شباب لا يهرمون، و أصحاء لا يسقمون و أغنياء لا يفتقرون، و فرحون لا يحزنون، و احياء لا يموتون، ثمّ تلا هذه الآية لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» قلت: جعلت فداك يا أبا جعفر و هل يتكلّم القرآن؟ فتبسم ثمّ قال: رحم اللّه الضعفاء من شيعتنا إنّهم أهل تسليم، ثم قال: نعم يا سعد و الصلاة تتكلّم و لها صوره و خلق تأمر و تنهي، قال و تغير لذلك لوني و قلت: هذا شي ء لا أستطيع أتكلم به في الناس، فقال أبو جعفر عليه السلام: و هل الناس إلّا شيعتنا فمن لم يعرف بالصلاة فقد أنكر حقنا ثم قال عليه السلام: يا سعد أسمعك كلام القرآن؟ قال سعد: فقلت: بلى صلّى اللّه عليك فقال عليه السلام إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر اللّه أكبر فالنهى كلام، و الفحشاء و المنكر رجال و نحن ذكر اللّه و نحن أكبر «2».

اعلم ان التعلم المأمور به في هذا الخبر و غيره من الأخبار يشمل تعلم ألفاظه و نقوشه و معانيه، و ظواهره و بطونه، و التحقق بحقايقه، و التخلّق بأخلاقه، و امتثال أوامره و نواهيه، فان جميع ذلك داخل تحت صدق التعلم الذي له عرض عريض و ان كانت أفراده مختلفة بحسب المراتب و الدرجات التي يترتب عليها نيل

______________________________

(1) الدخان: 56.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 596.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 231

الكرامات و رفع الدرجات حسبما نشير اليه، و أمّا تمثّله يوم القيامة و مجيئه في أحسن صورة نظر اليه الخلق فلتجوهر الحقائق و تجّسم الأعمال و لذا يتجلى بأحسن صورة غير أنّ الخلايق لا يقدرون على

رؤيته على الصورة التي له في نفسه لقصور أنظارهم و كلال أبصارهم و إنّما يراه كل أحد بأحسن ما هو عنده من نظره و اعتقاده على حسبما كانوا يتعلّمونه و يتلونه في الدنيا، و لذا يترائي لكل من مأة الناس و الشهداء و الأنبياء و الملائكة على صوره أحسنهم و أشرفهم و أفضلهم فإنّهم لما آنسوا به أظمئوا هواجرهم و أسهروا لياليهم بتلاوته بل تخلّقوا بأخلاقه و تحقّقوا ببعض حقائقه عرفوه بنعته و صفته فهم لأنسهم بما يناسبه من المعارف و الحقائق يعرفونه و يأنسون به و يستبشرون برؤيته و إن كانوا لا يعرفونه حقّ معرفته لقصورهم عن إدراك درجته و مرتبته لأنّهم لم يتلوه حق تلاوته و قد يقال: إنه لما كان المؤمن في نيته أن يعبد اللّه حقّ عبادته و يتلو كتابه حقّ تلاوته إلّا أنه لا يتيسر له ذلك كما يريد.

و بالجملة لا يوافق عمله ما في نيته، كما

ورد في الحديث: نيّة المؤمن خير من عمله «1»

فالقرآن يتجلّى لكل طائفة بصورة من جنسهم إلّا انه أحسن في الجمال و البهاء و هي الصورة التي لو كانوا يأتون بما في نيتهم من العمل بالقرآن لكان لهم تلك الصورة، و إنّما لا يعرفونه بنعته و وصفه، لأنّهم كانوا يتلونه، و إنّما و صفوا اللّه بالحلم و الكرم و الرحمة حين رؤيتهم لما رأو في أنفسهم في جنبه من النقص و القصور الناشيين من تقصيرهم، و لذا يرجون من اللّه العفو و الكرم و الرحمة.

______________________________

(1) مشهور بين الفريقين و قيل في معناه وجوه و احتمالات كما في أمالي السيد المرتضى و مشكلات العلوم للنراقي و غيرهما.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 232

و أمّا إنّه سبحانه يثيب

عليه. أحسن الثواب و يعاقب عليه أليم العقاب فلأنه مشتمل على جميع شرايع الإسلام و كليات الأحكام من الأصول و الفروع، و مسائل الحلال و الحرام فهو الميزان الذي يعرف به قدر طاعة المطيعين و معصية العاصين، و ظهوره في صورة رجل شاحب: اي متغير من شحب جسمه إذا تغيّر قيل: لعله للغضب على المخالفين أو للاهتمام بشفاعة المؤمنين، كما

ورد أنّ السقط يقوم محبنطا على باب الجنة

أو لإسماعه الوعد الشديد على من خالفه، و هو و ان كان لمستخفّيه إلّا أن لا يخلو من تأثير لمن يطلع عليه و هو بعيد، بل الأول أيضا، و لعل الأقرب رجوعه إلى صورته التي هو عليها في نفسه، و لذا ينكره أهل الجمع إذ لم يعرفه أحد حقّ معرفته، و لم يتله حق تلاوته فلا يعرفونه حتى يرجع الى صورته التي كانت في الخلق الاول، و أمّا انّ الضعفاء من شيعتهم أهل تسليم فإنّهم و إن لم يعرفوا الحقائق الغامضة الكلية على ما هي عليها بالكشف و الشهود و اليقين إلّا أنّهم لوصولهم إلى مقام اليقين يقبلون كلّما سمعوا من الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين فيؤمنون بالغيب و لا يحصل لهم الشك و الريب، و ذكر شيخنا المجلسي «1».

______________________________

(1) المولى محمد باقر بن محمد تقي المجلسي ولد في اصفهان سنة 1027 و توفي فيها سنة 1110 كان شيخ الإسلام من قبل السلاطين في اصفهان و يباشر جميع المرافعات بنفسه و لا تفوته صلاة الأموات و الجماعات و الضيافات و العبادات، و كان يباشر أمور معاشه و حوائج دنياه بغاية الضبط و مع ذلك بلغت مؤلفاته ما بلغت، و خرج من مجلس درسه جماعة كثيرة من الفضلاء بلغوا

ألف و يقال تصانيفه تبلغ 1402700 بيتا و البيت عبارة عن خمسين حرفا أشهر تصانيفه و أكبرها بحار الأنوار 25 مجلدا.

قال مؤلّف الكتاب في رجاله (نخبة المقال) في ترجمة المجلسي: و المجلسي ابن تقي باقرله بحار كلها جواهر تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 233

- رحمه اللّه تعالى- في

قوله (عليه السلام) أسمعك كلام القرآن

وجوها على وجه الاحتمال: الأول أن تكلم القرآن عبارة من إلقائه إلى السمع ما يفهم منه المعنى و هذا هو معنى حقيقة الكلام فإنّه لا يشترط فيه أن يصدر من لسان لحمي، و كذا تكلم الصلاة فإنّ من أتى بالصلاة بحقّها و حقيقتها نهته الصلاة من متابعة أعداء الدين و غاصبي حقوق الأئمة الراشدين الذين من عرفهم عرف اللّه، و من ذكرهم ذكر اللّه، الثاني أن لكل عبادة صورة و مثالا تترتب عليها آثار تلك العبادة و هذه الصورة تظهر للناس في القيامة، فالمراد

بقولهم عليهم السّلام في موضع آخر: الصلاة رجل،

أنّها في القيامة تتشكل بإزائها رجل يشفع لمن ترعيها حق رعايتها، و في الدنيا أيضا لا يبعد أن يخلق اللّه بإزائها ملكا أو خلقا آخر من الروحانيين يسدّد من أتى بالصلاة حق إتيانها و يهديه إلى مراشده و كذا في القرآن و سائر العبادات، الثالث ما أفيض عليّ، ببركات الأئمة الطاهرين، و به ينحلّ كثير من غوامض أخبار الأئمة المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) و هو أنّه كما أنّ الجسد الانساني له حياة ظاهرية من جهة الروح الحيوانية المنبعثة من القلب الظاهري و بها يسمع و يبصر و يمشي و ينطق و يحسّ فكذا له حياة معنوية من جهة العلم و الإيمان، و الطاعات فالإيمان ينبعث من القلب المعنوي و يسري

في سائر الأعضاء فينوّر العين بنور آخر كما

قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): المؤمن ينظر بنور اللّه و يسمع بسمع آخر.

و بالجملة يتصرف الايمان في بدنه و عقله و نفسه و يملكه بأسره فلا يرى إلّا الحقّ و لا يسمع شيئا من الحق إلّا فهمه و صدّقه و لا ينطق إلّا بالحق و لا يمشي إلّا

______________________________ مجدد المذهب بالوجه الأتم و- عد- عمر أقبضه- حزن و غم- تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 234

للحق فالإيمان روح لذلك الجسد، و لذا قال تعالى في وصف الكفار: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ «1» و قال: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ «2» و ما ذلك إلّا لذهاب نور الإيمان من قلوبهم و جوارحهم و كذا الصلاة إذا كملت في شخص و أتى بها كما هو حقّها تصرفت في بدنه و نوّرت قلبه و سمعه و بصره و لسانه و منعته عن إتباع الشهوات و حثّته على الطاعات، و كذا ساير العبادات.

ثم إنّ القرآن ليس تلك النقوش بل هو ما يدل عليه تلك النقوش، و إنما صار الخط و ما ينقش عليه محترما لدلالته على ذلك الكلام، و الكلام إنما صار محترما مكرما لدلالته على المعاني التي أرادها الملك العلّام، فمن انتقش في قواه ألفاظ القرآن و في عقله معناه و اتصف بصفاته الحسنة على ما هي فيه، و احترز عمّا نهى اللّه عنه فيه و اتعظ بمواعظه، و صيّر القرآن خلقه، و داوى به أدواءه، فهو أولى بالتعظيم و الإكرام، و لذا

ورد «انّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة و القرآن».

فاذا عرفت ذلك فاعلم أنه كما يطلق على الجسد لتعلّق الروح و النفس به الإنسان، فكذا يجوز أن يطلق على

البدن الذي إذا كمل فيه الإيمان، و تصرّف فيه و صار روحه أنّه إيمان، و كذا الصلاة و الزكاة و سائر الطاعات، و هذا في القرآن أظهر لأنه قد انتقش بلفظه و معناه و اتصف بصفاته و مؤدّاه و احتوى عليه، و تصرّف في بدنه و قواه فبالحرّي أن يطلق عليه القرآن، فاذا عرفت ذلك ظهر لك سرّ

الإخبار الواردة في أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو كلام اللّه، و هو الايمان و الإسلام و الصلاة و الزكاة،

و قس على ذلك حال أعدائه، و ما ورد أنّهم الكفر و الفسوق و العصيان، و شرب الخمر و الزنا و سائر المحارم لاستقرار تلك الصفات فيهم، بحيث

______________________________

(1) النحل: 21.

(2) البقرة: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 235

صارت أرواحهم الخبيثة، فلا يبعد أن يكون المرد بالصورة التي يأتي في القيامة هو أمير المؤمنين عليه السلام، فيشفع لمن قرء القرآن لأنه روحه، و لا يعمل بالقرآن إلّا من يتولّاه، و ينادي القرآن بلعن من عاداه. ثم

ذكر عليه السلام لرفع الاستبعاد أنّ الصلاة رجل

و هو أمير المؤمنين فهو ينهي الناس عن متابعة من كمل فيه الفحشاء و المنكر يعني الرجلين.

و على هذا لا يبعد أن يكون

قوله عليه السلام: «أسمعك كلام القرآن»

أشار به الى أنّه عليه السلام أيضا القرآن و كلامه كلام القرآن «1»، انتهى كلامه- زيد في الخلد مقامه-.

و إنّما ذكرناه بطوله لحسن مفاده و جودة محصوله مع أنّ في كلامه كسرا لسوره إنكار أهل العناد الذين ينسبون أهل الحقّ إلى الإلحاد، و أنّ اللّه لهم بالمرصاد، و هو الهادي إلى سبيل الرشاد.

______________________________

(1) بحار الأنوار طبع الاخوندي ج 7 ص 322 الى ص 324.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص:

236

الفصل الثاني

في الحث و الترغيب على تعلم القرآن و تعليمه و العمل به و إكرامه و حفظه و حمله و قراءته و تعظيم أهله أمّا وجوب تعلمه كفاية لتوقف استنباط الأحكام عليه، و لبقاء العلم به و عدم اندراسه سيما مع كونه معجزة باقيه على مرّ الدهور، فممّا لا ريب فيه بل و لا في وجوبه عينا في الجملة من جهة توقّف صحة الصلاة الواجبة على الأعيان عليه، و امّا وجوب تعلّمه مطلقا على كل أحد، فهو و إن كان ربما يترائى من ظواهر الأوامر المتقدمة، و التي تأتي إليها الإشارة الظاهرة بإطلاقها في الوجوب إلّا أنّها محمولة على تأكّد الاستحباب لاستقرار المذهب عليه، و عدم القول بوجوبه على الأعيان، و ظهور الأخبار الكثيرة في شدّة الترغيب المحمولة لذلك، و لوجوه أخر على تأكّد الاستحباب الذي لا ريب فيه أصلا بل لعلّه من ضروري المذهب سيّما بعد ملاحظة العلوم الحقيقية و اشتماله عليها مضافا إلى خصوص الأخبار الكثيرة.

ففي «الكافي» عن الصادق عليه السلام: «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلّم القرآن أو يكون في تعلّمه» و في بعض النسخ «في تعليمه» «1».

و

فيه عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) «تعلّموا القرآن فإنّه يأتي يوم

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 607 طبع دار الكتب الاسلامية. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 237

القيامة صاحبه في صورة شابّ جميل شاحب اللون، فيقول له: أنا القرآن الذي كنت أسهرت ليلك، و أظمأت هو أجرك، و أجففت ريقك، و أسبلت دمعتك، إلى ان قال فأبشر فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه، و يعطى الأمان بيمينه، و الخلد في الجنان بيساره، و يكسى حلّتين ثم يقال له: اقرء و

ارق، فكلما قرء آية صعد درجة، و يكسى أبواه حلّتين إن كانا مؤمنين، ثم يقال لهما هذا لما علّمتماه القرآن» «1».

و

روى الصدوق بالإسناد عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قال: «من قرء القرآن ابتغاء وجه اللّه، و تفقّها في الدين كان له من الثواب مثل جميع ما أعطي الملائكة و الأنبياء و المرسلون، و من تعلّم القرآن و تواضع في العلم، و علّم عباد اللّه و هو يريد ما عند اللّه لم يكن في الجنة أعظم ثوابا منه، و لا أعظم منزلة منه و لم يكن في الجنة منزل، و لا درجة رفيعة، و لا نفيسة إلّا و كان له فيها أوفر النصيب و أشرف المنازل» «2».

و

روى الطبرسي في «المجمع» عن رجاء بن حياة قال: «كنّا أنا و أبي عند معاذ بن جبل، فقال: من هذا يا حياة؟ قال: هذا ابني رجاء، فقال معاذ: هل علّمته القرآن؟ قال: لا، قال: فعلّمه القرآن، فإنّي سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) يقول: ما من رجل علّم ولده القرآن إلّا توج أبواه يوم القيامة بتاج الملك، كسيا حلّتين لم ير الناس مثلهما ثم ضرب بيده على كتفي فقال: يا بني إن استطعت أن تكسي أبويك يوم القيامة حلّتين فافعل» «3».

و

في «ثواب الأعمال» و «الفقيه» و «العلل» عن الأصبغ بن نباتة قال: قال

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 603.

(2) وسائل الشيعة طبع بيروت ج 4 ص 838.

(3) مقدمة مجمع البيان طبع صيدا ص 9. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 238

أمير المؤمنين عليه السلام،: «إنّ اللّه ليهمّ بعذاب أهل الأرض جميعا حتى لا يحاشي «1» منهم أحدا إذا عملوا بالمعاصي و

اجترحوا السيّئات، فاذا نظر إلى الشيّب «2» ناقلي أقدامهم إلى الصلاة، و الولدان يتعلّمون القرآن رحمهم فأخّر ذلك عنهم» «3».

و

في «المجمع» عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «إذا قال المعلّم للصبي:

قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال الصبي: بسم اللّه الرحمن الرحيم كتب اللّه برائة للصبي، و برائة لأبويه، و برائة للمعلّم من النار» «4».

و

عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) من قرء القرآن حتى يستظهره و يحفظه أدخله اللّه الجنة و شفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار «5».

و

في «الخصال» و «المجمع» عن مولينا أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: من دخل في الإسلام طائعا، و قرء القرآن ظاهرا فله في كلّ سنة مائتا دينار في بيت مال المسلمين، و إن منع في الدنيا أخذها يوم القيامة وافية أحوج ما يكون إليها «6».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على فضل تعلّمه و تعليمه بشرط خلوص القصد و النية و اقترانه بالعمل به، و إلّا فالعقوبة على العالم التارك للعمل به أشدّ و أعظم و هو في الآخرة أندم و ألوم.

ففي عقاب الأعمال عن مولينا الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام

______________________________

(1) في النسخة علل الشرائع هكذا: حتى لا يريد ان يحاشي إلخ.

(2) الشيب بضم الشين و فتح الياء المشددة جمع الشائب و هو من ابيض رأسه.

(3) علل الشرائع ج 2 ص 209.

(4) مجمع البيان ج 1 ص 19.

(5) مجمع البيان ج 1 ص 17.

(6) مجمع البيان ج 1 ص 16، الخصال ج 2 ص 150. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 239

قال: من قرء القرآن يأكل به الناس جاء يوم القيامة و وجهه عظم ليس عليه

لحم «1».

و

فيه عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قال: «من تعلّم القرآن فلم يعمل به و آثر عليه حبّ الدنيا و زينتها استوجب سخط اللّه، و كان في الدرجة مع اليهود و النصارى الذين ينبذون كتاب اللّه وراء ظهورهم، و من قرء القرآن يريد به سمعة و التماس الدنيا لقي اللّه يوم القيامة و وجهه عظم ليس عليه لحم، و زجّ القرآن في قفاه حتى يدخله النار، و يهوي فيها مع من هوى، و من قرء القرآن، و لم يعمل به حشره اللّه تعالى يوم القيامة أعمى فيقول: يا رب لم حشرتني أعمى، و قد كنت بصيرا قال:

كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى فيؤمر به إلى النار، و من تعلّم القرآن يريد به رياء و سمعة ليماري به السفهاء، و يباهي به العلماء، و يطلب به الدنيا بدّد اللّه عظامه يوم القيامة و لم يكن في النار أشدّ عذابا منه، و ليس له نوع من العذاب إلّا سيعذّب به من شدّة غضب اللّه عليه و سخطه» «2».

و

روي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قال: «إنّ في جهنم واديا يستغيث أهل النار كلّ يوم سبعين ألف مرة منه، إلى ان قال: فقيل له: لمن يكون هذا العذاب؟ قال: لشارب الخمر من أهل القرآن، و تارك الصلاة» «3».

و

في «الكافي» و «الأمالي» و «الخصال» عن الباقر عليه السلام قال: «قراّء القرآن ثلاثة رجل قرء القرآن فاتّخذه بضاعة و استدر به الملوك و استطال به على الناس، و رجل قرء القرآن فحفظ حروفه و ضيّع حدوده و أقامه إقامة القدح فلا كثّر اللّه

______________________________

(1) ثواب الأعمال ص 44.

(2) عقاب الأعمال ص

45 و 47 و 52.

(3) بحار الأنوار طبع الاخوندي ج 79 ص 148. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 240

هؤلاء من حملة القرآن، و رجل قرء القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله و أظمأ به نهاره، و قام به في مساجده و تجافى به عن فراشه، فبأولئك يدفع البلاء، و بأولئك يديل اللّه من الأعداء، و بأولئك ينزل اللّه الغيث من السماء فو اللّه لهؤلاء في قراّء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر» «1».

و من جميع ما مرّ يظهر فضل إكرامه بل وجوبه في الجملة و حرمة إهانته مضافا إلى ما رواه.

و

في «الكافي» عن الصّادق عليه السلام قال: إذا جمع اللّه- عز و جل- الأولين و الآخرين إذا همّ بشخص قد أقبل لم ير قطّ أحسن صورة منه فإذا نظر اليه المؤمنون و هو القرآن قالوا: هذا منّا هذا أحسن شي ء رأينا، فاذا انتهى إليهم جازهم».

إلى ان قال: «حتى يقف عن يمين العرش فيقول الجبّار- عز و جلّ- و عزتي و جلالي و ارتفاع مكاني لأكرمنّ من أكرمك و لأهيننّ من أهانك» «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الآتية بل الاستخفاف به كغيره من شعائر اللّه التي يجب على المسلمين تعظيمها يوجب الكفر و الارتداد.

و أمّا حفظه، و حمله فالأخبار بهما كثيرة جدا.

ففي «الأمالي» عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «لا يعذّب اللّه تعالى قلبا وعى القرآن «3».

و

عنه عليه السلام: «أشرف أمّتي حملة القرآن و أصحاب اللّيل» «4».

______________________________

(1) أمالي الصدوق ص 122.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 602.

(3) أمالي الطوسي ج 1 ص 5.

(4) أمالي الصدوق ص 141.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 241

و

عنه عليه السلام: «من قرء القرآن حتى يستظهره

و يحفظه أدخله اللّه الجنة و شفّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار» «1».

و

عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنة يوم القيامة» «2».

و

في «الكافي» و «ثواب الأعمال» عن الصادق عليه السلام: «من شدّد عليه القرآن كان له أجران، و من يسّر عليه كان مع الأولين» «3».

و في رواية: «كان مع الأبرار» «4».

و

في «الكافي» و «ثواب الأعمال» عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) من قرء القرآن و هو شابّ مؤمن اختلط القرآن بلحمه و دمه، و جعله اللّه مع السفرة الكرام البررة، و كان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة يقول: يا ربّ إنّ كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه اللّه العزيز الجبّار حلّتين من حلل الجنة و يوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا ربّ قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا قال: فيعطى الأمن بيمينه و الخلد بيساره، ثم يدخل الجنة فيقال له: اقرأ آية فاصعد درجة ثم يقال له: «هل بلغنا به و أرضيناك؟ فيقول: نعم قال: و من قرأه كثيرا و تعاهده بمشقّة من شدّة حفظه أعطاه اللّه أجر هذا مرتين» «5».

و

عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قال: الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة

______________________________

(1) مجمع البيان ص 16.

(2) بحار الأنوار ج 92 ص 177.

(3) الأصول من الكافي ج 2 ص 607.

(4) ثواب الأعمال ص 91.

(5) الأصول من الكافي ج 2 ص 603. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 242

الكرام البررة «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يستفاد منها مضافا إلى

الحثّ البليغ و التأكيد الشديد على حفظه و حمله و قراءته.

و المراد بحفظه ليس مجرّد حفظ المصحف عن الضياع و عن وقوع السقط و التحريف و التغيير فيه بالزيادة و النقصان، أو حفظ قراءته بمراعات الترتيل و حفظ الوقوف و أداء الحروف أو حفظه عن ظهر القلب، و إن كان كلّ ذلك من أقسام الحفظ المطلوب شرعا المأمور به في بعض الأخبار أيضا، بل المراد به في كثير من هذه الأخبار و غيرها مضافا الى المعاني المتقدّمة التي هي من مراتبه أن يحفظ حدود معانيه و فحاويه، و مطاويه، و ظهوره و بطونه بالتحقّق بحقائقه و التخلّق بأخلاقه، و امتثال أوامره و نواهيه، و الاتّعاظ بمواعظه، و إتّباع سننه، و التدبير في أمثاله المضروبة للأنام و التفكر في حقائقه المحجوبة عن ظواهر الأفهام، المكشوفة للمقتبسين من مشكوة الوحي و الإلهام.

و كذا ليس المراد من حمله حمل صورة المصحف أو تحمل ظاهر ألفاظه أو انتقاش صور معانيه، و ترجمة ألفاظه في الذهن مع قطع النظر عن العمل به إلى غير من المراتب التي لا ينبغي الاقتصار و الجمود عليها، بل ينبغي الترقّي منها الى ما سواها، فإنّ مثل الدين حمّلوا التورية بل القرآن و غيره أيضا كما لا يخفى بشي ء من هذه المراتب و المعاني ثمّ لم يحملوها بالعمل بها و التحقّق بحقايقها، و التخلّق بأخلاقها، و غير ذلك مما سمعت كمثل الحمار يحمل أسفارا فإنّه أيضا حامل للنقوش و الأوراق المشتملة على الكتابة، فينبغي رسم العلوم الحقيقية الإلهية و كتابتها على

______________________________

(1) ثواب الأعمال ص 92 و أمالي الصدوق ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 243

الضمائر و الصدور لا الدفاتر و السّطور، و من لم

يجعل اللّه له نورا فما له من نور.

و لذا

قال الامام الهمام (عليه الصلاة و السلام)، رواية عن جده رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) أنه قال: «حملة القرآن المخصوصون برحمة اللّه الملبّسون نور اللّه، المعلّمون كلام اللّه، المقرّبون من اللّه من والاهم فقد والى اللّه، و من عاداهم فقد عادى اللّه، يدفع اللّه عن مستمع القرآن بلوى الدنيا، و عن قاريه بلوى الآخرة، و الذي نفس محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بيده لسامع آية من كتاب اللّه- عز و جل- و هو معتقد أنّ المورد له من اللّه تعالى محمد الصادق في كل أقواله الحكيم في كل أفعاله، المودع ما أودعه اللّه تعالى من علومه أمير المؤمنين عليا المعتقد للانقياد له فيما يأمر، و يرسم أعظم أجرا من ثبير ذهب يتصدّق به من لا يعتقد هذه الأمور بل صدقته وبال عليه، و لقارئ آية من كتاب اللّه معتقدا لهذه الأمور أفضل مما دون العرش الى أسفل التخوم يكون لمن لا يعتقد هذا الاعتقاد فيتصدّق به، بل ذلك كله و بال على هذا المتصدق به».

ثم قال: «أ تدرون متى يتوفر على هذا المستمع و هذا القارئ هذه المثوبات العظيمات؟ إذا لم يغل في القرآن و لم يجف عليه و لم يستأكل به و لم يراء به» «1».

و من هذا كله يظهر اختلاف المراتب و الدرجات في قراءته بحسب اختلاف الأحوال و الأشخاص و القوابل و الاستعدادات و التأثر و العمل و الاتعاظ و التخلّق، بل

قد سمعت عن مولينا الباقر عليه السلام، فيما مرّ بروايته عن «الكافي» و غيره إنّ قرّاء القرآن ثلاثة «2»

و لا يخفى أنّه بحسب الاختلاف في

الجنس و إلّا فبحسب

______________________________

(1) تفسير الامام ص 4 و 5- بحار الأنوار ج 92 ص 182-.

(2) أمالي الصدوق ص 122.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 244

الأنواع و الأصناف لا تكاد تنضبط و تتناهى لاختلاف مراتب القراءة بحسب اختلاف الأشخاص للاختلاف في الأحوال و غيرها من المشخصات بل يختلف فضل القراءة لشخص واحد في زمانين و إن كانت مطلوبة على كل حال.

و لذا

قال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) في وصيّه لعلي عليه السلام: «و عليك بتلاوة القرآن على كل حال».

و

في «المجمع» عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «أفضل العبادة قراءة القرآن «1».

و

فيه عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قال: إنّ هذا القرآن مأدبة اللّه تعالى فتعلّموا من مأدبته ما استطعتم، إنّ هذا القرآن حبل اللّه، و هو النور المبين و الشفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به، و نجاة لمن تبعه، لا يعوجّ فيقّوم، و لا يزيغ فيستعتب، و لا تنقضي عجائبه، و لا يخلق على كثرة الرّد، فاتلوه فإنّ اللّه يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إنّي لا أقول: الم عشر و لكن ألف عشر و لام عشر و ميم عشر» «2».

و

فيه عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) أنه: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق، و رتّل كما كنت ترتّل في الدنيا فإنّ منزلك عند آخر آية تقرؤها» «3».

و

عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «من قرء القرآن فرأى أنّ أحدا أعطى أفضل مما أعطي فقد حقّر ما عظّم اللّه و عظّم ما حقّر اللّه» «4».

و

في الكافي عن مولينا الصادق (عليه السلام): «ما من عبد من شيعتنا يتلو

______________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 15.

(2)

مجمع البيان ج 1 ص 16.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 16.

(4) مجمع البيان ج 1 ص 16. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 245

القرآن في صلوته قائما إلّا و له بكل حرف مأة حسنة، و لا قرء في صلوته جالسا إلّا و له بكل حرف خمسون حسنة، و لا في غير صلوته إلّا و له بكل حرف عشر حسنات» «1».

و

فيه عنه و عن السجاد عليهما السلام بالإسناد قال: «من استمع حرفا من كتاب اللّه من غير قراءة كتب اللّه له حسنة، و محى عنه سيئة، و رفع له درجة و من قرء نظرا من غير صلاة (صوت خ ل) كتب اللّه له بكل حرف حسنة، و محى عنه سيئة و رفع له درجة، و من تعلّم منه حرفا ظاهرا كتب اللّه له عشر حسنات و محى عنه عشر سيئات، و رفع له عشر درجات، قال: لا أقول بكل آية، و لكن بكل حرف باء أو تاء أو شبههما، قال: و من قرء حرفا و هو جالس في صلاة كتب اللّه له به خمسين حسنة و محى عنه خمسين سيئة، و رفع له خمسين درجة، و من قرء حرفا و هو قائم في صلاته كتب اللّه له مأة حسنة و محى عنه مأة سيئة و رفع له مأة درجة و من ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخّرة، أو معجلة قال قلت: جعلت فداك ختمه كله قال: قال ختمه كله» «2».

و

فيه بالإسناد عن الزهري قال: قلت لعلي بن الحسين عليه السلام: «ايّ الأعمال أفضل؟ قال عليه السلام: الحالّ المرتحل، قلت: و ما الحالّ المرتحل قال عليه السلام: فتح القرآن و ختمه كلما جاء بأوله ارتحل بآخره «3».

أقول:

و ستسمع سائر أخبار الحلّ و الارتحال في باب آداب القراءة

______________________________

(1)

روى هذا الحديث في الكافي و ثواب الأعمال عن أبي جعفر (عليه السلام) و أوله: من قرأ القرآن قائما في صلوته إلخ كافي ج 4 ص 611 ثواب الأعمال ص 91-.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 612.

(3) الكافي ج 2 ص 605.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 246

و أحكامها إن شاء اللّه.

و

فيه و في «معاني الأخبار» للصدوق عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «من أعطاه اللّه القرآن فرأى أنّ رجلا أعطي أفضل مما أعطي فقد صغّر عظيما و عظّم صغيرا» «1».

و

فيه عن مولينا الكاظم عليه السلام: «إنّ درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال للقارئ: اقرأ و ارق فيقرأ ثم يرقى» «2».

و

في «معاني الأخبار» عن الصادق عليه السلام، قال: «من قرء مأة آية يصلّي بها في ليلة كتب اللّه له بها قنوت ليلته، و من قرء مأتي آية في غير صلاة الليل كتب اللّه له في اللوح المحفوظ قنطارا من الحسنات، و القنطار ألف و مأتا أوقيّة و الاوقيّة أعظم من جبل أحد «3».

و

فيه عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «من قرء مائة آية لم يكتب من الغافلين، و من قرء مأتي آية كتب من القانتين، و من قرء ثلاثمائة آية لم يحاجّه القرآن، يعني من حفظ قدر ذلك من القرآن يقال: قرء الغلام القرآن إذا حفظه «4».

قلت: و الظاهر أنّه من كلام الصدوق و لعلّه وجد عليه بعض الشواهد و الّا فلا داعي للصرف عن الظاهر.

ينبغي لمن تعلم القرآن أو حفظه أن يواظب على قراءته في آناء الليل و أطراف النهار، و أن لا يتركه، و لا يهجره

تركا يودّي الى النسيان بل ينبغي ان لا يترك العمل به، و أن يتأدّب بآدابه، و يتخلّق بأخلاقه كي يكون القرآن له شفيعا

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 605.

(2) الكافي ج 2 ص 606.

(3) معاني الاخبار ص 147.

(4) معاني الاخبار ص 410.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 247

مشفّعا، و طريقا إلى رضوان اللّه مهيعا، و صديقا له سلما، و لا يكون له عدوّا خصما.

ففي «الكافي» عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام: «أن الرجل إذا كان يعلم السورة ثم نسيها أو تركها و دخل الجنة أشرفت عليه من فوق في أحسن صوره فيقول: تعرفني؟ فيقول: لا فتقول: أنا سورة كذا لم تعمل بي و تركتني أما و اللّه لو عملت بي لبلغت بك هذه الدرجة، و أشارت بيدها الى فوقها» «1».

و

فيه عن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: جعلت فداك إنّه أصابتني هموم و أشياء لم يبق شي ء من الخبر إلّا و قد تفلّت مني منه طائفة حتى القرآن لقد تفلّت مني طائفة منه قال: ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن ثم قال عليه السلام: «إنّ الرجل لينسى للسورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتى تشرف عليه من درجة من بعض الدرجات، فتقول: السلام عليك فيقول: و عليك السلام من أنت؟ فتقول: أنا سورة كذا و كذا ضيّعتني و تركتني أما لو تمسّكت بي لبلغت بك هذا الدرجة».

ثمّ أشار بإصبعه ثم قال: «عليكم بالقرآن فتعلّموه فإنّ من الناس من يتعلّم القرآن ليقال له فلان قارئ، و منهم من يتعلّمه فيطلب به الصوت فيقال فلان حسن الصوت و ليس في ذلك خير، و منهم من يتعلّمه فيقوم به في ليلة و

نهاره لا يبالي من علم ذلك و من لم يعلمه» «2».

و

عن يعقوب في خبر آخر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّ علي دينا

______________________________

(1) أصول من الكافي ج 2 ص 608.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 609. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 248

كثيرا فقد دخلني ما كاد القرآن يتفلّت مني فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: إنّ الآية من القرآن و السورة لتجي ء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة يعني في الجنة فتقول: لو حفطتني لبلغت بك هاهنا» «1».

إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على الحثّ و التأكيد الشديد في المحافظة على قراءته و المداومة عليها، بل قد سمعت أنّ المراد بذلك كلّه هو العمل به و المحافظة على أوامره و نواهيه كما صرح به في الخبر الأول و غيره.

و على هذا ينزّل أيضا ما ورد من التهديد و الوعيد على النسيان الظاهر و لو بقرينة ما تقدّم و غيره في ترك العمل به أو الترك الناشئ من التهاون و الاستخفاف كما يحمل على شي ء منها النبويّ المرويّ في «الفقيه».

و

في «عقاب الأعمال»: «ألا و من تعلّم القرآن ثم نسيه لقي اللّه يوم القيامة مغلولا يسلّط اللّه عليه بكل آية نسيها حيّة تكون قرينه إلى النار و إلّا أن يغفر له «2».

كما أنه ينزّل على نسيان مجرّد العبارة مطلقا أو للاضطرار و غيره من الأعذار ما ورد من نفي البأس عنه في الأخبار

كخبر الهيثم بن عبيد قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل قرء القرآن ثمّ نسيه فرددت عليه ثلاثا، أ عليه فيه حرج؟

فقال عليه السلام: لا «3».

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 608.

(2) بحار الأنوار ج 92 ص 187 نقلا

عن أمالي الصدوق ص 256.

(3) الأصول من الكافي ج 2 ص 608 قال الفيض الكاشاني في الوافي: أريد بنفي الحرج عدم ترتب العقاب عليه فلا ينافي الحرمان به عن الدرجة الرفيعة في الجنة على أنّ النسيان قسمان فنسيان لا سبيل معه إلى القرائة إلّا بتعلّم جديد، و نسيان لا يقدر معه على القرائة على ظهر القلب و و إن امكنه القرائة في المصحف فيحتمل أن يكون الأخير مما لا حرج فيه دون الأوّل إلّا أن

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 249

و

سئل سعيد بن عبد اللّه الأعرج أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقرأ القرآن ثم ينساه ثم يقرأه ثم ينساه أ عليه فيه حرج؟ فقال: لا «1».

بل مجرّد ترك العمل بالقرآن، و عدم الايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه يوجب شدّة العقوبة على من كان عالما به فإنّه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد، و ذلك أنّ الحجّة عليه ألزم و جرمه لعلمه أفظع و أعظم و هو عند اللّه ألوم.

و لذا

ورد في النبوي المتقدم: «إنّ في جهنّم واديا يستغيث أهل النار كل يوم سبعين ألف مرّة منه إلى اللّه و ذلك لشارب الخمر من أهل القرآن «2».

بل

روى هاشم بن سالم عن مولينا أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّ قراّء القرآن ثلاثة: قارئ قرء القرآن فحفظ حروفه، وضيّع حدوده فذلك من أهل النار و قارئ قرء القرآن فاستتر به تحت برنسه، فهو يعمل بمحكمه و يؤمن بمتشابهه و يقيم فرائضه و يحلّ حلاله، و يحرّم حرامه، فهذا ممن ينقذه اللّه من مضلّات الفتن، و هو من أهل الجنة و يشفع فيمن يشاء» «3».

و لا يخفى أنّ هؤلاء الفرقة الثالثة

هم أهل القرآن الذين يجب تعظيمهم و تكريمهم، و يحرم استضعافهم و إهانتهم كما

في «الكافي» عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين و المرسلين

______________________________

يتركه صاحب الأخير فيكون حكمه حكم الأوّل كما وقع التصريح به في الاخبار السابقة- الوافي ج 2 ص 263.

(1) الأصول في الكافي ج 2 ص 633.

(2) بحار الأنوار ج 79 ص 148.

(3) بحار الأنوار ج 92 ص 179 نقلا عن الخصال ج 1 ص 70. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 250

فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم فإنّ لهم من اللّه العزيز الجبّار لمكانا عليّا» «1»،

و قد تقدّم أنّهم أشراف الامة و عرفاء أهل الجنة، و أنّهم المخصوصون بالرحمة، و الملبّسون أنوار الكرامة، الشافعون لغيرهم يوم القيامة، إلى غير ذلك مما تقدمت الاشارة اليه.

ثم إنّ الأخبار المتعلقة بمقاصد هذا الباب كثيرة جدا و ستسمع منها عند التعرّض لآداب القرائة و أحكامها و جملة منها عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بها.

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 603.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 251

الباب الثالث

في بيان حقيقة القرآن و مراتبه في الكون و ظهوره عند التنزل في الحروف و الكلمات و تقسيم الكتاب إلى الصامت و الناطق الذين هما الثقلان اللذان لا يفترقان اعلم أنّ اللّه سبحانه و تعالى كان في أزليته و دوام سر مديّته و لم يكن معه شي ء من الأشياء لا من المجرّدات و لا من الماديات و لا من الحقائق و الطبائع و الوجود و الماهية و غيرها مما يطلق عليه اسم الشي ء فأوّل ما خلقه هو المشيّة الإمكانية ثم الكونية حسبما تأتي إليهما الإشارة و هذه المشيّة

هي التي يقال لها: الإبداع و الارادة و الفعل، و العقل، و القلم، و الصنع و الوجود المطلق، و عالم المحبة، و غيرها من الألقاب الشريفة التي ربما أشير إليها في آثار الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين، بل في بعضها بالنسبة إلى بعض هذه الألقاب إنّه أوّل ما خلق اللّه «1».

و

في النبوي أوّل ما خلق اللّه نور نبيك يا جابر

و في معناه أخبار كثيرة تدلّ على كونهم عليهم السّلام أوّل ما خلق اللّه و أن من سواهم حتى الأنبياء و الملائكة و الجنة و غيرها، إنّما خلقوا من أشعّة أنوارهم، بل يستفاد من

قوله عليه السّلام: خلق اللّه المشيّة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيّة «2»

منضمّا إلى

العلوي نحن صنائع اللّه

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 15 ص 24.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 145 نقلا عن التوحيد للصدوق و احتمل في بيان هذا الخبر الذي هو من تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 252

و الخلق بعد صنائع لنا كما في «نهج البلاغة» «1» أو صنائعنا كما في «الاحتجاج» عن الحجة- عجل اللّه فرجه- «2»

أنّهم نفس المشيّة بناء على أن نورهم عليهم السّلام في أصل الخلقة ان كان هو المشية فهو المطلوب و الّا يلزم ارتكاب التخصيص في أحد الخبرين، إلّا أن فيه بعد الغضّ عن ضعف الدليل سندا «3» و دلالة أنّ إثبات تلك المقاصد بمثله مشكل جدا، سيّما بعد ظهور أنّهم أيضا عباد مخلوقون مربوبون، لا بدّ في خلقهم من تعلّق المشيّة بخلقهم، و سبقها عليهم و على كلّ حال فالنبي و الأئمة عليهم السّلام و إن اشتركوا جميعهم- صلوات اللّه عليهم- في عالم الأنوار لاتّحاد حقائقهم و نورانيتهم إلّا أنه

روي في النبوي: أوّل

ما خلق اللّه نوري ثم فتق منه نور علي عليه السّلام فلم نزل نتردّد في النور حتى وصلنا إلى حجاب العظمة في ثمانين ألف سنة ثم خلق الخلايق من نورنا فنحن صنائع اللّه و الخلق بعد صنائع لنا «4».

______________________________

غوامض الاخبار وجوها: منها أن لا يكون المراد بالمشيّة الإرادة بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشي ء كالتقدير في اللوح مثلا و الإثبات فيه.

و منها: أن يكون خلق المشيّة بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقفة على ارادة اخرى فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها منتزعة عن ذاته تعالى.

و منها ان المراد بالمشية مشية العباد و بالأشياء أفاعيلهم.

و منها أن للمشية معنيين أحدهما متعلق بالشائي و هي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير و الصلاح و الآخر متعلق بالمشي ء و هو حادث بحدوث المخلوقات و هو إيجاده سبحانه إياه بحسب اختياره إلخ.

و منها غير ذلك و من أراد التفصيل فليراجع إلى البحار.

(1)

في جملة ما كتبه عليه السّلام إلى معاوية: فإن صنائع ربنا و الخلق بعد صنائع لنا إلخ.

(2) الاحتجاج طبع النجف ج 2 ص 278.

(3) لإرسال ما نقل عن نهج البلاغة و الاحتجاج.

(4) لم اعثر إلى الآن على مأخذه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 253

روى عن جابر بن عبد اللّه في تفسير قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): أوّل ما خلق اللّه نوري ابتدعه من نوره و اشتقه من جلال عظمته، فاقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد للّه تعظيما، ففتق منه نور علي عليه السّلام فكان

نوري محيطا بالعظمة و نور علي محيطا بالقدرة، ثم خلق العرش و اللوح و الشمس و القمر و النجوم و ضوء النهار، و ضوء الأبصار و العقل، و المعرفة، و أبصار العباد، و أسماعهم، و قلوبهم من نوري، و نوري مشتق من نوره «2».

و لا يخفى أن قضيّة الجمع بين الخبرين تقدّم نور النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) على نور علي عليه السّلام، بثمانين ألف سنة، و تقدّم نورهما معا على سائر الخلق بتلك المدّة أيضا، فيكون تقدّم النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بضعفها.

و

عن ابن بابويه عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه خلق نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل خلق المخلوقات كلّها بأربعماة ألف سنة و أربعة و عشرين ألف سنة و خلق منه اثنى عشر حجابا «3».

و المراد بالسنين مراتب تقدمه عليه السّلام على الأنبياء و بالحجب الأئمة عليهم السّلام فيستفاد منه و من غيره مما مرّ تقدم نوره (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) على غيره حتى أنوار الأئمة عليهم السّلام في عالم الأنوار، مع اتحادهم حقيقة في النورانية، فإنّ أنوارهم مشتقّة من نوره (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بعد وصوله إلى جلال العظمة في مدّة ثمانين ألف سنة كما في الخبر المتقدم.

______________________________

(1) آل عمران: 110.

(2) بحار الأنوار ج 7 ط. القديم ص 185.

(3) الخصال ج 1: 82، معاني الاخبار: 88، بحار الأنوار ج 15: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 254

تفسير الصراط المستقيم ج 1 299

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ من جملة العوالم المتطابقة المتساوية في جهة العرض المتفقة في مراتب الطول عالمي التكوين و التدوين، فإنهما واقعان في

عرض واحد لا بفصل أحدهما عن الآخر بشي ء أصلا إلّا أنّ الثاني ظلّ الأوّل و مرآته، و هو مشتمل على جميع المراتب الكلية و الحقائق الإلهية، و اللوامع النورانية المطوية في كينونة الأول.

و إن شئت فتح الباب و كشف الحجاب فاعلم، أنّ للصادر الأول تجليّا و ظهورا في عالم التكوين، و هو المعبّر عنه بالمشيّة الفعلية التي خلق اللّه تعالى بها جميع الكينونات و هو الوجود المطلق و وجه الحق و أنّ له تجليا و ظهورا في عالم التدوين، و أوّل ظهوره فيه هو الحروف النورانية العلميّة السارية في جميع الحقائق في عالم الأنوار، ثم في عالم العقول، ثم في عالم العقول، ثم في عالم الأرواح، ثم في عالم النفوس، ثم في عالم المعاني الكلية، ثم في عالم المعاني الجزئية، ثم في عالم الحروف النفسية، ثم في عالم الحروف اللفظية، ثم في عالم الحروف النقشية، و هذه الحروف أصل القرآن و حقيقته و بسائطه، بل أصل الأشياء كلها في صقع التدوين، و لذا

قال مولينا الرضا عليه السّلام عليه و التحية و الثناء في خبر عمران الصابي «1»: اعلم أن الإبداع و المشية و الإرادة معناها واحد و أسمائها ثلاثة و كان أوّل إبداعه و إرادته و مشيته الحروف التي جعلها أصلا لكل شي ء و دليلا على كل مدرك، و فاصلا لكل مشكل، و بتلك الحروف تفريق كل شي ء من اسم حق أو باطل،

______________________________

(1) عمران الصابي كان من المتكلمين في عصر المأمون، و كان منحرفا و لكن هداه اللّه بنور السّلام لمّا باحث مع الامام الرضا عليه السّلام، و ظهر له الحق فخرّ ساجدا، و أسلّم و ولاه الرضا عليه السّلام صدقات بلخ. تفسير الصراط المستقيم،

ج 1، ص: 255

أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، و عليها اجتمعت الأمور كلها و لم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهى و لا وجود لها لأنها مبدعة بالإبداع و النور في هذا الموضع أوّل فعل اللّه تعالى الذي هو نور السموات و الأرض و الحروف هو المفعول بذلك الفعل و هي الحروف التي عليها الكلام «1».

و قد

روي عن أبي ذر الغفاري عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال: قلت: يا رسول اللّه كل نبي مرسل بم يرسل؟ قال عليه السّلام: بكتاب منزل، قلت: يا رسول اللّه أيّ كتاب أنزل اللّه على آدم (عليه السّلام)؟ قال (عليه السّلام):

كتاب المعجم، قلت: أيّ كتاب المعجم؟ قال عليه السّلام: أ ب ت ث، و عدها إلى آخرها.

فالحروف البسيطة إشارة إلى بسائط العوالم و مجرّداتها و المركبة إشارة إلى كلياتها و مركباتها، و الحقائق، و الروابط و الإضافات و النسب المتصلة أو المعتبرة بينها، فهذه الحروف المعدودة مع قلّتها و تناهيها أو عية لجميع الحقائق النورية و شبكة و مصيدة لاصطياد المعارف و الحقائق و العلوم الكلية و الجزئية و لذا ليس مطلب من المطالب و لا حقيقة من الحقائق و لا شي ء ممّا في صقع الإمكان أو في عرصة الأكوان الّا و يمكن التعبير عنه بجملة من تلك الحروف المؤلفة على نسبة من التأليف المستعدّة بحسب الاستعداد أو الشخصي لاقتناص تلك المعاني، و افاضتها عليها حيث إنّ نسبتها منها كنسبة الأرواح إلى الأجساد.

و لذا

ورد عن الإمام عليه السّلام إن المعنى من اللفظ كالروح في الجسد «2».

______________________________

(1) التوحيد: ص 428- 457، عيون الاخبار: ص 87- 100.

(2)

في سفينة البحار ج 1

ص 537: نقل عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) انه قال: الروح في الجسد تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 256

و عن آصف بن برخيا على نبينا و آله عليه السّلام أنّ الاشكال مقناطيس الأرواح، بناء على شمول كل الاشكال و الأرواح للقسمين التكوينية و التدوينية بل يشمل القسم الثالث الذي هو التشريعية أيضا فالقرآن و ان كان متنزلا في هذا العالم الناسوتي الظلماني بصورة الحروف و الكلمات الملفوظة أو المنقوشة أو المتصورة الملحوظة لكنه في أصله و في بدو خلقته و عظيم جبروته نور إلهي و تجليّ شعشعاني قد تنزّل من عوالم كثيرة إلى أن تنزّل إلى هذا العالم و حيث إنّ كتاب كل نبي من الأنبياء مبيّن لعلوم شريعته، موضح لرسوم طريقته، كافل لمراتب حقيقته، كان مساوقا لرتبة وجوده، و مقام شهوده فاعتبر الفضل بين الأنبياء و لذا كان القرآن مهيمنا على جميع الكتب السماوية كما أنّ نبينا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) خاتم النبيين لما سبق و فاتح لما انفلق و مهيمن على ذلك كله.

و حيث إنّ وجود نبينا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) مبدأ التكوين فكتابه ديباجة التدوين بل تمامه و كماله لاشتماله على تمام حقايق الكون و بسائطه و مركباته لأنه قد اعتبر في تأليفه من تلك الحروف المحصورة كما أنّ الاتفاق و جميع وجوه الدلالات بكلماته و حروفه على المعاني التي لا تكاد تتناهى.

و لذا

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في تفسير باء البسملة: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير باء بسم اللّه الرحمن الرحيم «1».

______________________________

كالمعنى في اللفظ

، قال الصفدي: و ما رأيت مثالا أحسن من هذا.

(1) روى هذا الحديث جماعة من القوم مع تفاوت و اختلاف:

منهم

القندوزي في ينابيع المودة ص 65 ط اسلامبول، و الهروي في شرح العين و زين الحلم ص 91، و الكاكوردي في الروض الأزهر ص 33 ط حيدرآباد الدكن، و بهجت افندي في تاريخ آل محمّد ص 150 قالوا: قال علي كرم اللّه وجه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 257

و

قال الباقر عليه السّلام: لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه- عز و جل- حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الإيمان و الشرائع من الصمد الخبر «1».

فاتّضح أنّ رتبة القرآن مساوق لرتبة نبينا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) إلّا ان الاختلاف من جهة التكوين و التدوين فهما في عرضين من طول واحد فالاختلاف عرضي لا طولي.

و أمّا مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام، فهو و إن ساوق رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في السلسلة الطولية التكوينية إلّا أنّه متأخر عنه في هذه السلسلة بحرف واحد طولها ثمانون ألف سنة حسبما سمعت فالقرآن جامع لجميع علوم النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) مساوق معه في التدوين و إنّما كان (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) مأمورا بتعليم علوم القرآن و تبليغ شرائعه و آدابه و احكامه و سننه و لطائفه و إشاراته و حقائقه.

و لمّا كان الناس يومئذ غير مستعدّين و لا متأهلين لا لاستماع ذلك كله لجمود طبائعهم على الجاهلية الجهلاء، و خمود فطرتهم الأصليّة بالانحراف و الشفاء فبعثه اللّه و ليس أحد من العرب يقرء كتابا و لا يعرف علما حين فترة من الرسل و طول هجعة من الأمم و اغترام من الفتن، و انتشار من الأمور، و تلظّ من الحروب، و الدنيا

______________________________

تفسير

فاتحة الكتاب.

و منهم

محمّد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤل ص 26 ط. طهران قال: قال (عليه السّلام) لو شئت لأوقرت بعيرا من تفسير بسم اللّه الرحمن الرحيم.

و منهم

الشعراني في لطائف المنن ج 1 ص 171 ط مصر قال: و روينا عن علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه) أنه كان يقول: لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيرا من معنى الباء.

(1) بحار الأنوار ج 3 ط. طهران الاخوندي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 258

كاسفة النور ظاهرة و الغرور على حين اصفرار من ورقها و إياس من ثمرها، و اغوار من مائها، قد درست أعلام الهدى، و ظهرت أعلام الردى، فقام هاديا مهديا ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادة اللّه سبحانه و من طاعة الشيطان إلى طاعته بقرآن قد بيّنه و أحكمه ليعرف العباد ربهم إذ جهلوه و ليقرّوا به بعد إذ جحدوه و ليثبتوه بعد إذ أنكروا، فتجلّى سبحانه لهم في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته و خوفهم من سطوته فبلغ إليهم أصول الشريعة و الأحكام في مدة ثلاثة و عشرين سنة، و بقي من علوم القرآن كثير من الحقائق و الشرائع و الأحكام مما يحتاج اليه الناس في أحكامهم الظاهرية و الباطنة من لدن قبضه (عليه السّلام) إلى يوم القيامة فاستودعه عند بابه و حجابه و أمينه في أمّته و المخلوق من طينته مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، كي يبلّغه بنفسه أو بواسطة ذريّته الطيبين و خلفائه الراشدين و شيعته المخلصين إلى كافة المسلمين و المؤمنين ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة فأكمل به الدين و أتمّ به النعمة و وعده العصمة، و

أكدّ الأمر بتبليغ ذلك حتى خاطبه بقوله: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فيعلم منه أنه المقصود من الرسالة بحيث تنتفي بانتفائه.

و لذا

قال (عليه السّلام) في احتجاجه يوم الغدير على ما حكاه في «الوسائل» عن «الاحتجاج» للطبرسي: انّ عليا تفسير كتاب اللّه و الداعي اليه ألا و انّ الحلال و الحرام أكثر من أن أحصيهما و أعرّفهما فأمر بالحلال و أنهى عن الحرام في مقام واحد فأمرت أن آخذ البيعة عليكم الصفقة منكم بقبول ما جئت به عن اللّه (عز و جل) في علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) و الأئمة من بعده معاشر الناس تدبّروا و افهموا آياته و انظروا في محكماته و لا تتبّعوا متشابهه فو اللّه لن يبيّن لكم زواجره و لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 259

يوضح لكم عن تفسيره إلّا الذي أنا آخذ بيدي «1».

و

في النبوي أنه قال عليه السّلام: يا علي أنت اخي، و أنا أخوك و أنا المصطفى للنبوّة و أنت المجتبى للامامة، و أنا صاحب التنزيل و أنت صاحب التأويل «2».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام: إنّ اللّه علّم نبيّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) التنزيل و التأويل فعلّمه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) عليا ثم قال (عليه السّلام): و علّمنا و اللّه، الخبر «3».

و مما سمعت من مساوقة القرآن في عالم الأنوار لنبينا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) مع الاختلاف في التدوين و تأخّر مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) عنه في عالم التكوين يظهر كون القرآن أحد الثقلين، بل و كونه الثقل الأكبر، بل و يظهر منه سرّ عدم مفارقه كل منهما عن الآخر أبدا.

كما

في «البصائر» عن أبي جعفر

عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): يا ايها الناس إني تارك فيكم الثقلين، الثقل الأكبر و الثقل الأصغر إن تمسكتم بهما لن تضلّوا و لا تتبدّلوا، و إني سئلت اللطيف الخبير أن لا يفترقا حتى يردا علىّ الحوض فأعطيت ذلك، قالوا: و ما الثقل الأكبر و ما الثقل الأصغر؟ قال (عليه السّلام) الثقل الأكبر كتاب اللّه سبب طرفه بيد اللّه و سبب طرفه بأيديكم.

و الثقل الأصغر عترتي و أهل بيتي «4».

و

فيه عنه (عليه السّلام): إني تارك فيكم الثقلين، فتمسّكوا بهما فإنّهما لن

______________________________

(1) الاحتجاج: ص 33- 41 و البحار ج 37: ص 201- 217 ط. الاخوندي.

(2) ينابيع المودة ص 123 ط. اسلامبول.

(3) بحار الأنوار ج 7 ط. القديم ص 317.

(4) بحار الأنوار ج 7 ط. السابق ص 29. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 260

يفترقا حتى يردا علي الحوض قال: فقال أبو جعفر (عليه السّلام): لا يزال كتاب اللّه و الدليل منا يدل عليه حتى يردا علىّ الحوض «1».

و

في «أمالي» الشيخ عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال: سمعت أم سلمة تقول:

سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في مرضه الذي قبض فيه يقول و قد امتلأت الحجرة من أصحابه: أيّها الناس يوشك أن اقبض سريعا فينطلق بي و قد قدمت إليكم، ألا إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه ربّي (عز و جل) و عترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي (عليه السّلام) فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن و القرآن مع علي، خليفتان نصيران لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فأسئلهما ماذا خلّفت فيهما «2».

و

روي العيّاشي أنّه خطب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم) يوم الجمعة بعد صلوة الظهر فكان من خطبته أنه قال: أيّها الناس إنّي فرطكم و أنتم واردون علي الحوض، و حوضي عرضه ما بين بصرى و صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضة ألا و انّي سائلكم حين تردون علي من الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما حتى تلقوني، قالوا: و ما الثقلان يا رسول اللّه؟ قال (عليه السّلام): الثقل الأكبر كتاب اللّه سبب طرف بيد اللّه و طرف في أيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا و لا تذلّوا و الثقل الأصغر عترتي أهل بيتي فإنّه قد نبأني اللطيف الخبير أن لا يفترقا حتى يلقياني و سئلت اللّه تعالى لهما ذلك فأعطانيه فلا تسبقوهم فتهلكوا و لا تقصروا عنهم

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ط. السابق ص 29.

(2) بحار الأنوار ج 6 ط. السابق ص 792 رواه عن كشف الغمة. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 261

فتهلكوا و لا تعلّموهم فهم أعلم منكم «1»

، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في الباب.

اعلم أنّ خبر الثقلين ممّا تواتر نقله عنه (عليه السلام) من طرق الخاصّة و العامّة و قد يستدلّ به على استحقاق مولينا أمير المؤمنين (عليه السلام) للولاية الخاصّة المتصلة دون غيره، أمّا اشتهار الخبر من طرق الخاصّة بل تواتره فمما لا ينكر بل و كذا من طرق العامّة أيضا.

ففي «مسند» أحمد بن حنبل بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّي قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي و أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي، ألا و إنّهما لن يفترقا حتى

يردا علىّ الحوض «2».

و قد روى عن أبي بكر أنه قال: عترة النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) علي (عليه السلام).

و

روى أحمد بن حنبل أيضا في «مسنده» باسناده إلى إسرائيل بن عثمان قال لقيت زيد بن أرقم و هو داخل على المختار أو خارج من عنده فقلت له: أما سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) يقول إنّي تارك فيكم الثقلين؟ قال نعم «3».

و

فيه باسناده إلى زيد بن ثابت قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّي تارك فيكم الثقلين خليفتين كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 4- إثبات الهداة ج 3: ص 539.

(2) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 311 نقلا عن مناقب احمد بن حنبل.

(3) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 322 نقلا عن أحمد بن حنبل في المناقب المخطوط. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 262

الأرض و عترتي أهل بيتي و إنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض «1».

و

في «صحيح» مسلم عنه (عليه السلام) أنه قام خطيبا فينا بماء يدعى خمّا بين مكة و المدينة فحمد اللّه و أثنى عليه و وعظ و ذكّر ثم قال (عليه السلام): أيّها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، و إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به، فحثّ على كتاب اللّه تعالى و رغّب فيه ثم قال (عليه السلام): و أهل بيتي أذكّر كم اللّه في أهل بيتي أذكّركم اللّه في أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي «2».

و رواه مسلم بطريق آخر أيضا

«3».

و

عن كتاب «الجمع بين الصحاح الستّة»

عن «سنن» أبي داود و عن «صحيح» الترمذي بإسنادهما عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قال: إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر و هو كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني في عترتي «4».

و

عن الشافعي ابن المغازلي من عدّه طرق بالإسناد عنه (عليه السلام): إنّه قال: إني أوشك أن ادعى فأجيب، و إنّي قد تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض و عترتي أهل بيتي و انّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن

______________________________

(1) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 342 نقلا عن أحمد بن حنبل في المناقب المخطوط.

(2) صحيح مسلم بن الحجاج ج 7 ص 122 ط. محمد علي صبيح.

(3) صحيح مسلم بن الحجاج ج 7 ص 123.

(4) صحيح الترمذي ج 13 ص 200 ط. مصر. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 263

يفترقا حتى يردا علىّ الحوض فانظروا ماذا تخلّفوني فيهما «1».

قال عبد المحمود: لقد أثبتّ هذا في عدّة طرق و قد تركت من الحديث بالمعنى مقدار عشرين رواية لئلّا يطول الكتاب بتكرارها مسندة عن رجال الأربعة المذاهب المشهود لهم بالعلم و الزهد و الدين.

و من ذلك

باسناده إلى ابن أبي الدنيا من كتاب «فضائل القرآن» قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و قرابتي «2».

و

بإسناده إلى علي بن ربيعة قال: لقيت زيد بن أرقم و هو يريد أن يدخل على المختار فقلت بلغني عنك شي ء فقال: ما هو؟ قلت قلت سمعت

رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) يقول: إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي قال اللّهم نعم «3».

و

بإسناده عنه عليه السلام قال: إني فرطكم «4» على الحوض فأسئلكم حين تلقوني عن الثقلين كيف خلّفتموني فيهما فاعقل علينا لا ندري ما الثقلان حتى قام رجل من المهاجرين فقال: يا نبي اللّه بأبي أنت و أمي ما الثقلان؟ قال (عليه السلام): الأكبر منهما كتاب اللّه طرف بيد اللّه تعالى و طرف بأيديكم فتمسكوا به لا تزلّوا، و لا تضلّوا و الأصغر منهما عترتي، من أستقبل قبلتي و أجاب دعوتي فلا

______________________________

(1) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 311 نقلا عن مناقب ابن المغازلي المخطوط، و الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 194 ط. مصر.

(2) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 359 نقلا عن العلامة ابن المغازلي الشافعي.

(3) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 322 نقلا عن احمد بن حنبل في المناقب المخطوط.

(4) الفرط بفتح الفاء و الراء المتقدم في طلب الماء، فرط من باب قعد اي تقدم. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 264

تقتلوهم و لا تغزوهم فإنّي سئلت اللطيف الخبير فأعطاني، أن يردا علي الحوض كهاتين و أشار بالمسبّحة و الوسطى، ناصر هما ناصري، و خاذلهما خاذلي، و عدوّهما عدوّي، ألا و إنّه لن تهلك أمّة قبلكم حتى تدين بأهوائها و تظاهر على نبيها و تقتل من يأمر بالقسط فيها «1».

إلى غير ذلك مما رواه عنهم في «الطرائف».

و عن ابن بطريق في «العمدة» أنه رواه عن مسند أحمد بن حنبل بإسناده إلى علي بن ربيعة، و زيد بن ثابت، و أبي سعيد الخدري.

و عن «صحيح» مسلم بإسناده عن يزيد بن حيّان «2» و

غيره من الأسانيد الكثيرة المذكورة فيه.

و في «تفسير» الثعلبي و «مناقب» ابن المغازلي «3»، و عن الجمع بين الصحاح، الستة عن «سنن» أبي داود السجستاني، و «صحيح» الترمذي «4»، و رواه ابن الأثير في «جامع الأصول» «5».

و روى أيضا عن كتاب «فضائل الصحابة» للسمعاني «6» عن أبي سعيد الخدري و زيد بن أرقم مثل ما مرّ و

عن الثعلبي في تفسير قوله تعالى:

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ص 23 ط. القديم نقلا عن الطرائف.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 24 ط القديم نقلا عن الطرائف.

(3) المناقب المخطوط ص 15- 19.

(4) صحيح الترمذي ج 13 ص 99- 200 ط. مصر.

(5) جامع الأصول لابن الأثير ج 1 ص 187.

(6) الحافظ أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني النيسابوري توفي سنة 489. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 265

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً «1» بأسانيد قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم):

أيها الناس إني قد تركت فيكم الثقلين خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء و الأرض أو (قال: إلى الأرض) و عترتي أهل بيتي، ألا و إنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض «2».

و رواه الحميدي «3» في «الجمع بين الصحيحين» بعدّة طرق.

و

روي السيوطي في «الدر المنثور» بالإسناد عنه عليه السلام: إني تركت فيكم خليفتين كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي و إنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض «4».

و رواه أيضا عن ابن سعد و أحمد و الطبراني.

و بالجملة فالامّة متفّقة على نقله و قبوله، و لذا قال السيد «5» رضي اللّه عنه في

______________________________

(1) آل عمران:

103.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 25 ط. القديم نقلا عن الطرائف.

(3) الحميدي الحافظ ابو عبد اللّه محمد بن ابو نصر الاندلسي توفى ببغداد سنة 488.

و من شعره: لقاء الناس ليس يفيد شيئاسوى الهذيان من قيل و قال

فاقلل من لقاء الناس إلالاخذ العلم أو إصلاح حال

(4) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج 2 ص 60 ط. مصر.

(5) السيد علم الهدى ابو القاسم علي بن الحسين الشهير بالسيد المرتضى كان متكلما، فقيها أصوليا، أديبا لغويا صاحب تصانيف قيّمة منها الشافي الذي لم يكتب مثله في الإمامة توفى سنة 436- قيل انه ينشأ في احتضاره البيتين: لئن كان حظّي عاقني عن سعادتي فإنّ رجائي واثق بحليم

و إن كنت من زاد التقية و التقى فقيرا فقد أمسيت ضيف كريم تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 266

الشافي إنّ الامة تلقّت له بالقبول و إنّ أحدا منهم مع اختلافهم في تأويله لم يخالف في صحّته و هذا يدلّ على أنّ الحجّة قامت به في أصله و أنّ الشك مرتفع فيه، و من شأن علماء الامة إذا ورد عليهم خبر مشكوك في صحّته أن يقدّموا الكلام في أصله و ان الحجّة به غير ثابتة ثمّ يشرعوا في تأويله فإذا رأينا جمعهم عدل عن هذه الطريقة في هذا الخبر و حمله كلّ منهم على ما يوافق طريقته و مذهبه دلّ ذلك على صحة ما ذكرناه.

و

عن إبراهيم بن محمد الحمويني «1» و هو من أعيان علمائهم بالإسناد عن زيد بن أرقم: قال قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و إنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض «2».

و عنه مثله

بإسناد آخر و زاد: ألا و هما الخليفتان من بعدي.

و

عنه بالإسناد عن عطيّة العوفي «3» عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إني تارك فيكم أمرين أحدهما أطول من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض طرف بيد اللّه و عترتي، ألا و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فقلت لأبي سعيد: من عترته؟ قال: أهل بيته «4».

ثم رواه أيضا من طرق كثيرة باختلاف الألفاظ تركناها خوف الإطالة.

______________________________

(1) الشيخ إبراهيم بن محمد بن أبي حمّوية الحمويني توفى سنة 722.

(2) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 325 نقلا عن فرائد السمطين للحمويني المخطوط.

(3) عطية بن سعد بن جنادة العوفي كان من المفسرين، تلمذ على عبد اللّه بن عباس و أخذ عنه التفسير و هو صاحب جابر الانصاري في زيارة الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين توفى سنة 111 في الكوفة، تقدم ذكره.

(4) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 314 نقلا عن الحمويني في فرائد السمطين المخطوط.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 267

و

روى ابن أبي الحديد «1» في شرح النهج عن الواقدي قال: سئل الحسن البصري «2» عن علي (عليه السلام)، و كان يظنّ به الانحراف عنه و لم يكن كما ظنّ فقال: ما تقول فيمن جمع الخصال الأربع: ايتمانه على برائة، و ما قال له في غزاة تبوك فلو كان غير النبوة شي ء لاستثناه، و قوله (عليه السلام): الثقلان كتاب اللّه و عترتي، و إنه لم يؤمّر عليه أمير قطّ و قد أمّرت الأمراء على غيره «3».

و

عن أبي الحسن الفقيه في «المناقب المأة» عن زيد بن ثابت قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّي

تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و علي بن أبي طالب و هو أفضل لكم من كتاب اللّه لأنّه مترجم لكم عن كتاب اللّه.

و عن موفّق بن أحمد من أعيان علمائهم «4» بالإسناد عن مجاهد قال قيل لابن عباس: ما تقول في علي (كرم اللّه وجهه)؟ فقال: ذكرت و اللّه أحد الثقلين سبقنا بالشهادتين، و صلّى بالقبلتين، و بايع البيعتين، و هو أبو السبطين الحسن و الحسين و ردّت عليه الشمس مرتين بعد ما غاب عن القبلتين، و جرّد السيف تارتين، و هو

______________________________

(1) ابن أبي الحديد عزّ الدين المعتزلي عبد الحميد الأديب المؤرخ و كان مذهبه الاعتزال كما شهد لنفسه في احدى قصائده السبعة في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام): و رأيت دين الاعتزال و إنني أهوى لأجلك كلّ من يتشيع، توفى ببغداد سنة 655.

(2) الحسن بن يسار البصري من المنحرفين عن أهل البيت و كانت أمّه خيره مولاة أم سلمه توفى سنة 110.

(3) شرح نهج البلاغة ج 1 ص 369 ط. القاهرة.

(4) موفّق بن أحمد أبو المؤيّد أخطب خوارزم كان فقيها، محدثا، خطيبا، شاعرا له كتاب في مناقب أهل البيت عليهم السلام توفي سنة 568.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 268

صاحب الكونين فمثله في الامة مثل ذي القرنين ذاك مولاي علي بن أبي طالب (عليه السلام).

و

عن الثعلبي بالإسناد عن أبي سعيد قال: سمعت رسول اللّه يقول: أيّها الناس إنّي تركت فيكم الثقلين خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي و إنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض «1»

، إلى غير ذلك من الطرق الكثيرة التي لا داعي الى استقصائها بعد وضوح صحّة

النقل و تواتر الخبر بين الفريقين.

نعم ينبغي التنبيه على أمور:

أحداهما: أنّ الثقلين مأخوذ من الثقل بالفتحتين، قال في القاموس: الثقل محركة متاع المسافر و حشمه و كلّ شي ء نفيس مصون، و منه حديث

إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي.

و عن الحموي عن تغلب أنّه سئل عن معنى

قوله (عليه السلام): إني تارك فيكم الثقلين

لم سميّتا بثقلين؟ قال: لأنّ التمسك بهما ثقيل.

و قال ابن أبي الحديد في شرح

قوله (عليه السلام): عملت فيكم بالثقل الأكبر

يعني الكتاب،

و خلّفت فيكم الثقل الأصغر

يعني ولديه لأنّهما بقيّة الثقل الأصغر فجاز أن يطلق عليهما بعد ذهاب من ذهب منه، و إنّما سمى النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) الكتاب و العترة الثقلين لأنّ الثقل في اللغة متاع المسافر و حشمه.

فكان النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) لمّا شارفه الانتقال إلى جوار ربه جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من منزل الى منزل و جعل الكتاب و العترة كمتاعه

______________________________

(1) ينابيع المودة ص 31 ط. اسلامبول نقلا عن الثعلبي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 269

و حشمه لأنّهما أخصّ الأشياء به «1».

و قال ابن الأثير في «النهاية»:

إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي

سمّاهما ثقلين لأن الأخذ بهما و العمل بهما ثقيل و يقال لكل خطير نفيس ثقيل فسمّاهما ثقلين إعظاما لقدر هما و تفخيما لشأنهما «2».

و في «مجمع البيان»: الثقلان أصله من الثقل و كلّ شي ء له قدر و وزن فهو ثقل، و منه قيل لبيض النعامة ثقل، و إنّما سميت الإنس و الجن ثقلين لعظم خطرهما و جلالة شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من الحيوانات و لثقل وزنهما بالعقل و التمييز، و منه

قول

النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي

سماهما ثقلين لعظم خطرهما و جلالة قدر هما «3».

قلت: و أنت ترى أنّ صريح الفيروزآبادي كظاهر غيره أنه بالفتحتين و منه يظهر ضعف ما قيل: إنه بالكسر فالسكون ثم إنّهما إنما سميّا لثقلهما و نفاستهما و عظم خطرهما و لثقل العمل بهما و الالتزام بأحكامهما، و الوفاء بعهودهما حيث إنّ مرجعهما إلى الولاية التي ضلّ فيها من ضلّ و هلك من هذه الأمّة فإنّها لم تهلك في اللّه و لا في رسول اللّه و إنما هلكت بالغلوّ و التقصير في مولينا أمير المؤمنين و لميلهما إلى المركز الحق في أقصر الخطوط الذي هو الصراط المستقيم و إنه لدى اللّه لعلىّ الحكيم.

ثانيها: أنّه قد فسرت العترة في غير واحد من الأخبار المعتبرة بأهل بيته (صلّى اللّه عليه و آله و سلم)، و لذا جعل بيانا لها في كثير من الأخبار المتقدمة.

و

في الخبر عن الصادق (عليه السلام) أنّه سئل عن عترة النبيّ (صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة ج 2 ص 132 ط. القاهرة.

(2) النهاية ج 1 ص 55 ط. مصر.

(3) مجمع البيان ج 5 ص 204 ط. مصر. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 270

و آله و سلم) فقال (عليه السلام) هم أصحاب العباء «1».

و

في «المعاني» عنه (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل عن معنى قوله (عليه السلام): إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي من العترة فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أنا و الحسن و الحسين و الأئمة التسعة من ولد الحسين (عليهم السلام) تاسعهم مهديهم و قائمهم لا يفارقون كتاب اللّه

و لا يفارقهم حتى يردوا على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) حوضه. «2».

و في «القاموس» العترة بالكسر: قلادة تعجن بالمسك و الافاويه «3»، و نسل الرجل، و رهطه، و عشيرته الأدنون ممن مضى و غبر «4».

و

في «النهاية» في الخبر: خلّفت فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي

، عترة الرجل أخصّ أقاربه، و عترة النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بنو عبد المطلب و قيل: أهل بيته الأقربون و هم أولاده و علي و أولاده، و قيل: عترته (عليه السلام)، الأقربون و الأبعدون منهم و المشهور و المعروف أنّ عترته أهل بيته الذين حرّمت عليهم الزكاة «5».

أقول: و قد مضى فيما رواه الحمويني عن أبي سعيد الخدري أنّ عترته أهل بيته «6».

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ص 234 ط. القديم.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 234 ط. القديم.

(3) الافاويه قطعة مسك خالصة.

(4) تاج العروس من جواهر القاموس ج 3 ص 380 ط بيروت.

(5) تاج العروس من جواهر القاموس ج 3 ص 380 نقلا عن ابن الأثير في النهاية.

(6) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 314 نقلا عن فرائد السمطين للحمويني.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 271

و في «المصباح المنير» العترة: نسل الإنسان، قال الأزهري «1»: و روى تغلب عن ابن الأعرابي أنّ العترة ولد الرجل و ذريته و عقبه من صلبه و لا تعرف العرب من العترة غير ذلك و يقال رهطه الأدنون و يقال: أقرباؤه، و منه قول أبي بكر: نحن عترة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) التي أخرج منها، و بيضته التي تفقأت عنه، و عليه قول ابن السكّيت «2»: العترة و الرهط بمعنى و رهط

الرجل قومه و قبيلته الأقربون.

أقول: قد سمعت في الخبرين المتقدّمين بل في كثير من الأخبار المتقدّمة تفسير العترة بخصوص أصحاب العباء عليهم السلام، وصفا أو شخصا و باهل بيته المشار إليهم في آية التطهير بقوله تعالى:

______________________________

(1) الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد الهروي الشافعي كان من أعاظم علماء اللغة ولد سنة 282 و توفي سنة 370.

(2) ابن السكيت بكسر السين و تشديد الكاف هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي الشيعي أحد أئمة اللغة و الأدب و كان ثقة جليلا و له تصانيف كثيرة مفيدة مثل إصلاح المنطق، قتل بأمر المتوكل في خامس رجب سنة 244 و سبب قتله أن المتوكل قال له يوما:

أيما أحب إليك ابناي هذان: اي المعتز و المؤيد؟ أم الحسن و الحسين؟ فقال ابن السكيت: و الله إن قنبرا خادم علي بن أبي طالب (ع) خير منك و من بنيك، فقال المتوكل للأتراك: سلوا لسانه من قفاه فمات بعد غد ذلك اليوم، و من الغريب أنه وقع فيما حذره من عثرات اللسان بقوله:

يصاب الفتى من عثرة بلسانه* و ليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته بالقول تذهب رأسه* و عثرته بالرجل تبرء عن مهل- سفينة البحار ج 1 ص 636-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 272

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1»، و لا ريب ان المراد بأهل البيت هو أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام)، كما ورد في المتواتر من أخبار الفريقين.

فعن مسلم في «صحيحة» و صاحب «المشكاة» في كتابه عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت آية المباهلة دعا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) عليا

و فاطمة و حسنا و حسينا في بيت أم سلمة و قال: اللّهم هؤلاء أهلي «2»، و أخرجه الترمذي «3»».

و

قال ابن عبد البرّ في «الإستيعاب»: لما نزلت الآية دعا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) فاطمة و عليا و حسنا و حسينا في بيت أم سلمة و قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا «4».

و

في «صحيح» الترمذي و «جامع الأصول» عن أم سلمة قالت: نزلت الآية في بيتي و أنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول اللّه أ لست من أهل البيت؟ فقال (عليه السلام): انك إلى خير أنت من أزواج رسول اللّه، قالت: و في البيت رسول اللّه و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام)، فجلّلهم بكساء و قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا «5».

و روي الثعلبي في تفسيره أخبارا كثيرة في اختصاص الآية بهم (عليهم

______________________________

(1) الأحزاب: 33.

(2) صحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري ج 2 ص 119 ط. مصر.

(3) صحيح الترمذي ج 13 ص 171 ط. مصر.

(4) الاستيعاب للحافظ ابن عبد البرج 2 ص 460 حيدرآباد الدكن.

(5) صحيح الترمذي ج 13 ص 248 ط. مصر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 273

السلام) «1».

بل في «صحيح» مسلم و البخاري و أبي داود و الترمذي و «الجمع بين الصحيحين» للحميدي، و «الجمع بين الصحاح الستة» و غيرها من كتبهم أخبار كثيرة تدلّ على تفسير أهل البيت و العترة بهم خاصّة، و ستسمع إن شاء للّه شطرا منها عند تفسير آية المباهلة و التطهير، و قوله تعالى: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ «2» و غيرها في الآيات، و من هنا يتضّح معنى العترة من

غير حاجة إلى الرجوع إلى كلمات أهل اللغة مع أن ذلك هو المتفق عليه من كلماتهم على اختلافها حيثما سمعت.

و امّا دعوى أبي بكر كونه من العترة فليست بأقرب من تقمّصه الخلافة التي هو يعلم أن محل أمير المؤمنين عليه السلام منها محلّ القطب من الرحى، مضافا إلى أنّه قد مرّ في المروي عن «مسند» أحمد بن حنبل عن أبي بكر أنّه قال: عترة النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) علي (عليه السلام)، و الفضل ما شهدت به الأعداء على أنّ المحكي عن ابن الأعرابي في دعوى أبي بكر كونه من العترة بالبلد و البيضة.

قال الصدوق (قدس اللّه روحه) حكى محمد بن بحر الشيباني، عن محمد بن عبد الواحد صاحب أبي العباس تغلب في كتابه الذي سماه كتاب «الياقوتة» أنّه قال:

حدّثني أبو العباس تغلب قال: حدثني ابن الأعرابي قال: العترة قطاع المسك الكبار في النافجة، و تصغيرها عتيرة و العترة الريقة العذبة و شجرة تنبت على و جار «3» الضبّ أو الضبع إذا خرجت من و جارها تمرغت على تلك الشجرة فهي لذلك لا تنموا و لا تكبر و العرب تضرب مثلا للذليل و الذلة فيقولون أذلّ من عترة

______________________________

(1) ملحقات الاحقاق ج 9 ص 2 نقلا عن أبي إسحاق الثعلبي في الكشف و البيان.

(2) طه: 132.

(3) الوجار بالكسر و الفتح جحر الضبع و غيرها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 274

الضبّ، و العترة ولد الرجل و ذريته من صلبه فلذلك سميت ذرية محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) من علي و فاطمة عترة محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قال تغلب: فقلت لابن الاعرابي: فما معنى قول أبي بكر في السقيفة

نحن عترة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قال: أراد بلدته و بيضته و عترة محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) لا محالة ولد فاطمة (عليها السلام)، و الدليل على ذلك ردّ أبي بكر و إنفاذ علي (عليه السلام) بسورة برائة و

قوله (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): أمرت أن لا يبلّغها منّي إلا أنا أو رجل مني فأخذها منه، و دفعها إلى علي (عليه السلام)

و قد قيل: إنّ العترة الصخرة العظيمة يتخذ الضبّ عندها جحرا يأوي اليه و هذا لقلّة هدايته، و قد قيل: إنّ العترة أصل الشجرة المقطوعة الّتي تنبت من أصولها و عروقها و العترة في غير هذا المعنى قول النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) لا قرعة و لا عتيرة.

قال الأصمعي «1» كان الرجل في الجاهلية ينذر نذرا على أنه إذا بلغت غنمه مائة أن يذبح رجبيّة «2» و عتائره «3» فكان الرجل ربما بخل بشاته فيصيد الظباء و يذبحها عن غنمه، و يقال: العترة الذكر، و العترة الريح، و العترة أيضا شجرة كثيرة اللّبن صغيرة يكون نحو القامة، و أنّه نبت مثل المرزنجوش ينبت متفرقا.

______________________________

(1) الأصمعي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك البصري اللغوي الأديب توفى سنة 216.

(2) الرجبية ذبيحة كانت تذبح في رجب يتقرب بها أهل الجاهلية و الإسلام نسخها، تاج العروس ج 3 ص 380.

(3) العتاير جمع العتيرة كذبيحة و هي الرجبية، قال الزبيدي في شرح القاموس في كلمة العتيرة:

إنّ الرجل كان يقول في الجاهلية إن بلغت إبلى مائة عترت عنها عتيرة فاذا بلغت مائة ضمن بالغنم فصاد ضبيا فذبحه.

-

- تاج العروس ج 3 ص 380-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1،

ص: 275

ثم قال الصدوق (رضي اللّه عنه) و العترة علي بن أبي طالب و ذريّته من فاطمة (عليها السلام)، و سلالة النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) و هم الذين نصّ اللّه تبارك و تعالى عليهم بالإمامة على لسان نبيه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) و هم اثنى عشر أوّلهم علي و آخرهم القائم (عليهم السلام) على جميع ما ذهب إليه العرب من معنى العترة و ذلك أنّ الأئمة (عليهم السلام) من بين جميع بني هاشم و من بين جميع ولد أبي طالب كقطاع المسك الكبار في النافجة و علومهم العذبة عند أهل الحكمة و العقل.

و هم الشجرة الّتي أصلها رسول اللّه و أمير المؤمنين فرعها و الأئمة من ولده أغصانها و شيعتهم ورقها و علمهم ثمرها.

و هم (عليهم السلام) أصول الإسلام على معنى البلدة و البيضة.

و هم (عليهم السلام) على معنى الصخرة العظيمة التي يتخذ الضبّ عندها جحرا يأوي اليه لقلّة هدايته.

و هم أصل الشجرة المقطوعة لأنّهم و تروا و ظلموا و جفوا و قطعوا و لم يوصلوا فنبتوا من أصولهم و عروقهم، لا يضرّهم قطع من قطعهم و إدبار من أدبر عنهم إذ كانوا من قبل اللّه منصوصا عليهم على لسان نبي اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم)، و من معنى العترة هم المظلمون المؤاخذون بما لم يجرموه و لم يذنبوه و منافعهم كثيرة.

و هم ينابيع العلم على معنى الشجرة الكثيرة اللّبن.

و هم (عليهم السلام) ذكران غير إناث على معنى قول من قال: إنّ العترة هو الذكر و هم جند اللّه (عز و جل) و حزبه على معنى قول الأصمعي: إنّ العترة الريح

قال النبيّ (صلّى اللّه

عليه و آله و سلم) الريح جند اللّه الأكبر في حديث مشهور عنه

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 276

«1» و الريح عذاب على قوم و رحمة للآخرين.

و هم (عليهم السلام) كذلك كالقرآن المقرون إليهم

بقول النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي

قال اللّه (عزّ و جل): وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «2» و قال تعالى: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ «3».

و هم (عليهم السلام) أصحاب المشاهد المتفرقة على المعنى الذي ذهب اليه من قال: إنّ العترة هو نبت مثل المرزنجوش ينبت متفرقا و بركاتهم منبثة في المشرق و المغرب «4».

انتهى كلامه زيد مقامه، و إنّما حكيناه بطوله لاشتماله على معاني العترة و تطبيقها على ما هو المقصود به في المقام و لو على وجه المجاز و الاستعارة و إن كان كثير منها لا يخلو عن تكلّف و لعلّ الأولى من جميع ذلك ما أشرنا إليه من كونه مفسّرا في كلام النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بأهل البيت و لو على وجه البدلية أو عطف البيان حسبما مرّت اليه الإشارة.

ثالثها: أنه قد يقال: المراد بعدم افتراقهما أنّ لفظ القرآن كما انزل و تفسيره

______________________________

(1) عن ابن عباس انه قال: الماء و الريح جندان من جنود اللّه، و الريح جند اللّه الأعظم- بحار الأنوار ج 14 ط. القديم.

(2) الإسراء: 82.

(3) التوبة:

124- 125.

(4) بحار الأنوار ج 7 ص 31 ط. القديم نقلا عن الصدوق (قدّس سرّه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 277

و تأويله عندهم و هم يشهدون بصحّة القرآن و القرآن يشهد بحقيقتهم و إمامتهم و لا يؤمن بأحدهما إلّا من آمن بالآخر.

قلت: و يحتمل أيضا أن يكون المراد به مضافا إلى ذلك تطابق النسختين و توافق العالمين فإنّ كلا منهما، مشتمل على جميع ما في الكون الكبير من الحقائق و المعارف و العلوم و الارتباطات و الإضافات و التكوينيات و التشريعيات غاية الأمر أنّه في أحدهما على وجه التكوين و الإحاطة و العلم و في الآخر على وجه التدوين و الإشراق و الوضع مع دوام المصاحبة و الموافقة بينهما في كونهما الحجة على الأمّة و كونهما خليفتين لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) في التبليغ و الإرائة و الإيصال و في كونهما الشاهدين على هذه الأمّة بل على جميع الأمم في الدنيا و الآخرة على أعمالهم و أفعالهم و الشافعين لهم في يوم القيامة مضافا إلى أنّ لهما نوعا من الاتحاد و المساوقة و المطابقة في عالم الأنوار فإنّ أحدهما تكوين الأخر كما أنّ الآخر تدوين الأوّل و لعلّه لذا و لغيره مما ذكر فسرّ الكتاب بهم في كثير من الآيات المفسّرة بالأخبار كما ورد في أخبار كثيرة أنّ المراد بالكتاب و امّ القرآن أمير المؤمنين (عليه السلام) و من المشهور

عنه (عليه السلام) انا كتاب اللّه النّاطق.

و

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ «1» قال (عليه السلام): قالوا أو بدّل عليّا «2»

، و ما أحسن ما قيل

______________________________

(1) يونس: 15.

(2)

في البحار ج 9 ص 111

نقل عن العياش عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه (أئت بقرآن غير هذا أو بدّله) يعني أمير المؤمنين (عليه السلام). تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 278

في المقام شعرا:

ساووا كتاب اللّه إلّا أنّه هو صامت و هم الكتاب النّاطق

رابعها: أنّه قد سمعت تفسير الثقل الأكبر بالكتاب و الأصغر بالعترة و الأخبار متفقّة على هذا المعنى و ربما يشكل بأنّه من الواضح سبق عالم التكوين على التدوين و أنّ تدوين الكتاب بظهوره و تمام بطونه رشحة من رشحات أنوار علومهم و معارفهم مع أنّه قد ورد أنّهم كلام اللّه الناطق و القرآن كلامه الصامت و أيضا القرآن و صفهم و خلقهم الموصوفون المتخلّقون به، بل قد مرّ في كلام المجلسي أنّ من انتقش في قواه ألفاظ القرآن و في عقله معانيه و اتّصف بصفاته الحسنة على ما هي فيه.

و احترز عمّا نهى اللّه عنه فيه و اتّعظ بمواعظه و صيّر القرآن خلقه و داوى به أدوائه فهو أولى بالتعظيم و الإكرام، و لذا ورد أنّ المؤمن أعظم حرمة من القرآن و الكعبة، و على هذا لم أر أحدا من الأصحاب تعرّض لأصله فضلا عن حلّه نعم ذكر الشيخ الاحسائي «1» أنّ ما أورد على هذا الحديث من إشكال كونهم (عليه السلام) الثقل الأصغر قد أجبنا عنه في أجوبتنا لمسائل الملا كاظم السمناني و حاصل ما ذكره هناك بطوله أنّ لهم (عليهم السلام) ثلاث مراتب:

الأولى: مرتبة المعاني و هم في تلك الحال الأعلى الذي لا يظهر بالكلام و لا يدرك بالأفهام و إنّما الواجب على كل من دنى من تلك الطلول «2» كمال الصمت

______________________________

(1) الاحسائي احمد بن زين الدين البحراني متفلسف شيعي و هو مؤسس مذهب

الكشفية نسبة الى الكشف و الإلهام و كان يدّعيهما و تبعه جمع يقال لهم الشيخية، ولد في الأحساء 1166 ه. و تعلّم في بلاد فارس و تنقل بينها و بين العراق، و سكن البحرين. و مات حاجّا بقرب المدينة و حمل إليها فدفن فيها سنة 1241 ه- الاعلام ج 1 ص 124.

(2) الطلول بضم الطاء جمع الطلل بفتح الطاء و هو الموضع المرتفع.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 279

و تمام الخمول، و ذلك أعلى معاني

(نحن الأعراف الّذين لا يعرف اللّه إلّا بسبيل معرفتنا) «1»

و تلك المنازل لا يمكن أن يحلّ بساحتها أحد إلّا من سكن فيها و خرج منها، و هي المعاني الّتي يسئل الأنبياء ربّهم بها، و الأولياء يدعونه بها و هو

قول الحجّة عجّل اللّه فرجه في دعاء رجب: اللّهمّ انّى أسئلك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون على سرّك «2».

و في هذا المقام هم أفضل من القرآن و كلّ شي ء من خلق اللّه.

الثانية: مرتبة الأبواب و هم فيها باب اللّه الّذي يصدر منه الفيض إلى جميع ما في الوجود المقّيد بعد هم، و هم في هذه المرتبة مساوون للقرآن، لأنّهم الآن في رتبة العقل الأوّل، و العقل الأول هو الملك الأعظم المسمّى بالرّوح، من أمر اللّه، و هو أوّل خلق من الروحانييّن عن يمين العرش، و هو القران في الباطن، و انّما افترقا من جهة الظهور، فالظهور في اللفظ قرآن، و الظهور في الصورة الملكية روح من أمر اللّه تعالى، و قد أشار سبحانه إليه في كتابه العزيز في قوله: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ

مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3» و الروح من أمر اللّه هو الموحى إليه و هو الملك المسمّى بروح القدس الأعلى و هو المجعول نورا يهدي به اللّه من يشاء من عباده و هو القرآن، و من نظر بفؤاده في هذه الآية الشريفة عرف بدليل الحكمة أنّه القرآن و أنّه الملك الأعظم فإنّه هو الّذي يقذف اللّه الوحي في قلبه، و هو معهم

______________________________

(1) سفينة البحار ج 6/ 222- البحار ج 8/ 341.

(2) بحار الأنوار ج 20 ص 343 ط. القديم.

(3) الشورى: 52.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 280

يسدّدهم، فلا يعلمون شيئا إلّا بواسطته و هذا هو القرآن فإنّ اللّه أخبر في مواضع متعدّدة أنّه (عليه السلام) لا يعلم شيئا قبل القرآن مثل قوله تعالى: ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا «1» فهم (عليه السلام) في مرتبة الأبواب مساوون في القرآن.

الثالثة: مرتبة الإمامة و هو هذا الأدنى الظاهر الّذي فرض اللّه طاعته على عباده، و هو في هذا المقام لا يعلم شيئا إلّا من القرآن، و ما نزل به جبرئيل (ع) و الملائكة (عليهم السلام) في ليلة القدر و غيرها إنّما هو في بيان ما انطوى عليه القرآن من الخفايا، و لهذا وصف اللّه عليّا بالعلم في غاية الوصف حيث قال تعالى:

وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «2» و قال تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «3».

فأخبر عن كتابه المجيد أنّه تفصيل كلّ شي ء.

و

روى أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل هل عندكم من رسول اللّه شي ء من الوحي سوى القرآن؟ قال (عليه السلام):

لا و الّذي فلق الحبّة، و بري ء النسمة إلّا أن يعطي اللّه عبدا فهما

في كتابه إشارة الى قصّة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا «4» يعني القرآن و قوله تعالى في سورة يوسف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «5» أي من قبل القرآن، و قال تعالى في

______________________________

(1) هود: 29.

(2) الرعد: 43.

(3) يوسف: 111.

(4) هود: 49.

(5) يوسف: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 281

آخر سورة يوسف: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ «1» و أمثال ذلك ممّا يدلّ على أنّ علمهم مستفاد من القرآن و أنّ ما في الغابر و المزبور و مصحف فاطمة (عليها السلام) و الجفر و الجامعة و غير ذلك كلّه من القرآن فإنّ اللّه سبحانه يقول: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «2».

و من المعلوم عند العلماء ممّا لا يختلفون فيه أنّ الكتاب التدويني مطابق للكتاب التكويني و لهذا

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير باء البسملة: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير باء بسم اللّه الرحمن الرحيم «3»

، و

قال الباقر (عليه السلام): لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه (عزّ و جل) حملة لنشرت التّوحيد و الإسلام و الإيمان و الدّين و الشرائع من الصمد «4» الحديث

و أمثال ذلك.

فاذا عرفت المراد ظهر لك أنّ القرآن هو الثقل الأكبر في هذه المرتبة و هم الثقل الأصغر لأنّ حكمهم تابع لحكم القرآن لا العكس و هم حملته و معنى الثقل محرّكا الشي ء النفيس المصون، و سمّيا بذلك لأنّ

التمسك بهما ثقيل و هذا المعنى في بيان كون القرآن الثقل الأكبر و هم (عليهم السلام) الثقل الأصغر حقيقي.

و

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم):

______________________________

(1) يوسف: 102.

(2) يس: 12.

(3) هذا الحديث رواه الفريقان مع اختلاف و تفاوت كما مرّ ففي بعض الكتب كالينابيع و شرح العين و زين الحلم، و الروض الأزهر و غيرها سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب، و في بعضها كمطالب السئول بعيرا من تفسير بسم اللّه الرحمن الرحيم و في بعضها كلطائف المنن ثمانين بعيرا من معنى الباء.

(4) بحار الأنوار ج 3 ص 225 ط. طهران الآخوندي. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 282

إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أطول من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء الى الأرض طرف بيد اللّه و طرف بيد عترتي ألا و إنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.

قيل لأبي سعيد: و من عترته؟ قال: أهل بيته «1». و العبارة عنه في الظاهر أنّ المراد أنّ القرآن بمنزلة العقل، و هم بدون العقل بمنزلة الجسم، و لا ريب أنّ العقل أكبر من الجسم، أمّا إذا اعتبرت العاقل فإنّه أكبر من العقل و العقل هنا في هذا المثال هو المرتبة الأولى المعبّر عنها بالمعاني، و هو جواب آخر لسائر الناس، و هو أنّ الحكيم لا يخاطب الناس إلّا بما يعرفون، و الذي يعرفونه انّهم (عليهم السلام) انّما يأخذون من القرآن فيكون هو الثقل الأكبر.

و هو (عليه السلام) أراد بأهل بيته الذين هم الثقل الأصغر ظاهرهم بين الناس و يريد به مرتبتهم الثالثة كما قرّرنا فلاحظ. و أمّا إنّهم (عليهم السلام) كتاب اللّه الناطق و القرآن كتاب اللّه الصامت كما

قال علي (عليه السلام).

فالمراد أنّ القرآن صامت بالحق لا ينطق بالحق إلّا بحملته فالكتاب ينطق بالحق بلسان حامليه و إلّا فهو صامت و لا ينتفع بالصامت و لا يكون حجّة حال صمته، فالناطق من هذه الحيثية أفضل لعموم الانتفاع و قيام الحجة به.

و كون أنّه ليس في ذرّات الوجود بعد النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) أعلى رتبة منهم صحيح في المرتبة الأولى، و أمّا في المرتبة الثالثة فهم يتعلّمون من الملائكة، و من سائر الموجودات كما أخبر الميمون عليّا (عليه السلام) و هو راكب عليه حين حفر المنافقون له حفيرة في الطّريق و غطّوها بالدغل فلمّا قرب منها أخبره حصانه

______________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور للحافظ السيوطي ج 2 ص 60 ط. مصر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 283

بذلك، و غير ذلك من الأمور التي لا تتمشّى إلّا على أحوالهم الظاهرة.

و القرآن مشحون في حقّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بمثل ذلك مثل قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ «1» و قوله تعالى: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ «2» و في كلّ هذه الأحوال هم الثقل الأصغر، و أمّا كون القرآن علمهم و العالم أعلى رتبة من العلم فذلك في مرتبتهم الأولى. انتهى كلامه.

و هو و إن أجاد في كثير ممّا أفاد إلّا أنّه لم يأت بتمام المراد، إذ كما أنّ لهم (عليهم السلام) مراتب مترتبة منزلة فكذلك للقرآن الموصوف بالتنزيل أيضا حسبما مرّت إليه الإشارة و طريق المقايسة بين الشيئين إنّما هو مع الإغماض عن المراتب في البين أو مع ملاحظتها من الجانبين على أنّ ذلك لو كان

هو الوجه في تفضيله عليهم لكان مفضّلا على رسول اللّه أيضا و هو كما ترى و لعلّه يلتزم به كما يستفاد من أواخر كلامه.

و على كلّ حال فالذي يختلج بالبال في حلّ الإشكال هو أنّك قد سمعت فيما أشرنا اليه أنّ كتاب كلّ من الأنبياء إنّما هو مساوق لرتبة وجوده و مقام شهوده إلّا أنّ الاختلاف من جهة التكوين و التدوين، و لذا كان هذا الكتاب مهيمنا على جميع الكتب كما أنّ نبيّنا (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) كان مهيمنا على جميع الأنبياء، و حيث إنّهم عليهم السلام كانوا أنزل منه رتبة في عالم التكوين بثمانين ألف سنة حسبما سمعت في الخبر المتقدّم لا جرم كانوا أصغر منه، و ممّا ساوق وجوده و هو كتابه التدويني فالكبر و الصغر انّما لوحظا بالنظر الى مقامه (عليه السلام) و مقامهم (عليهم

______________________________

(1) الكهف: 110.

(2) الأعراف: 188.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 284

السلام) و إن كان من جهة أخرى التكوين أفضل من التدوين، و لذا فضّل في العلويّ الناطق على الصامت بل قد مرّ

في النبوي العامي المرويّ عن زيد بن ثابت عنه عليه السلام أنّ علي بن أبي طالب أفضل لكم من كتاب اللّه لأنّه مترجم لكم عن كتاب اللّه.

و أمّا وصف الأوّل بالكبر فكأنّما وصف به رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) و إن وقع التعبير عنه بتدوين وجوده الذي هو القرآن و لذا ورد أنّه كان خلقه القرآن و سرّ التعبير التنبيه على الاستخلاف و غموض العلم و لزوم التعظيم و الإتباع و لذا سوّى في ذلك بينهما حتى

ورد أنّه (عليه السلام) ضمّ بين سبّابتيه، و قال: حتى يردا علي الحوض

كهاتين «1».

و أمّا ما قد يتوهّم من أنّه (عليه السلام) إنّما جعلهم الثقل الأصغر باعتبار أفهام الناس و اعتقاداتهم حيث إنّهم لم يعرفوهم حقّ معرفتهم ففيه أنّه منه حينئذ تقرير للناس على جهلهم و إبقاء لهم على ضلالتهم و هذا مناف لمنصبه الذي لا مسامح فيه لاحتمال المداهنة و الإغماض و التقية سيّما بعد أن ورد عنه و عن الأئمّة المعصومين (صلّى اللّه عليهم أجمعين) في فضلهم و شرفهم ما هو أعظم من ذلك بل قد مرّ في كلام المجلسي أنّه روي عنهم تفضيل المؤمن على الكعبة «2» و القرآن.

خامسها: أنّ أصحابنا الإمامية (عطّر اللّه مراقدهم) قد استدلّوا بهذا الخبر على ولاية الأئمّة الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) و خلافتهم بلا فصل و أنّهم

______________________________

(1) ينابيع المودة ص 34 و 114 ط. اسلامبول.

(2)

عن الصادق (عليه السلام): المؤمن أعظم حرمة من الكعبة. بحار الأنوار ج 15 ص 20 ط. القديم. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 285

مطهّرون معصومون و أنّ إجماعهم، بل كلّ منهم حجّة بل يستفاد منه أنّ الأرض لا تخلو من واحد منهم أبدا.

و جملة الدلالة على كلّ ذلك أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قد استخلف عترته و جعلهم خليفته في أمّته، و تركهم فيها و قد قيل: إنّه لا يكون شي ء أبلغ من قول القائل: قد تركت فيكم فلانا، كما يقول الأمير إذا خرج من بلده و استخلف من يقوم مقامه لأهل البلد: قد تركت فلانا فيكم يرعاكم و يقوم مقامي، و كما يقول من أراد الخروج عن أهله و أراد أن يوكّل عليهم وكيلا يقوم بأمرهم: قد تركت فيكم فلانا فاسمعوا له و أطيعوه، فإذا كان ذلك كذلك كان هو النص الجليّ

الذي لا يحتمل غيره، إذ خلّف في جميع الخلق أهل بيته و أمرهم بطاعتهم و الانقياد لهم، ثمّ إنّه (عليه السلام) قد دلّنا بوجوه من الدلالة على أهلّيتهم لذلك، و إنّهم معصومون مطهّرون منصوبون لنصّه (عليه السلام) لحمل أعباء هذا الأمر الجليل و الخطب الجميل.

فذكر أوّلا أنّه هو الّذي استخلفهم في قومه بعده الى يوم القيامة فليس لأحد نقضه و لا الاعتراض عليه في ذلك لأنّه لا يفعل ذلك إلّا بأمر من اللّه تعالى، و إرشاد و وحي منه سبحانه، لأنّه (عليه السلام) لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى، و لذا قال تعالى أيضا: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «1».

و ثانيا: إنّه عبّر بالخلافة الظاهرة بل الصريحة في المطلوب حيث، إنّ خليفة الرّجل في قومه على ما يظهر من العرف و اللغة من يقوم مقامه فيهم فيما كان له عليهم و لهم عليه و حيث إنّ اللّه سبحانه أوجب من طاعته عليه السلام على أمّته و تسليمهم

______________________________

(1) الحاقة: 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 286

و انقيادهم له ما أوجب حتى أنزل في ذلك: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» فلا بدّ أن يكون مثل ذلك ثابتا للعترة الّذين هم أهل بيته.

و لذا وقع التصريح بالخلافة و وجوب الطاعة في المتواتر من أخبار الفريقين كما

رواه الحافظ النطنزي في كتابه بالإسناد عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّ علي بن أبي طالب وصيّي، و إمام أمّتي و خليفتي عليها بعدي و من ولده القائم المنتظر الذي يملأ اللّه

به الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما و الّذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر، الخبر «3».

و

عن كتاب «كفاية الطالب» بالإسناد عن ابن عباس قال: ستكون فتنة فمن أدركها منكم فعليه بخصلتين: كتاب اللّه تعالى و علي بن أبي طالب فإنّي سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) و هو آخذ بيد علي (عليه السلام) و هو يقول هذا أوّل من آمن بي و هو فاروق هذه الأمّة يفرق بين الحقّ و الباطل، و هو الصدّيق الأكبر و هو بابي الذي أوتي منه، و هو خليفتي من بعدي «4».

و

عن الأعمش عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): من نازع عليّا في الخلافة بعدي فهو كافر و قد حارب اللّه و رسوله و من شكّ في علي

______________________________

(1) النساء: 80.

(2) آل عمران: 31.

(3) ينابيع المودة ص 494 عن المناقب و في ص 448 عن فرائد السمطين.

(4) بحار الأنوار ج 38 ص 214 طبع الآخوندي نقلا عن كشف اليقين. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 287

فهو كافر «1».

و

عن السمعاني في «فضائل الصحابة» بالإسناد عن أنس قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّ خليلي و وزيري و خليفتي في أهلي و خير من أترك بعدي و من ينجز موعدي و يقضي ديني، علي بن أبي طالب «2».

و

في «أمالي» أبي الصلت الأهوازي عن أنس، قال: قال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): إنّ أخي و وزيري و وصيّي و خليفتي في أهلي علي بن أبي طالب «3».

و

عن «مناقب» ابن

المغازلي بالإسناد عن أبي ذرّ الغفاري قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): من ناصب عليّا للخلافة بعدي فهو كافر «4».

و

من طريق الخاصّة عنه (عليه السلام) لكلّ أمّة صدّيق و فاروق و صدّيق هذه الأمّة و فاروقها علي بن أبي طالب، إنّ عليّا سفينة نجاتها و باب حطّتها، و إنّه يوشعها و شمعونها و ذو قرنيها، معاشر النّاس إنّ عليّا خليفة اللّه و خليفتي عليكم بعدي. الخبر «5».

و

عنه (عليه السلام): يا علي إنّ اللّه تعالى أمرني أن أتّخذك أخا و وصيّا، فأنت أخي و وصيّي و خليفتي على أهلي في حياتي و بعد موتي، من تبعك فقد تبعني و من تخلّف عنك فقد تخلّف عنّي «6».

و

بالإسناد عن أمّ سلمة تقول: سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم)

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 38 ص 150 طبع الآخوندي نقلا عن عمدة ابن بطريق ص 45.

(2) بحار الأنوار ج 38 ص 146 طبع الآخوندي نقلا عن السمعاني في فضائل الصحابة.

(3) بحار الأنوار ج 38 ص 146 طبع الآخوندي نقلا عن الأمالي.

(4) بحار الأنوار ج 38 ص 155 طبع الآخوندي.

(5) عيون الأخبار للصدوق ص 186.

(6) أمالي الشيخ ص 125. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 288

في مرضه الّذي قبض فيه يقول و قد امتلأت الحجرة من أصحابه: أيّها النّاس يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي و قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب ربّي (عزّ و جلّ) و عترتي أهل بيتي. ثمّ أخذ بيد علي (عليه السلام) فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن و القرآن مع علي (عليه السلام) خليفتاي بصيران لا يفترقان حتّى يردا علي الحوض فأسئلهما ماذا خلّفت

فيهما «1».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي تواتر نقلها من الفريقين.

و ثالثا: إنّه (عليه السلام) قرنهم بكتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم مجيد، فكما أنّه مصون بحفظ اللّه عن الاختلاف و الاختلال و البطلان، فكذا هم معصومون من الزلل و الطغيان، بل هم المعجزات الباهرات و الآيات البيّنات و الحجج على البريات، كما أنّ القرآن هو الحجّة البالغة و المعجزة الباقية على مرّ الدهور و الأعصار.

و رابعا إنّه صرّح بالمعيّة المستدامة الحاصلة بينهما الباقية الى انقضاء الدهور و تمام الدنيا، و فيه دليل على أنّ الأرض لا تخلو من واحد من العترة كي يكون حجّة على البريّة شاهدا على أعمالهم و أفعالهم، و يشهد على ذلك يوم القيامة حين يرد مع القرآن على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) حوضه مضافا الى

أنّه (عليه السلام) قد حكي عن اللّه سبحانه بقوله: إنّ اللّطيف الخبير قد أخبرني أنّهما لن يفترقا أبدا و هو سبحانه الصادق في قوله المنجز لوعده.

و قد سمعت المراد من عدم افتراقهما مع دلالة الأخبار الكثيرة الّتي مرّ شطر منها في تضاعيف الباب على ذلك. و من ذلك يظهر أيضا عصمتهم و طهارتهم و أنّهم

______________________________

(1) بحار الأنوار باب وصيّة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) عن كشف الغمّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 289

لا يفارقون أحكام كتاب اللّه أبدا سيمّا مع تأييد النفي الاستقبالي بكلمة لن الظاهرة بل الصريحة في ذلك، فقد استفيد منه أنّ الأرض لا تخلو من واحد منهم و أنهم الحجج الناطقة بآيات اللّه على البريّة و أنّهم العالمون بجميع ما في الكتاب

من الظواهر و البواطن و الأسرار و العلوم و أنّهم لا يجهلون أبدا.

و خامسا: إنّه صرّح بعد ذلك كلّه بأنّه

إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا

و لعلّه لا يشكّ أحد في أنّ ضمّ العترة الى الكتاب الصامت الّذي أكثر آياته من المتشابهات الّتي لا يعلمها إلّا اللّه و الرّاسخون في العلم للتنبيه و الإشعار بأنّهم أهل علم الكتاب و هم الرّاسخون في العلم، و هم الّذين يستنبطونه منه و هم المأمونون على فهم أسرار الكتاب و علومه و حقائقه و شرائعه و أحكامه و بيان ذلك كلّه للنّاس في جميع الأعصار بعد النّبي المختار.

فإن قلت: إنّ المصرّح في الخبر إنّما هو نفي الضّلالة عن المتمسّك بهما معا و هو كذلك و أين هذا من حجّيّة كلام كلّ العترة منفردين عن الكتاب فضلا عن حجّية كلام كلّ واحد منهم و عصمته و النّص على خلافته كما هو المطلوب.

قلت: لا ريب في حجّية الكتاب بنفسه و لو مع عدم انضمام شي ء إليه إلّا أن يكون المقصود التنبيه على أمرين:

أحدهما: أنّ المتمسك بكلّ واحد من العترة و الكتاب لا يضلّ أبدا نظرا الى أنّ العترة التي مثل الكتاب في الحجّية و دوام الإصابة و عدم الخطأ أصلا و هداية المتمسّك به و لذا شهد لهم بل حكى الشهادة عن اللّه تعالى بعدم افتراقهما أصلا الى أن يردا عليه حوضه فهل ترى من نفسك جواز أن يقال في ضمّ غير المعصوم الى القرآن مثل هذا القول.

و ثانيهما: أنّ الكتاب علمه محجوب عن الأمّة و أنّه لا يطّلع الأمّة إلّا على

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 290

ظواهره بعضا أو كلّا و أمّا بواطنه المشتملة على جميع الحقائق و المعارف و

الشرائع و الأحكام و الحلال و الحرام و غير ذلك ممّا كان أو يكون الى يوم القيامة فجميع النّاس محجوبون عن نيله و إدراكه و معرفته إلّا أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) قد أودع علم ذلك كلّه عند عترته الأئمّة الطّاهرين و جعلهم الحجج على الخلق أجمعين فاقترانهم معه كاقتران الناطق مع الصامت، و المفسّر مع الكتاب، و الشواهد على ما ذكره من أخبار الفريقين كثيرة جدّا يأتي الى بعضها الإشارة في الأبواب الآتية، و من البيّن أنّ الناطق لو لم يكن قوله بانفراده حجّة لم يصلح جعله مفسّرا و مترجما للصامت.

ففي الخبر شهادة على علمهم بجميع معاني الكتاب و وجوهه و عدم انحرافهم عنه أصلا عن عمد و ضلالة، و لا عن خطأ و جهالة فكلّ من أخذ بقول العترة فقد أخذ بالكتاب لأنّهما لا يفترقان و قد

قال (عليه السلام): إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي،

بل في بعض الأخبار المتقدّمة

أنّه قد نبّأني اللّطيف الخبير أن لا يتفرقا حتى يلقياني، و سئلت اللّه تعالى لهما ذلك فأعطانيه فلا تسبقوهم و لا تقصروا عنهم فتهلكوا و لا تعلّموهم فهم أعلم منكم «1».

و توهّم أنّهما إذا كانا لا يفترقان فالمتمسّك بالكتاب متمسّك بقول العترة أيضا فما الحاجة الى العترة بعد وجود الكتاب مدفوع بأنّ الكتاب مشتمل على البطون و الظواهر، و ظاهره أيضا مشتمل على المحكم و المتشابه و الناسخ و المنسوخ و العامّ و الخاصّ و المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن و لا يعلم بحقيقة علمه إلّا النبيّ و الأئمّة الطّاهرون صلّى اللّه عليهم أجمعين.

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 4 و إثبات الهداة ج 3 ص 539.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 1، ص: 291

و من هنا أخطأ من قال في قوله: حسبنا كتاب اللّه حيث نسبت النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) الى الهجر و الهذيان، و منعه من أن يكتب الوصيّة لأمّته.

و أمّا ما ذكره بعض أهل الخلاف في المقام من أنّ هذا الخبر إنّما يدل على أنّ إجماع العترة لا يكون إلّا حقا لأنّه لا يخلو من أن يريد (عليه السّلام) به جملتهم أو كلّ واحد منهم، و قد علمنا أنّه لا يجوز أن يريد (عليه السّلام) بذلك إلّا جملتهم و لا يجوز أن يريد كلّ واحد منهم، لأنّ الكلام يقتضي الجميع، و لأنّ الخلاف قد يقع بينهم على ما علمناه من حالهم، و لا يجوز أن يكون قول كلّ واحد منهم حقّا لأنّ الحق لا يكون في الشي ء ضدّه، و قد ثبت اختلافهم فيما هذا حاله و لا يجوز أن يقال:

إنّهم مع الاختلاف لا يفارقون الكتاب، و ذلك يبيّن أنّ المراد به أنّ ما أجمعوا عليه يكون حقّا حتّى يصحّ

قوله: لن يفترقا حتى يردا علي الحوض،

و ذلك يمنع من أنّ المراد بالخبر الإمامة لأنّ الإمامة لا تصحّ في جميعهم، و إنّما يختصّ بها الواحد منهم، و قد بيّنا أنّ المقصد بالخبر ما يرجع الى جميعهم و يبيّن ما قلناه أنّ أحدا ممّن خالفنا في هذا الباب لا يقول في كلّ واحد من العترة إنّه بهذه الصفة، فلا بدّ أن يتركوا الظاهر الى أمر آخر يعلم به أنّ المراد بعض من بعض، و ذلك الأمر لا يكون إلّا ببيّنة، و ليس لهم أن يقولوا: إذا دلّ على ثبوت العصمة فيهم و لا تصحّ إلّا في أمير المؤمنين (عليه السّلام) ثمّ

في واحد واحد من الأئمّة فيجب أن يكون هو المراد، و ذلك لأنّ لقائل أن يقول: إنّ المراد عصمتهم فيما اتّفقوا عليه و لا يكون ذلك أليق بالظاهر و بعد، فالواجب حمل الكلام على ما يصحّ أن يوافق العترة فيه الكتاب، و قد علمنا أنّ في كتاب اللّه تعالى دلالة على الأمور فيجب أن يحمل قوله (عليه السّلام) في العترة على ما يقتضي كونه دلالة و ذلك لا يصحّ إلّا بأن يقال: إنّ إجماعها حقّ و دليل و أمّا طريقة الإماميّة فمباينة لهذا الفصل و المقصد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 292

ففيه أنّ إجماع العترة و إن كان حسبما دلّ عليه التطهير «1» و غيرها بل الخبر أيضا على ما صرّح به هذا المخالف حقّ و حجّة و غيره إلّا أنّ هذا الذي ذهبت اليه الإماميّة و هو الحقّ أنّ المراد بالعترة هم أهل البيت حسبما مرّ الكلام فيه، و أنّ قول كلّ واحد منهم حجّة، و أنّ كلّ واحد منهم معصوم من الخطأ و الزلل، و ذلك للآية و الرواية المتقدّمين، مضافا الى غيرهما ممّا لا داعي للتعرّض له في المقام، أمّا الآية فلأنّه إذا خوطب جماعة بالتطهير و إذهاب الرجس فلا بدّ من أن يكون كلّ منهم متّصفا به و إلّا لم يتّصف المجموع به أيضا إذا المجموع مركّب من الوحدات المجتمعة فإذا أخطأ واحد منهم فلا ريب في أنّه لم يذهب عن جميعهم الرّجس و لم يطهّر الجميع بل البعض.

ثم إنّ البعض الّذي لا يقع منه الخطأ إمّا البعض المعيّن أو على وجه البدليّة و الأول: يوجب تخصيص الحكم أو اختصاص الموضوع من غير سبب بعد فرض العموم فيهما، و الثاني: يلزمه خطأ

الكلّ بعد وقوعه من كلّ واحد منهم في الجملة ثمّ لا يخفى أنّ إذهاب الرّجس و التطهير ليس ممّا يتعلّق أوّلا على المجموع من حيث المجموع بل لو اتّصف به الكلّ فإنّما هو لاتّصاف كلّ واحد من الأفراد به، هذا مضافا الى أنّ صيغة الجمع تنزّل في أمثال المقام على الأفراد لا المجموع من حيث المجموع الّذي ليس متعلّقا بشي ء من الأحكام.

و أمّا الرّواية فلأنّ التأمّل الصادق فيها يقضي بأنّ المراد منها عصمة كلّ من العترة حسبما دلّت عليه الآية و أنّ كلّا منهم مخصوص في عصره بمعرفة الكتاب و تبليغ الأحكام و شرائع الإسلام و بيان الحلال و الحرام ثمّ إنّه (عليه السّلام) أخبر

______________________________

(1) الأحزاب: 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 293

بأنّهم لا يفارقون الكتاب أصلا فإنّ كان المراد كلّ واحد منهم ثبت المطلوب أو الجميع فكذلك بالتقريب المتقدّم.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) خاطب أمّته بهذا القول على سبيل الإرشاد و الهداية و إزاحة الشكوك و العلّة و قد ورد في كثير من أخبار الباب

أنّه (عليه السّلام) قال إنّهما الخليفتان من بعدي

و إنّما أراد أنّ المرجع إليهما بعدي فيما يرجع اليّ في حياتي فإن أراد أنّ مجرّد إجماعهم حجّة مع جواز الاختلاف بينهم بل و وقوعه كما زعموه فلا ريب أنّه لا يكمل به الحجّة إلّا أن يكون الحجّة في قول كلّ منهم سيّما مع انفراد بعضهم عن غيره في بعض الأزمنة كما هو الواقع و من جميع ذلك يظهر ضعف ما مرّ في كلام السائل من أنّ الكلام يقتضي الجميع مع أنّه إذا أخبر واحد منهم بشي ء فلا بدّ من أن يكون موافقا لغيره

من العترة و موافقا للكتاب، و إلّا لزم مفارقة العترة للكتاب على الوجهين هف.

و منه يظهر أنّه لا يقع بين العترة اختلاف أصلا فيضعف ما أشار إليه السائل بقوله: و لأنّ الخلاف قد يقع بينهم .. الى آخره.

على أنّا في سعة من ذلك كلّه لأنّ الخصم لا يسعه إنكار حجّية إجماعهم و لذا قد صرّح به في أوّل كلامه و لا ريب في انعقاد إجماعهم على عصمتهم و خلافتهم بلا فصل و عددهم، و فضلهم و ولايتهم و غير ذلك ممّا يعلم من ضرورة مذهبهم الّذي عرف منه أنّه لا اختلاف بين أقوالهم و أحكامهم و أنّ أوّلهم يحكم بما يحكم به آخرهم و آخرهم يحكم بما حكم به أوّلهم و أنّ جميعهم بمنزلة متكلّم واحد و أنّ ما وقع في أخبارهم من الاختلاف فإنّما هو لاختلاف الموضوعات و أحوال المكلّفين من باب الحكم البدلي الثانوي الّذي يختلف على حسب التقيّة و العجز و الضعف و غيرها من الأعذار الّتي من أجلّها حفظ شيعتهم بإيقاع الخلاف بينهم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 294

و لذا

ورد عنهم: نحن أوقعنا الخلاف بينكم «1» و إنّكم لو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم «2».

و أنّ الاختلاف خير لنا و لكم و أبقى لنا و لكم و لو اجتمعتم على أمر واحد لقصدكم النّاس و لكان أقلّ لبقائنا و بقائكم «3».

و

قال مولانا الصادق (عليه السّلام) لزرارة: لا يضيقنّ صدرك من الّذي أمرك أبي و أمرتك به، و أتاك أبو بصير بخلاف الّذي أمرناك به فلا و اللّه ما أمرناك و لا أمرناه إلّا بأمر وسعنا و وسعكم الأخذ به و لكلّ ذلك عندنا تصاريف و معان توافق الحقّ: و لو أذن

لنا لعلمتم أنّ الحقّ في الّذي أمرناكم فردّوا إلينا الأمر و سلّموا لنا و اصبروا لأحكامنا و ارضوا بها و الّذي فرّق بينكم فهو راعيكم الّذي استرعاه اللّه خلقه و هو أعرف بمصلحة غنمه في فساد أمرها فإن شاء فرّق بينها لتسلّم ثمّ

______________________________

(1)

بحار الأنوار ج 2 ص 220 ط الآخوندي عن نصر الخثعمي عن الصادق (عليه السّلام): من عرف من أمرنا أن لا نقول إلّا حقا فليكتف بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنّ ذلك منّا دفاع و اختيار له.

(2) بحار الأنوار ج 2 ص 236 عن «علل الشرائع» عن أبي الحسن (عليه السّلام) سئل عن اختلاف أصحابنا.

(3)

بحار الأنوار ج 2 ص 236 عن «علل الشرائع» عن زرارة: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن مسئلة فأجابني، ثمّ جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني و أجاب صاحبي، فلمّا خرج الرّجلان قلت: يا ابن رسول اللّه رجلان من أهل العراق من شيعتك قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به الآخر، قال: فقال:

يا زرارة إنّ هذا خير لنا و أبقى لنا و لكم و لو اجتمعتم على أمر واحد لقصدكم الناس، و لكان أقلّ لبقائنا و بقائكم. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 295

يجمع بينها ليأمن من فسادها و خوف عدوّها الخبر «1».

ثمّ من أفضح جهالات ذلك المخالف ما أشار اليه بقوله: و يبيّن ما قلناه أنّ أحدا ممّن خالفنا .. الى آخره.

حيث إنّه نسب في ظاهره كلامه الى الإماميّة أنّهم لا يقولون بعصمة كلّ واحد من العترة و عدم افتراقهم عن الكتاب و أنت ترى أنّ ضرورة مذهبهم تقضي بذلك

بحيث يعرفه كلّ مخالف و مؤالف على الوجه الذي فسّرت به العترة فيما مرّ من المعتبرة، و لعلّه زعم أنّ المراد بالعترة مطلق الذريّة و الأولاد و الأقارب مطلقا و لم يعلم أنّه مفسّر في أخبارهم فضلا عن أخبار الإماميّة بأهل البيت.

فإن قلت: إنّ صريحها بل صريح ما ورد في تفسير الآية «2» تفسير كل من العترة و أهل البيت بالأربعة الّذين هم علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السّلام) فمن أين يتمّ الكلام في سائر الأئمّة (عليهم السّلام) على ما هو مقصد الإماميّة؟

قلت: لا ريب أنّ الاقتصار في بعض الأخبار على الأربعة إنّما هو لكونهم موجودين ظاهرين في هذا العالم الناسوتي عند نزول الآية و إلّا فلا ريب أنّه بعد ثبوت الولاية و العصمة لواحد منهم يثبت للآخرين أيضا بالنصّ منه لثبوت عصمته و شدّة الوثوق بقوله، على أنّه قد تواتر النصوص على الكلّ عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) حسبما هو مسطور في كتب الفريقين بل في كثير من أخبار الفريقين تفسير العترة بالإثني عشر.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 246 عن رجال الكشي.

(2) الأحزاب: 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 296

ففي «الكفاية» عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): إنّي تارك فيكم الثّقلين أحدهما كتاب اللّه (عزّ و جل) من اتّبعه كان على الهدى و من تركه كان على الضّلالة ثمّ أهل بيتي قالها ثلاث مرّات فقلت لأبي هريرة فمن أهل بيته نساؤه؟ قال: لا أهل بيته و عقبه و هم الأئمّة الاثنى عشر الّذين ذكرهم اللّه في قوله: و جعلها كلمة باقية في عقبه «1».

و

فيه عن حذيفة قال:

سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) يقول على منبره: معاشر النّاس! إنّي فرطكم و أنتم واردون علىّ الحوض حوضا ما بين بصرى و صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة و إنّي سائلكم حين حين تردون علي عن الثقلين كيف تخلّفوني فيهما الثّقل الأكبر كتاب اللّه سبب طرفه بيد اللّه و طرفه بأيديكم فاستمسكوا به لن تضلّوا و لا تبدّلوا في عترتي أهل بيتي فإنّي قد نبّأني اللّطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض معاشر الناس كأنّي على الحوض أنتظر من يرد علي منكم و سوف يؤخّر أناس من دوني فأقول يا ربّ منّي و من أمّتي فيقال يا محمّد هل شعرت بما عملوا إنّهم قد رجعوا بعدك على أعقابهم ثمّ قال (عليه السّلام): أوصيكم اللّه في عترتي خيرا ثلاثا أو قال في أهل بيتي فقام إليه سلمان فقال: يا رسول اللّه! ألا تخبرني عن الأئمّة بعدك أما هم من عترتك؟ فقال (عليه السّلام): نعم الأئمّة من بعدي من عترتي عدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين أعطاهم اللّه علمي و فهمي فلا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم و اتّبعوهم فإنّهم مع الحقّ و الحقّ معهم «2».

______________________________

(1) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر نقلا عن كفاية الأثر ص 27.

(2) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عن كفاية الأثر ص 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 297

و

عن الشيخ إبراهيم بن محمّد الحمّوئي من أعيان علماء العامّة في كتاب «فرائد السّمطين في فضائل المرتضى و البتول و السبطين» «1» مسندا الى سليم بن قيس الهلالي في خبر المناشدة الى أن قال: ثمّ قال علي (عليه السّلام): أنشدكم باللّه أ تعلمون أنّ رسول

اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قام خطيبا لم يخطب بعد ذلك فقال: يا أيّها الناس إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي فتمسّكوا بهما لن تضلّوا فإنّ اللّطيف أخبرني و عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض فقام عمر بن الخطّاب شبيه المغضب فقال: يا رسول اللّه أكلّ أهل بيتك؟ فقال (عليه السّلام): و لكن أوصيائي منهم أولهم أخي و وزيري و وارثي و خليفتي في أمّتي، و وليّ كلّ مؤمن بعدي علي بن أبي طالب هو أوّلهم ثمّ ابني الحسن ثم ابني الحسين ثمّ تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد حتى يردوا علي الحوض شهداء اللّه في أرضه، و حجّته على خلقه، و خزّان علمه، و معادن حكمته من أطاعهم فقد أطاع اللّه و من عصاهم فقد عصى اللّه فقال الحضّار من المهاجرين و الأنصار كلّهم: نشهد أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال ذلك ثمّ تمادى بعليّ السؤال فما ترك شيئا إلّا ناشدهم اللّه فيه و سئلهم عنه حتّى أتى على آخر مناقبه و ما قال له رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) كثيرا كل ذلك يصدّقونه و يشهدون أنّه حقّ «2».

و

في «العيون» عن الريّان بن الصّلت قال: حضر الرّضا (عليه السّلام) مجلس المأمون بمرو و قد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق و خراسان فقال

______________________________

(1) إبراهيم بن محمّد بن مؤيّد بن حمويه الشافعي، و لكن جعله السيّد محسن العاملي من أعيان الشيعة و قال: له فرائد السمطين في فضائل المرتضى و البتول و السبطين ولد في سنة 644 و توفي سنة 722- أعيان

الشيعة 5: 458.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 361 ط. القديم. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 298

المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «1».

فقالت العلماء: أراد اللّه تعالى بذلك الأمّة كلّها، فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن فقال الرّضا (عليه السّلام): لا أقول كما قالوا و لكنّي أقول أراد اللّه (عزّ و جل) بذلك العترة الطّاهرة إلى أن قال المأمون: من العترة الطّاهرة؟ فقال الرّضا (عليه السّلام): الّذين وصفهم اللّه تعالى في كتابه فقال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2»، و هم الذين قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): إنّي مخلّف فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ألا و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض فانظروني كيف تخلّفوني فيهما أيّها الناس لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.

قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن من العترة أهم الآل أم غير الآل؟

فقال الرضا (عليه السّلام): هم الآل فقالت العلماء: هذا رسول اللّه يؤثر منه أنّه قال: أمّتي آلي و هؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الّذي لا يمكن دفعه آل محمّد أمّته فقال أبو الحسن (عليه السّلام): أخبروني هل تحرم الصّدقة على الآل؟

قالوا: نعم قال (عليه السّلام): فتحرم على الأمّة؟ قالوا: لا، فقال (عليه السّلام):

هذا فرق بين الآل و الأمّة، و يحكم أين يذهب بكم أ ضربتم عن الذّكر صفح أم أنتم قوم مسرفون أما علمتم أنّه وقعت الوراثة و الطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم، قالوا: و من أين يا أبا الحسن؟ فقال (عليه السّلام): من قول اللّه تعالى:

______________________________

(1) فاطر: 35.

(2) الأحزاب: 33. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 299

وَ

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ «1»، فصارت النبوّة و الكتاب للمهتدين دون الفاسقين «2».

و

فيه عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أنّه قال: إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض كهاتين، و ضمّ بين سبّابتيه فقام اليه جابر بن عبد اللّه فقال: يا رسول اللّه من عترتك؟ قال (عليه السّلام): علي و الحسن و الحسين و الأئمّة من ولد الحسين الى يوم القيمة «3».

و

عن «الجمع بين الصحاح الستّة» نقلا عن «صحيح» أبي داود السجستاني و هو كتاب «السنن»، و عن «صحيح» الترمذي عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أحدهما أعظم من الأخر و هو كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء الى الأرض و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلّفوني في عترتي «4».

قال سفيان: أهل بيته هم ورثة علمه، لأنّه لا يورث من الأنبياء إلّا العلم أهل بيته المقتدون به و العاملون بما جاء به لهم فضلان.

و

عن ابن المغازلي الشافعي في «المناقب» عن زيد بن أرقم قال: أقبل نبيّ اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) من مكّة في حجّة الوداع حتّى نزل بغدير الجحفة بين مكّة و المدينة فأمر الدوحات، فقمّ ما تحتهنّ من شوك ثمّ نادى الصلاة جامعة، فصلّى بنا الظّهر و خطب إلى أن قال في خطبته: ألا و إنّي فرطكم و أنتم تبعي توشكون أن تردوا علي الحوض فأسئلكم حين

تلقوني عن ثقليّ كيف خلّفتموني فيهما قال فأعيل

______________________________

(1) الحديد: 26.

(2) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 229.

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 30 ط. القديم.

(4) بحار الأنوار ج 7 ص 23 ط. القديم عن الطرائف. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 300

تفسير الصراط المستقيم ج 1 350

علينا «1» ما ندري ما يقول الآن حتّى قام رجل من المهاجرين قال بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه ما الثقلان؟ قال (عليه السّلام): الأكبر منهما كتاب اللّه تعالى سبب بيد اللّه تعالى و طرف بأيديكم فتمسّكوا به و لا تزلّوا و لا تضلّوا و الأصغر منهما عترتي من استقبل قبلتي و أجاب دعوتي فلا تقتلوهم و لا تقهروهم و لا تقصروا عنهم، فإنّي قد سئلت اللّه اللّطيف الخبير فأعطاني أن يردا علي الحوض كهاتين و أشار بالمسبّحة و لو شئت قلت: كهاتين بالسبّابة و الوسطى ناصرهما لي ناصر و خاذلهما ليّ خاذل، و وليّهما ليّ وليّ و عدوّهما ليّ عدوّ، ألا فإنّها لن تهلك أمّة قبلكم حتّى تدين بأهوائها و تظاهر علي نبيّها و تقتل من قام بالقسط منها، ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السّلام) فرفعها فقال من كنت وليّه فهذا وليّه، اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه قالها ثلاثا «2» الخطبة.

الى غير ذلك من الأخبار الّتي يغنينا عن التعرّض لها اشتهارها و تواترها و تكرّرها في أصول الفريقين.

و هذا الخبر هو الّذي أشار اليه

مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) في خطبته الّتي رواها في «النهج» و فيها فأين تذهبون؟ و أنّى تؤفكون؟ و الأعلام قائمة و الآيات واضحة، و المنار منصوبة. فأين يتاه بكم «3»؟ و كيف تعمهون «4»؟ و

بينكم عترة نبيّكم، و هم أزمّة الحق، و السنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن،

______________________________

(1) قال الجوهري في الصحاح: ج 5 ص 1781: علت الضالة أعيل عيلا و عيلانا فأنا عائل: إذا لم تدر أي وجهة تبغيها- بحار الأنوار: ج 37 ص 185 ط. الآخوندي-

(2) بحار الأنوار ج 37 ص 184 ط. الآخوندي عن عمدة ابن بطريق و الطرائف.

(3) يتاه بكم من التيه بمعنى الضلال و الحيرة.

(4) تعمهون: أي تحيرون. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 301

و ردوهم ورود الهيم العطاش «1»، أيّها الناس! خذوها عن خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، إنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت «2»، و يبلى من بلي منّا و ليس ببال، فلا تقولوا ما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون، و اعذروا من لا حجّة لكم عليه و أنا هو، ألم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر و أترك فيكم الثّقل الأصغر و ركزت فيكم راية الإيمان، و وقفتكم على حدود الحلال و الحرام «3».

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه ما لفظه: و عترة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أهله الأدنون و نسله، و ليس بصحيح قول من قال: إنّه رهطه و إن بعدوا، و إنّما قال أبو بكر يوم السقيفة أو بعده: «نحن عترة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و بيضته التي تفقأت عنه» على طريق المجاز لأنّهم بالنسبة عترة له لا في الحقيقة، ألا ترى أنّ العدناني يفاخر القحطاني فيقول له: أنا ابن عمّ رسول اللّه ليس يعني أنّه ابن عمّه على الحقيقة لكّنه بالإضافة الى القحطان ابن عمّه و إنّما استعمل ذلك و نطق به

مجازا و إن قدّر مقدّر له على طريق حذف المضاف أي ابن ابن عمّ أب الأب الى عدد كثير في البنين و الآباء فلذلك أراد أبو بكر أنّهم عترة أجداده على طريق حذف المضاف و قد بيّن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) عترته من هي لمّا

قال (عليه السّلام): إنّي تارك فيكم الثقلين فقال عترتي أهل بيتي.

و بيّن في مقام آخر من أهل بيته حين طرح عليهم كساء و

قال حين نزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ ..

______________________________

(1) و ردوهم .. الى آخره، أي هلمّوا الى بحار علومهم مسرعين كما تسرع الهيم (أي: الإبل العطشى) الى الماء.

(2) خذوها الى ... و ليس بميت، أي خذوا هذه القضية عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و هي «أنه يموت الميت من أهل البيت و هو في الحقيقة غير ميّت» لبقاء روحه ساطعة النور في عالم الظهور.

(3) نهج البلاغة الخطبة: 85. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 302

الآية: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس.

قال: فإن قلت: فمن هي العترة التي عناها أمير المؤمنين (عليه السّلام) بهذا الكلام؟.

قلت: نفسه و ولداه، و الأصل في الحقيقة نفسه لأنّ ولديه تابعان له و نسبتهما إليه مع وجوده نسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة و قد نبّه النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) على ذلك

بقوله: و أبوكما خير منكما.

الى أن قال: إنّ

قوله (عليه السّلام): «فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن»

تحته سرّ عظيم و ذلك أنّه أمر المكلّفين بأن يجروا العترة في إجلالها و إعظامها و الانقياد لها و الطاعة لأوامرها مجرى القرآن.

قال: فإن قلت: هذا القول منه مشعر بأنّ العترة معصومة، فما قول أصحابكم في ذلك؟

قلت:

نصّ أبو محمّد بن متويه في كتاب «الكفاية» على أنّ عليّا معصوم و إن لم يكن واجب العصمة و لا العصمة شرط في الإمامة و لكن أدلّة النصوص دلّت على باطنه و مغيبه و أنّ ذلك أمر اختصّ هو به دون غيره من الصّحابة، و الفرق ظاهر بين قولنا زيد معصوم و زيد واجب العصمة لأنّه إمام و من شرط الإمام أن يكون معصوما، فالاعتبار الأوّل مذهبنا و الإعتبار الثاني مذهب الإماميّة «1».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 2 ص 126 ط. مصر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 303

الباب الرابع

اشارة

في أسماء القرآن و حدوثه و كيفية الوحي و الإلهام و السماع و الكتابة و الفرق بينه و بين الحديث القدسي و البحث عن كيفية الخطابات الواردة فيه و شمولها للغائبين و المعدومين و فيه فصول:

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 305

الفصل الأوّل

في أسمائه و ألقابه أعلم أنّ الشي ء كلّما كثرت شئونه و آثاره و تجلّت أشعّته و أنواره تعدّدت أسمائه و ألقابه، فهذا النّور اللّامع، و الضياء الساطع، و الكتاب المبين، و حبل اللّه المتين، و الماء المعين، و المنهج القويم، و الصراط المستقيم لمّا كان مطلع أنوار العناية و الهداية و منبع أسرار النبوة و الولاية أشرقت تجلّيات أنواره على أفق التشريع و التكوين، و ظهر من رشحات لمعات أشعّته جميع العالمين و لذا تكثّرت أسمائه الشريفة و تعدّدت ألقابه المنيفة و نحن نكتفي في الإشارة إليها بالإجمال عن التفصيل حذرا من التطويل.

فمنها القرآن الّذي قيل: إنّه غير مشتقّ كالتوراة و الإنجيل إلّا أنّ الأظهر الأشهر اشتقاقه، فإنّه في الأصل مصدر ثالث لقرء كمنع أو نصر على ما قيل يقرء قرأ بالفتح و قراءة بالكسر و قرأنا بالضمّ بمعنى الجمع أو التبليغ أو التلاوة.

قال في القاموس: القرآن التنزيل قرأه و به كنصره و منعه قرأ و قراءة و قرأنا فهو قارئ من قرأة و قرّاء و قارءين تلاه.

الى أن قال: و قرأت الناقة حملت و الشي ء جمعه و ضمّه «1».

______________________________

(1) تاج العروس ج 1 ص 101.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 306

و في «المصباح المنير» قرأت أمّ الكتاب و بأمّ الكتاب يتعدّى بنفسه و بالباء قراءة و قرآنا استعمل القرآن اسما مثل الشكران و الكفران، و إذا أطلق انصرف شرعا الى المعنى القائم بالنفس و

لغة الى الحروف المقطّعة لأنّها هي التي تقرء نحو كتبت القرآن و مسسته، و الفاعل قارئ و الجمع قرأة و قرّاء و قارءون، مثل كافر و كفرة و كفّار و كافرون.

و في «مجمع البحرين»: القرآن اسم لكتاب اللّه تعالى خاصّة لا يسمّى به غيره، و إنّما سمّي قرآنا لأنّه يجمع السور و يضمّها، و قيل: لأنّه جمع القصص و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و الآيات و السّور بعضها الى بعض، و هو مصدر كالغفران و الكفران، يقال فلان يقرء قرآنا حسنا أي قراءة حسنة «1».

قلت: فقد اتّضح من هذا أنّه في الأصل مصدر، بل قد ورد إطلاقه على المعنى المصدري أيضا كقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «2»، أي جمعه و تلاوته و لو على لسان جبرئيل أو غيره من مبلّغي الوحي أو بخلق الأصوات و الحروف أو إنّ علينا جمعه في صدرك و إثبات قراءته في لسانك «3»، فإذا قرأناه يعني بلسان جبرئيل أو بأحد الوجوه المتقدّمة فاتّبع قرآنه أي قراءته و تلاوته.

ثمّ إنّه غلب شرعا أو متشرّعا أو عرفا على هذا المعجز الباقي على مرّ الدّهور باعتبار شي ء من الوجوه الآتية الّتي منها كونه متلوّا أو مجمعا للسور أو الآيات أو الكلمات أو الحروف، و لذا يصدق على كلّ آية و سورة بل على كلّ كلمة متميّزة

______________________________

(1) مجمع البحرين ص 67.

(2) القيامة: 17- 18.

(3) مجمع البحرين ص 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 307

لذلك شخصا أو قصدا أيضا و قد

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) لغير واحد من الصّحابة: قد أنزل اللّه فيك قرآنا يريد آية أو أكثر أو سورة.

و البحث في

أنّ إطلاقه على الآية أو السورة حقيقة باعتبار وضعه للكلام المنزل للإعجاز، فيطلق على القليل و الكثير المهية في ضمن الجميع، بمعنى أنّه أيّ فرد أخذ منه فهو فرد منها و إنّ تحقّقت في ضمن أبعاضه أيضا أو أنّه مجاز من باب إطلاق الكلّ على الجزء لأنّه موضوع لما بين الدفتين أو لجميع ما نزل للإعجاز على خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أو أنّه حقيقة من وجه و مجاز من وجه آخر، باعتبار أنّ له وضعين من وجهين.

هيّن جدّا لقلّة الفائدة فيه إلّا في مثل النذر و أختيه و الوصيّة و نحوها ممّا يقلّ تجرّده فيه عن القرائن الدالّة على إرادة أحد الأمرين و لو باعتبار المقام أو التعليق، و على فرض التجرّد فلعلّه محمول على الجميع لظهور الانسباق و قضية الإشتغال بل التبادر الذي لعلّه المستند للأكثر في القول بوضعه للمجموع.

و بالجملة فالخطب في مثله سهل، إنّما الكلام في وجه المناسبة الملحوظة في التسمية به بعد أخذه من القرآن بالضمّ بمعنى الجمع و الضمّ، أو بالفتح بمعنى الوقت، أو من القراءة التي هي بمعنى التلاوة أو بمعنى القرآن يعني الاقتران لكنّه يرجع الى الأوّل أو من القرينة لأنّه يفسّر بعضه بعضا أو من القري بمعنى الضيافة حيث إنّه مأدبة اللّه لعباده.

بالجملة فالمناسبة شي ء من وجوه ككونه مجتمعا في النزول أوّل ما أنزل في عالم الأنوار على سيّد الأبرار كما ستسمع الإشارة اليه أو حيثما نزل كلّه جملة واحدة في ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان الى البيت المعمور قبل أن ينزّل في هذا العالم منجّما مفرّقا في طول ثلاث و عشرين سنة فإنّه من هذا الوجه فرقان بخلاف الأوّل

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 308

كما قال تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1».

و كونه مجمعا لجميع الحقائق الإمكانيّة أو الكونيّة التشريعيّة و التكوينيّة أو لجميع السور و الآيات المنزلة أو لجميع الكتب السماوية و الزبر الإلهيّة كما ورد

في النبويّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) عنهم: أعطيت السور الطول مكان التّورية، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزّبور، و فضّلت بالمفصّل ثمان و ستّون سورة و هو مهيمن على سائر الكتب الخبر «2».

و كونه جملة القصص و الأحكام و الحلال و الحرام و المواعظ و الأمثال و الوعد و الوعيد و العذر و النذر و غيرها من تصاريف الشؤون و الأحكام المنطبقة على كافة الأنام أو اشتماله على جملة وجوه الكلام من الخاص و العامّ و المحكم و المتشابه و المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن و الناسخ و المنسوخ و الأمر و النهي و الظاهر و المأوّل

______________________________

(1) الإسراء: 106.

(2) الأصول من الكافي كتاب فضل القرآن حديث: 10.

قال الكاشاني في مقدمة الصافي بعد ذكر الحديث: أقول: اختلفت الأقوال في تفسير هذه الألفاظ أقربها الى الصواب و أحوطها لسور الكتاب أن الطول كصرد هي السبع الأول بعد الفاتحة على أن يعدّ الأنفال و البراءة واحدة لنزولهما جميعا في المغازي و تسميتهما بالقرينتين، و المئين من بني إسرائيل الى سبع سور سمّيت بها لأنّ كلا منها على نحو مائة، و المفصّل من سورة محمّد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) الى آخر القرآن سميت به لكثرة الفواصل بينها.

و المثاني بقية السور و هي التي تقصر عن المئين و تزيد على المفصل كأن الطول

جعلت مبادئ تارة و التي تلتها مثاني لها لأنّها ثنت الطول أي تلتها، و المئين جعلت مبادئ أخرى و التي تلتها مثاني لها.

و في شرح الكافي للمازندراني:

قوله (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): (و هو مهيمن على سائر الكتب)

أي شاهد عليها و لو لا شهادته لما علم أنها كتب سماويّة لعدم بلوغها حدّ الإعجاز.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 309

و غيرها ممّا تأتي إليها الإشارة، و لعلّه إليه يومئ ما

رواه العيّاشي و القمي عن مولانا الصّادق (عليه السّلام) قال: الفرقان هو كلّ أمر محكم و الكتاب هو جملة القرآن «1».

و

في الكافي عنه (عليه السّلام): القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به «2».

و كونه مقروء أي متلوّا على النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في هذا العالم أو قبله في العوالم السابقة و يومئ الى الأوّل قوله (عليه السّلام): فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «3» و الى الثاني قوله: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الآية «4» أو أنّه مما يجب على النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و المؤمنين قراءته و تلاوته لقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ «5» أو أنّهم يتلونه حقّ تلاوته أو أنّه ممّا

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 2 ص 9 نصّ الحديث هكذا:

عن عبد اللّه بن سنان: قال: سئلت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن القرآن و الفرقان؟ قال (عليه السّلام): القرآن جملة الكتاب و اخبار ما يكون و الفرقان المحكم الذي يعمل به، و كل محكم فهو فرقان.

(2) الكافي ج 2 ص 461 ط. الإسلامية بطهران.

قال المازندراني في شرح الحديث:

قوله: (القرآن جملة الكتاب)

القرآن في الأصل مصدر بمعنى الجمع تقول قرأت الشي ء قرآنا إذا جمعته،

ثم نقل الى هذا الكتاب لأنّه جمع القصص و الأمثال و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و السور و غيرها من الأسرار التي لا تحصيها:

قوله: (الفرقان المحكم الواجب العمل به)

الفرقان في الأصل مصدر بمعنى الفرق ثم نقل الى الواجب العمل به على الوجه المطلوب لأنّه فارق فاصل بين الواجب و الحرام و غيرهما من الأحكام و قد يطلق على جملة الكتاب أيضا لأنّه فاصل بين الحق و الباطل و المراد بالمحكم الحكم المتقن الباقي الى آخر الدهر.

(3) القيامة: 18.

(4) الشورى: 52.

(5) المزمل: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 310

يتلى على مرّ الأزمان و الدهور الى يوم ينفخ في الصور الى غير ذلك من الوجوه التي لعلّها بتمامها ملحوظة في التسمية.

ثم إنّه سبحانه قد وصفه بالعظمة في قوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «1» و بالحكمة في قوله: يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ «2» و بالمجد في قوله: ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «3» و بالإبانة في قوله: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ «4» و ذلك لما سمعت من أنّه تدوين للمشيّة من حيث اجتماع مراتبها الكليّة الإجماليّة و التفصيليّة فهو مظهر العظمة الكونيّة إذ لا أعظم منه في التدوين كما أنّه ليس شي ء أعظم من خاتم النبيين في عالم التكوين و لذا كان لمّا خلقه اللّه تعالى سبّح اللّه سبحانه و عظّمه في حجاب العظمة ثمانين ألف سنة الى أن وصل الى حجاب القدرة كما في خبر جابر «5» و غيره فعظمته (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) لعبوديّته المطلقة و خضوعه الدائم الكلّي و لذا كان أوّل العابدين، و كان من أشرف أسمائه عبد اللّه حتى قدّم على

أعظم شئونه الذي هو الرسالة.

و أما حكمته فلأنّه يترشّح عليه من أشعّة أنوار الحكمة الكليّة الأوليّة ما يعطي كلّ شي ء خلقه و يسوق الى كلّ مخلوق رزقه، فيضع كلّ شي ء في محلّه، و يؤدّي الأمانة الى أهله، بل الحكمة بهذا المعنى لمّا كانت من الصفات الفعليّة الانوجاديّة

______________________________

(1) الحجر: 87.

(2) يس: 1- 2.

(3) ق: 1- 2.

(4) الحجر: 1- 2.

(5) بحار الأنوار ج 7 ص 185 ط. القديم، و لعلّ في العبارة تقديما و تأخيرا لأنّ نصّ الرّواية في البحار هكذا،

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): أوّل ما خلق اللّه نوري ابتدعه من نوره و اشتقه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل الى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة .. الى آخره. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 311

كانت مخلوقة في حضرة المشيّة الّتي هو النور المحمّدي، و هو أوّل من قرع باب الوجود قبل كلّ موجود، فهو الشاهد و هو المشهود، فالقرآن العظيم إذا تحقّق في مقام الحكمة ظهر منه المجد و الشرف و الخير و البركة.

و

في الخبر: إنّ المجد هو حمل المغارم و إيتاء المكارم «1»

و لا ريب أنّ القرآن يجبر النقصانات الإمكانيّة و يعطي الفيوض الربّانيّة، و به تنال الشفاعة الكليّة كما في الأخبار المتقدّمة فمن تمسّك بشي ء منه في الدنيا كان له في القيامة شفيعا مشفّعا و طريقا اليه مهيعا «2» إلّا أنّ ظهوره في هذا العالم بالشرف إنّما هو باشتماله على البيانات الواضحة و الأنوار الساطعة اللائحة فإنّه كان في مقامه و درجته عظيما معظّما و شريفا مفخّما لكنّه بعد ما كان في زبر الأوّلين قد نزل به الرّوح الأمين على قلب خاتم النبيين ليكون به من

المنذرين بلسان عربيّ مبين فهذه المراتب المفصّلة كالأركان الأربعة لظهوره و تجلّى نوره و لعلّه أشرف أسمائه و لذا عبّر عنه فيه به بعدد قوي اسم اللّه العظيم الأعظم و هو ستة و ستّون فافهم.

و منها الفرقان بالضم مصدر فرق بمعنى الفاعل قال في القاموس: فرق بينهما فرقا و فرقانا بالضم فصل فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «3» أي يقضي وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ «4» أي فصّلناه و أحكمناه وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ «5» فلقناه فَالْفارِقاتِ فَرْقاً «6» الملئكة تنزل بالفرق بين الحقّ و الباطل.

______________________________

(1) قال الطريحي في مجمع البحرين ص 216 في لغة مجد: و المجد الكرم و العز و

في الحديث المجد حمل المغارم و إيتاء المكارم.

(2) المهيع بفتح الميم و الياء و سكون الهاء جمع: مهايع، الطريق الواسع البين.

(3) الدخان: 4.

(4) الإسراء: 106.

(5) البقرة: 50.

(6) المرسلات: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 312

الى أن قال: و الفرقان بالضم القرآن كالفرق بالضم، و كلّما فرّق به بين الحق و الباطل، و النصر، و البرهان، و الصبح، و السحر، و الصبيان و التورية و انفراق البحر و منه: وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ «1» و يوم الفرقان يوم بدر. انتهى.

فالقرآن فرقان كما قال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ «2» لأنّه فارق بين الحقّ و الباطل فالمصدر بمعنى الفاعل.

أو لأنّ فيه تفصيل كلّ شي ء من الحقائق و الشرائع و الأحكام و الحلال و الحرام، فالقرآن في رتبة الإجمال و جمعيّة الحقائق الكليّة، و الفرقان في مقام التفصيل و تبيين المقاصد الواقعيّة.

أو لأنّ نزوله كان منجّما مفرّقا في نيّف و عشرين سنة كما قال: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «3» و لذا

قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «4» كما نزّل سائر الكتب على الأنبياء من قبله فأجيبوا بقوله:

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «5».

أو لأنّه نجاة من الآفات و عصمة من الهلكات كما هو أحد الوجوه في قوله:

إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «6».

أو لأنّه عون و نصرة للأبرار على الفجّار، و لجنود العقل الّذين هم أولياء المؤمنين على جنود الجهل و هم أحزاب الشياطين.

أو لأنّه برهان واضح و مشفق ناصح و دليل لائح على حقائق التوحيد

______________________________

(1) البقرة: 53.

(2) الإسراء: 106.

(3) الفرقان: 32.

(4) الفرقان: 1.

(5) الفرقان: 32.

(6) الأنفال: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 313

و الهداية و مراتب النبوّة و الولاية و غير ذلك من اسرار البداية و النهاية.

أو لأنّه نور اللّه سبحانه أضاء بنوره ظلمة العدم، و انفلق باشعّة تجلّياته غواسق الظلم، الى غير ذلك من الوجوه المشتركة في إطلاقه على الجميع موافقا للقرآن في المصداق و إن خالفه في الجملة لكنّ

في «المجمع» عن مولانا الصادق (عليه السّلام) قال: القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به «1».

و منها الكتاب بالكسر مصدر ثان أو ثالث أو رابع أو من غير تقييد من كتب بمعنى جمع، و منه الكتيبة للجيش، و الكتب للخزر المجتمع بعضها على بعض كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «2» أي جمع سمّي به المفعول فأطلق على ما من شأنه أن يكتب بعد. و ما يقال من أنّه المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنّه مما يكتب فالمقصود عدم التقييد لا التقييد بالعدم و بالجملة فهو مصدر.

أو فعال للمفعول كاللباس أطلق على القرآن معرّفا و منكّرا و مضافا في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ «3»، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ

إِلَيْكَ «4»، وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ «5» لأنّه مجمع الحقائق و الأحكام.

أو لأنّه المكتوب المؤلّف من الحروف و الألفاظ و المعاني.

أو لأنّه يجب الأخذ بما فيه من الشرائع و الأحكام من كتب بمعنى وجب و منه كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «6»، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «7».

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 461 ط. الإسلامية بطهران.

(2) المجادلة: 22.

(3) البقرة: 2.

(4) إبراهيم: 2.

(5) الكهف: 27.

(6) البقرة: 183.

(7) الأنعام: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 314

أو لأنّه جرى عليه قلم القضاء في عالم التدوين مطابقا لما في التكوين من قوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي «1» أي قضى اللّه.

أو لأنّه نسخة من كتاب اللّه الذي هو اللوح الكلّي المشتمل على المحفوظ و المحو و الإثبات و الألواح الجزئيّة كما هو أحد الوجهين أو الوجوه في قوله: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ «2» و قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ «3» الى غير ذلك من الوجوه الّتي لعلّ الأصل في الجميع هو الأوّل فلا تغفل.

ثمّ إنّك قد سمعت أنّ النسبة بين هذه الألقاب الشريفة و هي القرآن و الفرقان و الكتاب إنّما هو ببعض الاعتبارات المتقدّمة و لبعض الأعلام كلمات في المقام لا بأس بالتعرّض لها:

قال الصدر الأجلّ الشيرازي في عرشيته: «إنّ كلام اللّه عبارة عن إنشاء كلمات تامّات و إنزال آيات محكمات و أخر متشابهات في كسوة ألفاظ و عبارات، و الكلام قرآن و فرقان باعتبارين و هو غير الكتاب لأنّه من عالم الخلق وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ «4» و الكلام من عالم الأمر و منزله القلوب و الصدور

لقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «5» و قوله: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «6» بالكتاب يدركه كلّ أحد

______________________________

(1) المجادلة: 21.

(2) الجاثية: 29.

(3) التوبة: 36.

(4) العنكبوت: 48.

(5) الشعراء: 193.

(6) العنكبوت: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 315

وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا «1» و الكلام لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2» من أدناس عالم البشرية و القرآن كان خلق النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) دون الكتاب و الفرق بينهما كالفرق بين آدم و عيسى (عليهما السّلام) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «3» و آدم كتاب اللّه المكتوب بيدي قدرته، و أنت الكتاب المبين الّذي بأحرفه يظهر المضمر «4» و عيسى قوله الحاصل بأمره وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ «5» و المخلوق باليدين في باب التشريف ليس كالموجود بحرفين و من زعم خلاف ذلك أخطأ.

أقول: و لا يخفى ما في كلّ مقاصده و شواهده من الأنظار الواضحة أمّا الكلام و الكتاب فالفرق بينهما بما ذكره غير واضح بعد ما هو المعلوم من اشتقاق كلّ منهما، و الآية الثانية لا دلالة لها على مرامه بعد ظهور عدم سبق ذكر للكلام حتى يكون الضمير له، مضافا الى أنّ اختصاص الحكم لا يدلّ على اختصاص الموضوع، و أمّا الاستشهاد بقوله: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ و قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فهو كما ترى، سيّما مع ظهور كون الضمير في الثاني للكتاب أو القرآن، مع أنّ إطلاق المسّ على إدراك الحقائق مجاز، و كون إدراكه مختصّا بالمطّهرين لا يتمّ إلّا باعتبار

______________________________

(1) قال الفيض الكاشاني في

الصافي: إطلاق الكتاب على الإنسان الكامل شائع في عرف أهل اللّه و خواص أوليائه،

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): دوائك فيك و ما تشعر* و دائك منك و ما تبصر و أنت الكتاب المبين الّذي* بأحرفه يظهر المضمر و تزعم أنّك جرم صغير* و فيك انطوى العالم الأكبر

(2) الأعراف: 145.

(3) الواقعة: 79.

(4) آل عمران: 59.

(5) النساء: 171.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 316

المجموع، و أغرب من جميع ذلك تسوية الفرق بينهما للفرق بين آدم و عيسى، و كأنّه أراد أنّ آدم مخلوق باليدين لقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ «1» و أنّ عيسى مخلوق بالكلمتين كقوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» و أراد أن المخلوق بالكلمتين أشرف من المخلوق باليدين، لأنّ الأوّل روحانيّ من عالم الأمر، و الثاني جسمانيّ من عالم الخلق، و ضعفه واضح من وجوه، سيّما مع ابتنائه على كون الضمير في آية التكوين لعيسى (عليه السّلام) و هو كما ترى.

و من أسماء القرآن النور، و هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، و لذا ورد في أسمائه سبحانه بل عليه ظاهر قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «3» و أطلق على النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ «4» على ما قيل، و إن فسّر في أخبارنا بمولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) كما فسّر به قوله تعالى: وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ «5» و إن قيل:

إنّ المراد به القرآن كما قيل: إنّه المراد به أيضا في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «6» فإنّ البرهان

رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و النّور هو القرآن، و لا ينافيه تفسيره بمولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام)، و على الدين الحقّ في قوله تعالى:

______________________________

(1) ص: 75.

(2) آل عمران: 59.

(3) النور: 35.

(4) المائدة: 15.

(5) الأعراف: 157.

(6) النساء: 174.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 317

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ «1» بإعلاء التوحيد و إظهار النبوة و الولاية.

و على الإيمان الذي يهتدي به المؤمنون الى الجنّة في قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ «2».

و على الهداية الحاصلة من شرح الصدر للإسلام في قوله تعالى: أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «3».

و على التوراة في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ «4».

بل يطلق على جميع سبل السلامة، و مناهج الكرامة كما في قوله تعالى:

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ «5» و قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ «6».

بل قد أطلق على الطهارة الحاصلة من الوضوء في

قوله (عليه السّلام) الوضوء على الوضوء نور على نور «7»

كما

ورد إنّه طهر على طهر «8».

و بالجملة يظهر من موارد استعماله في الكتاب و السنّة أنّه يطلق على كلّ حقّ و هداية و رشاد، كما أنّ ضدّه الّذي هو الظلمة يطلق على كلّ باطل و ضلالة و غيّ، و إن كان إطلاق كلّ منهما على ما يطلق عليه على وجه التشكيك فأعظم الأنوار نور أشرق من صبح الأزل فظهر آثاره على هياكل التوحيد

و مظاهر التمجيد و التفريد

______________________________

(1) التوبة: 32.

(2) الحديد: 12.

(3) الزمر: 22.

(4) المائدة: 44.

(5) المائدة: 16.

(6) البقرة: 257.

(7) وسائل الشيعة ج 1 ص 265 ط. بيروت.

(8) وسائل الشيعة ج 1 ص 264 ط. بيروت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 318

و هم الأئمّة الأطهار صلوات اللّه عليهم أجمعين في مقام المفعول المطلق و النور هو الفعل كما في الرّضوي المذكور في العيون «1»، و صبح الأزل هو اسم الفاعل بالصفات الفعليّة و شؤون الفاعليّة في أفق التجلّي و الظهور و تدوين أطوار هذا الطور في كتاب مسطور في رقّ منشور يقرأه بقراءة حروف نفسه من في قلبه إشراق من البيت المعمور وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «2».

و منها المصحف قال الراغب: المصحف ما جعل جامعا للصحف المكتوبة و جمعه مصاحف، و عن الفيّومي «3» ضم الميم أشهر من كسرها و لم يذكر الفتح لكن في (القاموس): المصحف مثلّثة الميم من أصحف بالضم أي جعلت فيه الصحف و كأنّه باعتبار الوعاء الظرفي أو الاحتواء العلمي، و المراد في المقام الثاني لاحتواء القرآن على ما في جميع الصحف و هي الكتب النقشيّة و اللفظيّة و الكونيّة و في (محاضرات الأوائل) «4» نقلا عن (الإتقان) للسيوطي أوّل من سمّى المصحف مصحفا حين جمعه و رتّبه أبو بكر، فقال لأصحابه: التمسوا له اسما فقال بعضهم:

سمّوه مصحفا، و كانت الحبشة يسمّوه مصحفا فوافقهم بتسميته مصحفا.

و منها الذكر، و التذكرة، و الذكرى، قال سبحانه:

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 173 ط. طهران دار الكتب الإسلامية.

(2) النور: 40.

(3) الفيومي هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن شيخ كمال الدين المصري فاضل، أديب، لغوي صاحب كتاب المصباح

المنير في غريب شرح الكبير، ولد و نشأ بالفيوم (بمصر) و توفي سنة 770- الأعلام خير الدين الزركلي ج 1 ص 216.

(4) محاضرات الأوائل و مسامرة الأواخر للشيخ علي دده فرغ منه سنة 998.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 319

وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ «1»، وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ «2»، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ «3»، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ «4»، ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ «5»، وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ «6»، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي أطلق الذكر فيها عليه.

و ان أطلق في قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «7»، و قوله تعالى:

ذِكْراً رَسُولًا «8»، و قوله تعالى: وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «9» على وجه على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و في بعض الآيات على مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) كقوله تعالى حكاية عن الأوّل و هو الظالم: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً «10»، (يعني الثاني) خليلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ (يعني الولي) بعد إذ جائني «11» و لذا

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في خطبته الوسيلة بعد تلاوة الآية: فأنا الذكر الذي عنه ضلّ، و السبيل الذي عنه مال، و الإيمان الذي به كفر،

______________________________

(1) الأنبياء: 50.

(2) الزخرف: 44.

(3) الحجر: 9.

(4) يس: 69.

(5) آل عمران: 58.

(6) الحجر: 6.

(7) النحل: 43.

(8) الطلاق: 10- 11 قد أنزل اللّه إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات اللّه.

(9) العنكبوت: 45.

(10) الفرقان: 28.

(11) الفرقان: 29- قال الفيض في تفسيره الصافي: القمي قال: الأوّل يقول يا ليتني اتخذت مع الرّسول سبيلا،

القمي عن الباقر (عليه السّلام) عليّا وليا

- يا ويلتا ليتني لم أتّخذ فلانا خليلا- قال

يعني الثاني لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جائني- قال يعني الولاية و كان الشيطان- قال و هو الثاني للإنسان خذولا. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 320

و القرآن الذي إيّاه هجر، و الدين الذي به كذّب، و الصراط الذي عنه نكب «1».

و

في خبر سعد في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «2» قال: النهي كلام و الفحشاء و المنكر رجال و نحن ذكر اللّه، و نحن أكبر «3».

و يطلق أيضا على مطلق الوحي و الآيات النازلة كما في قوله تعالى:

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً «4» و قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «5»، أي من بعد الكتب كلّها.

و وجه الإطلاق في الجميع أنّه مذكور من اللّه تكوينا أو تشريعا.

أو أنّه ذكر منه ذكّر به عباده بالحقائق و الشرائع و الأحكام و الحلال و الحرام.

أو أنّه ذكر و شرف و فخر و كرامة في نفسه من اللّه كأنّه تجوهر الشرف به أو لمن آمن به و التزم مشايعته و متابعته.

أو أنّه تذكرة من اللّه لعباده ليهلك من هلك به عن بيّنة و يحيى من حيّ به عن

______________________________

(1) هذه الخطبة

رواها الكليني في (روضة الكافي) و منها: في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع فطال لها الاستماع و لئن تقمّصها دوني الأشقياء، و نازعاني فيما ليس لهما بحق و ركباها ضلالة و اعتقداها جهالة فلبئس ما عليه وردا، و لبئس ما لأنفسهما مهّدا، يتلاعنان في دورها، و يتبرّه كلّ واحد منهما من صاحبه يقول لقرينه إذا التقيا: يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين فيجيبه الأشقى على رثوثة: يا ليتني لم أتخذك خليلا لقد أضللتني عن الذّكر

.. الى آخر- شرح الكافي للمازندراني ج 11 ص 253-.

(2) العنكبوت: 45.

(3) الأصول من الكافي كتاب فضل القرآن الحديث الأوّل.

(4) المرسلات: 5.

(5) الأنبياء: 105.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 321

بيّنة.

وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ «1»، إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «2»، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى «3».

و منها الحكم و الحكمة و الحكيم و المحكم.

فالأوّل: وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا «4» و إن أطلق أيضا على الكمال في العلم و العمل في قوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «5»، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً «6».

و على الحكم بين النّاس في قوله تعالى: أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً «7».

و على ما يجري به قضاؤه سبحانه في قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ «8».

و على الكتاب و الحكمة في قوله تعالى في يحيى: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «9».

و الثاني: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً الآية «10» على ما

روى في (مصباح الشريعة) من تفسير مولانا الصادق (عليه السّلام) و إن كان أحد الوجوه في الآية قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أي لا يعلم ما أودعت و هيّأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي و خصصته بها و الحكمة هي

______________________________

(1) الحاقّة: 48.

(2) المزمل: 19.

(3) الأعلى: 9.

(4) الرعد: 37.

(5) الشعراء: 83.

(6) الشعراء: 21.

(7) المائدة: 50.

(8) القلم: 48.

(9) مريم: 12.

(10) البقرة: 269. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 322

الكتاب «1» الخبر

كما هو أظهر الوجوه أو أحدها في قوله تعالى: وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ «2»، و قوله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ «3»، نعم تطلق أيضا على

النبوة كقوله تعالى: وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ «4»، وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ «5»، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ «6».

و الثالث: وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ «7»، وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ «8».

و الرابع: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «9»، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ «10». و هذه المادّة و إن كانت مأخوذة من الإحكام و الإتقان أو من حكمة اللجام بالتحريك لما أحاط بحنكي الفرس من لجامه إلّا أنّ المقصود منها العلم بوجه الشي ء، و حقيقته و من هنا يطلق على النبوّة و العدل و الموعظة و الكتاب و التورية و الإنجيل و العلوم الحقّة و الآداب الدينيّة و غيرها مما يرجع الى ما سمعت و لو على بعض الوجوه.

و منها الهدى بمعنى العلم و الهداية و ما يهتدي به على وجه الإرائة أو الإيصال أو معا و الوجوه مجتمعة في القرآن فإنّه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «11»،

______________________________

(1) تفسير الصافي عن القمي ص 228 ط. طهران الإسلامية.

(2) الأحزاب: 34.

(3) القمر: 5.

(4) ص: 20.

(5) البقرة: 251.

(6) النساء: 54.

(7) آل عمران: 58.

(8) يس: 2.

(9) هود: 1.

(10) آل عمران: 7.

(11) البقرة: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 323

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «1» إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «2» و لظهور أنوار الهداية منه ظهورا تامّا عامّا متشعشعا قالت الجنّ لمّا سمعته: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ «3»، و قالوا أيضا: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ «4».

و منها التنزيل وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «5»، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ

الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ «6».

و التفعيل للتكثير لكثرة مراتب نزوله الى أن وصل الى هذا العالم، و ذلك لعلوّ رتبته و ارتفاع درجته، و لذا عبّر بالمصدر المنبئ عن مقام الفعل لا الاسم.

و منها الروح: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «7»،

قال مولانا الباقر (عليه السّلام): إنّه الكتاب و النبوّة «8».

قلت: و ذلك لأنّه يحيى به القلوب الميتة بالجهل و ظلمة المعاصي و هو من عالم الأمر لا الخلق و إن تنزل إليه ففي تفصيل لذكر مبدئه و منتهاه و ستسمع تمام الكلام في حقيقة الروح و أقسامه و خصوص روح القدس و الروح من أمر الربّ و الروح الأمين، و أنّ القرآن هو الروح من أمر الرّب أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «9»،

______________________________

(1) النحل: 89.

(2) الإسراء: 9.

(3) الجن: 1- 2.

(4) الأحقاف: 30.

(5) الشعراء: 192- 193.

(6) فصلت: 2- 3.

(7) النحل: 2.

(8) الصافي للفيض الكاشاني مرسلا: ص 816.

(9) الشورى: 52.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 324

نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ «1»، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «2».

و منها غير ذلك من الألقاب الكثيرة التي أكثرها على وجه التوصيف و التعبير كالبيان: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ «3»، على حدّ قولهم زيد عدل لظهور هداياته و دلالاته.

و التبيان: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «4» و المبين: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ «5».

و الحبل: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً «6»، على أحد الوجوه بل كلّها لاتّحادها في المعنى.

و الشفاء و الرحمة: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «7»، وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «8» لأنّه شفاء من جميع الأمراض الظاهرة و الباطنة التي أعظمها الجهل و النفاق و الكفر و الفسوق و

غيرها من الأمراض النفسانيّة و الأخلاق الرذيلة و الانحرافات القلبيّة و القالبيّة.

و

في (الكافي) عنهم (عليهم السّلام) في قوله تعالى: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «9»، قال: من نفث الشّيطان «10».

______________________________

(1) النحل: 102.

(2) الشعراء: 193.

(3) آل عمران: 138.

(4) النحل: 89.

(5) الشعراء: 2.

(6) آل عمران: 103.

(7) الإسراء: 82.

(8) يونس: 57.

(9) يونس: 57.

(10) تفسير الصافي ج 1 ص 756 ط. الإسلاميّة بطهران- النفث شبيه بالنفخ و في الدعاء: و أعوذ بك من نفث الشيطان و هو ما يلقيه في قلب الإنسان و يوقعه في باله مما يصطاده به.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 325

و

في الإهليلجة «1» عن الصادق (عليه السّلام) إنّه شفاء من أمراض الخواطر و مشتبهات الأمور «2».

و

روي العيّاشي عن الصادق (عليه السّلام) أنّه شكى رجل الى النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) وجعا في صدره فقال (عليه السّلام) استشف بالقرآن إنّ اللّه يقول: و شفاء لما في الصّدور «3».

و البصائر: هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «4» لأنّه يوجب زيادة البصيرة و نقاوة السريرة إذ كما أنّ للناس أبصارا يدركون و يشاهدون بها الأجسام المحدودة، الهيولانيّة، فكذلك لقلوب المؤمنين بصائر يشاهدون بها الأمور المعنويّة و الحقائق النورانيّة و لذا

قالوا: إنّ لشيعتنا أربعة أعين يعني يدركون بها الحقّ و الباطل في الظاهر و الباطن.

و العروة الوثقى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى «5»، و إرادة الولاية لا تنافيه.

و العليّ الحكيم: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «6»، على أظهر الوجوه بل أكثرها و هو دليل على كثير ممّا مرّ فتأمّل.

و العزيز: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ «7»، و لذا وصف بالعزّة فلا يوجد

مثله أو لأنّه قهر غيره من الكتب بالنسخ

______________________________

(1) الأهليلجة حديث مرويّ عن المفضّل بن عمر عن الصادق (عليه السّلام) في التوحيد.

(2) بحار الأنوار ج 3 ص 152 ط. الآخوندي بطهران.

(3) الأصول من الكافي كتاب فضل القرآن ج 2 ص 439 ط. الإسلامية بطهران.

(4) الأعراف: 203.

(5) البقرة: 256.

(6) الزخرف: 4.

(7) فصلت: 41- 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 326

و من الأعداء بالجزية و المسخ بل قهر كلّ من لم يؤمن و لم يعمل به بذلّة الكفر و الجهالة و الجزية و الخزي في الدنيا و الآخرة.

و المهيمن الّذي هو الرقيب الحافظ المؤتمن: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ «1»، لأنّه يحكم به على غيره من الكتب بالنسخ و الصحّة و الثبات و غيرها و لا يحكم بها عليه.

و الطيّب: وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ «2»، لتنزّهه عن جميع النقصانات و العيوب، و انتشار نفخات قدسيّة و أنسه في أصقاع القلوب، و استيلاء سلطان حيطته على أسرار الغيوب.

و القول الفصل: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ «3»، لأنّه يفصل بين الحقّ و الباطل، أو أنّه يقضي بالحقّ.

و الكريم: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «4».

قيل: إنّه تعالى سمّى سبعة أشياء بالكريم: سمّى نفسه بالكريم: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «5»، إذ لا جواد أجود منه، و سمّي القرآن بالكريم لأنّه لا يستفاد من شي ء من الكتب نحو ما يستفاد منه من الحكم و العلوم و الحقائق و المعارف، و سمّي موسى كريما: وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ «6»، سمّي ثواب الأعمال كريما فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ «7»، و سمّي عرشه كريما

______________________________

(1) المائدة: 48.

(2) الحج: 24.

(3) الطارق: 13.

(4) الواقعة: 77.

(5) الإنفطار: 6.

(6) الدخان: 17.

(7) يس: 11.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 1، ص: 327

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ «1»، لأنّه منزل الرحمة، و سمّي جبرئيل كريما: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «2»، و معناه أنّه عزيز، و سمّي كتاب سليمان كريما: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ «3»، فالقرآن كتاب كريم من ربّ كريم نزل به ملك كريم على رسول كريم لأجل أمّة كريمة فإذا تمسّكوا به نالوا ثوابا كريما.

و المبارك: وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ «4»، لكثرة بركاته و فيوضه، و تجلّيات أنواره و آثاره.

قيل سمّي اللّه به أشياء: فسمّى الموضع الذي كلّم فيه موسى مباركا: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ «5»، و سمّى شجرة الزيتون مباركة: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ «6» لكثرة منافعها، و سمّي عيسى (عليه السّلام) مباركا: وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ «7»، و سمّى المطر مباركا: وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً «8» لما فيه من المنافع، و سمّى ليلة القدر مباركة: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «9».

قلت: و سمّى الأئمّة المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) قرى مباركة:

وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها «10».

فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبيّ مبارك في قرى مباركة لأنّ القرآن نزل فيهم و في شيعتهم.

و المنادي بناء على أحد التفسير لقوله:

______________________________

(1) المؤمنون: 116.

(2) الحاقة: 40.

(3) النحل: 29.

(4) التكوير: 19.

(5) الأنبياء: 50.

(6) القصص: 30.

(7) النور: 35.

(8) مريم: 31.

(9) الدخان: 3.

(10) الأنبياء: 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 328

رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ «1».

و النبأ العظيم: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ «2»، و إن فسّر في الأخبار بمولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) و بالإمامة كما فسّر بهما أيضا: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ «3»، لكن التقريب

قريب ممّا مرّ عن قريب.

و الموعظة: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «4»، و المراد هو القرآن و إن قال القمي «5» بعد ذكر الآية،

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): و القرآن.

و أحسن الحديث: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «6»، فإنّه أحسن الحديث إذ لا أحسن منه في عالم التدوين و هو المتشابه لا لأنّه في مقابل المحكم و إن كان ذلك أحد إطلاقاته بل لأنّ بعضه يشبه بعضا في الإعجاز.

و المثاني لأنّه تكرّرت فيه الآيات.

و القصص كما قال: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ «7»، أو لاشتماله على الثناء على اللّه سبحانه و أنبيائه و أوليائه أو اشتماله على المزدوجات أو لأنّه ثنّى نزوله مرّة في البيت المعمور نزولا دفعيّا جمليا، و أخرى في هذا العالم منجّما مفرّقا في نيّف و عشرين سنة.

______________________________

(1) آل عمران: 193.

(2) ص: 67.

(3) النبأ: 2.

(4) يونس: 57.

(5) القمي هو علي بن إبراهيم بن هاشم أبو الحسن ثقة في الحديث ثبت معتمد صحيح المذهب و صنف كتبا منها تفسير القرآن، روي عنه الكليني و كان حيا سنة 307- جامع الرواة ج 1 ص 545-.

(6) الزمر: 23.

(7) الإسراء: 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 329

و الصراط المستقيم: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ «1»، و إن فسّر بالولي و بالولاية.

و أحسن القصص: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ «2». و القصص الحقّ: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ «3».

و أصل القصّ و القصّة إتّباع الأثر، فالقرآن يتبع أثر الماضين بل يتبع أثر جميع التكوين لأنّه مطابق معه

في التدوين و يتبع أثره الأولون و الآخرون لأنّ كلّ كتاب من الشرائع السابقة نسخة من بعضه.

و التبصرة: تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ «4». و قد سمعت الكلام في البصائر.

و البلاغ: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ «5». فإنّه كاف في الاعلام و في بيان الشرائع و الأحكام، و في الإيصال الى خير مقصد و مرام.

و الكوثر: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «6»، و هو المفرط الخير كثير البركة، و قد فسّر بالذريّة الطيّبة، و نهر في الجنّة، و النبوّة، و القرآن و العلم و العمل، و غيرها.

و الوحي: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ «7».

و الحجّة البالغة: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ «8»، على أحد الوجوه فيها الى غير ذلك من الألقاب الشريفة، و الأوصاف الكريمة الّتي ورد جملة منها في الأخبار

______________________________

(1) الأنعام: 153.

(2) يوسف: 3.

(3) آل عمران: 62.

(4) ق: 8.

(5) إبراهيم: 53.

(6) الكوثر: 1.

(7) الأنبياء: 45.

(8) الانعام: 149.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 330

أيضا كالثقل الأكبر، و حبل المتين، و الكهف الحصين، و جوامع الكلم و الشافع المشفّع، و الماحل المصدّق، و الذكر الحكيم، و المنهج القويم.

و

في النبوي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) إنّه هدى من الضّلالة، و تبيان من العمى، و استقالة من العثرة، و نور من الظّلمة، و ضياء من الأجداث، و عصمة من الهلكة و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدّنيا إلى الآخرة «1».

و

فيه إنّ هذا القرآن هو النّور المبين، و الحبل المتين، و العروة الوثقى و الدّرجة العليا، و الشفاء الأشفى، و الفضيلة الكبرى، و السّعادة العظمى «2».

الى غير ذلك من الأخبار الّتي مرّت جملة منها و ستسمع أخرى.

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 439 ط.

الإسلامية بطهران.

(2) تفسير الصافي ج 1 ص 10 ط. الإسلاميّة بطهران عن تفسير الإمام (عليه السّلام).

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 331

الفصل الثاني

في حدوث القرآن و الاشارة إلى كلامه سبحانه اعلم أنّ المتكلمين بل كافة المسلمين و غيرهم من الملّيين «1» أجمعوا على إطلاق القول بأنّه تعالى متكلم كما دلّ عليه ظواهر الكتاب و متواتر السنّة، بل هو ضروري عند كافة الملّيين فضلا عن المسلمين فلا حاجة إلى الاستدلال له بالنقل المتواتر من الأنبياء كي يناقش مرّة بالمنع من تحقق شرائط التواتر التي من جملتها تحقق العدد، في جميع مراتب السلسلة، و اخرى باشتماله على الدور الذي قد يدفع بجواز إرسال الرسل بأن يخلق اللّه فيهم علما ضروريا برسالتهم من اللّه تعالى في تبليغ أحكامه، و يصدّقهم بأن يخلق المعجزة حال تحدّيهم فيثبت رسالتهم من غير توقف على ثبوت الكلام، ثم يثبت منه الكلام بقولهم، إنّما الكلام في تحقيق كلامه و حدوثه، و المحكيّ عنهم في سبب اختلافهم على ما ذكره الدواني «2» و غيره أنهم

______________________________

(1) الملّيون هم غير المسلمين من المتألهين، قال في مجمع البحرين: الملّة في الأصل ما شرع اللّه لعباده على السنة الأنبياء ليتوصّلو به إلى جوار اللّه و يستعمل في جملة الشرائع دون آحادها و لا يكاد يوجد مضافة إلى اللّه و لا إلى آحاد أمّة النبيّ (ص) بل يقال أمّة- محمّد (ص) ثم إنها اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة.

(2) الدواني محمّد بن سعد أو أسعد جلال الدين ينتهي نسبه إلى محمّد بن أبي بكر حكيم، فاضل، شاعر، مدقق كان من أكابر القرن التاسع و العاشر، له شروح و حواش على جملة من الكتب المنطقية و الحكمية و الكلامية، اختلفوا في

مذهبه، قد يقال: إنه كان مخالفا ثم استبصر و صنف رسالة سماها «نور الهداية» و صّرح فيها بتشيّعه، و نقلوا عنه أبيات تدل على تشيعه مثل هذين البيتين بالفارسية:

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 332

رأوا قياسين متعارضي النتيجة، أحدهما أنّ كلام اللّه صفة له و كلما هي صفة له فقديم فكلام اللّه قديم، و الآخر أنّ كلام اللّه مؤلّف من حروف مترتبة متعاقبة في الوجود و كلّما هو كذلك فهو حادث فكلام اللّه حادث فاضطرّوا إلى القدم في أحد القياسين ضرورة امتناع حقّية النقيضين فمنع كل طائفة بعض المقدمات.

فالمحكي عن الحنابلة «1» أنّ كلام اللّه تعالى حروف و أصوات و هي قديمة و منعوا من حدوث مأتي ألف من حروف و أصوات مترتّبة، بل عن بعضهم القول بقدم الجلد، و الغلاف، و لذا قيل: ما بالهم لم يقولوا بقدم الكتّاب و المجلّد و صانع الغلاف.

و ربما يعتذر عنهم بأنهم إنّما منعوا من اطلاق لفظ الحادث على الكلام اللفظي رعاية للأدب و احترازا عن ذهاب الوهم إلى حدوث الكلام النفسي كما قال بعض الأشاعرة «2» إنّ كلامه تعالى ليس قائما بلسان أو قلب و لا حالّا في مصحف أو لوح و منع عن إطلاق القول بحدوث كلامه و إن كان المراد هو اللفظي رعاية للأدب و احترازا عن ذهاب الوهم إلى الكلام الأزلي.

______________________________ خورشيد كمال است نبي ماه ولى إسلام محمّد است و ايمان على

گر بنيه اى بر اين سخن مى طلبى بنگر كه زبيّنات اسما است جلى

توفى الدواني سنة 907.

(1) الحنابلة اتباع أحمد بن حنبل رابع الأئمّة الأربعة عند العامة كان من خواص الشافعي و أخذ عنه الحديث البخاري و مسلم و دعا إلى القول بخلق القرآن فلم

يجب فضرب و حبس، توفى ببغداد سنة 241.

(2) الأشاعرة فرقة معروفة مرجعهم في العلم على ما نقل إلى أبي الحسن الأشعري علي بن إسماعيل البصري المولد البغدادي المنشأ و الدار ولد سنة 260 و توفى سنة 324 له تصانيف كثيرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 333

و فيه أن رعاية الأدب هو إحقاق الحقّ و القول بحدوث الحادث لا الالتزام بقدمه كذبا و اختلافا و جعله شريكا للخالق في قدمه تعالى عن ذلك و عمّا يقول الظالمون الجاهلون علوا كبيرا.

و توهّم أنّهم إنّما يمنعون إطلاق الحدوث، و هو لا يستلزم بإطلاق القدم مدفوع بأنّ صريح كلامهم ذلك، و المعتذر إن كان مقصوده ذلك فلا يجديهم كما لا يخفى، و على كلّ حال فللمنتحلين بالإسلام في هذه المسئلة أقوال:

أحدها ما سمعت عن الحنابلة.

ثانيها مذهب الكرّامية «1» و الموافقين للحنابلة في أنّ كلامه حروف و أصوات لكنّها حادثة قائمة بذاته تعالى لتجويزهم قيام الحوادث بذاته فقدحوا في كبري الأوّل بعد قولهم بصحة الثاني.

ثالثها ما ذهب اليه المعتزلة «2» و هو أنّ كلامه تعالى أصوات و حروف كما

______________________________

(1) الكرّامية أتباع محمّد بن كراّم بن عراق بن حزابة، كان يقول بأن اللّه تعالى مستقر على العرش و أنه جوهر.

ولد ابن كرام في سجستان و جاور بمكة خمس سنين و ورد نيسابور فحبسه طاهر بن عبد اللّه ثم انصرف إلى الشام و عاد على نيسابور فحبسه محمّد بن طاهر و خرج منها سنة 251 ه إلى القدس فمات فيها سنة (255)- تذكرة الحفّاظ ج 2 ص 106- لسان الميزان ج 5 ص 353.

(2) المعتزلة من فرق الإسلام اتباع واصل بن عطاء العزال، أبي حذيفة و هو من البلغاء المتكلمين و سمّي بالمعتزلي

لاعتزاله حلقة درس الحسن البصري، ولد بالمدينة سنة (80 ه) و نشأ بالبصرة، و كان يلثغ بالراء فيجعلها غينا، فتجنب الراء في خطابه و من أقوال الشعراء في ذلك قول أبي محمّد الخازن في مدح صاحب بن عباد: «نعم تجنّب لا، يوم العطاء، كماتجّنب ابن عطاء لفظة الراء»

توفّي واصل سنة 131- كتب ابن حجة في ثمرات الأوراق ما موجزه:

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 334

ذهب اليه الفريقان لكنها ليست قائمة بذاته تعالى، بل خلقها اللّه تعالى في غيره، و معنى كونه تعالى متكلّما عندهم أنّه موجد لتلك الحروف و الأصوات في جسم كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبيّ- عليه السّلام- أو غيرها كشجرة موسى عليه السّلام.

رابعها ما ذهب الأشاعرة اليه من ثبوت الكلام النفسي حيث قالوا: كلامه تعالى ليس من جنس الأصوات و الحروف بل هو معنى قائم بذاته يسمى الكلام النفسي و هو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الحروف و هو قديم.

إلى غير ذلك من الأقوال التي تأتي إليها الأشاعرة، إلّا أنّ هذه الأقوال هي المشهورة بين أهل السنة، و قد طال التشاجر بينهم في حدوث القرآن و قدمه، و الأكثر منهم على الثاني، بل مذهب كافّتهم بل و خلفائهم كانوا في أول الأمر مستقرّين عليه، حتى قيل: إنّه كان سبب تدوين علم الكلام و اشتقوا منه اسمه.

قال في شرح المواقف: إنما سمى الكلام كلاما إمّا لأنّه بإزاء المنطق للفلاسفة أو لأنّ أبوابه عنونت بالكلام في كذا أو لأنّ مسئلة الكلام يعني قدم القرآن و حدوثه

______________________________

المعتزلة من فرق الإسلام يرون أنّ أفعال الخير من اللّه، و أفعال الشر من الإنسان، و أن القرآن مخلوق محدث ليس بقديم، و أن اللّه تعالى غير مرئي

يوم القيامة، و أن المؤمن إذا ارتكب الذنب، كشرب الخمر و غيره يكون في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمنا و لا كافرا و يرون أن اعجاز القرآن من «الصرفة» لا أنه في نفسه معجز، أي إنّ اللّه لو لم يصرف العرب عن معارضة لأتوا بما يعارضه، و أنّ من دخل النار لم يخرج منها، و سمّوا معتزلة لأنّ واصل بن عطاء كان ممن يحضر درس الحسن البصري، لمّا قالت الخوارج بكفر مرتكب الكبائر و قالت الجماعة بأنّ مرتكب الكبائر مؤمن غير كافر و إن كان فاسقا، خرج واصل عن الفرقتين، و قال: إن الفاسق ليس بمؤمن و لا كافر- الاعلام ج 9: ص 121.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 335

أشهر أجزائه، و سبب أيضا لتدوينه حتى كثر في الحكم بقدمه أو حدوثه التشاجر و التقابل و السفك.

و قد روى أنّ بعض الخلفاء العباسية كان على الاعتزال فقتل جماعة من علماء الأمّة طلبا منهم الاعتراف بحدوث القرآن، و قد يقال: إنّ علي بن إسماعيل بن أبي بشر أبا الحسن الأشعري المنسوب إلى جدّه أبي موسى الأشعري «1»، أو الى أشعر بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان، كان أوّلا على طريقة المعتزلة قائلا بحدوث القرآن ثمّ خطب و هو قاض بالبصرة، و عدل من مذهب محمّد بن عبد الوهاب

______________________________

(1) ابو موسى الأشعري عبد اللّه بن قيس بن سليم بن بني الأشعر من قحطان، ولد في زبيد باليمن سنة «21 ق ه» و قدم مكة عند ظهور الإسلام فأسلم و هاجر الى أرض الحبشة ثم استعمله رسول اللّه (ص) على زبيد و عدن، و ولّاه عمر بن الخطاب البصرة سنة 17 ه فافتتح اصبهان و الأهواز،

و لما ولى عثمان أقرّه عليها ثم عزله فانتقل إلى الكوفة و صار و اليا عليها فأقام بها إلى أن قتل عثمان فعزله علي عليه السّلام بعد التحكيم، قال ابن أبي الحديد: إنّ أبا موسى الأشعري ذكر عند حذيفة بالدين فقال: أمّا أنتم فتقولون ذلك، و أمّا أنا فأشهد أنّه عدو للّه و لرسوله و حرب لهما في الحيوة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم اللعنة و لهم سوء الدار، و كان حذيفة عارفا بالمنافقين آسرّ اليه النبيّ (ص) أمرهم و أعلمه أسمائهم.

روى عن النبيّ (ص) أنّه قال: شر الأولين و الآخرين اثنا عشر- إلى ان قال- و السامري و هو عبد اللّه ابن قيس أبو موسى، قيل و ما السامري؟ قال (ع) قال لا مساس و هو يقول لا قتال.

في التاريخ: إنّ أبا موسى صار من جانب أصحاب علي بن أبي طالب عليه السّلام حكما في صفّين و خدعه عمرو بن العاص و قال له أبو موسى يا عمرو إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فأجاب عمرو إنمّا مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا إلخ، توفى بالكوفة سنة 44 ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 336

الجبائي «1» فقال بقوله من هذه العظائم التي أحدها القول بقدم كلام اللّه سبحانه لأنه صفة القديم، و حيث لزمهم بذلك أمور شنيعة ذهبوا إلى أن الكلام حقيقة كلام النفس، و هذه الألفاظ ترجمة له بل ذكر صاحب «هداية» الأبرار» في سبب حدوث تلك المذاهب بين العامّة أنّ القدماء منهم بين جبرية و قدرية و مرجئة و مجّسمة

______________________________

(1) كان أبو علي الجبائي محمّد بن عبد الوهاب شيخ المعتزلة، و رئيس

علماء الكلام في عصره ولد في سنة 235 و توفى في شعبان سنة 303 في جبي من قرى البصرة.

قال الصفدي في الوافي بالوفيات ج 4 ص 398 ط مصر: أبو علي الجبائي كان إماما في علم الكلام، و له مقالات مشهورة و تصانيف- أخذ عنه أبو هاشم عبد السّلام و الشيخ أبو الحسن الاشعري كان الجبائي زوج امه ثم اعرض عنه الأشعري لما ظهر له فساد مذهبه و تاب منه.

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 3 ص 398 ط مصر: أبو علي الجبائي كان إماما في علم الكلام، و عنه أخذ ابو الحسن الأشعري و له معه مناظرة روتها العلماء، فيقال: ان أبا الحسن الاشعري شيخ الأشاعرة سأل يومأ استاذه أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمنا برّا تقيا، و الثاني: كان كافرا فاسقا شقيا، و الثالث: كان صغيرا، فماتوا، فكيف حالهم؟

فقال الجبائي: أمّا الزاهد ففي الدرجات، و أمّا الكافر ففي الدركات، و أمّا الصغير ففي السلامة، فقال الاشعري:

إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إنّ أخاك إنّما وصل إلى هذه الدرجات بسبب الطاعات و أنت فاقد لها، فقال الأشعري: فان قال ذلك الصغير: إنّك ما أبقيتني و إلّا كانت لي تلك الطاعات أيضا، فقال الأستاذ يقول الباري: كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت، فراعيت مصلحتك، فقال التلميذ: فلو قال الكافر:

يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟ فقال الجبائي للاشعري: إنّك مجنون فقال الأشعري: بل وقف حمار الشيخ في العقبة، و هذه المناظرة صارت سببا لعدوله عن مذهب الأستاد، الوافي بالوفيات، وفيات الأعيان، و البداية و

النهاية و الاعلام لخير الدين الزركلي ج 7 ص 136.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 337

و حشوية، و كانت الدولة للمعتزلة لميل أوائل بني العباس كالرشيد و المأمون و المعتصم و المتوكل إلى الاعتزال و دام ذلك إلى أن ظهر أبو الحسن علي بن إسماعيل الاشعري البصري، و كان أوّل أمره معتزليا من تلامذة أبي علي الجبائي، و أراد الانفراد طلبا للرياسة فخالف شيخة و كفّره و اتبعه على ذلك قوم من العامة في زمانه، و مال اليه صلاح الدين يوسف بن أيوب سلطان مصر «1» و أمر بقتل من خالفه حتى شاع في بلاد الإسلام فلم يوّل القضاء و التدريس إلّا من كان أشعريا في الأصول و مقلّدا لأحد المذاهب الأربعة في الفروع و دام الأمر عليه إلى يومنا هذا.

و من هنا يظهر سرّ ميل مشاهير أهل السنّة كالباقلاني «2»، و إمام

______________________________

(1) صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب بن شادي أبو المظفر من أشهر ملوك الإسلام كان أبوه و أهله من قرية دوين (في شرقي آذربيجان) و ولد بها صلاح الدين، و نشأ في دمشق، و دخل مع أبيه (نجم الدين) و عمه (شير كوه) في خدمة نور الدين محمود (صاحب دمشق و حلب و موصل) و اشترك صلاح الدين مع عمه في حملة وجهها نور الدين لاستيلاء على مصر سنة 559 ه فكانت وقائع ظهرت فيها مزايا صلاح الدين، و تم الظفر باسم السلطان نور الدين، فاستولى على زمام الأمور بمصر، و استوكده خليفته العاضد الفاطمي، و لكن شير كوه ما لبث ان مات، فاختار العاضد للوزارة و قيادة الجيش صلاح الدين، و لقبه بالملك الناصر، و مرض العاضد مرض موته فقطع صلاح

الدين خطبته و خطب للعباسيين، و انتهى بذلك أمر الفاطميين، و مات نور الدين سنة 569 فاضطربت البلاد الشامية و الجزيرة، و دعا صلاح الدين لضبطها، فاقبل على دمشق سنة 570 و استولى على بعلبك و حمص و حماة و حلب و دانت له البلاد من آخر حدود النوبة جنوبا و برقه غربا إلى بلاد الأرمن شمالا، و بلاد الجزيرة و الموصل شرقا، و كانت مده حكمه بمصر 24 سنة، و بسورية 19 سنة توفى سنة 589 و عمره 57 سنه، أعلام زركلي ج 9 ص 291- مرآة الزمان ج 8: 325.

(2) الباقلاني محمّد بن الطيب البصري القاضي المتكلم الأشعري سكن بغداد و توفى بها سنة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 338

الحرمين «1»، و الغزالي «2»، و الرازي «3»، و الدواني «4»، و الجرجاني «5»، و العضدي «6»، و البيضاوي «7»، و غيرهم إلى مذهب الأشعري مع ظهور فساد أكثر عقائد و ذلك لميل الحكام و تولية القضاء و الحكومات.

و بالجملة فالقائلون بقدمه أطلقوا القول به أولا ثم لما رأى المتأخرون منهم شناعة مقالهم و وضوح فساده ضرورة أن الأصوات و الحروف الملفوظة و المكتوبة أمور حادثة مترتبة في الوجود فكيف يعقل قدمها مع انها أعراض قائمة بغيرها مفتقرة في تحققها و في بقائها إلى السبب و إلى المحلّ إلى غير ذلك من المفاسد التي ينثلم معها التوحيد اضطرّوا إلى القول بالكلام النفسي بل ربما تبرّء أصحاب

______________________________

403 ه.

(1) عبد الملك بن عبد اللّه امام الحرمين من أصحاب الشافعي ولد في جوين من نواحي نيسابور و رحل إلى بغداد و جاور بمكة أربع سنين و ذهب إلى المدينة و درس جامعا طرف المذاهب توفي سنة 478

ه.

(2) الغزالي حجة الإسلام أبو حامد محمّد بن محمّد الشافعي من أكابر العامة و المتصوفة توفي سنة 505 ه.

(3) الرازي فخر الدين محمّد بن عمر رئيس المشككين من أعاظم العامة في القرن السادس توفي سنة 606 ه.

(4) الدواني جلال الدين مرت ترجمته.

(5) الجرجاني عبد القاهر أبو بكر بن عبد الرحمن أديب، نحوي، لغوي، مؤلف اسرار البلاغة توفي سنة 471 ه.

(6) العضدي قد مرت ترجمته.

(7) البيضاوي ناصر الدين عبد اللّه بن عمر الأشعري الشافعي، المفسر، توفي في تبريز سنة 685 ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 339

أحمد «1»، عن نسبة القول بقدم الأصوات و الحروف اليه و لذا حكى عن اليافعي «2» حكاية القول بحدوثها عنه إلّا أنه لا يخفى على من له خبرة بمذاهبهم في الأصول و الفروع أن مثل هذه المقالة ليس ببدع منهم فإنهم خبطوا فيها خبط عشواء «3» و ركبوا ما يتبّرأ عنهم فيه الجاهلية الجهلاء كالقول بالجبر و التجسّم و التشبيه، و أنه تعالى جسم له طول و عرض و عمق، بل عن داود الظاهري «4» أنه قال اعفوني عن الفرج و اللحية و أسئلوني عمّا وراء ذلك.

و القول بجواز الرؤية و نفي الغرض و إنكار المصالح و استناد المفاسد كلها اليه على جميع الوجوه، و إثبات المعاني القديمة التي ليست للّذات كمال، إلّا معها حتى اعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم، بأن قال: إنّ النصارى، كفروا لأنهم قالوا: إنّ القدماء ثلثة و الأشاعرة أثبتوا قدماء ثمانية بل تسعة إلى غير ذلك من

______________________________

(1) أحمد بن حنبل ابو عبد اللّه الشيباني، أصله من مرو، و كان أبوه والي سرخس، ولد ببغداد سنة 164 ه، سافر في طلب العلم أسفارا كبيرة و صنّف

المسند ستة مجلّدات يحتوي على ثلثين الف حديث، و له كتب أخر، سجن بأمر المعتصم 28 شهرا لامتناعه عن القول بخلق القرآن، و أطلق سنة 220 ه، و لم يصبه شر في زمن الواثق باللّه بعد المعتصم و بعد الواثق في عصر تولي المتوكل أكرم ابن حنبل و لا يولي المتوكل أحدا الا بمشورته، توفى سنة 241 ه- ابن عساكر ج 2 ص 28.

(2) اليافعي عبد اللّه بن أسعد عفيف الدين، مؤرخ، متصوف، من شافعية اليمن ولد في اليمن سنة 698 ه، و توفي بمكة سنة 768 ه- الدرر الكامنة ج 2 ص 247-.

(3) خبط عشواء، يقال: انه يخبط عشواء يتصرف في الأمور على غير بصيرة- المنجد ص 167.

(4) داود الظاهري بن علي بن خلف الاصبهاني تنسب اليه الطائفة الظاهرية و سميت بذلك لاخذها بظاهر الكتاب و السنة و اعراضها عن التأويل و الرأي و القياس، ولد داود في الكوفة سنة 201 ه، و سكن بغداد، و انتهت اليه الرياسة، قيل: كان يحضر مجلسه كل يوم أربعمائة، و قال ثعلب: كان عقل داود أكبر من علمه، توفّى ببغداد سنة 270 ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 340

فضائحهم التي ستسمع في هذا التفسير شطرا منها.

و حاصل الكلام في المقام أنّ القائلين بقدم القرآن فرقتان: منهم يقول بقدم الأصوات و الألفاظ و الحروف كما سمعت حكايته عن الحنابلة و عرفت ضعفه، و منهم من يقول بكلام النفسي الذي فسّروه بالمعنى القائم بالنفس الذي هو مدلول الكلام اللفظي المؤلف من الحروف كما ذهب اليه الأشاعرة و استدلوا لإثباته بقوله تعالى: وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ «1».

و

قوله (عليه السّلام): رفع عن أمتي ما حدّثت به أنفسهم «2».

و

عن الثاني أنه قال في يوم السقيفة: قد كنت زوّرت «3» في نفسي مقالة فسبقني اليه أبو بكر، و عن الأخطل «4».

______________________________

(1) المجادلة: 8.

(2) في سفينة البحار ج 1 ص 234: قد صح

عنه (صلّى اللّه عليه و آله) قوله: وضع عن أمتي ما حدّثت به نفسها ما لم يعمل به أو يتكلم.

(3) قال الطبري في تاريخه المسمى بالأمم و الملوك ج 2 ص 446 في حديث السقيفة عن عمر بن الخطاب أنه قال: أتينا الأنصار و هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة و إذا بين أظهرهم رجل مزمّل قال: قلت: من هذا قالوا سعد بن عبادة، فقلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم فحمد اللّه و قال أما بعد فنحن الأنصار و كتبة الإسلام و أنتم يا معشر قريش رهط نبينا و قد دفّت إلينا من قومكم دافّة، قال فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا و يغصبون الأمر و قد كنت زورّت في نفسي مقالة إلخ.

قال: الزبيدي في تاج العروس ج 3 ص 247 في لغة زور: كلام مزوّر أي محسن و قيل هو المثقف قبل أن يتكلم به، و منه قول عمر: ما زوّرت كلاما إلّا سبقني به أبو بكر، اي هيئت و أصلحت، و التزوير إصلاح الشي ء.

(4) الأخطل غياث بن غيوث من نبي تغلب، شاعر مصقول الألفاظ، نصراني اشتهر في عهد

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 341 إن الكلام لفي الفؤاد و إنّماجعل اللسان على الفؤاد دليلا

و من المشتهر في العرف و العادة قولهم: بقي أو بقيت في نفسي كلام أو كلمات، إلى غير ذلك من الشواهد التي قد يستفاد منها أن المراد مدلول اللفظ بل صرح بعضه بأنّ المراد

به نسبة أحد طرفي الخبر إلى الآخر القائمة بنفس المتكلم المغايرة للعلم نظرا إلى أنّ المتكلم قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه و للارادة فإن الرجل قد يأمر بما لا يريده كالمختبر عبده لامتحان إطاعته، فإنّه قد يأمره و يريد أن لا يفعل المأمور به.

و قد يقال: إن المراد به هو الألفاظ المتصورة المترتبة في الذهن أو المعاني التي وضعت تلك الألفاظ بإزائها أو الكلمات التي رتبها اللّه تعالى في علمه الأزلي بالصفة الأزلية التي هي مبدء ترتيبها و تأليفها إلى غير ذلك من كلماتهم المختلفة التي لا تكاد ترد على أمر واحد و لعله لذلك أو لغيره اختلفت أجوبة المعتزلة عنهم حيث إنّهم ذهبوا إلى ان كلامه تعالى أصوات و حروف ليست قائمه بذاته بل خلقها اللّه تعالى في غيره كجبريل أو الملك أو الروح أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو غير ذلك و لو في الأجسام الجامدة كشجرة موسى عليه السّلام.

و استدلوا لذلك أوّلا بقيام الضرورة القطعية من دين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحيث يعلمه كل أحد ممّن كان من أهل هذا الدين و من كان، خارجا عنه على

______________________________

بني أمية بالشام، و هو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل عصرهم، جرير، و الفرزدق، و الأخطل، ولد في سنة 19 ه، و توفي سنة 90 ه، و كان معجبا بأدبه، كثير العناية بشعره، و كانت إقامته طورا في دمشق مقر الخلفاء من بني أمية و كان شاعرهم.- الاعلام خير الدين زركلي ج 5 ص 318-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 342

أنّ القرآن هو هذا الكلام المؤّلف المنتظم المفتتح بالبسملة المختتم

بالناس، و عليه يحمل الأخبار المتواترة الواردة في ثواب تلاوته و قراءته و حمله و حفظه و تعظيمه و كتابته و النظر اليه بل وقع فيه التصريح بكونه ذكرا وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ «1»، عربيا إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «2»، مقروءا بالألسن فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «3»، مسموعا بالآذان حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ «4».

و ثانيا بأنّ القرآن مشتمل على ذكر القصص و الحكايات المتعلقة بالماضين عن زمان نزوله سواء كانت متقدمة على زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالقصص المتعلّقة بالأنبياء كآدم و نوح و إبراهيم و موسى و غيرهم المعبّر فيها عن أقوالهم و أفعالهم بصيغة الماضي أو واقعة في زمانه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) كقوله تعالى:

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «5»، وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ «6»، لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ «7»، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يقتضي صدقه سبق وقوع النسبة على الأزل غير معقول، فيتعيّن إمّا حدوث القرآن أو اشتماله على الكذب، و الثاني باطل فالأوّل حقّ.

و ثالثا باشتماله على الأمر و النهي و الطلب و الإخبار و النداء، و غير ذلك مما

______________________________

(1) الأنبياء: 50.

(2) يوسف: 2.

(3) القيامة: 18.

(4) التوبة: 6.

(5) المجادلة: 1.

(6) التوبة: 90.

(7) آل عمران: 181.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 343

لا يصحّ إلّا مع التعلّق فلو كان أزليا لزم الأمر بلا مأمور و النهي بلا منهيّ و الإخبار بلا سامع، و النداء بلا مخاطب، إلى غير ذلك مما يعدّ سفها و عبثا.

و أجيب عن الأوّل بأنه لا نزاع في إطلاق كلّ من القرآن و كلام اللّه بطريق الاشتراك اللفظي على هذا

المولّف الحادث كما هو المتعارف بين العامّة بل خاصة القرّاء و الأصوليين و الفقهاء، و عليه يحمل الأخبار المتواترة الواردة في فضله و شرفه، و على المعنى القديم الذي هو مدلول هذا الكلام اللفظي، و اختصاصه بهذا المؤلّف الحادث ليس لمجرّد دلالته على تلك المعاني القديمة كي يرد أنه لو ألّف غيره تعالى ما يدلّ عليها لصدق عليها القرآن و هو باطل ضرورة أنّ له اختصاصا آخر به سبحانه حيث إنّه أجري اشكاله في اللوح المحفوظ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «1»، و ألفاظه على لسان الملك إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «2».

و فيه أنّ نفي النزاع اشتراكه بين المعنين غريب جدا كيف و المعتزلة ينكرون معقوليّة المعنى الثاني فكيف يجوّزون إطلاقه عليه فضلا عن كونه حقيقة فيه، و الأشاعرة ينكرون الكلام اللفظي الحادث المضاف اليه سبحانه نظرا إلى المنع من قيام الحوادث به و من اتّصافه بصفة حادثة، على أنه قد يقال: إنّ المدار في صدق التكلّم إنّما هو الكلام اللفظي بحيث يدور الصدق مع تحققه وجودا و عدما فيقال للإنسان: إنّه متكلّم إذا صدر عنه الكلام اللفظي دون ما إذا لم يصدر عنه و ان علم بوجود الكلام في نفسه أو بإرادة تلّفظه.

و عن الثاني بأنّ كلامه تعالى في الأزل يتصل بالماضي و الحال و الاستقبال

______________________________

(1) البروج: 21.

(2) الحاقة: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 344

لعدم الزمان و إنّما يتصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلّقات و حدوث الأزمنة و الأوقات، و فيه أنه خروج عن القول بكون النفسي مدلول اللفظ الذي سبق على صيغة الماضي مع أنّ من لاحظ تلك القصص و الحكايات الواقعة في القرآن يعلم علما قطعيا أنّ المراد

بتأليف تلك الكلمات و تركيب المعاني المرادة منها أنها هو الحكاية عما مضى للفوائد المترتّبة عليها.

و عن الثالث بأنّ كلامه في الأزل ليس بأمر و لا نهي و لا خبر و لا غير ذلك و إنما يصير أحد الأقسام فيما لا يزال.

و فيه مع خروجه عمّا فسّروه به من معنى اللفظ حيث إنّه غير خارج عن الأقسام المتقدمة ضرورة عدم تحقّق الكلي إلّا متنوّعا متميزا بشي ء من الفصول المنوّعة و العوارض الشخصية أنّ مثل هذا الكلام غير معقول، و إرجاعه إلى العلم مع تصريحهم بمغايرته له لا يدفع الاعتراض.

و توهّم أنّه أمر شخصي يعرض له التنّوع بحسب التعلّقات الحادثة من غير أن يتغيّر هو في نفسه ضعيف جدا بل كانّه دفع للفاسد بالأفسد.

نعم حكي في «أنوار الملكوت» «1»، عن الأشاعرة في بيان معقوليته أن ماهيّة الطلب معقولة لكل أحد فإنّ الإنسان إذا قال اسقني الماء يجد في نفسه طلبا مغايرا لقوله هذا بالضرورة، و لهذا قد تتبدل عليه العبارات مع اتحاده، و مهيّة الطلب غير الإرادة فإنّ الإنسان قد يأمر بما لا يريد كالسيّد إذا أمر عبده، طلبا لإقامة عذره

______________________________

(1) أنوار الملكوت كتاب كلامي لآية اللّه العلّامة الحلّي المتوفى سنة 726 ه، و هو شرح لكتاب الياقوت تأليف الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت، كان من أكابر علماء الكلام و من متكلمي الشيعة في القرن الرابع.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 345

عند الملك في عقوبة ذلك العبد بالتخلّف عن امتثال أوامره دفعا لمؤاخذة الملك ايّاه، و الأمر لا بد فيه من الطلب مع جواز انتفاء الإرادة عنه فتغايرا و هذا الطلب هو الذي نسمّيه كلاما.

و استدلّوا على اتصافه تعالى به بأنّه حيّ و كلّ حيّ

يصحّ اتصافه بالكلام و إذا صحّ اتصافه بالكلام وجب أن يكون موصوفا و إلّا اتّصف بضدّه لوجوب اتصاف الذات بأحد الضدين إذا صحّ اتصافه بأحدهما و حيث إنّ ضدّه نقص عليه فهو المتعيّن.

و بأنّ أفعال العباد يصحّ اتصافها بكلّ من الأحكام الخمسة و الاقتضائية و التخييرية و اختصاص بعضها ببعض لا بد أن يكون لمرجّح و هو غير الإرادة إذ قد يأمر بما لا يريد كما في أمره من علم استمراره على الكفر بالايمان فلا بدّ من صفة اخرى يخصّص بها بعض الأفعال ببعض الأحكام و هي الكلام.

و أجاب العلّامة (رحمه اللّه) عمّا ذكروه في بيان معقوليّته بأنّ المعقول إنّما هو الإرادة أو تصوّر المراد و الحروف الدالة على الإرادة و الطلب الذي يجده الإنسان من نفسه عند أمره هو الإرادة بعينها، و ليس هناك أمر زائد على ذلك «1»، و أمر

______________________________

(1) من المسائل التي اختلفت كلمات الفريقين فيها مسئلة اتحاد الطلب و الإرادة.

فمنهم من قال بأنهما مترادفان و النزاع لغوي في تعيين ما هو الموضوع لكليهما هل هو الشوق المؤكد أو من مقدماته.

و منهم من قال بان النزاع عقلي في انهما متحدان مفهوما و مصداقا و متغايران مفهوما و مصداقا أو متغايران مفهوما و متحدان مصداقا، و القائلون بالتغاير اختلفوا عن قولين.

فمنهم من جعل الإرادة و الطلب من مقولة الكيف النفساني و الطلب من مقولة الفعل النفساني.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 346

السيد عبده في المثال المذكور خال عن الطلب، و إنّما هو صيغة موضوعة له، و الاستدلال بما مرّ من قول الأخطل و عمر ضعيف لوجود المعنى في الأخرس و الكاتب و المفهم بالاشارة و غيرها مع عدم صدق التكلم.

و عمّا ذكروه في اتصافه

به يمنع المقدمة المذكورة في كلامه إذ يتّصف الشي ء بكل من الضدّين مع جواز قوله عنها مضافا إلى المنع من اتّصاف الشي ء بالسواد و البياض المتضادين مع جواز خلّوه عنهما بالمعنى الذي عنيتموه، سلّمنا لكن اتصافه في القدم بضدّه أولى لكون الكلام بذلك المعنى نقصا فإنّ توجه الأمر و النهي و الخبر إلى غير مأمور و منهي و مخبر غير معقول، و هو نقص عظيم، فإنّ المراد بكونه غير معقول أنّ العقل لا يجوّز وقوعه من الحكيم لا أنّه غير متصوّر و الّا لما أمكن الحكم عليه بكونه نقصا، و أمّا المخصّص لبعض الأفعال ببعض الأحكام فهو الإرادة و قد تقرّر عندنا معاشر الإمامية صحة القول بالوجوه و الاعتبارات و المصالح الذاتية.

______________________________

و منهم من قال هما متحدان كالمعتزلة كما حكاه عنهم القاضي نور اللّه الشهيد في احقاق الحق في رد ابطال الباطل.

و منهم من قال بأن الإرادة هو العلم بالمصلحة و الطلب أمر لفظي يكشف عن العلم بالمصلحة كما حكي عن البصري.

و منهم من قال بأن الإرادة من اللّه علمه بوقوع الفعل كما حكي عن النظام و الكعبي.

و منهم من قال بأنها معنى سلبي و هو انه ليس بساه و لا مكره و لا مغلوب فيما فعل كما حكي عن النجار، و من أراد التفصيل فليراجع احقاق الحق و إزهاق الباطل ج 1 ص 208 ط المطبعة الاسلامية بطهران مع تعليقات نفيسة للعلّامة البارع آية اللّه السيد شهاب الدين المرعشي (رحمة اللّه و رضوانه عليه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 347

هذا مجمل أدلة الفريقين من المقام و قد أغمضنا النظر فيها عن النقض و الإبرام فانتظر لتمام الكلام.

لعلك لو أعطيت النظر حقّه في مقالات الفريقين ينكشف

لك أنّ نزاعهم في المقام يرجع إلى أمرين: لفظي و معنوي، أمّا اللفظي فهو أنّ التكلّم الذي دل الإجماع بل السمع أيضا على ثبوته كقوله تعالى: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً «1»، وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً «2»، هل هو قيام الكلام به أو قيام التكلم الذي هو خلق الكلام فالمتكلّم هل هو من قام به الكلام أو من صدر عنه ذلك و لو بخلق الأصوات و الحروف في جسم الأجسام؟.

فالاشاعرة على الأوّل فقالوا: إن العبرة في صدق التكلّم و الاتصاف به إنّما هو قيام المعنى فإنّ الكلام و إن كان أعمّ من اللفظي و المعنوي إلّا أنه بعد اتّصافه بالقيام في حق اللّه سبحانه لا بدّ من إرادة الثاني لئلا يكون ذاته محلّا للحوادث، بل ذكر بعضهم أنّ إطلاقه باعتبار الكلام اللفظي مجاز كما قد يستفاد من قول الأخطل، سيّما بعد قوله: و إنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلا.

و جميع هذه المقالات فاسدة عند أصحابنا الإمامية و عند المعتزلة نظرا إلى أنّ المراد بالمتكلّم عندهم من صدر عنه الكلام و صدوره، إمّا بالآلات و الأدوات التي خلقت لذلك بحسب الطبيعة و إجراء العادة أو بغيرها ممّا لم تجر العادة به كلسان الملك و شجرة موسى و غير هما، و من هنا ذكر الدواني أنّ صدق المشتق لا يقتضي قيام مبدء الاشتقاق به و إن كان عرف اللغة توهم ذلك حتى فسّر أهل

______________________________

(1) الأنبياء: 163.

(2) الشورى: 51.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 348

العربية اسم الفاعل بما يدّل على أمر قام به المشتق منه و هو بمعزل عن التحقيق فإن صدق الحدّاد إنّما هو بسبب كون الحديد موضوع صناعته و صدق المشمّس

مستند إلى نسبة الماء إلى الشمس بتسخينه بسبب مقابلتهما.

بل ذكر الورع الأردبيلي «1» أنّه معلوم حتى على الصبيان و المجانين أنّ الإنسان متكلّم بكلام لفظي بل لا شك في أنّه إذا لم يتصّف شخص به، و لم يصدر عنه كلام لفظي لا يقال له متكلّم و أنّه إذا تكلّم به، يقال: إنّه متكلم، و التكلّم و الكلام صفة له و ان لم يعلم قيامه به خصوصا بالمعنى المذكور، فيوجد المتكلم بدون قيام المعنى و لا يوجد بوجود الكلام في نفسه، فعلم أنّ المدار على حصول اللفظ لا وجود المعنى.

ثم إنّه لا شك في أنّ التكلّم هو إيجاد الكلام و خلقه و أنّه لا قيام له إلّا بالهواء الحاصل و تحريك اللسان فالإتّصاف بالتكلّم إنّما هو باعتبار خلقه له لا باعتبار المعنى القائم و لا باعتبار قيام اللفظ به و إلّا يلزم أن يكون الهواء متكلّما.

و بالجملة فالظاهر من إطلاق العرف و اللغة أنّ التكلّم إنّما يطلق باعتبار أمر لفظي، فإن كان المتصّف به قد خلقت له الآلات و الأدوات التي يتمكّن بها منه كالصوت و اللسان و الهواء كان الصدق باعتبار صدروه بها لا مجرد المعنى و القصد و الإرادة و العلم و غيرها مما لا يصدق معه التكلّم و إن قلنا بتحققها منه في حق الأخرس و الساكت و نحو هما و أما إذا اتّصف به الواجب سبحانه فإنّما هو بخلق

______________________________

(1) الاردبيلي أحمد بن محمّد، عالم رباني، فقيه محقق صمداني، فضله و زهده أشهر من أن يذكر، قال المجلسي: و المحقق الاردبيلي في الورع و التقوى و الزهد و الفضل بلغ الغاية القصوى و لم ير مثله في المتقدمين و المتأخرين، له مصنفات

جيدة منها: آيات الأحكام و مجمع البرهان شرحه على الإرشاد توفّي بالنجف الأشرف في صفر سنة 993 ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 349

الأصوات و الحروف و الكلمات المترتبة في الأجسام الجمادية لتنزهه عن الآلات و عن افتقاره في الصفات الكمالية إلى غيره و عن مشاركة صفة له في قدمه.

و الأشاعرة و إن احترزوا عن قيام الحوادث به إلّا أنهم وقعوا في محذور أشد و أكثر و هو افتقاره في كماله إلى غيره و خلوّه في ذاته عن الكمال بل اتصافه بالنقصان الذي هو إثبات الشريك له في قدمه.

و الحاصل أنّ المستفاد من أخبار أهل البيت الذين هم أعرف الخلق باللّه سبحانه و بأفعاله و بصفاته الذاتية و الفعلية أنّ التكلم من جملة صفات الأفعال فلا يتّصف به سبحانه في ذاته و لا ذكر له في رتبة الذات أصلا، و إنما هو من صفات الفعل الذي هو المشيئة.

و لذا

قال مولينا الصادق عليه السّلام، على ما رواه في «الامالي» بالإسناد عن أبي بصير: لم يزل اللّه جلّ اسمه عالما بذاته و لا معلوم و لم يزل قادرا بذاته و لا مقدور قلت جعلت فداك فلم يزل متكلما قال عليه السّلام: الكلام محدث كان اللّه (عز و جل) ليس بمتكلّم ثم أحدث الكلام «1».

و ذلك أنّ المستفاد من أخبار أهل البيت و أصولهم المقتبسة من مشكوة النبوة ثبوت الفرق بين الصفات الذاتية و الفعلية، و أن المراد بالأول ما لا يمكن تعرية الذات عنه كالوجود و العلم، و القدرة فيتّصف الذات بها لا بأضدادها، لأنّ انفكاك كلّ منها عن الذات موجب للنقصان ضرورة لزوم الاتصاف بأضدادها حينئذ، و هي العدم و الجهل و العجز.

و لذا

قال مولينا أمير المؤمنين

عليه السّلام، أول الدين معرفة اللّه، و أصل

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 68 ط. الاخوندي بطهران عن أمالي الشيخ. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 350

معرفته توحيده، و نظام توحيده نفي الصفات عنه بدليل أن كل صفة غير الموصوف و كل موصوف غير الصفة، و شهادة كل صفة و موصوف بالاقتران، و شهادة الاقتران بالحدث و شهادة الحدث بالامتناع من الأزل الخبر «1».

و نحوه كثير من خطبهم و أخبارهم عليهم السّلام، و من هنا يظهر أنّ المراد بالصفات الفعلية ما لا يلزم اتصاف الذات بها على وجه التأبيد بل يمكن اتصاف الذات بها و بأضدادها كالارادة فيصح أن يقال: إن اللّه تعالى أراد هذا و لم يرد ذاك، و كذا الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و نحوه، فإنّ كلا منها يجوز إثباته و نفيه بحسب اختلاف المتعلّق، و مثلها الكلام و القول فإنّه يصحّ أنّ اللّه تعالى كلّم موسى و لم يكلّم فرعون، و قال كذا و لم يقل ذلك، و لذا استقرّ المذهب من أهل التوحيد الذين هم الإمامية الاثني عشرية على كونه من الصفات الفعلية، و أمّا غيرهم من

______________________________

(1) هذا الفقرات قطعة

من الخطبة التي خطبها أبو الحسن الرضا (عليه السّلام) كما عن التوحيد و عيون أخبار الرضا، و بحار الأنوار: إن المأمون لما أراد ان يستعمل الرضا (عليه السّلام) جمع بني هاشم.

فقال: إني أريد أن استعمل الرضا على هذا الأمر من بعدي فحسده بنو هاشم، و قالوا: تولى رجلا جاهلا ليس له بصر بتدبير الخلافة فابعث اليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به عليه، فبعث اليه فأتاه، فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن اصعد المنبر و انصب

لنا علما نعبد اللّه عليه، فصعد المنبر فقعد مليا لا يتكلم مطرقا، ثم انتفض انتفاضة، و استوى قائما و حمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على نبيه و أهل بيته ثم قال (عليه السّلام): أول عبادة اللّه معرفته، و أصل معرفة اللّه توحيده، و نظام توحيد اللّه نفي الصفات عنه لشهادة العقول أنّ كلّ صفة موصوف مخلوق، و شهادة كل موصوف أنّ له خالقا ليس بصفة و لا موصوف، و شهادة كل صفة و موصوف بالاقتران، و شهادة الاقتران بالحدث، و شهادة الحدث بالامتناع من الأزل لممتنع من الحدث إلخ.- بحار الأنوار ج 4 ص 228 ط. الاخوندي بطهران-. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 351

تفسير الصراط المستقيم ج 1 399

فرق المسلمين فضلا عن الكفار و المشركين فلم يحفظوا حدود التوحيد، و لذا وقعوا في الشرك و الإلحاد و إثبات الأضداد و الأنداد و تكميل الذات بصفات زائدة و توصيفه بسمات حادثة بائدة، و القول بتعدد القدم و الإلحاد في الصفات و الأسماء.

و ذلك لأنّهم قاسوا ربّهم بأنفسهم فاقتبسوا صفاته عن صفاتها فذهبوا الى القول بالصفات المشتركة كالعلم و القدرة و الوجود و غيرها، و لم يدروا أنه كلما يوجد في الخلق لا يوجد في خالقه، و كلّما يمكن فيه يمتنع في صانعه و كيف يجرى عليه ما هو أجراه على خلقه، و أنّي يعود فيه ما قد ابتدئه في صنعه إذا لتفاوتت ذاته و لتجزّء كنهه و لقامت فيه آية المصنوع و لتحوّل دليلا بعد ما كان مدلولا عليه.

و على كلّ حال فبعد الغضّ عن المباحث اللفظية اللغوية التي سمعت شطرا منها في تضاعيف ما مرّ ينبغي أن يقال: إنّ الكلام الذي تقول

الأشاعرة بقدمه و كونه من صفات الذات يحتمل وجوها:

أحدها مطلق الملفوظ الخاص و إن تلفّظ به من كان أين كان متى كان أو خصوص ما تلفّظ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول الوحي أو ما أوحي إليه بان كان مسموعا و على الأخيرين يكون ملفوظ الغير حينئذ حكاية القرآن لا حقيقته.

ثانيها مطلق المكتوب الخاصّ أو خصوص المكتوب في اللّوح بالقلم الأعلى أو المكتوب بعد نزول الوحي عليه عليه السّلام.

و ثالثها خصوص الكلمات و الحروف المؤلّفة المنتظمة المترتبة بالترتيب الخاص بقطع النظر عن كونها ملفوظة أو مكتوبة أو مقروئة أو لا.

و هذه الوجوه الثلاثة بأقسامها لا ينبغي القول بقدم شي ء منها لأنها مشتركة في انتظام الحروف و ترتبها، و كذا الكلام في الكلمات و الآيات و السور و لأنها

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 352

أعراض قائمة بغيرها لا تقوم بنفسها، و لأنّها بأقسامها مسبوقة بالحروف البسيطة المفردة المفتقرة المتفقرة إليها في تحصل وجودها على الوجوه الثلاثة مع أنّهم لم يقولوا بقدم الحروف الثمانية و العشرين فكيف يصّح القول بقدم ما يتألف منها سيمّا مع تأخر المؤلّف بالفتح عن التأليف و عن البسائط و عن ملاحظة المعنى الحادث و تبعيّة اللفظ له تركيبا و دلالة و وضعا بل لعلّه يلزمهم بعد ذلك القول بقدم سائر الكلمات و التراكيب و تصنيف المصنّفين و لذا و لغيره مما يرد على هذا القول تبرّء المتأخرون منهم عنه و نسبوه إلى الحشوية «1»، و الكرّامية «2»، و الحنابلة «3»، بل ذكر بعضهم أنّ القرآن يطلق بالاشتراك اللفظي على ذلك المعنى القديم و على هذا المؤلّف المخصوص القائم بأول لسان اخترعه اللّه فيه حتى أنّ ما يقرأ كل

واحد سواه بلسانه يكون مثله لا عينه كما هو أحد القولين عندهم و أصحّهما عند بعضهم أنه اسم له لا من حيث تعيين المحلّ فيكون واحدا بالنوع و يكون ما يقرء القاري أيّ قار كان نفسه لا مثله كما هو الحال في كل شعر و كتاب ينسب إلى مؤلّفه.

و حيث قد أورد عليهم بأنه لا وجه حينئذ لاختصاص موسى كليم اللّه مع ان كلّا منّا يسمع كلامه اللفظي، بل كذا الأزلي النفسي، إذا أريد بسماعه فهمه من الأصوات المسموعة.

______________________________

(1) الحشوية طائفة تنسب إلى الحشو بفتح الحاء و ضم الشين قرية من قرى خوزستان أو تنسب الى الحشا بمعنى الأمعاء لان هذه الطائفة كلما خطر على أنفسهم يظهرونه بغير التأمل، و التفكير و هؤلاء أصحاب الحسن البصري كما في مستطرفات البروجردي صاحب الصراط المستقيم- ريحانة الأدب ج 1 ص 328-.

(2) الكرامية أتباع محمّد بن كرّام و قد مرت ترجمته من قبل.

(3) أتباع أحمد بن حنبل و قد مضت ترجمته.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 353

أجابوا عنه مرّة كما عن الغزالي بأنّ موسى عليه السّلام سمع كلامه الأزلي بلا صوت و حرف كما ترى في الآخرة ذاته بلا كمّ و كيف.

و مرّة بأنّه عليه السّلام سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة و اخرى بأنّه عليه السّلام، سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد بل صوت تولّى خلقه من غير آلة.

أقول: لا يخفى أنّ الوجه الثالث غير مناف للثاني كما

ورد عن مولينا الرضا عليه السّلام أنّ موسى على نبينا و آله و عليه السّلام لمّا كلمه اللّه و قرّبه نجيا رجع الى قومه فأخبرهم أنّ اللّه كلّمه و قرّبه و ناجاه فقالوا: لن نؤمن

لك حتى نسمع كلام اللّه كما سمعته، و كان القوم سبعمائة ألف فاختار منهم سبعين ألفا ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه فخرج بهم الى طور سيناء فأقامهم في سفح «1» الجبل و صعد موسى (عليه السّلام) إلى الطور و سئل اللّه أن يكلّمه و يسمعهم كلامه و كلّمه اللّه و سمعوا كلامه من فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام لأنّ اللّه أحدثه في الشجرة ثم جعل منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه الخبر «2».

و على هذا فالكليم ليس كل من سمع مثل هذا الكلام بل من سيق لأجله و خوطب، بل لعلّه من الأعلام الغالبة فلا تغفل.

و أمّا ما ابتدعه الغزالي فهو من سنخ ما زعمه من الرؤية و ستسمع فساد هما بما لا مزيد عليه.

______________________________

(1) سفح الجبل أي أسفله حيث يسيح فيه الماء، سفح الدمع: سال يتعدي و لا يتعدى.

(2) عيون اخبار الرضا ج 1 ص 200 ط. الاخوندي بطهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 354

و أما حكاية الاشتراك اللفظي فيتضح بعدم معقوليّة أحد المعنيين.

رابعها ما ذكره الأحسائي في بيان مرادهم بالكلام النفسي قال: ما حاصله أنّ الذي يظهر ليّ أن الأشاعرة أشاروا إلى معنى لو كان ذلك في حقّ الحادث لكان صحيحا و لكن بطلان قولهم لا من حيث إنّه غير معقول بل هو معقول معروف ألّلهم إلّا أنهم عجزوا عن التعبير عن مرادهم بعبارة تدلّ عليه فلعجز الأشعري عن التعبير كان المفهوم من كلامه غير معقول، و العبارة الدالّة على مرادهم هو أنّ النفس لها كلام مثل كلام اللّسان بحروف و أصوات إلّا أنها نفسيّة، فالنفس

تخاطب مثال غيرها و تأمره و تنهاه و تطلب منه و كذلك مثالها، و هو قولهم: مثل حديث النفس لأنّ النفس قد تحدّث نفسها، و تحدّث غيرها بكلام مشتمل على كلمات لفظية و حروف صوتية مثل الكلام المسموع بالأذان إلّا أنه نفسي لا جسماني، فالكلام النفسي مثل الكلام اللفظي في جميع ما يعتبر فيه من الترتيب و الإعراب و الوقوف و الوصل و الإدغام و الإظهار و الجهر و الإخفات و الجهر و الهمس و جميع ما يعتبر في اللفظي على جهة الوجوب و الندب و ما هو عليه من الأمر و النهي، و من أساليب الكلام و لمّا عجزوا عن التعبير عن الكلام بما هو عليه نفوا من الكلام النفسي ما لا يتفق الكلام إلّا به، فقالوا: هو ليس بحرف و لا صوت و لا أمر و لا نهي و لا خبر و لا استخبار، و لا شي ء من أساليب الكلام، و لكنّه معنى قائم بالنفس يعبّر عنه بالعبارات المختلفة المتغايرة إلى أن مثّل له بقوله مثلا يتصور زيدا و هذه الصورة من العلم ثم يقول له: هل مضيت السوق أمس؟ فتقول: صورة زيد: بلى، فيقول له:

هل اشتريت الثوب الفلاني لعمرو؟ فتقول: لا، فيقول له: لم تركت و قد أمرتك، اذهب عني فإنّك قد عصيتني و خالفت أمري، فيقول: مثال زيد اعف عني و أمتثل أمرك بعد هذا، و لا أعصي لك أمرا، فيغضب، و لا يعفو حتى تظهر على الجسد صورة

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 355

الغضب من إحمرار الوجه و الرعد يده لشدّة العزم على الانتقام، أو يرضى و يعفو حتى تظهر على ظاهره صورة الرضا و السكون و الطمأنينة، فيظهر أثره على

ظاهر الشخص المتكلم في نفسه مع صورة زيد و مثاله كما يظهر أثر الكلام اللفظي المعروف على ظاهر المتكلم و ليس شي ء من هذا بعلم و إنّما هو كلام و هذا ظاهر لمن فهم ما قلته.

و لكن الأشاعرة ما قدروا على التعبير عمّا أرادوا كما سمعت فانه شي ء معقول صحيح ألا تسمعهم يقولون: إنه تعالى يخاطب المعدوم و يأمره و ينهاه لأنه تعالى يمثل ذلك يستحضر صورتها و يخاطبها إلى آخر ما ذكره.

أقول: هذا المعنى و إن كان معقولا في نفسه متصورا بل محكوما عليه بأحكام كثيرة و لو غير شرعية بالنسبة إلينا إلّا أنّ أصحاب هذا القول الذين هم أعرف بمراد شيخهم بل و لا مخالفيهم لم يشيروا إلى ارادة هذا المعنى في المقام، و إن لم يجر كلامهم على مصبّ واحد، نعم ربما أطلقوا القول بأنّ المراد بمعنى اللفظ، بل لعل في بعض الشواهد المتقدمة كقول الأخطل و عمر و غيرهما إشعارا به، بل يمكن بإمكان غير بعيد أن يكون ذلك هو مراد الأشعري و إن لم يعبّر عنه هو و لا أحد ممن تبعه على ما هو عليه نعم ما حكاه عنهم بقوله هو ليس بحرف و لا صوت إلخ، لا ينطبق عليه تمام الانطباق.

و على كلّ حال فقد فرغنا عن تنزيهه سبحانه عن مثل تلك الخواطر النفسانية و الهواجس الذهنية و أثبتنا في الأصول الكلامية أنّ هذا كله من العوارض الإمكانية التي هي دليل النقصان و لا يتّصف سبحانه به و لا بالصفات الزائدة التي أثبتوها تكميلا للذات، مضافا إلى أنّ الكلام النفسي على هذا الوجه إن كان بالألفاظ المتخيّلة المتردّدة في الذهن فلا بدّ أن يكون بشي ء من اللغات من

العربية

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 356

و غيرها فهو مسبوق بخلق الحروف و وضعها و تأليفها أو غير ذلك مما هو من سمات الحدوث، و إن كان مجردا عن الألفاظ بل بمجرد إدراك المعنى مع قطع النظر عن كونه في ضمن العبارة فمرجعه إلى العلم و إدراك النسبة أو الطلب أو غير ذلك مما تأتي إليها الإشارة مع أنّ الصور الذهنية لها صور شخصية مركبة مسبوقه ببسائطها، بل منتزعة عن غيرها، على أن فرض قدمها يوجب عدم تأثير الذات فيها بوجه من الوجوه لا ذاتا و لا فعلا و لا إيجادا و لا إبقاء و لا غيرها من وجوه التأثير و الاقتضاء فكيف ينسب اليه سبحانه.

خامسها ما مرّت اليه الإشارة في حكاية عنهم و هو أنّ نسبة أحد طرفي الخبر إلى الآخر قائمة بنفس المتكلم و مغايرة للعلم لأنّ المتكلم قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه، و كذا المعنى النفسي الذي هو الأمر غير الإرادة لأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده و كالمعتذر من ضرب عبده لعصيانه.

قلت: و من المشتهر الخلاف من أنّ الطلب المدلول للأمر هل هو نفس الارادة أو غيرها، فالمحكي عن أصحابنا و المعتزلة هو الأول نظرا إلى أنّ المتبادر من الأمر الدالّ على الطلب هو إرادة الفعل من المأمور و قضية ذلك اتحادهما معا، و كان مرادهم بالإرادة هو الارادة الاقتضائية الخارجية الواقعة على سبيل إلزامه بالفعل أو ندبه اليه أو غير ذلك من المعاني حتى التهديد و غيره على وجه، فإنّ هذا هو المعنى الإنشائي المناسب للطلب بل المتحد معه مفهوما و تحققا.

و أمّا ما يعبّر عنه بالميل إلى الفعل أو القصد و

الإرادة إلى صدوره من الغير فلا ينبغي التأمل في مغايرته للطلب المعدود من أنواع الإنشاء لخلّو الإرادة بالمعنى الثاني عن المعنى الإنشائي.

و لعلّه يمكن الجمع بين ما سمعت من المذهب و بين ما يعزى الى

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 357

الأشاعرة من القول بالمغايرة، بل ربما يساعد المحكيّ من أدلتهم على هذا الجمع، فإنّهم قد استدلّوا على المغايرة.

أوّلا بأنّ اللّه تعالى أمر الكافر بالايمان و لم يرده منه لاستحالة وقوعه منه، لعلمه سبحانه بعدم صدوره منه، فلو صدر لا نقلب علمه جهلا و من البيّن استحالة إرادة المحال من العالم، و لأنّ صدور الكفر من الكافر لا بدّ أن يستند إلى سبب، و ذلك السبب لا بدّ أن ينتهي إلى الواجب تعالى لاستحالة التسلسل و إيجاده تعالى لذلك السبب يستدعي إرادة وقوع الكفر منه لكون إرادة السبب مع العلم بسببيته إرادة المسبّب، فيستحيل إرادة ضدّه حينئذ لاستحالة إرادة الضدين.

و ثانيا قد ينسخ قبل حضور وقت العمل فلو كان مريدا للمأمور به لاجتمع الإرادة و الكراهة في فعل واحد و هو محال.

و اختلاف الزمان غير مجد لعدم تصوّره في حقه تعالى، و لاتّحاد زمان الفعل و استحالة البدا عليه حقيقة بمعنى الظهور بعد الخفاء.

و ثالثا بضرورة التفكيك بينهما إذ من البيّن تحقق الأمر دون الإرادة في الأوامر الامتحانية و العكس في قول الآمر أريد منك الفعل و لا آمرك به.

قلت: و هذه الوجوه كما ترى ظاهرة في المعنى الثاني من الارادة و هو القصد إلى تحقق الفعل في الخارج، و تحقق الميل و المحبة اليه المقتضي لتحتم تحققه، و أمّا الإرادة الانشائية الاقتضائية الإظهارية فهي متحققة في أمر الكافر و في أمر من يعلم بعصيانه.

و لذا

ورد أنّ

للّه تعالى إرادتين و مشيّتين إرادة حتم و إرادة عزم ينهى و هو يشاء و يأمر و هو لا يشاء أو ما رأيت أنّ اللّه تعالى نهى آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و هو شاء ذلك و لو لم يشأ لم يأكلا و لو لم يأكلا لغلبت مشيّتهما مشية اللّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 358

و أمر إبراهيم بذبح ابنه و شاء أن لا يذبحه و لو لم يشاء أن لا يذبحه لغلبت مشية إبراهيم مشيئة اللّه (عز و جل) «1».

و مما ذكرناه يظهر الجواب عمّا ذكروه من الوجوه، و أمّا ادعّوه من انتهاء سلسلة الأسباب لافعال العباد إلى اللّه سبحانه فهو مبنيّ على مذهبهم الفاسد من القول بالجبر، و ستسمع في موضعه الجواب عن شبهاتهم في ذلك، ثم إنّ الكلام في الجواب عن حجج الفريقين و تحقيق ما هو الحق في البين طويل جدا و قد أشرنا الى ما هو الأصل في المقام.

و على كلّ حال فالذي ينبغي لنا البحث عنه أنّ الارادة بكلا معنييه من المعاني الحادثة فينا بعد وجودنا، و هي من الصفات القائمة بنا و إرادة اللّه تعالى ليست من سنخ إرادتنا حتى تقاس بها، و على فرض المقايسة و المشابهة و لو من بعض الوجوه البعيدة فلا ريب أنّ الإرادة من صفات الأفعال لما سمعت من الفرق الكلي المستفاد من أخبار العترة الطاهرة عليهم الصلوة و السّلام بين الصفات الذاتية و الفعلية.

و لذا

أجاب الامام جعفر الصادق عليه السّلام حيث سئل لم يزل اللّه مريدا بقوله (عليه السّلام): إنّ المريد لا يكون إلا لمراد معه، بل لم يزل اللّه تعالى عالما قادرا ثمّ أراد «2».

و

عن صفوان بن يحيى «3»،

قال قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 139 ط. الاخوندي بطهران.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 144 ط. الاخوندي بطهران.

(3) صفوان بن يحيى أبو محمّد البجلي الكوفي من أصحاب الكاظم و الجواد (عليهما السّلام) و كان أوثق أهل زمانه و أعبدهم و كان يصلي في كل يوم خمسين و مأة ركعة لأنه كان شريكا لعبد اللّه بن تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 359

الإرادة من اللّه و من الخلق؟ فقال عليه السّلام: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل و أمّا من اللّه فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لأنه لا يروّى و لا يهمّ و لا يتفكّر و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك يقول له فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما أنه بلا كيف «1».

و

في التوحيد عن مولينا الرضا عليه السّلام: المشية من صفات الأفعال فمن زعم أنّ اللّه لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد «2».

و مما سمعت و ما هو المقرّر في الأصول الكلامية يظهر أنّ الإرادة بالمعنيين المذكورين فضلا عما سواهما من العزم و المحبة و الكراهة و الهمّة و الرويّة كلها من صفات الإمكان الواقعة في صقع الحدوث.

سادسها ما أشار أليه المحقق الدواني في «شرح العقائد» «3».

______________________________

جندب و علي بن نعمان و روى انهم تعاقدوا في بيت اللّه الحرام أنّه من مات منهم صلّى من بقي منهم صلوته و صام عنه و زكّى عنه زكوته فماتا و بقي صفوان و كان يصلّي في كل يوم مأة و خمسين ركعة و

يصوم في السنة ثلثة أشهر و يزكّي زكوته ثلث دفعات و كان صفوان من أصحاب الإجماع، توفي سنة 210 ه بالمدينة.

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 119 ط. الاخوندي بطهران.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 145 ط. الاخوندي بطهران.

(3) شرح العقائد العضدية في علم الكلام لجلال الدين محمّد بن أسعد الدواني من حكماء القرن التاسع المتولد في سنة 830 بدوان (من بلاد كازرون) و المتوفى بفارس (شيراز) سنة 907 و متن الكتاب لعضد الدين الايجي عبد الرحمن بن أحمد من علماء الشافعية في القرن الثامن من أهل ايج (بفارس) ولي القضاء، وجدت له محنة مع صاحب كرمان، فحبسه بالقلعة، فمات مسجونا سنة 756 له مصنفات في الكلام- منها المواقف و منها العقائد العضدية و هو آخر

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 360

و في رسالته في إثبات الواجب و صفاته قال في الثانية بعد تمهيد أنّ صفه التكلم فينا عبارة عن قوّة تأليف الكلام، و انّ كلامنا عبارة عن الكلمات التي هو مؤلّفة لنا في الخيال: إنّ صفة التكلم القائم بذات اللّه تعالى صفة هي مصدر تأليف الكلمات و كلامه تعالى هي الكلمات التي هي متوجه إلى مخاطب مقدّر، و امتيازه عن العلم ظاهر، فإنّ كلام غيره تعالى معلوم له تعالى، و ليس كلامه، كما أنّ كلام غيرنا معلوم لنا و ليس كلامنا، و هذا الذي ذكرناه ليس ما ذهب إليه الحكماء من أنّ كلامه تعالى علمه و لا مذهب الحنابلة و من يحذو حذوهم من أنّ كلامه الأصوات و الحروف أو ما يشمل الأصوات و الحروف و المعاني و لا ما هو المشهور عن الأشعري من أن كلامه تعالى المعنى المقابل للفظ، بل تحقيق و

تنقيح لمذهب الأشعري كما يظهر بالتأمل الصادق، و لما كان علمه تعالى واحدا محيطا بجميع المعلومات كان كلامه أيضا واحدا مشتملا على أقسامه من الكتب و الصحف باللغات المختلفة و الإخبارات و الإنشائات، و لمّا كان كلامه أزليا كان الخطاب فيه متوجّها إلى المخاطب المقدّر إذ لا يخاطب موجود في الأزل فيكون المضي و الحضور و الاستقبال فيه بالنسبة الى الزمان المقدّر للمخاطب فلا إشكال في ورود بعضها بصفة المضي، و بعضها بصفة الحال، و بعضها بصفة الاستقبال.

______________________________

تصنيفاته.

كان معاصرا للحافظ الشيرازي و ممدوحا له في قطعة أنشأها في مدح الملك.

قال:

بعهد سلطنت شاه شيخ أبو اسحق به پنج شخص عجب ملك فارس بود آباد

نخست پادشهى همچو أو ولايت بخش كه جان خويش بپرورد و داد عيش بداد

دگر مربّى إسلام شيخ مجد الدين كه قاضيى به از أو آسمان ندارد ياد

دگر شهنشه دانش عضد كه در تصنيف بناى كار مواقف بنام شاه نهاد تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 361

ثم أورد على نفسه بأنه قد اطّرد العرف على أنّ من أنشأ كلاما بكتابه يسمى متكلّما به، و ينسب إليه ذلك الكلام، كما يقال: قال الشافعي كذا و كذا، و إنّما ينسب إليه ذلك الأقوال لأنه كتبها فلم لا يجوز أن يكون كلام اللّه تعالى من هذا القبيل، كما يقوله المعتزلة فيكون نسبته اليه تعالى بسبب أنّه كتبه في اللوح المحفوظ أو أوجده في لسان الملك أو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أجاب بأن من لم يقدر على تأليف الكلمات في النفس لا يسمى متكلّما و إن أوجد النقوش، و كذلك من علم أنه ليس له قصد إلى تلك الألفاظ و الحروف لا يسمى متكلّما، و

نسبة القول إلى من كتب شيئا من الكلام بسبب إعتقاد أنّه دالّ على كلامه النفسي و لو علم انه ليس له الكلام النفسي لم يسمّ متكلما أصلا كما لو فرضنا انه صدر هذه النقوش من غير الإنسان.

و ثانيا بأنّ النصوص السمعية دالّة على إثبات صفة الكلام له تعالى و ظواهر تلك النصوص أنّها صفة مغايرة لساير الصفات كالعلم و القدرة و الإرادة، و القول بما قاله المعتزلة يؤدّي إلى أن لا يكون الكلام صفة اخرى بل راجعة إلى القدرة على خلق الكلمات في محلّها، و التجاوز عن الظواهر من غير ضرورة مستنكر، على أنه لا يمكن الدلالة على نفي الكلام النفسي، و لو نفوه لزمه القدح في كونه تعالى متكلّما بالمعنى العرفي كما سبق، و بعد ثبوت الكلام النفسي يتمّ ما ذكرناه من تحقيق مذهب الأشعري من غير خلل.

أقول: و فيه أولا أنّ ما مهده من أنّ صفة التكلم فينا عبارة عن قوة تأليف الكلام ممنوع جدا، فإنّ التكلّم من الأفعال التي يعتبر فيها الفعلية و لا يكفي فيه الشأن و القوة إذ الفعلية و التحصيل هي المنساق منه عند إطلاقه و لذا لا يقال تكلّم زيد بمجرد قدرته على ذلك، و بالجملة فرق بين الصفات النفسية و الأفعال

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 362

الخارجية، و التكلّم من الثانية، و يشهد له التبادر و صحة السلب عمّا ذكره، مع أنّ قوّة التأليف ترجع إلى القدرة، و قد شنع به أخيرا، و من جميع ما مرّ قد ظهر أيضا ضعف ما تو همّه من كون الكلام فينا عبارة عن الكلمات المؤلّفة الخيالية فإنّها صور ارتسامية من الكلام الخارجي الّذي هو حقيقته لا أنها نفس الكلام، و

لذا ليس للأخرس و لا للساكت كلام.

و ثانيا أنّ صفه التكلّم فيه سبحانه ليست قائمة بذاته تعالى، لأنّ التكلّم إمّا حادث أو قديم، و على الوجهين مغاير للذات كما هو المفروض في كلامهم، و على الوجهين قيامه غير ممكن، أمّا على فرض الحدوث كما هو الحقّ و إن لم يقولوا به فلامتناع كون الذات محلّا للحوادث و تغيّر الذات بعروضه، و لأنّ واجب الوجود لذاته واجب الوجود من جميع جهاته، و لأنّ الأزل لا يدخل فيه شي ء و لا يخرج منه شي ء، و أمّا على فرض القدم فلاستحالة التقارن بل القيام المأخوذ فيه عدم التأصل بل الترتيب و الافتقار، و لما دلّ على أنّ كل صفة خارجة عن الذات عارضة لها أو مقترنة بها في حادثة قطعا لأنّ معنى الوصفية العروض و التأخر، و معه يستحيل فرض القدم الذاتي.

ثم لا يخفى أنّ الصفة التي هي مصدر تأليف الكلمات هي القدرة، إذ بها يصدر التأليف، مع أنّ فرض المصدر لها يوجب تأخّر الصدور فضلا عن الصادر، سيما مع فرض كونه هي الكلمات المؤلّفة التي هي حقيقة في الألفاظ و الحروف المعتبرة فيها صفة التأليف، و أين هي من كونها مؤلّفه له تعالى بذاته في علمه القديم بغير واسطة، إن هذا إلّا التناقض في الكلام، و التقوّل بما لا يخفى فساده على الأفهام، نعم إنّما نشأ ذلك من قيام كلامه سبحانه بكلام خلقه، و قد عرفت الحال في المقيس عليه أيضا تعالى اللّه عما يقول الجاهلون المعاندون علوا كبيرا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 363

و ثالثا أنه يستفاد من قوله: (و هذا الذي ذكرتها ليس ما ذهب إليه الحكماء إلخ) أنّ هذا الكلام الذي أثبته ليس راجعا إلى

العلم و لا إلى الأصوات و الحروف لا مقرونة بالمعاني و لا مفروقة عنها، و لا من سنخ المعنى المقابل للفظ و من البيّن أنّه ليس هاهنا أمر آخر إلّا ما صرّح به من الصفة التي هي مصدر تأليف الكلمات، و هو القدرة و لذا عبّر عنها أوّلا بالقوّة، فمن أين يكون تحقيقا لمذهب الأشعري؟ على أنه قد وقع أوّلا فيما طعن به أخيرا من إرجاعه إلى الشي ء من الصفات كالعلم و القدرة و نحو هما.

و رابعا أنّ اشتمال هذا الكلام الذي تو همه مع وحدته على أقسام الكلام من الكتب و الصحف باللغات المختلفة و الإخبارات و الإنشاءات غير معقول جدّا، فضلا عن تقدير الأزمنة و الخطاب المقدّر، و كأنه قاس ربّه بنفسه إذا علم أنه يملك بعد مضي مدة من السنين عبيدا سيوجدون بعد ذلك فيتوهّمهم موجودين ثم يخاطبهم مخاطبة وهميّة أو محققة بخطاب و همي مشتملا على أمر و نهي و إخبار و قصص و مواعظ و حكاية عن الماضين، و غير ذلك من الزجر و الوعيد و التهديد، و لعمري إنّ هذه الأمور الوهميّة يستدعي معبودا وهميّا، و هو كذلك عندهم، فإنّهم يتوهّمون ربهم و يعبدون أربابا يتوهمونها في أذهانهم، فهم من عبدة الأصنام الذين يعبدون ما ينحتون، و اللّه خلقهم و ما يعلمون.

و بالجملة المراد بالتقديران كان مجرّد الفرض و الاعتبار فهو كما ترى لتنزّهه سبحانه عن مثل ذلك، مع ان الخطاب و المخاطب و المخاطبة كلها حينئذ تقديرية، فان اعتبرنا الوجود التقديري اشتركت في القدم و إلّا اشتركت في العدم و التفكيك فاسد قطعا إذ لا يجوز حتى من المخلوق مخاطبة المخاطب المتوهم المقدّر بخطاب محقق متحصل.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 1، ص: 364

و إن كان المراد تعلّق العلم بحصول ذلك فيما بعد ففيه أنّ مرجعه حينئذ إلى العلم الذي يحاشي عنه في آخر كلامه، مع أنّك ستسمع في موضعه أن تعلّق العلم الذاتي بالحوادث غير ممكن لعدم تعقّل تعلّق نفس الذات بها، فإنّ العلم الذاتي هو الذات، و كذلك الكلام في ساير الصفات الذاتية، نعم العلم الفعلي متعلّق بها لكن التعلّق و المتعلّق بالكسر و المتعلّق بالفتح كلّها في صقع الإمكان المسبوق بالعدم، و أين ذلك عن القدم.

و خامسا أنّ الوجهين الذين ذكرهما دفعا للإيراد ضعيفان.

أمّا الأوّل فلأنّ عدم صدق المتكلّم على موجد النقوش ليس لمجرد عدم القدرة على تأليف الكلمات في النفس، فإنّ الأخرس بل الساكت أيضا مع قدرتهما على تأليف الكلمات حسبما توهمّه في المخلوق لا يتّصفان بالتكلّم و لا يقال لهما المتكلّم.

و أمّا الثاني فلأنّه و إن كان مسلّما في الجملة إلّا أنّ ما ذكره يئول أيضا الى القدرة حسبما سمعت.

سابعها ما يحكى عن صاحب «المواقف» و محصّله أنّ لفظة المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ و أخرى على الأمر القائم بالغير، فالشيخ لمّا قال: الكلام هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أنّ مراده مدلول اللفظ وحده، و هو القديم، و أمّا العبارات فإنما يسمّى كلاما مجازا لدلالتهما على ما هو كلام حقيقة حتى صرّحوا بأنّ اللفظ حادث على مذهبه، لكنّها ليست كلاما حقيقة، و هذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة، كعدم إنكار من أنكر كلاميّة ما بين دفّتي المصحف مع أنّه علم من الدين ضرورة كونه كلام اللّه تعالى حقيقة، و كعدم المعارضة و التحدّي بكلام اللّه الحقيقي، و كعدم كون المقروء و المحفوظ كلامه حقيقة، إلى

غير ذلك مما

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 365

لا يخفى على المتفطّن في الأحكام الدينية.

فوجب حمل كلام الشيخ على إرادته المعنى الثاني، فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ و المعنى جميعا قائما بذات اللّه و هو مكتوب في المصاحف مقروّ بالألسن محفوظ في الصدور، و هو غير الكتابة و القرائة و الخطوط الحادثة.

و ما يقال من أنّ الحروف و الألفاظ مترتّبة متعاقبة فجوابه أنّ ذلك الترتّب إنّما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث و الأدلة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون الملفوظ جمعا بين الأدلّة.

و عن بعضهم أنّ هذا المحمل لكلام الأشعري مما اختاره الشهرستاني أيضا في كتابه المسمى ب «نهاية الاقدام» «1».

قلت: و من التأمل فيما ذكرناه سابقا يظهر لك وجوه المناقشة في هذا الكلام، بل قد يناقش أيضا بأنّ مذهب الأشعري أنّ كلامه تعالى واحد ليس بأمر و لا نهي و لا خبر و إنّما يصير أحدها بحسب التعلّق، و هذه الأوصاف لا ينطبق على الكلام اللفظي بل و لا المعنوي أيضا، و لذا ذهبوا في فهم مراده كل مذهب.

و بأنّ كون الحروف و الألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتّب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيّالة موجودة بوجود لا يكون سيّالة و هو سفسطة من قبيل أن يقال: إنّ الحركة يوجد في بعض الموضوعات من غير ترتّب و تعاقب بين أجزائها.

و بأنّ محصّله الفرق بين ما يقوم بالقاري من الألفاظ و بين ما يقوم بذاته تعالى

______________________________

(1) نهاية الاقدام كتاب كلامي مرتّب على عشرين قاعدة لأبي الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548 ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 366

باجتماع أجزاء و عدم اجتماعها بسبب

قصور الألة و حينئذ إن أوجب الفرق اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته تعالى من جنس الكلام و إلّا كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقين إذ التفاوت بينهما إنّما يكون بالاجتماع و عدمه الذين هما عارضان من عوارض الحقيقة الواحدة.

و بأنّ لزوم ما ذكره من المفاسد ممنوع إلى غير ذلك ممّا لا يخلو بعضها من المناقشات التي لا ينبغي الإطناب فيها بعد ما سمعت سيمّا مع وضوح المرام.

ثامنها ما حكاه عنهم المحقّق آقا جمال الخوانساري «1»، في بعض حواشيه على «شرح التجريد» و هو أنّه صفة حقيقية بسيطة واحدة وحدة حقيقية قائمة بذاته تعالى ينشعب تارة خبرا و أخرى أمرا و اخرى نهيا إلى غير ذلك قال: و هذا هو الذي حقيق بما قاله المصنّف في الإلهيات و النفساني غير معقول.

قلت: هذا المعنى كما ذكروه غير معقول سيمّا مع ما صرّحوا من مغايرته للعلم و القدرة و غير هما من الصفات الذاتية و مع ذلك فلا ينبغي تسميته الكلام الذي معناه معروف عرفا و عادة حتى في حقّ اللّه سبحانه، فإنّ ما يستعمل فيه اللفظ و لو مجازا ينبغي أن يكون متصوّرا بمعنى كونه متميّزا عمّا عداه. و هذا المعنى قد اختلف فيه مثبتوه على الوجوه التي سمعت و تسمع، و جميع ما ذكروه بين غير معقول لا يتفّوه به عاقل، و بين غير جايز إثباته في حقّه تعالى، و لذا قال الفاضل العلّامة أعلى اللّه مقامه فيما حكيناه عنه من «أنوار الملكوت»: إنّ المراد بكونه غير معقول أنّ العقل لا يجوّز وقوعه عن الحكيم، لا أنّه غير متصور، و إلّا لما أمكن الحكم عليه بكونه

______________________________

(1) هو محمّد جمال الدين بن آقا حسين

الخوانساري الاصفهاني المسكن و المدفن توفي سنة (1125) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 367

نقصا.

قلت: و لعلّ مراد المشهور غير ذلك، و الخطب سهل فيه بل و في التأمل في آخر كلامه.

تاسعها ما ربما يحكي عن المنتمين إلى التصوف و التقشّف «1»، الذين هم من أصحاب الأخدود القائلين بوحدة الوجود، و هؤلاء و إن كانوا مختلفين في هذا الباب إلّا أنا اقتصرنا على بعض كلماتهم في المقام خوف الإطناب.

قال ابن العربي في أول ما سماّه «بالفتوحات» «2»، تكلّم سبحانه لا عن صمت متقدّم و لا سكوت متوهّم بكلام قديم أزلي كسائر صفاته من علمه و إرادته و قدرته كلّم موسى عليه السّلام و سماّه التنزيل و الزبور و التورية و الإنجيل من غير حروف و لا أصوات و لا نغم و لا لغات بل هو خالق الأصوات و الحروف و اللّغات إلخ.

و قد صرّح سابقا بقدم إرادته في قوله و لم يزل سبحانه موصوفا بهذه الإرادة أزلا و العالم معدوم غير موجود و إن كان ثابتا في العلم في عينه ثم أوجد العالم عن العلم السابق و تعيين الإرادة المنزّهة الأزلية القاضية على العالم بما أوجدته عليه من

______________________________

(1) تقشف: ضدّ تنعم- تقشف في لباسه أي تبلغ بالمرقع و الوسخ.

(2) الفتوحات المكية في معرفة اسرار المالكية و الملكية- مجلدات للشيخ محيي الدين محمّد بن علي المعروف بابن عربي الطائي المالكي المتوفى سنة 638 ه، من أعظم كتبه و آخرها تأليفا و ادّعى فيه ما ينبئي عن جنونه أو كفره، قال في الباب الثامن و الأربعين:

اعلم أنّ ترتيب أبواب الفتوحات لم يكن عن إختيار و لا عن نظر فكري و إنمّا الحق تعالى يملي لنا على لسان

ملك الإلهام جميع ما نسطره، و قد نذكر كلاما بين كلامين لا تعلّق له بما قبله و لا بما بعده و ذلك شبيه بقوله سبحانه: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى بين آيات طلاق و نكاح، و عدة و وفاة، و كان الفراغ من هذا الكتاب المترتب على 560 بابا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 368

زمان و مكان و أكوان و ألوان.

و قال في موضع آخر: إن المفهوم من كون القرآن حروفا أمران: الأمر الواحد المسمّى قولا و كلاما و لفظا، و الأمر الآخر كتابة و رقما و خطّا و القرآن يخطّ فله حروف الرقم و ينطق به فله حروف اللّفظ فلمّا يرجع كونه حروفا منطوقا بها هل لكلام اللّه الذي صفته أو هل للمترجم عنه فاعلم أن اللّه سبحانه قد أخبرنا بنبيّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أنّه سبحانه يتجلّى في القيمة في صور مختلفة فيعرف و ينكر و من كانت حقيقته تقبل التجلّي فلا يعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظ بها المسماّة كلام اللّه لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله و كما نقول يتجلّى في صورته كما يليق بجلاله كذلك نقول تكلّم بحروف و صوت كما يليق بجلاله إلى ان قال: فإذا تحقّقت ما قرّرناه تبيّنت أنّ كلام اللّه هو هذا المتلّو المسموع المتلفظ به المسمى قرآنا و تورية و زبورا و انجيلا.

و قال في الفصل الثاني من الباب الثامن و التسعين و المأة في جملة كلام له: نطق عيسى ببرائة أمّه في غير الحالة المعتادة ليكون آية فكان نطقه كلام اللّه في نفس الرحمن فنفس اللّه عن امه بذلك ما كان أصابها من كلام أهلها بما نسبوها اليه مما طهرّها اللّه

عنه، و من هنا قالت المعتزلة: إنّ المتكلم من خلق الكلام فيما ليس من شأنه أن يتكلّم مثل الجماد و النبات و غيرهما إلى أن قال: إنّ كلام اللّه علمه و علمه ذاته، و لا يصح أن يكون كلامه ليس هو، فإنّه كان يوصف بأنه محكوم عليه للزائد على ذاته، و هو لا يحكم عليه عزّ و جل و كل ذي كلام موصوف بأنّه قادر على أن يتكلّم، فيكون كلامه مخلوقا و كلامه قديم في مذهب الأشعري و عين ذاته في مذهب غيره من العقلاء، فنسبة الكلام إلى اللّه مجهولة لا يعرف كما أنّ ذاته تعالى لا تعرف.

و قال في الفصل السادس منه فليس الكون بزائد على كن بواوها الغيبية

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 369

فظهر الكون على صورة كن، و كن أمره، و أمره كلامه، و كلامه علمه، و علمه ذاته، فظهر العالم على صورته فخلق آدم على صورته.

و قال الغزالي: الكلام على ضربين.

أحدهما مطلق في حق الباري.

و الثاني في حق الآدميين أما الكلام الذي ينسب إلى الباري تعالى فهو صفة من صفات الربوبية فلا تشابه بين صفات الباري تعالى و بين صفات الآدميين فإنّ صفات الآدميين زائدة على ذواتهم لتكثر وحدتهم و تقّوم انيّتهم بتلك الصفات و تعيّن حدودهم و رسومهم بها و صفة الباري لاتّحد ذاته و لا ترسمه فليست إذا أشياء زائدة على العلم الذي هو حقيقة هويته تعالى و من أراد أن يعد صفات الباري أخطأ، فالواجب على العاقل أن يتأمّل و يعلم أنّ صفات الباري لا يتعدّد و لا يتفضل بعضها عن بعض إلّا في مراتب العبارات و موارد الإشارات فاذا أضيف علمه الى استماع دعوة المضطرين يقال سميع، و

إذا أضيف علمه إلى رؤيته ضمير الخلق يقال بصير، و إذا أفاض من مكنونات علمه على قلب أحد من الناس من أسرار الالهيّة و دقايق جبروت ربوبيّة يقال متكلّم، فليس بعضه آلة السمع، و بعضه آلة البصر، فاذن كلام الباري ليس شيئا سوى إفادته مكنونات علمه من يريد إكرامه، كما قال تعالى: وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ فشرّفه اللّه بقربه، و قرّبه بقدسه، و أجلسه على بساط أنسه و شافهه بأجلّ صفاته، و كلّمه بعلم ذاته كما شاء، تكلّم و كما أراد سمع انتهى.

قلت: و هو و إن أجاد في عدم إثبات قديم غير العلم الذي هو عين ذاته سبحانه إلّا أن تسمية العلم الذاتي كلاما أو تكلّما مما لا يساعده اللّغة و لا العرف و لا الشرع كما لا يساعد شي ء منها تسمية إفادة مكنونات علمه به.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 370

نعم قد يسمّى ذلك و حيا أو إلهاما أو قذفا أو حديث النفس أو فهما أو غير ذلك بحسب الموارد و المشخّصات و استشهاده بالآية غريب جدّا، بل لعل فيها الرّد عليه من وجوه كاختصاص موسى عليه السّلام به، و كونه الكلام بعد المجي ء و حكاية القولين معا بعد ذلك.

هذا مع الغضّ عن القطع في الخارج بأنّ كلامه معه لم يكن بمجرد الإلقاء في القلب بل كان بأصوات مخلوقة و ألفاظ مسموعة و لذا سمعه النفر السبعون الذين كانوا معه.

و قال الشيخ صدر الدين القونوي «1» في «تفسير الفاتحة»: كان من جملة ما مّن اللّه تعالى على عبده (أراد به نفسه) أن اطّلعه على بعض أسرار كتابه الكريم الحاوي على كل علم جسيم و أراه أنه ظهر عن مقارعة غيبيّة

واقعة بين صفتي القدرة و الإرادة متّصفا بحكم ما أحاط به العلم في المرتبة الجامعة بين الغيب و الشهادة لكن على نحو ما اقتضاه الموطن و المقام و عيّنه حكم المخاطب و حاله و وقته بالتبعيّة و الاستلزام.

و قال الشيخ شمس الدين الفناري في «شرح مفتاح الغيب» «2»، بعد الاشارة

______________________________

(1) القونوي محمّد بن اسحق صدر الدين، من كبار تلاميذ الشيخ محيي الدين ابن العربي تزوج ابن العربي امه، و رباه و كان شافعي المذهب، و بينه و بين نصير الدين الطوسي مكاتبات في بعض المسائل الحكمية، له مصنفات منها تفسير الفاتحة على اصطلاح أهل التصوف سماه اعجاز البيان في تفسير أم القرآن، و منها مفتاح الغيب في التصوف شرحه جمع من المتصوفة، توفى سنة 673 ه، و القونوي منسوب إلى القونية بضم القاف و كسر النون و تخفيف الياء بلد في الروم بين القسطنطنيّة و الشام.

(2) شرح مفتاح الغيب في التصوف، الماتن كما مرّ صدر الدين القونوي و هذا الشمس الدين

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 371

إلى الأسماء: ثم من ثمرات إحاطه هذه الأسماء كونها في القديم قديمة، و في الحادث حادثة، و كما هي قديمه بحقايقها، قديمه بتعلّقاتها الكلّية و الجزئية التي باعتبارها تدخل في أسماء الصفات و قدم التعلّق هو الأصح أيضا من طريقي أهل النظر و أنّ قدمها بتعلقاتها من حيث اعتبارها من طرف الوجود لا ينافي اتصافها بأوصاف الحدوث من حيث تبعيتها للعلم التابع للمعلوم، و أنّ لكل من الاعتبارين لسانا في الكتاب و السنة فلسان الأول كثير كيف و الحقّ تعالى علم جميع الأشياء في الأزل من عين علمه بذاته و اندراج فيه جميع الأسماء باقتضاءاتها.

أما الثاني فنحوه وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ

حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ «1» إلى أن قال:

فانصباغ تعينّات التعلّقات الأزلية للصفات بخواصّ الحوادث بهذا السبب لا ينافي قدمها في ذاتها و من حيث محلّها.

و على هذا كلام الحق و قد عرّفه الشيخ يعني القونوي في أول التفسير بأنّها الصفة الحاصلة من مقارعة غيبيّة بين صفتي الإرادة و القدرة لا ينافي قدمه، و قدم تعلّقه، انصباغ تعلّقه بما يقتضيه أحوال المخاطبين كالعبرانيّة و العربية و الماضوية و الحالية و المستقبلية فإنّها انصباغة ناشئة من الإعتبار الثاني فيندفع به كثير من الشبه التي عجز عن حلّها فحول أهل النظر ككون الألفاظ القرآنية حروفا و أصواتا مترتّبة حادثة، مع أنه من أنكر كلام اللّه و أنها نزلت فقد كفر، و كاقتضاء

______________________________

محمد بن حمزة الفناري الرومي، عالم بالمنطق و الأصول و التصوف توفى سنة 834، قال في كشف الظنون: لما أقرأ شمس الدين محمد الفناري مفتاح الغيب على ولده صنف شرحا لطيفا و ضمنه من معارف الصوفية ما لم تسمع الآذان و سماه مصباح الانس بين المعقول و المشهود في شرح مفتاح غيب الجمع و الوجود.

(1) محمد (صلى الله عليه و آله): 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 372

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً «1»، قديما قدم نوح، و تحقيق اندفاعه أنّ قدم كل حادث بالنسبة إلى حضوره بكلياته و جزئياته مع الوجود الحق الذي لا يقّيد له من حيث هو بزمان أو حال و الى اطلاعه على ذلك الحضور اطلاعا لازما لا ينفكّ عن ذاته أصلا.

ثمّ حكى عن القونوي في تفسيره أنّه لمّا كان كلّ متعيّن من الأسماء و الصفات حجابا على أصله الذي لا يتعيّن و كان الكلام من جملة الصفات صار حجابا على المتكلّم من حيث نسبة علمه الذاتي

و كلام الحق تجلّى من عينه و حضرة علمه في العماء الذي هو نفس الرحماني و منزل بعض الحقائق و المراتب، و حضرة الأسماء إلى آخر ما ذكره ممّا هو كما سمعت من كلامهم مبنيّ على أصولهم الفاسدة كالقول بالأعيان الثابتة «2»، و الصور العلميّة و وحدة الوجود

______________________________

(1) نوح: 1.

(2) الأعيان الثابتة على اصطلاح الحكماء هي المهيّات الكلية اللازمة للتجلّي.

الأسمائي و الموجودة موجود الحق تطفلا لا بإيجاده أي لا تكون موجودة موجوداتها الخاصة و لذا قالوا: الأعيان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود، قالوا في توضيح ذلك: إن حقيقة الوجود الغير المنزل إلى مراتب الامكانية لها ظهورات: فأولّها تجلّى ذاتها لذاتها و يعبرون عن هذا التجلّى بالحضرة الأحدية، و الهوية الصرفة، و غيب الغيوب، و الكنز المخفي، و الغيب المصون، و منقطع الإشارات و مقام لا اسم له و لا رسم له، و إلى هذا التجلّى يشير الجامي عبد الرحمن المتوفى سنة 897 ه بقوله: در آن خلوت كه هستى بي نشان بودبكنج نيستى عالم نهان بود

وجودى بود از قيد دوئى دورز گفت و گوى مائى و توئى دور

وجودى مطلق از قيد مظاهربنور خويشتن بر خويش ظاهر

و الثاني من الظهورات الوجود على تعينات الصفات و الأسماء و لوازمها المسماة بالأعيان الثابتة و هي الماهية الكلية اللازمة لهذا التجلّى الأسمائي الغير المنفكّة عنه نظير عدم

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 373

«3»، و المشاركة في الأسماء. و الصفات و غير ذلك مما يفضي التكلّم فيها في المقام إلى الإطناب و إن كنا نشير الى إبطال كل منها في غير موضع من هذا الكتاب، و اللّه الموفق للصواب.

قال الصدر الأجلّ الشيرازي: الكلام ليس كما قالته الأشاعرة

صفة نفسيّة و معاني قائمة بذاته تعالى سمّوها الكلام النفسي، لأنّه غير معقول و إلّا لكان علما لا كلاما، و ليس عبارة عن مجرّد خلق الأصوات و الحروف الدالّة على المعاني و إلّا لكان كل كلام كلام اللّه تعالى، و لا يفيد التقيّد بكونه على قصد إعلام المعاني من قبل اللّه تعالى، أو على قصد الإلقاء من قبله، إذا لكلّ من عنده، و لو أريد بلا واسطة فهو غير جائز أيضا، و إلّا لم يكن أصواتا و حروفا بل هو عبارة عن إنشاء كلمات تاماّت و إنزال آيات محكمات و أخر متشابهات في كسوة ألفاظ و عبارات.

______________________________

انفكاك لوازم الماهية عن الماهية، و بهذا الاعتبار يسمى ذلك الوجود بالحضرة الواحدية، و عالم الأسماء، و برزخ البرازخ و الفيض الأقدس، و الصبح الأزل، ثم للوجود الحقيقي ظهور ثالث على الأعيان الامكانية و يسمى بهذا الاعتبار الفيض المقدّس، و المشية، و الرحمة الواسعة و الوجود المنبسط.

(3) القائلون بالتوحيد ثلث طوائف: بعضهم يقولون بكثرة الوجود الموجود جميعا، و هم المشاّئون الذين يقولون بكثرتها غاية الأمر يخصّون فردا منها بالواجب.

و بعضهم يقولون بوحدة الوجود و الموجود جميعا و هم الصوفية، و هم أيضا على طائفتين:

الأولى قائلون بأن الوجود الواحد يتشأّن بشئون مختلفه و يتطوّر بأطوار متكثرة ففي السماء سماء و في الأرض أرض و هكذا، و هذا المذهب منسوب إلى جهلة الصوفية، و الثانية أكابرهم القائلون بأن للوجود حقيقة مجردة عن المجالي لكن الوجود بجميعه مجردا عن المجالي و غيره واجب الوجود بخلاف الفهلوبين القائلين بأنّ الواجب هو المجرد عن المجالى و ما سواه ممكن، و بعضهم يقولون بوحده الوجود و كثرة الموجود و هذا مذهب منسوب إلى ذوق التألّه

و هو الذي ارتضاه جمع من المحققين كالدواني و الداماد. المنظومة السبزواري- شرح الآملى-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 374

قلت: أمّا ما أورده الأشاعرة فهو في محلّه إلّا ما أفاده من جهة الحصر إذ قد يفسّر أيضا بالقدرة، و بالألفاظ النفسية و غيرها مما هو معقول مطلقا أو في حق غيره.

و أمّا ما أورده على المعتزلة فمع الغضّ عمّا في عبارته من المسامحة إذ الأولى التعبير بالأصوات المخلوقة فإنّها الكلام لا خلق الأصوات فإنّه التكلّم.

ففيه أنّ الطعن غير وارد عليهم لأن أفعال الخلق عندهم منسوبة إليهم، بخلاف الأشاعرة الذين يرون أفعال العباد مخلوقة له تعالى من غير صنع للعبد، و أغرب منه القول بعدم إفادة التقييد بأحد الوجهين معلّلا بأن الكلّ من عنده، و من البيّن وضوح الفرق لغة و عرفا و شرعا بين الكلام الذي يتكلّم زيد باختياره و رضاه و إرادته و بين ما خلقه اللّه تعالى في شجرة موسى أو في الهواء أو في الجبال، أو في غيرها من الجمادات، فإنّ الأوّل منسوب إلى زيد و الثاني إلى اللّه سبحانه و إن كان الكلّ منه سبحانه على وجه، و بالجملة لا ريب من إطلاق الكلام على ما ذكره المعتزلة من الأصوات و الألفاظ المخلوقة المسموعة كما في قوله تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ «1»، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ «2»، و قوله: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً «3»، على التقريب المتقدم و قوله: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي «4»، و إن كانت

______________________________

(1) التوبة: 6.

(2) البقرة: 75.

(3) النساء: 163.

(4) الأعراف: 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 375

جهة الإطلاق في تلك الموارد مختلفة

ففي الأوّلين باعتبار الحكاية و اسم المصدر و في الأخيرين باعتبار الأصالة و المصدر و لذا يفهم منفهما الإختصاص.

ثم إنّ كلامه (رحمه اللّه) كما ترى لا إشعار فيه بقدم الكلام أصلا و إن قيل: إنّ المستفاد من فحوى كلامه و كلام أتباعه مثل الملّا محسن «1»، أنّه قديم إلّا أنه ليس على ما ذهب اليه الأشاعرة الذين يجعلونه كلاما نفسانيا، بل لأنّه بعض شئونه الذاتية و شئون الذات لا تتغّير.

أقول: و لعلّه استفاده من كلامه في مواضع أخر حيث يستفاد من بعض كلماته القول بوحدة الوجود و بإثبات الأعيان الثابتة و الصور العلميّة و الشئون الذاتية و عدم مجعوليّة الماهيّة بل و لا الوجود و كون البقاء للممكنات ببقاء اللّه تعالى لا بقائه و كونه فاعلا بالتجلّي «2» و انّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء إلى غير ذلك من المسائل

______________________________

(1) المولى محمّد بن مرتضى المدعو بمحسن و الملقب بالفيض الكاشاني، محقّق، مدقّق جليل القدر، عظيم الشأن، رفيع المنزلة، أديب شاعر، متبحر في علوم عصره له قريب من مأة تأليف منها الصافي، و الوافي، و الشافي، و محجة البيضاء في إحياء الإحياء، تلمذ على الملّا صدرا و زوّج ابنته و تلمذ أيضا على المير داماد و غير هما توفى سنة 1091 ه، و قبره بكاشان معروف و مزار.

(2) الفاعل بالتجلّى هو الذي يكون علمه التفصيلي بفعله قبل فعله و لا يقترن قبله بالداعي و لا يكون علمه السابق على فعله زائدا على ذاته بل يكون عين ذاته، و لا فرق من هذا الجهة بينه و بين الفاعل بالرضا إلا أن العلم السابق على الفعل في الفاعل بالرضا الذي هو عين الفاعل إجمالي لا غير و في

الفاعل بالتجلّى يكون تفصيليا بمعنى أنه إجمالي في عين الكشف التفصيلي و إنّما ينشأ ذلك من كون الفاعل بسيط الحقيقة و انّ بسيط الحقيقة كل الأشياء، فكما أن وجوده تعالى و تقدّس مع وحدته كلّ الوجودات بحيث لا يشذ عن سعة وجوده وجود فكذلك من علمه بذاته الذي يكون عين ذاته لا أمرا زائدا على ذاته يعلم كل الأشياء حيث لا يكون شي ء خارجا عنه

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 376

التي ملأ بها كتبه بل نسب إلى صهره المحدث الفيض الكاشاني أنه قال في كتابه «أنوار الحكمة» «1»، إنّ التكلم فينا ملكة قائمة بذواتنا نتمكّن بها من إفاضة مخزوننا العلميّة عن غيرنا و فيه سبحانه عين ذاته إلّا أنّه باعتبار كونه من صفات الأفعال متأخّر عن ذاته.

قال مولينا الصادق (عليه السّلام): إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزلية كان اللّه عزّ و جلّ و لا متكلّم «2».

______________________________

و إذا كان ذاته الذي كلّ الأشياء حاضرا لدى ذاته و معلوما لذاته فكل الأشياء معلوم لذاته بنفس علمه بذاته الذي هو عين ذاته لا يعلم آخر و إنمّا سمى الفاعل بالتجلي لكون أفعاله ظهورات ذاته، و تجليات صفاته التي عين ذاته.

الاسفار (و المنظومة) و تعليقة الآملي على المنظومة.

(1) أنوار الحكمة كتاب كلامي في أصول الدين ملخص من علم اليقين مع زيادات حكمية للفيض الكاشاني، طبع في طهران بالطبع الحجري.

(2) لعلّه مضمون الحديث لان متن الحديث على ما رواه في البحار هكذا ...

عن أبي بصير قال (ل) سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لم يزل اللّه جلّ اسمه عالما بذاته و لا معلوم، و لم يزل قادرا بذاته- و لا مقدور، قلت: جعلت فداك فلم يزل متكلما قال:

الكلام محدث،

كان اللّه عز و جل و ليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام.

- بحار الأنوار ج 4 ص 151.

قال المجلسي (قدس سره) بعد ذكر الحديث السابق ذكره، بيان: اعلم انه لا خلاف بين أهل الملل في كونه تعالى متكلما لكن اختلفوا في تحقيق كلامه و حدوثه و قدمه فالامامية قالوا:

بحدوث كلامه و معنى كونه متكلّما عندهم أنّه موجد تلك الحروف و الأصوات في الجسم كاللوح المحفوظ، أو جبرئيل، أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو غيرهم كشجرة موسى، و به قالت المعتزلة له أيضا، و الحنابلة ذهبوا إلى أنّ كلامه صفة له مؤلّفة من الحروف و الأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى، و الأشاعرة أثبتوا الكلام النفسي و قالوا: كلامه معنى واحد بسيط، قائم

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 377

أقول: و هو غريب جدا فإنه مع التصريح بكونه عين الذات كيف يتصور كونه من صفات الأفعال و كيف يكون متأخّرا عن الذات، و أغرب من ذلك استشهاده بالخبر الصريح في الحدوث، و بالجملة ففي مواضع من كلامه رحمه اللّه شهادة على حدوثه، و مع ذلك فكيف يكون عين ذاته، و هذا الكتاب لم أظفر به بل لم أره في فهرس مؤلفاته المذكورة في «اللّؤلؤة» إلّا أنّ من حكى عنه أعلم بما حكاه.

اعلم أنّ القرآن كما سمعت كان نورا من أنوار القدس متجلّيا تحت حجاب الواحدية في علم المشيّة بعد التمكين و التكوين في صقع التدوين و هو رشحة من رشحات رحمته الكلّية السارية في عالم الأكوان الجامعة لجميع مراتبها في جميع العوالم و هو الروح الذي هو عن أمر ربنا وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ

جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1»، يعني أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان أولا في مقام العبودية المحضة مستغرقا في الإقبال الكلي الذي لا التفات معه إلى غيره أصلا و لذا نسب إليه صلّى اللّه عليه و آله نفي الدرايّة أو لأنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) ليس له من ذاته في صقع وجوده شي ء من الفيوض و الشئون حتى العلوم و المعارف التي تكاد تكون من لوازم ذاته القدسية الشريفة و إنّما الكل من عنده سبحانه: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ «2».

______________________________

بذاته، قديم، و قد قامت البراهين على ابطال ما سوى المذهب الأول، و تشهد البديهة ببطلان بعضها، و قد دلّت الأخبار الكثيرة على بطلان كلّ منها، نعم القدرة على إيجاد الكلام قديمة غير زائدة على الذات و كذا العلم بمدلولاتها، و ظاهر أنّ الكلام غيرهما.

(1) الشورى: 52.

(2) آل عمران: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 378

ثم لم يزل القرآن تنزل من عالم الى عالم و من رتبة إلى رتبة، و يتجلى بصورة بعد صورة و يتجوهر بحلية بعد حلية في السلسلة الطولية إلى أن اكتسى في عالم الأصوات و الألفاظ صور الحروف و الكلمات، و في عالم النقوش صور الرقوم الجزئية المتعينة، و قد سمعت فيما مرّ من الأخبار أنّه يتجلّى في يوم القيمة في صورة شابّ حسن الخلق و الخلق، ينسبه كلّ من المؤمنين و الشهداء و الأنبياء و الملئكة منهم، بل من أفضلهم و أعلمهم، و إطلاقه على كلّ من تلك الصور في جميع العوالم حقيقة لاتحاد الحقيقة، فحدوثه في كل عالم من العوالم إنّما هو باعتبار

ذلك العالم، فهو من جهة أنه نور حادث في عالم الأنوار، و من جهة أنه رحمة حادث في عالم الأرواح، و من جهة أنه معنى حادث في عالم المعاني، و من جهة أنّه ملفوظ حادث في عالم الألفاظ، و من جهة أنّه منقوش حادث في عالم النقوش، بل جميع تلك العوالم كلّها كغيرها من العوالم الإمكانية و الكونية المجردة أو المادية حادثة مسبوقة بالعدم على أنّك قد سمعت غير مرّة أنّ محض التوحيد يأبى إثبات الصفات المغايرة الذاتية فضلا عن الفعلية فضلا، عمّا هو في صقع المفعول كالقرآن، فإنه هو الحاصل من بعض شئون المشيّة و تجلياتها في رتبة المفعول.

و لذا تظافرت الشواهد من الكتاب و السنّة على حدوثه كقوله تعالى في سورة طه: وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً «1»، و في سورة الأنبياء: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ «2»، و في سورة الشعراء:

______________________________

(1) طه: 113.

(2) الأنبياء: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 379

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ «1».

و

في الاحتجاج عن صفوان بن يحيى قال سئلني أبو قرّة المحدّث صاحب شبرمة «2»، أن ادخله إلى أبي الحسن الرّضا عليه السّلام فاستأذنته فأذن له فدخل فسئله عن أشياء من الحلال و الحرام و الفرائض و الأحكام حتى بلغ سئواله الى التوحيد فقال له: أخبرني جعلني اللّه فداك عن كلام اللّه تعالى لموسى فقال: اللّه أعلم بأيّ لسان كلّمه بلسان السريانية أم بالعبرانية، فأخذ أبو قرّة بلسانه، فقال:

إنّما أسئلك عن هذا اللسان، فقال أبو الحسن عليه السّلام سبحان اللّه مما تقول و معاذ

اللّه أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم به متكلّمون و لكنه- عزّ و جل- ليس كمثله شي ء و لا كمثله قائل فاعل قال: كيف ذلك؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق و لا يلفظ بشقّ فم و لا لسان و لكنه يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النهي من غير تردّد من نفس، فقال له أبو قرّة:

فما تقول في الكتب؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: التورية و الإنجيل و الزبور و القرآن و كلّ كتاب انزل كان اللّه أنزله للعالمين نورا و هدى و هي كلّها محدثة و هي غير اللّه تعالى حيث يقول: أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً «3»، و اللّه أحدث الكتب كلها و هو الذي أنزلها فقال أبو قرة: فهل تفنى؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: أجمع المسلمون على أن ما سوى اللّه فان و ما سوى اللّه فعل اللّه و التورية و الإنجيل و الزبور و القرآن فعل اللّه

______________________________

(1) الشعراء: 5.

(2) ابن شبرمة عبد اللّه البجلي الكوفي كان قاضيا لأبي جعفر المنصور على سواد الكوفة، و كان شاعرا توفى سنة 144 ه.

(3) الأنبياء: 2. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 380

ألم تسمع الناس يقولون: ربّ القرآن و إنّ القرآن يوم القيمة يقول: يا ربّ هذا فلان و هو أعرف به منه قد أظمأت نهاره و أسهرت ليله فشفّعني فيه كذلك التورية و الإنجيل و الزبور هي كلّها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شي ء هدى لقوم يعقلون فمن زعم أنهنّ لم يزلن فقد أظهر أنّ اللّه تعالى ليس بأوّل قديم و لا واحد، و ان الكلام لم يزل معه و ليس له

بدو و ليس باله.

قال أبو قرّة: فإنا روينا أنّ الكتب كلها تجي ء يوم القيمة و الناس في صعيد واحد صفوف قيام لرب العالمين ينظرون حتى ترجع فيه و هي جزء منه فإليه تصير قال أبو الحسن عليه السّلام: فهكذا قالت النصارى في المسيح ان روحه جزء منه تعالى و يرجع فيه، و كذلك قالت المجوس في النار و الشمس أنّها جزء منه و يرجع فيه تعالى ربنا أن يكون مجزّءا أو مختلفا و إنّما يختلف و يأتلف المتجزّئ لأنّ كلّ متجزّء متوهم و القلّة و الكثرة مخلوقة دالّة على خالق خلقها «1».

و

في «التوحيد» في جواب مكاتبة عبد الرحيم القصير «2»، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) حيث سئله عن مسائل من جملتها أنّ الناس اختلفوا في القرآن فزعم قوم أنّ القرآن كلام اللّه غير مخلوق و قال آخرون كلام اللّه مخلوق إلى ان قال عليه السّلام: و سئلت رحمك اللّه عن القرآن و اختلاف الناس قبلكم فإنّ القرآن كلام اللّه محدث غير مخلوق و غير أزلي مع اللّه تعالى ذكره و تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان اللّه

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 10 ص 344 ط. الاخوندي بطهران.

(2) عبد الرحيم بن روح القصير الاسدي كوفي روى عنهما و بقي بعد أبي عبد اللّه الصادق (عليه السّلام) و يظهر من بعض الأحاديث مدحه عن الصادق (عليه السّلام) كما في جوابه (عليه السّلام) عن كتاب له: سألت يرحمك اللّه. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 381

عزّ و جلّ و لا شي ء غير اللّه معروف و لا مجهول كان عزّ و جلّ و لا متكلم و لا مريد و لا متحرك و لا فاعل جلّ و عزّ ربنا فجميع

هذه الصفات محدثة عن حدوث الفعل منه جل و عزّ ربنا و القرآن كلام اللّه غير مخلوق فيه خبر من كان قبلكم و خبر ما يكون بعدكم، انزل من عند اللّه على محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) «1».

أقول: و دلالة الخبر كسابقه على المطلوب واضح من وجه كوضوح اشتمالها سيما الأول على جملة من البراهين الدالّة على ذلك.

و اما قوله في الثاني: غير مخلوق فالمراد أنّه غير مجعول و لا مختلق من البشر كما تو همّه الكفار، كما قالوا (إن هذا الّا اختلاق) «2»، و لذا صرّح بكونه محدث للّه غير أزلي بل استدلّ له بقضية التوحيد.

و من هنا يظهر الوجه

فيما رواه في «الخصال» عن الصادق (عليه السّلام) قال: و القرآن كلام اللّه ليس بخالق و لا مخلوق «3»

حيث إنّ المراد نفي اختلاقه و افتعاله، و أمّا نفي كونه خالقا فكأنّه من الخلق بمعنى الاندراس اي إنّه غضّ طريّ لا يبلى و لا ينسخ أبدا.

و قد ظهر مما مرّ الجواب عمّا استدلّ به القول بالقدم كما عن الأشاعرة من الخبر المرويّ

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن كلام اللّه غير مخلوق.

و لذا قال الصدوق (رحمه اللّه) بعد ذكر الخبر: إن المراد منه أي غير مكذوب،

______________________________

(1) بحار الأنوار- فضائل القرآن ج 19 القديم ص 31 باب ان القرآن مخلوق.

(2) ص: 7.

(3) وردت بهذا المضمون روايات عن الباقر و الرضا (عليهما السّلام) و من أراد الاطلاع عليها فليراجع بحار الأنوار ج 19 ط. القديم باب ان القرآن مخلوق ص 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 382

و لا يعني به أنه غير محدث لأنه قال: محدث غير مخلوق و غير أزلي

مع اللّه تعالى:

قيل: و لعلّ المنع من إطلاق الخلق على القرآن إمّا للتقية مماشاة مع العامّة أو لكونه موهما لمعنى آخر أطلق الكفار عليه بهذا المعنى في قولهم: (إن هذا الّا اختلاق) «1».

و

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لم يزل اللّه تعالى عالما بذاته و لا معلوم و لم يزل قادرا بذاته و لا مقدور، قلت جعلت فدلك فلم يزل متكلّما قال عليه السّلام: الكلام محدث كان اللّه (عزّ و جل) و ليس بمتكلّم ثم أحدث الكلام «2».

و

في خبر آخر عنه (عليه السّلام) لم يزل اللّه- عز و جل- ربنا و العلم ذاته و لا معلوم إلى أن قال: قلت فلم يزل اللّه متكلّما فقال عليه السّلام: إنّ الكلام صفة محدثة و ليست بأزلية كان اللّه (عز و جل) و لا متكلّم «3».

و

في «الاحتجاج» سئل أبو الحسن علي بن محمّد عن التوحيد فقيل: لم يزل اللّه وحده لا شي ء معه ثم خلق الأشياء بديعا و اختار لنفسه أحسن الأسماء و لم تزل الأسماء و الحروف معه قديمة؟ فكتب (عليه السّلام): لم يزل اللّه موجودا ثم كوّن ما أراد .. الخبر «4».

فان قلت: ظاهر الأخبار المتقدّمة، بل و كذا الآيات إنّما هو حدوث القرآن في هذا العالم الناسوتي بعد بعثه خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حسبما كان

______________________________

(1) ص: 7.

(2) بحار الأنوار ج 4 ط. الآخوندي بطهران ص 150.

(3) بحار الأنوار ج 4 ط. الآخوندي بطهران ص 72.

(4) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 250.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 383

الملك يأتيه بالخصوص الآيات الفرقانية باعتبار الاقتضاءات الخاصّة التي تقضي نزولها عليه، و أين هذا من القول بسبق صدوره

و تقدّم خلقه في عالم الأنوار و تطور تلك الأطوار عليه؟.

قلت: حدوث نزوله في هذا العالم بحسب الاقتضاءات الخاصة مما لا شبهة فيه و هو لا ينافي نزوله جملة واحدة في ليلة القدر في السماء الرابعة أو نزوله على طور الأطوار على قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو على لسان الملك أو على القلم أو على غيرها من الخلق مما يفيد تقدّما دهريا على غيره من الماديّات كما أنّ وجود خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما حدث في هذا العالم بعد كافّة الأنبياء مع أنّه يستفاد من

قوله عليه السّلام كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين «1»

تقدّم خلقه، بل نبّوته على خلق آدم عليه السّلام فضلا عن غيره، بل يستفاد من أخبار كثيره متواترة أنّه الخلق الأول و أنّ أول ما خلق اللّه روحه و نوره الشريف و أنّه أوّل من نطق بالتسبيح و التهليل و التكبير للّه رب العالمين، و أنّ كلّ من عبد اللّه فإنما كان بتعليمه و تعليم علي عليه السّلام حتى الأنبياء و الملئكة، إلى غير ذلك مما يدلّ على تقدّم خلق أنوارهم و أرواحهم في عالم آخر غير هذا العالم.

______________________________

(1) لم اظفر بسنده و مدركه إلّا أنّه مشهور كما أنّ غواص بحار الأحاديث المجلسي (قدس سره) قال في بحار الأنوار تذنيب ذكره للبحث عن كيفية تعبّد النبيّ (ص) قبل بعثه و هل كان متعبدا بشريعة من كان قبله أولا: إنّ الذي ظهر لي من الأخبار المعتبرة و الآثار المستفيضة هو أنّه (ص) كان قبل بعثته مذ أكمل اللّه عقله في بدو سنه نبيا مؤيّدا بروح القدس، يكلّمه الملك، و يسمع

الصوت، و يرى في المنام ثم بعد أربعين سنة صار رسولا، و كلمه الملك معانية، و نزل عليه القرآن (إلى ان قال:) و يؤيد ذلك الخبر المشهور عندهم:

«كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين» أو «بين الروح و الجسد». تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 384

بل قد دلت الأخبار الكثيرة على أنّ اللّه تعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام أو بأربعة آلاف عام، أو أزيد على اختلاف الأخبار المنزل على جهات الاعتبار، و من هنا قالوا: إنّ كينونة النفس في عالم الدهر و إنّما هو قبل كينونة البدن، أولا ثم تعلّق النقوش و الأرواح بها و بالجملة خلق القرآن بل مطلق الكلام كغيره من الإبداعيات إنّما هو في عالم أعلى و أكمل و أبسط و أجمل ثم يتنزّل أمره شيئا فشيئا إلى أن يصل طرف منه إلى هذا العالم.

و لذا

ورد في دعاء السمات المرويّ عن الحجّة عجل اللّه تعالى فرجه: و أسئلك بمجدك الذي كلّمت به عبدك و رسولك موسى بن عمران عليه السّلام في المقدسين فوق إحساس الكرّوبيّين فوق غمايم النور فوق تابوت الشهادة في عمود النار في طور سيناء و في جبل حوريث في الواد المقدس في البقعة المباركة من جانب الطور الأيمن من الشجرة.

فإنّ هذا الكلام حيث كان الكليم في زمرة المقدّسين الذين طهّرهم اللّه بحقيقة عبوديّتهم عن الالتفات إلى غيره سبحانه فوق إحساس الكروّبيين بفتح الهمزة أي قويهم و مشاعرهم فإنه كان أعظم من أن تناله مداركهم و معارجهم و شئونهم و ترقياتهم، و المراد بالكرّوبيين هم الملئكة المقرّبون كالأربعة الحملة لعرش التكوين، و غمام النور في أصلها السحائب البيض التي تغّم الماء الي تستره في أجوافها و كانت تظلّ

لبني إسرائيل و تابوت الشهادة وعاء العلم و الحكمة و التدبير و حامل التدوير و قلب منطقة معدّل المسير يشهد لحامله بشي ء من النبوّة و الولاية المطلقتين أو المقيدتين على حسب اختلاف التجلّيات و اختلاف الشئونات و مراتب القابليات، و أمّا عمود النار فهو في الظاهر و إن كان إشارة إلى ما ترائى له في الظاهر نارا و كان نورا إلّا أنه بحسب الحقيقة إشارة إلى روح القدس التي هي عمود من نور بين البطون

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 385

و الظهور ينكشف به للإمام عليه السّلام حقايق أحوال المخلوقين و أفعالها و تطوراتها و شئونها و تجلياتها، و الطور جبل بالشام، و السيناء هي الشجرة و ان كانت في الحقيقة هي شجرة الولاية النابتة في النجف الأشرف، بل

ورد في الأخبار أن النجف هو الجبل الذي كلّم اللّه عليه موسى تكليما و اتخذ اللّه إبراهيم خليلا و عيسى روحا و محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حبيبا «1»

، فإن هذا يؤكد ما سمعت.

نعم قد يقال: إن موقع تلك النار على جبل الولاية و منه ظهرت للنبيين و المرسلين و هو

قول سيدنا أمير المؤمنين عليه السّلام: أنا صاحب الأزلية الأولية،

و الولاية جبل واحد تشعبّت منها جبال كثيره منها جبل الاختراع و جبل الابتداع و الجبل الواحدية و الجبل الأحدية و غيرها، و كان ظهور النار لموسى على جبل الولاية جبل الأحدية فافهم، و أمّا جبل حوريث و قيل: حوريثا فهو جبل بأرض مدين خوطب عليه موسى عليه السّلام أوّل خطابه.

ثم لا يخفى أن ما سمعت من معنى الكلام إنّما هو معناه الخاص التدويني و له معنى عام شامل له و للتكويني أيضا و

هو أنّه عبارة عن كلمات صادرة عن المتكلم بإحداثه لها أو تلاوته لها سواء كانت من الذوات المجرّدة أو الماديّة أو من الجواهر أو الأعراض أو الأفعال و الصفات أو الألفاظ أو غيرها إذا لوحظت باعتبار قيامها بالمتكلّم قيام صدور، و من هنا يطلق الكلم على الأرواح و النفوس و منه قوله

______________________________

(1)

في سفينة البحار ج 2 ص 572 عن إرشاد القلوب روى عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) أنه قال: الغرىّ قطعه من الجبل الذي كلّم اللّه عليه موسى تكليما و قدّس عليه عيسى تقديسا و اتخذ عليه إبراهيم خليلا، و محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و عليهم حبيبا و جعله للنبيين مسكنا. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 386

تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «1»، و قد أطلقت الكلمة على عيسى في مواضع من القرآن و الكلمات على الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي «2»، وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «3»، أي فضائلهم و مناقبهم.

و لذا

ورد عنهم في أخبار كثيرة نحن الكلمات التامّات و الأسماء الحسنى «4»

و فيهم نزلت قوله تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ «5» و تماميتهم إنّما هو في رتبة الإمكان و إن كان الإمكان معدن القصور و النقصان.

ثم ان الكلام هو الكلمات بالإسناد، و هما الكاف و النون و المشار بهما الى المهية و الوجود.

______________________________

(1) فاطر: 10.

(2) الكهف: 109.

(3) لقمان: 27.

(4) راجع بحار الأنوار ج 7 ط. القديم باب 50 ص 126.

(5)

الانعام: 115.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 387

الفصل الثالث

اشارة

في حقيقة الوحي و الإلهام و كيفية نزول القرآن على سيد الأنام (عليه و على عترته المعصومين آلاف التحية و السّلام) الوحي مصدر من وحي اللّه يحي من باب وعد، و مثله أوحى اليه، و أصله الصوت الخفي، أو الاشارة المفهمة، أو إفهام الغير بأيّ وجه غلب استعماله فيما ألقي على الأنبياء من عند اللّه سبحانه.

قال في القاموس: الوحي: الإشارة، و الكتابة، و المكتوب، و الرسالة، و الإلهام، و الكلام الخفي، و كلّما ألقيته إلى غيرك، و الصوت يكون في الناس و في غيرهم كالوحي و الوحاة و الجمع وحيّ بالضم فالكسر ثم التشديد، و أوحي إليه: بعثه و ألهمه، و نفسه: وقع فيها خوف.

و ذكر شيخنا الطبرسي (رحمه اللّه) «1»: أن أصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتار و الإخفاء.

______________________________

(1) الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، أمين الدين أبو علي: مفسر محقق لغوي فقيه من أعاظم الامامية، له مصنفات قيمة منها: مجمع البيان في تفسير القرآن الذي قال الشهيد فيه: لم يؤلف مثله، جوامع الجامع في التفسير، أعلام الورى باعلام الهدى و غيرها توفى سنة 548 ه في سبزوار و نقل إلى المشهد الرضوي (عليه السّلام)

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 388

و أمّا ما روى عن ابن عباس: أنّه لا وحي إلّا القرآن فإنّ المراد به أنّ القرآن هو الوحي الذي نزل به جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون أن يكون أنكر ما قلناه، و يقال: أوحي له و اليه قال العجّاج «1»: أوحي له القرار فاستقرّت.

أقول: لكنّ الأولى عدم إضافه الإلقاء إلى الإنسان بإلقاء القيد، و الخطب فيه

سهل كسهولته في إطلاقه في كلام العرب على وجوه شتى، فقد أطلق على وحي النبوّة في قول تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ «2»، و على إعلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو عين كلامه و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ «3»، و على الإلهام و القذف في القلوب كقوله تعالى: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي «4»، و قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ «5»، و إن قيل: إنّه وحي إعلام لا إلهام فقوله: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «6»، و على الجبلّة الفطرية كوّنت عليها الأكوان كقوله تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «7»، و إن كان الأقوى وفاقا لأكثر المحققين أنّه على وجه الاعلام و الإلهام لما أشرنا إليه في غير

______________________________

(1) العجاج عبد اللّه بن لبيد بن صخر من شعراء العرب، ولد في الجاهلية، و قال الشعر فيها، ثم أسلّم و عاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك، ففلج و أقعد، و هو والد «رؤية» الراجز المشهور، توفى نحو 90 ه.

- أعلام زركلى ج 4 ص 218-.

(2) النساء: 163.

(3) الشورى: 51.

(4) المائدة: 111.

(5) القصص: 7.

(6) القصص: 7.

(7) النحل: 68.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 389

موضع من مساوقة الوجود للشعور، و على الهواجس النفسانية و الوساوس الشيطانية كما في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «1»، و على الإشارة و الإيماء كقوله

تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا «2»، قيل معناه: أومي و رمز، و قيل: كتب لهم بيده في الأرض و قد يؤيّد الأوّل بقوله تعالى في موضع آخر: إِلَّا رَمْزاً «3»، بل

عن أحدهما عليهما السّلام فيما رواه العياشي فكان يومي برأسه «4»،

إلى غير ذلك من المعاني التي لا يهمّنا البحث عنها و إنّما الكلام في حقيقة الوحي الذي اختص به الأنبياء عليهم السّلام فقد يعرف بأنّه خطاب من الحقّ الى الخلق يصل إليهم بواسطة النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و اليه بواسطة الملك فهما واسطتان في إيصال الخطابات الإلهية أحدهما سفير من الحق، و الآخر إلى الخلق، و لعلّ الأظهر أنّ وساطة الملك غير شرط في ذلك، لا لأنّ الوحي قد يكون في النوم بل في اليقظة أيضا بالقذف في القلب و الإلهام الغيبي إذ الحق توسط الملك في جميع ذلك أيضا بل لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد يكون في الرتبة أعلى من الملك فلا يسعه في المعارج الرّوحانية و المخاطبات الربانية شي ء من الملئكة المقربين و لا أحد من الخلق أجمعين، و لذا خوطب نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله عزّ من قائل:

وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «5».

______________________________

(1) الانعام: 112.

(2) مريم: 11.

(3) آل عمران: 41.

(4)

عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: لمّا سأل ربه أن يهب له ذكرا فوهب اللّه له يحيى فدخله من ذلك فقال: رب اجعل لي آية قال آيتك ألّا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزا، فكان يومي برأسه و هو الرمز.

(5) النمل: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 390

بل

قال الصدوق (رحمه اللّه) في «إكمال الدين»:

«إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يكون بين أصحابه فيغمى عليه و هو ينصابّ عرقا فإذا أفاق قال: قال اللّه (عز و جل) كذا و كذا و نهيكم عن كذا».

و أكثر مخالفينا يقولون: إنّ ذلك كان يكون عند نزول جبرئيل (عليه السّلام)

فسئل الصادق عليه السّلام عن الغشية التي كانت تأخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ كانت تكون عند هبوط جبرئيل عليه السّلام؟ فقال عليه السّلام: لا إنّ جبرئيل عليه السّلام كان إذا أتى النبيّ (ص) لم يدخل عليه حتى يستأذنه فإذا دخل قعد بين يديه قعدة العبد و إنّما ذلك عند مخاطبة اللّه عزّ و جلّ ايّاه بغير ترجمان و واسطة.

ثم قال (الصدوق): حدّثنا بذلك الحسن بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد بن مالك، عن محمد بن الحسين بن زيد، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن ثابت، عن الصادق جعفر بن محمد صلوات اللّه عليهما «1».

ثم انه لا يخفى أنّ النفس الانسانية في بدو كينونتها و أصل خلقتها قابلة لانطباع الصورة الواقعة في عالم الحقائق و المعاني فيها و إنّما المانع لها من انكشاف الصور العمليّة و استنزال الحقائق الواقعية في الكسوة و المثالية و استكشاف الأمور الغيبيّة شي ء من أمور و إن كان مرجع بعضها إلى نفي الاقتضاء:

أحدها تقمّص جوهرها و خمود فطنتها و جمود طبيعتها كحديد المرآة قبل أن يذوب، و يشكّل و يصيقل، و بل كتراب معدن الحديد الذي لم يستعدّ بعد لإفاضة الصور الحديدية عليه، فضلا عن أن يستعدّ للذوب و التشكّل و الصقالة.

______________________________

(1) كمال الدين: 51 بحار الأنوار ج 18 ط. الاخوندي بطهران ص 260.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 1، ص: 391

ثانيها كدورات المعاصي و ظلمات الشهوات المكدرّة لجوهر النفس المظلمة لعالمها المانعة عن تجلّي الحق لها و إشراق نور العلم عليها و ذلك كصداء المرآة و طبعها.

ثالثها عدولها عن عالم الحقائق و التوجّه من المبادي العالية إلى مصالح المعيشة و الأمور الدنيّة الحسيّة، بل و كذا استيعاب همّتها و قصر نظرها على ظواهر الطاعات و أبدان العبادات و صرف النظر في الأحكام الظاهرة الحسيّة و الغفلة عن التحقّق بحقايقها النورانية المعنوية فالنفس حينئذ كمرآت معدول بها من جهة الصورة المطلوبة إلى غيرها.

قال مولينا أمير المؤمنين عليه السلام على ما في «النهج» و إنّما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر مما ورائها شيئا، و البصير ينفذها بصره و يعلم أنّ الدار ورائها فالبصير منها شاخص و الأعمى إليها شاخص، و البصير منها متزوّد و الأعمى لها متزوّد «1».

رابعها: وقوع السدّ و الحجاب بينه و بين الصورة المطلوبة باعتقادات واقعة في قلبه حاصلة من العادة و التقليد و التكسّب و التعصّب و غيرها فرسخت و تأكّدت في قلبه و منعت له عن إدراك الحقائق على ما هي عليه، و هذا كالجدار الواقع بين المرآة و الصورة و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «2».

خامسها جمود القريحة و خمود نار الطبيعة بترك الانتقال و الارتحال من صورة إلى صورة و من منزل إلى أعلى منه حتى يصل إلى ما هو المطلوب الأصلي من

______________________________

(1) نهج البلاغة خطبة «133».

(2) يس: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 392

الحضرة الالهيّة على المنهج القويم، و الصراط المستقيم فإنّ السعادة و بلوغ أقصى المراتب ليست فطرية لكلّ أحد من آحاد

الناس فلا يمكن الوصول إلى المقصد الحقّ إلّا بالعثور على الجهة التي بها يقع الاهتداء و الانتهاء اليه لضرورة بطلان الطفرة.

ثم إنّه لا يخفى أنّ النفس المستعدّة لمقام النبوة و الرسالة فارغة بحسب الفطرة الأصلية و الجبلة الاختيارية الأوليّة عن تلك الموانع و عمّا يئول إليها، فنفوسهم المقدّسة العلوية في أصل الفطرة كمرآت صقيلة مجلّوة بالعلم و العمل و البقاء على مقتضى الكينونة الاولى محاذية لشطر الحق سبحانه إمّا بلا واسطة كنور نبينا صلى اللّه عليه و آله و سلّم أو معها كسائر الأنبياء و الملئكة عليهم السّلام، فإنّ أنوارهم و افئدتهم و أرواحهم مخلوقة من أشعة نور نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لذا

ورد أنّ قلوب شيعتهم إنّما خلقت من فاضل طينة أبدانهم و أنّ شيعتهم خلقوا من شعاع طينتهم «1»

، و أنّ الأنبياء و المرسلين و الملئكة و المقرّبين حتى العالين و الكروبييّن كلهم من شيعتهم عليهم السّلام من الخلق الأوّل أو غيره كما ورد في تفسير قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ «2»، و قوله تعالى: أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ «3»، و قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ «4»، و الأخبار الكثيرة الدالة على كيفيّة بدو أنوارهم و انشعاب الأنوار من نورهم، و بالجملة فنفوس الأنبياء صلوات اللّه عليهم لما كان متنسمة من نفحات المجد و القدس، متنعمة في

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ط. القديم باب بدو أرواحهم و طينتهم و أنوارهم- و ج 4 باب الطينة و الميثاق.

(2) الصافات: 83.

(3) ص: 75.

(4) الأعراف: 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 393

بساط سرادق الانبساط و الانس، كانت مختصّة بشرف الوحي و الإلهام.

و القدف و النكت، و الأحلام، و ساير مراتب

التلّقي، و التلقين، و الاعلام بضروبها و أنواعها و مراتبها الكثيرة التي يختص كل منهم بشي ء حسب اختلاف الجهات و المراتب و النشئات تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «1»، وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ «2».

و لا يخفى أنّ ما ذكرناه من أنواع التلقّي و الاستفاضة و صنوف الوحي و الإلهام ليس بمجرد التخيّل و تجوهر الصورة المرتسمة من مرآت المتخيّلة بحسب قوة الإدراك و ظهور الصور المثالية و الإدراكية في الأعيان حتى يظنّ أنّها أجسام مرئية ملموسة و أصوات مسموعة مدركة بالآلات الجسمانية كما قد يظهر للممرورين «3» و المبرسمين «4»، على ما زعمه بعض ملاحدة الفلاسفة المنكرين للملائكة و الأرواح الروحانية لزعمهم أنّها قوى غير شاعرة و لا مدركة للعالم فإنّ هذا القول إلحاد في الدين و خروج عمّا أجمع عليه كافّة الأنبياء و المرسلين بل الحقّ الذي تظافر به الكتاب و السنّة بل ضرورة الدين و المكاشفات القطعيّة الحاصلة لأرباب الشهود و اليقين بل للأولياء و الأنبياء و المرسلين هو أنّ الملئكة جواهر روحانية شاعرة عابدة للّه سبحانه قادرة على التشكّل بالأشكال المختلفة بإذن ربهم سبحانه و هم الصافات، و الزاجرات، و التاليات للذكر، و الحاملات للوقر، و المقسّمات للأمر إلى

______________________________

(1) البقرة: 152.

(2) البقرة: 87.

(3) الممرور من غلبت عليه المرة و هي بكسر الميم بمعنى الصفراء أو السوداء.

(4) المبرسم بضم الميم و فتح الباء و السين أصيب بالبرسام و هو بكسر الباء التهاب في الحجاب الذي بين الكبد و القلب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 394

غير ذلك من الفيوض التكوينيّة و التشريعيّة التي لا يعصون اللّه فيها و يفعلون ما يؤمرون و إن

ما يظهر منهم من الأشكال و الأصوات و الكلمات إنّما هو على وجه الحقيقة العينية في الخارج لا مجرد التخيّل و التصور.

ثم اعلم أن الوحي بالمعنى العام الذي مرّت إليه الإشارة قسمان:

أحدهما الوحي التكويني المتعلّق بجعل الذوات و إنشاء الموجودات و إفاضة القابليّات و تشيّؤ الماهيّات و قبول الأعراض و الصفات و غيرها مما ينسبه القائلون بالأعيان الثابتة إلى القدم و القائلون بالطبائع إليها و القائلون بالبخت و الاتّفاق الى البعث إلى غير ذلك من مقالات الجهّال و أهل الضلال سبحانه و تعالى عمّا يقولون علوا كبيرا، فإنّ الحق في ذلك أنّ تذوّت كل ذات من الذوات، و تعيّن كل ماهيّة من الماهيّات، بل وجود كلّ شي ء من الموجودات، و اتصافه بكلّ شي ء من الأحوال و الصفات بلا فرق بين الشرور و الخيرات إنّما بقبوله و إختياره بعد تعلّق المشية الفعلية الإرادة الحتمية التكوينية فسمعت و أجابت و سارعت و أطاعت فخرجت منقادة متشئية، متذوتة، متصفة بما قبلها من الأحوال و الأفعال و الصفات بعد ما كانت في بقعة العدم البحت البات الذي لا تميّز و لا تعيّن لها فيه أصلا، و ظرفية العدم لها مجرّد تعبير، و إلّا فأين الظرف و أين المظروف، و ذلك أنه سبحانه خلق الأشياء بها فخلق ما شاء كما شاء لما شاء، و أوحى إلى كل شي ء أمره، و هذا هو المراد بالقول التكويني في قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1»، و بالقول و الوحي في الآيتين: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا

______________________________

(1) النحل: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 395

طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «1»،

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها «2»، بل هو المراد به أيضا في قوله: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «3»، و بالهداية في قوله تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «4»، فأوّل وحي وقع للّه سبحانه في عالم التكوين فعله لفعله بفعله، فأوحى به إلى نفسه و ترجم عنه به له بما أظهر فيه من آثار الربوبية إذ لا مربوب حسبما اقتضاها الإمكان الراجح في مقام الفعل، و ذلك بعد البد و المحذوف الذي يقال له اسم الفاعل و هو مقاماته و علاماته التي لا تعطّل لها في كلّ مكان يعرفه بها من عرفه لا فرق بينه و بينها إلّا أنّهم عباده و خلقه فيترجم الحقيقة المحمّدية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ من المقامات الثلاثة بنفسهما لنفسها أوّلا، و للمرتبة النازلة عنها ثانيا فيترجم اسم الفاعل لنفسه، و للفعل و الفعل له و للمفعول الأوّل الّذي هو العقل، و هكذا في العوالم الكثيرة الّتي هي المراتب الواقعة في السلسلة الطولية المنتظمة، المتنسقة التي ما يحمل عليها ما

ورد في بعض الأخبار من أنّ للّه تعالى ألف ألف عالم «5»

فيتنزّل الأمر و الحكم من كل عالم منها إلى غيره.

و جملة القول فيها على وجه الإشارة أنّه يتنزّل من العقل إلى الروح و من الروح إلى النفس، و منها إلى محدّد الجهات الفلك الأعظم، و منه إلى فلك البروج، و منه إلى السموات السبع و إلى العناصر، و منها إلى المعادن، و منها النباتات، و منها

______________________________

(1) فصلت: 11.

(2) فصلت: 12.

(3) النحل: 68.

(4) طه: 50.

(5) بحار الأنوار ج 14 ط. القديم ص 79.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص:

396

إلى الملئكة، و منهم إلى الجانّ، و منهم إلى الإنسان.

ثانيهما الوحي التشريعي المتعلّق بإفاضة العلوم و الحقائق و الأحكام المتعلقة بتكوين الشرع و شرع الكينونة و إن كانت التسمية تومي إلى الإختصاص فإنّ التعبير مبني على التغليب، و لذا قيل بل قد ورد في الأخبار: أنّ مبدء كثير من العلوم الحكمية العقليّة و الصناعيّة هو الوحي من اللّه سبحانه و إنّه كان ذلك بتعليم الأنبياء كالطبّ و النجوم، و الرمل، و الأعداد، و الحروف بل اشتغل كثير منهم بكثير من الصناعات و لعلّه على وجه الإلهام و الاعلام كاشتغال أبينا آدم على نبينا و آله و عليه السّلام بالفلاحة، و إدريس بالخياطة، و نوح بالنجارة، و على كل حال فقد يقال: إن الوحي قسمان: جلّي و خفي، فالجلّي ما كان بواسطة سفير يبلّغه سواء كان ذلك السفير مرئيا مواجها له في سفارته و تبليغه كأن يرى الشخص و يسمع الصوت كما لخصوص أولى العزم أو لغيرهم من المرسلين أيضا أو لم يكن مرئيا له كأن يسمع الصوت و لا يرى الشخص كما في كثير من الأنبياء.

و لذا قد يفرّق بين الرسول و النبيّ بأنّ الرسول هو المخبر عن اللّه تعالى بغير واسطة أحد من البشر، و له شريعة مبتدئة كآدم على نبينا و آله عليه السّلام أو ناسخة كنبينا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بأنّ النبيّ هو الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يرى الملك، و الرسول هو الذي يسمع الصوت و يرى في منامه و يعاين، و بأنّ الرسول قد يكون من الملائكة كما قال سبحانه: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «1»، و من الناس بخلاف النبيّ،

و الخفي ما لم يكن بواسطة السفير،

______________________________

(1) الحج: 75.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 397

و هو إمّا إلهام في اليقظة أو رؤيا في المنام صريح لا يحتاج إلى التفسير أو تلويح يؤوّل بالتعبير، و هذا القسم من الوحي يكون للأنبياء كما

ورد عن الصادق عليه السّلام قال: الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات فنبيّ منبأ في نفسه لا يعد و غيرها، و نبي يرى في المنام و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد عليه امام مثل ما كان لإبراهيم عليه السّلام على لوط عليه السّلام، و نبيّ يرى في منامه و يسمع الصوت و يعاين الملك و قد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس عليه السّلام قال تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «1»

، و عليه إمام، و نبي يرى في منامه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة و هو امام مثل أولي العزم و قد كان إبراهيم على نبيّنا و آله عليه السّلام نبيا و ليس بإمام حتى قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي «بأنه يكون في ولده كلهم» قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «2».

و يكون للأوصياء أيضا خصوصا للأئمة الطاهرين- صلوات اللّه عليهم أجمعين- الذين هم بعد نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من سائر الأنبياء و المرسلين و الملئكة المقربين.

ففي «إرشاد» المفيد «3» و «الاحتجاج» عن مولينا الصادق عليه السّلام قال:

______________________________

(1) سورة الصافات: 147.

(2) سورة البقرة: 124.

(3) الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري، أبو عبد اللّه، و يعرف بابن المعلم: محقق مدقق، فقيه، انتهت اليه رياسة الشيعة في عصره، ولد في عكبرا (على عشرة فراسخ من

بغداد) سنة 336، و توفي ببغداد سنة 413، و له نحو مأتي مصنف منها الإرشاد في تاريخ النبيّ (ص) و الزهراء و الائمة عليهم السّلام،

قيل: إنه وجد مكتوب بعد دفن المفيد على لوح قبره من الامام الثاني عشر الحجة القائم عجل اللّه تعالى فرجه فيه هذه الأبيات: تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 398

علمنا غابر و مزبور و نكت في القلوب و نقر في الأسماع، و إنّ عندنا الجفر الأحمر و الجفر الأبيض مصحف فاطمة عليها السّلام، و عندنا الجامعة، فيها جميع ما يحتاج إليه، فسئل عن تفسير هذا الكلام فقال عليه السّلام: أمّا الغابر فالعلم بما يكون و أمّا المزبور فالعلم بما كان، و أمّا النكت في القلوب فهو الإلهام، و أمّا النقر في الأسماع فحديث الملئكة نسمع كلامهم و لا نرى أشخاصهم «1».

و

في «الامالي» عن الحرث النضري قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

الذي يسئل عنه الإمام و ليس عنده فيه شي ء من أين يعلمه؟ قال عليه السّلام:

ينكت في القلب نكتا أو ينقر في الاذن نقرا «2».

و

قيل له عليه السّلام: إذا سئل الامام عليه السّلام كيف يجيب؟ قال عليه السّلام: إلهام أو سماع و ربما كانا جميعا «3».

أقول: و أنت ترى أنّهما يدلان على وقوع السماع عن غير الأنبياء بل يظهر من أخبار أخر أنّ المشاهدة يقع منهم أيضا كما

رواه في «الأمالي» عن أبي حمزة قال:

______________________________

لا صوت الناعي بفقدك إنّه* يوم على آل الرسول عظيم إن كنت قد غيّبت في جدث الثرى* فالعدل و التوحيد فيك مقيم و القائم المهدي يفرح كلّما* تليت عليك من الدروس علوم

قال صاحب تفسير (الصراط المستقيم) في رجاله (نخية المقال) في ترجمة المفيد: و شيخنا المفيد بن محمّدعدل

له التوقيع هاد مهتد

أستاذه صدوق السعيدو بعد عزّ رحم المفيد

(1) الإرشاد ج 2 ص 180 ط. طهران مطبعة الحيدرية.

(2) بحار الأنوار ج 7 ط. القديم ص 279 عن أمالي ابن الشيخ.

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 279 ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 399

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ منّا لمن ينكت في قلبه، و إنّ منّا لمن يؤتى في منامه، و إن منّا لمن يسمع الصوت مثل صوت السلسلة في الطست، و إن منا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرئيل و ميكائيل «1»

، و

قال عليه السّلام: منا من ينكت في قلبه، و منّا من يقذف في قلبه، و منّا من يخاطب «2»

، و

قال (عليه السّلام): إنّ منا لمن يعاين معاينة، و إنّ منّا لمن ينقر في قلبه كيت و كيت، و إنّ منّا لمن يسمع كما تقع السلسلة في الطست، قال قلت و الذي يعاينون ما هو؟ قال: عليه السّلام: خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل «3».

و

في «البصائر» في الصحيح عن زرارة قال: دخلت عليه و في يده صحيفة فغطّاها عنّي بطيلسانه ثم أخرجها فقرأها علي: إنّ ما يحدّث به المرسلون كصوت السلسلة أو كمناجاة الرجل صاحبه «4».

و

فيه في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام قال عليه السّلام: كان علي عليه السّلام يعمل بكتاب اللّه و سنّة نبيه فإذا أورد عليه الشي ء الحادث الذي لا في الكتاب و لا في السنّة ألهمه اللّه الحقّ فيه إلهاما، و ذلك و اللّه من المعضلات «5».

و

فيه عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّا نزداد في الليل و النهار و لو لا أن نزداد

لنفد ما عندنا، فقال أبو بصير: جعلت فداك من يأتيكم؟ فقال عليه السّلام: إنّ منّا يعاين معاينة، و منّا من ينقر في قلبه كيت

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 279 ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

(2) نفس المصدر السابق.

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 279 ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

(4) بحار الأنوار ج 7 ص 280 ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

(5) بحار الأنوار ج 7 ص 288 ط. القديم عن بصاير الدرجات. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 400

تفسير الصراط المستقيم ج 1 449

و كيت، و منّا من يسمع بأذنه وقعا كوقع السلسلة في الطست، قال: قلت: جعلني اللّه فداك من يأتيكم بذاك؟ قال عليه السّلام: هو خلق أكبر من جبرئيل و ميكائيل «1».

و

فيه عن علي بن يقطين قال: سئلت أبا الحسن عليه السّلام عن شي ء من أمر العالم فقال عليه السّلام: نكت و نقر في الأسماع و قد يكونان معا «2».

و

فيه عنه عليه السّلام: علم عالمكم سماع أو إلهام؟ قال عليه السّلام: يكون سماعا و يكون إلهاما و يكونان معا «3».

و

فيه عن علي بن السائي «4» قال: سئلت الصادق عليه السّلام عن مبلغ علمهم، فقال عليه السّلام: مبلغ علمنا ثلثة وجوه: ماض و غابر و حادث، فأمّا الماضي فمفسر، و أما الغابر فمزبور و أما الحادث فقذف في القلوب، و نقر في الأسماع و هو أفضل علمنا، و لا نبيّ بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،.

و فيه إشارة الى أن هذه العلوم على الوجوه المذكورة لا تستلزم النبوّة فإنّها تحصل لغير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أيضا حسبما تأتي اليه الاشارة.

و

فيه و في «الإختصاص» عن

عبد اللّه بن النجاشي عنه عليه السّلام قال: فينا و اللّه من ينقر في أذنه، و ينكت في قلبه، و تصافحه الملئكة، قلت كان أو اليوم؟ قال

______________________________

(1) نفس المصدر السابق.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 289 ط. القديم عن بصاير الدرجات.

(3) نفس المصدر السابق.

(4) السائي: نسبة إلى ساية و هي قرية من قرى المدينة أو من مكة، و المراد به هو علي بن سويد السائي، عدّه الشيخ من أصحاب الصادق عليه السّلام و وثّقه و عدّه المفيد في الإختصاص من أصحاب الكاظم عليه السّلام. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 401

عليه السّلام: بل اليوم قلت: كان أو اليوم؟ قال عليه السّلام: بل اليوم و اللّه يا بن النجاشي حتى قالها ثلثا «1».

و

فيهما عن الحرث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما علم عالمكم جملة يقذف في قلبه أو ينكت في اذنه؟ قال: فقال عليه السّلام: وحي كوحي أمّ موسى «2».

و

في «البصائر» عن محمّد بن الفضيل، قال قلت لأبي الحسن عليه السّلام:

روينا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: إنّ علمنا غابر و مزبور و نكت في القلوب، و نقر في الأسماع قال: عليه السّلام: أمّا الغابر فما تقدّم من علمنا، و أمّا المزبور فما يأتينا، و أمّا النكت في القلوب فإلهام، أو النقر في الأسماع فإنّه من الملك «3».

و

روي زرارة مثل ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: كيف يعلم إنّه كان من الملك و لا يخاف أن يكون من الشيطان إذا كان لا يرى الشخص؟ قال عليه السّلام: إنّه يلقى عليه السكينة فيعلم أنّه من الملك و لو كان من الشيطان اعتراه فزع، و إن كان الشيطان يا

زرارة لا يتعرّض لصاحب هذا الأمر «4».

أقول: و مع عدم تعرّض الخبيث للإمام عليه السّلام إنّما تعرّض عليه السّلام لبيان الفرق تنبيها على بيان الفرق بين الخواطر الملكية و الشيطانية الواردة على قلوب سائر الناس حسبما تأتي إليها الإشارة.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ص 289 ط. القديم عن بصاير الدرجات.

(2) نفس المصدر السابق.

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 289 ط. القديم عن بصائر الدرجات.

(4) نفس المصدر السابق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 402

و

في «الأمالي» و «البصائر» عن الصّادق عليه السّلام: كان علي عليه السّلام محدّثا و كان سلمان محدّثا، قال: قلت: فما آية المحدّث؟ قال عليه السّلام يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت و كيت «1».

و

في «البصائر» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: الاثنى عشر الأئمّة من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله كلّهم محدّث قيل و من يحدّثهم؟ قال عليه السّلام: ملك، قيل و ما منزلتهم أ أنبياءهم؟ قال عليه السّلام: لا و لكنّهم علماء كمنزلة ذي القرنين و صاحب موسى و صاحب سليمان «2».

و المراد بصاحب موسى يوشع أو الخضر، و قد ورد التصريح بكلّ منهما في بعض الأخبار، و التشبيه لمجرد متابعة نبيّ آخر مع سماع الوحي، فلا ينافي ذلك في فضل رتبة الأئمة عليهم السّلام، عليهم و لا لحوق النبوّة و سبقها في صاحبي موسى.

و

فيه سئل بريد العجلي مولينا الصادق عليه السّلام عن الفرق بين الرسول و النبيّ و المحدّث قال (عليه السّلام): الرسول الذي تأتيه الملئكة و يعاينهم و تبلّغه عن اللّه تبارك و تعالى، و النبيّ الذي يرى في منامه فما رأى فهو كما راى و المحدّث الذي يسمع كلام الملك، و ينقر في اذنه و ينكت في قلبه

«3».

و

فيه عن الأحول قال: سمعت زرارة يسئل أبا جعفر عليه السّلام عن الرسول و النبيّ و المحدّث فقال عليه السّلام: الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ص 291 ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ و البصائر.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 292 و ص 293 عن البصائر، و لا يخفى أن الحديث مركّب من حديثين صدره كما في البحار مرويّ عن الباقر (عليه السّلام) و ذيله عن الصادق (عليه السّلام).

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 293 ط. القديم عن بصاير الدرجات. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 403

يكلّمه فهذا الرسول، و أمّا النبيّ فإنّه يرى في منامه على نحو ما رأى إبراهيم عليه السّلام و نحو ما كان رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل عليه السّلام من عند اللّه بالرسالة و كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين جمع له النبوّة و جائته الرسالة من عند اللّه يجيئه بها جبرئيل و يكلّمه بها قبلا، و من الأنبياء من جمع له النبوّة و يرى في منامه يأتيه الروح فيكلّمه و يحدّثه من غير أن يكون رأه في اليقظة و أمّا المحدّث فهو الذي يحدّث فيسمع و لا يعاين و لا يرى في منامه «1».

و

عنه عن الصادق عليه السّلام قال عليه السّلام: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربّه يقول: يأمرك بكذا و كذا و الرسول يكون نبيّا مع الرسالة، و النبيّ لا يعاين الملك ينزل عليه النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علّمه أنّ الذي راى في منامه حق؟ قال عليه

السّلام: يبينه اللّه حتى يعلم أنّ ذلك حق و لا يعاين الملك، و المحدّث الذي يسمع الصوت و لا يرى شاهدا «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ستسمع كثيرا منها عند التعرّض لتفسير بعض الآيات، نعم في المقام مباحث لا بدّ من التنبيه عليها:

أحدها قد سمعت أنّ الوحي يطلق لغة بل و عرفا عاما و خاصّا في الكتاب و السنّة على الكلام الخفي بل مطلق ما أريد به إفهام الغير و إعلامه مما يتعلّق به أو بغيره سترا له عن غيره، و تخصيصا له به دون من سواه لكن ذكر المفيد في شرح «عقائد الصدوق» بعد الإشارة إلى ذلك أنّه إذا أضيف إلى اللّه تعالى كان فيما يخص

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ص 293 ط. القديم عن البصائر.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 294 ط. القديم عن البصائر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 404

به الرّسل صلوات اللّه عليهم خاصّة دون من سويهم على عرف الإسلام و شريعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اللّه تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ «1».

فاتّفق أهل الإسلام على أنّ الوحي كان رويا مناما و كلاما سمعته امّ موسى على الإختصاص، و قال تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «2»، يريد به الإلهام الخفي إذ كان خالصا لمن أفرده دون ما سواه فكان علمه حاصلا للنحل بغير كلام جهر به المتكلّم فأسمعه غيره «3»، و قال تعالى: وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ «4»، بمعنى يوسوسون إلى أوليائهم بما يلقونه من الكلام في أقصى أسماعهم فيخصّون بعلمهم دون من سواهم، و قال تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ «5»، يريد به إشارة

إليهم من غير إفصاح الكلام شبّه ذلك بالوحي لخفائه عن سوى المخاطبين و لستره عن سواهم، و قد يري اللّه تعالى في المنام خلقا كثيرا ما يصحّ تأويله و يثبت حقّه لكنّه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي، و لا يقال في هذا الوقت لمن اطلعه اللّه على علمهم شي ء أنّه يوحي اليه.

و عندنا أنّ اللّه تعالى يسمع الحجج بعد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلاما يلقيه إليهم أي الأوصياء في علم ما يكون، لكنّه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدّمناه من إجماع المسلمين على أنّه لأوحى لأحد بعد نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنه لا يقال في شي ء مما ذكرناه أنّه أوحي إلى أحد، و للّه تعالى أن يبيح إطلاق الكلام

______________________________

(1) القصص: 7.

(2) النحل: 68.

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 295 عن شرح عقائد الصدوق للمفيد.

(4) الانعام: 121.

(5) مريم: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 405

أحيانا و يخطره أحيانا، و يمنع التسمية بشي ء حينا و يطلقها حينا فأمّا المعاني فإنّها لا تغيير عن حقائقها «1».

و عنه في «كتاب المقالات» «2»، أن العقل لا يمنع من نزول الوحي إليهم عليهم السّلام و إن كانوا أئمه غير أنبياء اللّه تعالى فقد أوحي اللّه (عزّ و جل) إلى أمّ موسى أن أرضعيه الآية، فعرفت صحة ذلك بالوحي و عملت عليه و لم تكن نبيا و لا رسولا و لا إماما و لكنّها كانت من عباد اللّه الصالحين و إنّما منعت نزول الوحي و الإيحاء بالأشياء إليهم للإجماع على المنع من ذلك و الاتّفاق على أنه من زعم أن أحدا بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم يوحى إليه فقد أخطأ و كفر، و لحصول العلم بذلك من دين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما أنّ العقل لم يمنع من بعثة نبيّ بعد نبينا صلّى اللّه عليه و آله و نسخ شرعنا كما نسخ ما قبله من شرايع الأنبياء عليهم السّلام، و إنّما منع ذلك الإجماع و العلم بأنّه خلاف دين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جهة اليقين و ما يقارب الاضطرار، و الإمامية جميعا على ما ذكرت ليس بينها فيها على ما وصفت خلاف «3».

أقول: و كانّه رحمة اللّه عليه أراد بما تكلّفه من الكلام التقصّي عمّا ربما يورد في المقام من الإشكال الذي حاصله أنّه إن كان المراد بالوحي الذي يتحقّق به النبوة لصاحبه خصوص الوحي التأسيسى الشرعي الذي يكون بمشاهدة الملك و مشافهته في اليقظة كما كان يحصل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحيانا فقضية ذلك

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ص 295 ط. القديم عن شرح عقائد الصدوق للمفيد.

(2) أوائل المقالات في المذاهب المختارات للمفيد فيه مباحث مختلفة كلامية.

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 295 عن أوائل المقالات للمفيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 406

عدم ثبوت النبوّة لكثير من الأنبياء بل لأكثرهم فإنّ الوحي إلى أكثر الأنبياء لم يكن على وجه التأسيس بل لإظهار الشريعة السالفة و تقويتها، و تبيينها لا لنسخها مع أنّ الوحي إلى كثير منهم بل أكثرهم لم يكن برؤية الشخص بل ربما كانوا لا يرون شخص الملك و إنّما يسمعون الصوت، و ربما لم يكن هناك سماع و إنّما هو مجرد القذف و النكت و الإلهام أو الرؤية في المنام، و إن كان

المراد به مطلق الإنباء عن اللّه سبحانه بأيّ وجه حصل فقضيّة ذلك إثبات النبوة للائمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين إذ المستفاد من الأخبار الكثيرة المتقدمة التي لا يخفى استفاضتها بل تواترها حصول العلم لهم عليهم السّلام بضروب من الوحي و الإلهام كالنكت في القلوب، و النقر في الأسماع، و سماع صوت الملك و مشاهدته.

و لذا

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) لأمير المؤمنين (عليه السّلام) على ما روتها الخاصّة و العامة و هو بعينه مذكور في القاصعة من «نهج البلاغة»: يا علي إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبيّ، و لكنك لوزير و إنّك لعلى خير «1».

و

روي الحسن بن سليمان في كتاب «المختصر» مسندا عن الرّضا عليه السّلام في حديث طويل قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام في كلام له: و إن شئتم أخبرتكم بما هو أعظم من ذلك، قالوا فافعل، قال عليه السّلام: كنت ذات ليلة تحت سقيفة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إني لا حصي ستّا و ستّين وطئة من الملئكة كلّ وطئة من الملئكة أعرفهم بلغاتهم و صفاتهم و أسمائهم و وطئهم «2».

إلى غير ذلك مما يدلّ على أنّهم محدّثون ملهمون، بل قد دلّ بعض الأخبار

______________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة 234.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 296 ط. القديم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 407

على أنّ بعض شيعتهم كسلمان من المحدّثين أيضا.

و حاصل ما أفاده المفيد (رحمه اللّه) في الجواب أنّ النبوة إنّما هو بمطلق الوحي كان يطلق أوّلا على مجرد الاعلام و الإفهام من اللّه سبحانه على أحد من الوجوه إلّا أنه قد ورد النهي عن إطلاقه على

غير الوحي التأسيسى المختصّ بالأنبياء صلّى اللّه عليهم أجمعين، و هو كما سمعت في ظاهر كلامه هّين لا يعود الى محصّل سوى البحث اللفظي الّذي مرجعه إلى منع إطلاق اللفظ عند الشارع على معنى في وقت آخر و هو كما ترى.

و شيخنا المجلسي رحمه اللّه بعد ما ذكر استنباط الفرق بين النبيّ و الإمام من الأخبار المتقدمة لا يخلو من إشكال قال: و الذي يظهر من أكثرها هو أنّ الامام لا يرى الحكم الشرعي في المنام و النبيّ قد يراه فيه، و أمّا الفرق بين الإمام و النبيّ و بين الرسول هو أنّ الرسول يرى الملك عند إلقاء الحكم و النبيّ غير الرسول، و الإمام لا يريانه في تلك الحال، و إن رأياه في سائر الأحوال و يمكن أن يختصّ الملك الذي لا يريانه بجبرئيل عليه السّلام و يعمّ الأحوال، لكن فيه أيضا منافاة لبعض الأخبار.

و مع قطع النظر من الأخبار لعلّ الفرق بين الأئمّة عليه السّلام و غير أولى العزم من الأنبياء أنّ الأئمة عليهم السّلام نوّاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يبلّغون إلا بالنيابة، و أمّا الأنبياء و إن كانوا تابعين لشريعة غيرهم لكنهم مبعوثون بالأصالة، و إن كانت تلك النيابة أشرف من تلك الأصالة، و بالجملة لا بد لنا من الإذعان بعدم كونهم عليهم السّلام أنبياء و بأنهم أفضل و أشرف من غير نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأنبياء و الأوصياء و لا نعرف جهة لعدم اتّصافهم بالنبوة إلّا رعاية جلالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يصل عقولنا إلى

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 408

فرق بين النبوّة

و الإمامة «1».

أقول: ما ذكره في الفرق بين الرّسول و بين غيره من النبيّ و الامام و إن سبقه فيه غيره، بل و لحقه الأحسائي في شرح الزيارة «2»، حيث ذكر أنّ الائمة عليهم السّلام يسمعون صوت الوحي من الملك و لا يرون شخصه من حين ينزل بالوحي، و في غير هذه الحال يرونهم و يقعدون معهم، و يخبرونهم بكل ما يسألونهم و يرونهم حتى يأتون بأحكام القضاء و الإمضاء الذي هو بيان ما تنزل به الوحي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا إنّهم يسمعون الصوت و لا يرون الشخص فالمراد أنّهم إذا نزل الوحي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأمر من الأمور فإنّهم يسمعون ما يسمع و لا يرون شخص الملك الذي ينزل بالوحي التأسيسي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّ السماع و الرؤيا معا أعظم مظاهر الحق و أظهر لا تصلح إلّا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلّا أنّه بإطلاقه غير صحيح و إن صحّ في الجملة بالنسبة إلى بعض

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 ص 295 ط. القديم.

(2) الاحسائي الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي البحراني، قال الخوانساري في حقّه: ترجمان الحكماء و المتألهين، و لسان العرفاء و المتكلّمين، اختلفوا في حقّه بعضهم أثنوا عليه و أفرطوا و بعضهم طعنوا عليه و فرّطوا، له تأليفات منه شرح الزيارة الجامعة.

ولد سنة 1166 و توفي بالمدينة سنة 1242 و دفن بالبقيع، قال صاحب الصراط المستقيم في نحبة المقال في ترجمته: الشيخ أحمد بن زين الدين ذو العلم و الشهود و اليقين

فوّارة النور جليل أمجدبعد دعاء رحم الشيخ أحمد

76

1242

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 409

الأنبياء و أوصيائهم لكنّه لا يصحّ بالنسبة إلى نبيّنا و وصيه الذي هو مصبّ كلامه، فإنّ الشرافة و الفضلية لهما ليست بسماع صوت الملك كي يفرّق بينهما باختصاص الأوّل بشرف الرؤية حفظا للمرتبة، بل قد سمعت أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قد تلقّى القرآن من لدن حكيم عليم من دون توسط أحد من الملائكة و الروحانيين، و كيف يتوسط الأدنى للأعلى و الرعية للسلطان، و الخادم للمخدوم، بل كيف تستنير الشمس من الأرض التي أشرقت عليها.

و ما ذكرناه لائح لا ستر فيه لمن تأمّل في الأخبار و الآثار المأثورة عنهم، بل

ذكر الصدوق في اعتقاداته موافقا لما حكينا روايته عنه سابقا عن «إكمال الدين» أنّ الغشوة التي كانت تأخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّها كانت عند مخاطبة اللّه (عز و جل) إيّاه حتى يثقل و يعرق و أمّا جبرئيل فإنّه كان لا يدخل عليه حتى يستأذنه إكراما له، و كان يقعد بين يديه قعدة العبد «1».

و

في التوحيد عن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل عليه الوحي؟

فقال عليه السّلام: ذلك إذا لم يكن بينه و بين اللّه أحد ذاك إذا تجلّى اللّه له، ثم قال عليه السّلام: تلك النبوّة يا زرارة و أقبل بتخشّع «2».

و

في المحاسن عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أتاه الوحي من اللّه و بينهما جبرئيل يقول: هو ذا

______________________________

(1) كمال الدين: 51- و بحار الأنوار ج

18 ص 260 ط. الاخوندي بطهران.

(2) بحار الأنوار ج 18 ص 256 ط. الاخوندي بطهران. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 410

جبرئيل و قال لي جبرئيل، و إذا أتاه الوحي و ليس بينهما جبرئيل تصيبه سبتة «1» و يغشاه منه ما يغشاه لثقل الوحي عليه من اللّه (عز و جل) «2».

و

في «الأمالي» عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه قال: قال بعض أصحابنا:

أصلحك اللّه أ كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: قال جبرئيل و هذا جبرئيل يأمرني ثم يكون في حال اخرى يغمى عليه؟ قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّه إذا كان الوحي من اللّه إليه ليس بينهما جبرئيل أصابه ذلك لثقل الوحي من اللّه، و إذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك فقال: قال لي جبرئيل و هذا جبرئيل «3».

بل الظاهر

من النبويّ المتقدّم: (يا علي إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى، إلّا أنّك لست بنبي و لكنّك لوزير) «4»

، أنّه عليه السّلام يسمعه و يراه في زمان سماع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و رؤيته.

و لعلّه الظاهر أيضا مما

رواه ابن أبي الحديد في «شرح النهج» عن مولينا الصادق عليه السّلام أنّه قال: كان علي عليه السّلام يرى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل الرسالة الضوء و يسمع الصوت، و قال عليه السّلام له عليه السّلام: لو لا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوّة، فإن لا تكن نبيا فإنّك وصيّ نبيّ و وارثه، بل أنت سيّد الأوصياء، و إمام الأتقياء «5».

______________________________

(1) سبت يسبت من باب قتل و سبت بالبناء للمفعول غشي عليه.

(2) المحاسن: 338 و بحار الأنوار

ج 18 ص 271 ط. الاخوندي بطهران.

(3) أمالي الشيخ: 49- و بحار الأنوار ج 18 ص 268 الاخوندي بطهران.

(4) نهج البلاغة الخطبة 234.

(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 254.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 411

و

في «البصائر» عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان جبرئيل يملي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يملي على علي عليه السّلام، فنام نومة و نعس نعسة فلمّا رجع نظر إلى الكتاب فمدّ يده قال من أملى هذا عليك؟ قال: أنت قال: لا بل جبرئيل عليه السّلام «1».

و بالجملة فالتحقيق الفرق بالأصالة و التبعية في الأمرين معا، أمّا في المتلقّيات اللدنيّة فلأنّ الوصيّ يستمدّ من مشكوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استمداد المرآة المحاذية للشمس، و لذا

كان عليه السّلام يقول: أنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالصنو من الصنو، و كالذراع من العضد «2».

و أمّا جبرئيل و إسرافيل و روح القدس و غيرهم من الروحانيّين و المقّربين الحاملين لوحي ربّ العالمين فإنّهم يتلقّون أنوار العلم و الوحي في هذه السلسلة من مشكوة آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما ورد في الأخبار الكثيرة الدالّة على تقدّم أنوارهم و أرواحهم و استضائة سائر الأرواح من أنوارهم و أشباحهم.

و

رأيت بخط القاضي سعيد القمي تلميذ المحدث الفيض الكاشاني أنه وجد مكتوبا بخط الإمام أبي محمد العسكري عليه السّلام: قد صعدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوّة و الولاية، و نوّرنا سبع طرائق بأعلام الفتوّة و الهداية.

إلى قوله عليه السّلام فالكليم ألبس حلّة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء و روح القدس في جنان الصاغورة ذاق من

حدائقنا الباكورة «3»

و أمّا في التّلقّيات

______________________________

(1) بصائر الدرجات: 93، و بحار الأنوار ج 18 ص 270.

(2) نهج البلاغة: كتاب إلى عثمان بن حنيف الانصاري، و هو عامله على البصرة.

(3) بحار الأنوار: ج 17 ص 298 ط القديم عن الدرة الباهرة عن بعض الثقات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 412

الإيحائية الملكية الظاهرية فلأنّ الخطاب فيها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان وصيّه أيضا يرى الملك و يسمعه عند نزوله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فضلا عن سائر الأوقات أيضا، و فضل النبوة حينئذ للأصيل المخاطب لا التابع المستمع، ثمّ لا يخفى أنّ التابع المتّصل المستنير من مشكوة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل بكثير من ساير الأنبياء و المرسلين المتشرّفين بشرف الوحي التأصّلي الابتدائي كما هو المستفاد من الأخبار المتواترة التي مرت الى بعضها

______________________________

قال الخوئي إبراهيم بن الحسن بن الغفار في كتابه (الأربعين): الحديث السابع و الثلاثون ما نقل عن «الدرة الباهرة من الاصداف الطاهرة» في كلام أبي محمد العسكري: و أسباطنا خلفاء الدين، و خلفاء اليقين، و مصابيح الأمم، و مفاتيح الكرم، و الكليم البس حلّة الاصطفاء، لما عهدنا منه الوفاء، و روح القدس في الجنان الصاغورة ذاق من حدائقنا الباكورة.

(اللغة) الباكورة أوّل كلّ شي ء و أوّل الفاكهة، قال بعض الأفاضل:

قوله عليه السّلام: مفاتيح الكرم

يراد به كونهم محاّل ذلك الكرم فعنهم يصل إلى غيرهم فلذلك كانوا مفاتيح الكرم، و كذا

قوله عليه السّلام الكليم البس حلّة الاصطفاء

يعني أنّ موسى لما عهدنا اليه بولايتنا و التسليم لنا و الرد إلينا فأجاب و وفى لنا و عهدنا ذلك منه و جعلناه من

المصطفين الأخيار و روح القدس المعبّر عنه بالعقل الأول عند الحكماء و بالعقل و القلم و الحجاب الأبيض و ما أشبه ذلك عند أهل الشرع أوّل باكورة من ثمار الجنان التي غرسنا بأيدينا فإن تلك الحدائق التي في الجنان الصاغورة غرس فيها من كل شي ء فأوّل ما نبت روح القدس، و معناه ظاهر أنه لما أفاض الوجود على أرض القابليات كان أوّل من وجد هو العقل الأول المسمى بروح القدس، و معنى

قوله عليه السّلام: في الجنان الصاغورة

أي في أعلى عليين في الجنان و المراد بها هنا العرش لأنه هو سقف الجنان و هو من الوجود كالقحف من الدماغ و كان روح القدس أوّل من وجد في الجنة و الجنة أول الموجودات و الباكورة أوّل الثمرات، و المراد أن أوّل من قبل الإيجاد روح القدس و هو ذوقة الباكورة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 413

الاشارة، و اليه الإشارة بقول شيخنا المجلسي في كلامه المتقدّم أن تلك النيابة أشرف من تلك الأصالة.

و أمّا تحقيق مقام النبوة و الولاية و الوصاية و تقسيمها إلى الظاهرية و الباطنية و إلى مقام التشريع و التكوين، و إلى المطلقة و المقيّدة، و بيان الفضل و الفرق بين تلك المراتب فمما لا يسعها المقام و لعلّنا نتكلّم فيها إنشاء اللّه في مقام أليق.

في أقسام الوحي

ثانيها في أقسام الوحي و مراتبه، اعلم أنّه إذا تجرّدت النفس الانسانية من العلايق البدنية و الشهوات النفسانية، و أعرضت عن الإشتغال بدواعي البدن من الشهوة و الغضب و الحس و التخيل، و توجّهت كليا اتصاليا، إراديا، طبيعا، أو تطبيقيا تلقاء عالم الملكوت الأعلى، اتّصلت بالمبادي العالية النورانية الجوّالة في أفق القدس و سرادق الأنس، ففازت بالسعادة القصوى و

رأت من عجائب الملكوت الأعلى التي هي آيات ربّه الكبرى، فاذا كانت النفس قدسية، شديدة القوة و الاستعداد، قويّة الانسلاخ من مقتضيات المواد، و ساعدتها المشية الربانية في نيل المراد، و استنارت بالتجلّيات الإلهية، و الفيوض القدسية، و استعدّت للاشراق على ما دونها من المراتب السفلية فبقوّتها تضبط الطرفين، و تسقي الجانبين، و تتمكن في الحد المشترك بين الأمرين، فلا يشغلها شأن من شأن، و لا تصرفها نشأة من نشأه، فتستعدّ حينئذ لمقام النبوة و الرسالة التي هي السفارة الكبرى من الحق الى الخلق، و الخلافة العظمى للخلق من الحقّ، فأوّل ما يبدو حينئذ من التجليّات، و يتنسّم عليه من طيب النفحات، و هو ما سميّ في لسان الشارع المبشّرات.

و لذا

ورد أنّه أوّل ما بدء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الوحي

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 414

الرؤيا فكان لا يرى إلا خرجت مثل فلق الصبح «1»

و حيث إنّه عليه السّلام خصّه اللّه تعالى بالكمال في كلّ فضيلة فله من الوحي أنواعه و ضروبه، لأنّه قد أوتي جوامع الكلم و كان في الرتبة الأعلى من الإمكان، و لما بدي ء في وحيه عليه السّلام بالرؤيا ستة أشهر علمنا أنّ بدي ء الوحي الرؤيا و أنّها جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة لكونها ستة أشهر، و كانت نبوته ثلثا و عشرين، فستة أشهر جزء من ستة و أربعين، كذا فسّر الخبر المشهور.

و فيه تكلّف ظاهر، لأنّه بانضمام هذا الجزء يكون من سبعة و أربعين إلا ان يقال: إنّ الأخيرة لم تكن سنة تامة بل نصف سنة.

و لذا

ورد أيضا في خبر آخر أنهّا جزء من خمسة و أربعين جزء من النبوة،

لكنّه لا

يخفى عليك أنّه تكلّف من تكلّف بل مخالف لما هو المنساق من ظواهر الأخبار الدالّة على أنّ رأى المؤمن و رؤياه في آخر الزمان جزء من سبعين جزء من النبوة.

و

في بعض الأخبار أنّها على الثلث

حيث ظاهرها إنّما هو القرب منها في الإصابة لا في المدّة و أنّه كذلك بالنسبة إلى كلّ مؤمن لا بالنسبة اليه خاصة إلى غير ذلك مما سنشير اليه في آية البشرى «2»، ثم لا يخفى أنّه لا يلزم أنّ بدأ الوحي لكل نبي كذلك إذ قد أوحى إلى بعض الأنبياء ابتداء من غير تقدّم الرؤيا، لكنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما بدي ء بالرويا قلنا: إنّها بدؤ الوحي لأنّه مقتضى كما له الذي يقتضيه مقامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هي الباقية من أجزاء النبوة في آخر الزمان بعد انقطاع الوحي و اختتام النبوّة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 194، ط. الاخوندي بطهران، عن المناقب لابن شهر آشوب.

(2) لهم البشرى في الحيوة الدنيا و في الآخرة: يونس: 64.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 415

ثم إنّه إذا انفتح باب النبوّة فقد تكون أيضا بالرؤيا الصادقة التي معها برهان من اللّه تعالى على صدقها، و الفرق أنّها حينئذ قد تكون على وجه الشرائع دون ما كانت قبلها فإنّها من مبادئ النبوّة و أجزائها، و تكون بالقذف في القلب من غير سماع و لا مشاهدة، و أمّا العلم بأنّ الوارد القلبي إنّما هو من اللّه سبحانه و أنّه يجب العمل بمقتضاه على فرض كونه من التشريعات فإنّما يحصل لأهله من الأنبياء و المحدّثين بعلم ضروري يقذفه اللّه تعالى في قلوبهم.

و اليه الإشارة بما رواه

في التوحيد عن الصادق عليه

السّلام قال: ما علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ جبرئيل من قبل اللّه إلّا بالتوفيق «1».

و

في «تفسير العياشي» عن زرارة قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف لم يخف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يأتيه من قبل اللّه أن يكون ذلك مما ينزغ الشيطان به؟ فقال عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة و الوقار، فكان يأتيه من قبل اللّه مثل الذي يراه بعينه «2».

أقول: و هو المراد بفلق الصبح في الخبر المتقدم «3»، و ربما تسمع الفرق بين الخواطر الرحمانية و الشيطانية فيما يأتي من المكاشفات العرفانية.

و لعلّ الوجه في القذف أنّ مرآة القلب إذا حوذي بها شطر الحق بالشروط العديدة المتقدّمة انطبع فيها ما هو المقرّر في الواقع أو الثابت في الألواح الملكوتية بالأقلام الالهية من الأمور التشريعية، و الأسرار الحقيقية فكما أنّك إذا رأيت زيدا

______________________________

(1) التوحيد للصدوق: 246- و بحار الأنوار ج 18 ص 257 ط. الاخوندي.

(2) بحار الأنوار ج 18 ص 262 ط. الاخوندي بطهران.

(3) نفس المصدر السابق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 416

بعينه و شخصه رؤية حسيّة لا تشك في أنّك رأيته بشخصه بل لا تلتفت إلى الشك في ذلك لمبادرة اليقين، و مسارعته إلى قلبك، و كذلك إذا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شيئا بنظره الفؤادي فإنما رأى الحقيقية كما قال سبحانه: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «1».

و لعله إليه الإشارة فيما

ورد من أنّ الروح عمود من نور بين السماء و الأرض يرى الإمام فيه أعمال العباد «2».

إلّا أنّ هذا في غير التشريع و من جهة الإحاطة و الهيمنة التي

تقتضيها الولاية حسبما تأتي إليها الإشارة، و تكون أيضا بالنقر في الأسماع على الوجوه المختلفة التي منها المشيّة في الخبر بوقع السلسلة على الطست، و غير ذلك مما يرجع إلى المشاهدة الغيبيّة و الإدراكات اليقينية.

نعم

روى العيّاشي عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «3»، مخففة أنّه قال: ظنّت الرسل أنّ الشياطين تمثّل لهم على صورة الملائكة «4».

قال: و عن أبي شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و كلهم اللّه الى أنفسهم أقلّ من طرفة عين «5».

قال شيخنا المجلسي طاب ثراه بعد نقل الخبرين: لعلّ المراد أنّ اللّه تعالى

______________________________

(1) النجم: 11.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 307 ط. القديم.

(3) يوسف: 110.

(4) بحار الأنوار ج 7 ص 261 ط. الاخوندي بطهران عن العياشي.

(5) بحار الأنوار ج 17 ص 262 ط. الاخوندي بطهران عن العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 417

و كلهم إلى أنفسهم ليزيد يقينهم بأنّهم معصومون بعصمة اللّه فخطر ببالهم أنّ ما وعدوا من عذاب الأمم لعلّه يكون من الشياطين، فصرف اللّه عنهم ذلك، و عصمهم و ثبّتهم على اليقين بأن ما أوحى إليهم ليس للشيطان فيه سبيل «1».

أقول: و لعل الأولى ردّ علمه إليهم عليهم السّلام فإنّ المعلوم ممّا دلّ على عصمتهم من الكتاب و السنّة بل ضرورة المذهب أنّه ليس للشيطان سبيل عليهم أصلا حتى في مثل تلك الخطرة.

و بالجملة فجميع ضروب الوحي مشتركة في حصول العلم الضروريّ معه بكونه حقا منه سبحانه على ما مّرت إليه الإشارة و إن كانت مختلفة في كيفية نزوله.

قال في «المناقب» و أمّا كيفية نزول الوحي فقد سأله الحارث بن هشام كيف يأتيك الوحي؟ فقال

عليه السّلام: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشدّه علىّ فيفصم عنّي و قد وعيت ما قال، و أحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول.

و

روي أنّه كان إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل.

و

روي أنّه كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إنّ جبينه لينفصد عرقا.

و

روي أنّه كان إذا نزل عليه كرب لذلك و يربدّ وجهه و نكس رأسه و نكس أصحابه رؤسهم منه

، و منه يقال: برحاء الوحي أي شدّة الكرب من ثقله «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 17 ص 262 ط. الاخوندي بطهران عن العياشي.

(2) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 41 و بحار الأنوار ج 18 ص 261 ط. الاخوندي.

قال المجلسي بعد ذكر الأحاديث عن المناقب: بيان قال «في النهاية»: في صفة الوحي:

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 418

قال ابن عباس: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل عليه القرآن تلقّاه بلسانه و شفتيه كان يعالج من ذلك شدة فنزل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ «1»، و كان إذا نزل عليه الوحي وجد منه ألما شديدا، أو يتصدّع رأسه و يجد ثقلا و ذلك قوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «2»، قال: و سمعت أنّه نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستّين ألف مرة «3».

و

في تفسير العياشي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه كان من آخر ما نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شي فلقد نزلت عليه و هو على بغلته الشهباء و ثقل عليها الوحي حتى وقفت و تدلى

بطنها حتى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض و أغمي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى وضع يده على ذؤابة منبّه بن وهب الجمحي ثم رفع ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقرأ علينا سورة المائدة.

ثالثها في كيفية تلقّي الملك للوحي الالهي، و قد وردت الإشارة إليها في جملة من الأخبار:

ففي الخبر: إنّ جبرئيل عليه السّلام قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

كأنّه صلصلة على صفوان، الصلصلة: صوت الحديث إذا حرّك، و قال: فيفصم عني أي يقلع، و أفصم المطر للّه: إذا قلع، و قال فيه: كان إذا نزل عليه الوحي تفصد عرقا اي سال عرقه، تشبيها في كثرته بالفصاد و عرقا منصوب على التميز، و قال فيه: إذا أصابه الوحي كرب له، أي أصابه الكرب و اربدّ وجهه، أي تغير إلى الغبرة، و قال: البرح: الشدة، و منه

الحديث فأخذه البرحاء

أي شدّة الكرب من ثقل الوحي.

(1) القيامة: 16.

(2) المزمل: 5.

(3) مناقب آل أبي طالب 1: 41- و بحار الأنوار ج 18 ص 261 ط. الاخوندي. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 419

في وصف إسرافيل: هذا حاجب الربّ و أقرب خلق اللّه منه و اللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء فإذا تكلّم الربّ تبارك و تعالى بالوحي ضرب اللوح جبينه فنظر فيه ثم ألقي إلينا نسعى به في السموات و الأرض «1».

و

روي أيضا أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجبرئيل: من أين تأخذ الوحي؟ قال: آخذه من إسرافيل، قال من أين يأخذه؟ قال: يأخذه من ملك فوقه من الروحانيّين، قال من أين يأخذه ذلك الملك؟ قال يقذف في

قلبه قذفا «2».

و

ورد أيضا في كثير من الأسانيد من مولينا الصادق عليه السّلام و غيره من الأئمة عليهم السّلام روايتهم عن آبائهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن جبرئيل، عن ميكائيل، عن إسرافيل، عن اللوح، عن القلم، عن اللّه تبارك و تعالى قال: ولاية علي بن أبي طالب حصني، من دخله أمن من عذابي «3».

و قيل: و هذا الاختلاف منزّل على تعدّد الكيفيات، و أنّ المراد باللوح و القلم في هذا السند الملكان إذ قد ورد لهما في الأخبار معان متعددة.

و قال الصدوق- ره- في اعتقاداته: اعتقادنا في كيفية نزول الوحي من عند اللّه أنّ بين عيني إسرافيل عليه السّلام لوحا فإذا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يتكلّم بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فينظر فيه فيقرأ ما فيه فيلقيه إلى ميكائيل، و يلقيه

______________________________

(1) تفسير القمي: 389 و بحار الأنوار ج 18 ص 258.

(2) التوحيد: 269- و الاحتجاج: 127 و البحار ج 18: 257.

(3) بحار الأنوار: ج 9 ص 401، ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 420

ميكائيل إلى جبرئيل، و يلقيه جبرئيل إلى الأنبياء عليهم السّلام «1».

و قال الشيخ المفيد (قدس اللّه روحه) في شرح هذا الكلام: الذي ذكر أبو جعفر رحمه اللّه من اللوح و القلم و ما يثبت فيه فقد جاء به حديث إلّا أنّا لا نعزم على القول به و لا نقطع على اللّه بصحته، و لا نشهد منه إلّا بما علمناه، و ليس الخبر به متواترا يقطع العذر، و لا عليه إجماع و لا نطق القرآن به، و لا ثبت عن حجة اللّه تعالى فينقاد له، و الوجه أن نقف به

و نجوزه و لا نردّه و نجعله في حّيز الممكن، فأمّا قطع أبي جعفر به و علمه على اعتقاده فهو مستند إلى ضرب من التقليد و لسنا من التقليد في شي ء «2».

أقول أمّا ذكر القلم فكأنّه سهو من القلم إذ لم يجر له ذكر في عبارة الصدوق، و أمّا نسبته إلى التقليد فليست في محلّها فإنّ الصدوق أعرف بسند ما اختاره سيّما بعد نسبته إلى الامامية كما يستفاد من ظاهر كلامه، و طريق إثبات هذه المسائل التي هي من فروع الأصول غير منحصرة في الطرق القطعيّة الغير المتخلفة عن الواقع بل قد يثبت أيضا بمثل الأخبار المصحّحة المشتهرة المتكرّرة في أصول الامامية.

و بالجملة فعدم وصول الحجّة إلى الشيخ المفيد طاب ثراه ليس حجة على صدوق الطائفة فيما ادعّاه و نسبه إلى اعتقاده الامامية هذا مضافا إلى جملة من الأخبار الدالّة عليه مضافا إلى ما مرّ.

ففي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وصف إسرافيل هذا حاجب الربّ، و أقرب خلق اللّه منه

______________________________

(1) اعتقادات الصدوق: ص 100.

(2) تصحيح الاعتقادات: 57- و بحار الأنوار ج 18 ص 250 ط. الاخوندي. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 421

و اللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء، فإذا تكلّم الربّ تبارك و تعالى بالوحي ضرب اللوح جبينه، فنظر فيه ثمّ ألقى إلينا فنسعى به في السموات و الأرض، إنّه لأدنى خلق الرحمن منه، و بينه و بينه تسعون حجابا من نور يقطع دونها الأبصار ما لا يعدّ و لا يوصف، و إنّي لأقرب الخلق منه، و بيني و بينه مسيرة ألف عام «1».

و

فيه أيضا أنّه قال: اللوح المحفوظ له طرفان

طرف على يمين العرش و طرف على جبهة إسرافيل فإذا تكلّم الربّ جلّ ذكره بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فنظر في اللوح فيوحي بما في اللوح إلى جبرئيل «2».

و أمّا ما رواه

في التوحيد و الإحتجاج فيما أجاب به أمير المؤمنين عليه السّلام من أسئلة الزنديق المدعّي للتناقض في القرآن حيث قال عليه السّلام: إنّه قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل هل رأيت ربك؟ فقال جبرئيل: إنّ ربّي لا يرى فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من أين تأخذ الوحي؟ فقال أخذه من إسرافيل فقال (ص): و من أين يأخذه ذلك الملك؟ قال: يقذف في قلبه قذفا فهذا هو كلام اللّه عزّ و جلّ، و كلام اللّه ليس بنحو واحد منه ما كلّم اللّه به الرسل، و منه ما قذفه في قلوبهم، و منه رؤيا يراها الرسل، و منه وحي و تنزيل يتلى و يقرء فهو كلام اللّه تعالى، فاكتف بما وصفت لك من كلام اللّه تعالى، فإنّ معنى كلام اللّه تعالى ليس بنحو واحد، فإنّ منه ما تبلغ به رسل السماء رسل الأرض. الخبر «3».

فهو مبني على اختلاف التعبير عن ذلك أو على اختلاف ضروبه و أنواعه حسبما أشير فيه اليه.

______________________________

(1) تفسير القمي: 389.

(2) تفسير القمي: 720.

(3) التوحيد: 269- و الاحتجاج: 127- و بحار الأنوار ج 18 ص 258.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 422

رابعها في الفرق بين الوحي و الإلهام، قد يفرّق بينهما.

بأنّ الوحي من خواصّ النبوّة لتعلّقه بالظاهر، و الإلهام من خواص الولاية لتعلّقه بالباطن.

و بأنّ الوحي يتعلق بالأمور التشريعية، و الإلهام بالتكوينية.

و بأنّ الوحي مشروط بالتبليغ يعني أنّ الموحى إليه مأمور

به دون الإلهام، و بأنّ الإلهام قد يحصل من الحقّ سبحانه من غير واسطة الملك بالوجه الخاصّ الّذي له مع كل موجود، و الوحي يحصل بواسطته، و لذلك لا يسمى الأحاديث القدسية بالوحي دون القرآن، و إن كانت هي أيضا كلام اللّه تعالى و سبب ذلك أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اطمأنت نفسه، و انشرح قلبه و صدره، و قويت قواه و مشاعره كلها، فيشاهد صورة ما في جميع العوالم و النشئات، فيمثّل له الملك الحامل في عالم التمثيل الباطن و الحس الداخل كما يدركه أيضا في العالم الروحاني المحض، و أمّا الولي فلا يتلقّى المقاصد إلّا في مقام الأرواح المجرّدة عن عالم التمثيل.

فالأوّل يسمّى، وحيا باعتبار قوة الواردة و شدة المكاشفة، و شهود الملك و سماع كلامه.

و الثاني يسمّى إلهاما و تحديثا، فالوحي من الكشف الشهودي المتضمن للكشف المعنوي، و الإلهام من المعنوي فقط.

و بأنّ الوحي يتولّد من إفاضة العقل الكلي، و الإلهام من إشراق النفس الكلية، و نسبة النفس إلى العقل نسبة حوّاء من آدم، و الوحي أفضل من الإلهام.

و بأنّ الوحي مختصّ بالأنبياء عليه السّلام، و الإلهام يشترك فيه الأنبياء و الأولياء.

خامسها في أنّ العلم ليس منحصرا في الكسبي بل له قسم آخر و هو الوهبي،

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 423

اعلم أنّ كثيرا من المنغمسين في الغواسق النفسانية، و العلائق الهيولانية الجسمانية يزعمون أنّ العلم منحصر في العلوم العقلية و النقلية المشهورة المدونّة في الكتب، و أنّ طريق تحصيلها منحصر في الكسب و التعلّم و قراءة الكتب و مطالعتها، و تتبع آراء العلماء و أقوالهم و التدبّر في عباراتهم و التفكّر في فحاوي إشاراتهم، و الجري معهم في

مباحثاتهم و مناظراتهم إلى غير ذلك مما ترى كثيرا من الناس مشتغلين بها في ليلهم و نهارهم، بل في طول أعمارهم، و مع ذلك فعلّك ترى بعضهم في جهل شديد، و كأنّهم ينادون من مكان بعيد، و لذا خلت قلوبهم من الأنوار، و سرائرهم من الأسرار، و تغطّت بصائرهم بشوائب الأكدار، و ذلك لأنّهم لم يأتوا البيوت من أبوابها و لم يتوصّلوا إلى المسبّبات من طريق أسبابها، و من تأمّل في الرموز القرآنية و إشارات الأخبار النبوية و الإماميّة، يعلم أنّ لتحصيل العلوم الحقة الربانية طريقا آخر، غير الكسب يسمّى بالوهب، و العلوم الحاصلة به تسمّى بالعلوم الربانية و اللّدنية، اقتباسا من قوله تعالى: وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً «1».

و لذا قيل: إشارة إلى القسمين من العلم: إنّكم أخذتم علومكم ميتا من ميت، و أخذنا علومنا من الحيّ الذي لا يموت.

و ذلك أنّا قد لوّحنا سابقا أنّ العلوم الحقيقية، و الارتباطات الواقعية ثابتة في العوالم الإمكانية و الكونية، مرتسمة في الألواح الكلية و الجزئية و الملكوتية بقلم الصنع و المشيّة و أنّ النفس الإنسانية بمنزلة المرآة الّتي ينطبع فيها صور الحقائق الحسيّة و المعنوية، فالتعلّم و التفكّر من الطرق الكسبية لتحصيل العلوم إلّا أنّ أحدهما من خارج و الآخر من باطن، فالتعلّم كما قيل استفادة الشخص من

______________________________

(1) الكهف: 65.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 424

الشخص الجزئي و التفكّر هو استفادة النفس من النفس الكلية، و هي أشدّ تأثيرا و أقوى تعليما من جميع العلماء و العقلاء.

بل أقول: إنّ النفوس الإنسانية مجبولة على العلوم، مستعدّة لها استعدادا قريبا و بعيدا.

فمنها ما هي لجمودها و قسوتها كالحجر الذي لم يذب بعد.

و منها ما قد ذابت و لم

يحصل له تمام التصفية و التنقية.

و منها ما عرض له الرين و الكدورات العرضية الخارجية و منها ما لم يحصل له بالنسبة إلى المحسوس الخاصّ شرط المحاذاة إلى غير ذلك من المعدّات و الشرائط المعتبرة في النفس الإنسانية أيضا. فإنّ الرياضيات العلميّة و العمليّة كالذوب لحجر الزجاج و البلّور فكما أنّ الحجر بكثرة الذوب و التنقية و التصفية يصل إلى درجة البلّور المستعدّ لانتقاش صور الأشياء المحسوسة فيها بعد إعمال الشرائط التي من جملتها إعمال شروط الانعطاف و المحاذاة و غيرها، كذلك النفس الإنسانية إذا خرجت عن حدّ القوّة التي لها في أوان الطفوليّة، و صقلت عن رين المعاصي و كدورات الشبهات، و رفعت عنها حجب التقليد و موافقه المشايخ و العادات و وجه وجهها نحو الملكوت الأعلى المرتسم فيها صور الكائنات، صارت كالمرآة المصقولة المحاذية شطر صورة المطلوب، فإذا غلبت القوى البدنية على النفس بحسّ دواعيها كالشهوة و الغضب و غيرها، يحتاج المتعلّم إلى زيادة المشقّة و طول الكسب، و كثرة التعلّم، و إذا غلب العقل على أوصاف الحسّ و دواعيه استغنى الطالب بقليل التفكر عن كثير التعلّم، و ربّ عالم تفكّر ساعة منه خير من تعلّم سنة من الجاهل، فطريق تكّسب العلوم لبعض الناس هو التعلّم و للآخرين هو التفكّر، و الأوّل يحتاج إلى الثاني في الغالب دون العكس، مع أنّ لبيان اختلاف

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 425

العلوم الحاصلة من الطرفين كمّا و كيفا عرضا عريضا، هذا هو الكلام في قسمي التكسّب.

و أمّا الوهب الإلهي و التعليم الربّاني، فهو أيضا قسمان: قسم يختصّ بها الأنبياء و الأولياء الذين هم أوصياء الأنبياء و قد مرّ الكلام فيه، و قسم يشترك فيه ساير الناس

أيضا ممن يهتدي بأنواره، و يقتصّ على آثارهم بتخلية النفس عن الرذائل، و تحلّيها بالفضائل، بعد ملازمة التقوى، و خلوص النية و التدرّج في مراتب الإيمان و اليقين و الإخلاص و الإحسان الذي هو أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك.

و قد وردت إليه الإشارة في موارد من الكتاب و السنّة كقوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ «1»، و قوله تعالى: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ «2»، و قوله تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «3».

و

عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام على ما أرسله في «غرر الحكم» و «المناقب» أنّه سئل عن العالم العلوي فقال عليه السّلام: صور عالية عن الموادّ، عارية من القوّة و الاستعداد، تجلّي لها ربها فأشرقت، و طالعها فتلألأت و ألقى في هويّتها مثاله، فأظهر عنها أفعاله، و خلق الإنسان ذا نفس ناطقة، إن زكّيها بالعلم و العمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، و إذا اعتدل مزاجها، و فارقت الأضداد،

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) القصص: 14.

(3) الشمس: 10. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 426

فقد شارك بها السبع الشداد «1».

و

في «الكافي» و غيره من أخلص للّه سبحانه أربعين صباحا، تفجّرت من قلبه على لسانه ينابيع الحكمة «2».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس العلم بكثرة التعلّم، و إنّما العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يحبّ، فينفتح له، و يشاهد الغيب، و ينشرح صدره فيحتمل البلاء، قيل يا رسول اللّه و هل لذلك من علامة؟ قال عليه السّلام: التجافي عن دار الغرور، و

الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت قبل نزوله.

و

في خبر عنوان البصري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة و اطلب العلم باستعماله و استفهم اللّه يفهمك «3».

و

في «منية المريد» عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وصيّة الخضر لموسى: يا موسى وطّن نفسك على الصبر تلق الحلم، و أشعر قلبك التقوى تنل العلم و رضّ نفسك على الصبر تخلص من الإثم «4».

و

في الخبر ما معناه: إنّ عيسى روح اللّه على نبينا و آله السّلام كان يقول للحواريّين، ليس العلم في السماء فينزل إليكم، و لا في تخوم الأرض فيصعد عليكم،

______________________________

(1) غرر الحكم للآمدي ج 1 ص 459 حرف الصاد: حديث 75.

(2)

في البحار ج 15 باب الإخلاص ص 87 ط. القديم عن عدّة الداعي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: من أخلص للّه أربعين يوما فجّر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

(3) بحار الأنوار طبع القديم ج 1 ص 69- و من المطبوع بطهران جديد ج 1 ص 225.

(4) المصدر السابق ج 1 ص 70- و من المطبوع بطهران جديدا ج 1 ص 227. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 427

و لكن العلم مجبول في قلوبكم، مركوز في طبائعكم، تخلّقوا بأخلاق الروحانيين يظهر لكم.

و

روى أنه قال لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من يصعد يأتي به، و لا في تخوم الأرض من ينزل يأتي به، و لا من وراء البحار من يعبر يأتي به، العلم مجبول في قلوبكم، تأدّبوا

بين يدي اللّه بآداب الروحانيين فتخلّقوا بأخلاق الصديقين يظهر العلم من قلوبكم حتى يغطيكم و يغمركم.

فهذه الأخبار و غيرها مما يستفاد منها أنّ من العلوم الحقّة ما يحصل للإنسان بالإقبال على مراسم العبوديّة، و ملازمة التقوى، و الاعتدال في الأقوال و الأفعال و الأحوال، و هذا هو الّذي ربما يسمّونه بالكشف الذي هو لغة رفع الحجاب، يقال كشفت المرئة وجهها أي رفعت نقابها، و عندهم هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من الأمور الحقيقية، سواء كانت من الصور المثالية، أو من المعاني الغيبة، و يسمّى الأوّل بالصوري و الثاني بالمعنوي فالصوري ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس الخمس التي لها الإحاطة العنصرية، و المدّة الزمانية، سواء كانت تلك الإحاطة من طريق المشاهدة، كرؤية المكاشف صور الأرواح أن تتجسّد و تترائى في صور الأجساد الماديّة إمّا بإرادتها أو بإرادة الرائي أو غيره، و إن كان الكلّ بمشيّته سبحانه و من هذا الباب رؤية جبرئيل في صورة دحية الكلبي «1»، أو في غيرها من

______________________________

(1) دحية بن خليفة الكلبي من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و كان يضرب به المثل في حسن الصورة بعثه النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، برسالته إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، و حضر كثيرا من الوقايع، و شهد اليرموك و عاش إلى خلافة معاوية و مات نحو سنة 45 من الهجرة

- الاصابة ج 1 ص 473.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 428

الصور، بل و كذا في الصورة التي راها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوّل البعثة حيث قد ملأ الخافقين بل و كذا رؤية غيره من الملئكة حتى الذين كانوا

يزاحمون الأئمة عليهم السّلام في منازلهم، و يتّكئون في فرشهم و كانوا يلتقطون من زغبهم، و مشاهدة الأرواح الذين انتقلوا من هذا العالم إلى عالم البقاء كما قد يتفق لبعض الصلحاء بل و كذا الأشقياء، و مشاهدة النعمة و النقمة الحاصلين لهم كما لبعض الناس، بل قد يشاهدون اللهيب و النيران المتوقدة المشتعلة من قبور بعض الفجار.

و من هذا الباب مشاهدة الجنّ و الشياطين الذين من الأرواح السفلية الظلمانية، غير أنّ هذه الرؤية قد يكون بعروض التجسّم للأرواح فيشترك حينئذ في رؤيته جميع الخلق أو بتغيّر في أحوال الرائي بحيث ينكشف له شي ء من الملكوت فيختص الرائي بالرؤية دون غيره.

و من هذا الباب و لو من بعض الجهات إرائته عليه السّلام ملكوت السموات و الأرض لأبي بصير و جابر و غيرهما حسبما تأتي إليه الإشارة في تفسير قوله تعالى:

وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1»، أو من طريق غير المشاهدة كالسماع و الذوق و اللمس و غيرها، و ذلك أنّ للنفس في ذاتها سمعا و بصرا و شما و ذوقا و لمسا، فهذه أدوات نفسانية كما أنّ من هذه الجهات أدوات جسمانية بدنية، و لعل في قوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «2»، اشارة إلى ذلك.

بل و أظهر منه دلالة ما

ورد في تفسيره من أنّ لشيعتنا أربعة أعين عينان

______________________________

(1) الحج: 46.

(2) الانعام: 75. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 429

في الظاهر و عينان في الباطن «1»

بعد ظهور ان المراد بالعين مطلق المدرك و لا اختصاص لها بخصوص الجارحة.

بل ورد في خصوص سائر الإدراكات أيضا ما يدل على حصول التجلّي و الانكشاف بالنسبة إليها أيضا.

فيدل على السماع

ما سمعت من الأخبار الكثيرة الدالة على أن الأئمة عليهم السّلام محدثون، بل لا اختصاص له بالإمام (عليه السّلام) لان في خواص شيعتهم أيضا محدثين و سلمان منهم كما مرّ في الخبر المتقدم، و من هنا قيل اشارة إلى هذا المقام فيا لها من كلمات مسموعة هي عند العارف بها ألطف من النسيم أو أحلى من التسنيم، تتضمن معاني ان تجسدت فهي النور على صفحات خدود الحور ظاهرا، و ان تروحت رقمت حقائقها بقلم العقل على لوح النفس باطنا.

و يدل على الاستنشاق الذي هو التنسم بالنفحات الالهية

النبوي المشهور: ان لربكم في أيام دهركم نفحات الا فتعرضوا لها «2»

، و

قوله صلّى اللّه عليه و آله: اني لأجد

______________________________

(1)

في تفسير الصافي ج 2 ص 128 ط. الاسلامية بطهران: في التوحيد و الخصال عن السجاد (عليه السّلام) ان للعبد اربع أعين عينان يبصر بهما أمر دينه و دنياه، و عينان يبصر بهما أمر آخرته فاذا أراد اللّه بعبد خبر فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما الغيب و أمر آخرته، و إذا أراد اللّه به غير ذلك ترك القلب بما فيه.

و

في الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّما شيعتنا أصحاب الاربعة الأعين عينان في الرأس و عينان في القلب ألا و إنّ الخلائق كلّهم كذلك إلّا أنّ اللّه عزّ و جلّ فتح أبصاركم و أعمى أبصارهم.

(2) المحجة البيضاء: ج 5 ص 15- و أخرجه البخاري و مسلم و الطبراني. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 430

نفس الرحمن من قبل يمن «1»

، و

قوله (ص): تفوح روائح الجنة من قبل قرن، وا شوقاه إليك يا أويس القرني «2».

و على الذوق

قوله عليه السّلام: إني اظلّ عند ربي فيطعمني و يسقيني «3»،

و قوله:

إنّي شربت اللبن حتى خرج الريّ بين أظافيري إلى غير ذلك مما يرجع إلى الإدراك الذي هو انكشاف الشي ء و رفع الحجاب بينه و بين الرائي و لذا كان الأولى التعبير عن الجميع به، نعم ربما ذكر بعض الصوفية حصول الكشف بالنسبة إليه سبحانه و لو على وجه الملامسة المفسّرة عندهم بالاتصال بين النورين العلويّين، أو بين الجسدين المثاليّين.

و استدلّوا له بما

روي عنه عليه السّلام من طريق العامّة أنّه قال: رأيت ربي ليلة المعراج في أحسن صورة، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثدييّ فعلمت علوم الأولين و الآخرين.

و اعتبار خصوص الإدراك أو نوعه و إن كان صحيحا بالنسبة إلى غيره سبحانه بناء على ما سمعت من تروّح الأجساد، و تجسّد الأرواح، إلّا أنّ ذلك بالنسبة اليه سبحانه غير ممكن بناء على ما هو المقرّر عندنا في أصول الإمامية من نفي التشبيه و التمثيل و الرؤية و الإحاطة و التجسّم و غير ذلك مما يذهب اليه مخالفونا، و ان

______________________________

(1) قال الفيروزآبادي في القاموس: لا تسبّوا الريح فإنّها من نفس الرحمن و أجد نفس ربكم من قبل اليمن المراد ما تيسر له (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، من أهل المدينة و هم يمانون يعني الأنصار و هم من الأزد و الأزد من اليمن.

(2) بحار الأنوار: ج 9 ط. القديم ص 637 عن فضائل ابن جبريل شاذان القمي.

(3) بحار الأنوار: ج 4 ط. القديم ص 102 عن الاحتجاج.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 431

وافقهم بعض منا كصاحب المجلي «1»، أو الأسفار «2»، في هذا النوع من الكشف، غفلة عن حقيقة الحال.

و أمّا ما يوجد في بعض أخبارنا ممّا يوهم ذلك،

كخبر ابن أبي يعفور «3»

المرويّ في كامل الزيارات لابن قولويه «4» عن مولانا الصادق (عليه السّلام) قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منزل فاطمة عليها السّلام و الحسين في حجره إذ بكى و خرّ ساجدا ثم قال عليه السّلام: يا فاطمة، يا بنت محمّد إنّ العلي الأعلى ترائي إلىّ في بيتك هذا ساعتي هذه في أحسن صورة، و أهيأ هيئة، و قال:

يا محمّد أ تحبّ الحسين؟ فقلت: نعم قرّة عيني، و ريحانتي، و ثمرة فؤادي، و جلدة ما بين عيني، فقال لي: يا محمّد، و وضع يده على رأس الحسين عليه السّلام بورك من مولود عليه بركاتي و صلواتي، و رحمتي، و رضواني و لعنتي و سخطي، و عذابي

______________________________

(1) قد مرّت ترجمته و هو محمّد بن علي بن أبي جمهور الاحسائي و كتابه المجلي في مرآت المنجي كتاب في المنازل العرفانية و سيرها.

(2) الاسفار الاربعة في الحكمة المتعالية للحكيم المتألّه محمّد بن إبراهيم الشيرازي المتوفى سنة 1050 و قد مرت ترجمته سابقا، قال صاحب الصراط المستقيم في كتابه (نخبة المقال) في حقه:

ثم ابن إبراهيم صدر الأجلّ* في سفر الحج (مريض) ارتحل قدوة أهل العلم و الصفاء* يروي عن الداماد و البهائي

(3) عبد اللّه بن أبي يعفور أبو محمّد كوفي ثقة جليل و هو الذي عرض دينه على الصادق (عليه السّلام) و مات في أيامه.

(4) جعفر بن قولويه القمي من أجلاء الامامية و ثقاتهم في الحديث و الفقه، فضله أشهر من أن يذكر و كتابه (كامل الزيارات) كتاب نفيس، مفيد، توفي سنة 367 و دفن في جوار الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليهما السّلام في الكاظمين جنب قبر المفيد (رحمه اللّه). تفسير

الصراط المستقيم، ج 1، ص: 432

و خزيي و نكالي على من قتله، و ناصبه، و ناواه، و نازعه، أما إنّه سيد الشهداء من الأولين و الآخرين، في الدنيا و الآخرة، و سيّد شباب أهل الجنة من الخلق أجمعين، و أبوه أفضل منه و خير، فأقرئه السّلام، و بشّره بأنّه رأية الهدى، و منار أوليائي، و حفيظي، و شهيدي على خلقي، و خازن علمي، و حجّتي على أهل السموات و أهل الأرضين، و الثقلين الجن و الانس «1»

و

في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا قام قائمنا وضع اللّه يده على رؤس العباد فجمع بها عقولهم، و كملت به أحلامهم «2»

و

في النبوي المرسل: قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء «3»

، إلى غير ذلك ممّا يدلّ على تعلّق الرؤية أو اللمس به سبحانه فلعل الخطب فيه سهل بعد قيام القواطع العقلية على تنزيهه سبحانه عن ذلك كله.

و لذا ذكر شيخنا المجلسي (رحمه اللّه) في شرح الخبر الأول إنّ العليّ الأعلى أي

______________________________

(1) كامل الزيارات ص 67- و بحار الأنوار عن الكامل ج 44 ص 238 ط. الاخوندي بطهران.

(2) منتخب الأثر عن الكافي ص 483- قال المجلسي قدس سره في مرآه العقول في شرح الحديث: الضمير في قوله (يده) اما راجع إلى اللّه أو إلى القائم (عليه السّلام) و على التقديرين كناية عن الرحمة و الشفقة أو القدرة و الاستيلاء و على الأخير يحتمل الحقيقة.

(3)

قال المحدث القمي (رحمه اللّه) في سفينة البحار ج 2 ص 293 ع عن حمران عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: إذا كان الرجل على يمينك على رأي ثم تحول إلى يسارك فلا تقل الا خيرا و لا تبرأ منه

حتى تسمع منه ما سمعت و هو على يمينك على رأي فان القلوب بين إصبعين من أصابع اللّه يقلبها كيف يشاء إلخ.

قال الصدوق: يعني بين طريقين من طرق اللّه يعني بالطريقين طريق الخير و طريق الشر، ان اللّه عز و جل لا يوصف بالأصابع و لا بشبه بخلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 433

رسوله جبرئيل أو يكون الترائي كناية عن غاية الظهور العلمي، و حسن الصورة كناية عن ظهور صفات كماله تعالى (عليه السّلام)، و وضع اليد كناية عن إفاضة الرحمة «1».

كما أنّه يحمل على مثل ذلك أيضا ما

رواه في الكافي في باب بدو الحجر عن مولينا الصادق عليه السّلام: إنّ اللّه عز و جل وضع الحجر الأسود، و هي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم عليه السّلام، فوضعت في ذلك الركن لعلّة الميثاق و ذلك أنّه لمّا أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم، حين أخذ اللّه عليهم الميثاق في ذلك المكان، و في ذلك المكان ترائى لهم، و من ذلك المكان يهبط الطير على القائم عليه السّلام، فأوّل من يبايعه ذلك الطائر و هو و اللّه جبرئيل عليه السّلام الخبر «2»

فان المراد بالترائي غاية الظهور و الانكشاف بالآيات، أو مقام الخطاب الفحوائي بعد إجابة خطاب كن في مقام التكوين، أو الاجابة التشريعية في عالم الذر.

أو غير ذلك مما يحمل عليه أيضا ما ورد في القرآن كقوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ «3»، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ «4»، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «5»، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ «6»، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «7»، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب و السنة.

ثمّ اعلم أنّ أنواع الكشف الصوري إمّا

أن تتعلّق بالحوادث الدنيوية أولا،

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 44 ص 238 ط. الاخوندي بطهران.

(2) الفروع من الكافي ج 4 ص 185 كتاب الحج باب بدء الحجر و العلة في استلامه.

(3) الفجر: 22.

(4) البقرة: 110.

(5) الفتح: 10.

(6) المائدة: 63.

(7) القيامة: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 434

فان تعلقت بها سميّت عندهم رهبانية، لاطّلاعهم على المغيبات الدنيوية الحسية بحسب رياضاتهم و مجاهداتهم، و إن كان قد يحصل ذلك أيضا لغير المسلمين، بل لغير بل لغير المليّين كالبراهمة، و الجوكية، و الزنادقية و الكهنة، و أرباب الرياضات الباطلة لأنّ لأنّ ترتّب بعض العلوم و الآثار على بعض الأفعال و الأحوال من قبيل ترتب الخاصيّة على ذيها، على أنّه سبحانه قد كتب على نفسه أن لا يردّ سائله، و لا يخيّب آمله، فإذا كانت عزيمة الطالب استكشاف بعض الغيوب، أو استعلام بعض الوقايع فلربما ناله جزاء لما فعله من الأعمال الصالحة التي أجلّها مخالفة النفس الأمّارة بالسوء، مجازاة له في العاجل، كي يخاطب من الآجل فيمن يخاطب بقوله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها «1» و لذا قيل: إن الهمم العالية التي لأهل اللّه من سلّاك الأمم و خواصّهم تأبى عن الالتفات فضلا عن الوقوف على هذه الأمور الدنيّة الدنيوية العاجلة فلا يشتغلون بها أصلا، لاستغراقهم فيما هو أجلّ منه و أعلى و هو الأمور الاخروية، و التجليّات الغيبية، و الإشراقات النوريّة التي هي أشرف و أبهى، بل ربما يعد القسم الأوّل من قبيل الاستدراج و المكر، بل قيل: إنّ أصحاب الكرامات محجوبون، و إنّهم عن نيل الحقائق لمعزولون، و إنّ أرباب الحقيقة هم الذين لا يلتفتون إلى المكاشفات الأخروية أيضا.

كما

ورد الدنيا حرام على أهل الآخرة و الآخرة

حرام على أهل الدنيا و هما حرامان على أهل اللّه تعالى.

و هذا بل غير القسم الأول من القسمين الأخيرين هو المراد بالكشف المعنوي

______________________________

(1) الأحقاف: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 435

المتقدّم إليه الإشارة كالعلم بأحوال المبدء و المعاد، و أسرار التكوين، و مقامات النفس، و أطوارها، و العلم ببطون الكتاب و تأويله، و إشارات السنّة، إلى غير ذلك من أسرار العلوم، و أنوارها، و حقائقها التي يختصّ بمعرفتها من يشاء من عباده.

و جملة الكلام في المقام، أنّ المكاشفات الصورية الصادقة المطابقة مما يشترك فيها المؤمن و الكافر و المنافق، و كذا غيرها من أنواع الكرامات كطّي الأرض، و الخفاء عن الأبصار، و تسخير الحيوانات الوحشية و الموذية و إحضار الطعام و الفواكه في غير أوانها، و استجابة الدعوات، و الأخبار عن المغيبات و استنطاق الجمادات، و عدم التأثر بشي ء من الآلات القاتلة، كالسموم و السيف و النار، و غير ذلك مما ربما يحصل لأصحاب الرياضات، و التسخيرات و الطلسمات، و العزائم، بل قد يحصل كثير منها بتصفية الباطن، و مخالفة النفس، و تسخير القلب، و تقويته، و غير ذلك مما يقع عن غير المتعبّدين بالنواميس الشرعية، و لذا قيل: إنّه لا تدلّ الكرامات على المقامات، و إن توهّمه آخرون كما حكي عنهم فيما قيل شعرا:

بعض الرجال يرى كون الكرامات دليل حقّ على نيل المقامات

و إنها عين بشرى قد أتتك بهارسل المهيمن من فوق السموات

و عندنا فيه تفصيل إذا علمت به الجماعة لم تفرح بآيات

كيف السرور و الاستدراج يصحبهافي حقّ قوم ذوي جهل و آفات

و ليس يدرون حقا أنّهم جهلواو ذا إذا كان من أقوى الجهالات

و ما الكرامة إلّا عصمة وجدت في حال قوم

و أفعال و نيّات

تلك الكرامة لا تبغي لها بدلاو احذر من المكر في طيّ الكرامات

فخرق العادات المسمّى عندهم مع عدم التحدّي بالكرامات يقع كثيرا على وجه الإمهال و الاستدراج، و تعجيل المثوبة، و التشبّت بذوات الخواصّ و العزائم،

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 436

و التسخيرات، و غير ذلك من التمويهات الواقعة بين العلويّة و السفليّة، مع أنّ كثيرا من أنواع خرق العادات يشارك فيها الإنسان غيره فان الجن و الشياطين قادرون على الاطلاع بالضماير و على الخفاء عن الأبصار و على التمثّل في صور كثيرة، و على طيّ الأرض و على دخول الدار من الجدار و على التصرف و الوسوسة في الصدور، بل الطيور و كثير من الحيوانات يتمكّن من كثير من الخوارق بالنسبة إلى الإنسان و إن لم تكن خارقة بالنسبة إليها.

بل في «الفتوحات» «1»، أنه سئل أبو يزيد من طيّ الأرض فقال ليس بشي ء فإنّ إبليس يقطع من المشرق إلى المغرب في اللحظة الواحدة، و ما هو عند اللّه بمكان.

و سئل عن اختراق الهواء فقال: إن الطير يخترق الهواء و المؤمن عند اللّه أفضل من الطير، فكيف يحسب كرامة من شاركه فيها طائر، و هكذا في غيره، ثم قال: إلهي إنّ قوما طلبوك لما ذكروه فشغلتهم به و أهّلتهم له اللّهم مهما أهّلتني لشي ء فأهّلني لشي ء من أشيائك يقول من أسرارك، فما طلب إلّا العلم.

ثم هذا كلّه في المكاشفات الصادقة، و الكرامات الواقعة الحقّة، و أمّا المكائد و الخدع، و التمويهات و الحيل، و الأخذ على العيون، و غير ذلك مما لا أصل له فلا ينبغي التكلّم فيه رأسا.

و أمّا المكاشفات المعنوية، و الإشراقات العلمية، و التجلّيات الحقيقية فهي و ان ادّعاها

كثير من الناس إلّا أنّ أكثرهم عن السمع لمعزولون، ألم تر أنّهم في كل واد يهيمون، و أنّهم يقولون ما لا يعلمون.

______________________________

(1) الفتوحات المكية في معرفة أسرار المالكية و الملكية مجلدات للشيخ محيي الدين محمّد بن علي المعروف بابن عربي الطائي المالكي المتوفى سنة 638، من أعظم كتبه و آخرها تأليفا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 437 و كلّ يدّعي وصلا بليلى و ليلى لا تقرّ لهم بذاكا

إذا انبجست خدود من دموع تبيّن من بكى ممن تباكا

و حيث إنّ كلا يدّعي لنفسه الإصابة مع الانحرافات العجيبة، و الاعوجاجات الغريبة الواقعة منهم فلا بدّ من ميزان يتميز به الحقّ من الباطل و الثابت من الزائل.

اعلم أنّ قلب الإنسان متجاذب بين الملك و الشيطان، و المطاردة بين جنودهما قائمة في معركة القلب ما لم يحصل الفتح الكلّي لأحدهما، و ذلك أنّ اللّه سبحانه ركّب في الأناس قوى متضادّة و أرواحا متخالفة كالقوى النباتية و الحيوانية، و البهيمية، و السبعية، و الشيطانية و الملكية القدسية، و الكليّة الالهية، و هو في أصل الفطرة صالح لقبول آثار الملائكة و الشياطين بالعلم و العلم، و تركهما على ما فصّل في غير هذا الموضع، فالخواطر الواردة على القلب يمكن أن تكون من الرحمن، و من الشيطان.

كما

ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ في القلب لمتّان لمّة من الملك إيعاد بالخير و تصديق بالحق، و لمّة من العدوّ إيعاد بالشر و تكذيب للحق و نهي عن الخير فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من اللّه، و من وجد الآخر فليتعوّذ باللّه من الشيطان الرجيم، ثم قرء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ

اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا «1» «2»

______________________________

(1) البقرة: 268.

(2)

في الدر المنثور: اخرج الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حيان و البيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): إن للشيطان لمّة بابن آدم و للملك لمّة: فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر، و تكذيب بالحق، و أما لمّة الملك فإيعاد الخير و تصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللّه فليحمد اللّه، و من وجد تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 438

و بوجه آخر القلب دائم الانقلاب و التقلّب بين الكينونة المستقيمة الفطرية الطبيعية الّتي هي على هيكل التوحيد فيترسّخ فيه حينئذ الحقائق و يترشّح عنه الى ساير الأدوات و الأعضاء الأعمال الصالحة، و الخيرات و الأقوال الحسنة و غيره، و بين الكينونة المعوّجة المنحرفة التطبعية التي هي على هيكل النفاق و الشرك، فيترشّح منه إلى الأدوات الأعمال القبيحة و النفاق و الكذب، و غيرها، فإنّ القلب خزانة لأعمال الخوارج.

و لذا قال عيسى بن مريم على نبينا و آله و عليه السّلام: إن اللّسان يتكلّم بزوائد القلب و لعلّ

في قول مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام،: «لكن يرشح عليك ما يطفح منّى»

إشارة اليه مع أنّ له وجوها اخرى.

و

في «المجلي» لابن جمهور الاحسائي: روي أنّ داود ناجى ربه فقال: إلهي لكل ملك خزانة فأين خزانتك؟ فقال جلّ جلاله: لي خزانة أعظم من العرش، و أوسع من الكرسي، و أطيب من الجنّة، و أزين من الملكوت، أرضها المعرفة، و سمائها الإيمان و شمسها الشوق، و قمرها المحبّة، و نجومها الخواطر، و سحابها العقل، و مطرها الرحمة، و شجرها الطاعة،

و ثمرها الحكمة و لها أربعة أركان: التوكل، و التفكر، و الأنس، و الذكر، و لها أربعة أبواب: العلم، و الحكمة، و الصبر، و الرضا، ألا و هي القلب «1»

______________________________

الاخرى فليتعوّذ باللّه من الشيطان ثم قرء: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ الآية.

- الميزان ج 2 ص 404-

(1) بحار الأنوار ج 15- أبواب مكارم الأخلاق ص 39 ط. القديم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 439

قال: و روي عن وهب بن المنبّه «1»، أنّه قال: إنّ اللّه تعالى قال لموسى عليه السّلام: يا موسى جرّد قلبك لحبّي، فإنّي جعلت قلبك ميدان حبّي و بسطت في قلبك أرضا من معرفتي، و بنيت في قلبك بيتا من الإيمان، و أجريت في قلبك شمسا من شوقي، و أمضيت في قلبك قمرا من محبّتي، و أسريت نجوما من مرادي، و جعلت في قلبك عينا من تفكّري، و أدرت في قلبك ريحا من توفيقي، و أمطرت في قلبك مطرا من تفضّلي، و زرعت في قلبك زرعا من صدقي، و أنبتّ في قلبك أشجارا من طاعتي، و جعلت أوراقها دعائي، و أوليت ثمرها حكمة من مناجاتي، و أجريت في قلبك أنهارا من دقايق علوم أزليّتي، و وضعت في قلبك جبالا من يقيني.

و هذا كلّه في القلوب الصالحة التقيّة الطيّبة الملكية، و أمّا القلوب الطالحة الشقية الخبيثة الشيطانية فالأمر بالعكس في كل ما سمعت.

و بوجه ثالث قد سمعت أنّ القلب ينطبع فيه صور المعاني و الحقائق الحقّة الواقعية، و الصور المخترعة الوهميّة، و غيرها ممّا حصل له المحاذاة بالنسبة إليه كما أنّ المرآة ينطبع فيها صور الأجسام المحسوسة، و أنّ لكلّ معنى من المعاني

______________________________

(1) وهب بن منبّه و هو الذي ينقل عنه القطب

الراوندي كثيرا و العلماء لا يعتمدون على متفرداته مؤرّخ، كثير الأخبار عن الكتب القديمة، عالم بأساطير الأولين، و لا سيما الاسرائيليات أصله من أبناء الفرس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمن، و أمّه من حمير، ولد بصنعاء سنة 34- و ولّاه عمر بن عبد العزيز قضاءها، و كان يقول: سمعت إثنين و تسعين كتابا كلها أنزلت من السماء، و وجدت في كلها أنّ من أضاف إلى نفسه شيئا من المشيّة فقد كفر، يقال: إنّه صحب ابن عباس و لازمه ثلاث عشر سنة، له من الكتب قصص الأنبياء و قصص الأخيار، ذكرهما صاحب كشف الظنون، توفى بصنعاء سنة 114.

- سفينة البحار ج 2 ص 693 و الاعلام للزركلي ج 9 ص 150.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 440

و الحقائق الكونية بل الإمكانية صقعا من العوالم، أمّا في دركات سجّين، فالقلب ما دام كائنا في شطر الحق، باقيا وجهه تلقاء عليين ينطبع فيه صور الحقائق و المعاني الحقة و الواقعية، فإذا صار منكوسا، منحرفا وجهه عن الملكوت الأعلى، حصل له المحاذاة إلى سجّين، فينطبع فيه صور الحقائق و المعاني الحقّة و الواقعيّة، فإذا صاد منكوسا، منحرفا وجهه عن الملكوت الأعلى، حصل له المحاذاة إلى سجّين، فينطبع فيه صور الأوهام الباطلة، و الخيالات المخبثة الشيطانية، و الأهواء الرديّة.

و على كل حال فالواردات القلبية كثيرا ما يشتبه حقّها بباطلها، و صدقها بكذبها، بل ربما يشتبه أيضا على من خطر له هذه الخواطر، فضلا عن غيره، فلذا مسّت الحاجة إلى إقامة ميزان، يتميّز به كل من الآخر.

فعن بعضهم أنّ الخواطر الملكية ما يدعوا إلى الطاعة و العبادة، و الشيطانية ما يدعوا إلى المخالفة و المعصية، و ردّ بأنّه ربما يكون الهمّ

بالعبادة أفسد من الهمّ بالمعصية، لما فيه من مكائد خفيّة للنفس، و قد يلمّ بنشاط في العبادة و العبد يظنّ أنّه بخلوص القلب، و ربما كان لنفاق خفي منه، و علّة كامنة في ذاته من طلب المنزلة و الجاه عند الخلق، بل قيل: إنّ معرفة تميز الخواطر صعب المنازل جدّا لا يكاد يتيسّر إلا بعد استقصاء تامّ في العلوم الحقّة مع التقوى، و انه اتّفق المشايخ على أنّ من كان أكله من الحرام لا يفرّق بين الوسوسة و الإلهام.

و عن آخر أنّ كلّ ما يكون سببا للخير بحيث يكون مأمون الغائلة في العاقبة و لا يكون سريع الانتقال على غيره، و يحصل بعده توجّه تامّ إلى الحقّ و لذّة عظيمة مرغّبة في العبادة فهو ملكي رحماني، و إلّا شيطاني، و فيه المنع من اطّراده و انعكاسه.

و عن ثالث أنّ ما يظهر من يمين القلب و قدّامه أكثره ملكي، و ما يظهر من

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 441

اليسار و الخلف أكثره شيطاني، و ردّ بأنّ الشيطان يأتي من الجهات كلّها كما يستفاد من قوله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «1» نعم قد يقال: إنّ الشيطان لا يأتي من جهة الفوق و التحت، أمّا الأوّل فلأنّه لعنه رأى نزول الأنوار على العبد من فوقه فخاف من الاحتراق فلم يتعرّض في إتيانه له، و أمّا الثاني على خطّ مستقيم مع الفوق، و أنّ ذلك النور متّصل بالتحت للاستقامة، و من هنا وقع النهي عن استقبال القبلة و استدبارها في بعض الأحوال، لأنّهما على خط واحد، و لذا خصّ الجهتين بالذكر في قوله: وَ

لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «2» و على كلّ حال فهذه الموازين و أمثالها مع عدم الإحساس بها غالبا لا اطّراد لها، و الميزان الكلّي المستفاد من الكتاب و السنّة إنّما هو موافقة الشريعة الطاهرة في الأفعال و الأقوال و الأحوال، و إنّما يكون ذلك بخلوص النية، و نقاء السريرة، و التدرّج في مراتب الايمان، و التحقّق بمقام اليقين و الإحسان، و المداومة على اقامة الفرائض و السنن، و مجانبة الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، و الاجتهاد في التوجه و الإقبال في جميع الأفعال و الأعمال كي يصير ساير عاداته من العبادات و التوسل بأنحاء القربات و وظائف الطاعات، و ملازمة قراءة القرآن، و الأدعية و ساير الأذكار، مع التذكر و التدبر و ساير الوظائف الشرعية، و الإشتغال بالتفكر في الموت الذي هو حيوة القلوب، و في أناء الليل و النهار، و تذكر قوله تعالى:

______________________________

(1) الأعراف: 17.

(2) المائدة: 66.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 442

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ «1»، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «2»، وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ «3»، و التفرّغ للتفكر في خلق الآفاق و الأنفس، و التدبّر في بديع صنعه سبحانه ليلا و نهارا، هذا كلّه مع ملازمة التقوى، و دوام الطهارة الظاهرة و الباطنة، و التخلّي عن الأخلاق و الصفات الذميمة التي هي الرذائل، و التخلق بالأخلاق الحميدة التي هي من الفضائل و الاعتدال و التوسط في جميع ذلك و غيره حتى الأكل و الشرب و النوم و التكلّم و المعاشرة مع الخلق، و سائر الأفعال

البدنية و النفسانية، و دوام الاستقامة في كلّ ما مرّ و في غيره ممّا هو من مقتضيات الولاية، و صدورها من جهة الشوق و المحبّة، فإذا استقام على جميع ذلك كان مخلصا له سبحانه في جميع أحواله و أطواره و شئونه، و فينفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، و يعتدل مزاجه، و يستوفي أخلاقه، فيقوى اثر النفس فيه، فيكون محسنا في عمله، فيأتيه العلم و الحكمة من دون التعلّم بمقتضى الآية.

بل

قد روى عن مولينا الباقر عليه السّلام أنّه قال: ما من عبد أحبّنا و زاد في حبّنا و أخلص في مودّتنا و سئلنا مسئلة إلا أجبناه و نفثنا في روعه جوابا لتلك المسئلة.

و بالجملة فهذا العبد حينئذ تنكشف له الحقائق الواقعية و يتجلّى له الصور المطابقة العمليّة، و مع ذلك فلا بدّ أن يزنه بميزان الشريعة، فإن كان ما انكشف له من العلوم موافقا لما ثبت في الشريعة سواء كان من أصول العقائد أو الفروع العلمية، فليحمد اللّه سبحانه على الاستقامة، و إن كان مخالفا لما هو الثابت فيها فليتّهم نفسه،

______________________________

(1) ص 45.

(2) ص: 46.

(3) ص: 47.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 443

لأنّ هذه المخالفة لا تكون إلّا عن اعوجاج في النظر أو انحراف في الأعمال و مباديها و لو من غير التفات و تذكّر منه لذلك فإن المرآة إذا كانت منحرفة في وضعها، أو معوجّة في نفسها ظهر الانحراف و الاعوجاج في الصور المنطبعة فيها.

و بالجملة فالكشف الصحيح ما ينتج الاستقامة فلا يزال يزيد العلم بالعمل و العمل بالعلم، و هو المراد بما في الخبر عن الصادق عليه السّلام: بالحكمة تستخرج غور الحكمة.

و بالجملة فالكشف الصحيح الصريح في الصور المثالية في الحقائق العملية

إنّما يحصل بما سمعت إجماله من الإخلاص في العبودية و إن شئت فسمّه رياضه شرعيّة، و أمّا الرياضات التي وضعتها و ابتدعتها الجوكية و السحرة و أصحاب التسخير و العزائم، و غيرها فهي من البدعة التي كلّها ضلالة.

و

قد قال عليه السّلام: كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار «1»

، بل و كذا الرياضات المبتدعة من المتصوفة لتجريد نفوسهم، و تصفية أرواحهم فإنّ تلك الرياضات مشوبة بالباطل، موصلة اليه.

أما الأوّل فلما فيها من تحليل بعض المحرّمات، و تحريم بعض المحلّلات و عدم الخلوص في النيّة و رفض الطاعات، بتوهّم الوصول إلى مقام اليقين، و تخريب سنّة سيّد المرسلين كما لا يخفى على من اطّلع على مقالاتهم الشنيعة و بدعهم المحدثة.

و أمّا الثاني فلأنّ الحاصل من تجلّياتهم و مكاشفاتهم في خلواتهم و رياضاتهم في ما يقضي ضرورة الدين ببطلانه كالقول بوحدة الوجود الشائع الذائع في جمهور المتصوفة، كما يشهد به كلماتهم و أشعارهم في هذا الباب.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 308 و ص 309 ط. الاخوندي بطهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 444

قال ابن العربي: سبحان من أظهر الأشياء و هو عينها، و قال:

فوقتا يكون العبد ربّا بلا شك و وقتا يكون الربّ عبدا بلا إفك.

و قال في ديباجة ما سمّاه بالفتوحات: إن خاطب عبده فهو المسمع السميع، و إن فعل ما أمر به بفعله فهو المطاع المطيع، ثمّ أنشد:

الربّ عبد و العبد حقّ يا ليت شعري من المكلّف

إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت ربّ أنى يكلف

فهو سبحانه يطيع نفسه إذا شاء بخلقه، و ينصف نفسه مما تعيّن عليه من واجب حقّه، فليس إلّا أشباح خالية، على عروشها خاوية.

و قال في «الفصوص» فيحمدني و

أحمده، و يعبدني و أعبده، ففي حال أقرّ به، و في الأعيان أجحده.

و قال الجندي «1»:

البحر بحر على ما كان في القدم إنّ الحوادث أمواج و أنهار

لا يحجبنك أشكال تشاكلهاعمّن تشكّل فيها و هي أستار

و له أيضا:

هو الواحد الموجود في الكلّ وحده سوى أنّه في الوهم سمى بالسوى

و قال بعضهم:

فلما أضاء الفجر أصبحت عارفابأنّك مذكور و ذكر و ذاكر

______________________________

(1) الجندي لعله هو الجنيد البغدادي سعيد بن محمّد الخزاز، الزجاج النهاوندي الأصل بغدادي المولد و المنشأ و المدفن من مشاهير العرفاء و أكابر الصوفية، كان تلميذ سفيان الثوري، توفى ببغداد سنة 297- وفيات الأعيان ج 1 ص 117-

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 445

و قد اشتهر عن بعض مشايخهم «1»، سبحاني سبحاني ما أعظم شأنى، و إني انا اللّه و إنّه ليس في جبّتي إلا اللّه، إلى غير ذلك من الهذيانات و الخرافات التي لو لا المراد إظهار شناعتها لما ساغ التعرّض لها، و ستسمع كثيرا من كلمات الملّا صدرا، و المحدّث الفيض في ذلك، بل من اطّلع على كلماتهم في ذلك يعلم أنّهم قد ملئوا فيه الكتب و الرسائل.

و كالقول بالأعيان الثابتة، و الصور العلمية، و قدم القرآن، و أنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء و إنّ اللّه أحب أن يعبد في كل صورة، صرّحوا بأنه ما عبد غير اللّه في كل معبود، إذ لا غير في الوجود، حتى أنّ من يعبد الشمس و القمر و الأصنام، و الأحجار، و العجل، و غيرها، فإنّما يعبد اللّه في صورة التقييد، و لذا أنشد أبن العربي في ذلك:

عقد الخلائق في الإله عقائداو أنا شهدت جميع ما اعتقدوه

لمّا بدا في صورهم متحوّلاقالوا بما شهدوا و ما جحدوه

قد أعذر الشرع الموحّد وحده و المشركين شقوا و إن عبدوه

و كالقول بأنّ فرعون اللّعين خرج من الدنيا موحّدا، خاليا عن جميع الذنوب و المعاصي «2»، و أن أبا طالب رحمه اللّه مات مشركا

______________________________

(1) هو أبو يزيد البسطامي طيفور بن عيسى من أكابر متقدمي الصوفية، و في المستشرقين من يرى انه كان يقول بوحدة الوجود، و انه ربما كان أول قائل بمذهب الفناء، و شطيحاته معروفة منها انه كان يقول: انى انا اللّه لا إله إلا انا فاعبدون، و منها انه كان يقول: سبحاني و ما أعظم شأني.

- الاعلام زركلي ج 3 ص 339- و تذكرة الأولياء للعطار ص 112.

(2) قال ابن العربي في الفصوص و شارحه في الفصّ الموسوي: فقالت لفرعون في حق موسى انه قرة عين لي و لك فيه أي في موسى «قرة عينها بالكمال الذي حصل لها و كان قرة عين لفرعون

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 446

«3»، كما ذهب إلى القولين ابن

______________________________

بالايمان الذي أعطاه اللّه عند الغرق» و ذلك لأنّ الحقّ تكلّم بلسانها من غير اختيارها و أخبر بأنه قرة عين لها و لفرعون فوجب أن يكون كذلك في نفس الأمر «فقبضه» اي الحق «طاهرا مطهرا ليس فيه شي ء من الخبث لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام و الإسلام يجّب ما قبله و جعله آية على عنايته سبحانه بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة اللّه، فانّه لا ييأس من رحمة اللّه إلا القوم الكافرون، فلو كان فرعون ممن ييأس ما بادر إلى الايمان.

- شرح نهج البلاغة للخوئي ج 13 ص 146-

(3) أبو طالب بن عبد المطلب اسمه عبد مناف و قيل اسمه عمران،

و قيل اسمه كنيه كان رضوان اللّه عليه عالما كبيرا أديبا محلقا، شاعرا مجيدا، له ديوان مطبوع يحتوي على الشعر الرائق، و كان مجاهدا في سبيل اللّه، يعمل الخير من أجل الخير، يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، و هو الذي قرّر دية المقتول ألف دينار أو مأة إبل و قد أمضاها الإسلام و كان بعد أبيه سيد البطحاء، و رئيس قريش و الناس يعظّمونه و بنو هشام يأتمرون بأمره، و ينزجرون بزجره، و كان كافل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و ناصره منذ مات أبوه عبد المطلب و كان يؤثر الرسول (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، على نفسه و أهله بالنفقة و الكسوة، و لا يبارحه ليلا و نهارا، و يقتفي اثره و يتبعه اتباع الظل، حتى إذا بلغ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، أشدّه و بعث من اللّه تعالى للهداية، و نازع معه الكفار و أهل الغواية، كان أبو طالب يومئذ أشدّ حام له (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، كما أنّ ابنه علي بن أبي طالب عليه السّلام أوّل من آمن برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، هو أيضا أول من أعلن حمايته له (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و قال: فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةو أبشر بذاك و قرّ منك عيونا

و دعوتني و علمت أنّك صادق و لقد صدقت و كنت ثمّ أمينا

و لقد علمت بأنّ دين محمّدمن خير أديان البرية دينا

و اللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا

و كان النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في أيّام الحصار في

الشعب إذا أخذ مضجعه و نامت العيون جاء أبو طالب و أنهضه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، عن مضجعه و أضجع عليا (عليه

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 447

______________________________

السّلام)، مكانه و وكّل عليه ولده و ولد أخيه.

توفّى أبو طالب مسلما مؤمنا في آخر السنة العاشرة من مبعث الرسول (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، ثمّ توفيّت خديجة بعده بثلثة أيّام فسمّى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، ذلك العالم عام الحزن

فقال (عليه السّلام): و ما زالت قريش قاعدة عنيّ حتى مات أبو طالب.

و من الأسف جدّا تحريف هذه الشخصية الكبرى و نسبته إلى الكفر حسدا و بغيا عليه و على أمير المؤمنين ولده العزيز من أراد الاطلاع تفصيلا عن كلمات الأعداء في حقه و الجواب عنهم فليراجع الكتب القيّمة، المصنفة في ايمان أبي طالب و إليك ما تيسّر لنا ذكره:

1- منى الطالب في إيمان أبي طالب لابي سعيد النيسابوري.

2- ايمان أبي طالب لأحمد بن القاسم.

3- البيان من خيرة الرحمن لأبي الحسن علي بن بلال.

4- ايمان أبي طالب لأبي علي الكوفي أحمد بن محمّد.

5- ايمان أبي طالب لأبي الحسين أحمد بن محمّد بن طرخان.

6- ايمان أبي طالب للشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن نعمان.

7- ايمان أبي طالب لابي محمّد سهل بن احمد الديباجي.

8- منية الطالب للسيد حسين الطباطبائي اليزدي.

9- مقصد الطالب للميرزا محمّد حسين المطبوع في بمبئي.

10- القول الواجب للشيخ محمّد علي الفصيح.

11- بغية الطالب للسيد القاضي التستري الهندي.

12- ايمان أبي طالب للسيد احمد بن طاووس.

13- ايمان أبي طالب لأبي نعيم علي بن حمزة البصري.

14- أسنى المطالب للسيد احمد بن السيد زيني الشافعي.

15- مواهب الواهب للشيخ جعفر نقدي.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 1، ص: 448

العربي و غيره.

و كالقول بانقطاع العذاب للمشركين و الكفار من أهل النار، و أن النار تصير رحمة لهم، و العذاب عذبا للمجانسة «1»، و بجواز خلف الوعيد و غيرهما من الوجوه

______________________________

16- ابو طالب مؤمن قريش للخنيزي.

17- الحجّة على الذاهب للسيد شمس الدين بن معد.

18- ابو طالب و بنوه للسيد محمّد علي آل السيد عليخان.

(1) قال ابن العربي في الفص اليونسي من الفصوص: و أمّا أهل النار فمآلهم إلى النعيم و لكن في النار إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء حدّة العقاب أن يكون بردا و سلاما على من فيها و هذا نعيمهم فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل اللّه حين القي في النار.

قال القيصري في شرحه: أي مآل أهل النار إلى النعيم المناسب لأهل الجحيم إمّا بالخلاص من العذاب و الالتذاذ به بالتعود أو تجلّى الحق في صورة اللطف في عين النهار كما جعل النار بردا و سلاما على إبراهيم و لكن ذلك بعد انتهاء مدة العقاب كما جاء: ينبت في قعر جهنم الجرجير، و ما جاء نص بخلود في النار و لا يلزم منه الخلود في العذاب.

و قال القيصري أيضا في شرحه الفصّ الهودي: و اعلم أنّ كل من اكتحلت عينه بنور الحق يعلم أنّ العالم بأسره عباد اللّه و ليس لهم وجود و صفة و فعل إلا باللّه و حوله و قوته، و كلهم محتاجون إلى رحمته و هو الرحمن الرحيم و من شأن من هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذّب أحدا عذابا أبدا و ليس ذلك المقدار من العذاب أيضا إلا لأجل إيصالهم إلى كمالاتهم المقدرة لهم كما يذهب الذهب و الفضة في النار

لأجل الخلاص مما يكدّره و ينقض عباده فهو متضمن لعين اللطف و الرحمة كما قيل: و تعذيبكم عدل و سخطكم رضاو قطعكم وصل و جوركم عدل

قال شارح نهج البلاغة العلّامة الخوئي بعد ذكر هذه الكلمات السخيفة:

أقول: فلينظر العاقل إلى هذين الضليلين كيف يخالفان إجماع المسلمين، و ينبذان آيات الكتاب المبين وراء ظهورهما بآرائهم الفاسدة و الاستحسانات الكاسدة، و يعتمدان في ذلك

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 449

الضعيفة التي ستسمع ضعف الجميع، سيّما بعد قيام ضرورة دين الإسلام على فساده، و تظافر الآيات و الأخبار الدالّة على خلودهم فيها معذّبين.

بل هذا القول و إن أبداه ابن العربي و تبعه فيه كثير من المبتعدين و المنحرفين عن طريقة الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين، بل ربما مال إليه بعض المنتحلين بهذا الدين كالصدر الأجلّ الشيرازي في بعض كتبه، إلّا أنّه مقالة شرذمة من اليهود حيث قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1»، فرد اللّه عليهم بقوله: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «2»، بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ «3»، الى غير ذلك من المذاهب السخيفة الباطلة التي يدعون فيها الكشف و الشهود، مع قيام قواطع الأدلّة على خلافها، حسبما سمعت شطرا منها.

بل ربما يدّعون أنّهم قد شاهدوا في مكاشفاتهم و تجلّياتهم و لبعض مشايخهم أو خلفائهم مناصب جليلة، و مراتب عظيمة ربما تكون مضحكة للثكلى بل ذكر مميت الدين ابن العربي في حتوفاته في ترجمة من سمّاهم بالأولياء الرجبيين: ان الذي رأيته منهم قد أبقى عليه كشف الروافض من أهل الشيعة في تمام السنة، فكان يراهم

خنازير، فأتي الرجل المستور الذي لا يعرف عليه هذا المذهب قطّ، و هو

______________________________

على أخبارهم المجعولة و أحاديثهم الموضوعة، و قد تبعهما في حديثهم المرسل المجعول المتصوف الجامي في شرح منتخب الفصوص حيث نقل عن النبيّ (ص) إنّ بعض أهل النار يتلاعبون بالنار، و هذه الأحاديث مضافا إلى مخالفتها لصريح الآيات و روايات المتواترات قد نصّ في أخبارهم بأنها مجعولة كاذبة.

(1) البقرة: 80.

(2) البقرة: 80.

(3) البقرة: 81.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 450

تفسير الصراط المستقيم ج 2 5

في نفسه موف به يدين به ربه، فاذا مرّ عليه يراه في صورة خنزير فيستدعيه و يقول له تب إلى اللّه فإنّك شيعيّ رافضيّ، فيبقى الآخر متعجبا من ذلك، فإن تاب و صدق في توبته رآه إنسانا، و إن قال به بلسانه تبت و هو يضمر مذهبه لا يزال يراه خنزيرا، فيقول كذبت في قولك تبت، إلى آخر ما ذكره لعنه اللّه و أخزاه فإنّه أخبر من كشفه عن سؤته فهذا حال من ادّعى منهم الكشف و الشهود.

دم زند از كشف و نبود جز هوس كشف عورت ميكند امّا ز پس

و دع الخطب فيه و في أصحابه و أحزابه الذين كانوا على السنّة الشنيعة

فدع عنك نهبا صيح في حجراته و لكن حديثا ما حديث الرواحل

و هلّم الخطب في بعض من تبعهم على غرّة و غفلة من الشيعة الإمامية الذين لم يقتصّوا آثار أئمتهم في مذاهبهم، و مشاربهم، و مسالكهم حتى ظهر منهم القول بوحدة الوجود، و الأعيان الثابتة، و انبساط وجوده على الأعيان و القول بفاعليته بالتجلي لا الاختيار «1»، و أنّ عذاب النار ينقطع عن الكفّار و هذا كله إنّما نشأ من انحرافات الطريقة، و اعوجاج السليقة، و

قد قال سبحانه: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «2» و المراد بالطريقة مقتضيات الولاية، و قد أمر بالوزن و اقامة الميزان في قوله:

وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ «3»، و قوله: وَ السَّماءَ (اي النبوة) رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ (اي الولاية)

______________________________

(1) قدر مر تفصيل هذا القول في التعليقات السابقة.

(2) الجن: 16.

(3) الإسراء: 35.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 451

أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ «1» و بالجملة فإقامة ولايتهم قولا و فعلا و عملا و قلبا و إرادة و اعتقادا هي الميزان العدل المستقيم الذي يعرف به الحق من الباطل.

كما

ورد في أخبار كثيرة ليس منا من يدّعي ولايتنا و هو متشبث بفروع غيرنا.

فإن قلت: إنّا نعلم كثيرا ممّن يدّعى الكشف يتراءى لهم في مكاشفاتهم ما هو مخالف عندك للحق و هو صادق في دعواه للكشف، غير متعمّد للكذب فما السبب الذي يكشف به الباطل مع أنّ فتح هذا الباب يئول إلى سدّ باب الكشف رأسا لفقد الترجيح و الأولوية، و تطرّق الاحتمال في كل حال؟

قلت: لا ريب أنّ الكشف الصحيح يتضمّن أمرين:

أحدهما إصابة الواقع سواء كان المنكشف عن الصور المثالية الحسية أو النسب العلمية.

و الآخر ظهور المنكشف على وجه الانجلاء و الوضوح.

أمّا الأول فالطبائع و الأذهان سيما بعد التشبّث بالأديان مختلفة في كمية الإصابة، و كيفيّتها، و سرعتها، و بطؤها، و ساير مشخصاتها، و الفطرة و إن كانت مجبولة على الإصابة، و إدراك الوقايع، إلّا أنّها غير باقية على ما فطرها اللّه عليه، و كلما اقترف الإنسان ذنبا و إن تعقّبه التوبة و المغفرة فقد فقد عصمة و استقامة لا ترجع إليه أبدا، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ

أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ «2»

______________________________

(1) الرحمن: 9.

(2) الجاثية: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 452

و لعلّ تأثير بعض الانحرافات و الاعوجاجات بمنزلة ذي الخاصية غير مشروط بالعلم، بل يؤثّر مع الجهل أيضا، فاذا بقي العبد على جادّة الشريعة مراعيا لوظايف العبوديّة، و حقوق الولاية فحينئذ ينجلي في قلبه ضياء العلم و الحكمة و المعرفة، فيشرح صدره و يتّسع قلبه لقبول الأعمال الحسنة، و لو رود الخواطر الملكوتية على قليه، فبورود الواردات الملكية يقوى على الأعمال المرضيّة، و بممارسة الأعمال الحسنة يستعدّ قلبه لقبول أشعة أنوار العلم و المعرفة، فكلّ من الواردات القلبية و الأعمال البدنية يقوى على صاحبه، بل كان كل منهما مقدمة إعدادية، أو علّية مادية للآخر، بل لا يخفى سريان الحكم إلى جميع الواردات و الأعمال، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر، فإذا كانت الأعمال و الأفعال و الأقوال و الأحوال كلّها على نهج الاستقامة و الاعتدال على حسب ما يقتضيه إقامة الولاية كانت الثمرات المترتبة، و الخاطرات الواردة كلّها على نهج الصواب و السداد، و ان كان العكس فالعكس، ضرورة أنّ استقامة الشاخص يلزمه استقامة الظل، و يستلزم الاعوجاج الاعوجاج: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً «1»، و هو ما يقتضيه الفطرة الأصلية التي ربما يظهر مقتضياتها عند مصادفة عدم مزاحمة الموانع.

و بالجملة فالإصابة إنما تترّتب على ملازمة الصواب، فإذا كان هناك انحراف في شي ء من العقائد أو الأعمال انحرف بقدره وجه القلب الذي قلنا إنه كالمرآة عن المحاذاة و إذا تعدّى عن السنّة و المنهاج حدث فيه الاعوجاج.

و أمّا الثاني فاعلم أنّ مراتب

الرؤية القلبية مع قطع النظر عن كونها على وجه

______________________________

(1) الأعراف: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 453

الصواب أو الخطأ تختلف باعتبار شدة ظهور المرئي و خفائه، و بينهما مراتب لا تكاد تتناهى كما أنّ مراتب الرؤية البصرية تختلف أيضا هذا الاختلاف و إن لم تكن افرادها كالأولى في الكثرة، فإذا نظرت في ظلمة الليل الدامس «1»، إلى رجل واقف في مقابلتك فلعلك لا ترى شخصه و لا شبحه أصلا فإذا انكشف السحاب، و تجلى لك بعض النجوم ترى شبحا قائما في مقابلتك غير أنّك لا تعلم أنّه إنسان أو حجر موضوع أو شي آخر من الأجسام، فإذا طلع الفجر تبيّن لك أنّه إنسان لكنك لا تعرف شخصه و لا اسمه و بزيادة النور يزيد العلم بخصوصياته و مشخصاته حتى أنّك بعد طلوع الشمس تعرف أوصاف الشخصية من لونه و شكله، و تخطيط أعضائه و خصوصيات حركاته و أفعاله فينجلي لك جميع ذلك انجلاء ظاهرا واضحا مكشوفا لا خفاء فيه أصلا بل لا يخفى أنّك ربما ترى شبح ذلك الرجل و أنت تعرفه في ظلمة الليل، ثم يتوارد عليه في رؤيته مراتب الظهور و الانجلاء بعد شدة الظلمة و الخفاء، و المرئي في جميع ذلك هو ذلك الرجل المعلوم اولا.

و هذا الكلام في الرؤية القلبية بلا فرق بين الصواب منها و الخطأ، كما أنّه لا فرق في الرؤية البصرية بين الأحول و الصحيح.

و بالجملة فالاعتقادات الراسخة في القلب حقّا كان أو باطلا يشتدّ ظهورها و انجلاؤها و انكشافها بالمجاهدات و الرياضات التي مدارها عندهم على الأمور الأربعة و هي الجوع، و السهر، و العزلة، و الصمت.

أمّا الجوع فانه ينقص دم القلب فيبيّضه، و في بياضه نوره،

و يذيب شحم الفؤاد، و في ذوبانه رقّته، و كما أنّ قسوته سبب الحجاب فرقّته سبب الانجلاء

______________________________

(1) الدامس: المظلم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 454

و الكشف.

و لذا

روى أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود النبيّ على نبينا و آله و عليه السّلام يا داود حذّر و أنذر أصحابك أكل الشهوات، فإنّ القلوب المتعلّقة بشهوات الدنيا عقولها عنّي محجوبة «1»

و

عن مولينا الصادق (عليه السّلام): اجتمعت العلماء و الحكماء على أنّ النعيم لا يدرك إلّا بترك النعيم «2».

و

عن المسيح الملكوتي على نبينا و آله و عليه السّلام: يا معشر الحواريين جوّعوا بطونكم لعلّ قلوبكم ترى ربكم «3»

في الخبر: إنّ البطنة تميت الفطنة.

و

في النبوي: أحيوا قلوبكم بقلّة الضحك و الشبع و طهّروا بالجوع تصفوا «4»

و

فيه مثل الجوع مثل الرعد، و القناعة كالسّحاب، و الحكمة كالمطر «5»

و بالجملة فالجوع يلزمه صفاء القلب، و فراغ النفس، و خفّه الطبع و إيقاد القريحة، و نفاذ البصيرة، و رقّة القلب و صفائه الذي به يتهيأ الإنسان لإدراك لذّة المناجاة، و للتأثر من الذكر، برفع حجاب قساوة القلب التي تمنع من ذلك، مع

______________________________

(1)

روى في معالم العبر في استدراك البحار السابع عشر عن الاختصاص قال اللّه لداود (عليه السّلام): يا داود احذر القلوب المعلقة بشهوات الدنيا فإنّ عقولها محجوبة عني.

معالم العبر: ص 24.

(2) رواه في احياء الأحياء ج 5 ص 116 عن جعفر بن حميد.

(3)

قال في احياء الأحياء ج 5 ص 148: قال عيسى (عليه السّلام): أجيعوا أكبادكم و أعروا أجسادكم فلعل قلوبكم ترى اللّه (عز و جل).

(4) احياء الأحياء ج 5 ص 154.

(5) احياء الأحياء ج 5 ص 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 455

ما يلزمه من الانكسار، و قمع الشهوات، و الذلّ، و رفع

الأشر و البطر الذي هو مبدء الطغيان، و الغفلة عن الرحمان، فقد قيل: إنه لا تنكسر النفس و لا تذلّ بشي ء مثل ما تذّل بالجوع، فعنده تستكين لربّها، و تخشع له و تشاهد عجزها و ضعفها، حيث إنّها عجزت، و ذلّت، و ضعفت، و أظلمت عليها الدنيا و ضاقت حياتها، و استكانت لربّها، بلقمة طعام فاتتها، أو شربة ماء تأخّرت عنها، و ما لم يشاهد الإنسان ذلّ نفسه، و عجزها، لا يرى عزة ربّه، و قهره، و جلالته «1» ثم لا يخفى أنّ مبدء المعاصي كلّها هو الشهوات النفسانية، و الميول الحيوانية التابعة للقوى الطبيعية، و الإرادية، و مادّة كلّ ذلك هي الأطعمة التي يستمدّ منها القوى البهيمية و الشهوات النفسانية، فتقليلها يضعّف جميعها، فيجعلها مقهورة، تحت سلطان العقل، فالسعيد من ملك نفسه، و الشقي من ملكته نفسه، و أمّا النفس كالدابة الجموح إذا جاعت ضعفت، و ضمرت، و انقادت، و إذا شبعت قويت، و شردت، و جمحت و لذا قيل: إنّ الجوع كنز الفوائد و مجمع العوائد و إنّه خزانة من خزائن اللّه تعالى، و لعلّه أيضا أحد الوجوه

في النبوي (ص): المعدة بيت كلّ داء، و الحمية رأس كل دواء

، ثم إنّ الجوع يعين على غيره من الأمور الأربعة المذكورة و على غيرها.

أمّا السهر فقلّة الأكل، و خلوّ المعدة، و قلّة الأبخرة المتصاعدة و ضعف القوى البدنية كلها تعين عليه، و سبب الجميع هو الجوع، كما أنّ الشبع سبب لأضدادها، و لذا قيل: لا تأكلوا كثيرا فتشربوا كثيرا، فترقدوا كثيرا فتخسروا كثيرا «2»، و السهر يجلي القلب، و ينوّره، و يصفّيه، فيصير القلب كالمرآة المجلّوة المستعدة

______________________________

(1) احياء الأحياء ج 5 ص 155.

(2) احياء

الأحياء ج 5 ص 158.

تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 456

لظهور ما قوبل بها فيها.

و أمّا العزلة و الصمت فالمقصود الكلّي منهما دفع الشواغل الخارجة، و ضبط السمع و البصر الذين هما دهليز القلب عن الواردات الشاغلة له عما ينبغي الاشتغال به، و لذا قيل: إنّ القلب بمنزله حوض تنصبّ فيه مياه كدرة قذرة من أنهار الحواسّ، و المقصود من الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه، و من الطين الحاصل فيه لينحضر أسفل الحوض، فينفجر منه الماء اللطيف الطاهر فكيف يصحّ أن ينزع الماء من الحوض و الأنهار مفتّحة إليه فيتجدّد في كل حالة أكثر مما ينقص، فلا بدّ من ضبط الحواسّ إلا عن قدر الضرورة.

و بالجملة فالّذي ذكروه من الرياضة بالأمور الأربعة، و غيرها مما يوجب صفاء النفس و تفريغها، و ميلها إلى عالم الأعلى إنّما يوجب في الغالب صيرورة المعتقدات بمنزلة المشاهدات، و أمّا الإصابة و المطابقة للواقع فإنما هي أمر آخر وراء ذلك حسبما مرّت اليه الإشارة، و إنّما تحصل بملازمة الشرع و مداومة التقوى، و الاعتصام بحبل الولاية، و لزوم الاستقامة من البداية إلى النهاية.

و لذا ترى كثيرا من العامّة بل غيرهم من فرق الكفر و الشرك أيضا ينكشف لهم في رياضاتهم و مجاهداتهم المنحرفة المبتدعة صحة مذاهبهم الباطلة و عقائدهم السخيفة الزائلة كما هو المعروف من ابن العربي في مشاهداته و غيره، بل ربما تقذف الشياطين في قلوبهم، و يسمعهم صوتها في آذانهم كما

سمعه الحسن البصري حين تهيّأ لقتال البصرة على ما رواه في الاحتجاج عن ابن عباس قال: مرّ أمير المؤمنين عليه السّلام بالحسن البصري «1»، و هو يتوضّأ فقال عليه السّلام: يا حسن أسبغ

______________________________

(1) الحسن البصري بن اليسار،

أو سعيد: تابعي، كان من الزهاد الثمانية و أمّه خيرة مولاة أم سلمة تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 457

الوضوء، فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناسا يشهدون أن لا اله الا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، يصلّون الخمس، و يسبغون الوضوء، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدوّنا؟

فقال: و اللّه لأصدقنك يا أمير المؤمنين لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت، و تحنّطت، و صببت علىّ سلاحي، و انا لا أشكّ في أنّ التخلّف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فلمّا انتهيت إلى موضع من الحزيبة «1»، ناداني مناد: يا حسن إلى اين؟

إرجع فان القاتل و المقتول في النار، فرجعت ذعرا «2»، و جلست في بيتي، فلما كان

______________________________

زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، ولد الحسن سنة 21 بالمدينة و استكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، و سكن البصرة.

في كتاب العدد للشيخ رضي الدين علي بن يوسف بن مطهر الحلي أن الحسن البصري كتب إلى الحسن بن علي عليهما السّلام: أما بعد فأنتم أهل بيت النبوة، و معدن الحكمة، و إن اللّه جعلكم الفلك الجارية في اللجج الغامرة يلجأ إليكم اللاجئ، و يعتصم بحبلكم العالي، من اقتدى بكم اهتدى، و من تخلّف عنكم هلك و غوى، فكتب عليه السّلام اليه: أما بعد فإنّا أهل بيت كما ذكرت عند اللّه و عند أوليائه، فما عندك و عند أصحابك فلو كنا كما ذكرت ما تقدمتمونا و لا و لا استبدلتم بنا غيرنا، و لعمري لقد ضرب اللّه مثلكم في كتابه حيث يقول: أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي

هُوَ خَيْرٌ إلخ

، توفّى الحسن البصري سنة 110 ه، قال ابن أبي الحديد: و ممن قيل فيه إنّه ببغض عليا و يذمّه الحسن البصري، و

روى أنّ عليا عليه السّلام راى الحسن البصري يتوضأ في ساقية فقال عليه السّلام: أسبغ طهورك قال لقد قتلت بالأمس رجالا كانوا يسبغون الوضوء، قال عليه السّلام: و إنك لحزين عليهم؟ قال: نعم فقال عليه السّلام: فأطال اللّه حزنك.

- ميزان الاعتدال ج 1 ص 254- سفينة البحار ج 1 ص 263.

(1) الحزيبة بضم الحاء و فتح الزاء كجهينة موضع بالبصرة تسمى البصرة الصغرى.

(2) الذعر بضم الذال، و فتحها هو الخوف- المنجد ص 235-. تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص: 458

اليوم الثاني لم أشكّ أنّ التخلّف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنّطت و صببت علي سلاحي، و خرجت إلى القتال، حتى انتهيت إلى موضع من الحزيبة فناداني مناد من خلفي يا حسن إلى أين مرّة بعد اخرى؟ فإن القاتل و المقتول في النار، قال علي عليه السّلام: صدقت أ فتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا، قال علي (عليه السّلام): ذاك أخوك إبليس و صدقك أنّ القاتل منهم و المقتول في النار «1»

، إلى غير ذلك مما لا يحصى، و هذا كلّه من وحي الشياطين المشار اليه بقوله: وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ «2»، و قوله: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ «3»، وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ «4» انتهى المجلّد الأوّل و له الحمد

______________________________

(1) الاحتجاج طبع النجف مطبعة النعمان ج 1 ص 250.

(2) سورة

الانعام آية 121.

(3) سورة الانعام: 112.

(4) سورة الانعام: 113.

الجزء الثاني

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على سيّد المرسلين محمد و آله الطيبين الطاهرين.

و بعد، هذا هو الجزء الثاني من مقدّمة الكتاب القيّم «الصراط المستقيم» تأليف العلامة النحرير، و الرجالي الخبير، و المفسّر البصير، آية اللّه السيّد حسين بن السيد رضا البروجردي قدّس اللّه سرّه العزيز.

و هذا الجزء كسابقه يحتوي على مطالب رشيقة، و حقائق دقيقة ينبغي لكلّ سألك يسلك سبيل فهم القرآن الكريم أن يعلمها.

المفتقر إلى رحمة ربّه الغفور غلام رضا بن علي أكبر الملقّب ب «مولانا» البروجردي

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 7

الباب الخامس

في أن في القرآن تبيان كل شي ء و جامعيته للعلوم و الحقائق و كيفية انشعابها منه

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 9

اعلم أن العلم التفصيلي بهذا الباب لا يحصل إلا لمن آتاه اللّه علم الكتاب، و فصل الخطاب، و ميّز القشر من اللّباب، و كان واقفا مقيما في الكون الكبير على باب الأبواب، لإطاعه على حقائق الملك و الملكوت، و إفاضته على سرادق سلطان الجبروت، و دوام فقره و عبوديته و انقطاعه الى الحّي الذي لا يموت، كي يطّلع بعد ذلك بما هنالك من أسرار التشريع و التكوين، و ينطبق عنده إشارات التدوين، و أما نحن و من هو في درجتنا فإنّما آمنّا بذلك من جهة الإيمان بالغيب الذي هو من مراتب الإيمان و درجات التقوى و ذلك لما تقرر عندنا من مساوقة التدوين للتكوين بعد ما استفاضت به الأخبار من

أن نبينا صلّى اللّه عليه و آله قد أشهده اللّه خلق خلقه، و ولّاه ما شاء من أمره و انّه صلّى اللّه عليه و آله و آله يعلمون جميع ما في السّماوات و

الأرض و ما فيهن و ما بينهن و ما فوقهن و ما تحتهن، كل ذلك علم إحاطة، كما ورد في بعض الأخبار

. و يشهد له الإعتبار، أو علم اخبار كما هو القدر المعلوم من الشريعة.

هذا مضافا الى الآيات و الأخبار الدالّة على اشتماله على كل شي ء من التكوينات و التشريعات، كقوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «1»، و قوله:

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «2»، بناء على إرادة الكتاب منه، و قوله:

______________________________

(1) الأنعام: 38.

(2) يس: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 10

وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1»، و قوله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «2»، الى غير ذلك من الآيات الظاهرة بنفسها لعمومها في ذلك، سيّما بعد ورود البيان و التفسير لها في الأخبار.

فروى العيّاشي في تفسيره عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: (نحن و اللّه نعلم ما في السّماوات، و ما في الأرض، و ما في الجنة، و ما في النار، و ما بين ذلك) ثمّ قال: إن ذلك في كتاب اللّه، ثمّ تلا هذه الآية: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «3».

و

في الكافي عنه عليه السّلام: (إن اللّه أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء حتى و اللّه ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلّا و قد أنزله اللّه فيه) «4».

و

فيه عنه عليه السّلام: (إنّي لأعلم ما في السموات و ما في الأرض، و أعلم ما في الجنّة و أعلم ما في النّار، و أعلم ما كان و ما يكون، ثم سكت هنيئة فرأى

أنّ ذلك كبر على من سمعه منه) فقال عليه السّلام: (علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ و جلّ، إن اللّه يقول: «فيه تبيان كل شي ء» «5».

و

فيه عنه عليه السّلام: ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه، و لكن

______________________________

(1) النمل: 75.

(2) النحل: 89.

(3) تفسير العياشي ... طبع طهران ج 2 ص 266، البرهان ج 2 ص 380.

(4) الأصول من الكافي ج 1 ص 59.

(5) الأصول من الكافي ج 1 ص 261، ط. الآخوندي مع تعليقة الغفاري، و لا يخفى أن جملة (فيه تبيان كلّ شي ء) نقل بالمعنى لأنها تكون هكذا تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 11

لا تبلغه عقول الرّجال «1».

و

عن أبي جعفر عليه السّلام: إنّ اللّه لم يدع شيئا يحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله، و جعل عليه دليلا يدلّ عليه، و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا «2».

و

فيه عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا حدّثتكم بشي ء فاسئلوني أين هو من كتاب اللّه عزّ و جلّ؟ ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن القيل و القال، و فساد المال و كثرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول اللّه أين هذا من كتاب اللّه تعالى؟ قال عليه السّلام: إنّ اللّه يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ «3»، و قال: لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً «4»، و قال: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ «5» «6».

و

فيه عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعت

أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: (و اللّه إني لأعلم كتاب اللّه من أوّله إلى آخره كأنّه في كفّي، فيه خبر السّماء و خبر الأرض، و خبر ما كان، و خبر ما هو كائن، قال اللّه عزّ و جل: «فيه تبيان كل شي ء» «7».

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 1 ص 60.

(2) الأصول من الكافي ج 1 ص 59.

(3) النساء: 114.

(4) النساء: 5.

(5) المائدة: 101.

(6) الأصول من الكافي ج 1 ص 60.

(7) الأصول من الكافي ج 1 ص 229، قد مرّ أنّ جملة «فيه تبيان كلّ شي ء» نقل بالمعنى فإنّها في القرآن هكذا: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 12

و

في «تأويل الآيات» نقلا عن «مصباح الأنوار» لشيخ الطائفة بالإسناد عن المفضّل قال: دخلت على الصّادق عليه السّلام ذات يوم، فقال لي يا مفضّل هل عرفت محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهما السّلام كنه معرفتهم؟ قلت: يا سيّدي و ما كنه معرفتهم؟ قال عليه السّلام: يا مفضّل من عرفهم كنه معرفتهم كان مؤمنا في السّنام الأعلى «1»، قال: قلت: يا سيدي عرّفني ذلك، قال: يا مفضّل تعلم أنّهم علموا ما خلق اللّه عزّ و جل و ذرأه و برأه، و أنّهم كلمة التقوى، و خزّان السماوات و الأرضين، و الجبال، و الرّمال، و البحار، و علموا كم في السّماء من نجم، و ملك، و وزن الجبال، و كيل ماء البحار، و أنهارها، و عيونها، و ما تسقط من ورقة إلّا علموها، وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «2» و هو في علمهم و قد علموا ذلك، فقلت يا سيّدي و قد علمت

ذلك و أقررت به و آمنت قال عليه السّلام: نعم يا مفضّل يا مكرّم، نعم يا محبور، نعم طيّب طبت و طابت لك الجنة و لكلّ مؤمن بها) «3».

و

في «البصائر»، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبيه، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام: قال: قلت له: جعلت فداك، النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ورث علم الأنبياء كلّهم؟

قال عليه السّلام: نعم، قلت: من لدن آدم إلى انتهى الى نفسه؟ قال: نعم قلت: ورثهم النبوّة و ما كان في آبائهم من النبوّة و العلم؟ قال عليه السّلام: ما بعث اللّه نبيا إلّا و قد كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعلم منه، إلى أن قال عليه السّلام و سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده

______________________________

(1) السنام الأعلى: أي أعلى مدارج الإيمان، و سنام كلّ شي ء أعلاه.

(2) الأنعام: 59.

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 303 ط القديم عن مصباح الأنوار. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 13

و شكّ في أمره: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ «1» و كان المردة «2» و الريح، و النمل، و الإنس، و الجنّ، و الشياطين له طائعين، و غضب عليه، فقال:

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «3» و إنّما غضب عليه لأنه كان يدلّه على الماء، فهذا و هو طير قد أعطي ما لم يعط سليمان. الى أن قال عليه السّلام: إنّ اللّه يقول في كتابه: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى «4» فقد ورثنا نحن هذا القرآن، فعندنا ما تسير به الجبال، و تقطع به البلدان، و يحيى به الموتى بإذن اللّه، و نحن

نعرف ما تحت الهواء، و إن كان في كتاب اللّه لآيات ما يراد بها أمر من الأمور التي أعطاها اللّه الماضين النبيين و المرسلين إلّا و قد جعله اللّه تعالى ذلك كله لنا في أمّ الكتاب، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «5»، ثم قال عزّ و جلّ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «6»، فنحن الذين اصطفانا اللّه فقد ورثنا علم هذا القرآن الّذي فيه تبيان كل شي ء. «7»

و

في «تفسير القمي» و غيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خبر طويل و فيه: فجاءهم النبي صلّى اللّه عليه و آله بنسخة ما في الصحف الأولى، و تصديق الذي بين يديه،

______________________________

(1) النمل: 20.

(2) المردة: بفتح الميم و الراء و الدال جمع المارد و هو العاصي و المراد بها الجن.

(3) النمل: 21.

(4) الرعد: 31.

(5) النمل: 75.

(6) فاطر: 32.

(7) البحار ج 14 ص 112 ح 4 عن الكافي ج 1 ص 226. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 14

و تفصيل الحلال من ريب الحرام، و هو ذلك القرآن، فاستنطقوه و لن ينطق لكم أخباره، فيه علم ما مضى، و علم ما يأتي إلى يوم القيامة، و حكم ما بينكم، و بيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه لأنّي أعلمكم الخبر «1».

و

في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام إنّ في القرآن ما مضى و ما يحدث و ما هو كائن.

و

في «الكافي» عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث أنه قال: ما من شي ء تطلبونه إلّا و هو في القرآن فمن أراد ذلك فليسألني عنه «2».

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام

في خطبة له مذكورة في نهج البلاغة: ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقّده، و بحرا لا يدرك قعره و منهاجا لا يضلّ نهجه، و شعاعا لا يظلم ضوئه، و فرقانا لا يخمد برهانه، و بيانا لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه، و عزّا لا تهزم أنصاره، و حقّا لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان و بحبوحته «3» و ينابيع العلم و بحوره، و رياض العدل و غدرانه «4» و أثافي «5» الإسلام و بيانه، و أودية الحقّ و غيطانه «6»، و بحر لا ينزفه

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 22 ط القديم.

(2) بحار الأنوار ج 10 ص 26 ط القديم.

(3) بحبوحة المكان- بضم البائين-: وسطه.

(4) الرياض: جمع روضة و هي مستنقع الماء في رمل أو عشب، و الغدران بضم الغين: جمع غدير: القطعة من الماء يغادرها السيل، و المراد أن القرآن يجمع العدل تلتقي فيه متفرقاتها.

(5) الأثافي: جمع أثفية و هو الحجر يوضع عليه القدر، أي: عليه قام الإسلام.

(6) غيطان: جمع غاط أو غوط، و هو المطمئن من الأرض،

يقول عليه السّلام: القرآن منابت الحق يزكو الحق بها و ينمو. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 15

المنتزقون «1» و عيون لا ينضبها الماتحون «2» و مناهل لا يغيضها الواردون «3» و منازل لا يضلّ نهجه المسافرون، و أعلام لا يعمى عنها السائرون و آكام لا يجوز عنها القاصدون «4» جعله اللّه ريّا لعطش العلماء «5»، و ربيعا لقلوب الفقهاء، و محاجّ لطرق الصلحاء «6» و دواء ليس بعده داء، و نورا ليس معه ظلمة، و حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و عزّا لمن تولّاه، و

سلما لمن دخله، و هدى لمن أئتمّ به، و عذرا لمن انتحله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم به، و فلجا لمن حاجّ به «7» و حاملا لمن حمله، و مطيّة لمن أعمله، و آية لمن توسّع، و جنّة لمن استلأم «8»، و علما لمن وعى، و حديثا لمن روى، و حكما لمن قضى «9».

و

في «المناقب» عن بكير بن أعين قال: قبض أبو عبد اللّه عليه السّلام ذراع نفسه و قال: يا بكير هذا و اللّه جلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذه و اللّه عروق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أعلم ما في الأرض، و أعلم ما في الدنيا، و أعلم ما في الآخرة، فرأى تغيّر جماعة، فقال: يا بكير إنّي لأعلم ذلك من كتاب اللّه إذ يقول:

______________________________

(1) لا ينزفه: أي لا يفنى مائه و لا يستفرغه المغترفون.

(2) و لا ينضبها- كيكرمها-: أي لا ينقصها، و الماتحون جمع ماتح: نازع الماء من الحوض.

(3) المناهل: جمع المنهل: مواضع الشرب من النهر، و لا يغيضها من باب الإفعال: أي لا ينقصها.

(4) آكام: جمع أكمة: و هو الموضوع المرتفع و هو دون الجبل في غلظ لا يبلغ الحجرية.

(5) الري- بكسر الراء و فتحها-: مصدر روي يروي من باب علم: روى من الماء: أي شرب و شبع.

(6) المحاج جمع محجة: و هي الجادة من الطريق.

(7) الفلج بفتح الفاء، الظفر و الفوز.

(8) الجنة بضم الجيم: ما به يتقى الضرر، و استلأم: لبس اللامة و هي الدرع أو جميع أدوات الحرب.

(9) نهج البلاغة تأليف السيد الرضي المتوفي سنة 406 في ذيل خطبة 196. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 16

نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ

تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» «2».

و

في تفسير فرات عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: سلوني قبل أن تفقدوني فو الّذي فلق الحبّة و برى ء النسمة إنّي لأعلم بالتوراة من أهل التوراة، و إنّي لأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل، و إنّي لأعلم بالقرآن من أهل القرآن، و الذي فلق الحبّة و برى ء النسمة ما من فئة تبلغ مائة إلى يوم القيامة إلّا و أنا عارف بقائدها و سائقها، سلوني عن القرآن، فإنّ في القرآن بيان كلّ شي ء، فيه علم الأولين و الآخرين، و إنّ القرآن لم يدع لقائل مقالا: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «3».

و

عن كتاب سليم بن قيس في خبر طويل أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: يا طلحة إنّ كلّ آية أنزلها اللّه تعالى على محمّد صلّى اللّه عليه و آله عندي بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّي بيده، و تأويل كلّ آية أنزلها اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كلّ حلال، أو حرام، أو حدّ، أو حكم، أو شي ء تحتاج إليه الأمّة الى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطي بيدي، حتى أرش الخدش الخبر «4».

______________________________

(1) النحل: 89.

(2) بحار الأنوار: ج 7 ص 302 و ج 19 ص 23 ط. القديم.

(3) بحار الأنوار ج 7 باب جهات علومهم ص 290 ط. القديم عن فرات بن إبراهيم.

(4) بحار الأنوار ج 7 باب جهات علومهم ص 291 ط القديم كتاب سليم بن قيس. و لا يخفى أن سليم بن قيس كان من كبراء أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام و مصنفيهم و كان هاربا من الحجّاج لأنه

طلبه ليقتله فلجأ الى أبان بن أبي عياش فآواه فلّما حضرته الوفاة قال لأبان: إن لك عليّ حقا و قد حضرتني الوفاة يا بن أخي أنه كان من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيت و كيت، و أعطاه كتابا و هو كتاب سليم بن قيس المشهور، رواه عنه ابن أبي عياش لم يروه عنه غيره، و كتابه هذا أقدم كتاب صنّف في الإسلام في عصر التابعين بعد كتاب السنن لابن أبي رافع و كان ذلك الكتاب في جميع الأعصار أصلا ترجع الشيعة اليه و تعول عليه حتى

روي في حقه عن الصادق عليه السّلام أنه قال: و من لم يكن عنده من شيعتنا و محبّينا كتاب تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 17

و

عن الحسن بن سليمان «1» في كتاب «المختصر» ممّا رواه من كتاب نوادر- الحكمة عن أبي الحسن الأول عليه السّلام في قوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى «2» فقد أورثنا اللّه تعالى هذا القرآن، ففيه ما يسير به الجبال و تقطّع به الأرض و يكلّم به الموتى، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه العزيز: وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «3»، و قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «4» فنحن الذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ فورثنا هذا الكتاب الّذي فيه كلّ شي ء «5».

و

في «البصائر» عن عبد الأعلى قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ابتداء منه: و اللّه إنّي لأعلم ما في السموات و ما في الأرض، و ما في الجنّة و ما في النّار، و ما كان و ما يكون إلى

أن تقوم الساعة، ثم قال: أعلمه من كتاب اللّه أنظر اليه هكذا ثم بسط كفيّه ثم قال عليه السّلام إنّ اللّه يقول: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «6» «7».

و

فيه بأسانيد عديدة عنه عليه السّلام: إنّي لأعلم ما في السموات و أعلم ما في الأرضين و أعلم ما في الجنّة، و أعلم ما في النّار، و أعلم ما كان و ما يكون، ثم

______________________________

سليم بن قيس فليس عنده من أمرنا شي ء.

مقدمة بحار الأنوار للشيخ عبد الرحيم الشيرازي.

(1) الحسن بن سليمان بن خالد البجلي فاضل، فقيه، تلميذ الشهيد، و يروي عنه، له مصنفات منها مختصر بصائر الدرجات لسعد بن عبد اللّه الأشعري، و منها المختصر في الرد على الذين أنكروا حضور النبي و الأئمة عليهم السّلام عند المحتضر.

(2) الرعد: 31.

(3) النمل: 75.

(4) فاطر: 32.

(5) بحار الأنوار ج 7 ص 291 باب جهات علومهم و ما عندهم من الكتب ط القديم.

(6) النحل: 89.

(7) بحار الأنوار ج 7 ص 302 باب أنهم عليهم السّلام لا يحجب عنهم علم السماء و الأرض. ط القديم. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 18

مكث هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه، فقال عليه السّلام: علمت ذلك من كتاب اللّه تعالى إنّ اللّه يقول: «فيه تبيان كل شي ء» «1» «2».

و

في «الخرائج» عن عبد اللّه بن الوليد السمان قال: قال الباقر عليه السّلام: يا عبد اللّه ما تقول في عليّ و موسى و عيسى؟ قلت: ما عسى أن أقول، قال عليه السّلام: هو و اللّه أعلم منهما ثمّ قال: ألستم تقولون: إنّ لعلي ما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من العلم؟ قلنا:

نعم، و النّاس ينكرون، قال عليه السّلام فخاصمهم فيه بقوله

تعالى لموسى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ «3»، فعلمنا أنّه لم يكتب له الشي ء كلّه، و قال لعيسى:

وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ «4» فعلمنا أنه لم يبيّن له الأمر كله، و قال لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «5» «6».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ربما مرّ و يمرّ عليك ذكر بعضها في طي المقدمات، و في تضاعيف تفاسير بعض الآيات، و هي كما ترى ما بين ظاهرة و صريحة في ذلك، و العموم في بعضها كالمشتملة على ما تحتاج إليه الأمة، و حد كلّ شي ء حتى أرش الخدش، و غيرها و إن من كان جهة الأحكام الشرعية، و الأمور التعبدية، إلّا أنّه لا منافاة فيها لما يدلّ عليه غيرها ظهورا أو صراحة من

______________________________

(1) قد مر سابقا ان هذه الجملة «فيه تبيان كل شي ء» ليست من القرآن، بل هي منقولة بالمعنى من آية:

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 302 باب أنهم عليهم السّلام لا يحجب عنهم علم السماء و الأرض. ط القديم.

(3) الأعراف: 145.

(4) الزخرف: 63.

(5) النحل: 89.

(6) بحار الأنوار ج 7 ص 322 باب أنهم عليهم السّلام أعلم من الأنبياء. ط. القديم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 19

الشمول للحوادث، و الكينونات الدنيوية، و الأخروية، و لذا صرّحوا عليهم السّلام بأنّ فيه علم ما في السماوات و ما في الأرض، و ما في الجنة، و ما في النار إلى غير ذلك مما يؤيّد به الآيات المتقدمة، و إلّا فالإنصاف أنّها أيضا مستقلّة في الدلالة على ذلك بعمومها الذي ينبغي صرفه

إلى الحقيقة.

و توهّم أنّه مشتمل على آيات و ألفاظ معدودة متناهية دالّة بوجوه الدلالات العرفية المنحصرة في الثلاث «1» فكيف يكون المدلول بها تلك المعاني الكثيرة المشتملة على جميع ما مضى و ما يأتي إلى يوم القيامة، بل و بعد القيامة من الأحوال، و الأطوار، و الأفعال الكثيرة المتجددة الغير المتناهية الدائمة بدوامه سبحانه.

مدفوع بأنّ قلة الألفاظ و تناهيها لا تمنع من كثرة المعاني و لا تناهيها إذا كانت هناك سعة من جهة الدلالة، أ لا ترى أنّ الحروف المقطّعة منحصرة في ثمانية و عشرين حرفا و بها يعبّر من حيث وجوه التركيب و فنون الترتيب عن جميع المعاني و المقاصد التي يقع التعبير عنها بين أهل العالم في محاوراتهم، و مكاتباتهم، و تصانيفهم، فالمعاني لا ريب في لا تناهيها مع أنه يعبّر عنها بالألفاظ و إن لم يحط التعبير إلّا بالمحدود منها.

فإن قلت: إنّ وجوه الدلالة محصورة معروفة عند أهل المعرفة باللسان

______________________________

(1) الدلالة اللفظية الوضعية تنقسم على ثلاثة أقسام: المطابقة و التضمن و الالتزام كما قال التفتازاني في التهذيب: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة و على جزئه تضمن و على الخارج التزام. و كما قال المتأله السبزواري في منطقه: دلالة اللفظ بدت مطابقةحيث على تمام معنى وافقه

و ما على الجزء تضمنا و سم و الخارج المعنى التزام إن لزم تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 20

فلو دلّ القرآن على جميع المعاني و المفاهيم و الحقائق و الوقايع و الحوادث اليومية الجزئية حتى خصوص الحركات الصادرة عن خصوص أفراد الإنسان في جميع الأزمان بل ساير الشؤون و الأحوال و الأطوار و الحركات، و الخطرات، و الإرادات، و الاقتضاءات الواقعة في جميع العوالم

من الغيب، و الشهادة في الفلكيات و العنصريات، و المركبات المعدنية، و النباتية، و الحيوانية لفهمها أهل اللسان الذين قد أنزل اللّه تعالى بلسانهم الرسول و القرآن كما قال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «1»، و قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «2» و قال: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «3» و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «4».

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار الدالّة على ذلك على أنّ المفسّرين من الخاصّة العامّة قد تصدّوا لتفسيره و تنقيره، و تشمّروا للفحص عن تنزيله و تأويله فلم يزيدوا على ما دوّنوه من تفاسيرهم مع أنّهم ذكروا كلّ ما قيل من حقّ أو باطل، و أين هذا من كلّ الأحكام التي ذكروا أنّ القرآن لا يستفاد منه إلّا أقل قليل من مجملاتها، و لذا فزعوا إلى العمل بأخبار الآحاد، بل إلى ساير الطرق الظنّية في استنباط الأحكام الشرعية، بل أين هذا من جميع الحقائق التكوينية و الحوادث الكونية المتعلقة بجميع ذرّات العالم مما كان أو يكون إلى يوم القيامة.

قلت: هذا كلّه اجتهاد في مقابل النصوص، و جرأة في الردّ على أهل الخصوص، و قد قال سبحانه:

______________________________

(1) إبراهيم: 4.

(2) الشعراء: 193- 195.

(3) القمر: 17.

(4) الزخرف: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 21

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ «1» و ذلك أنّك قد سمعت منّا أولا أن التصديق التفصيلي في هذا الباب غير ممكن لنا، كيف و هو موقوف على تمام العلم و الإحاطة بظاهر القرآن و باطنه، و باطن باطنه، و هكذا إلى سبعة بطون أو سبعين بطنا أو أزيد

من ذلك، بل قد ورد أنّ الكلمة من آل محمّد عليهم السّلام لتنصرف على سبعين وجها فما ظنّك بالقرآن الذي لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم.

و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام لقتادة «2» على ما رواه في «الكافي» في الصحيح و يحك يا قتادة إن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت، و يحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به «3»

و

قال مولانا الصادق عليه السّلام لابن الصباح: إنّ اللّه علّم نبيّه التنزيل و التأويل، فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنه خطب خطبة ذكر فيها:

أن عليا هو أخي، و وزيري، و هو خليفتي و هو المبلّغ عني، إن استرشدتموه أرشدكم، و إن خالفتموه ظللتم، إنّ اللّه أنزل عليّ القرآن و هو الذي من خالفه ضلّ، و من يبتغي علمه عند غير عليّ هلك «4».

و

قال مولانا الرضا عليه السّلام لابن الجهم «5» اتق اللّه، تأوّل كتاب اللّه برأيك، فإن اللّه

______________________________

(1) يونس: 39.

(2) قتادة بن دعامة من أكابر محدّثي العامة و مفسّريهم، و قيل إنه أحفظ أهل البصرة و كان رأسا في العربية و مفردات اللغة و أيام العرب و النسب، و يظهر منه أنّه كان محبا لعلي أمير المؤمنين عليه السّلام حيث سمع خالد بن عبد اللّه قوله السي ء في عليّ عليه السّلام قام فانصرف قائلا في حق خالد: زنديق و رب الكعبة. ولد قتادة في سنة 61 ه و مات بواسط في الطاعون سنة 118 ه.

(3) بحار الأنوار ج ص 139 ط القديم باب تأويل قوله تعالى: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً إلخ.

(4) بحار الأنوار ج 7 ص 282 ط القديم عن الأمالي للصدوق.

(5) ابن الجهم

هو علي بن محمد بن الجهم هو من المنحرفين عن أهل البيت، و لذا قال الصدوق في العيون بعد ما نقل كلماته مع علي بن موسى الرضا عليهما السّلام في مجلس المأمون: هذا الحديث غريب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه، و بغضه، و عداوته لأهل البيت عليهم السّلام. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 22

يقول: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1». «2»

و

قال عليه السّلام فيما كتبه للمأمون: إنّ الأئمة عليهم السّلام هم المعبّرون عن القرآن و الناطقون عن الرسول بالبيان «3».

و

قال مولانا الصادق عليه السّلام بعد ذكر كلام طويل في تفسير القرآن إلى أقسام و فنون و وجوه تزيد على مائة و عشر إلى أن قال: و هذا دليل واضح على أن كلام الباري سبحانه لا يشبه كلام الخلق كما لا تشبه أفعاله أفعالهم و لهذه العلّة و أشباهها لا يبلغ أحد كنه حقيقة تفسير كتاب اللّه تعالى إلا نبيّه و أوصيائه «4».

ثمّ اعلم أن ما ذكر في السؤال من حصر وجوه الدلالة فيما هو المعروف عند أهل العرف ممنوع جدا فإنّ التفاهم بالدلالات الثّلاث إنما هو للعامّة و للخواصّ و الخصّيصين طرق أخرى لا يجري بها القلم، و لا يحتوي عليها الرقم، و ناهيك في ذلك أنّ جواب كل سؤال مطويّ فيه مستفاد منه بالقواعد التكسيرية التي ليست من الدلالات اللفظية، بل يشهد به أيضا ملاحظة العلوم المستنبطة من الحروف المقطّعة في فواتح السور. و

قول أبي جعفر عليه السّلام لأبي لبيد: إنّ لي فيها لعلما جمّا «5»

، و استخراج قيام الأئمة و الخلفاء منها.

و ما ذكره عليه السّلام في جواب وفد «6» فلسطين حيث سألوا عن

الصمد من العلوم الغريبة التي يشتمل على جملة منها الخبر إلى أن قال عليه السّلام: لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه عزّ و جلّ

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) بحار الأنوار ج 19 ص 28 باب تفسير القرآن بالرأي ط. القديم.

(3) عيون أخبار الرضا عليه السّلام ج 2 ص 122 ط. دار الكتب الإسلامية بطهران.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ص 148 عن المحكم و المتشابه للسيد المرتضى ص 5.

(5) الصافي للفيض في تفسير سورة البقرة ذيل تفسير (ألم) ص 57 ع العياشي

(6) الوفد بفتح الواو و سكون الفاء: قوم يجتمعون فيردون البلاد. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 23

حملة لنشرت التوحيد، و الإسلام، و الإيمان و الدين، و الشرائع من الصمد، و كيف لي بذلك و لم يجد جدي أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه، حتى كان يتنفّس الصعداء و يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّ بين الجوانح مني لعلما جمّا هأه هآه ألا لا أجد من يحمله الخبر «1».

و ما يأتي نقله عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام من طرق الخاصة و العامة من تفسير بسم اللّه لابن عباس ليلة تامّة، و أنّه قال: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير بسم اللّه.

إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على من جاس «2» خلال ديارهم، و له أنس بأخبارهم، و استنار قلبه بتجلّي أشعّة أنوارهم.

و أما كون القرآن عربيّا أنزله اللّه تعالى تفهيما و تبيانا للناس فلا ينافي ما ذكرناه، لأنّا لا نمنع دلالة ظاهرة كسائر الألفاظ و العبارات، لجريانه على طريقة العرف و اللغة، إنما الكلام في أنّ فيه وجوها من الإشارة و الدلالة، يستنبط منها الأمور التكوينية، و الأحكام الشرعية بأسرها، و

إنّما يعلمها النبي صلّى اللّه عليه و آله و آله الطيّبون الذين يستنبطونه منه. و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه في الغوالي «3»: القرآن على أربعة أشياء: على العبارة، و الإشارة، و اللطائف،

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 713، بحار الأنوار ج 3 ص 225 ط. الآخوندي بطهران.

(2) جاس يجوس جوسا الشي ء: طلبه بالحرص و الاستقصاء.

(3) غوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحساوي في الحديث لم يعتمد العلماء عليه. قال المجلسي قدس سرّه في الفصل الثاني من مقدمة البحار: كتاب غوالي اللئالي و إن كان مشهورا و مؤلفه في الفضل معروفا لكنه لم يميز القشر من اللباب، و أدخل أخبار المتعصبين بين روايات الأصحاب فلذا اقتصرنا منه على نقل بعضها. و قال صاحب الحدائق بعد نقل مرفوعة زرارة في الأخبار العلاجية: أن الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي مع ما هي عليها من الإرسال، و ما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه الى التساهل في نقل الأخبار، و لإهمال و خلط غثها بسمينها، و صحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور. مقدمة البحار ط. الآخوندي بطهران. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 24

و الحقائق، فالعبارة للعوامّ و الإشارة للخواصّ، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء «1».

و من جميع ما مرّ يظهر الجواب عن اقتصار المفسّرين على الظاهر، بل و عن الاستبعاد الذي في السؤال حسبما قد ينسبق الى بعض الأذهان و إن لم ينطق به اللسان بعد تظافر الأخبار، و تكاثر الآثار، بل قد ظهر مما مرّ و من التأمل في وجوه التأويلات، و البطون المأثورة في الأخبار أنّ وجوه الدلالة فيها غير منحصرة في جهة واحدة،

بل منها من جهة الحمل على الحقيقة الأوليّة، و الحقيقة بعد الحقيقة و اعتبارها في ساير المجالي التي ينبغي التعبير عنها بالمصاديق و الأفراد حسبما تأتي اليه الاشارة في تحقيق البطون، و منها من جملة الاستنباطات العددية، و القواعد التكسيرية، و الاعتبارات الوفقية، و غير ذلك مما يطول شرحها، و منها من جهات أخرى لا يحيط بأكثرها الأفهام، و لا يجري عليها الأقلام بل لعله لا يدرك نوع سنخيته بوجه من الوجوه فضلا عن إدراك حقيقته، و الاطّلاع على كلّية قاعدته.

و أمّا ما حكاه في «الصافي» ملخّصا عن بعض أهل المعرفة من أنّ العلم بالشي ء إما يستفاد من الحسّ برؤية، أو تجربة، أو سماع خبر، أو شهادة، أو اجتهاد، أو نحو ذلك، و مثل هذا العلم لا يكون إلّا متغيرا فاسدا محصورا متناهيا غير محيط، لأنه إنما يتعلّق بالشي ء في زمان وجوده علم، و قبل وجوده علم آخر، و بعد وجوده علم ثالث، و هكذا كعلوم أكثر الناس.

و إما يستفاد من مباديه، و أسبابه، و غاياته علما واحدا كليا بسيطا محيطا على وجه عقليّ غير متغيّر، فإنّه ما من شي ء إلّا و له سبب، و لسببه سبب، و هكذا

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 37 ط. القديم عن الدرّة الباهرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 25

الى أن ينتهي الى مسبب الأسباب، و كلّ ما عرف سببه من حيث يقتضيه و يوجبه فلا بد أن يعرف ذلك الشي ء علما ضروريا دائما، فمن عرف اللّه تعالى بأوصافه الكمالية، و عرف ملائكته المدبّرين المسخّرين للأغراض الكليّة العقليّة، بالعبادات الدائمة، و النسك المستمرّة من غير فتور و لغوب الموجبة لأن يترشّح عنها صور الكائنات كلّ ذلك على الترتيب السببي و

المسبّبي، فيحيط علمه بكل الأمور و أحوالها و لواحقها علما بريئا من التغيّر و الشّك و الغلط، فيعلم من الأوائل الثواني، و من الكليات الجزئيات المترتبة عليها، و من البسائط المركبات، و يعلم حقيقة الإنسان و أحواله، و ما يكمّلها و يزكّيها و يصعدها الى عالم القدس و ما يدنّسها و يرديها و يشقيها و يهويها إلى أسفل السافلين، علما تابعا غير قابل للتغير، و لا محتملا لتطّرق الريب، فيعلم الأمور الجزئيّة من حيث هي دائمة كلية، و من حيث لا كثرة فيه و لا تغيّر، و إن كانت كثيرة متغيرة في أنفسها، و بقياس بعضها الى بعض، و هذا كعلم اللّه سبحانه بالأشياء، و علم الملائكة المقربين، و علوم الأنبياء و الأوصياء بأحوال الموجودات الماضية المستقبلة، و علم ما كان و علم ما سيكون الى يوم القيامة من هذا القبيل، فإنّه علم كلّي ثابت غير متجدّد بتجدّد المعلومات و لا متكثّر بتكثّرها، و من عرف كيفيّة هذا العلم عرف معنى قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» و يصدّق بأنّ جميع العلوم و المعاني في القرآن الكريم عرفانا حقيقيا، و تصديقا يقينيا على بصيرة لا على وجه التقليد و السماع و نحوهما، إذ ما من أمر من الأمور إلّا و هو مذكور في القرآن إمّا بنفسه أو بمقوّماته و أسبابه و مباديه و غاياته، و لا يتمكّن من فهم آيات القرآن، و عجائب أسراره و ما يلزمها من الأحكام و العلوم التي لا تتناهي إلّا من

______________________________

(1) النحل: 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 26

كان علمه بالأشياء من هذا القبيل «1».

ففيه أنّ سوق هذا الكلام إنّما هو في تحقيق علم الباري تعالى

حسبما ذهب اليه بعض المحقّقين و إن كان لا يخلو من نظر، نظرا الى عدم ترتّب الحوادث الكونية حتى الأفعال الاختيارية بقاعدة السببيّة التي هي أشبه بالأمور الطبيعية، و كأنه مبنّي على القول بفاعليّة سبحانه بالعليّة و الإيجاب، بل قد يظهر منه الاضطرار في أفعال العباد، و إلّا فالمختار قد يختار المرجوح أو الراجح باختياره الّذي هو السبب التامّ، و إن كان مرجّحات آخر لغيره.

و جعل الإرادة أيضا من جملة الأسباب المسببّة عن كينونة الطبيعة تكوينا جعليا ابتدائيا منه سبحانه أو تبعيّا للأعيان الثابتة حسبما توهّموه.

فاسد من وجوه: كالجبر و انثلام قاعدة السببيّة المقصودة و بطلان القول بالأعيان، و عدم استحقاق الثواب، و قبح العقاب الى غير ذلك مما تأبى عنه قواعد العدليّة المستفادة عن الشريعة الحقّة النبويّة. و من هنا يظهر فساد ما فرّع عليه من اشتمال القرآن على العلوم بالوجه المرسوم، مع أنّه لا اختصاص له حينئذ به كلّ اسم من أسمائه ممّا يتكلّم به كلّ أحد لدلالته على مسبّب الأسباب يدلّ على تفاصيل المصنوعات المترتبة الى ما لا نهاية لها و هو كما ترى.

هذا مضافا الى ما يظهر منه من التسوية بين علمه سبحانه و علوم ملائكته و أنبيائه، لفقد الجامع فضلا عن الاتّحاد بين ما هو ذات الواجب بلا مغايرة حقيقة و اعتبارية و بين صفة الممكن، و إرادة العلم الفعلي مع أنّه ليس من مذهب الحاكي و لا المحكّي عنه كما يظهر من ساير كتبهما توجب التسوية بين ذات الممكن و وصفه.

______________________________

(1) تفسير الصافي للفيض الكاشاني- المقدمة السابعة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 27

الباب السادس

اشارة

في بيان معنى التفسير، و التنزيل و التأويل، و الظاهر و الباطن، و المحكم و المتشابه، و

الناسخ و المنسوخ، و الكلام في حجية القرآن، و صحة الاستدلال بظواهره في الأصول و الفروع، و المنع عن التفسير بالرأي و ضابط التأويل

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 29

و فيه فصول:

الفصل الأول

قد اختلفوا في اتحاد معنى التفسير و التنزيل و التأويل و اختلافه، فعن ظاهر الأكثر الثاني، و لذا يقابل كل من الأوليين بالثالث، بل صرّح بعضهم، و لعلّه يؤمي إليه أصل الاشتقاق أيضا. قال في الصحاح «1»: الفسر البيان، و قد فسرت الشي ء أفسره بالكسر فسرا و التفسير مثله، و قال: التأويل تفسير ما يؤول إليه الشي ء، و قد أوّلته تأويلا و تأوّلته تأوّلا بمعنى، و منه قول الأعشى «2»: على أنّها

______________________________

(1) الصحاح في اللغة لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي أخذ عن خاله إبراهيم الفارابي، و عن السيرافي و دخل بلاد ربيعة و مضر، فأقام فيها مدة في طلب علم اللغة ثم عاد الى خراسان، و أقام بنيسابور مدة فبرز في اللغة و تعلّم الكتاب و حسن الخط، و مات متردّيا من سطح داره، و قيل: إنّه تغيّر عقله و عمل له دفّتين و شدّهما كالجناحين و قال أريد أن أطير و وقع من علو فهلك في سنة 393، كتاب الصحاح كتاب حسن الترتيب سهل المطلب، و هو مفرد نعت كصحيح و صحاح و شحيح و شحاح و برى ء و براء قيل في مدح الصحاح: ليس صحاح الجوهري إلّا صحاح الجوهر

بل هو بحر ذهب أمواجه من درر

كشف الظنون ج 8 ص 400

(2) الأعشى ميمون بن قيس جندل من بني قيس المعروف بأعشى قيس، و الأعشى الكبير من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، و أحد أصحاب المعلّقات، كان كثير الوفود على الملوك

من العرب و الفرس، عاش عمرا طويلا و أدرك الإسلام و لم يسلم، و لقّب بالأعشى لضعف بصره، و عمي في آخر عمره، توفّي سنة 7 ه في قرية منفوحة باليمامة قرب مدينة الرياض. الأعلام للزركلي ج 8 ص 300.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 30

كانت تأول حبها* تأول ربعي السقاب فأصحبا، يعني أن حبها كان صغيرا في قلبه فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كهذا السقب «1» الصغير لم يزل حتى صار كبيرا مثل أمه فصار له ابن يصحبه. و في القاموس: الفسر الإبانة و كشف المغطى كالتفسير، و الفعل كضرب و نصر، و نظر الطبيب الى الماء، كالتفسرة، أو هي البول يستدلّ به على المرض، أو هي مولّدة.

قال ثعلب «2»: التفسير و التأويل واحد، أو هو كشف المراد عن المشكل و التأويل ردّ أحد المحتملين الى ما يطابق الظاهر «3».

و قال: أوّل الكلام تأويلا و تأوّله دبّره و قدّره و فسّره، و التأويل عبارة الرؤيا «4».

و في النهاية الأثيرية «5»: في حديث ابن عباس اللّهم فقّهه في الدين، و علّمه التأويل، هو من آل الشي ء يؤول إلى كذا أي رجع و صار إليه، و المراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ من وضعه الأصلي الى ما يحتاج الى دليل لولاه ما ترك ظاهر

______________________________

(1) السقب بفتح السين و سكون القاف ج أسقب و سقاب: ولد الناقة ساعة يولد.

(2) ثعلب أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس أمام الكوفيين في النحو و اللغة و الحديث كان مشهورا بالحفظ و صدق اللهجة، ولد في بغداد سنة 200 و أصيب في أواخر أيامه بصمم فصدمته فرس فسقط في هوة فتوفّي على الأثر سنة 291 له مصنفات في الأدب و

الشعر و اللغة و التفسير منها: إعراب القرآن، معاني القرآن- تذكرة الحفّاظ ج 2 ص 214-.

(3) تاج العروس في شرح القاموس الزبيدي ج 3 ص 470.

(4) تاج العروس في شرح القاموس للزبيدي ج 7 ص 216.

(5) نهاية الأثيرية هي النهاية في غريب الحديث و هي مجلدات للشيخ أبي السعادات مبارك بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606 أخذ هذا الكتاب من الغريبين للهروي و غريب الحديث لأبي موسى الأصبهاني، و رتبه على حروف المعجم بالتزام الأول و الثاني من كل كلمة و اتباعهما بالثالث.- كشف الظنون ج 2 ص 1989-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 31

اللفظ، و منه

حديث عائشة: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يكثر أن يقول في ركوعه و سجوده:

سبحانك اللّهم و بحمدك، بتأوّل القرآن، يعني أنّه مأخوذ من قول اللّه تعالى:

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ «1».

و في «مجمع البيان»: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل، و التأويل ردّ أحد المحتملين الى ما يطابق الظاهر، و المعنى البيان.

و قال أبو العباس المبرّد «2»: التفسير و التأويل و المعنى واحد، و قيل:

التفسير كشف المغطى، و التأويل انتهاء الشي ء و مصيره و ما يؤول إليه أمره «3»، و قال في موضع آخر: التأويل: التفسير، و أصله المرجع «4»، و تبعه فيه الرازي الى أن قال: هذا معنى التأويل في اللغة، ثم يسمى التفسير تأويلا قال تعالى:

سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «5»، و قال تعالى: وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا «6» و ذلك لأنه إخبار عمّا يرجع إليه اللفظ من المعنى «7».

______________________________

(1) سورة النصر: 3.

(2) المبرد محمد بن يزيد الثمالي أبو العباس، أديب، لغوي، نحوي، إمامي، مقبول القول عند الخاصّة و العامّة،

ولد بالبصرة سنة 210 و توفي ببغداد سنة 286 قيل بموته و موت الثعلبي مات الأدب. قال ابن أبي الأزهر في حقهما: أيا طالب العلم لا تجهلن و عذ بالمبرد أو ثعلب

تجد عند هذين علم الورى فلا تك كالجمل الأجرب

علوم الخلايق مقرونةبهذين في الشرق و المغرب

(3) مجمع البيان للطبرسي ج 1 ص 23 مقدمة الكتاب، الفن الثالث.

(4) مجمع البيان للطبرسي ج 2 ص 408 ط. الصيداء.

(5) الكهف: 78.

(6) النساء: 59.

(7) التفسير الكبير للفخر الدين الرازي ج 7 ص 176، سورة آل عمران آية: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 32

و في «مجمع البحرين»: التأويل إرجاع الكلام و صرفه عن معناه الظاهر الى معنى أخفى منه مأخوذ من آل يؤول إذا رجع و صار إليه، و تأوّل فلان الآية أي نظر الى ما يؤول معناها الى أن قال: و

في حديث عليّ عليه السّلام ما من آية إلّا و علّمني تأويلها

أي معناها الخفي الذي هو غير المعنى الظاهر، لما تقرّر أنّ لكل آية ظهرا و بطنا، و المراد أنّه صلّى اللّه عليه و آله أطلعه على تلك الخفيّات المصونة و الأسرار المكنونة «1».

و على كلّ حال فالتفسير كالفسر لغة بمعنى الإبانة و الإيضاح و التفعيل للمبالغة، و غلط من أخذه من التفسرة بمعنى الطبيب أو استدلاله- أو- القارورة، أو غيرها لا لأنه يوناني و لم يعهد أخذ لغة من أخرى إذ هو أيضا ضعيف بل لدلالة المادّة على هذا المعنى الساري في جميع مشتقاتها التي منها، نعم قد يقال أنه مقلوب التسفير من سفر الصبح و أسفر بمعنى أضاء و أشرق و سفرت المرأة كشفت عن وجهها.

و فيه أنّ القلب و إن كان يقع في الأسماء كآرام،

و آدر، و معيق، من ارام و ادءر و عميق، و في الأفعال كجبذ من جذب، إلّا أنه مع مخالفته للأصل و الغلبة سيّما مع فقد الداعي الى التزامه مردود بأمثلة اشتقاقه، بل هذه المادّة المأخوذة عن س ف ر بصورها الستّة لفقد الترتيب و اعتبارها أنحاء التركيب يظهر منها الظهور و الكشف كالسفر الكاشف عن حال المسافر و السفير المبلغ للخبر، و السفر بالكسر الذي هو الكتاب و نحوه، و السرف الذي هو البذل با إظهار و انتشار و إكثار، و الفراسة التي بها كشف الأحوال و الاطلاع على الأخبار، و الفروسة التي هي إظهار الشجاعة و الجلادة و لا يخلو ذلك عن تكلّف في الرفس

______________________________

(1) مجمع البحرين ص 424 باب ما أوله الألف، حرف اللام ط. طهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 33

الذي هو الركض برجلك و الرسف الذي هو المشي كمشي المقيّد، لكنّ الخطب في مثله سهل كسهولته في وجوه الفرق التي سمعت شطرا منها بينه و بين التأويل، حيث لا شاهد على جملة منها عدا الإطلاق المشترك بينهما كما لا شاهد على ما يقال أيضا من أنّ التفسير إخبار عمّن أنزل فيه القرآن و عن سبب نزوله فهو علم من شاهد النزول و أسبابه، و لذا يجب فيه الاقتصار على النقل و الرواية، و ذلك بخلاف التأويل الذي يختلف باختلاف الأفهام و يصرف إليه من ظاهره الكلام، فعلم التفسير مختصّ بأقوام و باب التأويل مفتوح الى يوم القيامة، و عليه أكثر المتأخرين من العامّة.

و من هنا قال في عوارف المعارف «1»: إنّ التفسير علم نزول الآية و شأنها و قصتها و الأسباب التي نزلت فيها و هو محظور على الناس كافة

القول فيه إلّا بالسماع و الأثر، و أمّا التأويل فصرف الآية الى معنى تحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه يوافق الكتاب و السنة، فالتأويل يختلف باختلاف حال المؤول من صفاء الفهم و رتبة المعرفة و نصيب القرب من اللّه.

و لهم أقوال أخرى في المقام كقولهم: إنّ التفسير في الألفاظ و التأويل في المعاني، و إنّ التفسير يتعلّق بالمحكمات، و التأويل يختصّ بالمتشابهات و إنّ التفسير بالرواية، و التأويل بالدراية، و إنّ التفسير بيان الظاهر، و التأويل كشف

______________________________

(1) عوارف المعارف في التصوف مشتمل على ثلاثة و ستين بابا كلها في سير القوم و أحوال سلوكهم و أعمالهم للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي المتوفي سنة 632، كان من كبار الصوفية، شافعي مفسر، فقيه، واعظ، مولده في سهرود (مدينة في إيران في الجبال سكنها الأكراد في القرن العاشر ثم خربت بالمغول) 539، كان شيخ الشيوخ ببغداد، و أقعد في آخر عمره، فكان يحمل الى الجامع في محفّة، له مصنفات منها، عوارف المعارف، و نخبة البيان في تفسير القرآن و غيرهما.

- طبقات الشافعية ج 5 ص 143-

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 34

السرائر، الى غير ذلك مما لا شاهد على كثير منها مع إمكان إرجاع بعضها الى بعض.

نعم الّذي يستفاد من تصانيف كلمات الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين هو أنّ التفسير كشف المراد من ظواهر الآيات و بواطنها السبعة أو السبعين أو الأزيد من ذلك مما لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم، بحيث إنّه يشمل كل شي ء من دون ذلك دون اشتراط انضمامه الى غيره، و من هنا يطلق على العلم بالظواهر مع ضميمة بعض البواطن أو بدونها على وجه التسامح في الإطلاق، و

إلّا فالعلم به حقيقة إنّما يحصل بالعلم بتمام ما سمعت، و لذا يستفاد من كثير من الأخبار اختصاص التفسير بأهل الذكر الذين هم مهابط الوحي، و خزنة العلم.

ففي «المحاسن» بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام يا جابر إنّ للقرآن بطنا و له ظهر، و للظهر ظهر، و ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية يكون أوّلها في شي ء و آخرها في شي ء و هو كلام متصل منصرف على وجوه «1».

و

في «الكافي» عنه عليه السّلام إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن و أحكامه «2».

و

عن «تفسير النعماني» عن الصادق عليه السّلام بعد كلام طويل مضى جملة منه و لهذه العلة و أشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللّه إلّا نبيه و أوصيائه «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 24 ط. القديم.

(2)

بحار الأنوار ج 7 ص 39 ط. القديم عن «البصائر» مسندا عن عمر بن مصعب أنه قال: سمعت الصادق عليه السّلام أنه قال: إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن و حكاية علم تغيير الزمان و حدثاته.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 148 أبواب صفات القاضي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 35

و

في خبر طويل عن مولانا الصادق عليه السّلام: إنّما يكفيهم القرآن لو وجدوا له مفسرا، قيل و ما فسّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال عليه السّلام: بلى قد فسّره لرجل واحد، و فسّر للأمة شأن ذلك و هو علي بن أبي طالب «1». إلخ.

و قد مرّ

قول أبي جعفر عليه السّلام لقتادة، إن كنت فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و يحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به «2»

بل قد مرّ أيضا

في

النبوي في احتجاجه يوم الغدير: عليّ تفسير كتاب اللّه، و الداعي إليه الى أن قال عليه السّلام: معاشر الناس تدبّروا القرآن و افهموا آياته، و انظروا في أحكامه، و لا تتّبعوا متشابهه، فو اللّه لن يبيّن لكم زواجره، و لا يوضح لكم عن تفسيره إلّا الذي أنا آخذ بيده «3».

و

في «البصائر» بالإسناد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان و منه ما لم يكن بعد، تعرفه الأئمة عليهم السّلام «4».

و

فيه، عن يعقوب بن جعفر، قال: كنت مع أبي الحسن عليه السّلام بمكة فقال له رجل: إنّك لتفسّر من كتاب اللّه ما لم تسمع، فقال عليه السّلام: علينا نزل قبل الناس، و لنا فسّر قبل أن يفسّر في الناس، فنحن نعلم حلاله و حرامه، و ناسخه و منسوخه، و سفريته و حضريته، و في أي ليلة نزلت كم من آية، و فيمن نزلت، فنحن حكماء اللّه في أرضه. الخبر «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 131 أبواب صفات القاضي.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 139 ط. القديم باب تأويل قوله تعالى: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ إلخ.

(3) بحار الأنوار ج 37 ص 209 ط. الآخوندي بطهران عن الإحتجاج للطبرسي ص 33- 41.

(4) بحار الأنوار ج 19 ص 26 ط. القديم باب أن للقرآن ظهرا و بطنا عن البصائر.

(5) بحار الأنوار ج 7 ص 40 ط. القديم باب أنهم عليهم السّلام أهل علم القرآن- عن البصائر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 36

و

روى العيّاشي في تفسيره عن الصادق عليه السّلام أنه سئل عن الحكومة فقال عليه السّلام: من حكم برأيه بين إثنين فقد كفر، و من فسّر آية من كتاب اللّه فقد

كفر «1».

أي إذا كان التفسير برأيه كما يظهر من أخبار آخر الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على أن المراد بالتفسير هو العلم بجميع المقاصد و المرادات و الحقائق القرآنية من الظاهر، و ظاهر الظاهر، و هكذا و الباطن، و باطن الباطن الى ما شاء اللّه فهو يشمل التنزيل و التأويل بالمعنى المستفاد لهما من الأخبار الكثيرة التي منها

النبوي المرويّ في الأمالي: يا علي أنا صاحب التنزيل و أنت صاحب التأويل «2».

يعني أنه صلّى اللّه عليه و آله يحكم بالظاهر الذي نزل عليه الكتاب و يقاتل عليه خاصّة، و لذا لم يؤمر بقتال المنافقين بل كان يقرّبهم و يؤلّفهم و أمّا مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فكان يقاتل على التأويل، و لذا قاتل مع أهل القبلة.

و لذا

ورد أيضا عنه عليه السّلام: أنا أقاتل على التنزيل، و عليّ يقاتل على التأويل «3».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام إنّ اللّه تعالى علّم نبيه التنزيل و التأويل فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا. إلخ «4».

و

في «البصائر» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ أنت تعلّم الناس تأويل القرآن بما لا يعلمون، فقال عليه السّلام: على ما أبلّغ رسالتك من بعدك يا رسول اللّه؟

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 18، بحار الأنوار ج 19 ص 29 ط القديم.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 139.

(3)

تفسير العياشي ج 1 ص 15، وسائل الشيعة ج 18 ص 150 عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، و هو علي بن أبي طالب.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ص 135. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 37

قال

صلّى اللّه عليه و آله: تخبر الناس بما يشكل عليهم من تأويل القرآن «1».

و

فيه، عن الصادق عليه السّلام إنّ للقرآن تأويلا فمنه ما جاء، و منه ما لم يجي ء، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمة عرفه ذلك الإمام «2».

و

في حديث عمرو ابن عبيد عن أبي جعفر عليه السّلام إنما على الناس أن يقرءوا القرآن كما أنزل، فإذا احتاجوا الى تفسيره فالاهتداء بنا و إلينا «3».

و المراد أنّ التنزيل يفهمه الناس بظواهر العربية حيث إنّ القرآن قد نزل بلسانهم، و أمّا تفسير الشامل له و لوجوه التأويل و البواطن فإنما يطلب منهم.

و

في «الكافي» عن أحدهما عليه السّلام في قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «4» قال عليه السّلام: فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لا يعلّمه تأويله، و أوصيائه من بعده يعلمونه «5»

الى غير ذلك من الأخبار الظاهرة فيما سمعت، و لو بقرينة المقابلة و ملاحظة الاشتقاق الذي لعلّه كاف في إثبات المرام، و كأنّ ما سمعت هو الذي يظهر من القمي أيضا في أول تفسيره، حيث ذكر في عداد وجوه القرآن: أنّ منه ما تأويله في تنزيله، و منه ما تأويله مع تنزيله، و منه ما تأويله قبل تنزيله، و منه ما تأويله بعد تنزيله الى أن قال: أمّا ما تأويله في تنزيله فكل آية نزلت في حلال أو حرام مما لا يحتاج الناس فيها الى تأويل مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ «6» الآية، و قوله تعالى:

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 195،

وسائل الشيعة ج 18 ص 145.

(2) بصائر الدرجات ص 195، وسائل الشيعة ج 18 ص 145.

(3) تفسير فرات بن إبراهيم ص 91، وسائل الشيعة ج 18 ص 149.

(4) آل عمران: 7.

(5) الكافي ج 1 ص 191 و وسائل الشيعة ج 18 ص 132.

(6) النساء: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 38

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ «1» و مثله كثير مما تأويله في تنزيله، و هو من المحكم الذي ذكرنا، و أمّا ما تأويله مع تنزيله فمثل قوله تعالى:

أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «2» فلم تستغن الناس بتنزيل الآية حتى فسّر الرسول من أولي الأمر، و قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «3» فلم تستغن الناس الذين سمعوا هذا من النبي صلّى اللّه عليه و آله بتنزيل الآية حتى عرّفهم النبي صلّى اللّه عليه و آله من الصادقين، و قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ «4» فلم تستغن الناس بهذا حتى أخبرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله كم يصلّون و كم يزكّون.

و أمّا ما تأويله قبل تنزيله فالأمور التي حدثت في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله مما لم يكن عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فيها حكم مثل الظهار حيث إنّ أوس بن الصامت «5» ظاهر من امرأته فجاءت الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و أخبرته بذلك، فانتظر النبي صلّى اللّه عليه و آله الحكم من اللّه تعالى، فأنزل اللّه سبحانه: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ «6» الآية و مثله ما نزل في اللعان و غيره مما لم يكن عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فيه حكم حتى نزل

عليه القرآن به من اللّه عزّ و جلّ، فكان التأويل قد تقدّم التنزيل.

و أمّا ما تأويله بعد تنزيله فالأمور التي حدثت بعد عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله من

______________________________

(1) المائدة: 3.

(2) النساء: 59.

(3) التوبة: 119.

(4) البقرة: 43، 83، 110 و النور: 56.

(5) أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت الأنصاري، صحابيّ شاعر قيل سكن بيت المقدس، و توفي بالرملة سنة 32.

(6) المجادلة: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 39

غصب حقوق آله المعصومين و ما وعدهم اللّه به من النصر على أعدائهم و من أخبار القائم عليه السّلام و خروجه، و أخبار الرجعة و الساعة في قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «1» و قوله تعالى:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «2» إلخ ... و قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «3» إلخ .. و مثله كثير مما تأويله بعد تنزيله.

أقول: و هو و إن كان يؤيد ما ذكرناه في الجملة إلّا أنه يستفاد ممّا ذكره في القسمين الآخرين إطلاق آخر لهما، و لعلّك ترى في الأخبار ما يؤيد كلا من الوجهين. نعم للأصوليين في المقام نمط آخر من الكلام، و هو أنّهم قسّموا اللفظ باعتبار كيفية دلالته وضعا على معناه الى النصّ، و الظاهر، و المجمل، و المؤول، فإن لم يحتمل غيره بحسب ما يفهم منه في لغة التخاطب فهو نصّ يتعين حمله عليه لعدم احتماله غيره، منقسم عند بعضهم الى ما هو نصّ بلفظه و منطوقه كقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الزِّنى «4»، وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «5»، أو بفحواه و مفهومه كقوله تعالى: فَلا

تَقُلْ لَهُما أُفٍ «6»، وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا «7»، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «8»،

______________________________

(1) الأنبياء: 105.

(2) النور: 55.

(3) القصص: 5.

(4) الإسراء: 32.

(5) النساء: 29.

(6) الإسراء: 23.

(7) النساء: 49.

(8) الزلزلة: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 40

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ «1»، إذ المعلوم أنّ فهم ما فوق التأفيف من الضرب و الشتم و ما وراء الفتيل و الذرّة من المقدار الكثير و ما وراء القنطار من القليل و الدينار من الكثير أسبق الى الفهم من نفس التأفيف، و الفتيل، و الذرّة، و القنطار و الدينار.

و لذا قالوا إنّه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى و بالعكس، و توهّم كونه قياسا و لو بالأولوية غلط جدا، إذ المقصود التنبيه لحكم المسكوت عنه الّذي هو المدلول عرفا و أين هذا من الإلحاق. و إن احتمل بحسب الفهم العرفي فلا يخلو إمّا أن يكون المحتملات متساويين، أو أحدهما راجحا و الآخر مرجوحا، فإن تساويا إمّا للاشتراك أو لتصادم الأمارات أو غير ذلك فهو مجمل و مبهم ذاتي أو عرضي، بحسب الموارد أو المصداق مع تعيين المراد و عدمه، و إلّا فالراجح ظاهر، بلا فرق بين كون الرجحان ناشئا عن الحقيقة بأقسامها أو عن القرائن، و المرجوح مأوّل صحيح إن تعذر إرادة الظاهر، و فاسد مع جوازه، و قد يخصّ بالأول، و يردّه صحة التقسيم، و قولهم تأويل فاسد، و ورد النهي عنه، و لذا عرّف أيضا بالمحمول على المرجوح و ربما يضاف اليه لمقتضى و الأولى تركه.

و قد ظهر ممّا مرّ صحّة قولهم بعدم تمشّي التأويل في النصّ و المجمل لاختصاصه بالظاهر، و هذا

مبني على اصطلاحهم الذي لا مشاحّة فيه، و إلّا فالمستفاد من نصوص أهل الخصوص ثبوت التأويل الذي يعبّر عنه بالباطن و التخوم لكل آية من الآيات، بل للكلمات و الحروف بلا فرق بين المجملات، و الظواهر، و النصوص، و لذا

ورد فيما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: إنّ للقرآن

______________________________

(1) آل عمران: 75. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 41

بطنا، و للبطن بطن، و ظهرا، و للظهر ظهر «1».

بل

ورد إن القرآن غضّ طريّ لا يبلى أبدا، و إنه و إن نزل في قوم إلّا أنّه جار في أقوام آخرين الى يوم القيامة «2»

و هذا الجريان هو أحد إطلاقات التأويل المقابل للتنزيل، و يقال له الباطن أيضا.

ففي «تفسير العيّاشي» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ظهر القرآن الذين نزل فيهم، و بطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم «3».

و

بإسناده عن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الرواية:

ما في القرآن إلّا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلّا و له حد، و لكلّ حد مطلع «4»، ما يعني بقوله لها ظهر و بطن؟ قال عليه السّلام: ظهره تنزيله، و بطنه تأويله، منه ما مضى، و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر كلما جاء منه شي ء وقع قال اللّه تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «5» و نحن نعلمه. «6»

______________________________

(1)

المحاسن ص 300 و الرسائل ج 18 ص 142: يا جابر إنّ للقرآن بطنا و له ظهر، و للظهر ظهر إلخ.

(2)

بحار الأنوار ج 19 ص 5 ط. القديم: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام ما بال القرآن لا يزداد على النشر و

الدرس إلّا غضاضة؟ فقال عليه السّلام: لأن اللّه لم يجعله لزمان دون زمان فهو في كل زمان جديد و عند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة.

(3) بحار الأنوار ج 19 ص 22 ط. القديم باب أن للقرآن ظهرا أو بطنا- مع تفاوت يسير.

(4) قال الفيض في الصافي في المقدمة الرابعة بعد ذكر الحديث: أقول: المطّلع: (بتشديد الطاء المهملة و فتح اللام) مكان الاطّلاع من موضع عال، و يجوز أن يكون بوزن مصعد بفتح الميم و معناه أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه، و محصّل معناه قريب من معنى التأويل و البطن، كما أنّ الحدّ قريب من معنى التنزيل و الظهر.- تفسير الصافي ج 1/ 18 طبع الاسلامية بطهران.

(5) آل عمران: 7.

(6) تفسير العياشي ج 1 ص 11 ط. الإسلامية بطهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 43

الفصل الثاني

في حدود حروف القرآن و مطالعها و تخومها قد تظافرت الروايات على أنّ لكل آية بل لكل حرف من حروف القرآن حدّا و مطلعا، و أنّ له تخوما و لتخومه تخوما، و قد مرّ خبر العياشي و غيره في اشتماله على الحدّ، و المطلع، و الظهر و البطن.

و

في «الكافي» و «تفسير العياشي»: إنّ القرآن له ظهر و بطن، فظاهره حكم، و باطنه علم ظاهره أنيق، و باطنه عميق، له تخوم، و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه «1».

و

في «المحاسن» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا و معاني، و ناسخا، و منسوخا، و محكما، و متشابها، و سننا، و أمثالا، و فصلا، و وصلا، و أحرفا، و تصريفا، فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك و أهلك «2».

قيل: المراد أنّه ليس

بمبهم على كل حدّ، بل يعلمه الإمام و من علّمه إياه من قبل.

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 3 ط. الإسلامية بطهران.

(2) المحاسن ص 270، وسائل الشيعة ج 18 ص 141 أبواب صفات القاضي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 44

و

من طريق العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله إن للقرآن ظهرا و بطنا وحدا و مطلعا «1».

و

عنه عليه السّلام: إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر و بطن و لكل حد مطلع «2».

و

في رواية: و لكل حرف حد و مطلع «3»

و

عنه عليه السّلام: إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطن الى سبعة أبطن «4».

و

عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ما من آية إلّا و لها أربعة معان ظاهر، و باطن، و حد و مطلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحد هو أحكام الحلال و الحرام، و المطّلع هو مراد اللّه من العبد بها «5».

أقول: في النهاية الأثيرية: إنّ في الخبر في ذكر القرآن لكل حرف حدّ، و لكل حد مطلع، أي لكل حرف مصعد يصعد اليه من معرفة علمه، و المطلع مكان الاطلاع من موضع عال يقال مطلع هذا الجبل من مكان كذا أي مأتاه و مصعده. و قيل: معناه أنّ لكل حدّ منهتكا ينتهكه مرتكبه، أي إنّ اللّه لم يحرّم حرمة إلّا علم أن سيطلعها مستطلع. و يجوز أن يكون لكل حرف مطلع على وزن مصعد و معناه. و منه حديث عمر: لو أنّ لي ما في الأرض جميعا لافتديت به هول المطلع يريد به الموقف يوم القيامة، أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال.

و في القاموس: المطّلع

للمفعول: المأتي و موضع الاطّلاع من إشراف الى انحدار، و قول عمر: لافتديت به من هول المطلع، تشبيه لما يشرف عليه من أمر الآخرة بذلك، و

في الحديث ما نزل من القرآن آية إلّا لها ظهر و بطن، و لكل حرف

______________________________

(1) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران.

(2) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران.

(3) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران.

(4) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران.

(5) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 45

حد و لكل حدّ مطلع

أي مصعد يصعد اليه من معرفة علمه، و بكسر اللام القوى العالي القاهر «1» قلت: الوجه الأول المذكور في «النهاية» كأنّه بالفتح و التشديد كالأول من القاموس أيضا، و الوجه الثاني المستفاد من الأول التخفيف، و الثالث المستفاد من الثاني الكسر و التشديد، و معناه على فرض احتماله في المقام أنّ لكل حد من الحدود الشرعية وليّا قويّا قاهرا يقوم بإقامته على مستحقه.

ثمّ إنّه قد فسّر الحد في العلوي المتقدم بأحكام الحلال و الحرام، و المطلع بمراد اللّه تعالى من العبد بها أي بتلك الأحكام أو بتلك الآية، و لعل الثاني أظهر، و المراد بقوله لكل آية حدّ اشتماله على حكم من الأحكام الشرعية الفرعية من الحلال و الحرام و إن كانت الآية بحسب الظاهر من القصص و المواعظ و غيرها مما لا يستفاد لنا منها شي ء من الأحكام، أو أنّ لها حكما من حيث التحقق و التخلّق و الاتّصاف، أو القبول و التصديق أو غير ذلك، و الأول أنسب، و معه فالمراد بالمطلع المفسر في الخبر إنما هو

التحقق و التخلق و تحصيل الملكات الفاضلة المطلوبة التي هي مراد اللّه من العبد بتلك الخطابات و الأحكام، و يحتمل أيضا أن يكون الظاهر و الباطن للآية من حيث نفسها بأن يراد بهما النوع و إن انتهى أحدهما أو كلاهما الى السبعين أو أكثر، و الحدّ و المطلع لها بالنسبة الى تكاليف المكلّفين، و أحكامهم و حدود استعدادهم و قابليّاتهم المقتضية لاختلاف أحكامهم و لو باختلاف في شرائط التكليف من العلم و القدرة و غيرهما مما يرجع الى اختلاف الموضوع، فلكل آية لكل واحد من آحاد المكلفين حدّ هو حكمه، و إن اشتركت ألوف منهم في حكم واحد لكونهم من مصاديق موضوع واحد، و لها

______________________________

(1) تاج العروس في شرح القاموس تأليف الزبيدي ج 5 ص 442.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 46

مطلع و هو التحقق بذلك الحكم من حيث الامتثال و القبول، و لاختلاف أحكام المكلّفين حينئذ حسبما سمعت

ورد أن لكلّ حدّ مطلعا

كما في بعض الأخبار المتقدمة.

و أن يراد بالظهر تنزيل الآية و بالبطن تأويلها الذي جرت الآية فيه بعد وقوعه حسبما مرّت إليهما الإشارة، و بالحد حدود الاستقامة التي ينفتح منها أبواب البواطن، بحيث يحصل من الانحراف فيها اعوجاج النظر و سوء الفهم و عدم الوصول الى المطلوب، و بالمطلع الإشراف و الاطلاع على تلك البواطن و الحقائق المقصودة و الإحاطة بها علما أو التحقّق بها عملا.

و أمّا ما في «الصافي» من أنّ محصّل معنى المطلع قريب من معنى التأويل و البطن كما أنّ معنى الحد قريب من معنى التنزيل و الظهر، فلعله بعيد جدّا سيما بعد المقابلة في النبوي و العلوي المتقدمين، بل و اختلاف التفسير في الثاني.

و أغرب منه ما حكاه في

الحاشية من بعض أهل المعرفة بعد النبوي المتقدم المشتمل على نزول القرآن على سبعة أحرف إلخ .. من أنّ الوجه في انحصار الأحرف في السبعة أنّ لكل من الظهر و البطن طرفين فذاك حدود أربعة، و ليس لحد الظهر الذي من تحته مطلع، لأنّ المطلع لا يكون إلّا من فوق فالحد أربعة و المطلع ثلاثة و المجموع سبعة «1».

قلت: و هو كما ترى.

و أمّا ما يقال: من أن الحدّ الحكم، و المطلع ما يتوسّل به اليه أي دليله، أو

______________________________

(1) تفسير الصافي المقدمة الرابعة ج 1 ص 18 ط. الإسلامية طهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 47

أنّ الحدّ الثواب و العقاب، و المطلع الاطلاع عليهما في الآخرة فلا يخفى ضعفه.

نعم قد يقال: أنّ المراد بالظهر ما ظهر من المعنى الجلي المنكشف، و بالبطن ما بطن و لم يظهر على غير من نوّر اللّه قلبه بنور المعرفة، و بالحدّ طرفا الظهر و البطن و بالمطلع يصعد به اليه، فمطلع الظاهر العلوم العربية و أسباب النزول الخاص و العام و الناسخ و المنسوخ و أمثال ذلك، و مطلع الباطن تطهير النفس عن أدناس دار الغرور، و ترقيها بملازمة الطاعات و الرياضات الى عالم النّور.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 49

الفصل الثالث

اشارة

في المحكم و المتشابه اعلم أنّ الكتاب الكريم و إن اتصّف كلّه بل كلّ آية منه بكونه محكما أي محفوظا من الغلط، و فساد المعنى، و ركاكة اللفظ كما في قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «1» أو المعنى ضمنت الحكمة المطلقة التي هي مطابقة التدوين للتكوين.

و بكونه متشابها لأنه يشبه بعضه بعضا في جزالة اللفظ، و فصاحته، و صحة المعنى، و تصديق بعضه بعضا

كما في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً «2» أي متماثلا فيما مرّو غيره بلا اختلاف و لا تناقض، وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3». إلّا أنّه من حيث وضوح الدلالة و خفائها بحسب أفهام أغلب الأنام ينقسم الى محكم و متشابه كما أشير اليه في قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «4»، و في أخبار مستفيضة بل متواترة تأتي الى بعضها الإشارة. و هما

______________________________

(1) هود: 1.

(2) الزمر: 23.

(3) النساء: 82.

(4) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 50

مأخوذان من الإحكام الذي هو الإتقان، و التشابه الذي هو تماثل المراد بغيره، فيحصل الاشتباه فيه، و إن اختلفوا في المراد بهما: فقيل: إنّ المحكم ما اتضّح معناه و ظهرت دلالته لكل عارف باللغة، و المتشابه ما لا يعلم المراد به إلّا بقرينة تدل عليه، فاللغات الغامضة لا توجب التشابه، و المجازات كلها منه على وجه و إن كان يمكن أن يفرق بين القرائن، حيث أن القرائن المتصلة سيما اللفظية منها لا تشابه معها أصلا.

و قيل: إنّ المحكم هو الناسخ أو ما لم ينسخ أو ما لم يخصّص و لم يقيّد أيضا، و المتشابه هو المنسوخ أو ما يشمل المخصّص و المقيّد.

و قيل: إنّ المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا، و المتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا.

و قيل: إنّ المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، و المتشابه هو المتكرر كقصة موسى و غيره.

و قيل: إنّ المحكم ما يعلم تعيين تأويله، و المتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله كقيام الساعة.

الى غير ذلك من الأقوال التي لا شاهد لها و لو

من جهة ظهور اللفظ، و انسباق المعنى منه، و لذا وقع الاختلاف في تعيين معناه حتى من أهل اللغة و إن كان اختلافهم ليس على محض اللغة بل باعتبار استيفاء الأقوال بعد وقوع الخلاف، و لذا اكتفى في «الصحاح» و «المصباح» على تفسير المتشابهات بالمتماثلات، و قال في «القاموس»: سورة محكمة غير منسوخة و الآيات المحكمات: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «1» الى آخر السورة، أو التي

______________________________

(1) الأنعام: 151- 153.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 51

تفسير الصراط المستقيم ج 2 99

أحكمت فلا يحتاج سامعها الى تأويلها لبيانها كأقاصيص الأنبياء «1».

أقول: و لعل قوله: الى آخر السورة توهّم منه، بل الأولى الآيات الثلاثة كما حكاه الرازي عن ابن عباس «2» و لعله أراد الإشارة اليه مع اشتمال ما بعدها من الآيات على ما هو من المتشابه قطعا كقوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ «3» و غيره.

و في «النهاية» الأثيرية في حديث صفة القرآن هو الذكر الحكيم: أي الحاكم لكم و عليكم، و هو المحكم الذي لا اختلاف فيه و لا اضطراب، فعيل بمعنى المفعول فهو محكم، و منه حديث ابن عباس: قرأت المحكم على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يريد المفصّل من القرآن لأنه لم ينسخ منه شي ء، و قيل: هو ما لم يكن متشابها لأنه أحكم بيانه بنفسه و لم يفتقر الى غيره «4».

و قال في شبه: في صفة القرآن آمنوا بمتشابهه، و اعملوا بمحكمه المتشابه ما لا يتعلق معناه من لفظه، و هو على ضربين: أحدها إذا ردّ الى المحكم عرف معناه، و الآخر ما لا سبيل الى معرفة حقيقته، فالمتتبع له متبع للفتنة، لأنّه لا يكاد ينتهي الى شي ء

تسكن نفسه اليه.

أقول: و هذه الأقوال و إن اختلفت بحسب الظاهر حتى عدّها بعضهم اختلافا في المعنى المقصود، و آخرون من تكثّر المعاني بل قد يظهر ذلك أيضا من الطريحي في مجمعة حيث فسّر المحكم في اللغة بالمضبوط المتفق. قال:

______________________________

(1) تاج العروس في شرح القاموس تأليف محمد مرتضى الزبيدي ج 8 ص 253.

(2) قال فخر الدين الرازي في تفسيره ج 7 ص 170: المسألة الثالثة في حكاية أقوال الناس في المحكم و المتشابه فالأوّل ما نقل عن ابن عباس أنه قال: المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام (قل تعالوا) الى آخر الآيات الثلاث.

(3) الأنعام: 158.

(4) مجمع البحرين كتاب الميم باب أوله الحاء- مادة حكم- ص 468.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 52

و في الاصطلاح على ما ذكره بعض المحققين يطلق على ما اتضح معناه و ظهر لكلّ عارف باللغة، و على ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص، أو منهما معا، و على ما كان نظمه مستقيما خاليا عن الخلل، و على ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا، و يقابله بكلّ من هذه المعاني المتشابه انتهى «1».

إلّا أنّها لعلّها ناشئة عن الاختلاف في التعبير عن بعض المصاديق بأن يكون المحكم ما اتّضح و ظهر دلالته على المعنى المقصود من المخاطبين، و المتشابه ما لم يتضح دلالته، للإبهام، أو الاشتراك، أو كون المفاد منه متعذر الإرادة، لمخالفته لما ثبت بالعقل أو النقل القاطع به كالآيات الدالّة على ثبوت الجوارح و الجهات للّه سبحانه، و ثبوت الإضلال و الجبر منه تعالى، و غيرها مما ثبت خلافه بالضرورة من الدين إذا لم تقم هناك قرينة على تعيين شي ء مما يخالف الظاهر، أو اتضّحت دلالته لكن

المعنى ليس مقصودا من المخاطبين لطروّ النسخ أو التخصيص و التقييد على وجه و إن كان الأظهر خلافه، كما أنّ اختلاف المكلّفين من حيث الشروط و الموانع الراجعة الى الموضوع أو الحكم لا مدخلية له في صيرورة الدلالة متشابهة.

و لعلّك بما سمعت أمكن لك الجمع بين تلك الأقوال المختلفة إلّا ما شذ منها بالحمل على ذكر بعض المصاديق بل بين الأخبار التي ربما يتراءى منها الاختلاف.

ففي تفسير العيّاشي بالإسناد عن مسعدة بن صدقة «2»: قال سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه، قال عليه السّلام: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهة «3» قال و في رواية: الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل

______________________________

(1) مجمع البحرين كتاب الميم باب من أوله الحاء- مادة حكم- ص 468.

(2) مسعدة بن صدقة عامي، و لكن رواياته في غاية المتانة و السداد، روى عن الصادق و الكاظم عليهما السّلام.

(3) تفسير العيّاشي ج 1 ص 11، بحار الأنوار ج 19 ص 94. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 53

به، و المتشابه الذي يشبه بعضه بعضا «1»

ففي قوله: ما يعمل به، دلالة على ما سمعت حيث إنّ العمل إنّما يكون بعد ظهور الدلالة و بقاء الحكم، و بانتفاء كلّ منهما يكون من المتشابه، و لا يقدح فيه اقتصاره في الخبر على الأوّل كما لا يقدح في الاقتصار في غيره على الثاني.

و لذا عبّر عنه بمن المفيدة للتبعيض

فيما رواه في «الكافي» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم، و ذلك أنّ اللّه

تعالى يقول: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ «2» الآية، الى أن قال:

فالمنسوخات من المتشابهات، و الناسخات من المحكمات «3».

و الى ذلك ينظر ما

في الخبر الآخر: و المحكم ليس بشيئين إنما هو شي ء واحد فمن حكم بحكم ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عز و جل، و من حكم بحكم فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت «4»

و

في توحيد الصدوق و تفسير العياشي عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهة «5».

الى غير ذلك من الأخبار المنطبقة على ما سمعت، نعم هل الإحكام و التشابه من الصفات الذاتية أو الدلالة للآية أو اللفظ أو الدلالة، أو الإضافية بالنسبة الى أفهام المخاطبين فيختلف الوصف باختلاف أفهامهم و ادراكاتهم و درجاتهم، فيكون المحكم لشخص أو في زمان متشابها لغيره أو زمان آخر

______________________________

(1) تفسير العيّاشي ج 1 ص 10، بحار الأنوار ج 19 ص 30.

(2) آل عمران: 7.

(3) الكافي ج 2 ص 28، وسائل الشيعة ج 18 ص 134.

(4) الكافي ج 1 ص 242، وسائل الشيعة ج 18 ص 131.

(5) تفسير العيّاشي ج 1 ص 11، بحار الأنوار ج 19 ص 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 54

و بالعكس، و جهان يحتمل الأول، لظاهر قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «1» الظاهر في انقسام آياته الى القسمين بالنظر إليها قطع النظر عن الاعتبارات الخارجة و لظواهر الأخبار المتقدمة حسب التقريب المتقدّم مع أنّ في كثير منها بل في ظاهر الآية توصيفها بالوصفين المتغايرين المتمانعين في الصدق سيما صفتي الناسخة و المنسوخة. و يحتمل الثاني لإناطة الفرق على الفهم المختلف باختلاف الأشخاص

و الأحوال و الأزمنة، و لو بمعونة العلم بالقرائن المتصلة الحالية أو المقالية أو المنفصلة المشتملة على بيان المجمل و تخصيص العام و تقييد المطلق و غيره مع أنّ التأويل كلّه من المتشابه و ما من آية إلّا ولها تأويل.

بل

ورد في الخبر أنّه ما من آية إلّا ولها ظاهر و باطن و حدّ و مطلع «2»

، و قد مرّ أن البطون كلها من التأويل فلكل آية معنى متشابه و إن كانت من المحكمات بناء على أن مغايرة الوصفين إنما هي بالاعتبار، فلا تمانع في الصدق بل يمكن تنزيل التقسيم من الآية و غيرها على ذلك و إن كان لا يخلو عن ضعف، إذ لا منافاة بين انتفاء الظهور بالنسبة الى الدلالة اللفظية المبنيّة على القواعد المؤسّسة عن بعض الآيات و بين ثبوت التأويل للكلّ مع ثبوت الظهور للبعض، بل يضعّف حكاية الإناطة أيضا بأنّ المنوط به هو فهم أهل اللسّان المبنيّ على القواعد الممهّدة، فإذا الأوّل أظهر، و منه يظهر أنّه لا ملازمة بين المتشابه و الجهل بالمراد لجواز العلم بالتأويل و لو مع عدم سبق الجهل.

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2)

في البصائر ص 195 عن الصادق عليه السّلام ما من القرآن آية إلّا ولها ظهر و بطن إلخ .. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 55

تذييل

في الجواب عن إشكال الملاحدة على وجود المتشابهات في القرآن حكى الرازي في تفسيره عن بعض الملاحدة أنّهم طعنوا في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات و قالوا: إنّكم تقولون: إنّ تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن الى قيام القيامة، ثم أنّا نريه بحيث يتمسّك به صاحب كلّ مذهب على مذهبه. فالجبري يتمسّك بآيات الجبر كقوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً

أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً «1»، و القدري يقول: بل هذا مذهب الكفّار بدليل أنه تعالى حكى ذلك منهم في معرض ذمّهم في قوله:

وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ «2» و في موضع آخر:

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ «3» و أيضا مثبت الرؤية يتمسّك بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «4» و النافي لها يتمسّك بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «5»، و مثبت الجهة يتمسّك بقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «6» و بقوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «7»،

______________________________

(1) الأنعام: 25، و الإسراء: 46.

(2) فصلت: 5.

(3) البقرة: 8.

(4) القيامة: 22.

(5) الأنعام: 103.

(6) النحل: 50.

(7) طه: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 56

و النافي لها يتمسّك بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «1».

ثمّ إنّ كلّ واحد يسمّي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة و الآيات المخالفة لمذهبه متشابهة، و ربما آل الأمر في ترجيح بعضها على البعض الى ترجيحات خفيّة، و وجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع اليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا، أليس أنّه لو جعله ظاهرا جليّا نقيّا عن هذه المتشابهات كان أقرب الى حصول الغرض «2».

ثمّ حكى عن العلماء وجوها في فوائد المتشابهات كأنّه جعلها جوابا عن السؤال المتقدم فذكر أولا: أنّه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول الى الحقّ أصعب و أشقّ، و زيادة المشقّة توجب مزيد الثواب، قال اللّه تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «3».

و ثانيا: لو كان القرآن محكما بالكلّية لما كان مطابقا إلّا لمذهب واحد، و كان تصريحه مبطلا لكل ما

سوى ذلك المذهب، و ذلك مما ينفّر أرباب المذاهب عن قبوله و عن النظر فيه فالانتفاع به إنّما حصل لما كان مشتملا على المحكم و المتشابه فحينئذ يطمع صاحب كلّ مذهب أن يجد فيه ما يقوّي مذهبه و يؤثّر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، و يجتهد في التأمّل فيه كلّ صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسّرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلّص المبطل عن باطله و يصل الى الحق.

______________________________

(1) الشورى: 11.

(2) تفسير فخر الدين الرازي ج 7 ص 171.

(3) آل عمران: 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 57

و ثالثا: أنّه إذا كان مشتملا على المحكم و المتشابه افتقر الناظر فيه الى الاستعانة بدليل العقل، و حينئذ يتخلّص عن ظلمة التقليد، و يصل إلى ضياء الاستدلال و البيّنة، أمّا لو كان كلّه محكما لم يفتقر إلى التمسّك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل و التقليد.

و رابعا: أنّه لاشتماله على الأمرين افتقر الناظر فيه الى تعلّم طرق التأويلات و ترجيح بعضها على بعض، و افتقر في تحصيل ذلك الى تعلّم علوم كثيرة من علم اللّغة و النحو و علم أصول الفقه، و لو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان الى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.

و خامسا: و هو السبب الأقوى (عنده) في هذا الباب أنّ القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواصّ و العوامّ بالكليّة، و طبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوامّ في أوّل الأمر إثبات موجود ليس بجسم، و لا بمتحّيز، و لا مشار اليه، ظنّ أنّ هذا عدم و نفي، فوقع في التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا

بألفاظ دالّة على بعض ما يناسب ما يتوهّمونه و يتخيّلونه، و يكون ذلك مخلوطا بما يدّل على الحقّ الصريح، فالقسم الأوّل و هو الّذي يخاطبون به في أوّل الأمر يكون من باب المتشابهات، و القسم الثاني و هو الّذي يكشف لهم في آخر الأمر و هو المحكمات، فهذا ما حضرنا في هذا الباب و اللّه اعلم بمراده «1». هذه الوجوه و إن سبقه غيره من المفسّرين في جلّها أو كلّها بل يوجد في كلام بعض المفسّرين منّا إلّا أنها غير حاسمة لمادّة الأشكال، بل منها ما يؤيّد أصل السؤال، لضعف الأوّل بأن الوصول الى الحق حينئذ متعسّر بل

______________________________

(1) التفسير الكبير تأليف الفخر الرازي ج 7 ص 172.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 58

متعذّر للأكثر لعدم معرفة عامّة الناس بل و خاصّتهم أيضا بالتأويل الذي لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم فإناطة التبليغ و معرفة الحقائق به نقض للغرض، سيّما مع ما في النفوس من الانحرافات و الاعوجاجات و الميل الى الأهواء الباطلة و المذاهب الفاسدة التي لا تقوم بالمتشابهات عليهم الحجّة و لا تنقطع بها عنهم المعذرة.

و الثاني بأنّه ممّا يقرّر أصل السؤال و يزيد في الإشكال، فإنّ المقصد من إرسال الرسل و إنزال الكتب إنّما هو اجتماع الكلمة على الحقّ و استيصال الباطل و ردع أهل الضلال، فكيف يليق بصاحب الشريعة الإجمال في المرام و التشابه في الكلام كي يتشّبث به كلّ فريق من المبطلين، و يأوّله على مذهبه كل مبطل من المنتحلين، سيّما بأن يكون فتنة و مضلّة لأهل ملّته و المتدينين بدينه، و المنقادين لأمره.

فالمراد بأرباب المذاهب المذكور في كلامه إن كان أصحاب المذاهب المتخربة في هذا الدين ففتح باب

التأويل و الإلحاد و الاعتذار بالانحرافات الباطلة لهم شقّ لعصا كلمة الأمّة عن الحقّ الذي به يؤمنون، و ماذا بعد الحق الّا الضلال فأنّى يؤفكون.

و إن كان المراد الفرق الكافرة الّتي لم يسلموا أصلا كعبدة الأصنام و أهل الكتاب فالأمر أشنع و أفظع، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ «1».

و الثالث و الرابع بأنّ مجرّد الاستعانة بدليل العقل و تحصيل مثل اللغة و النحو و الأصول كيف صارت غاية مقصودة حتى أوجب قصد التوصل

______________________________

(1) يونس: 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 59

إليها إخفاء الحق في جملة المذاهب المختلفة، و هل العلوم المذكورة إلّا من المبادي و المقدمات العامّة التي يتوقّف على العلم بها فهم عامّة المخاطبات العربيّة و إن لم تكن شرعية فالناس يطلبونها لمعرفة الخطابات الواردة في الكتاب و السنّة لكونها عربيّة لا متشابهة، على أن أسباب التشابه من الاشتراك اللفظي و المعنوي و خفاء القرائن و غيرها شايعة في ألسنة العرب، و أين هذا من خصوص ما أوجب افتراق المذاهب و الاختلاف في الدين.

و من جميع ما مرّ ظهر ضعف الخامس أيضا فإن التدرّج في الإرشاد إنّما هو بالإجمال و التفصيل لا بما يوهم الجبر و التجسّم و التعطيل.

و التحقيق في دفع الأشكال أن يقال إنّ اللّه تعالى قد بعث رسوله صلّى اللّه عليه و آله بالرّسالة و ختم به النبوة، و جعله حجّة على جميع العالمين، و جعل شريعته باقية في عقبه الى يوم الدين، و أنزل عليه كتابا جامعا لعلوم الأولين و الآخرين، بل حاويا لجميع الحقائق و المعارف و الأحكام و الحوادث مما كان أو يكون أبد الآبدين حسبما مرّت اليه الإشارة، و حيث إنّه صلّى اللّه عليه

و آله لم يتفرّغ في البرهة التي كان فيها بين الأنام لتبليغ جميع الأحكام، بل ساير المعارف التي لم تستعدّ أصحابه لقبولها و إدراكها لقرب عهدهم بالجاهلية الجهلاء، مع أنّهم أعراب عرباء أولو أحقاد و قسوة و جفاء، فلذا أودع علمها عند خليفته و وصيّه بل أودع عنده جميع معاني القرآن و بطونه و حقائقه، و أمر بحفظهما و اتباعهما و التمسك بهما معا و أنّهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض، و حيث إنّه علم أنّ من أمته من يرتدّ عن دينه، و يترك وصيته في خليفته، و ينازعه في أمر هو أحق من غيره، فلذا جعل اللّه سبحانه، ظاهر كتابه مشتملا على المحكم الذي لا يختلف فيه اثنان لظهوره و وضوحه، و على المتشابه الذي أخبر في كتابه أنّه لا يعلمه إلّا اللّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 60

و الراسخون في العلم الذين هم حججه على عباده، و أمنائه في بلاده على ما أخبر به النبي صلّى اللّه عليه و آله فيما ورد من طرق الخاصّة و العامّة، بل أخبر في كتابه: أنهم لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1».

فالمتشابهات هي الّتي يضطرّ الناس و يلجئهم إلى الإقرار و الإذعان بولاية أولياء الأمر الذين هم الباب و الحجّاب، و حملة الكتاب و فصل الخطاب لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «2»، يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ «3». و لو كان القرآن كلّه محكما لتوهّموا أنّه مقصور على ظاهره الذي هو غير مشتمل إلّا على أقّل قليل من الأحكام، و لم يمكن الإحتجاج عليهم بأنّهم محتاجون في معرفة حقائق الكتاب، و شرايع الحلال و الحرام

الى الإمام عليه السّلام. و توهّم أنّه مع ذلك لم ينفع به من هداه اللّه بنور الإيمان ثم إنّ ما ذكرناه من الحكمة هو المستفاد من كلام أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام):

ففي المحكيّ عن تفسير النعماني بالإسناد عن الصادق عليه السّلام قال: إن اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله فختم به الأنبياء فلا نبيّ بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده الى أن قال: فجعله النبي صلّى اللّه عليه و آله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس و هم الشهداء على أهل كل زمان حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم، و ذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض و احتجّوا بالمنسوخ و هم يظنون أنّه الناسخ، و احتجّوا بالخاصّ و هم يقدّرون أنّه العامّ و احتجّوا بأوّل الآية و تركوا السنّة في تأويلها، و لم ينظروا الى ما يفتح الكلام و الى ما يختمه، و لم يعرفوا

______________________________

(1) النساء: 83.

(2) الأنعام: 33.

(3) النحل: 83. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 61

موارده و مصادره إذ لم يأخذوه من أهله، فضّلوا و أضلّوا، ثم ذكر عليه السّلام كلاما طويلا في تقسيم القرآن الى أقسام، و فنون، وجوه تزيد على مائة و عشرة الى أن قال عليه السّلام و هذا دليل واضح على أنّ كلام البارئ سبحانه لا يشبه كلام الخلق، كما لا تشبه أفعاله أفعالهم.

و لهذه العلّة و أشباهها لا يبلغ أحد معنى حقيقة تفسير كتاب اللّه إلّا نبيّه و أوصيائه الى أن قال عليه السّلام ثم سئلوه عن تفسير المحكم من كتاب اللّه عزّ و جلّ فقال: أمّا المحكم الذي لم ينسخه شي ء من القرآن فهو قول اللّه

عزّ و جلّ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «1» الآية، و إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه و لم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له التأويلات من عند أنفسهم بآرائهم، و استغنوا بذلك عن مسئلة الأوصياء، و نبذوا قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وراء ظهورهم الخبر «2».

و

في الإحتجاج عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في إحتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة من القرآن فأجابه الى أن قال عليه السّلام: و قد جعل اللّه للعلم أهلا و فرض على العباد طاعتهم بقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3» و بقوله: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «4»، و بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «5»، و بقوله:

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) المحكم و المتشابه عن تفسير النعماني ص 5، وسائل الشيعة ج 18 ص 148.

(3) النساء: 59.

(4) النساء: 83.

(5) التوبة: 119. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 62

وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1»، و بقوله: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «2»، و البيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء، و أبوابها أوصيائهم، فكل عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي الأوصياء، و عهودهم، و حدودهم، و شرائعهم، و سننهم، و معالم دينهم مردود غير مقبول، و أهله بمحل كفر، و إن شملهم صفة الإيمان الى أن قال عليه السّلام بعد تأويل كثير من المتشابهات، و بيان غفير من المجملات: و إنما جعل اللّه في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره و غير أنبيائه

و حججه في أرضه لعلمه بما يحدثه المبدلّون، و تلبيسهم على الأمة فأثبت فيه رموزا و جعل أهل الكتاب المقيمين به العالمين بظاهره، و باطنه من شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي يظهر مثل هذا العالم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، الى أن قال عليه السّلام: ثم إنّ اللّه تعالى لسعة رحمته و رأفته بخلقه قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلّا من صفي ذهنه، و لطف حسه، و صح تمييزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلّا اللّه و أمناؤه الراسخون في العلم، و إنما فعل اللّه ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل من علم الكتاب ما لم يجعله اللّه لهم و ليقودهم الاضطرار الى الائتمار لمن ولّاه أمرهم الخبر «3».

بل فيه بطوله شواهد آخر على ما قدّمناه.

و

روى البرقي في «المحاسن» عن الصادق عليه السّلام في رسالته قال عليه السّلام: فأمّا ما سألت عن القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة، لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت، و كلّ ما سمعت فمعناه على غير ما ذهبت اليه،

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) البقرة: 189.

(3) بحار الأنوار ج 19 الطبع القديم باب 129 ص 122، الإحتجاج ص 130. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 63

و إنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون، دون غيرهم، و لقوم يتلونه حق تلاوته، و هم الذين يؤمنون به و يعرفونه، و أمّا غيره فما أشدّ إشكاله عليهم و أبعده من مذاهب قلوبهم و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه ليس شي ء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن، و في ذلك

يتحيّر الخلائق أجمعون إلّا من شاء اللّه، و إنّما أراد اللّه بتعميته في ذلك أن ينتهوا الى بابه و صراطه و أن يعبدوه و ينتهوا في قوله الى طاعة القّوام بكتابه، و الناطقين عن أمره، و أن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم.

ثمّ قال عليه السّلام: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1»، فأما عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا و لا يوجد و قد علمت أنه لا يستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر، لأنّهم لا يجدون من يأتمرون عليه، و من يبلّغونه أمر اللّه و نهيه فجعل اللّه الولاة خواصّ ليقتدي بهم فافهم ذلك إنشاء اللّه، و إيّاك و إيّاك و تلاوة القرآن برأيك، فإنّ الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الأمور، و لا قادرين على تأويله إلّا من حدّه و بابه الذي جعله اللّه له الخبر «2».

و

في «الكافي» و «العلل» و «رجال الكشي» «3» بالإسناد عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ اللّه أجلّ و أكرم أن يعرف بخلقه- إلى أن قال:- و قلت للناس: أليس تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان الحجّة من اللّه على

______________________________

(1) النساء: 83.

(2) المحاسن ص 268، وسائل الشيعة ج 18 ص 141.

(3) الكشي محمد بن عمرو بن عبد العزيز أبو عمرو، فقيه، رجالي، إمامي اشتهر بكتابه (معرفة أخبار الرجال) مات نحو 340، اختصر رجال الكشي شيخ الطائفة الطوسي و سماه إختيار الرجال و هو المعروف بين الناس اليوم. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 64

خلقه قالوا بلى، قلت: فحين مضى رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله من كان الحجة على خلقه؟ قالوا القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ، و القدري، و الزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلّا بقيّم فما قال فيه من شي ء كان حقا، فقلت لهم: من قيّم القرآن؟

فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، و عمر يعلم، و حذيفة يعلم، قلت: كلّه؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقال: إنّه يعلم القرآن كلّه إلّا عليا، و إذا كان الشي ء بين القوم و يقول هذا لا أدري و هذا لا أدري فأشهد أنّ عليا كان قيّم القرآن، و كانت طاعته مفترضة، و كان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ ما قال في القرآن فهو حقّ فقال عليه السّلام: رحمك اللّه «1».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام: إنّ رجلا سأل أباه عن مسائل فكان ممّا أجابه به أن قال عليه السّلام: قل لهم: هل كان فيما أظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من علم اللّه اختلاف؟ فإن قالوا لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم فيه اختلاف، فهل خالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيقولون: نعم؟ فإن قالوا لا فقد نقضوا أوّل كلامهم فقل لهم: ما يعلم تأويله إلّا اللّه و الراسخون في العلم، فإن قالوا: من الراسخون في العلم؟ فقل: من لا يختلف في علمه، فإن قالوا: من ذاك؟ فقل: كان رسول اللّه صاحب ذاك، الى أن قال: و إن كان رسول اللّه لم يستخلف أحدا فقد ضيّع من في أصلاب الرجال ممّن يكونوا بعده قال و ما يكفيهم القرآن؟ بلى لو وجدوا له مفسّرا

قال: و ما فسّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال بلى فسّره لرجل واحد، و فسّر للأمة شأن ذلك الرجل، و هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، إلى أن قال: و المحكم ليس بشيئين إنما هو شي ء واحد، فمن حكم بحكم ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عزّ و جلّ، و من حكم

______________________________

(1) الكافي ج 1 ص 168، علل الشرائع ج 1 ص 183. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 65

بحكم فيه اختلاف فرأى أنه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت «1».

و

في خطبة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ علم القرآن ليس يعلم إلّا من ذاق طعمه، فعلم بالعلم جهله، و بصر به عماه، و سمع به صممه، و أدرك به ما قد فات، و حيي به بعد إذ مات، فاطلبوا ذلك من عند أهله و خاصّته فإنّهم خاصة نور يستضاء به، و أئمة يقتدى بهم، هم عيش العلم، و موت الجهل، و هم الذين يخبركم حلمهم عن علمهم، و صمتهم عن منطقهم، و ظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي منها خبر دخول الصوفّية على مولانا الصادق عليه السّلام و احتجاجه عليهم لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الإيثار و الزهد المذكور في «الكافي» «3» و غيره من الأخبار فلاحظ، بل يدلّ عليه أيضا الأخبار المتواترة الدالّة على غموض علم القرآن، و النهي عن الخوض و التكلّم

______________________________

(1) الكافي ج 1 ص 242.

(2) يوجد ذيل الحديث في خطبتين من نهج البلاغة: الأولى خطبة 147 و الثانية خطبة 237.

(3)

الكافي ج 5 ص 65، وسائل الشيعة ج 18 ص 135 عن مسعدة

بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث احتجاجه على الصوفية لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الإيثار و الزهد، قال عليه السّلام: أ لكم علم بناسخ القرآن و منسوخه، و محكمه و متشابه الذي في مثله ضل من ضل، و هلك من هلك من هذه الأمة؟ قالوا: بعضه فأمّا كلّه فلا، فقال عليه السّلام لهم: فمن ها هنا أتيتم، و كذلك أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى أن قال عليه السّلام: فبئس ما ذهبتم اليه، و حملتم الناس عليه من الجهل بكتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و أحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل وردكم إياها لجهالتكم و ترككم النظر في غريب القرآن من التفسير، و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و الأمر و النهي- الى أن قال عليه السّلام: دعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به، وردوا العلم الى أهله تؤجروا و تعذروا عند اللّه، و كونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه و محكمه من متشابه و ما أحلّ اللّه فيه مما حرّم، فإنّه أقرب من اللّه، و أبعد لكم من الجهل، دعوا الجهالة لأهلها، فإنّ أهل الجهل كثير، و قد قال اللّه تعالى: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 66

فيه بغير علم، و إيجاب ردّ علمه الى أهله، و إنه إنما يفهمه من خوطب به، و خبر الثقلين و إنّهما لا يفترقان الى غير ذلك مما يوجب الاضطرار الى الحجة.

هذا مضافا الى أنّ التشابه في البعض ممّا يوجب الاستعلام و الاضطرار للرّجوع إلى أبواب العلم و خزنة الوحي، و التلقّي منهم، و

به ينفتح لأهله باب معرفة القانون و المعيار الكلّي في الاستنباط حسبما نشير إليه إن شاء اللّه تعالى، بل ربما تكون الحقائق لغموضها و دقّة مسالكها و مبانيها و خفاء معانيها لا يمكن التعبير عنها إلّا بالعبارات المتشابهة الّتي لا تعرف العامّة منها إلّا المعاني المأنوسة في أذهانهم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 67

الفصل الرابع

اشارة

في الناسخ و المنسوخ النسخ لغة الإزالة كقولهم: نسخت الشمس الظلّ أي أزالته، و منه نسخت الريح آثار القدم، و النقل و التحويل كقولهم: نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه الى كتاب آخر، و منه قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» أي ننقله الى الصحف، بل منه أيضا ما قيل من تناسخ الأرواح لنقلها من بدن الى بدن آخر متنعمة فيه أن كانت محسنة، و معذّبة فيه أن كانت مسيئة، و تناسخ القرون انقراضها قرنا بعد قرن، و تناسخ المواريث نقلها و تحويلها من وارث الى غيره قبل القسمة.

و قد طال التشاجر بين الأصوليين و غيرهم في كون النسخ حقيقة في الأول كما عن المشهور، أو الثاني كما عن القفّال «2»، أو أنّه مشترك بينهما كما عن الشيخ

______________________________

(1) الجاثية: 29.

(2) القفّال عبد اللّه بن أحمد المروزي، فقيه، شافعي، كان وحيد زمانه فقها و حفظا و زهدا، كثير الآثار في مذهب الشافعي، و كانت صنعته عمل الأقفال، ولد سنة 327 و توفي بسجستان سنة 417.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 68

أبي جعفر الطوسي قدس سرّه «1» و الباقلاني «2»، و الغزالي «3»، و الآمدي «4»، إلّا أنّ الأخير قيّده بأن لا يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدّل صفة وجوديّة فهو رابع المذاهب، و خامسها التوقّف كما عن جماعة، و لم

يصّرحوا بإرادة الاشتراك لفظا أو معنى، و ظاهر كلامهم بل الاستدلال بالاستعمال الظاهر في الحقيقة الأول، و لذا أجابوا عنه بأنه أعم، و أنّ الأظهر الأخير فهو السّادس، بل لعلّه يظهر من

______________________________

(1) شيخ الطائفة المحقة، و رافع إعلام الطريقة الحقة محمد بن الحسن بن علي الطوسي، فقيه، محدث، مفسّر، أصولي، ولد سنة 385 هو انتقل من خراسان الى بغداد سنة 408 هو أقام أربعين سنة و رحل الى الغري، أحرقت كتبه عدة مرات بمحضر من الناس، له تصانيف قيّمة في العلوم الإسلامية كالتبيان في التفسير، و النهاية في الفقه، و التمهيد في الأصول، و العدّة فيه أيضا، المبسوط في الفقه و الإستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار و التهذيب و غيرها، كان فضلاء تلامذته الذين كانوا، مجتهدين يزيدون على ثلاثمائة من الخاصة و العامة، توفي بالنجف سنة 460 ه قال صاحب الصراط المستقيم في نخبة المقال: في ترجمة الشيخ: محمد بن الحسن الطوسي أبوجعفر الشيخ الجليل أنجب

جل الكمالات إليه ينتسب تنجز القبض و عمره عجب

460 75

(2) القاضي الباقلاني محمد بن الطيب من كبار علماء الكلام، و ناصر طريقة الأشاعرة و انتهت رئاستهم اليه و هو الذي ناظر الشيخ المفيد قدّس سرّه و غلب عليه الشيخ فقال: الباقلاني: أ لك في كل قدر مغرفة فأجاب الشيخ نعم ما تمثلت بأدوات أبيك. ولد الباقلاني في البصرة 338 و توفي ببغداد سنة 403 ه.

(3) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، فقيه، شافعي تلمذ بنيشابور على إمام الحرمين حتى صار مشارا بالبنان، و صنّف كتبا كثيرة كالبسيط، و الوسيط، و الوجيزة في الفقه، و الجام العوام في علم الكلام، التبر المسكوك في نصيحة الملوك، و المقصد

الأسنى في شرح الأسماء، و أحياء العلوم في تهذيب الأخلاق على طريقة الصوفية، و غيرها توفّي بالطايران (قرية بطوس) سنة 505 و دفن هناك.

(4) الآمدي بكسر الميم (منسوب الى الأمد هو بلد من بلاد الجزيرة) يمكن أن يكون مراده بالأمدي علي بن محمد بن عبد الرحمن أبا الحسن البغدادي: فقيه حنبلي، بغدادي الأصل و المولد، نزل (آمد) بديار بكر سنة 450 ه و توفي به سنة 467 له عمدة الحاضر و كفاية المسافر في الفقه نحو أربع مجلدات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 69

كلمات أهل اللغة و لذا قال الفيّومي في مصباحه: نسخت الكتاب نسخا من باب نفع نقلته، و استنسخته كذلك.

ثم حكى عن ابن فارس «1»: أن كل شي ء خلّف شيئا فقد انتسخه فيقال انتسخت الشمس الظل، و الشيب الشباب أي أزاله، و كتاب منسوخ و منتسخ أي منقول، و النسخة الكتاب المنقول منه انتهى، حيث نبّه على أصل الباب و جعل منه انتساخ الشمس بل نسخ الكتاب أيضا، و إن كان تفسيره به بل بالنقل الذي اشتهر التمثيل به في المقام لا يخلو عن تسامح فإنه ليس نقلا حقيقة، بل حكاية لألفاظه و خطّه و لو بخطّ يخالفها.

و لذا قيل: إنّ الاستعمال لعلاقة المشابهة، بل لعلّه الظاهر أيضا ممّا ذكره شيخنا الطبرسي رحمه اللّه قال: النسخ في اللغة أبطال شي ء و إقامة آخر مقامه، يقال نسخت الشمس الظلّ أي أذهبته و حلّت محله، و قال ابن دريد «2»: كل شي ء

______________________________

(1) أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي من أئمة اللغة و الأدب، قرء عليه البديع الهمداني و الصاحب بن عبّاد، له تصانيف نفيسة: منها مقاييس اللغة و جامع التأويل في تفسير القرآن و فقه

اللغة، ولد سنة 329 و توفي سنة 395 و من شعره: قد قال فيما مضى حكيم ما المرء إلّا بأصغريه

فقلت قول امرء لبيب ما المرء إلّا بدرهميه

من لم يكن معه درهماه لم يلتفت عرسه اليه

و كان من ذلة حقيرايبول سنّوره عليه

(2) محمد بن الحسن بن دريد الأزدي من أئمة اللغة و الأدب، كانوا يقولون: ابن دريد أشعر العلماء و أعلم الشعراء، ولد في البصرة سنة 223 و انتقل الى عمّان فأقام اثني عشر عاما و عاد الى البصرة ثم رحل الى نواحي فارس و كان شيعيا و له في أهل البيت عليه السّلام أشعار منها: أهوى النبي محمّدا و وصيّه و ابنيه و ابنته البتول الطاهرة

أهل العباء فإنني بولائهم أرجو السلامة و النجا في الآخرة تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 70

خلّف شيئا فقد انتسخه، و انتسخ الشيب الشباب، و تناسخ الورثة أن تموت ورثة بعد ورثة و أصل الباب الإبدال من الشي ء غيره، و أمّا ما ربما يظهر من «القاموس» من التعدّد و التغاير حيث قال: نسخه كمنعه أزاله و غيّره و أبطله، و أقام شيئا مقامه إلخ. فلعلّه من حيث المورد و المتعلق.

و على كلّ حال فالخطب فيه سهل كسهولته في أنّه حقيقة هل هو الإبطال و الإزالة كما يلوح عن بعض، أو إقامة الغير مقام المزال كما يظهر من آخرين، أو الأمران معا كما عن الراغب «1» الأصفهاني في «المفردات» حيث قال: إنّه لغة إزالة الصورة عن الشي ء و إثباتها في غيره كنسخ الظل للشمس، ثمّ يقال في إزالة الصورة من غير إثباتها في غيره نحو قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ «2»، و يقال أيضا في إثبات

مثل هذه الصورة في الغير من غير إزالتها عن الأوّل كنسخ الكتاب و هو إثبات ما فيه في محلّ آخر «3».

______________________________ و أرى محبّة من يقول بفضلهم سببا يجير من السبيل الجائرة

أرجو بذاك رضي المهيمن وحده يوم الوقوف على ظهوره الساهرة

توفّي ابن دريد سنة 321 ه.

(1) الراغب الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني، أديب من أهل أصفهان سكن بغداد و اشتهر حتى كان يقرن بالغزالي له تصانيف قيّمة كمحاضرات الأدباء و الذريعة الى مكارم الشريعة و جامع التفاسير كبير أخذ عنه البيضاوي في تفسيره، و حلّ متشابهات القرآن و المفردات في غريب القرآن و هو من أجل كتبه و أجز لها فائدة و هو في الواقع تفسير جامع لما ورد في القرآن الكريم من الكلمات الصعبة توفىّ الراغب سنة 502.

(2) الحج: 52.

(3) المفردات ص 490 قال: النسخ إزالة شي ء بشي ء يتعقبه كنسخ الشمس الظل الشمس، و الشيب الشباب فيفهم منه الإزالة و تارة منه الإثبات و تارة منه الأمران و نسخ الكتاب إزالة الحكم بحكم يتعقبه قال تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) قيل معناه ما نزيل العمل بها أو نحذفها عن قلوب العباد، و قيل: معناه ما نوجده و ننزله من قولهم نسخت الكتاب و ما ننساه أي نؤخره فلم ننزله (فينسخ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 71

بل و كسهولته أيضا في معناه الشرعي المتشرعي الذي اختلفوا فيه على أقوال عديدة لا يسلم جلّها أو كلّها عن وصمة الخلل التي لا تقدح في مثل هذه التعاريف التي ليس المقصود بها إلّا تحصيل نوع المعرفة أو المعرفة بالنوع، و لعلّ أسلمها من بعض الوجوه ما يحكى عن الفاضل العلّامة أعلى اللّه

مقامه. من إنه رفع الحكم الشرعي بدليل متأخّر على وجه لولاه لكان ثابتا، إلّا أن هذا هو نسخ الحكم الذي يبحث عنه الأصوليون، و إنما نبحث عن خصوص نسخ الآية حكما، أو تلاوة، أو معا بأن يخرج عن كونها كتابا و قرآنا محتوما، و إن قيل بإمكان إدراجه في نسخ الحكم الى رفعه فهو حقيقة في نسخ الحكم، لكنّه كما ترى لا يخلو من تكلّف، و لذا احتمل أيضا الاشتراك اللفظي و التجوّز لوجود العلاقة المصحّحة.

نعم قد يفرق بين النسخ و الإنساء باختصاص الأول برفع الحكم، و أمّا الثاني فهو رفعه و رفع التلاوة معا، و قيل: إنّ النسخ إذهاب الى بدل، و الإنساء إذهاب لا الى بدل، و ردّ بقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «1». لظهوره في الإتيان بالبدل، و ستسمع تمام الكلام عند تفسير الآية إن شاء اللّه تعالى.

نعم ينبغي أن يعلم أنّه مغاير للتخصيص «2» و التقييد و البيان للمجمل ضرورة

______________________________

اللّه ما يلقي الشيطان) و نسخ الكتاب نقل صورته المجردة الى كتاب آخر، و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة إلخ فما نقله المصنف في المفردات منقول بالمعنى.

(1) البقرة: 106.

(2) و قد أطلق النسخ كثيرا على التخصيص في التفسير المنسوب الى ابن عباس. قال زعيم الحوزة العلمية آية اللّه أبو القاسم الخوئي في تفسيره القيّم (البيان): النسخ في اللّغة هو الاستكتاب،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 72

في الأخيرين، و أمّا الأوّل و إن قيل باشتراكه معه بأنّ كلّ واحد منهما قد يوجب تخصيص الحكم ببعض ما يتناوله اللفظ لغة، إلّا أنّه قد

فرّق بينهما بأنّ التخصيص يبيّن أن الخارج به عن العموم لم يرد المتكلم بلفظه الدلالة عليه، و النسخ يبيّن أنّ الخارج به لم يرد التكليف به، و إن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه، و بأنّ التخصيص لا يرد على الأمر بمأمور واحد و النسخ قد يرد، و أنّ النسخ لا يكون في نفس الأمر إلّا بخطاب من الشارع بخلاف التخصيص، فإنّه يجوز بكل دليل عقلي أو سمعي، ظنيّ أو قطعيّ، و أنّ الناسخ لا بدّ أن يكون متراخيا عن المنسوخ بخلاف المخصّص فإنه يجوز أن يتقدّم العامّ و يقارنه و يتأخر عنه، و أنّ التخصيص لا يخرج العامّ عن الإحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان، لأنّه يبقى معمولا به فيما عدى صورة التخصيص بخلاف النسخ، فإنّه قد يخرج الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في مستقبل الزمان بالكليّة عند ما إذا ورد النسخ بمأمور به واحد، و أن النسخ يرفع الحكم بعد ثبوته بخلاف التخصيص، و لذا قيل إنّ النسخ رفع و التخصيص دفع، لكنّه بناء على الظاهر، إذ في الحقيقة كلاهما دفع على ما قرّر في محلّه، و أنّه يجوز نسخ شريعة بشريعة، و لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى، و أنّ العامّ يجوز نسخه حتى لا يبقى منه شي ء بخلاف التخصيص، و أنّ النسخ تخصيص الحكم ببعض الأزمان، و التخصيص قد يكون بإخراج بعض الأزمان و قد يكون بإخراج بعض الأعيان و بعض الأحوال فيكون أعمّ من النسخ، و أنّ التخصيص يقع بالعقل و النسخ لا يقع به، و أنّه يقع نسخ فعل

______________________________

كالاستنساخ، و بمعنى النقل و التحويل، و منه تناسخ المواريث و الدهور، و بمعنى الإزالة، و منه نسخت الشمس

الظلّ، و قد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة و التابعين فكانوا يطلقون على المخصّص و المقيّد لفظ الناسخ. (البيان في تفسير القرآن ص 295).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 73

بفعل دون التخصيص، و أنّ التخصيص يقع بالمخصّصات المتصلة و الخبر الواحد و غيره من الأدلّة فيجوز تخصيص القطعي بالظني دون النسخ، و أنّ النسخ لا بد أن يقع فيما علم بالإجماع أو الضرورة دون التخصيص، و أنّ النسخ لا بد أن يكون في زمن وجود النبي صلّى اللّه عليه و آله دون التخصيص، فيقع بعده، إلى غير ذلك من الوجوه الّتي لا يخفى عليك ضعف بعضها، و رجوع جملة منها إلى غيرها، و إن كان بعض منها في محلّه.

فما ربما يقال من نفى المغايرة رأسا و رجوع النسخ الى التخصيص، بل كونه من أفراده مطلقا إن كان هناك عموم أزماني و عن أفراد التقييد إن كان هناك إطلاق.

ضعيف جدّا مردود باستقرار الاصطلاح من الشارع أو المتشرعة الذي لا مشاحّة فيه على خلافه، و بظهور المغايرة جدّا من عدم الاكتفاء بأحدهما عن الآخر في أخبار كثيرة

كالمرويّ عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته المحكي في «النهج»: خلّف فيكم كتاب اللّه مبيّنا حلاله و حرامه و فرائضه و فضائله، و ناسخه و منسوخه، و رخصه و عزائمه، و خاصّه و عامّه الخطبة «1»

و

في خطبة أخرى بعد ما سئل عن أحاديث البدع الى أن قال: و آخر رابع لم يكذب على اللّه و لا على رسوله الى أن قال: بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه و لم ينقص منه، و حفظ الناسخ فعمل به، و حفظ المنسوخ

فجنّب عنه، و عرف الخاصّ و العامّ فوضع كلّ شي ء موضعه «2».

______________________________

(1) الخطبة الأولى

من نهج البلاغة قال عليه السّلام: و خلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم، كتاب ربكم مبيّنا حلاله و حرامه إلخ.

(2)

الخطبة (201) من نهج البلاغة أولها إنّ في أيدي الناس حقا و باطلا، و صدقا و كذبا. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 74

فنبّه عليه السّلام على التغاير مضافا الى التقابل بأنّ حقّ الناسخ العمل و المنسوخ الاجتناب، و أمّا الخاصّ و العامّ فيوضع كلّ منهما موضعه.

و

في «العيون» عن مولانا الرضا عليه السّلام في كتابه الى المأمون في حديث محض الإسلام الى أن قال بعد ذكر الكتاب: نؤمن بمحكمه، و متشابهه، و خاصّه و عامّه، و وعده، و وعيده، و ناسخه، و منسوخه «1».

و

في «الكافي» عن سليم بن قيس: إنّ في أيدي الناس حقّا و باطلا، و صدقا و كذبا، و ناسخا و منسوخا، و عامّا و خاصّا، و محكما و متشابها إلى أن قال فإن أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله مثل القرآن منه ناسخ و منسوخ، و خاصّ و عامّ، و محكم و متشابه، إلى أن قال: فما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آية من القرآن إلّا أقرأنيها و أملأها عليّ فكتبتها بخطي، و علّمني تأويلها و تفسيرها، و ناسخها، و منسوخها، و محكمها، و متشابهها، و خاصّها، و عامّها «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة في ذلك، بل الأمر واضح من أن يحتاج الى الأطناب فيه بذكر الشواهد عليه.

و أمّا إنّ النسخ هل هو رفع للحكم الشرعي الثابت بالخطاب، أو الدليل السابق

المقتضي لشموله في الزمن اللاحق أيضا بظهوره لظاهر الأدلة، أو أنّه بيان لانتهاء مدة الحكم لما استدلّوا به من الوجوه الضعيفة التي لا يليق بالتعرّض، أو أنّ النزاع في ذلك لفظي لابتناء الأول على الظاهر و الثاني على الواقع، أو لغير ذلك، أو أنّه مبنّي على تحقيق التكليف فإن كان مرجعه الى الإرادة الحقيقية أعني

______________________________

(1) عيون الأخبار ج 1 ص 131، وسائل الشيعة ج 18 ص 140.

(2) الكافي ج 1 ص 62، نهج البلاغة فيض الإسلام (201) ص 656.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 75

محبوبية الفعل و الرضا به واقعا تعيّن أن يكون النسخ كاشفا عن ارتفاع الحكم بالنسبة إلى زمن النسخ، و مفيدا لانقضاء أمده، و لا يمكن كونه رفعا للحكم الثابت في زمن النسخ لاستلزامه البداء بالمعنى الممتنع في حقّه سبحانه، و أن كان المراد به بعض الأمور الاعتبارية كالإلزام و جعل الثواب و العقاب، أو الأعمّ من الأول أمكن كونه رفعا للحكم الثابت في زمن الرفع لولاه، و غير ذلك من مباحث النسخ فالكافل لتحقيق الكلام فيها هو أصول الفقه، و إنّما نقتصر في المقام على البحث في أمرين:

الأوّل في جواز النسخ عقلا، الثاني في وقوعه شرعا.

و هو أي وقوعه شرعا و إن كان مقطوعا به مدلولا عليه بعد الأصل بالضرورة القطعيّة من المذهب بل الدين، إلّا أنّها لا تنهض حجة على اليهود حيث خالفت في الأول، و إن نهضت على أبي مسلم الأصفهاني «1» من العامّة حيث خالف في الثاني، نعم قد يحكى عن بعض اليهود أيضا المخالفة فيه خاصّة.

و بالجملة فيدلّ على الأول أنّه لا مانع منه عقلا فيجوز وقوعه، بل قد يدعّي العلم الضروري عليه أيضا و هو كذلك،

على أنّ أفعاله تعالى إما أن تكون معللة بالأغراض و المصالح و الحكم كما عن الإمامية، و تبعهم فيه المعتزلة فالمصالح تتغيّر بتغير الأزمنة كما يتغيّر بتغيّر الأشخاص، فكما يجوز أن يأمر زيدا

______________________________

(1) أبو مسلم الأصفهاني، أبو مسلم: وال من أهل أصفهان. معتزلي من كبار الكتّاب. كان عالما بالتفسير:

و بغيره من صنوف العلم، و له شعر، ولي أصفهان و بلاد فارس، للمقتدر العبّاسي، و استمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان سنة 321 ه، فعزل. من كتبه «جامع التأويل» في التفسير أربعة عشر مجلدا، و مجموع رسائله، ولد أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني سنة 251 و توفي سنة 322 ه (إرشاد الأريب ج 6 ص 420، الأعلام للزركلي ج 6 ص 273).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 76

بشي ء و ينهى عمروا عنه بعينه في زمان آخر، لاختلاف المصالح بالوجوه و الاعتبارات التي من أعظمها مقتضيات الأزمنة الناشئة منها أو حدوث الطوارئ فيها.

أو لا تكون معلّلة بها كما عن الأشاعرة فالأمر أوضح فإنّه حينئذ يفعل ما يشاء كيف يشاء، و يغيّر و يبدّل حسب إرادته و مشيئته، فلا مانع من أن يأمر بشي ء قد نهى عنه سابقا أو بالعكس لتساوي نسبة الأمرين إلى فعله سبحانه.

هذا مضافا إلى أنّ الامتناع أمّا أن يكون ناشئا من ذاته أو ممّا يترتّب عليه و كلاهما فاسد.

أما الأوّل فلأن النسخ إمّا رفع ظاهر، أو بيان أمد الحكم و انتهائه، و قد قضت الضرورة الفعلية بأنّه ليس شي ء منهما من الممتنعات الذاتية.

و أمّا الثاني فإن كانت من جهة تأخير البيان عن وقت الخطاب فقد قرّر في الأصول جوازه، أو من جهة اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة فقد سمعت الكلام فيه على الوجهين، أو

من جهة أخرى فلا يدرك العقل شيئا يقتضي الامتناع، بل الإنصاف إنّه يدرك عدمه.

و أمّا ما يقال سندا للمنع، أو حكاية عن المانع من أنّ الفعل إن كان حسنا قبح النهي عنه، و إن كان قبيحا قبح الأمر به، ففيه أنّ الحسن و القبح على القول بهما حسبما ما هو المقرّر عند الإمامية كما يكونان بالذات كذلك يكونان بالوجوه و الاعتبارات، و قد سمعت أنّه قد يتغيّر المصالح بتغيّر الأزمنة، ألا ترى أنّ الطبيب قد يأمر المريض بشي ء من الأغذية أو الأدوية ثمّ ينهاه عنه، أو بالعكس، فحفظة الشرع الذين هم أطباء النفوس ربّما يأمرون الناس بشي ء في زمان، و ينهونهم عنه في زمان لعلمهم بما هو أقرب إلى السداد و أبعد عن الفساد،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 77

و أحرى بمصالح العباد، هذا كلّه مضافا إلى جميع ما يأتي ممّا يدلّ على الوقوع فإنّه أدلّ دليل على الجواز.

و أمّا وقوع النسخ شرعا أعمّ من هذه الشريعة و غيرها من الشرائع و إن كان قد يعبّر عن صنف بالنسخ في الشريعة، و عن آخر بنسخ الشريعة، و الأخير لا يتطرق إلى الأوّل لضرورة الخاتمية. فتدلّ عليه الضرورة القطعية من هذا الدين بل من سائر الأديان على تجدّد الشرائع و اختلاف الأحكام بحسب اختلاف المصالح في الأزمنة و مقتضياتها التي من أجلها اختلف الشرائع و التكاليف بحسب الأزمنة و غيرها.

و توهم اتحاد الشرائع و أنّ الأنبياء إنما بعثوا لتجديد الشرائع السالفة، و تذكير الناس بها بعد اندراسها بينهم مدفوع بأنّه و إن كان بعض الأنبياء مبعوثين لذلك كأنبياء بني إسرائيل المجدّدين لمذهب موسى عليه السّلام، و كأوصياء عيسى عليه السّلام المجدّدين لمذهبه، بل و كذا أوصياء كل

نبّي من الأنبياء إلّا أنّ القول به على سبيل الكليّة مخالف للضرورة القطعية. إذ من المعلوم بديهة أنّ ما جاء به نبيّنا خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله بل و كذا ما جاء به سائر الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام لم يكن بيانا و تجديدا لشريعة أبينا آدم عليه السّلام، ضرورة أنّ كتابه هو حروف التهجي و شريعته بعض الأمور المتعلّقة بالفلاحة و نحوها، و إن كانت مشتملة على بعض العبادات أيضا.

و دعوى أنّ بناء كل شريعة من الشرائع على زيادة شي ء من الأحكام على الشريعة السابقة لا نسخ شي ء منها و إبطالها، مدفوعة بأنّه التزام للإبطال أيضا و لو لمثل حكم الإباحة و نحوها.

على أنّ التأمل في أحكام الشرائع و تجددها يوجب القطع بما سمعت بحيث لا يبقى معه مجال لهذه الخيالات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 78

و أمّا ما يقال من أنّا لا نسلّم أنّ نبوّة نبينا صلّى اللّه عليه و آله بل و غيره من الأنبياء عليهم السّلام لا يصحّ إلّا مع القول بالنسخ، لاحتمال أن يكون شرع من سبقه محدودا إلى بعثته، إذ من الجائز أنّ موسى و عيسى عليهم السّلام أمر الناس بشرعهم إلى ظهور محمد صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ بعد ذلك أمرا الناس بإتباع شرعه فبعد ظهوره زال التكليف بشرعهما و حصل التكليف بشرع محمد صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى أمرهما، و مثله لا يكون نسخا، بل جاريا مجرى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «1» بل قيل: إنّ المسلمين الذين أنكروا وقوع النسخ أصلا بنوا مذهبهم على هذا الكلام، نظرا إلى أنّه قد ثبت في القرآن أنّ موسى و عيسى بشّرا في التوراة و الإنجيل

بمبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ بالفتح عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه، و معه يمتنع الجزم بالنسخ.

ففيه أنّا لا نعني بالنسخ إلّا زوال الحكم الثابت سابقا، و إبطاله بعد ثبوته و التعبّد به، بلا فرق بين كون الحكمين في شريعة واحدة، أو في شريعتين، و لا بين الإخبار بزواله و عدمه، فكلّ من الكليم و المسيح عليهم السّلام و إن بشّرا قومهما برسول يأتي من بعدهما اسمه أحمد، و أمرا الناس باتّباع الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف، و ينهاهم عن المنكر و يحلّ لهم الطيبات و يحرّم عليهم الخبائث، و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم، إلّا أنّ هذا إخبار منهما ببطلان حكم شريعتهما بعد قدومه، لا أنّ التديّن بشريعته صلّى اللّه عليه و آله من أحكام شريعتهما، بل كونه إخبارا عن انتهاء حكم شريعتهما بشريعته لا يخرجه عن النسخ كما توهم، بل كأنّه إختيار لأحد

______________________________

(1) البقرة: 178.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 79

القولين أو الأقوال في معناه حسب ما سمعت.

هذا مضافا إلى أنّه قد يلزم اليهود بأنه جاء في التوراة: أنّ اللّه تعالى قال لنوح عليه السّلام عند خروجه من الفلك: إنّي جعلت كل دابّة مأكلا لك و لذريتك و أطلقت ذلك لكم ما خلا الدم فلا تأكلوه، ثم إنّه حرّم على موسى و على بني إسرائيل كثيرا من الحيوان.

و بأنّه ورد في التوراة أنّ اللّه تعالى أمر آدم عليه السّلام أن يزوّج بناته من بنيه، و قد حرّم ذلك في شريعة من بعده، و هذا ممّا حرّفوه في التوراة و إنما ذكرناه على سبيل الإلزام عليهم و إلّا فالمستفاد من

أخبار أهل البيت عليهم السّلام أنّه لم يزوّج بناته من بنيه على ما يأتي في تفسير سورة النساء إن شاء اللّه تعالى.

و بأنه أباح السبت ثم حرّمه، و جوّز الختان ثم أوجبه، و يرد الإلزام عليهم بكل حكم وضعي أو شرعي اقتضائي أو تخييري تجدّد في شي ء من الشرائع.

هذا كلّه مضافا إلى ما سمعت من جوازه عقلا، و عدم المانع من وقوعه، إذ غاية ما يستدلّ به للمنع أنّ موسى عليه السّلام لما بيّن شرعه، فإن كان قد دلّ على دوامه مع التنبيه بأنه سينسخه فهو باطل بالضرورة للمنافاة بين الأمرين، و لأنّه لو كان كذلك لنقل متواترا لتوفّر الدواعي، و لأنّه من الكيفية التي تتبع الأصل في النقل و معه يستحيل منازعة الجمع الكثير فيه.

و مع عدم التنبيه يستحيل أن ينسخ، و إلّا كانت تلبيسا ممتنعا على أصحاب الشرائع مع تطرّقه إلى شرعنا أيضا إذ بالكسر غاية الأمر أنّ الشارع نصّ على تأييده و قد فرضنا مثله في شريعة موسى عليه السّلام مع تحقق نسخة مضافا إلى أنّه يرفع

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 80

الوثوق بوعده و وعيده.

و إن لم يدلّ على دوامه و انقطاعه فإن اقتضى الإطلاق الأول و لو للاستصحاب أو اقتضاء الأمر التكرار و الدوام فالبحث البحث، و إن اقتضى الثاني و لو لاقتضاء الأمر المرّة فهو باطل للإجماع على الدوام في الجملة، و لأنّه حينئذ لا يقبل النسخ.

و أنّه قد تواتر النقل عن موسى عليه السّلام أنه قال: تمسّكوا بالسبت أبدا و قال:

تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات و الأرض و قوله حجة و طريقه التواتر الذي لا شكّ فيه.

و إن نسخ ما أمر به إمّا لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة

حال الأمر فهو البداء المستحيل في حقّه تعالى أو لا لحكمة فعبث قبيح عليه سبحانه.

و أنّه لو جاز نسخ الأحكام الشرعية لاختلاف الحكم و المصالح لجاز نسخ ما وجب من الإعتقادات في باب التوحيد، و العدل، و المعاد و غيرها، و هو باطل بالإجماع.

و أنّ المنسوخ إمّا مؤقّت فلا يقبل النسخ، أو مؤبّد فيستلزم الجهل، أو مطلق منزّل على أحدهما. و الكلّ كما ترى لظهور ضعف الأوّل بأنّ موسى عليه السّلام قد نبّه على نسخ شريعته، و وصيّ قومه بأن يؤمنوا بمن يأتي من بعده من الأنبياء خصوصا خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله كما وقع التلويح بل التصريح به في مواضع من التوراة و الإنجيل و الزّبور و كتب دانيال، و زكريا، و شعيا، و حيقوق، و غيرهم من الأنبياء حسبما تصدّى لنقله عنها كثير من الأعاظم. و عدم تواتر النقل لعلّه لإجماله المقتضى لعدم توفّر الدواعي، أو لانقطاع تواترهم باستئصال بخت نصّر إيّاهم،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 81

و إلّا فالحقّ أنّ البشارة كان شائعا ذائعا عندهم يعرفه أحبارهم بل عامتهم، و لذا هاجر كثير منهم قبل مبعثه عن أوطانهم الى المدينة انتظارا لبعثته، و إن لم يؤمنوا به بعده و في ذلك نزل: وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1».

و يؤيده أنّ كثيرا ممّن أسلم من أهل الكتاب بل ممّن لم يسلم منهم قد أقرّ بذلك، و نحن قد باحثنا مع كثير منهم فأقرّ جمع منهم بأنّ موسى قد وصّانا بل نؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان إلّا أنه لم يجي ء بعد و هو

الذي تسمّونه بصاحب العصر عجّل اللّه فرجه.

ثمّ مع تسليم على عدم تنبيه موسى عليه السّلام على نسخ شريعته فلا نسلّم استحالة النسخ، و التلبيس ممنوع بعد عدم التكليف به قبل وقوعه، و احتمال تطّرقه إلى شرعنا مدفوع بالضرورة القطعية.

و الدليل الثاني أيضا ضعيف للمنع مع أنه قد قال ذلك، و قد سمعت انقطاع تواترهم، بل قد ينسب وضع هذا القول الى ابن الراوندي «2» ليعارض به دعوى

______________________________

(1) البقرة: 89.

(2) ابن الراوندي أحمد بن يحيى بن إسحاق: فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكّان بغداد نسبته الى راوند من قرى أصبهان، له مجالس و مناظرات مع جماعة من علماء الكلام، طلبه السلطان فهرب، و لجأ الى لاوي اليهودي بالأهواز و صنّف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سمّاه «الدامغ للقرآن» و وضع كتابا في قدم العالم و نفى الصانع و غيرها التي عدّوها الى اثني عشر كتابا كلها في الطعن على الشريعة، و لكن قال السيد المرتضى في الشافعي: إنّ ابن الراوندي قصد في الكتب المذكورة الطعن على المعتزلة و لا يعتقد هو إلّا مذهب الحق، (الأعلام ج ص 252، الكنى و الألقاب ج 2 ص 111.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 82

الرسالة لما ظهر منه الاستخفاف بالدين، و لهذا لمّا أسلم كثير من أحبارهم مثل كعب الأحبار «1» و ابن سلام «2» و وهب بن منبّه «3» و غيرهم من العارفين بالملّة اليهود لم يذكروا ذلك بل أنكروه.

مع أن الدوام في عبارته بعد تسليمه محمول على الزمان الطويل، بل قيل قد جاء في مواضع من التورية بهذا المعنى، فقد قال في العبد يستخدم ستّ سنين ثم يعتق في السابعة، فإن أبى العتق يستخدم أبدا، و قال

في البقرة التي أمروا بذبحها: يكون ذلك سنّة أبدا، ثم انقطع التعبد به الى غير ذلك من المواضع التي استعمل فيها التأبيد للزمان الطويل.

و الثالث أيضا مردود بأنّ الحكمة ظاهرة له سبحانه عالم بها في الأزل إلّا أنه لا يظهره إلّا بظهوره المقتضى المتجدّد بتجدّد الزمان.

و الرابع أيضا مردود بمنع الملازمة إذ من المصالح ما لا يتبدّل باختلاف الأزمنة أبدا كالتوحيد و سائر المعارف الّتي يحكم بها العقل، و لذا قيل: إنّه لا نسخ

______________________________

(1) كعب الأحبار بن ماتع بن ذي هجن الحميري أبو إسحاق: تابعي. كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، و أسلم في زمن أبي بكر، و قدم المدينة في دولة عمر، فأخذ عنه الصحابة و غيرهم كثيرا من أخبار الأمم الغابرة، و أخذ هو من الكتاب و السنّة عن الصحابة. و خرج الى الشام و سكن حمص، و توفّي فيها عن مائة و أربع سنين سنة 32 ه (تذكرة الحفاظ ج 1 ص 49، الأعلام الزركلي ج 6 ص 85).

(2) عبد اللّه بن سلام بن حارث الإسرائيلي، أبو يوسف صحابي قيل أنه من نسل يوسف بن يعقوب. أسلم عند قدوم النبي صلّى اللّه عليه و آله المدينة، و كان اسمه «الحصين» فسماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه، و شهد مع عمر فتح بيت المقدس و الجابية، و له 25 حديثا، و توفّي بالمدينة سنة 43 ه، تهذيب التهذيب ج 5 ص 249، الأعلام ج 5 ص 223.

(3) قد مرّت ترجمة وهب بن منبّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 83

في العقليّات، و ذلك انّ حكم العقل القطعي لا يتغيّر أصلا.

و الخامس أيضا ضعيف بأنّ المنسوخ مطلق، أو

مؤبّد في الظاهر، و اللّازم ممنوع حسب ما سمعت سابقا.

بقي الكلام فيما يحكي عن أبي مسلم بن بحر الاصفهاني من إنكار النسخ في القرآن نظرا إلى بعض ما مرّ ممّا قد ظهر الجواب عنه، و إلى قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ «1»، فلو جاز النسخ لبطل بعض الآيات إذ النسخ إبطال.

و ضعف هذا لدليل واضح فإنّ الآيات قد فسّرت بأنه لا يأتيه الباطل من قبل التوراة و لا من قبل الإنجيل و الزبور و لا يأتيه من بعده كتاب يبطله، و نسخ الآية و لو من حيث التلاوة ليس إبطالا للكتاب الموضوع للمجموع، مع أنّ الظاهر من الباطل ما يشهد ببطلانه لا ما يرفع الحكم و التلاوة.

على أنّه

قد ورد في تفسيرها عنهم عليهم السّلام: ليس في اخباره عمّا مضى باطل، و لا في اخباره عمّا يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلّها موافقة كلّها لمخبراتها.

هذا مضافا الى الإجماع بل الضرورة على وقوع النسخ و دلالة جملة من الآيات عليه- كآية الاعتداد بالحول «2» المنسوخة بآية الاعتداد بأربعة أشهر و عشر «3»، و توهّم أنّه لم يزل بالكلية لأنّها لو كانت حاملا و امتدّ حملها حولا

______________________________

(1) فصلت: 42.

(2) أي آية (240) من سورة البقرة و هي: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ إلخ ..

(3) أي آية (234) من سورة البقرة و هي: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً إلخ ..

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 84

أعتدّت به لا ينبغي الإصغاء اليه.

و من الآيات الدالّة على النسخ آية تحويل القبلة الى المسجد الحرام «1» و

آية الدّالّة على ثبات الواحد في مقابل الإثنين الناسخة «2» للآية الأخرى الدالّة على الثبات في مقابل العشرة «3»، و الآية الآمرة بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول «4» المنسوخة برفعها «5»، و آية ما ننسخ من آية «6» على ما سيأتي على أن الخطب في ردّ أبي مسلم الأصفهاني سهل بعد مخالفته لإجماع المسلمين بل الضرورة من الدّين.

______________________________

(1) البقرة: 144 و هي آية: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إلخ ...

(2) الأنفال: 66 و هي آية الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ إلخ ..

(3) الأنفال: 65 و هي إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ إلخ ...

(4) المجادلة 12 و هي إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً إلخ ...

(5) المجادلة: 13 و هي آية أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ إلخ ...

(6) البقرة: 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 85

تبصرة في أقسام النسخ

النسخ على ثلاثة أقسام الأول نسخ الحكم دون التلاوة، و هو الشائع المعروف من النسخ في القرآن، فيكون الآية المنسوخة و الناسخة ثابتين في التلاوة و إن ارتفع حكم الأول، كآية عدّة المتوفي عنها زوجها «1»، و مصابرة الواحد للعشرة، و الصدقة قبل النجوى، و تحويل القبلة، و التخيير بين المّن و الفداء «2» و الأمر بقتال الكفار «3»، و الحبس المؤبد «4» المنسوخ بالجلد «5» و الإرث بعقد الولاء «6» على الخلاف في بعضها، و مثلها كثير في القرآن، بل قيل: إنّ آية السيف قد نسخت مائة و أربعين آية من أربعة و خمسين سورة مع بقاء تلاوتها.

و إن كان لا يخلو من نظر فإنّ كثيرا من الآيات

المعدودة من ذلك لا تنافي بينهما كي يلتزم بالنسخ المنفي بالأصل فيها إلّا أن تقوم عليه حجة.

و الثاني العكس أي نسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم المذكورة في كثير من الأخبار و إن اختلفت في خصوص العبارة.

______________________________

(1) البقرة: 234 و 240.

(2) محمد صلّى اللّه عليه و آله: 4.

(3) التوبة 29 و هي آية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ

(4) النساء: 15 و هي آية وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.

(5) النور: 2 و هي آية الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.

(6) النساء: 33 و هي آية وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 86

ففي تفسير القمي كانت آية الرجم نزلت الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة نكالا من اللّه و اللّه عليم حكيم، و في الكافي عن الصادق عليه السّلام مثله الى قوله من اللّه «1» و قد روته العامّة أيضا «2»

، و من طريقهم أن من الآيات قوله تعالى: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ

______________________________

(1)

في الفقيه ج 4 ص 17: روى هشام بن سالم عن سليمان بن خالد قال: قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام: في القرآن رجم؟ قال عليه السّلام نعم قلت: كيف؟ قال: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما

البتة فإنهما قضيا الشهوة

، وسائل الشيعة ج 18 ص 350، و في الكافي ج 7 ص 177 عن يونس، عن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الرجم في القرآن قول اللّه عزّ و جلّ: إذا زنا الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة، و في تهذيب الأحكام ج 10 ص 3 روى الحديث كما في الكافي.

أقول: و لا يخفى على المتأمّل في كلمات المحققين أنّ هذه الروايات و أمثالها لا تنهض حجّة على المطلوب لأنها دالّة على وجود النقص في الكتاب الكريم و هو خلاف الحق. و لعل الروايات على فرض صدورها صدرت تقيّة لأن العامّة رووا عن عمر بن الخطاب أنه ادّعى أنّ آية الرجم من القرآن، و لكنه لمّا كان وحده لم يقبل منه زيد بن ثابت و لم يكتبها في القرآن كما قال السيوطي في الإتقان ج ص 101: خرج ابن أشته في المصاحف عن الليث بن سعد قال: أوّل من جمع القرآن أبو بكر، و كتبه زيد ... و إن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده و سيأتي أنّ حديث آية الرجم مرويّ في الصحيح و المسند من كتب العامّة عن عمر بن الخطاب و أبي بن كعب.

(2) صحيح البخاري ج 8 ص 26: عن ابن عباس أنّ عمر قال فيما قال، و هو على المنبر: إنّ اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله بالحق، و أنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللّه عليه آية الرجم فقرأناها و عقلناها، و وعيناها، فلذا رجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رجمنا بعده فأخشى أن طال بالناس زمان أن يقول قائل:

و اللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضل بترك فريضة أنزلها اللّه، و الرجم في كتاب اللّه حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال، ثم إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.

و في مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 132 عن زرّ بن حبيش، عن أبىّ بن كعب لقد رأيت سورة الأحزاب و إنّها التعادل سورة البقرة و لقد قرأنا فيها الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه و اللّه عليم حكيم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 87

جوف ابن آدم إلّا التراب و يتوب اللّه على من تاب «1».

______________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 117 بإسناده عن ابن عباس: جاء رجل الى عمر فقال: أكلتنا الضبع- يعني- فقال عمر: لو أنّ لامرئ واديا أو واديين لا ابتغى إليهما ثالثا فقال ابن عباس: و لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ثم يتوب اللّه على من تاب. فقال عمر لابن عباس: ممّن سمعت هذا؟ قال: من أبيّ قال فإذا كان بالغداة فاغد عليّ فرجع الى أمّ الفضل فذكر ذلك لها فقالت مالك و للكلام عند عمر و خشي ابن عباس أن يكون أبىّ نسي فقالت أمه عسى أن يكون أبىّ نسي فغدا الى عمر و معه الدّرة فانطلقا الى أبىّ فخرج أبىّ عليهما و سأله عمر عما قال ابن عباس فصدّقه.

و

في مسنده أيضا ج 5 ص 131 مسندا عن أبي كعب قال ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال إنّ اللّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال: فقرأ لم يكن الذين كفروا من

أهل الكتاب. قال فقرأ فيها و لو أنّ ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب و يتوب اللّه على من تاب إلخ ...

و في صحيح مسلم بهامش صحيح البخاري ج 4 ص 437 في باب كراهة الحرص على الدنيا عن أبي الأسود قال: بعث أبو موسى الأشعري الى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل البصرة و قراؤهم فاتلوه و لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبهم كما قست قلوب من كان قبلكم، و إنّا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول و الشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب إلخ ...

أقول: مع ورود هذه الروايات و غيرها في مسانيد القوم و صحاحهم الدالّة على إسقاط كلمات و آيات من القرآن الكريم لماذا يشنّعون على الإمامية و يطعنون عليهم بأنهم قائلون بتحريف الكتاب و نقصه مع أنّ القول بالنقص لا يقول به المحققون بل أجمعوا على عدم النقص و إليك ما قاله رؤساء علماء الشيعة و محققوهم في هذا الشأن:

قال الشيخ الطوسي في التبيان: أما الكلام في زيادة القرآن و نقصه فممّا لا يليق به لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، و أمّا النقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا و هو الذي نصره المرتضى و هو الظاهر في الروايات، غير أنه رويت روايات من جهة الشيعة و العامّة بنقصان آي من آي القرآن طريقها الآحاد التي لا توجب علما و لا عملا و

الأولى الأعراض عنه إلخ ...

قال السيد المرتضى على ما حكى عنه صاحب مجمع البيان: إنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن لأنه يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له و أنه كان يعرض على النبي صلّى اللّه عليه و آله و يتلى عليه و أن جماعة من

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 88

و الثالث نسخهما معا كما روى مما يتلى في كتاب اللّه عشر

______________________________

الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النبي صلّى اللّه عليه و آله عدة ختمات كل ذلك يدل على أنه كان مجموعا مرتبا. و ذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية و حشوية العامة لا يعتد بخلافهم فإنه مضاف الى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم إلخ ...

قال الشيخ الصدوق في الإعتقادات: اعتقادنا في القرآن أنّه ما بين الدفتين و هو ما في أيدي الناس و ليس بأكثر من ذلك و من نسب إلينا أنّا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب إلخ ...

قال السيد محسن الأعرجي المحقق البغدادي في شرح الوافية: الإجماع على عدم الزيادة و المعروف بين علمائنا حتى حكى عليه الإجماع على عدم النقيصة إلخ ...

قال المحدث الخبير و المفسر الشهير المولى محسن القاساني في كتابه الوافي ج 2 ص 273 و 274 بعد ما حكى قول الصدوق في الإعتقادات: أشار في أول كلامه: «أن القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله هو ما بين الدفتين

و ما في ايدي الناس ليس بأكثر من ذلك» الى إنكار ما قيل أن القرآن الذي بين أظهرنا بتمامه كما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله بل منه ما هو خلاف ما أنزل اللّه و منه ما هو محرّف مغيّر، و قد حذف منه شي ء كثير: منها اسم أمير المؤمنين عليه السّلام في كثير من المواضع، و منها غير ذلك، و أنّه ليس أيضا على الترتيب المرضيّ عند اللّه و عند رسوله صلّى اللّه عليه و آله و قد روى ذلك كلّه علي بن إبراهيم في تفسيره و

روى بإسناده عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: ما من أحد من هذه الأمّة جمع القرآن إلّا وصي محمد صلّى اللّه عليه و آله

و

بإسناده عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعلي: يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف و الحرير و القراطيس فخذوه و اجمعوه و لا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة فانطلق علي عليه السّلام فجمعه في ثوب أصفر ثمّ ختم عليه في بيته و قال: لا أرتدي حتى أجمعه، قال: كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما أنزل ما اختلف اثنان

ثمّ قال الفيض: أقول: و في

قوله صلّى اللّه عليه و آله: قرءوا القرآن كما انزل

الإشارة إلى صحّة ما أوّلنا به تلك الأخبار ... إلى أن قال: إن مرادهم عليهم السّلام بالتحريف و التغيير و الحذف إنّما هو من جهة المعنى دون اللفظ أي حرّفوه و غيّروه في تفسيره و تأويله يعنى حملوه على

خلاف مراد اللّه تعالى فمعنى قولهم عليهم السّلام: كذا نزلت أنّ المراد به ذلك لما يفهمه الناس من ظاهره و ليس مرادهم عليهم السّلام أنّها نزلت كذلك في اللفظ فحذف ذلك. كلّه يخطر ببالي في تلك الأخبار إن صحّت فإن أصبت فمن اللّه تعالى و له الحمد و إن أخطأت فمن نفسي و اللّه غفور رحيم، و استوفينا الكلام في هذا المعنى و فيما يتعلّق بالقرآن في كتابنا الموسوم بعلم اليقين فمن أراد فليراجع إليه. علم اليقين ص 130.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 89

رضعات يحرمن «1» و يقال: إنّ سورة الأحزاب كان بقدر السبع الطول و أزيد ثم وقع النقصان «2» و على كل حال فلا مانع منه كما لا مانع من

______________________________

(1) صحيح مسلم ج 4 ص 167: روى عمرة عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: «عشر رضعات معلومات يحرمن» ثم نسخن به: خمس معلومات، فتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هن فيما يقرأ من القرآن.

(2) الإتقان ج 2 ص 40: روى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله مأتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّا ما هو الآن.

و في منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد حنبل ج 2 ص 43: روى زرّ قال: قال أبيّ بن كعب: يا زرّ، كأيّ تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: ثلث و سبعين آية، قال: إن كانت لتضاهى سورة البقرة، أو هي أطول من سورة البقرة، أقول: لا يخفى أن نسخ التلاوة أعمّ من أن يكون مع نسخ الحكم أو بدونه كما في سابقه هو بعينه التحريف و الإسقاط

كما نبّه عليه زعيم الأكبر آية اللّه العظمى السيد أبو القاسم الخوئي في بيانه حيث قال: إنّ نسخ التلاوة هذا إمّا أن يكون قد وقع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو أمر يحتاج الى الإثبات، و قد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، و قد صرّح بذلك جماعة في كتاب الأصول و غيرها مثل كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي ج 3 ص 106، بل قطع الشافعي و أكثر أصحابه و أكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة و إليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل إنّ جماعة ممّن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منه وقوعه كما في الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج 3 ص 217 و على ذلك فكيف تصحّ نسبة النسخ الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أنّ نسبة النسخ الى النبي صلّى اللّه عليه و آله تنافي جملة من الروايات التي تضّمنت أنّ الإسقاط قد وقع بعده. و إن أرادوا أنّ النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فهو عين القول بالتحريف. و على ذلك فيمكن أن يدّعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء السنة، لأنّهم يقولون بجواز نسخ التلاوة. سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ، بل تردد الأصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، و في جواز أن يمسّه المحدث و اختار بعضهم عدم الجواز. نعم ذهبت طائفة من المعتزلة الى عدم جواز التلاوة كما في الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج 3 ص 201- 203.

و من العجب أن جماعة من علماء أهل السنة

أنكروا نسبة القول بالتحريف الى أحد من علمائهم حتى أنّ الآلوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف الى الحشوية و قال: إن أحدا من علماء أهل السنة لم يذهب الى ذلك، و أعجب من ذلك أنّه ذكران قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من فساد قول

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 90

سابقيه «1» لما سمعت من دليل الجواز بل الوقوع، مع أنّ التلاوة بمعنى استحبابها و استحقاق الثواب عليها فضلا عن غيرها كحرمة المسّ للمحدث حكم شرعي يجوز أن ينسخ كغيره من الأحكام بل و كذا إرجاعه الى نوع من الوضع ككونه قرآنا يترتب عليه أحكامه حتى في النذور و الأيمان، لكونه من جعليّات الشارع القابلة للرفع مضافا الى أنه لا يخرجه عن الحكم القابل له.

فما ربما يحكى عن شاذّ من المعتزلة من المنع عن الأوليين أعني نسخ الحكم دون التلاوة و العكس نظرا الى عدم الانفكاك بينهما نظير التفكيك بين المنطوق و المفهوم، و بين العلم و العالميّة، و أن بقاء التلاوة خاصة يوهم بقاء الحكم فيؤدي الى إعتقاد الجهل و هو قبيح من الحكيم، مع استلزامه خلوّ القرآن عند الفائدة، و أن العكس يشعر بزوال الحكم حيث أن الآية ذريعة الى معرفته، فالتفكيك تعريض للمكلّف لاعتقاد الجهل مع أنه عبث لا يلزم منه إثبات حكم و لا رفعه.

ضعيف جدا لا ينبغي الإصغاء اليه، و لا الى دليله بعد ظهور أن بناء النسخ بل الشريعة و لو فيما يتعلق بخصوص التلاوة الحكم على اعتبار المصالح المختلفة بالوجوه و الاعتبارات التي ربما يدعو بعضها الى إثبات الحكم أو- التلاوة في بعض الأزمنة أو رفع أحدهما خاصة.

و أما ما ذكر من الوجوه فضعفها واضح.

______________________________

أصحابه بالتحريف، فالتجأ هو

الى إنكاره (روح المعاني ص 24 ج 1) مع أن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة و محققيهم، حتى أن الطبرسي قد نقل كلام السيد المرتضى بطوله، و استدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتمّ بيان و أقوى حجّة كما في مجمع البيان ج 1 مقدمة الكتاب ص 15.

(1) قد عرفت سابقا أنّ نسخ التلاوة سواء كان مع نسخ الحكم أم لا هو بعينه التحريف الممنوع جدا عند المحققين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 91

الفصل الخامس

في حجية القرآن و الاستدلال بظواهره في الأصول و الفروع اعلم أن جمهور أهل العلم من الفرق كلها على حجيته، و الرجوع اليه و التمسك بمحكماته في جميع العلوم و كافة الفنون من الأصول و الأحكام و الحكم و المواعظ، و القصص، و الوعد، و الوعيد، و غيرها، و كان الأمر مستمرا على ذلك في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام بلا نكير منهم في الرجوع الى محكماته، و كانت الأمة تفزع اليه في إثبات مذاهبها المختلفة التي قد يعّد الإعتقاد بها من الأصول فضلا عن رجوعهم اليه في الفروع، و لم يزل الأمر على ذلك الى أن حدث بعض المحدثين فأحدثوا القول بعدم جواز الرجوع اليه في شي ء من الأحكام، بل منهم من منع فهم شي ء منه مطلقا حتى المحكمات مثل قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، و نحوهما إلّا بتفسير من أصحاب العصمة عليهم السّلام، و فصّل بعضهم بين النصّ و الظاهر.

و مذهب جمهور متأخريهم أنّ كلّه متشابه بالنسبة إلينا و لا يجوز أخذ شي ء من الأحكام منه بل لا يجوز تفسير

شي ء من آياته إلّا بعد ورود بيانه و تفسيره عن أهل البيت عليهم السّلام دون النبي صلّى اللّه عليه و آله فإن الأخبار النبوية أيضا عند كثير

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 92

منهم كالكتاب لا يجوز الرجوع إليه إلّا بعد ورود بيانه في اخبار الأئمة عليهم السّلام حسبما تسمع اليه الإشارة.

و ذكر بعضهم و هو المحدث الحرّ العاملي قدّس اللّه نفسه «1» إن لنا أن نستدل بالقرآن و لا يلزم التناقض لوجهين:

أحدهما أنه دليل إلزامي للخصم لأنّه يعتقد حجية تلك الظواهر مطلقا.

و ثانيهما وجود النصوص المتواترة المخالفة للتقيّة الموافقة لتلك الظواهر

______________________________

(1) شيخ المحدثين العالم الفقيه المتبحر الورع الشيخ الحر العاملي محمد بن الحسن بن علي صاحب الرسائل الذي مّن على جميع أهل العلم بتأليف هذا الكتاب الشريف و الجامع المنيف الذي هو كالبحر ولد في 8 رجب سنة 1033 قرء على أبيه و عمه و جده لأمه و خال أبيه و غيرهم في مشقر «من جبل عامل بسورية» و جبع و أنتقل بعد أربعين سنة إلى العراق و انتهى إلى طوس بخراسان و اتفق مجاورته بها حتى توفي سنة 1104 ه له غير الوسائل تصانيف قيمة آخر منها «أمل الآمال في ذكر علماء جبل عامل» و «الجواهر السنية في الأحاديث القدسية» و «رسالة في ردّ الصوفية» و «رسالة في تواتر القرآن» و «إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات» و «أرجوزة في الإرث» و «أرجوزة في الإرث» و «أرجوزة في الهندسة» و له ديوان فيه نحو عشرين ألف بيت منها في نظم

الحديث القدسي الذي رواه المسعودي في كتاب أخبار الزمان إن اللّه تعالى أوحى الى إبراهيم عليه السّلام: إنك لما سلّمت مالك للضعيفان و ولدك للقربان و

نفسك للنيران و قلبك للرحمن اتخذناك خليلا

:

فضل الفتى بالجود و الإحسان و الجود خير الوصف للإنسان

أو ليس إبراهيم لما أصبحت أمواله وقفا على الضيفان

حتى إذا أفنى اللهى أخذ أبنه فسخى به للذبح و القربان

ثم ابتغى النمرود إحراقا له فسخى بمهجته على النيران

بالمال جاد و بابنه و بنفسه و بقلبه للواحد الديان

أضحى خليل اللّه جل جلاله ناهيك فضلا خلّة الرحمان

صح الحديث به فيا لك رتبةتعلو بأخمصها على التيجان

توفي الحر العاملي في يوم (21) رمضان سنة 1104 في المشهد المقدس بخراسان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 93

فاستدلالنا في الحقيقة بالكتاب و السنّة معا، و لا خلاف في وجوب العمل بهما.

و على كلّ حال فالحق الذي لا محيص عنه هو حجية ما كان منه محكما متضح الدلالة، و لو من جهة الظهور العرفي الذي يفهمه أهل اللسان و يدلّ عليه بوجوه:

منها الإجماع القطعي على ذلك المنعقد من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام المستمر في جميع الأعصار و الأمصار قبل ظهور الخلاف من بعض الأخباريين، بل الظاهر اتفاق قاطبة المسلمين من أهل الفرق و المذاهب كلها على التمسك بظواهره، و الأخذ بمحكماته، و الاستدلال بها في المقاصد الدينية، و الأحكام الشرعية، و المواعظ و القصص حتى في أصول عقائدهم من العدل و الكلام، و القدرة و الإختيار، و المعاد، و الجنة و النار و الحساب و الثواب و العقاب و نحوها، بل في إثبات صحة مذاهبهم كعصمة الإمام و تعيينه و لم يعهد من أحد منهم المناقشة فيه بعدم حجية الكتاب، و أنّه لا عبرة بظواهره.

و الالتزام بورود نصّ مفسّرا له في كلّ ما استدلّوا به تكلّف جدّا، بل لعلّه مقطوع العدم، كظهور

عدم اعتبارهم على ذلك النصّ على فرض وروده قبل تعيين المذهب.

ثم منهم من لا يعمل بأخبار الآحاد، و كثير منهم من لا يقول بحجيتها في أصول العقائد فمن أين كان سكونهم الى ذلك الخبر، و لم لم يقتصروا في الاستدلال على خصوص الآيات المفسّرة في الإخبار.

و يؤيّده استقرار الأمر من الخاصّة و العامّة خلفا عن سلف على تفسير الآيات قراءة و كتابة من دون الاقتصار على خصوص ما ورد من النبيّ و الأئمة عليهم السّلام في كل آية من الآيات إلّا في خصوص الكلمات و الآيات المعدودة عندهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 94

في المتشابهات، بل تراهم يعدّون المرويّ عنهم فيها أحد الوجوه، و يتصدّون لذكر غيرها أيضا نظرا الى قوة دلالة اللفظ أو تطرّق الاحتمال، أو ظهور كون ما ورد عنهم من البطون لا الظواهر، بل يمكن دعوى الضرورة القطعيّة على إرادة ظواهر كثير من الآيات حسبما يفهمه أهل اللسان الذين هم المطّلعون بأساليب الكلام، و قوانين العربية، كما أنّه يمكن دعواها أيضا على تشابه بعض الآيات و الكلمات الموجب للرجوع فيها الى العلماء من آل محمد.

و لذا قال الشيخ في «التبيان»: إنّ معاني القرآن على أربعة أوجه:

أحدها ما اختصّ اللّه تعالى بالعلم به، فلا يجوز لأحد تكلّف القول فيه.

و ثانيهما ما يكون ظاهره مطابقا لمعناه، فكلّ من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناه، مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ «1». و ثالثها ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصّلا مثل قوله تعالى: أقيموا الصلاة، ثم ذكر كثيرا من الآيات التي هي من هذا القبيل، و قال: إنّه لا يمكن استخراجها إلّا ببيان من

النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و رابعها ما كان اللفظ فيه مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما، و يمكن أن يكون كلّ واحد منهما مرادا، فإنّه لا ينبغي أن يقدم أحد فيقول: إنّ مراد اللّه بعض ما يحتمله إلّا بقول نبي أو إمام معصوم الى آخر ما ذكره قدّس سره، و لعلّ المراد بالاختصاص في القسم الأوّل بالنسبة الى غير النبي و الأئمّة عليهم السّلام و إلّا فقد علّمهم اللّه سبحانه جميع علم القرآن، كما أنّ المراد بالرابع ما لم يكن هناك ظهور أو قرينة على التعيين، و ما ذكره من التفصيل لعّله مستفاد عن العلويّ المرويّ في

______________________________

(1) الإسراء: 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 95

«الإحتجاج» في جواب الزنديق و قد مرّ «1».

و منها الأخبار الكثيرة الدّالة على استدلال الأئمة عليهم السّلام بجملة من آياته و احتجاج أصحابهم بعضهم على بعض، و على خصمائهم في المذهب في مقامات كثيرة جدا من الأحكام، و غيرها الدّالة على حجية ظواهرها و اعتمادهم عليها في إثبات مقاصدهم، و ردّهم على خصمائهم في إنجاح مطالبهم، و تقرير الأئمة عليهم الصلاة و السلام لهم بذلك لاستدلالهم لأصحابهم بها مرشدين لهم اليه، و استمرار هذه الطريقة بين أصحابهم و التابعين لهم من دون نكير منهم عليه خلفا عن سلف، كما لا يخفى على من تتبع الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب الأصول و الفروع.

و منها أنّ ألفاظ الكتاب لو لم تكن دليلا على إرادة معانيها بدون التفسير لتوقّف كونها معجزة على ورود التفسير و بيان المعاني المرادة ضرورة أنّ من أظهر وجوه اعجازه على ما يأتي اشتماله على الفصاحة و البلاغة التي لا يسعها طاقة البشر حتى اعترف به فصحاء العرب، حيث

عجزوا عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، و من البيّن أنّ ذلك لا يتّم إلّا بمعرفة المعاني المتصورة من الإلفاظ، لأنّ البلاغة إنما تعرض اللفظ باعتبار ما أريد به من المعنى، و لم ينقل أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يتحدّى العرب بالقرآن بعد تفسيره و بيانه لهم، كيف و لو كان الأمر كذلك لشاع و ذاع، بل قد يقال: إنّ ذلك يوجب خروج القرآن عن كونه معجزا بالبلاغة لتوقّفه حينئذ على التفسير، و صحّته مبنّية على ثبوت النبوّة فإذا توقف ثبوتها على كونه معجزا لزم الدور.

______________________________

(1) الإحتجاج ص 130، وسائل الشيعة ج 18 ص 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 96

و توهّم أنّ إعجازه إنما هو من حيث الصرفة، أو خصوص الأسلوب أو- غيرهما مما لا توقف معه على فهم المعاني ضعيف جدا حسبما تأتي اليه الإشارة في البحث عن وجوه إعجازه.

و منها أنّ الآيات المحكمة الناصّة أو الظاهرة الواردة في بيان الأحكام و القصص و غيرها.

قد ورد في تفسيرها عن أصحاب العصمة ما يوافق ظاهرها كالأخبار الكثيرة المتواترة الواردة في أبواب الإرث موافقة لظاهر الآيات، و الواردة في أحكام النكاح و الطلاق و مدة العدة، و الظهار، و الإيلاء، و الكفّارات و المطاعم و مصارف الخمس، و الصدقات، و مناسك الحج، و كيفية الوضوء، و التيمم، و غيرها، بل الواردة في بيان قصص الأنبياء و المواعظ و المواعيد و أحوال المعاد و نحوها، و بالجملة من تصفّح جملة يسيرة مما ذكرناه حصل له القطع بأنّ ظواهر هذه الآيات هي المقصودة منها، بل من ملاحظة المطابقة بينها و بين الأخبار المروية في تفسيرها المطابقة لظواهرها على حسب ظاهر الأفهام يحصل القطع بأنّ ظاهر كل

ما له ظاهر من الآيات هو الحجة، و هو المقصود من سوق الخطاب، و إن كان غيره مقصودا أيضا من باب التأويل و استنباط شي ء من البطون السبعة أو السبعين التي لا يمنع حجيّة بعضها بعد استفادته من حجيّة غيره كما ستسمعه في موضعه.

و منها جملة من الآيات الكريمة التي لا دور في الاستدلال بها بعد القطع بإرادة مفادها الذي هو كون القرآن عربيا واضح الدلالة منزلا عليهم بلسانهم لتذكرهم، و تفكرهم، و خشيتهم.

كقوله تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 97

يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ «1».

و قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «2».

و قوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3».

و قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «4»، الى قوله تعالى: وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ «5».

و قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً «6».

و قوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «7».

و قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «8».

______________________________

(1) الزمر: 27- 28.

(2) محمد: 24.

(3) النساء: 82.

(4) الشعراء: 193- 195.

(5) الشعراء: 198- 199.

(6) طه: 113.

(7) الشورى: 7.

(8) الحشر: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 98

و قوله تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ «1».

و قوله:

انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «2».

و قوله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ «3».

و قوله تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «4». و في آية: لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ «5». و في أخرى: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ «6».

و قوله: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «7» وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «8».

و قوله: إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «9» و قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «10».

______________________________

(1) ص: 19.

(2) المائدة: 93.

(3) المائدة: 75.

(4) الأنعام: 46.

(5) الأنعام: 97.

(6) الأنعام: 97.

(7) الأعراف: 52.

(8) الإسراء: 106.

(9) التوبة: 124.

(10) النمل: 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 99

و قوله تعالى: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا «1».

و قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «2».

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا «3».

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «4».

الى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا يخفى وجوه دلالتها على المطلوب فلا داعي الى الإطناب بالتقريب، بل ربما يحصل القطع بذلك أيضا من ملاحظة بعض الخطابات الواردة فيه النازلة منزلة الخطابات الشفاهية التي لا واسطة فيها أصلا.

كقوله تعالى: يا أيّها الناس، يا أيّها الذين آمنوا، يا أهل الكتاب، يا بني آدم، يا عبادي الذين آمنوا، يوصيكم في أولادكم، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة المشتملة على الخطاب لعامّة المكلفين، أو المصدّرة بذكر

المخاطب المستفاد منها كونها خطابا منه سبحانه لهم، أو لصنف منهم المستلزم لفهمهم تلك الخطابات من دون واسطة.

و لذا ورد الأمر بسؤال الجنّة و غيرها من الخيرات، و الاستعاذة عن النار

______________________________

(1) الحج: 72.

(2) يونس: 57.

(3) الإسراء: 41.

(4) القمر: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 100

تفسير الصراط المستقيم ج 2 149

و غيرها من الشرور عند قراءة الآيات المتضمنة لها، و ورد في كثير من الآيات الأمر بالتفكر و التدبّر عند التلاوة، قال شيخنا الطوسي في تفسير قوله تعالى:

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1».

إنّ فيه دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شي ء من ظاهر القرآن إلّا بخبر و سمع و فيه تنبيه أيضا على فساد قول من يقول: إنّ الحديث ينبغي أن يروى على ما جاء و إن كان مخالفا لأصول الديانات في المعنى لأنه سبحانه دعا الى التدبر و التفكر، و ذلك مناف للتعامي و التجاهل «2».

و قال في تفسير أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ الآية «3»: أنّها تدلّ على فساد قول من زعم أنّ القرآن لا يفهم معناه إلّا بتفسير الرسول من الحشويّة «4» و غيرهم لأنه تعالى حثّ على تدبّره ليعرفوه و يتبيّنوه «5».

و من هذا الباب ما يدلّ على كونه خطابا للمشركين و احتجاجا عليهم و على اليهود و النصارى مع أنّ ذلك يتوقف على فهمهم و لو لاه لما صحّ ذلك و منه

______________________________

(1) محمد صلّى اللّه عليه و آله: 24.

(2) مجمع البيان ج 9 ص 140 ط. صيدا أفست مصطفوي.

(3) النساء: 82.

(4) قال العلامة النسّابة الفقيه البحّاثة آية اللّه السيد شهاب الدين المرعشي رحمه اللّه في تعليقاته القيّمة على

«إحقاق الحق» ما هذا لفظه: الحشوية قيل بإسكان الشين لأنّ منهم المجسّمة و المجسمة محشو و المشهور أنه بفتحها نسبة الى الحشا لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فوجد في كلامهم «رويا» فقال؛ رووا هؤلاء الأحشاء الحلقة أي جانبها و الجانب يسمى حشاء و منه الأحشاء لجوانب البطن- أقول: كلمة رويا مفعول وجد و المراد أن الحسن رأى قوما في حلقته يستندون في كل شي ء من العقليات و السمعيات برواية رويت.

(5) مجمع البيان ج 3 ص 80 ط. صيدا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 101

قصّة إرسال البراءة الى مكة، إنّ هذا القرآن يقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون «1».

و منها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ الآية «2» حيث دلّت على تقسيم الكتاب الى محكم و متشابه، ثم على الذّم و الإنكار على من اتّبع المتشابه طلبا لإيثار الفتنة و طلبا لتأويله مع أنه لا يعلم تأويله إلّا اللّه و الراسخون في العلم، و الظاهر من تخصيص الذّم على اتباع المتشابه أنه لا ذم على إتباع المحكم، كما يستفاد منها بل من مجرد التقسيم إليهما مع ملاحظة التسمية حجيّة الأول دون الثاني ضرورة أن الظاهر المنساق من المحكم بل المفسر به عندهم ما كان محكم الدلالة، بحيث تكون دلالته على ما أريد منه متضحة كما أن المتشابه ما لم تتضح دلالته لتشابه محتملاته بحيث لا مرجّح و لا معيّن لشي ء منها، بل يستفاد ذلك أيضا من أخبار كثيرة آمرة بالأخذ بالمحكم و ردّ المتشابه إليه، و أن من ردّ متشابه القرآن الى محكمه فقد هدي الى صراط مستقيم، و أن المتشابه ما يشبه على جاهة، و ما

يشبه بعضه بعضا الى غير ذلك مما يورث القطع بحجية المحكم، و أنه ما كان واضح الدلالة حسب ما مرّت إليه الإشارة و تأتي.

و من هنا يظهر سقوط ما قيل في الاعتراض على الاستدلال به من أن هذه الآية محكمة في ذمّ اتباع المتشابه، و أما وجوب اتباع المحكم فلا يستفاد منها إلّا ظنّا، إذ كون بعض الكتاب محكما و كون المحكم أم الكتاب لا يدل على وجوب اتباعه، و ذم اتباع المتشابه بل على عدم ذم إتباع المحكم بمفهوم اللقب

______________________________

(1) النمل: 76.

(2) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 102

و هو كما في كمال الضعف، سلّمنا و لكن نقول: إنّ وجوب الرجوع اليه ممّا لا نزاع فيه لأحد، إنّما النزاع في كون الظاهر محكما بالنسبة إلينا و ما ثبت حقيقة شرعية و لا غيرها في المحكم بحيث يدخل الظاهر فيه قطعا، و المستدلّ إنما استدلّ بها بناء على كون الظاهر محكما.

أقول: لا ينبغي التأمل من حجيّة المحكم بعد ملاحظة الآية و الأخبار بل الضرورة، و لذا نفى عنه الخلاف في صريح كلامه، و أما كون الظاهر محكما بالنسبة إلينا فقد سمعت استفادته من جملة من الأخبار بل من الآية أيضا مضافا الى ما

عن تفسير النعماني بإسناده المعروف عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و رواه القمي في تفسيره مرسلا قال صلّى اللّه عليه و آله: و المحكم ممّا ذكرته في الأقسام ما تأويله في تنزيله من تحليل ما أحلّ اللّه سبحانه في كتابه، و تحريم ما حرّم اللّه فيه من المأكل و المشارب و المناكح.

و منه ما فرض اللّه عزّ و جلّ من الصلوة و الزكاة، و الصيام، و الحج و الجهاد و

ما دلهم به ممّا لا غنى بهم عنه في جميع تصرفاته مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية «1».

و هذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله، و لا يحتاج في تأويله الى أكثر من التنزيل، و منه قوله عزّ و جلّ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ الآية «2» فتأويله في تنزيله، فهذا كله محكم لم ينسخه شي ء قد استغنى بتنزيله عن تأويله «3».

و

قال (عليه السّلام) في موضع آخر: و أما ما في القرآن تأويله في تنزيله فهو

______________________________

(1) المائدة: 6.

(2) المائدة: 3.

(3) بحار الأنوار ج 19 ص 97 باب ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في أصناف آيات القرآن. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 103

كل آية محكمة نزلت في تحريم شي ء من الأمور المتعارفة التي كانت في أيام العرب تأويلها في تنزيلها، فليس يحتاج فيها الى تفسير أكثر من تأويلها و ذلك مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ الآية «1»، و قوله: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ الآية «2»، و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا «3» و قوله: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «4» و قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «5».

و مثل ذلك في القرآن كثير ممّا حرّم اللّه سبحانه لا يحتاج المستمع له الى مسألة عنه: و قوله عزّ و جلّ في معنى التحليل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ «6»، و قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «7» و قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ

لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ «8»، و قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ «9»،

______________________________

(1) النساء: 23.

(2) البقرة: 173.

(3) البقرة: 278.

(4) البقرة: 275.

(5) البقرة: 151.

(6) المائدة: 96.

(7) المائدة: 2.

(8) المائدة: 4.

(9) المائدة: 1. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 104

و قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «1»، و قوله تعالى:

لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ «2» و مثل هذا كثير في كتاب اللّه الخبر «3».

و هو صريح في أنّ نوع تلك الآيات التي لها ظواهر عرفيّة كلّه من المحكمات التي تأويلها بحيث يفهم معانيها كل من كان من أهل اللسان و المقصود من ذكر الآيات التمثيل لا الحصر و لذا نبّه في آخر الخبر على كثرة مثله في الكتاب.

و منها الأخبار الكثيرة الدّالة على عرض الأخبار عند التعارض أو الشك في صحّتها أو مطلقا على كتاب اللّه المستفاد منها كونه واضح الدلالة مع الإغماض عن الأخبار المفسّرة له، إذ لو لم يفهم منه شي ء إلّا بتفسيرهم لانتفت فائدة العرض.

ففي عدّة من الصحاح و غيرها: إنّ علي كل حقّ حقيقة، و على كل صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه «4».

و

في حديث جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: انظروا أمرنا، و ما جائكم منّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به، و إن لم تجدوه موافقا فردّوه «5».

و

في خبر آخر طويل: فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما

______________________________

(1) البقرة: 187.

(2) المائدة: 87.

(3) بحار الأنوار ج 19 ص 111 باب ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في أصناف آيات القرآن.

ط.

القديم.

(4) المحاسن ص 126، الأمالي للصدوق ص 221.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ص 86. بيروت المعلق بتعليقات الرازي. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 105

على كتاب اللّه فما كان في كتاب اللّه موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب الخبر «1».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي لا ينبغي الاعتراض عليها بأنّ غاية ما يستفاد من العرض عليه كونه أمارة لصحة الأخبار و عدمها، و اين هذا من حجّيته بنفسه، فقد ورد في عدّة من الأخبار لزوم الأخذ بما خالف العامّة و بما وافق الشهرة، و لا يستفاد منه حجية الخلاف و الوفاق بل و لا حجية الشهرة، غاية الأمر كونها باعتبار موافقة الخبر لها و مخالفته جابرة و كاسرة، و أمّا حجّيتها فمن أين؟ و بأنّ المراد من الآيات التي يجب العرض عليها هي المفسّرة عن الأئمة عليهم السّلام، و أما ما لم يعلم تفسيرها منهم فليس ممّا يجب العرض عليه.

لضعف الأوّل بأنّه لا يمكن العرض عليه إلّا بعد فهم معناه المقصود و لا خلاف لأحد في أنه إذا فهم المعنى المقصود من الكتاب فهو الحجة قطعا، و ضعف الثاني أيضا بأن الظاهر منها لزوم العرض عليه من حيث نفسه و أما إذا كان مبيّنا ببيان الأئمة عليهم السّلام فمع أنه لا مجال حينئذ للشك في صحة الخبر، أو ترجيحه على غيره لا ريب أن الاعتماد حينئذ على بيان الأئمة- عليهم السّلام لا الكتاب، فإنّ ظاهر قوله فما كان في كتاب اللّه موجودا حلالا أو حراما، و قوله فإن وجدتموه للقرآن موافقا، أن العبرة بموافقتها و مخالفتها له في نفسه، و هو يدلّ على أنّ له ظاهرا هو المقصود منه يمكن للعارض فهمه، و

منها ما صحّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله عند العامّة فضلا عن الخاصّة، بل ادعى بعضهم تواتره، بل هو كذلك على ما مرّت اليه الإشارة من

قوله عليه السّلام: إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا كتاب اللّه

______________________________

(1) عيون الأخبار ط. قم ج 2 ص 20، وسائل الشيعة ج 18 ص 81 عن العيون. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 106

و عترتي و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض «1»

، فإنّ ظاهر الأمر بالتمسك سيّما مع ملاحظة عطف أهل البيت عليهم السّلام عليه الدال على المغايرة استقلال كل منهما بالإفادة، و عدم افتراقهما كما في الخبر لا يدلّ على توقف فهم جميع القرآن على بيان أهل البيت عليهم السّلام بل يكفي أن يكون فائدة ذلك تفهيم المتشابهات و استنباط جميع العلوم من الكتاب، فإنه

قد ورد أنه ما من شي ء مما كان أو يكون الى يوم القيامة إلّا و علمه في الكتاب، و إنّ فيه علم الأرض و علم السماء «2».

و أيضا المراد من الخبر إمّا أن يكون لزوم التمسك بكل منهما لاستقلال كل في الحجية، أو بهما معا أو بالعترة مستقلا و بالكتاب بشرط بيان العترة له، و أما الثالث فيلزمه التفكيك المخالف للظاهر جدا، بل المقصود من الخبر خلافه، و أما الثاني فيلزمه عدم حجية كلام العترة إذا لم يفصح عنه الكتاب و هو كما ترى.

و أوهن منه توّهم أنّ حجية أقوالهم إنما هي لدليل آخر فيتعين الأول:

و يمكن أن يقال: إنّا نختار الثاني، و يؤيّده الحكم بعدم الافتراق، و حينئذ نقول في الجواب عن قوله: (عدم حجية كلام العترة) أنّه بعد القول بعصمتهم و أنّ

علومهم مستفادة من الكتاب إذ فيه تفصيل كل شي ء علمنا إذا أخبر الإمام عليه السّلام بحكم من الأحكام أنّه في كتاب اللّه و العترة مجتمعان على ذلك.

و يمكن الجواب عنه بأنّ الكتاب أيضا حاله كذلك، إذ الحكم المستنبط منه نعلم أنه لو سئل عن الأئمة عليهم السّلام لأفتوا به فاتفقا عليه، إلّا أنّ فيه أنّ استفادة الحكم من الكتاب أول الكلام، إذ للخصم أن يقول أن ما نفهمه ليس هو بعينه مراد اللّه

______________________________

(1) هذا الحديث كما مر سابقا مما اتفق على نقله و الف كتب قيمة فيه مثل كتاب الثقلين من العبقات للمير حامد حسين قدس سرّه في جلدين و غيره.

(2) بصائر الدرجات ص 195، وسائل الشيعة ج 18 ص 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 107

تعالى، بل نحتاج في استفادة مراده الى بيان الأئمة و إثبات حجية ظواهرها بأدلة أخرى إعراض عن الاستدلال به، و كيف كان فالاستدلال بالخبر لا يخلو عن نظر.

و منها جملة من الأخبار التي مرّت الإشارة الى شطر منها كبعض أخبار العرض، و ما ورد في تفسير المحكم و المتشابه، و في فضل القرآن و شرفه، و أنه المخرج من الفتنة، و هو الفصل ليس بالهزل، و لا يشبع منه العلماء، و لم تلبث الجنّ إذا سمعته

«ان قالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد، و أنّه إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع، و ما حل مصدّق، و من جعله أمامه قاده الى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه الى النار، و هو الدليل يدّل على خير سبيل، هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و أنّ من استضاء به نوّره اللّه،

و من عقد به أموره عصمه اللّه، و من تمسّك به أنقذه اللّه، و من لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، و من استشفى به شفاه اللّه، و من آثره على ما سواه هداه اللّه، و من طلب الهدي في غيره أضله اللّه، و من جعله شعاره و دثاره أسعده اللّه «1».

بل

في الخبر عن السجاد عليه السّلام أنّ القرآن بلغة العرب فيخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم، أما نقول للرجل التميمي الذي قد أغار قومه على بلد و قتلوا فيه أغرتم على بلد و فعلتم كذا الخبر.

و

في موثقة عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل شرب الخمر في عهد أبي بكر و عمر، و اعتذر بجهله بالتحريم، فسألا أمير المؤمنين عليه السّلام عن ذلك

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 9 ط. القديم. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 108

فأمر عليه السّلام بأن يدار به على مجالس المهاجرين و الأنصار و قال: من كان قرء عليه آية التحريم فليشهد عليه، ففعلوا ذلك، فلم يشهد عليه أحد فخلّى عنه «1».

و نحوه

رواية أبي بصير عنه عليه السّلام و فيها: فإن لم يكن تلي عليه آية التحريم فلا شي ء عليه «2».

و

عن «الخصال» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّما أتخوّف على أمتي من بعدي ثلث خلال أن يتأولّوا القرآن على غير تأويله، أو يبتغوا زلّة العالم، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا، و سأنبئكم المخرج من ذلك، و أمّا القرآن فاعملوا بمحكمه، و آمنوا بمتشابهه «3».

و

في «جامع الأخبار» «4» و «غوالي اللئالي» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ

______________________________

(1) الفروع من الكافي ج 7 ص 216.

(2) الفروع من الكافي ج 7 ص

249.

(3) الخصال ص 76 ط. الشفيعي بطهران.

(4) كتاب جامع الأخبار اختلف في مؤلفه، المشهور أنه للصدوق و لكنه خلاف التحقيق. قال المحدث الخبير العلامة المجلسي قدس سرّه في مقدمة البحار: أخطأ من نسب كتاب جامع الأخبار الى الصدوق، بل يروي عن الصدوق بخمس وسائط، و قد يظنّ كونه تأليف مؤلف مكارم الأخلاق، و يحتمل كونه لعلي بن سعد الخيّاط، لأنه قال الشيخ منتجب الدين في فهرسه: الفقيه الصالح أبو الحسن علي بن أبي سعد الخيّاط عالم، ورع واعظ، له كتاب الجامع في الأخبار، و يظهر من بعض الكتاب أنّ اسم مؤلّفه محمّد بن الشعيري، و من بعضها أنه يروي عن الشيخ جعفر بن محمد الدرويستي بواسطة و يظهر من تعليقه البحار ج 1 ط الآخوندي بطهران أنّ مؤلف جامع الأخبار كان من علماء عصر الخامس و السادس من الهجرة حيث نقل عن جامع الأخبار ص 10: حدثنا الحاكم الرئيس الإمام مجد الحكام أبو منصور على بن عبد اللّه الزيادي أدام اللّه جماله أملاء في داره يوم الأحد الثاني من شهر اللّه الأعظم رمضان سنة ثمان و خمسمائة. قال حدثني الشيخ الإمام أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الدرويستي إملاء أورد القصة مجتازا في أواخر ذي الحجة سنة أربع و سبعين و أربعمائة. قال حدثني أبو محمد بن أحمد. قال حدثني الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي اللّه عنه إلخ .. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 109

كتاب اللّه على أربعة أشياء: على العبارة، و الإشارة، و اللطائف، و الحقائق، فالعبارة للعوامّ، و الإشارة للخواصّ، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء «1».

دلالة هذه الروايات على المطلوب بيّنة، و المراد بالخواصّ غير الأئمة المعبّر عنهم

بالأولياء و إلا لا تحدّث معها و صارت الأربعة ثلثه، مضافا الى مقابلتها للعوامّ فلكلّ من الطوائف الأربع حظّ و نصيب من فهم القرآن و علمه.

و

في «الاحتجاج» عنه عليه السّلام في حديث الزنديق الذي جاء بأي من القرآن زاعما تناقضها حيث قال عليه السّلام بعد كلام طويل: ثم إن اللّه جلّ ذكره بسعة رأفته و رحمته بخلقه و علمه بما يحدثه المبدّلون قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه و لطف فهمه و حسّه و صحّ تمييزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلّا اللّه و أمناؤه الراسخون في العلم الخبر «2».

و

في العلوي المذكور في «النهج» و غيره بعد قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ الآية «3»: فالردّ الى اللّه الأخذ بمحكم كتابه، و الردّ الى الرسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة،

ففي «النهج» في معنى الخوارج و لما دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا لم تكن الفريق المتولّي عن كتاب اللّه تعالى قال اللّه سبحانه: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ «4» فردّوه الى اللّه نحكم بكتابه «5».

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 27 ط. القديم عن الدرة الباهرة.

(2) الاحتجاج: ص 130، وسائل الشيعة ج 18 ص 143.

(3) النساء: 59.

(4) النساء: 59.

(5) نهج البلاغة لفيض الإسلام ص 377.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 110

و من هنا يظهر أنّ الآية المفسّرة بالخبر حجة لنا، و أنّ الجهل بالمراد من الردّ الى اللّه ضعيفة بعد ظهوره من المقابلة في الآية و تفسيره في الخبر، كضعف احتمال إرادة الرّد إليها معا، فإنّ الردّ الى كلّ ردّ

الى الكلّ، لعدم الفرقة عند الفرقة.

و أمّا ما يقال: إنّ المحكم لا نعلم المراد به سلّمنا كون الآية منه لكنّا تنازعنا في جواز العمل بالظواهر، فإن دلّت على الجواز فأين موضع الإفادة، أو على الرجوع الى محكم غيرها فأين ذلك المحكم.

ففيه أنّ الظاهر من المحكم عرفا ما كان له دلالة ظاهرة يفهمها أهل اللسان و هو الظاهر من الأخبار الواردة في تفسيره أيضا، بل و من مقابلته بالمتشابه المفسّر في كلامهم عليهم السّلام بما اشتبه على جاهة، و أمّا ما هو المرجع في المتنازع فيه فالآيات الكثيرة التي مرّت إليها الإشارة.

و من أطرف ما أورد على الاستدلال بها في المقام معارضتها بقوله تعالى:

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «1» و قوله تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ «2»، و قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3» و قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «4» و قوله تعالى: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ «5»، الآيات، و هو كما ترى.

و

عن تفسير العيّاشي عن هشام رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قيل له روي

______________________________

(1) النساء: 65.

(2) الحشر: 7.

(3) الأحزاب: 21.

(4) النحل: 44.

(5) النساء: 83. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 111

عنكم أنّ الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجال، فقال عليه السّلام: ما كان اللّه ليخاطب خلقه بما لا يعقلون «1».

و

عن كنز الفوائد للكراجكي «2» قال جاء في الحديث أنّ قوما أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: أ لست رسول اللّه تعالى؟ قال لهم: بلى، قالوا له: و هذا القرآن الذي أتيت به كلام اللّه تعالى؟ قال عليه السّلام: نعم، قالوا: فأخبرنا عن قول

اللّه: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «3»، إذا كان معبودهم معهم في النار فقد عبدوا المسيح، أ فنقول: إنّه في النار؟ فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن اللّه سبحانه أنزل القرآن عليّ بكلام العرب، و المتعارف في لغتها أنّ ما لما لا يعقل، و من لمن يعقل، و الذي يصلح لهما جميعا، فإن كنتم من العرب فأنتم تعلمون هذا قال اللّه تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ يريد الأصنام التي عبدوها و هي لا تعقل، و المسيح لا يدخل في جملتها فإنه يعقل، و لو قال: إنكم و من تعبدون لدخل المسيح في الجملة، فقال القوم: صدقت يا رسول اللّه.

و

في «الكافي» و «المحاسن» عن محمد بن منصور قال سألت عبدا

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 341، وسائل الشيعة ج 2 أبواب ما يكتسب به باب 100.

(2) قال مؤلف البحار في مقدمته: و أمّا الكراجكي فهو من أجلّة العلماء و الفقهاء و المتكلمين و أسند إليه جميع أرباب الإجازات. و كتابه كنز الفوائد من الكتب المشهورة التي أخذ عنه جل من أتى بعده.

و سائر كتبه في غاية المتانة. و قال الشيخ منتجب الدين في فهرسه: الشيخ العالم الثقة أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي فقيه الأصحاب قرء على السيد المرتضى علم الهدى و الشيخ الموفق أبي جعفر و له تصانيف منها: كتاب التعجب، و كتاب النوادر. كان الكراجكي فقيها، أصوليا، محدثا، عالما بالنجوم و الهيئة، نحويا لغويا، طبيبا متكلما. من كبار العلماء و أعاظم الإمامية. تلمذ على الشيخ المفيد، و السيد المرتضى و سافر في طلب العلم الى بلاد كثيرة و أكثر أقامته في الديار المصرية.

توفي سنة 449.

(3) الأنبياء: 98. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 112

صالحا «1» عن قول اللّه عزّ و جلّ إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر و ما بطن، قال عليه السّلام إنّ القرآن له ظاهر و باطن، فجميع ما حرّم اللّه في القرآن فهو حرام على ظاهره كما هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الجور، و جميع ما أحلّ اللّه في الكتاب فهو حلال و هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الهدى «2».

و

في العلل عن الباقر عليه السّلام في حديث الطينة في قوله تعالى: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ «3» قال عليه السّلام: هو في الظاهر ما تفهمونه و في الباطن كذا إلخ .. «4»

و

في «الخصال» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أمّا القرآن فاعملوا بمحكمه و آمنوا بمتشابهه «5».

و

عن الصادق عليه السّلام قال: القرّاء ثلاثة (ثم ذكرهم و ذمّ إثنين منهم و مدح واحدا و هو) من يعمل بمحكمه، و يؤمن بمتشابهه، و يقيم بفرائضه، و يحلّ حلاله، و يحرّم حرامه «6».

و

في «العيون»، من ردّ متشابه القرآن الى محكمه فقد هدى الى صراط مستقيم «7».

______________________________

(1) المراد بالعبد الصالح موسى بن جعفر عليهما السّلام.

(2) الأصول من الكافي ج 1 ص 374 بتفاوت يسير من الألفاظ.

(3) يوسف: 79.

(4) تفسير نور الثقلين ج 2 ص 49 في تفسير سورة يوسف عن علل الشرائع للصدوق.

(5) الخصال للصدوق ج 1 ص 76 ط. الشفيعي بطهران.

(6) الخصال للصدوق ج 1 ص 290 ط. الآخوندي بطهران.

(7) عيون أخبار الرضا للصدوق ج 1 ص 290 ط. الآخوندي بطهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 113

و

في «الكافي» و «الفقيه» عن عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه

السّلام:

قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «1»، قال عليه السّلام: ما أبينها من شهد فليصمه، و من سافر فلا يصمه «2».

و

في «الكافي» و «التهذيب» عن الصادق عليه السّلام في حديث قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «3»، فلو سكت لم يبق أحد إلّا تعجّل لكنّه قال: وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «4». «5»

و

في «العلل» في الصحيح و تفسير العياشي عن زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام أ لا تخبرني من أين علمت و قلت إنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟

فضحك (عليه السّلام) و قال: يا زرارة قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل به الكتاب من اللّه تعالى فإنّ اللّه يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعرفنا أن الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فوصل اللّه اليدين الى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا الى المرفقين ثمّ فصل بين الكلامين فقال:

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فعرفنا حين قال برؤوسكم أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضها الخبر «6»

، و قريب منه خبران آخران.

و

في «الكافي» و «التهذيب» عن عبد اللّه الأعلى مولى آل سام قال: قلت

______________________________

(1) البقرة: 185.

(2) الفروع من الكافي ج 1 ص 197، من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 49.

(3) البقرة: 203.

(4) البقرة: 203.

(5) الفروع من الكافي ج 1 ص 307، التهذيب ج 1 ص 524.

(6) علل الشرائع ص 103، من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 30، الفروع من الكافي. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 114

لأبي عبد اللّه عليه

السّلام: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة «1» فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال عليه السّلام: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه، قال اللّه تعالى:

وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» امسح عليه «3».

و

عنه عليه السّلام في ذبائح أهل الكتاب فقال عليه السّلام: قد سمعتم ما قال اللّه تعالى في كتابه، قالوا نحبّ أن تخبرنا فقال عليه السّلام: لا تأكلوها «4» إلخ.

و

في الصحيح عنه عليه السّلام: لو أنّ رجلا دخل في الإسلام فأقرّ به ثم شرب الخمر، و زنى، و أكل الرّبا، و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام، لم أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلا إلّا أن تقوم عليه البينة أنّه قرأ السورة التي فيها الزنا، و الخمر، و أكل الرّبا «5».

و في أخبار كثيرة عنهم الاستشهاد بكثير من الآيات بل في أكثرها: ألم تسمع اللّه تعالى يقول: ألا ترى أنّ اللّه تعالى قال؟ أما تتلو كتاب اللّه؟ أما تقرأ من القرآن كذا؟ أما تقرأ كتاب اللّه؟ أما سمعت قول اللّه؟ بل كثير منها البحث عن الدلالة و كيفيّتها كما سمعت الخبر في كيفيّة المسح، و في تفسير إنّكم و ما تعبدون، و غيره.

و

في الصحيح عن زرارة و محمد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي؟ فقال عليه السّلام: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

______________________________

(1) المرارة هي الجبيرة.

(2) الحج: 78.

(3) الفروع من الكافي ج 1 ص 103.

(4) التهذيب ج 2 ص 354.

(5) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 39. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 115

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ «1» فصار التقصير في

السفر واجبا، كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا: إنما قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ «2»، و لم يقل افعلوا فكيف أوجب ذلك؟ كما أوجب التمام في الحضر فقال عليه السّلام: أو ليس قد قال اللّه: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «3» ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ اللّه تعالى ذكره في كتابه، و صنعه نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) و كذلك التقصير بهما واجب مفروض، لأنّ اللّه ذكره في كتابه، و صنعه نبيه صلّى اللّه عليه و آله و ذكره اللّه تعالى في كتابه الخبر «4».

و الدلالة بيّنة، و قرينة التجوّز على فرضه قوله و فعله عليه السّلام و التعكيس موهون جدا، الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي لا داعي الى التعرّض لها بعد التأمل في الوجوه المتقدمة التي يمكن تحصيل القطع من ملاحظة كلّ منها بانفراده، فإنّ من لاحظ جميع الأخبار الواردة في تفسير الآيات المتعلقة بالأحكام، بل غيرها من القصص و المواعظ، و المواعيد، و الأصول، و غيرها مع ملاحظة مطابقة مداليل تلك الأخبار للآيات، و كذا استشهاد الأئمة عليهم السّلام بها، و كذا الصحابة، و التابعين.

و عدم سؤالهم عن تفسيرها إلّا ما كان متشابها منها يقطع بأن مداليلها الظاهرة مقصودة منها، و إن كان غيرها مقصودة أيضا سيّما مع كون الكتاب على نظم عجيب، و نمط غريب، و اشتماله على وجوه الفصاحة و البلاغة

______________________________

(1) النساء: 101.

(2) النساء: 101.

(3) البقرة: 158.

(4) من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 141، تفسير العيّاشي ج 1 ص 271.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2،

ص: 116

و الاستعارات الرائقة، و الكنايات المبتكرة الفائقة، و محاسن العبارات، و لطائف الإشارات و غيرها من الأمور المتوقفة على فهم المعنى، كيف و لو لم يكن ما نفهمه من الظواهر مقصودا لم نقدر على استنباط تلك الأمور و فهمها، و لا على العلم بكونه معجزة باقية على مرّ الدهور و الأيّام، بل علما لهداية كافّة الأنام.

و أيضا لم يعهد الطعن على أحد في الإحتجاج في إثبات المسائل الأصولية و الفقهيّة و الكلاميّة، و من ثمّ ترى كلّ ذي فنّ و علم يجتهد في انتهاء علمه الى الكتاب، و الاستدلال به لمقصوده.

و أيضا لم يمنع أحد عن تفسير الكتاب و تدريسه و تصنيفه بل نجد كثيرا من أصحابهم ممّن صنّف فيه، و في خصوص الآيات المتعلقة بالأحكام المضبوطة عندهم بما يقرب من خمسمائة، بل نجد التفاسير المأثورة عنهم عليهم السّلام كتفسير مولانا أبي محمّد العسكري عليه السّلام و غيره مطابقة للظواهر المستفادة إلّا ما كان فيها من المواطن و التأويلات.

و أيضا المعهود من طريقة جميع أصحاب المذاهب و الملل و الأديان و النحل إتّباع الكتاب المنزل عليهم من ربّهم أو الموروث من رئيسهم، و صاحب مذهبهم.

و من ثمّ لم يعهد من اللّه سبحانه ذمّ اليهود و النصارى بالعمل بما وجدوه في التوراة و الإنجيل بل ورد الأمر بإقامتهما و اتباع ما أنزل اللّه فيهما.

بل لعلّ الضرورة قائمة على لزوم العمل بالظواهر المستفادة من الكتب الإلهية سيّما القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه بل و كانت الأمّة مجمعة على ذلك حتّى الأخباريين منهم، حتى أنّ جملة منهم قد صدّروا كتبهم، و الاستدلال على مطالبهم بالآيات القرآنية، كصاحب «روضة

تفسير الصراط المستقيم،

ج 2، ص: 117

الواعظين»، و «دعائم الإسلام» و «جامع الأخبار».

و قال ثقة الإسلام في «الكافي»: و أنزل عليه الكتاب فيه البيان و التبيان قرآنا عربيّا غير ذي عوج لعلهم يتّقون، الى أن استدل بجملة من الآيات على وجوب التفقّه في الدين «1».

و الصدوق قد استدلّ في مواضع من «الفقيه» و «الإعتقادات» و «إكمال الدين» و غيرها من كتبه بجملة من الآيات، و لم تزل الشيعة الإماميّة بل الأمة كافّة مجتمعة على ذلك في جميع الأعصار و الأمصار الى أن نشأ جملة من المحدّثين كالأمين الاسترابادي «2» و الشيخ الحرّ العاملي «3» و بعض ممّن تبعهما فيه فرفضوا حجيّة الكتاب، و منعوا عن الاستدلال به، لا لما كان سلمان «4» يقوله

______________________________

(1) خطبة كتاب الكافي ص 3 الى ص 7.

(2) قال الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل: مولانا محمد أمين الاسترابادي فاضل محقق ماهر، متكلّم فقيه، محدّث ثقة، جليل، له كتب منها كتاب الفوائد المدنية و مصنفات أخرى يروى عن شيخنا زين الدين بن محمد بن الحسن العاملي، و قد ذكره صاحب السلافة و أثنى عليه و ذكر أنه جاور بمكة و توفى بها سنة (1036) كان رحمه اللّه في مبادئ أمره داخلا في دائرة الاجتهاد، ثم رجع و ألّف الفوائد و حمل في كتبه على المجتهدين.

(3) قد مرّت ترجمته من قبل.

(4) سلمان الفارسي: صحابي: من مقدميهم. كان يسمي نفسه سلمان الإسلام. أصله من أصبهان عاش عمرا طويلا، و اختلفوا فيما كان يسمى به في بلاده، و قالوا: نشأ في قرية جيان، و رحل الى الشام، فالموصل، فنصيبين، و قرأ كتب الفرس و الروم و اليهود و قصد بلاد العرب، فلقيه ركب من بني كليب فاستخدموه، ثم

استعبدوه و باعوه، فاشتراه رجل من قرية فجاء به الى المدينة، و علم سلمان بخبر الإسلام، فقصد النبي صلّى اللّه عليه و آله بقباء و سمع كلامه، و لازمه أياما، فأعانه المسلمون على شراء نفسه من صاحبه فأظهر إسلامه، و كان قوي الجسم، صحيح الرأي عالما بالشرائع و غيرها، و هو الذي دلّ المسلمين على حفر الخندق في الأحزاب، حتى اختلف عليه المهاجرون و الأنصار و كلاهما يقول:

سلمان منّا،

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سلمان منّا أهل البيت

، و

سئل عنه علي عليه السّلام: امرؤ منّا و إلينا أهل تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 118

للناس على ما

رواه شيخنا الكشي بإسناده عن محمد بن حكيم قال: ذكر عند أبي جعفر سلمان فقال ذاك سلمان المحمدي، أنّ سلمان منّا أهل البيت، إنّه كان يقول للناس هربتم من القرآن الى الأحاديث وجدتم كتابا رفيعا حوسبتم على التفسير و القطمير و الفتيل، و حبّة خردل فضاق ذلك عليكم و هربتم الى الأحاديث التي اتسعت عليكم، إلخ «1».

بل لشبهة عرضت لهم قد نشأت من ملاحظة الأخبار الكثيرة الدّالة على أنّ علم الكتاب ممّا منح اللّه تعالى به الأئمّة عليهم السّلام، و أنّه لا يعلم المحكم و المتشابه، و الناسخ، و المنسوخ، و العام، و الخاصّ منه غيرهم، و أنّه يجب الرجوع إليهم في ذلك، و أنّه لا يعلم تفسيره و لا تأويله و باطنه غيرهم، و أنّه إنما يعرف القرآن من خوطب به، و أنّه لا يعلمه كما أنزله اللّه تعالى غيرهم.

و قد عقد في «الوسائل» بابا لعدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلّا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة عليهم السّلام، و أورد فيه أخبارا يقضي

______________________________

البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم، علم العلم الأول، و العلم الآخر، و كان بحرا لا ينزف، و جعل أميرا على المدائن، فأقام فيها الى أن توفي سنة 36 ه.

الأحاديث في فضائل سلمان كثيرة منها ما

عن منصور بن بزرج قال: قلت للصادق عليه السّلام ما أكثر ما أسمع منك سيدي ذكر سلمان الفارسي، قال عليه السّلام: لا تقل سلمان الفارسي و لكن قل سلمان المحمدي أ تدري ما كثرة ذكري له؟ قال: لا قال عليه السّلام: لثلاث خصال: إحداهما إيثاره هوى أمير المؤمنين عليه السّلام على نفسه، و الثانية حبّه للفقراء و اختياره إياهم على أهل الثروة و العدد، و الثالثة حبّه للعلم و العلماء، إن سلمان كان عبدا حنيفا مسلما و ما كان من المشركين.

و منها

عن الصادق عليه السّلام، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام يحدّثان سلمان بما لا يحتمله غيره من مخزون علم اللّه و مكنونه.

طبقات ابن سعد ج 4 ص 53، الأعلام للزركلي ج 3 ص 169، سفينة البحار ج 1 ص 646، حلية الأولياء ج 1 ص 419.

(1) قاموس الرجال ج 4 ص 419.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 119

جلّها لو لم نقل كلّها على ضدّ مقصده، كما ترى أنّ كثيرا من الأخبار التي سمعت الاستدلال بها على الحجيّة مأخوذة منه «1».

و أمّا ما ربما يوهم الدلالة على ما توهّموه ممّا ذكروه فالصحيح

عن منصور ابن حازم قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إن اللّه أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه الى أن قال: و قلت للناس: أليس تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان الحجّة من اللّه على خلقه؟

قالوا: بلى قلت: فحين مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كان الحجّة على خلقه؟

قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المرجئ و القدري و الزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلّا بقيّم، فما قال فيه من شي ء كان حقا إلى أن قال: فاشهدوا أنّ عليا عليه السّلام كان قيّم القرآن، و كانت طاعته مفترضة، و كان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّ ما قال في القرآن فهو حقّ «2».

و فيه أنّ مخاصمة الفرق فيه إنما هو بالأخذ بالتأويل الذي لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم و القرآن و إن كان مشتملا على جميع الحقائق و الأحكام إلّا أن علمه على هذا الوجه مودّع عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام، و أين هذا من حجيّة الظواهر التي لا يستفاد منها إلّا أقل قليل من الأحكام، فإن الإختصاص إنما هو في المجموع لا في كلّ ما يستفاد منه.

و من هنا يسقط الاستدلال لهم بالعلوي: ما من شي ء تطلبونه إلّا و هو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني، بل و

النبوي: يا علي أنت تعلّم الناس تأويل

______________________________

(1) وسائل الشيعة كتاب القضاء الباب الثالث عشر باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلّا بمعرفة تفسيرها من الأئمة عليهم السّلام و في هذا الباب: 82 حديثا.

(2) الكافي ج 1 ص 168، علل الشرائع ج 1 ص 183. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 120

القرآن «1»

، بل دلالته على ما ذكرناه واضحة جدا.

و

بالجعفري في جواب رجل حيث سأله و ما يكفيهم القرآن؟

قال: بلى لو وجدوه له مفسّرا، قال: و ما فسّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال: بلى فسّره لرجل واحد، و فسّر للأمة شأن ذلك الرجل و هو علي بن أبي طالب «2».

فإن المراد الكفاية في جميع الأحكام كي يستغني الناس عن الإمام، و منه يظهر الجواب عن خبر دخول الصوفيّة على الصادق عليه السّلام و احتجاجاتهم عليه «3».

بل و

من قول الباقر عليه السّلام لقتادة إن كنت إنما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت و يحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به «4».

و

من قوله عليه السّلام ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده علم جميع القرآن كلّه ظاهره و باطنه غير الأوصياء «5».

و

في «المحاسن» البرقي عن الصادق عليه السّلام في رسالته: فأمّا ما سئلت القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت، و كلّ ما سمعت فمعناه على غير ما ذهبت إليه، و إنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم، و لقوم يتلونه حقّ تلاوته، و هم الذين يؤمنون به و يعرفونه، و أما غيرهم فما أشدّ إشكاله عليهم، و أبعده عن مذاهب قلوبهم، و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 195.

(2) الكافي ج 1 ص 242.

(3) روضة الكافي ص 269.

(4) روضة الكافي ص 311.

(5) بحار الأنوار ج 19 ص 23 ط. القديم عن بصائر الدرجات. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 121

إنه ليس شي ء أبعد عن قلوب الرجال من تفسير القرآن، في ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلّا من شاء اللّه، و إنّما أراد اللّه بتعميمه في

ذلك أن ينتهوا الى بابه، و صراطه، و أن يعبدوه و ينتهوا في قوله الى طاعة القوّم بكتابه، و الناطقين في أمره و أن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم ثم قال: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1»، فأمّا عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا، و لا يوجد.

و قد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر لأنهم لا يجدون من يأتمرون عليه، و من يبلّغونه بأمر اللّه و نهيه فجعل اللّه الولاة خواصّ ليقتدى بهم فافهم ذلك إن شاء اللّه، و إيّاك و تلاوة القرآن برأيك فإن الناس غير مشتركين في علمه كإشتراكهم فيما سواه من الأمور، و لا قادرين على تأويله إلّا من حدّه و بابه الذي جعله اللّه له فافهم إن شاء اللّه و اطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء اللّه «2».

قلت: و فيه إشارات الى أنّ المقصود علم جميع القرآن حتى المتشابه. بل جميع القرآن حتى التأويل و البطون، و هذا هو الذي يوجب الرجوع الى من جعله اللّه أبوابه و صراطه كما لا يخفى على من تأمّل في هذا الخبر و غيره من الأخبار المتقدمة مضافا الى أنّ ما سمعت من الشواهد و الأخبار حاكمة على هذه لو فرضنا فيها ظهورا أو إطلاقا و معه يوهن الاستدلال بها جدّا.

و أوهن منه ما استدلّ به الشيخ الحرّ في فوائده الطوسية مضافا الى الأخبار التي قد سممعت الجواب عنها و أنّها بالدلالة على عكس مطلوبه أشبه من أن

______________________________

(1) النساء: 83.

(2) المحاسن ص 268، وسائل الشيعة ج 18 ص 141 عن المحاسن.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص:

122

النصّ المتواتر و إجماع الإمامية دلّا على أنّ الذي نزل من القرآن قراءة واحدة، و أنّ الباقي رخص في التلاوة به في زمن الغيبة، و لا دليل على جواز العمل بكل واحدة من القراءات مع كثرتها جدّا و كونها مغايرة للمعنى غالبا.

و أنّ ظواهر القرآن أكثرها متعارضة بل كلّها عند التحقيق، و ليس لنا قاعدة يدلّ عليها الدليل في الترجيح هناك، و إنما وردت المرجّحات المنصوصة في الأحاديث المختلفة مع قلّة اختلافها بالنسبة الى اختلاف ظواهر الآيات فلو كنّا مكلّفين بالعمل بتلك الظواهر القرآنية من غير رجوع في معرفة أحوالها الى الإمام عليه السّلام لو ردت مرجّحات و قواعد كلّية يعمل بها كما وردت هناك، و إنما وجدنا جميع أهل المذاهب الباطلة و الإعتقادات الفاسدة يستدلّون بظواهر القرآن استدلالا أقوى من الاستدلال على الأحكام التي استنبطها المتأخرون من آيات الأحكام بآرائهم، فلو كان العمل بتلك الظواهر جائزا من غير رجوع الى الأئمة عليهم السّلام في تفسيرها و معرفة أحوالها من نسخ و تأويل و تخصيص و غيرها لزم صحّة جميع تلك المذاهب الباطلة من الجبر و التفويض و التشبيه، بل الشرك، و الإلحاد، و نفي الإمامية و العصمة بل مذهب المباحية، بل مذهب النصيرية، و كذا جميع المذاهب الباطلة.

و الى هذا أشار

الصادق عليه السّلام بقوله: احذروا فكم من بدعة زخرفت بآية من كتاب اللّه ينظر الناظر إليها فيراها حقّا و هي باطل.

و أنّ ذلك لو جاز الاستغناء عن الإمام عليه السّلام: لأنّه ما من مطلب من مطالب الأصول و الفروع إلّا و يمكن أن يستنبط من ظاهر آية أو آيات فأيّ حاجة الى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 123

الإمام؟ و قد صرّح بنحو ذلك القاضي

عبد الجبّار «1» و غيره من علماء العامّة، و ذلك مباين لطريقة الإمامية معارض لأدلّة الإمامة، و اللازم باطل فكذا الملزوم.

و أنّ ظاهر حديث الثقلين وجوب التمسّك بهما معا فمن تمسك بالكتاب و لم يرجع في تفسيره و معانيه الى العترة لم يكن قد تمسّك بهما و إلّا لزم كون المخالفين المستدلّين بتلك الظواهر قد تمسّكوا بهما لأنهم يعترفون بفضل العترة، و هو واضح البطلان، و لو علم معاني الكتاب و قدر على الاستنباط منه غير العترة لافترقا و هو خلاف النصّ، لكن من تمسّك بالعترة كان قد تمسّك بهما لأنهم لا يخالفون الحقّ من تلك الظواهر المتعارضة، و أكثر تلك الظواهر مخالفة للعترة فظهر الفرق، و الى هذا المعنى أشار

مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: هذا كتاب اللّه الصامت، و أنا كتاب اللّه الناطق.

و أن كلّ آية يحتمل النسخ و التأويل و غيرهما إذا قطعنا النظر عمّا سواه فلا وثوق بجواز العمل بها إلّا أن يقترن بها حديث عن الأئمة عليهم السّلام.

و أنّ تعريف المتشابه صادق على كلّ آية من آيات الأحكام النظرية لاحتمال كل واحدة منها بل كل لفظة لوجهين فصاعدا إذا قطعنا النظر عن الأحاديث مضافا الى احتمال النسخ و غيره.

و الوهن في الوجوه المذكورة بيّن لمن يكون له أدنى تأمل، لضعف الأوّل بأنّ الاختلاف في القراءة سيّما في الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية ليس بحيث يوجب الاختلاف في الأحكام كما لا يخفى على من أمعن النظر في الاختلافات

______________________________

(1) قاضي القضاة عبد الجبّار بن أحمد الهمذاني الأسد الأسدآبادي، قاض، أصولي، كان شيخ المعتزلة في عصره، و لي القضاة بالري و مات سنة 415. له تصانيف كثيرة منها: تنزيه القرآن عن المطاعن.

لسان الميزان

ج 3 ص 386، تاريخ بغداد ج 11 ص 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 124

المتعلقة بها، و على فرضه كما في قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «1»، فقد قيل بتواتر القراءات السبع أو العشر حسبما تأتي إليه الإشارة، و مع تسليم العدم فقد ينزّل غير المتواتر منها منزلة الأخبار الآحاد، سلّمنا التعارض لكن باب الترجيح مفتوح، على أن الرجوع في مثله الى غيرها من الأدلّة لا يقدح في غيره مما لا اختلاف فيه و لا معارض له.

و الثاني بمنع التعارض حقيقة في الجلّ فضلا عن الكلّ سيّما في الأحكام، و على فرضه فالمرجع القواعد التي يفزع إليها في جملة المخاطبات من المحكم بالنسخ، أو التخصيص، أو التقييد، أو البيان، أو غيرها ممّا هو المقرّر عند أهل اللسان.

و الثالث بأنّ ما ذكره من استدلال جميع أرباب المذاهب بالظواهر القرآنيّة حقّ لا شبهة فيه، لكنّه يقضي بإجماعهم على حجيّته و وجوب الأخذ به، نعم ما يستدلّون به على باطلهم ليس من الظواهر التي هي من المحكمات، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «2»، على أن التعارض و التشابه واقع في نوع الأخبار التي هي حجّة عندهم قطعا، مضافا الى أنّ في قوله يستدلّون بظواهر القرآن استدلالا أقوى نظرا من وجهين، فإن استدلالهم ليست بالظواهر فضلا من أن تكون أقوى، و نسبة الاستنباط الى المتأخرين غريب جدا، فإنّ الطريقة كانت جارية مستمرة من لدن نزول القرآن الى هذا الزمان على استنباط الأحكام من ظواهرها، بل الأصول الاعتقادية أيضا حسبما صرّح به في كلامه.

______________________________

(1) البقرة: 222.

(2) آل

عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 125

و لذا

قال مولانا أبو الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليه السّلام في رسالته الي أهل الأهواز حين سئلوه عن الجبر و التفويض: إنه اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، و على تصديق ما أنزل اللّه مهتدون لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا تجتمع أمتي على ضلالة، فأخبر عليه السّلام أنّ ما اجتمعت عليه الأمّة و لم يخالف بعضها بعضا هو الحقّ فهذا معنى الحديث، لا ما تأوله الجاهلون، و لا ما قاله المعاندون من أبطال حكم الكتاب و اتباع حكم الأحاديث المزورة و الروايات المزخرفة، و اتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب، و تحقيق الآيات الواضحات النيرات، الى أن قال في أبطال الجبر و قوله: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ، وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1»، و قوله: «و ما الله بظلام للعبيد» «2»، و قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «3» مع آي كثيرة في ذكر هذا الخبر «4»

بطوله المذكور في «الإحتجاج» و بوجه أبسط في «تحف العقول» و فيه الاستدلال بآيات كثيرة كلّها ظواهر في الردّ على أهل الجبر و غيره من الشواهد الكثيرة المتقدمة أنّ القرآن هو الصادق و المصدّق للأخبار، و الناطق عليها بالحق، و أنه الميزان و المعيار في تصديق الأخبار، و ترجيح مختلفاتها كما أنّ عليها المدار في إيضاح مشكلات القرآن و تعيين متشابهاتها.

و الرابع بما يغني عن بيانه وضوحه كيف و إنما الكلام في حجيّة الظواهر التي لا تشمل إلّا على قليل من الأحكام، و

أين هذا من استنباط جميع الحقائق

______________________________

(1) الكهف: 49.

(2) وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- فصلت: 46.

(3) يونس: 44.

(4) الاحتجاج ص 249- 252 إلّا أنه ليس في الحديث ذكر الآيتين الأخيرتين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 126

و الأحكام المدلول عليها في مراتب بطونه و تأويلاته كي لا نحتاج معه الى الأمام الذي أودعه اللّه تعالى علم كتابه المشتمل على جميع كان و ما يكون.

و الخامس بما سمعت آنفا من الاستدلال بالخبر على المختار و الظاهر أنّ المراد به الأخذ بما اتّضح من كلّ منهما، فإذا علم شي ء من محكمات الكتاب و ظواهره علم أنه قول العترة الطاهرة، و إذا صحّ شي ء منهم علم أنه مأخوذ من الكتاب، و إذا اختلف النقل منهم عرض على الكتاب الذي هو الحاكم على الأخبار المختلفة، أو المجعولة كما أنّ الكتاب إذا تشابهت دلالته أو اختلف في ظاهر النظر آياته وجب الرجوع فيها الى العترة الطاهرة، و أمّا المحكم منه فهو الحجة الحاكمة على ما وصل إلينا من أخبارهم.

و لذا

قال مولانا أبو الحسن العسكري عليه السّلام في الخبر المتقدم.

بعد ما سمعت حكايته: فأول خبر يعرف تحقيقه من الكتاب و تصديقه و التماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث قال عليه السّلام: إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب اللّه مثل قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ «1»

ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه السّلام

أنه تصدّق بخاتمه و هو راكع (الى أن قال) فالخبر الأول الذي استنبط منه هذه الأخبار خبر صحيح، و هو أيضا موافق للكتاب، فإذا شهد الكتاب بتصديق الخبر لزم الإقرار به الخبر «2».

______________________________

(1) المائدة: 55.

(2) الإحتجاج ص 249- 252 و لا يخفى أن المؤلف نقل بالمعنى السطر الآخر لأنه على ما نقله المجلسي في البحار ج 5 ص 21 ط. «فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار و تحقيق هذه الشواهد فيلزم

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 127

و السادس بأنّ مجرّد الاحتمال لا يدفع الاستدلال بعد حجيّة الظواهر مع أنه متطرّق الى الأخبار أيضا مضافا الى احتمالات أخرى من حيث السند.

و السابع بالمنع الواضح فإنّ مجرد احتمال المعاني المختلفة فضلا عن احتمال النسخ و التخصيص و التقييد و غيرها لا يوجب صيرورة المحكم الظاهر الدلالة متشابها.

نعم يجب الفحص في الأدلة اللفظية بلا فرق بين الرواية و الآية عن المخصّص و سائر المعارضات للعلم الإجمالي بالاختلاف و طرق الطوارئ من التخصيص و غيره في الجملة، و هذا لا اختصاص له بالآيات بل لعلّه في الأخبار أكثر منه فيها، و أين هذا من القول بعدم حجيّة الظواهر السالمة عن جميع المعارضات أو الراجحة عليها بعد الفحص التامّ كما هو محل البحث في المقام، فعدم وصول المعارض إلينا كاف في بقاء الظواهر على حجيّتها، مع أنّ مجرد الاحتمال متطرّق إليهما معا، و

قد ورد عنهم عليهم السّلام أنّ في أخبارنا محكما محكم القرآن، و متشابها كمثابة القرآن «1».

ثم إنّه قد ظهر من جميع ما مرّ ضعف ما ربّما يحكى عن الأمين الإسترابادي الذي هو أوّل من سدّ باب التمسك بالآيات حيث استدلّ لذلك بعدم ظهور دلالة قطعية على الحجيّة،

و يترتب المفاسد على فتح هذا الباب، ألا ترى أنّ علماء العامّة قالوا في قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «2»: أنّ المراد بأولي الأمر، السلاطين، و بأنّ القرآن نزل على وجه التعمية بالنسبة الى أذهان الرعية، و بأنّه إنما نزل على قدر عقول أهل الذكر، و بأنّ

______________________________

الأمة الإقرار بها كانت هذه الأخبار موافقة للقرآن، و وافق القرآن هذه الأخبار».

(1) عيون الأخبار ط. قم ج 1 ص 290، وسائل الشيعة ج 18 ص 82 ط. بيروت.

(2) النساء: 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 128

العلم بناسخه و منسوخه، و الباقي على ظاهره، و غير الباقي على ظاهره ليس إلّا عند أهل البيت عليهم السّلام، و إنّ الظن ببقائها على ظاهرها إنما يحصل للعامّة دون الخاصّة الى غير ذلك ممّا يتضح الجواب عنه بالتأمل فيما ذكرناه آنفا.

كما أنه يظهر منه أيضا ضعف ما ذكره السيد صدر الدين «1» في «شرح الوافية» حيث استدلّ من قبل القائلين بحجيّة الظواهر القرآنية بأنّ المتشابه كما يدلّ عليه بعض الأخبار ما اشتبه على جاهة، فنقول لا شي ء من الظاهر بمشتبه، و كلّ متشابه مشتبه، فلا شي ء من الظاهر بمتشابه و إذا لم يكن متشابها فيكون محكما و كل محكم يجب العمل به وفاقا، أما الكبرى فللأخبار، و أما الصغرى فلأنّ معنى قوله ما اشتبه على جاهة هو أنّ غير الإمام المعبّر عنه بالجاهل بعد علمه بالوضع لا يتصور منه الجهل بالمراد من اللفظ بحيث يصير مترددا فيه، و لا شكّ أن الظاهر يكون المراد منه مظنونا فلا يكون مشتبها بهذا المعنى.

و أجاب عنه، أولا بما حاصله أنّ المظنون أيضا مشتبه لصدق الجهل المقابل للعلم الذي هو

الإعتقاد الجازم على الظن، فالظّان أيضا جاهل.

و ثانيا أنه لا دليل على حصر الآيات في المحكم و المتشابه، و الآية غير دالّة عليه بل يجوز أن يكون الحكم وجوب إتباع المحكم وردّ المتشابه الى العالم و الوقوف عند الظواهر.

قلت: و هو غريب جدا بعد قيام الإجماع القطعي على حجيّة الظواهر و أنّ

______________________________

(1) السيّد صدر الدين بن محمد باقر الرضوي القميّ، فقيه، تلمذ على المدقق الشيرواني و الآغا جمال الخونساري و الشيخ جعفر القاضي ثم رحل الى قم و قام بالتدريس حتى كثرت الفتن فانتقل الى النجف الخونساري و الشيخ جعفر القاضي ثم رحل الى قم و قام بالتدريس حتى كثرت الفتن فانتقل الى النجف و عظم موقعه في النفوس و اشتغل بالتدريس و تلمذ عليه جمع من الأعاظم مثل الأستاذ الأكبر المحقق البهبهاني و غيره، صنّف كتبا قيّمة مثل رسالة في حديث الثقلين، و شرح الوافية في الأصول، و كتاب الطهارة استقصى فيه المسائل و نصر مذهب ابن عقيل في عدم تنجس الماء القليل، توفي سنة 1160.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 129

الظن في باب اللغات حجّة و إن اختلفوا في حجيّته في الأحكام، مضافا الى أن المعروف من مذهب الأخباريين تفسير العلم بالاعتقاد الراجح الشامل له و لذا ادّعوا قطعيّة الإخبار حسبما فصّل في الأصول، و أغرب منه نفي الحصر و الالتزام بالتثليث فإنّ الظاهر من الآية بل كاد أن يكون صريحها الحصر مضافا الى دلالة الأخبار الكثيرة عليه.

ثم أنه رحمه اللّه فرّق في آخر كلامه بين ظواهر الكتاب و ظواهر الأخبار التي لا شك في حجيّتها، مع أنّ قضية إلحاق المظنون بالمتشابه في الموضعين: بأنّا لو خلّينا و أنفسنا لعلمنا بظواهر الكتاب و

السنّة عند عدم نصب القرينة العقلية و الفعليّة، و القوليّة المتصلة على خلافها، و لكن منعنا عن ذلك في العمل بالقرآن إذ منعنا اللّه عن إتباع المتشابه، و لم يبيّن حقيقته لنا، و منعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير القرآن، و لا ريب أن غير النصّ محتاج الى التفسير لتحقق الاحتمال فيه، و أوصيائه عليهم السّلام أيضا منعونا.

و أيضا ورد الذمّ في إتباع الظنّ من غير استثناء ظواهر القرآن لا قولا لا تقريرا، و ليس هناك دليل قطعي بل و لا ظني و لا إجماع على الاستثناء.

و أما الأخبار فقد علمنا بجواز العمل بظواهرها من غير فحص من جهة الإجماع.

أقول: أمّا حجيّة الظواهر فموضع وفاق حسبما برهن عليه في الأصول إذ عليه بناء المخاطبات و المحاورات، و المكاتبات في جميع اللغات، مع عدم التأمل من أحد في العمل بها مع قيام احتمالات عديدة من المجاز، و النسخ و التخصيص، و التقييد، و غيرها، و بالجملة فالأصل المؤسّس في المقام هو حجيّة الظواهر كما وقع التصريح به في مواضع من كلامه الذي لا داعي الى الأطناب بحكايته، و حينئذ فالاستدلال بالظواهر الناهية عن اتباع الظن مع كونه

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 130

دوريا بل من وجهين إذا كانت من ظواهر الكتاب ضعيف جدا، نعم قد ادّعى المانع عن العمل بها و هو المنع عن إتباع المتشابه مع عدم بيان حقيقته.

و فيه أنّه مع فرض عدم البيان فالمرجع في فهم معناه العرف و اللغة الحاكمين على عدم شموله للظواهر التي لا يتأمل أحد من أهل العرف و اللغة في كونها من المحكم المفسر بما اتضح معناه و ظهر لكل عارف باللغة، لا المتشابه

الذي لا يعلم المراد به إلّا بقرينة تدلّ عليه أو بغيره ممّا مرّت إليه الإشارة، على أنّ دعوى عدم بيان حقيقته ممنوعة جدّا كيف و قد سمعت دلالة الأخبار عليه، و قضيّتها كون المنسوخ منه لا ما احتمل نسخه سيّما بعد تأسيس الأصل المتقدم، كما أنه لا يرفع اليد عن العام و المطلق و غيرهما من الظواهر التي هي الحقائق بمجرّد احتمال التخصيص و التقييد و الإضمار و غيرها ممّا يعدّ في المجاز، هذا مضافا الى أنهما مفسّران في الأخبار بما يؤول الى المعنى العرفي حسبما سمعت في ما مرّ.

و من هنا يظهر النظر فيما أطنب من الكلام من نصرة الأخباريين سيّما فيما مهّده من المقدمة الثانية لذلك فلاحظ بل و فيما ذكره المحدث البحراني (رحمه اللّه تعالى) «1» في مقدمات «الحدائق»، و في «الدرر النجفية». و ان اختار في آخر

______________________________

(1) المحدث الكبير، و الفقيه العظيم الشيخ يوسف بن أحمد البحراني، كان محدثا، فقيها، غزير العلم. ولد في قرية ماحوز سنة 1107 و قام والده العلّامة الكبير بتدريبه و تربيته و تصدّى لتدريسه و تعليمه حتى أكمل في العلوم الأدبية و مهر فيها، مضى من عمره أربع و عشرون سنة و قد صار جامعا للعلوم العقلية و النقلية و لكن في هذه السنة أي 1131 مات والده تغمده اللّه برحمته، بقي المترجم بعد أبيه بالقطيف سنتين حتى احتلّت الأفاغنة بلاد إيران و قتلوا الشاه سلطان حسين آخر ملوك الصفوية و تفاقمت الاضطرابات في البحرين و استمرّت الثورات الداخلية حتى ألجأت المترجم له الى الجلاء عن وطنه فارتحل الى إيران برهة في كرمان ثم ارتحل الى شيراز و لبث بها غير يسير مدرّسا و إماما و

تفرّغ للمطالعة و التأليف، و البحث و التدريس فألف جملة من الكتب و عدّة من الرسائل و لكن ما أمهله الدهر

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 131

كلامه التفصيل المستفاد من تبيان الشيخ رحمه اللّه المؤيّد بالعلوي المروي في الإحتجاج حسب ما مرّ حكايتها.

______________________________

حتى عصفت بتلك البلاد عواصف الأيام و ألجأت المترجم له إلى الالتجاء بقرية (فسا) و ابتدأ هناك بتصنيف الحدائق حتى ثار طاغية شيراز (نعيم داغ خان) في سنة 1163 و قتل حاكم فسا و هجم على دار المترجم له و هو مريض و نهبت أمواله و أكثر كتبه ففّر منها مريضا بعائلته صفر اليد بناحية اصطهبانات و لبث بها مدة يقاسي مرارات الآفات و لكن تلك الظروف القاسية، و المواقف الحرجة لم تمنعه عن المطالعة و التأليف فتراه في خلالها كلها مكبّا على مطالعاته، جادّا في تأليفاته، سائرا في نهجه، فقد أنتج من بين الظروف و هاتيك الأدوار كتبا قيّمة ناهزت الأربعين سيما الحدائق الناضرة و لنعم ما قال في حقه العلامة المولى شفيع الجابلقي البروجردي في إجازته الكبيرة المسماة ب الروضة البهية في الإجازات الشفيعية:

أما الشيخ المحدث المحقق الشيخ يوسف قدّس سرّه صاحب الحدائق فهو من أجلّاء هذه الطائفة، كثير العلم، حسن التصانيف، نقي الكلام، بصير بالأخبار المروية عن الأئمة المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) يظهر كمال تتبعه و تبحره في الآثار المرويّة بالنظر إلى كتبه سيما الحدائق الناضرة، فإنها حقيق أن تكتب بالنور على صفحات و جنات الحور، و كل من تأخر عنه استفاد من حدائقه، و كان ثقة، ورعا، عابدا، زاهدا .. فلينظر إلى ما وقع على هذا الشيخ من البلايا و المحن، و مع ذلك كيف اشغل نفسه و صنف

تصنيفات فائقة؟ .. أرباب التراجم و أصحاب المعاجم بعده كلهم أثنوا عليه، قد حلّ المترجم له بالحائر المقدس على عهد زعيمها الأكبر المحقق البهبهاني قبل سنة 1169 و دارت بينه و بين البهبهاني مناظرات كثيرة في الأبحاث العلميّة، توفي قدّس سرّه رابع ربيع الأول سنة 1186 و دفن بالحائر.

الأعلام ج 9 ص 286، روضة البهية، مقدمة الحدائق للسيد عبد العزيز الطباطبائي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 133

الباب السابع

اشارة

في معنى الإنزال و التنزيل و السورة و أقسامها الأربعة و الآية و الكلمة و الحروف و غيرها و فيه ضبط السور و الآيات و الحروف

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 135

و فيه فصول:

الفصل الأول

في الانزال و التنزيل و الفرق بينهما قد سبق جملة من الكلام في تحقيق معنى التنزيل و الوحي و الإلهام، و الذي ينبغي ذكره في المقام أنّ القرآن تارة قد وصف بالإنزال و أخرى بالتنزيل، و هما و إن اشتركا في الحلول من عال الى أسفل، بل قال في القاموس نزّله تنزيلا و أنزله إنزالا و منزلا كمجمل، و استنزله بمعنى: إلّا أنّه قد يفرق بين الأمرين باختصاص الأوّل بأحداث الفعل من غير تكثر بأن كان النزول دفعة واحدة، و الثاني بإحداثه على وجه التكثير و التدريج، و لعلّه لما في معنى التفعيل من الإشعار على تكثير الفعل أو الفاعل أو المفعول، و المقام من الأوّل حيث إنّه قد أنزل الى السماء الدنيا، و إلى البيت المعمور في ليلة القدر، ثم أنزل منجما مفرقا الى النبي صلّى اللّه عليه و آله في ثلاث و عشرين سنة، أو في عشرين سنة، بل يستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2» بل من قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3»،

______________________________

(1) الدخان: 3.

(2) القدر: 1.

(3) البقرة: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 136

سيما بعد ملاحظة الأخبار الواردة في تفسيرها حسبما تسمع إنشاء اللّه تفصيل الكلام فيها و في قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1» و غيره مما يدل على الأمرين، و لذا

جاء بالفعل في الثلاثة على صيغة الأفعال، و الرابعة على صيغة التفعيل، بل نبّه سبحانه بجعله فرقانا بعد كونه قرآنا مجتمعا في النزول، أو في صفة وجوده، و بالجملة هذا الفرق بين الفعلين و إن لم ينبّه عليه جمهور أهل اللغة إلّا أنّه لا بأس بعد مساعدة الأخبار و دلالتها على قسمي النزول، و مناسبة الإطلاق لهما في خصوص الموارد.

ففي «الكافي» عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2»، و إنما أنزل القرآن في عشرين سنة بين أوله و آخره فقال عليه السّلام: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة ثم قال عليه السّلام قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، و أنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان، و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، و أنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان، و أنزل القرآن في ليلة ثلاث و عشرين «3».

و

فيه و في «الفقيه» بالإسناد عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال نزلت التوراة في ست مضين من شهر رمضان، و نزل الإنجيل في اثنتي عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، و نزل الزبور في ليلة ثمان عشرة من شهر رمضان، و نزل

______________________________

(1) الأسراء: 106.

(2) البقرة: 185.

(3) الأصول من الكافي كتاب فصل القرآن باب النوادر الحديث السادس ج 2 ص 460 ط. الإسلامية. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 137

القرآن في ليلة القدر «1».

و

عن بعض نسخ «الفقيه» الفرقان بدل القرآن

،

و لا بأس به فإن الأوّل باعتبار النزول الأول الجمعي، و الأخير باعتبار ما يؤول اليه من النزول المنجم التفريقي.

و

فيهما عن حمران بن أعين سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2» قال هي ليلة القدر، و هي في كل سنة في شهر رمضان من العشر الأواخر، و لم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر، قال اللّه تبارك و تعالى:

فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «3»، قال عليه السّلام يقدّر في ليلة القدر كل شي ء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل من خير أو شر أو طاعة أو معصية، أو مولود، أو أجل، أو رزق الحديث «4».

و

روى القمي عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «5» قال عليه السّلام أي أنزلنا القرآن، و الليلة المباركة ليلة القدر، أنزل اللّه القرآن فيها الى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل من البيت المعمور على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طول عشرين سنة الخبر «6».

أقول: و صريح هذا الخبر كبعض ما مرّ

أنّ القرآن و قد نزل جملة واحدة الى البيت المعمور

، و الأخبار و إن اختلفت في تعيين موضعه حيث إنّه

قد ورد في

______________________________

(1) الفروع من الكافي ج ص 157، الفقيه ج 2 ص 102.

(2) الدخان: 3.

(3) الدخان: 4.

(4) الفروع من الكافي ج 4 ص 157، الفقيه ج 2 ص 301.

(5) الدخان: 3.

(6) الصافي ج 2 ص 540 ط. الإسلامية بطهران عن مجمع البيان و القمي. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 138

العلوي المذكور في «الدر المنثور» أنه الضراح «1» بيت فوق سبع سموات تحت العرش، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك،

ثم لا يعودون اليه الى يوم القيمة «2».

و

في علل ابن سنان المروي عن مولانا الرضا عليه السّلام: إنه بيت في السماء الدنيا بحذاء العرش «3».

بل قد ورد مثله في أخبار آخر، و عن بعضهم أنه هو الكعبة البيت الحرام لكونه معمورا بالحج و العمرة، إلّا أن المستفاد من أكثر الروايات، و أشهرها و أظهرها أنه بيت في السماء الرابعة و هو الضراح حيث إنّ الملائكة لمّا ردّوا على اللّه سبحانه في جعله في الأرض خليفة، فقالوا: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ «4» فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام، فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة الى أن تاب عليهم، و جعل لهم البيت المعمور في السماء الرابعة بحذاء العرش مثابة، و أمنا لهم، و مطافا لهم، و قبولا لتوبتهم، و أمرهم ببناء بيت في الأرض بمثاله و قدره «5»، بل قد يقال: أنّ هذه الأخبار الأخيرة و إن كانت أشهر و أكثر إلا أن مقتضى الجمع بينهما مع صحّة جميعها القول بتحقّق البيت في جميع تلك المواضع، و الخطب فيه سهل.

______________________________

(1) الضراح بضم الضاد بيت في السماء حيال الكعبة يدخل كل يوم سبعون ألف ملك.

(2) بحار الأنوار ج 14 ص 105 ط. القديم عن الدر المنثور.

(3) في البحار ج 14 ص 104 عن العلل: فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى الضراح ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى البيت المعمور بحذاء الضراح.

(4) البقرة: 30.

(5) كما في البحار ج 14 ص 114 عن العلل عن الصادق عليه السّلام و عن الدر المنثور عن علي بن الحسين عليهما السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 139

الفصل الثاني

في معنى السورة المشهورة في السور أنها بالواو، و

الهمز إما لغة فيها على ما في القاموس، أو أنه للاختلاف في اشتقاقها كما في المجمع و غيره، فإنّها على الأول مأخوذة من سور المدينة لحائطها المحيط بها، أو من السورة التي جمعها السور بالضم فالسكون للمنزلة الرفيعة، و منه قول النابغة «1»:

ألم تر أن اللّه أعطاك سورةترى كل ملك دونها يتذبذب

و على الثاني من السؤر الذي هو البقية غلب استعمالها على جملة من

______________________________

(1) النابغة الذبياني زياد بن معاوية، أبو أمامة، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى من أهل الحجاز. كانت تضرب له قبّة من جلد أحمر بسوق عكاظ فتقصده الشعراء فتعرض عليها أشعارها و كان الأعشى و حسّان و الخنساء ممن يعرض شعره على النابغة، و كان أبو عمرو بن العلاء يفضّله على سائر الشعراء و هو أحد الأشراف في الجاهلية، و كان حظيا عند نعمان بن المنذر حتى شبّب في قصيدة له بالمتجردة (زوجة النعمان) فغضب النعمان، ففرّ النابغة و وفد على الغسّانيّين بالشام، و غاب زمنا. ثم رضي عنه النعمان، فعاد إليه و اعتذر بقصائد تعرف بالاعتذاريات و كان أحسن شعراء العرب ديباجة، لا تكلف في شعره و لا حشو. و عاش عمرا طويلا و ديوانه مشهور طبع بمصر و باريس. مات نحو ثمانية و عشر قبل الهجرة و ما أدرك عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

الأعلام ج 3 ص 92، الأغاني ج 11 ص 3، نهاية الارب ج 3 ص 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 140

الآيات تزيد على الثلث، ذات ترجمة.

و عرّفت بتعريفات لا داعي في التعرض لها في المقام، و ستسمع بعض الكلام في ترجمة الفاتحة، إنما المهم تحديد سور القرآن لإناطة جملة من الأحكام عليها في الشرع

كوجوب قراءة سورة كاملة في كل سورة من أوليي الفرائض، و حرمة القران بين سورتين في ركعة فضلا عمّا قد يلزم قراءتها أو تعليمها لنذر و شبهه، أو استئجار، أو إمهار، فالمشهور عند العامّة مائة و أربعة عشر سورة، و عن أبيّ بن كعب «1» ستة عشر بزيادة القنوتين «2»، و عن بعضهم ثلاثة

______________________________

(1) أبي بن كعب بن قيس من بني النجار من الخزرج، صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود، مطلعا على الكتب القديمة يكتب و يقرأ على قلة العارفين بالكتابة في عصره و لما أسلم كان من كتّاب الوحي، و شهد بدرا و أحدا و خندقا و المشاهد كلها و كان من الاثنى عشر الذين أنكروا على أبي بكر خلافته و أرادوا تنزيله عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قال أبو الصلاح في التقريب: أبي بن كعب من المعروفين بولايتهم عليهم السّلام. و كان من فضله و جلالته أنه في حديث حكى عنه الصادق عليه السّلام قولا في حسن الظن كما

في سفينة البحار في كلمة ظنن ج 2 ص 110 عن الصادق عليه السّلام: حسن الظن أصله من حسن إيمان المرء و سلامة صدره الى أن قال: و قال أبي كعب إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكروها منه فتأولوا لها سبعين تأويلا فإن اطمأنت قلوبكم على أحدهم و إلا فلوموا أنفسكم حيث لم تعذروه في خصلة سترها عليه سبعون تأويلا و أنتم اولى بالإنكار على أنفسكم منه.

و كان أبي بن كعب من كتّاب الوحي و لذلك أمره عثمان بجمع القرآن و في الحديث أقرأ أمتي أبي بن كعب- قال في الأعلام: له في الصحيحين و غيرهما 164 حديثا،

و كان نحيفا قصيرا أبيض الرأس و اللحية مات بالمدينة سنة 21 ه. الأعلام ج 1 ص 78، و سفينة البحار ج 1 ص 8 و ج 2 ص 110، و حلية الأولياء ج 1 ص 250.

(2) سورتا القنوتين سورتان مجعولتان مرويتان عن طريق العامة. قال السيوطي في الإتقان و الدر المنثور: أخرج الطبراني و البيهقي، و ابن الضريس: أن من القرآن سورتين و قد سماهما الراغب في المحاضرات سورتي القنوت و نسبوهما الى تعليم علي و قنوت عمر و مصحف ابن عبّاس و زيد بن ثابت و قراءة ابن موسى إحداهما: بسم اللّه الرحمن الرحيم إنّا نستعينك و نستغفرك و نثني عليك و لا نكفرك و نخلع و نترك من يفجرك- و الثانية بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 141

عشر بعدّ الأنفال و التوبة واحدة، و عن ابن مسعود «1» اثنتي عشرة سورة بنقصان المعوذتين، لكن الذي استقرّ عليه مذهب الإمامية أنّها مائة و اثنتي عشرة سورة بعدّ المعوذتين سورتين، و الضحى و الإنشراح سورة واحدة، و كذا الفيل و الإيلاف أمّا المعوذتين بكسر الواو فقد أجمع علمائنا و أكثر العامّة على أنّهما من القرآن، و أنّه يجوز القراءة بهما في المكتوبة، و لم يحك الخلاف في ذلك إلّا عن عبد اللّه بن مسعود حيث زعم أنّهما ليستا من القرآن و إنما أنزلتا لتعويذ الحسن و الحسين (عليهما السّلام) و قد انقرض القول به.

بل في «الذكرى» أنه قد استقر الإجماع من العامّة و الخاصّة على خلافه مضافا الى استفاضة الأخبار بذلك.

ففي كثير عن منها أنّ مولانا الصادق عليه السّلام قرأ بهما في الفريضة،

ثم قال

عليه السّلام:

______________________________

و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى عذابك الجدّ إن عذابك بالكافرين ملحق.

نقض الوشيعة في نقد عقائد الشيعة تأليف السيد محسن الأمين ص 204.

(1) عبد اللّه بن مسعود بن غافل: صحابي، من أكابرهم فضلا و عقلا و قربا من رسول اللّه (ص) و هو من أهل مكة، و من السابقين الى الإسلام، و أول من جهر بقراءة القرآن بمكة، و كان خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صاحب سره، و رفيقه في حله و ترحاله و غزواته، نظر اليه عمر يوما و قال: وعاء ملي ء علما و ولي بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان و كان من الذين شهدوا جنازة أبي ذر و باشروا تجهيزه و هو أيضا من الإثني عشر الذين أنكروا على الأول خلافته، و كان قصيرا جدا، يكاد الجلوس يوارونه. و كان يحب الإكثار من التطيب فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مرّ من طيب رائحته، له 848 حديثا و أورد الجاحظ في البيان و التبيين خطبة له و مختارا من كلامه، كان عالما بالقرآن، أخذ سبعين سورة من القرآن من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بقيّته من علي بن أبي طالب عليه السّلام،

روي الكشي في رجاله عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: من أحب ان يسمع القرآن غضا فليسمعه من ابن أم عبد

يعني ابن مسعود في المستدرك نقلا عن تلخيص الشافعي أنه قال: لا خلاف بين الأمة في طهارة ابن مسعود و فضله و ايمانه و مدحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ثنائه

عليه، توفي بالمدينة سنة 32 ه و دفن بالبقيع.

الأعلام ج 4 ص 280، و غاية النهاية ج 1 ص 458 و سفينة البحار ج 2 ص 138. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 142

أنّهما من القرآن «1».

و

روى الحسين بن بسطام في «طبّ الأئمة» عنه عليه السّلام أنه سئل عن المعوذتين أ هما من القرآن؟ فقال عليه السّلام: إنّهما من القرآن، فقال الرجل: إنّهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود و لا في مصحفه، فقال عليه السّلام: أخطأ ابن مسعود، أو قال عليه السّلام كذب ابن مسعود، هما في القرآن، قال الرجل: فأقرأهما في المكتوبة؟ قال نعم «2».

و

روى القمي بالإسناد عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام:

إنّ ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف، فقال: كان أبي يقول إنّما فعل ذلك ابن مسعود برأيه، و هما من القرآن «3».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المعتضدة بالإجماع نقلا و تحصيلا.

فما

يحكى عن عبارة الفقه الرضوي حيث قال عليه السّلام: و إنّ المعوذتين من الرقية ليستا من القرآن، أدخلوها في القرآن، و قال: إنّ جبرائيل علّمهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (الى أن قال) و أمّا المعوذتان فلا تقرأهما في الفرائض، و لا بأس بالنوافل انتهى «4».

فمع الغضّ عمّا في سنده لعدم ثبوت اعتباره يجب حمله على التقيّة «5».

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 161، وسائل الشيعة ج 2 ص 786.

(2) طبّ الأئمة ص 119، وسائل الشيعة ج 2 ص 786.

(3) تفسير القمي ص 774، وسائل الشيعة ج 2 ص 787.

(4) فقه الرضوي ص 9، الحدائق ج 8 ص 232 ط الآخوندي بالنجف.

(5) فقه الرضوي أو فقه الرضا كتاب منسوب الى الرضا عليه السّلام و

لكنه ليس بمعتمد عند المحققين و لا يعتمدون على متفرداته و من أراد تحقيقه فليراجع المستدرك للنوري، و الذريعة لآغا بزرك.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 143

و أمّا اتحاد الضحى و الإنشراح كالفيل و الإيلاف فهو و إن تردّد فيه المحقّق في «المعتبر»، بل قطع بعض من تأخر عنه بالتعدّد كثاني المحققين، و الشهيدين، و سيّد المدارك، و غيرهم من المتأخرين نظرا الى عدم دلالة واضحة من الأخبار على الاتحاد، مع الفصل بالبسملة و الترجمة في جميع المصاحف، و تسميتها سورتين

في خبر المفضل قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تجمع بين السورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى و ألم نشرح، و سورة الفيل و الإيلاف،

لكون الاستثناء حقيقة في المتصل، و لا أقل من الظهور.

إلّا أن الذي ينبغي القطع به هو الاتحاد كما هو المشهور فتوى و عملا و عن غير واحد منهم نسبته الى علمائنا.

و في «الانتصار» أنه مذهب الإمامية.

و عن «أمالي» الصدوق أنه من دين الإمامية الذي يجب الإقرار به.

و عن «الإستبصار» أنّ الأولين سورة واحدة عند آل محمد عليهم السّلام، بل لم يعهد ممن سبق على المحقق التأمل فيه، الى غير ذلك مما يقطع معه بتحقق الإجماع سيما مع كونه من متفردات الإمامية، مضافا الى الأخبار الكثيرة

كالمروي عن «هداية» الصدوق عن الصادق عليه السّلام قال: و موسّع عليك أيّ سورة في فرائضك الأربع، و هي الضحى و ألم نشرح في ركعة لأنهما جميعا سورة واحدة و الإيلاف، و ألم تر في ركعة لأنهما جميعا سورة واحدة «1»،

و نسبه في التبيان.

و

«مجمع البيان»، و «الشرائع»، و غيرها من كتب الجماعة الى رواية

______________________________

(1) البحار ج 18 ص 342 ط القديم، الحدائق ج 8

ص 204 ط الآخوندي بنجف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 144

أصحابنا و صحيح الشحّام: صلّى بنا أبو عبد اللّه عليه السّلام فقرأ الضحى و ألم نشرح في ركعة «1».

و

عن كتاب القراءة لأحمد بن محمد بن سيّار عن الصادق عليه السّلام الضحى و ألم نشرح سورة واحدة «2».

و

روى العيّاشي عن أبي العباس عن أحدهما أ لم تر كيف فعل ربك و الإيلاف سورة واحدة «3».

قال: و روى أنّ أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه «4»، الى غير ذلك من الأخبار الدالّة على الاتحاد، فضلا عمّا يدلّ على عدم الاجتزاء بواحدة منهما في الفريضة، و أنّه يجب قراءتهما معا مع حرمة الجمع بين السورتين فيها حسب ما قرّر في موضعه، و من هنا يظهر ضعف ما ذكروه من عدم الدليل على الاتحاد.

و أمّا حكاية الفصل و الترجمة التي قيل: إنّها من أعظم الشبه في ذهاب المتأخرين الى خلاف ما عليه المتقدّمون، سيما مع ما اشتهر بينهم من دعوى تواتر السبع المتفقة على إثبات البسملة، ففيها مع الغضّ عمّا سمعت من عدم إثباتها في مصحف أبيّ، أنّه لا عبرة بمجرد الفصل و الترجمة بعد صراحة الأخبار بل استقرار المذهب على ما مرّ، على أنّ جماعة من القائلين بالاتّحاد ذهبوا الى لزوم البسملة بينهما، بل عن الحليّ في «السرائر» أنّه لا خلاف في عدد آياتهما فإذا لم يبسمل بينهما نقصتا من عددهما. و لم يكن قد قرأهما جميعا، و إن كان الأظهر عدم الفصل، لظواهر بعض الأخبار.

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 254، وسائل الشيعة ج 2 ص 742.

(2) مستدرك الوسائل ج 1 ص 275.

(3) مجمع البيان ج 10 ص 544، وسائل الشيعة ج 2 ص 744.

(4) مجمع

البيان ج 10 ص 544، وسائل الشيعة ج 2 ص 744.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 145

و أما خبر المفضّل فكأنه خرج مخرج التجوز و المسامحة في التعبير حسبما يسمّيها الناس سورتين للفصل، و لذا وقع مثله في خبر «الهداية» و غيره مع التصريح بالاتحاد.

و أما الأنفال و التوبة فبعض العامّة و إن نسب الى أئمتنا عليهم السّلام القول بالاتحاد، إلّا أنّ الظاهر من عدم تعرّض أحد من الأصحاب لذلك في باب قراءة السورة التامة في الفريضة العدم.

بل

في العلوي المرويّ في «المجمع» تعليل عدم نزول البسملة على رأس سورة برائة بأنّ بسم اللّه للأمان و الرحمة، و نزلت براءة لرفع الأمان بالسيف «1».

و يؤيّده الأخبار الكثيرة من طرق الفريقين المشتملة على بيان سبب نزول السورة، حيث علّق الحكم فيها بنزول السورة لا الآية و الآيات، بل الأخبار الدالّة على فضلها، و فضل الأنفال، مؤيدا بتقرير الثابت في المصاحف، و ضبط آيات كلّ منها و غير ذلك ممّا يشير الى استقرار المذهب على التعدد، سيّما مع سكوتهم عن الحكم بالاتحاد عند البحث عن وجوب التبعيض مع تعرّضهم للحكم في السورتين المتقدمتين، و أما ما رواه العيّاشي و الطبرسي في تفسيرهما عن مولانا الصادق عليه السّلام من اتحادهما «2».

ففيه، مع الغضّ عن ضعف السند، و عدم ثبوت مثل هذا الحكم بمثله، أنّه لا يصلح لمقاومة ما مرّ، مضافا إلى عدم صراحة المتن في المطلوب، و إن كان ظاهرا فيه، نعم قد يؤمي إليه عدّهما سابعة السبع الطول، و إن قيل: إنّ ذلك

______________________________

(1) مجمع البيان تأليف الفضل بن الحسن الطبرسي المطبوع بطهران من منشورات المعارف الإسلامية (ج 5 ص 2).

(2) تفسير العيّاشي ج 2 ص 73، و

البحار ج 19 ص 69، و الصافي ج 1 ص 680، مجمع البيان ج 5 ص 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 146

لنزولهما جميعا في المغازي، و تسميتهما بالقرينين، بل من القريب حمل خبر الاتحاد على شي ء من هذه الوجوه، إلّا أنّ الاحتياط في مثل القراءة و غيرها لا يخفى سبيله، و لا ينبغي تركه. و إن كان الأظهر حرمة كلّ من التبعيض، و الجمع بين مطلق السورتين، كما أنّ الأظهر في المقام التعدّد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 147

الفصل الثالث

في تقسيم السور قسّموا السور الى أقسام أربعة: أحدهما الطول كصرد جمع الطولى بالضم مؤنثة الأطول كالكبر و الفضل في جمع الكبرى و الفضلى.

و في «النهاية» إنّ هذا البناء يلزمه الألف أو الإضافة، قال: و السبع الطول هي البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنعام، و الأعراف، و التوبة، و هو مبنّي على إسقاط الأنفال رأسا، و عدّ التوبة سورة مستقلة، لكن في القاموس أنّها من البقرة الى الأعراف، و السابعة سورة يونس، أو الأنفال و براءة جميعا، لأنّهما سورة واحدة عنده انتهى.

و لا يخفى أنّ هذين القولين يخالفان ما في «النهاية» بل لعلّ ظاهره أنّ من عدّهما سورتين جعل السابعة سورة يونس، و ليس كذلك، بل يظهر من بعضهم أنّهما معا السابعة، و لو عند من قال بالتعدد نظرا الى وحدة البسملة فيهما، أو نزولهما جميعا في المغازي، أو لقربهما في الآي للستّة السابقة، أو لأن الأولى في ذكر العهود، و الثانية في رفع العهود.

و في «المجمع» عن ابن عباس أنه قال لعثمان بن عفّان: ما حملكم على أن

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 148

عمدتم الى براءة و هي من المئين و الى

الأنفال و هي من المثاني، فجعلتموها في السبع الطول، و لم تكتبوا بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم؟ فقال: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله تنزيل عليه الآيات فيدعو بعض من يكتب له

فيقول صلّى اللّه عليه و آله له: ضع هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا،

و كانت الأنفال من أوّل ما نزل من القرآن بالمدينة، و كانت براءة من آخر ما نزلت من القرآن، و كانت قصتها شبيهة بقصّتها، فظنّنا أنها منها، و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّن أنها منها، فوضعناهما في السبع الطول، و لم نكتب بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم «1».

ثمّ أنه يظهر من «النهاية» الأثيرية إطلاق الطوليين على الأنعام و الأعراف قال: و منه حديث أمّ سلمة كان يقرأ في المغرب بطولي الطوليين، تثنية الطولي و مذكرها الأطول، أي أنه كان يقرأ فيها بأطول السورتين الطويلتين يعني الأنعام و الأعراف.

ثانيهما: المئون جمع المائة و النون، قال في «الصحاح»: أصله يعني المائة مأي مثال معيّ و الهاء عوض عن الياء و إذا جمعت بالواو و النون قلت مئون بكسر الميم، و بعضهم يقول مئون بالضم.

أقول: و المراد منها ما آياتها في حدود المائة بشي ء من زيادة أو نقصان، قالوا: و هي من يونس الى الفرقان، و قيل: من بني إسرائيل الى سبع سور، لأن كلّها منها على نحو مائة آية، و التسمية للسور باعتبار الآيات فإنّها يوصف بها كما يقال مررت برجل مائة أبله كما في «القاموس» و إن قال: و الوجه الرفع.

ثالثها المثاني جمع المثنى كالمعنى و المعاني، و عن الفرّاء أنّ واحدها

______________________________

(1) مجمع البيان ج 5 ص 2.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 2، ص: 149

مثناة، و المثاني و إن كانت تطلق على الفاتحة لمّا مرّ، و على جميع القرآن بمعنى المجموع، أو كلّ آية منه لاقتران آية الرحمة بآية العذاب، أو لغيره ممّا مرّ، و لكن المراد بها في المقام ما كان أقلّ من المئين و أزيد من المفصّل، قيل: كأنّ المئين جعلت مبادئ، و التي تليها مثاني.

و في «مجمع البيان» أنّها مثاني السبع الطول قال: و أولها سورة يونس، و آخرها النمل، و قيل: و المشهور بين العامّة أنّه من الطواسين الى الحجرات، و قيل: إنّه بقيّة السور غير الطول السبع، و المئين السبع، و المفصّل المفسّر بسورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله الى آخر القرآن، و هي تقصر عن المئين و تزيد على المفصّل، كأنّ الطول جعلت مبادئ أخرى، و التي تليها مثاني لها فهي مثاني لكل منهما، و قيل: أقوال أخر أشار الى جملة منها في «القاموس» قال: و المثاني القرآن، أو ما ثنّى منه مرّة بعد مرّة، أو الحمد، أو البقرة، الى براءة، أو كل سورة دون الطول، و دون المئين، و فوق المفصّل، أو سورة الحجّ و القصص، و النمل، و العنكبوت، و النور، و الأنفال، و مريم، و الرّوم و ياسين، و الفرقان، و الحجر و الرعد، و سبأ، و الملائكة، و إبراهيم، و ص، و محمّد، و لقمان، و النون، و الزخرف، و المؤمن، و السجدة، و الأحقاف، و الجاثية، و الدخان، و الأحزاب.

رابعها المفصّل بفتح الصاد المشدّدة، قال في «القاموس»، إنّه من الحجرات الى آخر القرآن في الأصحّ، أو الجاثية، أو القتال أو ق عن النووي «1»

______________________________

(1) النووي يحيى بن شرف الشافعي، أبو زكريّا يحيى الدين:

علّامة بالفقه و الحديث ولد في نوا (من قرى حوران بسورية) و إليها نسبته سنة 631 تعلّم في دمشق و أقام بها زمنا طويلا له مصنّفات كثيرة: منها تهذيب اللغات و الأسماء، المنهاج في شرح صحيح مسلم خمس مجلدات، التبيان في آداب حملة القرآن .. توفي سنة 676 في النوا، الأعلام ج 9 ص 184 طبقات، الشافعية للسبكي ج 5 ص 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 150

تفسير الصراط المستقيم ج 2 199

و الصّافّات، أو الصّف، أو التبارك، عن أبي الصيف «1»، أو إنّا فتحنا، عن الدزمارى «2»، أو سبّح اسم ربّك الأعلى، عن الفركاح «3» أو و الضحى، عن الخطّابي «4». «5» أقول: و الذي استقرّ عليه مذهب أصحابنا الإمامية عطّر اللّه مراقدهم أنّه من سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله الى آخر القرآن، بل عن «التبيان» نسبته الى أكثر أهل العلم، و اقتصر عليه في «مجمع البيان» من غير إشارة الى غيره، و قد يؤيد ذلك بما في المروي مرسلا في «مجمع البحرين» «6» و لعلّه خبر سعد الآتي، أو غيره، فيعضده أنّ المفصل ثمان و ستون سورة نظرا إلى انطباق هذا العدد عليه بداية و نهاية كما لا يخفى و إنما سميّت به لكثرة الفصول بين سورة بالبسملة، من قوله

______________________________

(1) محمد بن إسماعيل بن علي بن أبي الصيف، فقيه، شافعي يمنى أصله من زبيد أقام و توفي بمكة سنة 609 ه له مصنّفات: منها (الأربعون حديثا جمعها عن أربعين شيخا من أربعين مدينة. طبقات الشافعية ج 6 ص 19.

(2) هو: أحمد بن كشاسب بن علي الدزمارى كمال الدين الفقيه الصوفي الشافعي، توفّي سنة (643) ه و نسبته الى دزمار (بكسر

الدال) قلعة حصينة من نواحي آذربايجان قرب تبريز، طبقات السبكى ج 8 ص 30.

(3) الفركاح عبد الرحمن بن إبراهيم الفزازي تاج الدين، مورخ من علماء الشافعية بلغ رتبة الاجتهاد، مصري الأصل، دمشقي الإقامة و الشهرة له مصنّفات: منها شرح الورقات لإمام الحرمين في الأصول، و كشف القناع في حلّ السماع- طبقات الشافعية للسبكي ج 5 ص 60- الأعلام ج 4 ص 64.

(4) الخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب بن سليمان: فقيه محدث من أهل بست (من بلاد كابل) من نسل زيد بن الخطاب (أخي عمر بن الخطاب) له مصنفات منه: معالم السنن في شرح سنن أبي داود، إصلاح غلط المحدثين، شرح البخاري، بيان إعجاز القرآن. ولد في سنة 319 و توفي ببست سنة 388 ه،- يتيمة الدهر للثعالبي ج 4 ص 231- الأعلام للزركلي ج 2 ص 304.

(5) تاج العروس في شرح القاموس للزبيدي ص 60 ج 8 فصل ألفا من باب اللّام.

(6) مجمع البحرين حرف اللام ما أوله الفاء ص 448 في كلمة فصل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 151

عقد مفصل أي جعل بين كل لؤلؤتين منه جوهرة، أو لقلة المنسوخ فيه من قولهم حكم فاصل و فيصل ماض أو لكثرة فواصله في سورة، أو آياته فإن الفاصلة الخرزة بين الخرزتين، و أواخر آيات التنزيل بمنزلة قوافي الشعر.

ثمّ إنّ التسمية في هذه الأسماء الأربعة مشهورة بين العامّة، بل و بين الخاصة أيضا، و إن توهّم بعض المتأخرين أنّه لا أصل لها في أخبارنا، بل ذكر السيد «1» في مداركه بعد نقل الشهرة على استحباب قراءة المفصّل في الصلوة أنّه ليس في إخبارنا تصريح بعد هذا الاسم و لا تحديده، و إنما رواه الجمهور

عن عمر «2» و تبعه البحراني، في حدائقه قال بعد نقل كلامه: و من هنا يعلم أنّ الظاهر أنّ أصحابنا (رضي اللّه عنهم) قد تبعوا في ذلك العامّة، ثم قال بعد أن حكى عن مجمع البحرين: إن في الحديث فضّلت بالمفصّل.

و

في الخبر أنه ثمان و ستون إلخ

إنّه ربما أشعر كلامه بأن الأخبار المذكورة في كلامه مرويّة عن طرقنا، و لم أقف على من نقلها كذلك سواه، و الظاهر أنّها من

______________________________

(1) محمد بن علي بن الحسين العاملي صاحب المدارك، كان فاضلا، متبحرا، ماهرا، محققا، مدققا، زاهدا، عابدا، ورعا، فقيها، محدثا، جامعا للعلوم و الفنون جليل القدر، عظيم المنزلة قرأ على أبيه و على المولى أحمد الأردبيلي و تلامذة جدّ لأمه الشهيد الثاني، و كان شريك خاله الشيخ حسن في الدرس، و كان كل منهما يقتدي بالآخر في الصلاة، و يحضر درسه له كتاب مدارك الأحكام في شرح شرايع الإسلام خرج منه العبادات في ثلاث مجلدات فرغ منه سنة 998 و هو من أحسن كتب الاستدلال، و حاشية الإستبصار، و حاشية التهذيب، و حاشية على ألفية الشهيد، و شرح المختصر النافع و غير ذلك. توفي سنة 1009 في قرية جبع.- سفينة البحار ج 1 ص 328-.

(2) في بدائع الصنائع ج 1 ص 205 كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري: أن اقرأ في الفجر و الظهر بطول المفصل و في العصر و العشاء بأوساط المفصل و في المغرب بقصار المفصل.

- تعليقه الحدائق ج 8 ص 177 ط. الآخوندي بالنجف-

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 152

طرق العامّة و إن تناقلها أصحابنا في كتب الفروع.

نعم وقفت على ذلك في كتاب دعائم الإسلام «1» إلّا أنّه من كلامه

و لم يسنده الى رواية حيث قال: و لا بأس أن يقرأ في الفجر بطوال المفصّل و في الظهر و العشاء الآخرة بأوساطه، و في العصر بأوساطه، و في العصر و المغرب بقصاره انتهى «2».

و نسج على منوالهم كثير ممن تأخر عنهم، لكن القدح ليس في موضعه إذ

في «الكافي» بالإسناد عن سعد الإسكاف أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطيت

______________________________

(1) دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد بن منصور أبي حنيفة ابن حيون التميمي، قال المجلسي في مقدمة البحار: و كتاب دعائم الإسلام قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهمون أنه تأليف أبي حنيفة النعمان بن منصور قاضي مصر في أيام الدولة الإسماعيلية، و كان مالكيا أولا ثم اهتدى و صار إماميا، و أخبار هذا الكتاب أكثرها موافقة لما في كتبنا المشهورة لكن لم يرو عن الأئمة بعد الصادق خوفا من الخلفاء الإسماعيلية، و تحت سرّ التقية أظهر الحق لمن نظر فيه متعمقا، و أخباره تصلح للتأييد و التأكيد. قال ابن خلكان: هو أحد الفضلاء المشار إليهم ذكره الأمير المختار المسيحي في تاريخه فقال: كان من العلم و الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد عليه. و قال ابن زولاق في ترجمة ولده علي بن النعمان:

كان أبوه النعمان بن محمد القاضي في غاية الفضل من أهل القرآن و العلم بمعانيه، و عالما بوجوه الفقه و علم اختلافات الفقهاء و اللغة و الشعر و المعرفة بأيام الناس مع عقل و إنصاف و ألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف و أملح سجع، و عمل في المناقب و المثالب كتابا حسنا، و له ردود على المخالفين: له ردّ على أبي

حنيفة و على مالك، و الشافعي و على شريح، و كتاب اختلاف ينتصر فيه لأهل البيت عليهم السّلام قال الزركلي في الأعلام: ابن حيون النعمان بن محمد بن منصور كان واسع العلم بالفقه و القرآن و الأدب و التاريخ، من أهل القيروان، مولدا و منشئا تفقه بمذهب المالكية، و تحول الى مذهب الباطنية. عاصر المهدي و القائم و المنصور و المعزّ و خدمهم، و قدم مع المعز إلى مصر و توفي بها سنة 363 هو صفة الذهبي بالعلامة المارق و قال: كتبه كبار مطوّلة، و كان وافر الحشمة عظيم الحرمة، في أولاده قضاة و كبراء. الأعلام ج 9 ص 8، وفيات الأعيان ج 2 ص 166، بحار الأنوار ج 1.

(2) الحدائق الناظرة ج 8 ص 178 ط. الآخوندي بالنجف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 153

السور الطول مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و المثاني مكان الزبور، و فضّلت بالمفصل ثمان و ستين سورة، و هو مهيمن على سائر الكتب فالتوراة لموسى، و الإنجيل لعيسى، و الزبور لداود صلّى اللّه عليه و آله «1».

و

في «مجمع البيان» أنّه قد شاع في الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: أعطيت لمكان التوراة السبع الطول، و مكان الإنجيل المثاني، و مكان الزبور المئين، و فضّلت بالمفصّل، قال و في رواية واثلة بن الأسقع «2»: و أعطيت مكان الإنجيل المئين، و مكان الزبور المثاني، و أعطيت فاتحة و خواتيم البقرة من تحت العرش لم يعطها أحد قبلي، و أعطاني ربي المفصّل نافلة «3».

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 439 ط الإسلامية بطهران.

(2) واثلة بن الأسقع بن عبد العزي: صحابي، من أهل الصفة. كان قبل إسلامه ينزل ناحية

المدينة.

و دخل المسجد بالمدينة و النبي صلّى اللّه عليه و آله يصلى الصبح، فصلى معه و كان من عادة النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا انصرف من صلاة الصبح تصفح وجوه أصحابه، ينظر إليهم فلما دنا من واثلة أنكره، فقال من أنت؟ فأخبره، فقال صلّى اللّه عليه و آله ما جاء بك؟ قال: أبايع فقال صلّى اللّه عليه و آله: على ما أحببت و كرهت؟ قال: نعم و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتجهز الى تبوك، فشهدها معه. قيل خدم النبي (صلّى اللّه عليه و آله ثلاث سنين، ثم نزل البصرة و كانت له بها دار و شهد فتح دمشق و سكن قرية البلاط على ثلاثة فراسخ منها و حضر المغازي في البلاد الشامية، و تحول الى بيت المقدس، فأقام و يقال: كان مسكنه ببيت جبرين و كفّ بصره و عاش 105 سنين و قيل: 98 سنة و هو آخر الصحابة موتا في دمشق، له 76 حديثا و وفاته بالقدس أو بدمشق سنة 83 ه. أسد الغابة ج 5 ص 77، الأعلام ج 9 ص 120.

(3) مجمع البيان ج 1 مقدمة الكتاب الفن الرابع في ذكر أسامي القرآن و معانيها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 155

الفصل الرابع

في معنى الآية و الكلمة و الحروف أما الآية فهي في الأصل بمعنى العلامة، أو العلامة التي فيها العبرة، أو التي فيها الحجّة، أو العلامة الظاهرة، و بمعنى العجب من قولهم فلان آية في العلم، و العبرة، و الشخص، و لعل الأظهر كونها حقيقة في الأول، و إن أطلقت على الجميع باعتبار الموارد، و عليه حمل قوله تعالى: عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ «1»

أي علامة لإجابتك دعانا، و آيات الكتاب علامات و دلالات على معانيها.

و عن أبي عبيدة «2» أن معنى الآية أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها

______________________________

(1) المائدة: 114.

(2) معمر بن المثنّى بالولاء البصري، أبو عبيدة النحوي: من أئمة العلم بالأدب و اللغة مولده في سنة 110 و وفاته في البصرة 209 ه استقدمه هارون الرشيد الى بغداد سنة 188 ه، و قرأ عليه أشياء من كتبه.

قال الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. و كان أباضيا، شعوبيا، من حفّاظ الحديث، قال ابن قتيبة: كان يبغض العرب و صنف في مثالبهم كتبا و لمّا مات لم يحضر جنازته أحد، لشدّة نقده معاصريه، و كان مع سعة علمه، ربّما أنشد البيت فلم يقم وزنه و يخطئ إذا قرأ القرآن نظرا له نحو 200 مؤلّف منها «مجاز القرآن» و «معاني القرآن» «و اعراب القرآن» و «طبقات الشعراء» و غيرها.

وفيات الأعيان ج 2 ص 105- تأريخ بغداد ج 13 ص 252- الأعلام ج 8 ص 191.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 156

و انقطاعه عمّا بعدها، و يقال: إنّ الآية هي القصّة و الرسالة، قال كعب بن زهير «1»:

ألا أبلغا هذا المعرّض آية أ يقظان هذا القول أم قال ذا الحلم، أي رسالة فمعنى الآيات القصص، أي قصّة تتلو قصّة.

و عن ابن السكيت: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا ورائهم شيئا، فمعنى الآية جماعة من الحروف دالّة على معنى مخصوص، و وزنها فعله بسكون العين، أو بفتحها، أو فاعله، قال في الصحاح: الآية: العلامة؛ و الأصل أوية بالتحريك، قال سيبويه «2». موضع العين من الآية واو لأنّ ما كان موضع العين منه واوا ياء أكثر مما موضع العين و

اللام منه ياء، مثل شويت أكثر من حييت، و يكون النسبة إليها آووي.

______________________________

(1) كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني: شاعر عالي الطبقة، من أهل نجد له ديوان شعر مطبوع كان ممّن اشتهر في الجاهلية، و لمّا ظهر الإسلام هجا النبي صلّى اللّه عليه و آله و أقام يشبّب بنساء المسلمين، فهدر النبي صلّى اللّه عليه و آله دمه فجاءه كعب مستأمنا و قد أسلم، و أنشده لا ميتّه المشهورة التي مطلعها: «بانت سعاد و قلبي اليوم مبتول» فعفا عنه النبي صلّى اللّه عليه و آله و خلع عليه بردته و هو من أعرق الناس في الشعر، قوله في أمير المؤمنين عليه السّلام مشهور: صهر النبي و خير الناس كلهم فكل من رامه بالفخر مفخور

صلى الصلوة مع الأمي أولهم قبل العباد و ربّ الناس مفخور

خزانة الأدب ج 4 ص 11- الأعلام ج 6 ص 81- سفينة البحار ج 2 ص 483.

(2) سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشير: إمام النحاة و أول من بسط علم النحو- ولد في إحدى قرى شيراز، و قدم البصرة فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، و صنّف كتابه المسمى «كتاب سيبويه» في النحو لم يصنع قبله و لا بعده مثله، و رحل الى بغداد، فناظر الكسائي و أجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم و عاد الى الأهواز فتوفي بها، قيل: وفاته و قبره بشيراز. ولد سنة 148 ه و توفي سنة 180 ه و سيبويه بالفارسية رائحة التفاح.

- وفيات الأعيان ج 1 ص 385- تاريخ بغداد ج 12 ص 195- الأعلام ج 5 ص 252.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 157

ثم حكى عن الفراء «1» أنها من الفعل فأعلّت و إنما ذهبت

منه اللام، و لو جاءت تامة لجاءت أيية، و لكنها خفّفت ثم ذكر أن جمعها أي، و آياي، و آيات.

و حكى عن إنشاد أبي زيد «2» رابعا، قال: لم يبق هذا الدهر من آيائه غير أثافيه و ارمدائه.

و قال القاضي «3»، اشتقاقها من أيّ لأنها تبيّن أيا من أيّ، أو من أوى اليه و أصلها أيّه أو أويه كتمرة فأبدلت عينها ألفا على غير قياس، أو أوية، أو أيية

______________________________

(1) الفراء يحيى بن زياد بن عبد اللّه الديلمي: إمام الكوفيين و أعلمهم بالنحو و اللغة و فنون الأدب، و من كلام ثعلب: لو لا الفراء ما كانت اللغة، ولد بالكوفة سنة 144 ه و انتقل الى بغداد و عهد اليه المأمون بتربيته ابنيه فكان أكثر مقامه بها، فإذا جاء آخر السنة انصرف الى الكوفة فأقام أربعين يوما في أهله يوّزع عليه ما جمعه و يبرّهم، و توفى في طريق مكة سنة 207، و كان مع تقدمه في اللغة و النحو فقيها متكلما، عالما بأخبار العرب و أيامها، عارفا بالنجوم و الطب، يميل الى الاعتزال له مصنفات منها «المقصور و الممدود» و «معاني القرآن» أملاها في مجالس عامة كان في جملة من يحضرها نحو ثمانين قاضيا، و «المذكر و المؤنث» و «الجمع و التشبيه في القرآن» ألّفه بأمر المأمون، و اشتهر بالفرّاء مع أنه لم يعمل في صناعة الفراء، فقيل: لأنه كان يفري الكلام، و عرف أبوه «زياد» بالأفطح لأن يده قطعت في معركة فخ سنة 169 ه و قد شهدها مع الحسين بن علي بن الحسن، في خلافة موسى الهادي.

- وفيات الأعيان ج 2 ص 228- الأعلام للزركلي ج 9 ص 178.

(2) أبو زيد الأنصاري أحد

أئمة الأدب و اللغة، من أهل البصرة، ولد سنة 119 ه و توفي بالبصرة سنة 215 ه و هو من ثقاة اللغويين قال ابن الأنباري كان سيبويه إذا قال سمعت الثقة عني أبا زيد، له مصنفات منها، «كتاب النوادر» في اللغة «و اللباء و اللبن» و «المياه» و «خلق الإنسان» و «لغات القرآن» و «الوحوش» و «بيوتات العرب».

- وفيات الأعيان ج 1 ص 207- تاريخ بغداد ج 9 ص 77- الأعلام ج 3 ص 144.

(3) القاضي هو البيضاوي عبد اللّه بن عمر بن محمد، قاض مفسّر ولد في بيضاء قرب شيراز و ولي قضاء شيراز مدة، فانصرف عن القضاء و رحل الى تبريز و توفي فيها سنة 686 ه له آثار منها: «أنوار التنزيل و أسرار التأويل» يعرف بتفسير البيضاوي.

- البداية و النهاية ج 13 ص 309- الأعلام ج 4 ص 248.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 158

كرملة فأعلّت، أو آئيه كقابلة فحذفت الهمزة تخفيفا.

ثم أنها قد غلبت في دين الإسلام غلبة عرفية عامة، أو خاصة متشرعة، أو شرعية و إن كان الأظهر الأخير في جماعة حروف أقصرها اثنان، مثل حمّ و يسن، و أطولها آية المداينة في أواخر البقرة «1» و هي مائة و ثلاثة و ثلاثون كلمة على ما قيل، و هو مبنيّ على عدم عدّ الحرف الواحد آية كما استقرت عليه كلمتهم.

قال شيخنا «2» الطبرسي في المجمع لم يعدّق آية، و لا نظرائه من ن و ص،

______________________________

(1) البقرة: 282- صدرها: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ..) إلخ.

(2) أمين الدين أو أمين الإسلام أبو الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي الطوسي: مفسّر فقيه، جليل، كامل، نبيل، محقق، لغوي من أجلاء الإمامية و

لقد أذعن لفظه كل من عاصره أو تأخر عنه: قال الأفندي في رياض العلماء: رأيت نسخة من مجمع البيان بخط القطب الكيدري قد قرأها نفسه على نصير الدين الطوسي و على ظهرها أيضا بخطه هكذا: تأليف الشيخ الإمام الفاضل السعيد الشهيد انتهى- قال في الروضات: الشيخ الشهيد السعيد و الحبر الفقيه الفريد، الفاضل العالم المفسّر الفقيه المحدّث الجليل الثقة، الكامل النبيل، قال الشيخ أسد اللّه التستري في المقاييس عند ذكر ألقاب العلماء و منها أمين الإسلام الشيخ الأجل الأوحد الأكمل الأسعد قدوة المفسرين و عمدة الفضلاء المتبحرين أمين الدين أبي علي إلخ .. يروي المترجم له عن جماعة منهم: أبو علي بن الشيخ الطوسي، و الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن علي و الشيخ الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي، و السيد أبو طالب الجرجاني و غيرهم مصنفات كثيرة رائعة منها «مجمع البيان» و هو من أحسن التفاسير و أجمعها لفنون العلم فرع منه منتصف ذي القعدة سنة 536 ه «و جوامع الجامع مختصر مجمع البيان و الكشاف» و «تاج المواليد» و «أعلام الورى بأعلام الهدى» في فضائل الأئمة و غيرها. توفي سنة 548 ه عن الأفندي في رياض العلماء أنه قال: مما اشتهر بين الخاص و العام أن الطبرسي رحمه اللّه أصابته السكتة فظنّوا به الوفاة فغسلوه و كفنوه و دفنوه و انصرفوا فأفاق و وجد نفسه مدفونا فنذر إن خلصّه اللّه تعالى من هذه البلية أن يؤلف كتابا في تفسير القرآن و اتفق أن بعض النباشين كان قد قصد قبره في تلك الحال و أخذ في نبشه فلما نبشه و جعل ينزع عنه الأكفان قبض بيده عليه فخاف النباش خوفا عظيما

ثم كلمه فازداد خوف النباش فقال له: لا تخف و أخبره بقصته فحمله النباش على ظهره و أوصله الى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 159

لأنه مفرد و كلّ مفرد فإنه لا يعدّ لبعده عن شبه الجملة، فأما المركّب فما أشبه الجملة و وافق رؤوس الآي فإنه يعدّ مثل طه، و حم، و ألم.

أقول: و من هنا يظهر انهم اعتبروا في معناها معنى الجمعية التي أحد معانيها من قولهم خرج القوم بآيتهم أي بأجمعهم، و إن كانت مع ذلك عبرة و علامة واضحة، و حجة بينة على صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله و لذا كان كل آية منه معجزة أبد الدهر، و على الحقائق الكلية و العلوم الربانية، و المعارف الإلهية التي هي دليل عليها حسبما سمعت فكأنه قد لوحظت في المنقول إليه جميع المعاني كما هو الأوفق بالجمعية المعتبرة في مسماها فإن الأظهر حصول النقل الشرعي فيها.

و لذا قال الجاحظ «1»: سمى اللّه كتابه اسما مخالفا لما سمى العرب كلامهم

______________________________

بيته فأعطاه الأكفان و وهب له مالا جزيلا و تاب النباش على يده ثم وفيّ بنذره و ألّف كتاب مجمع البيان انتهى قال المحدث النوري في مستدركات الوسائل بعد نقل هذه الحكاية و مع هذا الاشتهار لم أجدها في مؤلف أحد قبله و ربما نسبت الى العالم الجليل المولى فتح اللّه الكاشاني صاحب تفسير منهج الصادقين و خلاصته و شرح هذه الحكاية مع بعدها في نفسها من حيث بقاء حياة المدفون بعد الإفاقة أنها لو صحّت لذكرها في مقدمة مجمع البيان لغرابتها و لاشتمالها على بيان السبب في تصنيفه مع أنه لم يتعرض لها و اللّه أعلم، توفى بسبزوار و نقل الى المشهد

الرضوي و دفن في جوار الرضا عليه السّلام.

و الطبرسي بالطاء المهملة و الباء المفتوحتين و الراء الساكنة بعدها سين مهملة نسبة الى طبرستان و هي بلاد مازندران، قال في معجم البلدان الطبر بالتحريك هو الذي يشقق به الأحطاب و ما شاكله بلغة الفرس و استان الموضع أو الناحية فطبرستان أي ناحية الطبر لأن أكثر أهل تلك الجبال مسلحون بالطبر. مقدمة مجمع البيان، الأعلام ج 5 ص 352، روضات الجنان ص 512.

(1) الجاحظ هو أبو عثمان عمرو بن بحر البصري اللغوي النحوي كان من غلمان النظام و كان من كبار أئمة الأدب و رئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة و مائلا الى النصب و العثمانية ولد في البصرة سنة 163 ه و توفي فيها سنة 255 ه فلج في آخر عمره و كان مشوه الخلقة و قيل في قبحه، لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ما كان إلّا دون قبح الجاحظ، مات و الكتاب على صدره، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه، له تصانيف كثيرة منها «الحيوان» مجلدات و «البيان و التبيين» و «المحاسن و الأضداد» و

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 160

على الجمل و التفصيل، سمى جملته قرآنا كما سموا ديوانا، و بعضه سورة كقصيدة و بعضها آية كالبيت، و آخرها فاصلة كقافية.

ثم لا يخفى أن ما ذكرناه في تعريف الآية تعريف لفظي لم نقصد به إلّا المعرفة الإجماليّة التي يتميز بها النوع عن غيره في الجملة إذ لا يهمّنا الاستقصاء في تعريفه بما يسلم طردا و عكسا من المناقشات، و إن كان ملحوظا فيما ذكرناه حيثيّة الجعل الشرعي الذي معها يسلم عن كثير من الاعتراض بخلاف ما ذكره القوم في المقام، مثل ما قيل من أنها كل

كلام يتصل الى انقطاعه، أو أنها ما يحسن السكوت عليه، أو أنها جماعة حروف، الى غير ذلك مما لا يسلم منها لو لا اعتبار الحيثيّة المتقدّمة.

و أما الكلمة فعن الفراء و غيره أن فيها ثلث لغات: فتح الأول و كسر الثاني، و هو الأشهر، و يجوز سكون الثاني مع فتح الأول و كسره، بل قد يقال باطراد الثلاثة في كل ما كان على فعل بفتح الفاء و كسر العين نحو كبد و ورق و تطلق على كل لفظ وضع لمعنى مفرد، و تجمع على كلمات و كلم على الأظهر من الأقوال فيها، كما صرّح به في «الصحاح» و غيره.

و قد يقال: إنّها مشتقة من الكلم بالفتح فالسكون بمعنى الجراحة نظرا الى أن السمع و القلب يتأثران بها كما أنّ البدن قد يتأثر بالجراحة، بل قد يكون الأول

______________________________

«العثمانية» التي نقض عليها أبو جعفر الإسكافي و الشيخ المفيد، و السيد أحمد بن طاووس و من أشعار الجاحظ ما أنشده في أواخر عمره عند المبرد: أ ترجو أن تكون و أنت شيخ كما قد كنت في أيام الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب

الكنى و الألقاب، سفينة البحار ج 1 ص 146، الأعلام ج 5 ص 239.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 161

أقرب الى الدوام، و أبعد عن الالتيام و الالتحام، و لذا قيل: جراحات السنان لها التيام و لا يلتام ما جرح اللسان.

و في «الصحاح»: الكلم الجراحة، و الجمع كلوم و كلام، تقول كلمته كلما قال: و قرأ بعضهم «1»: دابة من الأرض تكلمهم «2»، أي تجرحهم، و تسمهم، لكنّه اشتقاق بعيد كما نبّه عليه نجم الأئمة «3» و غيره، و أبعد منه ما يتوهم

من اشتقاقها من الكلام بالضم.

قال في القاموس: إنّه الأرض الغليظة، و ربّما يفسّر بالقوت، قيل و منه قولهم: شغلنا الكلام عن الكلام.

و أمّا الحرف، فهو في الأصل بمعنى الطرف، و النهاية، و الحدّ، و الشفير، و منه حرف الجبل، و هو أعلاه المحدد، و حرف لشفيره، و قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «4»، أي على وجه واحد، و هو أن يعبده على السراء دون الضراء، أو في العلانية دون السر، أو باللسان دون الجنان، فإن الدين حرفان، أو على ضعف في العبادة، كضعف القائم على حرف، أي طرف جبل، الى غير ذلك ممّا يؤول إلى ما مرّ، نعم قد غلب عرفا على هذه المسموعات التي

______________________________

(1) المراد به ابن زرعة الذي قرأ تكلمهم بتخفيف اللام على ما صرح به الطبرسي مجمع البيان ج ص 232.

(2) النمل: 82.

(3) نجم الأئمة محمد بن الحسن الرضي الإسترابادي: محقق، مدقق من نوادر الزمان من الإمامية له مصنفات رائعة فائقة منها: «شرح الكافية لابن الحاجب» في النحو و «شرح مقدمة ابن الحاجب المسماة بالشافية في علم الصرف» و «شرح القصائد السبعة لابن أبي الحديد» توفي نحو 686 ه.

خزانة الأدب للبغدادي ج 1 ص 12 و الأعلام ج 7 ص 317.

(4) الحج: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 162

يقال لها حروف المعجم، و ربما يعرّف بأنه كيفية للصوت بها يمتاز الصوت عن صوت آخر مثله في الحدّة و الثقل تمييزا في المسموع، و التقييد بالمثليّة في الوصفين، لإخراجهما إذ لا يمتاز بشي ء من الحدة أي الزيرية و الثقل أيّ البميّة صوت يماثله فيهما و إن كانا كيفيتين للصوت، و بالتميز في المسموع لإخراج الغنّة التي تظهر من

تسريب الهواء بعضا الى الأنف و بعضا الى الفم مع انطباق الشفتين و البحوحة التي هي للصوت الخارج من الحلق و غيرهما من طول الصوت و قصره، و كونه طيبا و غيره، فإن شيئا من ذلك لا يوجب التميز في المسموع. و لذا قد تختلف هذه الأمور و المسموع واحد، و قد تتّحد و المسموع هو الحروف خاصة لا تلك الكيفيات، و هو لا يخلو عن تأمل.

نعم قد يقسّم الحروف الى زمانية صرفة و هي ما يمكن تمديدها بلا توهّم تكرار كالفاء و القاف و الشين، و كالحروف المصوّتة المشهورة بحروف المدّ و اللين المقابلة للصوامت التي هي ما سواها، و إلى آنيّة صرفة كالباء و الطاء، و الدال، و غيرها من الصوامت التي لا يمكن تمديدها أصلا، فإنّها لا توجد إلّا في آخر زمان حبس النفس، كما يشهد به التكلّم بها- ساكنة بعد الهمزة المفتوحة، و لذا قيل: إنّ تسميتها بالحروف أولى من تسمية غيرها، لأنّها أطراف الصوت، و قد سمعت أنّ الحرف هو الطرف، و الى آنيّة تشبه الزمانيّة و هي أن تتوارد أفراد آنيّة مرارا فيظنّ أنّها فرد واحد زماني كالراء و الحاء، و الخاء، حيث إنّ الغالب على النطق أن الراء التي في آخر الدار مثلا راأت متوالية كل واحد منها آنيّ الوجود، إلّا أن الحسّ لا يشعر بامتياز أزمنتها، فظنّها حرفا واحدا زمانيا.

و من هنا يعترض على التعريف المتقدم بعدم شموله للحروف الآنيّة نظرا الى أنّها لا توجد إلا في الآن الذي هو بداية زمان الصوت أو نهايته، فلا تكون

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 163

عارضة له حقيقة، لأنّ العارض يجب أن يكون موجودا مع المعروض، و هي لا توجد

مع الصوت الذي هو زماني.

و أجيب بأنّ عروضها للصوت على نحو عروض الآن للزمان، و النقطة للخطّ يعني أن عروض الشي ء للشي ء قد يكون بحيث يجتمعان في الزمان، و قد لا يكون، و حينئذ يجوز أن يكون كلّ واحد من الحروف الآنيّة طرفا للصوت عارضا له عروض الآن للزمان، فيندفع الإشكال.

أقول: و في كلّ من الاعتراض و الجواب نظر.

أمّا في الأول فللمنع من كون هذه الحروف آنيّة حقيقية، و التسمية باعتبار الإضافة، سلّمنا لكن عروض الكيفية إنّما هو لأجزاء الصوت أوعيتها زمانا، و أنا، و منه يظهر الحقّ في الجواب.

و أمّا في الثاني فلأن النقطة مجرّد نهاية للخطّ، و هذا كيفية للنهاية، و الفرق واضح جدا، نعم تعريف الحرف بالهيئة العارضة إنما هو المشهور عند الحكماء، و أمّا أهل العربية، بل العرف العام فالظاهر منهم إطلاقه على مجموع العارض و المعروض كما لا يخفى.

ثمّ إنّه حكى في «المصباح المنير» عن الفرّاء، و ابن السكّيت أنّ حروف المعجم جميعها مؤنثة، و لم يسمع التذكير في شي ء من الكلام، و أنّه يجوز تذكيرها في الشعر.

و عن ابن الأنباري «1» التأنيث في حروف المعجم عندي على معنى الكلمة

______________________________

(1) ابن الأنباري محمد بن القاسم بن محمد بن بشّار: من أعلم أهل زمانه بالأدب و اللغة، و من أكثر الناس حفظا للشعر و الأخبار، قيل: كان يحفظ ثلاثمئة ألف شاهد في القرآن، ولد في

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 164

و التذكير على معنى الحرف.

و عن البارع «1» أنّ الحروف مؤنثة إلّا أن تجعلها اسما فعلى هذا يجوز أن يقال هذا جيم، و ما أشبهه.

______________________________

الأنبار (على الفرات) سنة 271 ه و توفي ببغداد سنة 328 و كان يتردد الى أولاد الخليفة

الراضي باللّه، يعلّمهم، له مصنّفات منها «الزاهر» في اللغة و «شرح معلقة عنترة» و «الأمثال» و «الأضداد» و «غريب الحديث» و هو أجلّ كتبه: قيل أنه 45000 ورقة.

- وفيات الأعيان ج 1 ص 503 و تذكرة الحفاظ ج 3 ص 57- و الأعلام ج 7 ص 226.

(1) البارع البغدادي الحسين بن محمد بن عبد الوهاب من بني الحارث بن كعب من علماء النحو و اللغة و هو من بيت وزارة ولي بعض جدوده وزارة المعتضد و المكتفي العبّاسيين، له ديوان شعر و كتب في الأدب و من شعره: أفنيت ماء الوجه من طول ماأسأل من لا ماء في وجهه

أنهي إليه شرح حالي الذي يا ليتني متّ و لم أنهه

ولد البارع في بغداد 443 و عمي في آخر عمره و توفي سنة 534. وفيات الأعيان ج 1 ص 158، أنباء الرواة ج 1 ص 328، الأعلام ج 2 ص 280.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 165

الفصل الخامس

في عدد الآيات و الكلمات و الحروف اختلفوا في تعيين عدد آيات القرآن الكريم على أقوال بعد اتفاقهم في الجملة على أنها لا تقصر عن ستّة آلاف و مائتي آية و شي ء زائد، فاختلافهم في تعيين شي ء زائدا، و الأقوال المختلفة لا ترجع إلى إثبات بعض الآيات و رفعها رأسا، بل الى عدّ بعض الآية آية.

فعن المكّيين أن القدر الزائد ستّ عشر آية، و قيل تسع عشر آية، و قيل اثنتي عشرة آية و عن المدنيّتين إحدى عشر آية، و الأكثر على أنّها عندهم سبع عشر آية و لعل نسبة الأوّل إليهم و هم، و عن البصريين أربع آيات، و قيل ثلاث آيات، و قيل خمس آيات، و ربّما يقال:

إنّ بناء مصاحفهم على الأوّل، و عن الشاميين سبع و عشرون، و قيل تسع و عشرون، و المحكي عن إبراهيم «1» التميمي نقصان واحدة عن المائتين، و عن الكوفيين خمس و ثلاثون، و في «برهان القارى» حكاية عن بعض البارعين في هذا الشأن أنّها في عددهم ستّ و ثلاثون، و ربما ينسب إليهم غير ذلك، بل فيه أنّ الزيادة عند المدني الأوّل سبع عشر آية،

______________________________

(1) إبراهيم بن يزيد التميمي أو التميمي عدّه ابن قتيبة من الشيعة و ذكره الشيخ في رجال السجّاد عليه السّلام مات على عهد الحجّاج سنة 95 ه و لم يحضر جنازته أحد خوفا منه إلّا سبعة أنفس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 166

و عند المدني الأخير، و هو إسماعيل «1» بن جعفر المدني أربع عشر آية الى غير ذلك من الأقوال التي لا طائل تحت التعرض لها لعدم الدليل على شي ء منها.

ثم

روى شيخنا الطبرسي في «المجمع» في تفسير سورة الإنسان عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ جميع سور القرآن مائة و أربع عشر سورة، و جميع آيات القرآن ستّة آلاف آية و مأتي آية و ستّ و ثلاثون آية، و جميع حروف القرآن ثلاثمئة ألف و أحد و عشرون ألف حرف و مائتا و خمسون حرفا «2».

أقول: و من هنا يظهر صحّة عدد الكوفيين سيّما مع ملاحظة ما ذكره في أول «المجمع» من أن عدد الكوفيين أصح الأعداد و أعلاها إسنادا لأنّه مأخوذ عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: و تعضده الروايات الواردة

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: فاتحة الكتاب سبع آيات إحداهنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم

، قال: و عدد أهل المدينة منسوب الى

أبي جعفر «3» يزيد بن القعقاع القارئ، و شيبة بن نصاح «4»، و هما المدني الأول، و الى إسماعيل بن جعفر و هو المدني الأخير،

______________________________

(1) إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري أبو إبراهيم: قارئ أهل المدينة في عصره من موالي بني زريق من الأنصار رحل الى بغداد، و تولى تأديب على بن المهدي، ولد سنة 130 هو توفي سنة 180 ه. تاريخ بغداد ج 6 ص 218، الأعلام ج 1 ص 308.

(2) مجمع البيان ج 5 ص 406.

(3) أبو جعفر القارئ يزيد بن القعقاع المخزومي المدني أحد القراء العشرة من التابعين كان إمام أهل المدينة في القراءة، و عرف بالقارئ و كان من المفتين المجتهدين، توفّي بالمدينة سنة 132 ه وفيات الأعيان ج 2 ص 278، الأعلام ج 9 ص 241.

(4) شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي المدني، قاضي المدينة و إمام أهلها في القراآت، و كان من ثقات رجال الحديث. توفي سنة 130 ه.

تهذيب التهذيب ج 4 ص 377، الأعلام ج 3 ص 264.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 167

و قيل: المدني الأول هو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، و عبد اللّه بن عمر «1» و المدني الأخير هو أبو جعفر، و شيبة بن إسماعيل، و الأوّل أشهر، و عدد أهل البصرة منسوب الى عاصم بن أبي الصباح الجحدري «2» و أيّوب بن المتوكّل «3» لا يختلفان إلّا في آية واحدة في ص قوله: فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ «4»، عدها الجحدري، و تركها أيّوب، و عدد أهل مكة منسوب الى مجاهد «5» بن جبير، والى إسماعيل المكّي «6»، و قيل لا ينسب الى أحد، بل وجد في مصاحفهم على

رأس كلّ آية ثلاث فقط، و عدد أهل الشام منسوب الى عبد اللّه بن عامر «7»، ثمّ قال:

و الفائدة في معرفة آي القرآن أنّ القارئ إذا عدّها بأصابعه كان أكثر ثوابا، لأنه

______________________________

(1) عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب: صحابي نشأ في الإسلام، و هاجر الى المدينة مع أبيه، و شهد فتح مكة، ولد في مكة سنة 10 قبل الهجرة و كفّ بصره في آخر حياته و توفّي سنة 73 ه. بمكة، و هو آخر من توفي بمكّة من الصحابة، له في كتب الحديث 2630 حديثا.

تهذيب الأسماء ج 1 ص 278- وفيات الأعيان ج 1 ص 246- الأعلام ج 4 ص 246-.

(2) عاصم بن أبي الصباح الجحدري المقرئ البصري المتوفي (128). غاية النهاية ج 1/ 349.

(3) أيّوب بن المتوكّل الأنصاري المقرئ البصري المتوفّى (200) ه. غاية النهاية ج 1/ 172.

(4) ص: 84.

(5) مجاهد بن جبير، أو جبر أبو الحجّاج المقرئ المفسّر المكّى المتوفّى (103).

غاية النهاية ج 2 ص 41، حلية الأولياء ج 3 ص 279، الأعلام ج 6 ص 161-.

(6) إسماعيل بن عبد اللّه بن قسطنطين قارئ مكة من أصحاب ابن كثير قرأ عليه الشافعي، مات سنة 190 ه و هو المعروف بالقسط.

(7) عبد اللّه بن عامر اليحصبي الشامي أحد السبعة ولّي قضاء دمشق في خلافة الوليد ابن عبد الملك، ولد في البلقاء في قرية «رحاب» سنة 8 من الهجرة و انتقل الى دمشق بعد فتحها، يقال: أنه أخذ القراءة عن معاوية و هو غلط فإنّ معاوية أظهر الإسلام عام الفتح و كان من الطلقاء ثم كان من الأمراء و أصحاب السياسة و تعليم القرآن بعيد من مثله و انّما نسبوه إليه تشريفا له، و

إنّما أخذ عن الواثلة بن الأسقع و فضالة بن عبيد- توفي بدمشق عام 118 ه.

تهذيب التهذيب ج 5 ص 274، الأعلام ج 4 ص 228، فهرس مشاهير القرّاء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 168

قد شغل بالقرآن يده مع قلبه و لسانه، و بالحريّ أن تشهد له يوم القيامة فإنّها مسئولة، و لأن ذلك أقرب الى التحفظ فإنّ القارئ لا يأمن السهو، و

قد روى عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: تعاهدوا القرآن فإنّه وحشيّ، و قال صلّى اللّه عليه و آله لبعض النساء اعقدن بالأنامل فإنّهن مسئولات، و مستنطقات،

و قال حمزة بن حبيب «1» و هو أحد القرّاء السبعة إنّ العدد مسامير القرآن «2».

أقول: أمّا الفائدة في معرفة الآيات فلعلّه يكفي فيها ما سمعت، بل قد تظهر أيضا في مثل النذر، و الاستيجار للتعليم، أو للقراءة، و قراءة الجنب، و أختيه لسبع آيات المحكم بكراهة ما زاد عليها، و اشتدادها فيما زاد على السبعين، هذا مضافا الى الفضل المترتّب على أعداد الآيات، فضلا عمّا يترتب على الحروف و الكلمات، كما

ورد في النبوي: أنّ من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين، و من قرأ مائتي آية كتب من القانتين، و من قرأ ثلاثمئة آية لم يحاجّه القرآن «3».

و

أنه ينبغي أن يقرأ في الوتيرة بعد العشاء مائة آية «4»

، و

أنّ من قرأ مائة آية يصلّي بها في ليلة كتب اللّه له بها قنوت ليلة، و من قرأ مائتي آية في غير صلاة الليل كتب اللّه له في اللوح قنطارا من الحسنات، و القنطار ألف و مائتا أوقيّة، و الأوقيّة أعظم من

______________________________

(1) حمزة بن حبيب الزيّات كان عالما بالقرآن و القراءات،

قال الثوري: ما قرأ حمزة حرفا من كتاب اللّه إلّا بأثر، ولد سنة 80 و توفي سنة 156 و يأتي ترجمته مفصّلا.

- تهذيب التهذيب ج 3 ص 27، الأعلام ج 2 ص 308.

(2) مجمع البيان مقدمة الكتاب- الفن الأول في تعداد آي القرآن.

(3) معاني الأخبار للصدوق ص 410 قال بعد نقل الحديث: يعني من حفظ قدر ذلك من القرآن، يقال قد قرأ الغلام القرآن إذا حفظه.

(4) مصباح المتهجد ص 81: يستحب أن يقرأ فيهما (الركعتين للوتيرة) مائة آية من القرآن و

روي في فلاح السائل ص 259 عن الصادق عليه السّلام قال: كان أبي يصلّي بعد عشاء الآخر ركعتين و هو جالس يقرأ فيهما مائة آية. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 169

جبل أحد «1»

، و

أنّ درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال له: اقرأ و أرق

، بل قد يعدّ الوقف على خصوص الآيات من الترتيل المندوب إليه، و لذا

ورد «2» أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقطع قراءته آية آية «3».

و أمّا سبب الاختلاف فيها مبني على اختلاف أنظارهم كغيره من الاختلافات الكثيرة الواقعة في الموادّ و الهيئات المستندة إليها، أو الى اختلاف المصاحف، نعم ذكر في «برهان القارئ» تبعا لهم أنّ الموجب هو النقل و التوقيف، قال و يؤيّده ما

رواه عاصم عن ذرّ عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: اختلفنا في سورة من القرآن، فقال بعضنا ثلاثين، و قال بعضنا اثنتين و ثلاثين، فأتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبرناه فتغيّر لونه، فأسرّ الى علي بن أبي طالب عليه السّلام بشي ء، فالتفت إلينا عليّ عليه السّلام فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمركم أن تقرأوا

القرآن كما علّمتموه «4»

، قال و في هذا دليل على أن العدد راجع الى التعليم، و فيه أيضا دليل على تصويب العددين.

أقول بل لعلّ الأظهر فيه على فرض صحّة الخبر أنّ العدد الحقّ هو ما أسرّه النبي صلّى اللّه عليه و آله الى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام إرشادا لهم الى سؤاله و الأخذ منه، حيث

إنّه عليه السّلام باب مدينة حكمته عليه السّلام

و حيث

إنّه صلّى اللّه عليه و آله علم أنّ الناس لا يأتون البيوت من

______________________________

(1) معاني الأخبار ص 147 عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

(2) أمالي الصدوق ص 216 عن الصادق عليه السّلام.

(3) مجمع البيان ج 10 ص 378 عن أمّ سلمة.

(4)

روى أحمد بن حنبل و ابن بطة و أبو يعلى في مصنفاتهم عن الأعمش عن أبي بكر ابن أبي عيّاش في خبر طويل: أنه قرأ رجلان ثلاثين آية من الأحقاف، فاختلفا في قراءتهما فقال ابن مسعود: هذا الخلاف ما أقرأه فذهبت بهما الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فغضب و علىّ عنده فقال علي عليه السّلام: رسول اللّه يأمركم أن تقرأوا ما علّمتم. بحار الأنوار ج 92 ص 53 ط ط. الآخوندي بطهران. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 170

الأبواب أمرهم بالقراءة كما علّموا

، و في معناه ما

روي عن مولانا الصادق عليه السّلام اقرأوا كما علّمتم حتى يجي ء من يعلّمكم «1».

و أمّا الكلمات القرآنية فقد يقال: إنّ مجموعها عند الجميع سبع و سبعون ألف كلمة و أربعمائة و شي ء زائد اختلفوا في تعيينه، فعند البصريين أربع و ستّون، و عند الكوفيين و الشاميين ثلاثون، و عن أهل الحرمين تسع و ثمانون، و ربما يحكى عن الكوفيّين خمسون، و عن

حميد بن الأعرج عشرون، و عن إبراهيم التميمي تسع و تسعون، و عن عطاء تسع و ثلاثون، و عن عبد العزيز ست و ثلاثون، و عن البصريين سبع و ثلاثون الى غير ذلك من الأقوال الكثيرة التي لا طائل تحت التعرّض لها فضلا عن الترجيح بينها، نعم في «برهان القارئ»:

عدّدنا الكلمات فكانت اثنتين و سبعين ألفا، و لعلّه سهو منه، و كان منشأ الاختلاف في الأعداد هو الاختلاف في تعيين الكلمات، نعم في «جواهر التفسير»: أنّ أقصرها حرفان، كمن و (عن) و (ما) و (لا)، و إن جاء كثير من حروف المعاني على حرف واحد كواو العطف و همزة الاستفهام، و الباء الجارّة لكنّها لمّا لم يتنطق بها مفردة لم يعتبروها رأسا، و أطولهما عشرة أحرف مثل:

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ «2». و أمّا قوله: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «3» فهو و إن كان في اللفظ أحد

______________________________

(1)

في الكافي بإسناده عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس- فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام كفّ عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم قرأ كتاب اللّه عزّ و جلّ على حدّه إلخ. الكافي كتاب فضل القرآن باب النوادر حديث 23.

و

فيه أيضا عن سفيان بن السمط قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تنزيل القرآن قال عليه السّلام:

اقرءوا كما علمتم. المصدر السابق ج 2 ص 631.

(2) النور: 55.

(3) الحجر: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 171

عشر حرفا لكنّه في الرسم عشرة.

أقول: و فيه تأمل إذ الملفوظ أولى بالاعتبار، بل الأظهر موافقة المكتوب له. و أمّا أعداد حروف القرآن فهي ثلاثمأة واحد و عشرون

ألفا و شي ء، زائدا اختلفوا في تعيينه، فعن أهل الحرمين مائتان و خمسون، و عن البصريين مائتان، و عن الكوفيين مائة و ثمانون، و عن الشامي مثله بزيادة ثمانية، و ربّما يحكى عن مجاهد مائة و عشرون و عن غيره أقوال أخر ربما تزيد على ما سمعت بكثير لكنّه لا داعي للتعرّض لها سيّما بعد ما سمعت في النبوي المحكي عن «مجمع البيان» أنّ جميع حروف القرآن ثلاثمئة ألف و أحد و عشرون ألف و عشرون ألف حرف و مائتان و خمسون حرفا، و هو الموافق للمحكيّ عن أهل الحرمين.

ثمّ أنّه

قد روى عن مولانا الصادق عليه السّلام أنّ من تعلّم من القرآن حرفا كتب اللّه له عشر حسنات و محى عنه عشر سيئات و رفع له عشر درجات، ثمّ قال عليه السّلام لا أقول: بكلّ آية، و لكن بكلّ حرف (باء) أو (تاء) أو شبههما، قال: و من قرأ حرفا و هو جالس في صلاة كتب اللّه له به خمسين حسنة، و محى عنه خمسين سيئة، و رفع له خمسين درجة، و من قرأ حرفا و هو قائم في صلاته كتب اللّه له مائة حسنة، و محى عنه مائة سيئة، و رفع له مائة درجة الخبر. «1»

و على هذا فيكتب لمن تكلّم كلّ القرآن مضروب العدد المذكور على عشرة و هو ثلاثة آلاف و مائتان و اثنتي عشر ألفا و خمسمائة حسنة (3212500) و يمحي عنه بهذا العدد من السيئة و ترفع له بهذا العدد درجة، و لمن قرأه و هو جالس في صلاة مضروبة في خمسين، و هو ستّة عشر ألف ألف و اثنان و ستّون

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 4 ص 841

ح 7696.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 172

ألفا و خمسمائة (16062500) بالنسبة الى كلّ من الثلاثة، و لمن قرأه قائما فيها مضروبة في مائة، و هو اثنان و ثلاثون ألف ألف و مائة و خمسة و عشرون ألفا (32125000)، و اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، ثمّ إنّ أكثر الحروف دورانا في الكتاب العزيز، بل في مطلق الكلام هو الألف حتى لا يكاد يخلو منها شي ء من الكلام القصير، فضلا عن الخطب و الكتب الطويلة، و إن أنشد مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام خطبة طويلة خالية منها على وجه الارتجال و ليس ببدع من غرائبه البديعة روحي له الفداء، أوّلها: حمدت من عظمت منّته، و سبقت غضبه رحمته، و تمّت كلمته و نفذت مشيّته، الخطبة بطولها «1» كما

أنّه عليه السّلام أنشد خطبة طويلة «2» خالية من النقط مع كثرة دورانها في الكلام أولها: الحمد للّه الملك المحمود، المالك الودود، و قال كلّ مطرود، الخطبة بطولها

و ربّما يروى عنه عليه السّلام خطبة أخرى في ذلك كما

رواه ابن شهر آشوب في «المناقب» قال: روى الكلبي عن أبي صالح، و أبو جعفر بن بابويه بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام: أنّه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أنّ الألف أكثر دخولا في الكلام فارتجل الخطبة المونقة.

أوّلها: حمدت من عظمت إلخ

ثم ارتجل خطبة أخرى من غير النقط التي أولها:

الحمد للّه أهل الحمد و مأواه، أؤكد الحمد و أحلاه، و أسرع الحمد و أسراه و أطهر الحمد و أسماه، و أكرم الحمد و أولاه الى آخرها «3»

، قال: و قد أوردتهما في

______________________________

(1) الوافي للفيض القاساني ج 2 ص 265 ط. الإسلاميّة بطهران.

(2) هذه الخطبة مرويّة بطرق عديدة و رواها العلّامة المجلسي

في المجلّد السابع عشر من البحار من مصباح الكفعمي باختلاف شديد و قال في المجلّد التاسع منه: و روى الكلبي عن أبي صالح إلخ.

(3) مناقب آل طالب ج 2 ص 48 ط. المطبعة العلمية بقم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 173

«المخزون المكنون».

و بالجملة فجميع الألفات المذكورة في القرآن على قول عبد العزيز المزني الذي قيل أنّه أشهر الأقوال ثمانية و أربعون ألفا و ثمانمأة (48800)، و هو أكثر الحروف دورانا في الكتاب العزيز كما أقلها الظاء المشالة، و عدة ما ورد منها فيه اثنان و ثمانمائة (802)، و غيرهما متوسطات في ذلك مضبوطة الأعداد عند المعتنين بهذا الشأن «1».

تم الجزء الثاني و يليه الجزء الثالث أوّله: علم القرآن مخزون عند أهل البيت عليهم السّلام

______________________________

(1) قال النراقي في الخزائن في بيان حروف القرآن: الألف (48800) الباء (11200) الناء (10199) الثاء (9276) الجيم (3273) الحاء (3939) الخاء (2418) الدال (5342) الذال (4399) الراء (11793) الزاء (1590) السين (5891) الشين (2253) الصاد (2081) الضاد (2674) الطاء (2274) الظاء (842) العين (9020) الغين (2208) الفاء (8470) القاف (6813) الكاف (10354) اللام (33522) الميم (26035) النون (26565) الواو (25536) الهاء (9070) الياء (25919).

الخزائن لأحمد النراقي ص 275.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 175

الباب الثامن

في أنّ علم القرآن مخزون عند أهل البيت

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 177

اعلم أنّ علم القرآن مخزون عند أهل البيت عليهم السّلام و هو ممّا قضت به ضرورة المذهب، بل الدين لو لا متابعة الأهواء الباطلة، بل يظهر ذلك من التأمّل في كثير من الآيات كقوله تعالى:

فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ «1».

و قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «2».

و قوله تعالى:

قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «3».

و قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «4».

و قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ «5».

و قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ «6».

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المفسّرة في أخبار الفريقين بهم عليهم السّلام، بل

______________________________

(1) العنكبوت: 47.

(2) آل عمران: 7.

(3) الرعد: 43.

(4) العنكبوت: 49.

(5) الجاثية: 29.

(6) الأعراف: 170.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 178

قد ورد في أخبار متواترة معنى، و إن لم تكن ألفاظها متواترة، أنّها نزلت فيهم، و أنّهم المخصوصون بها، مع دلالة تلك الأخبار على تمام المقصود أيضا.

ففي «تأويل الآيات» و «المناقب» و «تفسير العيّاشي» عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ «1» قال عليه السّلام: هم آل محمد صلوات اللّه عليهم. «2»

و

في «البصائر» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: نحن الراسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله. «3»

و

فيه، عن أحدهما في هذه الآية قال: إنّ الراسخين في العلم هم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله، فرسول اللّه أفضل الراسخين في العلم قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزّل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه. «4»

و

فيه، عن يعقوب بن جعفر، قال: كنت مع أبي الحسن عليه السّلام بمكّة، فقال له رجل: إنّك لتفسّر من كتاب اللّه ما لم نسمع به، فقال أبو الحسن عليه السّلام: علينا نزل قبل الناس، و لنا فسّر قبل أن يفسّر في الناس، فنحن نعرف حلاله و حرامه، و ناسخه و منسوخه، و سفريّه و حضريّه، و في أيّ ليلة نزلت

كم من آية، و فيمن نزلت و فيما نزلت، فنحن حكماء اللّه في أرضه، و شهداؤه على خلقه، و هو قول

______________________________

(1) العنكبوت: 47.

(2) تأويل الآيات الظاهرة ص 423، المناقب لابن شهر آشوب ج 3 ص 485.

(3) بصائر الدرجات ص 56، بحار الأنوار ج 23 ص 199 ح 31.

(4) بصائر الدرجات ص 56، بحار الأنوار ج 23 ص 199 ح 33. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 179

اللّه تبارك و تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ «1» فالشهادة لنا و المسألة للمشهود عليه ... إلخ «2».

و

في «المناقب» عن تفسير الثعلبي، قال علي عليه السّلام في قوله تعالى:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «3»: نحن أهل الذكر. «4»

و

عن «إبانة» أبي العبّاس الفلكي عنه عليه السّلام: «ألا إنّ الذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نحن أهله، و نحن الرّاسخون في العلم، و نحن منار الهدى، و أعلام التقى، و لنا ضربت الأمثال» «5».

و

في «الكافي» و «تفسير العيّاشي»، و «تأويل الآيات»، عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «6»، قال عليه السّلام: «هم الأئمّة من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله» «7».

و في «البصائر» و غيره أخبار كثيرة جدّا في معناه، و

في كثير منها: «إيّانا عنى، و عليّ أوّلنا و خيرنا» «8»

، و

في بعضها: «هم الأئمّة خاصّة» «9» و نحن

______________________________

(1) الزخرف: 19.

(2) بصائر الدرجات ص 54، بحار الأنوار ج 23 ص 196 ح 26.

(3) النحل: 43.

(4) المناقب لابن شهراشوب ج 3 ص 98.

(5) بحار الأنوار ج 23 ص 184 نقلا عن المناقب ج 3/ 98 و الإبانة.

(6) العنكبوت: 49.

(7) الكافي ج 1 ص 167 باب أنّ الأئمّة قد أوتوا

العلم، إلّا أنّه ليس فيه «من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله»، بحار الأنوار ج 23 ص 189 ح 5 عن كنز الفوائد.

(8)

الكافي ج 1 ص 167 باسناده عن بريدة بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ قال عليه السّلام: إيّانا عنى و عليّ أوّلنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

(9) الكافي ج 1 ص 167، بصائر الدرجات ص 56. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 180

المخصوصون بها.

و

في «المناقب» عن أبي القاسم الكوفي، قال: روى في قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1»: «إنّ الراسخين في العلم من قرنهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالكتاب، و أخبر أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

قال: و في اللغة الراسخ هو اللازم الذي لا يزول عن حاله، و لن يكون كذلك إلّا من طعنة اللّه تعالى على العلم في ابتداء نشوءه كعيسى عليه السّلام في وقت ولادته قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ «2» فأمّا من يبقى السنين الكثيرة لا يعلم ثمّ يطلب العلم، فيناله على قدر ما يجوز أن يناله منه فليس ذلك من الرّاسخين، يقال: رسخت عروق الشجر في الأرض، و لا يرسخ إلّا صغيرا.

و

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذبا، و بغيا علينا، و حسدا لنا «3» أن رفعنا اللّه سبحانه و وضعهم، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستعطى العلم «4» و يستجلى العمى، لا بهم» «5».

و

في «تأويل الآيات» عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: هذا كِتابُنا

يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ «6» قال: «إنّ الكتاب لا ينطق، و لكن محمد صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته هم

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) مريم: 30.

(3) في المصدر: و بغيا لنا، و حسدا علينا.

(4) في البحار: بنا يستعطى الهدى.

(5) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 285 ط قم، و بحار الأنوار ج 23 ص 204 ح 53 باب أنّهم عليهم السّلام أهل علم القرآن.

(6) الجاثية: 29. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 181

الناطقون بالكتاب» «1».

و

في «تفسير القمّي» عن بريد «2»، عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزّل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، قال: جعلت فداك إنّ أبا الخطّاب كان يقول فيكم قولا عظيما، قال: و ما كان يقول؟ قلت: قال: إنّكم تعلمون علم الحلال و الحرام و القرآن، فقال عليه السّلام: علم الحلال و الحرام و القرآن يسير في جنب العلم الذي يحدث بالليل و النهار» «3».

و في «البصائر» ما في معناه،

فيه: «و أيّ شي ء الحلال و الحرام في جنب العلم؟ إنّما الحلال و الحرام في شي ء يسير من القرآن» «4».

و

من الشائع في أخبار الفريقين، و العبارة للمفيد في «إرشاده» عن ابن نباتة، قال: لمّا بويع أمير المؤمنين عليه السّلام بالخلافة خرج إلى المسجد معمّما بعمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لابسا برديه، فصعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، و وعظ، و أنذر، ثمّ جلس متمكّنا، و شبّك بين أصابعه، و وضعهما أسفل سرّته، ثمّ قال عليه السّلام: يا

معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّ عندي علم الأوّلين و الآخرين، أما و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم،

______________________________

(1) تأويل الآيات الظاهرة: ص 559، كنز الدقائق ج 9 ص 432 و فيه في ذيل الحديث: هذا على سبيل المجاز تسمية المفعول باسم الفاعل، إذ جعل الكتاب هو الناطق، و الناطق غيره.

(2) الظاهر أنّه بريد بن معاوية العجلي، البجلي من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السّلام وثّقه النجاشي لأنّ القمّي روى عنه في تفسيره. (معجم رجال الحديث ج 3).

(3) تفسير القمّي: 87- 88، و الإختصاص ص 314 عن محمد بن مسلم.

(4) بصائر الدرجات ص 53، بحار الأنوار ج 33 ص 195 عن البصائر. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 182

حتى ينتهي كلّ كتاب من هذه الكتب و يقول: يا ربّ إنّ عليّا قضى بكتابك، و اللّه إنّي لأعلم بالقرآن و تأويله من كلّ مدّع علمه، و لو لا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة، ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي فلق الحبّة و برى ء النسمة لو سألتموني عن آية آية لأخبرتكم بوقت نزولها، و فيم نزلت، و أنبأتكم بناسخها، و منسوخها، و خاصّها، و عامّها، و محكمها من متشابهها، و مكّيّتها من مدنيّتها، و اللّه ما من فئة تضلّ أو تهتدي إلّا و أنا أعرف قائدها و سائقها و ناعقها» «1».

قال في «المناقب»: و رواه ابن أبي البختري من ستّة طرق، و ابن المفضّل من عشر طرق، و إبراهيم الثقفي من أربعة عشر طريقا، منهم: عديّ بن حاتم، و الأصبغ بن

نباتة، و علقمة بن قيس، و يحيى بن امّ الطويل، و زرّ بن حبيش، و عباية بن ربعي، و عباية بن رفاعة، و أبو الطفيل.

ثمّ ذكر الخبر قريبا ممّا مرّ «2».

و

في «البصائر»، عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «كنت إذا سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجابني، و إن فنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية في ليل و لا نهار، و لا سماء و لا أرض، و لا دنيا و لا آخرة، و لا جنّة و لا نار، و لا سهل و لا جبل، و لا ظلمة و لا نور، إلّا و أقرأنيها، و أملأها عليّ، و كتبتها بيدي، و علّمني تأويلها و تفسيرها، و محكمها و متشابهها، و خاصّها و عامّها، و كيف نزلت، و أين نزلت، و فيهم أنزلت إلى يوم القيامة، و قد دعا اللّه إلى أن يعطيني فهما

______________________________

(1) الإرشاد ص 30 ط طهران المطبعة العلمية الإسلامية.

(2) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 38 ط، قم، بحار الأنوار ج 40. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 183

و حفظا، فما نسيت آية من كتاب اللّه أملاه عليّ» «1».

و

فيه، و في «الاختصاص» عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، قال: سألته عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال عليه السّلام: «إنّ اللّه علّم القرآن»، قال: قلت: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ قال عليه السّلام: «ذاك أمير المؤمنين عليه السّلام علّمه بيان كلّ شي ء ممّا يحتاج الناس إليه». «2»

و

في «المناقب» عن ابن عبّاس، قال: حم اسم من أسماء اللّه عسق علم عليّ سبق كلّ جماعة، و تعالى كلّ فرقة. «3» و فيه أيضا، عن محمد بن

مسلم، و أبي حمزة الثمالي، و جابر بن يزيد، عن الباقر عليه السّلام.

و عن عليّ بن فضّال، و الفضيل بن يسار، و أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام.

و عن أحمد بن محمد الحلبي، و محمد بن الفضيل، عن الرضا عليه السّلام.

و

قد روي عن موسى بن جعفر عليهما السّلام، و عن زيد بن علي، و عن محمد بن الحنفيّة رضى اللّه عنه، و عن سلمان الفارسي، و عن أبي سعيد الخدري، و عن إسماعيل السديّ، أنّهم قالوا في قوله تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4»: «هو علي بن أبي طالب عليه السّلام». «5»

______________________________

(1)

بصائر الدرجات ص 53 و فيه: «و لا على من أنزلت إلّا أملاها عليّ»، بحار الأنوار ج 40 ص 139 عن البصائر.

(2) بصائر الدرجات ص 148، الاختصاص ص 157، بحار الأنوار ج 40 ص 142 عن الإختصاص و البصائر.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 28 ط قم، بحار الأنوار ج 40 ص 145 عن المناقب.

(4) الرعد: 43.

(5) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 257 ط قم، بحار الأنوار ج 40 ص 146 عن المناقب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 184

و

فيه أيضا: الثعلبي في تفسيره باسناده عن أبي معاوية، من الأعمش، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، و روي عن عبد اللّه بن عطاء، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قيل لهما: زعموا أنّ الّذي عنده علم الكتاب عبد اللّه بن سلام «1»، قال: «ذاك علي ابن أبي طالب عليه السّلام».

ثمّ روى أيضا أنّه سئل سعيد بن جبير: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عبد اللّه ابن سلام؟ قال: «لا فكيف و هذه سورة مكيّة» «2»

و قد روي عن ابن عبّاس: لا و اللّه ما هو إلّا علي بن أبي طالب، لقد كان عالما بالتفسير و التأويل، و الناسخ و المنسوخ، و الحلال و الحرام.

و روي عن ابن الحنفيّة: «علي بن أبي طالب عنده علم الكتاب الأوّل و الآخر». رواه النطنزي في «الخصائص».

ثمّ قال ابن شهر آشوب: «و من المستحيل أنّ اللّه تعالى يستشهد بيهوديّ و يجعله ثاني نفسه! «3» إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مرّت في المقدّمات السابقة إلى بعضها الإشارة، و ستسمع إن شاء اللّه العزيز كثيرا منها في تفسير الآيات المتعلّقة.

و أمّا انتهاء علم القرآن و علم التفسير إليهم عليهم السّلام فواضح بعد ما مرّ في الأبواب السابقة، و ما يأتي من الأخبار المتواترة الدالّة على أنّ مولانا أمير

______________________________

(1) هو عبد اللّه بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، أبو يوسف، أسلم عند قدوم النبي صلّى اللّه عليه و آله المدينة و كان اسمه الحصين فسمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه، مات سنة (43) ه. (الاعلام ج 4 ص 223).

(2) الإتقان للسيوطي ج 1 ص 16 ط بيروت.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 257- 259، بحار الأنوار ج 40 ص 145- 146 عن المناقب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 185

المؤمنين عليه السّلام هو الجامع للقرآن كما نزل من دون زيادة حرف أو نقصان، و أنّ إليه ينتهي علم ظاهره و باطنه، و تنزيله و تأويله، و تخومه و بطونه، و محكمه و متشابهه، و عامّه و خاصّه، و ناسخه و منسوخه، كما ينتهي إليه سائر العلوم و المعارف و الكمالات، على ما أطبق عليه الفريقان، كما نبّه عليه الرازي في «أربعينه».

و قال في

«المناقب»: و من عجب أمره في هذا الباب أنّه لا شي ء من العلوم إلّا و أهله يجعلون عليّا قدوة، فصار قوله قبلة للشريعة «1»، فمنه سمع القرآن.

ذكر الشيرازي في «نزول القرآن» و أبو يوسف يعقوب في تفسيره، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ «2»: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يحرّك شفتيه عند الوحي ليحفظه، فقيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ يعني بالقرآن لِتَعْجَلَ بِهِ من قبل أن يفرغ به من قراءته عليك إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ قال: ضمن اللّه محمدا أن يجمع القرآن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه.

قال ابن عبّاس: فجمع اللّه القرآن في قلب عليّ، و جمعه عليّ بعد موت رسول اللّه بستّة أشهر. «3» و

في أخبار أبي رافع أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في مرضه الذي توفّي فيه لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: «يا علي هذا كتاب اللّه خذه إليك» فجمعه في ثوب فمضى إلى منزله، فلمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله جلس عليّ فألّفه كما أنزل اللّه، و كان به عالما» «4».

______________________________

(1) في «البحار»: في الشريعة.

(2) القيامة: 16.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 41 ط قم، بحار الأنوار ج 40 ص 155.

(4) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 41، بحار الأنوار ج 40 ص 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 186

و حدّثني أبو العلاء العطّار، و الموفّق خطيب خوارزم في كتابيهما بالإسناد عن عليّ «1» بن رباح أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر عليّا بتأليف القرآن فألّفه و كتبه.

و

عن جبلة «2» بن سحيم، عن أبيه،

عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لو ثنيت لي الوسادة، و عرف لي حقّي لأخرجت لهم مصحفا كتبته، و أملأه عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و

روى أبو نعيم في «الحلية» و الخطيب في «الأربعين» بالإسناد عن السدّي، عن عبد خير «3»، عن عليّ عليه السّلام، قال: «لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقسمت- أو حلفت- أن لا أضع ردائي عن ظهري حتى أجمع ما بين اللّوحين، فما وضعت ردائي حتى جمعت القرآن».

و

في أخبار أهل البيت عليهم السّلام: «آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلّا للصلاة حتى يؤلّف القرآن و يجمعه، فانقطع عنهم مدّة إلى أن جمعه، ثمّ خرج إليهم به في إزار يحمله و هم مجتمعون في المسجد ... إلخ «4».

و قال أيضا في «المناقب»: و منهم العلماء بالقراءات،

روى أحمد بن حنبل،

______________________________

(1) عليّ بن رباح بن قصير (بضمّ العين و فتح اللام) المصري، ولد سنة (10) ه و توفّي سنة (114) أو (117) (تهذيب التهذيب ج 7/ 271).

(2) جبلة بن سحيم التيمي الشيباني أبو سريرة الكوفي توفّي سنة (125) أو (126) ه (تهذيب التهذيب ج 2 ص 55).

(3) هو عبد خير بن يزيد الهمداني أبو عمارة الكوفي المخضرم أدرك الجاهلية و عاش (120) سنة أو أكثر، ذكره ابن عبد البرّ و غيره في الصحابة. (تهذيب التهذيب ج 6 ص 163).

(4) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 41. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 187

و ابن بطّة «1»، و أبو يعلى «2» في مصنّفاتهم عن الأعمش، عن أبي بكر «3» بن عيّاش في خبر طويل أنّه قرأ رجلان ثلاثين آية من الأحقاف. فاختلفا في قراءتهما، فقال ابن مسعود: هذا خلاف

ما أقرأه، فذهبت بهما إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فغضب و عليّ عنده، فقال عليّ: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمركم أن تقرؤوا كما علّمتم. و هذا دليل على علم عليّ بوجوه القرآن المختلفة.

و

روى أنّ زيدا لمّا قرأ «التابوه» «4» «5» قال عليّ عليه السّلام: اكتبه «التابوت»، فكتبه كذلك، و القرّاء السبعة إلى قراءته يرجعون. «6»

فأمّا حمزة و الكسائي فيعوّلان على قراءة عليّ و ابن مسعود، و ليس مصحفهما مصحف ابن مسعود، فهما إنّما يرجعان إلى عليّ و يوافقان ابن مسعود فيما يجري مجرى الإعراب، و قد قال ابن مسعود: ما رأيت أحدا أقرأ من علي ابن أبي طالب عليه السّلام للقرآن.

و أمّا نافع، و ابن كثير، و أبو عمرو فمعظم قراءاتهم ترجع إلى ابن عبّاس،

______________________________

(1) هو عبيد اللّه بن محمد العكبري الحنبلي المعروف بابن بطة توفّي (387)- العبر ج 3 ص 34.

(2) هو أبو يعلى الموصلي أحمد بن علي الحافظ المتوفّى (307)- العبر ج 2/ 140.

(3) هو: أبو بكر شعبة بن عيّاش بن سالم الحنّاط الأسدي توفّي سنة (193)- غاية النهاية ج 1 ص 325 رقم 1321.

و لا يخفى أنّ الأعمش من شيوخ أبي بكر بن عيّاش و توفّي سنة (148) و لا يروي عن تلميذه، بل الأمر بالعكس، فالظاهر أنّ في العبارة تقديما و تأخيرا.

(4) البقرة: 248.

(5) قال الطبرسي في «مجمع البيان» ج 2 ص 352: التابوت بالتاء لغة جمهور العرب، و التابوه بالهاء لغة الأنصار.

(6) المناقب ج 2 ص 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 188

و ابن عبّاس قرأ على أبي بن كعب، و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و الّذي من قراءة هؤلاء يخالف قراءة أبيّ فهو

إذا مأخوذ من عليّ عليه السّلام.

و أمّا عاصم فقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، و قال أبو عبد الرحمن:

قرأت القرآن كلّه على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. فقالوا: أفصح القراآت قراءة عاصم، لأنّه أتى بالأصل، و ذلك أنّه يظهر ما أدغمه غيره، و يحقّق من الهمز ما ليّنه غيره، و يفتح من الألفات ما أماله غيره.

و العدد الكوفي في القرآن منسوب إلى عليّ عليه السّلام، ليس في الصحابة من ينسب إليه العدد غيره، و إنّما كتب عدد ذلك كلّ مصر عن بعض التابعين.

ثمّ قال: و منهم المفسّرون كعبد اللّه بن العبّاس، و عبد اللّه بن مسعود، و أبي بن كعب، و زيد بن ثابت، و هم معترفون له بالتقدّم.

ففي «تفسير العيّاشي»: قال ابن عبّاس: جلّ ما تعلّمت من التفسير من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و قال ابن مسعود: إنّ القرآن انزل على سبعة أحرف، ما منها إلّا و له ظهر و بطن، و إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام علم الظاهر و الباطن. «1» و في فضائل العكبري:

قال الشعبي: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد نبي اللّه من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و

في «تاريخ» البلاذري، و «حلية الأولياء»: قال عليّ عليه السّلام: و اللّه ما نزلت آية إلّا و قد علمت فيما نزلت، و أين نزلت، أ بليل نزلت أم بنهار نزلت، في سهل أو جبل، إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولا، و لسانا سئولا. «2»

______________________________

(1) رواه أيضا أبو نعيم في حلية الأولياء ج 1 ص 65.

(2) حلية الأولياء ج 1 ص 67- 68 بتفاوت يسير، الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 338، مناقب

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 189

و

في

«قوت القلوب»: قال عليّ عليه السّلام: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الكتاب» «1».

و لمّا وجد المفسّرون قوله لا يأخذون إلّا به.

سأل ابن الكوّاء و هو عليه السّلام على المنبر: ما الذَّارِياتِ ذَرْواً؟ فقال:

الرياح، فقال: و ما الحاملات وِقْراً؟ قال: السحاب، قال: و ما الجاريات يُسْراً؟ قال: الفلك، قال: فما المقسمات أَمْراً؟ قال الملائكة، فالمفسّرون كلّهم على قوله. «2»

و جهلوا تفسير قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ «3» فقال له رجل:

هو أوّل بيت؟ قال عليه السّلام: لا قد كان قبله بيوت، و لكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى و الرحمة و البركة، و أوّل من بناه إبراهيم، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم «4»، ثمّ هدم فبنته العمالقة، ثمّ هدم فبنته قريش.

و إنّنا استحسن قول ابن عبّاس فيه «5» لأنّه قد أخذ منه عليه السّلام.

و قال أحمد في «المسند»: لمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان ابن عبّاس ابن عشر

______________________________

الخوارزمي ص 54 ط تبريز.

(1) و رواه النقشبندي الحنفي أيضا في «ينابيع المودّة» ج 1 ص 205 و ج 3 ص 456 ط الجديد، و العلّامة الهروي في «شرح عين العلم و زين الحلم» ص 91، و العلّامة الكاكوردي في «الروض الأزهر» ص 33 ط حيدرآباد.

(2) المستدرك للحاكم ج 2 ص 466 ط حيدرآباد الدكن.

(3) آل عمران: 96.

(4) جرهم: بطن من القحطانية كانت منزلهم أوّلا اليمن، ثمّ انتقلوا إلى الحجاز، و نزلوا بمكّة و استوطنوها- معجم قبائل العرب ص 183.

(5) في (أي في علم التفسير).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 190

سنين، و كان قرأ المحكم يعني المفصّل «1». «2» أقول: و انتساب ابن عبّاس إلى أمير المؤمنين عليه السّلام

في العلوم سيّما التفسير واضح جليّ مروي من طرق الفريقين، و لذا لمّا سئل عن علمه قال: علمي إلى علم عليّ عليه السّلام كالقرارة في المثعنجر.

قال في «القاموس»: و المثعنجر: السائل من ماء أو دمع، و بفتح الجيم:

وسط البحر ... إلى أن قال: و قول ابن عبّاس و قد ذكر عليّا رضي اللّه تعالى عنهما:

«علمي إلى علمه كالقرارة في المثعنجر أي مقيسا إلى علمه كالقرارة موضوعة في جنب المثعنجر». «3» و رواه عنه في «النهاية» «4».

و في «المناقب» عن تفسير العيّاشي: قال ابن عبّاس: عليّ علم علما علّمه رسول اللّه، و رسول اللّه علّمه اللّه، فعلم النبي من علم اللّه، و علم عليّ من علم النبيّ، و علمي من علم عليّ، و ما علمي و علم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله في علم عليّ

______________________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 43.

(2) أورد البحراني في «البرهان» ج 1 ص 52 رواية عن العيّاشي تدلّ على أنّ المفصّل سبع و ستّون سورة من سورة الفتح إلى آخر القرآن.

(3) القاموس في مادّة «ثعجر».

(4) هذا الكلام عن ابن عبّاس مشهور بين الفريقين، أورده الحافظ أبو عبيد الهروي في «الغريبين» في مادّة «قرر»، و العلّامة الشيخ محمد طاهر الصديقي في «مجمع بحار الأنوار» ج 3 ص 131 ط لكهنو، و العلّامة الزبيدي الحنفي في «تاج العروس» ج 3 ص 487 في مادّة (قرر)، و ابن منظور المصري في «لسان العرب» ج 4 ص 103 ط بيروت، و ابن الأثير في «النهاية» ج 1 ص 152 ط مصر، و قال:

القرارة: الغدير الصغير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 191

إلّا كقطرة في سبعة أبحر. «1» و عن الضحّاك، عن ابن

عبّاس أنّه قال: اعطي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تسعة أعشار العلم، و إنّه لأعلمهم بالعشر الباقي. «2».

بل رووا عن عمر بن الخطّاب التصديق له بمثل ذلك:

فعن الخطيب في «الأربعين»: قال عمر: العلم ستّة أسداس، لعليّ من ذلك خمسة أسداس، و للناس سدس، و لقد شاركنا في السدس حتى لهو أعلم به منّا. «3» قال في «المناقب»: و قد ظهر رجوعه إلى عليّ عليه السّلام في ثلاث و عشرين مسألة حتى قال: لو لا عليّ لهلك عمر، و قد رواه الخلق منهم: أبو بكر بن عيّاش، و أبو المظفّر السمعاني.

قال الصاحب:

«في مثل فتواك إذ قالوا مجاهرةلو لا عليّ هلكنا في فتاوينا»

و قال خطيب خوارزم:

إذا عمر تخطّي في جواب و نبّهه عليّ بالصواب

يقول بعدله لو لا عليّ هلكت هلكت في ذاك الجواب «4»

______________________________

(1) المناقب ج 2 ص 30، ينابيع المودّة ص 70 ط اسلامبول.

(2) المناقب ج 2 ص 30، الاستيعاب لابن عبد البر ج 2 ص 462 ط حيدرآباد بتفاوت يسير، ذخائر العقبى ص 78 ط مصر، الرياض النضرة ج 2 ص 194 ط مصر، أسد الغابة ج 4 ص 22 ط مصر، تاريخ الخلفاء للسيوطي.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 31، مناقب الخوارزمي ص 55 ط تبريز.

(4) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 31- 32، روى قوله هذا غير واحد من الأعلام و إليك بعضهم:

1- ابن قتيبة في مختلف الحديث ص 202 ط القاهرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 192

كما اشتهر قوله الآخر الذي صار مثلا بين الناس: «معضلة ليس لها أبو حسن». «1» قال الجزري في «النهاية»: يقال: أعضل إلى الأمر إذا ضاقت فيه الحيل، و منه حديث عمر: «أعوذ

باللّه من كلّ معضلة ليس لها أبو حسن»، و روى المعضّلة (بفتح العين و تشديد الضاد) أراد المسألة الصعبة، أو الخطّة الضيّقة المخارج. من الإعضال أو التعضيل، و يريد بأبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السّلام.

و منه حديث معاوية و قد جاءه مسألة مشكلة، فقال: «معضلة و لا أبا حسن»، أبو حسن معرفة وضعت موضع النكرة، كأنّه قال: و لا رجل لها كأبي حسن، لأنّ لا النافية إنّما تدخل على النكرات دون المعارف. «2» و

في «الكافي» باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي

______________________________

2- ابن عبد البرّ في الإستيعاب ج 3 ط مصر بذيل الإصابة ص 39.

3- القاضي علي المالقي في قضاة الاندلسّ ص 73 ط القاهرة.

4- محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 82 ط مصر.

5- ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة ص 18 ط الغريّ.

6- المتّقي الهندي في كنز العمّال ج 1 ص 154 ط حيدرآباد الدكن.

7- عضد الدين الياسجي في المواقف.

8- علاء الدين القوشجي في شرح التجريد.

9- أخطب خوارزم في المناقب ص 48.

(1) تعوّذ الخليفة من معضلة ليس لها أبو حسن ممّا رواه جماعة من أعلام القوم كصاحب «الاستيعاب» ج 3 ص 39 المطبوع بذيل الإصابة طبع مصر، و صاحب «مختلف الحديث» ص 202 ط القاهرة، و صاحب «صفة الصفوة» ج 1 ص 121 ط حيدرآباد، و صاحب «أسد الغابة» ج 4 ص 22 ط مصر.

(2) النهاية ج 3 ص 105. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 193

أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره و باطنه غير الأوصياء» «1».

و

فيه، عنه عليه السّلام قال: ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلّا كذّاب، و ما

جمعه و حفظه كما نزّله اللّه تعالى إلّا علي بن أبي طالب عليه السّلام .. إلخ «2».

و

في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام: «قد ولّدني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنا أعلم كتاب اللّه، و فيه بدء الخلق، و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و فيه خبر السماء و خبر الأرض، و خبر الجنّة و خبر النار، و خبر ما كان و خبر ما هو كائن، أعلم ذلك كأنّما أنظر إلى كفّي إنّ اللّه يقول «3»: «فيه تبيان كلّ شي ء» «4».

و

في «تفسير العيّاشي» عن أبي الصباح قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ اللّه علّم نبيّه عليه السّلام التنزيل و التأويل، فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا صلوات اللّه عليهما. «5»

و قد مضى

في خبر طويل عن الباقر عليه السّلام: انّ الناس يكفيهم القرآن لو وجدوا له مفسّرا، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسّره لرجل واحد، و فسّر للامّة شأن ذلك، و هو علي بن أبي طالب عليه السّلام «6».

______________________________

(1) الكافي ج 1 ص 228 ط دار الكتب الاسلامية بطهران.

(2) الكافي ج 1 ص 228.

(3) مراده عليه السّلام مفاد قول اللّه سبحانه لا لفظه بعينه، و أمّا اللفظ بعينه ففي سورة النحل: 89 وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.

(4) بصائر الدرجات ص 197.

(5) تفسير العيّاشي ج 1 ص 17 و بحار الأنوار ج 92 ص 97 عن العيّاشي، و رواه في البحار ج 26 ص 173 رقم 43 عن بصائر الدرجات و في ذيله:

«قال: و علّمنا اللّه ثمّ قال: ما صنعتم من شي ء أو حلفتم عليه من يمين فأنتم فيه من سعّة».

(6) الكافي

ج 1 ص 250 ح 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 194

و

أنّه إنّما يعرف القرآن من خوطب به. «1»

و

أنّه يسئل عن القرآن علماء آل محمد عليهم السّلام. «2»

و

في «الأمالي» و «العيون» عن مولانا الرضا عليه السّلام في حديث: انّ المأمون سأل علماء العراق و خراسان عن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «3» فقالت العلماء: أراد اللّه بذلك الأمّة كلّها، فقال المأمون:

ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا عليه السّلام: ما أقول كما قالوا، و لكنّي أقول: أراد اللّه عزّ و جلّ بذلك العترة الطاهرة، فقال المأمون: و كيف عنى العترة من دون الامّة؟

فقال الرضا عليه السّلام: إنّه لو أراد الامّة لكانت بأجمعها في الجنة لقول اللّه عزّ و جلّ:

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، ثمّ جمعهم كلّهم في الجنّة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «4» فصارت الوارثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم، قال المأمون: و من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا عليه السّلام: الذين وصفهم اللّه في كتابه فقال:

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «5» ... إلى أن قال: فصارت وراثة الكتاب للمهتدين دون الفاسقين. «6»

و قد مرّ

في خبر خطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: معاشر الناس تدبّروا القرآن، و افهموا آياته، و انظروا إلى محكماته، و لا تتّبعوا متشابهه، فو اللّه لن يبيّن لكم

______________________________

(1) الكافي ج 8 ص 311 ح 485.

(2) الكافي ج 1 ص 210- 212 ح 1- 9 ..

(3) فاطر: 32.

(4) فاطر: 32.

(5) الأحزاب: 33.

(6) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 180 باب 23 ح 1. تفسير

الصراط المستقيم، ج 2، ص: 195

زواجره، و لا يوضح لكم تفسيره إلّا الّذي أنا آخذ بيده و مصعده إليّ، وسائل بعضده و معلمكم أنّ من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، و هو علي بن أبي طالب أخي و وصيّي، و موالاته من اللّه عزّ و جلّ، أنزلها عليّ، معاشر الناس إنّ عليّا و الطيّبين، من ولدي هم الثقل الأصغر، و القرآن هو الثقل الأكبر، و كلّ واحد منبئ عن صاحبه و موافق له، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، ألا إنّهم أمناء اللّه في خلقه، و حكماؤه في أرضه، ألا و قد أدّيت، ألا و قد بلّغت، ألا و قد أسمعت، ألا و قد أوضحته، ألا و إنّ اللّه عزّ و جلّ قال، و أنا قلت عن اللّه عزّ و جلّ، ألا إنّه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، و لا تحلّ إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره.

ثمّ ضرب بيده على عضده فرفعه- و كان منذ أول ما صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله درجة دون مقامه فبسط يده نحو وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- و شال عليّا حتى صارت رجله مع ركبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قال: معاشر الناس هذا عليّ أخي، و وصيّي، و واعي علمي، و خليفتي على أمّتي و على تفسير كتاب اللّه عزّ و جلّ و الداعي إليه ... «1»

و

عن الصادقين عليهما السّلام في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ... إلخ «2» قالا: هي لنا خاصّة، و إيّانا عنى. «3»

و

في «تفسير القمّي»: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «4» يعني آل محمد صلوات اللّه عليهم. «5»

______________________________

(1) بحار

الأنوار ج 37 ص 209 ح 86 عن الإحتجاج.

(2) فاطر: 32.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 130 باب إمامة السجّاد عليه السّلام.

(4) العنكبوت: 43.

(5) تفسير القمّي ج 2 ص 150.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 196

و

في «شرح الآيات الباهرة» باسناده عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال:

نحن هم «1».

و

في «الكافي» باسناده عن أحمد بن حمّاد، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي الحسن الأوّل، قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ورث النبيّين كلّهم؟ قال: نعم، قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟

قال: ما بعث اللّه نبيّا إلّا و محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعلم منه، قال: قلت: إنّ عيسى بن مريم كان يحيي الموتى بإذن اللّه، قال: صدقت، و سليمان بن داود كان يفهم منطق الطير، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقدر على هذه المنازل، قال: فقال: إنّ سليمان ابن داود قال للهدهد حين فقده و شكّ في أمر فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ حين فقده فغضب عليه فقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «2»، و إنّما غضب عليه، لأنّه كان يدلّه على الماء، فهذا- و هو طائر- قد أعطي ما لم يعط سليمان، و قد كانت الريح و النمل و الإنس و الجن و الشياطين المردة له طائعين، و لم يكن يعرف الماء تحت الهواء و كان الطير يعرفه، و إنّ اللّه يقول في كتابه: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ

كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى «3»، و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسيّر به الجبال و تقطّع به البلدان و تحيى به الموتى، و نحن نعرف الماء تحت الهواء، و إنّ في كتاب اللّه لآيات ما يراد بها أمر إلّا أن يأذن اللّه به مع ما قد يأذن اللّه

______________________________

(1) تأويل الآيات الطاهرة ص 424.

(2) النمل: 21.

(3) الرعد: 30. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 197

ممّا كتبه الماضون جعله اللّه لنا في أمّ الكتاب، إنّ اللّه يقول: وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1»، ثم قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «2» فنحن الذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ و أورثنا هذا الذي فيه تبيان كلّ شي ء. «3»

و عن الحمويني «4» من أعيان العامّة باسناده عن ابن مسعود قال: القرآن انزل على سبعة أحرف ما منها إلّا و له ظهر و بطن، و إنّ علي بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر و الباطن. «5» و

عن ابن شاذان «6» من طريق المخالفين عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعبد الرحمن بن عوف: أنتم أصحابي، و علي بن أبي طالب منّي و أنا من علي فما قاسه بغيره فقد جفاني، و من جفاني فقد آذاني، و من آذاني فعليه لعنة اللّه ربّي، يا عبد الرحمن إنّ اللّه تعالى أنزل عليّ كتابا مبينا، و أمرني أن أبيّن ما نزّل إليهم ما خلى عليّ بن أبي طالب، فإنّه لم يحتج إلى بيان، لأنّ اللّه تعالى جعل فصاحته كفصاحتي، و درايته كدرايتي، و لو كان الحلم رجلا لكان عليّا، و لو كان

______________________________

(1) النمل: 77.

(2)

فاطر: 32.

(3) الكافي ج 1 ص 236 ح 7، و رواه في البحار ج 26 ص 161 ح 7 عن «البصائر» عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبيه، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام.

(4) هو: إبراهيم بن محمد بن المؤيّد بن حمّويه الجويني المتوفّى (722)- الاعلام ج 1/ 61.

(5) رواه أيضا أبو نعيم الاصبهاني في حليّة الأولياء ج 1 ص 67، و ابن شهر آشوب في المناقب ج 2 ص 43.

(6) هو: أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمّي من مشايخ الاماميّة و كان حيّا سنة (412) ه. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 198

العقل رجلا لكان الحسن، و لو كان السخاء رجلا لكان الحسين، و لو كان الحسن شخصا لكان فاطمة، بل هي أعظم، إنّ فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصرا و شرفا و كرما. «1»

و

عنه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: العلم خمسة أجزاء، اعطي علي بن أبي طالب عليه السّلام من ذلك أربعة أجزاء، و اعطي سائر الناس واحدا، و الذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا عليّ بجزء الناس أعلم من الناس بجزئهم. «2»

و قال ابن أبي الحديد «3» في «شرح نهج البلاغة»: و من العلوم علم تفسير القرآن، و عنه أخذ، و منه فرّع، و إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك، لأنّ أكثره عنه، و عن عبد اللّه بن عبّاس، و قد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له، و انقطاعه إليه، و أنّه تلميذه و خرّيجه، و قيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط. «4»

______________________________

(1) مائة منقبة

لابن شاذان ص 122 المنقبة (67) و أخرجه الخوارزمي في مقتل الحسين عليه السّلام ص 60 باسناده إلى ابن شاذان، و القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة ص 263 و الجويني في فرائد السمطين ج 3 ص 68.

(2) مناقب ابن شاذان ص 133 المنقبة (78)، و أخرجه الخوارزمي في مقتل الحسين عليه السّلام ج 1/ 44 و ابن عساكر في تاريخ دمشق ج 3 ص 45 و المتّقي الهندي في كنز العمّل ج 11 ص 615.

(3) هو: عزّ الدين أبو حامد بن هبة اللّه بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني المولود سنة (586) هو المتوفّى سنة (656) كما في «سير النبلاء» و قد تصدّى لشرح «نهج البلاغة» غير واحد من العلماء، و استخرجوا من ذلك اليمّ الزاخر لئالئ ثمينة، و ألّفوا نظما و نثرا باللغات المختلفة حول هذا الكتاب القيّم ما تنوف على مائة بل أكثر، منها: «شرح ابن أبي الحديد» شرع في تأليفه في غرّة رجب سنة (644) و أتمّة في سلخ صفر سنة (649) فقضى أربع سنين و ثمانية أشهر، و كانت كما يقول:

«مقدار خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام ج».

(4) شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 199

و حكى السيّد بن طاووس في «سعد السعود» عن أبي حامد الغزالي «1» في كتاب «بيان العلم اللدنّي في وصف مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: قال علي عليه السّلام لمّا حكى عهد موسى: «أنّ شرح كتابه كان أربعين جملا»، لو أذن اللّه و رسوله لأشرع في شرح معاني «ألف» الفاتحة حتى يبلغ مثل ذلك، يعني أربعين وقرا أو جملا».

و هذه الكثرة في السعة و الافتتاح

في العلم لا يكون إلّا لدنيّا سماويا إلهيّا.

ثمّ

حكى السيّد عن أبي عمر «2» الزاهد محمد بن عبد الواحد باسناده أنّ علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: يا بن عبّاس إذا صلّيت العشاء الآخرة فالحقني إلى الجبّانة، قال: فصلّيت و لحقته و كانت ليلة مقمرة، قال: فقال لي: ما تفسير الألف من الحمد؟ فما علمت حرفا أجيبه، قال: فقلت: لا أعلم، فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة، قال: ثمّ قال: فما تفسير الميم من الحمد؟ فقلت: لا أعلم، قال:

فتلكّم في تفسيرها ساعة تامّة، قال: ثمّ قال: ما تفسير الدال من الحمد؟ قال:

قلت: لا أدري، قال: فتكلّم فيها إلى أن بزق عمود الفجر، قال: فقال لي: قم يا أبا عبّاس إلى منزلك و تأهّب لغرضك.

قال أبو العبّاس عبد اللّه بن العبّاس: فقمت و قد وعيت كلّ ما قال، ثمّ تفكّرت فإذا علمي بالقرآن في علم عليّ عليه السّلام كالقرارة في المتفجّر. و في نسخة: كالقرارة في المثعنجر. «3»

______________________________

(1) أبو حامد الغزالي محمد بن محمد الشافعي توفّي سنة (505) ه.

(2) أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد اللغوي الباوردي كان معروفا بغلام ثعلب توفّي سنة (345) ببغداد- تاريخ بغداد ج 2 ص 356.

(3) بحار الأنوار ج 92 ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 200

تفسير الصراط المستقيم ج 2 249

أقول: و يأتي مثل هذا الخبر في تفسير الحمد «1».

و عنه، عن ابن عبّاس من طريق العامّة: «ما علمي و علم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله في علم عليّ عليه السّلام إلّا كقطرة في سبعة أبحر. «2» و

عن طريق النقّاش «3»، و ابن المغازلي «4» الفقيه الشافعي، و الموفّق بن أحمد «5»، و الترمذي، و غيرهم،

عن ابن عبّاس، و عبد اللّه بن مسعود، و غيرهما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: قسمت الحكمة على عشرة أجزاء، فأعطي عليّ عليه السّلام تسعة أجزاء، و الناس جزاء واحدا. «6» و زاد في بعضها: أنّه شاركهم فيه حتى هو أعلم به منهم.

و روى الترمذي «7» عن ابن عبّاس قال: كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يشرح لنا نقطة الباء من بسم اللّه الرحمن الرحيم ليلة فانفلق عمود الصبح و هو بعد لم يفرغ، فرأيت نفسي في جنبه كالقرارة في جنب البحر المثعنجر. «8»

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 105.

(2) بحار الأنوار ج 92 ص 105.

(3) النقّاش: محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون أبو بكر المفسّر الموصلي البغدادي ولد سنة (266) و توفّي سنة (381) ه- الأعلام ج 6/ 310.

(4) هو أبو الحسن عليّ بن محمد الحافظ الشهير بابن المغازلي الواسطي الشافعي المتوفّى سنة (483) ه.

الكنى و الألقاب ج 1 ص 417.

(5) هو: الموفّق بن أحمد المكي الخوارزمي الحنفي، ولد سنة (384) و توفّي سنة (568) ه. الأعلام ج 8/ 289.

(6) المناقب لابن المغازلي ص 287- حلية الأولياء ج 1 ص 64- مناقب الخوارزمي ص 49.

(7) هو: أبو عبد اللّه محمد بن علي بن حسن بن بشير المؤذّن الحكيم الترمذي المقتول سنة (255)- كشف الظنون ج 2 ص 1979.

(8) ينابيع المودّة ط اسلامبول ص 70- أرجح المطالب ط لاهور ص 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 201

و

روى الترمذي أيضا أنّه قال رسول اللّه: ما رآني في الدنيا على الحقيقة التي خلقني اللّه عليها غير علي بن أبي طالب عليه السّلام. «1»

بل

قد ورد في أخبار كثيرة أنّ كلّ

علم حقّ عند كلّ أحد فهو منهم عليهم السّلام.

ففي «مجالس المفيد» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أما إنّه ليس عند أحد من الناس حقّ و لا صواب إلّا شي ء أخذوه منّا أهل البيت. و لا أحد من الناس يقضي بحقّ و لا عدل إلّا و مفتاح ذلك القضاء و بابه و أوّله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإذا اشتبهت عليهم الأمور كان الخطأ من قبلهم إذا أخطئوا، و الصواب من قبل علي بن أبي طالب عليه السّلام إذا أصابوا. «2»

و

في «البصائر» و «رجال الكشي» عن أبي مريم «3» قال: قال أبو جعفر عليه السّلام لسلمة بن كهيل «4»، و الحكم بن عتيبة «5»: شرّقا و غرّبا لن تجدا علما صحيحا إلّا شيئا خرج من عندنا أهل البيت. «6».

و

فيهما عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شهادة ولد الزنا تجوز؟

______________________________

(1) لم أجد له مصدرا.

(2) أمالي المفيد ص 56 و 57.

(3) هو: عبد الغفّار بن القاسم بن قيس بن فهد أبو مريم الأنصاري، روى عن الصادقين عليهما السّلام، وثّقه النجاشي و قال: له كتاب- معجم رجال الحديث ج 1 ص 55.

(4) هو: سلمة بن كهيل بن الحصين أبو يحيى الحضرمي الكوفي التابعي، كان من البترية، و هم الذين دعوا إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ خلطوها بولاية الشيخين، و بغض عثمان و طلحة و الزبير و عائشة- معجم رجال الحديث ج 7 ص 208.

(5) الحكم بن عتيبة أبو محمد الكوفي الكندي البتري توفّي سنة (114) أو (115) وردت في ذمّه روايات كثيرة- معجم رجال الحديث ج 6 ص 174.

(6) بصائر الدرجات ص 10، الكافي ج 1 ص 399. تفسير

الصراط المستقيم، ج 2، ص: 202

قال عليه السّلام: لا، فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز، فقال عليه السّلام: اللهمّ لا تغفر ذنبه، ما قال اللّه للحكم: إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ «1» فليذهب الحكم يمينا و شمالا، فو اللّه لا يؤخذ العلم إلّا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه السّلام. «2»

و

في «البصائر» عنه عليه السّلام: كلّما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل. «3»

و

فيه عن زرارة قال: كنت عند أبي عبد اللّه جعفر عليه السّلام فقال لي رجل من أهل الكوفة: سله عن قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «سلوني عمّا شئتم و لا تسألوني عن شي ء إلّا أنبأتكم به»، قال: فسألته، فقال عليه السّلام: إنّه ليس أحد عنده شي ء إلّا خرج من عند أمير المؤمنين عليه السّلام فليذهب الناس حيث شاؤا فو اللّه ليأتينّ الأمر هاهنا، و أشار بيده إلى صدره. «4»

قال المجلسي رحمه اللّه: ليأتينّ (بفتح الياء و رفع الأمر) أي يأتي العلم و ما يتعلّق بأمر الخلق و يهبط إلى صدورنا، و يحتمل نصب الأمر فيكون ضمير الفاعل راجعا إلى كلّ أحد من الناس، أو كلّ من أراد اتضاح الأمر له.

أقول: و لعلّ الأقرب الأوّل، و ذلك أنّك قد سمعت في غير موضع من هذا التفسير أنّ اللّه تعالى جعلهم أبوابه، و سبله و صراطه في الأمور التكوينيّة و التشريعيّة، فلا يصل إلى أحد من الخلق شي ء من الفيوض الإلهيّة، و المواهب

______________________________

(1) الزخرف: 44.

(2) بصائر الدرجات ص 9، رجال الكشي ص 137، الكافي ج 1 ص 400 و ج 7 ص 365.

(3) بصائر الدرجات ص 38 ح 5، الوسائل ج 18 ص 50 ح 34 عن البصائر.

(4) بصائر الدرجات ص

12 ح 1، الوسائل ج 18 ص 46 ح 21، و لكن فيه مكان (ليأتين الأمر هاهنا و أشار بيده إلى صدره): ليس الأمر إلّا من هاهنا و أشار بيده إلى بيته، بحار الأنوار ج 40/ 136 و فيه:

ليأتينهم الأمر هاهنا و أشار إلى المدينة».

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 203

الرحمانيّة إلّا بوساطتهم و شفاعتهم، فبهم بدأ اللّه، و بهم يختم، و من جملة فيوضه سبحانه، بل من أعظمها العلوم و المعارف الحقيقيّة التي خصّهم اللّه سبحانه بمعرفتها، فهم عيبة علمه، و خزنة وحيه.

ففي «البصائر»: عن الصادق عليه السّلام يقول: «نحن ولاة أمر اللّه، و خزنة علم اللّه، و عيبة وحي اللّه». «1»

و

فيه، عنه عليه السّلام: يا بن أبي يعفور «2» إنّ اللّه واحد متوحّد بالوحدانيّة، متفرّد بأمره، فخلق خلقا فقدّرهم لذلك «3» الأمر، فنحن هم، يا ابن أبي يعفور فنحن حجج اللّه في عباده، و خزّانه على علمه، و القائمون بذلك. «4»

و

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و اللّه إنّا لخزّان اللّه في سمائه و أرضه، لا على ذهب و لا على فضّة إلّا على علمه. «5»

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 30، بحار الأنوار ج 26 ص 106 ح 9 عن البصائر.

(2) هو: عبد اللّه بن أبي يعفور واقد أبو محمد العبدي من خواصّ أصحاب الصادق عليه السّلام توفّي في حياة الإمام عليه السّلام سنة الطاعون. معجم رجال الحديث ج 10 ص 96.

(3) في البحار: فقدّرهم بذلك الأمر. و قال المجلسي قدس سرّه في بيانه: بذلك الأمر أي الإمامة، أو بذلك العلم، فالباء للسببيّة.

(4) بصائر الدرجات ص 29، الكافي ج 1 ص 193 ح 5، بحار الأنوار ج 26 ص 106 ح 8.

(5) بصائر الدرجات ص

29، الكافي ج 1 ص 192 ح 2، بحار الأنوار ج 26 ص 105 ح 1 عن البصائر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 205

الباب التاسع

في أنّ جلّ القرآن نزل في أهل البيت و شيعتهم و في أعدائهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 207

روى الشيخ الجليل ثقة الإسلام الكليني «1»، و محمّد بن مسعود العياشي «2»، و فرات «3» بن إبراهيم، بأسانيدهم عن أصبغ «4» بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: نزل القرآن أرباعا: ربع فينا، و ربع في عدوّنا، و ربع سنن و أمثال، و ربع فرائض و أحكام، و لنا كرائم القرآن «5».

قال في «تأويل الآيات»: و روت الخاصّة و العامّة عن ابن عبّاس أيضا مثله «6» و فيه عن ابن نباتة عنه عليه السّلام قال: القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، و ربع في أعدائنا، و ربع فرائض و أحكام، و ربع حلال و حرام، و لنا كرائم

______________________________

(1) هو محمد بن يعقوب بن إسحاق ابو جعفر الكليني مصنّف «الكافي» في عشرين سنة، توفّى سنة (328) أو (329) و قبره في بغداد مزار معروف. طبقات الشيعة ج 1/ 314.

(2) هو: محمّد بن مسعود بن محمد بن عيّاش أبو النضر السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشى، كان عاميا ثم تبصّر، و كان حديث السنّ، و بعد سمع الاصحاب بالعراق و روى عن علي بن الحسن بن عليّ بن فضّال الّذي يروى عن أخيه أحمد الذي توفى سنة (260)- طبقات الشيعة ج 1 ص 305.

(3) فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، روى عن عبيد بن كثير المتوفى (294) و روى عنه الصدوق المتوفى (381) بواسطة واحدة كثيرا في الأمالى- طبقات الشيعة ج 1 ص 216.

(4) الأصبغ بن

نباتة المجاشعي من خاصّة أمير المؤمنين عليه السّلام، و عمّر بعده، و روى عنه عهد الأشتر الذي عهده اليه أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا ولّاه مصر- معجم رجال الحديث 3 ص 219.

(5) الكافي ج 2 ص 628- تفسير الفرات ص 2- شواهد التنزيل ج 1 ص 43 ح 58- بحار الأنوار ج 24 ص 305 ح 1 عن الكنز و الفرات.

(6) بحار الأنوار ج 24 ص 305 عن الكنز ح 1. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 208

القرآن «1».

قلت: و الكرائم نفائس الشي ء و خياره جمع الكريمة، و التاء للمبالغة كما في «النهاية الاثيريّة» قال: و منه حديث الزكاة: «و أنق كرائم أموالهم» أى نفائسها الّتي يتعلّق بها نفس مالكها و يختصّها لها حيث هي جامعة للكمال الممكن في حقّها.

و المراد أنّ كلّ ما في القرآن من خير، و برّ، و شرف فهو لهم، و فيهم، و في شيعهم، كما

في الزيارة الجامعة الكبيرة: «إن ذكر الخير كنتم أوّله، و أصله، و معدنه، و مأواه، و منتهاه».

عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: ما من آية في القرآن أوّلها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا و عليّ بن أبى طالب عليه السّلام أميرها و قائدها، و شريفها و أوّلها، و ما من آية تسوق إلى الجنّة إلّا و هي في النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الأئمة عليهم السّلام، و أشياعهم، و أتباعهم، و ما من آية تسوق الى النار إلّا و هي في أعدائهم و المخالفين لهم، و إن كانت الآيات في ذكر الأوّلين فما كان منها في خير فهو جار في أهل الخير، و ما كان منها من شرّ فهو جار في أهل الشرّ

«2».

و

عن أبى جعفر عليه السّلام قال: يا خيثمة «3» إنّ القرآن نزلت أثلاثا: فثلث فينا، و ثلث في عدوّنا، و ثلث فرائض و أحكام «4».

______________________________

(1) البحار ج 24 ص 305 ح 2 عن تفسير الفرات.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 316 ح 20 عن عقائد الصدوق ص 104.

(3) الظاهر أنّه خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي الكوفي أبو عبد اللّه و كان من أصحاب الباقر عليه السّلام- انظر معجم رجال الحديث ج 7 ص 82.

(4) بحار الأنوار ج 24 باب جوامع تأويل ما نزل فيهم 4 ح 46 عن الفرات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 209

و

روى ابن المغازلي عن ابن عبّاس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: القرآن أربعة أرباع: فربع فينا أهل البيت خاصّة، و ربع حلال، و ربع حرام، و ربع فرائض و أحكام، و اللّه أنزل فينا كرائم القرآن «1».

و روى العيّاشى مثله بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام «2».

و

روى عن أصبغ بن نباتة عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا و في عدوّنا، و ثلث سنن و أمثال، و ثلث فرائض و أحكام «3».

و

في «تفسير العياشي» عن خيثمة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «القرآن نزل أثلاثا: ثلث فينا و في أحبّائنا، و ثلث في أعدائنا و عدوّ من كان قبلنا، و ثلث سنّة و مثل، و لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي ء، و لكنّ القرآن يجرى أوّله على آخره ما دامت السماوات و الأرض، و لكلّ قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شرّ» «4».

و في «كشف الغمّة» عن ابن مردويه

«5»، عن ابن عبّاس قال: «ما في القرآن آية إلّا و عليّ رأسها و قائدها» «6».

قال: و روي عن عليّ عليه السّلام قال: «نزل القرآن أرباعا: فربع فينا، و ربع في

______________________________

(1) المناقب لابن المغازلي ص 328.

(2) بحار الأنوار ج 92 باب أنواع آيات القرآن ص 114 ح 1 عن تفسير العياشي ج 1 ص 9 مع تفاوت يسير.

(3) تفسير العياشي ج 1 ص 9.

(4) تفسير العياشي ج 1 ص 10.

(5) هو أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني المتوفّى (352)، الكنى و الألقاب ج 1 ص 406.

(6) كشف الغمّة ص 91- بحار الأنوار ج 36 ص 116 من كشف الغمّة. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 210

عدوّنا، و ربع سير و أمثال .. و ربع فرائض و أحكام» «1».

و فيه عن ابن عبّاس: «ما نزلت «يا أيّها الذين آمنوا» إلّا و عليّ أميرها و شريفها» «2».

و عنه في خبر آخر: «إلّا كان عليّ رأسها و أميرها» «3».

و عن حذيفة «4»: «إلّا كان عليّ لبّها و لبابها» «5».

و

في «غيبة النعماني» «6»: عن العبد الصّالح عليه السّلام في قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ «7» أنّه قال: «إنّ القرآن له ظاهر و باطن، فجميع ما حرّم اللّه في القرآن فهو حرام على ظاهره كما هو في الظاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الجور، و جميع ما أحلّ اللّه في الكتاب فهو حلال، و هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الهدى» «8».

و

في «تفسير فرات» عن ابن عبّاس قال: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيدي و يد أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السّلام، فعلا بنا على ثبير،

ثمّ صلّى ركعات، ثمّ رفع

______________________________

(1) المصدر نفسه ص 91.

(2) كشف الغمّة ص 91 البحار ج 36 ص 117 عن كشف الغمّة.

(3) المصدر نفسه ص 91 البحار ج 36 ص 117 عن كشف الغمّة.

(4) هو حذيفة بن اليمان أبو عبد اللّه العبسي كان صاحب سرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله في المنافقين، توفّى بالمدائن سنة (36) ه- الاعلام للزركلى ج 2 ص 180.

(5) كشف الغمّة ص 92- البحار ج 36 ص 117 عن الكشف.

(6) النعماني: محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب كان تلميذا للكليني المتوفّى (329) و كان حيّا في سنة (342) ه و توفى بالشام- الذريعة ج 16 ص 79.

(7) الأعراف: 33.

(8) غيبة النعماني ص 64 و فيه: «ائمّة الهدى الحقّ». تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 211

يده الى السّماء فقال: أللّهمّ إنّ موسى بن عمران عليه الصلاة و السّلام سألك، و أنا محمّد نبيّك أسألك أن تشرح لي صدري و تيسّر لي أمرى، و تحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلى عليّ بن أبي طالب أخى أشدد به أزرى، و أشركه في أمرى، قال: فقال ابن عبّاس: سمعت مناديا ينادى: يا أحمد قد أوتيت ما سألت، قال: فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: يا أبا الحسن ارفع يدك إلى السّماء فادع ربّك و سله يعطك، فرفع يده إلى السماء و هو يقول: اللهمّ اجعل لي عندك عهدا، و اجعل لي عندك ودّا، فأنزل اللّه على نبيّه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «1». فتلاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أصحابه، فتعجّبوا من ذلك عجبا شديدا، فقال النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله: بما تعجبون؟ إنّ القرآن أربعة أرباع: ربع فينا أهل البيت خاصّة، و ربع في أعدائنا، و ربع حلال و حرام، و ربع فرائض و أحكام، و إنّ اللّه أنزل في علي بن أبي طالب عليه السّلام كرائم القرآن» «2».

و

في «البصائر» عن أبي الحجاز «3» قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ختم مائة ألف نبىّ و أربعة و عشرين ألف نبيّ، و ختمت أنا مائة ألف وصيّ و أربعة و عشرين ألف وصيّ، و كلّفت ما تكلّف الأوصياء قبلي، و اللّه المستعان، و إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال في مرضه: لست أخاف عليك أن تضلّ بعد الهدى، و لكن أخاف عليك فسّاق قريش و عاديتهم، حسبنا اللّه و نعم الوكيل على أنّ ثلثي القرآن فينا و في شيعتنا، فما كان من خير فلنا و لشيعتنا، و الثلث أشركنا

______________________________

(1) مريم: 96.

(2) تفسير فرات ص 89- بحار الأنوار ج 35 عن الروضة ص 16 و تفسير فرات.

(3) لم أظفر على ترجمته. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 212

فيه النّاس، فما كان من شرّ فلعدوّنا» «1».

و

في «الخصال» عن ابن أبي ليلى «2» قال: «نزلت في عليّ ثمانون آية صفوا في كتاب اللّه ما شركه فيها أحد من هذه الأمّة «3».

و فيه بالإسناد عن مجاهد مثله، إلّا أنّ فيه: «سبعون» «4».

قلت: و لعلّ المراد الآيات المختصّة به دون غيره كما يومى إليه قوله:

«صفوا» أو أنّه ذكر هذا العدد بناء على ما اطلع عليه.

و

عن ابن شهر آشوب قال: روى جماعة من الثقات عن الأعمش، عن عباية الأسدي عن عليّ عليه السّلام، و الليث «5»، عن

مجاهد، و السدي عن أبي مالك «6»، و ابن أبي ليلى، عن داود «7» بن على، عن أبيه، و ابن جريح، عن عطاء، و عكرمة، و سعيد بن جبير، كلّهم عن ابن عبّاس، و روى العوّام «8» ابن حوشب عن مجاهد،

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 120.

(2) هو عبد الرحمن بن أبى ليلى الأنصارى من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام- شهد معه، عربيّ كوفّي، ضربه الحجّاج حتّى اسودّ كتفاه على سبّ عليّ عليه السّلام- جامع الرواة ص 443 رقم 3652.

(3) الخصال ج 2 ص 592 أبواب الثمانين ح 1.

(4) الخصال ج 2 ص 581 أبواب السبعين ح 2.

(5) هو الليثي بن أبى سليم الكوفي القرشي كان من العلماء و يقال: كان من أوعية العلم، توفي سنة (143) ه- الميزان للذهبى ج 3 ص 420.

(6) ابو مالك روى روايات كثيرة عن ابن عباس و روى عنه السدّى إسماعيل بن عبد الرحمن المتوفى (128 ه) ذكره ابن أبى حاتم في «الجرح و التعديل» ج 9 ص 435 رقم 2173 و قال: سئل أبو زرعة عنه فقال: كوفى ثقة لا أعرف اسمه.

(7) هو داود بن على بن عبد اللّه بن عباس، عمّ المنصور الدوانيقي، قد ولى الكوفة في دولة السفّاح، ثم المدينة، مات سنة (133 ه)- ميزان الاعتدال ج 2 ص 13.

(8) العوّام بن حوشب بن يزيد الشيباني أبو عيسى الواسطي توفى سنة (148 ه)- سير أعلام النبلاء ج 4 تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 213

و روى الأعمش عن زيد بن وهب «1». عن حذيفة كلّهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ما انزل اللّه تعالى في القرآن آية فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا و عليّ

أميرها و شريفها» «2».

و

في رواية حذيفة: «إلّا كان لعلي بن أبى طالب عليه السّلام لبّها «3» و لبابها» «4».

و

في رواية: «إلّا عليّ رأسها و أميرها» «5».

و

في رواية يوسف «6» بن موسى القطّان، و وكيع «7» بن الجرّاح: «أميرها و شريفها لأنّه أوّل المؤمنين ايمانا «8».

و

في رواية إبراهيم «9» الثقفي، و أحمد بن حنبل، و ابن بطّة «10» العكبري،

______________________________

ص 354.

(1) هو زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي المتوفى سنة (96)- سير أعلام النبلاء ج 4 ص 199.

(2) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 546- بحار الأنوار ج 37 ص 333.

(3) اللبّ و اللباب (بضم اللام) في اللغة بمعنى واحد و هو المختار الخالص من كل شي ء و لعلّ معنى الحديث أنّ المصداق الأتمّ الخالص المختار من المؤمنين هو أمير المؤمنين عليه السّلام.

(4) المناقب ج 1 ص 546- شواهد الحسكاني ج 1 ص 48.

(5) المصدر نفسه.

(6) يوسف بن موسى بن راشد القطّان أبو يعقوب الكوفي نزيل بغداد، توفّى سنة (253) من سنّ عالية- سير أعلام النبلاء ج 12 ص 222.

(7) وكيع بن الجرّاح بن مليح الرؤاسى الحافظ ولد بالكوفة سنة (129) و توفّي بفيد راجعا من الحجّ سنة (197)- الاعلام ج 9 ص 135.

(8) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 546- بحار الأنوار ج 37 ص 333.

(9) هو إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي المتوفي سنة (283 ه)- الاعلام ج 1 ص 56.

(10) هو عبيد اللّه بن محمّد بن محمد بن حمدان بن بطّة العكبري الحنبلي المتوفى (387)- الاعلام ج 1 ص 354. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 214

عن عكرمة، عن ابن عبّاس: «إلّا عليّ رأسها و شريفها و أميرها» «1».

و

في «صحيفة الرضا

عليه السّلام» «2»: «ليس في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا في حقّنا، و لا في التوراة يا أَيُّهَا النَّاسُ إلّا فينا» «3».

و

في تفسير مجاهد قال: ما كان في القرآن «يا أيّها الذين آمنوا» فإنّ لعليّ عليه السّلام سابقة هذه الآية، لأنّه سبقهم الى الإسلام، فسمّاه اللّه تعالى في تسع «4» و ثمانين موضعا أمير المؤمنين و سيّد المخاطبين الى يوم الدين «5».

و

روى المنقري «6» باسناده الى عمرو «7»، أخى بريدة الأسلمي، و روى يوسف ابن كليب المسعودي باسناده عن أبى داود، عن أخى بريدة، و روى عبّاد

______________________________

(1) المناقب ج 1 ص 546.

(2) صحيفة الرضا: و يعبّر عنها بمسند الرضا، و الرضويات، و صحيفة أهل البيت أيضا و قد أحصى بعض الأصحاب أحاديثها فوجدوها (240) حديثا و هي منسوبة الى الإمام الرضا عليه السّلام، مروية بأسانيد متعددة ينتهى جميعها الى ابى القاسم عبد اللّه بن احمد بن عامر بن سليمان بن صالح بن وهب، عن أبيه احمد بن عامر عن الرضا عليه السّلام في سنة (194)، انظر الذريعة ج 15 ص 17 رقم 92.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 546- بحار الأنوار ج 37 ص 333.

(4) هذه الموارد (11) موردا في سورة البقرة، و (7) موارد في آل عمران، و (9) موارد في سورة النساء، و (16) موردا في المائدة، و (6) موارد في الأنفال، و (6) موارد في التوبة، و (1) في الحجّ، و (3) موارد في سورة النور، و (7) موارد في الأحزاب، و (2) في سورة محمّد، و (5) موارد في الحجرات، و (1) في سورة الحديد، و (3) في المجادلة، و (1) في سورة الم، و (3) موارد في

المتمحثة، و (3) في الصفّ، و (1) في الجمعة، و (1) في سورة المنافقين، و (1) في التغابن، و (2) في سورة التحريم.

(5) المناقب ج 1 ص 546- البحار ج 37 ص 333.

(6) هو: سليمان بن داود بن بشر بن زياد أبو أيّوب المنقري البصري المعروف بالشاذكونى الحافظ المتوفى (234) ه- سير أعلام النبلاء ج 10 ص 677.

(7) هو عمرو بن حصيب أخو بريدة بن حصيب الأسلمي كما في أمالي الشيخ ص 181. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 215

ابن «1» يعقوب الأسدى، باسناده عن أبى داود «2» السبيعي، عن أخى بريدة، أنّه دخل أبو بكر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: اذهب و سلّم على أمير المؤمنين، فقال: يا رسول اللّه و أنت حىّ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: و أنا حىّ، ثم جاء عمر فقال له مثل ذلك.

و في رواية السبيعي: أنّه قال عمر: و من أمير المؤمنين؟ قال: علي بن ابى طالب قال: عن أمر اللّه و أمر رسوله؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم «3».

و

روى الشيخ أبو جعفر الطوسي قدّس سرّه باسناده الى الفضل «4» بن شاذان عن داود «5» بن كثير. قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: أنتم الصلاة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و أنتم الزكاة، و أنتم الحجّ؟

فقال عليه السّلام: يا داود نحن الصّلاة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و نحن الزّكاة، و نحن الصيام، و نحن الحجّ، و نحن الشّهر الحرام، و نحن البلد الحرام، و نحن كعبة اللّه، و نحن قبلة اللّه، و نحن وجه اللّه، قال اللّه تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «6» و نحن الآيات، و

نحن البيّنات.

______________________________

(1) هو أبو سعيد عبّاد بن يعقوب الأسدى الرواجني الكوفي المتوفى سنة (250) ه- التاريخ الكبير للبخاري ج 6 ص 44 رقم 1645.

(2) هو نفيع بن الحارث أبو داود النخعي الكوفي و يقال له السبيعي لأنّهم مواليه، و كان أعمى من قبيلة همدان تابعيّا- تهذيب التهذيب ج 1 ص 470.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 549- أمالى الشيخ ص 181 و ص 182 و البحار ج 37 ص 291 عن الأمالى و ص 334 عن المناقب.

(4) الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمد الأزدى النيسابوري المتوفّى (260 ه) الاعلام ج 5 ص 355.

(5) داود بن كثير أبى خالد الرقّى أبو سليمان المتوفّى بعد وفاة الرّضا عليه السّلام بقليل حدود سنة (203 ه)- معجم رجال الحديث ج 7 ص 122.

(6) البقرة: 115. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 216

و عدوّنا في كتاب اللّه عزّ و جلّ: الفحشاء و المنكر و البغي، و الخمر، و الميسر و الانتصاب و الأزلام، و الأصنام و الأوثان، و الجبت و الطاغوت، و الميتة و الدم و لحم الخنزير.

يا داود إنّ اللّه خلقنا فأكرم خلقنا، و فضّلنا، و جعلنا أمناءه، و حفظته، و خزّانه على ما في السماوات و ما في الأرض، و جعل لنا أضدادا و أعداء، فسمّانا في كتابه، و كنى عن أسمائنا بأحسن الأسماء و أحبّها إليه، و سمّى أضدادنا و أعدائنا في كتابه، و كنّى عن أسمائهم و ضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه و إلى عبادة المتّقين «1».

و

عن الفضل بن شاذان بالإسناد عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: نحن أصل كلّ خير، و من فروعنا كلّ برّ، و من البرّ التوحيد،

و الصلاة، و الصيام، و كظم الغيظ عن المسي ء، و رحمة الفقير، و تعاهد الجار، و الإقرار بالفضل لأهله.

و عدوّنا أصل كلّ شرّ، و من فروعهم كلّ قبيح و فاحشة، فمنهم الكذب و النميمة، و البخل، و القطيعة، و أكل الرّبا، و أكل مال اليتيم بغير حقّه، و تعدّى الحدود الّتى أمر اللّه عزّ و جلّ، و ركوب الفواحش ما ظهر منها و ما بطن من الزّنا و السّرقة، و كلّ ما وافق ذلك من القبيح، و كذب من قال: إنّه معنا و هو متعلّق بفرع غيرنا «2».

و

في «رجال الكشي» بالإسناد عن بشير «3» الدهّان، قال: كتب أبو

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 303 ح 14 عن كنز الفوائد ص 2- 3.

(2) البحار ج 24 ص 303 ح 15 عن الكنز.

(3) بشير الدهّان الكوفي من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السّلام، و قيل: (يسير) بالياء التحتانية و السين المهملة، وقع في اسناد جملة من الروايات تبلغ ثمانية عشر موردا. معجم رجال الحديث ج 3 تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 217

عبد اللّه عليه السّلام إلى أبي «1» الخطّاب بلغني أنّك تزعم أنّ الزّنا رجل، و أنّ الخمر رجل، و أنّ الصّلاة رجل، و الصيام رجل، و أنّ الفواحش رجل، و ليس هو كما تقول، إنّا أصل الحقّ، و فروع الحقّ طاعة اللّه، و عدوّنا أصل الشّرّ، و فروعهم الفواحش، و كيف يطاع من لا يعرف، و كيف يعرف من لا يطاع «2».

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة الّتى سيمرّ عليك كثير منها في تضاعيف هذا التفسير إن شاء اللّه تعالى.

و جملة الكلام أنّه يستفاد من ملاحظة الأخبار أمور:

أحدها: أنّ كلّ آية في القرآن فيها يا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا فالخطاب فيها متوجّه إلى أهل البيت عليهم السّلام بالأوليّة و الأولويّة و الأصالة، و هم أميرها و شريفها و رأسها و لبّها و لبابها، و ذلك بسبب سبقتهم إلى الإيمان باللّه سبحانه في عالم الأنوار و في الظلّة الخضراء.

كما

عن الثّمالى عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: إنّ اللّه سبحانه تفردّ في وحدانيّته، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نورا، ثمّ خلق من ذلك النور محمّدا و عليّا و عترته عليهم السّلام، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت روحا و أسكنها في ذلك النور و أسكنه في أبداننا، فنحن روح اللّه و كلمته، احتجب بنا عن خلقه، فما زلنا في ظلّ خضراء مسبّحين نسبّحه و نقدّسه حيث لا شمس و لا قمر، و لا عين تطرف، ثمّ خلق

______________________________

ص 331 رقم 1806.

(1) ابو الخطّاب محمّد بن أبى زينب الأسدى الكوفي البزّاز البرّاد، كان مستقيما ثم انحرف و صار من الغلاة فترك أصحابنا ما رواه بعد انحرافه- معجم رجال الحديث ج 14 ص 243.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 299 عن رجال الكشي ص 188. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 218

شيعتنا، و إنّما سمّوا شيعة لأنّهم خلقوا من شعاع نورنا «1».

و

عنه، قال: دخلت حبابة «2» الوالبيّة على أبي جعفر عليه السّلام فقالت: أخبرني يا بن رسول اللّه أيّ شي ء كنتم في الأظلّة؟ فقال عليه السّلام: كنّا بين يدي اللّه قبل خلق خلقه، فلمّا خلق الخلق سبحنا فسبّحوا، و هلّلنا فهلّلوا، و كبّرنا فكبّروا، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «3» الطريقة حبّ عليّ صلوات اللّه عليه، و الماء الغدق الماء الفرات، و هو ولاية آل محمّد عليهم السّلام. «4».

و

في

خبر المفضّل: كنّا أنوارا حول العرش نسبّح اللّه و نقدّسه حتّى خلق اللّه سبحانه الملائكة فقال لهم: سبّحوا، فقالوا: يا ربّنا لا علم لنا، فقال لنا: سبّحوا فسبّحنا، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا، ألا إنّا خلقنا من نور اللّه، و خلق شيعتنا من دون ذلك النور ... الخبر «5».

و أيضا لسبقهم إلى الإيمان به سبحانه في عالم الميثاق و الذرّ الأوّل، كما

ورد أنّ أوّل من بادر إلى الإجابة هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، ثمّ الأئمّة من ذرّيته صلوات اللّه عليهم أجمعين،

و لسبقتهم إلى الإيمان به في هذا العالم الناسوتي في الدّولة الكاملة الختمية المصطفوية كماليا شرفيّا، إذ لا يدانى

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 25 ص 23 ح 39 عن مشارق الأنوار للبرسي ص 42.

(2) هي صاحبة الحصاة التي طبع فيها أمير المؤمنين عليه السّلام بخاتمه و أتت بها الى الأئمّة بعده واحدا بعد واحد و هم يطبعوهن فيها إلى أن انتهت الى أبي الحسن الرضا عليه السّلام فطبع فيها و عاشت بعد ذلك تسعة أشهر- سفينة البحار ج 2 ص 30 طبع الجديد.

(3) سورة الجنّ: 16.

(4) بحار الأنوار ج 25 ص 24 ح 40 عن مشارق الأنوار للبرسي ص 40.

(5) البحار ج 25 ص 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 219

ايمانهم إيمان أحد من المخلوقين، آتاهم اللّه ما لم يؤت أحدا من العالمين، و سبقا حدوثيا زمانيّا كما اتّفقت عليه روايات الفريقين من أنّه عليه السّلام أوّل من آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العالم الناسوت إيمانا ظاهريّا بعد ما آمن به في جميع العوالم الكليّة و النشآت الغيبيّة، و لذا

قال عليه السّلام: سبقتكم إلى الإسلام

طرّا* غلاما ما بلغت أو ان حلمي «1» و قد قيل في هذا أيضا: ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا* عن هاشم ثمّ منها عن أبى الحسن أليس أوّل من صلّى لقبلتكم* و أعلم الناس بالآداب و السنن

و بالجملة فهؤلاء الأنوار صلوات اللّه عليهم هم السّابقون بالإيمان في جميع العوالم بمراتب السبق و أقسامه الستّة «2».

______________________________

(1)

قال ابن حجر الهيثمي: لما وصل الى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فخر من معاوية قال عليه السّلام لغلامه: اكتب إليه، ثمّ أملى عليه:

محمّد النبي أخي و صهري* و حمزة سيّد الشهداء عمّى و جعفر الذي يمسى و يضحى* يطير مع الملائكة ابن أمّي و بنت محمد سكنى و عرسي* منوط لحمها بدمى و لحمى و سبطا أحمد ولداي منها* فأيّكم له سهم كسهمي سبقتكم الى الإسلام طرّا* غلاما ما بلغت أو ان حلمي الصواعق المحرقة ص 130 ط القاهرة-

(2) السبق على المشهور ينقسم الى ستّة أقسام: الزّماني، و الرّتبى، و الشّرفى، و الطبعي، و العلّى، و الماهوى، و زاد عليها صدر المتألهين قسما سابعا، و هو السبق بالحقيقة، و المحقّق الداماد قسما ثامنا و هو السبق الدهري، قال الفيلسوف المتأله السبزواري في منظومته: السبق منه ما زمانيا كشف و السبق بالرتبة ثم بالشرف

و السبق بالطبع و بالعليّةثمّ الّذى يقال بالماهيّة تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 220

و لذا

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله تعالى: السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «1»: إنّها فّي نزلت «2».

و

قال مولانا الصادق عليه السّلام: نحن السابقون، و نحن الآخرون «3».

بل يستفاد من أخبار متواترة أنّ كلّ من آمن باللّه و وحّده و عبده في جميع العوالم فإنّما هو بوساطتهم، و لذا

قالوا: «بنا عرف

اللّه و بنا عبد اللّه» «4».

و

في أخبار كثيرة: «نحن الأعراف الّذين لا يعرف اللّه إلّا بسبيل معرفتنا» «5».

و

في «الجامعة الكبيرة»: «بكم علّمنا اللّه معالم ديننا، و أصلح ما كان فسد من دنيانا».

ثانيها: أنّ القرآن كلّه إنّما نزل فيهم و في شيعتهم، و في أعدائهم.

و ذلك أنّ من الآيات ما نزلت بخصوصها فيهم، و منها ما نزلت في غيرهم، سواء أ كان في شأن أشخاص خصوصا أو عموما، و القصص و الأمثال، أم كان في الفرائض و السنن و الأحكام، و كلّ ذلك ينقسم إلى فروع الإيمان و فروع

______________________________ و السبق بالذّات هو اللذ كان عمّ بذي الثّلاثة الأخير انقسم

بالذّات إن شي ء بدا و بالعرض لاثنين سبق بالحقيقة انتهض

و السبق فكيّا يجي طوليّاسمّى دهريّا و سرمديّا

(1) الواقعة: 10- 11.

(2)

في البحار ج 24 ص 8 ح 22 عن عليّ عليه السّلام قال: «إنّي أسبق السابقين إلى اللّه و إلى رسوله ... إلخ.

(3) بحار الأنوار ج 24 ص 4 ح 11 عن مناقب آل أبى طالب ج 3/ 403.

(4) البحار ج 25 ص 20 ح 31.

(5) البحار ج 24 ص 249 ح 2 عن الاحتجاج ص 121.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 221

الكفر.

فالآيات المتضمّنة لفروع الإيمان و أحكامه و وعده و جزائه، و جميع الطّاعات و العبادات، و الفرائض و السنن، و القصص المتعلّقة بأهل الإيمان من الأنبياء و المرسلين، و الملائكة و الشهداء و الصالحين و الصّديقين، و المستضعفين كلّها نزلت في شيعتهم.

و الآيات المتضمّنة للكفر و النّفاق و الشّرك، و متابعة الأهواء و الفحشاء، و الظّلم، و النّواهى المتعلّقة بها، و الوعيد و التهديد على ذلك، و السجّين، و الظلمة، و القسوة، و القصص المتعلّقة

بالكفّار، و الفرق كلّها، ممّا نزلت في أعدائهم، و لذا

قالوا: «إنّ آيات القرآن نزلت أثلاثا: فثلث فينا، و ثلث في شيعتنا، و ثلث في أعدائنا».

بل و إليه يئول ما

ورد من أنّها نزلت أرباعا: ربع فينا، و ربع في أعدائنا، و ربع فرائض و أحكام، و ربع حلال و حرام.

فإنّ الأخيرين يؤولان إلى الأوّلين على ما سمعت من التقريب.

ثالثها: أنّهم عليهم السّلام أصل كلّ خير و برّ و شرف و إحسان، و منهم ينشعب جميع الخيرات و الذّوات السعيدة الصّالحة حتّى علييّن و ما خلق منه من طين المؤمنين و الملائكة و الجنان، و الأفعال الحسنة و الأقوال الصالحة الصّادقة، و الهيئات و الأشكال المليحة، و الروائح و الألوان الطيّبة، و غير ذلك ممّا يتعلّق بالتكوينيّات، و كذا التشريعيّات في العبادات، و الطاعات المفترضة و المندوبة، و لذا

قالوا: «نحن أصل كلّ خير و برّ، و من فروعنا كلّ برّ، و من البرّ التوحيد،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 222

و الصّلاة و الصّيام ...

الى آخر ما مرّ «1».

و في أخبار طينة الأنبياء و المؤمنين إشارات إلى ذلك، مثل ما

ورد «أنّ جميع الأنبياء و الملائكة و المؤمنين، بل الجنّة و السماوات و الحجب، و السرادقات، و الأعمال الصّالحة كلّها خلقت من فاضل أشعّة أنوارهم عليهم السّلام، و أنّ قلوب شيعتهم خلقت من فاضل طينة أبدانهم عليهم السّلام، و أنّ شيعته منهم لأنّهم خلقوا من شعاع طينتهم «2».

و نظير ذلك كلّه في جانب الشرور و المفاسد و القبايح من طينة خبال و سجّين، و النار، و ما خلق منها من الذّوات و الكينونات، و الصفات و الملكات، و الأفعال، و الخطرات، و الأقوال، و الأشكال و الهيئات الى غير ذلك

من الفروع، و فروع الفروع، و هلّم جرّا.

فالقرآن كلّه بهذا الإعتبار إنّما نزل فيهم و في أعدائهم بعد ملاحظة الأصول و الفروع.

بل الكون الكبير و عالم التكوين منقسم الى نور و ظلمة، و خير و شرّ، و حسن و قبح، و استقامة و انحراف، إلى غير ذلك من الأضداد، فهم أصل الخير و فرعه، و معدنه و مأواه و منتهاه، كما أنّ أعدائهم أصل الشرّ و فرعه ... إلخ.

و لذا وقع التّعبير عنه بجملة من فروعهم تلويحا و تكنية للمؤمنين، و سترا و تقيّة عن المخالفين، فيعبّر عنهم بالصلاة، و الزكاة، و الحجّ، و الكعبة، و غيرها، حسبما سمعت في الأخبار المتقدمة، و غيرها، كما أنّه يعبّر عن أعدائهم بالجبت،

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 303 عن كنز الفوائد ص 2- 3.

(2) البحار ج 25 ص 1 إلى ص 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 223

و الطاغوت، و الشيطان، و الخمر، و الميسر، و الرّجس، و غير ذلك.

قال مولانا الصادق عليه السّلام فيما كتبه في جواب المفضّل على ما رواه في «البصائر» في خبر طويل: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أحلّ حلالا و حرّم حراما إلى يوم القيامة، فمعرفة الرّسل و ولايتهم و طاعتهم هو الحلال، فالمحلّل ما حلّلوا، و المحرّم ما حرّموا، و هم أصله، و منهم الفروع الحلال، و ذلك سعيهم، و من فروعهم أمرهم شيعتهم، و أهل ولايتهم بالحلال و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و صوم شهر رمضان، و حجّ البيت و العمرة، و تعظيم حرمات اللّه و مشاعره. و تعظيم البيت الحرام، و المسجد الحرام، و الشهر الحرام، و الطهور و الاغتسال من الجنابة، و مكارم الأخلاق و محاسنها، و جميع

البرّ، ثمّ ذكر بعد ذلك فقال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «1».

فعدوّهم هم الحرام المحرّم، و أوليائهم الداخلون في أمرهم الى يوم القيامة، فهم الفواحش و ما ظهر منها و ما بطن و الخمر و الميسر، و الزنا و الرّبا، و الدم، و لحم الخنزير، فهم الحرام المحرّم، و أصل كلّ حرام، و هم الشرّ و أصل كلّ شر، و منهم فروع الشرّ كلّه، و من تلك الفروع الحرام، و استحلالهم إيّاها، و من فروعهم تكذيب الأنبياء، و جحود الأوصياء و ركوب الفواحش: الزنا، و السرقة، و شرب الخمر و المسكر، و أكل مال اليتيم، و أكل الربا، و الخدعة، و الخيانة، و ركوب المحارم كلّها، و انتهاك المعاصي.

______________________________

(1) سورة النحل: 90. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 224

و إنّما أمر اللّه بالعدل، و الإحسان، و إيتاء ذي القربى يعنى مودّة ذي القربى و ابتغاء طاعتهم، و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي، و هم أعداء الأنبياء و أوصياء الأنبياء، و هم المنهيّ من مودّتهم و طاعتهم، يعظكم بهذه لعلّكم تذكّرون.

و أخبرك أنّي لو قلت لك: إنّ الفاحشة، و الخمر، و الميسر، و الزّنا، و الميتة، و الدّم، و لحم الخنزير هو رجل، و أنا أعلم أنّ اللّه قد حرّم هذا الأصل و حرّم فرعه و نهى عنه، و جعل ولايته كمن عبد من دون اللّه وثنا و شركا، و من دعا الى عبادة نفسه فهو كفرعون إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» فهذا كلّه على وجه إن شئت قلت: هو رجل و هو الى جهنّم و

من شايعه على ذلك فإنّهم مثل قول اللّه:

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ «2» لصدقت، ثمّ إنّي لو قلت: إنّه فلان ذلك كلّه لصدقت: إنّ فلانا هو المعبود المتعدّي حدود اللّه الّتي نهي أن يتعدّى.

ثمّ إنّي أخبرك إنّ الدين و أصل الدين هو رجل، و ذلك الرجل هو اليقين، و هو الإيمان، و هو إمام أمّته و أهل زمانه، فمن عرفه عرف اللّه و دينه، و من أنكره أنكره اللّه و دينه، و من جهله جهل اللّه و دينه، و لا يعرف اللّه و دينه و حدوده و شرائعه بغير ذلك الإمام، كذلك جرى بأنّ معرفة الرجال دين اللّه «3».

و المعرفة على وجهين: معرفة ثابتة على بصيرة يعرف بها دين اللّه، و يوصل بها الى معرفة اللّه، فهذه المعرفة الباطنة الثابتة الموجبة حقّها المستوجب

______________________________

(1) النازعات: 24.

(2) البقرة: 173.

(3) في نسخة: «فذلك معنى أنّ معرفة الرّجال دين اللّه». تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 225

أهلها عليها الشكر للّه الّتى منّ عليهم بها منّ من اللّه يمنّ به على من يشاء، مع المعرفة الظاهرة، فأهل المعرفة في الظاهر الذين علموا أمرنا بالحقّ على غير علم لا يلحق بأهل المعرفة في الباطن عن بصيرتهم، و لا يصلوا بتلك المعرفة المقصرة إلى حقّ معرفة اللّه كما قال في كتابه: وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «1».

فمن شهد شهادة الحقّ لا يعقد عليه قلبه و لا يبصر ما يتكلّم به لا يثاب عليه مثل ثواب من عقد قلبه و ثبت على بصيرة، و كذلك من تكلّم بجور لا يعقد عليه قلبه لا يعاقب عليه عقوبة من عقد عليه

قلبه و ثبت، فقد عرفت كيف كان حال رجال أهل المعرفة في الظاهر و الإقرار بالحقّ على غير علم في قديم الدّهر و حديثه إلى أن انتهى الأمر إلى نبيّ اللّه، و بعده إلى من صاروا؟

إلى من انتهت إلى معرفتهم، و إنّما عرفوا بمعرفة أعمالهم و دينهم الّذي دان اللّه به المحسن بإحسانه و المسي ء بإسائته، و قد يقال: إنّ من دخل في هذا الأمر بغير يقين و لا بصيرة خرج منه كما دخل فيه، رزقنا اللّه و إيّاك معرفة ثابتة على بصيرة.

و أخبرك أنّى لو قلت: إنّ الصلاة و الزكاة و صوم شهر رمضان، و الحجّ و العمرة، و المسجد الحرام، و البيت الحرام، و المشعر الحرام، و الطهور، و الاغتسال من الجنابة، و كل فريضة كان ذلك هو النبي الّذى جاء به من عند ربّه لصدقت، لأنّ ذلك كلّه إنّما يعرف بالنبيّ، و لو لا معرفة ذلك النبيّ و الإيمان به و التسليم له ما عرف ذلك، فذلك منّ اللّه على من يمنّ عليه، و لو لا ذلك لم نعرف

______________________________

(1) الزخرف: 86. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 226

شيئا من هذا، فهذا كلّه ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أصله و فرعه، و هو دعاني إليه، و دلّني عليه، و عرّفنيه، و أمرنى به، و أوجب عليّ له الطاعة فيما أمرني به لا يسعني جهله، و كيف يسعني جهل من هو فيما بيني و بين اللّه، و كيف يستقيم لي لو لا أنّي أصف أنّ ديني هو الّذى أتانى به ذلك النبيّ، أن أصف أنّ الدين غيره؟ و كيف لا يكون ذلك معرفة الرّجل، و إنّما هو الّذى جاء به من

عند اللّه ... إلى أن قال: فاللّه تبارك و تعالى إنّما أحبّ أن يعرف بالرّجال، و أن يطاع بطاعتهم، فجعلهم سبيله، و وجهه الذي يؤتى منه، لا يقبل اللّه من العباد غير ذلك، لا يسئل عمّا يفعل و هم يسألون، فقال فيما أوجب من محبّته لذلك:

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «1».

فمن قال لك: إنّ هذه الفرائض كلّها إنّما هي رجل، و هو يعرف حدّ ما يتكلّم به فقد صدق، و من قال على الصفة الّتى ذكرت بغير الطاعة فلا يغني التمسّك بالأصل بترك الفرع، كما لا تغني شهادة أن لا إله إلّا اللّه بترك شهادة أنّ محمّدا رسول اللّه. و لم يبعث اللّه نبيّا قطّ إلّا بالبرّ و العدل، و المكارم، و محاسن الأخلاق، و النهى عن الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، فالباطن منه ولاية أهل الباطل، و الظاهر منه فروعهم، و لم يبعث اللّه نبيّا قطّ يدعو الى معرفة ليس معها طاعة في أمر أو نهى، فإنّما يقبل اللّه من العباد العمل بالفرائض الّتى افترضها اللّه على حدودها مع معرفة من جاءهم به من عنده و دعاهم إليه ... الخبر بطوله «2».

______________________________

(1) النساء: 80.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 286- ص 298 نقلا عن البصائر ص 154.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 227

رابعها: ما نبّه عليه بعض «1» الأعلام في هذا المقام. و هو أنّ أحكام اللّه سبحانه إنّما تجري على الحقائق الكلّية و المقامات النوعيّة دون خصائص الأفراد و الآحاد، فحيثما خوطب قوم بخطاب أو نسب إليهم فعل دخل في ذلك الخطاب و ذلك الفعل عند العلماء و أولى الألباب كلّ من كان من

سنخ أولئك القوم و طينتهم، فصفوة اللّه تعالى حيثما خوطبوا بمكرمة أو نسبوا إلى أنفسهم مكرمة يشمل ذلك كلّ من كان من سنخهم و طينتهم من الأنبياء و الأولياء، و كلّ من كان من المقرّبين إلّا مكرمة خصّوا بها دون غيرهم، و كذلك إذا خوطبت شيعتهم بخير أو نسب إليهم خير أو خوطب أعدائهم بسوء، و نسب إليهم سوء يدخل في الأوّل كلّ من كان من سنخ شيعتهم و طينة محبّيهم، و في الثاني كلّ من كان من سنخ أعدائهم و طينة مبغضيهم من الأوّلين و الآخرين، و ذلك لأنّ كلّ من أحبّه اللّه و رسوله أحبّه كلّ مؤمن من ابتداء الخلق إلى انتهائه، و كلّ من أبغضه اللّه و رسوله أبغضه كلّ مؤمن، كذلك هو يبغض كلّ من أحبّه اللّه تعالى و رسوله، فكلّ مؤمن في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من شيعتهم و محبّيهم، و كلّ جاحد في العالم قديما أو حديثا الى يوم القيامة فهو من مخالفيهم و مبغضيهم.

و قد وردت الإشارة الى ذلك في كلام الصادق عليه السّلام في حديث المفضّل بن عمر، و هو الّذى

رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب «علل الشرائع» باسناده الى المفضّل بن عمر قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: بما صار عليّ أبى طالب عليه السّلام قسيم الجنّة و النّار؟ قال: لأنّ حبّه إيمان و بغضه كفر، و إنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان

______________________________

(1) هو الشيخ الأجلّ العالم الربّانى و الفاضل الصمداني محمد محسن الفيض الكاشاني المتوفّى سنة (1091 ه) و مرقده معروف في كاشان موئل للزائرين و العاكفين و ما نبّه عليه في «تفسير الصافي» المقدمة الثالثة. تفسير الصراط المستقيم،

ج 2، ص: 228

و خلقت النّار لأهل الكفر، فهو عليه السّلام قسيم الجنّة و النّار لهذه العلّة، و الجنّة لا يدخلها إلّا أهل محبّته، و النار لا يدخلها إلّا أهل بغضه، قال المفضّل: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فالأنبياء و الأوصياء هل كانوا يحبّونه و أعداؤهم يبغضونه؟ فقال: نعم، قلت: فكيف ذلك؟ قال: أما علمت أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال يوم خيبر: لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ اللّه تعالى و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، ما يرجع حتّى يفتح اللّه على يده؟ قلت: بلى، قال: أما علمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أوتي بالطير المشويّ قال: أللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معى هذا الطير، و عنى به عليّا؟ قلت:

بلى، قال: يجوز أن الا يحبّ أنبياء اللّه و رسله و أوصيائهم عليهم السّلام رجلا يحبه اللّه و رسوله، و يحبّ اللّه و رسوله؟ فقلت: لا، قال: فهل يجوز أن يكون المؤمنون من أممهم لا يحبّون حبيب اللّه و حبيب رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أنبيائه؟ قلت: لا، قال: فقد ثبت أنّ جميع أنبياء اللّه و رسله و جميع المؤمنين كانوا لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام محبّين، و ثبت أنّ المخالفين لهم كانوا له و لجميع أهل محبّته مبغضين، قلت: نعم، قال:

فلا يدخل الجنّة إلّا من أحبّه من الأوّلين و الآخرين، فهو إذن قسيم الجنّة و النّار، قال المفضّل: فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرجّت عنّي فرّج اللّه عنك فزدني ممّا علّمك اللّه تعالى، فقال: سل يا مفضّل، فقلت: أسأل يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله، فعليّ بن أبي طالب عليه السّلام يدخل محبّه الجنّة و مبغضه النار أو رضوان و مالك؟ فقال: يا مفضّل أما علمت أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث رسوله و هو روح الى الأنبياء عليهم السّلام و هم أرواح قبل خلق الخلق بألفى عام؟ قلت: بلى قال: أما علمت أنّه دعاهم إلى توحيد اللّه و طاعته، و اتّباع أمره، و وعدهم الجنّة على ذلك، و أوعد من خالف ما أجابوا إليه و أنكره النار؟ فقلت: بلى، قال عليه السّلام: أ فليس النبي ضامنا لما وعد و أوعد عن ربّه عزّ و جلّ؟ قلت: بلى، قال عليه السّلام: أو ليس على بن أبي طالب عليه السّلام خليفته و إمام أمّته؟ قلت: بلى، قال عليه السّلام: أو ليس رضوان و مالك من جملة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 229

الملائكة المستغفرين لشيعته الناجين بمحبّته؟ قلت: بلى، قال عليه السّلام: فعليّ بن أبي طالب صلوات اللّه و سلامه عليه إذن قسيم الجنّة و النّار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رضوان و مالك صادران عن أمره بأمر اللّه تبارك و تعالى، يا مفضّل خذ هذا فإنّه من مخزون العلم و مكنونه لا تخرجه إلّا إلى أهله «1».

أقول: أنّ مجرّد السنخيّة و النوعيّة و إن أفاد شمول الخطابات و عموم الأحكام بعد مساعدة ما يدلّ على عموم الموضوع تنزيلا أو تأويلا إلّا أنّه لا يقضى باختصاص القرآن بهم و بشيعتهم و أعدائهم إلّا مع ملاحظة الأصالة التبعيّة حسبما سمعت فيما استفدناه من الأخبار، و إلّا فكلّ الناس في ذلك شرع سوء، فأين الإختصاص، و على كلّ حال فالأخبار متواترة على نزول القرآن فيهم و في شيعتهم

و في أعدائهم، بل هذا الأمر كان مشهورا عند المؤالف و المخالف.

ففي الاحتجاج عن سليم بن قيس قال: قدم معاوية بن أبي سفيان حاجّا في خلافته فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الّذين استقبلوه ما منهم قرشي فلمّا نزل قال: ما فعلت الأنصار و ما بالهم لم يستقبلوني؟

فقيل لهم: إنّهم محتاجون ليس لهم دوابّ، فقال معاوية: و أين نواضحهم؟

فقال قيس «2» بن سعد بن عبادة، و كان سيّد الأنصار و ابن سيّدها: أفنوها يوم بدر و أحد و ما بعدهما من مشاهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين ضربوك و أباك على الإسلام

______________________________

(1) تفسير الصافي ج 1 ص 15 المقدمة الثالثة عن علل الشرائع ص 65- بحار الأنوار ج 39 ص 194 عن العلل.

(2) قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصارى الخزرجي المدني صحابيّ من دهاة العرب و أجوادهم، كان بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة الشرطي من الأمير، و كان من أطول الناس و أجملهم، هرب من معاوية سنة (58)، و سكن تفليس فمات بها سنة (60)، الاعلام ج 6/ 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 230

حتى ظهر أمر اللّه و هم كارهون.

ثمّ إنّ معاوية مرّ بحلقة من قريش فلمّا رأوه قاموا غير عبد اللّه ابن عبّاس، فقال له: يا بن عبّاس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا لموجدة أنّي قاتلتكم بصفّين فلا تجد من ذلك يا ابن عبّاس فإنّ ابن عمّى عثمان قتل مظلوما، قال ابن عبّاس: فعمر بن الخطّاب قد قتل مظلوما، قال: إنّ عمر قتله كافر، قال ابن عبّاس: فمن قتل عثمان؟ قال: قتله المسلمون، قال: فذلك أدحض لحجّتك.

قال: فإنّا قد كتبنا في الآفاق

ننهى عن ذكر مناقب عليّ و أهل بيته فكفّ لسانك، فقال: يا معاوية أ تنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا، قال: أ فتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم، قال: فنقرأ و لا نسأل عمّا عنى اللّه به، ثمّ قال: فأيّهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به، قال: كيف العمل به و لا نعلم ما عنى اللّه؟

قال: سل عن ذلك من يتأوّله على غير ما تتأوّله أنت و أهل بيتك، قال: إنّما أنزل القرآن على أهل بيتي أسأل عنه آل أبي سفيان؟ يا معاوية أ تنهانا أن نعبد اللّه تعالى بالقرآن بما فيه من حلال و حرام فإن لم تسأل الامّة عن ذلك حتى تعلم تهلك و تختلف، قال: اقرءوا القرآن و تأوّلوه و لا ترووا شيئا ممّا أنزل اللّه فيكم و ارووا ما سوى ذلك، قال: فإنّ اللّه تعالى يقول في القرآن: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «1» قال: يا ابن عبّاس اربع «2» على نفسك و كفّ لسانك، و إن كنت لا بدّ فاعلا فليكن ذلك سرّا لا يسمعه أحد علانية، ثمّ رجع إلى بيته، فبعث إليه بمائة ألف درهم، و نادى منادي معاوية: أن برئت الذمّة ممّن يروى حديثا من مناقب عليّ و فضل أهل

______________________________

(1) التوبة: 32.

(2) اربع عليك أو على نفسك أو على ضلعك: اى توقّف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 231

بيته عليهم السّلام ... الخبر بطوله «1».

و رواه سليم بن قيس في كتابه بوجه أبسط، و فيه: أنّه قال ابن عبّاس: إنّما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان، و آل أبي معيط، و

اليهود، و النصارى، و المجوس، قال: فقد عدلتني بهؤلاء، قال: لعمري ما أعدلك بهم إلّا إذا نهيت الأمّة أن يعبدوا اللّه بالقرآن بما فيه من أمر أو نهى، أو حلال أو حرام، أو ناسخ أو منسوخ، أو عامّ أو خاصّ، أو محكم أو متشابه، و إن لم تسأل الأمّة عن ذلك هلكوا و اختلفوا و تاهوا «2».

خامسها: أنّ لمولانا أمير المؤمنين و ذريّته المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين في كتاب اللّه أسماء شريفة و ألقابها منيفة كما أشير إلى بعض منها في الأخبار المتقدّمة.

و

في «المناقب» مسندا عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و خطب أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السّلام بالكوفة عند منصرفه من النهروان، و بلغه أنّ معاوية يسبه و يعيبه و يقتل أصحابه فقام خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذكر ما أنعم اللّه تعالى على نبيّه و عليه، ثمّ قال: لو لا آية في كتاب اللّه تعالى ما ذكرت ما أنا ذاكره في مقامي هذا، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «3» اللهمّ لك الحمد على نعمك الّتى لا تحصى، و فضلك الّذي لا ينسى، يا أيّها النّاس إنّه بلغني ما بلغني، و إنّي قد أراني قد اقترب أجلى، و كأنّي بكم و قد جهلتم أمرى، و إنّي تارك فيكم ما تركه رسول اللّه: كتاب اللّه و عترتي، و هي عترة الهادي النّجاة: خاتم الأنبياء، و سيّد النجباء، و النبيّ

______________________________

(1) الإحتجاج للطبرسي ج 2 ص 15 ط النجف الأشرف.

(2) الإحتجاج للطبرسي ج 2 ص 15 ط النجف الأشرف.

(3) الضحى: 11. تفسير الصراط

المستقيم، ج 2، ص: 232

المصطفى، يا أيها النّاس لعلّكم لا تسمعون قائلا يقول مثل قولي بعدي إلّا مفتر، أنا أخو رسول اللّه، و ابن عمّه، و سيف نقمته، و عماد نصرته و بأسه و شدّته، أنا رحى جهنّم الدائرة، و أضراسها الطاحنة، أنا مؤتم البنين و البنات، أنا قابض الأرواح، و بأس اللّه الّذى لا يردّه عن القوم المجرمين، أنا مجدّل الأبطال، و قاتل الفرسان، و مبيد من كفر بالرحمن، و صهر خير الأنام، أنا سيّد الأوصياء، و وصيّ خير الأنبياء، أنا باب مدينة العلم، و خازن علم رسول اللّه و وارثه، أنا زوج البتول سيّدة نساء العالمين، فاطمة التقيّة النقيّة الزكيّة البرّة المهديّة حبيبة حبيب اللّه، و خير بناته و سلالته، و ريحانة رسول اللّه، سبطاه خير الأسباط، و ولداي خير الأولاد، هل أحد ينكر ما أقول؟

أين مسلموا أهل الكتاب؟ أنا اسمى في الإنجيل أليا، و في التوراة بريّا، و في الزّبور أديّ، و عند الهند كبكر، و عند الروم بطريا و عند الفرس جبتر، و عند الترك بثير، و عند الزنج حيتر، و عند الكهنة بوى ء، و عند الحبشة بثريك، و عند أمّي حيدرة، و عند ظئرى «1» الميمون، و عند العرب عليّ، و عند الأرمن فريق و عند أبي ظهير، ألا و إنّي مخصوص في القرآن بأسماء احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم، يقول اللّه عزّ و جلّ: «إنّ اللّه مع الصادقين» «2».

و أنا المؤذّن في الدّنيا و الآخرة، قال اللّه عزّ و جلّ: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «3» أنا ذلك المؤذّن، و قال:

______________________________

(1) الظئر (بكسر الظاء): العاطفة على ولد غيرها- المرضعة لولد غيرها.

(2) ليست هذه الجملة بعينها

في القرآن و لكن مفادها يستفاد من سورة البقرة الآية (177) و الآية (194).

(3) الأعراف: 43. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 233

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ «1».

و أنا المحسن يقول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «2» و أنا ذو القلب يقول اللّه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «3» و أنا الذّاكر يقول اللّه:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ «4».

و نحن أصحاب الأعراف: أنا و عمّى، و أخي، و ابن عمّى، و اللّه فالق الحبّ و النوى لا يلج النار لنا محبّ، و لا يدخل الجنّة لنا مبغض، يقول اللّه عزّ و جلّ:

وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ «5».

و أنا الصّهر، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً «6».

و أنا الاذن الواعية، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «7».

و انا السلم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ «8».

و من ولدي مهديّ هذه الامّة، ألا و قد جعلت محنتكم، ببغضي يعرف المنافقون، و بمحنتى امتحن اللّه المؤمنين، هذا عهد النبي الامّي: «ألا إنّه لا يحبّك

______________________________

(1) التوبة: 3.

(2) العنكبوت: 69.

(3) ق: 36.

(4) آل عمران: 188.

(5) الأعراف: 44.

(6) الفرقان: 56.

(7) الحاقّة: 12.

(8) الزمر: 30. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 234

إلّا مؤمن و لا يبغضك إلّا منافق»، و أنا صاحب لواء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الدّنيا و الآخرة، و رسول اللّه فرطي، و أنا فرط شيعتي، و اللّه لا عطش محبّى، و لا خاف وليّي، أنا وليّ المؤمنين، و اللّه وليّي، حسب

محبّى أن يحبّوا ما أحبّ اللّه، و حسب مبغضي أن يبغضوا ما أحب اللّه، ألا و إنّه بلغني أنّ معاوية سبّنى و لعنني، أللهمّ اشدد وطأتك عليه و أنزل اللّعنة على المستحقّ، آمين ربّ العالمين، ربّ إسماعيل، و باعث إبراهيم إنّك حميد مجيد».

ثمّ نزل عليه السّلام عن أعواده فما عاد إليها حتّى قتله ابن ملجم لعنه اللّه.

قال جابر «1»: سنأتي على تأويل ما ذكرنا من أسمائه:

أمّا قوله: انا اسمى في الإنجيل «أليا» فهو عليّ بلسان العرب.

و في التوراة «برى ء» قال: بري ء من الشرك.

و عند الكهنة «بوي ء» هو من تبوّء مكانا، و بوّأ غيره مكانا، و هو الّذى يبوّء الحقّ منازله، و يبطل الباطل و يفسده.

و في الزبور «أدىّ» و هو السّبع الّذي يدقّ العظم و يفرس اللحم.

و عند الهند «كبكر» قال: يقرءون في كتب عندهم فيها ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذكر فيها أن ناصره «كبكر» و هو الّذي إذا أراد شيئا لجّ فيه و لم يفارقه حتّى يبلغه.

و عند الرّوم «بطريسا» قال: مختلس الأرواح.

______________________________

(1) هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي أبو عبد اللّه التابعي، واسع الرواية غزير العلم، و توفّى بالكوفة سنة (128 ه)- الأعلام ج 2/ 93. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 235

و عند الفرس «حبتر» و هو البازي الّذي يصطاد.

و عند الترك «بثير» قال: هو النمر الّذي إذا وضع مخلبه في شي ء هتكه.

و عند الزنج «حيتر» قال: و هو الّذي يقطع الأوصال.

و عند الحبشة «بثريك» قال: هو المدمّر على كلّ شي ء، أتى عليه.

و عند أمّى «حيدرة» قال: هو الحازم الرأى، الخبير النقّاب «1» النظّار في دقائق الأشياء.

و عند ظئرى «ميمون»، قال جابر: أخبرنى محمّد بن على عليهما

السّلام قال: كانت ظئر علي عليه السّلام الّتى أرضعته امرأة من بنى هلال، خلفته في خبائها «2»، و معه أخ له من الرضاعة، و كان أكبر منه سنّا بسنة إلّا أياما، و كان عند الخباء قليب، فمرّ الصبيّ نحو القليب و نكس رأسه فيه فحبا «3» عليّ عليه السّلام خلفه، فتعلّقت رجله بطنب الخيمة، فجرّ الحبل حتّى أتى على أخيه، فتعلّق بإحدى رجليه بيده و إحدى يديه بفيه، فجاءته أمّه و أدركته فنادت يا للححيّ يا للححيّ من غلام ميمون أمسك على ولدي، فأخذوا الطفل من عند رأس القليب، و هم يعجبون من قوّته على صباه و لتعلّق رجله بالطنب و لجرّه الطفل حتّى أدركوه فسمّته أمّه ميمونا أى مباركا فكان الغلام في بني هلال يعرف بمعلّق ميمون و ولده إلى اليوم.

و عند الأزمن «فريق» قال: الفريق: الجسور الّذي يهابه النّاس.

و عند أبي «ظهير» قال: كان أبوه يجمع ولده و ولد إخوته ثمّ يأمرهم

______________________________

(1) النقّاب: النافذ في الأمور و الذي يبالغ في البحث عنها.

(2) الخباء (بكسر الخاء) ما يعمل من وبر أو صوف أو شعر للمسكن.

(3) حبا: الولد: زحف على يديه و بطنه. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 236

بالصّراع و ذلك خلق في العرب. و كان عليّ عليه السّلام يحسر عن ساعدين له غليظين قصيرين و هو طفل، ثمّ يصارع كبار إخوته و صغارهم و كبار بنى عمّه و صغارهم فيصرعهم، فيقول أبوه: ظهر عليّ فسمّى ظهيرا.

و عند العرب عليّ، قال جابر: اختلف الناس من أهل المعرفة لم سمّي عليّ عليّا، فقالت طائفة: لم يسمّ أحد من ولد آدم قبله بهذا الاسم في العرب و لا في العجم، إلّا أن يكون الرجل من العرب

يقول: ابني هذا عليّ يريد من العلوّ لا أنّه اسمه، و إنّما تسمّى الناس به بعده و في وقته.

و قالت طائفة: سمّى عليّ عليّا لعلوّه على كلّ من بارزه.

و قالت طائفة: سمّي عليّ عليّا لأنّ داره في الجنان تعلو حتّى تحاذي منازل الأنبياء، و ليس نبيّ تعلو منزلته منزلة عليّ.

و قالت طائفّة: سمّي عليّ عليّا لأنّه علا ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقدميه طاعة اللّه عزّ و جلّ. و لم يعل أحد على ظهر نبيّ غيره عند حطّ الأصنام من سطح الكعبة.

و قالت طائفة: سمّى عليّ عليّا لأنّه زوّج في أعلى السماوات. و لم يزوّج أحد من خلق اللّه عزّ و جلّ في ذلك الموضع غيره.

و قالت طائفة: إنّما سمّي عليّ عليّا لأنّه كان أعلى الناس علما بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1»

______________________________

(1) معاني الأخبار ص 58- 63- بحار الأنوار ج 35 ص 45- ص 48 عن المعاني، و المؤلّف نقله عن المناقب و الظاهر أنّ مراده «المناقب» لابن شهر آشوب، و لكن ما وجدته فيه، نعم الأسماء المذكورة موجودة في القصيدة المذهبّة لأبى محمّد طلحة بن عبيد اللّه العوني المصري المتوفّى حدود (350) ه مع تفاوت يسير و نقل بعضها في «المناقب» و أذكر القصيدة تيمنّا و تبرّكا: وسائل عن العليّ الشانى هل نصّ فيه اللّه بالقرآن تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 237

______________________________ بأنّه الوصيّ دون ثان لأحمد المطهّر العدناني

فاذكر لنا نصّا به جليّاأجبت يكفى (خمّ) بالخصوص

من آية التبليغ بالمخصوص و جملة الأخبار و النصوص

غير الذي انتاشت يد اللصوص و كتّمته ترتضي أميّا

أما سمعت يا بعيد الذهن ما قاله أحمد كالمهنّى

أنت كهارون لموسى منّي إذ قال موسى لأخيه اخلفني

فاسألهم لم خالفوا الوصيّاأما سمعت خبر المباهلة

أما علمت أنّها مفاضلةبين الورى فهل رأى من عادلة

في الفضل عند ربّه و قابله و لم يكن قربّه نجيّا

أمّا سمعت أنّا أوصاه و كان ذا فقر كما تراه

فخصّ بالدين الذي يرعاه فإن عداه و هو ما عداه

غادر دينا لم يكن مرعيّافقال: هل من آية تدلّ

على عليّ الطهر لا تعلّ بحيث فيها الطهر يستقلّ

تدنيه للفضل فيقصي كلّ و يغتدي من دونه مقصيّا

فقلت إنّ اللّه جلّ قالاإذ شرّف الآباء و الأنسالا

و آل إبراهيم فازوا إلّاإنّا وهبنا لهم إفضالا

لسان صدق منهم عليّافكان إبراهيم ربانيّا

ثمّ رسولا منذرا رضيّاثمّ خليلا صفوة صفيّا

ثمّ إماما هاديا مهديّاو كان عند ربّه مرضيّا

فعندها قال: «و من ذريّتى»قال له: لا لن ينال رحمتي

و عهدي الظّالم من بريتي أبت لملكى ذاك وحدانيّتى

سبحانه لا زال وحدانيّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 238

______________________________ فالمصطفى الآمر فينا النّاهى و عادم الأمثال و الأشباه

فالفعل منه و المقال الزاهي لم يصدر إلا بأمر اللّه

لم يتقوّل أبدا فريّاإن كان غير ناطق عن الهوى

إلّا بأمر مبرم من ذي القربى فكيف أقصاهم و أدنى المجتوى

إذن لقد ضلّ ضلالا و غوى و لم يكن حاشا له غويّا

لكنّما الأقوام في السقيفةقد نصبوا برأيهم خليفة

و كان في شغل و في وظيفةمن غسل تلك الدّرة النظيفة

و حزنه الّذى له تهيّاحتّى إذا قضى الخليفة انتخب

من عقد الأمر له بين العرب ثم قضى و اختار منهم من أحبّ

و إن تكن شورى فللشورى سبب إذ كان ذا ترتيبه مقضيّا

ثمّ قضى ثالثهم فانشالواله الرّجال تتبع الرجال

فلم تسع غير القبول الحال فقام و الرضا به محال

إذ كان كلّ يتمنّى شيئافغاضبت أوّلهم ذات الجمل

و قام معها الرّجلان في العمل فردّهم سيف القضاء و فصل

و لم يكن قد سبق السيف العذل فقد تأتّى حربهم مليّا

و غاضب الثاني لأمر سالف فاجتاحه بذي الفقار القاصف

و أصبح الناصر كالمخالف إذ شكت الرّماح بالمصاحف

و أخذ الانحدار و الرقياو كان أن يردّ للتسليم

إذ ردّ للاحبش في الهزيم فأعمل الحيلة في التحكيم

بأمر شيطانهم الرّجيم ففي الرعاة حكّم الرّعيّا

فلم يجد للكفّ من مناص و أخذ التحكيم بالنواصي

فجاء أهل الشام بابن العاص فاحتال فيها حيلة القناص تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 239

______________________________ غرّ أبا موسى الأشعريّاقام أبو موسى فويق المنبر

و قال: إنّى خالع بحيدركما خلعت خاتمي من خنصر

ثم جعلتها لنجل عمريا عمر و قم أنت اخلع الشاميّا

فقال عمرو: أيّها الناس اشهدواأن خلع الّذى له يعتمد

ثمّ اسمعوا قولي و لا تردّوابه فإني لابن هند أعقد

فاتخذوه مذهبا عمريّافما ترى أنت بهذى الحال

من المقال و من الأفعال لا تدخل المفتاح في الأقفال

تفتح عن الاضغان و الأذحال و ما يكون في الحشا مطويّا

إنّ عليّا عند أهل العلم أوّل من سمّى بهذا الاسم

قد ناله من ربّه في الحكم على يدي أخيه و ابن الفم

وحيا قديم الفضل عد عليّاو هو الذي سمّى في التوراة

عند أولى هاد من الهداةبالنصّ و التصريح في البراة

برغم من سيئ من العداةمن كلّ عيب في الورى بريّا

و هو الذي يعرف عند الكهنةإذ جمعوا التوراة في الممتحنة

فأخذوا من كل شي ء أحسنه و هم لتوراة الكليم خزنة

ليورد الحقّ لهم بويّاو هو الذي يعرف في الإنجيل

برتبة الإعظام و التبجيل و ميزة الغرة و التحجيل

و فوزة الرقيب للمجيل و كان يدعى عندهم أليّا

و هو الذي يعرف بالزبورزبور داود حليف النور

و ذي

العلا و العلم المنشورفي اسم الهزبر الأسد الهصور

ليث الوغا اعنى به أريّاو هو الّذي تدعوه ما بين الورى

أكابر الهند و أشياخ القرى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 240

______________________________ ذو و العلوم منهم بكنكرالأنّه كان عظيما خطرا

و كنكر كان له سميّاو هو الذي يعرف عند الروم

ببطرس القوّة و العلوم و صاحب السرّ لها المكتوم

و مالك المنطوق و المفهوم و من يكن ذا يدع بطرسيّا

و هو الذي يعرف عند الفرس لدى التعاليم و عند الدرس

بغرسنا و ذاك اسم قدسي معناه قابض بكلّ نفس

كما دعوه عندهم بارياو هو الذي يعرف عند الترك

تيرا و ذاك مشبه المحكّ و أنّه يرفع كلّ شكّ

عن كلّ حاك قوله و محكي إذا عرفت المنطق التركيا

و هو الذي يدعونه في الحبش بتريك أى مدبّر لا يختشى

لقدرة به و بطش مدهش و ينعتونه بأقوى قرشي

فاسئل به من يعرف الحبشياو هو الّذى يعرف عند الزّنج

بحنبنى أى مهلك و منجى و قاطع الطريق في المحجّ

إلّا بإذن في سلوك النهج فإن أردت فاسأل الزنجيّا

و هو فريق بلسان الأرمن فاروقه الحق لكلّ مؤمن

تعرفه اعلامهم في الزمن فاسأل به ان كنت ممّن يعتنى

تحقيقه من كان أرمنياو هو الذي سمّته تلك الجوهرة

إذ ولدت في الكعبة المطهّرةو خرّجت به فقال الجمهرة

من ذا؟ فقالت: هو شبلي حيدرةولدته مطهّرا قدسيّا

هذا و قد لقبّه ظهيراأبوه إذ شاهده صغيرا

يصرع من إخوانه الكبيرامشمّرا عن ساعد تشهيرا

و كان عبلا فتلا قويّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 241

______________________________ و لقّبته ظئره ميموناإذ رأت السعد به مقرونا

فكان درّا عندها مكنونايحمى أخا رضاعه المنونا

ثمّ يدر ثديها الأبيّاو اسم أخيه في بنى هلال

معلّق الميمون بالحبال يذكره في سمر الليالي

رجالهم فاسمع من الرجال موهبة خصّ بها صبيّا

و الاسم عند اللّه في العلى عليّ و هو الصحيح و الصريح و الجلي

اشتقّه من اسمه في الأزل كمثل ما اشتقّ لخير الرسل

و منح النبيّ و الوصيّاو اتّفقت آراء أهل العلم

على اسمه من دون معنى الاسم فاختلفت في قصده و الفهم

له و كلّ لم يطش بسهم إذ قد أصاب الغرض المرقيّا

فقام قوم: قد علا برازاأقرانه و ابتزّها ابتزازا

فما رآه القرن إلا انحازاو كان دونا سافلا فامتازا

فهو عليّ إذ علا العديّاو قال قوم: قد علا مكانا

متن النبيّ و رمى الأوثاناإذ لم يطق حمل نبي كانا

من ثقل الوحي حكى ثهلانافنال منه المنزل العليّا

و قال فرقة عليّ الدّارفي جنّة الخلد مع المختار

علّاه ذو العرش على الأبرارفي روضة تزهو و في أنهار

فنال منه المرتضى العلويّاو قال فرقة علاهم علما

فكان أقضاهم لذاك حكماو من الى القضاء قد تسمّى

يكون أعلى رفعة و أسمى فوال ذاك العالم السميّا

ودع تأويل الكتاب و الخبرو خذ بما بان لديك و ظهر

قد خاطب اللّه به خير البشرليفهموا الأحكام في بادي النظر تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 242

______________________________ و يعرفوا النبيّ و الوصيّاو استمسكن بالعروة الوثقى الّتى

لم تنفصم عنه و لم تنفلت تمش على الصراط لم تلتفت

في قدم رأس و قلب مثبت حتى تجوز سالما سويّا

إلى جنان الخلد في أعلى الرتب إذ ينثنى كل امرء مع من أحبّ

موهبة ممّن له الشكر وجب فهو أبرّ خالق و خير ربّ

عزّ و جلّ ملكا قويّايا ربّ عبدك الّذى غمرته

بالفضل و الإنعام مذ صيّرته و قد عصى جهلا و قد أمرته

إن تاب فالذنب له غفرته قد تبت فاغفر ذنبي العديّا

يا ربّ

ما لي عمل سوى الولالا حمد و آله أهل العلا

صنو الرسول و الوصي المبتلاو فاطم و الحسنين في الملاء

غرّا تزين العرش و الكرسيّاثم عليّ و ابنه محمّد

و جعفر الصدق و موسى المهتدى ثم عليّ و الجواد الأجود

محمّد ثم عليّ الأمجدو الحسن الذي جلا المهديّا

فأعطني بهم جمال الدنياو راحة القبر زمان البقيا

و الأمن و الستر بحشر المحياو الريّ من كوثر أهل السقيا

و الحشر معهم في العلى سويايا طلح إن تختم بهذا في العمل

لم يدن منك فزع و لا وجل و أنت طلح الخير إن جاء الأجل

بالأجر من ربّ الورى عزّ و جلّ كفى بربّى راحما كفيّا

الغدير ج 4 ص 156- 161.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 243

الباب العاشر

اشارة

في اعجاز القرآن

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 245

لا ريب في كون القرآن معجزة من معجزات سيّد الأنام عليه و على آله أفضل الصلاة و السلام، باقية على مرّ الدهور و الأعوام و الشهور و الأيّام، و إنّما الكلام في جهة إعجازه و كيفيّته، فاختلفوا فيه على أقوال:

أحدها: أنّه معجز بفصاحته، ذهب إليه كثير من المتكلمين، و اختاره الجبّائيان «1»، و الرازي، و المحكىّ عن الفاضل العلّامة أعلى اللّه مقامه ذلك في «المناهج» و هو الظاهر منه في كتابه «نهج المسترشدين» و يظهر أيضا من علماء المعاني و البيان حيث ذكروا أنّ من فوائده كشف الأستار عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن.

و لا ينافيه ما ذكره بعضهم من أنّ مدرك الأعجاز هو الذوق ليس إلّا، سيّما بعد تصريحهم بأنّ وجه الإعجاز أمر من جنس الفصاحة و البلاغة، نعم عن بعضهم أنّه لا علم بعد علم الأصول اكشف للقناع عن وجه الإعجاز من هذين

العلمين، و فيه إيماء إلى أنّ من وجوه الإعجاز أيضا عنده اشتماله على العلوم الحقيقيّة و المعارف الربانية.

______________________________

(1) الجبّائيان: هما أبو على محمّد بن عبد الوهاب كان من الأئمّة المعتزلة و رئيس علماء الكلام في عصره، ولد في جبّا (خوزستان) و اشتهر في البصرة، و توفي فيه سنة (303) ه تنسب إليه الطائفة الجبّائيّة، و ابنه أبو هاشم عبد السلام ابن محمّد، هو أيضا من كبار المعتزلة نسب إليه الطائفة البهشميّة، تعلّم على أبيه، و توفّى ببغداد سنة (321 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 246

ثانيها: إعجازه من حيث الأسلوب و عنوا به الفنّ و الضرب.

ثالثها: ما ذهب إليه الجويني «1» من أنّه معجز بفصاحته و أسلوبه معا، قال:

لأنّ كلّ واحد منهما غير متعذّر على العرب، لأنّه وجد في كلامهم ما هو بفصاحته و ليس مثل أسلوبه، و كلام مسيلمة «2» كأسلوبه و ليس كفصاحته، و أمّا مجموعهما فغير مقدور للخلق.

رابعها: ما يحكى عن الشيخ كمال الدين «3» ميثم البحراني من أنّه معجز بأمور ثلاثة معا: فصاحته، و أسلوبه، و اشتماله على العلوم الشريفة من علم التوحيد و السلوك الى اللّه تعالى، و تهذيب الأخلاق، فإن الفصاحة خاصّة قد وجدت في كلام العرب، و الأسلوب و إن أمكن عند التكلّف، لكن اجتماعه مع الفصاحة نادر، لأنّ تكلّف الأسلوب مذهب بالفصاحة، و أمّا العلوم الشريفة فلم يوجد لها عين و لا أثر إلّا ما يوجد في كلام قسّ بن «4» ساعدة و أضرابه ممّن وقف على الكتب الإلهيّة نقلا من غيره.

و الحاصل أن كلامهم يوجد فيه ما يناسب بعض القرآن في الفصاحة و هو في مناسبته له في أسلوبه أبعد، و أمّا في العلوم المذكورة فأشدّ بعدا.

خامسها:

أنّه خلوّه من التناقض كما أشار إليه سبحانه بقوله:

______________________________

(1) الظاهر انّ المراد به هو عبد الملك بن عبد اللّه أبو المعالي الفقيه الشافعي توفي سنة (478 ه) نيسابور.

(2) هو أبو ثمامة مسيلمة بن حبيب اليمامي ادّعى النبوة قبل الهجرة و سمّى بمسيلمة الكذاب و حاربه المسلمون و قتله الوحشي سنة (13 ه).

(3) هو كمال الدين ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني الفقيه الحكيم له تصانيف منها «شرح نهج البلاغة» توفى به سنة (681 ه).

(4) قسّ بن ساعدة الإيادي من معدّ بن عدنان. قيل: إنّه عمّر (700) سنة و هو أوّل من تألّه و تعبّد من العرب، و قد أدرك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سمعه و مات قبل البعثة- بلوغ الأرب ج 2 ص 244.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 247

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1». تفسير الصراط المستقيم ج 2 269

سادسها: إنّه من جهة اشتماله على الغيوب، و الإخبار عن الكائنات قبل وقوعها.

سابعها: ما يحكى عن السيّد المرتضى «2» رضى اللّه عنه، و النظّام «3» من العامّة و ربما يحكى أيضا عن الأستاذ أبي إسحاق «4» من الأشاعرة، و كثير من المعتزلة و هو الصرفة، بمعنى أنّ اللّه تعالى صرف النّاس عن معارضته.

قيل: و هذا يحتمل أمورا ثلاثة:

الأوّل: أنّه تعالى سلبهم القدرة.

الثاني: أنه سبحانه سلبهم الدّاعية و همم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليه.

الثالث: أنّه سلبهم العلوم الّتي كانوا يتمكّنون بها من المعارضة، و ربما يقال: إنّ مختار السيّد هو الأخير.

ثامنها: التوقّف في ذلك كما يحكى عن سديد «5» الدّين سالم عزيزة، و ربّما

______________________________

(1) النساء: 82.

(2) هو الشريف المرتضى على بن الحسين فقيه

الشيعة في عصره، ولد في بغداد سنة (355) و توفي بها سنة (436).

(3) هو إبراهيم سيّار المتكلّم المعتزلي البصري توفّي ببغداد سنة (231) ه.

(4) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابو إسحاق الاسفرائني المتوفى (418)- الاعلام ج 1/ 59.

(5) هو سديد الدين سالم بن شمس الدين محفوظ بن عزيزة بن وشاح السوراني الحلّى كان من الفقهاء المتكلمين في القرن السابع له التبصرة و المنهاج في الكلام قرأ عليه السيّد رضى الدين على بن طاوس

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 248

يؤمي اليه كلام الوحيد «1» في «التجريد» حيث قال: و إعجاز القرآن، قيل:

لفصاحته، و قيل: لاسلوبه و فصاحته، و قيل: للصرفة، و الكلّ محتمل، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.

لكنّه لا يخفى عليك أنّ الاختلاف في ذلك غير قادح في الإعجاز الّذى اتّفق عليه جميع أهل الإسلام، بل كافّة الأنام من الخواصّ و العوامّ، حيث إنّه من الضروريّات القطعية المعلومة لجميع أهل الفرق و الأديان أنّ نبيّنا خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله قد ادّعى النبوّة العامّة الخاتميّة على فترة من الرّسل و انقطاع من الوحي، و ضلالة من الأمم، و جهالة في أهل العالم، و اندراس لجملة العلوم و الحكم، فجاءهم بهذا القرآن الهادي للّتي هي أقوم، هدى من الضلالة، و رشدا من العمى و الجهالة، و نورا من الظلمة، و ضياء عن الغياهب «2» المدلهمّة، و استبصارا لكافة الأمّة، و كشفا للغمّة، ساطعا تبيانه، قاطعا برهانه، قرأنا عربيّا غير ذي عوج، داعيا إلى خير مقصد و منهج، مصدّقا لما بين يديه من الكتب السماويّة، محتويا على أكثر ممّا اشتملت عليه من العلوم الحقّة و المعارف الإلهيّة، معجزا سائرا دائرا، باقيا على مرّ الدهور،

متجليا منه أنوار الحقائق تجلّى النور من الطّور، أفحم به من تصدّى لمعارضته من العرب العرباء، و أبكم به من تحدّى من مصاقع الخطباء الفصحاء الّذين هم كانوا أمراء الكلام، و بلغاء الأنام، فلم يظهر منهم إلّا الضعف و الفتور، مع ما كان يتلو عليهم من الآيات الحاكمة عليهم بالعجز و القصور مثل قوله تعالى:

______________________________

المتوفى (664)، طبقات أعلام الشيعة ج 3/ 71.

(1) المقصود به هو الخراجة نصير الدين الطوسي المتوفى (672).

(2) الغياهب جمع الغيهب و هي الظلمة، و المدلهمّة من ادلهمّ اللّيل اى اشتدّ سواده.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 249

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا ...

الآية «1»، و قوله تعالى: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2»، و قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «3»، و قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «4».

فعجزوا عن معارضته ببليغ الكلام حتى اختاروا الخصام بالنبال و السهام، و قصروا عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه فالتجأوا إلى قبول جراحة السنان للقصور عن

فصاحة اللّسان.

و لم يعهد من واحد منهم في ذلك الزّمان و لا في غيره من الأزمان إلى هذا الأوان معارضته بمثل أقصر سورة منه مع وقوع التحدّي و الإخبار عن عجز الجميع عن الإتيان به كما في الآيات المتقدّمة، و توفّر الدواعي على المعارضة و المناقضة، و تراكم الأسباب الدينيّة و الدنيوية على المغالبة و المنافسة.

______________________________

(1) البقرة: 23- 24.

(2) يونس: 37- 38.

(3) هود: 12- 14.

(4) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 250

و هذا غاية الإعجاز للكلام بلا فرق بين تسليم اشتماله على مراتب الفصاحة و البلاغة، و الأسرار الحكميّة و الآداب الإلهيّة و عدمه، فإنّ إعجازه على الأوّل ظاهر، و كونه خارقا للعادة معجزا لجميع البشر باهر، و كذا على الثاني أى على فرض عدم التسليم بأنّ إعجازه للفصاحة، بل للصرفة أيضا ظاهر، بل لعلّه أظهر، إذ سلب القدرة عن آحاد النّاس عمّا كانوا يقدرون عليه و استمرار ذلك السّلب في حال حياة السالب و بعدها الى أبد الدهر أعجب و أغرب من إظهار القدرة على ما لا يقدرون عليه.

ألا ترى أنّه لو ادّعى أحد النبوة و قال: إنّ معجزتي المشي على الماء، و ادّعاها آخر و قال: إنّ معجزتي سلب قدرة الناس عن المشي على الأرض لكانا مشتركين في خرق العادة، بل لعلّ الثاني أعظم قدرا و أجلّ خطرا لكونه تصرفا في الغير، سيّما مع عمومه و شموله لجميع آحاد النوع، خصوصا مع استمراره مدّة حياته و بعد وفاته.

و بالجملة كون القرآن معجزا أمر بديهيّ لا شك فيه و لا شبهة يعتريه، سيّما مع الإخبار فيه في كمال القوّة و الاطمئنان بمحضر و منظر من فصحاء آل عدنان و بلغاء قحطان بأنّه لَئِنِ اجْتَمَعَتِ

الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1» مع أنّهم قد أذعنوا له بكمال الفصاحة و البلاغة و أعظموا أمره حتّى نسبوه الى السّحر كما حكى عنهم فيه بقوله: وَ قالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «2»، و

قد ورد في تفسير قوله تعالى:

______________________________

(1) الإسراء: 88.

(2) الصّافّات: 15. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 251

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1»: إنّها نزلت في الوليد «2» بن المغيرة و كان شيخا كبيرا مجرّبا من دهاة العرب، و كان من المستهزئين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يجلس في الحجر و يقرأ القرآن، فاجتمعت قريش الى الوليد و قالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد صلّى اللّه عليه و آله أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال:

دعوني أسمع كلامه، فدنى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا محمّد أنشدنى من شعرك، قال صلّى اللّه عليه و آله: ما هو بشعر، و لكنّه كلام اللّه الذي ارتضاه الملائكة- و أنبياؤه و رسله، فقال: أتل عليّ منه شيئا، فقرأ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (حم، تنزيل) السجدة فلمّا بلغ قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ «3» فاقشعرّ الوليد و قامت كلّ شعرة في رأسه و لحيته و مرّ الى بيته و لم يرجع الى قريش من ذلك، فمشوا إلى أبى جهل و قالوا: يا أبا الحكم إنّ أبا عبد شمس صبأ إلى دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أما تراه لم يرجع إلينا، فغدا أبو

جهل الى الوليد و قال له: يا عمّ نكسّت رؤسنا و فضحتنا و أشمتّ بنا عدوّنا، و صبوت إلى دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقال: ما صبوت الى دينه و لكنّي سمعت كلاما صعبا تقشعرّ منه الجلود، فقال أبو جهل: أخطب هو؟ قال: لا، الخطب كلام متصل و هذا كلام منثور، و لا يشبه بعضه بعضا، قال: أ فشعر هو؟ قال: لا، أما إنّى لقد سمعت أشعار العرب بسيطها، و مديدها، و رملها، و رجزها، و ما هو بشعر، قال: فما هو؟ قال: أفكّر فيه، فلمّا كان من الغد قال له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر، فإنّه أخذ بقلوب الناس، فأنزل اللّه على رسوله في ذلك

______________________________

(1) المدثر: 11.

(2) الوليد بن المغيرة بن عبد الله ابو عبد الشمس المخزومي من زنادقة العرب، هلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر (1 ه)- الاعلام ج 9/ 144.

(3) فصلت: 13. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 252

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1».

و إنّما سمّى وحيدا لأنّه قال لقريش: أنا أتوحّد بكسوة البيت سنة، و عليكم في جماعتكم سنة، و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكّة، و كان له شعر عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها، فأنزل اللّه تعالى:

ذَرْنِي إلى قوله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ «2». «3»

و

في خبر آخر: أنّ الوليد قال لبني مخزوم: و اللّه لقد سمعت من محمّد صلّى اللّه عليه و آله آنفا كلاما

ما هو من كلام الإنس و الجنّ، إنّ له لحلاوة و إن عليه لطلاوة «4»، و إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق «5»، و إنّه ليعلو و لا يعلى، فقال قريش: صبأ «6» الوليد، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا، و كلّمه بما أحماه، فقام و ناداهم فقال: تزعمون أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله مجنون، فهل رأيتموه يخنق؟

و تقولون: إنّه كاهن، فهل رأيتموه يتكهّن؟ و تزعمون أنّه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا؟ فقالوا: لا، فقال: ما هو إلّا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين المرء و أهله و ولده و مواليه؟ ففرحوا به و تفرّقوا مستعجبين منه «7».

______________________________

(1) المدثر: 11.

(2) المدثر: 11- 24.

(3) بحار الأنوار ج 9 ص 245 عن تفسير القمى ص 702.

(4) الطلاوة بتثليث الطاء: الحسن و البهجة.

(5) أغدقت الأرض: أخصبت.

(6) صبأ: أى خرج من دين الى دين آخر.

(7) بحار الأنوار ج 9 ص 167- مجمع البيان ج 5 ص 387 بتفاوت يسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 253

و في «مجمع البيان»: يروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن، فعكفوا على لباب البرّ، و لحوم الضأن، و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلمّا أخذوا فيما أرادوا و اسمعوا قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ «1»، فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شي ء من الكلام، و لا يشبهه كلام المخلوقين، و تركوا ما أخذوا فيه و افترقوا «2».

و

في «الإحتجاج» عن هشام بن الحكم «3»، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء «4»، و أبو شاكر الديصاني، و عبد الملك البصري، و ابن المقفّع «5» عند بيت اللّه الحرام يستهزءون بالحاجّ و يطعنون على القرآن، فقال

أبن أبي العوجاء: تعالوا ينقض كلّ واحد منّا ربع القرآن، و ميعادنا من قابل في هذا الموضع تجتمع فيه و قد نقضنا القرآن كلّه، فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و في إبطال نبوّته إبطال الإسلام، و إثبات ما نحن فيه، فاتّفقوا على ذلك و افترقوا، فلمّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت اللّه الحرام.

فقال ابن أبى العوجاء: أمّا أنا فمتفكّر منذ افترقنا في هذه الآية:

______________________________

(1) هود: 44.

(2) مجمع البيان ج 3 ص 165 ط صيدا.

(3) هو هشام بن الحكم أبو محمد الشيباني بالو لاء الكوفي كان من أصحاب الامام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام نشأ بواسط و سكن بغداد و صنف كتبا في الكلام و في الرد على المخالفين، توفى حدود سنة (190) ه- انظر الاعلام ج 9/ 82.

(4) هو عبد الكريم بن أبى العوجاء كان من الزنادقة و كان خال معن بن زائدة الشيباني قتل حدود سنة (153) قتله محمد بن سليمان بن على العباسي الحاكم بالكوفة- الكامل لابن الأثير ج 5 ص 38.

(5) هو عبد الله بن المقفع من أكابر الكتاب ولد في العراق مجوسيا سنة (106) و أسلم على يد عيسى ابن علي عم السفاح و ولى كتابة الديوان للمنصوب العباسي، و اتهم بالزندقة فقتله أمير البصرة سفيان المهلبي سنة (142)- الاعلام ج 4/ 283. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 254

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا «1» فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها و جمع معانيها فشغلتني هذه الآية عن التفكّر فيما سواها.

و قال عبد الملك: و أنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ

مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ «2» و لم أقدر بمثلها.

فقال أبو شاكر: و أنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «3» و لم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفّع: يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، و أنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي «4» لم أبلغ غاية المعرفة بها، و لم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبيناهم في ذلك إذ مرّ بهم جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «5».

فنظر القوم بعضهم إلى بعض و قالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت وصيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلّا إلى جعفر بن محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و اللّه ما رأيناه قطّ إلّا هبناه

______________________________

(1) يوسف: 80.

(2) الحجّ: 73.

(3) الأنبياء: 23.

(4) هود: 44.

(5) الإسراء: 44. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 255

و اقشعرّت جلودنا لهيبته، ثمّ تفرقوا مقرّين بالعجز «1».

إن قلت: إنّ الاختلاف في تعيين الوجه في الإعجاز قادح في أصله، نظرا إلى أنّ الدعوة عامّة إلى كافّة النّاس، فلا بدّ أن تكون المعجزة عامّة واضحة بحيث يفهمها النّاس كافّة، و لا يشكّ فيها أحد منهم و إن أنكرها بلسانه، و الاختلاف في ذلك ينبئ عن اختفاء كلّ من الوجوه الظاهرة لكلّ من المختلفين عن الآخرين، حيث إنّ كلّ واحد منهم منكر لما

يثبته الآخرون من وجوه الإعجاز، و كلّ من هذه الوجوه المختلفة فيها قابل للإنكار لعدم القطع بتحقّقه، و عدم الاتفاق عليه.

بل و من هنا يظهر عدم الاتفاق على اعجاز القرآن في الجملة، لأنّ كلّا من الفرق يعلّل جهة الإعجاز بما ينكره الآخر.

فالجواب أنّه مجرّد الاختلاف في ذلك لا يقتضي الشكّ في الإعجاز بعد الاتّفاق عليه، بل لعلّ الاختلاف إنّما نشأ من فهم كلّ منهم غير ما فهمه الآخر لعجزه عن ذلك، أو لأنّه ليس من أهله، و ليست تلك الوجوه مانعة الجمع كى يمنع تحقّق كلّ منها من الآخر، بل يمكن تصويب كلّ منهم من جهة فهمه، كما لو اتّفق جماعة على إكرام زيد غير أنّ واحدا منهم يكرمه لعلمه، و آخر يكرمه لعدالته، و ثالث يكرمه لسخائه، و رابع يكرمه لشجاعته، و كلّ هذه الأوصاف ظاهرة للكلّ ظهور البعض للبعض، فلا مانع من كونه مجمعا لها، على أنّه ليس المقصود إثبات جامعيّته عند الجميع بل الاتّفاق على وجوب الإكرام و هو حاصل بتصديق كلّ فرقة منهم بصفة من تلك الصفات، و لو مع فرض التضادّ بين الجهات، كالصّرفة و غيرها لرجوعهما إلى الإثبات و النفي، فإنّ الاتّفاق على ما هو المراد دافع

______________________________

(1) الإحتجاج: 205.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 256

للإيراد، و من البيّن أنّ الجهات التعليليّة لا توجب اختلافا أو تغايرا فيما علّل بها، لأنّها علل و كواشف، و معرّفات لا يتقيّد بها المطلوب.

فان قلت: إنّ الجهات في المقام تقييديّة ترجع الى اختلاف الأحكام تبعا لاختلاف الموضوعات كما في المثال المذكور، إذ توجب الفرقة الأولى إكرام العالم، و الثانية إكرام العادل، و الثالثة إكرام السخي، و هكذا، و الاتّفاق في مثله منتف جدّا، و

لذا لم يعتبروا به في باب الإجماع أيضا.

قلت: لا ريب في أنّ المقصود في المقام إعجاز القرآن، و هو حكم خاصّ في موضع خاصّ و إن اختلفت علله إثباتا و نفيا أو جميعا و استقصاء، و هذا لا يقتضي اختلاف الموضوع، و ذلك لأنّه ليس الكلام في أنّ نوعا خاصّا خارقا للعادة من الفصاحة و البلاغة أو من البيانات المشتملة على الآداب و الحكم، أو الصرفة، أو غير ذلك معجزة أم لا، فإنّ الخارق من كلّ شي ء معجزة بشرطها، بل الكلام في إثبات إعجاز القرآن و لو بأيّ وجه كان و هذا ممّا اطبقوا عليه.

فإن قلت: مجرّد الاختلاف في ذلك ممّا يقدح في الإطباق على الإعجاز لعدم حصول الإطباق على شي ء من تلك الجهات بل لعلّه ربما يتوهّم أنّ الاتّفاق الحاصل على اعجازه إنّما وقع بمجرّد التعبّد و التقليد و الأخذ من غير دليل و لذا اختلفوا في وجهه حتى ذهبوا فيه كلّ مذهب حسبما سمعت، و هذا ممّا يقدح في الإعجاز.

قلت: نمنع من تحقّق القدح فيه بمجرّد الاختلاف، كيف و مراتب النّاس و استعداداتهم مختلفة و بحسبها تختلف أنظارهم و مقاصدهم، و من كمال المعجزة اشتمالها على جهات عديدة ظاهرة و خفيّة، و التوهم المذكور في السؤال ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه بعد وقوع التحدّى به على لسان النبي صلّى اللّه عليه و آله، بل في آيات كثيرة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 257

تتلى على المصاقع الخطباء في كلّ صباح و مساء.

و كيف كان فالحقّ أنّ إعجاز القرآن ليس من جهة واحدة بل هو من جهات كثيرة و إن اختصّ ادراك بعضها بالبعض:

منها: ما سمعت من الفصاحة العجيبة و البلاغة الغريبة الّتى أذعن لها جميع

فصحاء العرب و بلغاء محافل الأدب مع كمال حرصهم و اجتهادهم على معارضته و مناقضته، حتى انّهم قد أفحموا عند سماع قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ و أبكموا من نداء قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ بل كانوا عموا عن ذلك و صمّوا و إن بذلوا جهدهم في ذلك و همّوا.

و توهّم أنّه لعلّهم قد عارضوه بما لم يصل إلينا، مدفوع بأنّه لو كان لبان، سيّما مع توفّر الدّواعى و اجتماع الهمم على نقل الأمور العجيبة و الشّئون الغريبة خصوصا في مثل هذا الأمر الذي جمعوا فيه متفرّقات ما صدر عنهم في مقام المعارضة حسبما سمعت سابقا، و لا يخفى عليك توفّر الدواعي على نقل القصائد و الخطب و الاشعار و الأمثال الفصيحة من الجاهليّة و الإسلام و قد لفّق مسيلمة الكذّاب جملة من المزخرفات و الاضحوكات قد بقيت حكايتها إلى الآن كقوله: و الزارعات زرعا، فالطاحنات طحنا، و العاجنات عجنا، و الطابخات طبخا، و قوله الآخر: الفيل، ما الفيل، و ما أدريك ما الفيل، له ذنب وثيل و خرطوم طويل.

فإن قلت: لعلّهم قد عارضوه بما قد ذهب من البين بعد ظهر شوكة الإسلام، و تبدّل المعارضة بالكلام بالمجادلة بالسيوف و السّهام.

قلت: بعد تسليم ذهابه من بين المسلمين فلا ريب في توفّر الدواعي على بقائه بين الكفّار من أهل الكتاب و غيرهم، سيّما اليهود الّذين هم أشدّ الناس

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 258

عداوة للمؤمنين، مضافا إلى ظهور وجود أهل اللّسان في كل زمان و أوان بكلّ مكان، و اتّفاق الجميع بحصول الإعجاز بحيث لم يظهر إلى الآن المعارضة من فصحاء نجد، و اليمن، و العراق، و الحجاز.

و منها: نظمه العجيب و أسلوبه الغريب الّذي

لا يشبه شيئا من أساليب الكلام للعرب العرباء، و لا صنفا من صنوف تركيبات مصاقع الخطباء، و لا فنّا من فنون توصيفات بلغاء الأدباء، بحيث تنادي كلّ جزء منه من الآيات و السور: ما يشبه نقد الكلام البشر، و لذا لمّا عجز الوليد عن معارضته، قال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ مع شيوع الفصاحة و غلبتها في ذلك الزمان، بل ربما يظهر من بعض الأخبار، و يؤيّده الاعتبار أنّ الأولى في معجزة كل نبيّ أن تكون من سنخ الصنعة الغالبة على أهل زمانه.

كما

روى في «العلل» و «العيون» و «الاحتجاج» عن ابن السكّيت «1» أنّه قال لأبى الحسن الرّضا عليه السّلام: لماذا بعث اللّه موسى بن عمران عليه السّلام بيده البيضاء و العصاء، و آلة السّحر، و بعث اللّه عيسى عليه السّلام بالطبّ، و بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالكلام و الخطب، فقال له أبو الحسن عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا بعث موسى عليه السّلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند اللّه عزّ و جلّ بما لم يكن في وسع القوم مثله و بما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجّة عليهم، و أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث عيسى عليه السّلام في وقت ظهرت فيه الزمانات، و احتاج الناس الى الطبّ فأتاهم من عند اللّه عزّ و جلّ بما لم يكن عندهم مثله و بما أحيى لهم الموتى، و أبرأ الأكمه

______________________________

(1) ابن السكيت: يعقوب أبو يوسف كان من أكابر اللغويّين من الاماميّة ولد في بغداد سنة (186 ه) أدرك الامام الرّضا عليه السّلام و استفاد منه في أبان شبابه، و اتصل بالمتوكل العبّاسى و جعله

المتوكّل من ندمائه ثمّ قتله لتشيّعه سنة (244 ه)- الاعلام ج 9 ص 255. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 259

و الأبرص بإذن اللّه، و اثبت به الحجّة عليهم، و إنّ اللّه تبارك و تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله في وقت كان الأغلب على عصره الخطب و الكلام- و أظنّه قال:

و الشعر، فأتاهم من كتاب اللّه و مواعظه و أحكامه بما أبطل به قولهم و أثبت الحجّة عليهم.

فقال ابن السكيت: تاللّه ما رأيت مثل اليوم قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال عليه السّلام: العقل تعرف به الصادق على اللّه فتصدّقه، و الكاذب على اللّه فتكذّبه، فقال ابن السكّيت: هذا و اللّه الجواب «1».

و بالجملة غرابة الأسلوب ممّا أذعن به الجميع، و لذا حكى في بعض التفاسير عن أبي عبيدة «2»: أنّ أعرابيّا سمع قول اللّه تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فخرّ ساجدا في الحال، فقيل له: أسجدت للّه تعالى و آمنت به؟ فقال: لا بل سجدت لفصاحة هذا الكلام.

ثمّ إنّ الأولى عدّ هذين الوجهين سببا واحدا للعلم بالإعجاز، و لذا تعرّضنا لما يتعلّق بكلّ منهما في الآخر.

و أمّا ما يحكى عن القائلين بالصرفة في إبطال القول بالفصاحة من أنّ الإعجاز لو كان مستندا إليها لكان إمّا من حيث ألفاظه المفردة أو من حيث الهيئة التركيبيّة، أو منهما معا، و الأقسام الثلاثة بأسرها باطلة، فاعجازه بسبب الفصاحة باطل، فيكون للصرفة، إذ ما عداها من الأقوال ضعيفة، و إنّما قلنا إنّ الأقسام باطلة لأنّ العرب كانوا قادرين على المفردات و على التراكيب، و من

______________________________

(1) أصول الكافي ج 1 ص 24- بحار الأنوار ج 17 ص 120.

(2) هو أبو عبيدة معمر

بن المثنّى اللّغوى البصري ولد سنة (106 ه) و توفّى سنة (203 ه)- الاعلام ج 8 ص 198.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 260

كان قادرا عليهما منفردين يكون قادرا عليهما معا، فثبت من ذلك أنّ العرب كانوا قادرين على المعارضة و إنّما منعوا منها، ليكون المنع هو العجز.

ففيه أوّلا أنّ فساد الأقسام لا يقضى بتعيين القول بالصرفة لأنّ بطلان غيرها ليس ببيّن و لا مبيّن، بل الحقّ صحتها أيضا في الجملة حسبما يفصّل الكلام فيها، سيّما اشتماله على الاخبار بالمغيبات و غيرها ممّا يأتي.

و ثانيا إنّ ما ذكره من قدرة العرب على المفردات و على التراكيب. إن كان المراد قدرتهم جميعا أو بعضهم على جميع أفراد النوعين حتّى الكلام البليغ الفصيح الذي هو في نهاية الفصاحة و البلاغة فتطرّق المنع اليه، واضح جدّا، كيف و من البيّن أنّه أوّل الكلام، بل الضرورة قاضية بأنّ الطائفة المشتركين في لغة واحدة من اللّغات ليسوا بمتساويين في الاقتدار على المفردات الفصيحة و مركّباتها و لا على أداء الكلام مطابقا لمقتضى الحال على نحو واحد، فضلا من أن يشركوا في القدرة على المرتبة العليا الّتي يعجز عنها القوى البشريّة.

و إن كان المراد قدرتهم على معرفة اللّغات العربيّة و تركيبها في الجملة، فمع تسليمه لا يجدي، ضرورة أنّ مجرّد معرفة اللّغات لا يستلزم القدرة على التعبير عن المعاني بالألفاظ الجامعة لوصفى الفصاحة و البلاغة، و بالجملة فالفرق واضح بين العلم باللّغات و الألفاظ المفردة و كيفيّة التركيب و بين ملكة إنشاء الكلام جامعا للوصفين. هذا.

مضافا إلى أنّ القائل بالصرفة إن أراد سلب الداعية فمن البيّن نحقّقها، سيّما بالنّسبة إلى الّذين شمّروا عن ساق الجّد للمعارضة. و إن أراد سلب العلم أو

القدرة فمن المفروض تسليم القائل بالصرفة قدرتهم المستلزمة للعلم أيضا.

أللهمّ إلّا أن يقال: إنّ ما هو المسلّم في كلامه إنّما هو القدرة لا عند

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 261

المعارضة، و أمّا عندها فهي أو العلم مسلوبة.

و الحاصل أنّه مع عدم إرادة المعارضة فالمنتفى هو الدّاعى، و مع ارادتها فأحد الأمرين فالصرفة متحقّقة دائما بأحد المعاني الثلاثة على سبيل منع الخلوّ، و على هذا فكأنّه يعود النزاع لفظيّا على بعض الوجوه فتأمّل جيّدا.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ للقول بالصرفة بأنّ الصّحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقّفون في بعض السور و الآيات حتى تتحقّق شهادة الثقات بل حكى عن ابن مسعود أنّه بقي متردّدا في الفاتحة و المعوذتين، بل المحكىّ عنه عدم عدّ المعوذّتين من القرآن، و لو كان الإعجاز للفصاحة أو للأسلوب لكان يفهمه كلّ أحد.

و يمكن الجواب مع الغضّ عن إمكان عدم فهم البعض للفصاحة بحيث صار سببا للاختلاف، و لذا نشأ القول بالصّرفة و نحوها، بأنّ مجرّد مثل تلك الفصاحة لا يستلزم القرآنية، فإنّها أعمّ مطلقا، و هو لا يستلزم الأخصّ، و لذا لا يصدق حدّ القرآن على أدعية الصحيفة السجادية و خطب «نهج البلاغة» و غيرهما، و إن قلنا بعجز الآخرين عن الإتيان بمثلها، بل و كذا الأحاديث القدسيّة فآيات التوراة و الإنجيل و الزبور و غيرها ممّا نزلت من عنده سبحانه لا للاعجاز و التعدّى بها، و ان كان العجز حاصلا معها، فليس مجرّد حصول العجز من الأعراض الخاصّة القرآن، و لا من مقوّماته الذاتيّة.

و من هنا يظهر فساد إنكار غير الصرفة من وجوه الإعجاز، نعم ربّما احتجّ القائلون بالفصاحة على فساد القول بالصرفة بوجوه:

أحدها أنّ الإعجاز لو كان للصرفة لكانوا قادرين على

الإتيان بمثله قبل الصرفة، فاذا وجدت الصرفة و حصل المنع وجب أن يجدوا ذلك من أنفسهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 262

ضرورة، لأنّا نعلم بالضرورة أنّ من كان له قدرة أو قدرة على شي ء ثمّ سلبا عنه يجد ذلك من نفسه، و لو وجد و أسلب القدرة و العلم من أنفسهم لتحدّثوا به في مجالسهم، و لو تحدّثوا به لاشتهر و ذاع، و تواتر و شاع، لأنّه من الأمور العجيبة الّتى تتوفّر الدواعي على نقلها و كلّ هذه المقدّمات ضروريّة، و لمّا لم يقع شي ء من ذلك فكان القول بالصرفة باطلا.

ثانيها: أنّه لو كان الإعجاز بسبب الصرفة لوجب أن يكون القرآن في غاية الركاكة، و اللازم باطل فالملزوم مثله، بيان الملازمة أنّ منعهم عن معارضته على تقدير ركاكته أبلغ في الإعجاز ممّا لو كان بالغا في الفصاحة و هو ضروري، و أمّا بطلان اللازم فظاهر فيبطل الملزوم و هو المطلوب.

ثالثها أن حصول الصّرفة على فرضه إنّما هو بعد النبوة و تحقّق التحدّى، و أما قبله فلا صارف لهم عن الإتيان بمثله، و العادة تقضى بصدور مثله عنهم قبل ذلك، فلو كان الوجه هو الصرفة لكان لهم أن يعارضوه بعد التحدّى بما صدر عنهم قبله.

أقول: و يمكن الجواب عن الأوّل بأنّه لعلّهم كانوا يجدون ذلك من أنفسهم و يؤيّده أنّ من كان بصدد المعارضة مثل ابن أبي العوجاء، و غيره كانوا يزعمون أوّلا قدرتهم على ذلك، ثم ظهر لهم عجزهم، أو تنصرف عن ذلك هممهم، و لهذا هو الصرفة عندهم على ما سمعت، و لعلّهم يريدون بها الصرفة الدائمة على أحد الوجوه لا على وجه التبدّل و حينئذ فتبطل الملازمة.

و عن الثاني بالمنع عن الاستلزام لمطلوبيّة

الفصاحة نفسها، مع انّ الركاكة في نفسها مانعة، و الإعجاز يجب أن يكون على الوجه الأبلغ، سلّمنا لكنّ الأبلغ هو الاشتمال على وجوه الإعجاز.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 263

و عن الثالث بأنّ القائل بالصرفة لعلّه يلتزم بالمنع عن صدور مثله عنهم قبله أيضا لذلك أو عن المعارضة به على فرض الصدور، هذا.

لكنّه لا يخفى عليك أنّ القول بالصرفة بمكان من القصور لما مرّ و يأتى من الوجوه الّتى فيها الإعجاز من جهات شتّى.

و منها اشتماله على العلوم الحقيقيّة و المعارف الإلهيّة و أصول الحقائق و كشف الأسرار و الدقائق بألفاظ فائقة رائعة مهذبّة مختصرة في غاية الإيجاز، و نهاية الاختصار، بل لا يخفى على من له خوض في العلوم العالية و الحكمة المتعالية أنّ المقاصد الّتى أفنت الحكماء الفلاسفة الّذين هم قدوة أرباب العقول أعمارهم فيها، و لم يصلوا بعد الرياضات الشديدة و المشاقّ الكثيرة إليها ربما أشرقت لوامع أنوارها من أفق بعض الآيات أو الكلمات على أفئدة بعض أرباب القلوب، بل ربما ينفتح بالتأمّل في كثير من الآيات أبواب العلم بالغيوب، بل لعلّك ترى كثيرا من المسائل الّتى صنّفوا فيها الكتب و الرّسائل، و أكثروا فيها من ذكر الوجوه و الدلائل ربّما يمرّ عليك بأوضح تعبير و أيسر بيان في بعض آيات القرآن، بل ليس بشي ء من الحقائق و الأسرار إلّا و لها أصل في كتاب اللّه ساطع الأنوار، و إن احتجبت بعض القلوب بغشاوة الأستار و ظلمة الأكدار، مع كونه صلّى اللّه عليه و آله قد نشأ في بلد لم يكن فيه عالم و لا حكيم، و لم يعهد من حاله أنه تلمذ على أحد أو سافر في صقع من الأصقاع لذلك.

و منها

اشتماله على قصص الأنبياء السالفين و أحوال المتمّردة الماضين و جزئيّات أحوالهم و أقوالهم و ما جرى عليهم مع عدم قراءته صلّى اللّه عليه و آله لشي ء من كتبهم، و لا ملاقاته لأحد من علمائهم، حتّى أنّ علماء اليهود و أحبار النصارى لم يقدروا على الإنكار عليه في شي ء ممّا أخبر به عن الماضين، مع غاية حرصهم على ذلك و اجتهادهم فيه، و لذا قيل:

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 264 لم يقترن بزمان و هو يخبرناعن القرون و عن عاد و عن إرم

و قد قال أيضا: من وجوه الإعجاز اشتماله على الآداب القويمة و الشرائع المستقيمة، و مكارم الأخلاق، و محاسن الصّفات ممّا فيه نظم إصلاح أحوال العباد و نظم سياسة البلاد، بحيث لو تأمّل فيه العالم البصير لعلم أنّه ليس إلّا تنزيلا من عليم خبير، و من العوارض النفسانية لكثير من النّاس عند قراءته و استماعه من المصيبة و الخوف و الخشية، و الشوق و الرقّة و التوجّه الى المبدء، و التذكّر لأمور الآخرة، و دفع الحيرة، و انكشاف العلوم الغيبيّة و المعارف الربانيّة، و غير ذلك من الأطوار العجيبة و الأحوال الغريبة المختصّة به دون غيره من الكلمات و الخطب و الأشعار و غيرها، و إن اختلفت تلك الأحوال باختلاف الأشخاص و الأزمان و غيرها.

و منها الاستخارات المجرّبة الّتى كأنّها بقيّة من الوحي الإلهى و الإلهام حتّى انّه ربما يستفاد مقصد المستخير و جوابه و عاقبته من الآية تصريحا أو تلويحا، بل كثيرا ما اتّفق لهذا العبد المسكين، و غيري من المسلمين الإخبار عن مقصد المستخير بمجرّد التأمّل في الآية، من دون علم سابق به، و ممّا يئول الأمر إليه في العاقبة،

و هذا واضح لمن جرّب ذلك.

و منها اشتمال سوره و آياته و كلماته و حروفه على الأسرار العجيبة و الخواصّ الغريبة من شفاء الأمراض و الاعراض، و دفع العافات و العاهات و البليّات، و استجلاب الخيرات، و أداء الديون و الغرامات، و غير ذلك ممّا سنشير الى جماعة منها في الباب الرابع عشر.

و منها انطباق كثير من الأسئلة و الأجوبة الواقعة فيه على القواعد الجفريّة التي هي من قواعد علم التكسير الّتى لم يطّلع عليها الّا الاوحديّ من الناس، بل هو من علوم الأنبياء و الأوصياء و خواصّ الأولياء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 265

و لذا ترى أنّك إذا علمت في قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ «1» بالقواعد التكسيريّة يخرج الجواب: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «2».

و كذا إذا سألت بهذه العبارة: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ يخرج الجواب: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ «3»، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على أهله.

و منها اشتماله على الإخبار من الأمور الغائبة عن الحواسّ من الحوادث الكائنة و الوقايع المستقبلة، و خطرات قلوب المنافقين، و مستجنات صدورهم و غير ذلك، و هي بكثرتها و إن اشتركت في إفادة الإعجاز، لكنّها تنقسم إلى نوعين:

الأوّل أنّه سبحانه أخبر في كثير من الآيات من أحوال المنافقين و الكفّار، و أقوالهم و أسرارهم و تناجيهم و خطرات قلوبهم ما يطلع عليها غيرهم، حتى إنّهم بعد الإخبار ربما صدّقوا به و لم يسع لهم إنكاره، و هذا النوع كثير في القرآن:

مثل ما أخبر عنه من أنّهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ «4».

و قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا

خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ «5» أى أ تحدّثونهم بما بيّنه اللّه لكم في كتابكم من العلم ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و البشارة به.

______________________________

(1) يس: 78.

(2) يس: 79.

(3) زخرف: 9.

(4) البقرة: 14.

(5) البقرة: 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 266

و مثل ما أخبر عمّا وقع عن بعضهم من ملامسة النساء بقوله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1».

و مثل ما روى أنّه تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر، و قرى عرينة «2» و قال بعضهم لبعض: أدخلوا في دين محمّد أوّل النهار باللّسان دون الإعتقاد و اكفروا به آخر النّهار، و قولوا: إنّا نظرنا في كتبنا و شاورنا علماءنا فوجدنا محمّدا ليس بذلك و ظهر لنا كذبه في بطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينه، و قالوا: إنّهم أهل الكتاب، و هم أعلم به منّا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فنزلت: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3». «4» و ما روى من أنّهم كانوا ينالون «5» من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره به جبرئيل، فقال بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم كيلا يسمع إله محمّد صلّى اللّه عليه و آله فنزلت: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «6». «7» و مثل ما أخبر عن بعضهم بقوله: وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ «8».

______________________________

(1) البقرة: 187.

(2) عرينة (بضم

العين المهملة): موضع ببلاد فزارة، و قيل: قرى بالمدينة- معجم البلدان ج 4 ص 115.

(3) آل عمران: 72.

(4) مجمع البيان ج 2 ص 115.

(5) نال منه: وقع فيه و شتمه و عابه.

(6) الملك: 14.

(7) مجمع البيان ج 2 ص 115.

(8) النساء: 81.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 267

و أخبر عن أصحاب العقبة أو غيرهم من المنافقين بقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ «1»، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة المشتملة على هذا النوع.

الثاني أنّه سبحانه أخبر فيه عن كثير من الأمور المستقبلة التي لا يمكن الاطلاع عليها إلّا من طرق الوحي و الإلهام مع مطابقة الجميع لما وقع بعد الإخبار كالإخبار بذلّة اليهود و عدم انتقال الملك و السلطنة إليهم الى آخر الدهر، و قد تحقّق صدقه لتفرّقهم و ذلّتهم في البلاد و ضرب الجزية عليهم و الاستخفاف بهم حتى ضربت بهم الأمثال كما أخبر اللّه تعالى عن ذلك بقوله: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «2».

و قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ «3».

و الإخبار عن غلبته على الكفّار مع فقد ما يدلّ على ذلك من الأمارات و الآثار سيّما مع قلّة الأنصار، و انتشار الكفّار في أطراف الأرض و بسيطها غاية الانتشار. و مع ذلك فقد أخبر

بغلبة المسلمين عليهم على وجه الحتم و الجزم بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ «4».

______________________________

(1) التوبة: 64- 65.

(2) الأعراف: 167.

(3) آل عمران: 112.

(4) آل عمران: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 268

حيث إنّها نزلت في مشركي مكّة يوم بدر مع ظهور أمارات الغلبة من العدّة و العدّة للمشركين، أو في اليهود حين استشعروا الضعف من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم أحد فنقضوا العهد.

و الاخيار عن انهزام الكفّار يوم بدر بقوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1».

و عن غلبة الروم على فارس بقوله سبحانه الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ... «2».

و ذلك أنه غلبت فارس الروم، و ظهرت عليهم على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و فرحت بذلك كفّار قريش، من حيث إنّ فارس لم يكونوا أهل كتاب مع أنّ كسرى خرق كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهان رسوله، و قيصر كان من النصارى، و قد كان أكرم و قبل كتابه، و كان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين، فدفعهم فارس منه، فساء ذلك المسلمين فكان المشركون بمكة يجادلون المسلمين، و يقولون: إنّ أهل الروم أهل كتاب و قد غلبهم الفرس، و أنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذى أنزل إليكم على نبيّكم، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فنزلت الآية.

بل

ورد أنّ أبا بكر ناحب «3» بعض المشركين قبل أن يحرم القمار على شي ء

______________________________

(1)

القمر: 45.

(2) الروم: 4.

(3) ناحب مناحبة فلانا على كذا: راهنه، و الذي راهنه أبو بكر هو أبي بن خلف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 269

إن لم تغلب فارس في سبع سنين، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لم فعلت؟ فكلّ ما دون العشر بضع، فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين، ثمّ أظهر اللّه الروم على فارس زمن الحديبيّة، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب «1».

و كالإخبار بأنّ المتخلّفين عن غزوة تبوك لا يقاتلون بعد ذلك معه أبدا، حيث أنزل اللّه سبحانه: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا «2» فكان كذلك.

و أنّ أبا لهب و غيره من أهل النار، لعدم ايمانهم به صلّى اللّه عليه و آله أبدا، فكان كذلك كما قد أخبر عنه بقوله في أبي لهب: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ و في امرأته:

وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ «3».

و في غيرهما من المنافقين: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «4».

و أنّ المشركين الذين كانوا بصدد معارضة القرآن لا يقدرون على ذلك أبدا، حيث عنى ذلك بقوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «5».

و قوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا «6»، و فيه الإعجاز من وجهين فلا تغفل.

______________________________

(1) مجمع البيان ج 5 ص 8 مع تفاوت يسير في الألفاظ.

(2) التوبة: 83.

(3) المسد: 3- 4.

(4) البقرة: 6.

(5) الإسراء: 88.

(6) البقرة: 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 270

تفسير الصراط المستقيم ج 2 299

و أنّ العداوة و البغضاء قائمة بين اليهود و النصارى كما قال سبحانه:

وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ

أَطْفَأَهَا اللَّهُ «1»، أى الحرب للمسلمين.

و

روى أنّه لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة، و وعد أمّته ملك فارس و الرّوم قالت المنافقون و اليهود، هيهات من أين لمحمّد ملك فارس و الروم، ألم يكفه المدينة و مكّة حتى طمع في الروم و فارس؟! فنزل قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ الآية «2».

و

يقال: إنّها نزلت يوم حفر الخندق حين ظهرت صخرة مروة «3» بيضاء كسرت معاولهم إلى أن أرسلوا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بذلك- فهبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع سلمان الخندق، و أخذ المعول من يد سلمان فضربها به ضربة صدعها «4»، و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتّى لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكبيرة، و كبّر المسلمون، ثمّ ضربها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثانية فكسرها، و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتّى لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكبيرة فتح، و كبّر المسلمون، ثمّ ضربها صلّى اللّه عليه و آله ثالثة فأضاء كذلك، و كبّروا جميعا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ضربت ضربتي الاولى فبرق الّذى رأيتم، أضائت لي منها قصور الحيرة، و مدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب.

فأخبرنى جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، و أضائت في الضربة الثانية قصور الحمير من أرض الروم، و أخبرنى جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، و أضائت في

______________________________

(1) المائدة: 64.

(2) آل عمران: 26.

(3) المروة: واحدة المرو حجارة صلبة تعرف بالصّوان.

(4) صدع الشي ء: شقّه و

لم يفترق. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 271

الثالثة قصور صنعاء و أخبر جبرئيل ظهور أمّتي عليها فأبشروا، فاستبشر المسلمون، و قالوا: الحمد للّه موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون: ألا تعجبون، يمنّيكم و يعدكم الباطل، و يخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيوة و مدائن كسرى، و أنّها تفتح لكم، و أنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق، و لا تستطيعون أن تبرزوا؟! فنزل قوله سبحانه: وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «1».

و أنزل اللّه في هذه القصّة: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «2».

و كالإخبار بعود النبي صلّى اللّه عليه و آله الى مكّة بعد هجرته عنها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «3».

و المراد بالمعاد مكّة المكرّمة شرّفها اللّه لعوده إليها، و ليس في الآية كما ترى شرط و لا استثناء.

و كوعده بملاقاة إحدى الطائفتين: إمّا عير «4» قريش و صاحبها أبو سفيان، و إمّا النفير، و هو جيشها، فقال سبحانه: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ يعنى امّا العير و إمّا النفير، وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «5»، و هو العير، و صاحبها أبو سفيان و يريد اللّه أن يحقّ بكلماته بإعزاز الإسلام و إهلاك وجوه قريش على أيديكم فكان كما أراد سبحانه.

______________________________

(1) الأنفال: 49.

(2) آل عمران: 26.

(3) قصص: 85.

(4) العير: القافلة.

(5) الأنفال: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 272

و الإخبار بظهور دعوته و الغلبة على سائر الأديان بقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «1»، و قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ

بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «2».

و الإخبار بدخول المسجد الحرام مع الأمن و الحلق و التقصير، فكان كما أخبر عنه بقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ «3».

و التعليق بالمشيّة للتيمّن و التبرّك و الامتثال.

و الإخبار عن مواعدة عبد اللّه «4» بن أبيّ و أصحابه لبني النضير، و عدم الرفاء بوعده لهم بقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ «5».

و الإخبار عن غلبة أصحابه المؤمنين و استخلافهم في الأرض بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...

______________________________

(1) التوبة: 32.

(2) التوبة: 33.

(3) الفتح: 27.

(4) هو عبد الله بن أبي بن مالك المشهور بابن سلول الخزاعي المدني رأس المنافقين في الإسلام أظهر الإسلام بعد قصة بدر تقاة، مات سنة (9 ه)، الاعلام ج 4 ص 188.

(5) الحشر: 11- 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 273

وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً «1».

و الإخبار عن قصّة طلحة بن أبيرق و مكر المنافقين بقوله تعالى:

و الإخبار عن كذب المنافقين و قولهم بقوله سبحانه: لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ «2»، و قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا «3». و قوله

سبحانه: وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «4».

و الإخبار عن انشقاق القمر بقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «5».

و هذا و إن كان بعد الوقوع إلّا أنّها قد تضّمنت معجزة اخرى و هي الإنشقاق لا سبيل الى إنكاره بعد بقاء الإخبار به عن زمان الدعوة.

و الإخبار عمّا تكتمه اليهود من أحكام التوراة كما قال سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ «6» الى غير ذلك من الآيات الّتى تسمع تمام الكلام فيها في مواضعها من هذا التفسير إنشاء اللّه تعالى.

و يعدّ أيضا من وجوه الإعجاز أنّه على كمال فصاحته الّتى لا يدانيه فيها غيره قد اشتمل على أمور منافية للفصاحة في غيره كملازمة الصّدق و التجنّب

______________________________

(1) النور: 55.

(2) التوبة: 94.

(3) التوبة: 74.

(4) التوبة: 107.

(5) القمر: 1.

(6) المائدة: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 274

عن الكذب و الإغراق في جميع القرآن، فإنّ كلّ شاعر ترك الكذب و لازم الصدق ترك شعره، و لذا قيل: إنّ حسّان «1» بن ثابت و لبيد «2» بن ربيعة لمّا أسلما ترك شعرهما الإسلامى، إذ لم يكن كشعرهما الجاهلى.

الفرق بين القرآن و الحديث القدسي

و أمّا الفرق بين القرآن و الحديث القدسي فقد فرّق العلماء بينهما بوجوه:

الأوّل أنّ القرآن يختصّ سماعه من الروح الأمين، و لكن الحديث القدسي قد يكون إلهاما و نفثا في الروع و نحو ذلك.

الثاني أن القرآن مسموع بعبارة بعينها بخلاف الحديث القدسي.

الثالث أنّ القرآن مشتمل على الإعجاز بخلاف الحديث القدسي.

الرّابع أنّ القرآن مقطوع الصدور، بخلاف الحديث القدسي فإنّه كسائر الأحاديث في ظنّية صدورها.

______________________________

(1) حسّان بن ثابت بن المنذر الخزرجي

الأنصارى أبو الوليد الصحابي الشاعر المدني أحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهليّة و الإسلام عاش (60) سنة في الجاهليّة و (60) سنة في الإسلام. مات سنة (54 ه)- الاعلام ج 2 ص 188.

(2) لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامري أحد الشعراء الفرسان في الجاهليّة، أدرك الإسلام و يعدّ من الصحابة، قيل: إنّه ترك الشعر بعد إسلامه و لم يقل إلّا بيتا واحدا و هو: ما عاتب المرء الكريم كنفسه و المرء يصلحه الجليس الصّالح

و هو أحد أصحاب المعلّقات، عاش عمرا طويلا و سكن الكوفة، توفي سنة (41 ه)، الاعلام ج 6 ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 275

الباب الحادي عشر

اشارة

في بيان نزول القرآن على سبعة أحرف و في هذا الباب يذكر أيضا منشأ اختلاف القراءات، و هل هي متواترة أم لا و نبذ من أحوال القراء

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 277

و فيه فصول:

الفصل الأوّل

في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف قد تظافرت الأخبار من العامّة في أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، بل في بعضها أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لم ينه أحدا عن الاختلاف في قراءة القرآن، و أنّه قرّرهم عليه بل صرّح بجوازه،

ففي «صحيح البخاري» «1» عن ابن عبّاس انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: أقرأنى جبرائيل على حرف فراجعته فزادني، فلم أزل أستزيده و يزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف «2».

عن «جامع الأصول» «3» عن البخاري، و مسلم «4»، و مالك «5»،

______________________________

(1) البخاري محمد بن إسماعيل الجعفي الحافظ المحدث المورّخ، ولد في بخارى سنة (194 ه) و توفّي في خرتنك سمرقند سنة (256).

(2) صحيح البخاري باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ج 6 ص 100 ح 3991 و أخرجه مسلم في الصحيح ج 1 ص 561.

(3) جامع الأصول لأحاديث الرسول لابن الأثير أبى السعادات المبارك المتوفى (606) بالموصل.

(4) مسلم بن الحجّاج النيسابوري الحافظ المحدّث المتوفى سنة (261).

(5) مالك بن انس الأصبحي المدني ولد بالمدينة سنة (93) و توفى سنة (179). تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 278

و أبي داود «1» و النسائي «2»، بأسانيدهم، عن عمر بن الخطّاب قال: سمعت هشام «3» بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستمعت لقرائته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكدت أساوره

«4» في الصلاة، فتربّصت حتّى سلّم فلبّبته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة الّتى سمعتك تقرأها؟ قال: أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: كذبت، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقلت: إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

كذلك أنزلت، ثمّ قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة الّتى أقرأنيها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: كذلك أنزلت، إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسّر منه «5».

قال في «جامع الأصول» أخرجه الجماعة

، و قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

و

روى مسلم، و التّرمذي «6»، و أبو داود، و النسائي في صحاحهم، جميعا عن أبيّ «7» بن كعب، قال: كنت في المسجد، فدخل رجل و صلّى، فقرأ قراءة

______________________________

(1) أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني المحدث المتوفى بالبصرة سنة (275).

(2) النسائي احمد بن على بن شعيب المحدّث الحافظ المتوفى سنة (303).

(3) هشام بن حكيم حزام بن خويلد، صحابى ابن صحابى أسلم يوم فتح مكّة توفى بعد سنة (15)- الاعلام ج 9 ص 83.

(4) ساور فلانا: واثبه أو وثب عليه.

(5) أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من الصحيح: ج 5 ص 73 كتاب الخصومات الحديث (2419) و في ج 9 ص 23 كتاب فضائل القرآن الحديث (4992) و (5041)- و أخرجه مسلم في الصحيح ج 1 ص 561 و في مسند احمد بن حنبل ج 1 ص 24.

(6) الترمذي محمد بن عيسى المحدّث ولد سنة (209) و توفّى سنة (279).

(7) أبيّ بن كعب بن قيس الخزرجي المدني

أبو المنذر، صحابي كان قبل الإسلام من أحبار اليهود، يكتب تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 279

أنكرتها، ثمّ دخل رجل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلمّا قضيت الصلاة دخلنا جميعا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقلت: إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، فدخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فأمرهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقرأ، فحسّن شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، و لا إذ كنت في الجاهليّة- فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقا كأنما أنظر إلى اللّه فرقا، فقال لي: يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هوّن على أمّتى، فردّ إليّ في الثانية أن أقرأ القرآن على حرفين، فرددت إليه أن هوّن على أمّتي، فردّ إليّ في الثالثة أن اقرأه على سبعة أحرف، و لك بكلّ ردّة رددتها مسألة تسألنيها، فقلت: أللهمّ اغفر لامّتي، اللّهمّ اغفر لامّتى و أخّرت الثالثة ليوم يرغب فيه إليّ الخلق كلّهم حتّى إبراهيم عليه السّلام «1»

و

في النبوىّ المرويّ من طرقهم: «الكتب تنزل من السّماء من باب واحد، و إنّ القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف» «2».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتى لا داعي للتعرّض لها، و

في بعضها: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقى جبرائيل، فقال: يا جبرائيل إنّى بعثت إلى أمّة أمّيين، منهم العجوز و الشيخ الكبير، و الغلام، و الجارية، و الرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ، فقال

______________________________

و يقرأ، توفّى بالمدينة سنة (21)- الاعلام ج 1 ص 78.

(1) صحيح مسلم ج 1 ص 561 كتاب صلاة المسافرين و قصرها و

أخرجه احمد بن حنبل في مسنده ج 5 ص 127، و أخرجه الطبري عن أبى كريب بطرق اخرى باختلاف يسير أيضا و أخرجه الزركشي عن صحيح مسلم في البرهان ج 1 ص 302.

(2)

جامع البيان للطبري ج 1 ص 23 و فيه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: كان الكتاب الأوّل نزل من باب واحد، و على حرف واحد، و نزل القرآن من سبعة أبواب و على سبعة أحرف: زجر، و أمر، و حلال، و حرام، و محكم، و متشابه- و أمثال-. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 280

لي: يا محمّد إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف» «1».

و ورد في بعض أخبارنا أيضا مثل ذلك:

ففي «الخصال» عن عيسى بن «2» عبد اللّه الهاشمي عن أبيه، عن آباءه قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتانى آت من اللّه فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: يا ربّ وسّع على أمّتي، فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف «3».

و

فيه أيضا عن الصّادق عليه السّلام حين قال له حمّاد بن عثمان: إنّ الأحاديث تختلف عنكم، قال: فقال عليه السّلام: «إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، و أدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه، ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب «4». «5»

لكنّه لا يخفى عليك أنّ هذه الأخبار لضعف سندها، و قصور دلالتها و موافقتها للأخبار العاميّة المتقدّمة، بل جملة منها بعينها مرويّة عن طرقهم،

______________________________

(1) تفسير الطبري ج 1 ص 12 مع تفاوت يسير- و سنن الترمذي ج 5 ص 194.

(2) مشترك بين رجلين: أحدهما عيسى بن عبد اللّه بن على بن عمر بن على بن

الحسين بن على بن أبي طالب عليهم السّلام.

و الثاني عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن على بن أبي طالب عليه السّلام و على أيّ حال لا يحكم بوثاقته، مضافا الى أنّ الراوي عنه كما في الخصال أحمد بن هلال أبو جعفر العبرتايى المتوفّى (267) و هو على ما في كتب الرجال كان غاليا متّهما في دينه. انظر معجم رجال الحديث ج 2 ص 355، و ج 13 ص 202.

(3) الخصال ج 2 ص 358 باب السبعة ح 34.

(4) سورة ص: 39.

(5) الخصال ج 2 ص 358 باب السبعة ح 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 281

و مخالفتها لما يأتى ممّا هو أقوى سندا و أوضح دلالة لا تنهض حجّة لا ثبات نزوله على الوجوه السبعة بحسب المادّة، أو الهيئة، أو اللّغة، حسبما يأتى إليها الاشارة.

و لذا قال الطبرسي في «مجمع البيان»: إنّ الشائع في أخبار الإمامية أنّ القرآن نزل بحرف واحد، ثمّ نسب الى العامّة نزوله على سبعة أحرف «1».

و قال الشهيد في «المسالك» في باب المهر: إنّه قد ورد في أخبارنا أنّ السبعة ليست هي القراآت، بل أنواع التركيب من الأمر، و النهى، و القصص، و غيرها «2».

أقول: بل ورد في أخبارنا أنّه على حرف واحد:

ففي «الكافي» في الصحيح، عن الفضيل «3» بن يسار، قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال عليه السّلام: كذبوا أعداء اللّه، و لكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد «4».

و

في الصحيح عن زرارة، عن أبى جعفر عليه السّلام قال: إنّ القرآن واحد، نزل من عند واحد، و لكنّ الاختلاف يجي ء من قبل الرّواة «5».

______________________________

(1) مجمع البيان

ج 1 ص 25، و فيه: و ما

روته العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف»

اختلف في تأويله ...

(2)

بحار الأنوار ج 93 ص 4 و ص 97 عن أمير المؤمنين عليه السّلام: انزل القرآن على سبعة أقسام: أمر، و زجر، ... و قصص.

(3) الفضيل بن يسار أبو القاسم النهدي البصري روى عن ابى جعفر و ابى عبد اللّه عليهما السلام و توفّى في حياة الصادق عليه السّلام، وثّقه النجاشي و الشيخ- معجم رجال الحديث ج 13 ص 335.

(4) الأصول من الكافي ج 2 ص 630 ح 13.

(5) الأصول من الكافي ج 2 ص 630 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 282

و

عن معلّى بن خنيس، قال: كنّا عند أبى عبد اللّه عليه السّلام.

فقال عليه السّلام: إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ، فقال ربيعة «1»:

ضالّ؟ فقال عليه السّلام: نعم ضالّ، ثمّ قال عليه السّلام: أمّا نحن فنقرأ على قراءة أبي «2».

أراد قراءة أبيه عليه السّلام، و الجمع له تفخيما أوله و لأصحابه.

و يمكن أن يراد قراءة أبيّ بن كعب لمطابقة قراءته لقرائتهم، إلّا أنّها اليوم غير مضبوطة عندنا، إذ لم تصل إلينا قراءته في جميع ألفاظ القرآن، و إسناد القراءة إليه لعلّه للتقيّة عن ربيعة الرأى الّذى هو من رؤس ذوات الأذناب، سيّما بعد الحكم بضلالة ابن مسعود على فرض المخالفة، حيث إنّه قد اشتهر عنه أنّ الفاتحة ليست من القرآن، بل المعوذّتان أيضا ليستامنه.

بل عن بعض علماء العامّة أيضا إنكار نزول القرآن على سبعة أحرف، كما حكي عن جار اللّه الزمخشري أنّه أنكر تواتر السبع، و قال: إنّ القراءة الصحيحة الّتى قرأ

بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّما هي في ضمنها، و إنّما هي واحدة، و انّ المصلّى لا تبرأ ذمّته من الصلاة إلّا إذا قرأ بما فيه الاختلاف على كلّ الوجوه، كمالك، و ملك، و صراط و سراط، و غير ذلك، انتهى «3».

و على كلّ حال فقد ذكر لنزول القرآن على سبعة أحرف وجوه «4»:

______________________________

(1) هو ربيعة بن فرّوخ أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأى من فقهاء العامّة توفّى سنة (136 ه)- الاعلام ج 3 ص 42.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 634 ح 27.

(3) انظر جواهر الكلام ج 9 ص 295.

(4) قال الزركشي في «البرهان» ج 1 ص 304: قال الحافظ أبو حاتم ابن حبّان البستي: اختلف الناس فيهاعلى خمسة و ثلاثين قولا تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 283

منها ما

رواه في «مجمع البيان» عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أمر، و زجر، و ترغيب، و ترهيب، و جدل، و مثل، و قصص «1».

و

عن «النعماني» «2» عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كلّ قسم منها كاف شاف، و هي: أمر، و زجر، و ترغيب، و ترهيب، و جدل، و مثل، و قصص «3».

و منها عن بعض العامّة من أنّه وعد، و وعيد، و أمر، و نهى، و جدل، و قصص، و مثل «4». و مرجعه إلى الأولى.

و منها ما عن بعضهم أيضا من أنّه ناسخ، و منسوخ، و محكم، و متشابه و مجمل، و مفصّل، و تأويل لا يعلمه إلّا اللّه تعالى «5».

و لكن أخبارهم صريحة في أنّ الاختلاف ليس مقصورا على المعنى، بل هو أعمّ

منه و من اللفظ، فالوجوه المتقدّمة لا تسمن و لا تغني من جوع.

و منها أنّ المراد من الحروف القراءات نظرا إلى أنّ الاختلاف فيها على سبعة أوجه:

الأوّل الاختلاف في اعراب الكلمة ممّا لا يزيلها عن صورتها في الكتابة

______________________________

(1) رواه أيضا الطبري في تفسيره ج 1 ص 24 برواية محمّد بن بشّار باسناده عن أبى قلابة.

(2) النعماني هو محمد بن إبراهيم بن جعفر ابو عبد اللّه الكاتب المعروف بابن ابى زينب، كان من أجلّاء تلاميذ الكليني، صاحب كتاب «الغيبة».

(3) رسالة النعماني في صنوف آي القرآن، راجع بحار الأنوار ج 93 ص 4 و ص 97.

(4) تفسير الطبري ج ص 18- و مجمع البيان ج 1 ص 26.

(5) مجمع البيان ج 1 ص 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 284

و لا يغيّر معناها، كقوله: فَيُضاعِفَهُ «1» بالرفع و النصب.

الثاني الاختلاف في الإعراب ممّا يغيّر معناها و لا يزيل صورتها كقوله:

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ «2» و إذ تلقونه «3».

الثالث الاختلاف في حروف الكلمة لا في الاعراب ممّا يغيّر معناها و لا يزيل صورتها كقوله: كَيْفَ نُنْشِزُها «4» و «كيف ننشرها» بالراء و الزاى.

الرابع الاختلاف في الحروف ممّا يغيّر الصورة دون المعنى، عكس الثالث، كقوله: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً «5» و «إلا زقية» «6».

الخامس الاختلاف في الحروف ممّا يزيل الصورة و المعنى نحو طَلْحٍ مَنْضُودٍ «7» و طلع «8».

السادس الاختلاف بالتقديم و التأخير كقوله: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ «9» و سكرة الحقّ بالموت «10».

______________________________

(1) البقرة: 245- قال الطبرسي في المجمع ج 1 ص 272: فيه (اى في فيضاعفه) أربع قراءات: قرأ ابو عمرو و نافع و حمزة و الكسائي بالألف و الرفع. و قرأ عاصم بالألف و النصب ...

(2) النور: 15.

(3)

تلقونه بكسر اللام و ضم القاف مخفّفة من ولق إذا كذب راجع مجمع البيان ج 5 ص 19.

(4) البقرة: 259 قرأ الكوفيّون و ابن عامر بالزاي و الباقون بالراء- التيسير للدانى ص 82.

(5) يس: 29.

(6) قال في المجمع ج 5 ص 16: في الشواذّ قراءة ابن مسعود و عبد الرحمن بن الأسود: (إلّا زقية) من زقا الطائر يزقو و يزقى إذا صاح.

(7) الواقعة: 29.

(8)

نقلها ابن خالويه في «مختصر شواذ القرآن» ص 178 عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قرأها على المنبر،

و (طلح) بالحاء: الموز و (طلع) بالعين ما يبدو من ثمرة النخل في أوّل ظهورها.

(9) ق: 19.

(10) ذكرها ابن خالويه في «مختصر شواذ القرآن» ص 144 عن ابى بكر و أبيّ بن كعب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 285

السابع الاختلاف بالزيادة و النقصان كقوله: وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ «1» و ما عملت أيديهم «2».

قال في «المجمع» حكاية عن الشيخ أبي جعفر الطوسي قدّس سرّهما: أنّ هذا الوجه أملح، لما

روى عنهم عليهم السّلام من جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه «3».

أقول: لكنّك قد سمعت تظافر أخبارنا على ردّ خبر نزوله على سبعة أحرف، و على فرضه فمقتضاه نزوله على الوجوه السبعة، و أين هذا من جواز متابعتهم في قراءاتهم المختلفة الّتى ستسمع اختلافها.

و منها ما يقال: من أنّ المراد سبع لغات من طوائف العرب كلغة هوازن، و هذيل، و قريش، و يمن، و كنانة، و تميم، و ثقيف.

كما يقال: إنّ «الجبت» «4» لم يكن معروفا في لغة أهل الحجاز، و إنّما هو في لغة أهل الحبشة بمعنى السّحر، لكنّ العرب أدخلوه في لغتهم.

قال الفيروزآبادي «5» في «القاموس»: و نزل القرآن على سبعة أحرف، أى

______________________________

(1) يس: 35.

و

مثل هذا القسم أيضا. حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (البقرة: 238) و (صلاة العصر) ذكرها الطبري في «التفسير» ج 2 ص 348 عن مصحف أم سلمة، و عائشة، و حفصة زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله و نحوه أيضا: أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ (الكهف: 80) (و كان كافرا) أخرجه ابن جرير في «التفسير» ج 16 ص 3 عن قتادة في حرف أبيّ بن كعب و مصحف ابن مسعود.

(2) بدون الهاء كما في مصاحف أهل الكوفة، راجع الكشّاف ج 2 ص 252.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 26.

(4) النساء: 51.

(5) الفيروزآبادي: أبو طاهر محمد بن يعقوب اللغوي مجد الدين الشيرازي ولد بكازرون من أعمال شيراز سنة (729) و توفى سنة (817)- الاعلام ج 8 ص 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 286

سبع لغات من لغة العرب، و ليس المراد أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، و إن جاء على سبعة أو عشرة أو أكثر، و لكنّ المعنى أنّ هذه اللّغات متفرّقة في القرآن «1».

و قال ابن الأثير في «النهاية»: أراد بالحرف اللّغة، يعنى على سبع لغات من لغة العرب، أى إنّها متفرّقة، فبعضه بلغة قريش، و بعضه بلغة هذيل، و بعضه بلغة هوازن، و بعضه بلغة اليمن.

ثم نفى إرادة القراآت السبع ... إلى أن قال: و ممّا يبيّن ذلك قول ابن مسعود: إنّي قد سمعت القرّاء فوجدتهم متقاربين، فاقرأوا كما علّمتم، إنّما هو كقول أحدكم: هلّم، و تعال، و أقبل.

و فيه أقوال أخر، هذا أحسنها. انتهى.

لكن قد يقال: إنّهم كانوا في مبدأ الإسلام مخيّرين في أن يقرءوا بما شاؤا منها، ثمّ أجمعوا على أحدها، و إجماعهم حجّة، فصار انعقاد الإجماع منهم على ما

أجمعوا عليه مانعا عن جواز القراءة بغيره.

أقول: و لعلّ هذا الإجماع هو الّذى يدّعون انعقاده في خلافة عثمان حسبما تأتى إليه الإشارة و قد تعرّض بعض أصحابنا له على وجه الحكاية، بل صرّح به في «المحاضرات الأوائل» نقلا عن «الإتقان» للسيوطي، قال: أوّل من جمع القرآن عثمان، و اقتصر من سائر اللّغات السبعة على لغة قريش حين اقتتل الغلمان و المعلّمون في خلافته، كان يقول بعضهم لبعض: إنّ قراءتي خير من قراءتك فجمعهم على مصحف واحد، و جمع المصاحف التي كانت بين الناس،

______________________________

(1) القاموس في كلمة (حرف).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 287

و أحرقها من خشية الفتنة عند الاختلاف، و حملهم على القراءة بوجه واحد، و أمر بإرسال المصاحف الى أقطار الأرض، و إن كان المشهور بين الناس أنّ عثمان هو جامع القرآن مطلقا، و ليس الأمر كذلك، بل الجامع الأوّل للسور المرتبّة الباقية إلى يومنا هذا هو أبو بكر، و كان جمعه أوّلا على سبعة لغات، لأنّه كان نزل على لغات قبائل شتّى من أهل الحجاز تأليفا لقلوب جميعهم حكمة بالغة منه سبحانه، فكانت كل قبيلة تتداول لغتها، و ترجّحها على غيرها، فجرى الاختلاف بذلك، فاندفع بجمع عثمان، و أمّا ترتيب القراءة على لغة خاصّة فهو لعثمان، و لهذا ينسب إليه الرّسم، فيقال: هذا رسم عثمانى، إلى آخر ما ذكره.

و منها ما يتوهّم أنّ المراد بها القراآت السبع المشتهرة في الأزمنة المتأخّرة، و هو توهّم فاسد نبّه على فساده كثير من الخاصّة و العامّة، حسبما تسمع اليه الإشارة، بل صرّحوا بأنّ القراآت المتداولة بينهم في الأعصار المتقدّمة كانت أزيد من عشرين، و قد صنّفوا فيها الكتب و التصانيف، و أنّ أوّل من اقتصر على السبعة

هو ابن مجاهد «1»، و قد اعترضوا عليه في اختيار العدد و المعدود، بل حكى الإجماع عنهم فضلا عن غيرهم على فساد هذا التوهّم «2».

و منها غير ذلك من الأقوال «3» الكثيرة عنهم على نحو أربعين قولا، بل ربّما

______________________________

(1) هو أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، شيخ القراء أبو بكر البغدادي فاق في عصره سائر نظائره من أهل صناعته- توفي سنة (324 ه) و سيجيئ ذكره إنشاء اللّه تعالى- معرفة القرّاء للذهبى ج 1 ص 469.

(2) قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المتوفّى (665 ه):

ظنّ قوم أنّ القراآت السبع الموجودة الآن هي الّتى أريدت في الحديث، و هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، و إنّما يظنّ ذلك بعض أهل الجهل.- الإتقان للسيوطي ج 1 ص 138.

(3) منها: أنّ المراد التوسعة على القارى و لم يقصد به الحصر. بل المقصود الكثرة في الآحاد كما يراد من

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 288

يقال: إنّ الخبر من المشكل الذي لا يدرى معناه، لأنّ الحرف لغة يصدق على حرف الهجاء، و على الكلمة، و على المعنى، و على الجملة. «1»

______________________________

لفظ السبعين و سبعمائة الكثرة في العشرات أو المئات، و نسب هذا القول الى القاضي عيّاض و من تبعه.

- البيان ص 208.

و منها: أنّ ذلك راجع الى بعض الآيات مثل قوله تعالى: أُفٍّ لَكُمْ الأنبياء: 67 قرء على سبعة أوجه: النصب و الجر و الرفع بالتنوين و غيره، و سابعها الجزم- البرهان ج 1 ص 315.

(1) قاله ابو جعفر محمد بن سعدان النحوي، أحد القرّاء، كان يقرأ بقراءة حمزة ثمّ اختار لنفسه قراءة نسبت إليه توفي سنة (231)- البرهان للزركشى ج 1 ص 213- ابناه الرواة ج

3 ص 140.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 289

الفصل الثاني

في منشأ اختلاف القرّاء و ادّعاء التواتر و الإجماع على السبع قد سمعت أنّ الصحيح من روايات أهل البيت عليهم السّلام أنّ القرآن واحد، نزل من عند واحد، و لم يكن فيه اختلاف أصلا، و أنّ الاختلاف من قبل الرواة، و أنّه لم يكن لهؤلاء القرّاء و لقرائتهم ذكر في العصر الأوّل.

حكى ابن طاوس في «سعد السعود» عن محمّد بن «1» بحر الرهنى الذي هو من أعاظم علماء الإمامية في بيان الاختلاف في المصاحف قال: اتّخذ عثمان سبع نسخ و أرسل إلى مكّة صحفا، و إلى الشّام مصحفا، و إلى الكوفة مصحفا، و الى البصرة مصحفا، و الى اليمن مصحفا، و إلى البحرين مصحفا، و أبقى في المدينة مصحفا، و هذه المصاحف لخلوّها عن الإعراب و النقط وقع فيها اختلافات كثيرة.

و يؤيّده ما يحكى عن السيوطي فيما سمّاه «بالمطالع السعيدة» في شرح

______________________________

(1) محمد بن بحر بن سهل الرهنى أبو الحسين الشيباني ساكن ترماشيز من أرض كرمان، له تصانيف كثيرة نحو خمسمائة مصنّف، كان من أكابر الاماميّة في القرن الرابع، و هو من مشايخ أبى العباس بن نوح السيرافي المتوفّى (408 ه)- طبقات أعلام الشيعة ج 1 ص 248.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 290

الفريدة في اللغة: أنّ أبا الأسود الدئلي أعرب مصحفا واحدا في خلافة معاوية.

و منه يظهر أنّ منشأ الاختلافات إنّما هو اختلاف المصاحف العثمانيّة و احتمالاتها.

نعم قد يفسّر الحروف السبعة في الخبر المتقدّم بالقراءات السّبع، بل قد غلب هذا الوهم على كثير من العامّة حتّى زعموا نزول القرآن على الوجوه السبعة، لكنّك قد سمعت اختلافهم في معنى الخبر على وجوه تبلغ أربعين وجها، بل صرّح

الفيروزآبادي و ابن الأثير كما سمعت على عدم ارادة القراآت السبع.

و قال محمد بن بحر الرهنى: إنّ كلّ واحد من القرّاء قبل أن يتجدّد القارئ الّذى بعده لا يجيز إلّا قراءته، ثمّ لمّا جاء الثاني انتقل عن المنع الى الجواز و كذا في القراآت السبعة، فاشتمل كلّ واحد على انكار قراءته، ثمّ عاد الى خلاف ما أنكره، ثمّ اقتصروا على هؤلاء السبعة.

ذكر ابن الجزري «1» الشافعي في «تحبير التيسير» في بيان السبب الباعث لتأليفه: إنّي رأيت الجهل قد غلب على كثير من العوامّ، و شاع عند من لا علم له أنّه لا قراءة إلّا الّذى في هذين الكتابين، يعنى «التيسير» «2» و «الشاطبيّة» «3» و أنّ

______________________________

(1) هو محمّد بن محمّد بن على بن يوسف شمس الدين أبو النمير الدمشقي الشافعي الجزري ولد بدمشق سنة (751) و توفّي بشيراز سنة (833 ه) مصنّفات منها «تجسير التيسير» في القراآت- هديّة العارفين ج 2 ص 187.

(2) التيسير في القراآت السبع لأبى عمر و عثمان بن سعيد الداني المتوفى (444).

(3) الشاطبيّة قصيدة في القراآت السبع نظم في هذه القصيدة كتاب «التيسير» لأبى عمر و الداني المتقدّم ذكره، و أبياتها (1173) بيتا، و ناظمهما أبو محمد القاسم بن فيّرة الشاطبي الضرير المتوفى (590) بالقاهرة، و سمّاها (حرز الأمانى و وجه التهاني)- كشف الظنون ج 1 ص 646.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 291

السبعة الأحرف المشار إليها

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»

هي قراءات هذه السبعة القرّاء، و أنّ ما عدى في هذين الكتابين من القراآت شاذّ لا يقرأ به، أو لا يصحّ و كلّ قول من هذه الأقوال و نحوها باطل لا يلتفت إليه، و خلف

لا يعوّل عند علماء الإسلام عليه، كما بيّنه غير واحد من الأئمّة، و أوضحه المقتدى بهم من سراة الأمّة.

و قال في «النشر في القراآت العشر»: لمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قام بالأمر أبو بكر، و قاتل الصّحابة أهل الردّة و أصحاب مسيلمة، و قتل من الصّحابة نحو خمسمائة صحابي، أشير على أبى بكر بجمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يذهب بذهاب الصّحابة، فتوقّف في ذلك من حيث إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يأمر في ذلك بشي ء، ثمّ اجتمع رأيه و رأى الصحابة على ذلك، فأمر زيد بن ثابت بتتّبع القرآن و جمعه، فجمعه في صحف كانت عند أبى بكر حتّى توفّي ثمّ عند عمر حتّى توفّي، ثمّ عند حفصة، و لمّا كان في نحو ثلاثين من الهجرة، في خلافة عثمان حضر حذيفة بن اليمان فتح أرمينية، و آذربيجان، فرأى النّاس يختلفون في القرآن و يقول أحدهما للآخر: قراءتي أصحّ من قراءتك فأفزعه ذلك، و قدم على عثمان و قال: أدرك هذه الامّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود و النصارى، فأرسل عثمان الى حفصة أن أرسلى إلينا الصحف ننسخها، ثمّ نردّها إليك، فأرسلتها إليه.

فأمر زيد بن ثابت و عبد اللّه «1» بن الزبير، و سعيد «2» بن العاص، و عبد الرحمن «3» بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، و قال: إذا اختلفتم أنتم و زيد في

______________________________

(1) عبد اللّه بن الزبير بين العوامّ المقتول بمكة (73).

(2) سعيد بن العاص بن سعيد الأموي المتوفى (59)- الأعلام ج 3/ 149.

(3) عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني المتوفى (43)- الاعلام ج 4 ص 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2،

ص: 292

شي ء فاكتبوه بلسان قريش فإنّما نزل بلسانهم، فكتب منها عدّة مصاحف، و وجّهها إلى الأمصار.

إلى أن قال: و اجتمعت الامّة المعصومة من الخطاء على ما تضمّنته هذه المصاحف.

ثمّ قال: و قرأ أهل كل مصر بما في مصحفهم و تلقّوا ما فيه عن الصحابة الّذين تلقّوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ ذكر القرّاء الذين تلقّوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكر نحو أربعين قارئا غير القرّاء العشر المشهورين.

الى أن قال: تجرّد قوم للقراءة و الأخذ، و اعتنوا بضبط القراءة أتمّ عناية، حتّى صاروا في ذلك أئمّة يهتدى بهم، و يرحل إليهم و يؤخذ عنهم، قد أجمع أهل بلدهم على تلقّى قراءتهم بالقبول و لم يختلف عليهم فيها اثنان، و لتصدّيهم للقراءة نسبت إليهم.

ثمّ ذكر عشرين قارئا منهم العشرة المشهورون، و زاد عليهم: شيبة بن «1» نصاح، و حميد بن «2» قيس الأعرج، و محمد بن «3» محيصن، و يحيى بن «4» وثاب،

______________________________

(1) هو شيبة بن نصاح بن سرجس المدني المقري مولى أمّ سلمة رضى اللّه عنها و كان من شيوخ نافع، توفي سنة (130 ه).

(2) حميد بن قيس الأعرج المقرئ المكي المتوفّى (130 ه).

(3) هو محمد بن عبد الرحمن السهمي ابن محيصن المكي كان من المقرئين بالشواذ المقبولة في مصطلحهم، توفّي سنة (123 ه).

(4) يحيى بن وثاب الأسدى المقرئ الكوفي المتوفّى (103 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 293

و سليمان «1» الأعمش، و إسماعيل بن «2» عبد اللّه المخزومي و عطيّة «3» بن قيس الكلابي، و إسماعيل «4» بن عبيد اللّه بن أبى المهاجر، و يحيى بن الحادث الذمارى «5»، و شريح بن «6» يزيد الحضرمي.

ثمّ قال: إنّ القرّاء

بعد هؤلاء المذكورين كثروا و تفرّقوا في البلاد و انتشروا، و خلفهم أمم بعد أمم، عرفت طبقاتهم و اختلفت صفاتهم، منهم المتقن للتلاوة، المشهور بالرواية و الدراية، و منهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، و كثر بينهم لذلك الاختلاف، و قلّ الضّبط و اتّسع الخرق، و كاد الباطل يلتبس بالحقّ، فقام جهابذة علماء الامّة، و صناديد الائمّة، فبالغوا في الاجتهاد، و جمعوا الحروف و القراآت، و ميّزوا بين المشهور و الشاذّ، و الصحيح و الناد بأصول أصّلوها، و أركان قد فصّلوها، و ها نحن نشير إليها، و نعوّل كما عوّلوا عليها، فنقول: كلّ قراءة وافقت العربيّة و لو بوجه، و وافقت أحد المصاحف العثمانيّة و لو احتمالا، و صحّ سندها، فهي القراءة الصحيحة الّتى لا يجوز ردّها، و لا يحلّ إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة الّتى نزل بها القرآن و وجب على النّاس قبولها، سواء أ كانت من السّبعة أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة

______________________________

(1) سليمان بن مهران أبو محمد الأسدى الكوفي المعروف بالأعمش، المتوفى (148).

(2) إسماعيل بن عبد اللّه بن قسطنطين ابو إسحاق المخزومي المكّى المقرئ كان شيخ محمد بن إدريس الشافعي في القراءة توفي سنة (170 ه).

(3) هو عطيّة بن قيس ابو يحيى الكلابي الحمصي الدمشقي التابعي القارى توفى سنة (121) و قد جاوز المائة سنة- غاية النهاية ج 1 ص 513.

(4) إسماعيل بن عبيد اللّه بن أبى المهاجر الدمشقي المتوفّى (132 ه)- تاريخ الاعلام ص 376.

(5) يحيى بن الحارث بن عمرو الذماري الدمشقي المقرئ المتوفى (145)- غاية النهاية ج 2 ص 367.

(6) شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي المقري المتوفى (203)- غاية النهاية ج 1 ص 325.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 2، ص: 294

المقبولين، و متى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذّة، أو باطلة، سواء أ كانت عن السّبعة، أو عمّن هو أكبر منهم.

هذا هو الصحيح عند ائمّة التحقيق من السلف و الخلف «1».

ثمّ حكاه عن جماعة «2» من العامّة، و حكى عن أبي شامة في كتابه «المرشد الوجيز» أنّه لا ينبغي أن يغترّ بكلّ قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الائمّة السّبعة، و يطلق عليها لفظ الصحّة، و أنّ هكذا أنزلت إلّا إذا دخلت في ذلك الضابط، و حينئذ لا يتفردّ بنقلها مصنّف عن غيره، و لا يختصّ ذلك بنقلها عنهم، بل ان نقلت عن غيرهم من القرّاء فذلك لا يخرجها عن الصحّة، فإنّ الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من نسبت إليه، غير أنّ هؤلاء السبعة لشهرتهم و كثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس الى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم «3».

إلى أن قال بعد كلام طويل: قال الإمام أبو محمد بن مكّى في مصنّفه ألحقه بكتابه «الكشف»: فإن سأل سائل فقال: فما الذي يقبل من القرآن الآن فيقرأ به، و ما الذي لا يقبل و لا يقرء به؟ فالجواب أنّ جميع ما روى في القرآن على ثلاثة أقسام:

الأوّل ما يقبل و يقرأ به، و ذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال: أن ينقل عن الثقات عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و يكون في العربيّة الّذى نزل به القرآن سائغا، و يكون موافقا لخطّ المصحف.

______________________________

(1) النشر لابن الجزري ج 1 ص 9.

(2) حكاه عن عثمان بن سعيد الداني، و ابى محمّد مكي بن ابى طالب، و أحمد بن عمّار المهدوى.

(3) النشر في القراآت

العشر ج 1 ص 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 295

الثاني ما صحّ نقله عن الآحاد، و صحّ وجهه في العربيّة، و خالف لفظ خطّ المصحف، فهذا يقبل و لا يقرأ لعلّتين: أحدهما أنّه لا يثبت القرآن بخبر الواحد، و الاخرى أنّه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على صحّته، و لا يجوز القراءة به، و لا يكفر من جحده.

و الثالث ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة و لا وجه له في العربيّة، فهذا لا يقبل و لا يقرأ و إن وافق خطّ المصحف.

إلى أن قال: و أمّا هل القراآت الّتى يقرأ بها اليوم في الأمصار جميع الأحرف السّبعة، أم بعضها؟ فهذه المسئلة مبنيّة على الفصل المتقدّم، فإنّ من عنده لا يجوز للامّة ترك شي ء من الأحرف السّبعة يدّعى أنّها مستمرّة النقل بالتّواتر الى اليوم، و إلّا تكون الامّة جميعها عصاة مخطئين في ترك ما تركوا منه، كيف و هم معصومون من ذلك.

و أنت ترى ما في هذا القول، لأنّ القراآت المشهورة اليوم من السبعة أو العشرة، أو الثلاثة عشرة بالنسبة الى ما كان قلّ من كثر، و نزر من بحر، فإنّ من له اطلاع على ذلك يعرف أنّ القرّاء الّذين أخذوا عن الائمّة المتقدّمين كثير، و الذين أخذوا عنهم أيضا أكثر، و هلّم جرّا، فلمّا كانت المائة الثالثة، و اتّسع الخرق، و قلّ الضبط، و كان علم الكتاب و السنّة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدّى بعض الأئمّة لضبط ما رواه من القراآت، فكان أوّل إمام جمع القراآت في كتاب هو أبو عبيد القاسم بن سلّام، المتوفّى (224)، و جعلهم فيما أحسبه خمسة و عشرين قارئا مع هؤلاء السبعة «1».

______________________________

(1) النشر في

القراآت العشر ج 1 ص 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 296

و كان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية، جمع كتابا في القراآت الخمسة من كلّ مصر واحدا، و توفّى سنة (258 ه).

و كان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي، صاحب قالون، ألّف كتابا في القراآت، و جمع فيه قراءة عشرين إماما منهم هؤلاء السبعة، توفّي سنة (282 ه).

و كان بعده الإمام أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، جمع كتابا كافلا سمّاه «الجامع»، فيه نيف و عشرون قراءة، توفّي سنة (310 ه).

و كان في اثره أبو بكر محمّد بن أحمد بن عمر الداجوني المتوفّى (324 ه)، جمع كتابا في القراآت و أدخل فيه أبا جعفر أحد العشرة.

و كان في اثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد، إمام القرّاء في عصره، و هو أول من اقتصر على قراءة هؤلاء السبعة فقط، توفّي سنة (324 ه).

و قام الناس في مصره و بعده و ألّفوا في القراآت أنواع التأليفات المشتملة على القراآت العشر، و الأكثر منها أو الأقلّ.

إلى أن قال بعد الإطناب الذي حذفناه للاختصار: و لا زال النّاس يؤلّفون في كثير القراآت و قليلها، يروون شاذّها و صحيحها بحسب ما وصل إليهم، أو صحّ لديهم، و لا ينكر أحد عليهم، بل هم في ذلك متّبعون سبيل السلف حيث قالوا: القراءة سنّة متّبعة يأخذها الآخر عن الأوّل، و ما علمنا أحدا أنكر شيئا قرأ به الآخر إلّا ما قدّمنا عن ابن «1» شنبوذ لكونه خرج عن المصحف العثماني،

______________________________

(1) هو: محمد بن احمد بن أيّوب المعروف بابن شنبوذ المقرئ البغدادي المتوفى (328)- غاية النهاية

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 297

و للناس في ذلك خلاف كما

قدّمناه و لذا ما أنكر على ابن «1» مقسم من كونه أجاز القراءة بما يوافق المصحف من غير أثر.

أمّا من قرأ «الكامل» «2» للهذلى، أو «سوق العروس» «3» للطبري أو «الإقناع» «4» للأهوازى، أو «كفاية» «5» أبى العزّ، أو «المبهج» «6» لسبط الخيّاط، أو «الروضة» «7» للمالكى، و نحو ذلك. على ما فيها من ضعيف و شاذّ عن السبعة و العشرة، و غيرهم، فلا نعلم أحدا أنكر ذلك، و لا زعم أنّه مخالف لشي ء من الأحرف السبعة «8».

بل ما زالت علماء الامّة، و قضاة المسلمين يكتبون خطوطهم، و يثبتون شهادتهم في إجازاتنا بمثل هذه الكتب و القراآت.

______________________________

ج 2/ 52.

(1) هو محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن مقسم البغدادي المتوفى (354)- غاية النهاية ج 2 ص 123.

(2) الكامل في القراآت الخمسين لأبى القاسم يوسف بن على بن عبادة المعذلى المغربي المتوفى (465)- كشف الظنون ج 2 ص 1381.

(3) سوق العروس في القراآت لأبي معشر الطبري عبد الكريم بن عبد الصمد المتوفى (478).

(4) الإقناع في القراآت الشاذّة لأبى على الحسن بن على الأهوازى المقرئ المتوفى (446)- كشف الظنون ج 1 ص 140.

(5) كفاية المبتدي و تذكرة المنتهى في القراآت العشر لأبى العزّ محمد بن الحسين بن بندار القلانسي الواسطي المتوفى (521 ه)- كشف الظنون ج 2 ص 1500.

(6) المبهج في القراآت لعبد اللّه بن على البغدادي المعروف بسبط الخيّاط توفى سنة (541 ه)- كشف الظنون ج 2 ص 1582.

(7) الروضة في القراآت السبع لأبى على الحسن بن محمد بن إبراهيم المقري البغداديّ المالكي المتوفى (438 ه)- كشف الظنون ج 1 ص 931.

(8) النشر في القراآت العشر ج 1 ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 298

ثم

قال: و إنّما أطلنا هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أنّ القراآت الصحيحة هي الّتى عن هؤلاء السبعة، و أنّ الأحرف السبعة الّتى أشار إليها النبي صلّى اللّه عليه و آله هي قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهّال أنّ القراآت الصحيحة هي الّتى في «الشاطبيّة» و «التيسير»، و أنّها هي المشار إليها

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»

، حتّى أنّ بعضهم يطلق على ما لم يكن عن هؤلاء السبعة شاذّا، و ربما كان كثير ممّا لم يكن في «الشاطبية» و «التيسير» عن غير هؤلاء أصحّ من كثير ممّا فيهما، و إنّما أوقع هؤلاء في الشّبهة أنّهم سمعوا نزول القرآن على سبعة أحرف، و يسمعون قراءات السبعة، فظنّوا أنّ هذه هي المشار إليها، و لذلك كره كثير من المتقدّمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القرّاء، و قالوا: لماذا اقتصر على هذا العدد «1».

ثمّ أطال الكلام الى أن قال: و كان من جواب الشيخ الإمام مجتهد العصر أبى العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السّلام ابن تيمية «2»: لا نزاع بين العلماء أنّ الأحرف السبعة الّتى ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ القرآن أنزل عليها ليست قراءات القرّاء السبعة المشهورة، بل أوّل من جمع ذلك ابن مجاهد، فيكون ذلك موافقا لعدد الحروف الّتى أنزل عليها القرآن لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أنّ القراآت السبع هي الحروف السّبعة، و انّ هؤلاء السبعة هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم، و لهذا قال بعض من قال من أئمّة القرّاء: لو لا أنّ ابن مجاهد سبقني الى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي

إمام جامع البصرة، و إمام قرّاء البصرة في

______________________________

(1) النشر في القراآت العشر ج 1 ص 36.

(2) ابن تيميّة: أحمد بن عبد الحليم الحرّانى الدمشقي الحنبلي ابو العبّاس المتوفّى سنة (728 ه)- الأعلام ج 1 ص 140.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 299

زمانه في رأس المأتين.

ثم قال ابن تيميّة: و لذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبعون من السّلف و الأئمّة في أنّه لا يتعيّن أن يقرأ بهذه القراآت المعيّنة في جميع أعصار المسلمين، بل من تثّبت عنده قراءة حمزة و الكسائي فله أن يقرأ بها، بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع و الخلاف، بل أكثر العلماء الأئمّة الّذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان «1» بن عيينة، و أحمد بن «2» حنبل، و بشر «3» بن الحارث، و غيرهم يختارون قراءة أبى جعفر ابن القعقاع، و شيبة بن نصاح المدنييّن، و قراءة البصريّين لشيوخ يعقوب و غيرهم على قراءة حمزة و الكسائي.

ثمّ أطال الكلام في ذلك و النقل عن جماعة من العلماء بمثل هذا القول، و انكار الاقتصار على السبع، و أنّ وجه الاقتصار على السبعة إنّما هو لقصور الهمم، و نقص العلم، و أنّه إنّما اقتصر على قراءة العشر لذلك، و إلّا فهي غير محصورة فيهم، إلى آخر ما ذكر.

و إنّما أطلت الكلام بنقله للتنبيه على مبدأ الأمر و نهايته حسبما صرّحوا به مضافا إلى سراية ذلك التوهّم الى أذهان جملة من الأعيان حسبما تسمع، و لعلّه إلى ذلك أشار الشهيد في بحث المهور من «المسالك» بعد خبر الأحرف السبعة:

______________________________

(1) سفيان بن عيينة بن ميمون الكوفي، ولد بالكوفة سنة (107)، و توفّى بمكة سنة (198)- الاعلام ج 3 ص 159.

(2) احمد بن محمد بن

حنبل الشيباني ولد ببغداد سنة (164) و توفى سنة (241) له مصنّفات منها «المسند» ستة مجلّدات تحتوى على ثلاثين الف حديث- الاعلام ج 1 ص 192.

(3) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي المتوفى (227) ه- التقريب ج 1 ص 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 300

تفسير الصراط المستقيم ج 2 349

أنّه قد فسّرها بعضهم بالقراءات السبعة، و ليس بجيّد، لأنّ القراآت المتواترة لا تنحصر في السبعة، بل و لا في العشرة كما حقّق في محلّه، و اقتصروا على السبعة تبعا لابن مجاهد، حيث اقتصر عليها تبرّكا بالحديث، و في أخبار: أنّ السبعة ليست هي القراآت، بل أنواع التركيب من الأمر، و النهى، و القصص، و غيرها، انتهى.

إلّا أنّ فيه: أنّ دعوى التواتر في شي ء منها فضلا عن جميعها ليست في محلّها، و إن سبقه فيها بل لحقه عليها كثير من الفريقين، بل ذكر والدي العلّامة أعلى اللّه مقامه في «شرحه للشرايع»: أنّ المشهور بين المتأخرين من الطائفة تواتر القراآت السبع، و قد استفاض عليه حكاية الشهرة عن الأجلّة، و ممّن ذهب إليه الفاضل «1» في «التذكرة» كما عن «المنتهى» و «النهاية»، و المحقّق الثاني «2» في «جامع المقاصد» «3» و الشهيد «4» في «الروض» و «المقاصد العليّة» فقالوا: إنّ الكلّ نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين تخفيفا على الأمّة، و تهوينا على هذه الملّة، استنادا إلى ما

رواه الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف»

، مدّعيا تواتر ذلك منه، الى آخر ما ذكره عطّر اللّه مرقده.

و ذكر في «المدارك» بعد حكاية الإجماع عن جمع من الأصحاب على تواتر القراآت السبع: أنّه نقل جدّى قدّس سرّه

عن بعض محقّقى القرّاء أنّه أفرد كتابا في أسماء الرّجال الذين نقلوا هذه القراآت في كلّ طبقة، و هم يزيدون عمّا

______________________________

(1) هو العلّامة الحلّى الحسن بن يوسف المتوفى (726 ه).

(2) هو على بن الحسين بن عبد العلى، الكركي المتوفّى (940 ه).

(3) جامع المقاصد ج 2 ص 244.

(4) المراد به هو الشهيد الثاني زين الدين بن على العاملي الشهيد في سنة (966).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 301

يعتبر في التواتر «1».

قال: ثمّ إنّه حكى عن جماعة من القرّاء أنّهم قالوا: ليس المراد بتواتر السبع و العشر أنّ كلّ ما ورد من هذه القراآت متواترة، بل المراد انحصار التواتر الآن فيما نقل من هذه القراآت، فإنّ بعض ما نقل عن السّبعة شاذّ، فضلا عن غيرهم، و هو مشكل جدّا، لأنّ المتواتر لا يشتبه كما يشهد به الوجدان. انتهى «2».

و قال الفاضل في «التذكرة» يجب أن يقرأ بالمتواتر من القراآت، و هي السبعة، و لا يجوز أن يقرأ بالشواذ، و لا بالعشرة «3».

و في «الذّكرى»: يجوز القراءة بالمتواتر، و لا يجوز بالشواذّ، و منع بعض الأصحاب من قراءة أبى جعفر، و يعقوب، و خلف، و هي كمال العشرة، و الأصحّ جوازها لثبوت تواترها كثبوت تواتر القراآت السبعة «4».

بل عن «جامع المقاصد» «5»، و «الغروية»، و «الروض» الإجماع على تواتر السبع، كما عن «مجمع البرهان» نفى الخلاف فيه.

بل قد يؤيّد وصفها بالتواتر بالتتبع في الكتب الأصوليّة و الفقهيّة، و بما في «وافية الأصول» للفاضل التوني «6» من إجماع قدماء العامّة، و من تكلّم في المقام

______________________________

(1) روض الجنان: 264.

(2) مدارك الأحكام ج 3 ص 338.

(3) التذكرة ج 1 ص 115.

(4) الذكرى: 187.

(5) جامع المقاصد ج 1 ص 244.

(6) الروض: ص

264.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 302

من الشيعة عليه «1».

بل عن الفاضل في «نهاية الأصول» الاستدلال على تواترها بأنّها لو لم تكن متواترة لم تجز قراءة شي ء كملك و مالك، و أشباههما، و التالي باطل فالمقدّم مثله، دليل الشرطيّة أنّهما وردا عن القرّاء السبعة، و ليس تواتر أحدهما أولى من تواتر الآخر، فإمّا أن يكونا متواترين و هو المطلوب، أو لا يكون شي ء منهما بمتواتر و هو باطل، و إلّا يخرج عن كونه قرآنا، هذا خلف «2».

و في «زبدة» شيخنا البهائي: و السبع متواترة إن كانت جوهرية، كملك، و مالك، و أمّا الأدائيّة كالمدّ و الإمالة فلا.

و ذكر الشّارح الفاضل المازندراني «3» في تعليل الأوّل: أنّ كلّا من القراءتين قرآن فلا بدّ أن يكون متواترا، و إلّا لزم أن يكون بعض القرآن غير متواتر، و هو باطل، و كأنّه أشار به الى ما حقّقوه في موضع آخر من أنّه لا بدّ أن يكون القرآن متواترا، و أنّ ما ليس بمتواتر فليس بقرآن، نظرا إلى توفّر الدواعي على نقله للمقرين باعجاز الخصم و قهره، و للمنكرين بإرادة التحدّى لإبطال كونه معجزا، و لأنّه أصل لجميع الأحكام علميّا كان أو عمليّا، و كلّما كان كذلك فالعادة تقضي بالتواتر في تفاصيله من أجزاءه، و ألفاظه، و حركاته، و سكناته.

بل ذكر الفاضل في «نهايته»: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان مكلّفا بإشاعة ما نزل عليه من القرآن الى عدد التواتر لتحصيل القطع بنبوّته.

______________________________

(1) الوافية للفاضل التوني ص 148 الباب الثالث في الادلّة الشرعيّة.

(2) هو بهاء الملّة و الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الاصبهانى المتوفى (1031 ه).

(3) هو محمد صالح بن احمد المازندراني صهر المجلسي الأول، توفّي

سنة (1081 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 303

بل ذكر في جواب سئوال أورده على نفسه: أنّ الإجماع دلّ على وجوب إلقاءه على عدد التواتر، لئلّا تنقطع المعجزة الدالّة على صدق نبوّته.

إلى أن قال: و أمّا اختلاف المصاحف فكلّ ما هو من الآحاد فليس بقرآن، و ما هو متواتر فهو القرآن.

الى غير ذلك من مختلفات كلماتهم الّتى ربما يظنّ منها اتّفاقهم على تواتره كما زعموه.

لكنّك خبير بأنّ ما ذكروه في هذا الباب ممّا سمعت و ما لم تسمع كلّها قاصرة عن إفادة ذلك، نعم قام الإجماع بل الضرورة على عدم الزيادة في القرآن، فالمشترك بين القراآت السبع، بل و بين غيرها أيضا قرآن قطعا، و أمّا خصوص ما تفرّد به كلّ واحد من القرّاء السبعة أو العشرة من حيث تلك الخصوصيّة لا من حيث المادّة الجامعة فلم يقم إجماع و لا ضرورة على كونه بتلك القراءة الخاصّة قرآنا، كيف و قد سمعت أنّ المستفاد من الأخبار أنّه واحد، نزل من عند إله واحد، بل قد سمعت سبب الاختلاف في ذلك، و أنّ كلّ ما اختلفوا فيه أو خصوص السبعة ليس ممّا نزل به جبرئيل، و لا ممّا قرأ النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا ممّا أقرّه.

بل كيف يكون الأغلاط العثمانيّة في المصاحف السبعة و اختلاف الناس في قراءة كلّ منها، حيث إنّها كانت عارية من النقط و الإعراب أصلا في إثبات القرآن النازل من السّماء.

هذا مضافا الى استفاضة الأخبار بل تواترها على مخالفة قراءة الأئمّة القراآت المشهورة، بل كتب القراءة و التفسير مشحونة من قولهم: قرأ حفص كذا، و عاصم كذا، و حمزة كذا، و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كذا، و في

كثير منها: و في

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 304

قراءة أهل البيت كذا، و ربما ينسبونها الى واحد منهم عليهم السّلام فجعلوا قراءتهم قسيما لقراءة أهل بيت الوحي و التنزيل، بل كثيرا ما صدر ذلك من الخاصّة، و أخبارهم به متظافرة.

قال ابن أبي الحديد في «شرح النهج» حكاية عن الشيخ أبى جعفر الإسكافى «1» في كتابه المسمّى ب «نقض العثمانية» في جملة كلام له في الإمامة:

و قد تعلمون أنّ بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى، فيحملون الناس على ذلك حتّى لا يعرفوا غيره كنحو ما أخذ الناس الحجّاج «2» بن يوسف الثقفي بقراءة عثمان، و ترك قراءة ابن مسعود، و أبيّ بن كعب، و توعّد على ذلك، سوى ما صنع هو و جبابرة بنى أميّة، و طغاة بنى مروان بولد عليّ عليه السّلام و شيعته، و إنّما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجّاج حتّى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، و نشأ أبناؤهم، و لا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها، و كفّ المعلّمين عن تعليمها، حتّى لو قرأت قراءة عبد اللّه، و أبيّ ما عرفوها، و لظنّوا بتأليفها الاستكراه و الاستهجان، لإلف العادة، و طول الجهالة، لأنّه إذا استولت على الرعيّة الغلبة، و طالت عليهم أيّام التسلّط، و شاعت فيهم المخافة، و شملتهم التقيّة، اتّفقوا على التخاذل و التساكت، فلا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم، و تنقص من ضمائرهم، حتى تصير البدعة الّتى أحدثوها غامرة للسنّة.

و أمّا دعوى الإجماع و الضرورة على تواتر السبعة أو العشرة فغير مسموعة لعدم تحقّق شي ء من الأمرين، و المحكيّ منهما غير مجد، سيّما بعد

______________________________

(1) هو أبو جعفر محمد بن عبد اللّه المعتزلي الإسكافي البغدادي المتوفى

(240)- تذكرة الحفّاظ ج 2/ 71.

(2) الحجّاج بن يوسف الثقفي الطائفي الهالك (95)- العبر ج 1 ص 112.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 305

الخبرة التامّة بحقيقة الأمر، و توفّر الأمارات على انتهاء ذلك الى خطّ عثمان، و ضبط زيد بن ثابت.

على أنّه إن أريد التواتر على المشترك بين الجميع فمسلّم، و إن أريد التواتر على خصوص كلّ منها فأوّل الكلام، لعدم تحقّق ما هو شرط فيه قطعا من الأخبار و العدد في كلّ طبقة من الطبقات، بل لعلّه يسرى الإشكال في الأوّل أيضا و إن كان الحكم مقطوعا فيه.

ثم إن أريد بالتواتر تواتر النقل عن السبعة أو العشرة فهو على فرضه غير مجد، أو عن النبي صلّى اللّه عليه و آله فلا يحصل بذلك العدد، سيّما مع الانتهاء الى الواحد الذي حاله معلوم، مع أنّ المدّعى إثبات التواتر على كلّ من السبعة.

و مما مرّ ظهر ضعف ما ادّعاه الصالح المازندراني في «شرح الزبدة» من أنّ التواتر قد يحصل بسبعة نفر، إذ لا يتوقّف على حصول عدد معيّن، بل المعتبر فيه حصول اليقين، و أنّ القارئين لكلّ واحد من القراآت السّبع كانوا بالغين حدّ التواتر، إلّا أنّهم أسندوا كلّ واحدة منها الى واحد منهم إمّا لتجرّده بهذه القراءة، أو لكثرة مباشرته لها، ثمّ أسندوا الرّواية عن كلّ واحد منهم الى اثنين لتجرّدهما لروايتها و عدم تجرّد غيرهما.

إذ فيه المنع من حصول اليقين بنقلهم سيّما مع مخالفة المذهب مع هن و هن، مع أنّ الكلام ليس في المشترك بل في الخصوص، و بلوغ القارئين لكل واحدة منها حدّ التواتر أوّل الكلام، هذا كلّه مضافا إلى ما أورده الرّازى عليهم من أنّه إذا كانت تلك القراآت متواترة، و خيّر

اللّه المكلّفين بينها فترجيح بعضها على بعض موجب للفسق، مع أنّك ترى أنّ كلّ واحد من هؤلاء القرّاء مختصّ بنوع من القراءة، و يحمل الناس عليه و يمنعهم عن غيره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 306

و لعلّه لذلك ذكر الشهيد الثاني: أنّه ليس المراد تواترها، بل المراد انحصار المتواتر فيما نقل الى الآن من القراآت، فإنّ بعض ما نقل عن السبعة شاذّ، فضلا عن غيرهم، كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشأن.

قلت: و لعلّ مراده به هو الضابط المتقدّم المذكور في كلام ابن الجزري، و غيره المشتمل على الأمور الثلاثة الّتى هي موافقة إحدى المصاحف العثمانية و لو احتمالا، و العربيّة، و صحّة السند، و إليه أشار ابن الجزري في «طيبة النشر» بقوله:

و كلّ ما وافق وجه نحوو كان للرسم احتمالا يحوى

و صحّ اسنادا هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان

و حيثما يختلّ ركن أثبت شذوذه لو أنّه للسبعة

و هو كما ترى سيّما مع منافاته لما ادّعوه من تواتر السبعة بخصوصها.

و أمّا ما حكاه في «المدارك» عن جدّه عن بعض محقّقى القرّاء أنّه أفرد كتابا في ذلك، فلعمري إنّ الحكاية لا يثبت بها تواتر الرواية، و إنّما هو بالنسبة إلينا بل اليه أيضا خبر واحد، فمن الغريب الركون الى مثله في دعوى التواتر، فضلا عن دعوى تواتر الثلاثة كمال العشرة كما سمعت عن «الذكرى».

و أغرب منه ما في «جامع المقاصد» حيث قال: و قد اتّفقوا على تواتر السبع.

و في الثلاث الاخر الّتى تكمل بها العشرة، و هي قراءة أبى جعفر،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 307

و يعقوب، و خلف تردّد، نظرا الى الاختلاف في تواترها «1»، و قد شهد شيخنا في «الذكرى» بثبوت تواترها، و لا يقصر من

ثبوت الإجماع بخبر الواحد، فحينئذ تجوز القراءة بها، و ما عداها شاذّ ... إلخ «2».

إذ في كلّ من المقيس و المقيس عليه نظر واضح، على أنّه لا يثبت به التواتر، و لعلّه لهذه الجهة و غيرها أنكر كثير من المتأخّرين تواتر السبعة، فضلا عن غيرها، و نسبه في «القوانين» إلى جماعة من أصحابنا، و قد بالغ الفاضل الجليل السيّد «3» نعمة اللّه في ذلك، و حكاه عن السيّد الأجلّ على بن طاووس في مواضع من كتاب «سعد السعود» و غيره، و عن صاحب «الكشّاف» عند تفسير قوله تعالى: وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ «4»، و عن نجم الأئمّة الرضى «5» في موضعين من «شرح الرسالة» أحدهما عند قول ابن الحاجب «6»: و إذا عطف على الضمير المجرور أعيد الخافض.

أقول: لم أظفر به «7» فيما عندي من نسخة «الكشاف».

______________________________

(1) جامع المقاصد ج 2 ص 244.

(2) الذكرى: 187.

(3) السيّد نعمة اللّه بن عبد اللّه الجزائرى الأديب المدّرس الفقيه الإمامى ولد سنة (1050) و توفي سنة (1112 ه)- الاعلام ج 9 ص 11.

(4) الانعام: 137.

(5) محمّد بن الحسن رضى نجم الدين الأسترابادي المتوفّى نحو (686 ه)- الاعلام ج 6 ص 317.

(6) هو عثمان بن عمر بن أبى بكر بن يونس النحوي الفقيه المالكي ابن الحاجب ولد في أسنا من صعير مصر سنة (570) و مات بالإسكندرية سنة (646)- الاعلام ج 4 ص 374.

(7) كلام الزمخشري في الطعن على ابن عامر موجود في الكشّاف ج 2 ص 54 في ذيل الآية (137) من سورة الانعام، راجع المطبوع.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 308

نعم قال شيخنا «1» البهائى في «الكشكول»: طعن الزمخشري في قراءة ابن عامر: وَ

كَذلِكَ زَيَّنَ ببناء الفعل للمفعول، و قد شنّع عليه كثير من الناس.

قال الكواشي «2»: كلام الزمخشري يشعر بأنّ ابن عامر ارتكب محظورا، و أنّه غير ثقة، لأنّه يأخذ القرائة من المصحف، لا من المشايخ، و مع ذلك أسندها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و ليس الطعن في ابن عامر طعنا فيه فقط، بل هو طعن أيضا في علماء الأمصار، حيث جعلوه أحد القراء السبعة المرضيّة، و في الفقهاء حيث لم ينكروا عليهم، و إنّهم يقرءونها في محاربيهم، و اللّه أكرم من أن يجمعهم على الخطاء.

و قال أبو حيّان «3»: أعجب لعجمى ضعيف في النحو يردّ على عربيّ صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في كلام العرب في غير بيت- و أعجب سواء ظنّ هذا الرّجل بالقرّاء الأئمّة الذين تخيّرهم هذه الأمّة لنقل كتاب اللّه تعالى شرقا و غربا، و قد اعتمد المسلمون على نقلهم، لضبطهم و معرفتهم و ديانتهم «4».

و قال المحقّق «5» التفتازاني: هذا أشدّ الجرم، حيث طعن في اسناد القراء السبعة و رواياتهم، و زعم أنّهم إنّما يقرءون من عند أنفسهم، و هذه عادته يطعن

______________________________

(1) بهاء الدين العاملي محمد بن الحسين بن عبد الصمد من أكابر الاماميّة و رئيس علماء عصره ولد في بعلبك سنة (953) و توفّي بأصفهان سنة (1031 ه) و دفن بطوس- الاعلام ج 6 ص 334.

(2) أحمد بن يوسف بن الحسن الموصلي المفسّر الفقيه الشافعي المتوفى (608)- الاعلام ج 1 ص 259.

(3) أبو حيّان التحوى: محمّد بن يوسف بن على الأندلسي الحيّانى، ولد في غرناطة سنة (654) و توفّى بالقاهرة سنة (745 ه)- الاعلام ج 8 ص 26.

(4) روح المعاني في تفسير القرآن للآلوسي نقلا عن

أبى حيّان ج 8 ص 29.

(5) هو مسعود بن عمر التفتازاني الأديب المنطقي ولد سنة (712) و توفّى سنة (793 ه)- الاعلام ج 8 ص 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 309

في تواتر القراآت خطاء، و كذا الروايات عنهم.

و قال ابن المنير «1»: نتبرأ الى اللّه، و نبرّء حملة كلامه عمّار ما هم به، فقد ركب عمياء و تخيّل القراءة اجتهادا و اختيارا، لا نقلا و اسنادا، و نحن نعلم أنّ هذه القراءة قرأها النبي صلّى اللّه عليه و آله على جبرئيل كما أنزلها عليه، و بلغت إلينا بالتواتر عنه، فالوجوه السبعة متواترة اجمالا و تفصيلا، فلا مبالاة بقول الزمخشري و أمثاله، و لو لا عذر أنّ المنكر ليس من أهل علمي القراءة و الأصول لخيف عليه الخروج عن ربقة الإسلام، و مع ذلك فهو في وهدة خطرة، و زلّة منكرة «2».

و لا يخفى أنّ كلام أبي حيّان، و التفتازاني، و ابن المنير، و نظرائهم ناشئ من مجرّد التقليد و العصبيّة، و حسن الظنّ باختيار الأمّة و الاعتماد على المتّسمين باسم الإسلام، و متابعة السلف الصّالح، حتّى كادوا يسطون بالّذين يتكلّمون بشي ء من الحقّ و ينسبونه الى الخطأ و الجهالة، بل الخروج عن الدين، فكيف يجترئ أحد أن يتفّوه بالحقّ بعد ظهوره في مثل هذا الأمر الّذى يسهل الخطب فيه، فضلا عن غيره من الحقائق.

و بالجملة فقد ظهر أنّ دعوى التواتر في شي ء ممّا اختلفوا فيه ضعيفة جدّا، و أضعف منها دعوى تواتر الجميع، و ستسمع من الطوسي و الطبرسي، و غيرهما أنّ المعروف الظاهر من مذهب الاماميّة، و الشائع في أخبارهم و آثارهم أنّ القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد، و قد مرّت الأخبار

الدالّة على ذلك، و أنّ الاختلاف إنّما جاء من قبل الرّواة، لا استنادا الى رواياتهم، بل الى استحساناتهم

______________________________

(1) ابن المنير: عبد الواحد بن منصور الإسكندرى المالكي المفسّر ولد سنة (651) و توفي سنة (733 ه)- الأعلام ج 4 ص 327.

(2) الكشكول ج 1 ص 47- 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 310

و اجتهاداتهم حسبما يؤدّى إليه أنظارهم، و لذا قيل: إنّه كان أحدهم إذا برع و تمهّر شرع للناس طريقا في القراءة لا يعرف إلّا من قبله، بحيث لم يكن قبله معهودا أصلا، كما يشهد به تتبّع كتب القراءة، و ما أبدعوه من الصفات، و الآداب، و الوظائف التي يمكن تحصيل القطع بعدم كونه معهودا في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله أصلا، و هذا فيما يتعلّق بالهيئة، و أمّا المادّة فقد سمعت أنّ منشأ الاختلاف فيها الأغلاط العثمانيّة، و خلوّ مصاحفه عن الإعراب و النقط، على أنّه لو كانت الطريقة المسلوكة لهم هو التواتر لا اشتراك الكلّ في الكلّ على فرض التعدّد، و لم يختصّ كلّ واحد منهم بواحدة مظهرا للحثّ الأكيد، و التعصّب الشّديد على تعيينها، سيّما مع تقارب أزمنتهم و تمكّن كلّ منهم عن الاطّلاع بما وصل إلى الآخر ممّا يقتضي التواتر، و كيف اطّلع من بعدهم عليه و لم يطّلع كلّ منهم بما تواتر للآخر، مع قرب المأخذ و اتّحاد الفنّ، و من المستبعد جدّا تواتر موادّ الكلمات و هيئتها من الحركات و السكنات، و غيرها، و عدم تواتر كون البسملة و المعوذتين من القرآن لوقوع الخلاف فيه عندهم على أقوال مرّت إليها الإشارة، الى غير ذلك مما يقضى بكون قراءاتهم مذاهب لهم، لا أنّهم قد تواتر إليهم ذلك.

بل يدلّ

عليه أيضا ما استدلّوا به في بعض التفاسير و كتب القراءة لترجيح بعض القراآت على بعض ما من مناسبة اللّغة، و كثرة الأشباه و النظائر، و موافقة المعنى و غيرها من الوجوه الاجتهاديّة الّتى لا ينبغي الإصغاء إليها، حسبما تصدّى لحكاية جملة منها في «مجمع البيان» و غيره.

و يؤمي إليه ما ذكروه في أحوال بعض القرّاء و تابعيهم من قولهم: له قراءة، أوله اختيار.

مع أنّه اختلفت الرّواية عن كلّ واحد من هؤلاء القرّاء أيضا، بل

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 311

الاختلافات المحكيّة عنهم كثير بعدد رواتهم، و إن اقتصر في «التيسير» لكلّ منهم على راويين، و تبعه من تأخّر عنه.

ثم إن كان البناء على مجرّد الرواية فما الداعي الى عدم الانتهاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو إلى الخلفاء، أو أحد الصّحابة، مع أنّ هؤلاء القرّاء لم يأخذوا منهم إلّا بوسائط، فالأولى عدّهم بالنسبة إلينا من الوسائط.

و لذا قال في «التيسير»: إنّ هؤلاء على طبقات ثلاث:

منهم من هو في الطبقة الثانية من التابعين، و هما اثنان: ابن كثير، و ابن عامر، و منهم من هو في الطبقة الثالثة، و هما اثنان أيضا: نافع، و عاصم، و منهم من هو في الطبقة الرابعة، و هم ثلاثة: أبو عمرو، و حمزة، و الكسائي.

ينبغي التنبيه على أمرين:

الأوّل: أنّا معشر الاماميّة و إن لم نحكم بصحّة خصوص كلّ من القراآت السبع، بل العشر أيضا، فضلا عن غيرها بمعنى مطابقة كلّ منها للمنزل على على النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو الإذن العام الشمولي الأوّلى للجميع، إلّا أنّه لمّا عمّت البليّة و خفي الحقّ، و قامت الفتنة على قطبها، و ارتدّ الناس على أعقابهم القهقرى، و تركوا

وصيّة سيّد الورى في التمسّك بالثقلين أمرنا أن نقرأ القرآن كما يقرأه الناس.

كما

روى عن الصادق عليه السّلام: «كفّ عن هذه القراءة، إقرا كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فاذا قام القائم قرأ كتاب اللّه على حدّه ... إلخ «1».

قال الشيخ في «التبيان» فيما حكى منه: إنّ المعروف من مذهب الاماميّة أنّ القرآن نزل بحرف واحد على نبيّ واحد، غير أنّهم اجمعوا على جواز القراءة

______________________________

(1) الوسائل ج 4 أبواب القراءة في الصلاة- ص 821- الباب 74- الحديث 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 312

بما يتداوله القرّاء و أنّ الإنسان مخيّر بأىّ قراءة شاء قرأ، و كرهوا تجريد قراءة بعينها «1».

و قال الطبرسي في «مجمع البيان»: الظاهر من مذهب الاماميّة أنّهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القرّاء بينهم من القراآت، إلّا أنّهم اختاروا القراءة بما جاز بين القرّاء، و كرهوا تجريد قراءة مفردة.

ثمّ ساق الكلام الى أن حكى عن الشيخ أبى جعفر الطوسي أنّه روى جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه «2».

و الظاهر أنّه ممّا أطبقت عليه الإماميّة.

و مرّ الحكاية عن الزمخشري أنّه قال: إنّ المصلّى لا تبرأ ذمّته من الصلاة إلّا إذا جمع في قراءته بين جميع المختلفات، نظرا الى أنّ الصحيح واحدة من الجميع.

إلّا أنّه قد سهّل علينا الخطب في ذلك ما سمعت من الإجماع و الأخبار، بل المحكيّ من البهبهاني «3» في «حاشية المدارك» أنّ المراد بالتواتر ما تواتر صحّة قراءته في زمان الائمّة عليهم السّلام بحيث يظهر إنّهم كانوا يرضون به، و يجوّزون ارتكابه في الصلاة، لأنّهم صلوات اللّه عليهم كانوا راضين بقراءة القرآن على ما هو عند الناس، و ربما كانوا يمنعون من غيره، و

يقولون: هي مخصوصة بزمان ظهور القائم عجّل اللّه

تعالى فرجه الشريف «4».

______________________________

(1) التبيان ج 1 ص 7 في المقدّمة.

(2) مجمع البيان ج 1 مقدّمة الكتاب ص 26.

(3) هو الأستاذ الأكبر الوحيد الآقا محمد باقر البهبهاني المتوفّى بالحائر (1205 ه).

(4) جواهر الكلام ج 9 ص 292 عن حاشية المدارك.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 313

قلت: و لعلّه تكلّف مستغنى عنه، حيث إنّك سمعت أنّ صريح بعض و ظاهر آخرين أنّ المراد تواتر النقل و الصدور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، لا التصحيح و التجويز عن الائمّة عليهم السّلام.

لكنّ الخطب فيه سهل، إنّما الكلام في أنّه هل يتعيّن على المصلّى أو غيره ممّن يروم التوظيف في القراءة تحرّى الأشهر و الأقيس في العربيّة من السبعة في خصوص كلّ آية، فيجوز التلفيق، أو مطلقا فلا يجوز، أو لا يتعيّن عليه شي ء من الأمرين فيتخيّر بين السّبعة أو العشرة، أو كلّما قرئ به و لو من غيرها، وجوه بل أقوال.

و لعلّ الأظهر هو الأخير لما سمعت من اشتراك السبعة و غيرها في عدم التواتر، و حدوث الاشتهار لها في الأزمنة المتأخرة بين العامّة، مضافا الى صدق «كما علّمتم» و «كما يقرأ الناس» على كلّ منها.

نعم قد يقال: إنّ الظاهر منهما وجوب الاقتصار على ما في أيدي النّاس ممّا هو متواتر بينهم، أو مشهور لديهم، فلا يقرأ بالشواذّ، مضافا إلى وجوب التأسّي، و قاعدة الاقتصار على القدر المعلوم، و الإجماع المحكي على ذلك.

فعن «مفتاح الكرامة» أنّ أصحابنا متفّقون على عدم جواز العمل بغير السبع أو العشر إلّا شاذّ منهم، قال: و الأكثر على عدم العمل بغير السبع «1».

و قد سمعت عن «وافية الأصول» للفاضل التوني: أنّه أجمع قدماء العامّة، و من تكلّم في المقام من الشيعة على

عدم جواز القراءة بغيرها و إن لم يخرج عن

______________________________

(1) مفتاح الكرامة ج 2 ص 390.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 314

قانون اللّغة و العربيّة «1».

و قد نفى المقدّس «2» الأردبيلى في «مجمع الفائدة» الخلاف عن السبعة، و عن الزيادة على العشر، يعنى اثباتا و نفيا، قال: و أمّا الثلاثة الّتى بينهما فالظاهر هو عدم الاكتفاء للعلم بوجوب قراءة ما علم كونه قرآنا، و هي غير معلومة، و ما نقل أنّها متواترة غير ثابت، و لا يكفى شهادة مثل الشهيد، لاشتراط التواتر في القرآن الذي يجب ثبوته بالعلم، و لا يكفى في ثبوته الظنّ بالخير الواحد، و نحوه ... إلى أن قال: نعم يمكن أن يجوز له ذلك إذا كان ثابتا عنده بطريق علمي و هو واضح، بل يفهم من بعض كتب الأصول أنّ تجويز قراءة ما ليس بمعلوم كونه قرآنا يقينا فسق، بل كفر، فكلّ ما ليس بمعلوم يقينا أنّه قرآن منفيّ كونه قرآنا يقينا على ما قالوا «3».

أقول: هذا غاية ما يمكن الاستدلال به للاقتصار على شي ء من الوجوه المتقدّمة لكنّه لا يخفى أنّ دعوى الظهور في حيّز المنع، و الاستقرار على السبعة في زمان صدور الخطاب غير معلوم حتى ينزّل عليه، و حمل

قوله عليه السّلام: «كما علّمتم» «4»

، و

«كما يقرأ الناس» «5»

على العموم أولى من حمله على العهد لغة و عرفا.

على أنّك قد سمعت اختلافهم في العصر الأوّل على أقوال منتشرة تمنع

______________________________

(1) الوافية ص 148.

(2) المقدّس الأردبيلى الفقيه المحقّق أحمد بن محمد المجاور بكربلاء توفي بالنجف سنة (993).

(3) مجمع الفائدة ج 2 ص 218.

(4) الوسائل- الباب 74- من أبواب القراءة في الصلاة- الحديث 2.

(5) الوسائل- الباب 74 من أبواب القراءة في

الصلاة- الحديث 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 315

كون شي ء منها بخصوصه معهودا.

و منه يظهر الجواب عن حمل الناس على العموم و لو حكمة، بل عمّا مرّ أيضا من وجوب التأسّى و قاعدة الاقتصار.

و أمّا الإجماع المتكرّر في كلامهم فلعلّ الظاهر أنّه مبنيّ على ما زعموه من دعوى التواتر، و قد سمعت ما فيه.

و أمّا ما صدر عن المقدّس فغريب جدّا، سيّما حكمه القطعي بعدم كون غير المقطوع به قرأنا، و أغرب منه ما حكاه كسابقه من حكاية التفسيق بل التكفير.

و لذلك مال شيخنا في «الجواهر» الى عدم وجوب متابعة شي ء من السبع أو العشر، قال: بل ربما كان إطلاق الفتاوى و خلوّ كلام الأساطين منهم عن إيجاب مثل ذلك في القراءة أقوى شاهد على عدمه خصوصا من نصّهم على بعض ما يعتبر في القراءة من التشديد، و نحوه.

و دعوى إرادة القراآت السبع في حركات المباني من الإعراب في عبارات الأصحاب لا دليل عليها، نعم وقع هذا التعيين في كلام متأخرى المتأخّرين من أصحاب، و ظنّى أنّه و هم محض «1».

أقول: و الأحوط مع ذلك كلّه عدم الخروج عن شي ء من العشر، بل الاقتصار على السبع، سيّما إذا وجبت القرائة لصلاة، أو نذر، أو استيجار، أو غيرها.

الأمر الثاني: هل يجب متابعة واحد من القرّاء في صفات الحروف من الجهر، و الشدّة، و الهمس، و غيرها، و كذا الوصل، و الوقف، و الترقيق، و التفخيم،

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 9 ص 298.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 316

و المدّ، و التسهيل، و الإمالة، و غيرها، من الوظائف و الآداب المعتبرة عندهم، أم لا؟

الأظهر الأشهر هو الثاني، بل لعلّه عليه الإجماع، بل لم أظفر على مخالف في المقام.

نعم في «جواهر

الكلام» أنّ المحكيّ عن «الكفاية» عن بعضهم القول بوجوب مراعاة جميع الصفات المعتبرة عند القرّاء «1».

أقول: و لعلّ المنشأ وقوع السقط في النسخة المحكيّة عنها، أو وهم من الحاكي حيث وصل بعض العبارة بغيرها، و هذه عبارة «الكفاية»:

و أوجب بعضهم في القراءة مراعاة المد المتّصل دون المنفصل، و مراعاة الصفات المعتبرة عند القرّاء ليست واجبة شرعا، إلّا أن يتوقّف تميز بعض الحروف عن بعضها عليه. انتهى.

و هي كما ترى صريحة في عدم الوجوب و إنّما تصحّ الحكاية في خصوص المدّ المتّصل.

و بالجملة لا ينبغي التأمّل في عدم وجوب ما اعتبروه ممّا لا يرجع الى تمييز الحروف، أو الى القواعد العربيّة المعهودة المعتبرة، إذ لا شبهة في وجوب مراعاة ما يئول إليهما، كالتشديد، و الإعراب الشامل للحركات البنائيّة و السكون، و وصل الهمزة و قطعها في مواضعهما كى لا تؤل المخالفة إلى زيادة حرف أو نقصانه، و كالإدغام في الكلمات الّتى بنيت عليه، و أمّا عند النون و التنوين فستسمع الكلام فيه، و في الإدغام الصغير، و الكبير.

______________________________

(1) الجواهر ج 9 ص 298.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 317

و أمّا غير ذلك من صفات الحروف، و المدّ، و الإمالة، و التخفيف، و التسهيل، و غيرها مما ملأوا منه كتب القراءة فالظاهر عدم وجوب شي ء منها، بل لعلّ عليه الإجماع الكاشف عن طريقة المعصوم و رضاه، بل عليه السيرة القطعيّة، سيّما بين الطائفة الحقّة الإماميّة.

كيف و لو وجب شي ء من ذلك لنبّهوا عليه، و لوقع السؤال عنه في خبر من الأخبار مع عموم البلوى، و توفّر الدواعي الى قراءة القرآن، سيّما في الصلاة التي هي فرض على الأعيان في جميع الأزمان.

بل قد سمعت أنّ الاختلافات المرويّة عن أهل

البيت عليهم السّلام مرجعها الى اختلاف الكلمات و الحروف و الحركات و نحوها، ممّا مرّت إلى اعتبارها الاشارة، و أمّا غيرها ممّا يعدّ في المحسّنات فلم يقع إليها اشارة، فضلا عن عبارة في خبر من الأخبار، و لا في شي ء من كلمات علمائنا الأخيار.

و لقد أجاد كاشف «1» الغطاء حيث قال: و أمّا المحسّنات في القراءة من إدغام في كلمتين، أو مدّ، أو وقف، أو تحريك، أو نحوها فايجابها كإيجاب مقدار الحروف في علم الكتابة، و المحسّنات في علم البديع، و المستحبّات في مذهب أهل التقوى، و لو أنّ مثل هذه الأمور مع عدم اقتضاء اللّسان لها كان من اللوازم لنادى بها الخطباء، و كرّر ذكرها العلماء، و تكرّر في الصلاة الأمر بالقضاء، و لأكثروا السؤال في ذلك عن الائمّة الأمناء، و لتواثر النقل لتوفّر دواعيه.

و قال السيّد الأجلّ الطباطبائي «2» في منظومته:

______________________________

(1) هو الشيخ جعفر بن خضر النجفي، ولد ستة (1156) و توفّى سنة (1227 ه)، كان في عصره شيخ مشايخ النجف و الحلّة من فقهاء الإماميّة، و اشتهر تصانيفه «كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء».

(2) هو بحر العلوم محمد مهدي بن مرتضى بن محمّد الطباطبائى البروجردي الأصل النجفي، كان من

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 318 و راع في تأدية الحروف مايخصّها من مخرج لها انتمى

و اجتنب اللّحن و أعرب الكلم و الوصل و القطع لهمز التزم

و الدرج في الساكن كالوقف على خلافه على خلاف حظلا

و كلّما في الصرف و النحو وجب فواجب و يستحبّ المستحبّ

نعم قد يتأمّل في جواز الإدغام بلا غنّة و معها عند الأحرف الستّة نظرا إلى التبديل الموجب للتغيير.

و استقرار أهل اللّسان عليه زمن النزول غير معلوم، و

إلّا لوافقه الرّسم.

لكنّه ليس في محلّه بعد حكاية الاتفاق عليه، بل على وجوبه حسبما تسمع.

نعم يمكن التأمّل في الحكم باستحباب كلّما حكموا باستحبابه، و إن حكم به الطباطبائى و غيره، لأنّه حكم شرعيّ لا يثبت إلّا بدليل، و كونها من مجوّدات القراءة و محسّناتها عند أهل اللّسان غير معلوم حتى في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، سلّمنا، لكنّه غير مثبت للدعوى.

نعم قد يقال: إنّ علم القراءة كان متداولا في زمان الأئمّة عليهم السّلام، حتّى أنّ بعض أعاظم أصحابهم و ثقاتهم، و المقرّبين عندهم كانوا عارفين ماهرين بهذا العلم.

______________________________

أعاظم فقهاء الاماميّة توفى سنة (1212 ه).

قال المؤلف في منظومته الرجالية (نخبة المقال):

السيّد المهدي الطباطبائى بحر العلوم صفوة

الصفاءو المرتضى والده سعيد

مات (غريبا) عمره مجيد * ترجمته بالتفصيل في تاريخ بروجرد ج 2 من صفحة 1212 (172) إلى ص 250.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 319

مثل حمران «1» بن أعين، الّذى هو في غاية الجلالة عندهم، و في نهاية الإخلاص و الإطاعة لهم، و كان ماهرا في علم القراءة على قراءة «2» حمزة القارى، و

الامام الصادق عليه السّلام أمره بمناظرة الشامي في علم القراءة، و الشامي كان مريدا للمناظرة مع الإمام عليه السّلام في هذا العلم فقال: إنّما أريدك لا حمران، فقال عليه السّلام:

إن غلبت حمران فقد غلبتني مناظرة، فغلب حمران عليه «3».

و مثله أبان بن «4» تغلب الثقة الجليل، فقد ذكروا في ترجمته: أن له قراءة مفردة مشهورة عند القرّاء.

و ثعلبة «5» بن ميمون الّذي قالوا في ترجمته: إنّه كان وجها في أصحابنا، قارئا، فقيها، نحويّا، لغويّا، راوية، حسن العمل، كثير العبادة و الزّهد، و غيرهم، من الأجلّة الّذين كانوا ماهرين في هذا العلم، و في

غاية المتابعة و الإطاعة للأئمّة الّذين هم عليهم السّلام قررّوهم عليه، و لم يتأمّلوا في علمهم، و لا في عملهم.

و من المعلوم أنّ مراعاة هذا العلم لأجل العمل في مقام القراءة، فلو لم يكن مشروعا لكانوا يمنعون أمثال هؤلاء الأجلّة، و خصوصا مع منعهم الجهّال عمّا لا

______________________________

(1) حمران بن أعين ابو حمزة الكوفي من أصحاب الباقر و الصادق صلوات اللّه عليهما، ترجمه ابن الجزري في غاية النهاية ج 1 ص 262 رقم 1189 و قال: مقرئ كبير ... توفّي حدود (130 ه) أو قبلها.

(2) بل حمزة القارى الزيّات كان من تلامذته و روى القراءة عنه عرضا كما قال ابن الجزري في ترجمته.

(3) بحار الأنوار ج 47 ص 407 ح 11 عن رجال الكشي ص 178.

(4) أبان بن تغلب أبو سعيد الربعي الكوفي النحوي المقرئ الجليل من أصحاب السجّاد و الباقر و الصادق صلوات اللّه عليهم، توفّي سنة (141).

(5) ثعلبة بن ميمون أبو إسحاق النحوي الكوفي كان من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما صلوات اللّه، و روى (127) رواية- معجم رجال الحديث ج 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 320

يضرّ و لا ينفع، فضلا عن مثل هؤلاء الأعلام المقرّبين عندهم.

فعلى هذا يمكن أن يقال: محسّنات القراءة لعلّها كانت محسّنات عند الأئمّة عليهم السّلام أيضا، فضلا من أن يكون ممّا يلزم ارتكابه عند القرّاء، مثل مدّ وَ لَا الضَّالِّينَ و نحوه ممّا أمروا به، و كذا ما منع القرّاء منه و لم يكن ممنوعا من جهة لغة العرب، و لا من الشارع، و لا من العقل.

و يؤيّد ما ذكرناه من كون هذا العلم متداولا عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام على وجه يشعر بتقريرهم إيّاهم على ذلك ما

رواه الكشي

«1» من حمزة «2» الطيّار، قال: سألني أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قراءة القرآن، فقلت: ما أنا بذلك، فقال عليه السّلام: لكن أبوك، قال: ثم قال: إنّ رجلا من قريش كان لي صديقا، و كان عالما قارئا، فاجتمع هو و أبوك عند ابى جعفر عليه السّلام، فقال: ليقبل كلّ منكما على صاحبه و يسأل كلّ منكما صاحبه، ففعلا، فقال القرشي لأبي جعفر عليه السّلام: قد علمت ما أردت، أردت أن تعلمني أنّ في أصحابك مثل هذا، قال عليه السّلام: هو ذاك، فكيف رأيت ذلك «3»؟.

و في ترجمة حمران بن أعين عن رسالة أبى غالب «4» الزراري أنّ حمران بن أعين من أكبر مشايخ الشيعة المفضلين الّذين لا يشكّ فيهم، و كان أحد حملة القرآن، و من بعده يذكر اسمه في القراآت، و روى أنّه قرأ على أبي جعفر عليه السّلام،

______________________________

(1) الكشي محمد بن عمر بن عبد العزيز الفقيه الرجالي المتوفى نحو (340 ه)- الاعلام ج 7 ص 201.

(2) هو حمزة بن محمد الطيّار الكوفي من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السّلام- معجم رجال الحديث ج 6 ص 279.

(3) معجم رجال الحديث ج 6 ص 279 رقم 4602.

(4) أبو غالب الزراري: أحمد بن محمد بن سليمان الموثّق، روى عن الكليني المتوفى (329)، و توفي سنة (368) و كتب رسالته لابن ابنه سنته (356) و جدّدها سنة (367)- رجال بحر العلوم ج 1 ص 225.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 321

و كان مع ذلك عالما بالنحو و اللّغة.

و في ترجمة أبان بن تغلب، عن النجاشي: أنّه كان قارئا من وجوه القرّاء، فقيها، لغويّا، سمع من العرب و حكى عنهم، و كان مقدّما في كلّ فنّ من العلم،

في القرآن، و الفقه، و الحديث ... الى أن قال: و لأبان قراءة مفردة مشهورة عند القرّاء، أخبرنا بها أبو الحسن «1» التميمي عن أحمد «2» بن محمّد بن سعيد، عن محمّد بن يوسف الرازي المقرئ «3» بالقادسيّة سنة احدى و ثمانين و مأتين، عن أبى نعيم الفضل بن عبد اللّه بن العبّاس بن معمر الأزدي الطالقاني، ساكن سواد البصرة سنة خمس و خمسين و مأتين، قال: حدّثنا محمّد بن موسى بن أبى مريم صاحب اللؤلؤ، قال: سمعت أبان بن تغلب- و ما رأيت أحدا أقرأ منه قطّ، يقول:

إنّما الهمز «4» رياضة، و ذكر قراءته الى آخرها «5».

______________________________

(1) هو محمّد بن جعفر أبو الحسن التميمي من مشايخ النجاشي ذكره في ترجمة الحسين بن محمّد بن الفرزدق- معجم رجال الحديث ج 15 ص 170.

(2) هو احمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني الحافظ المعروف بابن عقدة أبو العباس الكوفي، توفى سنة (333 ه)- معجم رجال الحديث ج 2 ص 274.

(3) ذكره الذهبي في «الميزان الاعتدال» ج 4 ص 72 و قال: محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي شيخ يروى عنه أبو بكر بن زياد النقّاش، و ذكره الخطب البغدادي في تاريخ بغداد ج 3 ص 397 و قال: قدم قبل (300) بغداد.

(4) في ذيل رجال النجاشي: يعنى أنّ التكلّم بالهمزة و الإفصاح عنها مشقّة و رياضة بلا ثمر فلا بدّ فيها من التخفيف،

روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «نزل القرآن بلسان قريش، و ليسوا بأهل نبر، و لو لا أنّ جبرئيل عليه السّلام نزل بالهمزة على النبي صلّى اللّه عليه و آله ما همزنا» كما في شرح الشافية لابن الحاجب ج

3 ص 31

و النبر: الهمز.

(5) رجال النجاشي ج 1 ص 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 322

و ذكر الشيخ في «الفهرست» مثله «1».

و ستسمع أنّ حمران بن أعين كان من مشايخ حمزة القارى.

و في «التيسير» و «المجمع» أنّ حمزة قرأ على الصّادق عليه السّلام، و أنّ الكسائي و هو أحد القرّاء السبعة قرأ على أبان بن تغلب، و أنّ الأعمش، و أبا إسحاق السّبيعى، و أبا الأسود الدئلي كانوا ممّن يؤخذ عنهم القراءة «2».

و ذكر الشيخ في «الفهرست» في ترجمة عمر بن «3» موسى أنّ له كتاب قراءة زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليهم السّلام، ثم ذكر الاسناد إليه و قال:

هذا قراءة أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: و ما رأيت أعلم بالكتاب، و ناسخه، و منسوخه، و مشكله، و إعرابه منه «4».

و في ترجمة محمد بن «5» عبّاس: أنّ له كتاب قراءة أمير المؤمنين عليه السّلام، و كتاب قراءة أهل البيت عليهم السّلام «6».

______________________________

(1) الفهرست ص 17- 18.

(2) مجمع البيان مقدّمة الكتاب ص 12 الفنّ الثاني.

(3) هو عمر بن موسى بن وجيه أبو حفص الوجيهي الأنصارى الشامي الزيدي المتوفّى (158) على ما في دائرة الأعلمى ج 23 ص 49 و ترجمته توجد في غير واحد من معاجم الرجال منها: مختصر تاريخ دمشق ج 19 ص 153- الميزان للذهبى ج 3/ 224- لسان العرب ج 4/ 332.

(4) الفهرست ص 114 رقم 497.

(5) هو محمّد بن العبّاس بن علي بن مروان المعروف بابن الحجّام، من ثقات الاماميّة في القرن الرابع سمع منه التلعكبري سنة (328)، و له منه إجازة- معجم رجال الحديث ج 16/ 198.

(6) الفهرست ص 149 رقم 638.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2،

ص: 323

الفصل الثالث

في نبذ من أحوال القرّاء العشرة و رواتهم الأوّل من القرّاء السبعة هو نافع «1» بن عبد الرحمن المدني، قرأ على أبى جعفر يزيد «2» بن القعقاع، و منه تعلّم القرآن، و على شيبة «3» بن نصاح القاضي، و على عبد الرحمن «4» بن الأعرج، و على أبى عبد اللّه بن مسلم بن جندب الهذلي «5»، و على أبى روح «6» يزيد بن رومان.

قالوا: و أخذ هؤلاء القراءة عن أبى هريرة «7»، و ابن عبّاس «8»، و عبد اللّه «9» بن عيّاش بن أبي ربيعة، كلّهم عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

______________________________

(1) هو نافع بن عبد الرحمن بن ابى نعيم المدني المتوفى (169 ه)- غاية النهاية ج 2 ص 330.

(2) ابو جعفر القارى يزيد بن القعقاع المدني المتوفى (132 ه)- غاية النهاية ج 2 ص 382.

(3) شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المدني المتوفّى (130)- الاعلام ج 3 ص 264.

(4) هو عبد الرحمن بن هرمز أبو داود الأعرج المدني المتوفّى (117)- الأعلام ج 4 ص 116.

(5) أبو عبد اللّه مسلم بن جندب الهذلي مولاهم المدني المتوفى (130) غاية النهاية ج 2 ص 297.

(6) أبو روح يزيد بن رومان المدني القارى المتوفّى (120) أو (130) المصدر ج 2 ص 381.

(7) ابو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي المتوفّى بالمدينة (59)- الأعلام ج 4 ص 80.

(8) عبد اللّه بن العبّاس بن عبد المطلب المتوفّى (68) بالطائف- الأعلام ج 4 ص 228.

(9) عبد اللّه بن عيّاش بن أبى ربيعة المخزومي المتوفى بعد (70) أو سنة (78 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 439.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 324

و ذكروا للنافع

راويين: أحدهما: عيسى بن ميناء الزرقي لقّبه نافع بقالون «1» لجودة قراءته فإنّ معنى قالون بلغة الروم «جيّد».

و الآخر: أبو سعيد عثمان بن سعيد القبطي المصريّ الملقّب بورش «2» لشدّة بياضه.

الثاني منهم: عبد اللّه بن كثير «3» المكي، أخذ عن عبد اللّه بن «4» سائب المخزومي، صاحب النبي صلّى اللّه عليه و آله، و مجاهد بن «5» جبر أبى الحجّاج، و در بأس مولى ابن عبّاس، و أخذ مجاهد و درباس عن ابن عبّاس، عن أبيّ، و زيد بن ثابت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و روى عن ابن كثير أبو الحسن البزّى «6» أحمد بن محمد بن عبد اللّه، و قنبل «7» أبو عمرو محمّد بن عبد الرحمن، يقال: رجل قنبل أى غليظ شديد.

______________________________

(1) عيسى بن ميناء بن وردان الزرقي أبو موسى الملقّب بقالون، كان ربيب نافع على ما قيل، توفّى سنة (220) ه- غاية النهاية ج 1 ص 615.

(2) عثمان بن سعيد بن عبد اللّه المصري ولد سنة (110) بمصر، و رحل الى نافع فعرض عليه القرآن عدّة ختمات في سنة (155)، توفّى بمصر سنة (197 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 502.

(3) عبد اللّه بن كثير بن عمرو بن عبد اللّه ابو معبد المكي الداري من بنى عبد الدار ولد بمكّة سنة (45) و أدرك غير واحد من الصحابة و روى عنهم، توفي سنة بمكة المكرّمة سنة (120 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 443.

(4) عبد اللّه بن السائب بن أبى السائب صيفي بن عابد المخزومي المكّى له صحبة و روى القراءة عن أبيّ بن كعب، توفي حدود سنة (70 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 419.

(5) مجاهد بن جبر أبو

الحجّاج المكّى المفسّر المتوفّى (104)- الاعلام ج 6 ص 161.

(6) احمد بن محمد بن عبد اللّه بن القاسم البزّى المكي، ولد سنة (170 ه) و توفّى سنة (250 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 119.

(7) محمد بن عبد الرحمن بن خالد المكّى الملقّب بقنبل، و له سنة (195)، و توفّي سنة (291 ه)- غاية

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 325

و قيل: هم أهل بيت بمكّة المكرّمة يقال لهم القنابلة، و اختلفوا في تلقّبه به.

روى البزّى و قنبل عن ابن كثير بالواسطة، و لم يذكر الطبرسي في «جمع البيان» رواية قنبل عن ابن كثير، بل قال: له ثلاث روايات: رواية البزي، و رواية ابن فليح، و رواية أبي الحسين القوّاس «1».

الثالث منهم: أبو عمرو بن العلاء البصري، اسمه زبان «2»، أبو يحيى أو غيرهما يروى عن جماعة من أهل الحجاز، و البصرة:

فمن أهل مكّة المكرّمة يروى عن مجاهد، و سعيد «3» بن جبير، و عكرمة «4» بن خالد، و عطاء «5» بن أبي رباح، و عبد اللّه بن كثير، و محمد بن عبد الرحمن بن محيصن، و حميد بن قيس الأعرج.

و من أهل المدينة يروى عن يزيد بن قعقاع القارى، و يزيد بن رومان، و شيبة بن نصاح.

و من أهل البصرة يروى عن الحسن بن أبي الحسن البصري، و يحيى «6» بن يعمر، و غيرهما، و هؤلاء أخذوا عن الصحابة.

______________________________

النهاية ج 2 ص 167.

(1) مجمع البيان ج 1 مقدمة الكتاب، الفنّ الثاني ص 11.

(2) زبان بن العلاء بن عمّار بن العريان أبو عمرو المازني البصري و قد اختلف في اسمه على أكثر من عشرين قولا، و له بمكة المكرّمة سنة (68)، و نشأ بالبصرة، و توفي بالكوفة

سنة (154).

(3) سعيد بن جبير بن هشام الكوفي التابعي الجليل قتله الحجّاج بواسط شهيدا في سنة (95) أو (94)- غاية النهاية ج 1/ 305.

(4) عكرمة بن خالد بن العاص المكي التابعي المتوفى (115)- المصدر ج 1 ص 515.

(5) عطاء بن ابى رباح بن أسلم المكي المتوفى (115)- غاية النهاية ج 1 ص 513.

(6) يحيى بن بن يعمر أبو سليمان العدواني البصري التابعي أوّل من نقّط المصاحف، توفي قبل سنة (90)- غاية النهاية ج 2 ص 381.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 326

و روى عن أبي عمرو البصري يحيى بن المبارك اليزيدي «1»، و أبو عمر حفص ابن عمر بن عبد العزيز الدوري «2» البغدادي الضرير، و أبو شعيب صالح بن زياد السوسي «3».

و في «مجمع البيان»: لأبى عمرو البصري ثلاث روايات: رواية شجاع «4» ابن أبى نصر، و رواية العبّاس بن الفضل البصري قاضى الموصل المتوفى (186)، و رواية اليزيدي.

و لليزيدي ستّ روايات: رواية أبي «5» حمدون الزاهد، و أبى عمر الدوري، و أوقية «6»، و أبى نعيم غلام «7» سجادة، و أبى أيّوب «8» الخيّاط، و ابى شعيب

______________________________

(1) هو يحيى بن المبارك أبو محمد البصري النحوي المقرئ المتوفى (202) ه جوّد القرآن على أبى عمرو البصري، عرف باليزيدي لاتصاله بيزيد بن منصور خال المهدي العباسي، كان يؤدّب ولده.

(2) أبو عمر الدوري حفص بن عمر الأزدى المقرئ النحوي البغدادي نزيل سامرّاء، توفّي سنة (246 ه) قيل: إنّه أوّل من جمع القراآت و ألّفها، و الدوري نسبة الى الدور محلّة بالجانب الشرقي من بغداد.

(3) ابو شعيب السوسي صالح بن زياد المقرئ المتوفى (260) قرأ على اليزيدي و سمع بالكوفة من ابن نمير، و بمكة المكرّمة من

سفيان بن عينية.

(4) شجاع بن ابى نصر البلخي المقرئ الزاهد المتوفى (190) ببغداد قرأ القرآن على ابى عمرو و جوّده، أخذ عنه القاسم بن سلّام و محمد بن غالب.

(5) هو الطيّب بن إسماعيل أبو حمدون الذهلي البغدادي الزاهد اللؤلؤى المقرئ كان إماما في القراءة و التجويد، روى الحروف عن الكسائي، ترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام في وفيات (240)- (250 ه) ص 298 رقم 225.

(6) هو عامر بن عمر بن صالح أبو الفتح المعروف بأوقية الموصلي المقرئ توفّي سنة (250 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 350.

(7) هو جعفر بن حمدان المشهور بغلام سجادة البغدادي من أصحاب اليزيدي ترجمه ابن الجزري و كنّاه بأبى محمد- غاية النهاية ج 1 ص 191.

(8) هو سليمان بن أيّوب بن الحكم أبو أيّوب الخيّاط البغدادي المتوفى (235)- غاية النهاية ج 1 ص 312.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 327

السوسي.

الرابع منهم ابن عامر أبو عمران «1» عبد اللّه بن عامر الدمشقي، أخذ عن أبى الدرداء «2» عويمر بن عامر صاحب النبي صلّى اللّه عليه و آله، و المغيرة «3» بن أبي شهاب، و أخذ الأوّل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و الثاني عن عثمان بن عفّان.

و روى عن ابن عامر هشام «4» بن عمّار الدمشقي، و ابن ذكوان «5»، رويا عنه بواسطتين.

الخامس: عاصم «6» بن أبي النجود بهدلة الأسدي الكوفي، روى عن أبي

______________________________

(1) عبد اللّه بن عامر اليحصبى امام أهل الشام في القراءة، ولى قضاء دمشق في خلافة الوليد ابن عبد الملك، و كان يؤم الناس في المسجد فلمّا استخلف سليمان بن عبد الملك بعث الى مهاجر و قال: إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان قف خلف ابن

عامر فاذا تقدّم فخذ بثيابه و اجذبه و قل تأخّر، فلن يتقدّم منّا دعيّ، و صلّ أنت يا مهاجر، فضل.

قال ابن الجزري: قد ورد في اسناد ابن عامر تسعة أقوال أصحّها أنه قرأ على المغيرة بن أبى شهاب، و نقل عن بعض أنه قال: لا يدرى على من قرأ، و له سنة ثمان من الهجرة و توفّي سنة (118)- طبقات القرّاء ج 1 ص 404.

(2) أبو الدّرداء هو عويمر بن زيد الخزرجي كان من القرّاء على عهد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و تصدّر للإقراء بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله عند ما تولّى قضاء دمشق في خلافة عثمان و عدّ تلامذته الذين قرءوا عنده فكان عدّتهم (1600) و نيفا، توفي سنة (32).

(3) قال الذهبي: لا يكاد يعرف إلّا من قراءة ابن عامر عليه، و قال في تاريخ الإسلام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي قرأ على عثمان بن عفّان و عليه قرأ عبد اللّه بن عامر الدمشقي، نقل القصّاع أنه توفّى سنة (91) ه- و له تسع و ثمانون سنة. تاريخ الإسلام ص 484.

(4) هشام بن عمّار بن نصير الدمشقي الخطيب المقرئ و له سنة (153) و توفي سنة (245).

(5) هو عبد اللّه بن أحمد بن بشر بن ذكوان المقرئ الدمشقي و له سنة (173) و توفّى سنة (242).

(6) عاصم بن أبى النجود- بهدلة- أبو بكر الأسدى بالولاء الكوفي القارى، قيل: اسم أبيه عبيد، و بهدله اسم أمّه، أخذ القراءة عرضا من زرّ بن جيش، و أبى عبد الرحمن السلمي، و أبى عمرو الشيباني، توفى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 328

عبد الرحمن «1» عبد اللّه بن حبيب السلمي، و أبى مريم زرّ بن

«2» حبيش.

و أخذ الأوّل عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و عن أبيّ بن كعب، و زيد «3» بن ثابت، و عبد اللّه بن مسعود، و عثمان.

و الثّانى عن الأخيرين.

و روى عن عاصم حفص بن «4» سليمان الأسدى الكوفي البزّاز، و أبو بكر شعبة «5» بن عيّاش بن سالم الأسدى.

قال في «مجمع البيان»: و لأبي بكر بن عيّاش ثلاث روايات:

رواية أبي يوسف «6» الأعشى، و أبى صالح «7» البرجمي، و يحيى «8» بن آدم.

______________________________

سنة (127) أو (128)- تهذيب التهذيب ج 5 ص 39.

(1) أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن حبيب السلمي المقرئ الكوفة، ولد في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أخذ القراءة عن ابن مسعود، و عرض القرآن على عليّ عليه السّلام على ما ذكره الذهبي، كان يقرئ الناس في مسجد الكوفة أربعين سنة، توفي سنة (74 ه).

(2) زرّ بن حبيش أبو مريم الأسدى أدرك الجاهليّة و لم ير النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو من كبار التابعين و من ثقات أمير المؤمنين عليه السّلام توفي سنة (83) من عمر (127) سنة.

(3) زيد بن ثابت كان كاتب النبي صلّى اللّه عليه و آله بالعبرية، و تولّى جمع القرآن بأمر أبى بكر، ثم ترأس لجنة توحيد المصاحف في عهد عثمان و كان يحبّه عثمان و ولّاه بيت المال توفى سنة (54) أو (55).

(4) حفص بن سليمان بن المغيرة المقرئ الكوفي و هو ابن امرأة عاصم و ربيبه توفي سنة (180 ه).

(5) ابو بكر شعبة بن عيّاش الكوفي المعروف بعدم الضبط على خلاف زميله حفص الضابط، توفي سنة (493).

(6) أبو يوسف الأعشى يعقوب بن محمّد الكوفي، تصدّر للإقراء بالكوفة توفي سنة حدود (200).

(7)

أبو صالح البرجمي عبد الحميد بن صالح المقرئ الكوفي، كان إمام مسجد بنى شيطان، توفي سنة (230 ه)- تاريخ الإسلام ص 251.

(8) أبو زكريا يحيى بن آدم القرشي الكوفي الأحول الحافظ المقرئ توفّي بفم الصلح سنة (203)-

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 329

السادس: أبو عمارة «1» حمزة بن حبيب الكوفي الزيّات.

روى عن الامام جعفر الصادق عليه السّلام، و عن الأعمش، و محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى القاضي، و حمران بن أعين، و أبى إسحاق «2» السبيعي، و منصور «3» بن المعتمر، و مغيرة «4» بن المقسم، و أخذ هؤلاء عن التابعين عن الصحابة.

هذا على ما في «التيسير».

و قال في «المجمع»: و أمّا حمزة فقرأ على جعفر بن محمد الصّادق عليهما السّلام، و قرأ أيضا على الأعمش سليمان بن مهران، و قرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، و هو قرأ على علقمة «5»، و مسروق «6»، و الأسود «7» بن يزيد، و هؤلاء قرءوا

______________________________

رجال صحيح البخاري ج 2 ص 787.

(1) ابو عمارة حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيّات القارى الكوفي المتوفّى بحلوان سنة (156 ه)- تهذيب التهذيب ج 3 ص 27.

(2) أبو إسحاق عمرو بن عبد اللّه السّبيعى التابعي كان شيخ الكوفة في عصره، و بلغت مشيخته نحوا من (400) شيخ، و له سنة (33) و سمع من (38) صحابيّا و توفى سنة (127 ه)- تاريخ الإسلام للذهبى ج 5 ص 116.

(3) منصور بن معتمر السلمي أبو عتّاب الكوفي، كان من كبار الحفّاظ الأثبات توفى سنة (132)- تاريخ الإسلام ج 5 ص 547.

(4) مغيرة بن مقسم الضبّى الكوفي أبو هشام الأعمى توفى سنة (133 ه)- تاريخ الإسلام ج 5 ص 541.

(5) هو علقمة

بن قيس النخعي الهمداني التابعي كان فقيه العراق، ولد في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و توفي بالكوفة سنة (62 ه).

(6) هو مسروق بن الأجدع الهمداني التابعي، شهد حروب أمير المؤمنين عليه السّلام و كان أعلم بالفتيا من شريح، توفى سنة (63 ه).

(7) الأسود بن يزيد بن قيس النخعي التابعي الفقيه الحافظ المتوفّى سنة (75 ه) كان عالم الكوفة في عصره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 330

على عبد اللّه بن مسعود.

و قرأ حمزة أيضا على أبى الأسود «1» الدئلي، و هو قرأ على علي بن أبى طالب عليه السّلام.

روى عن حمزة خلف «2» بن هشام البزّاز، و خلّاد بن خالد «3» الشيباني، كلاهما بواسطة سليم بن عيسى الحنفي «4».

و السابع: الكسائي و هو أبو الحسن على «5» بن حمزة الكوفي.

قال في «التيسير»: و رجاله حمزة بن حبيب الزيّات، و عيسى «6» بن عمر الهمداني، و محمّد بن أبى ليلى، و غيرهم من مشيخه الكوفيّين، غير أنّ مادّة قراءته و اعتماده في اختياره القراءة عن حمزة.

و في «المجمع»: أنّه قرأ على حمزة، و لقى من مشايخ حمزة ابن أبي ليلا و قرأ عليه، و على أبان بن تغلب، و عيسى بن عمر، و غيرهم.

______________________________

(1) أبو الأسود ظالم بن عمرو، كان أديبا، شاعرا، فقيها من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام و وضع علم النحو بأمره، توفّى سنة (69) بالبصرة.

(2) سيأتى ترجمته إنشاء اللّه.

(3) خلّاد بن خالد الشيباني مولاهم الصيرفي من كبار القرّاء المجودّين، توفي بالكوفة سنة (220) ه.

(4) سليم بن عيسى الكوفي الحنفي بالولاء المقرئ كان أخصّ أصحاب حمزة و أضبطهم توفّي سنة (188 ه).

(5) هو عليّ بن حمزة بن عبد اللّه بن بهمن بن فيروز

الأسدى مولاهم، من أولاد الفرس، انتهت إليه رياسته الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيّات، توفّى سنة (189 ه)- طبقات القرّاء ج 1 ص 535.

(6) عيسى بن عمر الثقفي بالولاء، كان من ائمّة اللغة و من شيوخ الخليل، و سيبويه و ابن العلاء، و كان بصريّا و له نحو سبعين مصنّفا، توفّى سنة (149 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 331

روى عن الكسائي أبو الحارث «1» اللّيث بن خالد البغدادي، و الدوري المتقدم ذكره، عن أبى عمرو البصري.

و في «المجمع»: أنّ له ستّ روايات:

رواية قتيبة «2» بن مهران، و رواية نصير «3» بن يوسف النحوي، و رواية أبى الحارث البغدادي، و رواية أبى حمدون الزّاهد، و رواية حمدون ابن ميمون الزّجّاج، و رواية الدوري. «4» و هؤلاء هم القرّاء السبعة و رواتهم الأربعة عشر مع ما أضيف إليها، و مشايخهم حسبما نقله في «التيسير» و غيره.

و فيهم قال أبو مزاحم «5» الخاقاني:

و إنّ لنا أخذ القراءة سنّةعن الأوّلين المقرئين ذوي الستر

فللسبعة القرّاء حق على الورى لإقرائهم قرآن ربّهم الوتر

فبالحرمين ابن الكثير و نافع و بالبصرة ابن للعلاء أبو عمرو

______________________________

(1) ابو الحارث الليث بن خالد البغدادي كان من أجلّة أصحاب الكسائي، توفى سنة (240)- طبقات القرّاء ج 2 ص 34.

(2) قتيبة بن مهران الأزاذانى الإصبهانى المقرئ، انتهت إليه رياسته الإقراء بأصبهان، صحب الكسائي مدّة طويلة، و كان موجودا في حدود سنة (220 ه)- طبقات المحدثين بأصبهان ج 2 ص 86.

(3) نصير بن يوسف بن أبى نصر الرازي النحوي المقرئ أبو المنذر، له مصنّف في رسم المصحف، توفّي سنة (240 ه)- شذرات الذهب ج 2 ص 95.

(4) مجمع البيان ج 1 الفنّ الثّانى من المقدّمة.

(5) هو موسى بن عبيد

اللّه بن يحيى بن خاقان أبو مزاحم الخاقاني البغدادي الشاعر المتوفى (325)- غاية النهاية ج 2 ص 320.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 332 و بالشام عبد اللّه و هو ابن عامرو عاصم الكوفي و هو أبو بكر

و حمزة أيضا و الكسائي بعده أخو الحذق بالقرآن و النحو و الشعر

و أمّا القرّاء الثلاثة المكمّلون للعشرة:

فأوّلهم: أبو جعفر «1» يزيد بن القعقاع المخزومي المدني، قرأ على عبد اللّه بن عبّاس، و على مولاه عبد اللّه «2» بن عيّاش بن أبى ربيعة المخزومي، و هما قرءا على أبيّ بن كعب، و قرأ أبىّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و روى عنه أبو الحارث عيسى «3» بن وردان المدني الحذّاء، و ابن الجمّاز «4» أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز الزهري المدني.

و ثانيهم: يعقوب «5» بن إسحاق الحضرمي البصري، روى عنه رويس «6» محمّد ابن المتوكّل اللؤلؤى البصري، و روح «7» بن عبد المؤمن الهزلى البصري.

و ثالثهم: و هو تمام العشرة، خلف «8» بن هشام البزّاز ذكروا أنّ له اختيارا.

______________________________

(1) توفى بالمدينة سنة (132) أو (128 ه)- طبقات القراء ج 2 ص 382.

(2) ولد بالحبشة في الهجرة الاولى، و قرأ على أبيه عيّاش و على أبيّ بن كعب توفّي سنة (64).

(3) كان ابن وردان مقرئا حاذقا و كان من أجلّة أصحاب نافع مات حدود سنة (160)- طبقات القرّاء ج 1 ص 616.

(4) توفّي ابن الجمّاز سنة (170) ه أو بعدها- طبقات القرّاء ج 1 ص 315.

(5) ولد بالبصرة سنة (117) و توفّي بها سنة (205 ه)- تهذيب التهذيب ج 11 ص 382.

(6) كان رويس من أحذق أصحاب يعقوب الحضرمي، توفّى سنة (238)- طبقات القرّاء ج 2

ص 234.

(7) توفّي سنة (234) و كان من أجلّة أصحاب يعقوب.

(8) هو أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزاز البغدادي، قال ابن الجزري: حفظ القرآن و هو ابن عشر سنين، قال ابن أشته: كان حلف يأخذ بمذهب حمزة إلى أنّه خالفه في مائة و عشرين حرفا، و له سنة (150) و توفّى سنة (229)- طبقات القرّاء ج 1 ص 272.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 333

روى عنه إسحاق «1» بن إبراهيم الورّاق المروزي، و إدريس «2» بن عبد الكريم الحدّاد.

ثمّ اعلم أن المراد بالمدني حيث أطلق هو نافع، و أبو جعفر القعقاع.

و المكّى هو عبد اللّه بن كثير، و إذا اجتمعا قيل: حجازيّ.

و الكوفي عاصم، و حمزة، و الكسائي، و خلف، و البصري ابو عمرو، و يعقوب.

و قد يزاد على ما في «المجمع» و غيره: أبو حاتم «3» السجستاني سهل بن محمّد، و ليس كيعقوب من السبعة، و إذا اجتمع أهل الكوفة و البصرة قيل:

عراقي.

و الشامي ابن عامر، لا غير و اعلم أيضا أنّهم يطلقون القراءة على ما كان عن أحد العشرة أو من هو مثلهم.

و الرواية على ما كان من أحد رواتهم.

و الطريق عليها و على ما كان عمّن بعدهم، فيقال: هذه قراءة نافع، من رواية قالون، من طريق الجزري، أو الشاطبي «4».

______________________________

(1) هو ابو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عثمان الورّاق المتوفى (286)- المهذّب ص 12.

(2) هو ابو الحسن إدريس البغدادي المتوفى (292)- المهذب في القراآت العشر ص 12.

(3) أبو حاتم السجستاني سهل بن محمد بن عثمان البصري اللغوي الشاعر المتوفى (248)- الاعلام ج 3 ص 210.

(4) قال محمد محمد محمد سالم الشافعي في «المهذّب» ص 25: اعلم أنّ كل خلاف نسب لإمام

من الأئمة العشرة ممّا اجمع عليه الرواة عنه فهو قراءة.

و كل ما نسب للراوي عن الامام فهو رواية ...

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 334

و إن كان قد يطلق كلّ من الثلاثة على غيره، سيّما في كلام من ليس من أهل هذا الاصطلاح.

ثمّ إنّ هاهنا جملة من القرّاء غير من سمعت ربما نسب إليهم شواذّ القراآت لا داعي للتعرّض لهم «1».

______________________________

و كلّ ما نسب للآخذ عن الراوي و إن سفل فهو طريق ...

مثل إثبات البسملة بين السورتين فهو قراءة ابن كثير، و رواية قالون عن نافع، و طريق الإصبهانى عن ورش.

(1) مثل الحسن بن يسار البصري المتوفى (110) قارئ البصرة، و ابن محيصن محمد بن عبد الرحمن المتوفى (123) قارئ مكّة، و غيرها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 335

الباب الثاني عشر

اشارة

في كيفيّة القراءة و آدابها الظاهرة و وظائفها الباطنة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 337

و فيه فصول:

الفصل الأوّل

اشارة

في الآداب الظاهرة الّتى ينبغي الاهتمام بها و المداومة عند القراءة، بل عند إرادتها لو لم تكن حاصلة قبلها، و هي أمور:

الأوّل: الطهارة من الحدث الأكبر و الأصغر بلا خلاف فيها، بل على مطلوبيتها في الجملة، نقلا و تحصيلا، للتعظيم المأمور به في جملة من الأخبار، و لخصوص جملة من المعتبرة.

فممّا يدلّ على الأوّل ما

رواه الحميري «1» في «قرب الاسناد» «2» عن محمّد «3» ابن عبد الحميد، عن محمد بن «4» الفضيل، عن أبى الحسن عليه السّلام قال:

______________________________

(1) هو أبو العبّاس عبد اللّه بن جعفر بن الحسين بن مالك بن جامع الحميري شيخ القمييّن كان حيّا سنة (297 ه) و سمع منه أهل الكوفة في حدود السنة المذكورة.

(2) هو مجموع من الأخبار المسندة الى المعصوم عليه السّلام لقلّه وسائطه سمّى بقرب الاسناد- الذريعة ج 17 ص 67.

(3) هو محمد بن عبد الحميد بن سالم أبو جعفر العطّار الكوفي، نشأ في عصر الإمام الرضا عليه السّلام و بقي الى زمان العسكري عليه السّلام، و وقع في اسناد كامل الزيارات- معجم رجال الحديث ج 16 ص 209.

(4) هو محمد بن الفضيل بن كثير الأزدى الكوفي الصيرفي أبو جعفر الأزرق، روى عن أبى الحسن موسى و الرضا عليهما السّلام و له كتاب و مسائل، معجم رجال الحديث ج 17 ص 145. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 338

سألته أقرأ المصحف، ثمّ يأخذنى البول، فأقوم و أبول و أستنجى و أغسل يدي، و أعود إلى المصحف فأقرأ فيه؟

قال عليه السّلام: لا، حتّى تتوضّأ للصّلاة «1».

و الظاهر أنّ المراد مثل الوضوء للصلاة، و لذا كان

الأظهر عندنا أنّ الوضوء للقراءة و غيرها من الغايات المندوبة يستبيح به الصّلاة على ما حرّرناه في الفقه.

و

روى أحمد «2» بن فهد في «عدّة الداعي» قال: قال عليه السّلام: لقارئ القرآن بكلّ حرف يقرأه في الصّلاة قائما مائة حسنة، و قاعدا خمسون حسنة، و متطّهرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطّهرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطّهر عشر حسنات، أما إنّي لا أقول: «المر» حرف بل بالألف عشر، و باللام عشر، و بالميم عشر، و بالراء عشر «3».

و هذا الخبر أرسله في «كشف اللثام» إلى قوله: «عشر حسنات» عن مولانا الصّادق عليه السّلام، قال: و أرسل نحوه عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

و

في «الخصال» بالإسناد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، في حديث الأربعمائة، قال: «لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهور حتّى يتطّهر» «4».

و لعلّه يستفاد منه كالخبر الأوّل كراهة القراءة من غير طهور، و لم أر من نبّه عليه، و لعلّهم فهموا منه التعبير عن الاستحباب، و أمّا البناء على كراهة ترك

______________________________

(1) قرب الاسناد ص 175- وسائل الشيعة ج 4 ص 847 باب استحباب الطهارة القراءة القرآن.

(2) هو أحمد بن محمد بن فهد الأسدى الفقيه الجليل الحلّى، ولد في الحلّة سنة (753) و توفي بكربلاء سنة (841 ه)، روضات الجنّات ج 1 ص 21.

(3) عدّة الداعي ص 212- وسائل الشيعة ج 4 ص 848.

(4) الخصال ج 2 ص 627- حديث أربعمائة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 339

المستحب، و استحباب ترك المكروه فلا ينبغي الإصغاء إليه.

بل قد ورد الأمر بالطهارة لكتابته و تعليقه:

ففي «الكافي» و «قرب الاسناد» عن عليّ بن «1» جعفر، عن أخيه موسى

بن جعفر عليهما السّلام: أنّه سأله من الرّجل أ يحلّ له أن يكتب القرآن في الألواح و الصحيفة، و هو على غير وضوء؟ قال عليه السّلام: لا «2».

و

روى الشيخ في «الإستبصار» بالإسناد عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «المصحف لا تمسّه على غير طهر، و لا جنبا، و لا تمسّ خطّه و لا تعلّقه، إنّ اللّه يقول: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «3». «4»

أقول: و النهى فيه محمول على مطلق مطلوبيّة الترك الأعمّ من الكراهة و الحرمة، فلا يقدح الجمع في النهى بين مسّ الخطّ و التعليق، كما أنّه في الأخبار السابقة ظاهر في الكراهة، و لو بقرينة المقام، أو بمعرفة الإجماع و غيره على نفى التحريم، بل ينزّل عليه نفي البأس عنه في أخبار أخر:

كصحيح أبى بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمّن قرأ المصحف، و هو على غير وضوء، قال عليه السّلام: لا بأس و لا يمسّ الكتاب «5».

______________________________

(1) هو على بن جعفر الصادق عليه السّلام أبو الحسن المدني سكن العريض من نواحي المدينة كان جليل القدر عظيم الشأن، روى عن أبيه و أخيه و عن الرضا عليهم السّلام، و له كتب و روى عنه جماعة، توفى سنة (210 ه) كما في تقريب ابن حجر ص 369.

(2) رواه المجلسي في البحار ج 10 ص 277 و ج 80 ص 309.

(3) سورة الواقعة: 79.

(4) الاستبصار ج 1 ص 113 و 114 باب أنّ الجنب لا يمسّ المصحف ح 3.

(5) التهذيب ج 1 ص 35- الاستبصار ج 1 ص 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 340

و

في «الكافي» عن حريز «1»، عمّن أخبره، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: كان إسماعيل بن أبى عبد اللّه

عنده، فقال عليه السّلام: يا بنىّ اقرأ المصحف، فقال: إنّي لست على وضوء، فقال عليه السّلام: لا تمسّ الكتابة، و مسّ الورق و اقرأه «2».

فإنّ نفى البأس في الأوّل لنفى الحرمة، و الأمر في الثاني لدفع توهّم الحظر، و لذا نبّه فيهما على ما هو المحظور من مسّ الكتابة.

و يدلّ على الثاني، مضافا إلى التعظيم و الأولويّة القطعيّة الّتي مرجعها إلى الدلالة اللفظيّة العلويّ المتقدّم من «الخصال» في حديث الاربعمائة، و غيره ممّا يأتي.

و لعلّه لا خلاف فيه، كما لا خلاف في جواز القراءة، للجنب و الحائض، و النفساء، و من مسّ الميّت، من غير العزائم الأربع، للمعتبرة المستفيضة:

كالصحيح عن الصادق عليه السّلام، قال: «يقرأ الجنب القرآن، و الحائض، و النفساء أيضا «3».

و

موثّق ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يأكل، و يشرب، و يقرأ القرآن؟ قال عليه السّلام: ثم يأكل، و يشرب، و يقرأ، و يذكر اللّه تعالى ما شاء «4».

و

صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: قلت له: الحائض و الجنب هل يقرأن من القرآن شيئا؟ قال عليه السّلام: «نعم، ما شاءا إلّا السجدة، و يذكر ان

______________________________

(1) هو حريز بن عبد اللّه السجستاني ابو محمد الأزدى روى عن الصادق عليه السّلام و له «أصول الأربعة في الصلاة و الصوم و الزكاة و النوادر» رواها عنه حماد بن عيسى الغريق سنة (208)- الذريعة ج 2.

(2) الوسائل ج 1 ص 269 ح 2- التهذيب ج 1 ص 35.

(3) فروع الكافي ج 1 ص 30: قال: الحائض تقرأ القرآن، و النفساء و الجنب أيضا.

(4) الفروع ج 1 ص 16- التهذيب ج 1 ص 36. تفسير الصراط المستقيم، ج 2،

ص: 341

اللّه تعالى على كلّ حال» «1».

و

موثّق الفضيل عنه عليه السّلام: «لا بأس أن تتلوا الحائض و الجنب القرآن «2».

و

في صحيح الحلبي، عن الصادق عليه السّلام قال: سألته: أ تقرأ النفساء، و الحائض، و الجنب، و الرجل يتغوّط، القرآن؟ فقال عليه السّلام: يقرءون ما شاءوا «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، مضافا إلى الإجماع المحصّل و المحكي في كلام الجماعة نقلا مستفيضا.

فلا ينبغي الإصغاء إلى ما يحكى عن سلّار «4» في غير «المراسم» من تحريم القراءة للجنب مطلقا، أوله و لأختيه، لشذوذه و ضعفه، كضعف ما يستدلّ به من الخبرين:

أحدهما

المرويّ عن «الخصال» عن السكوني «5»، عن الصادق عليه السّلام، من آباءه، عن عليّ عليهم السّلام، قال: «سبعة لا يقرءون من القرآن: الراكع، و الساجد، و في الكنيف، و في الحمّام، و الجنب، و النفساء، و الحائض «6».

و الآخر

المرويّ في «الفقيه» و «الأمالى» و «العلل» عن أبي سعيد الخدري في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعلىّ عليه السّلام أنّه قال: «يا على من كان جنبا في الفراش مع امرأته

______________________________

(1) العلل ص 105.

(2) التهذيب ج 1 ص 36.

(3) التهذيب ج 1 ص 36.

(4) سلار: حمزة بن عبد العزيز الديلمي الفقيه سكن بغداد و توفي في «خسرو شاه» من قرى تبريز سنة (463 ه)- الذريعة ج 1 ص 73.

(5) هو إسماعيل بن ابى زياد مسلم السكوني الشعيري عدّه الشيخ الطوسي في «عدّة الأصول» ممّن انعقد الإجماع على ثقته و قبول روايته و إن كان عاميّا.

(6) الخصال ص 357 باب السبعة ح 42. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 342

فلا يقرأ القرآن فإني أخشى أن ينزل عليهما نار من السماء فتحرقهما» «1».

إذ مع قصورهما سندا و دلالة

لا يعارضان ما سمعت، سيّما مع موافقتهما للعامّة، و عاميّة السكوني معروفة، و الكلام في وصايا النبيّ مشهور.

و أضعف منهما ما يقال: من معروفيّة ترك الجنب قراءة القرآن في ذلك الزّمان، نظرا إلى ما

يحكى عن عبد اللّه بن «2» رواحة، حيث رأته امرأته مع جاريته، فمضت لتأخذ سكّينا، فأنكر عليها ذلك و احتجّ عليها بأنّه أليس نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقرأ أحدنا و هو جنب؟ فقالت له: اقرأ، فقال:

شهدت بأنّ وعد اللّه حقّ* و أنّ النار مثوى الكافرينا و أنّ العرش من فوق «3» طباق* و فوق العرش رب العالمينا و تحمله ملائكة شداد* ملائكة إلا له مسوّمينا فقالت: صدق اللّه و كذب بصرى، فجاء و أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، فضحك حتّى بدت نواجذه. «4»

إذ إثبات الحكم الشرعي بمثله كما ترى.

فلا ريب في ضعف القول بالحرمة مطلقا، بل و لا ريب أيضا في ضعف مالا يعرف القائل به من القول بحرمة ما زاد على سبع آيات، أو السبعين، و إن كان

______________________________

(1) وسائل الشيعة ب 16 من أبواب الجنابة ج 1 ح 3 ص 493.

(2) هو عبد اللّه بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الصحابي الشهيد في مؤتة (8).

(3) في مختصر تاريخ دمشق ج 12 ص 158: «و أنّ العرش فوق الماء طاف» و فيه: و تحمله ملائكة كرام ملائكة إلا له مقرّبينا

(4) مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ج 12 ص 158- 159 مع تفاوت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 343

ربما يلوح من «المقنعة» و «النهاية»، و ظاهر «المهذّب» بل قد يستدلّ له

بموثّقة سماعة، قال: سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال عليه السّلام: «ما بينه و

بين سبع آيات إلّا أربع سور» «1».

و في رواية زرعة عن سماعة قال: «سبعين آية» «2».

و لذا ربما عدّهما بعضهم روايتين، و آخرون رواية واحدة مضطربة.

إلّا أنّ فيه، مع الإضمار، و ظهور الاضطراب، و شذوذ القول به، أنّ الخبر كما ترى غير صريح في الحرمة، فلا يصلح مقيّدا و مخصّصا للمعتبرة المتقدّمة الّتى فيها الصّحاح و غيرها.

على أنّ التدافع بينهما حاصل على فرض التعدّد فلا ينبغي التأمّل في جواز القراءة من غير الأربع للمحدث بالحدث الأكبر مطلقا.

نعم إنّما الكلام في أنّ الجواز هل هو من غير كراهة، مطلقا، كما هو ظاهر «الفقيه» و «الهداية» و «المقنع»، و غيرهما، ممّن نفى البأس عن قراءة القرآن كلّه ما خلا العزائم، بل و صريح «المدارك» و «الحدائق» لظاهر الأخبار المتقدّمة الدالّة على نفى البأس الشامل بإطلاقه لنفى الكراهة، كما هو مقتضى الأصل الّذي لا رافع له في المقام بعد تضعيف خبر السّبع و السّبعين، و عدم صلاحيّته للتخصيص و التقييد.

أو أنّ الجواز مع الكراهة مطلقا و لو في أقلّ من السّبع كما عن ابن سعيد «3»

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 36- وسائل الشيعة ج 1 ح 10 ب 19 من أبواب الجنابة ص 494.

(2) التهذيب ج 1 ص 39- الوسائل ب 19 من أبواب الجنابة ح 10 ج 1 ص 494.

(3) ابن سعيد ابو أحمد بن يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي ولد سنة (601) و توفّي سنة (689) أو

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 344

في «الجامع» حيث أطلق كراهة قراءة الجنب القرآن «1»، و عن سلّار في «المراسم» حيث قال: إنّه يندب له أن لا يقرأ القرآن «2».

و لعلّه للتعظيم، و فحوى ما دلّ على استحباب الطهارة من

الأصغر للقراءة، و ظهور أخبار الباب، و إن اشتملت على الأمر في رفع الخطر الّذى هو أعم من الكراهة.

أو مع الكراهة فيما زاد على السبع لظاهر مفهوم موثّق سماعة المتقدّم، و عليه المشهور، جمعا بينه و بين الأخبار المتقدّمة.

و ما فيه من الضعف و القصور منجبر بالشهرة العظيمة بين الطائفة، و هؤلاء ذكروا اشتداد الكراهة بقراءة السبعين.

و تفرّد المحقّق الأوّل بإثبات مرتبة ثالثة للكراهة، و هي غلظها فيما زاد عن السبعين، و لا دلالة عليه.

أو معها فيما زاد عن السبعين «3»، لا ما نقص عنه مطلقا، كما عن ابن حمزة، أقوال.

و لعلّ الأظهر هو الثاني، لما سمعت، مضافا إلى أنّه من السنن الذي يتسامح فيها.

لكنّ المراد بالكراهة قلّة الثواب، لا المرجوحية الصرفة، جمعا بينها و بين

______________________________

(690) ه- معجم الرموز ص 220.

(1) الجامع للشرايع كتاب الطهارة باب الجنابة ص 39.

(2) المراسم كتاب الطهارة باب غسل الجنابة و بالوجبه ص 42.

(3) حكاه العلّامة في «المنتهى» ج 1 ص 87 عن بعض الأصحاب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 345

الإطلاقات الآمرة بالقراءة مطلقا، و لخصوص الجنب، بل يستفاد من صريح

المرسل المتقدّم حيث قال: و متطهّرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطهّر عشر حسنات» «1».

و منه يظهر ضعف ما يقال: من نفى البلد عن الثاني نظرا إلى أنّ الأوّل لا يرتكب إلا في الشي ء الذي لا يمكن أن يقع إلّا عبادة، فنلتزم حينئذ بذلك، إذا القراءة أيضا كذلك، للإطلاقات الآمرة كقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ «2».

بل العمومات أيضا

كقوله صلّى اللّه عليه و آله في وصيّته لعليّ عليه السّلام، على ما رواه في «الكافي» و «المحاسن»: «و عليك بتلاوة القرآن» «3».

مضافا إلى الأخبار الكثيرة

الآمرة بذكر اللّه سبحانه على كلّ حال، بل

في أخبار كثيرة: أنّ موسى على نبينا و آله و عليه السّلام سأل ربّه فقال: يا ربّ تمرّ بي حالات أستحيى أذكرك فيها.

و في خبر آخر: يأتي عليّ مجالس أعزّك و أجلّك أن أذكرك فيها، فقال تعالى: «يا موسى إنّ ذكرى حسن على كلّ حال» «4».

و بالجملة قضيّة العمومات و الإطلاقات الآمرة بالقراءة، و الدعاء، و الذكر، و غيرها شمولها لجميع الأمر، غاية الأمر نقصان ثوابها باعتبار بعض الحالات لفقد بعض المكمّلات، و أمّا المرجوحيّة المطلقة بالنسبة إلى الترك فلا يستفاد من

______________________________

(1) عدّة الداعي ص 212- وسائل الشيعة ج 4 ص 848.

(2) المزمّل: 20.

(3) المحاسن ص 17.

(4) أصول الكافي ج 2 ص 497.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 346

شي ء من الأدلّة، بل لعلّ المقطوع منها خلافه.

نعم قد يقال: إنّ الأولى للحائض و النفساء ترك القراءة مطلقا، نظرا إلى ورود النهى منها، مضافا الى خبر «الخصال» «1» المتقدّم في المرسلين: أحدهما

النبويّ: «لا يقرء الجنب و الحائض شيئا من القرآن» «2».

و الآخر:

العلوي: «لا تقرأ الحائض قرآنا» «3».

بل

عن أبى جعفر عليه السّلام: «إنّا نأمر نساءنا الحيّض أن يتوضّأن عند وقت كلّ صلاة ... إلى قوله عليه السّلام: و لا يقربن مسجدا، و لا يقرأن قرآنا» «4».

لكن

في خبر معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السّلام قال: «تتوضّأ المرأة الحائض إذا أرادت أن تأكل، و إذا كان وقت الصلاة توضّأت و استقبلت، القبلة، و هلّلت، و كبّرت، و تلت القرآن، و ذكرت اللّه عزّ و جلّ «5»».

هذا مضافا إلى ضعف المرسلين، و قصورهما عن معارضة ما سمعت.

بقي في المقام أمور:

أحدها: أنّ الأظهر وفاقا للأكثر حرمة مسّ كتابة القرآن للمحدث بأحد

الحدثين لقوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «6».

______________________________

(1) الخصال باب السبعة ح 42 ج 1 ص 357.

(2) عوالي اللآلي: الفصل الثامن ح 12 ج 1 ص 131.

(3) دعائم الإسلام ج 1 ص 128.

(4) دعائم الإسلام: في أحكام الحيض ج 1 ص 128.

(5) فروع الكافي ج 1 ص 101 باب ما يجب على الحائض في أوقات الصّلوات ح 2.

(6) الواقعة: 79.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 347

حيث إنّ الظاهر رجوع الضمير الى القرآن كما فهمه أكثر المفسّرين، بل ظاهر «التبيان» و «مجمع البيان» نسبته إلى الإماميّة، مضافا الى ما مرّ في خبره مولانا أبي الحسن عليه السّلام من النهى عن المسّ، للآية.

بل لعلّه الظاهر هو أيضا فيما مرّ من قول الصادق عليه السّلام لابنه إسماعيل «1».

بل

عن الباقر عليه السّلام تفسير قوله تعالى: إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2» بالمطهّرين من الأحداث و الجنابات «3».

و ستسمع الكلام فيه و في ضعف القول بالجواز، و تحقيق معنى المسّ و الكتابة عند التعرّض لتفسير الآية إنشاء اللّه تعالى، و تمام الكلام في الفقه.

ثانيها: المحكي عن المرتضى «4» رضى اللّه عنه حرمة مسّ ما عدى الكتابة من جلد المصحف، و هامشه، للآية، و

خبر أبي الحسن عليه السّلام المتقدّم: «المصحف لا تمسّه على غير طهر، و لا جنبا، و لا تمسّ خطّه، و لا تعلّقه، إنّ اللّه يقول: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «5». «6»

و ضعفه واضح، إذا لضمير في الآية للقرآن لا للمصحف، و الخبر مع ضعفه عند السيّد، فضلا عن غيره، لا بدّ من حمله على الكراهة، لاستقرار المذهب على نفى الحرمة، و ظهور الإجماع على الكراهة، و لا أقلّ من الشهرة العظيمة التي تصلح دليلا للكراهة،

سيّما مع المسامحة في أدلّتها، مضافا إلى التعظيم،

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 35.

(2) الواقعة: 79.

(3) مجمع البيان ج 5 ص 226.

(4) حكاه المحقّق في المعتبر ج 1 ص 190.

(5) الواقعة: 79.

(6) وسائل الشيعة ج 1 ص 269 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 348

و

صحيح محمد بن مسلم، عن أبى جعفر عليه السّلام: «الجنب و الحائض يفتحان المصحف من وراء الثياب، و يقرآن من القرآن ما شاء إلّا السجدة» «1».

و توهّم دلالته على مذهب السيّد ضعيف كأصل المذهب، و مع فرضه فلا بدّ من حمله على الاستحباب لقضية ما مرّ، مضافا إلى ما تفسير الصراط المستقيم ج 2 369

في «الفقه الرضوى»: «و لا تمسّ القرآن إذا كنت جنبا، أو على غير وضوء، و مسّ الأوراق» «2».

و سبيله عندنا سبيل الأخبار الضعيفة الّتى نقول بحجّيتها بالانجبار في مثل المقام.

ثالثها: هل يستحبّ طهارة الثوب و البدن، و مكان القارى من الأخباث؟

لم أر من تعرّض له من الأصحاب، و قضيّة الأصل العدم، غير أنّ الأوفق بالإكرام و تعظيم القرآن المأمور به في المعتبرة الاجتهاد في التنظيف و الطهارة للقراءة.

الثاني من الآداب الظاهرة: السّواك قبل القراءة، للمعتبرة،

ففي «المحاسن» بالإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نظّفوا طريق القران، قيل: يا رسول اللّه و ما طريق القرآن؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: أفواهكم، قيل: بماذا؟

قال صلّى اللّه عليه و آله: بالسواك «3».

و

فيه، عنه عليه السّلام: «أفواهكم طريق من طريق ربّكم، فأحبّها إلى اللّه أطيب بها

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 36 و ص 105.

(2) فقه الرضا (عليه السّلام) ص 4 و عنه في البحار ج 81 ص 52 ح 23.

(3) المحاسن ص

588- و الجعفريات ص 15 و دعائم الإسلام ج 1 ص 119. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 349

ريحا، فطيّبوها بما قدرتم عليه» «1».

و

روى الصدوق عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ أفواهكم طرق القرآن فطهّروها بالسواك «2».

و

في «الخصال» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: في السواك اثنتا عشرة خصلة: مطهرة للفم، و مرضاة للربّ، و يبيّض الأسنان، و يذهب بالحفر، و يقلّ البلغم، و يشهىّ الّطعام، و يضاعف الحسنات، و تصاب به السنّة، و تحضره الملائكة، و يشدّ اللثة، و هو يمرّ بطريق القرآن، و صلاة ركعتين بسواك أحبّ الى اللّه عزّ و جلّ من سبعين ركعة بغير سواك «3».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام: «إذا قمت باللّيل فاستك، فإنّ الملك يأتيك فيضع فاه على فيك، فليس من حرف تتلوه و تنطق به إلّا صعد به إلى السّماء، فليكن فوك طيّب الريح» «4».

و

في «المحاسن» عنه عليه السّلام: «إنّي لاحبّ للرجل إذا قام بالليل أن يستاك، و أن يشمّ الطيب، فإنّ الملك يأتى الرجل إذا قام بالليل حتى يضع فاه على فيه، فما خرج من القرآن من شي ء دخل في جوف ذلك الملك «5».

إلى غير ذلك ممّا يدلّ على استحباب تطييب الفم للقراءة، و غيرها

______________________________

(1) المحاسن ص 588.

(2)

أعلام الدين للديلمي، و عنه البحار ج 84 ص 330: و فيه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أفواهكم طرق القرآن فطيّبوها بالسّواك ... إلخ.

(3) الخصال ج 2- أبواب الاثنى عشر- ص 480 ح 52.

(4) فروع الكافي ج 1 ص 8.

(5) المحاسن ص 559، و عنه البحار ج 80 ص 343.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 350

بالسواك.

و هل يستحبّ التطيّب بالعطر، و نحوه و جهان،

و الأظهر الأوّل لفحوى ما سمعت، و ما دلّ على استحبابه للصلاة، و غيرها.

و أمّا البحث عن كيفيّة السواك و نصابه، و ما يستاك به فمذكور في الفقه.

الثالث من الآداب الظاهرة: ستر العورة لما دلّ على النهى عن القراءة في الحمّام للعريان من غير إزار.

ففي «الكافي» و «الفقيه» عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام:

أ كان أمير المؤمنين سلام اللّه عليه ينهى عن قراءة القرآن في الحمّام؟ فقال عليه السّلام:

لا، إنّما نهى أن يقرأ الرجل و هو عريان، فأمّا إذا كان عليه إزار فلا بأس «1».

و

روى الشيخ في «التهذيب» عن أبى بصير قال: سألته عن القراءة في الحمّام، فقال عليه السّلام: «إذا كان عليك إزار فاقرأ القران إن شئت كلّه» «2».

و من هنا يظهر أنّ الإطلاق النهى عن القراءة في الحمّام محمول على ما لم يكن معه إزار.

كما أنّ إطلاق نفى البأس عنها

في خبر علي بن يقطين عن الكاظم عليه السّلام: «أقرأ في الحمّام، و أنكح فيه؟ فقال عليه السّلام: لا بأس» «3»

و مثله غيره من الأخبار إنّما هو للإشعار بالجواز الذي هو أعمّ من الكراهة، و إن كان معها في بعض الأفراد، أو أنّه مقيّد بخصوص الستر.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 76 ص 77 ط طهران المطبعة الاسلاميّة.

(2) التهذيب ج 1 ص 377 ح 1165.

(3) الفقيه ج 1 ص 63 ح 234.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 351

بل لعلّه يستفاد من فحوى الخبرين دوران النهى المحمول على الكراهة مدار كشف العورة وجودا و عدما، و لو في غير الحمّام، و لذا لم تقيّد العنوان به.

نعم هل العبرة في عورة المرأة بعورة الصلاة، أو النظر لغير المماثل، أو المماثل؟ وجوه، و الأظهر الثالث، فترتفع

الكراهة بستر العضوين كالرّجل.

و التأمّل في شمول الحكم لها مع تعليقه في الخبر الأوّل على الرجل و لا دليل على الاشتراك، مدفوع بظهور، من الفحوى، مضافا الى أنّ المسئول عنه في الخبر الثاني هو نفس القراءة.

الرابع من الآداب الاستعاذة، للأمر بها كتابا و سنّة، قال اللّه تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «1» أى إذا أردت القراءة، كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «2»، و كما يقال: إذا لقيت العدوّ فخذ سلاحك.

و الأخبار الآمرة بها كثيرة، و ستسمع إنشاء اللّه تعالى تمام الكلام فيها، و في وجوبها، و ندبها، و محلّها، و كيفيّتها، و معناها في مفتتح فاتحة الكتاب و عند تفسيرها.

الخامس من الآداب القراءة من المصحف و إن كان حافظا للقرآن، قادرا، على قراءته عن ظهر القلب، فإنّ النظر إلى المصحف عبادة مستقلّة، مع ما يوجبه من سلامة البصر، فالقراءة منه بمنزلة الجمع بين العبادتين، بل لعلّ القراءة في المصحف أفضل منها عن ظهر القلب مع قطع النظر عن استحباب النظر.

______________________________

(1) النحل: 98.

(2) المائدة: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 352

فعن الصدوق في «ثواب الأعمال» مرفوعا عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ القرآن في المصحف نظرا متّع ببصره، و خفّف على والديه و إن كانا كافرين» «1».

و

فيه مرفوعا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ليس شي ء أشدّ على الشيطان من القراءة في المصحف نظرا» «2».

و

في «أمالى الطوسي، عن أبي ذرّ قال: النظر إلى علي بن أبى طالب عليه السّلام عبادة، و النظر الى الوالدين برأفة و رحمة عبادة، و النظر في الصحيفة، يعنى صحيفة القرآن عبادة، و النظر الى الكعبة عبادة» «3».

و روى الصدوق مثله ...

الى أن قال: «و النظر إلى المصحف من غير قراءة عبادة» «4».

و

في «الكافي» عن إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك إنّي أحفظ القرآن على ظهر قلبي، فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ فقال عليه السّلام لي: بل اقرأه و انظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة» «5».

و

فيه عنه عليه السّلام، قال: «قراءة القرآن في المصحف تخفّف العذاب عن الوالدين و لو كانا كافرين» «6».

______________________________

(1) ثواب الأعمال ص 128- الوسائل ج 6 ص 204 ح 7735.

(2) ثواب الأعمال ص 129- الوسائل ج 6 ص 204 ح 7735.

(3) أمالي الطوسي ج 2 ص 70- الوسائل ج 6 ص 205 ح 7738.

(4) الفقيه ج 2 ص 132 ح 556- الوسائل ج 6 ص 205 ح 7739.

(5) الكافي ج 2 ص 449 ح 5- الوسائل ج 6 ص 204 ح 7738.

(6) الكافي ج 2 ص 449 ح 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 353

و

في «قرب الإسناد» عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: يستحبّ أن يعلّق المصحف في البيت يتّقى به من الشياطين.

قال: و يستحبّ أن لا يترك من القراءة فيه «1».

أقول: و يستفاد منه جهة ثالثة للاستحباب، و هو استعمال المصحف و عدم ترك القراءة فيه، فلا تغفل.

السّادس من الآداب خفض الصوت و الإسرار بالقراءة لأنّه أبعد من الرياء، و أقرب الى الخلوص و أحدى بتوجّه النفس و حضور القلب، لنيل المقامات، و التحقق بحقائق الآيات، فإنّ الصوت كلّما ازداد جهارته ازداد توجّه النفس إليه، و اشتغال القلب به، فإنّه ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «2» فينصرف، شطر من توجّه القلب إلى ضبط

ميزان الصوت و التحسين، و التحرير، و الانتقال، و غير ذلك من الأحوال.

و أمّا خفض الصوت فالقارئ معه يتمكّن من صرف تمام القلب الى التدبّر في المعاني، و التحقّق بحقائقها، و لذا يمكن في الإسرار من التدبر و التفكير ما لا يمكن في الإجهار، بل لعلّه يحصل في الاستماع من الالتفات ما لا يحصل في القراءة، و لا تغفل عن هذه الدقيقة، فإنّها كثيرة الفائدة.

هذا مضافا الى قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «3» أى المجاوزين ما أمروا به في الدعاء من الإخفات، و لذا

قال

______________________________

(1) قرب الاسناد ص 42 المطبوع بطهران بأمر أية اللّه العظمى البروجردي قدّس سرّه.

(2) الأحزاب: 4.

(3) الأعراف: 55. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 354

الصادق عليه السّلام على ما رواه في «مصباح الشريعة»: «استعن باللّه في جميع أمورك متضرّعا إليه أناء الليل و النّهار، قال: و الاعتداء من صفة قرّاء زماننا هذا و علامتهم.

و

في «المجمع» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه كان في غزاة، فأشرف على واد، فجعل الناس يهلّلون، و يكبّرون، و يرفعون أصواتهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أيّها الناس اربعوا «1» على أنفسكم، أما إنّكم لا تدعون أصمّ، و لا غائبا، إنّكم تدعون سميعا قريبا، إنّه معكم» «2».

و قال سبحانه: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ «3».

و

قد ورد في تفسيره، عن أحدهما عليهما السّلام: أنّه لا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرجل غير اللّه لعظمته «4».

و

في «مجالس الشيخ» بالإسناد عن أبى ذرّ، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في وصيّة له قال: «يا أبا ذرّ اخفض صوتك عند الجنائز، و عند

القتال، و عند القرآن» «5».

و

في «الكافي» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط

______________________________

(1) اربعوا على أنفسكم: توقّفوا.

(2) مجمع البيان ج 3 ص 78، و أخرجه أبو داود في صحيحة ج 1 ص 350، و الترمذي ج 13 ص 14 و مسلم ج 8 ص 73 بتفاوت يسير.

(3) الأعراف: 205.

(4) الكافي ج 2 ص 205.

(5) المجالس و الأخبار ص 338. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 355

بدمه في سبيل اللّه «1».

هذا مضافا إلى ما يدلّ على افضليّة العبادة سرّا عليها علانية،

كالنبوى: «أعظم العبادة أجرا أخفاها» «2»

و

الجعفري: «و اللّه العبادة في السرّ أفضل منها في العلانية» «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، و ربما يرجّح الجهر على الإخفات لاقتضاء الحال، أو لإعلاء كلمة الدّين، أو لتعليم المؤمنين، أو لانزجار النفس من الإخفات، أو لاهتداء الناس في البراري، سيّما الليالي، أو لتنبيه الغافلين، أو إيقاظ النائمين، أو إسماع المستمعين، أو لغير ذلك من المصالح التي لعلّه لا يمكن ضبط خصوصياتها، فيرجّح الإجهار حينئذ على حسب ما اقتضته المصلحة.

و على شي ء من ذلك أو غيره يحمل ما

رواه الحلّي في آخر «السرائر» بالإسناد، عن إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرّجل لا يرى أنّه صنع شيئا في الدعاء و في القراءة حتى يرفع صوته، فقال عليه السّلام: لا بأس، إنّ علي بن الحسين عليه السّلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن، و كان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار، و إنّ أبا جعفر عليه السّلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن، و كان إذا قام من الليل و

قرأ رفع صوته، فيمرّ به مارّ الطريق من الساقين «4»، و غيرهم، فيقومون

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 454 ح 6- الوسائل ج 6 ص 209 ح 23.

(2) الوسائل ج 1 ص 79 ح 8- قرب الاسناد ص 64 و فيه: أعظم العبادات.

(3) الكافي ج 4 ص 8 ح 2- الوسائل ج 1 ص 77 ح 2.

(4) في المصدر: السقّائين. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 356

و يستمعون الى قراءته «1».

و ستسمع رواية أبى بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام في الأمر بالقراءة بين القرائتين «2»، يعنى المتوسط في الرفع و الخفض.

السابع من الآداب الظاهرية تحسين الصوت في قراءة القرآن بما لا يبلغ حدّ الغناء، لما سمعت من خبر إسحاق بن عمّار، و لما

رواه الصدوق في «العيون» عن الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» «3».

و في رواية أخرى مثله، و زاد: «و قرأ عليه السّلام: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ «4». «5»

قلت: و يستفاد منه أنّ الصوت الحسن نعمة زائدة منه سبحانه.

و يؤيّده ما

في «المجمع» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية: «إنّه هو الوجه الحسن، و الصوت الحسن، و الشعر الحسن «6».

و

عن الصادق عليه السّلام في معنى الترتيل: «هو أن تمكث و تحسّن به صوتك» «7».

و

فيه، عن علقمة بن قيس، قال: كنت حسن الصوت بالقرآن، و كان

______________________________

(1) مستطرفات السرائر ص 97.

(2) الكافي ج 2 ص 451 ح 13.

(3) عيون اخبار الرضا عليه السّلام ص 227- البحار ج 79 ص 255 ح 4.

(4) فاطر: 1.

(5) عيون الاخبار ج 2 ص 69 ح 322 و عنه في البحار

ج 69 ص 193 ح 6.

(6) مجمع البيان ج 8 في تفسير سورة الملائكة ص 400.

(7) مجمع البيان ج 10 ص 278. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 357

عبد اللّه بن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه، فاذا فرغت من قراءتي، قال: زدنا من هذا فداك أبي و أميّ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّ حسن الصوت زينة القرآن» «1».

و

عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ لكلّ شي ء حلية، و حلية القرآن حسن الصوت» «2».

و

في «الكافي» عن النوفلي «3»، عن أبى الحسن عليه السّلام قال: ذكرت الصوت عنده، فقال عليه السّلام: إنّ على بن الحسين عليه السّلام كان يقرأ، فربما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته، و انّ الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله النّاس من حسنه، قلت: و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّى بالناس و يرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون» «4».

و فيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ما مرّ عن أنس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «5».

و

عنه عليه السّلام، قال: كان علي بن الحسين صلوات اللّه عليه أحسن الناس صوتا بالقرآن، و كان السقّاؤون يمرّون، فيقفون ببابه يسمعون قراءته و كان أبو جعفر عليه السّلام أحسن النّاس صوتا «6».

إلى غير ذلك ممّا يدلّ على استحباب تحسين الصوت، بل و إنّه من مننه

______________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 16 الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

(2) جامع الاخبار ص 57- بحار الأنوار ج 92 ص 190 عن الجامع.

(3) هو على بن محمّد بن

سليمان النوفلي رمي، روايات عن ابى الحسن العسكري عليه السّلام.

(4) الكافي ج 2 ص 615 ح 4.

(5) الكافي ج 2 ص 615 ح 9.

(6) الكافي ج 2 ص 16 ح 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 358

العظيمة، و نعمه الجسيمة على عبده، و أنّ النبي و الإمام أكمل الناس في ذلك.

و أمّا ما بلغ من ذلك حدّ الغناء و الترجيح فقد عبّر عنه في الأخبار بلحون أهل الفسق، و أهل الكبائر.

كما

في «الكافي» عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اقرأوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق، و أهل الكبائر، فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح، و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه شأنهم» «1».

و

في «المجمع» عن عبد الرحمن بن سائب، قال: قدم علينا سعد بن أبى وقّاص، فأتيته مسّلما عليه، فقال: مرحبا يا ابن أخى بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن، قلت: نعم و الحمد للّه، قال: إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّ القرآن نزل بالحزن، فإذا قرأتموه فابكو، فإن لم تبكو فتباكوا و تغنّوا به، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا» «2».

قال شيخنا الطبرسي قدّس سرّه: تأوّل بعضهم تغنّوا به بمعنى استغنوا به، قال: و أكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت و تحزينه «3».

قال الفيض قدّس سرّه في «الصّافى» بعد ذكره، و ذكر بعض ما سمعت من الأخبار: إنّ المستفاد منها جواز التغنّي بالقرآن و الترجيع به، بل استحبابهما، فما ورد من النهى عن الغناء كما يأتى في محلّه ينبغي حمله على لحون أهل الفسوق و الكبائر، و على ما كان

معهودا في زمانهم عليهم السّلام في فسّاق الناس، و سلاطين بنى

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 614 ح 3.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 36- الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 36- الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 359

أميّة، و بنى العبّاس من تغنّي المغنيّات بين الرّجال، و تكلّمهنّ بالأباطيل، و لعبهنّ بالملاهي من العيدان، و القصب، و نحوها «1».

قال في «الفقيه»: سأل رجل عليّ بن الحسين عليهما السّلام عن شراء جارية لها صوت، فقال عليه السّلام: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة «2».

قال: يعنى بقراءة القرآن، و الزهد، و الفضائل التي ليست بغناء، و أمّا الغناء فمحظور.

و

في «الكافي» و «التهذيب» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أجر المغنيّة التي تزّف العرائس ليس به بأس، ليست بالّتي تدخل عليها الرّجال «3».

و في معناه أخبار أخر، و كلام الفقيه يعطى أنّ بناء الحلّ و الحرمة على ما يتغنّى به، و الحديث الآخر يعطى أنّ السماع صوت الأجنبيّة مدخلا في الحرمة، فليتأمّل انتهى.

حرمة الغناء:

أمّا حرمة الغناء في الجملة فلا ريب فيه، و كأنّه من ضروريات المذهب، بل الدين، و ادّعوا عليه إجماع المسلمين، نعم ربما يحكى عن بعض أهل الخلاف الخلاف فيه، كما حكاه بعض العامّة عن معاوية «4»،

______________________________

(1) الصافي ج 1 ص 46- المقدّمة الحادية عشرة.

(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 42 ح 139.

(3) الكافي ج 5 ص 120 ح 3- التهذيب ج 6 ص 357 ح 1022.

(4) معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب الأموي المولود (20) قبل الهجرة و المتوفي (60) ه حكى العيني في عمدّة القارى شرح صحيح البخاري ج 5 ص 160

أنّ معاوية كان ممّن ذهب إلى إباحة الغناء.

و قال الغزالي في احياء العلوم ج 2 ص 138: نقل أبو طالب المكي إباحة السماع عن جماعة، فقال: سمع من الصحابة عبد اللّه بن جعفر، و عبد اللّه بن الزبير، و المغيرة بن شعبة، و معاوية و غيرهم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 360

و المغيرة «1» بن شعبة، و ابن الزبير «2»، و عبد اللّه «3» بن جعفر، بل كان يعدّ ذلك من مطاعنهم.

و لذا قال ابن أبي الحديد: ما ينسب الى معاوية من شرب الخمر سرا لم يثبت إلّا أنّه لا خلاف في أنّه كان يسمع الغناء «4».

و حكى الشيخ في «الخلاف» عن أبي حنيفة «5»، و مالك، و الشافعي «6» كراهة الغناء، و عدم حرمته «7».

و ما ربما يوجد في أخبارنا ممّا يوهم الإباحة محمول على التقيّة قطعا، فإنّ الإماميّة قديما و حديثا على الحرمة، بل عدّها المحدّث «8» الحرّ العاملي في «الفوائد الطوسية»، و المدقّق «9» القمى من الضروريات، و الأخبار متواترة على التحريم في الجملة، بل قال في «الفوائد الطوسيّة»: إني اعتبرتها من جميع كتب

______________________________

(1) المغير بن شعبة بن ابى عامر الثقفي المتوفّى (50)- الاعلام ج 8 ص 199.

(2) عبد اللّه بن الزبير بن العوّام المقتول (73)- تاريخ ابن الأثير ج 4 ص 135.

(3) عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب المتوفّى (80)- العبر ج 1 ص 91.

(4) شرح «النهج» لابن ابى الحديد ح 5 ص 130 و فيه: أنّ نوم معاوية كان بين القيان المغنيّات و اصطحابه معهّن.

(5) ابو حنيفة: النعمان بن ثابت الكوفي المتوفى (150)- تاريخ بغداد ج 13 ص 333.

(6) الشافعي: محمد بن إدريس القرشي المتوفى بمصر (204)- تذكرة الحفاظ

ج 1 ص 329.

(7) لم أظفر على هذه: الحكاية في خلاف الشيخ، نعم في «الرسالة القشيريّة» ص 467: من قال بإباحته (اى السماع و الغناء) من السلف مالك بن أنس، و أهل الحجاز كلّهم يبيحون الغناء، إلى ان قال: و أمّا الشافعي فإنّه لا يحرّمه، و يجعله في العوامّ مكروها.

(8) هو محمّد بن الحسن بن عليّ العاملي المتوفّى (1104)- الاعلام ج 6 ص 321.

(9) هو أبو القاسم بن محمد حسن الجيلاني الشفتي القمى المتوفّى (1231 ه)- معجم المؤلفين ج 8 ص 116.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 361

الحديث الّتي عندي فوجدتها تقارب ثلاثمائة حديث وردت بلفظ الغناء، و بألفاظ أخر توافق معناه، ثمّ تعجّب من الأردبيلى «1» في «شرح الإرشاد» حيث اعتمد في تحريمه على الإجماع، قائلا: إنّه لو لاه لما جزم بتحريمه مدعيّا ضعف الأخبار بعد نقل يسير منها «2». «3» أقول: و لعلّ تأمّل الأردبيلى ناشئ عن قلّة التتبع، فإنّ الأخبار الدالّة على حرمته مستفيضة جدّا، بل متواترة قطعا، و فيها الصّحاح، و غيرها، بل يستفاد أيضا من بعض الآيات، و لو بمعونة بعض الأخبار الواردة في تفسيرها، إذ

قد ورد في تفسير قول الزور في قوله تعالى: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «4» أنّه الغناء، كما في صحيحة الشحّام «5»، و موثّقة أبى بصير «6»، و حسنة هشام «7»، و مرسلة ابن «8» عمير،

______________________________

(1) هو احمد بن محمد الأردبيلى الفقيه المتوفى بكربلاء سنة (993 ه)- الاعلام ج 1 ص 223.

(2) قال في مجمع الفائدة ج 8 ص 59: ما رأيت رواية صريحة في التحريم ... إلخ.

(3) الفوائد الطوسية ص 84- 88.

(4) الحجّ: 31.

(5) هو زيد بن يونس ابو اسامة الشحّام الكوفي كان من أصحاب الباقر

و الصادق صلوات اللّه عليهما، و ثقة النجاشي، معجم رجال الحديث ج 7.

و صحيحة ما

روى في الكافي الفروع منه ج 2 ص 201: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله عز و جل:

وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: قول الزور الغناء.

(6) ابو بصير كنية لخمسة أشخاص و إذا أطلق فالمراد به يحيى بن القاسم الأسدى المتوفى حدود (148) و موثّقته ما

روى في فروع الكافي ج 2 ص 200: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: الغناء.

(7) حسنة هشام ما

رواها على بن إبراهيم في تفسيره ص 440 عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن الصادق عليه السّلام أنّه قال في تفسير قَوْلَ الزُّورِ: الغناء

، و هشام الذي روى عن الصادق عليه السّلام و روى عنه ابن ابى عمير مشترك بين هشام بن الحكم و هشام بن سالم، و كلاهما موثّقان.

(8) مرسلة ابن أبى عمير ما رواها

في فروع الكافي ج 2 ص 201 باسناده عن ابن أبى عمير عن بعض تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 362

و رواية يحيى بن عبادة «1».

و به فسّر الزور في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ «2».

و لهو الحديث في قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ «3» في أخبار مستفيضة، كصحيحة أبي الصباح «4»، و خبر محمد بن مسلم «5»، و مهران «6» بن محمد، و الوشّاء «7»، و الحسن «8» بن هارون، و عبد الأعلى «9»، و غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتى تمرّ عليك ان شاء اللّه تعالى

______________________________

أصحابه عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: قَوْلَ الزُّورِ الغناء.

(1) هو يحيى بن

عبادة المكي، عدّة البرقي من أصحاب الصادق عليه السّلام، و روايته هي التي رواها الصدوق منه باسناده في «معاني الاخبار» ص 349 في باب فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ح 1.

(2) الفرقان: 72.

(3) لقمان: 6.

(4) هو أبو الصباح الكناني إبراهيم بن نعيم العبدي من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السّلام، وثّقه النجاشي و

قال: كان أبو عبد اللّه عليه السّلام يسمّيه «الميزان»

لثقته، و المراد بصحيحة هي التي رواها الكليني في الكافي ج 6 كتاب الأشربة ص 433 ح 13 في معنى الزّور في لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ.

(5) هو محمّد بن مسلم بن رباح الثقفي أبو جعفر الطّحان عدّ من أصحاب الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السّلام وثقه النجاشي و قال: كان من أوثق الناس، توفى سنة (150) و المراد بخبره، ما رواه في الكافي ج 6 ص 433 كما رواه أيضا عن أبى الصباح الكناني.

(6) هو مهران بن محمد بن أبى نصر السكوني، ترجمه النجاشي و قال: له كتاب، و المراد بحديثه ما رواه الكليني في الكافي ج 6 باب الغناء ص 433 ح 16.

(7) هو الحسن بن على بن زياد الوشّاء البجلي الكوفي من وجوه أصحاب الرضا عليه السّلام، و المقصود من خبره ما رواه في الكافي ج 6 ص 432 ح 8 في باب الغناء.

(8) هو من أصحاب الصادق عليه السّلام و حديثه هو الذي رواه مهران بن محمد المتقدم ذكره.

(9) هو مشترك بين عشرة رجال ثلاثة منهم موثّقون و الباقون مجاهيل و أمّا رواية عبد الأعلى هي الّتى

رواها الصدوق في معاني الاخبار ص 99 عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: قَوْلَ الزُّورِ الغنا. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 363

في

تفسير الآيات، و إنّما طويناها في المقام حذرا من التكرار.

بل

في «المقنع» للصدوق: «شرّ الأصوات الغناء «1».

الغناء ممّا وعد اللّه عليه النّار، و تلا قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «2». «3» و

في «العيون» عن الرّيان بن الصلت، قال: سألت الرضا عليه السّلام يوما بخراسان فقلت: يا سيّدى إنّ هشام «4» بن إبراهيم العبّاسى حكى عنك أنّك رخصّت له في استماع الغناء؟ فقال عليه السّلام: كذب الزنديق، إنّما سألنى عن ذلك فقلت له: إنّ رجلا سأل أبا جعفر عليه السّلام عن ذلك، فقال أبو جعفر عليه السّلام: إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ فقال: مع الباطل، فقال أبو جعفر عليه السّلام: قد قضيت «5».

و

عن إبراهيم بن محمّد المدني عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سئل عن الغناء، و أنا حاضر، فقال عليه السّلام: «لا تدخلوا بيوتا اللّه معرض عن أهلها» «6».

و

في «تفسير القمى» بالإسناد عن عبد اللّه بن عبّاس، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث قال: «إنّ من أشراط القيامة إضاعة، الصلاة، و اتباع الشهوات، و الميل

______________________________

(1) المقنع للصدوق ط قم ص 456 رواه عن أبى عبد اللّه الصادق عليه السّلام.

(2) سورة لقمان: 6.

(3) الوسائل ج 12 كتاب التجارة باب 99 ص 226 ح 6 عن أبى جعفر عليه السّلام.

(4) هشام بن إبراهيم العبّاسى الكذّاب كان شيعيّا، ثم انقلب الى الزندقة كان ينقل أخبار الإمام الرضا عليه السّلام إلى ذي الرياستين و المأمون فولّاه المأمون حجابة الإمام عليه السّلام فكان لا يتكلم في داره بشي ء إلّا أورده

هشام على المأمون و وزيره- معجم رجال الحديث ج 19.

(5) عيون الأخبار ص 148 و عنه الوسائل ج 12 ص 227 ح 14.

(6) فروع الكافي ج 2 ص 200. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 364

الى الأهواء ... إلى أن قال صلّى اللّه عليه و آله: فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه، و يتخذونها مزامير ... إلى أن قال صلّى اللّه عليه و آله: و يتغنّون بالقرآن الى أن قال: فأولئك يدعون في ما ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس «1».

و

في «العيون» عن الرّضا عن آباءه عن عليّ عليهم السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إني أخاف عليكم استخفافا بالدين، و قطيعة الرّحم، و أن تتخذوا القرآن مزامير» «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتى لا ينبغي معها الإصغاء إلى ما يظهر من الكاشاني في «الوافي» تبعا للغزالى، و غيره من العامّة من عدم حرمة الغناء في نفسه، و من حيث إنّه صوت، بل الحرمة إنّما تعرض للعوارض التي تعرضه عن دخول الرجال على المغنيّات، و تكلّمهنّ بالأباطيل، و لعبهنّ الملاهي من العيدان، و المزامير، و القصب، و غيرها «3».

و ربما يميل الى ذلك الخراساني «4» في «الكفاية» حيث قال بعد نقل جملة من الأخبار الأمرة بتحسين الصوت ما لفظه:

يمكن الجمع بين هذه الأخبار و الأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم الغناء بوجهين:

أحدهما تخصيص تلك الأخبار بما عدى القرآن، و حمل ما يدلّ على ذمّ التغنّى بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو، كما يصنعه الفّساق في غنائهم.

______________________________

(1) تفسير على بن إبراهيم القمى ج 2 ص 304- 307.

(2) عيون أخبار الرّضا ج 2 ص 42- بحار الأنوار ج 92 ص 194 ح 8

عن العيون.

(3) الوافي ج 3 ص 35 كتاب المعايش و المكاسب باب 34.

(4) هو المولى محمد باقر بن محمد مؤمن الخراساني السبزواري المتوفى (1090 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 365

و ثانيهما أن يقال: المذكور في تلك الأخبار «الغناء»، و المفرد المعرّف لا يدلّ على العموم لغة، و عمومه إنّما يستنبط من حيث إنّه لا قرينة على ارادة الخاصّ، و إرادة بعض الأفراد من غير تعيين ينافي غرض الإفادة و سياق البيان و الحكمة، فلا بدّ من حمله على الاستغراق و العموم، و هاهنا ليس كذلك، لأنّ الشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري المغنيّات في مجالس الفجور و الخمور، و غيرها، فحمل المفرد المعرّف على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد، و في عدّة من الأخبار إشعار بكونه لهوا باطلا، و صدق ذلك في القرآن و الدعوات، و الأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة و المهيّجة للأشواق إلى عالم القدس محلّ تأمّل.

فحينئذ ان ثبت الإجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعا، و إلّا بقي حكمه على أصل الإباحة.

ثمّ ذكر استثناء الحدى، و فعل المرأة له في الأعراس ... الى أن قال: و عن بعضهم استثناء مراثي الحسين عليه السّلام «1».

أقول: قد ظهر ممّا سمعت أنّ عروض الشبهة في هذه المسألة القطعيّة إنّما حصل لبعض الأمور أو كلّها:

أحدها: الوسوسة في أصل الحرمة، و قد عرفت أن عليها الضرورة القطعيّة، فضلا عن الإجماع بقسميه، و الآيات، و الاخبار المتواترة.

و أمّا ما

في خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام المرويّ في «قرب الإسناد» قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر، و الأضحى، و الفرح؟

______________________________

(1) مكاسب الشيخ

المطبوع بالنجف الأشرف بتحقيق كلانتر ج 3 ص 243 إلى ص 267. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 366

قال عليه السّلام: لا بأس به ما لم يعص به» «1».

و في كتاب علي بن جعفر مثله، إلّا أنّ فيه: «ما لم يزمر به»

، أى ما لم يلعب معه بالمزمار «2».

فمع اضطرابه، و احتمال حمله على ارادة التغنّى بالشعر على وجه لا يصل الى حدّ الغناء، أو على خصوص العرس في اليومين، أو على غير ذلك.

محمول على التقيّة، لما سمعت من ولوع أكثر الاموية و العباسيّة بذلك، و موافقة فقهائهم لهم عليه.

كما يحمل عليها ما

رواه القمى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: «و رجّع بالقرآن صوتك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعا «3».

مع احتمال حمله على ترجيع دون حدّ الغنا كما تعرف، مع أنّا لنأبى عن طرح مثله، بعد ما سمعت من الأدلّة القطعيّة التي لا تأمّل معها في ثبوت أصل الحكم.

ثانيها: التأمّل في عموم الحكم الذي لا ينبغي التأمّل فيه، نظرا إلى.

استفادته من الإطلاقات المتقدّمة الّتي هي كالعمومات.

فمناقشة الخراساني في دلالتها على العموم ضعيفة جدّا، و حمل اللام في المعرّف بها على العهد، مع ظهورها في الماهيّة من حيث هي، أو الشائعة مع مساعدة غيرها من الإطلاقات و الانسباق بعيد قطعا.

______________________________

(1) قرب الاسناد ص 121- و عنه الوسائل ج 13 ص 85 ح 5.

(2) الوسائل ج 12 ص 85 ذيل ح 5.

(3) الكافي ج 2 ص 616 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 367

و منه يظهر أيضا ضعف ما يحتمل إرادته في كلام الكاشاني، من أنّ المحرّم خصوص الصوت الغنائى المقترن للأباطيل و الملاهي من المزامير، و

الأوتار، و غيرها، حيث إنّ كلامه محتمل له، كما أنّه محتمل لما نسبه إليه المشهور من أنّ حرمته ليس لكونه فردا من الصوت مشتملا على كيفيّة خاصّة، بل لاقترانه بغيره من المحرّمات، كدخول الرجال، و التكلّم بالباطل، و اللّعب بالملاهي، و غيرها.

و أما تخصيص الحكم بغير القرآن كما هو أحد وجهي الخراساني، أو بغير المراثي كما عن الأردبيلى و غيره، أو بغير ما كان من القرآن، و الدعاء، و الذكر، و غيرها ممّا يذكّر الآخرة، و يهيّج الشوق، و ينّعش القلب، كما عن آخرين، فكلّ ذلك ممّا لا دليل عليه، بل يردّها ما سمعت من الأخبار، و غيرها.

نعم ربما يستدلّ له بالعمومات أو الإطلاقات الآمرة بقراءة القرآن، و الدعاء، و عموم أدلّة الإبكاء، و الإرشاد الشّاملة لما كان على هذه الكيفيّة الخاصّة، و على فرض شمول أدلّة تحريم الغناء للمقام فهو من تعارض العموم من وجه يجب فيه الرجوع الى المرجّحات، أو الأدلّة الخارجيّة، و قضيّتها في المقام الإباحة للأصل، مضافا الى خصوص ما دلّ على الأمر بالتغنّى في القرآن

كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خبر «المجمع»: «تغنّوا به فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا» «1».

و

قول أبى جعفر عليه السّلام في خبر أبي بصير: «و ترجّع بالقرآن صوتك، فإنّ اللّه تعالى يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعا» «2».

و ما مرّ من الأخبار الآمرة بتحسين الصوت، و انّه حلية القرآن «3».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 4 ص 273 ح 4681- مجمع البيان ج 1 ص 16.

(2) الوسائل ج 4 ص 24 من أبواب قراءة القرآن ح 1.

(3) أصول الكافي ص 599.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 368

و في الكلّ نظر: أمّا العمومات الآمرة بالقراءة فلأنّها

إنّما يدلّ على استحبابها حيث لم يشتمل على جهة محرّمة، أمّا معها فالتحكيم لأدلّة التحريم، من دون فهم التعارض أصلا، و لذا لم يتأمّل أحد في تقديم ما دلّ على حرمة الزنا، و اللّواط، و شرب الخمر على ما دلّ على استحباب قضاء حوائج المؤمنين، و إدخال السّرور في قلوبهم، و إن كان بين الدليلين العموم من وجه، و ذلك لأنّ أدلّة الإباحة و الاستحباب و الكراهة لا يعارض شي ء منها شيئا من أدلّة الوجوب و المحرمة.

نعم لو قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهى على جميع الوجوه اتّجه اجتماع الجهتين المستلزمتين للحكمين كالصّلاة في الحمّام، و لو مع تعيّنه لتضّيق الوقت، أو عدم مباح غيره، فيتصوّر حينئذ اجتماع حرمة القراءة و استحبابها في قراءة القرآن بكيفيّة محرّمة كالغناء، أو في هواء مغصوب، أو بلسان مغصوب عينا كلسان العبد الأبق أو العاصي، أو منفعة كالأجير لقراءة غير القرآن.

و أمّا خبر «المجمع» فمع ضعفه، و كونه من طريق العامّة، و ظهور الحمل على التقيّة، سيّما مع شيوع المذهب بين العامّة، محمول على ما مرّ في كلام الطبرسي في المعنيين.

و يؤيّده ما

في «النهاية» لابن الأثير، قال: «في حديث القرآن: «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا»

أى من لم يستغن به من غيره، يقال: تغنّيت، و تغانيت، و استغنيت.

قيل: أراد من لم يجهر بالقراءة فليس منّا.

و قد جاء مفسّرا

في حديث آخر: «ما اذن اللّه لشي ء كإذنه للنبي يتغنّى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 369

بالقرآن يجهر به» «1».

قيل: إنّ قوله: «يجهر به» تفسير لقوله «يتغنّى به».

و قال الشافعي «2»: معناه تحسين القراءة و ترقيقها، و يشهد له

الحديث الآخر: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»

و كلّ من رفع صوته و والاه فصوته عند العرب

غناء.

قال ابن الأعرابي «3»: كانت العرب تتغنّى بالركباني «4» إذا ركبت، و إذا جلست في الأفنية، و على أكثر أحوالها، فلمّا نزل القرآن أحب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكون هجيرتهم «5» بالقرآن مكان التغنّي بالركباني، الى أن قال: و في حديث عائشة: «و عندي جاريتان يتغنيّان بغناء بعاث» «6»، أى تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث، و هو حرب كانت بين الأنصار، و لم ترد الغناء المعروف بين أهل اللهو و اللعب «7».

و حكى السيّد المرتضى عن أبى عبيد القاسم بن سلّام مستشهدا له ببيت الأعشى «8»:

______________________________

(1) المسند لابن حنبل ج 2 ص 271- و ص 285- و ص 450.

(2) هو محمد بن إدريس الشافعي امام الشافعيّة توفي سنة (204)- تذكرة الحفّاظ ج 1 ص 365.

(3) هو محمد بن زياد الأديب اللغوي الكوفي المتوفى (231)- تاريخ بغداد ج 5 ص 282.

(4) الركبانى: نشيد بالمدّ و التمطيط- الفائق ج 1 ص 458.

(5) الهجّيرى (بكسر إلها و الجيم المشدّدة و آخرها الألف المقصورة): العادة و الدأب.

(6) قال الطريحي في «المجمع»: بعاث بالضم كعزاب يوم حرب في الجاهليّة بين الأوس و الخزرج و كان الظفر للأوس، استمرّ مائة و عشرين سنة حتّى ألفّ بينهم الإسلام.

(7) نهاية ابن الأثير ج 3 ص 391- 392 في كلمة (غنا).

(8) هو عامر بن الحارث بن رباح الباهلي من همدان، شاعر جاهلي- الاعلام ج 4 ص 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 370

تفسير الصراط المستقيم ج 2 399

و كنت امرا زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن «1»

و قول الآخر:

كلانا غنّي عن أخيه حياته و نحن إذا متنا أشدّ تغانيا «2»

و احتجّ أيضا بقول ابن مسعود: «من قرأ سورة آل عمران

فهو غنيّ» أى مستغن.

و

بخبر مرفوع، عن عبد اللّه بن «3» نهيك أنّه دخل على سعد «4» بيته، فاذا مثال رثّ، و متاع رثّ، فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».

قال أبو عبيد «5»: فذكره المتاع الرثّ و المثال الرثّ يدلّ على أنّ التغنّى بالقرآن الاستغناء به عن الكثير من المال، و المثال هو الفراش، و لو كان التغنّى معناه الترجيح لعظمت المحنة علينا بذلك، إذا كان من لم يرجّع بالقرآن فليس منه صلّى اللّه عليه و آله.

و ذكر غير أبي عبيد جوابا آخر، و هو أنّه عليه السّلام أراد: من لم يحسّن صوته بالقرآن و لم يرجّع فيه.

______________________________

(1) ديوان الأعشى: 22.

(2) نسبه صاحب «اللّسان» في (غنى) إلى المغيرة بن حبناء التميمي، و ذكره المبرّد في «الكامل» ج 3 ص 14 في ضمن أبيات لعبد اللّه بن معاوية و قبله: فعين الرضا عن كلّ عيب كليلةو لكنّ عين السخط تبدي المساويا

(3) أورده ابن أبى حاتم في الجرح و التعديل ج 5 ص 183 و قال: سمع عليّا رضى اللّه عنه و روى عنه أبو إسحاق الهمداني.

(4) هو سعد بن ابى وقّاص مالك القرشي الزهري الصحابي المتوفى بالعقيق على عشرة أعيان من المدينة سنة (55 ه)- الاعلام ج 3 ص 137.

(5) هو أبو عبيد القاسم بن سلّام الهروي الخراساني البغدادي المتوفى (224)، الاعلام ج 6 ص 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 371

و احتجّ صاحب هذا الجواب

بحديث عبد الرحمن «1» بن السائب قال: أتيت سعدا- و قد كفّ بصره- فسلّمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقال: مرحبا بابن أخي، بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن، و قد سمعت رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:

إنّ هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فمن لم يتغن بالقرآن فليس منّا»

... الى أن قال السيّد:

و قد ذكر محمّد بن القاسم «2» الأنبارى وجها ثالثا في الخبر، قال: أراد عليه السّلام:

من لم يتلذّذ بالقرآن و لم يستحله، و لم يستعذب تلاوته كاستحلاء أصحاب الطرب للغناء و التذاذهم به.

ثمّ قال السيّد: و جواب أبي عبيد أحسن الأجوبة و أسلمها، و جواب أبى بكر أبعدها ... إلى أن قال: و يمكن أن يكون في الخبر وجه رابع خطر لنا، و هو أن يكون

قوله عليه السّلام: «من لم يتغنّ»

من غنى الرجل بالمكان إذا طال مقامه به، و منه قيل: المغنى و المغانى، قال اللّه تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا «3» أى لم يقيموا بها ...

إلى أن قال: فيكون معنى الخبر على هذا الوجه: من لم يقم على القرآن فيتجاوزه و يتعدّاه الى غيره و لم يتخذه مغنى و منزلا و مقاما فليس منّا «4».

أقول: و هذه الوجوه أكثرها تكلّفات مستغنى منها بعد ما سمعت من ضعف الخبر، و عاميّته، و مخالفته، على فرض ظهوره فيما استدلّوا له به، للكتاب

______________________________

(1) هو عبد الرحمن بن السائب بن أبى السائب صيفي بن عابد القرشي المخزومي، قتل يوم الجمل.

(2) هو محمّد بن القاسم بن محمّد بن بشّار أبو بكر الأنبارى الأديب اللّغوى ولد في الأنبار سنة (271) و توفّي ببغداد سنة (328 ه).

قيل: كان يحفظ ثلاثمائة ألف شاهد في القرآن- الاعلام ج 7 ص 226.

(3) الأعراف: 92.

(4) درر القلائد و غرر الفوائد للسيّد المرتضى ج 1 ص 31- 35.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 372

و السنة، و الإجماع، بل

الضرورة حسبما سمعت، و لعلّ الأظهر فيه حمله على الاستغناء، لما سمعت مضافا الى التصريح به في «الصحاح» و «القاموس» و «مصباح المنير» و غيرها، و أمّا غيره من المعاني فبعيد جدّا.

و مثلها في البعد ما حكاه السيّد عن بعض السلاطين من معاصريه، من حمله على ما يشبه الغنا كالتباكى لما يشبه البكاء للإتيان بما يمتاز عن الباطل مع تحسين الصوت فيه، و الأمر سهل بعد ما سمعت.

و أمّا خبر أبى بصير فلا دلالة فيه على ذلك، فإنّ التحسين و الترجيع أعمّ من الغناء، و منه يظهر النظر في غيره من الأخبار أيضا.

الثالث من الأمور الّتى صارت موجبة لعروض الشبهة في هذه المسألة توهّم كون الغناء من صفات اللفظ و المقروء، لا الصوت و القراءة كما عن البعض.

و ربّما يؤيّد باستظهاره من الأخبار المفسّرة للزور، و لقول الزور، و للهو الحديث، حيث إنّ الظاهر منها بل من الآيات كونه من مقولة الكلام، و لذا عبّر عنه بقول الزور أى الباطل، و بلهو الحديث الذي هو من اضافة الصفة الى الموصوف.

بل قد يؤيّد أيضا بما

في بعض الأخبار من أنّ قول الزور أن يقول للّذى يغنّي: أحسنت «1».

و

بقول علي بن الحسين عليهما السّلام في مرسلة «الفقيه» المتقدّم في الجارية التي لها صوت: «لا بأس لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة» «2»

يعنى بقراءة القرآن في الزهد،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 12 ص 229- الباب 99 من أبواب ما يكتسب به ح 21.

(2) الوسائل ج 12 ص 86- الباب 16 من أبواب تحريم بيع المغنّية و شرائها ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 373

و الفضائل الّتى ليست بغناء، و لو مع احتمال كون التفسير من الصدوق أيضا.

قلت: و فساد هذا الوهم أيضا

واضح، إذ من المقطوع به بعد التأمّل في كلمات اللغويين و الفقهاء كون الغناء من صفات الأصوات لا الألفاظ و لذا عرّفوه بالصوت، و بمدّه، و بالصوت المطرب، و بتطريبه، و ترجيعه، بل لو استقصيت كلمات الجميع وجدتها راجعة الى شي ء ممّا سمعت، بل في «المصباح المنير»: «الغناء مثل كتاب: الصوت» و

في «المقنع» للصدوق مرسلا عن الصادق عليه السّلام: قال: «شرّ الأصوات الغناء» «1»

مضافا الى أنّ للأقوال المحرّمة عنوانات أخر كالكذب، و النميمة، و البهتان، و الكفر، و نحوها، و من البيّن أنّهم لم يقصدوا بتحريم الغناء إلّا التنبيه على حرمتها من حيث هي، بل كما أنّ في الألفاظ حراما يجب تركه، فكذلك في الأصوات.

و أمّا ما جعلوه مؤيّدا لهذا التوهم من الظواهر المتقدّمة فهو بمكان من الضعف و القصور، إذ يكفى في جواز اتّصاف الحديث باللهو، و القول بالزور اتصافهما بكيفيّة لاهية باطلة، و لعلّه من المقطوع الذي لا ينبغي التأمّل فيه بعد ما سمعت و غيره.

و من العجيب ركون الشيخ التستري «2» أدام اللّه بقاءه الى ذلك، حيث إنّه بعد نقل المناقشة بما سمعت من التأييد، قال: فالإنصاف أنّها لا تدلّ على حرمة نفس الكيفيّة إلا من حيث إشعار لهو الحديث بكون اللّهو على إطلاقه مبغوضا للّه تعالى، و كذا الزور بمعنى الباطل، و إن تحقّقا في كيفيّة الكلام لا في نفسه كما إذا

______________________________

(1) المقنع ص 456 و عنه الوسائل ج 12 ص 309.

(2) هو الشيخ مرتضى بن محمد أمين الدزفولي الأنصاري المتوفى (1281) بالنجف الأشرف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 374

تغنّى في كلام حقّ من قرآن، أو دعاء، أو مرثية «1».

و فيه مع الغضّ عما سمعت أنّه مع ظهور الأدلّة في نفس الكلام

لا إشعار فيها بحرمة اللّهو، فضلا من أن يكون له إطلاق شامل لهذا الفرد الّذى هو من كيفيّات الصوت، مع أنّ المقطوع أنّ الغناء نفسه أيضا من الموضوعات المستنبطة العرفيّة و اللّغوية الّتي ثبت له حكم الحرمة بالضرورة من الدّين، فيجب الرّجوع في معناه الى العارفين بالعرف و اللّغة، و قد سمعت و تسمع أيضا اتفاقهم على أنّه من كيفيّات الأصوات.

و أمّا ما اختاره من أنّ حرمة الغناء إنّما هو من جهة كونه لهوا فستسمع تمام الكلام في فساده.

رابعها: تخصيص موضوع الغناء بأنّه إنّما يتحقّق بالنسبة الى بعض الألفاظ و الكلمات دون بعض، و إن كان من صفات الأصوات، و لا أعرف من المتفقّهة قائلا به.

نعم ذكر الشيخ التستري زيد قدره: أنّه قد ظهر من بعض من لا خبرة له من طلبة زماننا تقليدا لمن سبقه من أعياننا منع صدق الغناء في المراثي، و هو عجيب، فإن أراد أنّ الغناء ممّا يكون لموادّ الألفاظ دخل في صدقه فهو تكذيب للعرف و اللّغة، إذ لا ريب أنّ من يستمع من بعيد صوتا مشتملا على الإطراب المقتضى للرفض أو ضرب آلات اللهو لا يتأمّل في اطلاق الغناء، عليه، و إن لم يعلم موادّ الألفاظ.

و إن أراد أنّ الكيفيّة الّتى يقرأ بها للمرثية لا يصدق عليه الغناء فهو تكذيب

______________________________

(1) المكاسب مع تعليقات الكلانتر ج 3 ط النجف ص 173.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 375

للحسّ «1».

قلت: و هذا الكلام منه سلّمه اللّه صريح في نقض ما ذكره أوّلا، حيث استفاد من الأدلّة كون الغناء من صفات الألفاظ، فلا حظ تمام كلامه.

ثمّ انّ القول المحكيّ عن بعض الأعيان لعلّه هو الذي سمعت فيما حكيناه من «الكفاية». حيث قال: و

صدق ذلك في القرآن و الدعوات ... الى آخر ما تقدّم منه، سيّما بعد ملاحظة قوله فيما بعد: «فإذن إن ثبت إجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعا و إلّا بقي حكمه على أصل الإباحة.

و لعلّ إليه، أو الى غيره أشار كاشف الغطاء «2» تفريعا على مسألة أصوليّة بقوله: ففي مسألة الغناء قد ظهر في العرف الجديد تخصيصه لما لم يكن في قرآن، أو تعزية، أو ذكر، أو دعاء، أو أذان، أو مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الأئمّة عليهم السّلام، و قد علم من تتبّع كلمات أهل اللغة و أحوال الأمويّين، و العباسيّين، و إسحاق «3» بن إبراهيم شيخ المغنّين: أنّ الكثير أو الأكثر، أو الأحقّ في تسميته غناء ما كان في القرآن، و مدح النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا يعرف في أيّامهم الفرق من جهة ذوات الكلمات، و إنّما المدار على كيفيّات الأصوات، و هو الظاهر من كلام أهل اللّغة قدمائهم و متأخّريهم ممّن عاصر زمان ورود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أو تقدّمه، أو تأخّر عنه، و ما رأينا أحدا منهم أخذ فيه عدم القرآنيّة و المدح و الذكر و نحوها فيه، و لم يذكر بينهم

______________________________

(1) المكاسب مع التعليقات للكلانتر ج 3 ص 269.

(2) هو جعفر بن خضر الحلي النجفي الفقيه المتوفى بالنجف الأشرف سنة (1227 ه)- الاعلام ج 2 ص 117.

(3) هو إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي المعروف بابن النديم المغنّي تفردّ بصناعة الغناء، ولد سنة (155) و مات ببغداد سنة (235)، كان نديما للرشيد و المأمون، و الوائق العباسيّين.- الاعلام ج 1 ص 283.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 376

خلاف في

معناه، مع اختلاف عباراتهم، فما ذلك إلّا لاتّحاد المعنى العرفي، و الإشارة إليه، و المسامحة في التعريف بالأعمّ و الأخصّ، فمدار تحقيق الغناء و خلافه على كيفيّات الأصوات من غير ملاحظة لذوات الكلمات، فقد ظهر خطأ للعرف الجديد الذي هو بمنزلة المرآة الكاشفة عن العرف القديم، كما أخطأ بديهة في تخصيص اسم الغناء بغير الجاري على وفق العربيّة و الفصاحة.

و ليس هذا بأوّل قارورة كسرت في الإسلام، فقد أخطأ في كثير من المقامات، فلا يحمل لفظ الغناء على المعنى الجديد، كما لا تحمل ألفاظ التربة، و القهوة، و اللبن، و النهر، و البحر، و الساعة، و غيرها على المعاني الجديدة.

قلت: و لعلّه رحمه اللّه تسلّم المعنى الجديد للغناء على الوجهين على سبيل الفرض و المماشاة، و إلّا فمن البيّن أنّه في حيّز المنع، و لذا ترى المتورّعين في الدين الدين إذا سمعوا قارئ القرآن، أو راثي الحسين عليه السّلام يرجّع و يطرب بصوته ينكرون عليه و يمنعونه، معلّلين بأنّه غناء محرّم.

خامسها: ما اختاره شيخنا التستري زيد علاه في المسألة، حيث قال بعد ذكر ما سمعت طرفا منه، ما لفظه: إنّ المحصّل من الأدلّة المتقدّمة حرمة الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو، فإنّ اللهو كما يكون بآلة من غير صوت كضرب الأوتار، و نحوه، و بالصوت في الآلة كالمزمار، و القصب و نحوهما، فقد يكون بالصوت المجرّد، فكلّ صوت يكون لهوا بكيفيّة، و معدودا من ألحان أهل الفسوق و المعاصي فهو حرام، و إن فرض أنّه ليس بغناء.

و كلّ ما لا يعدّ لهوا فليس بحرام و إن فرض صدق الغناء عليه فرضا غير محقّق لعدم الدليل على حرمة الغنا إلّا من حيث كونه باطلا و لهوا،

أو لغوا و زورا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 377

ثمّ انّ اللهو يتحقّق بأمرين:

أحدهما: التلهّي و إن لم يكن لهوا.

و الثاني: كونه لهوا في نفسه عند المستمعين، و إن لم يقصد به التلهّي.

ثمّ انّ المرجع في اللهو الى العرف، و الحاكم بتحقّقه هو الوجدان، حيث يجد الصوت المذكور مناسبا آلات اللّهو، و الرقص، و لحضور ما تستلذّه القوى الشهوية، من كون المغنّى جارية، أو أمرد، و نحو ذلك، و مراتب الوجدان المذكور مختلفة في الوضوح و الخفاء، فقد يحسّ بعض الترجيع من مبادي الغناء و لم يبلغه.

و ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا فرق بين استعمال هذه الكيفيّة في كلام حقّ أو باطل، فقراءة القرآن، و الدعاء و المراثي بصوت يرجّع فيه على سبيل اللّهو لا إشكال في حرمتها، و لا في تضاعف عقابها لكونها معصية في مقام الطاعة و استخفافا بالمقروء و المدعوّ و المرثى.

و من أوضح تسويلات الشيطان أنّ الرجل المتستر قد تدعوه نفسه لأجل التفرّج و التنزّه و التلذّذ، إلى ما يوجب نشاطه و رفع الكسالة عنه من الزمزمة الملهية، فيجعل ذلك في بيت من الشعر المنظوم في الحكم و المراثي و نحوها، فيتغنّى به، أو يحضر عند من يفعل ذلك «1» ... إلى آخر ما ذكره زيد قدره.

و فيه أوّلا: أنّ الظاهر من كلامه أنّ حرمة الغناء إنّما هو من جهة كونه لهوا، لا لكونه غناء كما صرّح به أيضا، مع أنّك قد سمعت أنّ الغناء بنفسه ممّا قد علّق عليه الحكم في الشريعة، و أنّ حرمته ضروري من المذهب، فإناطة الحرمة على

______________________________

(1) المكاسب بتحقيق الكلانتر ط النجف ج 3 ص 215- 224.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 378

صدق اللهو وجودا و عدما

التزام بعدم ثبوت الحكم الحرمة للغناء في الشريعة.

فإن قلت: صريح كلامه هو الحرمة، غاية الأمر تعليله بكونه لهوا و زورا و باطلا، و هذا لا ينافي الحكم، بل هو مستفاد من الأدلّة.

قلت: الجهة في المقام تقييديّة تفيد تغاير الموضوع و اختلافه، و الحاصل أنّ الحكم عنده ثابت للهو و إن لم يكن غناء، لا للغناء و إن لم يكن لهوا، فالغناء من حيث هو لا حرمة له في الشريعة كما صرّح معلّلا بعدم الدليل، و قد مرّ أنّ أدلّة حرمة الغناء غير منحصرة في الأخبار المفسّرة للآيات، بل هناك أدلّة أخرى من الضرورة، و الإجماع، و الأخبار.

على أنّ التمسّك بتلك الأخبار أيضا غير متوقّف على صدق اللهو و الباطل عندنا، سيّما مع القطع على عدم الإناطة على مصاديقهما العرفيّة.

مضافا إلى أنّ حرمة اللّهو بمصاديقه العرفيّة غير ثابت قطعا، و لذا قال سلّمه اللّه في موضع آخر بعد إقامة جملة من الأدلّة على حرمته: ما لفظه: لكنّ الإشكال في معنى اللهو فإنّه إن أريد به مطلق اللعب كما يظهر من «الصحاح» و «القاموس» فالظاهر أنّ القول بحرمته شاذّ مخالف للمشهور و السيرة، فإنّ اللعب هي الحركة لا لغرض عقلائى، و لا خلاف ظاهرا في عدم حرمته على الإطلاق.

نعم لو خصّ اللهو بما يكون من بطر، و فسرّ بشدّة الفرح كان الأقوى تحريمه، و دخل في ذلك الرقص، و التصفيق، و الضرب بالطست بدل الدفّ، و كلّما يفيد فائدة آلات اللهو.

و لو جعل مطلق الحركات الّتي لا يتعلّق بها غرض عقلائي مع انبعاثها عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 379

القوى الشهوية ففي حرمته تردّد «1».

قلت: و الأظهر هنا العدم بإطلاقه، بل و في ما كان عن بطر

أيضا إلّا في موارد خاصّة، و لتحقيق المسألة مقام آخر.

و ثانيا: أنّ صدق اللهو بمجرّد صدق التلهّى و إن لم يكن لهوا بعيد جدّا، و مع فرضه فالحكم غير منوط به قطعا، و لذا لم يقل أحد بأنّ الصوت الخالي عن الترجيع، بل معه أيضا إذا كان في غاية الكراهة و الرداءة، غناء، أو أنّه حرام و إن لم يكن غناء، لكونه صوتا لهويا.

لكنّه سلّمه اللّه ملتزم به.

بل التحقيق أنّ بين الصوت اللهوى و الغناء عموم من وجه، و القول بحرمة غير الثاني من الأوّل و حليّة غير الأوّل من الثاني في غاية الغرابة.

و أغرب منه ما جعله من تسويلات الشيطان، فإنّ التفرّج و التنزّه و دفع الكسالة ببيت من الشعر و لو مع عدم الترجيع و كراهة الصوت ممّا ليس به بأس قطعا.

إذا عرفت مواقع عروض الشبهة في المسألة و دفعها، و أنّه لا شبهة في حرمته، و في كونه من صفات الأصوات، فاعلم أنّه قد يعرّف بأنّه الصوت المطرب، كما عن «الإيضاح» و «السرائر»، بل في «القاموس»: أنّه من الصوت ما أطرب به، و في «الصحاح»: أنّه من السماع، و في «المصباح»: أنّه مدّ الصوت و التطويل، و من شهادات «القواعد» و بعض كتب اللّغة: أنّه ترجيع الصوت و مدّه، و عن بعض كتب الأصحاب: أنّه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب،

______________________________

(1) المكاسب بتحقيق السيّد محمد كلانتر ط النجف ج 4 ص 244- 246.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 380

و نسبه الأردبيلى، و الحرّ العاملي الى المشهور.

و عن بعض المتأخرين: الحوالة على العرف، و ليس بجيّد، لعدم استقرارهم فيه على معنى محصّل، بل قد عرفت أنّ هؤلاء العلماء الذين هم أعرف بالمعاني العرفيّة من

غيرهم قد اختلفوا في موضوعه على أقوال كثيرة، فمن أين يسع للعامى الاستقلال بتميز معناه.

و من هنا يظهر أنّ الترديد بين التعريف الأخير، و بين الحوالة على العرف كما عن بعض الأجلّة ليس بشي ء.

بل الظاهر الذي يساعده العرف أيضا: أنّه المشتمل على الترجيع و الإطراب لنصّ أهل اللغة على كلّ منهما على وجه يظهر من المقتصرين على أحد الأمرين إرادتهما معا، كما يظهر بالتأمّل في كلامهم، على أنّه يكفي نصّ البعض على البعض بعد وضوح كون مقصودهم على ما هو ديدنهم بيان بعض الخواصّ و الآثار، بحيث ربما يظهر منهم المسامحة في التعبير، أو الحوالة على ما هو المعروف، أو كون المعرّف من هذا الجنس كما في قولهم: سعدانة نبت، و لذا ربما ترى بعضهم يعرّفونه بتحسين الصوت، أو مدّه، أو إطالته، مع أنّ من المقطوع أنّ شيئا منها بانفراده ليس من الغناء في شي ء.

هذا مضافا الى ما

رواه في «الكافي» عن مولانا أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسوق و أهل الكبائر، فإنّه سيجي ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 381

شأنهم «1».

حيث إنّه صلّى اللّه عليه و آله قيّد الترجيع بخصوص المضاف إلى أحد الثلاثة فهو مصدر نوعي، و لعلّ ذكر النوح و الرهبانية عقيب الغناء من باب التنبيه على الخاصّ بعد ذكر العامّ، سيّما مع كونهما من الأفراد الخفيّة، فلعلّ المراد بترجيع الغناء هو الموجب لسرور و الفرح و البطر، و بالنوح هو الموجب للحزن، فإنّ الطرب

المصرّح به في كلمات أهل اللغة و الفقهاء يشملهما.

و لذا قال في «القاموس»: إنّ تخصيص الطرب بالفرح و هم و في «الصّحاح»: الطرب: خفّة تصيب الإنسان لشدّة حزن أو سرور، و في «الأساس»: هو خفّة سرور، أو همّ.

بل صرّح بعض الأجلّة: بأنّه يفهم من كتب اللّغة أنّ التغنّي، و التطريب، و الترجيع، و اللّحن، و التغريد، و الترنّم ألفاظ متقاربة المعنى، لأنّهم يذكرون بعضها في تفسير بعض، و لعلّه لما سمعت.

و المراد بالرّهبانية (في الحديث) خصوص ما يستعمله الصوفيّة المبتدعة حيث إنّهم جعلوا التغنّي سببا لحصول ما يسمّونه عندهم بالوجد و الشوق و الحال، و الانبعاث، و لهم في ذلك أقاويل، و ترّهات لا ينبغي تدنيس الكتاب بالتعرّض لها، و لعلّ عليهم عمدة التعريض

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يجوز تراقيهم»

أى ليس مقصودهم التقرّب به إلى اللّه، و لا التدبّر في معاني القرآن، بل هو مجرّد الصوت المتردّد في حناجرهم الموجب للإطراب.

و المراد

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «قلوبهم مقلوبة»

أى انقلبت وجوه قلوبهم من أعلى

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 614 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 382

عليّين الى أسفل السافلين، فيتصاعد عليها من ظلمات غواسق سجّين.

و المقصود

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «و قلوب من يعجبه شأنهم»

: أنّ مريديهم قد اقتدوا بهم في ضلالتهم، و غوايتهم، حيث إنّهم قد ضلّوا و أضلّوا كثيرا، و ضلّوا عن سواء السّبيل.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر في كثير من كلمات القوم، حتّى فيما ذكره الشيخ الأكبر عطّر اللّه مرقده في شرحه على «القواعد» حيث قال في جملة كلام له: «فلم يبق سوى الرّجوع الى العرف الّذى هو المرجع و المفزع في

فهم المعاني من المباني و هو لا يكال بمكيال، و لا يوزن بميزان».

فقد تراه يرى تحقّق الغناء في صوت خال عن الحسن و الرقّة مشتمل على الخشونة و الغلظ، و في خال عن المدّ مشتمل على التقطيع و التكسير، و في خال عن الترجيع متصف بالخفاء، و في المهيّج المطرب بمعنى الخفّة المقرونة بالانشراح، و اللّذة، و في مقرّح للفؤاد مهيّج على البكاء للعشّاق إلى غير ذلك.

إذ فيه: أنّ صدق اسم الغناء على كثير ممّا ذكره لا يخلو عن تأمّل واضح، بل لعلّ المقطوع في جملة منها عدم الصدق عرفا و لغة.

بقي في المقام أمور:

أحدها: المرجع في الترجيع و الطرب هو العرف حيث إنّه ليس لهما معنى شرعي، و العرف فيهما موافق للغة.

قال في «القاموس»: الترجيع في الأذان تكرير الشهادتين جهرا بعد إخفائهما و في الصوت ترديد الصوت في الحلق.

و في «الصّحاح»: الترجيع ترديد الصوت في الحلق كقراءة أصحاب

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 383

الألحان.

و مثله من شمس العلوم، و غيره.

و قد سمعت الكلام في الطرب الذي هو أيضا من الموضوعات العرفيّة فلا تأثير للنيّة خلافا و وفاقا فيهما وجودا و عدما، و إنّما العبرة بتحقّقهما بالنسبة الى غالب أفراد النّوع، فلا عبرة بالطّروب الخفيف الذي ينفعل عمّا لا ينفعل عنه غالب أفراد النوع، و لا بالغليظ المزاج الّذى لا يكاد يتأثّر بشي ء من ذلك، بل كأنّه عندهم سقيم القلب، عديم اللبّ، و لذا قالوا: من لم يهيّجه الربيع و الأزهار، و العود و الأوتار، و الأصوات و الأطيار فهو فاسد المزاج محتاج الى العلاج.

ثانيها: إذا شكّ في صدق الغناء على فرد من أفراد الأصوات فإن كان الشكّ مصداقيّا فالأصل الحليّة، كما لو شكّ في كون فرد

من أفراد المايع خلا، أو خمرا، و كأنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب حتّى من الأخباريين المتوقّفين في الشبهة الحكميّة، و الأخبار به كثيرة، مثل

قوله عليه السّلام: «كل شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام» «1»

، و

«كلّ شي ء يكون فيه حلال و حرام فهو لك حلال» «2»

، بناء على التقريب المذكور في موضعه كغيره من أدلّة المسألة.

و أمّا إذا كان الشك مفهوميّا، و كان الشك في الفرد مسبّبا عن الشكّ في معنى اللفظ، فلعلّ الأصل الإشتغال، و لزم تحصيل الامتثال و لو بالاحتياط بلا فرق بين كون الترديد بين العامّ و الخاصّ المطلقين، أو العامّين من وجه، للقطع بالتكليف بمسمّاه المردّد بين الأمرين على أحد الوجهين، و قضيّة لزوم تحصيل

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 273 ح 12 عن الكافي.

(2) بحار الأنوار ج 2 ص 282 رقم 57 عن التهذيب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 384

القطع بالامتثال.

و توهّم أنّ المتيقّن من التكليف إنّما هو بالنسبة الى مصداق العنوانين، فانتفاء الشرط و هو العلم يمنع من تعلّق التكليف بغيره.

مدفوع بأنّ العلم التفصيلي به و إن كان منتفيا لكنّه ليس مانعا، و لا وجوده شرطا، و المفروض القطع بتحقق التكليف بأحد العنوانين، و العلم الاجمالي حاصل به، و الامتثال بالنسبة إليه ممكن، كما في الشبهة المحصورة، و غيرها من الموارد الّتى يجب فيها الاحتياط كما في المقام.

و من هنا يظهر النظر فيما ذكره شيخنا «1» النجفي عطّر اللّه مرقده في «الجواهر» حيث حكم بأنّ قضيّة الأصل إباحة الأفراد المشكوكة لكونه من شبهة الموضوع الراجعة إلى شبهة الحكم، فالقدر المتيقّن هو حرمة الأفراد المعلومة بالتفصيل، فيشكّ حينئذ في حرمة الزائد لاحتمال كون تمام ماهيّة الغناء ما

اشتملت عليه تلك الأفراد خاصّة، فله الرجوع في غيرها الى أصل الإباحة «2».

قلت: فعلى هذا فاللازم عليه هو التفصيل بين العامّ و الخاصّ المطلقين، و غيره، فيحكم بالإباحة في الأوّل و الاحتياط في الثاني سواء كانا متباينين أو من العامّين من وجه كما في المقام، فإنّ من يفسّره بالصوت المطرب يعمّم من جهة الترجيع، و كذا العكس.

ثالثها: ربما يقال: إنّ تحريم الغناء عقلي لا يتطّرق إليه تقييد، و لا

______________________________

(1) هو الشيخ محمد حسن النجفي شيخ الفقهاء و امام المحقّقين المتوفى (1266).

(2) الجواهر ج 22 ص 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 385

تخصيص، لظواهر الآيات، و تواتر الأخبار، و الإجماع، بل الضرورة.

و هو كما ترى، إذ قوّة الأدلّة لا تجعل الحكم عقليّا، مع أنّ ما مرّ من الأدلّة إنّما هو على حرمته في الجملة، و لذا ترى المشهور قد حكموا باستثناء المغنيّة في الأعراس، أو بإباحة أجرتها المستلزمة لذلك، و إن قيّده بعضهم بما إذا لم تتكلّم بالباطل، و لم تلعب بالملاهي، و لم تدخل عليها الرّجال، و بالجملة إذا لم يقترنه حرام آخر.

و الأصل فيه

قول الصادق عليه السّلام في خبر أبى بصير: «أجرة المغنيّة الّتى تزفّ العرائس ليس به بأس، ليس بالّتى تدخل عليها الرجال» «1».

و

قوله عليه السّلام في خبره الآخر حين سأله عن كسب المغنيّات، فقال عليه السّلام: «الّتي يدخل عليها الرّجل حرام، و الّتى تدعى الى الأعراس لا بأس به و هو قول اللّه تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «2». «3»

قلت: و لا بأس باستثنائه بعد قوّة السند، و الاعتضاد بعمل الجماعة و غير ذلك.

و أمّا الحداء (بضم الحاء المهملة) كدعاء، للصوت الّذى يرجّع فيه للسير

بالإبل، فلم أجد ما يصلح لاستثنائه، و إن اشتهر ذلك بينهم كما حكاها في «الكفاية»، و غيره أيضا.

______________________________

(1) فروع الكافي ج 1 ص 361- الفقيه ج 2 ص 53.

(2) سورة لقمان: 6.

(3) فروع الكافي ج 1 ص 361- التهذيب ج 2 ص 108.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 386

و النبوي «1» المشتمل على فعل عبد اللّه بن رواحة، ضعيف سندا، و متنا و لعلّه من بدع الثاني، و لذا نسبه إليه ابن الأثير في «النهاية» قال: و قد رخصّ عمر في غناء الأعراب، و هو صوت كالحداء «2».

إلّا أن يقال: إنّه غير ذلك، و لذا شبّهه به.

و على كلّ حال فلا دليل على استثناءه، كما أنه لا دليل على استثناء مراثي الحسين عليه السّلام، و غيره.

______________________________

(1)

رواه البيهقي في «السنن» ج 10 ص 227 أنّ النبي عليهما السّلام قال لعبد اللّه بن رواحة: حركّ بالنوق فاندفع يرتجز، و كان جيّد الحداء و كان مع الرجال، و كان أنجشة مع النساء فلمّا سمعه تبعه، فقال صلّى اللّه عليه و آله لأنجشه: رويدك، رفقا بالقوارير.

(2) النهاية لابن الأثير ج 3 ص 392.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 387

الفصل الثاني

الترتيل

لا إشكال في مطلوبيّة الترتيل في الجملة، بل عليه الإجماع تحصيلا و نقلا، بعد ورود الأمر به في ظاهر الكتاب، مضافا الى الأخبار المستفيضة الّتى تأتى الى كثير منها الإشارة.

إنّما الإشكال في تحقيق معناه، و في أنّ مطلوبيّته هل هي على سبيل الوجوب أو الاستحباب.

أما الأوّل فالمرجع فيه كغيره من الموضوعات المستنبطة هو العرف و اللّغة.

قال في «الصّحاح»: الترتيل في القراءة: الترسّل فيها، و التبيين بغير بغى، و كلام دثل، بالتحريك أى مرتّل.

قلت: و لعلّ المراد بالبغي مجاوزة الحد في الترجيع و

المدّ بحيث يشبه الغناء، كما يومى اليه ما يأتى من عبارة «نهاية الأحكام».

و في «القاموس»: الرتل محركّة حسن تناسق الشي ء، و بياض الأسنان، و الحسن من الكلام ... الى أن قال: و رتّل الكلام ترتيلا: أحسن تأليفه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 388

و في «المصباح»: رتّلت القرآن ترتيلا: تمهّلت في القراءة و لم أعجل.

و

في «النهاية»: «في صفة قراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يرتّل آية آية

، ترتيل القراءة:

التأنّي فيها، و التمهّل، و تبيين الحروف و الحركات تشبيها بالثغر المرتّل و هو المشبّه بنور الأقحوان، يقال: رتّل القراءة، و ترتّل فيها.

و عن «المغرب» «1»: الترتيل في الأذان و غيره أن لا يعجل في إرسال الحروف، بل يتثبّت فيها، و يبيّنها تبينا، يوفّيها حقّها من الإشباع من غير اسراع.

و عن قطرب «2»: أنّ الرتل بمعنى الضعف و اللين، و المراد بالترتيل تحزين القران، أى قراءته بصوت حزين.

و قيل: إنّه أن تقرأ على نظمه و تواليه و لا تغيّر لفظا، و لا تقدّم مؤخّرا. و هو مأخوذ من ترتّل الأسنان إذا استوت و حسن انتظامها، و ثغر رتل ككيف إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها.

الى غير ذلك من عباراتهم الّتى يتراءى منها الاختلاف في معناه، و لذا اختلفت فيه كلمات المفسرين و الفقهاء أيضا:

ففي «مجمع البيان» في قوله تعالى: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «3»: أى بيّنه بيانا، أو اقرأه على هينتك «4» ثلاث آيات، و أربعا، و خمسا، الى آخر ما حكاه عن المفسّرين «5».

______________________________

(1) «المغرب» في اللغة لأبي الفتح ناصر بن عبد السيّد المطرّزى المتوفى (610).

(2) قطرب: محمّد المستنير بن أحمد النحوي اللغوي المتوفى (206)- الاعلام ج 7 ص 315.

(3) المزمّل: 5.

(4) الهينة (بكسر الهاء

و سكون الياء و فتح النون) السكينة و الوقاء.

(5) مجمع البيان ج 10 ص 377.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 389

و عن المحقّق في «المعتبر»، و العلّامة في «المنتهى»: أنّه تبيين الحروف من غير مبالغة، و ربما كان واجبا إذا أريد به النطق بالحروف بحيث لا يدمج بعضها في بعض، و يمكن حمل الآية عليه، لأنّ الأمر عند الإطلاق للوجوب.

و عن «نهاية الأحكام»: أنّه بيان الحروف و إظهارها، و لا تمدّ بحيث يشبه الغناء.

و من «الذكرى»، و «فوائد الشرائع»، و «تعليق النافع»: أنّه حفظ الوقوف، و أداء الحروف.

و عن «المدارك»: أنّه الترسل و التبيين، و حسن التأليف.

و في «النفليّة»: أنّه تبيين الحروف بصفاتها المعتبرة من الهمس و الجهر، و الاستعلاء، و الإطباق، و الغنّة، و غيرها، و الوقف التامّ، و الحسن.

إلى غير ذلك ممّا لعلّه راجع الى شي ء ممّا سمعت، لكنّ التأمّل الصادق شاهد بأنّ كثيرا مما سمعت من الاختلاف يرجع الى الاختلاف في التعبير دون المراد، و لذا عبّروا بعبارات متقاربة.

و لعلّ الأولى تعريفه بأنّه الترسّل، و التمهّل، و التأنّى بالقراءة لإيفاء حقوق الحروف و الحركات، و الكلمات، مادّة، و هيئة، فصلا، و وصلا، كى يظهر تبينه، و يحسن تأليفه، و تنضيده مع ملاحظة التوسّط بين الإسراع، و الفصل الكثير بالمدّ، و الإبطاء.

و هذا هو المستفاد من متفرّقات كلماتهم، بل قد يستفاد من الأخبار أيضا:

كخبر عبد اللّه بن سليمان أنّه سأل الصادق عليه السّلام عن قوله عزّ و جلّ وَ رَتِّلِ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 390

الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «1» فقال عليه السّلام: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «بيّنه تبيانا، و لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن افزعوا «2» قلوبكم القاسية،

و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة» «3».

و

عن «دعائم الإسلام» عنه عليه السّلام: «و لا تنثره نثر الدقل «4» و لا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حركّوا به القلوب، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة» «5».

قال ابن الأثير في «النهاية»: في حديث ابن مسعود، و حذيفة في القراءة:

«هذّا كهذّ الشعر، و نثرا كنثر الدقل» أراد: لا تسرع فيه كما تسرع في قراءة الشعر، و الهذّ: سرعة القطع، و الدقل: رديّ التمر، أى كما يتساقط الرطب اليابس من العذق إذا هزّ.

و ظاهره كما قيل: إرادة نفى الإسراع من الفقرتين، لكنّ الأظهر حمله على ما هو الظاهر من الخبر الأوّل أيضا، إذ كما أنّ نثر الرّمل اشارة إلى المدّ و التطويل الكثير، و المبالغة في التأنّى، بحيث يكون الفصل بين الحروف و الكلمات متفحّشا جدّا، كالرمل المنثور، فكذلك نثر الدقل اشارة إليه، فالمقصود التنبيه على التوسّط بين الأمرين.

و ربما يعتبر فيه أيضا حفظ الوقوف و مراعاة أقسامها و أحكامها، كما مرّ

______________________________

(1) المزمّل: 5.

(2) في الوسائل: اقرعوا به.

(3) الكافي ج 2 ص 614 باب ترتيل القرآن ح 1.

(4) الدقل: أردأ التمر.

(5) دعائم الإسلام ج 1 ص 161.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 391

في جملة من التعاريف.

بل

قد رووا في كتب الفروع من مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّه أداء الحروف، و حفظ الوقوف» «1».

و لذا اعتبر فيه بعض الأصحاب كالشهيد و غيرة حسبما سمعت عن النفليّة مراعاة الوقف التامّ و الحسن.

بل و منه، أو الأولى منه بالمراعاة كون الوصل بالحركة، و الوقف بالسكون، أو غيره من وجوهه حذرا من الوصل بالسكون، و الوقف بالحركة الذين يقال بحرمتهما، و أنّ التحرّز منهما من الترتيل الواجب.

كما أنّه يعدّ

منه أيضا مراعاة الحروف الّتى منها التشديد و مراعاة بعض أقسام المدّ و الإدغام الصغير مطلقا، و خصوصا عند حروف (يرملون) المشتملة على الغنّة و عدمها.

و يعدّ من الترتيل المستحبّ مراعاة صفات الحروف من الهمس، و الجهر و أخواتهما، و الترقيق، و التفخيم، و بعض أقسام المدّ، و الوقف، و الإمالة، و غير ذلك ممّا يشمله اسم الترتيل الّذى هو التحسين، و التبيين، و التنضيد، و التجويد، بعد ثبوت مطلوبيته في الجملة، و بعد تحقّق صدق الموضوع عليه شرعا، أو عرفا خاصّا، أو عامّا.

لكن لا يخفى أنّ المراد بالترتيل الواجب ما يجب مراعاته ممّا يصدق عليه هذا الاسم وجوبا شرطيّا يتوقّف عليه صدق القراءة، أو صحّة الامتثال، أو

______________________________

(1)

بحار الأنوار ج 84 كتاب الصلاة ص 188 و فيه: عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه (اى الترتيل) حفظ الوقوف و بيان الحروف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 392

شرعيّا من جهة تعلّق الأمر ندبا بمطلق القراءة، أو وجوبا في الصلاة، و في امتثال النذر، و غيره، و منه يظهر الكلام في المندوب.

و حيث إنّ كثيرا ممّا سمعت لا يخلو من إجمال موضوعا، أو خفاء حكما، فلنشر الى كلّ منها موضوعا و حكما إشارة مقنعة.

فنقول: أمّا مراعاة موادّ الحروف و حركاتها، و تمييز كلّ منها من غيره فلا ريب في وجوبها شرطا مطلقا و شرعا حيث تكون القراءة واجبة بلا خلاف فيه فيما أعلم، بل عليه الإجماع نقلا و تحصيلا، مضافا إلى عدم صدق الامتثال مع الإخلال، و لو بحرف واحد، تركا، أو إبدالا ممنوعا أو غيرهما، فإنّ كلّا من السورة، و الآية، و الكلمة و غيرها موضوعة للمجموع المركّب من الأجزاء الخاصّة المنتفى بانتفاء كلّ جزء منها.

بل غير

القرآن أيضا من الدّعاء، و الذكر، و المناجاة، بل الكتب، و المحاورات يعدّ اللحن فيها غلطا، بلا فرق بين الكتابة و القراءة، حيث إنّه لا يتأمّل أحد من أهل العرف في نسبة الغلط و التحريف باللحن الحاصل بحرف واحد، أو أزيد، و لا بين تغيّر المعنى به و عدمه، بل و لا بين كون الإخلال، بموادّ الحروف أو بهيئتها من حيث الحركات الإعرابيّة و البنائيّة.

فما يحكى عن المرتضى في بعض رسائله «1»، وفاقا للمحكيّ في «المعتبر» «2» عن بعض الجمهور من أنّه لا يقدح في الصحّة الإخلال بالإعراب الّذى لا يغيّر المعنى.

______________________________

(1) رسائل السيّد المرتضى ج 2 ص 387.

(2) المعتبر ج 2 ص 167.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 393

لا ريب في ضعفه، كضعف ما يستدلّ له من صدق القراءة معه.

لتطرّق المنع إليه بعد فرض كون القرآن المنزل من الرحمن على خلافه، بلا فرق بين كون هذا المخالف للمنزل مصحّحا بحسب القواعد العربيّة و لو بوجه ضعيف، أو قويّ، أولا، كضمّ «الرحمن الرحيم» أو فتحهما للقطع عن الوصفيّة.

و أضعف منه ما يحكى عن «الذخيرة» من أنّ بهذا القدر من التغيير لا يخرج الحمد مثلا عن كونه حمدا عرفا، لبنائهم على المسامحة، فيصدق المسمّى على من قرأه بهذا الوجه.

و فيه: أنّ المسامحات العرفيّة لا يترتّب عليها شي ء من الأحكام الشرعيّة، بل الأصل الحمل على الحقيقة سيّما في الأمور التعبديّة و إلّا فقد يصدق باعتبار المسامحة مع الإخلال ببعض الحروف، بل و بعض الكلمات أيضا.

و أمّا ما استشكله في «جامع المقاصد» بعد حكاية نفى الفرق في البطلان بالإخلال بالاعراب بين كونه مغيّرا للمعنى مثل ضمّ تاء (أنعمت)، أولا كفتح دال (الحمد)، حيث قال: و لا يكاد يتحقّق ذلك،

لأنّ اختلاف الحركة يقتضي اختلاف العامل فيتغيّر المعنى لا محالة.

فالظاهر اندفاعه بأنّ المراد المعنى الظاهر المقصود.

و بالجملة لا إشكال في لزوم اعتبار موادّ الحروف و هيئاتها الاعرابيّة و البنائيّة و عدم حصول الامتثال باللحن في شي ء منها لما سمعت، و لظواهر بعض الأخبار

كالمروي في «الخصال» عن الصادق عليه السّلام قال: «تعلّموا العربيّة، فإنّها كلام اللّه الّذى كلّم به خلقه و نطق به للماضين» «1».

______________________________

(1) الخصال ج 1 ص 124.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 394

و

في «الكافي» عنه: قال: أعرب القران فإنّه عربيّ «1».

و

في «المعاني» عنه، عن آبائه عليهم السّلام، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تعلّموا القرآن بعربيّته، و إيّاكم و النبر فيه يعنى الهمز» «2».

فإنّ الأمر بتعلّم العربيّة لحفظ قواعدها، و إعمال حدودها، و النبر المنهيّ عنه هو تبديل الياء بالهمزة، و إظهار الهمزة الغير الاصليّة، و كانت قريش لا تنبر.

و لذا

قال الصادق عليه السّلام بعد ذكر الخبر: «الهمز زيادة في القرآن إلّا الهمز الأصلى مثل قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ «3» و قوله تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ «4»، و قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ «5».

قال ابن الأثير في «النهاية»: في الخبر قيل له: يا نبيّ اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّا معشر قريش لا ننبر»

- و

في رواية: «لا تنبر باسمي».

ثم قال: النبر همز الحرف، و لم تكن قريش تهمز في كلامها، و لمّا حجّ المهدي «6» قدّم الكسائي يصلّي بالمدينة فهمز، فأنكر أهل المدينة عليه و قالوا:

إنّه ينبر في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقرآن «7».

و

روى ابن فهد الحلي في «عدّة الداعي» عن مولانا أبي جعفر الجواد عليه السّلام

______________________________

(1) الكافي كتاب فضائل القرآن باب ترتيل

القرآن بالصوت الحسن ح 5 ص 599.

(2) معاني الأخبار ص 98 و لكن فيها كما في الوسائل أيضا: إيّاكم و النبز، (بالزاي المعجمة).

(3) النمل: 25.

(4) النحل: 5.

(5) البقرة: 72.

(6) هو محمّد بن عبد اللّه المنصور العبّاسى المتوفّى (169)- الاعلام ج 7 ص 91.

(7) النهاية لابن الأمر ج 5 ص 7. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 395

قال: «ما استوى رجلان في حسب و دين قطّ إلّا كان أفضلهما عند اللّه آدبهما».

قال: قلت: قد علمت فضله عند الناس في النادي و المجلس، فما فضله عند اللّه؟ قال عليه السّلام: «بقراءة القرآن كما انزل، و دعاءه اللّه من حيث لا يلحن، فإنّ الدعاء الملحون لا يصعد الى اللّه تعالى «1».

قال: و يقرب منه

قول الصادق عليه السّلام: «نحن قوم فصحاء إذا رويتم عنّا فأعربوه» «2».

أقول: و اللحن على ما في «الصحاح» و «القاموس» و غيرهما، هو الخطأ في الإعراب، و في القراءة.

الى غير ذلك من الأخبار التي لا بأس فيها من ضعف في السند، أو قصور في الدلالة، بعد ما سمعت من توقّف صدق القراءة الصحيحة على مراعاة مواد الحروف و تمييزها، و لو بالنسبة الى الحروف المشتركة في المخارج كالذال و الزاى، أو المتشابهة من حيث لحن العامّة كالغين و القاف، و الهاء و الحاء، و غيرها.

نعم: المحكيّ من أحد وجهي الشافعي عدم لزوم مراعاة المخرج في الضاد و الظاء، فتصحّ القراءة، بل الصلاة أيضا مع إخراج كلّ منها من مخرج الآخر، نظرا الى العسر و المشقّة.

و فيه: أنّ العسر و المشقّة اللازمين من أداء الحروف من مخارجها إن بلغ حدّا لا يتحمّل مثلها عادة، أو انتفت معها القدرة فلا ريب في المعذوريّة،

______________________________

(1) عدّة الداعي ص 10.

(2)

بحار الأنوار ج 2 ص 151 و فيه: أعربوا كلامنا فإنّا قوم فصحاء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 396

و الاكتفاء بالمقدور، للشريعة السمحة السهلة.

و لما ورد في الأخرس، و الألثغ «1» و التمتام «2».

و

للنبويّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ سين بلال عنه اللّه شين» «3».

و عليه يحمل

النبوي الآخر: «إنّ الرّجل من الأعجمي من أمّتي ليقرأ القرآن بعجمته، فترفعه الملائكة على عربيّته» «4».

و مع إمكان التعلّم، و تيسّر الأداء من المخرج فلا ريب في وجوبه حيث تجب القراءة، لتوقّف الواجب عليه، مع أنّ التمييز بين الحروف إنّما هو باختلاف المخارج، و إن كان للصفات مدخليّة في بعضها، و قد ذكروا أنّ الضاد و الظاء مشتركان في الصفات الخمسة: من الجهر، و الرخوة، و الإطباق، و الإصمات، و الاستعلاء، و إنّما انفردت الضاد بالاستطالة التي اختصّت بها، و من المعلوم أنّها ليست مغيّرة للحقيقة، بل التميز بينهما، منحصر في التأدية من المخرجين المقرّرين لهما.

نعم حكى شيخنا البهائى قدّس سرّه عن أبى عمرو «5» بن العلاء الذي قيل: إنّه إمام في اللغة أنّه ذهب إلى اتّحادهما و أقام على ذلك أدلّة و شواهد.

و لعلّها عند التأمّل من المناقشة في البديهيّات الّتى لا ينبغي الإصغاء إليها، لضرورة المغايرة بحسب الأداء و المخرج، و جزئيّتهما للكلمات المتخالفة لغة،

______________________________

(1) الألثغ: الذي ينطق بالسين كالثاء.

(2) التمتام (كالصمصام): الذي يعجّل في كلامه و لا يفهمه.

(3)

سفينة البحار ج 1 ص 390 و فيه: و في عدة الداعي عنهم عليهم السّلام: إنّ سين بلال عند اللّه شين.

(4) أصول الكافي ص 601.

(5) هو زبّان بن عمّار العلاء أبو عمر و المازني البصري المتوفّى (154)- الاعلام ج 3 ص 72.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 397

و عرفا،

و ضعفا، و استعمالا، و لعلّه لحن من العرب بتبديل أحدهما بالآخر.

و لذا قال في «المصباح المنير»: الضاد حرف مستطيل، و مخرجه من طرف اللسان إلى ما يلي الأضراس، و مخرجه من الجانب الأيسر أكثر من الأيمن، و العامّة تجعلها ظاء فتخرجها من طرف اللسان و بين الثنايا، و هي لغة حكاها الفرّاء «1» عن المفضّل «2».

قال: و من العرب من تبدّل الضاد ظاء فتقول: عظّت الحرب بنى تميم، و من العرب من يعكس فتبدّل الظاء ضادا، فتقول: ضهيرة في الظهير.

و هذا و إن نقل في اللّغة و جاز استعماله في الكلام و لكن لا يجوز العمل به في كتاب اللّه تعالى لأنّ القراءة سنّة متبّعة، و هذا غير منقول فيها انتهى كلامه.

أقول: و ممّا مرّ يظهر أيضا فساد القول المحكي عن بعضهم من تبديل الضاد طاء مهملة، أو دالا، بل ربما يحكى عن عوام الخاصّة و علماء العامّة من المصريين و الشاميين حيث إنّهم نطقوا بها ممزوجة بالدال المفخّمة و الطاء المهملة معرضين عن الضاد الصحيحة الخالصة التي نطق بها أهل البيت عليهم السّلام، و أخذها عنهم العراقيّون و الحجازيون.

قال شيخنا في «الجواهر»: و هذا الاختلاف على قديم الدهر، و سالف الزمان بين علماء الخاصّة و العامّة، و إن حكى عن جماعة منهم موافقة الخاصّة في ذلك كالشيخ على المقدسي «3» الّذى قد صنّف في ذلك رسالة و رجّح فيها ضاد

______________________________

(1) هو يحيى بن زياد بن عبد اللّه الديلمي النحوي الكوفي المتوفى (207) الاعلام ج 9 ص 178.

(2) هو المفضّل بن محمد أبو العباس الضبّى الكوفي المتوفى (168)- الاعلام ج 8 ص 204.

(3) هو على بن محمد بن خليل الحنفي نزيل القاهرة المعروف بابن

غانم المقدسي الفقيه اللغوي ولد سنة (920) و توفّي (1004) له مصنّفات منها: «بغية المرتاد لتصحيح الضّاد»- معجم المؤلفين ج 7

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 398

العراقيّين و الحجازيّين، وردّ عليه الشيخ على المنصوري «1» في رسالة ألّفها و كان ممّا ردّ فيها عليه أنّ النطق بالضّاد قريبة من الظاء ليس من طريق أهل السنّة المتبّعة، و إنّما هو من طريق الطائفة المبتدعة.

و هي شهادة منه على طريقتنا المأخوذة يدا بيد الى

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله القائل: «إنّى أفصح من نطق بالضّاد».

و فيه إشعار أيضا بالمطلوب، ضرورة تيسّر ضادهم لكلّ أحد حتى النّساء و الصبيان، فلا يناسب ذكر اختصاصه صلّى اللّه عليه و آله بالأفصحيّة، بخلاف الضّاد الذي ذكرناه، فإنّه ممّا يعسر فعله بحيث يتميّز عن الظاء و كما اعترف به بعضهم.

قال راجزهم:

و الضاد و الظاء لقرب المخرج قد يؤذنان بالتباس المنهج

و قال:

و يكثر التباسها بالضّادإلّا على الجهابذ النقّاد

و يقرب من ذلك المحكيّ عن السخاوي «2»، و الجزري «3»، و ابن امّ قاسم، بل قال الأخير منهم: إنّ التفرقة بينهما محتاجة إلى الرياضة التامّة.

______________________________

ص 195.

(1) هو على بن سليمان بن عبد اللّه المنصوري المصري المقرئ النحوي المتوفّى (1134) من آثاره: «ردّ الإلحاد في النطق بالضّاد»- معجم المؤلفين ج 7 ص 104.

(2) هو على بن محمد بن عبد الصمد المصري السخاوي الشافعي المقرئ المتوفى (643)- الاعلام ج 5 ص 154.

(3) هو محمد بن محمد بن محمد شمس الدين المعروف بابن الجزري المتوفّى (833)- الاعلام ج 7 ص 274.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 399

إلى غير ذلك ممّا ليس هاهنا محلّ ذكره.

نعم ينبغي أن يعلم أن المدار في صدق امتثال الأمر بالكلمة المشتملة على الضّاد صدق

ذلك عليه في عرف القارئين كغيره من الحروف، فوسوسة كثير من النّاس في الضّاد و ابتلاءهم بإخراجه و معرفة مخرجه في غير محلّها، و إنّما نشأ ذلك من بعض جهّال من يدّعي المعرفة بعلم التجويد من بنى فارس المعلوم صعوبة اللّغة العربيّة عليهم، و إلّا فمتى كان اللّسان عربيّا مستقيما خرج الحرف من مخرجه من غير تكلّف ضرورة، و إلّا لم يصدق عليه اسم ذلك الحرف عرفا، كما هو واضح.

و على ذلك بنوا وصف مخارج الحروف إلى شفويّة مثلا، و غيرها، لبعض الأغراض المتعلّقة لهم بذلك، و ليس المقصود منه تميّز النطق بالحروف قطعا، فإنّ ذلك يكفى فيه صدق الاسم و عدمه، و لا يحتاج الى هذا التدقيق الذي لا يعلمه إلا الأوحدى من الناس، بل لا يمكن معرفته على وجه الحقيقة إلّا لخالق الخلق الّذى أودعهم قوّة النطق، و اللّه أعلم «1».

و أمّا البحث عن مخارج الحروف، و أنّها هل هي ثلاثة كما عن بعضهم، أو أنّها ثمانية، كما عن آخرين، أو أربعة عشر، كما عن قطرب، و الفرّاء، و ابن دريد «2»، أو ستّة عشر، كما عن كثير من القرّاء و النحاة، أو سبعة عشرة، كما عن الخليل «3»، و بعض القدماء، و اختاره جمهور المتأخّرين فلا يهمّنا البحث عنه، و لا عن تعيين مخرج كلّ حرف من الحروف بعد فقد التعبّد في شي ء من ذلك،

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 9 ص 399- 400.

(2) هو محمد بن الحسن بن دريد اللغوي المتوفى ببغداد سنة (321)- الاعلام ج 6 ص 310.

(3) هو الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدى اللغوي المتوفّى (170 ه)- الأعلام ج 2 ص 363.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 400

تفسير الصراط المستقيم

ج 2 439

و ظهور الرجوع الى العرف الّذى هو المرجع في مثله، مع القطع بأنّ القدر المعتبر منه هو التلفّظ بالحروف على وجه يمتاز به كلّ منها عن غيره، بلا فرق بين أدائه عن المخرج المشهور لذلك الحرف أم لا على الأظهر، إذ لا دليل على اعتبار أمر زائد، و التعبّد بلزوم مراعاة المخارج المعهودة غير ثابت، و الأصل برائة الذمّة عنه.

و نحن و إذ قلنا بلزوم الاحتياط في الشكوك الثانوية المتعلّقة بكيفيّات الشرائط، و الأجزاء، إلّا أنّه جار فيما إذا لم يكن هناك إطلاق صادق في الصورتين، و أمّا معه فهو المتبّع.

و من هنا يتجّه الاكتفاء بإخراج الواو من بطن الشفة السفلى مع رؤوس الثنايا العليا كما لهجت له عوامّ العجم، بل و بعض خواصّهم، مع أن يخرجها بين الشفتين بلا خلاف ظاهر بينهم، فكأنّهم يكتفون عن الشفة العليا بثناياها، و لذا يؤدّى به الحرف ممتازا عن غيره، من غير خروج عن حقيقة الواويّة.

بل و منه يظهر أيضا سهولة الخطب في الصفات التي ذكروها للحروف من الهمس، و الجهر، و غيرهما للقطع بعدم وجوب شي ء منها إلّا ما له مدخليّة في أداء مادّة الحرف.

بل يشكل الحكم باستحبابها أيضا، و إن مرّ عن «النفلية» تفسير الترتيل المستحبّ بمراعاتها، بل نسب الشهيد الثاني في «شرحها» اعتبارها إلى علماء التجويد و أهل العربيّة، و ربما يستفاد من بعض المتأخّرين أيضا اعتبارها على وجه الاستحباب، و لو للمسامحة في دليله، و لا ريب في أنّه لا يخلو من رجحان إذا لم يؤدّ إلى الإخلال في معاني القرآن و الدعاء و حضور القلب عند القرائة، و التحقّق بحقايقها، فإنّ هذه الأمور هي العمدة في الباب بعد إحراز المسمّى بما

تفسير

الصراط المستقيم، ج 2، ص: 401

يصدق عليه ذلك عرفا، حسبما سمعت و أمّا مع التمهّر فيها، و جريان اللّسان بها من غير كلفة و مشقّة، فلا شبهة في أولويّة مراعاتها، سيّما مع الالتفات إلى عدّ كثير منهم الإخلال بها من اللحن الخفي، مضافا الى قاعدة التسامح، مع أنّ الإخلال ببعض الصفات ربما يمنع من الإفصاح بمادة الحرف و إن حصل الامتياز في الجملة.

و بالجملة الصفات الّتى لها ضدّ خمس قد أشير إليها مجتمعة و الى أضدادها بالترتيب في كلام الجزري:

صفاتها جهر «1»، و رخو «2»، مستفل «3»منفتح «4»، مصمتة، و الضدّ قل

مهموسها (فحثّه شخص سكت)شديدها لفظ (أجد قط بكت)

و بين رخو و الشديد (لن عمر)و سبع علو (خصّ ضغط قظ) حصر

و (صاد ضاد طاء ظاء) مطبقةو (فرّ من لبّ) الحروف مذلقة «5»

______________________________

(1) الجهر هو عدم جريان النفس عند النطق بالحرف و هي (19) حرفا و ضدّه الهمس و هو جريان النفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج و عدد حروفه (10) حروف.

(2) الرخو و الرخاوة: إرخاء الصوت و جريانه عند النطق بالحرف و حروفها (15) حرفا، و ضدّها الشدّة و هو امتناع جرى الصوت عند النطق بالحرف لكمال الاعتماد على المخرج و حروفها (8) كما في البيت.

(3) الاستفال هو الانخفاض و هو انحطاط اللسان الى قاع الضم عند النطق بالحرف و حروفه (21) حرفا و ضدّه الاستعلاء اى الارتفاع اللسان عند التكلم بالحرف الى الحنك الأعلى و حروفه (7) أحرف كما في البيت.

(4) الانفتاح الافتراق بين اللسان و الحنك الأعلى و خروج النفس من بينهما عند النطق و حروفه (24) حرفا و ضدّه الاطباق و هو التصاق اللسان على الحنك الأعلى

و حروفه (4) كما في البيت.

(5) طيبة النشر للجزرى في ضمن اتحاف البررة في المتون العشرة ص 172.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 402

و أمّا ما لم يذكروا لها ضدّا من الصّفات الّتى تتّصف بها أحرف خاصة، فهي ستّ قد أشير إليها في هذه الأبيات:

صفيرها «1» صاد، و زاى، سين فلقلة «2» (قطب جد) و اللين «3»

واو، و ياء سكنا و انفتحاقبلهما و الانحراف «4» صحّحا

في اللام و الراء بتكرير جعل و للتفشى «5» الشين ضادا استطل «6» «7»

و أمّا التغليظ في اللام و التفخيم في الراء، و الترقيق فيهما في بعض المواضع و في حروف الاستفالة، و في الهمزة في بعض المواضع، و بالباء في البسملة، و غيرها، و إظهار الإطباق في مثل أَحَطْتُ «8»، و بَسَطْتَ «9» بعد الإدغام، و الغنّة في النون و الميم المشدّدتين فلا دليل على اعتبارها.

نعم، يلزم التحرّز من الإدغام في مثل قوله تعالى: فَسَبِّحْهُ «10» و قوله

______________________________

(1) كل صوت يمتدّ و لا يغلظ و هو خال من الحروف يسمّى صفيرا، و حروف الصفير: «الصاد، و الزاى، و السين» تخرج من رأس اللسان و بين أسنان مقدّم الفم أى الثنايا.

(2) القلقلة: تحريك الصوت، و حروفها خمسة مذكورة في البيت، تحصل من اجتماع صفتي الجهر و الشدّة، و تلك الحروف تسمّى أيضا المضغوطة.

(3) اللين ضدّ الخشونة، و الواو و الياء إذا كانتا ساكنتين، و ما قبلهما مفتوحا تسميّان حرفي اللين.

(4) الانحراف هو الميل و سميّت اللام و الرّاء المنحرفة لأنّ اللسان حين التلفّظ باللام يميل الى اللثة و الأسنان، و حين التلفظ بالراء يميل قليلا إلى الحنك الأعلى.

(5) التّفشى: الانتشار و تفخيم الحرف عند النطق به و حرفه الشين.

(6)

الاستطالة: طلب الطول و احرفها الضاد لأنّها في حال السكون. يطول التلفظ بها.

(7) اتحاف البررة في المتون العشرة- المقدّمة في علم التجويد لابن الجزري ص 374.

(8) النمل: 22.

(9) المائدة: 28.

(10) ق: 40- الطور: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 403

تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ «1» و قوله تعالى: قالُوا وَ هُمْ «2» بل يلزم إظهار الحاء في الأوّلين، و الواو في الثالث كيلا يسبق النطق بها مشدّدة.

كما يلزم إظهار الياء المكسور ما قبلها، نحو فِي يَوْمٍ «3» و إظهار الغين في قوله: لا تُزِغْ قُلُوبَنا «4» و اللام الساكنة في قوله: قُلْ نَعَمْ «5» و إن كانا متجانسين عند بعضهم، إلى غير ذلك ممّا هو جار على مقتضى الأصل، مضافا إلى اتفاقهم عليه ظاهرا كما نبّهوا عليه، و صرّح به الجزري، و غيره.

و أمّا سائر ما يعدّ من معاني الترتيل ممّا مرّت إليه الإشارة فستسمع الكلام في كلّ منها في موضعه إنشاء اللّه تعالى.

تذنيب: في حفظ الوقوف و معناه: حفظ الوقوف الّذي به فسرّ به الترتيل في العلوي المرسل في جملة من كتب الجماعة المشتهر بين العامّة حكايته عنه عليه السّلام، كما أنّهم حكوه عن ابن عبّاس أيضا.

و فسّر مرّة كما من كشف اللثام، بأن لا يهذّ هذّ الشعر، و لا ينثر نثر الرمل، قيل: و يؤيّده روايتهما في تفسيره بذلك عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام.

أقول: و مجرّد ذلك لا يقضى بالاتّحاد، سيّما مع عدم ظهور المعنى و كون الخبر مصدّرا بتبيين الحروف، أو أدائها حسبما مرّ، و ظهور أولوية التأسيس على التأكيد.

______________________________

(1) الزخرف: 89.

(2) الشعراء: 96.

(3) السجدة: 5.

(4) آل عمران: 8.

(5) الصافات: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 404

و فسّر اخرى بالمحافظة على تحقيق الوقف في موارده

بحفظ حدوده، و ذلك بأن لا يقف على آخر الكلمة أو الآية بإظهار الحركة، و ذلك لأنّه لا يجوز الوقف بالحركة، كما أنّه لا يجوز الوصل بالسكون لمخالفتهما لطريقة أهل اللّسان و ظهور الاتّفاق على بطلان القراءة في الصلاة بهما، و قد صرّح كثير من أهل اللّسان بأنّ لغة العرب أن لا يوقف على متحرّك.

و نقل شيخنا التقى المجلسي رحمة اللّه عليه: اتفاق القرّاء و أهل العربية على عدم جوازهما، و لذا جعله من الترتيل الواجب.

و من هنا يظهر ضعف ما في «كشف الغطاء» من نفى البأس عن الوقف على المتحرّك، و وصل الساكن.

إذ قد سمعت أنّه مما اتفق على فساده أهل العربيّة، بل يمكن الاستدلال له أيضا بما

ورد من أن «الأذان و الاقامة مجزومان» «1».

قال الصدوق: و في خبر آخر: «موقوفان» «2».

و ذلك أنّه عبّر عن الوقف بالجزم و ترك الحركة.

نعم عن الشهيد الثاني في «الروض» أنّه لو فرض ترك الوقف أصلا سكن أواخر الفصول أيضا، و إن كان ذلك في أثناء الكلام، ترجيحا لفضيلة ترك الإعراب على المشهور من حال الدّرج.

و فيه تأمّل واضح، نعم يمكن حمله على السّكت الّذى ينبغي إخراجه عن حكم الوصل، و إلحاقه بالوقف.

______________________________

(1) الفقيه ج 1 ص 91.

(2) الفقيه ج 1 ص 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 405

و ذلك أنّ هاهنا أمورا ثلاثة: الوقف، و القطع، و السكت.

و الوقف عندهم عبارة عن قطع الصّوت عن الكلمة زمانا يتنفّس فيه عادة بنيّة استءناف القراءة عليه، فإن لم يكن هنا نيّة استيناف القراءة فهو القطع، و لذا شرطوا فيه أن لا يكون إلّا على رأس آية، و إن لم يكن الشرط في محلّه.

و أمّا السكت فهو قطع الصوت زمنا هو

دون زمن الوقف عادة من غير أن يتنفّس.

قال في «شرح طيبة النشر»: و قد اختلفت عباراتهم في التأدية ممّا يدل على طول زمن السكت و قصره، و المشافهة حاكمة عليه بحقه.

و يستفاد منه أنّ هذا من اصطلاح متأخّريهم، و أنّه كان المتقدّمون يطلقون كلّا منها على الآخر.

و ثالثة فسّر حفظ الوقوف بالمحافظة على شرائط الوقف، و مراعاة الرّسم، بأن يوقف على ما حذف لفظا بالإثبات كالألف من قوله: وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ «1»، و الياء من قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ «2» و الواو من قوله: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ «3»، و كذا إبدال التنوين ألفا في مواضعه كقوله تعالى: خَوْفاً وَ طَمَعاً «4».

و ذلك لأنّهم وقفوا في آخر الكلمة على وجوه تسعة: الأوّل: السكون على

______________________________

(1) النمل: 15.

(2) البقرة: 269.

(3) الانعام: 108.

(4) الأعراف: 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 406

ما مرّ.

و الثاني: الروم (بفتح الراء) بمعنى القصد، و هو النطق ببعض حركة الموقوف عليه، و ربّما حدّوه بالتلفّظ بثلث الحركة و ترك الثلثين، و الاختلاس عكسه، يعنى التلفّظ بثلثي الحركة و ترك الثلث، و لذا لم يعدّوه من أقسام الوقف.

و الثالث: الإشمام و هو الإشارة إلى الحركة بضمّ الشفتين بعد الإسكان، و لذا قالوا: إنّ الروم لا يدركه الأصمّ، و الإشمام لا يدركه الأعمى.

و الرابع: الإبدال و هو بالألف في الاسم المنصوب المنوّن غير المؤنّث كقوله: (أحدا)، و بالهاء في (الرّحمة) و (رحمة) معرّفة، و مجرّدة و بالألف في مثل (يشاء) فتسقط أحدهما، و هو متروك عندنا، و إن حكوه عن حمزة و هشام، كما حكى عنهما أيضا النقل.

و الخامس: النقل في مثل قُرُوءٍ «1» و النَّسِي ءُ «2» حيث ينقل حركة الهمزة الى الواو أولياء، و

تقلب الهمزة واوا في قُرُوءٍ و ياء في النَّسِي ءُ ثمّ تدغم الواوان في الأوّل، و الياء ان في الثاني، و هو أيضا متروك عندنا.

السادس: الإدغام كما عرفت في قُرُوءٍ و النَّسِي ءُ.

السابع: الحذف لبعض الياءات التي ربّما تثبت في الوصل على بعض القراءات كقوله: إِلَى الدَّاعِ «3» و قوله: فَهُوَ الْمُهْتَدِ «4».

______________________________

(1) البقرة: 228.

(2) التوبة: 37.

(3) القمر: 8.

(4) الإسراء: 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 407

و الثامن: الإثبات لياءات الزوائد المخذوفة في الوصل نحو والٍ «1» و واقٍ «2».

و التاسع: إلحاق هاء السكت في نحو (فبمه) و (ممّه).

و لا يخفى عليك أن كثيرا من هذه الأقسام تصنّعات، و تكلّفات و استحسانات لم يقم عليها شاهد، فضلا عن حجّة، بل الظاهر أنّه لا يجوز الوقف بمثل النقل و الإدغام و غيرهما ممّا يوجب تغييرا في الحرف أو الحركة من غير شهادة به من أهل اللّسان، و لعلّه لا عبرة بقراءة واحد من القرّاء، أو لحن طائفة من العرب لم يعلم نزول القرآن بلغتهم.

و رابعة فسّر حفظ الوقوف بمراعاة الإثنين من الأربعة المشهورة كما في «شرح النفليّة» للشهيد الثاني تبعا للأوّل فيها، قال بعد إرسال الخبر: و ليس المراد مطلق الوقف، بل الوقف التامّ، و هو الّذى لا يكون للكلام قبله تعلّق بما بعده لا لفظا و لا معنى، و الحسن و هو الذي يكون له تعلّق من جهة اللفظ دون المعنى.

قال: و من ذلك يعرف وجه الوصف بالتمام و الحسن، فإنّ الوقف على الحسن حسن في نفسه مفيد، لحسن النظم، و سهولة الضم، لكن لا يحسن الابتداء بما بعده للتعلّق اللفظي فهو دون التامّ، و هذا كلّه مع التمكّن و اليسر، و أمّا عند فراغ النفس فيحسن الوقف

مطلقا، سواء كان أحدهما أو غيرهما من الأنواع المرخصّة و الممنوعة ... الى أن قال:

و في الفاتحة أربعة وقوف توامّ: على البسلمة، و مالك يوم الدين

______________________________

(1) الرّعد: 11.

(2) الرّعد: 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 408

و نستعين، و آخرها، و عشرة حسنة: على «بسم اللّه»، و على «الرحمن» و على «الحمد للّه» و على «ربّ العالمين» و على «الرحمن» و على «الرحيم» و على «إيّاك نعبد» و على «المستقيم» و على «أنعمت عليهم» و على «غير المغضوب عليهم».

أقول: و القسمان الباقيان هما الكافي و القبيح.

و وجه الحصر على ما في «شرح طيبة النشر»: أنّ الكلام إمّا تامّ أولا، و التامّ إمّا لا يكون له تعلّق بما بعده لا لفظا و لا معنى، أو يكون له تعلق، فالأوّل هو التام فيوقف عليه، و يبتدأ بما بعده.

و الثّاني لا يخلو إمّا يكون تعلّقه من جهة اللفظ فهو الحسن الذي يجوز الوقف عليه لتمامه و لا يجوز الابتداء بما بعده لتعلّقه بما قبله لفظا، إلّا أن يكون رأس آية فإنّه يجوز عند الأكثر، كما هو المحكىّ «1» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و إمّا يكون تعلّقه بما بعده من جهة المعنى و هو الوقف الكافي كالتمام يجوز أن يوقف عليه و يبتدأ بما بعده.

و أمّا إذا لم يكن الكلام تامّا فالوقف قبيح، لا يجوز الوقف عليه و لا الابتداء بما بعده.

أقول: و ظاهره كصريح غيره اختيار الكافي على الحسن، لكنّ الخطب سهل بعد عدم الدّليل على شي ء من ذلك سوى الاستحسان الّذى لا عبرة به عندنا.

______________________________

(1)

النشر في القراآت العشر ج 1 ص 226 روى عن أم سلمة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأ

قطع قراءته آية آية ... تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 409

و رجوعه مطلقا الى الترتيل و التزيين المأمور بهما غير معلوم و إلّا فلا بأس به.

مضافا إلى حدوث هذا الاصطلاح منهم بحيث لا يصلح حمل العلويّ و غيره عليه، فإنّه منسوب إلى أبى عمرو «1»، صاحب «التيسير».

كما يحكى عن رجل آخر معروف بالسجاوندي «2» اصطلاح آخر في الوقف، فإنّه قسمّه الى خمسة أقسام:

الوقف اللازم، و هو الّذى يحصل بتركه في المعنى شناعة مثل قوله تعالى:

وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ «3»، فلو وصلت بما بعدها يكون قوله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ «4» صفة الأصحاب النار، و هو شنيع و محال.

2- الوقف المطلق، و هو الذي يحسن الابتداء بما بعده، و الوقف عليه لعدم ثبوت الاتّصال، كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لأنّه ثمّ ذكر الأوصاف، و إِيَّاكَ نَعْبُدُ ابتداء تضرّع.

3- الوقف الجائز، و هو الّذى حصل دليل الوقف و دليل الوصل فيه، كقوله تعالى حكاية عن بلقيس:

______________________________

(1) هو أبو عمرو بن عثمان بن سعيد الداني الأندلسي المتوفى (444) و من مصنفاته «التيسير».

(2) هو أبو عبد الله محمد بن طيفور السجاوندى الغزنوي المتوفى (544) أو (560) و من مصنفاته «الإيضاح في الوقف و الابتداء»- البرهان في معلوم القرآن للزركشى ج 1 ص 496.

(3) غافر: 6.

(4) غافر: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 410

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً «1» و الوقف عليها جائز، لأنّ قوله تعالى: وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ «2» يمكن أن يكون قول بلقيس فينبغي الوصل، و يمكن أن يكون قوله تعالى توقيعا لقول بلقيس فينبغي الوقف.

4- الوقف المجوّز، و هو الذي لكلّ من الوقف و الوصل فيه

وجه، لكنّ الوصل أظهر و أقوى كقوله تعالى: وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «3».

5- الوقف المرخّص، هو ما بين كلامين تعلّق أحدهما بالآخر، و كلّ واحد منهما تامّ مستقلّ في إفادة المعنى كقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً «4»، لأنّ قوله: وَ أَنْزَلَ عطف على (جعل) و كلاهما صلة (الّذي)، و لكن كل واحد منهما يفيد معنى تامّا لو انقطع النفس عليه:

و هذا كلّه استحسانات، بل تصرّف في الأحكام الشرعيّة بدون إذن صاحب الشريعة، و ذلك لأنّهم يثبتون بذلك رجحانا وجوبيّا، أو ندبيّا و كلاهما من الأحكام الشرعيّة التي يجب فيها التوقيف، لا الأخذ بالاستحسانات و الظنون.

بل لا يخفى أنّ فيها شوب التشريع الذي يحرم معه الفعل، و لو مع اشتماله على جهة الحسن الذي لا يصلح دليلا للحكم، و هل هذا إلّا مثل قول (آمين) الذي هو استجابة لما تضمّنه الحمد من الدعاء.

قال السيّد نعمة اللّه طاب ثراه في جملة كلام ذكره في «الأنوار»: قد بقي

______________________________

(1) النمل: 34.

(2) النمل: 34.

(3) البقرة: 7.

(4) البقرة: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 411

القرآن حتى وقع في أيدي القرّاء فتصرّفوا فيه بالمدّ، و الإدغام، و التقاء الساكنين، و غيرها تصرّفا نفرت الطّباع منه، و حكم العقل بأنّه ما تزل هكذا.

ثمّ قال: ظهر رجل اسمه سجاوندى، أو نسبة الى بلدة فكتب هذه الرموز على كلمات القرآن، و علّمه بعلامات أكثرها لا يوافق لا تفاسير الخاصّة، و لا تفاسير العامّة، و الظّاهر أنّ هذا إذا مضت عليه مدّة عديدة يدّعى أيضا فيه التواتر، و أنّه جزء القرآن فيجب كتابته و استعماله «1».

أقول: و كأنّ فيه تعريضا على بعض أصحابنا حيث توهّموا تواتر السّبع أو العشر، و كذا تواتر

المدّ، و غيره من الكيفيّات حسبما مرّت اليه الاشارة و تأتى إنشاء اللّه تعالى.

و بالجملة فلا وجه للاعتماد على شي ء من تلك الوجوه و الكيفيّات سيّما مع جعلهم بعض الأقسام منه واجبا، و بعضها حراما، من دون الاستناد الى آية أو رواية، أو حجّة شرعيّة، أو دلالة عقليّة.

كما يحكى عن بعضهم: أنّ الوقوف الواجبة ثلاثة و ثمانون وقفا، منها الوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «2».

و عن الإمام أبي منصور «3» أنّه جعل الوقف الحرام ثمانية و خمسين وقفا و من وقف على واحد منها متعمّدا فقد كفر، و جعل منها الوقف على صِراطَ الَّذِينَ «4»، و على مُلْكِ سُلَيْمانَ «5».

______________________________

(1) الأنوار النعمانية ج 2 ص 362 ط تبريز.

(2) آل عمران: 7.

(3) ابو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي المتوفّى (429)- الاعلام ج 4 ص 173.

(4) الفاتحة: 7.

(5) البقرة: 102.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 412

و قد ذكر بعضهم مضافا الى ما مرّ وقوفا أربعة آخر:

الوقف اللّازم الذي يجب الوقف عليه، و عدّوا منه قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1» لأنّه لو وصل بقوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ «2» لصارت الجملة صفة لقوله: بِمُؤْمِنِينَ «3».

و منه قوله تعالى: إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ «4»، إذ لو وصل لصار الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ «5» صفة للظالمين، و خطره ظاهر، بل هو كلام مبتدأ من اللّه تعالى، الى غير ذلك ممّا عدّوه منه.

و وقف المعانقة، و يسمّى المراقبة، و هما وقفان متقاربان، إذا وقفت على الأوّل ينبغي وصل الثاني بما بعده، و إذا وقفت على الثاني ينبغي وصل الأوّل بما قبله ليحسن ذلك الوقف.

و هو في القرآن ثمانية عشر موضعا متفّقا عليها، منها في

البقرة في ثلاثة مواضع: لا رَيْبَ فِيهِ «6» و عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا «7».

و في ستة عشر موضعا مختلفا فيها.

______________________________

(1) البقرة: 8.

(2) البقرة: 9.

(3) البقرة: 8.

(4) البقرة: 145.

(5) البقرة: 146.

(6) البقرة: 2.

(7) البقرة: 96.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 413

و وقف الغفران الّذي رووا فيه

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من ضمن أن يقف عشرة في القرآن ضمنت له الجنّة».

و هو في المائدة: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ «1».

و في الأنعام: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ «2».

و في السجدة: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً «3».

و فيها أيضا: لا يَسْتَوُونَ «4».

و في يس: وَ آثارَهُمْ «5».

و فيها أيضا: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ «6».

و فيها أيضا: مِنْ مَرْقَدِنا «7».

و فيها أيضا: وَ أَنِ اعْبُدُونِي «8».

و فيها أيضا: مِثْلَهُمْ «9».

و في سورة الملك: وَ يَقْبِضْنَ «10».

و وقف النبي صلّى اللّه عليه و آله

، رووا منه صلّى اللّه عليه و آله: أنّه اختار الوقف في سبعة عشر موضعا «11»:

______________________________

(1) المائدة: 51.

(2) الانعام: 36.

(3) السجدة: 18.

(4) السجدة: 18.

(5) يس: 13.

(6) يس: 20.

(7) يس: 52.

(8) يس: 61.

(9) يس: 81.

(10) الملك: 19.

(11) قال الحصرى في «معالم الاهتداء في الوقف و الابتداء»: مسمّى الوقف في غيره المواضع وقف السنّة تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 414

ففي البقرة قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ «1»، و وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ «2».

و في آل عمران: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «3».

و في سورة المائدة: مِنَ النَّادِمِينَ «4» و فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ «5» و فَقَدْ عَلِمْتَهُ «6»، و في رواية: ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ «7».

و في سورة يونس: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ «8» و إِي وَ رَبِّي «9».

و في رواية: أَ

حَقٌّ، هُوَ «10»، و في رواية: إِنَّهُ لَحَقٌ «11».

و في سورة يوسف: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ «12».

و في سورة الرعد: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ «13».

و في سورة النحل: وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها «14».

______________________________

و وقف جبريل و وقف الابتداء، و لم أعثر على اثر صحيح أو ضعيف يدلّ على أنّ الوقف في جميع غيره المواضع من السنّة.

(1) البقرة: 148.

(2) البقرة: 197.

(3) المائدة: 116.

(4) المائدة: 131.

(5) المائدة: 48.

(6) المائدة: 161.

(7) المائدة: 116.

(8) يونس: 2.

(9) يونس: 53.

(10) يونس: 53.

(11) يونس: 53.

(12) يوسف: 108.

(13) الرعد: 18.

(14) النمل: 5. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 415

و في سورة لقمان: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ «1».

و في سورة المؤمن: أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ «2».

و في سورة الحشر: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ «3».

و في سورة النازعات: فَحَشَرَ «4».

و في سورة القدر: مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ «5».

و في سورة النصر: وَ اسْتَغْفِرْهُ «6».

و عن بعضهم أيضا في أواخر البقرة: غَنِيٌّ حَمِيدٌ «7».

و في سورة القدر: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ «8».

و لا يخفى عليك أنّه لم يثبت الرواية بشي ء منهما، لكونهما عاميّين، و بعض أصحابنا أخذهما عنهم.

و أمّا لزوم الوقف و وجوبه في المواضع التي ذكروها فمن المقطوع انتفاء الوجوب فيها كانتفاء الحرمة فيما حكموا بها فيه، و لذا صرّح بعضهم بأنّهم لم يقصدوا ما يتراءى من ظاهر كلامهم.

قال الجزري في «طيبة النشر»:

و ليس في القرآن من وقف وجب و لا حرام غير ما له سبب

______________________________

(1) لقمان: 13.

(2) المؤمن: 6.

(3) الحشر: 2.

(4) النازعات: 23.

(5) القدر: 3.

(6) النصر: 3.

(7) البقرة: 267.

(8) القدر: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 416

و فسّر ما له السبب بما أريد به تغيير المعنى.

و قال بعض شرّاحه من أفاضل المتأخرين: إنّه وقع في كلام كثير ممّن ألّف في الوقوف قولهم: الوقف على

هذا واجب أو لازم، أو حرام، أو لا يحلّ، و نحو ذلك من الألفاظ الدالّة على الوجوب و التحريم، و لا يريدون بذلك المقرّر عند الفقهاء ممّا يثاب على فعله و يعاقب على تركه، أو يعاقب على فعله و يثاب على تركه، بل المراد أنّه ينبغي للقارى ء أن يقف عليه لنكتة، أو لمعنى يستفاد من الوقف، أو يتوهّم من الوصل تغيير المعنى المقصود، أو نحو ذلك، أو لا ينبغي الوقف عليه أو الابتداء بما بعده لما يتوهّم من تغيير المعنى و بشاعة اللفظ، و نحو ذلك.

فمن الأوّل: قوله تعالى: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ «1».

قال السخاوي: الوقف عليه واجب، لئلا يتوهّم أنّ ما بعده و هو إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ من قولهم، بل هو من قول اللّه تعالى، و يؤكّد هذا التوهم كسر (إنّ) فإنّها تكسر بعد القول.

و من الثاني: الوقف على (الموتى) في قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ «2» فإنّه إنّ وقفنا على (الموتى) يتوهّم أنّ الموتى يستجيبون مع الذين يسمعون، و ليس كذلك و إنّما المعنى أنّ الموتى لا يستجيبون بل يبعثهم اللّه تعالى.

و كذلك الوقف على (لا يستحيي) في قوله تعالى:

______________________________

(1) يونس: 65.

(2) الانعام: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 417

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي «1»، و الوقف على (لا يهدى) في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «2»، كلّ ذلك لا يجوز، فإن قصد أحد ذلك عمدا مع الالتفات، و العياذ باللّه تغيّر المعنى المراد الى غيره كان حراما معاقبا عليه بهذا السبب.

بقي الكلام في أنّ مراعاة تلك الوقوف، مع القطع بعدم وجوبها، هل هي مندوبة أم لا؟، ذهب الشهيدان، و المجلسيّان، و البهبهاني، و غيرهم إلى الأوّل،

و قد سمعت آنفا تمام الكلام بما يستدلّ به للوجهين.

نعم، ربما يستشكل في تفسير الوقوف الواردة في الخبر بالأربعة المشهورة المتقدّمة فعلا و تركا، بأنّ هذه الوقوف إنّما وضعوها على حسب ما فهموه من التفاسير، و المعاني التي هي أبعد شي ء من عقول الرجال، بل

قد ورد: انّ معاني القرآن لا يفهمها إلّا أهل البيت عليهم السّلام الذين نزل في بيوتهم القرآن

، و يشهد له أنّا نرى كثيرا من الآيات كتبوا فيها نوعا من الوقف، بناء على ما فهموه، و وردت الأخبار المستفيضة بخلاف ذلك المعنى الّذى فهموا، كما أنّهم كتبوا الوقف اللازم في قوله سبحانه: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «3» على آخر كلمة الجلالة، لزعمهم أنّ الرّاسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابهات، و قد وردت الأخبار المستفيضة في أنّ الراسخين في العلم هم الائمّة عليهم السّلام و هم يعلمون تأويلها، مع أنّ المتأخّرين من مفسّرى العامّة و الخاصّة رجّحوا في كثير من الآيات تفاسير لا توافق ما اصطلحوا عليه في الوقف.

نعم، ربما يجاب عن الأشكال بأنّ المراد المحافظة على معنى الوقف التامّ

______________________________

(1) البقرة: 26.

(2) المائدة: 51.

(3) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 418

و الحسن، لا خصوص ما تخيّلوه.

و أنّ ما ورد من اختصاص علم القرآن بهم لا ينافي إتباع الظاهر لنا فيما لم يرد فيه نصّ منهم.

أقول: و على هذا فيسقط التوقيف على خصوص ما عيّنوه مصداقا لتلك الأقسام في الفاتحة و غيرها على ما زعموه.

مضافا الى أنّه لا دليل على حسن المحافظة على تلك المعاني أيضا، و لو في غير ما عيّنوه من المصاديق.

سيّما مع ملاحظة عموم البلوى بها للناس عند القراءة في الصلاة و غيرها، و

عدم ورود نصّ في ذلك عن الأئمّة عليهم السّلام، مع شيوع علم القراءة في تلك الأزمنة بين العامّة، مع أنّه كان بين رواتهم من الإماميّة أهل الديانة و العبادة، و التقوى، و لم يعهد من أحد منهم السؤال عن كيفيّة الوقف موارده، كما لم يقع عنهم السؤال قطّ ممّا زخرفوا بقرائتهم البتراء مثل أقسام المدّ، و الإمالة، و الاختلاس، و الإشمام، و الروم، و غير ذلك ممّا ملئوا بها كتب القراءة، و صرفوا فيها أعمارهم، و هذا كلّه دليل على عدم المطلوبيّة بوجه، بل مطلوبيّة ترك التعرّض و الالتفات إليه رأسا، بل لعلّ في بعض الأخبار إشعارا عليه أيضا.

مثل ما

أرسله في «مجمع البيان» عن أمّ سلمة: «كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يقطع قراءته آية آية» «1».

فإنّ ظاهره الذي من المقطوع إرادته أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقف على الآيات، مع أنّ مقتضى ما ذكروه أنّ المدار على ملاحظة المعاني، فربما يحسن الوقف على

______________________________

(1) مجمع البيان ج 10 ص 378 في تفسير الترتيل من سورة المزمّل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 419

بعض الآية، و ربما يحسن الوصل بين الإثنين عندهم.

و ما

رواه عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السّلام، عن الرجل يقرأ الفاتحة، و سورة اخرى في النفس الواحد، قال عليه السّلام: إن شاء قرأ في نفس واحد، و إن شاء في غيره «1».

إلّا أنّ الظاهر منه إرادة مجرّد الجواز، و إن كان الأظهر كراهة قراءة سورة واحدة بنفس واحد فضلا عن السّورتين، و ذلك لا للإخلال بالوقف، بل لمنافاته للترتيل المأمور به في الكتاب و السنّة.

و لنا

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام بعد الأمر بالترتيل بما مرّ: «و لكن

اقرعوا به قلوبكم القاسية و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة» «2».

و

قال مولانا أبو عبد اللّه عليه السّلام في خبري محمّد بن الفضيل، و محمد بن يحيى: «يكره أن يقرأ قل هو اللّه أحد في نفس واحد» «3».

و

قال عليه السّلام في الترتيل: «هو أن تتمكّث فيه و تحسّن به صوتك» «4».

و

من إسحاق بن عمّار، عن جعفر الصادق، عن أبيه عليهما السّلام: «أنّ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اختلفا في صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكتبا إلى أبيّ بن كعب: كم كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سكتة؟ قال: سكتتان: إذا فرغ من امّ القرآن، و إذا فرغ من السورة «5».

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 220- قرب الاسناد ص 93.

(2) الأصول من الكافي ص 598.

(3) أصول الكافي ص 599- و فروع الكافي ج 1 ص 86.

(4) مجمع البيان ج 10 ص 378 و عنه البحار ج 92 ص 191.

(5) مجمع البيان ج 10 ص 178.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 420

و لعلّ المراد من السكتة غير الوقف، بل هو وقف معه سكوت ما، كيلا يكون قراءتهما بنفس واحد.

بل قد ورد في رواية «1» حمّاد تقدير السكتة بعد السورة بنفس، مع أنّك قد سمعت كراهة قراءة التوحيد بنفس واحد، و لعلّ ثبوتها في الحمد أظهر.

و لذا حكى المولى البهبهاني عن بعضهم أنّه قال: و الأولى أن لا يقرأ مقدار سورة التوحيد من غيرها أيضا بنفس واحد، ثمّ قال: و لعلّه كذلك، بل لعلّ الأقل منها أيضا كذلك لاستحباب الترتيل.

أقول: و مع كلّ ذلك فلعلّ الأظهر أنّ مراعاة الوقف في مواضعة الّتى هي مقاطع الكلام من الترتيل المندوب

اليه، و مثل هذا الترتيل يحسن مراعاته و لو في المناجاة و الأدعية، و في الكلمات العرفيّة، بل و كذا في الخطب و الأشعار، فإنّ في كلّ كلام مواضع للفصل و الوصل يعرفها أهل العرف، و أرباب دراية المعنى، بحيث يعرفون بالوجدان حسن الفصل في مواضع منها، و الوصل في غيرها كما يقضى به التأمّل في مخاطباتهم العرفيّة.

و في كلام الأردبيلى في «مجمع الفائدة» ما يؤذن بدعوى الإجماع على أولويته في مواضعه.

بل و لعلّ إليه إشعارا فيما رواه الكليني قدّس سرّه

في «الكافي»، من حفص، قال: «ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام، و لا أرجى للناس منه، و كانت قراءته حزنا، فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنسانا» «2».

بل و من هنا عدّ غير واحد من أصحابنا من الترتيل: أو الوقف المستحبّ

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 84 ص 189.

(2) أصول الكافي ص 594.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 421

أن يقف على غير المضاف، بل و على غير الموصوف أيضا.

و إن أطنب في ذلك بعض أرباب القرائة فألحق به ما ليس منه، حيث ذكر أنّه ينبغي للقارى ء أن يجتنب عن الوقف بين العامل و المعمول، و بين الفعل و ما يتعلّق به من فاعل و مفعول، و ظرف، و مصدر، و غيرها، و بين الشرط و الجزاء، و بين الأمر و جوابه، و بين المبتدأ و الخبر، و بين الصلة و الموصول، و بين الصّفة و الموصوف، و بين البدل و المبدل منه و بين المعطوف و المعطوف عليه، و بين المؤكّد و المؤكّد، و بين المضاف و المضاف إليه، و بين المستثنى و المستثنى منه، و بين «كان» و «إنّ» و

أخواتهما، و أسمائها، و بين القسم و جوابه، و بين الحرف و مدخوله «1».

و أنت ترى أنّه لا يقضى به العرف على وجه الكليّة، فربما يحسن الوقف في كثير من الموارد مع دخولها تحت بعض المذكورات، لطول الكلام، أو لغيره من مقتضيات المقام.

و هذا كلّه فيما لم يقصر النفس، و أمّا مع قصره فالأحسن الوقف حيث شاء، نعم ذكر في «كشف اللثام» و غيره أنّه لا ينبغي إكثار الوقف بحيث يختلّ النظم، و يلحق بذكر الأسماء المعدودة.

______________________________

(1) النشر في القراآت العشر ج 1 ص 230.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 422

في مراعاة المدّ

عرّفوا المدّ بإطالة الصوت بحرف مدّي من حروف العلّة، و القدر الواجب منه ما يتوصّل به إلى أداء الحرف الساكن الذي يسمّونه سبب المدّ، و ذلك لأنّ التلّفظ بالحروف إنّما يتمشّى بتحركّها أو اتصالها بالمتحرّك، أو بالساكن الذي يتوصّل بمدّة الى التلفّظ بها، و ذلك على فرض توقّف الإفصاح بها عليه، مقدّر بقدره، و إلّا فالقدر الزائد على ذلك لا دليل على وجوبه، و لا على ندبه، و إن توسّع فيه أرباب القراءة حيث قسّموه إلى الطبيعي، و هو الامتداد الحاصل لذات الحروف الثلاثة بقدر التلفّظ بها كما في قوله: آتُونِي «1»، و يسمّى أصليّا و ذاتيّا، و لذا قدّروها بألف واحدة، و هو قدر التلفّظ بها.

و غير طبيعي، و هو ينقسم إلى ما له سبب معنويّ و هو ما قصد به المبالغة في النفي، كما عن حمزة في مثل لا رَيْبَ «2»، و لا لا جَرَمَ «3» و لا مُقامَ «4».

و منه مدّ التعظيم في لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ

و ما له سبب لفظيّ، و هو إمّا السكون، و إمّا الهمزة، و السكون ينقسم

الى

______________________________

(1) الكهف: 96.

(2) البقرة: 2.

(3) هود: 22.

(4) الأحزاب: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 423

أصليّ و عارضي، فالأصليّ مظهر في فواتح السور، و مدغم في مثل دَابَّةٍ «1» و الضَّالِّينَ «2»، و كلاهما لازم، و مقداره، فيهما عند ورش، و حمزة أربع ألفات، و عند غيرهما ثلاث، و عن ثالث خمس، و عن رابع ألفات.

و العارضى المدغم في الرَّحِيمِ مالِكِ «3» على فرض الإدغام.

و المظهر في نَسْتَعِينُ «4»، و جوّزوا فيها الطول و القصر و التوسّط.

و أمّا الهمزة فإن كان بعد حروف المدّ في كلمة، مثل (جاء) و (جي ء) و (سوء) فالمدّ متّصل لازم عندهم، محدود بالخمس إلى الألفين، على الاختلاف بينهم، أو في كلمتين فمنفصل جائز.

و لهم اختلافات كثيرة في عدّها، و حدّ مدّها، حتى أنهاها بعضهم الى خمسة عشر قسما.

قال قائلهم:

و للمدّ أنواع لدى الحصر خمسةو عشر لتمكين «5» و بسط «6» مفصّلا

______________________________

(1) البقرة: 164 و سور أخرى.

(2) فاتحة الكتاب: 7 و سور اخرى.

(3) فاتحة الكتاب: 3- 4.

(4) فاتحة الكتاب: 5.

(5) مدّ التمكين في نحو (أولئك) و (الملائكة) و (شعائر) و هي مدّة تليها همزة، لأنّه جلب ليتمكّن به من إخراجها من يخرجها- الإتقان ج 1 ص 338.

(6) مدّ البسط و يسمّى أيضا مدّ الفصل في نحو (بما أنزل) لأنّه يبسط بين كلمتين و يفصل بين متصلتين- الإتقان ج 1 ص 338.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 424 و عدل «1» و فرق «2» بنية «3» عوض و لازم عارض و حجز و أصل تأصلا

كذا مع روم مبدل شبه مبدل مبالغة، إمعان فافهم مكمّلا

و في بعض هذه الأقسام اختلافات عندهم في تحديده.

فمن الغريب ما في «مجمع البحرين» من دعوى اتّفاقهم في كثير

من الأقسام، حيث قال في كتاب الدال باب أوّله الميم: و حروف المدّ هي حروف العلّة، و في مصطلح القرّاء إن كان بعدها حمزة تمدّ بقدر ألفين الى خمس ألفات، و إن كان بعدها تشديد تمدّ بقدر أربع ألفات اتّفاقا منهم مثل (دابّة)، و إن كان ما بعدها ساكن تمدّ بقدر ألفين اتّفاقا (كصاد)، و ان كان بعدها غير هذه الحروف لم تمدّ إلّا بقدر خروجها من الفم، فمدّ بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن إلّا بقدر خروج الحرف من الفم، إلّا (الرحيم) عند الوقف فيمدّ بقدر ألفين «4».

أقول: لكنّ الخطب في كلّ ذلك سهل عندنا بعد ما سمعت من عدم وجوب شي ء منها، و لا استحبابه عدى ما يتوقّف عليه أداء الحروف على فرض التوقف و إلّا فلا دليل على مطلوبيّة شي ء زائد عليه.

نعم عدّ في «النفلية» في المستحبّات المدّ المنفصل و توسّطه مطلقا.

و لعلّه عدّ في «الألفيّة» المتّصل من الواجبات، و ليست عندي كى الأحظ.

______________________________

(1) مدّ العدل في كلّ حرف مشدّد قبله حرف مدّ و لين نحو (و لا الضّالّين) لأنّه يعدل حركة و يقوم مقامها في الحجز بين الساكنين.

(2) مدّ الفرق في نحو (الآن) لأنّه يفرق به بين الاستفهام و الخبر.

(3) مدّ البنية في نحو (ماء) و (دعاء) و (نداء) و (زكريّاء) لأنّ الاسم بني على المدّ، فرقا بينه و بين المقصور.

(4) مجمع البحرين ج 3 ص 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 425

و قال الشهيد الثاني في «شرح النفليّة»: يجوز حينئذ القصر، و المد و هو أفضل لما فيه من تحقيق الحرف.

و قال بعد قوله: «و توسطه مطلقا»: سواء كان مدا منفصلا أم غير منفصل، واجب المدّ، أم جائزة، فإنّ زيادته عن

التوسط كمدّ ورش يكاد يخرج عن حدّ الفصاحة، و تفوّت لذاذة استماعه، و محاسن أداءه، و دون التّوسط لا يبيّن معه حروف المدّ بيانا شافيا، و لا تفصح معه إفصاحا كافيا، و خير الأمور أوسطها.

و لا يستشكل بأنّ الجميع متواتر، إذ لا بعد في تفضيل بعضه على بعض، و إن اشترك الجميع في أصل البلاغة و وصف الفصاحة، و من البيّن أنّ في بعض تركيب القرآن العزيز ما هو أفصح من بعض، و أجمع لدقائق البلاغة و مزايا الفصاحة.

و قد عدّ الأردبيلى المدّ الواجب في عداد ما يجب مراعاته، بل كأنّه قد أرسله إرسال المسلّمات حيث قال: و معلوم من وجوب القراءة بالعربيّة المنقولة تواترا عدم الإجزاء و عدم جواز الإخلال بها حرفا، و حركة بنائية و اعرابيّة، و تشديدا، و مدّا واجبا، و كذا تبديل الحروف، لعدم صدق القراءة، فتبطل الصلاة مع الاكتفاء بها.

و قال السيّد «1» الطباطبائى في «إصلاح العمل»: صرّح جماعة بوجوب مراعاة المدّ المتّصل، و فيه أشكال، و لكنّه أحوط.

قال: و لا يجب المنفصل، و قيل: هو أفضل، ثمّ حكى عن صريح بعض الأصحاب أنّ المراد بالمدّ المتصل ما يكون حرف المد و موجبه في كلمة واحدة،

______________________________

(1) هو السيّد المجاهد محمد بن الأمير السيّد على الطباطبائى الحائرى المتوفى (1242).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 426

و بالمنفصل ما كان حرف المدّ في كلمة، و موجبه في اخرى، فيدخل في الأوّل مدّ «أولئك» و مدّ «و لا الضالّين»، و مدّ كهيعص

و لكن يظهر من جماعة منهم السيوطي في «الإتقان» «1»، و بعض شرّاح «الشاطبية» أنّ المتّصل عبارة عمّا كان سببه وقوع الهمزة في كلمة واحدة فيخرج الأخيران عنه، و يدخل في الثاني مدّ

«لا إله إلّا اللّه».

أقول: المشهور، بل كاد أن يكون إجماعا منهم هو التفسير الأوّل، و به صرّح الشهيد الثاني في «شرح النفليّة» كما صرّح به أيضا كثير من شرّاح «الشاطبية» و الجزري في «طيبة النشر» و غيرهم من أئمّة القراءة، من دون اشارة إلى خلاف أصلا، لكنّ الخطب فيه سهل جدّا بعد عدم الدليل على وجوبه في شي ء من الأقسام، بلا فرق بين تسميته متّصلا أو منفصلا، و استقرار طريقة أهل اللّسان على مراعاته غير معلوم، بل المعلوم خلافه.

ألا ترى أنّهم في محاوراتهم و تكلماتهم العرفيّة لا يراعون شيئا من ذلك، و إنّما يقتصرون على أداء موادّ الحروف، بل لو تكلّف أحد بمراعاة ذلك لكان ذلك منكرا مستهجنا عندهم.

هذا مضافا الى خلوّ الأخبار، بل خلوّ كتب القدماء، و أكثر المتأخرين عن ذلك، بل أوّل من تعرّض لذلك من فقهاء أصحابنا هو الشهيد في الألفية» و «النفلية»، و لم يتعرّض له في «الذكرى»، أصلا.

و كأنّ الّذى دعاه إلى ذلك إكمال العدّة في الكتابين، و لذا عدّ من المندوب في «الثاني» بعد ذكر المدّ، عدم الإفراط في التشديد، و إشباع كسرة كاف

______________________________

(1) الإتقان ج 1 ص 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 427

«ملك»، و ضمّ دال «نعبد» و الإتيان بالواو بعدها سلسا، و إخلاص الدال في «الدين» و الياء في «إيّاك» و الفتحة في الكاف من «ايّاك» بلا إشباع، و التحرّز من تشديد الباء في «نعبد» و نحوه، و التاء في «نستعين» و تصفية الصاد في «الصراط» المختارة اى إذا اختار الصاد، فإن اختار السين فليحافظ على همسه، و تمكين حرف المدّ و اللين بغير افراط، و كذا فتحة نون «الذين» و اجتناب تشديد تاء «أنعمت» و

ضاد «المغضوب» و اجتناب تفخيم الألف، و إخفاء الهاء، بل تكون ظاهرة، الى غير ذلك ممّا لم يقم على مطلوبيّته شاهد، فضلا عن حجّة، عدا بعض الاعتبارات التي ترجع إلي ملاحظة صفات الحروف أو إلى تبيينها، و الإفصاح عنها، كما يشهد له التأمّل فيما ذكره ثانى الشهيدين في الشرح، و أنت تعلم أنّ المعتبر إنّما أداء الحروف، و أمّا الصفات فلا دليل على اعتبارها فضلا عن الأمور المحقّقة لها، بل لا يخفى أنّ التوغّل و الاستغراق في هذا القدر الذي ذكره الشهيد فضلا عن غيره ممّا اعتنى به أئمّة هذه الصناعة من صفات الحروف و غيرها يسلب الخشوع الذي هو المطلوب بالقراءة.

و لذا ورد الأمر في الكتاب و السنّة بالتدبّر فيها و التحقّق بحقائقها، و استجلاب الخشوع عندها على ما ستسمع تمام الكلام فيه إنشاء اللّه.

و أمّا ما ذكره المحقّق الثاني، بل الشهيد الثاني أيضا من أنّه لو ترك المدّ المتّصل تحقّق الإخلال بمثل الإخلال بحرف فهو على إطلاقه ممنوع، نعم قد سمعت أنّه لو توقّف عليه أداء الحرف وجب بلا فرق بين كون الموجب الهمزة أو الساكن في كلمة أو كلمتين، و ذلك لا لكونه مدّا، بل لتوقّف الحرف الساكن عليه، إذ الساكن الواقع بعد حرف المدّ لا بدّ من اعتماده على ما يتوصّل به إلى النطق به، و ذلك في أمثال المقام امتداد حرف المدّ لفقد الحركة السابقة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 428

و من هنا يظهر أنّه يمكن القول باستحباب المدّ عند السكون العارض كما في «الرّحيم» و «نستعين» حيث يتوقّف الإفصاح عن حرفي المدّ و الساكن عليه، بل يمكن الاستدلال له بما ورد في المعتبرة من الأمر بإفصاح الألف و الهاء في

التهليل من الأذان كما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام.

و

عنه عليه السّلام: الأذان جزم بإفصاح الألف و الهاء» «1».

بل

عن «المنتهى» عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يؤذّن لكم من يدغم الهاء، قيل:

و كيف يقول؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: يقول: أشهد أنّ لا إله إلّا اللّه «2».

و قد اختلفوا في تعيين الهاء الّتي نهينا عن إدغامها على وجوه لا داعي للتعرّض لها في المقام، إلّا أنّ الظاهر أنّ المراد الهاء الأخيرة، و لو بقرينة ما في الخبر المتقدّم، و غيره من الأمر بالجزم أى الوقف على فصول الأذان مع إفصاح الألف و الهاء، فالمراد بالإدغام المنهيّ عنه ترك المدّ بحيث يؤدّي الى إخفاء الهاء.

و لعلّ ما ذكرناه في معنى الخبر أولى ممّا ذكره الحلّى «3»، و شيخنا البهائي، و العلّامة المجلسي عطّر اللّه مراقدهم، فلاحظ.

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 150.

(2) بحار الأنوار ج 84 ص 159.

(3) قال ابن إدريس الحلي على ما حكى في البحار: المراد بالهاء هاء (إله) لا هاء (أشهد) و لا هاء (اللّه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 429

في مراعاة التشديد

يجب مراعاة التّشديد الذي منه التلفّظ بالحرفين، فإنّ الحرف المشدّد أقيم مقامهما، و الإخلال به بكلّ من التّخفيف و الفكّ إخلال بالقراءة الموسوعة الّتى وقع التعبّد بقرائتها مع مخالفتهما الطريقة العرف و القواعد اللّغوية.

فما في «التذكرة» عن بعض الجمهور من جواز ترك الشدّة لعدم ثبوتها في المصحف ضعيف جدّا كدليله، فإنّه في الحقيقة إخلال بالحرف، و بالكيفيّة المعتبرة، و لذا نفى غير واحد منّا الخلاف في عدم الإجزاء مع الإخلال به الشامل للوجهين معا، بل للثالث الذي هو التحريك بعد الفكّ.

قال في «كشف اللّثام»: و فكّ الإدغام من

ترك الموالاة إن تشابه الحرفان، و إلّا فهو إبدال حرف بغيره، و على التقديرين من ترك التشديد، نعم، لا بأس به بين كلمتين إذا وقف على الأوّل نحو لَمْ يَكُنْ لَهُ

و مفهومه كما ترى ثبوت البأس بالفكّ عند الوصل، و تنقيح البحث يستدعى بسط الكلام في أقسام التشديد و الإدغام مع التعرّض لما له من الأحكام.

فنقول: إنّ التشديد على ما صرّح به بعضهم، و يستفاد من كلام آخرين على وجوه ستّة:

أحدها: التشديد الأصلى «كتوّاب» و «أوّاب» و «وهّاب» و نحوها، و هذا لا خلاف و لا إشكال في وجوبه، و عدم الاجتزاء بالتخفيف و بالفكّ الذي لعلّه لا يحصل إلّا بالسكت بين الواوين لما عرفت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 430

ثانيها: التشديد البدلى الحاصل من إدغام لام التعريف في الحروف الشمسيّة «كالرّحمن» و «الرّحيم».

و ذلك لأنّهم قسّموا الحروف إلى شمسيّة تدغم فيها اللّام، و قمريّة تظهر عندها، و كلّ منهما أربعة عشر حرفا، فالقمريّة هي حروف قولك: «ابغ حجك و خف عقيمه» و الشمسيّة ما سواها، و التسمية باعتبار لفظة الشمس و القمر، تسمية للكلّ بملاحظة الجزء.

و لا يهمّنا البحث في أنّ سبب الإدغام في المقام هل هو قرب المخرج، أو غيره بعد استقرار طريقة أهل اللّسان عليه بلا خلاف و لا إشكال فيه من أحد، و إن تضمّن إبدالا من الحرف الأصلي الذي هو اللام فالإخلال به بفكّ الإدغام، أو بترك الإبدال إخلال بالقرائة المعهودة الموظّفة.

و توهّم جواز موافقة الخطّ الذي يوافقه الأصل أيضا مدفوع بما سمعت.

و أمّا إبقاء الخطّ على الأصل فربّما علّلوه بكون اللام من كلمة، و الحرف المدغم فيه من كلمة أخرى، و بالأمن عن اللبس في المنكّر المدخول لهمزة الاستفهام،

و الخطب فيه سهل.

ثالثها: التشديد اللّازم، و هو الذي في الأدوات مثل «لمّا» و «أمّا» و «ثمّ» و «حتّى» و «كلّا» و نحوها، و هو في الوجوب و عدم الاجتزاء مع الإخلال به كالسابقين.

رابعها: تشديد الغنّة، و كأنّه تغليب في التسمية، حيث إنّهم عبّروا به عن الإدغام في حروف «يرملون» مع وضوح انتفاء الغنّة في اللام و الراء، و قد اتّفقت كلمة القرّاء على إدغام النون الساكنة و التنوين في هذه الحروف و صرّح في شرح «طيبة النشر»، و «إبراز المعاني» بالإجماع، بل في «الشاطبية» أيضا حيث قال:

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 431 و كلّهم التنوين و النون أدغموابلا غنّة في اللام و الراء ليجملا

و كل بينمو أدغموا مع غنّةو في الواو و اليا دونها خلف تلا «1»

و هو المحكيّ عن «التيسير» و «سراج القاري»، و غيرهما أيضا.

بل في «إبراز المعاني»: التّصريح بأنّ الإدغام في حروف «يرملون» الستّة، و الإظهار في حروف الحلق الستّة، و القلب عند الباء، و الإخفاء في البواقي هي الوجوه الّتي لها في اللّغة، بل قد استفاد من الشاطبيّة أيضا، و إن كانت استفادته لا تخلو من نظر فلاحظ.

و أمّا الفقهاء: فقد سمعت أنّ مفهوم كلام كاشف اللثام وجوبه، و هو الظاهر من الشهيد في «البيان» و «الألفيّة» و ثانى المحققين و الشهيدين، و غيرهم ممن صرّح بوجوب الإدغام الصغير، حيث إنّ غير واحد منهم صرّحوا بكون المقام منه و إن افردوه بالبحث لاختصاصه ببعض الأحكام.

و في «إصلاح العمل» أنّه صرّح جماعة بوجوب الإدغام الصغير، و لكنّه أحوط، قال: و فسّره بعض بإدغام التنوين و النون الساكنة في أحد حروف «يرملون»، و على كلّ حال ففي وجوبه إشكال:

من الأصل،

و جواز القراءة بالمرسوم، و عدم الإشعار بوجوبه في شي ء من كلمات قدماء الأصحاب، فضلا من الأخبار.

و من ظهور إجماع المتأخرين عليه، فإنّهم بين مصرّح به و ساكت عنه، مقرّر له مع ظهور إيكالهم كيفيّة القرائة على الرّجوع الى علماء هذا الفنّ، و الكتب المصنّفة فيه، بل و لعلّه السرّ أيضا في عدم تعرّض القدماء و لغيره ممّا لا تأمّل في وجوبه، كإخراج الحروف من مخارجها، و مراعاة التشديد، و غيره.

______________________________

(1) حرز الأمانى المعروف بالشاطبية ص 24 باب احكام النون الساكنة و التنوين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 432

هذا مضافا الى أنّ كثيرا من موارد هذا الإدغام يرجع الى رسم الخطّ الّذى لا يجوز تغييره مثل عَمَّ يَتَساءَلُونَ «1» و مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ «2»، و عَمَّا يَعْمَلُونَ و نحوها.

و إلى ما سمعت عن «شرح الشاطبية» من أنّ هذا الإدغام من مقتضى اللّغة، و اتفاق القرّاء السبعة، و غيرهم على لزوم مراعاته، و لا ريب في وجوب إتّباع قراءتهم، إمّا للتواتر كما عليه جماعة، أو لوقوع التعبّد لنا من الائمة عليهم السّلام كما يستفاد من الأخبار، إلّا أنّ الأظهر مع كلّ ذلك عدم الوجوب، لمنع الإجماع، بل الاتّفاق أيضا، و كيف يحصل لنا العلم بفتوى الإمام عليه السّلام من مجرّد فتوى بعض المتأخرين، و لذا لم يدّعه عليه أحد منهم.

مع أنّه من المحتمل قويّا أنّهم أرادوا بالوجوب غير المعنى المصطلح، حسبما سمعت في الوقف، بل قد سمعت أيضا أنّه قد تبعه فيه بعض المتأخرين.

و أمّا ما مرّ من إيكالهم كيفية القراءة على علماء الفنّ ... إلخ ففيه ما لا يخفى، مع إشعار كثير منهم تصريحا أو تلويحا بالقدر الواجب الراجع الى مادّة الكلمة و هيئتها الظاهر في نفى

أمر زائد، بل هو صريح بعضهم أيضا.

قال في «مجمع الفائدة»: و أمّا باقي الصفات في الحروف من الترقيق، و التفخيم، و الغنّة، و الإظهار، و الإخفاء فالظاهر عدم الوجوب، بل عدم الاستحباب، لعدم الدليل شرعا، و صدق القرائة بدونها لغة و عرفا، و إن كان عند القرّاء واجبا.

و نفى البأس في «كشف الغطاء» عن فكّ المدغم من كلمتين.

______________________________

(1) النبأ: 1.

(2) نوح: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 433

و أمّا إدراج الإدغام في الرسم في بعض المواضع فمع معارضته بالعدم في الأكثر مدفوع بعدم العبرة بالرسم المتعارف الذي لا شكّ في اختلافه بحسب الأعصار، بل لا ريب في استناده أوّلا الى المصاحف العثمانيّة، التي خولف فيها طريقة العرف مع أنّه وقع كثيرا مخالفة الرسم في المعرّف باللام و غيره.

و أمّا نسبته إلى اللغة فمع عدم ثبوتها لعلّ المراد مجرّد الجواز لا اللزوم، بل لعلّه الظاهر.

و أمّا اتّفاق القرّاء عليه فمع الغضّ عن احتمال ارادة غير المصطلح من الوجوب، لا ريب في أنّه إنّما يلزم متابعتهم في موادّ الحروف، لا في هذه التصرفات التي ربّما يؤدّي إلى تغيير موادّ الأصول، و لذا لم يقل أحد بوجوب الإدغام الكبير، بل الظاهر من أكثر الأصحاب إختيار تركه لزوما أو احتياطا.

نعم يمكن دعوى القطع من جميع ما مرّ، و غيره بالجواز، بل لعلّ عليه إجماع الفقهاء أيضا، فقضيّة الاحتياط في المقام مراعاته لارتباط المشكوك فيه بالمأمور به، سيّما إذا وجبت القرائة الصلاة أو نذر، أو استيجار، أو غيرها.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ معقد الإجماعات المحكيّة، بل و دعوى قضاء العرف و اللّغة هو كلّ من الأمور الأربعة، أعنى الإدغام في حروف «يرملون»، و الإظهار في حروف الحلق، و القلب في الباء،

و الإخفاء في البواقي.

أمّا الإدغام فهو بلا غنّة في اللام و الراء، و مع الغنّة في حروف «ينمو» الأربعة، إلّا عن خلف (بن هشام المتوفّى 229) في الواو و الياء للقرب القريب في الأوّلين الموجب لتمحض الإدغام دون الأربعة الأخيرة فلم يذهب بغنّتها، بل حكى في «شرح الشاطبية» عن بعضهم أنّه في الواو و الياء إخفاء لا إدغام، و إنّما يقولون له إدغام مجازا، و إلّا فهو إخفاء على مذهب القائلين ببقاء الغنّة، لأنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 434

ظهورها يمنع من تمحّض الإدغام الّا أنّه لا بدّ من تشديد يسير فيهما.

قال: و هو قول الأكابر حيث قالوا: الإخفاء ما بقيت معه الغنّة.

و أمّا عند النون و الميم فهو إدغام محض، لأنّ في كلّ واحد من المدغم و المدغم فيه غنّة، فاذا ذهبت إحداهما بالإدغام بقيت الاخرى.

نعم هو على مذهب خلف في اللام و الراء إدغام محض، و لذا اختار ترك الغنّة فيهما، بل هو المحكّي عن الكسائي أيضا في احدى الحكايتين.

و في «إبراز المعاني»: أنّ في اللغة حذف الغنّة و ابقاؤها جائز عند الحروف الستّة، ثمّ إنّهم أطبقوا على وجوب إظهارها في نحو «الدنيا» و «بنيان» و «قنوان» و «صنوان»، حذرا من الاشتباه بالمضاعف نحو حيّان، و بوّان، و من اجتماع ثلاث من حروف العلّة في كلمة واحدة.

كما أنّهم أطبقوا على الإظهار في حروف الحلق، و قلب النونين ميما عند الباء في كلمة أو كلمتين مع إظهار الغنّة على الأشهر منهم، و على الإخفاء في البواقي مع بقاء غنّتهما، لأنّها لم يستحكم فيها البعد و لا القرب عنهما، فلمّا توسّطت أعطيت حكما وسطا بين الإظهار و الإدغام و هو الإخفاء بلا فرق بين كونها

في كلمة أو كلمتين.

خامسها: تشديد المدغم بالإدغام الصغير الذي يكون فيه أوّل الحرفين ساكنا، و سمّى لاختصاصه ببعض الحروف، و عدم تاثيره في إسكان المتحرّك قبل ادغامه دون الكبير الذي هو إدراج المتحرّك بعد إسكانه في المتحرّك.

ثمّ الإدغام الصغير ينقسم الى واجب، و ممتنع، و جائز.

فالواجب ما أوجبه أئمّة الصرف بشروطه الأحد عشر المذكورة في موضعه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 435

و الممتنع هو بعض موارد اختلال الشروط حسبما أشاروا اليه.

و الجائز ما تصدّى لذكره أئمّة القرّاء و ينقسم الى ثلاثة أقسام:

الأوّل: إدغام حرف من كلمة عند حروف متعدّدة من كلمات.

كادغام الذال المعجمة في كلمة (إذ) في الصاد، نحو وَ إِذْ صَرَفْنا «1»، و السين، نحو إِذْ سَمِعْتُمُوهُ «2»، و الزاى، نحو وَ إِذْ زَيَّنَ «3»، و التاء نحو إِذْ تَبَرَّأَ «4»، و الدال، نحو إِذْ دَخَلُوا «5»، و الجيم، نحو إِذْ جَعَلَ «6».

و كادغام الدال المهملة من كلمة (قد) في ثمانية أحرف: الجيم، و الصاد، و السين، و الزاى، و الذال، و الضاد، و الشين، و الظاء، نحو قَدْ جَعَلَ «7»، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ «8».

قَدْ سَلَفَ «9»، وَ لَقَدْ زَيَّنَّا «10» وَ لَقَدْ ذَرَأْنا «11» قَدْ ضَلُّوا «12»،

______________________________

(1) الأحقاف: 29.

(2) النور: 12.

(3) الأنفال: 48.

(4) البقرة: 166.

(5) الحجر: 52.

(6) المائدة: 20.

(7) مريم: 24.

(8) الفتح: 27.

(9) النساء: 22 و 23- الأنفال: 38.

(10) الملك: 5.

(11) الأعراف: 179.

(12) النساء: 167- المائدة: 77.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 436

قَدْ شَغَفَها «1»، لَقَدْ ظَلَمَكَ «2».

و إدغام تاء التأنيث في ستّة: الجيم، و الظاء، و الثاء، و الصاد، و السين، و الزاى، نحو نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ «3» و حَمَلَتْ ظُهُورُهُما «4»، كَذَّبَتْ ثَمُودُ «5»، لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ «6»، أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «7»، خَبَتْ زِدْناهُمْ «8».

و إدغام

اللام من كلمتي (بل) و (هل) في ثمانية: التاء، و الثاء و السين، و الزاى، و الطاء، و الظاء، و النون، و الضاد.

نحو بَلْ تَأْتِيهِمْ «9»، هَلْ ثُوِّبَ «10» بَلْ سَوَّلَتْ «11»، بَلْ زَعَمْتُمْ «12»، بَلْ طَبَعَ «13» بَلْ ظَنَنْتُمْ «14»، بَلْ نَقْذِفُ «15»، بَلْ نَحْنُ «16»

______________________________

(1) يوسف: 30.

(2) ص: 24.

(3) النساء: 56.

(4) الانعام: 146.

(5) القمر: 23- الحاقّة: 4.

(6) الحجّ: 40.

(7) التوبة: 86- 124- 127.

(8) الإسراء: 97.

(9) الأنبياء: 40.

(10) المطفّفين: 36.

(11) يوسف: 18- 83.

(12) الكهف: 48.

(13) النساء: 155.

(14) الفتح: 12.

(15) الأنبياء: 18.

(16) الحجر: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 437

بَلْ ضَلُّوا «1».

و لا يخفى أنّ هذه المواضع المذكورة، و غيرها من الموارد التي لم نتعرّض لها كلّها مما وقع فيه الخلاف عندهم.

نعم ممّا أجمعوا عليه إدغام ذال كلمة (إذ) في نحو إِذْ ذَهَبَ «2» و إِذْ ظَلَمْتُمْ «3».

و إدغام كلمة (قد) في قَدْ دَخَلُوا «4» و قَدْ تَعْلَمُونَ «5».

و إدغام تاء التأنيث في فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «6»، أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما «7»، فَآمَنَتْ طائِفَةٌ «8».

و إدغام لام كلمة (هل) و (بل) في هَلْ لَنا، و في بَلْ لا تُكْرِمُونَ «9»، «هل رأيتم»، بَلْ رانَ «10».

و إدغام لام كلمة (قل) في قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ «11».

بل قال الشاطبيّ تعميما للحكم:

______________________________

(1) الأحقاف: 28.

(2) الأنبياء: 87.

(3) الزخرف: 39.

(4) المائدة: 61.

(5) الصفّ: 5.

(6) البقرة: 16.

(7) يونس: 89.

(8) الصفّ: 14.

(9) الفجر: 17.

(10) المطففين: 14.

(11) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 438 و ما أوّل المثلين فيه مسكّن فلا بدّ من إدغامه متمثلا «1»

و في شرحه المسمّى «إبراز المعاني»: كلّ مثلين التقيا، و أوّلهما ساكن فواجب إدغامه في الثاني لغة، و قراءة، سواء كان ذلك في كلمة، نحو يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ «2»، يُوَجِّهْهُ «3»، أو في

كلمتين نحو فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ «4».

و لا يخرج من هذا العموم إلّا حرف المدّ، نحو قالُوا وَ أَقْبَلُوا «5»، فِي يَوْمَيْنِ «6»، فإنّه يمدّ عند القرّاء و لا يدغم.

بل قد ادّعى عليه الإجماع جماعة منهم أبو على الأهوازى قال: المثلان إذا اجتمعا، و كانا واوين قبل الاولى منهما ضمّة، أو ياءين قبل الاولى منهما كسرة فإنّهم أجمعوا على أنّهما يمدّان قليلا، و يظهران بلا تشديد و لا إفراط، مثل آمَنُوا وَ عَمِلُوا «7»، فِي يُوسُفَ «8» فِي يَتامَى «9».

قال: و على هذا وجدت أئمّة القرائة في كلّ الأمصار، و لا يجوز غير ذلك، فمن خالف هذا فقد غلط في الرواية، و أخطأ في الدراية.

قال: و أمّا الواو و إذا انفتح ما قبلها و أتى بعدها واو من كلمة أخرى فإنّ عدم

______________________________

(1) حرز الأمانى المعروف بالشاطبية ص 23.

(2) النساء: 78.

(3) النحل: 76.

(4) البقرة: 60.

(5) يوسف: 71.

(6) البقرة: 203.

(7) البقرة: 25.

(8) يوسف: 7.

(9) النساء: 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 439

إدغامها حينئذ إجماعيّ مثل عَصَوْا وَ كانُوا «1» آوَوْا وَ نَصَرُوا «2»، ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا «3» و نحو ذلك.

و ذكر أنّ بعض شيوخنا خالف في هذا.

و أمّا في مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ «4»، فقد اختلفوا فيه، و المختار عندهم الوقف.

و أمّا إذا كان الحرفان في كلمة واحدة مختلفتين، إلّا أنّهما من مخرج واحد، نحو حَصَدْتُمْ «5» وَ إِنْ عُدْتُمْ «6» أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ «7» و إِنْ طَرَدْتُهُمْ «8»، فالمحكيّ عن بعضهم وجوب الإدغام أيضا لكونهما من مخرج واحد في كلمة واحدة.

الثاني من أقسام الإدغام الصغير الجائز: هو إدغام حروف آخر غير ما ذكر من الّتى قربت مخارجها:

كإدغام الباء في خمسة مواضع: أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ «9»

______________________________

(1) البقرة:

61.

(2) الأنفال: 72.

(3) المائدة: 93.

(4) الحاقة: 29.

(5) يوسف: 47.

(6) الإسراء: 8.

(7) المرسلات: 20.

(8) هود: 30.

(9) النساء: 74.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 440

تفسير الصراط المستقيم ج 2 479

إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ «1»، وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ «2» اذْهَبْ فَمَنْ «3» فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ «4».

و لبعضهم خلاف في وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ «5».

و كإدغام اللام المجزومة في الذال المعجمة في قوله: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ في ستّة مواضع في القرآن «6»، بخلاف غير المجزومة نحو فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ «7».

و إدغام الفاء المجزومة في الباء نحو نَخْسِفْ بِهِمُ «8».

و إدغام الذال المعجمة في التاء في قوله: عُذْتُ «9» فَنَبَذْتُها «10».

و إدغام الراء في اللّام، نحو فَاصْبِرْ لِحُكْمِ «11» أَنِ اشْكُرْ لِي «12» يَغْفِرْ لَكُمْ «13».

______________________________

(1) الرعد: 5.

(2) الحجرات: 11.

(3) الإسراء: 63.

(4) طه: 97.

(5) الحجرات: 11.

(6) البقرة: 231- آل عمران: 28.

(7) البقرة: 85.

(8) سبأ: 9.

(9) غافر: 27- الدخان: 20.

(10) طه: 96.

(11) الطّم: 48- الطور: 48.

(12) لقمان: 14.

(13) آل عمران: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 441

و إدغام الدال المهملة في الثاء المثلّثة نحو وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا «1».

الثالث من الأقسام: هو إدغام النون الساكنة و التنوين في الستّة المتقدّمة، بل الميم الساكنة أيضا، حيث ذكروا أنّ حكمها الإدغام في مثلها نحو كَمْ مِنْ فِئَةٍ «2».

و الإخفاء مع الغنّة في الباء الموحدة نحو ما هُمْ بِضارِّينَ «3» و إن يحكى فيها الإدغام من بعضهم، و الإظهار عن بعض آخر، سيّما في الواو و الفاء.

ثمّ إنّ الأقسام الثلاثة و إن اشتركت في كونها من الإدغام الصغير الذي أفتى غير واحد من أصحابنا بوجوبه، بل عن «فوائد الشرائع»: لا نعرف فيه خلافا إلّا أنّه لا يخفى على من

اطّلع على كثرة الخلاف الواقع في كثير منها أنّه ينبغي التأمّل في جوازه بإطلاقه فضلا عن وجوبه، نظرا إلى أنّه إخلال بالحروف و إبدال لها بغير من الكلمات الموضوعة، و جوازه غير معلوم.

نعم ما علم اتّفاقهم عليه لا يبعد جوازه، بل رجحانه، دون وجوبه حسبما سمعت في القسم الرابع.

سادسها: الإدغام الكبير الّذى قد سمعت تعريفه و تسميته في سابقه، و لا أعرف أحدا قال بوجوبه، و إنّما الكلام في جوازه في كلّ من المثلين، و المتجانسين، و المتقاربين.

و المشهور عندهم أنّه مخصوص بقرائة أبى عمرو بن العلاء البصري (المتوفّى 154) من طريق السوسي (صالح بن زياد المتوفى 261) و عن عاصم الذي على قراءته سواد مصاحفنا الإدغام في خصوص كلمتين.

______________________________

(1) آل عمران: 145.

(2) البقرة: 249.

(3) البقرة: 102.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 442

و هما: ما مَكَّنِّي «1»، و لا تَأْمَنَّا «2»، مع روم، أو إشمام في الأخير عن الجميع إلّا عن أبي جعفر (يزيد بن القعقاع المدني المتوفى 132) و إن أخلّ أحدهما أو كلاهما بتمام الإدغام.

و شرط الإدغام الكبير عندهم أن يتحرّك الحرفان، فإن سكن الأوّل أدغم للجميع مثل إِذْ ذَهَبَ «3» قَدْ دَخَلُوا «4»، و قد مرّ.

و إن سكن الثاني فلا إدغام للجميع نحو إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها «5» كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ «6».

و أمّا إن تحرّكا فلا فرق بين كونهما في كلمة نحو ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ «7» و مَناسِكَكُمْ «8» و يَرْزُقُكُمْ «9» و نحوه من المتماثلين و المتجانسين، فإنّ المثلين منحصرة في المثالين، أو في كلمتين، و هو عامّ كثير بالنسبة الى أكثر الحروف، و قد تصدّوا لذكر موارده في القرآن على سبيل الكلّية، و منهم من رتّبه على ترتيب السور، و منهم

من حذفه رأسا.

و حكى الشهيد في «شرح النفليّة» عن أكثر القرّاء أنّهم تركوه، و عن أبى عبيد القاسم ابن سلّام (المتوفى 224) أنّه لم يذكره في مصنّفاته لكراهته له، و أنّه

______________________________

(1) الكهف: 95.

(2) يوسف: 11.

(3) الأنبياء: 87.

(4) المائدة: 61.

(5) المائدة: 58.

(6) العنكبوت: 41.

(7) المدّثر: 42.

(8) البقرة: 200.

(9) يونس: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 443

قال في بعض كتبه: القرائة عندنا هي الإظهار، لكراهتنا الإدغام إذا كان تركه ممكنا.

و جعل تركه في «النفلية أفضل، و علّله في «شرحه» بأنّ التفكيك أفصح، و أكثر حروفا، فيكثر معه ثواب القرائة، و لأنّ فيه إيتاء كلّ حرف حقّه من إعرابه، أو حركته الّتى يستحقّها، و الإدغام يلبس على كثير من النّاس وجه الإعراب، و يوهم من المقصود من المعنى في قوله: يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ «1» الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2».

و على كلّ حال فالأقرب عدم جواز القرائة به لاستلزامه تغيير كيفيّة الحروف بالإسكان و مادّته بالإبدال.

و أمّا ما في «الجواهر» من التوقّف في جوازه لو لا الإجماع المدّعى على القرائة بالسّبع أو العشر.

ففيه أنّ التوقف في موضعه، و الإجماع على فرض تسليمه إنّما هو في غير هذه الكيفيات الخارجة عن موادّ الكلمات.

فهو في الحقيقة تصرّف في الكلمات القرآنيّة بغير حجّة شرعيّة.

و أمّا ما في بعض كتب هذا الفنّ من الاستشهاد لهذا الإدغام ببعض أشعار العرب فمع الغضّ عن عدم ثبوت مثله لا ريب أنّه ربما دعتهم الضرورة فيه إلى تسكين المتحرّك و تحريك الساكن من غير الاقتصار في ذلك الى مواضع الإدغام، و لذا يغتفر ما لا يغتفر في غيره، بل قد اشتهر عندهم الاعتذار بضرورة الشعر، و إن أجيب بأنّه لا ضرورة في الشعر.

______________________________

(1) النمل: 40- لقمان: 12.

(2) الحشر:

24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 444

و بالجملة فلا دليل على جوازه في المثلين، مثل الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «1»، فضلا عن المتقاربين و المتجانسين نحو يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «2» قَدْ سَمِعَ اللَّهُ «3» قَدْ شَغَفَها حُبًّا «4» قَدْ جاءَكُمْ «5».

إذ فيها الإبدال، مضافا الى ترك الإعراب و الإدغام الذي هو تغيير في الهيئة.

فعدم الجواز في الأوّل من وجهين، و في الأخيرين من وجوه ثلاثة.

و لذا، أو لكثرته سمّى كبيرا، حسبما سمعت.

ثمّ إنّ الأمر في الأوّل واضح.

و قد ذكروا في ضبط الأخيرين: أنّ الحرفين إن اتفقا في المخرج و اختلفا في الصفة أو بالعكس كانا متقاربين، و إن اتفقا فيهما فمتجانسان، أو اختلفا فيهما فمتباينان.

و عن الأكثر تعريف المتماثلين بالمتفقين في المخرج و الصفة كاللامين و الدالّين، و المتجانسين بالمتفقين في المخرج دون الصفة، كاللام و الراء، و المتقاربين بالمتفقين في أحدها، أو خصوص الثاني، و الخطب عندنا سهل بعد عدم الاعتبار بالأصل.

______________________________

(1) الفاتحة: 3- 4.

(2) البقرة: 284.

(3) المجادلة: 1.

(4) يوسف: 30.

(5) آل عمران: 183.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 445

الفصل الثالث

في الوظائف الباطنية لقارئ القرآن لا بدّ لقارئ القرآن من مراعاة الوظائف الباطنيّة و ملازمتها، و الاستمرار عليها كما وجبت عليه رعاية الوظائف الظاهريّة الّتى مرّت الإشارة إليها، حيث إنّ من الواضح أنّه ليس المقصود من التلاوة مجرّد التلفّظ بالكلمات و الآيات، و لو مع حفظ الحدود الظاهرة.

بل

ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ربّ تال للقرآن و القرآن يلعنه» «1».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله عند نزول بعض الآيات: «ويل لمن لاكها بين لحيتيه و لم يتدبّرها» «2».

و

في «الكافي» و «الأمالى» و «الخصال» عن مولانا ابى جعفر عليه السّلام قال: «قرّاء القرآن ثلاثة:

رجل قرأ القرآن فاتّخذه بضاعة، و استدرّ به الملوك و استطال به على النّاس.

و رجل قرأ القرآن فحفظ حروفه، و ضيّع حدوده، و أقامه إقامة القدح، فلا

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 184 عن جامع الأخبار ص 56.

(2) مجمع البيان ج 2 ص 554 و فيه فويل لمن لاكها بين فكيّه و لم يتأمّل ما فيها. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 446

كثّر اللّه هؤلاء من حملة القرآن.

و رجل قرأ القرآن، فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله، و أظمأ به نهاره، و قام به في مساجده، و تجافى به عن فراشه، فبأولئك يدفع اللّه البلاء، و بأولئك يديل اللّه من الأعداء، و بأولئك ينزل اللّه الغيث من السماء، فو اللّه لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر «1».

و

في «الخصال» عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قرّاء القرآن ثلاثة: قارئ للقرآن ليستدرّ به الملوك، و يستطيل به على النّاس، فذلك من أهل النار.

و قارئ قرأ القرآن فحفظ حروفه، و ضيّع حدوده، فذلك من أهل النار.

و قارئ قرأ القرآن فاستتر به تحت برنسه، فهو يعمل بمحكمه، و يؤمن بمتشابهه، و يقيم فرائضه، و يحلّ حلاله، و يحرّم حرامه، فهذا ممّن ينقذه اللّه تعالى من مضلّات الفتن، و هو من أهل الجنّة، و يشفع فيمن يشاء «2».

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة الّتى ستسمع كثيرا منها إنشاء اللّه في الشروط و الوظائف الباطنيّة.

منها: التخلّي عن الشواغل القالبية و القلبيّة،

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما في «مصباح الشريعة»: «من قرأ القرآن و لم يخضع له، و لم يرقّ قلبه، و لم ينشئ حزنا و وجلا في سرّه فقد استهان بعظم شأن اللّه و خسر

خسرانا مبينا، فقارى القرآن يحتاج الى ثلاثة أشياء: قلب خاشع، و بدن فارغ، و موضع خال، فاذا خشع للّه قلبه فرّ عنه الشيطان الرجيم قال اللّه تعالى:

______________________________

(1) أصول الكافي ص 605- الأمالى ص 122- الخصال ج 1 ص 69.

(2) الخصال ج 1 ص 70. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 447

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «1» و إذا تفرّغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه لقراءة القرآن، فلا يعترضه عارض فيحرمه نور القرآن، و إذا اتخذ مجلسا خاليا، و اعتزل عن الخلق بعد أن أتى بالخصلتين الأوليين استأذن روحه و سرّه باللّه، و وجد حلاوة مخاطبات اللّه تعالى عباده الصالحين، و علم لطفه بهم، و مقام اختصاصه لهم بفنون كراماته، و بدايع إشاراته، فاذا شرب كأسا من هذا المشرب، فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا، و لا على ذلك الوقت وقتا، بل يؤثره على كلّ طاعة و عبادة، لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة، فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك، و منشور ولايتك، و كيف تجيب أوامره و نواهيه، و كيف تمثّل حدوده، فإنّه كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فرتّله ترتيلا، وقف عند وعده و وعيده، و تفكّر في أمثاله و مواعظه، و احذر أن تقع من إقامة حروفه في إضاعة حدود «2».

اعلم أنّ المقصود الأصلى من الذكر، و الدعاء، و التلاوة، و نحوه إنّما هو التجنّب عن مهاوي الغفلة، و الجهالة، و التخلّص عن فيافى بيداء الضلالة، و التحقّق بحقيقة العبوديّة للحقّ المعبود، و الاستغراق في بحار الأنوار الشهود، و التمكّن على بساط حريم حرم القدس، و استشمام نفحات مواهب الأنس،

و كشف سبحات الجلال، لإشراق أنوار تجليّات الجمال، و ذوق لذّة المناجاة الّتى هي لذائذ ثمار جنّات الوصال.

و هذا كلّه لا يحصل ما لم يحصل الطهارة الكليّة عن أرجاس الشواغل القلبيّة و البدنيّة، فكما أنّ من ليس له الطهارة البدنية يحرم عليه مسّ ظاهر خطّ

______________________________

(1) النحل: 98.

(2) مصباح الشريعة، الباب الرابع عشر- المحجّة البيضاء ج 2 ص 249.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 448

المصحف بظاهر بدنه، كذلك من ليس له الطهارة القلبيّة عن الأفكار الرديّة النفسانيّة، و الأخلاق الرذيلة الشيطانيّة محروم عن إدراك حقايق القرآن، و الصعود في مدارج مراتب الإيمان.

فالحرمة في الأول تشريعيّة، و في الثاني تكوينيّة، كما أنّ الاستعاذة المندوب إليها عند القرائة قوليّة و فعليّة، بل النافع منها هي الثانية.

كما لوّح إليه الإمام عليه السّلام

في قوله: «فاذا خشع للّه قلبه فرّ منه الشّيطان الرجيم»

مستشهدا بالآية الشريفة.

بل

ورد في النبوي: «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا إلى الملكوت» «1».

و من البيّن أنّ التدبّر في معاني القرآن و أسراره إنّما هو من الملكوت التي لا تدرك إلّا بالإدراكات القلبيّة الّتى هي من عالم النور، فلا يدركها مدارك المحجوبين المنغسمين في غواسق عالم الغرور، فإنّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب الّتى في الصدور.

و لذا جعل بالجعل التكويني الثانوى بمقتضى الفطرة المغيّرة الشيطانيّة بسوء اختيارهم في قلوبهم أكنّة أن يفقهوه، و في آذانهم وقرا، وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «2».

و هو الحجاب المشار إليه بقوله:

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 70 ص 59 ح 39 عن أسرار الصلاة.

(2) فصلت: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 449

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا

بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «1».

و هذا الحجاب و هو حجاب الكفر أوّل الحجب و أعظمها، و أشدّها على أهله، و أبعدها من قبول الحقّ و استماع الصدق.

و ثانى الحجب: حجاب الفسق و الخروج عن الطاعة باقتراف كبيرة، أو بالإصرار على صغيرة، أو بالتخلّق بشي ء من الأخلاق الرديّة المهلكة كالكبر، و العجب، و الرياء، و غيرها ممّا يجمعها متابعة الأهواء التي قد ورد أنّها الشرك الخفي.

بل

في النبوي: «أبغض إله في الأرض الهوى».

و هذا كلّه مما يوجب ظلمة القلوب و كدورتها و زيفها، و صداها، كالمرآة الصافية إذا تراكمت عليها الغبار، و حجبها عن إشراق الأنوار.

و لذا شرط اللّه تعالى الإنابة في الفهم و التذكّر، قال تعالى: وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ «2» و قال تعالى: تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ «3» و قال تعالى:

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «4».

و من البيّن أنّ الذي آثر غرور الدنيا العاجلة الفانية الداثرة على الفوز بالتقرّب إلى اللّه، و نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب، و لذا يتراكم على مرآة قلبه أغطية القسورة و الارتياب، و لا ينكشف له أسرار الكتاب، لأنّ بينه و بين

______________________________

(1) الإسراء: 45.

(2) غافر: 13.

(3) ق: 8.

(4) الرعد: 19- الزمر: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 450

فهمها حجابا و أىّ حجاب، بل ربما تورث ذلك للقلب الانطباع و الانقلاب.

فقد ورد عن مولانا الباقر عليه السّلام: «ما من شي ء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى يقلب عليه فيصير أعلاه أسفله» «1».

و

قال الصادق عليه السّلام: «يقول اللّه تعالى: إنّ أدنى ما أصنع بالعبد إذا أثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي».

و

عن النبي صلّى اللّه

عليه و آله: «إذا عظّمت أمّتي الدينار و الدرهم نزع عنها هيبة الإسلام، و إذا تركوا الأمر بالمعروف حرموا بركة الوحي».

ثالثها: الإشتغال بالملاهي و العادات و فضول العيش بل التكسّب، و غيرها من الأفعال المباحة الّتى توجب اشتغال القلب بها، و صرفه عن غيرها إذ ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «2»، فمن اشتغل بشي ء من المباحات، بل المندوبات، فضلا عن غيرها، صرفت إليها همّته، و اجتمع له قلبه، فمن أين يمكن له الإقبال و فراغ البال لفهم أسرار كلام ذي الجلال، و الاستيناس به في حريم حرم بساط الوصال.

و لذا

قال الإمام عليه السّلام في الخبر المتقدّم: «إنّه إذا تفرّغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه لقرائة القران» «3».

بل شرط مع ذلك خلوّ المجلس، و الاعتزال عن الخلق في حال القرائة، بل مطلقا، فإنّ من يستكثر من معاشرة الخلق و معاملتهم و محادئتهم لا بدّ أن يقع

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 70 ص 54 ح 22 عن الأمالي للصدوق ص 239.

(2) سورة الأحزاب: 4.

(3) مصباح الشريعة الباب الرابع عشر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 451

بينه و بينهم علائق و ارتباطات مختلفة متعلّقة بالأموال و الأحوال، و الأفعال، و الأقوال، فاذا خلى بنفسه ساعة ليستريح، ترائت له تلك الارتباطات، و حدثّت بها نفسه، و اشتغل بها قلبه، و أقبل على التفكّر فيها إقبال المحبّ للمحبوب، أو الكاره للمرهوب عنه، لاشتمال تلك الخطرات على الأمور المطلوبة الّتى تسرّه، أو الأفكار الرديّة الموحشة التي تسوؤه و تضرّه، مضافا إلى مالا مخلص له عنه من التفكّر في تدبير المعاشرات المستأنفة، و حفظ الارتباطات السّابقة في الأزمنة المستقبلة، بل ربما يصل به الحال الى أن لا يملك البال، بل لا

يزال الخيال في تحوّل و انتقال من شي ء الى شي ء فينتقل معه القلب من حال الى حال.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «إعراب القلوب على أربعة أنواع: رفع، و فتح، و خفض، و وقف، فرفع القلب في ذكر اللّه تعالى، و فتح القلب في الرضا عن اللّه تعالى، و خفض القلب في الاشتغال بغير اللّه، و وقف القلب في الغفلة عن اللّه تعالى، ألا ترى أنّ العبد إذا ذكر اللّه بالتعظيم خالصا ارتفع كلّ حجاب كان بينه و بين اللّه تعالى من قبل ذلك، و إذا انقاد القلب لمورد قضاء اللّه بشرط الرضا عنه كيف ينفتح القلب بالسرور و الراحة و الروح، و إذا اشتغل قلبه بشي ء من أسباب الدنيا كيف تجده منخفضا مظلما كبيت خراب ليس فيه عمران، و لا مؤنس، و إذا غفل عن ذكر اللّه كيف تراه بعد ذلك موقوفا محجوبا قد قسى و أظلم منذ فارق نور التعظيم.

فعلامة الرّفع ثلاثة أشياء: وجود الموافقة، و فقد المخالفة، و دوام الشوق.

و علامة الفتح ثلاثة أشياء: التوكّل، و الصدق، و اليقين.

و علامة الخفض ثلاثة أشياء: العجب، و الرّياء، و الحرص.

و علامة الوقف ثلاثة أشياء: زوال حلاوة الطاعة، و عدم مرادة المعصية،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 452

و التباس علم الحلال بالحرام «1».

و

قال عليه السّلام: من رعى قلبه عن الغفلة، و نفسه عن الشهوة و عقله عن الجهل فقد دخل في ديوان المتنبّهين، ثم من رعى عمله عن الهوى، و دينه عن البدعة، و ماله عن الحرام فهو في جملة الصالحين.

و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم و مسلم.

و هو علم الأنفس، فيجب أن يكون نفس المؤمن على كل

حال في شكر، أو عذر، على معنى إن قبل ففضل، و إن ردّ فعدل، و تطالع الحركات في الطاعات بالتوفيق، و يطالع السكون عن المعاصي بالعصمة، و قوام ذلك كلّه بالافتقار الى اللّه تعالى، و الاضطرار إليه، و الخشوع و الخضوع و مفتاحها الإنابة الى اللّه تعالى، مع قصر الأمل بدوام ذكر الموت، و عيان الوقوف بين يدي الجبّار، لأنّ في ذلك راحة من الحبس، و نجاة من العدوّ و سلامة للنفس، و سببا للإخلاص في الطّاعة بالتوفيق، و أصل ذلك أن يردّ العمر الى يوم واحد.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الدّنيا ساعة فاجعلها طاعة».

و باب ذلك كلّه ملازمة الخلوة بمداومة الفكرة، و سبب الخلوة القناعة، و ترك الفضول من المعاش، و سبب الفكرة الفراغ، و عماد الفراغ الزهد، و تمام الزهد التقوى، و باب التقوى الخشية و دليل الخشية التعظيم للّه، و التمسّك بخالص طاعته و أوامره، و الخوف و الحذر مع الوقوف عن محارمه، و دليلها العلم، قال اللّه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2». «3»

______________________________

(1) مصباح الشريعة ص 3.

(2) فاطر: 28.

(3) مصباح الشريعة ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 453

رابعها: حجاب الجهل بمعاني القرآن حتّى ترجمة ظاهر ألفاظه، لأنّ الجاهل. بمعاني القرآن، و الصلاة، و الدعاء، و الأذكار، و غيرها كالعجمى البحت الذي لا يعرف شيئا من ترجمة الألفاظ العربيّة التي ورد التوظيف بها، أولا يعرف كثيرا من لغاتها بل ربما يلحن في موادّ ألفاظها و هيئتها ليس له من الفضل و الثواب ما للعالم المطّلع على معانيها و مبانيها، و وجوب ظاهرها. و تنزيلها، كما أنّه ليس لهذا العالم من الأجر و الثواب ما للعالم المطّلع

بأنوار التنزيل، و أسرار التأويل، بل التفضيل بينهم على حسب مراتب العلم و درجات المعرفة، و لذا قال اللّه سبحانه: وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «4» و قال: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «5»، و قال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «6».

و

عن أبى جعفر عليه السّلام قال: ما استوى رجلان في حسب و دين قطّ إلّا كان أفضلهما عند اللّه عزّ و جلّ آدبهما، قال: قلت: جعلت فداك قد علمت فضله عند النّاس في النادي و المجالس، فما فضله عند اللّه عزّ و جلّ؟ قال عليه السّلام: بقراءة القرآن كما أنزل، و دعائه للّه عزّ و جلّ من حيث لا يلحن، و ذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد عند اللّه عزّ و جلّ «7».

و الأدب في الظاهر بمراعاة الحروف، و إعراب الألفاظ، و في الباطن بحفظ الحدود و نور الاستيقاظ كما يومئ إليه أيضا

قوله عليه السّلام: «كما انزل».

______________________________

(4) المجادلة: 11.

(5) سورة يوسف: 76.

(6) الزمر: 9.

(7) عدّة الداعي ص 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 454

اعلم أنّه ربما يتوهّم أنّ الجاهل بمعاني القران، و الأذكار، و الأدعية ليس له أجر و ثواب في ذلك، و هو واضح الفساد، بل مخالف لما هو الضروري من ثبوت الوظائف الشرعيّة الواجبة و المندوبة لعامّة المكلّفين، و حصول الإجزاء بمجرّد امتثال الظواهر، و لو في الصلاة و القرائة، و عدم وجوب المعرفة بالمعاني و الحقائق، نعم يختلف مراتب العقول، و درجات الفضل و الثواب باختلاف الناس في ذلك و لا كلام فيها.

خامسها: حجاب القرائة، و الاستقصاء في مراعاة تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها و حفظ صفاتها، و هذا الحجاب كالحجب المتقدّمة من الحجب الظلمانيّة التي تمنع القلوب

من مشاهدة أنوار الغيوب، بل لا يزال الرجل معه مشتغلا بترديد الحروف و تكريرها، مستغرق الهمّة في مراعاة صفاتها، و آدابها الّتى ملأوا منها كتب التجويد و القرائة، بل لو لم يكن إلّا مراعاة الصفات المتعددة المعدودة لكل حرف حرف لكفى به شغلا شاغلا عن التدبّر في معاني القرآن، و التفكر في حقائقه و قد يقال: إنّه قد وكّل بذلك شيطان يصرف الناس عن فهم معاني كلام اللّه تعالى، و لا يزال يحملهم على ترديد الحروف يخيّل إليهم أنّه لم يخرج من مخرجه، حتى يكون تأمّله مقصورا على مخارج الحروف فهو أعظم أضحوكة للشيطان، و أبعد عمّا يراد به من التدبر في القرآن.

و ربّما ينضمّ الى ذلك الميل الى التغنّي و ترجيع الصوت به، و التردّد في صنوف الألحان.

بل يلحقهما أمر ثالث و هو ملاحظة الإعراب و البناء، و وجوه القراءات.

و لذا ورد في الخبر: «من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع».

و كلّ من هذه الثلاثة حجاب قويّ لمن ابتلي بها، إلّا ما كان منها صادرا

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 455

على وجه الملكة، بحيث لا حاجة معها إلى التفات جديد أصلا، فضلا عن التكلّف و التشدّق الذي لا ينفكّ عنه غالبا أرباب هذه الصناعة، و للّه درّ من قال:

و آخر منهم بالقراءات قد بلي يغنّى بقول الشاطبي و حمزة

يلوّي بها شدقيه عند إمالةكأنّ بها من ميلها ريح لقوة

سادسها: حجاب العلم بمعنى العقائد التي استمرّ عليها أكثر الناس بالتعلّم من المحجوبين، و تقليد الآباء و أهل الضلال، و الرجوع الى تفاسير العامّة و بياناتهم، و تأويلهم المتشابهات على مقتضى آرائهم و أهوائهم الباطلة.

ثمّ إنّ هذه العقائد الباطلة ربما تصير راسخة في النفس بحيث لا يكاد

يلتفت معها الى غيرها، و قد تكون مسموعة متردّدة في الذهن بحيث يمنعه الالتفات إليها عن التوجّه إلى غيرها، أو الشوق الى تحصيله، بل ربّما يكون العلم ببعض الظواهر حجابا عن الالتفات إلى الحقائق و البواطن، و إن كان كلّ منهما حقّا و صدقا بالنسبة الى رتبته و مقامه، فلا ينبغي الجمود على شي ء من الظواهر، و إن كان حقّا منطبقا على القواعد العربيّة، لأنّه يؤدّى الى جحود الحقائق، و البواطن المقصودة.

و لا تظنّن أنّ الغرض من هذا الكلام تسهيل الأمر و جواز التصرف في الآيات القرآنيّة بحسب الأهواء الباطلة و الآراء الزائفة، إذ المقصود ترك الجمود، و مجانبة اللجاج و الجحود، و عدم الاقتصار على خصوص الظواهر المشهورة، أو بعض البواطن المأثورة، فإنّي أرى كثيرا من أهل هذا الزمان قد هجروا القرآن، و نبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا. فبئس ما يشترون، فاذا احتاجوا الى تفسير آية رجعوا الى ظواهر اللّغة العربيّة و التفاسير العاميّة، بل ربما تصرّفوا في معناها بقريحتهم البتراء، و بصيرتهم العمياء، من غير رجوع إلى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 456

أخبار الأئمّة عليهم السّلام، و لا استضاءة من أنوار أهل العصمة، بل يردّونها بعد الاطّلاع عليها، معلّلين بمخالفة الظاهر.

و قد يرد عليهم في تفسير آية واحدة أخبار يظنّون اختلافها، فيعملون فيها قواعد الترجيح مع أنّه لا بأس بالجمع بينهما بحملها على وجوه التنزيل و التأويل.

و بالجملة قد أشرنا سابقا الى الميزان الكلّى في هذا الباب، و أنّه يلزم في جميع ذلك الرجوع الى الأئمّة الّذين هم الحجّاب و الأبواب مع ملازمة التقوى، و دوام الانقطاع، و الأنس التامّ بأصولهم و قواعدهم، و الاطّلاع على أخبارهم و آثارهم، و

الاقتباس من أشعّة أنوارهم، إلى غير ذلك ممّا مرّت الإشارة إليه.

و من الوظائف الباطنية: حسن النيّة و الإخلاص في القرائة، فإنّها من العبادات و الطاعات المندوب إليها، و صحّتها إنّما تكون بقصد التقرّب، و تجريد العمل من كلّ شوب، و حظّ نفساني، أو دنيوي، و النيّة روح الأعمال، و العمل بلا نيّة كالجسد الملقى بلا روح، بل ينبغي للبصير قصد العبوديّة، و تخليص النيّة في كل حركة و سكون حتّى في الأمور العادية و الحظوظ البدنيّة، كى تكون عاداته عبادات، و يتّصف بسلامة القلب.

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم».

لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات، فخلّص النيّة للّه في الأمور كلّها قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «1». «2»

______________________________

(1) الشعراء: 88- 89.

(2) مصباح الشريعة ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 457

بل ينبغي له أن يقصد في كلّ شي ء من الطاعات جميع الغايات المترتبة عليها،

«فإنّما لكلّ امرئ ما نوى، و إنّما الأعمال بالنيّات» «1»

و إن اختلفت غايات الأفعال باختلاف المراتب و الأحوال على اشتراك الجميع في الارتباط الى الحضرة القدسيّة.

كما يؤمي اليه

العلويّ: «ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» «2».

و

الجعفري: «العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه تعالى خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ طلبا للثواب، فتلك عبادة الأجراء، و قوم عبدوا اللّه حبّا له فتلك عبادة الأحرار» «3».

بل يستفاد منه و من غيره من الآيات و الأخبار جواز كون الباعث طلب الثواب أو المرضاة، أو الخوف، أو التعظيم، أو الحياء، أو الحبّ أو الغفران، أو الأهليّة، أو التقرّب،

أو الأنس، أو المناجاة، أو غير ذلك من المقاصد الكثيرة، و ربما تسمع في ضمن الآيات البحث عنها، و عن قول من توهّم منافاة قصد الخوف و الطمع للتقرّب، و عن سائر مباحث النيّة و بطلانها بالرّياء و العجب مقارنا و لا حقا كبطلانه في المقام بالتغنّى، و قصد اللهو و غيرهما.

بل يجب في المقام قصد التعيين أيضا لو وجبت بنذر، أو إجارة، أو شرط في ضمن عقد، أو إمهار، أو غيرها.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 70 ص 211.

(2) بحار الأنوار ج 70 ص 197.

(3) بحار الأنوار ج 70 ص 205 عن الأمالي للصدوق مع تفاوت في الألفاظ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 458

و قد ظهر من جميع ما مرّ اعتبار قصد اللّفظ فيها، و في سائر، العبادات القوليّة من الدعاء، و الزيارة، و الذكر، و غيرها.

نعم، هل يعتبر فيها قصد الدّلالة و المدلول أم لا؟ و جهان قوّى أوّلهما كاشف الغطاء، و فيه خفاء، إذ لا يعتبر فيهما العلم بهما فضلا عن قصدهما تفصيلا أو إجمالا.

نعم لا يبعد مانعية قصد العدم، بل معه يمكن التأمّل في صدق الموضوع، و أمّا مجرّد عدم قصد المعنى فلا يقدح في الصدق، بل التوظيف و لذا قال رحمه اللّه في موضع آخر: إنّ كلّا من القراءة، و الذكر و الدعاء لا يخلو من ثلاثة أحوال:

لفظ مجرّد عن المعنى، و معنى مجرّد من اللّفظ، مقرون بالكلام النفسي، و جامع للأمرين، و الجميع مستحبّ لكنّها مرتّبة، فالمتقدّم فيها مفضول بالنسبة الى المتأخّر، و ان كان يمكن الجمع بين الكلامين بظهور الفرق بين قصد المعنى و لو اجمالا، و بين فهمه كما لا يخفى.

و من الوظائف أيضا: استشعار عظمة المتكلّم و الكلام، و

مقام التلاوة، فينبغي للقارى ء إذا أراد الشروع في التلاوة أن يحضر في قلبه شيئا من عظمة الخالق الحكيم، و القادر العليم، و العلي العظيم الّذي عجزت العقول عن إدراك شي ء من عظمته و جلاله، و انحسرت البصائر و الأبصار دون النظر الى سبحات وجهه و نور جماله، الطريق مسدود، و الطلب مردود، دليله آياته، و آياته مرآقه.

و شيئا من عظمة الكلام، فإنّه النور السّاطع، و الضياء اللّامع، و الشفاء النافع، و القول الجامع، و السحاب الهامع، و هو ربيع القلوب و مفتاح الغيوب، فيه منار الهدى، و مصابيح الدجى، ظاهره أنيق، و باطنه عميق، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، قد نزّله روح القدس من ربّ العالمين على قلب سيّد المرسلين،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 459

ليبشّر به المؤمنين، و ينذر به المنافقين، بعد أن كان مجرّدا في عالم الأنوار، مصونا عن مسّ الأغيار مرفوعا عن عالم الأكدار، فنزّله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه، مكسؤا بكسوة الألفاظ و العبارات، مملوّا بحار معانيها من كنوز الحقائق، و رموز الإشارات، حسبما مرّ تفصيل الكلام في حقيقته و كيفيّة نزوله في الأبواب المتقدّمة.

و شيئا من عظمة مقام التلاوة، فإنّه مقام وعر صعب، عزيز المنال، خارج عن إحاطة البيان و المقال، لأنّ العبد يجد فيه روح الاستيناس و الوصال، و يذوق فيه حلاوة مخاطبات ذي الجلال.

و لذا

قال الإمام في ضمن الخبر المقدّم ذكره: «فاذا شرب كأسا من هذا المشرب فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا، و لا على ذلك الوقت وقتا، بل يؤثره على كلّ طاعة و عبادة، لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة ... الخبر «1».

و

في «مجمع البيان»: عن النبي صلّى اللّه عليه و

آله قال: «من قرأ القرآن فظنّ أنّ أحدا أعطي أفضل ممّا أعطي، فقد حقّر ما عظمّ اللّه، و عظمّ ما حقّر اللّه «2».

و

في تفسير مولانا العسكري عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «حملة القرآن هم المخصوصون برحمة اللّه، المقرّبون عند اللّه، من والاهم فقد والى اللّه، و من عاداهم فقد عادى اللّه، يدفع اللّه عن مستمع القرآن بلوى الدّنيا، و عن قارئه بلوى الآخرة، و الّذى نفس محمد صلّى اللّه عليه و آله بيده لسامع آية من كتاب اللّه و هو معتقد ... الى أن قال: أعظم أجرا من ثبير ذهبا يتصدّق به، و لقارئ آية من كتاب اللّه معتقدا

______________________________

(1) الحجّة البيضاء ج 2 ص 249 عن مصباح الشريعة.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 16. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 460

أفضل ممّا دون العرش إلى أسفل التخوم «1».

الى غير ذلك ممّا مر من الأخبار المتقدّمة الدالّة على شرف القرآن و حملته.

ثمّ إنّ استشعار العظمة ربما يحمل صاحبه على تحمّل المشاقّ العظيمة و الأخطار الجسمية، بل ربما لا يشعر بها أصلا.

ففي «البحار» عن بعض تواريخ أسفار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه قصد قوما من أهل الكتاب قبل دخولهم في الذمّة، فظفر منهم بامرأة قريبة من زوجها، و عاد من سفره، و بات في طريقه، و أشار الى عمّار و عبّاد بن بشر أن يحرساه، فاقتسما الليلة قسمين، و كان لعبّاد بن بشر النصف الأوّل، و لعمّار بن ياسر النصف الثاني، فنام عمّار، و قام عبّاد يصلّي و قد تبعهم اليهودي يطلب امرأته أو يغتنم، فنظر الى عبّاد بن بشر يصلّي في موضع العبور فلم يعلم في ظلام الليل هل هو

شجرة أو دابّة، أو إنسان، فرماه بسهم فأثبته فيه فلم يقطع الصلاة، فرماه بآخر، فخفّف الصلاة و أيقظ عمّار، فرأى عمّار السّهام في جسد عبّاد فعاتبه و قال: هلّا أيقظتنى في أوّل سهم؟ فقال: كنت بدأت بسورة الكهف فكرهت أن أقطعها، و لو لا خوف أن يأتى على نفسي و يصل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أكون قد ضيّعت ثغرا من ثغور المسلمين لما خفّفت صلاتي و لو أتى على نفسي ... فدّع العدوّ عما أراده» «2».

و في تفسير الإمام عليه السّلام: خبر صلاة أبى ذرّ الغفاري و استشعاره عظمة الربّ فيها، و توكيل اللّه تعالى أسدا لحفظ قطيعة غنمه «3» على ما يأتى إنشاء اللّه تعالى

______________________________

(1) تفسير الإمام عليه السّلام ص 4- بحار الأنوار ج- 92 ص 182.

(2) بحار الأنوار ج 22 ص 116 عن الأمان من اخطار الأسفار و الأزمان ص 122.

(3) بحار الأنوار ج 22 ص 393 عن تفسير الامام عليه السّلام ص 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 461

في تفسير وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ من سورة البقرة.

و من الوظائف الباطنيّة: حسن الإصغاء إلى آيات القرآن و إشاراته قارئا و مستمعا، فإنّ القرائة لا تنافي الاستماع، و للتهيّؤ لحسن التدبر و القبول، و ذلك لأنّ القارئ إنّما يتلو كتاب اللّه و يحكيه على ما أنزله، لا أن ينشأوه من نفسه.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك و منشور ولايتك، و كيف تجيب أوامره و نواهيه، و كيف تمثّل حدوده» «1».

و

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في كلام طويل في وصف المتقين: «أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن، يرتّلونه ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، و يستثيرون

به دواء دائهم «2»، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، و تطلّعت نفوسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم، و إذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، و ظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها في أصول آذانهم» «3».

و اعلم أنّ القارئ حال قراءته متكلّم من وجه، و مستمع من وجه آخر، فمن الجهة الاولى لا بدّ له من حسن المخاطبة و استشعار حضور المخاطب، و من الجهة الثانية لا بدّ له من حسن الإصغاء و الاستماع.

و لذا

ورد من مولانا الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى الى موسى بن عمران: إذا وقفت بين يديّ فقف موقف الفقير الذليل، و إذا قرأت التوراة

______________________________

(1) المحجّة البيضاء ج 2 ص 249 عن مصباح الشريعة ص 13 و 14.

(2)

في بعض النسخ: و يستثيرون به تهييج احزانهم بكاء على ذنوبهم.

(3) نهج البلاغة خ 192- المجالس للصدوق 341. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 462

فأسمعنيها بصوت حزين» «1».

و

عن حفص، قال: «ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام، و لا أرجى للناس منه، و كانت قراءته حزنا، فكأنّه يخاطب إنسانا» «2».

و

روت العامّة و الخاصّة: أنّ مولانا الصادق عليه السّلام لحقته حالة في الصلاة عند القرائة حتّى خرّ مغشيّا عليه، فلمّا سرى عنه ذلك قيل له في ذلك؟ فقال عليه السّلام: «ما زلت أردّد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلّم بها» «3».

و من الوظائف: التواضع و الخشوع عند التلاوة بل في جميع الأحوال تعظيما للّه سبحانه، و إكراما للقرآن، بل ينبغي لحامل القرآن و قارئه ملازمتهما، و ملازمة سائر العبادات الشرعيّة، و الأخلاق الحسنة و الأحوال الزكيّة.

ففي «الكافي»

عن الصادق عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أحقّ الناس بالتخشّع في السّر و العلانية لحامل القرآن، ثم نادى بأعلى صوته: يا حامل القرآن تواضع به يرفعك اللّه و لا تعزّز به فيذلّك اللّه، يا حامل القران تواضع به يرفعك اللّه، و لا تعزّ فيه فيذلّك اللّه، يا حامل القرآن تزيّن به للّه يزينك اللّه به، و لا تزيّن به للنّاس فيشينك اللّه به، من ختم القرآن فكأنّما أدرجت النبوة بين جنبيه و لكنه لا يوحى إليه، و من جمع القرآن فنوله «4» لا يجهل مع من يجهل عليه و لا

______________________________

(1) الأصول من الكافي ص 594.

(2) أصول الكافي ص 594.

(3)

بحار الأنوار ج 84 ص 247 عن فلاح السائل ص 107 و ص 107 و فيه: «ما زلت اكرّر آيات القرآن حتى بلغت الى حال كأنّنى سمعتها مشافهة ممّن أنزلها.

(4) فنوله: أى حقّه. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 463

يغضب فيمن يغضب عليه، و لا يحدّ فيمن يحدّ عليه، و لكنّه يعفو، و يصفح و يغفر و يحلم لتعظيم القران. الخبر «1».

أقول: و ذلك لأنّ الثواب و العقاب يضاعفان بشرف الفاعل و الفعل و مشخّصاته من الزمان و المكان و غيرهما.

و لذا

ورد: «أنّه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد «2».

و انزل في أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله اللّائى لسن كأحد من النساء في لزوم زيادة الاهتمام على الوظائف و الآداب: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً

كَرِيماً «3».

و

ورد: «أنّ الخير و الشرّ يضاعفان في ليلة الجمعة و يومها» «4».

بل و كذلك في سائر الأزمنة الشّريفة و أمكنتها من المشاهد و المساجد و غيرهما.

فحامل القرآن، و حافظه، و قارئه لا بدّ له من ملازمة التقوى و الخشوع و الانقياد للّه تعالى في جميع الأحوال و الاستمرار على الوظائف الشرعيّة في الأقوال و الأفعال القلبيّة و البدنيّة.

فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنّه لو

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 442.

(2) أصول الكافي ج 1 ص 41.

(3) الأحزاب: 30- 31.

(4)

الخصال- 31- 32 و فيه: إنّ العمل يوم الجمعة يضاعف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 464

خشع قلبه لخشعت جوارحه» «1».

و من الوظائف: استشعار الحزن و البكاء و التباكي، لما

روى عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بالحزن» «2».

و قد مرّ

من القدسيّات لموسى بن عمران: «إذا قرأت التورات فأسمعنيها بصوت حزين» «3».

و

أنّ موسى بن جعفر عليهما السّلام كانت قراءته حزنا «4».

و

روى أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أتى شبّانا من الأنصار، فقال: أريد أن أقرأ عليكم فمن بكى فله الجنّة، و من تباكى فله الجنّة «5».

و معنى نزول القرآن بالحزن نزوله على من أنزل عليه مقترنا به، حيث إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان عند نزوله تأخذه الغشوة و الرقّة و الانقطاع الكلّى، و الرجوع الى المبدأ الأصلى.

أو نزوله لأجل الحزن، و لذا كان نزوله منجما مفرّقا لأجل التأثير و اجتلاب الحزن، قال اللّه سبحانه: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى

عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 84 ص 261 عن أسرار الصلاة.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 598.

(3) المصدر ج 2 ص 598.

(4) أصول الكافي ج 2 ص 594.

(5) المجالس للصدوق ص 325.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 465

وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً «1».

و قال سبحانه: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «2».

و

قد روى الصدوق في «المجالس» و «ثواب الأعمال» عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتى شبّانا من الأنصار فقال: إنّى أريد أن أقرأ عليكم فمن بكى فله الجنّة، فقرأ آخر الزمر: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً «3» إلى آخر السورة، فبكى القوم جميعا إلّا شابّا، فقال: يا رسول اللّه قد تباكيت فما قطرت عيني، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّى معيد عليكم فمن تباكى فله الجنّة، فأعاد عليهم فبكى القوم، و تباكى الفتى فدخلوا الجنّة جميعا «4».

و

في «العيون» بالإسناد، عن رجاء بن أبى ضحّاك من الرّضا عليه السّلام إنّه كان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنّة أو نار بكى و سأل اللّه الجنّة و تعوّذ به عن النار «5».

و من الوظائف الباطنية: التدبّر و التفكّر، فإنّه لا خير في ذكر من دون تفكّر، و لا تلاوة من دون التدبّر، قال اللّه سبحانه: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «6».

______________________________

(1) الإسراء: 106- 107- 108- 109.

(2) المائدة: 83.

(3) الزمر: 71.

(4) المجالس ص 325- ثواب الأعمال ص 88.

(5)

عيون الأخبار ص 310.

(6) سورة محمد (ص): 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 466

و هذه الأقفال هي أقفال الكفر و الشرك، و النفاق، و الجهل، و القسوة و متابعة الأهواء النفسانيّة، و الآراء الباطلة، و الإشتغال بالحظوظ الدنيويّة و الشهوات العاجلة البدنيّة، و صرف النظر عن شي ء من ذلك سيّما في حال القرائة، فإنّ هذه كلّها حجب و موانع عن حسن الإصغاء و التدبّر، فضلا عن التذكّر، قال اللّه تعالى: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «1».

و لذا خصّ التذكّر بعد ما عمّ التدبّر في قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «2».

فبعد التذكّر يتأثّر قلبه من كلّ آية من الآيات على ما هي عليه من بواعث الخوف الرّجاء، و إن قيل: إنّه مهما تمتّ معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه، فإنّ التضييق غالب على آيات القرآن فلا ترى ذكر المغفرة و الرحمة إلّا مقرونا بشروط يقصر العارف عن نيلها، و لذا ذكر شروطا أربعة لنفى الخسران فيما استثناه في سورة العصر، و للمغفرة في قوله: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى «3».

لكنّ الإنصاف أنّ ذلك كلّه إنّما هو بالنظر إلى أعمالنا القاصرة الناقصة المشوبة، و أمّا بالنظر الى فضله و رحمته فآيات الرّجاء كثيرة أيضا: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «4».

______________________________

(1) الإسراء: 45.

(2) ص: 29.

(3) طه: 82.

(4) يونس: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 467

و لذا قدّم في أكثر الآيات أسباب المغفرة و البشارة بها.

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «1».

بل اشتقّ من المغفرة و

الرّحمة لنفسه اسمين، و اقتصر على توصيف العذاب و جمع بين الأمرين في قوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «2».

و بالجملة لا بدّ أن يكون العبد دائما راجيا منه خائفا وجلا متردّدا.

قال مولانا الصّادق عليه السّلام: «إنّ لك قلبا و مسامع، و إنّ اللّه تعالى إذا أراد أن يهدى عبدا فتح مسامع قلبه، و إذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «3». «4»

ثمّ إنّه قد يفرّق بين التدبّر و التفكّر بأنّ الأوّل تصرّف القلب بالنظر في عواقب الأمور، و الثاني تصرّفه بالنظر في الدّلائل، لكنّه لا يخفى أنّ لكلّ من اللفظين، مجموع الأمرين.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «ألا لا خير في علم ليس فيه تفكّر، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه «5».

و

في «الكافي» عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السّلام يقول:

______________________________

(1) الحجر: 49- 50.

(2) النور: 21.

(3) سورة محمد (ص): 24.

(4) الأصول من الكافي ص 18- معاني الأخبار ص 67.

(5) بحار الأنوار ج 2 ص 48 عن معاني الأخبار. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 468

«آيات القرآن خزائن العلم، كلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر فيها «1».

و من الوظائف: التذكّر و التأثر، بأن يتأثّر قلبه يعد التفكّر و التدبّر بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات و مقتضياتها، فيكون له عند التلاوة أو الاستماع بحسب عبور كلّ آية من آياته، بل و كلمة من كلماته على مسامع قلبه، و مجامع فؤاده، و لبّه حال، و انتقال، و وجد، و وجل يتّصف

به قلبه من الخوف و الحزن، و الشوق، و الرجاء.

و ليس كلّما حصل التفكر حصل التذكّر، بل له شروط و آداب سابقة و مقارنة مرجعها بين الرجاء بفضله و رحمته، و الخوف من عدله، و نقمته، بحيث لو وزنا معا في قلبه لما رجّح أحدهما على الآخر، و لا ينبغي أن يغلب عليه الخشية التي هي أعلى من الخوف و أصغى منه على ما ستسمع.

و لذا قيل: ما أصبح اليوم عبد يتلو هذا القرآن يؤمن به إلّا كثر حزنه، و قلّ فرحه، و كثر بكاؤه و قلّ ضحكه، و كثر نصبه و شغله، و قلّت راحته و بطالته.

و قد مرّ في حسن الإصغاء

عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام ما ينبغي للقاري عند المرور بآية فيها تشويق أو تخويف «2».

و حاصل ما يستفاد منه و من غيره أنّ تأثّر العبد بالتلاوة هو أن يصير بعد التلاوة و مراعاة الوظائف المتقدّمة بصفة الآية المتلوّة، بأن يوجد أثرها على قلبه و قالبه من شوق، أو خوف، أو فرح، أو بكاء، أو تعظيم، أو حياء، أو حبّ، أو وجد، أو انبساط، أو غيرها.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 216 ح 22 عن عدّة الداعي.

(2) نهج البلاغة خ 191- المجالس للصدوق ص 341.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 469

فعند التوسيع و المغفرة و الرحمة و الفضل ينبسط قلبه و يستبشر حتى يظهر آثار البشارة على بشرته كأنّه يطير من الفرح، قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «1».

و عند الوعيد، و اشتراط المغفرة بالشروط يستشعر الخشية لما يعلم من نفسه من التقصير و العصيان، فيملأ قلبه خوفا، و يقشعرّ جلده وجلا، و يظنّ أنّ زفير جهنّم و شهيقها

بمسمع منه و منظر لقوّة يقينه، و إيمانه بالغيب، و هم الذين من خشيته مشفقون.

و

روى عن ابن عبّاس: «أنّ أبا بكر قال: يا رسول اللّه ما أسرع إليك الشيب؟! فقال صلّى اللّه عليه و آله: شيّبتنى الهود، و الواقعة، و المرسلات، و عمّ يتساءلون «2».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّي لأعجب أنّي كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن «3».

و عند ذكر التوحيد و الصفات الجلاليّة و الحماليّة و أسماء اللّه الحسنى، و أمثاله العليا، يتحقّق في مقام الذلّة، و العبوديّة، و الاستكانة و التضرّع، و الخشوع كى يستعدّ لإشراق أشعّة أنوار الجلال، و يمرّ على وجوده نفحة من نفحات روح الوصال.

و ممّا ذكرناه يعلم الحال في الآيات المتعلّقة بحكايات أحوال الأمم السالفة ممّن نجى و ممّن هلك، و مقالات الكفّار، و مقامات الحبّ و الرضا نحو يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ «4» وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ «5»

______________________________

(1) التوبة: 124.

(2) المجالس ص 141- الخصال ج 1 ص 93.

(3) الأصول من الكافي ص 607.

(4) المائدة: 54.

(5) البقرة: 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 470

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ «1».

و بشارة اللقاء و غير ذلك ممّا يتعسّرا حصاؤه، و إنّما المعيار هو التحقّق في مقام القبول و الإقبال و تكّون الوجود بما يمرّ عليه من آيات ذي الجلال حتّى يتكرّر عليه الكسر و الصوغ مرّة بعد اخرى، و يستكمل وجوده عما كان عليه إلى ما هو أليق و أخرى.

و من الوظائف الباطنيّة: التخصيص بأن يقدّر، بل يعلم أنّه المقصود بكلّ خطاب في القرآن، و إن لم يكن تمام المقصود، فالخطابات العامّة شاملة له أيضا.

و أمّا الخطابات الخاصّة، و قصص الأوّلين و الأمثال، و غيرها فليعلم

أنّه ليس المقصود منها مجرّد المسامرة، بل العبرة، و التذكّر، و الالتفات الى أسباب الهلاك و النجاة، فإنّه ليس بين اللّه و بين أحد من خلقه قرابة، و لا رحم، و لا صداقة سابقة، و لا عهد، و لا ميثاق.

فلينظر في أنّ من نجى من الأمم السالفة بما نجى فليأخذ به، و في أنّ من هلك منهم بما هلك فليتجنّب عنه.

و ليتأمّل في الأمثال التي ضربها اللّه للنّاس لعلّهم يتفكّرون، و إن كان لا يعقلها إلّا العالمون، و ذلك لأنّ تلك الأمثال أمور حقيقيّة، و حقايق نورانيّة منزّلة في كسوة الأمثال المحسوسة تمثيلا للمعقول بالمحسوس، و تقريبا لأفهام الناس لعكوفهم على عالم الحسّ الظاهر، و إعراضهم عن عالم الأنوار و العقول، و مع

______________________________

(1) المائدة: 119- التوبة: 100.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 471

ذلك فقليلا ما يذكّرون، لأنّهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «1».

و بالجملة فلا بدّ من أن يخصّص نفسه بكلّ ما يتأهّل من خطاباته، و أوامره، و نواهيه، و وعده، و وعيده، و بشارته، و تخويفه، و قصصه، و أمثاله، و أحكامه.

و حينئذ فلا يتّخذ دراسة القرآن علما، بل قراءة كقرائة العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتدبّره، و يطّلع على ما فيه، و يعمل بمقتضاه.

و إن كان ظاهر الخطاب بغيرك فاعلم أنّ القرآن قد نزل بايّاك أعنى و اسمعي يا جارة، كما قال مولانا الصادق عليه السّلام «2».

و

عن أبى جعفر عليه السّلام: «لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي ء، و لكنّ القرآن يجرى أوّله على آخره ما دامت السماوات و الأرض» «3».

و

ورد أيضا: «أنّ القرآن غضّ

طري لا يبلى أبدا» «4».

و

عن الصادق عليه السّلام: «القرآن عهد اللّه إلى خلقه، فينبغي للمرء المسلم أن ينظر الى عهده، و أن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية» «5».

و من الوظائف الباطنيّة: حسن الإجابة في المقامات الثلاثة، و هي

______________________________

(1) الروم: 7.

(2) تفسير الصافي في المقدّمة الرابعة عن تفسير العياشي.

(3) الصافي في المقدّمة الثالثة عن العيّاشى.

(4) مستدرك الوسائل ج 4 ص 237 مع تفاوت.

(5) الوسائل ج 4 ص 849.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 472

الأقوال، و الأفعال، و الأحوال.

أمّا الإجابة القوليّة فهي كثيرة جدّا، و قد أشير إلى كثير منها في الأخبار، كالتلبية عند النداء، و سؤال الرحمة، و الاستعاذة من النقم عند آية الوعد و الوعيد، و نفى الأنداد و الأضداد عند ذكر مقالة الكفّار، و غير ذلك.

فعن الصادق عليه السّلام قال: «ينبغي للعبد إذا صلّى أن يرتّل في قراءته، فإذا مرّ بآية فيها ذكر الجنّة، أو ذكر النار سأل اللّه الجنّة، و تعوّذ باللّه من النار، و إذا مرّ بيا أيّها الناس، و يا أيّها الذين آمنوا، يقول: لبّيك ربّنا» «1».

و في بعض الأخبار: «لبّيك اللهمّ لبّيك» سرّا.

و

عنه عليه السّلام: «ينبغي لمن قرأ القرآن إذا مرّ بآية من القرآن فيها مسألة، أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو، و يسأل العافية عن النّار، و من العذاب» «2».

و

في «مجمع البيان» عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ «3».

قال عليه السّلام: حقّ تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنّة و النار، يسأل في الاولى، و يستعيذ من الاخرى» «4».

بل يستحبّ ذلك و لو كان في الصلاة أيضا كما

رواه الحلبي في الصحيح

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 170- الوسائل

ج 4 ص 753.

(2) التهذيب ج 1 ص 218.

(3) البقرة: 121.

(4) الصافي ص 45 عن المجمع و العيّاشى. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 473

عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن الرّجل يكون مع الإمام، فيمرّ بالمسألة، أو بآية فيها ذكر جنّة أو نار، قال عليه السّلام: لا بأس بأن يسأل ذلك، و يتعوّذ من النار، و يسأل اللّه الجنّة» «1».

و

في «الكافي» عن جابر بن عبد اللّه قال: «لمّا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الناس سكتوا، فقال (ص): الجنّ أحسن جوابا منكم لمّا قرأت عليهم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا و لا بشي ء من آلاء ربّنا نكذّب» «2».

و

عن الصادق عليه السّلام: «و من قرأ سورة الرحمن فقال عند كلّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا بشي ء من الائك ربّ اكذّب، فإذا قرأها ليلا، ثمّ مات مات شهيدا، و إن قرأها نهارا ثم مات مات شهيدا «3».

و

قد ورد أيضا أن يقول بعد قراءة الحمد مطلقا، أو في خصوص الجماعة:

الحمد للّه ربّ العالمين «4».

و بعد ختم التوحيد أن يقول: كذلك اللّه ربي مرّة، أو مرّتين، أو ثلاث مرّات «5»

، على اختلاف الأخبار.

و بعد قراءة لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أن يقول: أعبد اللّه وحده.

و بعد قراءة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ أن يقول: ربّي اللّه و ديني الإسلام «6».

______________________________

(1) الوسائل ج 4 ص 754.

(2) نور الثقلين ج 5 ص 188 عن الكافي.

(3) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 187 عن ثواب الأعمال.

(4) نور الثقلين ج 1 ص 25 عن الكافي، و عيون الأخبار.

(5) نور الثقلين ج 5 ص 700.

(6) نور الثقلين ج 5 ص 686.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 474

و

روى: «و ديني الإسلام»

ثلاثا.

و

ورد أيضا: أن يقول بعد قراءة ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «1»:

كذب العادلون باللّه «2».

و أن يقول بعد قراءة سورة وَ التِّينِ بلى و نحن على ذلك من الشاهدين «3».

و أن يقول بعد قراءة سورة وَ الشَّمْسِ صدق اللّه و صدق رسوله «4».

و أن يقول بعد قراءة: أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «5»:

سبحانك اللّهم و بلى «6».

و أن يقول بعد قراءة آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «7»: اللّه خير، اللّه أكبر «8».

و أن يقول بعد قراءة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الى قوله: وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً «9»: اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر «10».

و أن يصلّي على النبيّ و آله بعد قراءة

______________________________

(1) سورة الأنعام: 1.

(2) بحار الأنوار ج 85 ص 34.

(3) نور الثقلين ج 5 ص 608.

(4) نور الثقلين ج 5 ص 575 ح 3.

(5) سورة القيامة: 40.

(6) بحار الأنوار ج 92 ص 219 ح 3.

(7) النمل: 59.

(8) البحار ج 85 ص 34 عن الذكرى.

(9) الإسراء: 111.

(10) البحار ج 85 ص 34 عن الذكرى. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 475

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» مفتتحا بقوله: لبّيك اللّهمّ لبّيك، إجابة للنّداء في الآية «2».

و أن يقول بعد قراءة قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ إلى وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «3»: آمنّا باللّه «4».

و أن يقول سرّا بعد قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «5»: سبحان اللّه الأعلى، أو «سبحان ربي الأعلى و بحمده» «6».

و نحوه بعد قوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ «7».

إلى غير ذلك ممّا يستفاد من الأخبار.

بل ربما يستفاد منها الإذن في غير الموارد الخاصّة المنصوصة، لأنّه من جنس الاجابة المندوب إليه، كما يستفاد من ملاحظة أخبار الباب.

بل و

من

النبويّ المتقدّم حيث قال صلّى اللّه عليه و آله عتابا على أصحابه: «إنّ الجنّ كانوا أحسن جوابا منكم ... إلخ» «8».

و من هنا يقوى القول باستحبابه مطلقا و لو في الصلاة.

و أمّا الإجابة الفعليّة فالمراد بها امتثال أوامر القرآن و نواهيه، و القيام

______________________________

(1) الأحزاب: 56.

(2) عيون الأخبار ج 2 ص 183.

(3) البقرة: 136.

(4) الخصال ج 2 ص 165.

(5) سورة الأعلى: 1.

(6) عيون الاخبار ج 2 ص 183.

(7) سورة الواقعة: 74.

(8) نور الثقلين ج 5 ص 188 عن الكافي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 476

بوظائفه و سننه، فإنّ الإطاعة و الامتثال بمطلق الأوامر الشرعيّة و إن كانت مطلوبة لكلّ مكلّف إلّا أنّ أحقّ الناس بذلك إنّما حامل القرآن و حافظه، و قارئه لما سمعت من علوّ درجته و سمّو مقامه، بحيث لا ينبغي منه إلّا الإطاعة و العبوديّة و الانقياد.

و قد سمعت

من خبر «مصباح الشريعة» أنّ الصادق عليه السّلام قال: «فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك و منشور ولايتك، و كيف تجيب أوامره و نواهيه، و كيف تمتثل حدوده «1».

فأحقّ الناس بمتابعة منشور السلطان إنّما هو من يبتدئ بقرائته، و يلازم حفظه و حمله، و قد قال اللّه سبحانه: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ «2».

و من هنا ذكرنا سابقا أنّ الثواب و العقاب يضاعفان لقارئ القرآن بل قد سمعت

في النبويّ المتقدّم: «أنّ أحقّ الناس بالتخشع في السرّ و العلانية لحامل القرآن، و أنّ أحقّ الناس في السرّ و العلانيّة بالصلاة و الصوم لحامل القرآن» «3».

و

في «عقاب الأعمال» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «من تعلّم القرآن فلم يعمل به، و آثر عليه حبّ الدنيا

و زينتها استوجب سخط اللّه، و كان في الدرجة مع اليهود و النصارى الذين ينبذون كتاب اللّه وراء ظهورهم.

و من قرأ القرآن يريد به سمعته، و التماس الدنيا لقى اللّه تعالى يوم القيامة

______________________________

(1) محجّة البيضاء ج 2 ص 249 عن مصباح الشريعة ص 13- 14.

(2) البقرة: 41.

(3) الأصول من الكافي ج 2 ص 442. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 477

و وجهه عظم ليس عليه لحم، و زجّ القرآن في قفاه حتى يدخله النار، و يهوى فيها مع من يهوى.

و من قرأ القرآن و لم يعمل به حشره اللّه يوم القيامة أعمى، فيقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى «1»، فيؤمر به الى النار «2».

و من قرأ القرآن ابتغاء وجه اللّه و تفقّها في الدين كان له من الثواب مثل جميع ما يعطى الملائكة و الأنبياء، و المرسلون «3».

و من تعلّم القرآن يريد به رياء و سمعة ليماري به السفهاء و يباهي به العلماء، و يطلب به الدنيا بدّد اللّه عزّ و جلّ عظامه يوم القيامة، و لم يكن في النار أشدّ عذابا منه، و ليس نوع من العذاب إلّا و يعذّب به من شدّة غضب اللّه عليه و سقطه «4».

و من تعلّم القرآن و تواضع في العلم و علّم عباد اللّه و هو يريد ما عند اللّه لم يكن في الجنّة أحد أعظم ثوابا منه، و لا أعظم منزلة منه، و لم يكن في الجنّة منزل، و لا درجة رفيعة و لا نفيسة إلّا كان له منها أوفر النصيب و أشرف المنازل «5».

و

في النبويّ أيضا: «إنّ في جهنّم واديا يستغيث أهل النار كلّ يوم

سبعين

______________________________

(1) طه: 126.

(2) مقام الأعمال ص 45 و ص 47.

(3) وسائل الشيعة ج 4 ص 838.

(4) عقاب الأعمال ص 52.

(5) بحار الأنوار ج 76 ص 373 عن ثواب الأعمال. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 478

ألف مرّه منه ... فقيل: لمن يكون هذا العذاب؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: لشارب الخمر من أهل القرآن و تارك الصلاة «1».

و

عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث المناهي قال: «من قرأ القرآن ثمّ شرب عليه حراما، أو آثر عليه حبّ الدنيا و زينتها استوجب عليه سخط اللّه إلّا أن يتوب، ألا و أنّه إن مات على غير توبة حاجّة يوم القيامة فلا يزايله إلّا مدحوضا «2».

و

في الخطبة العلوية: «و تعلّموا القرآن فإنّه ربيع القلوب، و استشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور، و أحسنوا تلاوته فإنّه أحسن القصص، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجّة عليه أعظم، و الحسرة له ألزم، و هو عند اللّه ألوم «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و أمّا الإجابة الحاليّة: فهي التخلّق بأخلاق القرآن، و إن كان لا يستطيع غير من نزل عليه و أهل بيته عليهم السّلام على ذلك كما هو حقّه لأنّه كان خلقه صلّى اللّه عليه و آله حتّى وصفه اللّه العظيم بالعظمة فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «4».

إلّا أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، و أخذ القليل خير من ترك الكثير و قد ورد: أنّ المؤمنين قد خلقوا في ذواتهم و كينوناتهم من أشعّة أنوار محمّد و آل محمّد عليهم السّلام، فلهم رشحة من رشحات صفاتهم.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 79 ص 148

عن جامع الأخبار.

(2) البحار ج 92 ص 180 عن أمالى الصدوق ص 256.

(3) نهج البلاغة ص 164 و منه الوسائل ج 4 ص 825 ح 7.

(4) القلم: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 479

و لذا ورد الأمر بالتخلّق بأخلاق اللّه، و بأخلاق الروحانيّين، بل هو مفتاح لكنوز القرآن، و مصباح يتجلّى به خفايا المعاني و البيان.

ففي العلويّ كما عن المسيح النورانى ما معناه: «ليس العلم في السماء فينزل عليكم، و لا في تخوم الأرض فيصعد إليكم، و لكنّه مجبول في قلوبكم بأخلاق اللّه يظهركم».

و قد ورد في تفسير قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ «1»: أنّ المراد بقوّة في الأبدان و القلوب، فالقوّة في الأبدان هي الأفعال، و الأعمال التي منها الأقوال حسبما سمعت، و في القلوب هي الملكات و الأخلاق الحسنة، و الأحوال الجميلة التي مرجعها إلى التخلّق عن الرذائل، و التحلّى بأنواع الفضائل.

و هذا هو المراد باختلاط القرآن باللّحم و الدّم فيما

روى عن مولانا الصادق عليه السّلام أنّه قال: «من قرأ القرآن و هو شابّ مؤمن اختلط القرآن بلحمه و دمه، و جعله اللّه مع السفرة الكرام البردة، و كان القرآن حجيزا «2» عنه يوم القيامة يقول: يا ربّ إنّ كلّ عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم «3» عطائك، قال: فيكسوه اللّه العزيز الجبّار حلّتين من حلل الجنّة، و يوضع على رأسه تاج الكرامة، ثمّ يقول له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا ربّ قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا، قال: فيعطى الأمن بيمينه، و الخلد بيساره، ثمّ يدخل الجنّة، فيقال له: اقرأ آية فاصعد درجة، ثم يقال له: هل بلّغنا به

______________________________

(1) البقرة: 63.

(2) في البحار:

حجيجا عنه.

(3) في البحار: كريم عطاياك. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 480

تفسير الصراط المستقيم ج 2 519

و أرضيناك؟ فيقول: نعم «1».

و

روى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لابن مسعود: «اقرأ عليّ، قال: فافتتحت سورة النساء، فلمّا بلغت فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «2» رأيت عينيه تذرفان من الدّمع فقال لي: حسبك «3».

و ذلك لاستغراق تلك الحالة لنفسه بالكلّية.

و

روى أنّه جاء إليه صلّى اللّه عليه و آله واحد ليعلّمه القرآن، فانتهى الى قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «4» فقال الرجل يكفيني هذا و انصرف، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انصرف الرجل و هو فقيه «5».

و ذلك إنّما كان لتأثّره و حسن إجابته، و استعداده للعمل.

و قد تحصّل لك ممّا سمعت أنّ لكلّ جزء من أجزاء وجود الإنسان وظيفة في قراءة القرآن، فوظيفة اللّسان هو الترتيل، و حسن البيان، و وظيفة الأركان المبادرة إلى الامتثال للتحقّق بكمال الإذعان، و وظيفة العقل تفسير المعاني و إدراك البرهان، و وظيفة الجنان هو الاستبشار و زيادة الإيمان، و وظيفة الفؤاد الذي هو أعلى مشاعر الإنسان هو الشهود و العيان، و الاستيناس بمناجاة الملك المنّان.

و من الوظائف الباطنيّة: التبرّي من حوله و قوّته، لأنّه يعلم أنّه لا يملك

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 187 ح 9 عن ثواب الأعمال ص 91.

(2) النساء: 41.

(3) جامع الأخبار و الآثار ج 1 ص 291 عن تيسير المطالب.

(4) سورة الزلزال: 7.

(5) بحار الأنوار ج 92 ص 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 481

لنفسه نفعا و لا ضرا، و لا يستطيع

موتا، و لا حياة، و لا نشورا، بل الفضل كلّه بيد اللّه يؤتيه من يشاء، فلا يلتفت إلى نفسه أصلا، فضلا عن أفعاله، و أحواله، و طاعاته التي هي كلّها تقصير، و قصور، خالية من النّور و السرور، فليتّهم نفسه في كلّ حال، و ليتدارك ما فات عنه من الفضائل و تزكية الأعمال، و ليتوسّل في كلّ ذلك إلى النبيّ محمّد و آله خير آل مستشفعا بهم صلوات اللّه عليهم إلى اللّه ذي العزّ و الجلال، و ليكن بما ورد عنهم عليهم السّلام في تفسير الآيات من الأخبار و الآثار، فإنّها مفاتيح كنوز الأسرار، و لوامع الأنوار، و ليتّعظ بها قلبه بالانبساط و الانزجار الذين هما ثمرة البشارة و الإنذار.

و من الوظائف: الترقّي بحسب تدرّج الأحوال إلى درجات الكمال و الاستغراق في مقام التوجّه و الإقبال للوصول إلى الأنس بمناجات ذي الجلال.

و قد يقال: إنّ درجات القرآن ثلاث:

أدناها: أن يقدّر العبد كأنّه يقرأ على اللّه تعالى واقفا بين يديه، و هو ناظر اليه، و مستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير الثناء و السؤال، و التضرّع و الابتهال.

و أوسطها: أن يشهد بقلبه كأنّه سبحانه يخاطبه بألطافه، و يناجيه بانعامه و إحسانه، و هو مقام الحياء و التعظيم له و الإصغاء إليه و الفهم منه.

و أعلاها: أن يرى في الكلام و المتكلّم الصّفات، فلا ينظر الى قلبه، و لا إلى قراءته، و لا إلى تعلّق الإنعام به من حيث إنّه منعم عليه، بل يقتصر همّه على المتكلّم، و يوقف فكره عليه و يستغرق في مشاهدته.

و هذه درجة المقرّبين، و عنه

أخبر مولانا الصّادق عليه السّلام حيث قال: «لقد

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 482

تجلّى اللّه تعالى لخلقه

في كلامه و لكنّهم لا يصبرون» «1».

و

عنه عليه السّلام أيضا و قد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتّى خرّ مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قيل له في ذلك، فقال عليه السّلام: «ما زلت أردّد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلّم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته «2».

ففي مثل هذه الدرجة تعظيم الحلاوة، و بهذا الترقّى يكون العبد ممتثلا لقوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ «3».

و بمشاهدة المتكلّم دون ما عداه يكون ممتثلا لقوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «4»، فإنّ رؤية غير اللّه معه شرك خفيّ لا يخلص منه إلّا برؤيته وحده.

ثمّ إنّ المراد بالتجلّى المذكور في الخبر هو التجلّى الفعليّ بصفة التكلّم الّتي هي من صفات الأفعال، فمن أدرك بظهوره له به فقد عرف نفسه، و من عرفها فقد فقدها: لأنّه لا يتجلّى له حينئذ إلّا الواجب الحقّ، و القيّوم المطلق الذي بفيضه قامت السّماوات و الأرض، و حينئذ يندكّ بل إنيّته و لا يقدر على الاستقرار، و لذا يخرّ مغشيّا عليه، كما كان يعرض كثيرا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و للأئمّة المعصومين عليهم السّلام على ما هو معلوم من أحوالهم في آناء الليل و أطراف النّهار.

بل الغشوة العارضة له عند نزول الوحي و الإلهام، و سماع الكلام من الملك العلّام على ما مرّت الإشارة إليه، و الى ما

قاله مولانا الصادق عليه السّلام لمّا سئل عن

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 107.

(2) مستدرك الوسائل ج 4 ص 107 عن فلاح السائل ص 107.

(3) الذاريات: 50.

(4) الذاريات: 51. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 483

تلك الغشية التي عرضت للنبي صلّى اللّه عليه و آله تارة، هل كان عروضها عند

هبوط جبريل عليه السّلام؟ فقال عليه السّلام: لا، إنّ جبريل عليه السّلام كان إذا أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يدخل عليه حتى يستأذنه، فإذا دخل قعد بين يديه قعدة العبد، و إنّما ذلك عند مخاطبة اللّه عزّ و جلّ إيّاه بغير ترجمان و واسطة «1».

أقول: و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «2».

بل ربما تعرّض له عليه السّلام تلك الحالة بالسّماع من البشر المؤدّي إليها أحيانا

ففي «المجمع» عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سمع قارئا يقرأ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَ جَحِيماً «3» الآيات فصعق عليه صلوات اللّه «4».

لكنّه ينبغي أن يعلم أنّ هذه الدرجة ليست سهلة التناول لكلّ طالب، فلا يصدّق بنيلها كلّ مدّع، و إن ادّعاها بعض أرباب التكلّف من أهل التصوف، بل ربما يشتعل في قلوبهم نيران محبّة المرد، و مشاهدة الوجوه الحسان، أو لغير ذلك من الرّياء، و طلب الدّنيا، و اغترار النّاس و نحوها من أغراضهم الباطلة، فيتغنّون بالقرآن، و يتّخذونها من المزامير و الملاهي، و يرجعون به ترجيّع الملاعب اللاهي، بل ربما يسمع منهم زفير و شهيق، و يجتمع الزبد في أشداقهم كالصديد المغليّ على نار ذات الحريق.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 18 ص 260 عن كمال الدين ص 51.

(2) سورة النمل: 6.

(3) المزمّل: 12.

(4) مجمع البيان ج 10 ص 380.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 484

و

قد حذّرنا مولانا الصادق عليه السّلام منهم بقوله: «إيّاكم و لحون «1» أهل الفسق و أهل الكبائر، فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه شأنهم «2».

و قد مرّ شرح الخبر.

و

في «الكافي»

و «المجالس» للصدوق عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت: إنّ قوما إذا ذكروا شيئا من القرآن أو حدّثوا به صعق أحدهم حتى ترى أن أحدهم لو قطّعت يداه و رجلاه لم يشعر بذلك؟ فقال عليه السّلام: سبحان اللّه ذاك من الشيطان، ما بهذا أمروا «3»، إنّما هو اللّين، و الرقّة و الدمعة، و الرجل «4».

______________________________

(1) لحن في قراءته اى طوب بها.

(2) الكافي ج 2 ص 614 باب ترتيل القرآن ح 3.

(3)

في الكافي: «ما بهذا نعتوا» و فسرّ بأنّ اللّه تعالى لم يصف المؤمنين في كتابه بتلك الأوصاف بل وصفهم باللين و الرقّة و الوجل.

(4) الكافي ج 2 ص 616 باب فيمن يظهر الغشية عند قراءة القرآن ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 485

الباب الثالث عشر

في أحكام القراءة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 487

القرائة تتّصف بكل من الأحكام الخمسة عدى الإباحة لكونها عبادة، فالواجب منها قد يكون بأصل الشرع كما في الصّلاة و في خطبة الجمعة و العيدين، و قد يكون لعارض كالإجارة، و النذر، و شبهه.

و المحرّم منها ما كان مشتملا على الغناء، أو مؤذيا للمصلّين، أو مفوّتا لعبادة واجبة، أو بلسان مغصوب كلسان العبد مع منع مولاه، أو الأجير مع منع مستأجره، أو وجوب الإشتغال بغيرها، أو كانت عزيمة في فريضة، أو على وجه الإهانة و الاستخفاف، أو موجبة للضرر لترك تقيّة، و نحوه، أو القران بين السورتين، و العزائم للجنب و أختيه، كما أنّ قراءة غير العزائم للثلاثة مكروهة مطلقا، أو ما زاد منه على سبع أو سبعين آية.

و

روى أيضا: أنّه لا ينبغي قراءة القرآن من سبعة: الراكع، و السّاجد، و في الكنيف، و في الحمّام، و الجنب، و النفساء، و الحائض

«1».

و المندوب ما عدا ذلك و ربما يتأكّد استحباب القرائة في بعض الأمكنة كالبيوت، و المساجد، و مكّة المعظّمة.

ففي «الكافي» بالإسناد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «نورّوا بيوتكم بتلاوة القرآن، و لا تتخذوها قبورا، كه فعلت اليهود و النصارى، صلّوا في الكنائس و البيع و عطّلوا بيوتهم، فإنّ البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره و اتّسع أهله و أضاء

______________________________

(1) الخصال ج 2 ص 357 ح 42. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 488

لأهل السماء، كما تضي ء نجوم السماء لأهل الدنيا» «1».

و

فيه، عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: البيت الّذي يقرء فيه القرآن، و يذكر اللّه عزّ و جلّ فيه تكثر بركته، و تحضر الملائكة و تهجره الشياطين، و يضي ء لأهل السّماء كما تضي ء الكواكب لأهل الأرض، و إنّ البيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن، و لا يذكر اللّه عزّ و جلّ فيه تقلّ بركته، و تهجره الملائكة، و تحضره الشياطين «2».

و

فيه، عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه في حديث قال عليه السّلام: «كان يجمعنا فيأمرنا بالذّكر حتى تطلع الشمس، و يأمر بالقرائة من كان يقرأ منّا، و من كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر، و البيت الّذي يقرأ فيه القرآن، و يذكر اللّه عزّ و جلّ فيه تكثر بركته «3».

و

فيه، عنه عليه السّلام قال: «إنّ البيت إذا كان فيه المسلم يتلوا القرآن يتراءى لأهل السماء كما يتراءى لأهل الدّنيا الكوكب الدرّى في السّماء «4».

و

في خبر آخر: «إنّ الدار إذا تلي فيها كتاب اللّه كان لها نور ساطع في السماء تعرف من بين الدور «5».

و

في «عدّة الداعي» عن الرّضا عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام عن النبي صلّى اللّه

عليه و آله، أنّه قال: «اجعلوا لبيوتكم نصيبا من القرآن، فإنّ البيت إذا قرئ فيه القرآن يسرّ على أهله، و كثر خيره، و كان سكّانه في زيادة، و إذا لم يقرأ فيه القرآن ضيّق على

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 200 ح 17 عن عدّة الداعي ص 211.

(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 85 أبواب قراءة القرآن الباب (17) ح 2 من أصول الكافي ص 596.

(3) الوسائل ج 4 ص 850 ح 2 عن أصول الكافي ص 530.

(4) الوسائل ج 4 ص 849 و ص 850 ح 1 عن أصول الكافي ص 596.

(5)

الوسائل ج 4 ص 851 ح 6 عن رجال الكشي ص 144 و فيه: (و الدّار). تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 489

أهله، و قلّ خيره، و كان سكّانه في نقصان «1».

و

ورد عنهم عليهم السّلام: «إنّما بنيت المساجد للقرآن» «2».

و

عن أبى جعفر عليه السّلام أنّه قال: «من ختم القرآن بمكّة من جمعة الى جمعة، أو أقلّ من ذلك أو أكثر و ختمه في يوم جمعة، كتب اللّه له من الأجر و الحسنات من أوّل جمعة كانت في الدنيا إلى آخر جمعة تكون فيها، و إن ختمه في سائر الأيّام فكذلك «3».

و ربّما يتأكّد استحباب القرائة في بعض الأزمنة كشهر رمضان، و الليالي، و في الصباح و المساء، و غيرها.

ففي «الكافي» عن أبى جعفر عليه السّلام قال: «لكلّ شي ء ربيع، و ربيع القرآن شهر رمضان «4».

و

فيه، و في «ثواب الإعمال»: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع الى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن، فيكتب له مكان كلّ آية يقرأها عشر حسنات، و تمحى عنه عشر سيّئات «5».

و

فيهما، و

«المعاني» و «المجالس» عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، و من قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، و من قرأ مائة آية كتب من القانتين، و من قرأ مأتي آية كتب من

______________________________

(1)

الوسائل ج 4 ص 850 ح 5 عن عدّة الداعي ص 212 و فيه: (تيسّر على اهله).

(2)

بحار الأنوار ج 83 ص 363 عن التهذيب ج 3 ص 359 و فيه: (إنّما نصبت المساجد).

(3) وسائل الشيعة ج 4 ص 852 ح 1 عن أصول الكافي ص 597.

(4) الوسائل ج 4 ص 853 ح 2 عن أصول الكافي ص 606.

(5) وسائل الشيعة ج 4 ص 851 ح 1 عن أصول الكافي ص 597 و ثواب الأعمال ص 57. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 490

الخاشعين، و من قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين و من قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، و من قرأ ألف آية كتب له قنطار «1».

و

في «المجالس»: خمسون ألف قنطار، و القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب، و المثقال أربعة و عشرون قيراطا، أصغرها مثل جبل أحد، و أكبرها ما بين السماء و الأرض «2».

و

روى الشيخ بالإسناد عن الرّضا عليه السّلام قال: «ينبغي للرّجل إذا أصبح أن يقرأ بعد التعقيب خمسين آية «3».

و

في «الأمالى» لابن الشيخ بالإسناد عن بكر بن عبد اللّه: أنّ عمر دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو موقوذ «4» أو محموم، فقال: يا رسول اللّه: ما أشدّ وعكك «5»، أو حمّاك؟! فقال صلّى اللّه عليه و آله له: ما منعني ذلك أن قرأت اللّيلة ثلاثين سورة منها السبع

الطول، فقال: يا رسول اللّه غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر، و أنت تجتهد هذا الاجتهاد؟! فقال صلّى اللّه عليه و آله: أ فلا أكون عبدا شكورا «6».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مرّت إلى بعضها الإشارة.

و يستحبّ قراءة القرآن على كلّ حال و في كل زمان.

ففي «الكافي» و «المحاسن» عن الصادق عليه السّلام في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام

______________________________

(1) الوسائل ج 4 ص 852 ح 2 عن الكافي ص 597.

(2) الوسائل ج 4 ص 852 عن المجالس ص 36.

(3) الوسائل ج 4 ص 849 ح 3 من التهذيب ج 1 ص 174.

(4) الموقوذ: الشديد المرض.

(5) الوعك (بفتح الواو و سكون العين المهملة): ألم الحمّى.

(6) وسائل الشيعة ج 4 ص 844 ح 19 عن أمالي ابن الشيخ ص 257. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 491

قال: و عليك بقرائة القرآن على كل حال» «1».

و

في «عدّة الداعي» عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: قال اللّه تعالى: «من شغل بقرائة القرآن عن مسألتى أعطيته أفضل ثواب الشاكرين «2».

و

في «المجالس» عن الصادق عليه السّلام، قال: «عليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنة على عدد آيات القرآن فاذا كان يوم القيامة يقال: لقارئ القرآن:

اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية رقى درجة «3».

و

في «المجمع» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل العبادة قراءة القرآن «4».

و قد مرّ في الأبواب المتقدمة أخبار كثيرة تدلّ على ذلك فلاحظ.

و يستحبّ الحلّ و الارتحال، و فسرّ بفتح القرآن و ختمه.

ففي «الكافي» عن الزهري قال: قلت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام: أيّ الأعمال أفضل؟ قال عليه السّلام: الحالّ المرتحل، قلت: و ما الحالّ المرتحل؟

قال عليه السّلام: فتح القرآن و ختمه، فكلّما جاء بأوله ارتحل بآخره «5».

و عن الصادق عليه السّلام في «معاني الاخبار» مثله، إلّا و فيه: «كلّما حلّ في أوّله ارتحل في آخره» «6».

و

في «ثواب الأعمال» عن الصّادق عليه السّلام: أنّه قيل له: يا بن رسول اللّه أيّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 4 ص 839 ح 1 عن روضة الكافي ص 162.

(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 844 ح 20 عن عدّة الداعي ص 211.

(3) الوسائل ج 4 ص 842 ح 10 عن المجالس ص 216.

(4) مجمع البيان ج 1 ص 15.

(5) أصول الكافي ص 594.

(6) معاني الأخبار ص 58. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 492

الرّحال «1» خير؟ قال عليه السّلام: الحالّ المرتحل، قيل: يا بن رسول اللّه، و ما الحالّ المرتحل؟ قال عليه السّلام: الفاتح الّذى يفتح القرآن و يختمه، فله عند اللّه دعوة مستجابة «2».

أقول: قال ابن الأثير في «النهاية»: سئل أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: الحالّ المرتحل، قيل: و ما ذاك؟ قال: الخاتم المفتتح.

ثم قال: هو الذي يختم القرآن بتلاوته، ثم يفتتح التلاوة من أوّله، شبّهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحلّ فيه، ثم يفتتح سيره أى يبتدأ به، و كذلك قرّاء مكّة إذا ختموا القرآن بالتلاوة ابتدأوا و قرءوا الفاتحة، و خمس آيات من أوّل سورة البقرة الى قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ثمّ يقطعون القرائة، و يسمّون فاعل ذلك الحالّ المرتحل، أى إنّه ختم القرآن و ابتدأ بأوّله، و لم يفصل بينهما بزمان.

و قيل: أراد بالحالّ المرتحل الغازي الّذي لا يرجع عن غزو إلّا عقّبه بآخر «3».

و مثله في «مجمع البحرين» باختصار.

و هذا الحكم مشهور بين العامّة أيضا فتوى و رواية، سيّما بين قرّائهم.

ففي «التيسير»

بعد حكاية التكبير عن ابن كثير، قال: فاذا كبّر في آخر سورة الناس قرأ فاتحة الكتاب و خمس آيات من أوّل سورة البقرة على عدد

______________________________

(1) في الوسائل ج 4 ص 843: (أيّ الرجال خير).

(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 842 ح 9 عن ثواب الأعمال ص 57.

(3) نهاية ابن الأثير ج 1 ص 430 في حرف الحاء بعده اللّام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 493

الكوفيّين الى قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» ثمّ دعا بدعاء الختمة، و هذا يسمّى الحالّ المرتحل.

قال: و في جميع ما قدّمناه أحاديث يرويها العلماء يؤيّد بعضهم بعضا تدلّ على صحّة ما فعله ابن كثير.

و مثله في «نظم الشاطبية» و «طيبة النشر» و في «شرح الأخير»: إنّ قوله:

«حلّا و ارتحالا» إشارة إلى

الحديث المرفوع: «أفضل الأعمال الى اللّه الحالّ المرتحل»

الّذى إذا ختم القرآن عاد فيه، ثمّ حكى فعل ابن كثير، قال: و له في فعله هذا دلائل من آثار مرويّة وردت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و أخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة و التابعين و من بعدهم.

الى غير ذلك من كلماتهم المتّفقة على هذا المعنى، إلّا أنّ فيه عندي إشكالا لم أر من تنّبه عليه، و هو أنّ ظاهر الخبرين المرويّين في «الكافي» «2» و «ثواب الأعمال» «3» من طرقنا هو أنّ الحالّ المرتحل هو الذي يفتح القرآن و يأخذ في قراءته و يستمرّ على ذلك مراعيا للترتيب حتّى يختمه، و الظّاهر أنّ المراد أنّ قراءته ليست غير منظّمة، بحيث كلّما بدأ قرأ من موضع فربّما يتكرّر منه قراءة بعض الآيات، و ربّما لا يتّفق منه قراءة بعضها أصلا، بل ينبغي أن يكون اهتمامه بالختمة التي بها عند اللّه

تعالى دعوة مستجابة، و لعلّ

قوله في الخبر الأول: «فتح القرآن و ختمه و كلّما جاء بأوّله ارتحل بآخره»

صريح في ذلك، و كذا الخبر الثاني، فالحال هو المفتتح بالقرائة، و المرتحل هو الفارغ عنه بالاختتام.

______________________________

(1) البقرة: 5.

(2) أصول الكافي ص 594.

(3) ثواب الأعمال ص 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 494

و أمّا ما رواه ابن الأثير في «النهاية»، و المرفوع المتقدّم «1» عن «شرح طيبة النشر» فالمراد منهما ان لم يكن ذلك على تقدير صحّة الخبر هو الحثّ و الترغيب على الاستكثار من القرائة و المواظبة عليها بحيث كلّما فرغ عن ختمة شرع في اخرى.

و اين هذا ممّا قدّره ابن كثير و اختلفه و افتراه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم تبعه فيه بعض من تأخّر عنه على غرّة و غفلة، مع أنّ الأخبار ساطعة الأنوار فيما ذكرناه من الحثّ على الانتظام و الاستكثار.

و يؤيّد ما ذكرناه ما يحكى عن الزمخشري في «الفائق» أنّه قال بعد نقل الخبر: أراد بالحالّ المرتحل المواصل لتلاوة القرآن الّذى يختمه ثم يفتتحه، شبّهه بالمسفار الذي لا يقدم على أهله فيحلّ إلّا أنشأ سفرا آخر فيرتحل.

بل قد تأمّل بعض العامّة في صحّة الخبر، و في كون المراد ذلك، و في كون التفسير عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ففي «إبراز المعاني في شرح حرز الأمانى»: أنّ طرق رواية هذا الخبر كلّها تنتهي الى صالح «2» المرّى و هو و إن كان عبدا صالحا، لكنّه ضعيف عند أهل الحديث.

قال البخاري في «تاريخه»: منكر الحديث، و قال النسائي: متروك.

و على تقدير صحته فقد اختلف في تفسيره:

فقيل: المراد به ما ذكره القرّاء.

______________________________

(1) المراد به:

«أفضل الأعمال الحال المرتحل» رواه في كنز العمال

ح 15/ 95 ح 43649.

(2) هو صالح بن بشير، ابو بشر المرّى الواعظ البصري المتوفّى (173)- ميزان الاعتدال ج 2 ص 289.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 495

و قيل: هو إشارة الى تتابع الغزو و ترك الإعراض عنه فلا يزال في حلّ و ارتحال، و هذا ظاهر اللفظ، إذ هو حقيقة في ذلك، و على ما أوّل به القرّاء يكون مجازا.

ثم قال: و قد رووا التفسير فيه مدرجا في الحديث، و لعلّه من بعض رواته.

ثمّ حكى عن ابن قتيبة تفسير الخبر بالوجهين، و ساق الكلام في ترجيح الثاني، و أنّ الخبر ضعيف، فلا ينبغي أن تغتّر بقول مكّى إنّه صحيح، و أنّ التفسير غير منسوب في كثير من طرق الخبر الى النبي صلّى اللّه عليه و آله بل روى الأهوازى، و غيره هذا الخبر بعينه، و لم ينسب التفسير اليه.

إلى أن قال: و لو صحّ هذا الحديث و التفسير لكان معناه الحثّ على الاستكثار من قراءة القرآن و المواظبة عليها، فكلّما فرغ من ختمة شرع في اخرى، اى انّه لا يصرف عن القرآن بعد ختمه، بل تكون القرآن دأبه و ديدنه.

و

في رواية أخرى خرّجها الأهوازى في «الإيضاح»: الحالّ المرتحل الّذى إذا ختم القرآن رجع فيه

، ثمّ ذكر أنّ ابن كثير قد انفرد بهذا الفعل الذي هو التكبير، و زيادة الحمد و الآيات من البقرة الى وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1».

بل عن ابن غلبون «2»: أنّه من طريق البزّى وحده، و لم يفعل هذا قنبل و لا غيره من القرّاء.

بل قد حكى عن أحمد بن حنبل نفيه رأسا. انتهى ملخّصا.

______________________________

(1) البقرة: 5.

(2) هو ابو الحسن طاهر بن أبى التطّيب عبد المنعم بن عبيد اللّه بن غلبون

الحلبي نزيل مصر و المتوفى بها سنة (399)- تقريب النشر ص 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 496

و قد ظهر من جميع ما مرّ أنّ الظاهر من أخبار الباب هو ما مرّت إليه الإشارة من المعنيين المتقدمين.

نعم

قد حكى من طريق العامّة عن أبي بن كعب: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ افتتح من الحمد، ثمّ قرأ من البقرة إلى وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» ثمّ دعا بدعاء الختمة، ثمّ قام.

بل المحكيّ عن الجزري أنّه صار العمل على هذا في أمصار المسلمين حتّى لا يكاد واحد يختم ختمة إلّا و شرع في اخرى، سواء ختم ما شرع فيه أم لم يختمه، نوى ختمه أو لم ينوه، بل جعل ذلك عندهم من سنّة الختم، و يسمّون من يفعل هذا الحالّ المرتحل، أى الذي يحلّ في قراءة آخر الختمة و ارتحل الى ختمة اخرى.

و عكس بعض أصحابنا هذا التفسير كالسخاوى، و غيره، فقالوا: الحالّ الّذي يحلّ في ختمة عند فراغه من اخرى، قال: و الأوّل أظهر، و هو الّذي يدلّ عليه تفسير الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: قد سمعت أنّ الأوفق بل الظاهر من أخبار الأئمّة عليهم السّلام الذين هم حملة الوحي و خزّان العلم هو المعنى الّذى مرت إليه الإشارة، بل يعضده ما سمعت من الزمخشري و غيره.

و ممّا ينبغي أن يعلم أنّه يجب تعلّم القرآن و تعليمه كفاية، و يستحبّ عينا أما الأوّل: لحفظ الشريعة، و بقاء المعجزة، و توقّف استنباط الأحكام عليه في الجملة، مع أنّه من المصالح المهمّة الّتى يجب القيام عليها كفاية، مضافا إلى

______________________________

(1) البقرة: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 497

اطلاق

الأوامر الّتى ظاهرها الوجوب، و الحمل على الوجوب الكفائي أقرب إلى الحقيقة من الحمل على الاستحباب.

هذا مضافا الى ظهور الإجماع عليه، كالإجماع على الثاني الذي هو استحبابهما عينا، مع أنّ الاخبار به مستفيضة.

ففي النبوي: «خياركم من تعلّم القرآن و علّمه» «1».

و

في العلويّ: «تعلّموا القرآن فإنّه ربيع القلوب» «2».

و

عن أبي جعفر عليه السّلام في خبر سعد المتقدم بتمامه: «تعلّموا القرآن» «3».

و

عن الصادق عليه السّلام: «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلّم القرآن أو يكون في تعليمه» «4».

و

في «مجمع البيان» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: ما من رجل علّم ولده القرآن إلّا توجّ اللّه أبويه يوم القيامة بتاج الملك، و كسيا حلّتين لم ير الناس مثلهما» «5».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قال المعلّم للصّبي: قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال الصّبى: بسم اللّه الرحمن الرحيم، كتب اللّه سبحانه براءة للصّبى، و برائة لأبويه، و براءة للمعلّم من النار «6».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تعلّموا القرآن،

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 186 ح 2 عن أمالى الطوسي ج 1 ص 367.

(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 825 ح 7 عن نهج البلاغة.

(3) الأصول من الكافي ج 2 ص 596.

(4) الكافي ج 2 ص 607 ح 3- و عنه الوسائل ج 4 ص 824 ح 4.

(5) مجمع البيان ج 1 ص 9- و عنه الوسائل ج 4 ص 825 ح 8.

(6) المجمع ج 1 ص 18- و عنه الوسائل ج 4 ص 826 ح 16. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 498

فإنّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميل شاحب اللون، فيقول له: أنا

القرآن الذي كنت أسهرت ليلك، و أظمأت هو أجرك، و أجففت ريقك، و أسبلت دمعك ... إلى أن قال: فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه، و يعطى الأمان بيمينه، و الخلد في الجنان بيساره، و يكسى حلّتين، ثمّ يقال له: اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية صعد درجة، و يكسى أبواه حلّتين إن كانا مؤمنين، ثمّ يقال لهما:

هذا لما علّمتما القرآن» «1».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مرّت إليها الإشارة في الباب الثاني.

و من الأمور التي ينبغي أن يعلم أيضا استحباب حفظ القرآن عن ظهر القلب كلّا أو بعضا، و لو مع مقاساة الشدّة و تحمّل المشاقّ.

ففي «المجمع» عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «من قرأ القرآن حتّى يستظهره و يحفظه أدخله اللّه الجنّة، و شفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت له النار» «2».

و

عنه عليه السّلام قال: «حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنّة يوم القيامة» «3».

و

في «الكافي» عن الصّادق عليه السّلام قال: «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة» «4».

و

فيه، و في «ثواب الأعمال» عنه عليه السّلام قال: «من شدّد عليه في القرآن كان له أجران، و من يسّر عليه كان مع الأوّلين» «5».

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 603.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 16- و عنه الوسائل ج 4 ص 826 ح 14.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 16.

(4) الكافي ج 2 ص 603 ح 2.

(5) الكافي ج 2 ص 606 ح 2- ثواب الأعمال ص 125 ح 1 و عنهما الوسائل ج 4 ص 833 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 499

و

فيهما، عنه عليه السّلام قال: «إنّ الّذى يعالج «1» القرآن و يحفظه بمشقّة منه

و قلّة حفظه له أجران» «2».

اعلم أنّه

قد روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في «مصباح المتهجد»: أنّه من أراد حفظ القرآن فليصلّ أربع ركعات ليلة الجمعة يقرأ في الاولى: فاتحة الكتاب و سورة يس، و في الثانية: الحمد، و الدخان، و في الثالثة: الحمد و الم تنزيل (السجدة)، و في الرابعة: الحمد، و تبارك الذي بيده الملك، فاذا فرغ من التشهّد حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استغفر للمؤمنين، و قال: اللهمّ ارحمني بترك المعاصي أبدا ما أبقيتني، و ارحمني من أن أتكلّف طلب ما لا يعنيني، و ارزقني حسن النظر فيما يرضيك عنّي، أللهمّ يا بديع السماوات و الأرض، ذا الجلال و الإكرام، و العزّة التي لا ترام، أسئلك يا اللّه، يا رحمن، بجلالك و نور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علّمتنيه، و ارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عنّي و أسألك أن تنوّر بكتابك بصري، و تطلق به لساني، و تفرّج به قلبي، و تشرح به صدري، و تستعمل به بدني، و تقوّيني على ذلك و تعينني عليه، فإنّه لا يعينني على الخير غيرك، و لا يوفّق له إلّا أنت «3».

و من الوظائف: أنّه بعد تعلّمه، أو حفظه، كلّا، أو بعضا لا ينبغي تركه تركا يؤدّي إلى النسيان.

ففي «الكافي» بالإسناد عن يعقوب الأحمر، قال: قلت: جعلت فداك إنّه أصابتنى هموم، و أشياء لم يبق شي ء من الخير إلّا و قد تفلّت منّى منه طائفة،

______________________________

(1) عالج الشي ء: زواله.

(2) الكافي ج 2 ص 606 ح 1- ثواب الأعمال ص 137.

(3) مصباح المتهجد ص 184 و عنه البحار ج 89 ص 288 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 500

حتى القرآن لقد تفلّت منّى طائفة منه.

قال: ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن، ثم قال عليه السّلام: إنّ الرجل لينسى السورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتى تشرف عليه من درجة من بعض الدّرجات فتقول: السلام عليك، فيقول: و عليك السلام من أنت؟ فتقول: أنا سورة كذا و كذا، ضيّعتني و تركتني، أما لو تمسّكت بى بلغت بك هذه الدرجة ...

الخبر «1».

و قد مرّ أيضا أنّ الأخبار الدالّة بظاهرها على حرمة الترك المؤدّي إلى النسيان

كالمرويّ في «الفقيه» و «عقاب الأعمال» عن الصّادق عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ألا و من تعلّم القرآن ثمّ نسيه لقى اللّه يوم القيامة مغلولا يسلّط اللّه بكلّ آية منها حيّة تكون قرينة الى النار إلّا أن يغفر له «2».

فلعلّه محمول على ترك العمل به، أو على التّرك الناشئ من التهاون و الاستخفاف به.

و يؤيّده أنّ

في «عقاب الأعمال»: «ثمّ نسيه متعمّدا»

، على ما فسرّ في الأخبار.

و يؤيّده أيضا نفى الحرج عنه

في قول الصادق عليه السّلام لسعيد بن عبد اللّه الأعرج، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يقرأ القرآن ثمّ ينساه، ثمّ يقرأه ثمّ

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 608 ح 6- منه الوسائل ج 4 ص 846 ح 4.

(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 12- عقاب الأعمال ص 332. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 501

ينساه، أ عليه فيه حرج؟ فقال عليه السّلام: لا «1».

و

للهيثم بن عبيد، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قرأ القرآن ثم نسيه، فرددت عليه ثلاثا، أ عليه فيه

حرج؟ فقال عليه السّلام: لا «2».

و أمّا

النبويّ المرويّ عن طرق الفريقين: «من تعلّم القرآن ثم نسيه لقى اللّه تعالى و هو أجذم» «3».

فقد اختلفوا في معناه: فقيل: إنّه مقطوع اليد، من جذم الرجل (بكسر الذال المعجمة): إذا صار أجذم اى مقطوع اليد.

و مثله

العلوي: «من نكث بيعته لقي اللّه تعالى و هو أجذم، ليست له يد» «4».

و هذا هو المحكّي عن أبي عبيد، و اعترضه ابن قتيبة بأنّ العقوبات من اللّه سبحانه لا تكون إلّا وفقا للذّنوب و بحسبها، و اليد لا مدخل لها في نسيان القرآن.

و قال: الأجذم هاهنا الذي ذهبت أعضاؤه كلّها، يقال: رجل أجذم و مجذوم إذا فتّت أعضاؤه من الجذام و هو الداء المعروف.

و اعترض «5» بأنّ قضيّة الموافقة عقوبة الزاني بفرجه و القاذف بلسانه.

و بأنّ الجذام غير مشتق من الجذم الّذى هو القطع، و إلّا لوجب كلّ داء يقطع الجسد و يفرّق أوصاله كالجدري، و الأكله يسمّى جذاما، و يسمّى المبتلى به

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 633 ح 24.

(2) الكافي ج 2 ص 608 ح 5.

(3) أمالي السيّد المرتضى ج 1 ص 5 و عنه مستدرك الوسائل ج 4 ص 263.

(4) بحار الأنوار ج 2 ص 267.

(5) المعترض هو ابن الأنبارى محمد بن القاسم المتوفى (328)، قال: معنى الحديث أنّه لقي اللّه و هو أجذم الجمّة لا لسان لا يتكلّم و لا حجّة في يده- البحار ج 2 ص 268.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 502

أجذم، و هو باطل.

مع أنّ الجوهري ذكر أنّه مشتقّ من جذم الرجل (بضمّ الجيم) فهو مجذوم، و لا يقال: أجذم.

و قال الفيّومى: قالوا: و لا يقال فيه من هذا المعنى: فهو أجذم وزان أحمر.

و قيل

«1»: معناه لقيه خالي اليد من الخير، صفرها من الثواب، فكنّى باليد عما تحتويه و تشتمل عليه من الخير.

و قيل: معناه لقيه منقطع السبب، يدلّ عليه قوله: «القرآن سبب بيد اللّه و سبب بأيديكم، فمن نسيه فقد قطع سببه.

و التخصيص في العلويّ المتقدّم بذكر اليد لخصوص البيعة الّتى تباشرها اليد من بين الأعضاء «2».

و قال السيّد المرتضى رضى اللّه عنه بعد الاعتراض على المعنيين الأوّلين ببعض ما سمعت، و غيره ممّا لا يخلو عن تأمّل: إنّه عليه السّلام أراد المبالغة في وصفه بالنقصان عن الكمال، و قد ما كان فيه بالقرآن من الزينة و الجمال.

قال: و التشبيه له بالأجذم من حسن التشبيه و عجيبه، لأنّ اليد من الأعضاء الشريفة الّتى لا يتمّ كثير من التصرفات و لا يوصل الى كثير من المنافع إلّا بها، ففاقدها يفقد ما كان فيه من الكمال، و تفوتها المنافع و المرافق الّتى كان يجعل يده ذريعة الى تناولها، و هذه حال ناسى القرآن و مضيّعه بعد حفظه، لأنّه

______________________________

(1) قائله ابن الأعرابي محمّد بن زياد المتوفى (230).

(2) بحار الأنوار ج 2 ص 268.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 503

يفقد ما كان لابسا له من الجمال و مستحقّا له من الثواب «1».

أقول: أمّا اشتقاقه من الجذام، ففيه مع بعده، أنّه مردود بنصّ أهل اللّغة على خلافه و هجر استعماله كما مرّ عن الجوهري و الفيّومى.

نعم في «القاموس»: جذم كعني (أي بضم الجيم و كسر الذال المعجمة) فهو مجذوم و مجذّم و أجذم، و وهم الجوهري في منعه.

و لكنّه غير صالح للمعارضة لما مرّ، و لو مع تقديم الشهادة على الإثبات، لأنّه فرع التكافؤ، سلّمنا لكنّه لا بدّ عن الشذوذ و الندرة.

و أمّا

المعاني المتقدّمة فلا يبعد الحمل عليها و لو على جهة الاجتماع، فإنّ الكلمة من محمّد و آله صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين لتنصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج، سيّما مع عدم تعاند المعاني في المقام، بل و تناسبها، فإنّه يمكن أن يراد أنّه يلقى اللّه تعالى مقطوع اليد أى قليل الحظّ من الثواب، فاقد الخير و البهجة، فائت الزينة و الكمال.

نعم، قد يقال: إنّ في هذا الحديث سرّا يتّضح بالحديث الآخر الّذي تواتر نقله

عنه صلّى اللّه عليه و آله من طرق الفريقين: «إنّى تارك فيكم الثقلين: أحدهما كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض».

فلمّا شبّه الكتاب بالحبل الّذى يتعلّق به و يجعل سببا للتوقّي الى المراتب، و التوقّي عن المعاطب، عبّر عن تاركه و الغافل عنه بالأجذم، و إنّما يخيّل اليه بكلمة الأجذم الشنعة و اللّفظ المستكره لأنّه إذا انقطع الحبل لم يكن تمسّك، و إذا كانت اليد جذماء أيضا لم يمكن التمسّك، فأراد بذلك أنّ عدم حصول التمسّك

______________________________

(1) أمالى المرتضى ج 1 ص 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 504

و الإمساك إنّما هو لأمر راجع الى اليد الممسكة لا إلى الحبل، فإنّ الممدود من السماء الى الأرض و هو القرآن باق بحاله.

و يمكن أن يكون المراد من النسيان ترك العمل بما فيه من ولاية آل محمّد عليهم السّلام، كقوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ «1»، فيلقى اللّه تعالى حينئذ مقطوع اليد عن التشبّت بحبل ولائهم عليهم السّلام فإنّهم حبل اللّه المتين الّذي أمرنا بالتمسك به.

و من أحكام القراءة: أنّه يستحب ختم القرآن في ثلاث و صاعدا إلى شهر، مع الاهتمام في إيثار الترتيل و حسن التدبّر و سائر الوظائف

على كثرة القراءة.

ففي «العيون» بالإسناد عن إبراهيم بن العبّاس، قال: ما رأيت الرّضا عليه السّلام سئل عن شي ء قطّ إلّا علمه، و لا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوّل إلى وقته و عصره، و كان المأمون يمتحنه بالسّئوال عن كلّ شي ء فيجيب فيه، و كان كلامه كلّه، و جوابه، و تمثّله انتزاعات من القرآن، و كان يختمه في كلّ ثلاث و يقول عليه السّلام: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت، و لكنّى ما مررت بآية قطّ إلّا فكّرت فيها، و في أيّ شي ء أنزلت، و في أي وقت، فلذلك صرت أختم في كلّ ثلاثة «2».

و

في «الإقبال» للسيّد ابن طاوس رحمة اللّه عليه: عن وهب بن حفص، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته: الرّجل في كم يقرأ القرآن؟

______________________________

(1) الانعام: 44.

(2) العيون ج 2 ص 180 ح 4، الأمالى ص 525 ح 14، و عنهما البحار ج 49 ص 90 ح 3، و ج 92 ص 204 ح 1. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 505

قال عليه السّلام: في ستّ فصاعدا، قلت: في شهر رمضان؟

قال عليه السّلام: في ثلاث و صاعدا «1».

و

عن ابن قولويه باسناده إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يعجبني أن يقرأ القرآن في أقلّ من شهر» «2».

و مثله في «الكافي» عنه عليه السّلام بعد ما قيل له: «أقرأ القرآن في ليلة» «3».

و

فيه بالإسناد: عن حسين بن خالد، عنه عليه السّلام قال: قلت له: «كم أقرا القرآن؟ قال عليه السّلام: اقرأه أخماسا، أقرأه أسباعا، أما إنّ عندي مصحفا مجزّءا أربعة عشر جزءا «4».

و

فيه: عن عليّ بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السّلام

و أنا حاضر، فقال له: جعلت فداك أقرأ القرآن في ليلة؟ قال عليه السّلام: لا، فقال: ففي ليلتين؟ فقال: لا، حتّى بلغ ستّ ليال، فأشار بيده و قال: ها، ثم قال عليه السّلام: يا أبا محمّد انّ من كان قبلكم من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ القرآن في شهر و أقلّ، إنّ القرآن لا يقرا هذرمة، و لكن يرتّل ترتيلا، إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها و تعوّذت باللّه من النار، فقال أبو بصير: أقرأ القرآن في رمضان في ليلة؟

فقال عليه السّلام: لا، فقال: في ليلتين؟ فقال عليه السّلام: لا، فقال: في ثلاث؟ فقال عليه السّلام: ها! و أومأ بيده، نعم، إنّ شهر رمضان لا يشبهه شهر من الشهور، له حقّ و حرمة، أكثر

______________________________

(1) إقبال الأعمال ص 110 و عنه الوسائل ج 4 ص 864 ح 9.

(2) الإقبال ص 110 عن ابن قولويه.

(3) الكافي ج 2 ص 617 ح 1.

(4) الكافي ج 2 ص 617 ح 3. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 506

من الصلاة ما استطعت «1».

و مثله عنه بطريق آخر، و زاد بعد قوله: ترتيلا: «و إذا مررت فيها ذكر الجنّة فقف عندها و سل اللّه الجنّة» «2».

و

فيه: عن عليّ بن المغيرة، عن أبى الحسن عليه السّلام قال: قلت له: إنّ أبي سأل جدّك عليه السّلام عن ختم القرآن في كلّ ليلة، فقال له جدّك: في كلّ ليلة، فقال له: في شهر رمضان، فقال له جدّك: في شهر رمضان فقال له أبي نعم ما استطعت، فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثمّ ختمته بعد أبي، فربما زدت و ربما نقصت على قدر فراغي و شغلي و

نشاطي، و كسلى، فاذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ختمة: و لعليّ عليه السّلام اخرى، و لفاطمة عليهما السّلام أخرى، ثمّ للأئمّة عليهم السّلام حتّى انتهيت إليك، فصيّرت لك واحدة، منذ صرت في هذه الحال، فأيّ شي ء لي بذلك؟ قال عليه السّلام: لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة، قلت: اللّه أكبر فلي بذلك؟ قال عليه السّلام: نعم، ثلاث مرّات «3».

أقول: و قد استدلّ به على استحباب إهداء ثواب القراءة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و الأئمّة عليهم السّلام و إلى المؤمنين من الأحياء و الأموات، و لا بأس بذلك، سيّما بعد الاعتضاد بالاعتبار، و بعموم ما دلّ على من عمل من المسلمين من ميّت عملا صالحا أضعف اللّه له أجره للّذى يفعله و للميّت، و خصوص ما دلّ على إهداء خصوص السّور لأهل القبور، و لمن يريد صلته من الأموات.

بل

في «دعوات» الرّاوندى: عن ابن عبّاس: أنّ رجلا ضرب خباء على

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 618 ح 5 و عنه الوسائل ج 4 ص 862 ح 3.

(2) الكافي ج 2 ص 617 ح 2 و عنه الوسائل ج 4 ص 862 ح 4.

(3) الكافي ج 2 ص 618 ح 4. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 507

قبر، و لم يعلم أنّه قبر، فقرأ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فسمع صالحا يقول:

هي المنجية، فذكر ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «هي المنجية من عذاب القبر» «1».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من دخل المقابر و قرأ سورة يس خفّف اللّه عنهم يومئذ، و كان له بعدد من فيها حسنات» «2».

و أمّا الإهداء للأحياء فلا بأس

به بعد دلالة الخبر المتقدّم عليه في الجملة.

بل و

عن «مشكاة الأنوار» و «عدّة الداعي» عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ما يمنع أحدكم أن يبرّ والديه حيّين و ميّتين، يصلّى عنهما، و يتصدّق عنهما، و يصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، و له مثل ذلك فيزيده اللّه ببرّه خيرا كثيرا» «3».

و من أحكام القرآن: أنّه يستحبّ تصحيح المصحف من الأغلاط مادّة و هيئة إذا كان ملكا له، أو مأذونا من مالكه، و لو بالفحوى، أو شاهد الحال بل يستحبّ تصحيح المصاحف الموقوفة للموقوف عليهم، أو بإذنهم إذا لم يؤدّ إلى تضييع الخطوط، أو الورقة بالمحو، و المزق، و الخرق.

و هل يجوز إثبات الساقط أو الممحوّ منها بالخطّ الذي دونها في الحسن؟

الأقرب الجواز، إلّا أن يكون بعيدا عن مجانسته جدّا أو بالغا في الرّدائة بحيث لا يكاد يقرأ.

و منها: أنّه يستحبّ اتّخاذ المصحف في البيت و تعليقه فيه، من غير أن يترك القرائة منه.

______________________________

(1) الدعوات ص 279 ح 811 و عنه البحار ج 82 ص 64 ح 8.

(2) مجمع البيان ج 8 ص 413.

(3) بحار الأنوار ج 74 ص 46 ح 7 عن الكافي ج 2 ص 159 مع تفاوت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 508

في «الكافي» و «ثواب الأعمال» عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّه ليعجبني أن يكون في البيت المصحف يطرد اللّه عزّ و جلّ به الشياطين» «1».

و

في «قرب الإسناد» عن الباقر عليه السّلام، قال: «يستحبّ أن يعلّق المصحف في البيت، و يتّقى به من الشياطين، قال: و يستحبّ أن لا يترك من القرائة فيه» «2».

و

في «الكافي»: عن الصادق عليه السّلام قال: «ثلاثة يشكون إلى اللّه عزّ و جلّ:

مسجد خراب لا يصلّى فيه أهله، و

عالم بين جهّال، و مصحف معلّق قد وقع عليه الغبار، لا يقرأ فيه» «3».

و من أحكام القرآن: حرمة بيعة و شرائعه، صرّح جماعة من الأصحاب بحرمتها، بل مطلق نقله، و انتقاله بالعقود المعاوضية، كلّا أو بعضا، و لو ورقة منه، أو آية، أو كلمة.

و هو فتوى «النهاية»، و «السرائر» و «الشرائع» و «الدروس»، و «جامع المقاصد»، و غيرها، بل عن «نهاية الأحكام» منع الصحابة عنه.

و الأصل فيه أخبار مستفيضة ظاهرة، أو صريحة في تحريم بيعه.

و فيها كما في الفتاوى أنّه إنّما يباع الجلد و الورق، و غيرهما من الآلات.

ففي «الكافي» عن عبد الرحمن بن سليمان، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ المصاحف لن تشترى، فاذا اشتريت فقل: إنّما أشترى منك

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 613 ح 2- ثواب الأعمال ص 129 ح 1.

(2) قرب الاسناد ص 42 و عنه البحار ج 92 ص 195 ح 2.

(3) الكافي ج 2 ص 613 ح 3. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 509

الورق و ما فيه من الأدم و حليته و ما فيه من عمل يدك بكذا و كذا «1».

قيل: و لعلّ المراد ما عملت يده ممّا عدا الكتابة.

و

عن سماعة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تبيعوا المصاحف، فإنّ بيعها حرام، قلت: فما تقول في شرائها؟ فقال عليه السّلام: اشتر منه الدفتين، و الحديد «2»، و الغلاف، و إيّاك أن تشترى منه الورق و فيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراما، و على من باعه حراما «3».

و لعلّ المراد في الخبر الأوّل حال التجرّد، أو خصوص الأجزاء المجرّدة من كتابة القرآن، و في الثاني ما اشتمل عليه، و لذا قيل: إنّ

قوله:

«و فيه القرآن»

يعنى تجعله المقصود بالشراء، فيلزم التحريم.

و

عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها، فقال عليه السّلام: لا تشتر كتاب اللّه، و لكن اشتر الحديد، و الجلود، و الدفتين، و قل: أشتر هذا منك بكذا و كذا «4».

و

عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألته عن شراء المصاحف، فقال عليه السّلام: إذا أردت أن تشترى فقل: أشترى منك ورقه و أديمه و عمل يديك بكذا و كذا «5».

أقول: و الّذى يظهر من أخبار الباب بالتأمّل وفاقا لبعض أجلّة المحققين

______________________________

(1) فروع الكافي ج 5 ص 121 و عنه الوسائل ج 17 ص 158.

(2) الحديد الذي يعلّق على جلد المصحف ليغلق و يقفل كما هو المشهود في زماننا (تعليقات الغفاري على الكافي).

(3) الوسائل ج 17/ 160 عن التهذيب ج 7 ص 231.

(4) فروع الكافي ج 5 ص 121 ح 1 و عنه الوسائل ج 17 ص 158.

(5) الوسائل ج 17 ص 159 ح 6 عن التهذيب ج 6 ص 365.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 510

كصاحب الجواهر و غيره، بل و لظاهر الأكثر على ما تسمع أنّ النهى نهى تعظيم لا نهى تحريم، و ذلك لأنّ قضيّة تعظيم كتاب اللّه و كلامه أن لا يساوم في معرض البيع و الشراء، و لا يشترى بآيات اللّه ثمنا قليلا، بل يجعل البيع الصوري بالنسبة الى الجلد، و الغلاف، و غيرهما ممّا يتعلّق به، و إن كان المقصود الأصلى هو الكتابة، بل يتفاوت البذل باختلافها في مراتب الجودة.

و بالجملة قضيّة الأصول و الإطلاقات و العموم جواز بيعه، بل عليه السيرة القطعيّة في سائر الأعصار و الأمصار، و إن اشتهر

بين أهل العرف من جهة حسن الأدب تسمية بيعه أو ثمنه هديّة.

بل

في خبر عنبسة الورّاق، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت: أنا رجل أبيع المصاحف، فإن نهيتني لم أبعها؟ فقال عليه السّلام: أ لست تشترى ورقا و تكتب فيه؟

قلت: بلى و أعالجها، قال عليه السّلام: لا بأس بها «1».

بل و لعلّ فيه إشارة إلى إثبات المقتضى لجواز البيع و نفى المانع عنه، و ذلك أنّ كلّا من الورق و المداد الذي يكتب به كانا قبل الكتابة ملكا له، و مجرّد الكتابة غير موجب لخروج شي ء منهما عن ملكه، و لا لخروجهما عن قابليّة الانتقال، سواء قلنا إنّ المكتوب و هو النقوش الواقعة على سطح الورق من الأعيان الّتى يكون بإزائها جزء من الثمن كما هو الأظهر، أو قلنا: إنّها من الأعراض و الصفات الّتى تزيد بها قيمة الورق.

هذا مضافا الى أنّ ما يحرم بيعه أو نقله مطلقا إمّا أن يكون هو خصوص النقوش، أو النقوش بمحالّها من الورق، أو الورق المنقوش باعتبار موضع

______________________________

(1) الوسائل ج 17 ص 159 عن الكافي ج 5 ص 122 ح 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 511

الكتابة أو مطلقا، و هو على الوجوه كلّها ملك للبايع قبل البيع، و أمّا بعده فإن بقي على ملكه فهو كما ترى لاستلزامه الشركة و توقّف جواز التصرّف فيه على إذنه، و غيره ممّا لا يلتزم به أحد، و إن انتقل إلى المشترى بجزء من الثمن فهو المطلوب، أو تبعا، أو مجانّا، أو قهرا فهو خلاف المقصود، بل لا أرى أحدا يلتزم بنفي خيار العيب و الغبن، و خلاف الوصف إذا اشتمل على أغلاط، و سقطات كثيرة، أو اختلاف في خطّ،

أو مخالفة للوصف أو غير ذلك، كما لا ينبغي أن يلتزم أحد بأنّ خطّ المصحف لا يدخل في الملك شرعا.

نعم الذي يظهر من الأخبار كراهة البيع الصوري بالنسبة اليه، تعظيما لكتاب اللّه تعالى، كما علّق عليه النهى في الأخبار، و أما صحّته فلا ينبغي التأمّل فيها بعد ما سمعت من السيرة القطعيّة و غيرها و إطلاق الفتاوى في مقام شرائط البيع و غيره، حتّى في مسألة بيع المصحف من الكافر الظاهر في جواز بيعه من المسلم من غير تقييد بالآلات.

مضافا الى ما

في خبر عبد الرحمن بن أبى عبد اللّه، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ أمّ عبد اللّه بن الحارث أرادت أن تكتب مصحفا فاشترت ورقا من عندها و دعت رجلا فكتب لها على غير شرط، فأعطته حين فرغ خمسين دينارا، و انّه لم تبع المصاحف إلّا حديثا» «1».

لظهوره في كون السيرة حاصلة في زمانه عليه السّلام أيضا، و إن كانت فيه إشارة الى حسن الأدب للسلف الصّالح حيث كانوا لا يشارطون الاجرة على الكتابة.

كما أشير إليه أيضا مع دلالته على المطلوب من وجهين، أو وجوه

في خبر

______________________________

(1) الوسائل ج 17 ص 160 ح 10 عن التهذيب ج 6 ص 366. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 512

روح بن عبد الرحيم قال: سألت الصادق عليه السّلام من شراء المصاحف و بيعها، فقال عليه السّلام: إنّما كان يوضع الورق عند المنبر، و كان ما بين المنبر و الحائط قدر ما تمرّ الشاة، أو رجل منحرف، قال: فكان الرّجل يأتى فيكتب من ذلك، ثمّ إنّهم اشتروا بعد، قلت: فما ترى في ذلك؟ فقال لي: أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه، قلت: فما ترى أن أعطي على كتابته

أجرا؟ قال عليه السّلام: لا بأس، و لكن هكذا كانوا يصنعون «1».

و

خبر أبى بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع المصاحف و شرائها، فقال عليه السّلام: إنّما كان يوضع عند القامة «2» و المنبر، قال: و كان بين الحائط و المنبر قيد «3» ممّر شاة أو رجل منحرفا، فكان الرّجل يأتى و يكتب البقرة، و يجي ء آخر و يكتب السورة، كذلك كانوا ثمّ اشتروا بعد ذلك، قلت: فما ترى في ذلك؟

فقال عليه السّلام: أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه «4».

حيث إنّ الاقتصار في الصدر الأوّل على الكتابة دون البيع و الشراء إنّما كان للتعظيم، ثمّ استمرّت الطريقة على المعاملة.

و قوله بعد السؤال عمّا جرت السيرة عليه من شراءه:

«أن اشترى أحبّ إليّ من أن أبيعه»

كالصّريح في جوازهما، و إن كان بذل الثمن بإزائه أحبّ إليه من أخذه به.

______________________________

(1) الوسائل ج 17 ص 159 ح 4 عن الكافي ج 5 ص 121 ح 3.

(2) قال المحدّث الكاشاني في الوافي: أراد بالقامة الحائط فإنّ حائط مسجد الرّسول (ص) كان قدر قامة.

(3) القيد: القدر- الصحاح- قيد ج 2 ص 529.

(4) الوافي ج 3 ص 38- الوسائل ج 17 ص 160 عن التهذيب ج 6 ص 366.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 513

و بالجملة لا ينبغي للفقيه التأمّل في الجواز مع الكراهة، و ان اختلفت شدّة و ضعفا بالنسبة الى البيع و الشّراء، حسبما يدلّ عليه الخبران، مضافا الى شهادة الإعتبار بذلك.

بل قد يقال: بكراهة بيع غير المصحف أيضا من الكتب المشتملة على بعض الآيات قلّت أو كثرت.

بل و كتب الحديث المشتملة على أخبار أولياء اللّه الذين كلامهم كلام اللّه تعالى.

بل و كتب اللّغة سيّما المشتملة على تفسير

لغات الكتاب و السنّة، و أولى منها التفاسير و ان لم يشتمل على تمام الآية.

و كذا كتب الفقه المشتملة على الآيات و الأخبار، و الخطب سهل بعد ما سمعت، و التعظيم و الإكرام مطلوب في كلّ مقام.

هذا كلّه بالنسبة إلى بيعه من المسلمين، و أمّا بيعه من أعداء الدين فالمشهور بين المتأخّرين عدم جواز بيعه من الكافر و لو على الوجه الّذى يجوز بيعه من المسلم، لفحوى ما دلّ على عدم تملّك الكافر للمسلم، من الآية و الخبر، و انّ الإسلام يعلو و لا يعلى عليه.

مضافا إلى فحاوي ما دلّ على وجوب التعظيم للشعائر، خصوصا القرآن، و حرمة الإهانة به، و نفى السلطنة و السبيل لهم، و أنّ في تملّكهم له إهانة للإسلام، و أهله.

بل قد يلحق به أبعاضه و كلماته المتّصلة المتفرّقة، بل المقطّعة المكتوبة بالحروف، أو الرقوم الهنديّة، أو الخطوط المختلفة الغريبة جوهريّة و عرضيّة،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 514

و لو بالانطباع و العكس، و منسوخ الحكم و غيره، و تمام الكلام فيه و في سائر الفروع في الفقه.

و منها: أنّه يكره تذهيبه بمعنى استعمال الذّهب المحلول في جداوله، و مفتتحات سوره و كتابة أعشاره، و أخماسه، و أجزائه، و أعلام آياته، و وقوفه، و اختلافات قراءاته، و وجوه إعرابه، و بين سطوره، و أطراف صفحاته.

لموثّق سماعة، قال: سألته عن رجل يعشّر المصاحف بالذّهب، فقال عليه السّلام: لا يصلح، قال: إنّها معيشتي، فقال عليه السّلام: إنّك إن تركته للّه جعل اللّه لك مخرجا «1».

و ربما يقال بالحرمة نظرا الى نفى الصلاحيّة في الخبر الظاهر في الحرمة و الفساد و على ما هو أظهر الأقوال فيه.

و فيه: أنّه مع تسليمه ينبغي الخروج عنه، و

لو لشهرة الفتوى و ظاهر الأخبار.

كخبر محمّد بن الورّاق، قال: عرضت على أبي عبد اللّه عليه السّلام كتابا فيه قرآن معشّر بالذهب، و كتب بآخره سورة بالذهب، فأريته إيّاه، فلم يعجب فيه شيئا إلّا كتابة القرآن بالذهب، فإنّه قال عليه السّلام: لا يعجبني أن يكتب القرآن إلّا بالسّواد كما كتب أوّل مرّة «2».

و فيه أيضا دلالة على استحباب كتابته بالسّواد، دون غيره.

______________________________

(1)

الوسائل ج 17 ص 162 ح 1 عن التهذيب ج 6 ص 366 و فيه: إنّه معيشتي.

(2) الكافي ج 2 ص 629 ح 8- التهذيب ج 6 ص 367 ح 177 و الوسائل عنهما ج 17 ص 162 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 515

و

خبر آخر: «لا بأس بتحلية المصاحف و السيوف بالذهب و الفضة» «1».

و نفى البأس صريح في نفى التحريم، و إن استفيدت الكراهة منه، أو من غيره على ما مرّ.

بل و ممّا

روى في كتاب «المختصر» للحسن بن «2» سليمان، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في علامات ظهور القائم عجلّ اللّه تعالى فرجه قال: «يكون ذلك إذا رفع العلم، و ظهر الجهل، و كثر القرّاء، و قلّ العمل و حليت المصاحف، و زخرفت المساجد» «3».

______________________________

(1)

الوسائل ج 5 ص 105 عن الكافي ج 6 ص 475 ح 3 و فيه: «ليس بتحلية المصاحف و السيوف بالذهب و الفضّة بأس».

(2) الحسن بن سليمان بن خالد الحلّى المجاز من الشهيد الأوّل سنة (757)- الذريعة ج 20 ص 182.

(3) بحار الأنوار ج 51 ص 70 عن كمال الدين ج 1 ص 361- 364.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 517

الباب الرابع عشر

في جملة من الفوائد الّتى ينبغي التنبيه عليها

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 519

و هي أمور:

الأوّل: أنّ

القرآن شفاء من كلّ داء.

لا ريب في أنّ القرآن بجميع معانيه، و بطونه، و إشاراته، و لطائفه و حقائقه شفاء من العيوب النفسيّة، و الأمراض القلبيّة الّتى هي الجهالات و الضلالات، و الانحرافات، و متابعة الأهواء النفسانيّة، و الوساوس الشيطانيّة، و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «1».

و

روى العيّاشى عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: «إنّما الشفاء في علم القرآن لقوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ «2» لأهله لا شكّ فيه و لا مرية» «3».

و

في تفسير الإمام عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ هذا القرآن هو النور المبين، و الحبل المتين، و العروة الوثقى، و الدرجة العلياء، و الشفاء الأشفى، و الفضيلة الكبرى، و السعادة العظمى، من استضاء به نوّره اللّه، و من عقد به أموره عصمه اللّه، و من تمسّك به أنقذه اللّه، و من لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، و من استشفى به شفاه اللّه، و من آثره على ما سواه هداه اللّه، و من طلب الهدى في غيره أضلّه اللّه».

و قد مرّ كثير من الأخبار المتعلّقة بالمقام في الباب الثاني.

______________________________

(1) الإسراء: 82.

(2) الإسراء: 82.

(3) تفسير الامام ص 203 و عنه البحار ج 92 ص 31 ح 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 520

تفسير الصراط المستقيم ج 3 5

و كما أنّ باطنه و معانيه، و علمه، و العمل به شفاء من الأمراض الباطنيّة كذلك ألفاظه و حروفه شفاء من الأمراض البدنيّة، ففي معانيه شفاء الروح و الجنان بنور العلم و الإيمان، و في ألفاظه شفاء الأبدان، و قوّة الأركان،

بل و في كلّ من الأمرين كلّ من الأمرين، و لذا يجوز بل يستحبّ الاستشفاء به من الأمراض الظاهرة و الباطنة.

و أمّا ما

في «البصائر» عن الحارث «1» النصرى قال: رأيت على بعض صبيانهم تعويذا، فقلت: جعلني اللّه فداك أما يكره تعويذ القرآن يعلّق على الصبيّ؟ قال عليه السّلام: «إنّ ذا ليس بذا، إنّما ذا من ريش الملائكة، إنّ الملائكة تطأ فرشنا، و تمسح رؤس صبياننا» «2».

فلا دلالة فيه على الكراهة تقريرا، و لا فحوى كما لا يخفى، سيّما بعد تظافر الأخبار على الجواز، بل على الاستحباب.

ففي «طبّ الأئمّة»: عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رقية العقرب و الحيّة و النشرة و رقية المجنون و المسحور الذي يعذّب؟ فقال:

يا بن سنان لا بأس بالرقية و العوذة و النشرة إذا كانت من القرآن، و من لم يشفه فلا شفاه اللّه تعالى، و هل شي ء أبلغ في هذه الأشياء من القرآن، أو ليس اللّه يقول:

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «3»؟ أليس يقول اللّه جلّ ثناؤه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «4»؟ سلونا نعلّمكم و نوقفكم على قوارع القرآن لكلّ داء «5».

______________________________

(1) هو الحارث بن المغيرة النصرى البصري الموثّق الراوي عن الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السّلام.

(2) بحار الأنوار ج 26 ص 354 ح 12 عن البصائر ص 26.

(3) الإسراء: 82.

(4) الحشر: 21.

(5) بحار الأنوار ج 95 ص 4 عن طبّ الأئمّة ص 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 521

و

عنه عليه السّلام في الرّجل تكون به العلّة فيكتب له القرآن فيعلّق عليه أو يكتب له فيغسله و يشربه، قال:

لا بأس به كلّه «1».

و

عنه عليه السّلام: «لا بأس بالتعويذ أن يكون على الصبيّ و المرأة» «2».

و

عن الحلبي، قال: سألت جعفر بن محمّد عليهما السّلام هل نعلّق شيئا من القرآن و الرّقى على صبياننا؟ فقال عليه السّلام: نعم إذا كان في أديم تلبسه الحائض، و إذا لم تكن في أديم لم تلبسه المرأة «3».

و

سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن التعويذ يعلّق على الصبيان، فقال عليه السّلام: علّقوا ما شئتم إذا كان فيه ذكر اللّه تعالى «4».

و

عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام: أ يتعوّذ بشي ء من هذه الرقى؟ قال عليه السّلام: لا، إلّا من القرآن، إنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: إنّ كثيرا من الرقى و التمائم من الإشراك «5».

و

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ كثيرا من التمائم شرك» «6».

أقول: و ذلك لما فيه من التوسّل بغير اللّه، و لو بالأرقام و الخطوط و اللّغات التي لا معرفة بها لعامّة الناس، و قد بقي كثير منها عند ضعفة الناس، و غثائهم و عوامّهم و نسوانهم، بل عند الأحبار، و الرهبان، و القسّيسين، و غيرهم ممّن يرجع إليهم ضعفة الناس في ذلك، فإنّ منهم من كان يفزع في مهمّات أموره الى صور الكواكب و هياكلها، و منهم من يستمدّ من روحانيّاتها و قويها، و الملائكة

______________________________

(1) البحار ج 95 ص 5 ح 6 عن طبّ الائمّة ص 49.

(2) البحار ج 95 ص 5 ح 7 عن طبّ الائمّة ص 49.

(3) بحار الأنوار ج 95 ص 5 ح 8 عن طبّ الأئمّة ص 49.

(4) البحار ج 94 ص 192 ح 2 عن قرب الاسناد ص 52.

(5) البحار ج 95 ص 5 ح 3 عن طبّ الائمّة

ص 48.

(6) البحار ج 95 ص 5 ح 4 عن طبّ الائمّة ص 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 522

الموكّلين بها.

و منهم من يستمدّ من النور و الظلمة.

و منهم من يرجع الى الأرواح الظلمانيّة، و القوى الناسوتيّة.

و منهم من يرى التأثير في قوى الحروف و الألفاظ و الأشكال و الأعداد، و تمزيج القوى السالفة بالصور العالية.

و عبدة الأصنام كانوا يرجعون الى أصنامهم و يتقربون بها.

و بالجملة كان الناس في الجاهليّة على فرق شتّى في الإلحاد و الكفر و الشرك و قد بقيت عندهم كثير من الآداب و العادات و الرسوم الّتى تنتهي إليها عند التأمّل فلا تغفل.

قال ابن الأثير في «النهاية»: قد تكرّر ذكر الرقية، و الرقا، و الرّقى، و الاسترقاء في الحديث، و الرقية: العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمّى، و الصرع، و غير ذلك من الآفات، و قد جاء في بعض الأحاديث جوازها، و في بعضها النهى عنها، و الأحاديث في القسمين كثيرة.

و وجه الجمع بينهما، أنّ الرقى يكره منها ما كان بغير اللّسان العربي، و بغير أسماء اللّه و صفاته و كلامه في كتبه المنزلة، و أن يعتقد أنّ الرقيات نافعة لا محالة فيتّكل عليها، و إيّاها أراد

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما توكّل من استرقى» «1».

و لا يكره منها ما كان في خلاف ذلك كالتعوّذ بالقرآن و أسماء اللّه تعالى و الرقى المرويّة. و لذا

قال صلّى اللّه عليه و آله للذي رقى بالقرآن و أخذ عليه أجرا: «من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حقّ» «2».

و

كقوله صلّى اللّه عليه و آله في حديث جابر: «اعرضوها عليّ فعرضناها، فقال (ص): «لا

______________________________

(1) الإتحاف ج 9 ص 389.

(2) مصنّف ابن أبي شيبة ج

7 ص 412. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 523

بأس بها إنّما هي مواثيق» «1».

كأنّه صلّى اللّه عليه و آله خاف أن يقع فيها شي ء ممّا كانوا يتلفّظون به و يعتقدونه من الشرك في الجاهليّة، و ما كان بغير اللسان العربي ممّا لا يعرف له ترجمة، و لا يمكن الوقوف عليه فلا يجوز استعماله.

و أمّا

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا رقية إلّا من عين أو حمة «2»» «3»

فمعناه لا رقية أولى و أنفع، كما

قيل: لا فتى الّا عليّ عليه السّلام.

و قد أمر صلّى اللّه عليه و آله غير واحد من أصحابه بالرقية، و سمع بجماعة يرقون فلم ينكر عليهم.

و أمّا الحديث الآخر في صفة أهل الجنّة الذين يدخلونها بغير حساب:

«الذين لا يسترقون و لا يكتوون، و على ربّهم يتوكّلون» «4».

فهذا من صفة الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شي ء من علائقها، و تلك درجة لا يبلغها إلّا الخواصّ، و أمّا العوامّ فمرخصّ لهم في التداوى و المعالجات «5».

أقول: و ذلك بأنّ يكون الاعتماد فيها على اللّه سبحانه الذي جعل فيها تلك الآثار، كالاصطلاء بالنار، ثمّ بأن يرى الآثار منه سبحانه من دون الوسائط و إن كان الإفاضة منه سبحانه عند دعاء العبد، أو توسّله بتلك الأمور، بل بالدعاء أيضا من جهة محض العبوديّة و الذلّة، و إظهار الانقياد و الطاعة، مع أنّ الإغماض الكلّي عن المقاصد أو عن التوسّل إليها بمثل هذه الأمور، ثمّ بعدها مراتب أخر

______________________________

(1) مجمع الزوائد ج 5 ص 111.

(2) سنن أبى داود ح 3884- و سنن الترمذي ح 2057.

(3) مجمع الزوائد ج 10 ص 406.

(4) نهاية ابن الأثير ج 2 ص 254- 255.

(5) نهاية ابن الأثير ج 2

ص 254- 255.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 524

سنشير إليها في تفسير الآيات المتعلّقة بالدعاء إنشاء اللّه تعالى.

و كيف كان فقد ورد في كثير من الأخبار الاستشفاء و الاسترقاء بكثير من الآيات.

ففي «الكافي» عن الأصبغ بن نباته عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: و الّذى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالحقّ، و أكرم أهل بيته ما من شي ء يطلبونه «1» من حرز، أو غرق، أو سوق، أو إفلات دابّة من صاحبها، أو ضالّة، أو آبق الّا و هو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسئلني منه.

قال: فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنى عمّا يؤمن من الحرق و الغرق فقال عليه السّلام: اقرأ هذه الآيات: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ «2» وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «3»، فمن قرأها فقد أمن الحرق و الغرق، قال: فقرأها رجل، فاضطرمت النار في بيوت جيرانه، و بيته وسطها، فلم يصبه شي ء.

ثم قال إليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ دابّتى استصعبت عليّ، و أنا منها على وجل، فقال: اقرأ في اذنها اليمنى: وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «4» فقرأها فذلّت له دابّته.

و قام إليه رجل آخر، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أرضى أرض مسبعة، و إنّ السّباع تغشى منزلي و لا تجوز حتى تأخذ فريستها «5»، فقال: اقرأ:

______________________________

(1) في المصدر: تطلبونه.

(2) سورة الأعراف: 196.

(3) سورة الزمر: 67.

(4) آل عمران: 83.

(5) الفريسة (بفتح الفاء) ما تفترسه و تصتاده السبع. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 525

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ

مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ «2» فقرأهما الرّجل فاجتنبته السباع.

ثمّ قام اليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ في بطني ماء أصفر «3»، فهل من شفاء؟ فقال: نعم بلا درهم و لا دينار، و لكن أكتب على بطنك: آية الكرسي.

و تغسلها و تشربها و تجعلها ذخيرة في بطنك، فتبرأ بإذن اللّه عزّ و جلّ، ففعل الرّجل، فبرئ بإذن اللّه.

ثم قام إليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنى عن الضالّة، فقال: اقرأ يس في ركعتين، و قل: يا هادي الضالّة ردّ عليّ ضالّتي، ففعل، فردّ اللّه عزّ و جلّ عليه ضالّته.

ثمّ قام إليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنى عن الآبق، فقال: اقرأ:

أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فقالها الرّجل فرجع إليه الآبق.

ثم قام إليه الآخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنى عن السّرق، فإنّه لا يزال قد يسرق لي الشي ء بعد الشي ء، ليلا، فقال عليه السّلام: اقرأ إذا أويت إلى فراشك: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً

______________________________

(1) التوبة: 128.

(2) التوبة: 129.

(3) هي الصغراء التي تدفع من المثانة ممزوجة بالبول. تفسير الصراط

المستقيم، ج 2، ص: 526

«1».

ثم قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من يأت بأرض قفر فقرأ هذه الآية: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «2» حرسته الملائكة و تباعدت عنه الشياطين.

قال: فمضى الرّجل، فاذا هو بقرية خراب فبات فيها، فلم يقرأ هذه الآية فتغشّاه الشيطان، فإذا هو أخذ بخطمه «3»، فقال له صاحبه: أنظره و استيقظ الرجل، فقرأ الآية، فقال الشيطان لصاحبه، أرغم اللّه أنفك أحرسه الآن حتى يصبح، فلمّا أصبح رجع إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره، و قال له: رأيت في كلامك الشفاء و الصدق، و مضى بعد طلوع الشمس فاذا هو بأثر شعر الشيطان مجتمعا في الأرض «4».

قسّم ابن فهد في «عدّة الداعي» هذا الباب من القرآن الى ثلاثة أقسام:

الاستشفاء، و الاستكفاء، و ما يتعلّق بإجابة الدعاء.

و روى في الأوّل

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه شك اليه رجل وجعا في صدره، فقال (ص): استشف بالقرآن فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «5». «6»

______________________________

(1) الإسراء: 110- 111.

(2) الأعراف: 54.

(3) الخطم بفتح الخاء: أنف الإنسان، منقار الطائر.

(4) أصول الكافي ج 2 من الطبع الحديث ص 624- 626.

(5) سورة يونس: 57.

(6) عدّة الداعي ص 274- الكافي ج 2 ص 600.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 527

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «شفاء أمّتي في ثلاث آيات من كتاب اللّه عزّ و جلّ، أو لعقة «1» من عسل، أو شرطه حجّام» «2».

و

عن الباقر عليه السّلام: «من لم يبرأه الحمد لم

يبرأه شي ء» «3».

و

عن أبي الحسن عليه السّلام: «من قرأ آية الكرسي على مريض، أو محموم، كانت عليه الحمّى بردا و سلاما، و من كتبها في مهد مرتضع عند منامه لم يخف الفالج، و من قرأها دبر كلّ صلاة لم يضرّه ذو حمة» ..، و من قرأها عند كل فرض حفظه اللّه من كلّ خصم له» «4».

و في القسم الثاني

روى عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: «من استكفى بآية من القرآن من المشرق الى المغرب كفى إذا كان له يقين» «5».

و

عنه عليه السّلام: «يا مفضّل احتجز من الناس كلّهم ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و ب قل هو اللّه أحد، اقرأها عن يمينك، و عن شمالك، و من بين يديك، و من خلفك، و من فوقك، و من تحتك، و إذا دخلت على سلطان جائر حين تنظر اليه فاقرأها ثلاث مرّات، و اعقد بيدك اليسرى ثمّ لا تفارقها حتّى تخرج من عنده «6».

ثمّ ذكر للحفظ من السرّاق: يقرأ حين يأوى إلى فراشه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «7» إلى آخر السورة ثمّ يقول:

______________________________

(1) اللعقة (بضم اللام و سكون العين): ما يؤخذ بالملعقة أو بالأصبع.

(2) عدة الداعي ص 274 و عنه البحار ج 92 ص 176 ح 5.

(3) الكافي ج 2 ص 626 و عنه الوسائل ج 4 ص 874 ح 3.

(4) عدة الداعي ص 274.

(5) عدة الداعي ص 275 و عنه البحار ج 92 ص 176 ح 2.

(6) عدة الداعي ص 275 و عنه البحار ج 92 ص 351 ح 22.

(7) الإسراء: 110- 111. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 528

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «1».

و

عنهم عليه السّلام: «من قرأ

هاتين الآيتين حين يأخذ مضجعه لم يزل في حفظ اللّه تعالى من كلّ شيطان مريد و جبّار عنيد الى أن يصبح» «2».

و

أنّ قراءة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ على ما يدخّر و يخبأ حرز له» «3».

و

أنّ قراءة آية السخرة و هي إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... الى آخرها «4» حرز عن الشياطين كما في الخبر المتقدّم «5».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة، و آية الكرسي و آيتين بعدها، و ثلاث آيات من آخر السورة لم ير في نفسه و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه شيطان، و لا ينسى القراءة» «6».

و

عن الصادق عليه السّلام: «من دخل على سلطان يخافه فقرأ عند ما قابله:

«كهيعص» و يضمّ بيده اليمنى كلّما قرأ حرفا ضمّ أصبعا، ثمّ يقرأ: «حمعسق» و يضمّ أصابع يده اليسرى كذلك، ثمّ يقرأ: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً «7» و يفتحها في وجهه كفى شرّه» «8».

و

عن أبي الحسن عليه السّلام: «إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آيد من القرآن من حيث

______________________________

(1) البقرة: 7.

(2) عدّة الداعي ص 275 ح 3 و عنه البحار ج 92 ص 282 ح 3.

(3) عدّة الداعي ص 275 ح 4 و عنه البحار ج 92 ص 329 ح 9.

(4) الأعراف: 54.

(5) العدّة ص 275 و عنه البحار ج 92 ص 276 ح 2.

(6) الكافي ج 2 ص 621 ح 5- العدّة ص 276 ح 6.

(7) طه: 111.

(8) عدّة الداعي ص 276 ح 7 و عنه البحار ج 92 ص 284 ح 2. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 529

شئت، ثم

قل: أللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد، و ادفع عنّي البلاء، ثلاث مرّات» «1».

و

عن الرّضا عن أبيه عن مولانا الصّادق عليهم السّلام للاحتجاب عن الأعداء و الكفّار، و لسلامة النفس و المال: ثلاث آيات: آية في النحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «2».

و آية في الكهف: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً «3».

و آية في الجاثية: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ «4».

قال الكسروي «5»: فعلّمتها رجلا من أهل همدان كانت الديلم أسرته فمكث فيهم عشر سنين، ثم ذكر الثلاث الآيات، قال: فجعلت أمرّ على محالّهم و على مراصدهم فلا يرونى، و لا يقولون شيئا، حتى إذا خرجت الى أرض الإسلام.

قال أبو المنذر: و علّمتها قوما خرجوا في سفينة من الكوفة الى بغداد، و خرج معهم سبع سفن، فقطع على ستّ و سلمت السفينة التي قرئ فيها هذه الآيات.

______________________________

(1) عدّة الداعي ص 276 ح 8.

(2) النحل: 57.

(3) الكهف: 108.

(4) الجاثية: 23.

(5) هو أبو عمران موسى بن عمران الكسروي. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 530

و روى أيضا أنّ الرجل المسئول عنه هذه الآيات هو الخضر عليه السّلام «1».

و لحلّ المربوط يكتب في رقعة و يعلّق عليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما

تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «2»، ثمّ يكتب سورة النصر ثمّ يكتب: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «3» ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «4» فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ «5» قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي «6» وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً «7» كذلك حلّلت فلان بن فلانة عن فلانة بنت فلانة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ «8». «9» و في القسم الثالث: أى ما يتعلّق بإجابة الدعاء، ما يأتى في فضائل الحمد.

و

في بعض الروايات: أنّ الدعاء بعد قراءة الجحد عشر مرّات عند طلوع

______________________________

(1) عدة الداعي ص 277 ح 9.

(2) الفتح: 1- 2.

(3) الروم: 21.

(4) المائدة: 23.

(5) القمر: 11- 12.

(6) طه: 25- 28.

(7) الكهف: 99.

(8) التوبة: 28- 29.

(9) عدّة الداعي ص 277. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 531

الشمس من يوم الجمعة مستجاب «1».

و

أنّ من قرأ ماية آية من أيّ آي القرآن شاء، ثم قال: يا اللّه، سبع مرّات، فلو دعاها على صخرة لفلقها اللّه تعالى «2».

ثمّ

روى ابن فهد في خواصّ القرآن المتفرقّة عن الصّادق عليه السّلام: «ما من عبد يقرأ آخر الكهف «3» إلّا تيقّظ في الساعة الّتى يريد»

«4».

و

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ هذه الآية: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... الآية و سطع له نور الى المسجد الحرام، حشو ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتى يصبح» «5».

أقول: خواصّ الآيات القرآنيّة و منافعها المأثورة عن النبيّ و الائمّة عليهم الصلاة و السلام فضلا عن غيرها ممّا ذكره المجرّبون كثيرة جدّا منفردة بتصانيف جمّة و لعلّنا نشير الى كثير ممّا وجدنا منه من الأخبار في مطاوى هذا التفسير مع الإشارة الى خواصّ السورة و غيرها إنشاء اللّه تعالى.

الأمر الثاني ممّا ينبغي التنبيه عليه: أنّه لأيّ علّة يخالف خطّ القرآن لغيره في القواعد و الرسوم.

لا يخفى أنّ الأصل في كلّ كلمة في أيّ لغة من اللّغات أن تكتب بصورة لفظها على تقدير الابتداء بها و الوقوف عليها، إلّا أنّ كثيرا من الكلمات في الخطّ العربي ليست جارية على الأصل الذي هو متابعة اللّفظ، و قد يحذف من الكتابة ما يثبت في اللفظ، كالألف من (اللّه) و (الرحمن)، و اللام في مفردات الموصولة

______________________________

(1) العدّة ص 278 ح 2 و عنه البحار ج 89 ص 361.

(2) العدّة ص 27 ح 3- و البحار ج 92 ص 176 عن المكارم ص 390.

(3) في الكافي بعد كلمة (الكهف): عند النوم.

(4) الكافي ج 2 ص 632 ص 21- العدّة ص 280 ح 12.

(5) الفقيه ج 1 ص 470 ح 1355- العدّة ص 282 ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 532

دون تثنيتها.

و قد يثبت في الكتابة ما ليس في اللّفظ كالالف بعد واو الجمع المتطرّفة، و الواو في (عمرو) و أولئك) و (أولو الألباب).

و ربما و صلوا حرفا بحرف نحو بما، و ممّا.

و ربّما أبدلوا حرفا من

حرف مع إبقاء صورة الأصل كلام التعريف المبدلة عند الحروف المعدودة.

و ربما يكتب الكلمة بالواو و الياء، و يكون اللفظ بالألف، كالصّلاة و الزكاة، فيقرأ في التلفظ: الصلاة و الزكاة، و كذا (حتّى)، و (إلى)، و (على)، و (متى)، و (موسى)، و (عيسى) و (يحيى).

الى غير ذلك ممّا تعرّض له المتصدّون لذلك في علم الخطّ الذي لا يهمّنا التعرّض له، و إنّما المقصود في المقام: أنّه لمّا عمّت البليّة على أمّة خير البريّة، و كان ما كان ممّا لست أذكره،

جلس مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في بيته مشتغلا بجمع القرآن و تأليفه بوصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله فلمّا جمعه كما انزل و لم يكن يعلم ذلك غيره أتى به إلى الناس فقال لهم: هذا كتاب اللّه انزل، فقال بعضهم: لا حاجة لنا إليك و لا الى قرآنك،

و كان القرآن عندهم يومئذ متفرّقا في الأكتاف و الأخشاب و الألواح، و كان عند بعضهم السّورة و السّورتان أو أقل أو أكثر، إلى أن أمروا زيد بن ثابت بجمعه، و كتب عثمان في أيّام خلافته نسخا منه بخطّه الذي يخالف رسم الخطّ و القواعد العربية، مثل كتابة الألف بعدوا و المفردة، و عدمها بعدوا و الجمع، و مثل كتابة التاء من كلمة واحدة كرحمة، و نعمة، مدوّرة في بعض المواضع، و مطولّة في بعضها، و كتابة اللّام الجارّة، و (إن) مشدّدة أو مخفّفة، و (عن) و غيرها موصولة بما بعدها و مفصولة عنها الى غير ذلك ممّا أفردوه بالتصنيف.

بل قد روت العامّة أنّ عثمان لمّا علم أنّ فيما كتبه من القرآن لحنا كثيرا قال:

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 533

أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها

«1».

فوا عجبا هل كان هذا اللّحن من اللّه، أو من رسوله، أو أنّ الخليفة لم يعلم كيفيّة الكتابة و القراءة فأخطأ فيهما، و التمس من العرب إقامتها بألسنتها، و من هنا اختلفت كلماتهم في الجواب عن الخبر، فردّه بعضهم «2» بالضعف و عدم الثبوت.

و أوّله آخرون بأنّ المراد اشتمال القرآن على الإشارات و الرموز الّتى سيطّلع عليها الآخرون.

و قال ثالث: إنّ معنى الخبر: أرى فيه مواضع من الرسم الاصطلاحي في صورة خطّ يخالف اللفظ لو قرأت لكان لحنا.

و الكلّ كما ترى.

و ذكروا أيضا: أنّه كتب عثمان مصحفا لنفسه، و نسخ منه أربعة نسخ و سيّرها إلى الكوفة و البصرة و الشام، و أبقى مصحفا منها بالمدينة و هو المعتبر عندهم بالمدني العام، و يعبّرون عن النسخة الاولى بالمصحف الإمام.

و قيل: سيّر نسخة خامسة إلى مكّة، و سادسة إلى البحرين، و سابعة إلى اليمن.

و كان المصاحف خالية عن النقط، و التشديد، و الإعراب، و كانت هذه المصاحف أيضا مختلفة، كما عن الجزري الشافعي، و غيرهم من علمائهم، و صرّح به بعض فضلائهم في شرح أرجوزة مؤلفة في اختلاف الرسم و ذكروا الاختلافات الواقعة بين المصاحف مع التنبيه على ما في مصحف إمامهم.

______________________________

(1) كنز العمّال ج 2 ص 586.

(2) قال ابن الأنبارى: حديث عثمان لا يصحّ لأنّه غير متصل، و محال أن يؤخّر عثمان شيئا ليصلحه من بعده- تفسير ابن تيمية ج 5 ص 207.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 534

و اختلفوا أيضا في أنّ المصحف الإمام هل كان موجودا عندهم أم لا، فحكوا عن أبي عبيدة القاسم بن سلّام في كتابه المؤلّف في القرآن: أنّ بعض الأمراء أخرج لي من خزانته مصحف عثمان المرسوم بخطّه لعلوّ منزلتي

و رتبتي عنده، و كان ذلك المصحف في حجره حين أصيب، و رأيت آثار الدم في مواضع منه.

الأمر الثالث: في سجدات القرآن، و هي خمس عشرة:

منها أربع عزائم يجب فيها السجود إجماعا من الإماميّة بل و غيرهم من الامّة، و نصّا مستفيضا من الأئمّة عليهم السّلام، و هو بين آمر بالسجدة عندها، و مشتمل على إطلاق العزيمة الظاهرة، بل الصريحة في الواجب عليها.

ففي خبر أبى بصير عن الصادق عليه السّلام: «إذا قرئ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد» «1».

و

في صحيح أبي عبيدة الحذّاء: «إذا قرأ أحدكم السجدة من العزائم فليقل في سجوده: «سجدت لك تعبّدا و رقّا لا مستكبرا عن عبادتك و لا مستنكفا و لا متعظّما، بل أنا عبد ذليل خائف مستجير» «2».

و

في صحيح داود بن سرحان عنه عليه السّلام: «إنّ العزائم الأربع: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و وَ النَّجْمِ و تنزيل السجدة، و حم، السجدة» «3».

و

في «مجمع البيان» عن ابن سنان، عنه عليه السّلام قال: «العزائم: الم تنزيل، و حم السجدة، و النجم إذا هوى، و إقرا باسم ربك، و ما عداها في جميع القران مسنون

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 219.

(2) الكافي ج 3 ص 328.

(3) بحار الأنوار ج 92 ص 40 ح 1 عن الخصال ج 1 ص 120. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 535

و ليس بمفروض» «1».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة في وجوبها للأربع الّتى لا ينبغي التأمّل معها في أصل الحكم سيّما بعد الإجماع عليه بل الضرورة.

فلا ينبغي الإصغاء الى وسوسة بعض المتأخرين في ثبوت أصل الحكم لضعف الدليل دلالة، و لا الى تكلّف من استدلّ له بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب فيما عدى (الم) منها،

أمّا فيها فبحصر المؤمن بآياته بمن إذا ذكرها سجد، المقتضى لسلب الإيمان عند عدم السجود.

إذا التصدّي لمثل هذا الاستدلال فضلا عن الإطناب فيه بالقيل و القال بعد ظهور الحال لا يليق بالمحصلين فضلا عن أهل الكمال.

و محلّ السجود في الجميع بعد إتمام الآية، حتى في حم السجدة، إجماعا منّا «2»، و توهّم الخلاف فيها في غير محلّه على ما تسمعه في محلّه إنشاء اللّه.

و أما غير العزائم فإحدى عشر:

1- الأعراف عند قوله تعالى: وَ لَهُ يَسْجُدُونَ آية: 206.

2- الرعد عند قوله تعالى: وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ 15.

3- النحل عند قوله تعالى: وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ 50.

4- الإسراء عند قوله تعالى: وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً: 109.

5- مريم عند قوله تعالى: خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا: 58.

6- الحجّ عند قوله تعالى: يَفْعَلُ ما يَشاءُ: 18.

7- الحجّ عند قوله تعالى: وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ: 77.

______________________________

(1) مجمع البيان ج 10 ص 516 و عنه البحار ج 85 ص 169.

(2) قال المحقّق في المعتبر: قال الشيخ في الخلاف: موضع السجدة في حم السجدة عند قوله: «و اسجدوا للّه» و قال في «المبسوط»: «ان كنتم إياه تعبدون» و الأول أولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 536

8- الفرقان عند قوله تعالى: وَ زادَهُمْ نُفُوراً: 60.

9- النمل عند قوله تعالى: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 26.

10- ص عند قوله تعالى: وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ 24.

11- الانشقاق عند قوله تعالى: وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ 22.

و هذا التفصيل و إن خلت عنها خصوص الأخبار، إلّا أنّك قد سمعت فيما رواه الطبرسي: «إنّ ما عداها (اى الأربع العزائم) في جميع القرآن مسنون» «1».

و

عن مستطرفات «السرائر»: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام يعجبه أن يسجد في كلّ سورة

فيها سجدة» «2».

و

عن «العلل» بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ أبي عليه السّلام ما ذكر للّه تعالى نعمة عليه إلّا سجد، و لا قرأ آية من كتاب اللّه عزّ و جلّ فيها سجدة إلّا سجد ... الى أن قال: فسمّي السجّاد لذلك «3».

الى غير ذلك من الفحاوى و الظواهر، فضلا عن الإطلاقات و العمومات، سيّما مع ما قرّر في محلّه من التسامح في أدلّة السنن و الكراهة.

و لعلّه لما سمعت ذهب ابن بابويه الى استحباب السجدة في كل آية فيها سجدة حتّى في مثل يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي «4».

و تبعه في ذلك كاشف الغطاء، و ليس ببعيد عندي، لما سمعت من عموم المعتبرة المتقدّمة، و غيرها.

______________________________

(1) مجمع البيان ج 10 ص 516.

(2) السرائر ص 496 و عنه البحار ج 85 ص 170.

(3) علل الشرائع ج 1 ص 222 و عنه البحار ج 85 ص 171.

(4) آل عمران: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 537

و حملها على السجدات المعروفة لا شاهد عليه، مضافا إلى أنّه مردود بظاهر العموم، فالأقرب استحبابها في سورة التوبة: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ

112.

و في سورة البقرة: وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ: 125.

و في سورة الحجّ: وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ: 26.

و في الزمر: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً: 9.

إلى غير ذلك من المواضع.

و أمّا أحكام سجدة التلاوة و كيفيّتها فهي بتفاصيلها و أدلّتها مذكورة في الفقه.

الأمر الرابع: في الاستخارة بالقرآن و غيره.

الإستخارة على ما في «القاموس» و «النهاية» و «المصباح» طلب الخير من اللّه تعالى، من باب الاستفعال، من خار اللّه تعالى في الأمر يخير خيرة، بسكون الياء، و خيرا، و خيرة كعنب و عنبة: جعل له فيه الخير، أو هداه إليه

بالإلهام من عنده، أو إرشاد من غيره، و الخيرة بسكون الياء و تحريكها اسم من الإختيار أيضا.

و ما يقال من أنّ الإستخارة هي الدعاء فكأن المراد أنّه طلب الخيرة بالتوسّل إلى اللّه تعالى بالدعاء و الصلاة و غيرهما.

و الأخبار على الحثّ و الترغيب اليه و كراهة تركه كثيرة جدّا:

فعن الصادق عليه السّلام: أنّه قال: «ما أبالى إذا استخرت اللّه على أيّ طرفىّ وقعت، قال: و كان أبي يعلّمني الإستخارة كما يعلّمني السورة من القرآن «1».

______________________________

(1) فتح الأبواب ص 148- بحار الأنوار ج 88 ص 223 و فيه بعد ذكر الحديث: قوله: (على ايّ طرفيّ) أى طرفي الراحة و البلاء، أو الحياة و الموت، أو الأمر الذي أتردد فيه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 538

و

عنه عليه السّلام، قال: ما استخار اللّه عبد مؤمن إلّا خار له و إن وقع ما يكره «1».

و

عنه عليه السّلام: «من دخل في أمر بغير استخارة، ثم ابتلي لم يؤجر» «2».

و

عنه عليه السّلام: قال: قال اللّه عزّ و جلّ: «إنّ من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال: لا يستخيرني» «3».

بل

ورد عنهم عليه السّلام: «أنّ من استخار اللّه مرّة واحدة، و هو راض بما صنع اللّه به، خار اللّه له حتما» «4».

و ورد أنّه ينبغي أن يكون الإستخارة وترا، كما

في النبوي: «من استخار فليوتر» «5». «6»

و ينبغي أيضا أن تكون خيرة في عافية كما

عن الصادق عليه السّلام: أنّه قال: «و لتكن استخارتك في عافية فإنّه ربما خير للرجل في قطع يده، و موت ولده، و ذهاب ماله» «7».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المأثورة فيها بمعانيها المختلفة:

منها: طلب الخيرة من اللّه تعالى بمعنى أن يسأل اللّه تعالى في دعاءه أن يجعل الخير، و البركة،

و التوفيق له في الأمر الّذى يريده.

و منها: أن يسأل اللّه تعالى تيسر ما يريده من الأمر بعد تعيينه.

و منها: أن يطلب العزم على ما فيه الخيرة عند الترديد في الأمر.

______________________________

(1)

فتح الأبواب ص 149 و فيه: و إن وقع فيما يكره

- بحار الأنوار ج 88 ص 224.

(2) فتح الأبواب ص 135- البحار ج 88 ص 223.

(3) فتح الأبواب ص 132- بحار الأنوار ج 88 ص 222 عن المقنعة و فتح الأبواب.

(4) المحاسن ص 598- فتح الأبواب ص 257 و فيه: و هو راض به.

(5) أوتر الشي ء: جعله وترا اى فردا.

(6) المحاسن ص 599- بحار الأنوار ج 88 ص 262 عن المحاسن.

(7) فتح الأبواب ص 232- الكافي ج 3 ص 472- تهذيب الأحكام ج 3 ص 181.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 539

و منها: أن يطلب تعرّف ما فيه الخيرة.

و في كلّ منها كيفيّات و آداب، و وظائف كثيرة من الغسل و الصلاة و الدعاء و غير ذلك، مذكورة في كتب الأخبار و الأدعية و الفقه.

و للاستخارة بمعنى الأخير (اى طلب تعرّف ما فيه الخير) وجوه كثيرة من الاستخارة بالمصحف، و ذات الرقاع الستّ، و الرقعتين المشتملتين على (لا) و (نعم)، أو (افعل) و (لا تفعل) في بندقتين، و القبض على السبحة مطلقا، أو خصوص الحسينيّة، أو القبض على الكفّ من الحصى، أو الحبوب أو غيرها، و لكلّ منها طرق مذكورة في مواضعها إلّا أنّ المقصود بالذكر في المقام هو الإستخارة بالمصحف الّتى ورد فيها

عن الصادق عليه السّلام في خبر اليسع «1» القمى: «افتح المصحف فانظر الى الأوّل ما ترى فيه فخذ به إنشاء اللّه تعالى «2».

و ضعفه سندا مدفوع باشتهار العمل به بين الإماميّة، و

إمكان الاعتضاد بالعمومات المتقدّمة، مع أنّه ربما يشاهد في كثير من الاستخارات سيّما بالمصحف الشريف شبه الإلهام، بل انّه عندي جزء من أجزاء النبوّة التي اختصّ بها سيّد الأنام، أو بقيّة ممّا تركه آل محمّد و علي عليهم السّلام فإنّي رأيت كثيرا المطابقة التامّة بين مفاد الآية فوق الصفحة مع الأمر الّذي أستخير له، بل لو شئت لقلت: إنّ بعض محبّيهم عليهم السّلام كثيرا ما يطلب منه الاستخارة من غير اطّلاع له على المقصد،

______________________________

(1) هو اليسع بن عبد اللّه القمى روى عن الصادق عليه السّلام، و روى الحسن بن الجهم، و هو على ما صرّح به غير واحد من أرباب التراجم مجهول، انظر معجم رجال الحديث ج 20 رقم (13702).

(2)

التهذيب ج 1 ص 340 و رواه المجلسي قدّس سرّه في بحار الأنوار ج 88 ص 243 عن كتاب الغايات ... عن أبى على اليسع بن عبد اللّه القمى عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: انظر إذا قمت الى الصلاة فإنّ الشيطان أبعد، يكون من الإنسان إذا قام الى الصلاة أيّ شي ء يقع في قلبك فخذ به، و افتح المصحف فانظر الى أوّل ما ترى فيه فخذ به ان شاء اللّه. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 540

و لكن بالتأمّل في آية الاستخارة فقط يحصل له العلم بالمقصد و بعاقبة الأمر فيكون مطابقا لما في ضمير السائل من السؤال، و لما ينتهى الأمر إليه في المآل.

فلا يلتفت الى ما عن الحلي من الاقتصار في الإستخارة على ذات الصلاة و الدعاء، ثم فعل ما يقع في القلب، و لا يلتفت إلى التشديد في الإنكار على الاستخارة بغيرها، من الرقاع، و البنادق، و القرعة، بل المصحف أيضا.

نظرا إلى ما

أغنانا ظهور الأمر عن التعرّض له و التصدّى للجواب عنه.

كما لا يصغي الى ما ربما يستشكل في خصوص الإستخارة بالمصحف

للمرويّ في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لا تتفأل بالقرآن» «1».

إذ فيه مع ضعفه في نفسه، و عدم مقاومته لما مرّ عموما و خصوصا أنّه ربما ينفى التعارض بينهما رأسا بظهور الفرق بين التفأل و الإستخارة كما صرّح به غير واحد من الأجلّة.

حيث إنّ المراد بالتفأل هو استكشاف الأمور المستقبلة و استبانة الأمر فيها وجودا و عدما، و إن لم يتعلّق بأفعال المكلّفين و لم يدخل تحت قدرتهم كشفاء المريض، و موته، و وجدان الضّالّة و عدمه، و قدوم المسافر، و حصول الغناء، و التوفيق للحجّ، و نحوها ممّا يؤول الى استعجال تعرّف ما في الغيب الّذى ورد النهى عنه و عن الحكم به لغير أهله.

و لكن المراد بالاستخارة طلب معرفة الرّشد في الأمر الّذى يراد فعله أو تركه مع الترديد و عدم الجزم، استشارة منه سبحانه كما

ورد: «تشاور ربّك» «2».

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 629- و بحار الأنوار ج 88 ص 244 عن الكافي.

(2)

مكارم الأخلاق ص 367 و فيه: قال الصادق عليه السّلام: إذا أردت أمرا فلا تشاور فيه أحدا حتى تشاور ربّك، قال: و كيف أشاور ربّي؟ قال: تقول: أستخير اللّه، مائة مرّة ثم تشاور الناس فإنّ اللّه يجرى لك الخيرة على لسان من أحبّ. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 541

بل قيل: إنّه قد يعارض عن النهى المذكور في الرّواية ما يحكى عن ابن «1» طاوس في «كتاب الاستخارات» من أنّه ذكر للتفال بالقرآن بالمعنى المذكور وجوها يستبعد، بل يمتنع عدم وصول نصوص فيها إليه، بل ظاهر بعض عبارته أو صريحها

وقوفه على ذلك.

فإنّ منها: أنّه يصلّى صلاة جعفر، و يدعو بدعائها، ثمّ يأخذ المصحف، و ينوي فرج ال محمد بدءا و عودا، ثمّ يقول: أللهمّ إن كان في قضائك و قدرك أن تفرّج عن وليّك و حجّتك في خلقك في عامنا هذا و في شهرنا هذا فأخرج لنا رأس آية من كتابك نستدلّ بها على ذلك، ثمّ يعدّ سبع ورقات، و يعدّ عشرة أسطر من ظهر الورقة السابعة، و ينظر ما رأيته في الحادي عشر من السطور، ثمّ يعيد الفعل ثانيا لنفسه- فإنّه تتبيّن حاجته إنشاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّه بيّن معنى قوله: (في عامنا هذا) أنّ العلم بالفرج عن وليّه حينئذ يتوقّف على أمور كثيرة، فيكون كل وقت يدعى له بذلك في عامي هذا و شهري هذا يفرّج اللّه من تلك الأمور الكثيرة فيسمّى ذلك فرجا.

و ذكر أيضا عن بدر «2» بن يعقوب في صفة الفأل بالمصحف بثلاث روايات من غير صلاة، فقال: تأخذ المصحف و تدعو فتقول: أللّهمّ إن كان من قضائك و قدرك أن تمنّ على أمّة نبيّك بظهور وليّك و ابن بنت نبيّك فعجّل ذلك و سهّله

______________________________

(1) هو السيّد الجليل أبو القاسم على بن موسى بن طاوس الحلّى المولود سنة (589) و المتوفّى سنة (664)- الذريعة ج 2 ص 343، و كتابه في الاستخارات هو «فتح الأبواب بين ذوي الألباب و بين ربّ الأرباب».

(2) ترجم له الأستاذ الكبير المجيز في الرّواية قدّس سرّه في طبقات الشيعة في المائة السابعة ص 24 فقال: بدر الأعجمي الشيخ الصالح، نزيل بغداد في أيام المستنصر (م 640) و قد توسّط رضى الدين على بن طاوس له عند الخليفة فرسم له خمسين دينارا، ذكر تفصيله في

الباب الخامس من «فرج المهموم».

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 542

و يسرّه و كمّله، و أخرج لي اية أستدلّ بها على أمر فأئتمر، أو نهى فأنتهى أو ما تريد الفأل فيه- في عافية.

ثمّ تعدّ سبع أوراق، ثمّ تعدّ في الوجهة الثانية من الورقة السابعة ستّة أسطر، و تتفأل بما يكون في السطر السابع».

و قال في رواية اخرى: إنّه يدعو بالدعاء، ثمّ يفتح المصحف الشريف و يعدّ سبع قوائم، و يعدّ ما في الوجهة الثانية من الورقة السابعة، و ما في الوجهة الاولى من الورقة الثامنة من لفظ اسم اللّه جلّ جلاله، ثمّ يعدّ قوائم بعدد لفظ (اللّه)، ثمّ يعدّ من الوجهة الثانية من القائمة الّتى ينتهى العدد إليها، و من غيرها ممّا يأتى بعدها سطورا بعدد لفظ اسم (اللّه) جلّ جلاله، و يتفأل بآخر سطر من ذلك «1».

تمّت مقدّمة تفسير الصراط المستقيم و سيليها إن شاء اللّه تعالى تفسير فاتحة الكتاب

______________________________

(1) فتح الأبواب ص 277- ص 279 و نقله المجلسي في بحار الأنوار ج 88 ص 241.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين الّذي منّ على الفقير المذنب الرّاجي عفوه و صفحة أن وفقني لتحقيق هذا الكتاب و أرجوه التوفيق لتحقيق التفسير بمنّه و كرمه.

- العبد الذليل غلام رضا بن علي أكبر مولانا البروجردي-

الجزء الثالث

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على سيّدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين

سورة الفاتحة

اشارة

السورة في الأصل منقولة من سور المدينة، إلّا أنّها تجمع على سور بالسكون، و سورة القرآن على سور بالفتح، سميت لإحاطتها بطائفة من القرآن إحاطة سورة المدينة بها، كذا قيل «1».

______________________________

(1) قال الزبيدي في «تاج العروس» ج 12/ 102 ط الكويت: قال المصنف «صاحب القاموس» في «البصائر»: و قيل سميت سورة القرآن تشبيها بسور المدينة، لكونها محيطة بآيات و أحكام، إحاطة السور بالمدينة.

و قال العلامة المحقق المصطفوي في «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» ج 5/ 299:

التحقيق أن الأصل الواحد في هذه المادة (س و ر) هو هيجان مع اعتلاء و رفعة و هذا المعنى يختلف خصوصية باختلاف المصاديق، يقال: سار غضبه إذا هاج و ظهر و اعتلى أثره، و سارت الحية إذا هاجت و حملت على شخص، و سار البناء إذا اعتلى و ارتفعت مراتبه و طبقاته من دون انتظار.

و هذه المناسبة يطلق السور على جدار عظيم و سد يمنع عن المخالف، و بهذه المناسبة أيضا تسمى سور القرآن كل واحدة منها سورة، فإن كل سورة منها كالسور يسد به و يدفع المخالفون كما قال تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ 2/ 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 6

لكن لا يخفى أن السورة اسم لتلك الطائفة لا للمحيط بها.

فالوجه أن يقال: إنها أحاطت بجملة من الحقائق و المعارف و اللطائف إحاطة سور المدينة على ما فيها بحيث يحفظها و يسترها و يكشف عنها.

أو من السورة التي هي الرتبة «1»، لترتبها وضعا شرعيا أو جعليا أو لترقي القارئ لها فيها

أو بها إلى جزيل الثواب و حسن المآب، و تدرج المتخلق بها إلى مدارج القدس و معارج الأنس «2».

هذا كله إذا جعلت واوها أصلية، و إن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السؤر التي هي الفضلة و البقيّة و القطعة من الشي ء لأنها اقتطعت من القرآن لفوائد نشير إليها، بل هي حقايق متأصلة ممتازة في أنفسها مقطع كل منها عما سويها «3».

______________________________

فكل سورة في الحقيقة بين المؤمنين و الكافرين، يدفع بها أي نوع من و وساوس المخالفين، و هو مظهر هيجان الحق و امتلائه و ظهوره في قبال المعاندين.

(1) قال الزبيدي: و من المجاز (السورة) بالضم: (المنزلة)، و خصها ابن السيد في كتاب «الفرق» بالرفيعة، و قال النابغة: أ لم تر أن اللّه أعطاك سورةترى كل ملك دونها يتذبذب

و قال الزبيدي أيضا: السورة: الشرف و الفضل و الرفعة، قيل: و به سميت سورة القرآن لإجلاله و رفعته، و هو قول ابن الأعرابي.

(2) قال الشيخ البهائي في «العروة الوثقى» ص 2: السورة إما مستعارة من سور المدينة لإحاطتها بما تضمنته من أصناف المعارف و الأحكام كإحاطة السورة بما يحتوي عليه، أو مجاز مرسل من السورة بمعنى الرتبة العالية و المنزلة الرفعة، إذ لكل واحدة من السور الكريمة مرتبة في الفضل عالية و منزلة في الشرف رفيعة، أو لأنّها توجب علو درجة تاليها و سمو منزلة عند اللّه سبحانه.

(3) قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفي (370) ه في «تهذيب اللغة» ج 13 ص 50: قال أبو الهيثم: السورة من سور القرآن عندنا: قطعة من القرآن سبق وحدانها جمعها، كما أن الغرفة سابقة للغرف و أنزل اللّه عزّ و جل القرآن على نبيه صلى اللّه عليه

و سلم شيئا بعد شي ء، و جعله مفصلا، و بين كل سورة بخاتمتها و بادئتها، و ميزها من التي تليها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 7

[السورة في الاصطلاح

و على كل حال فالمراد بها شرعا، لا متشرعا، و لا عرفا عاما على الأظهر، طائفة من القرآن مصدرة فيه بالبسملة أو براءة.

و نقض طرده بصدور السور، فزيد: متصل آخرها فيه بإحديهما، فنقض عكسه بالسورة الأخيرة من القرآن، لعدم اتصالها بغيرها، فزيد: أو غير متصل فيه بشي ء منه.

و اعترض عليه شيخنا البهائي قدّس سرّه «1» بانتفاض طرده ببعض سورة النمل و بسورتين فصاعدا.

______________________________

قلت: و كأنّ أبا الهيثم جعل السورة من السور القرآن من أسأرت سؤرا، أي أفضلت فضلا، إلّا أنها لما كثرت في الكلام و في القرآن ترك فيها الهمز كما ترك في الملك (و أصله ملأك).

(1) الشيخ بهاء الدين العاملي: محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي من مفاخر الإمامية ولد ببعلبك سنة (953) ه و توفي سنة (1031) ه و قبره بالمشهد الرضوي سلام اللّه و صلواته على مشرفها معروف، له كتب قيمة منها «العروة الوثقى» في تفسير الفاتحة.

و قال فيها ص 3: اختلفوا في رسمها (أي السورة) فقيل: طائفة من القرآن مصدرة فيه بالبسملة أو برائة، فأورد على طرده الآية الأولى من كل سورة، فزيد «متصل آخرها فيه بإحديهما، فأورد على عكسه سورة الناس، فزيد عليه: «أو غير متصل فيه بشي ء منه» فاستقام، كذا قيل.

و لعله مع هذا عن الاستقامة بمعزل، لورود بعض سورة النمل أعني أوائلها المتصلة بالبسملة آخرها، و أواخرها المتصل بها أولها.

و قيل: طائفة من القرآن مترجمة بترجمة خاصة، و نقض طرده بآية الكرسي. ورد بأن المراد بالترجمة الاسم، و تلك إضافة محضة لم

تبلغ حد التسمية.

و أنت خبير بأن القول ببلوغ سورتي الإسراء و الكهف مثلا حد التسمية دون آية الكرسي لا يخلو من التعسف، و الأولى أن يراد بالترجمة ما يكتب في العنوان، فالمراد به ما جرت العادة برسمه في المصحف المجيد عند أول تلك الطائفة من لقبها و عدد آياتها و نسبتها إلى أحد الحرمين الشريفين فيسلم الطرد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 8

و قيل: إنها طائفة منه ذات ترجمة أي مسماة باسم مخصوص كسورة الفاتحة و سورة الإخلاص و نحوهما.

و نقض طرده بآية الكرسي و آية السخرة، و نحوهما.

و أجيب بأنه مجرد إضافة لم يصل إلى حد التسمية و التغليب.

و فيه منع، نعم، ربما يراد بالترجمة ما يكتب في العنوان من اسم السورة و عدد آيها اللذين جرت العادة بإثباتهما في المصاحف فيسلم الطرد.

قيل: و لا يظن انتقاض العكس حينئذ بالسورة قبل اعتياد الرسم إذ يكفي صدق الرسم الآن على ما قبل الرسم «1».

و ربما يقيد الحد المذكور بكون أقلها ثلاث آيات.

و لعله للتنبيه على خروج البسملة إشارة إلى الكوثر.

و بالجملة فشي ء مما ذكروه في المقام لا يخلو من شي ء.

و مما يرد على الجميع صدق كل منها على كل من الضحى، و ألم نشرح، و كل من الفيل، و لإيلاف، مع أن الأولين كالآخرين سورة واحدة، كما ورد به الخبر عن أصحاب العصمة و الطهارة، فيجري عليهما حكم الوحدة في الصلاة و في النذر و غيرهما.

و لذا حملوا

قول الصادق عليه السّلام: «لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى و الم نشرح، و ألم تر كيف، و لإيلاف قريش» «2»

، على كون الاستثناء منقطعا أو الحمل على التقية.

______________________________

(1) قال الشيخ بهاء الدين في «العروة الوثقى»:

و ما يترائى من فساد العكس لعدم صدق الرسم حينئذ على شي ء من السور قبل اعتياد رسم الأمور المذكورة في المصاحف فمما لا يخفى وجه التفصي عنه.

(2) رواه في «الوسائل» ج 2 كتاب الصلاة ب 10، ح 5، عن مجمع البيان ج 10، ص 544،

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 9

______________________________

«المعتبر» ص 178، و قال: يحتمل كون الاستثناء منقطعا و يحتمل التقية، و على كل حال فالحكم هنا واحد.

قال في «العروة الوثقى»: فإن قلت: قد ذهب جماعة من قدماء الأمة إلى أن «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة، و كذا «الفيل و الإيلاف»، و هو مذهب جماعة من فقهائنا رضوان اللّه عليهم، فقد انتقض طرد كل من هذين التعريفين بكل واحدة من تلك الأربع.

قلت: هذا القول و إن قال به جمع من السلف و الخلف إلا أن الحق خلافه، و استدلالهم بالارتباط المعنوي من كل و صاحبتها، و بقول الأخفش، و الزجاج: إن الجار في قوله عزّ و جل [لإيلاف قريش متعلق بقوله جل شأنه [فجعلهم كعصف مأكول ، و بعدم الفصل بينهما في مصحف أبي بن كعب ضعيف لوجود الارتباط بين كثير من السور التي لا خلاف بين الأمة في تعددها فيكن هذا من ذاك.

و كلام الأخفشين لا ينهض حجة في أمثال هذه المطالب، و تعليق الجار بقوله تعالى:

[فليعبدوا رب هذا البيت لا مانع عنه، و عدم الفصل في مصحف أبي لعله سهو منه، على أنه لا يصلح معارضا لسائر مصاحف الأمة.

و أما ما ذكره جماعة من مفسري أصحابنا الإمامية رضوان اللّه عليهم كشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي في تفسير المسمى بالتبيان ج 10/ 371 في تفسير الإنشراح، و ثقة الإسلام أبي علي الطبرسي في

تفسيره الموسوم ب «مجمع البيان» ج 10/ 507 أيضا في تفسيره الإنشراح من ورود الرواية بالوحدة عن أئمتنا عليهم السّلام فهذه الرواية لم نظفر بها* و ما اطلعنا عليه من الروايات التي تضمنتها أصولنا لا تدل على الوحدة بشي ء الدّلالات بل دلالة بعضها على التعدّد أظهر و أقصى ما تستنبط منها جواز الجمع بينهما في الركعة الواحدة: و هو الدّلالة على الوحدة بمراحل، و ما تشرفنا بمشاهدته في مشهد مولانا و إمامنا أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السّلام من المصاحف التي قد شاع و ذاع في تلك الأقطار أن بعضها بخطه عليه السّلام، و بعضها بخط آبائه الطاهرين سلام اللّه عليهم أجمعين يؤيد ما قلناه من التعدد، فإن الفصل في تلك المصاحف بين كل من تلك السور الأربع و صاحبتها على وتيرة الفصل بين البواقي، و اللّه أعلم بحقايق الأمور.

* أقول:

في الوسائل ج 4/ 744، ب 10، ح 6، روى عن «مجمع البيان» ج 10/ 544 عن أبي العباس عن أحدهما عليهما السّلام قال: «ألم تر كيف فعل ربك، و لإيلاف قريش سورة واحدة».

و

في «المستدرك» ج 4/ 163، ح 4382 روى عن كتاب التنزيل ص 68 لأحمد بن محمد تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 10

و مع كل ذلك فلا ادعي إلى تحديدها بحيث يسلم طردا و عكسا.

و إن كان و لا بد فلعل الأولى تعريفه بما يجزي قراءته في المكتوبة بعد الفاتحة للقادر المختار لو لا اشتماله على العزيمة «1»، و القيد الأخير لدفع النقض بالعزائم.

[أسماء السورة المباركة]

اعلم أن لهذه السورة الشريفة أسماء منيفة:

منها: «الفاتحة» مجردة و مضافة إلى الكتاب، و فاتحة الشي ء اسم لأوله كالخاتمة لآخره.

و هي في الأصل إما مصدر بمعنى الفتح

ك «الكاذبة» في الآية «2» بمعنى الكذب، و الباقية في قوله: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «3» بمعنى البقاء، و العافية بمعنى المعافاة، و العاقبة بمعنى العقب، نقلت إلى أول ما يفتتح به إطلاقا للمصدر على المفعول، لأنّه أوّل المفتوح من الشي ء «4».

و إما صفة و التاء للمبالغة كما في رواية و علّامة سمّيت بها لأنها كالباعثة على

______________________________

السياري، عن البرقي، عن القاسم بن عروة، عن أبي العباس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الضحى و ألم نشرح سورة واحدة»

، و

في نفس المصدر عن التنزيل ص 71 عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «ألم تر و لإيلاف سورة واحدة».

و لعل الشيخ البهائي قدس سره لم يظفر بهذه الروايات أو ظفر و لكنه لم يعتمد عليها لأن في سندها القاسم بن عروة، و اختلفوا في جواز الاعتماد على رواياته.

(1) و لكن يبقى إشكال دخول السور الأربعة المذكورة إلا أن نقول بوحدة السورتين.

(2) سورة الواقعة: 2.

(3) سورة الحاقة: 8.

(4) قال أبو البقاء الكفوي المتوفى (1094) ه بعد نقل الفاتحة بمعنى الفتح: رد بأن (فاعلة) في المصادر قليلة، و لكن الزمخشري في الكشاف قال: الفاعل و الفاعلة في المصادر غير عزيزة كالخارج و القاعد و العافية و الكاذبة.- الكليات ص 694.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 11

فتحه، أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالنطيحة، فإن الصفات إذا لم تذكر معها موصوفاتها تغلب عليها الاسمية فتلحقها التاء لتدلّ على غلبة الاسمية و عدم احتياجها إلى الموصوف.

و إمّا اسم آلة كالسّامعة و الباصرة لأنّها آلة الفتح، و هذا الاحتمال ذكره بعض الأعلام، و لا يخفى ما فيه و في جعل ما ذكر من المثالين من الآلة.

و ربما يرجّح كونها وصفا

بقلة مجي ء المصادر عليها، بل قد ينكر ذلك رأسا، و يأول كلما جاء عليها إلى الأوصاف، حتى الكاذبة و الباقية في الآيتين و فيه تعسف.

نعم، لا بأس بترجيح الوصفية كما لا بأس بترجيح كون التاء للنقل في المقام إذا لم يقصد بها المبالغة «1».

ثم إنها قد تطلق مجردة عن الإضافة، إمّا لكونها علما بالغلبة كالمضاف إلى الكتاب، فتلزم اللام، أو اختصارا لعدم الالتباس، و اللام للمح الوصفية الأصلية و ليكون كالخلف عن الإضافة.

قيل: و نظيره في الاختصار

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

______________________________

(1) قال الألوسي السيد محمود البغدادي المتوفى سنة (1270) ه في «روح المعاني» ج 1/ 34: الفاتحة في الأصل صفة جعلت اسما لأول الشي ء لكونه واسطة في فتح الكل، و التاء للنقل، أو المبالغة، و لا اختصاص لها بزنة علّامة، أو مصدرا طلقت على الأول تسمية للمفعول بالمصدر إشعارا بأصالته، كأنه نفس الفتح إذ تعلقه به أولا، ثم بواسطته يتعلق بالمجموع لكونه جزءا منه، و كذا يقال في «الخاتمة» فإن بلوغ الآخر يعرض الآخر أولا ثم بواسطته يتعلق بالمجموع. و ليس هذا كالأول لقلة فاعلة في المصادر، إلا أنه أولى من كونه للآلة أو باعثا لأن هذه ملتبسة بالفعل و مقارنة له، و الغالب أن لا تتصف الآلة و لا يقارن الباعث، على أن الآلة هنا غير مناسبة لإيهام أن يكون البعض غير مقصود. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 12

«من أراد أن يسمع القرآن غضا طريا كما أنزل فليسمع من ابن أم عبد» «1».

أي عبد اللّه بن مسعود «2».

و قد تطلق بل كثيرا مضافة إلى الكتاب الذي هو مصدر لكتب بمعنى خط أو جمع أو ثبت، و إضافة السورة إليها لامية كيوم

الجمعة و علم التفسير كما صرحوا به و إن كان فيه بعض التأمل.

و كذا إضافة الفاتحة إلى الكتاب لكون المضاف إلى مباينا للمضاف، إذ المراد بالكتاب الكل لا المفهوم الصادق على الكل و البعض حتى الآية كما في يد زيد.

و كان ينبغي من حيث القياس أن يصدق على أول آية بل كلمة أو كلام من الكتاب، لكنها جعلت عاما لهذه السورة.

نعم، ربما يجعل الإضافة بمعنى من نظرا إلى أن كل ما هو جزء من الشي ء فإضافته إليه بمعنى من، و كأن منشأ التوهم هو الخلط بين الجزء و الجزئي، فإن

______________________________

(1)

قال ابن عبد البر القرطبي المتوفى (463) ه في الإستيعاب في معرفة الأصحاب المطبوع بهامش الإصابة 2/ 319: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أحب أن يسمع القرآن غضا فليسمعه من ابن أم عبد».

و بعضهم يرويه: «من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد»

و

حدث عن سعيد، عن قاسم، عن وضاح، عن ابن أبي شيبة، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد اللّه أنه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان عبد اللّه يصلي فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد».

و

روى الذهبي المتوفى (748) ه في «سير النبلاء» ج 1/ 500 بإسناده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد»

. (2) ابن أم عبد هو عبد اللّه بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي،

أبو عبد الرحمن، من أكابر الصحابة، و كان من أهل مكة و من السابقين إلى الإسلام، و أول من جهر بقراءة القرآن بمكة، كان قصيرا جدا يكاد الجلوس يوارونه، و يحبّ الإكثار من التطيب، روى القوم عنه (848) حديثا، توفى بالمدينة سنة (32) ه عن نحو ستين عاما- الأعلام، ج 4/ 280.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 13

الإضافة في الثاني بمعنى من دون الأول، و لذا اشترطوا في الإضافة بمعنى من كون المضاف إليه جنسا للمضاف و صادقا عليه كخاتم فضة «1».

نعم، ربما يوجه ذلك بأن المراد حاصل المعنى، فإنها و ان كانت بمعنى اللام لكن مؤداها مؤدى «من» التبعيضية، أو أن الكتاب القرآن يطلق على البعض كالكل، فالفاتحة جزئي له لا جزء منه، فتكون الإضافة كخاتم فضة، لكنه لا يخلو من تكلف، بل قد يقال: إن «من» التبعيضية لا تكون للإضافة أصلا فتأمل.

و على كل حال فإنما سميت بها لأنه يفتتح بها المصحف، و التعليم، و القراءة في الصلاة، بل قيل: إنها أول كل كتاب أنزل.

و الإختصاص المستفاد من قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «2» محمول على المجموع لا كل من الآيات، و

قد ورد في الخبر «3»: «أنه ما نزل كتاب من السماء إلا أوله بسم اللّه الرحمن الرحيم» «4».

______________________________

(1) قال الآلوسي البغدادي: (الكتاب) هو المجموع الشخصي و فتح الفاتحة بالقياس إليه لا إلى القدر المشترك بينه و بين أجزاءه، و هو متحقق في العلم أو اللوح أو بيت العزة، فلا ضير في اشتهار السورة بهذا الاسم في الأوائل، و الإضافة الأولى من إضافة الاسم إلى المسمى و هي مشهورة، و الثانية بمعنى اللام كما في جزء الشي ء لا بمعنى من كما

في خاتم فضة لأن المضاف جزء لا جزئي قاله شيخ الإسلام أبو السعود، و هو مذهب بعض في كل، و قال ابن كيسان و السيرافي و جمع: إضافة الجزء على معنى (من) التبعيضية، بل في اللمع و شرحه:

إن (من) المقدرة في الإضافة مطلقا كذلك من غير فرق بين الجزء و الجزئي، و بعضهم جعل الإضافة في الجزئي بيانية مطلقا، و بعضهم خصها بالعموم و الخصوص الوجهي كما في المثال، و جعلها في المطلق كمدينة بغداد لامية، و الشهرة لا تساعده- روح المعاني ج 1/ 34.

(2) سورة الحجر: 87.

(3) البحار: ج 92/ 234، ح 17.

(4) قال الشيخ بهاء الدين: فاتحة الشي ء أول أجزاءه كما أن خاتمته أخرها، فهي في الأصل

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 14

[الكتاب التدويني و التكويني

ثم اعلم أن الكتاب كتابان: تدويني و تكويني.

فالكتاب التدويني هو هذا القرآن الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «1» و هو الحاوي لجميع الحقائق الكلية و الجزئية، و المهمين على جميع الكتب الإلهية، و (تبيان كل شي ء) «2»، و تفصيل كل حقيقة وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «3».

و الكتاب التكويني هو تمام عالم الوجود من الدرة «4» إلى الذرة فجميع العالم

______________________________

إما مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب، أو صفة و التاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالذبيحة، و قد يجعل للمبالغة كعلامة، ثم إن اعتبرت أجزاء الكتاب سورا فالأولية هنا حقيقية، و إن اعتبرت آيات أو كلمات مثلا فمجازية تسمية للكل باسم الجزء.

و إضافة السورة إلى الفاتحة من إضافة العام إلى الخاص كبلدة بغداد، و إضافة الفاتحة إلى الكتاب من إضافة الجزء إلى الكل

كرأس زيد فهما لاميتان، و ربما جعلت الثانية بمعنى «من» التبعيضية تارة و البيانية أخرى، و الأول و إن كان خلاف المشهور بين النحاة إلا أنه لا يحوج إلى حمل الكتاب على غير المعنى الشائع المتبادر و الثاني بالعكس. ثم تسمية هذه السورة بهذا الاسم إما لكونها أول السور نزولا كما عليه جم غفير من المفسرين، و إما لما نقل من كونها مفتتح الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ، أو مفتتح القرآن المنزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا، أو لتصدير المصاحف بها على ما استقر عليه ترتيب السور القرآنية و إن كان بخلاف الترتيب النزولي، أو لافتتاح ما يقرء في الصلاة من القرآن، فهذه وجوه خمسة لتسميتها بفاتحة الكتاب- العروة الوثقى المطبوع مع الحبل المتين ص 389.

(1) سورة فصلت: 42.

(2) اقتباس من آية 89 في سورة النحل: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.

(3) سورة الأنعام: 59.

(4) الدرة (بضم الدال المهملة و تشديد الراء): العقل في مصطلح العرفاء و توصف بالبيضاء تارة و يقال: (الدرة البيضاء) و المراد بها العقل الأول، قال المتصرّف نعمة اللّه الماهاني الكرماني المتوفى (825) ه بالفارسية:

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 15

بأجزائها المرتبة صعودا و نزولا كتاب «1» واحد كتبه اللّه تعالى بيده و أحصاه بعلمه و أمسكه بقدرته و جعل فاتحة هذا الكتاب مشيته الكلية، و هو الوجود المطلق و القلم الأعلى، و الاسم الأعظم، و الحجاب الأقدم، و التجلي الأول، و النور الذي أشرق من صبح الأزل، و هو نور نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لذا

ورد: «أول ما خلق اللّه نوري «2»، أول ما خلق اللّه روحي «3» خلق اللّه المشية بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشية

«4» و هو نور محمد و أوصيائه الطيبين، خلقهم اللّه تعالى نورا واحدا قبل الخلق، و جعلهم أعضادا و أشهادا و حفظة و روّادا

______________________________

روشن است از نور رويش ديده بيناي ما* دره بيضا بود غواص اين درياى ما فرهنگ معارف اسلامي ج 2، ص 390.

(1) قال محمود الشبستري المتوفى (720) ه في (گلشن راز) بالفارسية:

بنزد آنكه جانش در تجلي است* همه عالم كتاب حق تعالى است عرض إعراب و جوهر چون حروف است* مراتب مثل آيات و وقوف است از آنها هر يكى يك سوره خاص* يكى زان فاتحة آنكديگر إخلاص

(2) بحار الأنوار: ج 1/ 97، ح 7، عن غوالي اللآلي، و ج 15/ 24، ح 44 و ج 24/ 22، ح 38، و ج 57/ 7170 ح 117.

(3) لم أظفر على هذا الحديث بعينه و لكن يمكن أن يستفاد معناه من أحاديث أخر منها: ما

رواه في البحار ج 57/ 193، ح 140، عن الكافي ج 1/ 440، عن الصادق عليه السّلام قال: «قال اللّه تبارك و تعالى: يا محمد إني خلقتك و عليا نورا- يعني روحا لا بدن- قبل أن أخلق سماواتي و أرضي و عرشي و بحري ... إلخ».

(4)

البحار: ج 4/ 145، ح 19 عن توحيد الصدوق و فيه: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «خلق اللّه المشية قبل الأشياء ثم خلق الأشياء بالمشية».

و

في ح 20: «خلق اللّه المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».

و قال المجلسي قدّس سرّه بعد ذكر الحديثين:

بيان: هذا الخبر الذي هو من غوامض الأخبار يحتمل وجوها من التأويل ...، ثم ذكر خمسة وجوه أعرضنا عن ذكرها للاختصار و من أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى ج 4/ 145. تفسير

الصراط المستقيم، ج 3، ص: 16

كما ورد في الدعاء الرجبية» «1».

و

عن كتاب «المعراج» للصدوق «2» بالإسناد عن ابن عباس «3» قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخاطب عليا عليه السّلام:

«يا علي إن اللّه تبارك و تعالى كان و لا شي ء معه، فخلقني و خلقك روحين من نور جلاله فكنا أمام عرش رب العالمين، نسبح اللّه و نقدسه و نحمده و نهلله، و ذلك قبل أن يخلق السموات و الأرضين» «4».

و

في «رياض الجنان» «5» بإسناده عن جابر «6» الجعفي، عن أبي جعفر عليه السّلام

______________________________

(1) المفاتيح للقمي: 130.

(2) هو علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي أبو الحسن شيخ القميين في عصره و متقدمهم، و فقيههم، و ثقتهم، و

هو الذي سأل الحسين بن روح رحمه اللّه أن يوصل رقعة له إلى الصاحب عليه صلوات اللّه و سأله فيها الولد فكتب إليه: «قد دعونا اللّه لك بذلك و سترزق ولدين ذكرين خيرين» فولد له: أبو جعفر و أبو عبد اللّه من أم ولد،

توفي سنة (329) ه، و له كتب منها: كتاب «المعراج»- رجال النجاشي: ج 2/ 89، رقم: 682.

(3) هو عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، أبو العباس حبر الأمة ولد بمكة المكرمة سنة (3 ق) ه، لازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و روى عنه الأحاديث، و شهد مع أمير المؤمنين عليه السّلام الجمل و صفين، و كف بصره في آخر عمره فسكن الطائف حتى توفي بها سنة (68) ه. الأعلام للزركلي: ج 4، ص 228.

(4) بحار الأنوار: ج 25/ 3، ح 5، عن كنز الفوائد: 347 عن كتاب «المعراج» للصدوق.

(5) قال شيخنا العلامة

المجيز آقا بزرگ الطهراني قدّس سرّه: «رياض الجنان» فيه أخبار غريبة في المناقب ينقل عنه في البحار، للشيخ المحدث فضل اللّه بن محمود الفارسي تلميذ الشيخ المتقدم أبي عبد اللّه جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس بن الفاخر العبسي الدوريستي (المعاصر للشيخ الطوسي)، ينقل عنه في «فضائل السادات» الذي فرغ منه مؤلفه سنة (1103) ه، و لعله الذي ينقل عنه الكاشفي (المتوفى سنة 910 ه) في جواهر التفسير- الذريعة ج 11/ 421.

(6) هو جابر بن يزيد بن الحرث بن عبد يغوث بن كعب الجعفي أبو عبد اللّه عده الشيخ في رجاله تارة من أصحاب الباقر عليه السّلام، و أخرى من أصحاب الصادق عليه السّلام، توفى سنة (128) ه تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 17

قال: «يا جابر! كان اللّه و لا شي ء غيره لا معلوم و لا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمدا و خلقنا أهل البيت معه من نور عظمته، فأوقفنا أظّله خضراء بين يديه، حيث لا سماء، و لا أرض، و لا زمان، و لا مكان، و لا ليل، و لا نهار، و لا شمس، و لا قمر، يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس، نسبح اللّه و نقدسه، و نحمده و نعبده حق عبادته» «1».

و

في «الكافي» عن محمد بن سنان «2»، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني، فأجريت اختلاف الشيعة فقال:

«يا محمد! إن شاء اللّه تبارك و تعالى لم يزل متفردا بوحدانيته، ثم خلق محمدا و عليا و فاطمة فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها و أجرى طاعتهم عليها و فوض أمورها إليهم فهم يحلون ما يشاءون و يحرمون ما يشاءون، و لن

يشاءوا إلى أن يشاء اللّه تبارك و تعالى.

ثم قال: يا محمد! هذه الديانة التي من تقدمها مرق، و من تخلف عنها محق،

______________________________

و أقوال أرباب الرجال فيه مختلفة، قال المامقاني بعد ذكرها: الذي يستفاد من مجموع ما مر من الأخبار أن الرجل في غاية الجلالة و نهاية النبالة و له المنزلة العظيمة عند الصادقين عليهما السّلام، بل هو من أهل أسرارهما و مورد الطافهما الخاصة- تنقيح المقال ج 1/ 201، رقم: 1621.

(1) البحار: ج 25/ 17، ح 31 عن رياض الجنان.

(2) هو محمد بن الحسن بن سنان مولى زاهر أبو جعفر، توفي أبوه الحسن و هو طفل، و كفله جده سنان فينسب إليه، قال في التنقيح: إن الدائر على الألسنة أن محمد بن سنان أدرك ثلاثة من الأئمة و روى عنهم: الكاظم و الرضا و الجواد عليهم السّلام، و الحق أنه أدرك أربعة رابعهم مولانا الهادي عليه السّلام، توفى سنة (220) ه.

و قد اختلف العلماء في توثيقه و تضعيفه على قولين، ذكر في التنقيح أقوالهم و ذيله بقوله: إن الأقوى كون الرجل ثقة صحيح الاعتقاد معتمدا مقبول الرواية ... إلخ.- تنقيح المقال:

ج 3/ 124- 129. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 18

و من لزمها لحق، خذها إليك يا محمد» «1».

فكما أنّ الكتاب التكويني طبق الكتاب التشريعي، (فيه تبيان كل شي ء) «2»، فكذلك النسبة بين فاتحتهما، و لذا فضلت الفاتحة على جميع السور، و خصت بها الصلاة التي هي إنسان العبادات، لاشتمالها على العبادة القولية و الفعلية، و الحالية و البالية، و الذكرية و الفكرية، و غيرها من الحقائق التي سنشير إليها إن شاء اللّه.

و لذا

قال: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» «3»

، و لعل من بطونها أن لا

وصول إلى اللّه لأحد من الأنبياء و الأولياء، من الأولين و الآخرين، و من الملائكة المقربين، إلا بواسطة التوسل بنينا و آله صلى اللّه عليهم أجمعين، و الاستشفاع بهم «4»، فإنه

______________________________

(1) الكافي: ج 1، ب 169، ص 441، ح 5.

(2) اقتباس من آية 89 في سورة النحل: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.

(3) مستدرك الوسائل: ج 4، ص 158، ح 5، رقم: 4365.

(4) أورد المجلسي قدّس سرّه روايات دالة على ما ذكر، منها ما

عن الصادق عليه السّلام: «أتى يهودي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقام بين يديه يحد النظر إليه، فقال: يا يهودي ما حاجتك؟ قال:

أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه اللّه و أنزل عليه التوراة، و العصا، و فلق له البحر، و أظله بالغمام.

فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، و لكني أقول: إن آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إني أسئلك بحق محمد و آل محمد لما غفرت لي فغفرها اللّه له، و أن نوحا لما ركب في السفينة و خاف الغرق قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما أنجيتني من الغرق فنجاه اللّه عنه، و أن إبراهيم لما ألقي في النار قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما أنجيتني منها فجعلها اللّه بردا و سلاما، و أن موسى لما ألقى عصاه و أوجس في نفسه خيفة، قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما آمنتني، فقال اللّه جل جلاله: لا تخف إنك أنت الأعلى.

يا يهودي! إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي و

بنبوتي ما نفعه إيمانه شيئا، و لا نفعته النبوة، يا يهودي! و من ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم عليه السّلام لنصرته، فيقدمه و يصلي خلفه». البحار: 26، ص 319. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 19

و ذريته فاتحة كتاب الوجود «1» و الوسيلة لاهتداء العابد إلى المعبود، و الحجر الذي ينفجر منه عيون الفيض و الجود.

و منها: «أم الكتاب» و «أم القرآن».

فإن أمّ الشي ء في الأصل أصله، و هذه السورة أهل القرآن كلّه، فإنّها حقيقته الإجمالية الّتي لم ينبسط بعد في عالم التفصيل و قد سمعت سابقا أنّ نسبته في القرآن كنسبة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الأكوان، و كما أنه دحيت و انبسطت من سورته البلدية المكانية و هي أم القرى جميع الأراضي و البلدان، كذلك تفصل و تحصل من سورته القرآنية جميع سور القرآن.

و كذا

ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أن جميع ما في القرآن فهو في فاتحة الكتاب» «2».

______________________________

(1) كما قال نابغة الدهر و فيلسوف الزمن و فقيه الأمة الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدّس سرّه: فاتحة الوجود خاتم الرسل جل عن الثناء ما شئت فقل

كل وجود هو من وجوده فكل موجود رهين جوده

و عالم الإبداع من ظهوره و نشأة التكوين ظل نوره

الأنوار القدسية لمحمد حسين الاصفهاني، ط مؤسسة الوفاء بيروت 1402 ه.

(2) في ملحقات الإحقاق ج 7/ 608 عن «ينابيع المودة» ص 69 و ص 408، ط إسلامبول، و في «الدر النظيم»:

اعلم أن جميع أسرار الكتب السماوية في القرآن، و جميع ما في القرآن في الفاتحة، و جميع ما في الفاتحة بالبسملة، و جميع ما في البسملة في باء البسملة، و جميع ما في باء

البسملة في النقطة التي تحت الباء،

قال الإمام كرم اللّه وجهه: «أنا النقطة التي تحت الباء».

قال صاحب تفسير «المنار» في ج 1/ 35: الفاتحة مشتمل على مجمل ما في القرآن، و كل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها ثم بين مراده باشتمال الفاتحة على مجمل القرآن بما خلاصته أنّ ما نزل القرآن لأجله أمور: التوحيد و الوعد للمطيعين و الوعيد للعاصين،

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 20

و قد قيل: إن العرب تسمي كل جامع أمر أو متقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه أما، فيقولون: أم الرأس للجلدة التي تجمع الدماغ، و أم القرى لمكة لأن الأرض دحيت من تحتها «1».

و قيل: سميت لأن سور القرآن تتبعها كما يتبع الجيش أمّه و هي الراية.

______________________________

و العبادة التي تحيي التوحيد، و بيان سبيل السعادة في الدنيا و الآخرة، و قصص الواقفين عند حدود اللّه أي المؤمنين و اخبار المتجاوزين عن حدود اللّه.

فالحمد للّه إشارة إلى التوحيد، و بسم اللّه ... إشارة إلى الوعد بالرحمة و مالك يوم الدين إشارة إلى الوعد و الوعيد كليهما، و إياك نعبد إشارة إلى العبادة، و الصراط المستقيم إشارة إلى سبيل السعادة. فالفاتحة جديرة بأن تسمى أم الكتاب كما أن النواة أم النخلة.

(1) قال الطريحي في «مجمع البحرين» في ذيل كلمة (أمم) قوله تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ الآية، يعني في أصل الكتاب، يريد اللوح المحفوظ و أم الكتاب أيضا فاتحة الكتاب، و سميت أما لأنها أوله و أصله، و لأن السورة تضاف إليها و لا تضاف هي إلى شي ء، و قيل: سميت أما لأنها جامعة لأصل مقاصده و محتوية على رؤوس مطالبه، و العرب يسمون ما يجمع أشياء متعددة أما كما

يسمون الجلدة الجامعة للدماغ و حواسه أم الرأس، و لأنها فذلكة لما فصل في القرآن المجيد لاشتمالها على المعاني في القرآن من الثناء على اللّه بما هو أهله، و من التعبد بالأمر و النهي، و الوعد و الوعيد، فكأنه نشأ و تولد منها بالتفصيل بعد الإجمال، كما سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت منها.

و قال الشيخ البهائي قدّس سرّه في «العروة الوثقى»: وجه اشتمال هذه السورة الكريمة على مقاصد الكتاب العزيز إما أن تلك المقاصد راجعة إلى أمرين: هما الأصول الاعتقادية و الفروع العملية، أو هما معرفة عز الربوبية و ذل العبودية، و إما إنها ترجع إلى ثلاثة هي: تأدية حمده و شكره جل شأنه، و التعبد بأمره و نهيه، و معرفة وعده و وعيده، و إما إلى أربعة هي: وصفه سبحانه بصفات الكمال و القيام بما شرعه من وظائف الأعمال، و تبين درجات الفائزين بالنعم و الأفضال، و تذكر دركات الهاوين في مهاوي الغضب و الضلال، و إما إلى خمسة هي:

العلم بأحوال المبدأ و المعاد، و لزوم جادة الإخلاص في العمل و الاعتقاد، و التوسل إليه جل شأنه في طلب الهداية إلى سبيل الحق و السداد، و الرغبة في الاقتداء بالذين ربحت تجارتهم بإعداد الزاد ليوم التناد، و الرهبة من اقتفاء أثر الذين خسروا أنفسهم بترك الزاد و إهمال الاستعداد، و لا مرية في تضمين هذه السورة الكريمة جميع هذه المطالب العظيمة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 21

و قد وقعت تسميتها بأم الكتاب في قوله: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «1» و الضمير للكتاب المبين، و هو أمير المؤمنين علي عليه السّلام، كما ورد عن الكاظم عليه السّلام في جواب النصراني

حيث سئل عن تفسيره في الباطن «2».

و من اللطايف مطابقتهما في العدد فلاحظ «3».

و

في «المعاني» عن الإمام الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جل: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ

«هو أمير المؤمنين و معرفته، و الدليل على أنه أمير المؤمنين عليه السّلام قوله عزّ و جل: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ و هو أمير المؤمنين عليه السّلام في أم الكتاب في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «4».

و هنا مسلك آخر و هو أن هذه السورة لاشتمالها على الحقائق الكلية المتأصلة التي لا تزول و لا تزال أبدا، فهي بمنزلة اللوح المحفوظ الذي لا يتطرق إليه المحو أصلا، إذ التغيرات الجزئية لا يظهر أثرها في الكلي، و لذا

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أفر من قضاء اللّه إلى قدره» «5».

قال اللّه تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «6».

و الوعيد، لتضمنها تعليم حمده، و الاستغاثة به، و المقاصد الكلية منحصرة في

______________________________

(1) الزخرف: 4.

(2) الكافي: ج 1/ 479، ح 4، كتاب الحجة، الباب 178.

(3) عدد كل من (الكتاب المبين) و (أمير المؤمنين علي) يساوي (587) و لكن بشرط أن لا يحسب (أ) في المؤمنين كما لا يلفظ بها في التلفظ.

(4) بحار الأنوار: ج 24/ 12، ح 4، كتاب الإمامة، الباب (24)، عن معاني الأخبار للصدوق:

32، ح 3.

(5) توحيد الصدوق: 369، ح 8، و البحار ج 5/ 97، ح 24 و ص 114، ح 41 عن التوحيد.

(6) سورة الرعد: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 22

الثلاثة، فإنه لما كان التحقق بالسعادة العظمى التي هي المعرفة العيانية للواهب الحق جل ذكره شهودا عينيا في هذه الدار و في دار القرار متفاوتا حسب تفاوت مراتب

أصناف المقربين و درجات الأبرار، و الاتصاف بالأخلاق الربانية المعبر عنه بالتخلي و التحلي موقوفا على تمييز مقام العبودية من الربوبية، ثم التوجه نحو من بيده الخير كله بالكلية، و كان الكتاب الكريم كافلا للمتمسك به أن ينال من هذه السعادة الحظ الأوفى و الشرب الأصفى لزم أن ينحصر مقاصده في الثلاثة المذكورة، فالثناء عليه بما هو أهله يتضمن معرفة الرب جل جلاله بصفات الجلال و الإكرام، مع الاعتراف بأن العبد و ما هو متقلب فيه قطرة من بحر جوده و يدخل فيه الإيمان باللّه تعالى و صفاته و أفعاله، و التعبد بأوامره و نواهيه يتضمن معرفة أنه عبد مربوب مكلف لا بد له من اللجوء إلى مولاه حسب ما استدعاه بعده أو أدناه، و لا يخفى تأخره عن الأول، إذ لو لا الاعتراف السابق لم يلزم طلب كيفية التوجه.

و ذلك لأن التعبد في الحقيقة راجع إلى طلب الكمال من مفيضه على الوجه الذي يؤدي إلى المطلوب و يدخل في الايمان بالنبوات و الولايات و الملائكة و الكتب و العبادات القلبية و القالبية.

و الإتيان بالوعد و الوعيد يتضمن التنبيه على السعادة المذكورة، و على ما يقابلها من الشقاوة، و اختلاف درجاتهما و هما الكمال المطلوب بالتعبد، و النقصان المهروب عنه بالتجرد، و لو لا ذلك لم يتميز الطلب عن التوجه العبثي فبالثلاثة تمت الكفالة، و من رضي بها كافلا فطوبى له.

و لبعض أرباب الطريقة مسلك آخر و هو أنّ هذه السورة مشتملة على مراتب الربوبية، و مراتب العبودية و الأمور الدنيوية و الأخروية.

مراتب الربوبية عشرة: أولها: مرتبة الاسم بأن اللّه تعالى له اسم، و الثاني:

الذات، و الثالث: الصفات، فهذه المراتب الثلاثة حاصلة في بسم اللّه

الرحمن

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 23

الرحيم، و الرابع: الثناء، و الخامس: الشكر، و هما حاصلان في الحمد، و السادس:

الألوهية بمعنى الخالقية، و هي الحاصلة في اللّه تعالى، و السابع: الملكية بالمالكية، و هي حاصلة في مالك، و الثامن: الربوبية بالوحدانية في الخالقية، و هي الحاصلة في رب العالمين، و التاسع: المعبودية بالألوهية و الوحدانية، و هي حاصله في إياك نعبد، و العاشر: الهداية بالحق و الإنعام من الأزل إلى الأبد، و هي حاصله من اهدنا الصراط المستقيم.

و كذلك مراتب العبودية عشرة، أولها: معرفة اللّه تعالى بهذه المراتب، و الثاني: الإقرار بالربوبية للّه تعالى، و الثالث: معرفة النفس و خلوها عن مراتب الربوبية بعبودية نفسه، و الرابع: العلم باحتياجه إلى اللّه و استغنائه عنه، الخامس:

عبادة اللّه تعالى على ما هو أهله بأمره، و السادس: الاستعانة باللّه في العبودية للتوفيق و القدرة و التعليم و الإخلاص، و السابع: الدعاء بالخضوع و الخشوع و المحبة، فإنه خلق لهذا كما قال اللّه تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ «1»، و الثامن: الطلب بوجدان صفاته و نعمه، و هو المقصد الأعلى و المنية القصوى، و التاسع: الاهتداء عنه ليهتدي به إليه، و ينعم عليه بإرشاد طريق الهداية، و العاشر: الاستدعاء منه بأن يحسن إليه و يديم نعمته عليه و لا يغضب عليه فيرده إلى الضلالة و الغواية.

و هذه المراتب كلها حاصلة في إياك نعبد إلى آخر السورة، و من هنا

قال عليه السّلام: يقول اللّه تعالي:

«قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد للّه رب العالمين، يقول اللّه تعالى: حمدني عبدي، و إذا

______________________________

(1) الفرقان: 77.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 24

قال العبد: الرحمن الرحيم، يقول اللّه تعالى: أثنى علي عبدي، و إذا قال العبد: مالك يوم الدين، يقول اللّه تعالى: مجدني عبدني، و إذا قال العبد: إياك نعبد و إياك نستعين، يقول اللّه تعالى: هذه الآية بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل» «1».

و مراتب الأمور الدنيوية أربعة، الملك، و الملك، و التصرف فيهما بالمالكية و الملكية، و مراتب الأمور الأخروية أربعة: العبادة للّه تعالى، و الاسترشاد به و الاستعانة به في جميع ذلك و حسن الخاتمة بدوام النعمة و عدم الضلالة و النقمة، و فاتحة الكتاب مشتملة على جميع هذه المراتب كلها.

لكنك ترى أن هذه كلها جعليات لا تخلو من تكلفات، نعم هذه السورة الشريفة مشتملة على أصول العقائد التي لا يتطرق إليها النسخ أصلا كما لا يخفى، و لذا سميت أم الكتاب، أي أصله الذي لا يتغير أصلا، بل هو أحد الوجوه أيضا في قوله: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ «2».

و منها: «السبع المثاني» بل ظاهر «المجمع» إطلاق كل من الكلمتين عليها «3».

و إنما سميت بها لأنها سبع آيات اتفاقا منا و من أهل الخلاف، و إن ذهب بعض هؤلاء إلى عد أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية دون البسملة.

______________________________

(1) المسند لابن حنبل ج 2/ 460، و كنز العمال 7/ 288، ح 18920، و صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة رقم 395، و للحديث بقية في أوله و في آخره.

و رواه الطبرسي في مجمع البيان عن صحيح مسلم، و رواه الصدوق في العيون ج 1/ 234، ح 59، و في الأمالي: 147، ح 1، و رواه في البحار عنهما ج 92/ 226، ح 3 مع اختلاف.

(2) آل

عمران: 7.

(3) قال في «مجمع البيان»: من أسمائها: «السبع» سميت بذلك لأنها سبع آيات لا خلاف في جملتها. و «المثاني» سميت بذلك لأنها تثني بقرائتها في كل صلاة فرض و نقل. و قيل: لأنها نزلت مرتين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 25

نعم، لبعضهم أقوال أخر شاذة جدا: كالقول بكونها ستا بإسقاط البسملة «1»، و ثماني بعد إِيَّاكَ نَعْبُدُ وحدها آية «2» و تسع آيات بعد كل من منه و من أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية «3» و سميت مثاني لأنها تثنى في ركعتي الصلاة كما

روى الصدوق في العيون عن مولانا الصادق عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب، و هي سبع آيات تمامها بسم اللّه الرحمن الرحيم، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إن اللّه تبارك و تعالى قال: يا

______________________________

(1) و القائل به الحسين بن علي بن الوليد الجعفي الحافظ المقري الكوفي، قرأ القرآن على حمزة الزيات و أتقنه، و أخذ الحروف عن أبي عمرو بن العلاء، ولد سنة (119) ه و توفى سنة (203) ه- سير أعلام النبلاء ج 9/ 397، رقم 129.

(2) القائل به هو عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري المعتزلي، كان من تلامذة الحسن البصري و لكن يكذب عليه، و هو مطرود الفريقين، أنظر: تنقيح ج 2/ 335، رقم 8749، قال ما ملخصه: هو معاند للحق من رؤوس الضلال.

و انظر أيضا: ميزان الاعتدال ج 3/ 273، رقم 6404 في ترجمة عمرو بن عبيد: قال: قال أبن معين: لا يكتب حديثه، و قال النسائي: متروك الحديث، و قال الدار قطني و غيره:

ضعيف.

و ترجمة الخطيب البغدادي في بغداد ج 12/

186 و قال: مات عمرو سنة (143) ه.

(3) قال أبو عبد اللّه القرطبي محمد بن أحمد الأنصاري المتوفي (671) ه في تفسيره ج 1/ 114: أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست و هذا شاذ، و إلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية، و هي على عدة ثماني آيات و هذا شاذ، و قوله تعالى: لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (الحجر: 87) و

قوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة ...)

يرد هذين القولين.

و قال المفسر الجليل السيد الشهيد آية اللّه السيد مصطفى الخميني قدّس سرّه في تفسيره ج 1/ 25:

عدد آيها بإجماع أهل الفن سبعة إجماعا مركبا لاختلافهم في البسملة أنها من السورة أم هي من القرآن أو ليست منها، و من أخرجها منها اعتبر الآية الأخيرة آيتين: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، و غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ آية أخرى. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 26

محمد، و لقد آتيناك سبعا من المثاني و القرآن العظيم «1»، فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب، و جعلها بإزاء القرآن العظيم» «2».

و

في تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام: «إنما سميت المثاني لأنها تثني في الركعتين «3» و فيه: عن أحدهما قال: لأن فاتحة الكتاب يثنى فيها القول» «4».

و قيل: إنه مثنى من حيث النزول، فإنها نزلت بمكة مرة و بمدينة أخرى.

و قيل: مثنى باعتبار أن نصفها ثناء العبد للرب، و نصفها عطاء الرب للعبد، كما قال: قسمت الصلاة أو فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي نصفين «5» إلى آخر ما مر.

و قيل: إن المثاني من الثناء فإن العبد يثني فيها ربه أو

الرب يثنى بها.

و قيل: لأن آياتها سبع بعدد أبواب النيران التي هي مطابقة للقوى الخمس الحاسة بإضافة النفس و البدن، إذا ينفتح بكل منها باب إلى الجحيم، و باب إلى

______________________________

(1) سورة حجر: 87.

(2) عيون الأخبار: ج 1/ 301، ح 60، و الأمالي: 106، و عنهما البحار ج 92/ 227، ح 5.

(3) تفسير العياشي: ج 1/ 19، ح 3، و عنه البحار: ج 18/ 335 و ج 92/ 235، ح 23.

(4) تفسير العياشي ج 2/ 249، ح 34، و عنه البحار: ج 92/ 235، ح 24.

(5) قال الرازي المتوفي (606) ه في مفاتيح الغيب ج 19/ 207 في ذيل «سبعا من المثاني» في سورة الحجر: للناس فيه أقوال: الأول قول أكثر المفسرين و هو أنه فاتحة الكتاب و هي سبع آيات و تسميتها بالمثاني لوجوه: الأول: أنها تثنى في كل صلاة، و الثاني: لأنها يثنى بعدها ما يقرء معها، الثالث: لأنها قسمت قسمين لما

روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «قال اللّه سبحانه: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي»

الحديث مشهور.

و الرابع: لأنها قسمان: ثناء و دعاء، و أيضا النّصف الأول منها حق الربوبية و هو الثناء، و النصف الثاني حق العبودية و هو الدعاء، و الخامس لأن كلماتها مثناة، مثل الرحمن الرحيم، إياك نعبد و إياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 27

الجنة، و الجنة باب ثامن ليس بإزائها باب إلى النار، و هو الباب المفتح من العقل، و لذا صارت أبواب الجنان ثمانية «1» إذ ليس للعقل خروج من طاعة اللّه، فإن العقل على ما

عرفه الإمام عليه السّلام هو ما عبد به الرحمن

و اكتسب به الجنان «2»

و أما النكراء

______________________________

(1) قال الحكيم الإلهي صدر المتألهين الشيرازي المتوفي (1050) ه في الحكمة المتعالية ج 9/ 330 الفصل (26) في أبواب الجنة و النار: اعلم أنه وقع الاختلاف في تعيين هذه الأبواب، فقيل: هي المدارك السبعة للإنسان و هي الحواس الخمس و الحاستان الباطنتان أعني الخيال و الوهم، أحدهما مدرك الصور و ثانيهما مدرك المعاني الجزئية و هذه الأبواب كما أنها أبواب دخول النيران كذلك هي أبواب دخول الجنان إذا استعملها الإنسان في الطاعات، و بالجملة استعملها فيما خلقت لأجلها و للجنة باب ثامن مختص بها هو باب القلب.

و قيل: هي الأعضاء السبعة التي وقع التكليف بها.

و قيل: هي الأخلاق السيئة مثل الحسد، و البخل، و التكبر و غيرها للنار، و مقابلاتها من الأخلاق الحسنة للجنة، و القول الأول أولى و أوفق ...

قال الجنابذي المتوفى (1327) ه في «بيان السعادة ج 2/ 402 بعد نقل الأقوال: لكن الحق و التحقيق أن الجحيم و أبوابها حقيقة موجودة في خارج هذا العالم في الملكوت السفلي، و ما ذكروا مناسبات لعدد طبقاتها و أبوابها لا أنه هي بعينها و

في الخبر: «إن للنار سبعة أبواب، باب يدخل منه فرعون و هامان و قارون، و باب يدخل منه المشركون و الكفار، و من لم يؤمن باللّه طرفة عين، و باب يدخل منه بنو أمية هو لهم خاصة لا يزاحمهم فيه و هو باب لظى و هو باب سعير .... إلخ

. (2)

معاني الأخبار: 239 ح 1، و في المحاسن: 195 ح 15 و عنهما البحار ج 1/ 16، ح 8 و رواه الكليني في الكافي ج 1/ 11، ح 3، و متن الحديث هكذا: عن

بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان، قال: قلت: و الذي كان في معاوية؟ قال: تلك النكراء و تلك الشيطنة و هي شبيهة بالعقل و ليست بالعقل.

و قال المجلسي في بيان الحديث: النكراء: الدهاء و الفطنة، وجودة الرأي و إذا استعمل في مشتهيات جنود الجهل يقال له: الشيطنة، و لذا فسره عليه السّلام بها، و هذه إما قوة أخرى غير العقل أو القوة العقلية، و إذا استعملت في هذه الأمور الباطلة و كملت في ذلك تسمى بالشيطنة و لا تسمى بالعقل في عرف الشر 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 28

التي هي الشيطنة فهي من جنود الجهل و من قوى الشيطان.

و

روي أن جبرئيل على نبينا و آله و عليه السّلام قال للنبي: كنت أخشى العذاب على أمتك، فلما نزلت الفاتحة أمنت، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لم يا جبرئيل؟ قال: لأن اللّه تعالى قال: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ «1» و آيات الفاتحة سبع، من قرءها صارت كل آية طبقا على باب من أبواب جهنم، فيمر أمتك عليها سالمين «2».

بل ربما يقال: لهذا أثبت فيها جميع حروف التهجي إلا السبع التي هي أوائل ألفاظ دالة على نوع مما يعذب به، و هي جهنم، و الثبور، و الخزي، و الشهيق، و الزفير، و الظلمة، و الفراق «3».

______________________________

(1) سورة الحجر: 44.

(2) لم أظفر على مصدر له.

(3) إشارة إلى ما حكى الفخر الرازي المتوفي (606) ه في «مفاتيح الغيب» ج 1/ 178 قال:

قالوا: هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف و

هي: الثاء و الجيم و الخاء و الزاي و الشين و الظاء و الفاء.

و السبب فيه أن هذه السبعة مشعرة بالعذاب، فالثاء تدل على الثبور، قال تعالى: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً الفرقان: 14، و الجيم أول «جهنم»، وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الحجر: 37. و الزاي و الشين أول حروف الزفير و الشهيق، قال تعالى:

لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ هود: 106، و الظاء تدل على لظى كَلَّا إِنَّها لَظى المعارج: 15، و الفاء تدل على الفراق، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ «الروم 14».

فإن قالوا: لا حرف من الحروف إلا و هو مذكور في شي ء يوجب نوعا من العذاب فما يبقى لما ذكرتم فائدة، فنقول: أنه تعالى قال في صفة جهنم: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ و أسقط سبعة من الحروف في هذه السورة و هي أوائل ألفاظ دالة على العذاب تنبيها على من قرأ هذه السورة و آمن بها و عرف حقائقها صار آمنا من المدركات السبع في جهنم، و اللّه أعلم.

و قال الآلوسي المتوفى (1270) ه في (روح المعاني) ج 1/ 36: لا يقال: إذا كانت الفاتحة جامعة لمعاني الكتاب فلم سقط منها سبعة أحرف: الثاء، و الجيم، و الخاء، و الزاي،

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 29

______________________________

و الشين، و الظاء، و الفاء.

لأنا نقول: لعل ذلك للإشارة إلى أن الكمال المعنوي لا يلزمه الكمال الصوري، و لا ينقصه نقصانه، و كانت سبعة موافقة لعدد الآي المشتمل على كثير من الأسرار و كانت من الحروف الظلمانية التي لم توجد في المتشابه من أوائل السور و يجمعها بعد أسقاط المكرر (صراط علي حق نمسكه) و هي النورانية المشتملة عليها بأسرها الفاتحة للإشارة إلى غلبة الجمال

على الجلال المشعر بها تكرر ما يدل على الرحمة في الفاتحة، و إنما لم يسقط السبعة الباقية من هذا النوع فتخلص النورانية ليعلم أن الأمر مشوب، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (الأعراف: 99) و في قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (الحجر: 49) إشارة و أي إشارة إلى ذلك لمن تأمل حال الجملتين.

على أن في كون النورانية و هي أربعة عشر حرفا مذكورة بتمامها و الظلمانية مذكورة منها سبعة و إذا طوبقت الآحاد بالآحاد يحصل نوراني معه ظلماني و نوراني خالص إشارة إلى قسمي المؤمنين فمؤمن لم تشب نور إيمانه ظلمة معاصيه، و مؤمن قد شابه ذلك، و فيه رمز إلى أنه لا منافاة بين الإيمان و المعصية، فلا تطفئ ظلمتها نوره، و أما حديث

«لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن»

فمحمول على الكمال.

و إذا لوحظ الساقط و هو الظلماني المحض المشير إلى الظالم المحض الساقط عن درجة الاعتبار و المذكور و هو النوراني المحض المشير إلى المؤمن المحض، و النوراني المشوب المشير إلى المؤمن المشوب يظهر سر التثليث في فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ «فاطر: 32».

و إنما كان الساقط هذه السبعة بخصوصها من تلك الأربعة عشر و لم يعكس، لسر علمه من علمه و جهله من جهله، نعم في كون الساقط معجما فقط إشارة إلى أن الغين في العين و الرين في البين فلهذا وقع الحجاب و حصل الارتياب.

و للعلامة فخر الدين الرازي في هذا المقام كلام ليس له في التحقيق أدنى إلمام، حيث جعل سبب إسقاط هذه الحروف أنها مشعرة بالعذاب. و لا يخفى ما في كلامه

و جوابه لا يغنيه و لا ينفعه إذ لقائل أن يقول: فلتسقط الذال، و الواو، و النون، و الحاء، و العين، إذ هي من الذل و الويل و النار و الحميم، و العذاب و تكون الفائدة في إسقاطها كالفائدة في إسقاط تلك من غير فرق أصلا، و أما نسبته لأمير المؤمنين كرم اللّه وجهه حين سأل قيصر الروم معاوية عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 30

و يمكن أن يقال إن المثاني هي القرآن كما قال اللّه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «1» لتكرر قراءته أو قصصه و مواعظه أو وجوه.

إعجازه و بلاغته، أو لكونه كتابا تدوينيا مطابقا للكتاب التكويني، أو لاشتماله على الثناء على اللّه بما هو أهله و مستحقه، فإن غيره لا يطيق الثناء.

عليه، كما

قال أكمل المخلوقات و أفضلهم: «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «2»

، فالسبع سبع آيات منها و هي السورة أو سبع سور، و هي الطول سابعها الأنفال، أو مع التوبة، فإنهما في حكم سورة واحدة و لذا لم يفصل بينهما بالبسملة.

ثم إنه

قد روي في «التوحيد» و «تفسير العياشي» و «القمي» و «فرات» و «البصائر» عن الأئمة الصادقين عليهم السّلام بأسانيد عديدة أنهم قالوا: «نحن و اللّه السبع المثاني و نحن المثاني التي أعطاها اللّه نبينا» «3».

و المراد بالسبع في هذه الأخبار إما السورة بناء على شي ء من الوجوه المتقدمة، و يكون المراد بتلك الأخبار أن اللّه إنما امتن بهذه السورة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مقابلة القرآن العظيم لاشتمالها على وصف الأئمة عليهم السّلام و مدح طريقتهم و ذم

______________________________

ذلك فسأل عليا عليه السّلام فأجاب فلا أصل

له. و على تقدير التسليم فما مرام الأمير عليه السّلام بالاكتفاء على هذا المقدار إلا التنبيه للسائل و المسؤول على ما لا يخفى عليك من الأسرار فافهم ذلك اللّه تعالى هداك. انتهى.

(1) سورة الزمر: 23.

(2) بحار الأنوار: ج 16/ 253، ح 35، و ج 71/ 23، و ج 85/ 170، ح 7، و ج 93/ 159، ح 33.

(3) رواه عن المصادر المذكورة البحار: ج 24/ 114، ح 1 و/ 116، ح 3 و/ 96 ح 22 و في ج 25/ 5، ح 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 31

أعدائهم «1»، و إما سبعة من الأئمة عليهم السّلام لأن أكثر انتشار العلوم منهم و لذا خصهم به، و إما كلهم فإن أسمائهم سبعة بعد إسقاط المكرر «2»، و على هذه الوجوه فالمثاني من الثناء لأنهم الذين أثنى اللّه تعالى عليهم في كتابه التدويني بل التكويني، أو هم الذين يثنون عليه تعالى حق ثنائه و يعلمون يثنون عليه تعالى حق ثنائه و يعلّمون غيرهم تسبيحه و تهليله، حتى الأنبياء و الملائكة و جميع من دونهم من أهل العالم، كما يستفاد من أخبار مستفيضة بل متواترة «3» أو من التثنية لأنهم ذو جهتين: جهة عالية لاهوتية و جهة سافلة ناسوتية، أو لثنيهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو مع القرآن، كما أشار إليه الصدوق «4» أو يكون المراد كما هو الأظهر بل أولى من جميع ما مر المعصومون جميعا، لكون السبع باعتبار تثنية أربعة عشر، و هذا العدد الشريف هو عدد قوى يد اللّه الباسطة، و تجليات أنوار وجهه النيرة الساطعة، و لذا طابقهما العدد الذي هو الأربعة عشر.

ثم إن اشتهيت أن تسمع نمطا آخر

من الكلام فاعلم أن اللّه تعالى خلق المشية بنفسها، من غير سبق مادة، و لا هيولى، و لا صورة و لا كم، و لا كيف، و لا جهة، ثم خلق الأشياء بالمشية.

و المشية مشيتان: إمكانية و كونية، فبالمشية الإمكانية خلق إمكانات الأشياء بلا مد و لا نهاية و لا تناه، و إن شئت فقل بحدود و نهايات غير متناهية، فلكل شي ء إمكان كل شي ء و من هنا قيل كل شي ء فيه معنى كل شي ء، فتفطن، و اصرف الذهن

______________________________

(1) البحار: ج 24/ 115، في ذيل الحديث الأول المنقول عن تفسير علي بن إبراهيم.

(2) البحار: ج 24/ 115، في ذيل الحديث، باب أنهم عليهم السّلام السبع المثاني.

(3) راجع: البحار: ج 25/ 1، ح 2، عن الاختصاص، و ص 3، ح ص 3، عن فضائل الشيخ الصدوق: 7- 8، و ص 17، ح 31، عن كمال الدين.

(4) البحار: ج 24/ 116، عن توحيد الصدوق: 150، ح 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 32

إلى كثرة لا تتناهى عددا.

و بالمشيّة الكونية خلق الأكوان، و هي عالم الحدود و النهايات و التناهي، و لكل من المشيتين سبعة مراتب هي أسباب الفعل و مقتضياته و متمماته، بحيث لا يوجد شي ء من الموجودات الإمكانية و الكونية إلا بها كما

في الكافي في خير حريز «1» و ابن مسكان «2» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «3» قال: «لا يكون شي ء في الأرض و لا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة، و إرادة و قدر، و قضاء، و إذن، و كتاب، و أجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض «4»

______________________________

(1) حريز بن عبد اللّه أبو محمد السجستاني الأزدي الكوفي أكثر التجارة إلى سجستان فعرف

بها، وثقه الشيخ، و عده في رجاله من أصحاب الصادق عليه السّلام، و له كتب في العبادات منها كتاب في الصلاة الذي كان يعتمد عليه الأصحاب و يعملون به. و

في رواية حماد المشهورة قال للصادق عليه السّلام: أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة، و الصادق عليه السّلام أقرّه على العمل بكتابه،

قتل في سجستان مع أصحابه بأيدي الشراة، كما نقل تفصيل القتل و علته في البحار ج 47/ 394.

قال العلامة النوري نور اللّه مرقده في «المستدرك»: حريز من أعاظم الرواة و عيونها، ثقة ثبت لا مغمز فيه، و حديث الحجب واضح التأويل ظاهر الحكمة متين المراد قد أكثر الأجلاء من الرواية عنه. هذه موجزة من ترجمته و طالب التفصيل فلينظر معجم رجال الحديث ج 4/ 194، رقم: 2637.

(2) هو عبد اللّه بن مسكان (بضم الميم و سكون السين المهملة) الكوفي، عده الشيخ في رجال من أصحاب الصادق عليه السّلام، و عده المفيد من فقهاء أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهم السّلام، و الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام و الفتيا و الأحكام الذين لا يطعن عليهم و لا طريق إلى ذم واحد منهم، و هم أصحاب الأصول المدونة و المصنفات المشهورة، و عده الكشي ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم و تصديقهم لما يقولون، و أقروا لهم بالفقه.- تنقيح المقال ج 2/ 216.

(3) في البحار عن المحاسن: عن أبي جعفر عليه السّلام.

(4) في البحار عن المحاسن: على نقص (بالصاد المهملة). تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 33

واحدة فقد كفر» «1».

و

فيه عن ذكريا «2» بن عمران عن الكاظم عليه السّلام قال: «لا يكون شي ء في السموات و لا في الأرض إلا بسبع: بقضاء

و قدر، و إرادة، و مشية و كتاب، و أجل، و إذن، فمن زعم «3» غير هذا فقد كذب على اللّه أو ردّ على اللّه» «4».

إلى غير ذلك من الأخبار، و المراد بالمشية المذكورة فيها معناها الخاص، و إن كان الكل يجمعها اسم المشية كما يأتي الكلام فيها و في تفصيل مراتبها في موضع أليق إن شاء اللّه، و حيث إنك قد سمعت أن فاتحة الكتاب هي المشية الكلية للكتاب التدويني كما أن المشية الكلية هي فاتحة الكتاب للكتاب التمكينى و التكويني و أن المشية إمكانية و كونية، ففاتحة الكتاب هي السبع المثاني و النور الشعشعاني و البشر الأول و الثاني و رتبة البيان و المعاني فافهم لحن المقال و لا تكثر السؤال فإن العلم نقطة كثرها الجهال.

و منها: «الشفاء» و «الشافية» لأنها شفاء من كل داء.

فعن العياشي «5» في تفسيره عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

______________________________

(1) الكافي: ج 3، باب «في أنه لا يكون شي ء في السماء و لا في الأرض إلا سبعة» ح 1.

و البحار ج 5/ 121، ح 65، عن المحاسن ص 244.

(2) هو زكريا بن عمران القمي، روى عن الكاظم عليه السّلام و عن هارون بن الجهم و روى عنه محمد بن خالد، و الحسين بن سعيد.

(3)

في البحار: فمن قال غير هذا فقد كذب على اللّه ...

(4) الكافي: ج 3، باب «في أنه لا يكون شي ء» ح 2. و البحار: ج 5/ 88، ح 7، عن الخصال ص 350، ح 36.

(5) هو الشيخ الأجل أبو النضر (بالضاد المعجمة) محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمي السمرقندي، ثقة، صدوق، عين من عيون هذه الطائفة و كبيرها، جليل القدر،

له كتب كثيرة تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 34

«إنها شفاء «1» من كل داء إلا السام، و السام الموت» «2».

و قضية العموم شموله للأمراض الروحانية و الجسمانية، إذ كما أن للأبدان أمراضا يرجع في رفعها و علاجها إلى أطباء الأبدان، كذلك للقلوب أمراض و آلام يجب الرجوع في علاجها إلى أطباء النفوس و القلوب المطلعين على خفايا العيوب و الذنوب، بل الاهتمام بدفع هذا الداء أكثر، فإن بقاءه أضر.

و هذه السورة كما أنها تدفع الأمراض الجسمانية بالرقية و التعويذ مع الاعتقاد الصحيح و التوسل الصريح، فكذلك تدفع الأمراض الروحانية و الأسقام القلبية بالتحقق بحقائقها و التخلق بمراتبها، إذ به يتحقق العبد في مقام العبودية و يتخلق بالأخلاق القدسية، و يحصل له الانقطاع إلى اللّه بالكلية، فيتمكن من محلة الأمن و الأمان و الاطمئنان، و يندحر عنه جنود الجهل و أعوان الشيطان بزواجر خطاب، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «3».

و منها: «الأساس»، لأنّها أصل القرآن و أساسه على ما مر فيما مر، و لما في «مجمع البيان» عن ابن عباس: «إن لكل شي ء أساسا و أساس القرآن الفاتحة و أساس الفاتحة بسم اللّه الرحمن الرحيم» «4». و لأنها أساس إذ لا صلاة الّا بها «5».

______________________________

تزيد على مائتي مصنف منها كتاب التفسير المعروف، و كان يروي عن الضعفاء، و في أول النديم في الفهرست: إنه من بني تميم من فقهاء الشيعة الإمامية و كان أوحد دهره و زمانه في غزارة العلم- سفينة البحار في لفط (عيش).

(1) في المصدر: هي شفاء.

(2) تفسير العياشي: ج 1، ص 3، ح 9.

(3) سورة الحجر: 42.

(4) مجمع البيان: ج 1، ص 17، ط صيدا.

(5) في تفسير القرطبي 1/ 113:

شكا رجل الى

الشعبي وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب، سمعت

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 35

و منها: «الكافية»، إذ هي تكفى عمّا سويها، و لا يكفى عنها ما سويها في خصوص الصلوة، أو مطلقا على بعض الوجوه المتقدمة، و يؤيّده

النبوىّ المروي في «المجمع» عن عبادة بن الصامت «1»، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال: «امّ القرآن عوض عن غيرها و ليس غيرها عوضا عنها» «2».

و منها: «الصلوة»

لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قال اللّه تعالي: قسمت الصلوة بيني و بين عبد نصفينّ»

الى آخر ما مرّ في تسميتها بأمّ الكتاب «3» و المراد بها «الفاتحة» كما يظهر من تمام الخبر، و ان احتمل أيضا ارادة «الصلوة» باعتبار اشتمالها على «الفاتحة» و لان منزلتها في القرآن منزلة الصلوة في العبادات لجامعيتها و اشتمالها على ما يشتمل عليه غيرهما.

و منها: «الكنز» لما

روى في العلوي «انّها نزلت من كنز تحت العرش» «4».

و منها غير ذلك من الأسماء الكثيرة التي قيل بإطلاقها عليها و لم نر لها كبعض ما مرّ أثرا في أخبارنا، و ان أمكن التقريب فيها ببعض الوجوه كالوافية

______________________________

ابن عباس يقول: لكلّ شي ء أساس؛ و أساس الدنيا مكة، لأنّها منها دحيت، و أساس السموات عريبا و هي السماء السابعة، و أساس الأرض عجيبا و هي الأرض السابعة السفلى، و أساس الجنان جنّة عدن و هي سرّة الجنان عليها اسّست الجنة، و أساس النار جهنم و هي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات، و أساس الخلق آدم، و أساس الأنبياء نوح، و أساس بنى إسرائيل يعقوب، و أساس الكتب القرآن، و أساس القرآن الفاتحة و أساس الفاتحة بسم اللّه الرحمن

الرحيم، فاذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى.

(1) عبادة بن الصامت ابو الوليد الخزرجي أحد النقباء ليلة العقبة ولي قضاء القدس و مات بالرملة أو ببيت المقدس سنة اربع و ثلاثين (العبر 1/ 35).

(2) مجمع البيان 1/ 17.

(3) في ص 21 من كتب الفريقين.

(4) لم أظفر على مصدر له- و

في البحار ج 85 ص 21 عن تفسير العياشي ج 1 ص 22: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى منّ عليّ بفاتحة الكتاب من كنز الجنّة .... الخبر. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 36

و الشكر و الدعاء و التعليم و القرآن العظيم، فانّه مقام الإجمال كما انّ الفرقان مقام التفضيل و النور و الرقية و سورة المناجاة و سورة التفويض و سورة السؤال و سورة الحمد و سورة الحمد الاولي و سورة الحمد القصرى بالراء و الواو و سورة التمحيص و التخليص و سورة التقسيم لقوله تعالى: «قسمت» إلى آخر، و سورة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما سمعت و سورة تعليم المسألة و سورة أمير المؤمنين لطلب الهداية الي الصراط المستقيم المفسّر بولايته عليه السّلام.

[عدد آياتها]

سبع آيات، و هي مكية أمّا كونها سبع آيات فكأنه لا خلاف فيه بين من خالفنا فضلا عما بيننا، و لذا نسب إلى الشذوذ ما يحكى عن الجعفي «1» منهم من عدم عدّ شي ء من التسمية، و صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية مستقلة نظرا إلى أنها ستة، و أشذ منه ما يحكى عن عمرو بن عبيد «2» من كونهما آيتين ذهابا إلى أنها ثمانية، و أشذ منهما ما عن ثالث من كون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية ثامنة فالتاسعة ما بعدها إلى

غير ذلك من الأقوال الشاذة التي لا ينبغي التعرض لها فضلا عما لها و ما عليها.

نعم، قد طال التشاجر بينهم في أنها آية أو بعض آية فيها أو في غيرها من السور، و ستسمع تمام الكلام عند التعرض لتفسير البسملة.

و أما كونها مكية فقد حكاها في «المجمع» عن ابن عباس و قتادة «3» و حكي

______________________________

(1) الجعفي: الحسين بن علي بن الوليد المتوفى (203) ه، تقدمت ترجمته.

(2) هو عمرو بن عبيد بن باب البصري المعتزلي المتوفي (143) ه، تقدمت ترجمته.

(3) هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز أبو الخطاب الدوسي البصري الضرير الأكمه، كان من

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 37

عن مجاهد «1» كونها مدنية، و عن بعضهم أنها نزلت مرتين: مرة بمكة و مرة بالمدينة «2».

روى الفخر الرازي «3» في تفسيره عن الثعلبي «4» بإسناده عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش» «5».

______________________________

المفسرين الحفاظ و الرؤساء في العربية و مفردات اللغة و أيام العرب و النسب، ولد سنة (61) ه و مات بواسط في الطاعون سنة (118) ه- تذكرة الحفاظ: ج 1/ 115.

(1) هو مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي مولى بني مخزوم كان من المفسرين أخذ التفسير عن ابن عباس، قرأه عليه ثلاث مرات يقف عند كل آية يسأله: فيم نزلت و كيف كانت؟ ولد سنة (21) ه و توفي سنة (104) أو قبلها- الأعلام: ج 6/ 161.

(2) قال السيوطي في الإتقان ص 12: سورة الفاتحة، الأكثرون على أنها مكية، بل ورد أنّها أوّل ما نزل، و استدل لذلك بقوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي في سورة الحجر و قد فسرها

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالفاتحة كما في الصحيح، و سورة الحجر مكية بالاتفاق و قد امتن على رسوله فيها بها فدل على تقدم نزول الفاتحة عليها، و بأنه لا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة و لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلوة بغير الفاتحة، ذكره ابن عطية و غيره و

قد روى الواحدي و الثعلبي من طريق العلاء بن المسيب عن الفضل بن عمرو عن علي بن أبي طالب قال: «نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش».

و اشتهر من مجاهد القول بأنها مدنية، و قال الحسين بن فضل: هذه هفوة من مجاهد لأن العلماء على خلاف قوله.

(3) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين المعروف بفخر الدين الرازي كان من المهرة في عهده في المعقول و المنقول و علوم الأوائل، أصله من طبرستان، و ولد في الري سنة (544) ه و توفي في هراة سنة (606) ه و له مصنفات منها: «مفاتيح الغيب» في التفسير- الأعلام:

ج 7/ 203.

(4) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري، مفسر من كتبه «الكشف و البيان» يعرف بتفسير الثعلبي، توفي «427» ه وفيات: ج 1/ 22.

(5) مفاتيح الغيب: ج 1/ 177.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 38

و

عنه بإسناده عن عمرو «1» بن شرحبيل أنه قال: «أول ما نزل من القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و ذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسر إلى خديجة رضي اللّه عنها، فقال: لقد خشيت أن يكون خالطني شي ء، فقالت: ما ذاك؟ قال: إني إذا خلوت سمعت النداء: اقرأ، ثم ذهب إلى ورقة «2» بن نوفل و اسأله من تلك الواقعة، فقال له

ورقة: إذا أتاك فاثبت له، فأتاه جبرئيل عليه السّلام فقال: قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3».

و قد يستدل له أيضا بالاتفاق على كون سورة الحجر مكية مع أن من آياتها قوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «4» الآية ... الدالة على أنه تعالى آتاه فيما تقدم السبع المثاني المفسر بالفاتحة بالأخبار المستفيضة «5» و غيرها، و بأنه يبعد أن يقال: إنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقام بمكة بضع و عشر سنين و صلى هو و أصحابه من دون فاتحة الكتاب مع أنه

ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنه لا صلاة إلا بها «6».

______________________________

(1) هو عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني الكوفي تابعي جليل، شهد صفين مع أمير المؤمنين عليه السّلام، توفي في أيام عبيد اللّه بن زياد، و صلى عليه شريح القاضي.

(2) هو ورقة بن نوفل بن أسد القرشي، حكيم اعتزل الأوثان قبل الإسلام، توفي سنة (12).

(3) مفاتيح الغيب: ج 1/ 177.

(4) الحجر: 87.

(5)

في تفسير الصافي: العياشي عن الصادق عليه السّلام أنه سئل عن هذه الآية فقال:

«هي سورة الحمد، و هي سبع آيات منها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إنما سميت بالمثاني لأنها يثنى في الركعتين».

و

عن أحدهما عليهما السّلام أنه سئل عنها فقال:

«فاتحة الكتاب يثنى فيها القول».

و كذا

في «المجالس» عن السجاد عليه السّلام، و في «المجمع» عن علي عليه السّلام و هكذا عن الباقر و الصادق عليهما السّلام و في «الاحتجاج» عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: «زاد اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم السبع الطول، و فاتحة الكتاب و هي السبع المثاني ... إلخ».

(6) تقدم عن المستدرك: ج 4/

158، ح 5، عن عوالي اللئالي ج 1/ 196، ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 39

و أما كلماتها فتسع و عشرون كلمة مع البسملة، و ربما يقال بخلاف ذلك على زيادة أو نقيصة لاختلاف الاعتبارات في عدّ الكلمات، فإنهم لم يعدّوا مثل الواو و الفاء و الباء و ساير الحروف المفردة بل الألف و اللام كلمة مستقلة، مع أنها كلمات من الحروف، و الخطب سهل فيه، و كذا في اختلافهم في اعتبار الحروف و أن المعدود منها هل هو الحروف الملفوظة أو المكتوبة أو كل منهما، و إن لم أجد في ذلك كلاما محرّرا لهم و لا لعلماء الحروف و الأعداد.

نعم، ذكر الشهيد الثاني «1» في «الروضة» في شرح قول الشهيد «2» رحمة اللّه عليه: «فإن لم يحسن يعني المصلي شيئا من الفاتحة قرء من غيرها بقدرها» قال:

أي بقدر الحمد حروفا فإن حروفها مائة و خمسة و خمسين حرفا بالبسملة إلا لمن قرء (مالك) فإنها يزيد حرفا) «3».

و اعترضه جمال المحققين «4» بأنه إما أن يعتبر الحروف الملفوظة أو المكتوبة

______________________________

(1) الشهيد الثاني: زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمد العاملي الشامي الجبعي، أمره في الثقة و الجلالة و العلم و الزهد و العبادة و الورع و كثرة التحقيق أشهر من أن يذكر، و محاسنه و أوصافه الحميدة أكثر من أن تحصر، ولد ثالث عشر شوال سنة (911) ه و ختم القرآن و عمرة تسع سنين، و استشهد في رجب سنة (966) ه.

قال المؤلف في منظومته «نخبة المقال» في تاريخ ولادته و عمره و شهادته: و شيخ والد بهاء الدين القدوة التحرير زين الدين

ميلاده «شهيد الثاني» و قدعمر خمسين و خمسا فشهد

(911)

(2)

الشهيد إذا أطلق أو قيد بالأول فهو الشيخ لأجل الأفقه أبو عبد اللّه محمد بن مكي بن محمد بن العاملي رئيس المذهب و الملة، كان بعد المحقق على الإطلاق أفقه فقهاء الآفاق، ولد سنة (734) و استشهد بالسيف و الصلب و الرجم و الإحراق بدمشق سنة (786) ه رضوان اللّه عليه.

(3) شرح اللمعة الدمشقية: كتاب الصلاة، الفصل الثالث في كيفيتها.

(4) جمال المحققين: محمد جمال الدين بن آقا الحسين بن جمال الدين محمد الخوانساري

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 40

فعلى الأول غاية مبلغ الحروف مائة و تسعة و ثلاثون حرفا. و ذلك على تقدير الوقف على الرحيم، و العالمين، و نستعين، و عدّ المد حرفا، و المشدد حرفين، و إلا فينقص منه أيضا، و على الثانية أصل الحروف مائة و اثنان و أربعون، و إذا أضيف التشديدات الأربعة عشر فيصير مائة و ستة و خمسون، و لو اعتبر المد أيضا حرفا كما هو الظاهر فيزيد حرفا آخر، و على التقادير لا يستقيم ما ذكره الشهيد، اللهم إلا أن يقال: إنه اعتبر المكتوبة و أضاف إلى الحروف الأصول التشديدات التي لم يكتب معها الحروف المدغمة دون البواقي، فإنه بعد اعتبار المدغم و المدغم فيه على حرفين لا وجه لاعتبار التشديد معهما حرفا، إذ لا يزيد المدغم و المدغم فيه على حرفين لو لم ينقصا منه، و التشديدات المذكورة خمسة فيصير المجموع مائة و سبعة و أربعين، و لو أعتبر المدّ أيضا حرفا كما هو الظاهر فيزيد حرفا آخر، و على التقادير لا يستقيم ما ذكره الشهيد، اللهم إلا أن يقال: إنه اعتبر المكتوبة و أضاف إلى الحروف الأصول التشديدات التي لم يكتب معها الحروف المدغمة دون البواقي،

فإنه بعد اعتبار المدغم و المدغم فيه على حرفين لا وجه لاعتبار التشديد معهما حرفا، إذ لا يزيد المدغم و المدغم فيه على حرفين لو لم ينقصا منه، و التشديدات المذكورة خمسة فيصير المجموع مائة و سبعة و أربعين، و اعتبر المد أيضا، و كذا اعتبرت همزة الاسم، فإنه لا تترك في الكتابة إلا في خصوص البسملة لكثرة

______________________________

الإصفهاني، عالم مشارك في الأخبار، و الفقه و الأصول، و الكلام و الحكمة، كان مجازا من المجلسي الأول، و له تصانيف كثيرة منها: حاشيته على اللمعة، توفي في 26 من شهر رمضان سنة (1121) ه كما جاء في «نجوم السماء» ص 191 مادة تاريخ لوفاته من فاتح الشاعر بالفارسية:

سال فوتش را بفاتح هاتفي از غيب گفت كرد إيزد با حسين بن علي حشر جمال (1121) ه و جاء تاريخ وفاته في «الروضات» سنة (1125).

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 41

الاستعمال فاعتبر الأصل، و كذا ألفي اللَّهِ و كذا الرَّحْمنِ فإن القاعدة تقتضي كتبه مثلهما، و إنما شاع تركهما في خصوصهما، فإنه اعتبر فيهما أيضا الأصل و كذا اللام و الهمزة من اللَّهِ فإن الأصل فيه كما قيل أن يكتب لاللّه لكنهم نقصوا الهمزة لالتباسه بالنفي فصار للّه فاستكرهوا اجتماع ثلاث لامات. فحذفوا إحداها فصار للّه، و إذا اعتبر جميع ما ذكرناه بلغ إلى ما ذكرناه، لكن اعتبار الحروف المكتوبة بعيد جدا، و الظاهر أن الاعتبار هنا بالحروف الملفوظة و يحتمل أن يكون الشهيد أيضا اعتبر الملفوظة لكن ملفوظة كل كلمة على تقدير التلفظ بها منفردة بالابتداء بها و الوقف عليه، و هو يوافق ما ذكرناه من اعتبار المكتوبة، فإن القاعدة في كتابه كل كلمة هو كتابة ما يتلفظ به

منه على ذلك التقدير إلا أنه خولف ذلك في بعض المواضع لنكتة، فإذا اعتبر المكتوبة على القاعدة بتوافي المكتوبة على ذلك الوجه ضم التشديدات الخمسة و حرف المد يبلغ ما ذكره، لكن اعتبار الملفوظة على ذلك الوجه أيضا كأنه بعيد.

أقول: و هذا كلّه كما ترى تكلّف في تكلّف، و لا يبعد اختلاف الاعتبارات باختلاف المقامات فيعتبر الملفوظة في باب القراءة، و المكتوبة في نحو الكتابة.

الاستعاذة

اشارة

الاستعاذة: استفعال من عاذ يعوذ عوذا و عياذا و معاذا و معاذة:

إذا التجأ و استجار به و امتنع، فالمستعيذ طالب العوذ و الالتجاء الي رحمته و عصمته، بخلاف العائذ فانّه الملتجى، قيل: و يستعمل بمعنى الالتصاق أيضا، فمعناه حينئذ ألصق نفسي بفضل اللّه و رحمته.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 42

حكم الاستعاذة

و لا خلاف بيننا في استحباب الاستعاذة قبل القراءة بلا فرق بين كون المقروء تمام السورة أو بعضها، مفتتحا بالبسملة أو لا، حتي بعض الآية، و بالجملة كل ما يصدق عليه القرآن، لقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «1».

و

في «تفسير العياشي» عن الصادق عليه السّلام، قال: سئلته عن التعوذّ من الشيطان عند كل سورة نفتحها؟ قال: نعم، فتعوذّ باللّه من الشيطان الرجيم «2».

و يحمل الأمر في الآية عليه، و إن كان ظاهرا في الوجوب، بل يمكن أن يقال بعد تسليم ذلك في موضعه: ليس الأمر في الآية ظاهرا فيه لكون المطلوب فيه غيريا، فلا يتجاوز مطلوبية مطلوبية ذلك الغير، و هي على وجه الاستحباب من حيث الذات، و أما العوارض فلا عبرة بها.

و من جميع ما مر مضافا إلى الأصل و الاستصحاب و عدم مزية المقدمة على ذيها، يظهر ضعف ما حكاه في «الذكرى» عن أبي علي «3» ابن الشيخ رحمة اللّه عليه من القول بوجوبها في خصوص الصلاة، لكونه مردودا بما سمعت، بل مسبوقا بالإجماع حسب ما ادعاه والده شيخ الطائفة «4» مضافا إلى ما

رواه

______________________________

(1) سورة النحل: 98.

(2) تفسير العياشي 2/ 270 ح 68 الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته ... إلخ- و عنه البحار 19/ 54.

(3) أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي، أجازه

والده في سنة (455) ه، و قرأ على والده أبي جعفر جميع تصانيفه، و له كتاب الأمالي و شرح النهاية.

(4) شيخ الطائفة على الإطلاق هو أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي تلمذ على الشيخ المفيد و السيّد المرتضى و غيرهما، و كان فضلاء تلامذته المجتهدون يزيدون على ثلاثمائة من الخاصة و من العامة ما لا تحصى. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 43

الصدوق «1» قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتم الناس صلاة و أوجزهم، كان إذا دخل في صلاته قال: اللّه أكبر بسم اللّه الرحمن الرحيم «2».

و ما يحكى عن بعض العامة كعطاء «3» بن أبي رباح، و الرازي، و داود «4» و أصحابه و غيرهم من القول بوجوبها، مطلقا نظرا إلى ظاهر الآية، بل عن داود و أصحابه بطلان الصلاة بتركها، و عن ابن سيرين «5» وجوب التعوذ في العمر مرة واحدة نظرا إلى حصول الامتثال به، كضعف ما حكاه العلّامة «6» في «المنتهى» عن

______________________________

ولد في شهر رمضان سنة (385) ه و قدم العراق سنة (408) ه و كان ببغداد ثم هاجر إلى النجف الأشرف و بقي هناك إلى أن توفي سنة (460) ه.

(1) هو الشيخ الأجل أبو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي. يقال: ولد بدعاء صاحب الأمر عجل اللّه تعالى فرجه الشريف، سنة (306) ه كان ثقة حافظا للأحاديث بصيرا بالرجال له نحو (300) مصنف منها «من لا يحضره الفقيه» توفى بالري سنة (381) ه و قبره مزار معروف في بقعة عالية.

(2) من لا يحضره الفقيه: ج 1/ 306، ح 920.

(3) عطاء بن أبي رباح أسلم بن صفوان، تابعي، كان

من الفقهاء و كان بنو أمية يعظمونه جدا حتى أمروا المنادي ينادي: لا يفتي الناس إلا عطاء و إن لم يكن فعبد اللّه بن أبي نجيح، ولد عطاء سنة (27) ه باليمن و مات بمكة المكرمة سنة (114) ه- تذكرة الحفاظ: ج 1/ 93،- سفينة البحار: ج 6/ 295.

(4) هو داود بن علي بن خلف أبو سليمان الظاهري الاصبهاني ولد بالكوفة سنة (201) ه و توفي ببغداد سنة (270) ه- الأعلام ج 3/ 8.

(5) هو محمد بن سيرين أبو بكر البصري الأنصاري بالولاء، تابعي ولد سنة (33) بالبصرة و توفي بها سنة (110) ه، نشأ بزازا في أذنه صمم، و تفقه و روى الحديث و اشتهر بالورع و تعبير الرؤيا و قصّته مع التي راودته عن نفسه و غلّقت الأبواب و قالت: هيت لك، معروفة فلمكان احترازه عن المعصية أعطاه اللّه سبحانه علم التعبير، و هذا لا ينافي ما قيل في نصبه كما نقل المحدث القمي عن شيخة الطبرسي النوري قدس سرهما: أن ابن سيرين كان مؤدّب ولد الحجاج، و كان يسمعه يلعن عليا فلا ينكر عليه، فلما لعن الناس الحجاج خرج من المسجد و قال: لا أطيق أسمع شتمه.- سفينة البحار: ج 4/ 355.

(6) هو جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر العلامة الحلي، لا نظير له

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 44

محمد بن سيرين من أنه كان يتعوذ بعد القراءة «1»، بل ربما يحكى عن النخعي «2»، و داود الأصفهاني أيضا، لكونها شرط المطلوبية في ظاهر الآية و هو متقدم على المشروط.

و فيه أن المراد إرادة القراءة فوضعوا الفعل مقام إرادته و التهيؤ له، على حد قوله: إِذا قُمْتُمْ

إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «3» و إذا لقيت العدو فخذ سلاحك، و يعضده تظافر الروايات من الخاصة و العامة على تقديمه،

كالمروي عن أبي سعيد الخدري «4» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه كان يقول قبل القراءة: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم» «5».

بل

في تفسير العسكري عليه السّلام و غيره ما يدلّ على تفسير الآية بهذا الوجه أيضا، قال: و أما قوله الذي ندبك اللّه و أمرك به عند قراءة القرآن: أعوذ باللّه، الخبر بطوله «6».

______________________________

في عصره في المعقول و المنقول و الفقه و الأصول، ولد سنة (648) ه و توفي سنة (726) ه قدس اللّه روحه.

(1) منتهى المطلب ج 1 ص 296.

(2) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي الكوفي، كان فقيه العراق في عصره و له مذهب، ولد سنة (46) ه، و توفي سنة (96) ه.- الأعلام ك ج 1/ 76.

(3) سورة المائدة: 6.

(4) هو أبو سعيد الخدري سعيد بن مالك بن سنان الخزرجي، صحابي كان من ملازمي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، له (1170) حديثا، ولد سنة (10) قبل الهجرة، و توفي بالمدينة سنة (74) ه.- الأعلام: ج 3/ 138.

(5)

قال الشوكاني محمد بن علي اليماني المتوفى سنة (1250) ه في «نيل الأوطار» ج 2/ 213: عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول: «أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة و نفخه و نفثه»، رواه أحمد و الترمذي.

(6) تفسير الإمام عليه السّلام: ص 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 45

فلا إشكال في ضعف القول بتأخيره بعد استقرار

المذهب منا و من العامة على خلافه «1»، مضافا إلى ما قيل: من أن المقصود من الاستعاذة نفي وسوسة الشيطان عند القراءة، قال اللّه تعالى:

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ «2».

و لذا أمر اللّه تعالى بتقديمها.

بل و لا في ضعف ما حكاه الرازي قولا ثالثا، و هو قراءتها قبل القراءة للخبر، و بعدها للقرآن جمعا بين الدليلين حسب الإمكان «3»، إذ فيه المنع من التعارض، و الأخبار للبيان، و حسن الاحتياط ممنوع في مثل المقام بعد وضوح الحكم، بل قد يؤدّي إلى التشريع لو قصد المشروعية.

محل الاستعاذة في الصلاة

كما أنه لا إشكال في أنه في خصوص الصلاة يتعوذ في أول ركعة منها خاصة، ثم لا يتعوذ في كل ركعة.

______________________________

(1) قال الرازي في «مفاتيح الغيب» ج 20/ 114، في تفسير آية الاستعاذة من سورة النحل:

الفاء في قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ للتعقيب، فظاهر هذه الآية يدل على أن الاستعاذة بعد قراءة القرآن و إليه ذهب جماعة من الصحابة و التابعين، قالوا: و الفائدة فيه أنه إذا قرأ القرآن استحق به ثوابا عظيما، فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه و تحبط بها ثواب القراءة، أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس و بقي الثواب مصونا عن الإحباط.

أما الأكثرون من علماء الصحابة و التابعين فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة و قالوا: معنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ، و نظيره قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.

(2) سورة الحج: 52.

(3) مفاتيح الغيب: ج 1/ 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 46

قال في «المنتهى» «1»:

و هو مذهب علماءنا و هو قول عطاء و الحسن «2» و النخعي و الثوري «3»، لأن القصد هو التعوذ من الوسوسة، و هو حاصل في أول الركعة.

و لأن الصلاة كالفعل الواحد، فيكفي الاستعاذة الواحدة كالتوجه.

هذا مضافا إلى استمرار الطريقة عليه، و كونه المعهود من فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام بعد كون العبادات توقيفية يلزم أخذها من صاحب الشريعة سيما بعد

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «4»

، و

«خذوا عنّي

______________________________

(1) منتهى المطلب: ج 1/ 270، و هكذا قال ابن منذر النيسابوري في «الأوسط» ج 3/ 89:

اختلفوا في الاستعاذة في كل ركعة فقالت طائفة يجزيه أن يستعيذ في أول ركعة كذلك قال النخعي و الحسن البصري و عطاء بن أبي رباح و سفيان الثوري و فيه قول ثان و هو أن يستعيذ في كل ركعة هكذا قال ابن سيرين، و قال الشافعي و قد قيل: إن قاله يعني الاستعاذة في كل ركعة قبل القراءة فحسن و لا آمر به في شي ء من الصلاة أمري به في أول ركعة، قاله في كتابه «الأم» ج 1/ 107.

(2) هو الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد مولى زيد بن ثابت الأنصاري، سبيت أمه من ميسان و هي حامل به و ولدته بالمدينة سنة (21) ه و قيل: كانت أم سلمة تبعث أم الحسن في الحاجة فيبكي و هو طفل فتسكته أم سلمة بثديها، و شب في كنف أمير المؤمنين عليه السّلام، و استكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، و سكن البصرة إلى أن توفي بها سنة (110) ه و هو عندنا غير

مرضي لورود مطاعن شديدة فيه عن أهل البيت عليهم السّلام، قال المؤلف في منظومته «نخبة المقال»:

فالحسن البصري مبغض الولي* قد ساءه جهاده فليخذل و قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: قيل: و ممن كان يبغض عليا عليه السّلام و يذمه الحسن البصري-. بهجة الآمال في شرح زبدة المقال: ج 3 م 69.

(3) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ولد بالكوفة سنة (97) ه، كان محدثا فقيها سكن مكة و المدينة و مات بالبصرة سنة (161) ه.

(4) صحيح البخاري بشرح ابن حجر و تحقيق عبد الباقي ج 2/ 111، ح 631، و صحيح مسلم بتحقيق عبد الباقي ج 1/ 293، و رواه أحمد في «المسند» ج 5/ 53 بلفظ آخر

قال: عن تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 47

مناسككم» «1»

، مع دلالة بعض الأخبار عليه، و قيام الإجماع به نقلا بل تحصيلا، فلا يلتفت إلى ما يحكى عن الشافعي في أحد قوليه و عن ابن سيرين من استحباب التعوذ في كل ركعة، نظرا إلى صدق القراءة في كل منها، و هو على فرضه يجب الخروج عنه لما سمعت، مضافا إلى ما

روي من طريق الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح بقراءة الحمد «2».

ثم إنه قد اختلف أهل العلم في كيفيتها و في أن المندوب هل هو الجهر بها أو الإخفات.

فالمشهور بين الأصحاب بل بين المخالفين أيضا أن صورتها «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم».

قال في «التذكرة»: و به قال أبو حنيفة «3»، و الشافعي «4» لأنه لفظ القرآن.

و قال الثوري، و ابن سيرين: يزيد بعد ذلك: إن اللّه هو السميع العليم.

______________________________

مالك بن الحويرث أبي سليمان

أتى إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو و صاحب له فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهما: «إذا حضرت الصلاة فأذنا و أقيما و ليؤمكم أكبركما و صلوا كما تروني أصلي».

(1) السنن الكبرى للبيهقي: ج 5/ 125.

(2)

رواه الحاكم في «المستدرك» ج 1/ 215 قال: عبد الواحد بن زياد حدثنا عمارة بن القعقاع، حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نهض في الثانية استفتح بالحمد للّه رب العالمين و لم يسكت».

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه هكذا.

(3) هو النعمان بن ثابت أبو حنيفة الكوفي إمام الحنفية، قيل: أصله من الفرس، ولد بالكوفة سنة (80) ه و توفي ببغداد سنة (150) ه، و له «مسند» في الحديث مطبوع.- الأعلام:

ج 9/ 4.

(4) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي، إمام الشافعية، ولد في غزة بفلسطين سنة (150) ه و توفي بمصر سنة (204) ه، و قبره معروف بالقاهرة و له مصنفات أشهرها «الأم» في الفقه مطبوع في سبع مجلدات- طبقات الشافعية: ج 1/ 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 48

و قال أحمد «1»: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم.

و قال الحسن «2» بن صالح بن حي: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم.

و احتجوا بقوله: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «3».

و الأخير ليس بداخل في الأمر بالاستعاذة، بل خبر بعده، و الأمر قبله «4».

و في «التيسير»: أن المستعمل عند الحذّاق من أهل الأداء في لفظها «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم» دون غيره لموافقه الآية و لما

رواه نافع «5»

بن جبير بن مطعم، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه استعاذ بهذا اللفظ بعينه «6».

بل

في «شرح الشاطبية» عن ابن مسعود أنه قرأ على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعوذ باللّه السميع العليم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قل: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم» «7».

______________________________

(1) هو أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد اللّه الشيباني إمام المذهب الحنبلي، ولد ببغداد سنة (164) ه و توفي سنة (241) ه.- الأعلام: ج 1/ 192.

(2) الحسن بن صالح بن حي الهمداني الثوري الكوفي من زعماء الفرقة البترية من الزيدية، ولد سنة (100) ه و توفي بالكوفة سنة (168) ه. تهذيب التهذيب: ج 2/ 285.

(3) سورة فصلت: 36.

(4) تذكرة الفقهاء: ج 1/ 114.

(5) نافع بن جبير بن مطعم أبو عبد اللّه التابعي، وثقه العجلي و أبو زرعة و ابن خراش، روى عن أبيه، و الزبير بن العوام، و العباس بن عبد المطلب و عثمان بن أبي العاص، و علي بن أبي طالب عليه السّلام، و آخرين، توفي سنة (99) ه، و والده جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف أبو محمد المدني أسلم قبل حنين أو يوم الفتح، و له ستون حديثا و توفي بالمدينة سنة (59) ه تهذيب التهذيب: ج 10/ 404، و خلاصة تهذيب الكمال: ج 1/ 161.

(6) التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو عثمان بن سعيد المدني ص 17، ط إستانبول، و ما رواه عن نافع أخرجه أحمد بن حنبل في «المسند»: ج 4/ 80، و الحاكم في «المستدرك»:

ج 1/ 235، و لكنه ليس بعين اللفظ، بل لفظه هكذا: «اللهم إني أعوذ

بك من الشيطان الرجيم».

(7) عوالي اللئالي: ج 2/ 47، ح 124.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 49

ثم قال: و لا أعلم خلافا بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القرآن و عند الابتداء برؤوس الأجزاء، و غيرها في مذهب الجماعة إتباعه للنص و اقتداء بالسنة.

ثم حكى عن نافع «1» أنه كان يخفيها في جميع القرآن، و عن حمزة «2» أنه كان يجهر بها في أول أم القرآن خاصة، و يخفيها بعد ذلك في سائر القرآن.

و في «التذكرة» يستحب الإسرار بها و لو في الصلاة الجهرية، ثم حكى عن أحد قولي الشافعية الجهر بها في الجهرية تمسكا بعمل أبي هريرة «3». «4».

ثم قال: و عمل الأئمة عليهم السّلام أولى «5»، و ظاهره نسبة الإسرار إليهم عليهم السّلام.

و في «مجمع البيان» عن ابن كثير «6»، و عاصم «7»، و أبي عمرو «8»: «أعوذ باللّه

______________________________

(1) هو نافع بن عبد الرحيم بن أبي نعيم الليثي بالولاء المدني، أحد القراء السبعة المشهورين، أصله من أصبهان، اشتهر في المدينة و أقرأ الناس نيفا و سبعين سنة و توفي بها سنة (169) ه.

غاية النهاية: ج 2/ 320.

(2) هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات القاري أحد القراء السبعة ولد سنة (80) ه و توفي بحلوان سنة (156) ه- الأعلام: ج 2/ 308.

(3) أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصحابي، ولد سنة (21) قبل الهجرة و قد المدينة و أسلم سنة (7) ه، و روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (5374) حديثا نقلها عن أبي هريرة أكثر من (800) رجل، و ولي إمرة المدينة مدة و استعمله عمر على البحرين ثم عزله، مات بالمدينة سنة

(59) ه.- الأعلام: ج 4/ 80. تفسير الصراط المستقيم ج 3 89

(4) سنن البيهقي: ج 2/ 36.

(5) تذكرة الفقهاء: ج 1/ 114.

(6) هو عبد اللّه بن كثير الداري المكي أحد القراء السبعة، ولد بمكة المكرمة سنة (45) ه و توفي بها سنة (120) ه.- وفيات الأعيان: ج 1/ 350.

(7) عاصم بن أبي النجود بهدلة الكوفي أحد القراء اسبعة، توفي بالكوفة سنة (127) ه.- الأعلام: ج 4/ 12.

(8) أبو عمرو: زبان بن عمار العلاء المازني البصري أحد القراء السبعة، ولد بمكة المكرمة سنة (70) ه و توفي بالكوفة سنة (154) ه.- الأعلام: ج 3/ 72.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 50

من الشيطان الرجيم».

و عن نافع، و ابن عامر «1»، و الكسائي «2» زيادة «إن اللّه هو السميع العليم».

عن حمزة: «نستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم».

و عن أبي حاتم «3»: «أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم» «4».

و عند العامة أقوال أخر في كيفيتها كقولهم: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم» «5».

و «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم إن اللّه هو السميع العليم» «6».

و «أعوذ باللّه العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم» «7».

إلى غير ذلك مما لا طائل تحت حكايته، إذ العبرة بما يستفاد من أخبار أهل البيت عليهم الصلاة و السّلام.

فالمشهور

في الأخبار بل عند الأصحاب «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم»،

و هو الأوفق بلفظ الآية.

بل

ورد ذلك في خطبة عيد الفطر لأمير المؤمنين «8»، و كذا في خطبته لصلاة يوم الجمعة «9» و عيد الأضحى، و أرسل الشهيد في «الذكرى» عن أبي سعيد الخدري

______________________________

(1) هو عبد اللّه بن عامر بن يزيد أبو عمران الشامي أحد القراء السبعة، ولي قضاء دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك، و توفي

بها سنة (118) ه.

(2) الكسائي: علي بن حمزة الكوفي اللغوي النحوي القاري المتوفي (189) ه.

(3) هو أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر بن داود الرازي المتوفي (277) ه.

(4) مجمع البيان: ج 1/ 18.

(5) تقدم الحديث عن مسند ابن حنبل ج 4/ 80 و مستدرك الحاكم ج 1/ 235.

(6) خلاف الشيخ: ج 1/ 325 عن سفيان الثوري و حلية العلماء: ج 2/ 83.

(7) هذا قول أحمد رواه ابن قدامة في المغني: ج 1/ 554.

(8) بحار الأنوار: ج 91/ 31، ح 5، عن المصباح ص 458.

(9) البحار: ج 89/ 234، ح 67، عن مصباح المتهجد ص 342. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 51

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه كان يقول قبل القراءة: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم» «1».

و

في «العوالي اللآلي» بالإسناد إلى ابن مسعود قال: قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت: أعوذ باللّه السميع العليم، فقال لي:

«يا بن أم عبد! قل: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبرئيل» «2».

و

في بعض خطب أمير المؤمنين عليه السّلام: «أستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم» «3».

و

مثله في معتبرة سماعة «4» عن الصادق عليه السّلام بزيادة «إن اللّه هو السميع العليم» «5».

و

روى العياشي عنه عليه السّلام قال: «تقول: أستعيذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم» «6».

و من هنا يظهر ضعف ما عن بعض العامة من عدم صحة «أستعيذ» نظرا إلى أن المستعيذ طالب العوذ بخلاف العائذ، و فرق بين الفاعل و طالب الفعل.

______________________________

(1) الذكرى: ج 1/ 190.

(2) عوالي اللآلي ك ج 2/ 47، ح 124 تقدم.

(3) الكافي: ج 8/ 153.

(4) هو سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي، قال المامقاني في

«تنقيح المقال» ج 2/ 67: إن في سماعة قولين: أحدهما أنه واقفي كما صرح به الشيخ و جماعة من فقهاء الأواخر و لكن مع اعترافهم بوقفه عملوا برواياته. و ثانيهما أنه اثنا عشري كما قال به النجاشي و وثقه مرتين، و وجد في بعض الكتب أنه مات سنة (145) ه في حياة الصادق عليه السّلام.

(5) تهذيب الشيخ: ج 1/ 177.

(6) تفسير العيّاشي: ج 2 ص 270 ح 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 52

و فيه أنه على فرض الطلب يكون المطلوب هو الحاصل بالمصدر و طلب الحاصل نفس مباشرة الفعل، إذا الطلب فعلي و القول حكاية حسب ما تسمع، على أن كثيرا من أهل اللغة عدّهما بمعنى.

قال في القاموس: العوذ: الالتجاء كالعياذ، و المعاذ، و المعاذة، و التعوذ، و الاستعاذة.

مضافا إلى ما سمعت عن الصادق و عن جده أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السّلام، و قولهما هو الحجة.

و

في بعض الأخبار: «أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم» «1».

و هو المذكور في «الفقيه» «2» و «المقنع» للصدوق «3» و «المقنعة» للمفيد «4».

و

روى الشهيد الثاني في «شرح النفلية» عن الصادق عليه السّلام: «أستعيذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، أعوذ باللّه أن يحضرون إن اللّه هو السميع العليم» «5».

و

في «قرب الإسناد عن حنان «6» بن سدير قال: صليت خلف أبي عبد اللّه عليه السّلام

______________________________

(1) تقدم عن «مجمع البيان»: ج 1/ 18.

(2) من لا يحضره الفقيه: ج 1/ 304.

(3) الموسوعة الفقهية، المقنع للصدوق: ج 1/ 53.

(4) الموسوعة الفقهية، المقنعة للمفيد: ج 1/ 101.

(5) الحدائق: ج 8/ 164 عن النفلية ص 81.

(6) حنان بن سدير الصيرفي، ثقة، واقفي روى عن الصادق و الكاظم عليهما السّلام، كان معمرا، و روى

عنه ابن عمير، و ابن محبوب، و إسماعيل بن مهران.

قال في «التنقيح»: إن في الرجل أقوالا: أحدها أنه ثقة و هو صريح «الفهرست» و يؤيده رواية الحسن بن محبوب المجمع على تصحيح ما يصح عنه و غيره من الأجلاء عنه، و كونه تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 53

المغرب، فتعوذ بإجهار: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم و أعوذ باللّه أن يحضرون «1».

و

في «الذكرى»: عن البزنطي «2» عن الصادق عليه السّلام: «أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم» «3».

و مثله

في رواية الحسن «4» بن راشد عن الصادق عليه السّلام و هو المذكور في تفسير الإمام عليه السّلام قال: «و هو القول الذي ندبك اللّه إليه و أمرك به عند قراءة القرآن» «5».

و رواه في دعائم الإسلام «6» عن الصادق عليه السّلام

، و لذا ربما يرجح هذا القول على سائر الأقوال.

لكن المستفاد من اختلاف هذه الأخبار، بعد ملاحظة إطلاق الآية، و جملة من المعتبرة، و عدم دليل من إجماع أو نص تعيين صيغة خاصة، جواز الإتيان بكل من هذه الصيغ و غيرها حتى في الصلاة.

______________________________

كثير الرواية و سديد الراوي، و مقبول الرواية.

و ثانيهما أنه موثق ... و ثالثهما أنه ضعيف و هو صريح «التنقيح» حيث قال: حنان ضعيف ...- تنقيح المقال: ج 1/ 381.

(1) قرب الإسناد: ص 58- 59// الوسائل: ج 4/ 800، ح 5، عن قرب الإسناد.

(2) هو أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي الكوفي، كان من أصحاب الرضا و الجواد عليهما السّلام، عظيم المنزلة عندهما توفي سنة (221) ه و- طرائف المقال: ج 1/ 279.

(3) الوسائل: ج 4/ 801، ح 7 عن «الذكرى».

(4) الحسن بن راشد مول بني العباس كوفي من

أصحاب الصادق عليه السّلام، ضعفوه و لكن كتابه معتمد عليه عند العلماء.- تنقيح المقال: ج 1/ 277.

(5) تقدم عن تفسير الإمام عليه السّلام ص 18. و لا يخفى أن المصنف نقله بالمعنى، و إلا فلفظ الحديث هكذا:

«أما قوله الذي ندبك اللّه إليه و أمرك به عند قراءة القرآن: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم».

(6) دعائم الإسلام ج 1 ص 159 ح 458 و عنه البحار ج 85 ص 48 ح 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 54

و إن كان الأحوط فيها الاقتصار على الصيغة المروية، بل خصوص المشهور، إلا أن الأقوى جواز غيرها أيضا، و النبوي المروي في «العوالي» عامي، و لذا لا يصلح للتقييد مضافا إلى عدم صراحته في التعيين، بل يكفي في مثله الأولوية.

نعم في «شرح النفلية» لثاني الشهيدين أن المعنى في أعوذ و أستعيذ واحد قال الجوهري «1»: عذت بفلان، و استعذت به: أي لجأت إليه، و في أستعيذ موافقه للفظ القرآن، إلا أن أعوذ في هذا المقام أدخل في المعنى، و أوفق لامتثال الأمر الوارد بقوله: «فاستعذ» لنكتة دقيقة، و هي أن السين و التاء شأنهما الدلالة على الطلب فوردتا في الأمر، إيذانا بطلب التعوذ فمعنى «استعذ» إي أطلب منه أن يعيذك فامتثال الأمر أن يقول: أعوذ باللّه، أي التجئ إليه، لأن قائله متعوذ قد عاذ و التجأ، و قائل أستعيذ ليس بعائذ، إنما هو طالب العياذ به، كما تقول: أستخير باللّه، أي أطلب منه الخيرة و أستغفر أي أطلب مغفرته.

لكنهما «2» دخلتا هنا في فعل الأمر بخلاف الاستعاذة، و بذلك يظهر الفرق بين الامتثال بقوله «استغفر اللّه»، دون استعذ باللّه، لأن المغفرة إنما تكون من اللّه فيحسن طلبها، و الالتجاء

يكون من العبد فلا يحسن طلبه.

ثم اعترض على كلام الجوهري، و حكي عن جماعة من المحققين ردّوه و اعترضه بعض «3» المحققين في تلك النكتة بأنّه إذا كان معنى استعذ اطلب منه ما يعيذك

______________________________

(1) الجوهري: إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر كان من أئمة اللغة و خطه يذكر مع خط ابن مقلة، أشهر كتبه «الصحاح» و هو أول من حاول الطيران و مات في سبيله، صنع جناحين من خشب و ربطهما بحبل و صعد سطح داره و نادى في الناس: لقد صنعت ما لم أسبق عليه و سأطير الساعة، فازدحم أهل نيسابور ينظرون إليه، فتأبط الجناحين و نهض بهما، فخانه اختراعه فسقط إلى الأرض قتيلا.- الأعلام: ج 1/ 309.

(2) أي السين و التاء.

(3) المراد به كما قال في الهامش هو الشيخ سليمان بن عبد اللّه بن علي بن عمار الماحوزي من

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 55

فامتثال الأمر بقوله: أستعيذ ظاهر، إذ معناه اطلب من اللّه أن يعيذني، و امّا الامتثال بقوله: أعوذ باللّه فغير ظاهر، الّا أن يجعل هذه الجملة مرادا بها الطلب و الدعاء، و امّا الإخبار بالالتجاء فلا يتحقق الامتثال به و بالجملة فالقائل بكل من اللفظين أراد طلب الإعاذة منه سبحانه، لكن دلالة اللفظ الثاني عليه ظاهرة لقضية السين و التاء، و أما الأول فمبني على إرادة الإنشاء لا الإخبار.

و حيث قد عرفت سهولة الخطب في لفظها فلا ينبغي تطويل الكلام فيه، بل المهم في المقام فهم معناها و مؤديها ليتمكن المستعيذ من التحقق بحقيقتها، و الوصول إلى كبرياء القدس و حريم حرم الأنس، و ذلك ببيان المراد من المستعيذ و المستعاذ منه و المستعاذ به، و كيفية الاستعاذة.

فهنا مباحث:

الأول:

في المستعيذ و هو و إن كان القارئ نفسه، لكن لا بنفسه بل بحول اللّه و قوته و توفيقه و عصمته، فإنه عبد ذليل لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا، و لا يستطيع خيرا و لا شرا و لذا

قال مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء و عليه آلاف التحية و الثناء: «أم كيف أترجم لك بمقالي و هو منك برز إليك» «1».

و

في دعاء أبي حمزة «2» عن السجاد عليه السّلام:

______________________________

أهل الماحوز (من قرى البحرين) كان من فقهاء عصره، و المحدثين البارعين و من الخطباء الشعراء، ولد سنة (1075) و توفي سنة (1121) ه، له تصانيف منها «الفرائد النجفية» و فيه الاعتراض.- أعيان الشيعة: ج 35/ 377.

(1) بحار الأنوار: ج 98/ 225، ح 3.

(2) هو ثابت بن دينار المعروف بابي حمزة الثمالي الكوفي،

نقل عن الإمام الرّضا عليه السّلام أنه كان يقول: «أبو حمزة لقمان زمانه».

توفي سنة (150) ه.- الأعلام: ج 2/ 81. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 56

«من أين لي الخير يا رب و لا يوجد إلا من عندك، و من أين لي النجاة و لا تستطاع إلا بك» «1».

و لا تتوهم أنه مجبور في أفعاله و أقواله، أو أنه مسلوب الإختيار في أفعاله و فيما يخطر بباله، بل التوفيق من اللّه و الفضل من عنده و الأمر كله له: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «2».

و ستسمع الكلام في فساد القول بكلا الطرفين، و إن الصحيح هو المنزلة بين المنزلتين.

و لكن ينبغي أن تستحضر في نفسك حال الاستعاذة أن اللّه قد وفقك و ألهمك، و قذف في قلبك إرادة التوجه إليه، و الالتجاء به من عدوه، و

أنت تعلم أن حصن اللّه حصين، و كهفه حريز متين و أن عدّوه مترصد لك حتى يختلسك و يختطفك بمكائده و مصائده، فاشكر اللّه تعالى على ما ألهمك من التحصن بحصنه قبل أن يكون منك طلب، و إن كان نفس هذا الطلب منك بتوفيقه، فيكون الشكر موجبا لمزيد النعمة و دفع النقمة و مستدرا للتوفيقات السيالة الباعثة على التشمر عن ساق الجد للدخول في باب اللجأ إليه و التوكل عليه، قبل أن يسبق إليك نزغات الشيطان، أو يحول بينك و بين الرحمن حجاب الغفلة و سواد العصيان.

قال بعض العارفين: إن الشيطان قاسم أباك و أمك أنه «لهما لمن الناصحين» «3» و قد رأيت ما فعل بهما، و أما أنت فقد أقسم على غوايتك كما حكى اللّه سبحانه عنه فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «4» فما ذا ترى يصنع بك، فشمّر عن ساق الخوف و الحذر منه و من كيده و خديعته.

______________________________

(1) البحار: ج 98/ 82، دعاء أبي حمزة الثمالي.

(2) النساء: 79.

(3) إشارة إلى آية 21 من سورة الأعراف و هي: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ

(4) سورة ص: 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 57

المستعاذ منه

الثاني: المستعاذ منه و هو الشيطان، و وزنه إما فيعال من الشطن و هو البعد، و منه بئر شطون أي بعيدة القعر، سمي لبعده عن اللّه، أو عن رحمته، أو عن صراطه السوي، أو عن الخير، و إن كان مرجع الجل أو الكل إلى واحد.

أو أنه علم شخصي أو اسم لكل عات متمّرد من جن أو إنس، و منه شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ «1».

أو فعلان من الشيط أي الاحتراق، و الهلاك، و البطلان، لاحتراقه بشهب السماء، أو بشهب قلوب المؤمنين، و هي

الأنوار المحرقة للنيران، أو بنفسه حنقا و غيظا، إذا راى متقربا يتقرب إلى ربه، و لأنه هالك في نفسه باطل في ذاته، مبطل في دعواه و لمصالحه و مصالح من يتبعه.

و كيف كان، فلا خلاف بين المسلمين، بل بين كافة المتشرعين، و لو بالشرايع السالفة في وجود الشياطين، بل عليه إجماع جميع الأنبياء و الأولياء، كما يكشف عنه اتفاق أممهم في جميع الأعصار و الأمصار، مضافا إلى تواتر أخبارهم بتمثله لهم، و الأمر بالتعوذ منه، و مكالمته مع غير واحد من الأنبياء و غير ذلك مما يتعلق بوجوده، بل ينبغي أن يعد التصديق بوجوده من ضروريات المذهب بل الدين المبين، فيكون منكره خارجا عن زمرة المسلمين.

هذا كله مع الغض عن الآيات القرآنية كآية الاستعاذة «2» و آيتي النزغ بل آياته «3»، كقوله:

______________________________

(1) الأنعام: 112.

(2) سورة النحل: 98.

(3) يوسف: 100، الإسراء: 53، الأعراف: 200، فصلت: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 58

أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي «1».

و قوله:

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ «2».

وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ «3» وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ «4».

وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «5».

وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «6».

إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً «7».

إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ «8».

وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ «9».

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة بل الأخبار المتواترة التي يقطع المتأمّل فيها بفساد قول من أنكرها رأسا، و أولها بالنفوس الشريرة الإنسانية كبعض الزنادقة من أتباع الفلاسفة المحجوبين عن كشف الملكوت «10»، كما يقطع المتأمّل في أدلتهم

______________________________

(1) يوسف: 100.

(2) سورة البقرة: 102.

(3) سورة ص: 37.

(4) سورة ص: 38.

(5) سورة الصافات: 7.

(6) سورة النساء: 120.

(7) سورة النساء: 76.

(8) سورة الأعراف: 30.

(9)

سورة البقرة: 168.

(10) قال الرازي: اختلف الناس قديما و حديثا في ثبوت الجن و نفيه، فالنقل الظاهر من أكثر الفلاسفة إنكاره، قال أبو علي سينا في «رسالته في حدود الأشياء»: الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة، ثم قال: و هذا شرح الاسم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 59

بفسادها إذا غاية ما استدلّوا به أنها لو كانت موجودة فإن كانت أجساما غليظة كثيفة لرآها كل سليم الحس، و تجويز عدم رؤيتها حينئذ سفسطة محضة، كتجويز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة و بحار غامرة لا نراها.

و إن كانت لطيفة لتلاشت و تمزقت بأدنى قوة فضلا من أن تقاوم المصادمات القوية، أو تقدر على الأعمال الشاقة التي ينسبها إليها مثبتوها.

و أن وجودهم مع ما نسب إليهم يرفع الوثوق بالمعجزات لجواز استناد كل من المعجزات إليهم، سيّما مع إيحائهم إلى أوليائهم، و انفتاح باب الكهانة.

و أن كثيرا ممن ادعى علم العزائم و مشاهدة الروحانيّين بعد أن تابوا كذّبوا أنفسهم فيما نسبوا إليهم.

و أن الآثار المنسوبة إلى الجن و الشيطان إذا تأمّلتها وجدتها راجعة إلى

______________________________

فقوله: هذا شرح الاسم يدل علي أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ، و ليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج، و أما جمهور أرباب الملل و المصدقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجن، و اعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة و أصحاب الروحانيات و يسمونها بالأرواح السفلية.- مفاتيح الغيب: ج 30/ 148.

و قال إمام الحرمين عبد الملك بن عبد اللّه الجويني المتوفى سنة (478) ه في كتابه «الشامل» في أصول الدين: إن كثيرا من الفلاسفة و جماهير القدرية و كافة الزنادقة أنكروا الشياطين و الجن رأسا، و لا يبعد لو أنكر ذلك من لا يتدبر

و لا يثبت بالشريفة، و إنما العجب من إنكار القدرية مع نصوص القرآن و تواتر الأخبار و استفاضة الآثار.

و قال أبو القاسم الأنصاري سليمان بن ناصر الفقيه الشافعي المتوفى سنة (512) ه في كتابه «شرح الإرشاد» في أصول الدين: قد أنكرهم معظم المعتزلة، و دل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم و ركاكة دياناتهم، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي و قد دلت نصوص الكتاب و السنة على إثباتهم، و حق على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما في العقل بجوازه و نص الشرع على ثبوته-. عن آكام المرجان في إثبات وجود الجان: ص 15، تأليف: بدر الدين محمد الشبلي الحنفي المتوفى (769) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 60

مجرّد الدعوى و الكذب، أو إلى تمثل المتخيل و توهمه موجودا في الخارج، لاستيلاء الوهم أو لقوّة النفس و ضعفها، أو إلى بعض النفوس الخيّرة أو الشريرة.

و أنهم لو خالطوا البشر لحصل بينهم بسبب طول المدة و كثرة المخالطة صداقة أو عداوة موجبة لبعض الآثار من المسار و المضار، و ليس فليس.

و أنّ الطريق إلى إثباتها إمّا الدليل العقلي و المعلوم انتفاؤه، أو الحسي و المشاهدة فكذلك.

و أمّا من يدّعي مشاهدتهم فإمّا من الكذّابين المقترحين أو من الممرورين و المجانين و غيرهم من المرضى و الضعفة الذي يتخيّلون أشياء لا حقيقة لها بسبب فساد أمزجتهم.

و أما إثباتها من طريق أخبار الأنبياء فلا يتمّ إذ قد عرفت أن في إثباتها إبطال النبوة «1».

فهذه وجوه ستة مشتركة في الضعف، إذ الجواب عن الأول أنها أجسام لطيفة مادية أو مثالية هورقلياوية «2» أو أرواح مجردة، و أمّا وجوب تلاشيها بأدنى قّوة فلا دليل عليه، و قياسها على بعض الأجسام المخصوصة قاصر

عن إثباته، و حسبك في ذلك ملاحظة كونها أجساما نارية مختارة متمردة، كما قال:

خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «3».

و قال: وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ «4».

______________________________

(1) مفاتيح الغيب: ج 1/ 76، مع اختلاف في الألفاظ.

(2) هورقليا (بضم الهاء و فتح القاف) مأخوذة من العبري و يقال اصطلاحا على العالم العلوي.

(3) سورة الأعراف: 12، و سورة ص: 76.

(4) سورة الحجر: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 61

و من البيّن أنّ النار الجامدة تفعل الأفاعيل العجيبة القوية السريعة مع أنها ألطف من الهواء بمراتب بل ألطف من جميع العناصر.

و أما ما يتوهم من استبعاد تعلق الحياة بالنار مع كونها مفرقة للمزاج غير قابلة لتعلقه بها فمما لا ينبغي الإصغاء إليه، بعد دلالة الآيات و الأخبار، و ملاحظة حصول الحياة من الحرارة الغريزية، بل ربما يقال: إنّ كرة النار مملوة من الروحانيات.

و عن الثاني: أنّ المعجزة تفارق السحر في سبقها بالدعوة و التحدي و الطلب، و لا يجري معه السحر لقضية اللطف، و في كونها بلا آلات و أدوات و مرور زمان يمكن فيه تلك الأعمال بخلاف السحر، فإنه لا يمكن إلا بعد استعمال تلك الأمور و مرور الزمان إلى غير ذلك من الفروق الواضحة عند أهله.

و لذا قال شيخنا البهائي رحمة اللّه عليه: إنّه لو كان خروج الماء من بين أصابع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع قبض يده و ضمّ أصابعه إلى كفّه كان يحتمل السحر و أما مع بسط الأصابع و تفريجها فلا يحتمل السحر، و ذلك واضح عند من له دربة في صناعة السحر.

و من الثالث بالمنع من ذلك و أين يقع تكذيب هؤلاء من تصديق الأنبياء

و الأوصياء و الأولياء بعد دلالة كتاب اللّه حسب ما سمعت.

و عن الرابع: أنّ صدور الكذب عن بعض و تمثل المتخيل عن آخر لعرض أو مرض لا يقدح في صدق نسبة الآثار الصادرة من الروحانيين إليها.

و لعمري أنّ هؤلاء الذي قصرت أبصارهم بالنظر إلى المحسوسات و أنكروا ما سوى المشاهدات، قد أقدموا على إنكار أكثر العالم، فإنّ المحسوس المشاهد منه و هو العناصر و ما تركب عنها أقل قليل من أجزاء العالم بل الهواء و النار من

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 62

جملة العناصر أيضا ليسا بمشاهدين.

و من الخامس: أن عدم التجانس، و عدم المزاحمة في الحوائج و اختلافها في كثير من الأمور، و احتجاب كل منهما عن ملاقاة الآخر و الانكشاف له كلما شاء، و غير ذلك من الأمور التي اقتضتها العناية الربانية، اقتضت سد أبواب الصداقة و العداوة بينهما إلا لبعض العوارض التي لا يقتضي المقام شرحها، نعم، من جملتها ما أوجب تسخيرها لسليمان على نبينا و آله و عليه السّلام، و صرف نفر من الجن إلى نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1»، و إسلام شيطانه على يديه «2»، و إيمان هام بن هيم «3»، و إيمان كثير

______________________________

(1) إشارة إلى الآية (29) من سورة الأحقاف و هي: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ

قال الفيض في «الصافي»: سبب نزول هذه الآية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج من مكة إلى سوق عكاظة و معه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد و لم يجد أحد يقبله، ثم رجع إلى

مكة فلما بلغ موضعا يقال له: وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: أنصتوا!- يعني أسكتوا- فلما قضي أي فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من القراءة و لوا إلى قومهم منذرين ... فجاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أسلموا و آمنوا و علمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شرايع الإسلام، فأنزل اللّه عزّ و جل على نبيه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ... فحكى اللّه عزّ و جل قولهم، و ولى عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم و كانوا يعودون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كل وقت فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعلمهم و يفقههم، فمنهم مؤمنون و كافرون و ناصبون و يهود و نصارى و مجوس.

و رواه أيضا في نور الثقلين: ج 5/ 18، ح 30 و ص 20، ص 32.

(2)

روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: ما منكم من أحد إلا و كل له قرينه من الجن، قالوا: و إياك يا رسول اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و إياي إلا أن اللّه أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير.- صحيح مسلم: ج 4/ 2162، ح 69.

(3) هام بن هيم: قصة لقائه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

مروية في البحار: ج 63/ 83، ح 39، و رواه ابن حجر

في «لسان الميزان»: ج 1/ 356، عن عمر، قال: بينا نحن قعود مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على جبل من جبال تهامة إذ أقبل شيخ و في يده عصا فسلم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرد عليه السّلام و قال: أنت من؟ قال: أنا هامة بن الهيم بن لا قيس بن إبليس، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ليس بينك و بين إبليس إلا تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 63

من الجن على يد أمير المؤمنين عليه السّلام «1»، و مكالمة الشيطان مع يحيى «2» و عيسى «3» و نوح «4» و غيرهم «5» من الأنبياء و الأولياء على محمد و آله و عليهم السّلام، بل مكاشفة كثير من الروحانية السفلية لبعض المؤمنين، و لأرباب التسخير و غيرهم حسب ما شاهدوها في رياضاتهم الشرعية و غيرها، على وجه لا ريب فيه و لا شك يعتريه.

و مما يظهر الجواب عن السادس أيضا، نعم ربما يظهر من بعض «6» أتباع الفلاسفة نفي الوسوسة المنسوبة إليه، نظرا إلى ما ثبت لديهم من أن المصدر القريب للأفاعيل الحيوانية هو هذه القوى المحركة المركوزة في العضلات، بعد انضمام الميل و الإرادة التي هي من لوازم حصول العلم بكون ذلك الشي ء لذيذا أو مكروها، و أن ذلك الشعور لا بد أن يكون بخلق اللّه ابتداء كما عن بعضهم، أو بواسطة مراتب كما عن آخرين، و حينئذ فالكلام في كل من تلك المراتب في استلزام ما بعده على

______________________________

أبوان؟ قال ك نعم، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكم أتى لك من الدهر؟ قال: قد أفنيت الدنيا عمرها خلا قليلا،

ليالي قتل قابيل هابيل كنت أنا غلام ابن أعوام، أفهم الكلام و أمر بالآكام، و آمر بإفساد الطعام و قطيعة الأرحام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بئس عمل الشيخ المتوسم أو الشاب المتلوم، قال: ذرني من التعذار فإني تائب إلى اللّه إني كنت مع نوح في مسجده مع من آمن به من قومه فلم أزل أعاتبه على قومه حتى بكى عليهم و أبكاني .... إلى أن قال: فعلمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سورة المرسلات، و عم يتساءلون، و إذا الشمس كورت، و المعوذتين و قل هو اللّه أحد ... إلخ.

(1) أنظر البحار: ج 18/ 86، ح 4، و ج 39/ 168، ح 9، و ج 63/ 90، ح 45 عن عيون المعجزات للشيخ حسين بن عبد الوهاب المعاصر للسيد المرتضى ص 43- 46.

(2) انظر البحار: ج 63/ 223، ح 70 عن مجالس ابن الشيخ: ج 1/ 348، ح 3.

(3) بحار: ج 63/ 239، ح 83 عن مجالس الصدوق ص 171، ح 1.

(4) البحار: ج 63/ 250، ح 111 و 112 و 113.

(5) أنظر مكالمة الشيطان مع موسى بن عمران عليه السّلام في البحار: ج 63/ 251.

(6) المراد به هو الفخر الرازي المتوفى (606) ه في «مفاتيح الغيب»: ج 1 في المقدمة السادسة من المسألة العاشرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 64

الوجه الذي قرر، فترتب كل من هذه المراتب على ما قبله حتم لازم لزوما ذاتيا واجبا، ألا ترى أنه ربما يقع صورة الشي ء في النفس ابتداء من غير إرادة و اختيار و صنع، و لا بواسطة الانتقال من المحسوس إليه، فإذا حصلت و عرف كونه مطلوبا

ملائما مال إليه، و تحركت القوى المحرّكة القريبة إلى الطلب فيحصل الفعل بعد هذه المراتب لا محالة، سواء حصل الشيطان أم لم يحصل، فلا يبقى فعل يستند إليه، بل هذه المراتب إن اتفق حصولهما في الطرف النافع فإلهام، أو الضار فوسوسة، و هو مجرد التسمية، و مبدء الفعل ما عرفت «1».

و ربما يجاب عنه بأنه حقّ و صدق و لكن قد يكون الإنسان غافلا فيذكره الشيطان، فيترتب عليه الميل ثم الفعل، فليس من الشيطان إلا ذلك التذكير، و هو المراد بقوله:

وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «2». «3» أقول: و كأن هذا القائل قد غفل أن تغافل عن المطاردة الواقعة بين الملائكة و الشياطين، فإنّ الإنسان و إن كان فاعلا مختارا في جميع شؤونه، إلا أنه إذا بدا له أمر من الخيرات أو الشرور، و كان متمكنا من اختيار كل منهما على الآخر بقصده و إرادته يقع التجاذب و المطاردة بين حزب اللّه و هم الملائكة الموكّلون على يمين القلب و هم جنود العقل و بين الشياطين و هم الموكّلون على يسار القلب و هم جنود الجهل.

و جملة الكلام في المقام مع الإشارة إلى أسباب الوسوسة و الإلهام أن الإنسان مجبول في بدو خلقته و أصل طبيعته على حب الكمال، و اقتناء الخيرات

______________________________

(1) مفاتيح الغيب: ج 1/ 86.

(2) مفاتيح الغيب: ج 1/ 87.

(3) سورة إبراهيم: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 65

و اجتناب الشرور، و هو صبغة اللّه التي لا أحسن منها و فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، و هو المراد

بالنبوي: «كل مولود يولد على فطرة الإسلام و أبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه» «1».

ثم إن الإنسان لما

كان مخلوقا من العوالم السبعة التي هي الفؤاد، و العقل، و النفس، و الطبيعة، و المزاج، و المثال، و الأجسام المادية، و كان فيه قبضة من كل هذه العوالم فإنه أنموذج ما في العالم الكبير، و إليه الإشارة بقول أمير المؤمنين عليه السّلام:

أ تزعم «2» أنك جرم صغيرو فيك انطوى العالم الأكبر

فله من كل هذه العوالم شوب و أثر و حكم، و من جملتها عالم النفس التي من جملة قواها الوهم و الخيال، و لما كان الإنسان في هذا العالم بعد كونه مخلوقا في أحسن تقويم، مردودا إلى أسفل السافلين، و هو هذا العالم الجسماني الظلماني الهيولاني العنصري، و من هذا العالم يأخذ في الصعود و التدرج إلى أعلى عليين و فيه يتأهل لمجاورة أولياء اللّه المقربين.

فأول ما يفاض عليه في النشأة الرحمة الصغروية و الكبروية هي النامية النباتيّة، ثم يفاض عليه القوّة البهيمية، فيعرف الأكل و الشرب و يلتذّ بهما و يشتاق

______________________________

(1)

البحار: ج 3/ 281، ح 32 عن عوالي اللئالي: ج 1/ 35، ح 18. و رواه السيد المرتضى في «أماليه» في الجزء الرابع مرسلا عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و رواه أبو يعلى في «مسنده» و الطبراني في «الكبير» و البيهقي في «السنن» عن الأسود بن سريع و اللفظ هكذا:

«كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه ... إلخ».

قاله السيوطي في «الجامع الصغير: ج 2/ 94، و رواه البخاري في «الصحيح»: ج 2/ 125، و ابن حنبل في «المسند»: ج 2/ 233 و 275 و 282 و 393 و 410 و 481 و ج 3/ 353.

(2) في نسخة من الديوان: أ تحسب

أنك ... إلخ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 66

إليهما، ثم يفاض عليه القوّة السبعية و الشهوية الفرجية، فلا يزال مشغوفا مشتغلا بتحصيل أسبابها، و قضاء و وطره منها، مستعملا لجميع القوى و الحواسّ الظاهرة و الباطنة في التنعم بها و تمهيد ما يؤدي إليها، و الاحتيال بدفع من يزاحمه فيها من بني نوعه أو غيره، فتصير جنود الجهل و الشيطان مستولية على مملكة البدن، مستعملة لجميع قواها و أدواتها في حظوظها العاجلة و مقاصدها الداثرة الفانية، ثم يدخل عند البلوغ أو قبله سلطان العقل مملكة البدن، على حين غفلة من أهلها، و يسعى في إصلاحها و تسخير أهلها و يؤيده اللّه تعالى بألوف من الملائكة مردفين و مسومين، و يستمد الجهل من الشيطان بألوف من الشياطين فلا يزال يزيّن له العقل طريق الخير و الهدى و الجهل سبيل الغي و الردى، و تذكرة العقل باليقين الشهودي، إذ قد عرفت أن اللّه تعالى خلق الإنسان على هيكل التوحيد، فإنه يحب الخير و يبغض الشر مع قطع النظر عن الدواعي الشهوانية و الأغراض النفسانية التي هي في الحقيقة أمراض كسبية و أسقام اعتمالية، و يذكره أيضا بالمواعيد الحقة الإلهية، و التخويفات السماوية، و بما هو محسوس مشاهد لكافة الأنام من فناء اللذات و بقاء الآثام، و لا يزال يؤيّد بملائكة اللّه الصافين و الحافين عن يمين قلبه بإذن ربه.

و أما الشيطان فلمجانسة النفس الأمارة بالسوء و للجهل و جنوده و أحزابه قد تقرب إليه و استشرف عليه من كوّة الجهل و أيد بجنوده جنود الجهل، فإن له سبعين جندا، كما أن للعقل أيضا سبعين جندا، فلا يزال يقرّب له الهوى، و يزيّن له حب الدنيا، و يأمره بالحوبة،

و يسوّف له التوبة، و يرجّح عنده الشهوات العاجلة الفانية على السعادات الآجلة الباقية كما قال اللّه سبحانه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ «1».

______________________________

(1) آل عمران: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 67

و المزيّن لها هو الشيطان.

و أما قوله:

إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «1».

فلا ينافيه إذ جعله زينة للأرض الفانية الظلمانية لا يستلزم جعله زينة للناس، سلّمنا لكن لا محذور في نسبة التزيين إليه أيضا، و لو لكونه خالقا لما يترتب على وجوده ابتلاء العباد و اختبارهم، و لذا علّله بقوله: لِنَبْلُوَهُمْ

و بالجملة فلا يزال التطارد و التدافع بين الحزبين و الجنود المتقابلة من الطرفين، كما

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام قال: «ما من قلب إلا و له أذنان، على إحداهما ملك مرشد و على الأخرى شيطان مفتّن، هذا يأمره، و هذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي و الملك يزجره عنها، و ذلك قوله اللّه: عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «2»» «3».

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مؤمن إلا و لقلبه في صدره أذنان: أذن ينفث فيها الملك، و أذن ينفث فيها الوسواس الخناس، فيؤيد اللّه المؤمن بالملك، و هو قول اللّه: وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها «4» وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «5»» «6».

و بعد هذا فأفراد الإنسان من حيث إطاعتهم للرحمن أو الشيطان على ثلاثة أصناف:

______________________________

(1) الكهف: 7.

(2) سورة ق: 17- 18.

(3) أصول الكافي: ج 2/ 226، ح

1، و البحار: ج 63/ 205، ح 34 و ج 68/ 274، ح 30.

(4) سورة التوبة: 40.

(5) سورة المجادلة: 22.

(6) البحار: ج 63/ 194 عن تفسير العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 68

الصنف الأول: «من سبقت لهم من اللّه الحسنى» «1» و تكشف لديهم عن معايبها الدنيا، فميزوا اليسرى من اليمنى، و هم المتقون «اللذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون» «2»، فإن التقوى لباس قد أنزله اللّه تعالى سترا للسوءة الإمكانية و العورة الهيولانية، كما قال سبحانه:

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ «3».

و هؤلاء المتقون باقون على فطرتهم الأصلية، و صورتهم الإنسانية، فلا يصدر منهم فعلا قولا و حالا و خيالا و فطرة إلا الخير المحض، فكل إناء بالّذي فيه ينضح:

وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ «4».

وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ «5».

و في الإنجيل: إن اللسان يتكلم بزوائد القلب فيستولي البياض و النور على وجه قلبه و يمنحي السواد و الظلمة بالكلية، و يصير قلب الإنسان مستوى الرحمن و هذا قوله:

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «6».

فإنه في الإنسان الذي هو العالم الصغير مثال للعرش العظيم في العالم الكبير، و لذا

ورد في الحديث القدسي:

______________________________

(1) اقتباس من آية (101) في سورة الأنبياء.

(2) اقتباس من آية (201) في سورة الأعراف.

(3) الأعراف: 26.

(4) سورة الأعراف: 58.

(5) النور: 26.

(6) طه: 5. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 69

«لن تسعني أرضي و لا سمائي و لكن يسعني قلب عبدي المؤمن» «1».

و لا تحوم الشياطين حول هذه القلوب النورانية الإلهية إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ «2» و هذه الشهب شهب نورانية مطفئة للنار، فإن النار لا تنطفي بالنار بل بالنور،

و لذا تقول جهنّم للمؤمن حين يمر عليها: جز عني سريعا فإن نورك أطفأ ناري «3».

الصنف الثاني: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ «4» و هم اللذين اختاروا دواعي الشر على دواعي الخير، و نصروا جنود الشيطان حتى فارقتهم ملائكة الرحمن، و لم يزالوا كذلك حتى فارقهم نور الإيمان بالكلية، و استولت الظلمة و القسوة و الجفوة و السواد على قلوبهم حتى انمحى النور و البياض بالكلية، و انسدّت مشاعر عقولهم فهم فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «5» صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ «6» و لا يسمعون و لا يفقهون و لا يعقلون، كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «7» كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «8»، فتغيرت خلقتهم و تبدلّت طبيعتهم و مسخت حقيقتهم، فهم بين بهيمية و سبعية و شيطانية، فهو متجاذب بين خنزير و كلب

______________________________

(1)

البحار: ج 58/ 39، و فيه: في الحديث القدسي: «لم يسعني سمائي و لا أرضي و وسعني قلب عبدي المؤمن».

(2) سورة الحجر: 18.

(3)

البحار: ج 8/ 249 و فيه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يقل النار للمؤمنين يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي».

في ج 92/ 258، ح 52 عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا مر المؤمن على الصراط طفئت لهب النيران و يقول: جز يا مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي».

(4) سورة الحشر: 19.

(5) البقرة: 15. الأنعام: 110. الأعراف: 186. يونس: 11. المؤمنون: 75.

(6) سورة البقرة: 18.

(7) المطففين: 14.

(8) المطففين: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 70

و شيطان، فيأمره الأول بأفعال البهائم من عبودية البطن و الفرج و الحرص على الأكل و الجماع، و الثاني بأفعال السباع من

الغضب و البغضاء و التوثب على الناس بأنواع الأذى، و الثالث: باستنباط الحيلة و المكر و الخديعة و التوصل إلى الأغراض الشهوانية و العصبية و الشيطنة بأنواع الحيل و الخدع و إنما المطيع لهذه الثلاثة المتبع لشهواتها كالواقف بين أيديها في خدمتها، يأمره الكلب مرة، و الخنزير أخرى، و هو مشمّر عن ساق الجد للخدمة و الإطاعة و امتثال الأمر و النهي، لا يبغي عن خدمتها حولا و لعمري إنه بئس للظالمين بدلا.

الصنف الثالث: أرباب النفوس اللواّمة، و هم الذين يقدمون على الطاعة مرة و على المعصية أخرى مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ... «1» غير مستقرّين على شي ء مما هنالك، و هؤلاء فطرتهم الأصلية بعد باقية، و لذا يلومون أنفسهم باقتراف السيئات و يستبشرون باقتناص الفضائل و الطاعات، و المطاردة بين جنود العقل و الجهل باقية دائمة في أراضي صدورهم، و كيفية هذه المطاردة في معركة القلب المعنوي للإنسان على ما ذكره بعض أهل العلم، أن خاطر الهوى مثلا يبتدأ أولا فيدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير، فتنبعث النفس بشهواتها إلى نصرة خاطر الشر فيقوي الشهوة، و يحسّن التمتع و التنعم، فيبعث العقل إلى خاطر العقل، و يدفع في وجه الشهوة و يقبّح فعلها و ينسبها إلى الجهل، و يشبّهها بالبهيمية و السبع في تهجمها على الشر و قلة اكتراثها بالعواقب، و يميل النفس إلى نصح العقل، فيحمل الشيطان حملة على العقل و يقوّي داعي الهوى، فيقول: ما هذا الزهد البارد؟ و لم تمنع عن هواك فتؤذي نفسك، و هل ترى أحدا من أهل عصرك يخالف هواه أو ترك عزيمته أ فتترك ملاذ الدنيا لهم يستمتعون منها و تحجر على

______________________________

(1) النساء: 143.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 3، ص: 71

نفسك حتى تبقى محروما مطعونا يضحك عليك أهل الزمان، تريد أن يزيد منصبك على فلان و فلان و قد فعلوا مثل ما اشتهيت و لم يمتنعوا، ما نرى العالم الفلاني ليس يحترز عن مثل ذلك الفعل، و لو كان شرا لامتنع منه، مع أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ «1»، غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» قد فتح لعباده باب التوبة و الإنابة، و وعد على نفسه الرحمة و العفو و المغفرة، و

ورد: إن اللّه يحب المفتن التواب

، فارتكب هذه المعصية، ثم تب إلى اللّه في يومك أو في آخر يوم من أيام عمرك ليجتمع لك التلذذ باللذات العاجلة الدنيوية و التنعم بالنعم الباقية الأخروية، فحينئذ تميل النفس إلى الشيطان و تقلب إليه، فيحمل الملك حملة على الشيطان، و يقول: هل هلك إلا من اتبع لذة الحال و نسي العاقبة، أ فتقنع بلذة يسيرة و تترك الجنة و نعيمها أبد الآباد، أو تستثقل ألم الصبر عن شهوة و لا تستثقل ألم النار، أ نغتر بغفلة الناس عن أنفسهم و اتباعهم هواهم و مساعدتهم للشيطان مع أن عذاب النار لا يخفف بمعصية غيرك، أ تسوف التوبة، و تقع في الحوبة و لعل الأجل يدركك في حال المعصية، أو في النوم، أو في شي ء من آناء الليل و النهار، و أنت غافل عن التوبة مشتغل القلب بالوحشة و الدهشة، ألم تسمع اللّه تعالى يقول:

وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «3».

ألم تر أن فرعون لما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا

إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ «4».

______________________________

(1) النور: 10.

(2) البقرة: 173، 182، 193، 199، 218، 225.

(3) سورة النساء: 18.

(4) سورة يونس: 90.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 72

فضرب جبرئيل على فمه بالوحل و قيل له: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ «1». ألم تسمع اللّه يقول: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «2».

أ تدفع السيئة العاجلة بالتوبة الآجلة؟ ألم تر أن كثيرا ممن تقحم الشهوات و اجترح السيئات قد تبدلت فطرتهم و تغيرت خلقتهم، كما أشير إليه بقوله:

فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ «3» فلم يلتفتوا بعد ذلك إلى التوبة، و لم يخطر ببالهم قبح الخطيئة، فلما صرف اللّه قلوبهم و عميت أبصارهم فلم يبصروا عيوبهم، فهل كان ذلك التغير إلا من ملازمة الشهوات، و هل تأمن أن تكون مثلهم بعد تكرر الفعل الموجب لحصول الملكة، و عند ذلك يميل القلب إلى قول الملك، فلا يزال يردّد بين الجندين متجاذبا إلى أن يغلب على القلب ما هو أولى به، فإن كانت الصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية غلب الشيطان، و مال القلب إلى حزب من أحزابه معرضا عن حزب اللّه و أولياءه، فيكله اللّه تعالى إلى نفسه في حال المعصية، و يفارقه روح الإيمان، كما

ورد «و لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن» «4».

أو مطلقا. نعوذ باللّه من ذلك، فيعود إلى الصنف الثاني و يفارقه العقل الذي به يطاع الرحمن و يكتسب الجنان أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ «5».

______________________________

(1) سورة يونس: 91.

(2) سورة غافر: 85.

(3) النساء: 119.

(4) عوالي

اللئالي: ج 1/ 40، ح 42 و ص 167، ح 184 و رواه النوري في «مستدرك الوسائل» كتاب الحدود و التعزيرات، الباب (1) من أبواب حد السرقة.

(5) سورة النحل: 108- 109.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 73

و إن كان الغالب على القلب الصفات الملكية لم يثق القلب إلى إغواء الشيطان و تحريضه إياه على العاجلة و تهوينه أمر الآجلة، بل يميل إلى حزب اللّه و تظهر الطاعة على جوارحه بموجب ما سبق من القضاء، و

«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» «1».

أي متجاذب بين هذين الحزبين أو يقلبه اللّه حسب إرادته كما يشاء، فهو كالميت بين يدي الغسال.

ثم إن بعض القلوب عاكفة في مقام الترديد بالنسبة إلى جميع الشهوات و بعضها بالقياس إلى بعض الشهوات دون بعض، كالذي يتورع عن بعض الأشياء و لكن إذا تمكن من مال حرام لا يملك نفسه فيه، أو فيما فيه الكبر و الرئاسة و الجاه إلى غير ذلك، فإن للجهل جنودا بعدّة جنود العقل و هي سبعون على ما

رواه في أول الكافي عن سماعة بن مهران قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام و عنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل و الجهل، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «اعرفوا العقل و جنده و الجهل و جنده تهتدوا»، قال سماعة: فقلت: جعلت فداك! لا نعرف إلا ما عرّفتنا، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن اللّه جل ثناؤه خلق العقل و هو أول خلق خلقه من الروحانيين عن يمين العرض من نوره فقال: أقبل! فأقبل، ثم قال له: أدبر! فأدبر، فقال اللّه تبارك و تعالى: خلقتك خلقا عظيما و كرّمتك على جميع خلقي، قال: ثم خلق الجهل من البحر

الأجاج الظلماني، فقال له: أدبر! فأدبر، ثم قال له: أقبل! فلم يقبل، ثم قال

______________________________

(1)

عوالي اللئالي ك ج 1/ 48، ح 69، و سنن الترمذي كتاب الدعوات ن الباب (90) ح 3522 و لفظه: قال صلى اللّه عليه و [آله و سلم: «يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا و قلبه بين أصبعين من أصابع اللّه».

اختلفوا فيما هو المراد من الحديث، قال بعض: هو مثل قوله تعالى: وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ فكما لا يصح أن يقال: اليمين في الآية بمعنى الجارحة، كذلك لا يصح أن يقال:

الأصبع في الحديث مثل أصابعنا، بل نؤمن بذلك كله، و لا نحمله على الحقائق المعلومة عندنا بل يجب حمله على معان أخرى. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 74

له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة و سبعين جندا، فلما راى الجهل ما أكرم اللّه به العقل و ما أعطاه أضمر له العداوة، فقال الجهل: يا رب! هذا خلق مثلي خلقته و كرّمته و قوّيته و أنا ضده و لا قوة لي به، فأعطني من الجند ما أعطيته، فقال: نعم، فإن عصيتني بعد ذلك أخرجتك و جندك من رحمتي، قال: قد رضيت، فأعطاه خمسة و سبعين جندا «1».

أقول: و هذا الخبر لاشتماله على علوم عزيزة المنال بعيدة عن عقول الرجال لا يناسب شرحه في هذا المقال، و إنما المراد الإشارة إلى كثرة جنود الجهل و أن عالمي الروحانيين متطابقان متساوقان و أنّ بإزاء كل حقّ باطلا و في الخروج عن كل استقامة انحرافا بل انحرافات غير متناهية، و لذا

قال هرمس «2» الهرامسة في دعائه: «اللهم أنقذني من بدن الطبيعة إليك على خط مستقيم، فإن المعوج لا نهاية له».

بناء على أحد الوجهين في

مفادة، و إلى الإشارة بقوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «3».

فانظر كيف جمع السبل و وحّد الصراط و السبيل و لذا خطّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند نزوله خطا مستقيما على الأرض و خطوطا عن أطرافه «4».

و بالجملة جنود الشيطان متكثرة منتشرة في العالم متشمرة لإضلال بني آدم،

______________________________

(1) الكافي: ج 1/ 20، ح 14.

(2) المراد به إدريس النبي على نبينا و آله و عليه السّلام، قيل له باليونانية: أرميس و عرب بهرمس.

(3) سورة الأنعام: 153.

(4)

أخرج الحاكم في «المستدرك»: ج 2/ 318: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه خط خطا ثم خط عن يمينه و عن شماله خطوطا، ثم قال: هذا سبيل اللّه، و هذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه و أن هذا صراطي مستقيما ... إلخ. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 75

فإن اللّه تعالى جعل له بإزاء كل شي ء شيئا.

ففي النبوي: «إنّ إبليس قال لربه: يا رب! قد أهبط آدم و قد علمت أنه سيكون كتب و رسل، فما كتبهم و رسلهم، قال: رسلهم الملائكة و النبيون و كتبهم التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، قال: فما كتابي؟ قال: كتابك الوشم، و قراءتك الشعر، و رسلك الكهنة، و طعامك ما لم يذكر اسم اللّه عليه، و شرابك كل مسكر، و صدقك الكذب، و بيتك الحمام، و مصائدك النساء، مؤذنك المزمار، و مسجدك الأسواق «1».

فكل ما يصدك عن سبيل الخير أو يأمرك و يقرب لك و يوقعك في نهج الضر و الضير، فهو من أعوان الشيطان و جنوده و أحزابه و هو المشار إليه

بقوله:

وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «2».

و قوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «3».

و

في «الكافي» عن الباقر عليه السّلام: «إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، و إن أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه و انتفخت أوداجه، و دخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم من نفسه فليلزم الأرض فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عن ذلك» «4».

و

في «المتهجد» في العوذة التي كتبها أبو الحسن الثاني لابنه عليهما السّلام:

______________________________

(1) البحار: ج 63/ 281، ح 173.

(2) سورة الإسراء: 64.

(3) سورة الأنعام: 12.

(4) الكافي: ج 2/ 304، و عنه البحار: 63/ 265، ح 149. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 76

«أمتنع من شياطين الإنس و الجن، و من رجلهم و خيلهم ركضهم و عطفهم، و رجعتهم، و كيدهم، و شرهم و من شر الدناهش «1» و الحس و اللمس و اللبس «2» و من عين الجن و الإنس، و من شر كل صورة و خيال، أو بياض أو سواد أو مثال، أو معاهدا و غير معاهد، ممن يسكن الهواء و السحاب و الظلمات و النور، و الظل و الحرور، و البر و البحور، و السهل و الوعور، و الخراب و العمران، و الآكام و الآجام، و المغائض «3» و الكنايس و النواويس «4» و الفلوات و الجبانات ... الدعاء «5».

عن الصادق عليه السّلام: «إن لإبليس عونا يقال له «تمريح» إذا جاء الليل ملأ ما بين الخافقين» «6».

و

روي أن اللّه تعالى قال لإبليس: «لا أخلق لآدم

ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس أحد من ولد آدم إلا و له شيطان قد قرن به» «7».

و قيل: إن الشيطان فيهم الذكور و الإناث يتوالدون من ذلك، و أمّا إبليس فإن اللّه خلق له في فخذه اليمنى ذكرا و اليسرى فرجا فهو ينكح هذه بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات «8».

______________________________

(1) قال الكفعمي: الدناهش: جنس من أجناس الجن.

(2) الموجود في المصدر: (اللمس) فقط، و جعل اللبس في هامش الكتاب بدلا منه.

(3) المغايض جمع المغيضة و هي الأجمة أي منبت الشجر و القصب.

(4) النواويس: مقابر النصارى.

(5) مصباح المتهجد: 340، و عنه البحار: ج 63/ 266، ح 151.

(6) روضة الكافي: 234 و عنه البحار: ج 63/ 263، ح 145.

(7) البحار: ج 63/ 306.

(8) البحار: ج 63/ 306.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 77

و عن مجاهد أن من ذرية إبليس «لا قيس»، و «ولها» «1»، و هو صاحب الطهارة و الصلاة، و «الهفات»، و هو صاحب الصحاري، و «مرة» و به يكنى أبا مرة، و «زلنبور» و هو صاحب الأسواق يزين اللغو و الحلف الكاذب و مدح السلعة، و «تبرو» و هو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه و لطم الخدود و شق الجيوب، و «الأبيض» و هو الذي يوسوس للأنبياء، و «الأعور» و هو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل و عجز المرأة، و «داسم» و هو الذي إذا دخل الرجل بيته و لم يسلم و لم يذكر اسم اللّه تعالى دخل معه و وسوس له و ألقى الشر بينه و بين أهله، فإن أكل و لم يذكر اسم اللّه تعالى أكل معه، فإذا دخل الرجل بيته و لم يسلم و لم يذكر اللّه و رأى شيئا

يكره فليقل: «داسم داسم أعوذ باللّه منه، و «مطرش» «2» و هو صاحب الأخبار يأتي بها فليلقها في أفواه الناس و لا يكون لها أصل و لا حقيقة، و «الأقبض» و أمهم طرطبة «3».

و

في تفسير الإمام عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تعوذوا باللّه من الشيطان الرجيم، فإن من تعوذ باللّه أعاذه اللّه، و تعوذوا من همزاته و نفخاته و نفثاته، أ تدرون ما هي؟

أما همزاته: فما يلقيه في قلوبكم من بغضنا أهل البيت، قالوا: يا رسول اللّه! و كيف نبغضكم بعد ما عرفنا محلكم من اللّه و منزلتكم، قال: بأن تبغضوا أوليائنا و تحبوا أعدائنا «4».

و أما نفخاته: فهي ما ينفخون به عند الغضب في الإنسان يحملونه على

______________________________

(1) في المصدر: و لهان.

(2) في المصدر: و مطوس.

(3) البحار: ج 63/ 307.

(4) تفسير الإمام عليه السّلام: ص 584، ح 347، و عنه البحار: ج 27/ 6، ح 20. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 78

هلاكه في دينه و دنياه، و قد ينفخون في غير حال الغضب بما يهلكون به.

أ تدرون ما أشد ما ينفخون به؟ هو ما ينفخون بأن يوهموه أن أحدا من هذه الأمة فاضل علينا، أو عدل لنا أهل البيت «1».

و أما نفثاته: فإن يرى أحدكم أن شيئا بعد القرآن أشفى له من ذكرنا أهل البيت و من الصلاة علينا، و أن اللّه عزّ و جل جعل ذكرنا أهل البيت شفاء للصدور، و جعل الصلوات علينا ماحية للأوزار و الذنوب، و مطهرة من العيوب و مضاعفة للحسنات» «2».

تبصرة عرفانية

قد تبين لك من تضاعيف ما تلونا عليك و ألقينا إليك أن الشيطان شيطان لفعله و صورته و إغوائه و صدّه

عن سبيل اللّه، فكل ما يصرفك عن المنهج القويم و يصدك عن الصراط المستقيم فإنما هو شيطانك، و إن كان في أصله و حقيقته رحمة لك و نعمة عليك.

ألا ترى أن كلا من أدواتك و جوارحك و مشاعرك الظاهرة و الباطنة إذا كانت سليمة فهي نعمة ليس لها قيمة، و أنت تقدر بقدرتك و إرادتك بعد الاستمداد من فضل اللّه و رحمته أن تكتسب بها الجنان و تطفئ بها النيران، و أن تصل بها إلى مجاورة أولياء الرحمن، فلا تنبت حينئذ في أرض نفسك الطيبة إلا الخطرات الإيمانية و اللمعات النورانية و النفخات الربانية، فيترشح على الأعضاء و الجوارح

______________________________

(1)

في المصدر: أو عدل لنا أهل البيت، كلا- و اللّه- بل جعل اللّه تعالى محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم آل محمد عليهم السّلام فوق جميع هذه الأمة، كما جعل اللّه تعالى السماء فوق الأرض، و كما زاد نور الشمس و القمر على السهى.

(2) تفسير الإمام عليه السّلام: ص 585، ح 348.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 79

من طفاحة «1» الأنوار القلبية و الفيوض الرحمانية.

و إليه الإشارة

بقوله في الدعاء الذي يقرء ليلة الجمعة: «اللهم اجعل لي نورا في قلبي، و نورا في قبري، و نورا بين يدي، و نورا تحتي، و نورا فوقي، و نورا في سمعي، و نورا في بصري، و نورا في شعري، و نورا في بشري، و نورا في لحمي، و نورا في دمي، و نورا في عظامي» «2».

و أما إذا أمرت على مملكة البدن النفس الأمارة التي هي سفير الشيطان و وزيره فيبتدأ بتسخير الآلات و الأدوات و الأعضاء و المشاعر ثم يسعى في هدم الأرض الأقدس و البيت المقدس

و هو بيت الإيمان و العرش الذي هو مستوى الرحمن، و إليه الإشارة بقوله:

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً «3». و الأمر أمر تكويني.

و

في قراءة أمير المؤمنين عليه السّلام «4» [أمّرنا]

بالتشديد أي جعلناهم أمراء، فلما سخرت النفس قرية البدن و استخدمت قواها و استعملت مشاعرها و وطأتها سنابك الشيطان و فارقتها ملائكة الرحمن و سائر الأعوان يبقى العقل وحيدا فريدا ضيق الصدر، مجهول القدر، منبوذ الأمر، فينادى ربه بلسان الخشوع و الاستكانة:

______________________________

(1) الطفاحة- بضم الطاء- ما طفح فوق الإناء كزبد القدر إذا غلا.

(2) جمال الأسبوع: ص 133، و مصباح المتهجد: ص 187، و عنه البحار: ج 89/ 293، ح 5.

(3) سورة الإسراء: 16.

(4) سهى المؤلف قدس سره في نسبة هذه القراءة إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فإن القراءة المنسوبة إليه هي بمد الهمزة، كما قال الطبرسي في «مجمع البيان»: ج 6/ 405، في ذيل الآية، هذه عبارته: القراءة العامة [أمرنا] بالتخفيف غير ممدود، و قرأ يعقوب [أمرنا] بالمد، و هو قراءة علي بن أبي طالب عليه السّلام و الحسن، و أبي العالية، و قتادة، و جماعة، و قرأ [أمّرنا] بتشديد الميم ابن عثمان، و أبو عثمان النهدي، و أبو جعفر محمد بن علي بخلاف، و قرأ [أمرنا] بكسر الميم الحسن، و يحيى بن يعمر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 80

رَبَّنا! أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً «1».

و هو قوله: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «2».

فلما فارقه العقل يصير القلب مقلوبا منكوسا ينسدّ بابه إلى الملكوت و العليين،

و ينفتح منه باب إلى سجّين، فينطبع فيه صور الباطل، و لا يخطر بباله شي ء من الحق، فإن القلب لادراك الحقائق و المعقولات و انطباعها فيه كالمرآة للمحسوسات، فإذا كان صافيا نقيا من كدورة الشهوات و ظلمة الخطيئات حاذى بوجهه جانب الملكوت، فينطبع فيه صور الحقائق المركوزة في الألواح السماوية و الخزائن الغيبية، و أما إذا انسدّ بابه الأعلى إلى عليين و انفتح له باب أسفل إلى سجين انطبع فيه صور الأباطيل و الانحرافات و العكوس الظلمانية و الخيالات الشهوانية، فلا ينطبع في مرآة قلبه إلا المكر و الخديعة و طلب الشهوات و غيرها مما هو من نسخ الظلمات، فإن القلب سريع التقلب و التحول، و لذا قيل:

قد سمّي القلب قلبا من تقلّبه فاحذر على القلب من قلب و تحويل

و إليه الإشارة بقوله: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «3».

و مبادي هذه الأحوال إختيار الشرور و المعاصي عند الترديد، ثم المعاشرة مع الفسّاق و الظلمة و أعوان الشياطين، ثم التولّي و التودد لشياطين الإنس و الجن كما قال: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «4».

______________________________

(1) سورة النساء: 75.

(2) سورة الذاريات: 35- 36.

(3) سورة الأنعام: 110.

(4) سورة الأعراف: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 81

و أما قوله: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ «1».

فالجعل تكويني بعد الاختيار إذ لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «2»، أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «3»، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «4»، نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ «5».

فإذا استحكم عقد الولاء بينهم تنزلوا في الدركات إلى مقام الإيحاء:

وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ «6»، وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ

الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «7».

فيدخلون في حزب الشيطان و يسلب عنهم اسم الإنسان، إذ الإنسان بقلبه لا بقالبه، و الشيطان شيطان بمكره و خديعته و تمرده و عصيانه لا بصورته، هؤلاء هم الذين: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ «8».

المبحث الثالث: في المستعاذ به، و هو اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم لكل شي ء علما و صنعا و تربية، و لذا علق الاستعاذة باسم الذات المستجمع للصفات الكمالية في الآيات الثلاثة المتقدمة، و في قوله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ «9».

______________________________

(1) سورة الأعراف: 27.

(2) سورة البقرة: 256.

(3) سورة يونس: 99.

(4) سورة الصف: 5.

(5) سورة الحشر: 19.

(6) سورة الأنعام: 121.

(7) سورة الأنعام: 113.

(8) سورة المجادلة: 19.

(9) سورة الذاريات: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 82

إذ بيده ملكوت السموات و الأرض و هو يجير و لا يجار عليه، فلا ملجأ و لا منجى و لا مهرب و لا مناص و لا مفرّ عنه و من غيره إلّا إليه، لكنّ اللّه تعالى جعل لنفسه أبوابا و سبلا و وسائل و شفعاء، و جعلهم أحسن أسمائه و مظاهر نعوته و صفاته، و أمرنا بأن نأتي البيوت من أبوابها، و أن نتوصل إلى الغايات بأسبابها فجعل محمدا و آل محمد صلى اللّه عليهم أجمعين أبوابه و أسبابه.

ففي الزيارة الجامعة: «من أراد اللّه بدأ بكم، و من وحّده قبل عنكم، و من قصده توجه إليكم» «1».

و

فيها: «مستجير بكم، زائر لكم، لائذ بقبوركم، مستشفع إلى اللّه عزّ و جل بكم، متقرب بكم إليه، و مقدمكم أمام طلبتي و حوائجي و إرادتي في كل أحوالي و أموري» «2».

و

عن الصادق

عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا علي! و الذي بعثني بالنبوة و اصطفاني على جميع البرية، لو أن عبدا عبد اللّه ألف عام ما قبل اللّه ذلك منه إلا بولايتك و ولاية الأئمة من ولدك، أخبرني بذلك جبرئيل، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر» «3».

و

في تفسير الإمام عليه الصلاة و السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا فاذكروا يا أمة محمد محمدا و آله عند نوائبكم و شدائدكم لينصر اللّه بهم ملائكتكم على الشياطين الذي يقصدونكم، فإن كل واحد منكم معه ملك عن يمينه يكتب حسناته، و ملك عن يساره يكتب سيئاته، و معه شيطانان من عند إبليس يغويانه، فإذا وسوسا في قلبه ذكر اللّه تعالى و قال: لا حول

______________________________

(1)

البحار: ج 102/ 131، ح 4 و فيه: «و من قصده توجه بكم».

(2) البحار ج 102/ 131، ح 4، و هذه الجملات متقدمة على الفقرات المذكورة من قبل.

(3) البحار: ج 27/ 63، ح 22، و ص 199، ح 66 عن كنز الكراجكي ص 185. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 83

و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم، و صلى اللّه على محمد و آله، حبس الشيطانان ثم صارا «1» إلى إبليس فشكواه و قالا: قد أعيانا أمره فأمددنا بالمرة، فلا يزال يمدهما حتى يمدهما بألف مارد فيأتونه فكلما راموه ذكر اللّه و صلّى على محمد و آله الطيبين لم يجدوا إليه طريقا و لا منفذا، قالوا لإبليس: ليس له غيرك تباشره بجنودك فتغلبه و تغويه، فيقصده إبليس بجنوده ألا فقاتلوه، فيقاتلهم بإزاء كل شيطان رجيم منهم مائة ألف ملك و هم على

أفراس من نار، بأيديهم سيوف من نار و رماح من نار و قسي و نشاشيب و سكاكين من نار، فلا يزالون يخرجونهم و يقتلونهم بها و يأسرون إبليس فيضعون عليه تلك الأسلحة، فيقول: يا رب! وعدك وعدك قد أجلّتني إلى يوم الوقت المعلوم، فيقول اللّه تعالى لملائكة: وعدته ألا أميته، و لم أعده أن لا أسلّط عليه السلاح و العذاب، اشتفوا منه ضربا بأسلحتكم فإني لا أميته فيثخنونه بالجراحات، ثم يدعونه، فلا يزال سخين العين على نفسه و أولاده المقتولين المقتلين، و لا يندمل شي ء من جراحاته إلا بسماعه أصوات المشركين بكفرهم، فإن بقي هذا المؤمن على طاعة اللّه و ذكره و الصلاة على محمد و آله، بقي إبليس على تلك الجراحات، و إن زال العبد عن ذلك و انهمك في مخالفة اللّه عزّ و جل و معاصيه، اندملت جراحات إبليس، ثم قوي على ذلك العبد حتى يلجمه فيسرج على ظهره و يركبه، ثم ينزل عنه، و يركب ظهره شيطانا من شياطينه، و يقول لأصحابه: أما تذكرون ما أصابنا من شأن هذا من الذل و انقاد لنا الآن حتى صار هذا، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فإن أردتم أن تديموا على إبليس سخنة عينيه و ألم جراحاته، فداوموا على طاعة اللّه و ذكره و الصلاة على محمد و آله، و إن زلتم عن ذلك كنتم أسراء فيركب أقفيتكم بعض مردته» «2».

______________________________

(1) في البحار: سارا.

(2) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام ط الجديد: 398، ح 270، و عنه البحار:

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 84

فيستفاد من الأخبار المتقدمة و غيرها أن التوسل و الاستشفاع بهم موجب للنجاة و أنه لا

يمكن الوصول إلى اللّه تعالى إلا بولايتهم و محبتهم.

و لذا

ورد في الدعاء المهدوية الرجبية على منشئه ألف صلاة و سلام و تحية: «أعضاد و أشهاد و حفظة و روّاد» «1».

و

في الزيارة الجامعة انهم الذادة الحماة «2».

و الذادة جمع الذائد من الذود و هو الدفع و الحماة جمع الحامي و هو الحافظ، فإنهم عليهم السّلام يحفظون شيعتهم و يدفعون عنهم في الدنيا و الآخرة أعدائهم من الجن و الإنس و الشياطين و حزبهم الظالمين، فإن من توسل بهم يجعلونه في حفظهم و عنايتهم و صيانتهم و حرزهم و كهفهم.

و

في عوذة يوم الخميس: «أعيذ نفسي بقدرة اللّه، و عزة اللّه، و عظمة اللّه، و سلطان اللّه، و جلال اللّه، و كمال اللّه، و بجمع اللّه، و برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ولاة أمر اللّه من شر ما أخاف و أحذر» «3».

و المراد بقوله: «قدرة اللّه» مع روافدها إنما هو إذ مقدور مع ما يتبعه، إذ لا تعدد في بحت الذات لا حقيقة و لا مفهوما و لا خارجا و لا اعتبارا، و لذا

قال أمير المؤمنين روحي له الفداء و عليه آلاف التحية و الثناء: «كمال التوحيد نفي الصفات عنه» «4».

فلا يحمل على إذ لا مقدور، و ذواتهم نفس الفعل، لأنها المشيّة الكلّية

______________________________

ج 63/ 271- 272.

(1) بحار الأنوار: ج 98/ 393، ح 1.

(2) البحار: ج 102/ 128، ح 4.

(3) البحار: ج 90/ 215، ح 40.

(4) نهج البلاغة: الخطبة الأولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 85

و القدرة الإلهية و العزة الربانية و العظمة الصمدانية، كما

قالوا: «نحن أسماء اللّه الحسنى، و أمثاله العليا» «1».

أو أنهم مظاهر الصفات الفعلية و الشؤون الربانية، و الترديد هو إنما هو باعتبار

اختلاف مراتبهم.

و أيضا

قد ورد: أنهم الأعراف الذي لا يعرف اللّه إلا بسبيل ولايتهم و انهم وجه اللّه الذي يؤتى منه.

ففي «البصائر» عن الصادق عليه السّلام في قوله كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2» قال: «دينه و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليهما السّلام دين اللّه و وجهه و عينه في عباده و لسانه الذي ينطق به و نحن وجه اللّه الذي يؤتى منه» «3».

و

في زيارة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «السّلام على اسم اللّه الرضي و وجهه المضي ء و جنبه العلي ... إلى قوله: و أشهد أنك جنب اللّه و وجهه الذي يؤتى منه و أنك سبيل اللّه ....» «4».

و أيضا قد قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ «5».

و الذكر هو النبي كما قال: ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ «6».

أو الوصي، و هو المراد بالسبيل أيضا، و الترديد باعتبار الجهات و الحيثيات و المراتب و إلا فما أمرنا إلا واحدة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 25/ 5، ح 7.

(2) سورة القصص: 88.

(3) أورده الصدوق «التوحيد»: 151، ح 7 و عنه البحار: ج 24/ 197، ح 23.

(4) البحار: ج 100/ 306.

(5) سورة الزخرف: 36- 37.

(6) سورة الطلاق: 10- 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 86 عباراتنا شتّى و حسنك واحدو كلّ الى ذاك الجمال يشير

و من هنا يتّضح وجه ما في الأدعية المعصوميّة تعليما لنا و عبودية للّه سبحانه من الاستعاذة بكلمات اللّه التي هي أسماؤهم الشريفة و حقائقهم الكلية الإلهية كما ورد في تفسير قوله:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «1»،

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ «2»، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «3»، و غير ذلك.

بل بغيرها مما هو بمعناها،

ففي «المتهجد» في الدعاء الخاص عقيب الثامنة من صلاة الليل: «أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات و أصلحت عليه أمر الأولين و الآخرين» «4».

و

في عوذة يوم الخميس: «أعيذ نفسي بقدرة اللّه و عزة اللّه ...» «5»

إلى آخر ما مر.

و مثله ما في عقيب الفجر «6»، و الكل إشارة إلى وجهه الباقي بعد فناء كل شي ء، كما في الأخبار المفسرة للآية

و هو وجهه الذي ملأ نوره كل شي ء و هو حيث لا يدركه شي ء «7»، كما في عوذة ليلة الجمعة في المتهجد

«8». فالتوجه إليهم توجه إلى اللّه و الاستعاذة بهم استعاذة باللّه، لأن اللّه تعالى جعلهم أبوابه و صراطه و نوره

______________________________

(1) سورة البقرة: 37.

(2) سورة البقرة: 124.

(3) سورة لقمان: 27.

(4) مصباح المتهجد، في نافلة الليل: ص 148، رقم الدعاء: 238/ 34.

(5) مصباح المتهجد: ص 490، رقم الدعاء: 577/ 32.

(6) مصباح المتهجد: ص 204، رقم الدعاء: 296/ 34.

(7) في المصدر: حيث لا يراه شي ء.

(8) مصباح المتهجد: ص 490، رقم الدعاء: 578/ 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 87

و سبيله، فهم السبيل الأعظم و الصراط الأقوام و شهداء دار الفناء، و شفعاء دار البقاء و الرحمة الموصولة، من أراد اللّه بدأ بهم، و من قصده توجه إليهم صلوات اللّه عليهم و على أنوارهم و على أرواحهم و على أجسادهم و على أجسامهم و على ظاهرهم و على باطنهم و على أولهم و على آخرهم و رحمة اللّه و بركاته.

[المبحث الرابع: في الكشف عن حقيقة الاستعاذة و كيفيتها] اعلم أن لا يمكن أن يتحقق العبد في مقام الاستعاذة و

الالتجاء و الانقطاع إلا بعد العلم بأمور ثلاثة:

أحدها: أنّ له عدوّا قوّيا قاصدا له مترصّدا لإيصال الضرر إليه في نفسه و دينه و عياله و ماله بحيث يعجز العبد عن مقاومته و كفّ ضرره عن نفسه.

ثانيا: أن الملجأ الذي يهرب إليه و يتوسّل به قويّ قاهر قادر على قهر ذلك العدوّ و إذلاله، و دفع شره عنه، و الحيلولة بينه و بينه بحيث لا يمسّه شره أصلا.

ثالثها: أنّ هذا الملجأ ناصح مشفق برّ لطيف رؤف رحيم، قد وعد على نفسه أن يجير من استجاره و أن يعيذ من استعاذ به، و كلّما كانت العلوم المتعلقة بهذه المقاصد الثلاثة أقوى و أصفى و أجلى، كان التحقق بمقام الاستعاذة و الالتجاء أتمّ و أدوم و أكمل سيّما إذا نضمّ إليه العلم بانحصار الملجأ به دون غيره، و هذه العلوم الثلاثة بل الأربعة حاصلة في المقام، و إن كان في شي ء منها ضعف فمن الشك في الدين، أو من ضعف اليقين، و إلّا فينبغي أن تنتهي هذه العلوم من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، بل حق اليقين.

أمّا العدوّ القويّ المترصّد فهو الشيطان اللعين بالضرورة من الدين بل بالشهود و العيان و اليقين، مضافا إلى الآيات الكثيرة التي نبّه اللّه فيها عباده بعداوة هذه العدو و أمرهم بالتجنّب و التحرّز عنه كقوله: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 88

وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ «1».

و قوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ «2».

و قوله: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ

عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا «3».

وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ «4».

أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ «5».

هذا كلّه مضافا إلى ملاحظة منشأ عداوته لبني آدم و إنه صار مطرودا مدحورا بترك سجدة آدم، فأضمر العداوة له و لذريته حتى أقسم على إيصال الضرر إليهم في أشرف ما لديهم و هو دينهم الذي هو حياتهم، و به بقاؤهم و نجاتهم، فقال:

فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «6».

قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «7».

بل أمره اللّه تعالى أمرا تهديديا إمهاليا بقوله:

وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «8».

______________________________

(1) سورة الأعراف: 27.

(2) سورة فاطر: 6.

(3) سورة الكهف: 50.

(4) سورة الزخرف: 62.

(5) سورة يس: 60- 61.

(6) سورة ص: 82- 83.

(7) سورة الحجر: 39- 40.

(8) سورة الإسراء: 64.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 89

و ذلك

لأنّه عبد اللّه تعالى في الجانّ اثنى عشر ألف سنة فلمّا أهلك اللّه الجانّ، شكى إلى اللّه الوحدة، فعرج به إلى السماء الدنيا فعبد اللّه تعالى فيها اثنى عشر ألف سنة أخرى في جملة الملائكة، كما رواه الصدوق في «العلل» و «المجالس» «1»

بل

في «نهج البلاغة» في خطبة علي أمير المؤمنين عليه السّلام أنه عبد اللّه تعالى سنة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة «2».

و إن كان المستفاد

من بعض الأخبار أن عبادته في تلك المدة لم تكن للّه تعالى بل لطلب زخارف الدنيا

، كما

قال مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة

و السّلام في جواب الزنديق على ما في «الإحتجاج»: «إنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام لم يرد بها غير زخرف الدنيا، و التمكين من النظرة» «3».

و كيف كان فالطريق صعب ذو خطر، و العدوّ قويّ مترصّد لإيصال الضرر، و بعد ذلك لا بدّ للعبد من استشعار ضعفه و عجزه عن جلب شي ء من المنافع أو دفع شي ء من المضارّ إلّا بحول اللّه و قوته في المقامات العلمية و العلمية، و إن كان الأول هو الأصل للثاني، فالإنسان فيه في غاية العجز و لذا كثيرا ما يهلك من حيث لا يشعر و لا يلتفت، فيقع في العقائد الباطلة و الشبهات و الشكوك و الوساوس الشيطانية المفضية به إلى إنكار الحق بل الإلحاد و الزندقة و هو بزعمه باق على استقامة الفطرة و حسن السليقة، و لعلّ الجاهل مغرور باستعمال القواعد الميزانية، مبتهج بإصابته في عقائده و لا يدري أن حال من خالفه في هذه العقيدة أو في سائر العقائد إنما هو كحاله في زعمه في حق نفسه و ابتهاجه بإصابته، و لعل غيره أولى

______________________________

(1) علل الشرائع: ج 1/ 136- 137، المجالس للصدوق: 209.

(2) نهج البلاغة: ج 1/ 396- 399 في الخطبة القاصعة.

(3) الإحتجاج: ج 1/ 368.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 90

تفسير الصراط المستقيم ج 3 130

بالإصابة منه لقوة نظره و نفوذ بصيرته و استقامة سليقته، و لهذا ترى أهل العالم بل المتسمين بالعلم منهم مختلفين في العقائد، بل في الأديان، و كل فرقة منهم تزعم النجاة لنفسه و يستدل له في زعمه بالبراهين القطعية مع إعمال القوانين المنطقية، فكل منهم يدفع الخطأ عن نفسه إلى خصمه مع أنهما متساويان في كفتي ميزان الإصابة

و البطلان، بل ربما يصيب الأعمى رشده و يخطئ البصير قصده، و قد يوفق الغبي للدليل، و ينحرف الفطن عن قصد السبيل، بل رأينا كثيرا من العلماء المشهورين بالعلم و المعرفة قد أخطئوا في بعض العقائد طول عمرهم أو بقوا في شبهة واحدة أيام دهرهم، و ظنوا الباطل حقا، و الكذب صدقا، ثم المستبان بنور الهداية و الكشف خلاف ما فهموه، بل كثيرا ما يقع الرجوع و العدول عن بعض العقائد و يحصل لهم صورة ادراكية مشبه ما كان سابقا في طرف الضد، و حيث إن الأمر كذلك فلا خلاص من هذه الظلمات إلا بإعانة إله الأرض و السموات، فما أشد احتياج الإنسان بالاستعاذة إلى واهب الحكمة و العرفان و مسدد العقول و الأذهان، و من بيده ناصية الإنس و الجن من الشيطان، و لذا أمر نبيه بالاستعاذة تعليما للعباد بقوله: وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ «1».

قيل: و هذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة.

و أما قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «2».

فهي استعاذة مخصوصة، حيث إنّ لكلّ أحد، و في كل حالة و مقام شيطانا مخصوصا يجب الاستعاذة منه.

و أمّا الملجأ و المنجى و المعاذ فهو اللّه الحي القيوم القادر القاهر المقتدر الذي قد وعد عباده بحفظهم من شرّ الشيطان، و ضرّه و وسوسته بمجرد الدخول في حصن

______________________________

(1) المؤمنون: 97.

(2) النحل: 98.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 91

عبوديته، و لذا قال: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ... «1».

و قال بعد الأمر بالاستعاذة به منه: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ «2».

و في هذه الآية

انفصام لظهور أرباب العصيان، لدلالتها على انتفاء الإيمان بمجرد إطاعة الشيطان، و إنه ليس له سلطان إلا على المشرك بالرحمن، و ذلك

للأخبار المستفيضة الدالة على أنّ «من أصغى إلى ناطق عبده فإن كان الناطق ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه، و إن كان الناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان» «3».

و

«أن من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده أو فقد أشرك» «4».

كما قال اللّه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «5».

فعن الصادق عليه السّلام: «أما و اللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، و لو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، و لكن أحلّوا لهم حراما، و حرّموا عليهم حلالا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون» «6».

بل يستفاد من قوله تعالى، خطابا للمجرمين الممتازين: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ

______________________________

(1) الإسراء: 68.

(2) النحل: 99- 100.

(3)

بحار الأنوار: ج 72/ 264، و فيه: و إن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.

(4) بحار الأنوار: ج 72/ 94، عن تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السلام.

(5) التوبة: 31.

(6) الكافي: ج 2/ 398.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 92

«1».

بعد ملاحظة عموم الخطاب لأهل العصيان، و فقد من يزعم ربوبية الشيطان، أنّ من أطاع الشيطان، بل من خالف اللّه تعالى في أمر أو نهي فقد عبد الشيطان، بقرينة المقابلة، و لذا قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ «2».

و قال سبحانه: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ... «3».

و

في النبوي: «أبغض إله عبد في الأرض، الهوى».

و لعل هذا هو المشار إليه

بقوله صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم: «إن الشرك أخفى في أمتي من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء» «4».

و حينئذ تجد نفسك ضعيفة من مقاومة هذا العدو، إذ الإنسان قد خلق ضعيفا، و لذا

ورد في الدعاء: «اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا، و لا أقل من ذلك و لا أكثر، فإنك إن تكلني فإن نفسي هالكة أو تعصمها» «5».

فخذ حذرك، و شدد أزرك، و اعرف قدرك، و فوض أمرك.

فإن التجأت بربك الرؤوف اللطيف، فاعلم أنّ كيد الشيطان هيّن ضعيف، و إن

______________________________

(1) يس: 60- 61.

(2) يوسف: 106.

(3) الجاثية: 23.

(4) مضمون الحديث مرويّ بعبارات مختلفة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام منها: ما

رواه الطبرسي في مجمع البيان ج 4 ص 359 عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانة سوداء في ليلة ظلماء ... الخبر و رواه عنه البحار ج 18 ص 158.

(5) بحار الأنوار ج 14 ص 387 عن الكافي ج 2 ص 581 إلى: (و لا أكثر).

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 93

احتجبت بحجابه الذي يحتجب به، و توجهت إلى بابه الذي يؤتى منه، و أنت من غيره راجع تائب، فقد نلت أقصى المطالب، و منتهى المآرب.

و إن قصدك الشيطان أتبعه شهاب ثاقب، لأنّك حينئذ قد أقسمت بذمام اللّه المنيع الذي لا يطاول و لا يحاول، و هذا الذمام ولايتهم عليهم الصلاة و السّلام، و لذا

ورد في دعاء الصباح على ما في «المتهجد»: «أصبحت اللهم معتصما بذمامك المنيع، الذي لا يطاول و لا يحاول، من كل غاشم و طارق، من سائر

من خلقت و ما خلقت من خلقك الصامت و الناطق، في جنة من كل مخوف بلباس سابغة، و بأهل بيت نبيك (و في بعض النسخ): سابغة ولاء أهل بيت نبيك، محتجبا من كل قاصد لي بأذيّة بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقهم، و التمسك بحبلهم، موقنا أنّ الحقّ لهم و معهم و فيهم و بهم، أوالي من والوا و أجانب من جانبوا، فأعذني اللهم بهم من شر ما أتقيه ... الدعاء». «1»

و مجمل الإشارة في المقام إلى الاعتصام بذلك الذمام الذي هو ولايتهم عليهم السّلام أن يتأدّب بالآداب الشرعية و يستقيم على الوظائف الدينية، و لا ينحرف عنهم في شي ء من الأفعال و الأقوال و الأحوال و الخطوات و النيّات و القصود و المقاصد، فإذا فعل ذلك فهو من شيعتهم الذي خلقوا من فاضل طينتهم، و سقوا بماء ولايتهم.

و لذا

قال مولانا الرضا عليه التحية و الثناء: «شيعتنا المسلّمون لأمرنا، الآخذون بقولنا، المخالفون لأعدائنا، فمن لم يكن كذلك فليس منا» «2».

و

قال الصادق عليه السّلام: «ليس شيعتنا من قال بلسانه، و خالفنا في أعمالنا و آثارنا،

______________________________

(1) مصباح الشيخ ص 148 و عنه البحار ج 86 ص 148 ح 31.

(2) صفات الشيعة للصدوق: ص 164، و عنه بحار الأنوار: ج 68/ 167، ح 24. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 94

و لكن شيعتنا من وافقنا بلسانه و قلبه، و اتبع آثارنا، و عمل بأعمالنا، أولئك شيعتنا» «1».

و

في «إرشاد المفيد» و «الأمالي» و «صفات الشيعة»: أن أمير المؤمنين عليه السّلام خرج ذات ليلة من المسجد، و كانت ليلة قمراء فأمّ الجبّانة و لحقه جماعة يقفون أثره، فوقف عليهم، ثم قال: من أنتم؟

قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين.

فتفرّس في وجوههم ثم قال:

فمالي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟

قالوا: و ما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟

فقال عليه السّلام: «صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من البكاء، حديث الظهر من القيام، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين» «2».

و

روى العياشي عن الصادق عليه السّلام قال: «نحن أهل بيت الرحمة، و بيت النعمة، و بيت البركة، و نحن في الأرض بنيان، و شيعتنا عرى الإسلام، و ما كانت دعوة إبراهيم إلّا لنا و لشيعتنا، و لقد استثنى اللّه إلى يوم القيامة على إبليس، فقال: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «3»» «4».

و

في رواية أخرى: «و اللّه ما أراد اللّه بهذا إلا الأئمة و شيعتهم» «5».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 68/ 164، ح 13.

(2) إرشاد المفيد: ص 114، و أمالي الطوسي: ج 1/ 219. و عنهما بحار الأنوار ج 68/ 150- 151، ح 4.

(3) الحجر: 42.

(4) تفسير العياشي: ج 2/ 243، و عنه البحار: ج 68 م 35.

(5)

تفسير الفرات: ص 83، و عنه البحار: ج 68/ 57، و فيه: و اللّه ما أراد بها إلا الأئمة و شيعتهم. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 95

فهذا الصنف من الشيعة ليس للشيطان عليهم سلطان، كيف و هم في ظلّ ولايتهم يعيشون، و في جوار الرحمن يتنعّمون، ألا إنّ أولياء اللّه لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

و أمّا محبّوهم و مواليهم الذين ليسوا من مخلصي شيعتهم لاقترافهم بعض الخطيئات، و انهماكهم في عاجل اللذات، فلا ريب أنّ الاستعاذة و الالتجاء بهم و الاعتصام بحبلهم من شر شياطين الجن و الإنس، و النفس الأمارة الشهوانية و البهيمية و السبعية، و من خيلها و رجلها و فتنتها و وسوستها توبة لهم و رجوع

إليهم فيوفقون بها لقلة التربص و حسن التخلص، مع أنهم عليهم السّلام قد ضمنوا لشيعتهم ذنوبهم، و أصلحوا لهم عيوبهم.

فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تفسير قوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ «1» قال: «إذا كان يوم القيامة ولّينا حساب شيعتنا، فمن كان مظلمته فيما بينه و بين اللّه استوهبناها فوهبت لنا، و من كان مظلمته فيما بينه و بيننا كنا أحق من عفى و صفح» «2».

و

عن رضي الدين بن طاوس أنه قال: سمعت القائم عجل اللّه فرجه بسر من رأى يدعوا من وراء الحائط و أنا أسمعه و لا أراه و هو يقول: «اللهم إنّ شيعتنا منا، خلقوا من فاضل طينتنا، و عجنوا بماء ولايتنا اللهم اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتكالا على حبّنا و ولائنا يوم القيامة، و لا تؤاخذهم بما اقترفوه من السيئات، إكراما لنا، و لا تقاصهم يوم القيامة مقابل أعدائنا، و إن خفّت موازينهم فثقّلها بفاضل حسناتنا» «3».

______________________________

(1) الغاشية: 25.

(2) عيون أخبار الرضا عليه السّلام: ج 2/ 57، و عنه البحار: ج 68/ 98.

(3) بحار الأنوار: ج 53/ 302 و 303، و فيه هذه الحكاية بعبارتين مختلفتين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 96

تنبيه

يمكن إبطال القول بالجبر بصحة الاستعاذة كما استدلّ به، نظرا إلى أنّه اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك الاستعاذة، و لو كان الفعل من اللّه كذب العبد، و إن اللّه إذا خلق فعلا في العبد امتنع لكل أحد دفعه، و إذا لم يخلقه امتنع تحصيله، و إن الاستعاذة باللّه إنما يحسن إذا لم يكن خالقا للأمور التي يستعاذ منها، و مع كونه خالقا لها يلزم الاستعاذة به منه، فالوسوسة حينئذ ليست

فعلا للشيطان فكيف يستعاذ منه.

و للّه در ابن «1» الحجاج حيث قال:

المجبرون يجادلون بباطل و خلاف ما يجدون في القرآن

كلّ مقالته: الإله أضلّني و أراد بي ما كان عنه نهاني

أ يقول ربك للخلايق آمنواجهرا و يجبرهم على العصيان

إن صحّ ذا فتعوذّوا من ربكم و ذروا تعوّذكم من الشيطان

و قال بعض الأجلّاء: إن قريشا كانت في الجاهلية على الجبر، و قد نزل الكتاب بإبطاله، لكن أحياه بنو أمية، فنسبوا شقاوتهم إلى اللّه، و لذا قيل: العدل و التوحيد علويّان، و الجبر و التشبيه أمويان.

و الحق أن بطلان القول بالجبر مما يقضى به بعد الكتاب و السنة ضرورة وجدان الإختيار في كل ما يصدر منا من الأفعال.

مضافا إلى أنّ فيه انهدام أساس الشرائع و السياسات و الأحكام، بل المعاد و ما فيه من الثواب و العقاب.

______________________________

(1) هو أبو عبد اللّه الحسين بن أحمد بن الحجاج الأديب الشاعر الشيعي البغدادي المتوفي (391) ه.- العبر: ج 3/ 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 97

فلا يصغي إلى ما ربما يقال مرة: إنه تعالى عالم بجميع المعلومات، و وقوع الشي ء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا، و ذلك محال و المؤدي إلى المحال محال، و أخرى أنّ قدرة العبد إن كانت معينة لأحد الطرفين فالجبر لازم و إن كانت حاصلة لهما فمع المرجح إن كان من العبد عاد التقسيم فيه و يتسلسل، أو اللّه فيلزم عليكم ما ألزمتمونا، و مع عدمه لا يمكن حصول الفعل، مع أن الرجحان حينئذ اتفاقي، فيعود الجبر.

إذ الوجهان في غاية الضعف و إن استصعبهما بعض الأعلام، للمنع من كون العلم علة للمعلوم أو مؤثرا فيه بوجه سيّما في العلم الذاتي الذي لا تعلق فيه أصلا،

و قدرة العبد صالحة للطرفين بالضرورة الوجدانية، و الإختيار هو المرجّح لأحدهما، و العبد إنما يفعل الإرادة و يحدثها بنفسها لا بإرادة حادثة قبلها حتى يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب حسب ما تسمع تمام الكلام في الموضع اللائق به إن شاء اللّه.

نعم، من بعض أهل التشكيك في مقام الاستعاذة شكوك واهية:

منها: أن المطلوب من قولك «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم»، إنما أن يمنع اللّه الشيطان من عمل الوسوسة بالنهي و التحذير، أو على سبيل القهر و الجبر.

أما الأول فهو حاصل منه و تحصيله بالطلب محال لأنه تحصيل للحاصل، و الثاني باطل لأنه ينافي التكليف الذي دل الدليل على ثبوته، و لو بالنسبة إلى الشياطين.

و منها: أن اللّه تعالى إن أراد إصلاح حال العبد فالشيطان غير قادر على إغوائه و إلّا فلا يفيد الاعتصام أيضا.

و منها: أن صدور الوسوسة من الشيطان إن كان بواسطة شيطان آخر

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 98

لزم التسلسل، و إلا فلم لا يجوز مثله في البشر، و لم اختص الشيطان بالاستعاذة منه.

و الجواب من الأول: أن المسؤول هو- التوفيق للتحقق في مقام العبودية التي ينكشف معها فساد و وساوس الشيطان، و لذا قال سبحانه: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1».

فإنهم دخلوا في حزب الرحمن، فلا يؤثر فيهم تلك الوساوس، فالمطلوب هو العصمة الحاصلة بالاعتصام و الالتجاء إليه سبحانه.

و من الثاني: أنه يريد ذلك إرادة عزيمة لا حتمية، و لذا صحّ عندنا تكليف الكفار.

و من الثالث: أنّ المراد بالشيطان هو كل ما يدعو إلى غيره سبحانه من الجن و الإنس، و لذا جعل عبادته في مقابلة عبادته سبحانه في قوله:

أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ

لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ «2».

مع أنك لا تكاد ترى أحدا يزعم أنه يعبد الشيطان، لأن جميع الأمم يتبرءون منه، فدواعي الشرور من كل موجود منتهية إليه انتهاء فطريا أو فعليا.

______________________________

(1) الحجر: 42.

(2) يس: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 99

تفسير الصراط المستقيم

[سورة الفاتحة(1): آية 1]

في تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اشارة

لا خلاف في أنّ البسملة بعض آية في سورة النمل. و لا في أنّ بعضها بعضها في هود، و لا في أنها ليست بآية و لا بعضها في برائة، إما لأنها سورة السيف، و نزلت لرفع الأمان، و بسم اللّه أمان، أو لأنها مع الأنفال سورة واحدة، و لذا عدّتا معا سابعة السبع الطول.

و إنما الخلاف في أنها جزء من سائر السور أم لا؟

فالشيعة الإمامية على أنها جزء من الفاتحة و غيرها من السور، يجب قراءتها معها، و هو مذهب أهل البيت روحي لهم الفداء و عليهم آلاف التحية و الثناء، و تبعهم بعض فقهاء العامة كأحمد، و إسحاق «1»، و أبي ثور «2»، و أبي عبيدة «3»، و عطاء، و الزهري «4» و عبد اللّه بن المبارك «5».

و هو مذهب ابن عباس، و أهل مكة، و أهل الكوفة كعاصم، و الكسائي، و غيرهما، سوى حمزة، و غالب أصحاب الشافعي.

و قال بعض الشافعية و حمزة: إنها جزء في الفاتحة فقط دون بقية السور.

لكن حكى العلامة في «المنتهى» عن الشافعي: أنها بعض آية من أول الحمد بلا خلاف، و في كونها آية من كل سورة قولان:

______________________________

(1) هو إسحاق بن إبراهيم المروزي المعروف بابن راهويه المتوفى سنة (237) ه.

(2) هو إبراهيم بن خالد صاحب الشافعي أبو ثور الكلبي المتوفى (240) أو (246) ه.

(3) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري المتوفى

(210) ه.

(4) هو محمد بن مسلم المدني الزهري المتوفى (124) ه.

(5) عبد اللّه بن المبارك الفقيه المروزي المتوفى (181) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 100

أحدهما: أنها آية من كل سورة.

و الآخر: أنها بعض آية من أول كل سورة و تتم بما بعدها آية.

و عن أبي حنيفة، و مالك «1»، و الأوزاعي «2»، و داود «3»: أنها ليست آية من الفاتحة و لا من غيرها من السور، و هو المشهور بين المتأخرين من الحنفية، بل من أهل المدينة، و الشام و البصرة.

نعم، ذكر البيضاوي «4» أن أبا حنيفة لم ينص بشي ء، فظنّ أنها ليست من السورة عنده و الظّان صاحب «5» الكشاف و أتباعه.

و عن مالك و تالييه «6»: يكره أن يقرءها في الصلاة، و ربما يجعل محل الخلاف أنها آية واحدة غير متعلقة بشي ء من السور، أو مائة و ثلاث عشر آية من مائة و ثلاث عشر سورة كالآيات المكررة في بعض السور، مثل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

و على كل حال، فالذي ينبغي القطع به أنها آية من كل سورة من الفاتحة و غيرها لإجماع الإمامية، بل و إجماع أهل البيت عليهم السّلام الذي هو الحجة عند المخالف فضلا عن المؤالف لآية التطهير و أخبار الفريقين، و غير ذلك مما حرر في الأصول،

______________________________

(1) هو مالك بن أنس الأصبحي المدني المتوفى (179) ه.- العبر: ج 1/ 272.

(2) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الفقيه الشامي المتوفى (157) ه.- العبر:

ج 1/ 227.

(3) هو داود بن علي الأصبهاني الظاهري المتوفى (270) ه، تقدم ذكره.

(4) البيضاوي: القاضي ناصر الدين عبد اللّه بن عمر الشافعي المتوفى (685) ه.- سفينة البحار: ج 1/ 435.

(5) هو أبو القاسم محمود

بن عمر الزمخشري المتوفي (538) ه.

(6) هما الشافعي و أحمد بن محمد بن حنبل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 101

و الأخبار المستفيضة لو لم تكن متواترة

كخبر معاوية «1» بن عمار عن الصادق عليه السّلام قال: قلت له: إذا قمت للصلاة اقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب؟

قال: نعم، قلت: فإذا قرأت فاتحة الكتاب أقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال: نعم «2».

و

صحيح محمد «3» بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم أ هي الفاتحة؟ قال: «نعم هي أفضلهن» «4».

و

خبر يحيى «5» بن أبي عمران الهمداني قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك! ما تقول في رجل ابتدأ بسم اللّه الرحمن الرحيم في صلاته في أم الكتاب وحده، فلما صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها؟

فقال العياشي: ليس بذلك بأس، فكتب عليه السّلام بخطه: يعيدها مرتين على رغم أنفه «6»- يعني العياشي-.

و المراد إعادة الصلاة لا البسملة و الحمل على تركها سهوا مع بقاء المحل بعيد من السياق.

و ذكر بعض المحدثين أن العياشي إن حمل على الرجل المشهور صاحب التفسير فينبغي تخصيصه بكون ذلك في أول عمره، فإنه كان من فضلاء العامة ثم

______________________________

(1) معاوية بن عمار بن أبي معاوية خباب بن عبد اللّه الكوفي، كان من ثقات أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السّلام.

(2) وسائل الشيعة: ج 2/ 746، ح 5 عن فروع الكافي: ج 1/ 86.

(3) محمد بن مسلم بن رباح الطحان الكوفي الفقيه الوجيه المتوفى (150) ه. رجال النجاشي:

323.

(4) الوسائل: ج 2/ 745 عن التهذيب: ج 1/ 218.

(5) يحيى بن أبي عمران الهمداني من أصحاب الرضا عليه السّلام وثقه أرباب الرجال.

(6) الوسائل:

ج 2/ 746، ح 6 عن فروع الكافي: ج 1/ 86.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 102

استبصر و رجع إلى مذهب الشيعة، فالحمل عليه غير بعيد «1»، و يحتمل غيره.

قلت: لكن الموجود في بعض نسخ الوسائل و غيره «العباسي» بالموحدة و المهملة، و عليه فالمراد بعض العباسيين أو بعض فقهائهم «2».

و

عن أمير المؤمنين روحي له الفداء عليه آلاف التحية و الثناء أنه بلغه أن أناسا ينزعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال عليه السّلام: «هي آية من كتاب اللّه أنساهم إياها الشيطان» «3».

و

في «العيون» بالإسناد إنه قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: أخبرنا عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أ هي من فاتحة الكتاب؟ فقال: «نعم، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرؤها و يعدّها آية» «4».

و

عن الصادق عليه السّلام: «ما لهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها، و هي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «5»».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المستفيضة المعتضدة بالشهرة العظيمة بل بإجماع الطائفة المحقة.

و من هنا يظهر أن ما دل على خلافه

كصحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام في الرجل يكون إماما فيستفتح الحمد و لا يقرء

______________________________

(1) الحمل عليه بعيد جدا لأنه كان معاصر للكليني، و توفي على ما في معجم المؤلفين:

ج 12/ 30 سنة (320) ه، و لعله لم يولد في عصر الإمام الجواد عليه السلام.

(2) الظاهر أنه هشام بن إبراهيم العباسي الذي قالوا في ترجمته: إنه كان مؤمنا في أول أمره و صار زنديقا في آخره، راجع: معجم رجال الحديث، رقم 15388.

(3) تفسير العياشي: ج 1/ 21، ح 12.

(4) عيون الأخبار: ص 181، و عنه الوسائل: ج 2/

747، ح 10.

(5) مستدرك الوسائل: ج 4/ 166، عن تفسير العياشي: ج 1/ 21. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 103

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال: «لا يضره و لا بأس» «1».

و

موثق مسمع «2»، قال: صلّيت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم قرأ السورة التي بعد الحمد و لم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم قام في الثانية فقرأ الحمد و لم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «3».

و

صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: سألته عن الرجل يفتتح القراءة في الصلاة أ يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال: «نعم، إذا افتتح الصلاة فليقلها في أول ما يفتتح ثم يكفيه ما بعد ذلك» «4».

ينبغي حملها على التقية أو على عدم الإجهار بها. أو على عدم وجوبها في السورة أو كون الصلاة نافلة، أو غيرها، و إن كان الأظهر حملها على الأول كما يظهر من سياق بعضها، و إلا فيتعين طرحها لندرتها و شذوذها و مخالفتها لما مر كشذوذ ما يحكى عن ابن الجنيد «5» من أنها في الفاتحة بعضها، و في غيرها افتتاح لها.

و بالجملة فأصحابنا كأكثر المخالفين على عدّها آية جميع السور، و لذا أثبتوها في المصاحف بخط القرآن مع شدة اهتمامهم بعدم كتابه غيره بخطه، و لذا

______________________________

(1) الوسائل: ج 2/ 749، ح 5 عن التهذيب: ج 1/ 153.

(2) هو مسمع بن عبد الملك بن مسمع بن مالك أبو سيار كردين الكوفي البصري، كان من أصحاب الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السّلام، وثقه الشيخ.

(3) الوسائل: ج 2/ 748، ح 4، عن التهذيب: ج 1/ 218.

(4) الوسائل: ج 2/ 748، ح 3، عن التهذيب:

ج 1/ 153.

(5) ابن الجنيد: محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب من أكابر علماء الإمامية و من أفاضل قدمائهم و أكثرهم علما و فقها و أدبا و تصنيفا، وثقه النجاشي و روى عنه المفيد، قيل:

توفي بالري سنة (381) ه.- سفينة البحار ك ج 1/ 666.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 104

كتبوا تراجم السورة و الأجزاء و أنصافها و الأحزاب و ركوعاتها بالتغير، مضافا إلى الأخبار الكثيرة الواردة من طرق العامة أيضا.

بل حكي شيخنا البهائي عن صريح بعض محدثيهم أنها تجاوز العشرة «1».

نعم، للقراء تفصيل في البسملة، و هو أنها تأتي في ثلاثة مواضع: إذا ابتدأ سورة أو موضعا منها أو بين السورتين.

ففي الأول: أجمعوا على البسملة كما حكاه في «شرح طيبة النشر في القراءات العشر»، نعم، استثنوا منها سورة التوبة، لكونها من الأنفال كما حكوه عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، أو لنزولها بالسيف و رفع الأمان.

و في الثاني و هو أوساط السور، قالوا: القاري فيه مخيّر بين الإتيان بالبسملة فيه بعد الاستعاذة، و بين الاقتصار على الاستعاذة، يرجح البسملة إذا كان مفتتح الآية شيئا من أسماء اللّه تعالى، و الاستعاذة إذا كان اسم الشيطان، و ذلك كله في سوى برائة، فإنه يحتمل التخيير فيها كغيرها، و يحتمل المنع من البسملة.

قلت: أما التخيير يمكن استفادته من الإطلاقات الآمرة بالاستعاذة من الكتاب و السنة بضميمة ما

رواه في «الكافي» عن فرات «2» بن أحنف عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: سمعته يقول:

«أوّل كل كتاب نزل من السماء بسم اللّه الرحمن الرحيم، فإذا قرأت بسم اللّه الرحمن الرحيم فلا تبالي أن لا تستعيذ، و إذا قرأت بسم اللّه الرحمن الرحيم سترتك

______________________________

(1) لم أظفر على هذه الحكاية

عن الشيخ بهاء الدين قدس سره لا في «العروة الوثقى» و لا في «الحبل المتين».

(2) فرات بن الأحنف العبد الهلالي أبو محمد، روى عن السجاد و الباقر و الصادق عليهم السّلام، ضعفه أرباب التراجم و قالوا: يرمى بالغلو. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 105

فيما بين السماء و الأرض» «1».

و هذا المعنى يستفاد من غيره من الأخبار أيضا تصريحا و تلويحا.

مضافا إلى ما سمعت من أنّ حقيقة الاستعاذة هي الالتجاء و التفويض و التوكل، و التسمية مشتملة على تلك المقامات حسب ما تسمع إن شاء اللّه، و لذا

قال مولانا الرضا عليه آلاف التحية و الثناء: «بسم اللّه يعني أسم نفسي بسمة من سمات اللّه، و هي العبادة، قيل: و ما السمة؟ قال: العلامة» «2».

بل التحقيق أن التسمية و الاستعاذة بمنزلة التولي و التبري الذين إذا اجتمعا افترقا، و إذا افترقا اجتمعا كغيرهما من الألفاظ التي حالها كذلك كالفقراء و المساكين.

إلا أنه لا يخفى أن هذا كله لا يدفع استحباب الاستعاذة عينا بعد تعلق الأمر به في ظاهر الكتاب، و تعليقه على الشرط المفيد للعموم حسب تحقق الشرط.

مضافا إلى أن البسملة أيضا من القرآن الذي أمرنا اللّه سبحانه عند إرادة قراءته بالاستعاذة، و غاية ما يدل عليه خبر فرات مع الغض عن ضعفه، و قصوره عن تخصيص ظاهر الكتاب إنما هو حصول الغاية التي هي حجب الشيطان و طرده كما هو الظاهر من مساقه، و أين هذا من سقوط الحكم الندبي الثابت بظاهر الآية.

و قد ظهر من جميع ما مر أن الأولى هو الجميع بين الاستعاذة و البسملة مطلقا في مفتتح السور و أوساطها، و أما أوساط سورة برائة فلا وجه لاستثنائها أو الترديد فيها مطلقا، نعم،

قد سمعت أن البسملة ليست جزءا منها و أين هذا من عدم

______________________________

(1) الوسائل: ج 2/ 746، ح 8، عن فروع الكافي: ج 1/ 86.

(2) عيون الأخبار: ج 1/ 260، ح 19، و عنه كنز الدقائق: ج 1/ 42، ط مؤسسة النشر الإسلامي- قم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 106

استحباب البسملة أو المنع منها في قراءة بعض آياتها.

و أما في الثالث: و هو البسملة بين السورتين فاختلفوا على أقوال ثلاثة:

البسملة بينهما، و الوصل، أي وصل أخر الأولى بأول الثانية من دون وقف و لا سكت و لا بسملة، و السكت و هو عبارة عن قطع الصوت زمنا دون زمن التوقف عادة من غير تنفس، و قد اختلف عبارتهم في التأدية عنه من حيث طول زمن السكت و قصره.

قالوا: و المشافهة أصدق حاكم به، و على كل حال فأصحاب البسملة قالون «1»، و عاصم «2»، و ابن كثير، و أبو جعفر «3»، و الكسائي بغير خلاف من أحد منهم، و كذا الإصفهاني «4»، عن ورش «5».

و أما الوصل فهو المحكي عن حمزة، و أما أصحاب السكت فورش، و أبو عمرو «6»، و ابن عامر.

و عن ابن مجاهد «7» كل من الوصل و السكت كما حكاه عنه في «التيسير»،

______________________________

(1) هو أبو موسى عيسى بن مينا الزهري مولاهم المدني، صاحب نافع و كان قارئ أهل المدينة توفي سنة (220) ه.- العير ج 1/ 381.

(2) هو عاصم بن أبي النجود (بهدلة) الأسدي الكوفي، أحد القراء السبعة، توفي سنة (127) ه.

(3) أبو جعفر القري: يزيد بن القعقاع المدني أحد العشرة، قرأ على مولاه عبد اللّه بن عياش، مات حدود سنة (130) ه.- التمهيد: ج 2/ 196.

(4) هو محمد بن عبد الرحيم

المقرئ الإصفهاني، توفي ببغداد سنة (296) ه.

(5) هو عثمان بن سعيد المصري المقرئ الملقب ب (ورش) لشدة بياضه، توفي سنة (197 ه.)، التمهيد: ج 2/ 203.

(6) هو: أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ البصري و اسمه زبان، كان أحد السبعة، روى عن الإمام الصادق عليه السّلام، توفي سنة (154) ه.

(7) ابن مجاهد: أحمد بن موسى بن العباس البغدادي المقرئ، توفي (324) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 107

لكن في «طيبة النشر» عن ابن عامر، و أبي عمرو، و يعقوب «1»، و ورش من طريق الأزرق «2» الأوجه الثلاثة و هي: السكت، و الوصل، و البسملة.

لكن اختار أصحاب الوصل في (ويلين) و في (لا أقسمين) السكت، و أصحاب السكت في الاربعة البسملة، لكن الحقّ ما سمعت أوّلا فلا داعي للتعرض لنقل كلامهم إلّا الإفصاح عن فساد مرامهم.

نعم، بقي الإشكال في الفصل بين (الضحى) و (ألم نشرح) و كذا بين (الفيل) و (لإيلاف) بالبسملة و عدمها، حيث إنّك قد سمعت أن الأوليين سورة واحدة كالأخريين، ففي «مجمع البيان» عن أبي بن كعب أنه لم يفصل بينهما بالبسملة في مصحفه.

و قال الشيخ في «الاستبصار» أن هاتين السورتين سورة واحدة عند آل محمد صلى اللّه عليهم أجمعين، و ينبغي أن يقرئهما موضعا واحدا، و لا يفصل بينهما بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في الفرائض «3».

و

في «الفقه الرضوي» عنه عليه السّلام قال: «و لا تقرأ في صلاة الفريضة (و الضحى)، و (ألم نشرح)، و (ألم تر كيف)، و (لإيلاف)، لأنه روي أن (و الضحى) و (ألم نشرح) سورة واحدة، و كذا (ألم تر كيف)، و (لإيلاف) سورة واحدة، إلى أن قال: فإذا أردت قراءة بعض هذه السور فاقرأ: (و الضحى) و (ألم

نشرح) و لا تفصل بينهما، و كذلك (ألم تر كيف)

______________________________

(1) هو يعقوب بن إسحاق الحضرمي القاري البصري المتوفى (205) ه.

(2) هو أبو يعقوب الأزرق يوسف بن عمرو المدني المصري، لزم ورشا مدة طويلة، مات حدود سنة (240) ه.

(3) الاستبصار: ج 1/ 317، في ذيل الحديث الرابع. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 108

و (لإيلاف) «1».

لكن المحكي عن العلامة و غيره البسملة بينهما للإثبات في المصاحف، و عدم منافاة ذلك لوحدة السورة كما في سورة النمل، كما أنه لا ملازمة بين تركها و الوحدة كما في سورة برائة، بل ربما يقال: إن

في صحيح زيد «2» الشحام: قال: صلى بنا أبو عبد اللّه عليه السّلام فقرأ (و الضحى) و (ألم نشرح) في ركعة «3»

، دلالة عليه، إذ لو ترك عليه السّلام البسملة لذكره الراوي أيضا كما ذكر الجمع، و لذا قيل: إن البسملة أحوط، و الأحوط منها تركهما في الفريضة رأسا، و تمام الكلام في مقام آخر، و قد سمعت بعض الكلام في المقدمات.

و على كل حال فحيث قد ثبت كون البسملة جزءا من السور، بل آية برأسها، بل ستسمع اشتمالها على جميع ما في القرآن من الأمور التشريعية و التكوينية مما كان أو يكون فلنشر بعض حقائقها في فصول:

______________________________

(1) فقه الرضا: ص 9، و عنه مستدرك الوسائل: ج 4/ 164، ح 4384.

(2) هو زيد بن محمد بن يونس أبو أسامة الشحام الكوفي، من أصحاب الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السّلام، وثقه النجاشي في رجاله: ص 175.

(3) وسائل الشيعة: ج 2/ 743، الباب 10 من أبواب القراءة في الصلاة، عن التهذيب:

ج 1/ 225.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 109

الفصل الأوّل
الباء

في الباء و البحث فيها مرة في الأحكام

اللفظية، و أخرى في الحقائق العلمية.

أمّا الأحكام اللفظية فاعلم أنّ الباء من الحروف المفردة المعانيّة التي لها معنى حرفي لا المبانيّة التي يتركب منها الكلام، و من حقّها أن تفتح فإنهم لمّا بالغوا في تخفيفها بوضعها في الأصل على حرف واحد، و كانت مبنيّة، و الأصل في البناء السكون، و تعذر الابتداء بالساكن بنوها على الفتح، لأنه أخفّ الحركات لكنهم قالوا: إنّها لمّا اختصت من بين الحروف بلزوم الحرفية، و الجر المقتضي لزوم كل منهما لمناسبة الكسر مناسبة ضعيفة لاقتضاء الحرفية عدم الحركة و الكسر يناسب العدم لقلته، بل لعدمه في الفعل، و اقتضاء الجر موافقه حركتها لأثرها، فلذلك كسروها، كما كسروا لام الجارّة، و لام الأمر دفعا لالتباسهما بلام الابتداء، و لذا فتحوا الداخلة على المضمر سوى ياء المتكلم المكسورة للمناسبة، إذ اللبس مرتفع بجوهر المدخول عليه، بخلاف الداخلة على المظهر.

و الفرق بالإعراب لا يجدي في المبنى و ما قدر إعرابه أو وقف عليه، و لم يعكسوا بأن يجر و الجارّة على الأصل الذي هو الفتح دون الابتدائية لملاحظة ترافق العامل و أثره.

و أمّا الداخلة على المستغاث فإنما فتحت لتتميّز من المستغاث له مع أنه في موضع ضمير أدعوك، فكأنها داخلة على المضمر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 110

و سميت بحروف الجارّة لأنها وضعت كأخواتها لأن تجرّ معنى الفعل إلى الاسم و لذا سميت أيضا حروف الإضافة و الحروف المفضية لقضية الإضافة و الإفضاء.

و من هنا قال الزمخشري: حروف الجرّ كلها تسمى حروف الإضافة لأنها تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء، فإنك إذا قلت مررت بزيد لا يصل معنى المرور إلى زيد إلا بواسطة الباء التي هي للتعدية.

و معانيها و إن كانت كثيرة، بل أنهاها بعضهم

إلى أربعة عشر، و أخر إلى أزيد، لكن أمّ معانيها و الأصل فيها هي الإلصاق، و لذا قيل: إنّه معنى لا يفارقها، و به عللّ اقتصار سيبويه عليه، لكنّ الحق أنها معان متغايرة تحمل في كل موضع على ما هو الأنسب بها، و إن كان غير الإلصاق، و لذا اختلفوا في المقام بعد القطع بعدم كونها له في أنها للمصاحبة أو للاستعانة على قولين:

فعن البعض الأوّل و اختاره الزمخشري و أتباعه، و رجّح بأن التبرك باسمه تعالى أدخل في الأدب من جعله آله، لتبعية الإله و ابتذالها.

و بأنّ باء المصاحبة في نفسها أكثر استعمالا من باء الاستعانة، لا سيما في المعاني و ما يجري مجراها.

و بأن جعله آلة يشعر بأنه غير مقصود لذاته.

و بأنّ ابتداء المشركين باسم آلهتهم كان على وجه التبرك، فقصد التبرك أدخل في الردّ عليهم.

و بأنّ باء المصاحبة أدلّ على ملابسة أجزاء الفعل لاسم اللّه تعالى من باء الآلة و الاستعانة.

و بأنّ كون اسم اللّه تعالى آلة للفعل ليس إلّا- باعتبار أنه يتوصل إليه ببركته، فقد رجع إلى معنى التبرك به فليقل به أولا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 111

و يضعف الأوّل بأنّ الاستعانة غير منحصرة في الآلات التي لا يصلح استناد الفعل إليها لضعفها، و إنّما الوسائط بين الفاعل و فعله بالاستعانة بمعنى طلب العون و القوة، و لذا يكون كثيرا بالقوي السديد، و الإيواء إلى ركن شديد.

و

في كلام أمير المؤمنين روحي له الفداء في وصيته لابنه الحسن عليه السّلام: «و استعن بالذي خلقك و رزقك» «1».

و لعل ما ذكرناه هو المراد بما قيل من أنّ للآلة جهتين: جهة تبعية و ابتذال وجهة توقف و احتياج، و هذه الثانية هي الملحوظة في

المقام.

و الثاني بأنّ مجرّد كثرة الاستعمال على فرضها إنما يصلح مرجحا لأحد المعنيين على فرض تساوي نسبة اللفظ إليهما و عدم رجحان أحدهما في نفسه، و لعل للمانع دعوى رجحان الاستعانة في المقام بالنظر إلى المعنى، بل دعوى الغلبة النوعية المقدمة على الغلبة الجنسية.

و الثالث: بما مر في الأول.

و الرابع: بأن الاستمداد و الاستعانة أقرب إلى التبرك به لاشتماله مضافا اليه على ما هو كالحجة و البرهان على أنه ينبغي التبرك به لا بغيره، و ستعرف أنه لا مانع من إرادتهما معا في المقام، مع أنّ كون المراد خصوص ردّ المشركين ممنوع.

و الخامس: بالمنع من عدم دلالة باء الاستعانة على ملابسة جميع أجزاء الفعل لما هو ظاهر من أنّ الاستعانة في الكل استعانة في الأجزاء.

مع أنه يمكن أن يقال: إنّ كون الباء للمصاحبة أقرب إلى توهم الشرك و مقابلة فعل العبد لفعل اللّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، و باء الاستعانة أدلّ على

______________________________

(1)

في نهج البلاغة: الكتاب (31) و تحف العقول: ص 49: فاعتصم بالذي خلقك ... تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 112

التوحيد و التفريد، كما قال اللّه تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ «1».

و قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «2».

و قوله سبحانه على ما

أخبر به عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا ابن آدم! بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، و بفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، و بعصمتي و عفوي و عافيتي أدّيت إلى فرائضي، فأنا أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بذنبك مني» الخبر «3».

و السادس: بأن المصاحبة و الاستعانة مشتركتان في معنى التبرك،

إلا أنك قد سمعت الفرق بينهما بأن الأولى أقرب إلى الشرك، و الثانية أدل على التوحيد.

و من جميع ما سمعت يظهر وجوه أخر لترجيح كونها للاستعانة على ما ذهب إليه كثير من المتأخرين، مضافا إلى إشعاره على كونه تعالى هو المفيض للقوى و الآلات و الأدوات التي بها يتمكن العبد و يقتدر على فعل الطاعات و المعاصي، بل جميع الأفعال، و أنّه هو الملهم الموفق لاختيار الحسنات و اجتناب السيئات بعد صلوح الآلات و الأدوات للأمرين و معرفته للنجدين، كما أشير إليه في الحوقلة لا حول من المعاصي، و لا قّوة على شي ء من الطاعات، بل الأفعال إلّا بإعانة اللّه تعالى، و في بعض الانتقالات الصلواتيّة: بحول اللّه و قوّته أقوم و أقعد، و أنّه تعالى هو القيّوم الحقّ، و الفيّاض المطلق، فكلّ شي ء سواه قام بأمره، كما في الخطبة العلويّة بلا فرق بين الذوات و الصفات و الأفعال، و اليه الإشارة بقوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ «4» و أنّ ذكر الاسم الكريم عند ابتداء الفعل، بل

______________________________

(1) النساء: 89.

(2) النساء: 88.

(3) عيون أخبار الرضا عليه السّلام: ج 1/ 144- 145، مع تفاوت في العبارات.

(4) الروم: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 113

للتوسّل في الأفعال سيّما الخيرات بالأسماء اللفظيّة فضلا عن الحقيقيّة الّتي هي السبل و الوسائل و الشفعاء عند اللّه باذنه تعالى وسيلة إلى إتمام الفعل و وقوعه على الوجه الأكمل الأفضل الأسهل حتّى كأنّه لا يتأتّى له ذلك بل لا يوجد أصلا إلّا بذلك.

و أمّا ما ذكره ثاني الشهيدين في شرح اللمعة: من أنّ كونها للملابسة أدخل في التعظيم، و للاستعانة لتمام الانقطاع لاشعاره بأنّ الفعل لا يتمّ

بدون اسمه تعالى.

ففيه أنّ المفضّل عليه في الأوّل ليس هو المفضّل في الثاني و إن جمعهما الاستعانة فإنّه أحدهما أولا على وجه الآليّة و الابتذال، و أخيرا على معنى العون و القوّة فلا تغفل.

ثمّ إنّ هذه الوجوه و إن دلّت على إرادة الاستعانة منها إلّا أنّها لا تمنع من إرادة غيرها أيضا فانّ المصاحبة على بعض الوجوه اللائقة بالمقام ملازمة للاستعانة.

و توهم أنه من قبيل استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي و المجازي، أو المشترك في معنييه، و إن كلا منهما غير جايز، بعيد عن الصواب بمراحل، فإنه مع الغض عما في الحكم بعدم الجواز على بعض الوجوه حسبما قرر في محله لا يخفى أن الأصل في معاني الباء و أمها و أسها على ما يظهر من إشارات كلماتهم هو الإلصاق، و غيره من المعاني راجعة إليه بإضافة بعض الخصوصيات التي يقتضيها خصوص الموارد، فحقيقة الاستعانة هو الالتصاق و الاتصال الحسي أو المعنوي بالمعين أو بالآلة، و معنى المصاحبة هو المعية الوجودية أو الفعلية أو الانفعالية حسية كانت أو معنوية و مرجعها إلى نحو من الإلصاق مغاير للمعنى المتقدم.

و للسببية التي هي إلصاق المسبب لسببه لقضية السببية، إلى غير ذلك من معانيها التي مرجعها إلى الإلصاق، و إن كان إرجاع بعضها إليه لا يخلو من تكلف،

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 114

و لذا أشرنا سابقا إلى أنها معان مختلفة متغايرة.

و أما متعلق الباء ففيه وجوه ثمانية، فإنه إما فعل، أو اسم يشبهه و على الوجهين إمّا عام أو خاص مؤخّر عن الظرف أو مقدم عليه.

لكن قد يقال: إن الأولى هو الأوّل و هو الخاص الفعلي المؤخر.

أما الخصوص فلأن العام كمطلق الابتداء يوهم بظاهره قصر الاستعانة على ابتداء

الفعل فيفوت شمولها لجملته.

أقول: و يؤيده أن المناسبة في كل فعل أن يقدّر ذلك الفعل، فتكون الاستعانة سارية في جميع أجزاء الفعل، على أن القصد و هو العمدة في المقام متوجه نحو التوسل و الاستمداد في خصوص ما يباشره من الفعل و لذا ينبغي لكل فاعل أن يضمر ما يجعل التسمية مبدءا له، فالداخل يضمر «بسم اللّه أدخل» و الخارج يضمر «بسم اللّه أخرج» و المتكلم يضمر «بسم اللّه أتكلم»، و القارئ يضمر «بسم اللّه أقرأ» و هكذا.

و إنّما حذف المتعلق لدلالة المقام و سياق الكلام عليه.

و يدل عليه أيضا ما

روي في «تفسير الإمام عليه السّلام»، و في «التوحيد» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «بسم اللّه يعني بهذا الاسم أقرأ أو أعمل هذا العمل» «1».

نعم،

في رواية أخرى عنه عليه السّلام قال: «بسم اللّه أي أستعين على أموري كلها باللّه الذي لا تحق العبادة إلا له، المغيث إذا استغيث، و المجيب إذا دعي» «2».

و لعل المراد التعبير عن معنى الباء، أو أن الجمع باعتبار الموارد، لبيان خصوص المتعلق، فلا يكون منافيا لما مر، بل فيه دلالة على كون الباء للاستعانة كما مر.

______________________________

(1) تفسير الصافي: ج 1 في تفسير سورة الفاتحة: ص 50 عن التوحيد، و تفسير الإمام عليه السّلام.

(2) نفس المصدر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 115

نعم ها هنا مقام آخر، و هو أن العارف ربما يكون في مقام الانبساط الجمعي فلا يخصص شيئا من الأفعال بالاستعانة فيه و إن كان مشتغلا به، و قد يكون أيضا ملتفتا إلى شؤونه الجزئية المتكثرة التي لا تحصى فيحمل الجميع بالذكر باعتبار الجمع، مع أنه ربما يكون في التخصيص الإيهام بعدم الحاجة إلى الاستعانة في غيره، و إن

كان قد يكون لزيادة الاهتمام فيه بالخصوص.

و

في «العيون» و «المعاني» عن الرضا عليه السّلام قال: «بسم اللّه يعني أسم نفسي بسمة من سمات اللّه و هي العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال: العلامة» «1».

و هو مبنيّ على أنّ الاسم من الوسم بمعنى العلامة، يعني أعلم نفسي بعلامة اللّه و هي العبادة التي جعلها علامة و سمة لعباده بها يمتازون عن غيره، فالمتعلق حينئذ ما يشتق منه.

و أما الفعلية فلأنها لدلالتها على التجدد و الحدوث أقرب إلى التوسل و التذلل و دوام الانقياد و الاستمداد من منبع الفيض و الجود و سيلان الاستفاضة من تجليات شمس الوجود.

هذا مضافا إلى احتوائه على ركني الكلام الذين هما المسند و المسند إليه، مع أنّ إضمار المسند إليه يوجب تعلق الباء بغيره.

ثم إنّه قد ذكر ثاني الشهيدين و بعض من تأخّر عنه أن الباء إن كانت للملابسة فالظرف مستقرّ حال من ضمير أبتدء الكتاب كما في دخلت عليه بثياب السفر، و إن كانت للاستعانة فالظرف لغو كما في كتبت بالقلم، و فيه نظر، إذ كما يمكن استفادة الاستعانة من الباء في الثاني مع تعلقها بالكتابة، كذلك يمكن في الثاني استفادة

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا عليه السّلام: ج 1/ 260- 261، ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 116

التلبس منها مع تعلقها بالدخول، فيحتمل الأمرين كما نبّه عليه نجم الأئمة «1» و غيره.

و أما التأخر فلدلالته على حصر المستعان به في اسم اللّه تعالى.

و قد يؤيد أيضا بأنه سبحانه لقدمه سابق في الوجود فيستحق اسمه السبق في الذكر مع كونه أدخل في التعظيم و أنسب بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «2» و أقرب إلى قوله: «ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه قبله» «3».

و لعل

الخطب في ذلك كله سهل، سيّما بعد وروده في القرآن على الوجهين كقوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها «4».

و قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «5».

بل قد سمعت ورود الخبرين المتقدمين على الوجهين.

و قد تبيّن مما ذكرنا أنّ موضع المجرور منصوب على المفعولية، و قيل: إنه مرفوع على تقدير مبتدأ، و هو ابتدائي، أو قراءتي، على أن يكون المقروء ما يلي البسملة، و أما إذا أردتها به فعلى الحكاية.

و أما الحقائق العلمية فاعلم أنّ الباء هي الحجاب الأعظم و الباب الأقدم، و النقطة الجوالة، و الرحمة السيالة، و باكورة الجنان، و نفس الرحمن، و سر الخليقة، و مفتاح الحقيقة، و الاستقامة على الطريقة، و مظهر الوجود، و امتياز الشاهد من

______________________________

(1) نجم الأئمة: الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الاسترآبادي النحوي شارح الكافية و الشافية، توفي سنة (686) ه.- سفينة البحار: ج 3/ 373.

(2) الفاتحة: 4.

(3) مرصاد العباد: ص 305 و فيه: ما نظرت في شي ء و قائله محمد بن واسع الزاهد البصري المتوفي سنة (123) ه.

(4) هود: 41.

(5) العلق: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 117

المشهود، و العابد من المعبود، و القاصد من المقصود.

فروى الشيخ الجليل البرسي «1» في «مشارق الأنوار» عن مولانا أمير المؤمنين روحي و روح العالمين له الفداء و عليه و على أخيه و ذريته آلاف التحية و الثناء أنه قال: «ظهرت الموجودات من باء بسم اللّه و أنا النقطة التي تحت الباء» «2».

و

قال عليه السّلام: «من الباء ظهر الوجود، و من النقطة تميّز العابد من المعبود» «3».

و

قال عليه السّلام: «بالباء عرفه العارفون، و ما من شي ء إلّا و الباء مكتوبة عليه، و هي الحجاب» «4».

و

قال عليه السّلام كما في «أسرار الصلاة» و غيره: «لو

شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير باء بسم اللّه» «5».

و

عن ابن عباس عنه عليه السّلام: «أن كل ما في العالم في القرآن و كل ما في القرآن بأجمعه في فاتحة الكتاب، و كل ما في الفاتحة في البسملة، و كل ما في البسملة في الباء، و أنا النقطة تحت الباء» «6».

قال الشيخ الجليل محمد «7» بن أبي جمهور في «المجلي»: اعلم أن قائل

«أنا

______________________________

(1) الحافظ الشيخ رجب البرسي، فاضل، محدث، شاعر، أديب من علماء الإمامية في أواخر القرن الثامن و فرغ من كتابه «المشارق» سنة (774) ه تقريبا و لا يعتمد المتأخرون على ما تفرد بنقله.

(2) مشارق الأنوار: ص 21 و 38.

(3) مشارق الأنوار: ص 38، و فيه: و بالنقطة تبين العابد عن المعبود.

(4) نفس المصدر: ص 38.

(5)

عوالي اللئالي: ج 4/ 102، ح 150. المناقب لابن شهر آشوب: ج 2/ 43. و رواه في منهج الصادقين: ج 1/ 23 و فيه: سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الكتاب.

(6) في شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمي ص 32 ما في معناه بتفاوت يسير.

(7) هو أبو جعفر محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي الهجري المتوفى تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 118

النقطة تحت الباء»

هو علي عليه السّلام دون غيره من الكمّل، نقله عنه أكابر الصحابة كسلمان، و أبي ذرّ، و كميل بن زياد، و غيرهم، و أولاده عليهم السّلام» «1».

و رواه عنه ذلك في الخطبة الطويلة الافتخارية التي

قال فيها ما هو أعظم من هذا، حتى قال فيها:

«أنا وجه اللّه، أنا جنب اللّه، أنا يد اللّه، أنا عين اللّه، أنا القرآن الناطق، أنا البرهان الصادق، أنا اللوح المحفوظ، أنا القلم الأعلى، أنا ألم ذلك الكتاب، أنا

كهيعص، أنا طه، أنا حاء الحواميم، أنا طاء الطواسين، أنا الممدوح في هل أتى، أنا النقطة التي تحت الباء» «2».

و

روى فيه في موضع آخر: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «ظهرت الموجودات من باء بسم اللّه الرحمن الرحيم» «3».

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من باء بسم اللّه الرحمن الرحيم» «4».

قال: و تكلم فيه لابن عباس من أول الليل إلى آخره و

قال: يا بن عباس! لو طال الليل لطلنا لك.

و

ورد عن الكمّل: بالباء ظهر الوجود، و بالنقطة تميز العابد من المعبود «5».

______________________________

(940) ه.- الردود و النقود لآية اللّه المرعشي ص 1.

(1) المجلي لابن أبي جمهور الاحسائي: ص 409.

(2) راجع مشارق الأنوار: ص 160- 172، فإنه نقل خطبا عنه عليه السّلام في تعريف ذاته.

(3) المشارق: ص 21 و 38.

(4)

عوالي اللئالي: ج 4/ 102. و في لطائف المنن: ج 1/ 171: لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيرا من معنى الباء.

(5)

مشارق الأنوار: ص 38 و فيه: و بالنقطة تبين العابد عن المعبود. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 119

قال شيخنا التقي «1» المجلسي رحمة اللّه عليه في «روضة المتقين»: في المشهور بين الخاصة و العامة عن عبد اللّه بن عباس أنه قال: كنت ليلة عند أمير المؤمنين عليه السّلام و سألت عن تفسير الحمد، فشرع في تفسير بسم اللّه و قاله حتى أصبحنا فقلت له: يا أمير المؤمنين طلع الصبح و لم يتم تفسير بسم اللّه، فقال عليه السّلام: لو أردت بيانها لأوقرت سبعين جملا من تفسيرها «2».

ثم قال المجلسي رحمه اللّه: و ذكر العالم الرباني، و الفاضل الصمداني السيد حيدر الآملي «3»: «إنه صلوات اللّه عليه تكلم على

قدر فهم الخلايق، و إلا فأنا عبد من عبيده و استفضت من أنواره صلوات اللّه عليه قادر على أكثر من ذلك.

أقول: و مجمل الإشارة إلى بعض اسرار النقطة أنّ الكتاب التدويني طباق و وفاق للكتاب التكويني، و قد قوبل به فما زاد منه و لا نقص بحرف من الحروف، و لذا قد وضع لكل حقيقة من الحقائق و لكل سر من الأسرار، و نور من الأنوار عبارة من العبارات، و كلمة من الكلمات و حرف من الحروف.

نعم، لو لم يكن الإذن في إظهاره يقفل باب البيان و اللسان و الجنان بقفل غيبي ملكوتي لا يهتدي صاحبه إلى مفتاحه سبيلا إلّا بعد حصول الإذن، و إلا فجميع الحقائق و المراتب و العوالم و المقامات المترتبة في السلسلة العرضية و الطولية في قوسي الهبوط، و الصعود مندرجة متنزلة في كسوة الحروف و الألفاظ في كتاب اللّه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، كما قال عز من قائل:

______________________________

(1) هو المولى محمد تقي بن علي المجلسي المولود (1003) ه و المتوفى (1070) ه.

(2) روضة المتقين: ج 2/ 313، باب وصف الصلاة.

(3) هو السيد حيدر بن علي حيدر الحسيني الآملي الصوفي كان حيا في سنة (781) ه و في تلك السنة صنف في تأويل القرآن في سبع مجلدات.- أعلام الشيعة ج 3/ 66.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 120

نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» و وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ «2» و وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «3» و وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «4».

و الأخبار في هذا

المعنى متظافرة متكاثرة، بل متواترة، فبسائط الكلمات و هي الحروف محتوية على بسائط العالم و حقائقها.

و لذا

قال مولانا الرضا عليه السّلام في خبر عمران الصابي: «اعلم أن الإبداع و المشية و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة، و كان أول إبداعه و مشيته و إرادته الحروف التي جعلها أصلا لكل شي ء، و دليلا على كل مدرك، و فاصلا لكل مشكل، و بتلك الحروف تفريق كل شي ء من اسم حق أو باطل أو فعل، أو مفعول، أو معنى، أو غير معنى، و عليها اجتمعت الأمور كلها، و لم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهى و لا وجود لها، لأنها مبدعة بالإبداع، و النور في هذا الموضع أو فعل اللّه الذي هو نور السماوات و الأرض، و الحروف هي المفعول بذلك الفعل، و هي الحروف التي عليها الكلام و العبارات» «5».

فالحروف باعتبار انبساط النقطة فيها و احتوائها عليها تسمى فعلا، كما عبر به الإمام عليه السّلام أولا، و باعتبار تميزها عن النقطة و تحصلها منها تسمى مفعولا كما أشار إليه ثانيا. فعلى هذا فالفعل الذي هو المشية و الإرادة و الإبداع هو النقطة التي خلقها اللّه تعالى بنفسها و خلق الحروف بها.

______________________________

(1) النحل: 89.

(2) يوسف: 111.

(3) الأنعام: 59.

(4) يس: 12.

(5) بحار الأنوار: ج 10/ 314، عن توحيد الصدوق و عيون الأخبار.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 121

كما

روي في «الكافي» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «خلق اللّه المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة» «1».

و هذه هي المشية التدوينية التي تطابق المشية التكوينية، بل هي هي بعينها، نزلت من جبروت الحقيقة إلى ناسوت الحروف، فهي مادة المواد، و حقيقة الحقائق، و الواحد البسيط في الممكنات

و الموجودات و اسطقش الأسطقسات و منها ظهرت الموجودات كما في الخبر النبوي المتقدم.

و هي القطب الذي تدور رحى الكائنات، و إليه الإشارة

في الخطبة الشقشقية بقوله: «و إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى».

أي من الخلافة المطلقة الكلية التكوينية و التشريعية، و لذا عقبه

بقوله: «ينحدر عني السيل و لا يرقى إلى الطير» «2».

فهي القطب الأعظم و العماد الأقوم، و إليها الإشارة بقوله تعالى:

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «3».

و للّه در من قال:

قد طاشت النقطة في الدائرةو لم تزل في ذاتها حائرة

محجوبة الإدراك عنها بهامنها لها جارحة ناظرة

سمت على الأسماء حتى لقدقومّت الدنيا على الآخرة

و مما مر ظهر سر ما في الخبر من ظهور الموجودات بها و منها، فإن المشية الكلية هي الوجود المطلق المفاض من الوجود الحق، فإن الوجود ثلاثة:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/ 145، ح 20 عن «التوحيد» للصدوق.

(2) نهج البلاغة: الخطبة الثالثة.

(3) البقرة: 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 122

الوجود الحق.

و الوجود المطلق.

و الوجود المقيد.

و الأول: هو المجهول المطلق الذي لا سبيل إلى معرفته بوجه من الوجوه، من اسم أو رسم، أو نعت، أو وصف، أو إضافة، أو جهة، أو غير ذلك من السبحات و الإضافات، فإن إلى ربك المنتهى، و

في النبوي: «إذا انتهى الكلام إلى اللّه فأمسكوا» «1».

و

عن الباقر عليه السّلام: «كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم ...» الخبر «2».

و الوجود المطلق هو المحبة الكلية، و المشيئة الإلهية، و الإبداع الأول و النور الذي أشرق من صبح الأزل.

إلى غير ذلك من ألقابه الشريفة، و هو المعبّر عنه في المقام بالنقطة، و باء

بسم اللّه، و الحجاب الأعظم.

و لذا

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «بالباء عرفه العارفون، و ما من شي ء إلا و الباء مكتوبة عليه، و هي الحجاب» «3».

أما إنّ العارفين عرفوه بها فلأن المشيئة الكلية لها جهتان:

جهة بسيطة واحدة متوجهة نحو المبدأ الفيّاض، و له المقام الإقبالي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 3/ 246، ح 22، عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام.

(2) شرح مسألة العلم لنصير الدين الطوسي: مسألة 15/، ص 43، و جامع الأسرار للسيد حيدر الآملي: ص 142، نقلا عنه، و القبسات للمحقق الداماد ك ص 343 نقلا عن الطوسي أيضا.

(3) مشارق أنوار اليقين: ص 38.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 123

الاستفاضي. و جهة متعددة بتعدّد الموجودات، و له المقام الإدباري الإفاضي، فإن لكل موجود من الموجودات وجها من المشية يعبّر عنه بالمشية الجزئية، و هي ذاته و حقيقته و كنهه الذي يبقى بعد كشف جميع الصفات و السبحات و الاعتبارات و هي كنه الذات، و سر الارتباط كما

لوحّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه الإشارة بقوله في العقل: «إنه ملك و له رؤوس بعدد الخلائق أجمعين من خلق و من يخلق إلى يوم القيامة، و لكل رأس وجه، و لكل آدمي رأس من رؤوس العقل ...» الخبر «1».

فالعارف إذا قرع باب المعرفة، و أراد الصعود إلى سرادق القدس، و حريم حرم الأنس فليس له سبيل و طريق إلى الصعود إلّا من الطريق الذي نزل منه و ذلك بكشف سبحات الجلال، و التجرد و الانخلاع عن غواشي جهات الأوصاف و الأحوال، بشرط اضمحلال الإنانيّة، و هو المراد بسلب الإشارة في قوله:

«كشف سبحات الجلال من غير إشارة».

و إليه أشار القائل بقوله:

بيني و بينك

(إنّي) ينازعني فارفع بلطفك (إنّي) من البين

فإذا ارتفعت الإنيّة و اضمحلت الهويّة، و لم تبق سوى المشية الجزئية المتصلة بالكلية، بل المنتهية إليها، بل المتبدلّة بها لا بحقيقة التبدّل، بل بمعنى أنه لم يبق سواها، لأن الجزئي إذا ألقى جلبات المشخصات و تجرّد عن التقيد بالخصوصيات فهو الكلي بعينه لا من حيث إنّه كلي، بل من حيث هو هو، فتجلّى الحق سبحانه له به فيه، كما

قال مولانا على بن موسى الرضا عليهما آلاف التحيّة و الثناء.

«بها تجلى صانعها للعقول» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1/ 99، ح 14.

(2) البحار ج 4 ص 230 من التوحيد، و العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 124

و قال الشاعر:

إذا رام عاشقها نظرةو لم يستطعها فمن لطفها

أعارته طرفا رآها به فكان البصير بها طرفها

و أمّا كتابة الباء على كل شي ء فلأن شمس المشيئة الكلية أشرقت على كل شي ء فظهر بها كل شي ء، و لولاها لم يظهر شي ء.

فكل جميل حسنه من جمالهامعار له بل حسن كل مليحة

و هذه الكتابة كتابة تكوينية إمكانية أو كونية بها ظهر كل ما دخل في صقع الإمكان أو الأكوان، و هذه الكتابة أدلّ على المعنى المراد من مجرد النقش الذي هو من نهايات مراتب الوجود، بل هي عين المكتوب و المكتوب فيه بلا مغايرة أصلا.

ثم اعلم أن من القواعد المصونة المكنونة في علم الحروف أنّ لكل كلمة من الكلمات وجها و قلبا، فوجه الكلمة هو الحرف الأول و قلبها هو الحرف الوسط و على هذا المطلب دلالات و إشارات من الكتاب و السنة، و لذا

ورد في تفسير بِسْمِ اللَّهِ الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه، و الميم مجد اللّه «1».

و

عن الكاظم عليه السّلام: «أما حم

فهو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو في كتاب هود الذي أنزل عليه، و هو كتاب منقوص الحروف» «2».

و

عن الحجة عجل اللّه فرجه الشريف في تفسير كهيعص أن الكاف اسم كربلاء، و الهاء هلاك العترة، و الياء يزيد لعنه اللّه، و العين عطش الحسين عليه السّلام و عترته، و الصاد صبره» «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في تفسير فواتح السور و غيرها، بل

______________________________

(1) الكافي: ج 1/ 114، ح 1.

(2) بحار الأنوار: ج 14/ 87، ح 2.

(3) بحار الأنوار: ج 92/ 377، ح 8 عن «إكمال الدين».

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 125

وقع ذلك كثيرا في رموز الحكماء و إشارات العلماء.

قال الشيخ الرئيس ابن سيناء «1» في قصيدته الروحية التي مطلعها:

إلى أن قال:

هبطت إليك من المحلّ الأرفع و رقاء ذات تعزّز و تمنع

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطهاعن ميم مركزها بذات الأجرع

علقت بهاء ثاء الثقيل فأصبحت بين المعالم و الطلوع الخضع

الأبيات ...

و لذا يعبّرون عن علم الكيما بعلم الكاف.

و سمعت عن بعض الأعلام: أن مجنون ليلى، و زيد المجنون، أو بهلول العاقل لمّا اشتد عليهما أمر التقية كتبا إلى بعض الأئمة، و لعله أبو محمد العسكري عليه السّلام يسألانه بيان كيفية التخلص من كيد المخالفين، فكتب عليه السّلام على ظهر كتاب مجنون ليلى حرف العين هكذا: (ع) يشير به إلى العشق، و على ظهر كتاب زيد المجنون حرف الجيم هكذا: (ج) إشارة إلى الأمر بالجنون، فأظهر الأول الأول و الثاني الثاني، فاشتهرا بالأمرين، حتى صارا أعجوبة للأعيان و أضحوكة للصبيان.

و

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لابن عباس: «كيف إذا ظلمت العيون العين؟

فقال له: يا مولاي

كلمتني بهذا مرارا و لم أعلم معناه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جوابه ما حاصله:

إنّ العين هو علي بن أبي طالب و عترته: و العيون هم الذين يعادونه، و صرّح

______________________________

(1) هو الحسين بن عبد اللّه بن الحسن الفيلسوف الطبيب المتوفى (427) ه. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 126

بأسماء بعضهم» «1».

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الباء إشارة إلى باب مدينة العلم و الحكمة، كما

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا مدينة العلم و علي بابها» «2».

و

في بعض الأخبار: «أنا مدينة الحكمة و علي بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها» «3».

و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «4».

و قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ «5».

في حب أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام حيث أظهروا الولاية، و أضمروا العداوة، لذا وصفهم برذيلة النفاق للذين آمنوا بألسنتهم و قلوبهم و عقائدهم و جوارحهم، انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ «6» فنسعى معكم بنور الولاية و يشملنا مواهب العناية و الهداية قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ «7» أي إلى الدنيا فإنها هي دار الزراعة و التجارة، و موطن تحصيل المحبة و الولاية، و لذا أمروا سخرية و استهزاء

______________________________

(1)

في معاني الأخبار: ص 387، ح 21 مسندا عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا ظلمت العيون العين كان قتل العين على يد الرابع من العيون فإذا كان ذلك استحق الخاذل له لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين، فقيل له: يا رسول اللّه! ما العين و ما العيون؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أما العين فأخي علي بن

أبي طالب، و أما العيون فأعداؤه، رابعهم قاتله ظلما و عدوانا.

(2) بحار الأنوار: ج 40/ 306.

(3) البحار: ج 69/ 81.

(4) سورة البقرة: 189.

(5) سورة الحديد: 13.

(6) الحديد: 13.

(7) الحديد: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 127

بالرجوع إلى الدنيا لالتماس نور الولاية فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ «1» مدينة العلم و الحكمة، و هو حقيقة النبوة التي ما رعوها حق رعايتها، و ما أجابوها حق إجابتها، و لهذا السور باب و هو باب مدينة العلم، و هو باب الأبواب و فصل الخطاب، و صاحب المبدأ و المآب، و من عنده علم الكتاب و هو الذي إليه الإياب، و عليه الحساب، الملقب بأبي تراب، باطنه لمحبيه الرحمة، و ظاهره لمبغضيه من قبله العذاب، و لذا

قال النبي صلى اللّه و آله في تفسير الآية: «أنا السور و عليّ الباب» «2».

ثم إن مقتضي البابية هو التصرف و الوساطة و الولاية المطلقة في جميع الأمور التكوينية و التشريعية، و في جميع الفيوض و الظاهرية بحيث لا يصل إلى ذرة من ذرأت وجود الشي ء من الفيوض الإيجادية و الإبقائية، و مدد من الإمدادات الذاتية و الصفاتية إلا بولايته و وساطته و إحاطته، و هذا هو الذي أشير إليه

في الحديث القدسي على ما قيل أنه من تتمة الخبر: «لولاك لما خلقت الأفلاك، و لو لا علي لما خلقتك» «3»

أي لو لا علي لم يكن لمدينة علمك و حكمتك التي ينتفع بها جميع العالم حتى آدم و من دونه باب ينتفع به منها.

و لذا

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا صاحب اللواء و في تحتها آدم و من دونه من الأنبياء، و عليّ حاملها» «4».

و إلى هذه الإحاطة و الوساطة

أشار الحجة عجل اللّه

فرجه الشريف في الدعاء الرجبية بقوله: «أعضاء، و أشهاد، و مناة، و أزواد، و حفظة، و رواد» «5».

______________________________

(1) الحديد: 13.

(2) بحار الأنوار: ج 7/ 227، ح 148.

(3)

في بحار الأنوار: ج 15/ 28 «لولاك لما خلقت الأفلاك»

و

في ينابيع المودة: ج 1/ 24 «لولاك لما خلقت الأفلاك»

، و الجملة الثانية غير مذكورة فيهما.

(4) ينابيع المودة: ج 2/ 263، ح 737 و «علي حاملها» غير موجود فيه.

(5) مصباح الكفعمي: ص 524.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 128

و

في «الكافي» عن محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السّلام فأجريت اختلاف الشيعة، فقال عليه السّلام: «يا محمد إن اللّه تبارك و تعالى لم يزل متفردا بوحدانيته، ثم خلق محمدا و عليا و فاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها و أجرى طاعتهم عليا، و فوض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاءون، و يحرّمون ما يشاءون، و لن يشاءوا إلا أن يشاء اللّه تبارك و تعالى.

ثم قال: يا محمد! هذه الديانة التي من تقدمها مرق و من تخلف عنها محق، و من لزمها لحق خذها إليك يا محمد» «1».

فالباء إشارة إلى باب مدينة العلم و بيت الحكمة و هو أول بيت وضع للناس، و من دخله كان آمنا.

و لذا

قال الرضا عليه آلاف التحية و الثناء: «إن اللّه سبحانه و تعالى يقول: لا إله إلا اللّه حصني فمن دخل حصني وجبت له الجنة، ثم قال عليه السّلام: بشرطها و شروطها و أنا من شروطها» «2».

و إنما لم يكتف عليه السّلام بذكر الشروط من الشرط مع وضوح شمول الجمع للمفرد، للإشارة إلى ترتب المراتب، و صيانة للأدب مع جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

فإن الشرط إشارة إلى التصديق بنبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الشرائط إشارة إلى الإيمان بأوصيائه و كافة شريعته و لذا عدّ نفسه الشريفة من جملة الشروط لا الشرط.

و حيث إنّ الباء في «بسم اللّه- الباب الذي هو أمير المؤمنين عليه السّلام، فالسين هو سيد المرسلين صلوات اللّه عليه و آله أجمعين، كما قال [يس على أن الياء للنداء».

و قال: سبحانه: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15/ 19، ح 29 عن أصول الكافي: ج 1/ 441.

(2) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 1/ 238 في شرح خطبة (2).

(3) الصافات: 130.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 129

و ذلك لما نبّهت عليه في موضع آخر من أنّ السين من الحروف النورانية و هي نظير الألف في الترتيب الأبجدي، و الألف إشارة إلى الصادر الأوّل الذي هو مقام الفعل أي المشيئة الكلية، أو المفعول المطلق، أي العقل الكلي، و هو على الوجهين نور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا من جهة البساطة و الوجه الإقبالي و الاستفاضي الجبروتي فيتجلى في عالم الناسوت، و في الوجه الإدباري الإفاضي بصورة السين التي زبرها مطابق لبيّنتها تنبيها على أنه لا يشغله شأن الاستفاضة عن شأن الإفاضة، و أنه في غاية الكمال و الإستواء فيهما و أنه مظهر العدل الذي به قامت السماوات و الأرض و هو أمر اللّه الفعلي الذي أشير إليه بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ «1» و المراد به نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما

ورد في تفسير قوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ

الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ «2».

إن العدل هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الإحسان أمير المؤمنين عليه السّلام، و الثلاثة الثلاثة أبو الدواهي و أبو الشرور و الملاهي.

و من ذاق من لذائذ ثمار أسرار الحروف يعلم أن بيّنة (عدل) موافق لبيّنة (محمد) صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ كل منهما اثنان و ثلاثون و مائة.

هكذا: بيّنة (عدل) ي- ن- أ- ل- أ- م 10 50 1 30 1 40 و بينة (محمد) ي- م- أ- ي- م- أ- ل 10 40 1 10 40 1 30

______________________________

(1) الروم: 25.

(2) النحل: 90.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 130

و أن زبر (إحسان) موافق لزبر (عليّ) بتشديد الياء، إذ كل منهما مطابق لعدد 120.

و في التعبير عن الأول بالبيّنة، و عن الثاني بالزبر مع الإشارة إلى التقديم و الترتيب في قوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ «1» سرّ لطيف:

فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مدينة العلم و علي بابها، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مقام الإجمال و البطون، و الوصي عليه السّلام في مقام التفصيل و الظهور، و إليه الإشارة بما تقدم من قوله تعالى:

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ «2». أي من تقابله و عداوته.

و من هنا يظهر سر ما

رواه في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام قال: «أكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، من أجود كتابتك، و لا تمد الباء حتى ترفع السين» «3».

أي لا تمد و لا تبسط ظل حقيقة الولاية و لا رحمة الفتوة على سرادق الأكوان في العالمين إلا بعد رفع السين الذي هو مقام النبوة المطلقة و

باطن الولاية الكلية، فإن الولي يشمل من النبي الذي هو رفيع الدرجات، و الولي متمم القابليات.

و إليه الإشارة

بقوله عليه السّلام: «الباء بها اللّه، و السين سناء اللّه» «4».

و البهاء هو النور، و السناء الضياء، و الضياء أرفع من النور، لأن النور يستمد منه، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً.

فاعلم أنه تفسير الصراط المستقيم ج 3 149

روى الشيخ أبو جعفر ابن بابويه في كتاب «التوحيد» بإسناده عن الصادق عليه السّلام أنه سئل عن تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال: «الباء بهاء اللّه،

______________________________

(1) آل عمران: 184، و النحل: 44، و فاطر: 25.

(2) سورة الحديد: 13.

(3) الكافي ج 2/ 276، ح 2.

(4) الكافي ج 1/ 114، ح 1. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 131

و السين سناء اللّه، و الميم ملك اللّه.

قال السائل: اللّه، فقال: الألف: آلاء اللّه على خلقه و المنعم بولايتنا، و اللام إلزام خلقه ولايتنا.

قال: قلت: فالهاء؟ قال: هوان لمن خالف محمدا و آل محمد، قال: قلت:

الرحمن؟ قال: بجميع العالم، قال: قلت: الرحيم؟ قال: بالمؤمنين، و هم شيعة آل محمد خاصة» «1».

أقول: و المراد ببهاء اللّه، جلاله الذي هو مقام القهر و الغلبة و الاستيلاء و التمنع، و المراد بسناء اللّه جماله الذي هو مقام المحبة و المشاهدة و الأنس و كل من إليها، و السناء و إن كان كثيرا ما يطلق في الأخبار على ما يعم الآخر كالجمال و الجلال، لكنهما إذا اجتمعا افترقا، و لما كان قلب الجمال محتويا على قلب محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دل على الأنس و الايتلاف بالميم التي هي كمال الأربعة الحاكية عن الشكل المربع المقرون بالاتحاد و الائتلاف.

كما أن قلب الجلال لاحتوائه على

قلب علي عليه السّلام يدل على القهر و الغلبة باللام التي هي كمال الثلاثة الحاكية عن الشكل المثلث، و هو الشكل التفريق و التضاد و العناد.

و للّه درّ ابن «2» أبي الحديد المعتزلي حيث قال خطابا لمولاي و مولى العالمين أمير المؤمنين روحي له الفداء و عليه آلاف التحية و الثناء:

صدمت قريشا و الرماح شواجرفقطعت من أرحامها ما تشجرا

فلو لا أناة في ابن عمك جعجعت بعضبك أجرى من دم القوم أبحرا

______________________________

(1) التوحيد ص 230 و عنه كنز الدقائق ج 1 ص 38.

(2) هو عبد الحميد بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني توفي ببغداد سنة (655) ه و هو معتزلي و من تصانيفه شرحه على نهج البلاغة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 132 و لكن سرّ اللّه شطران فيكمافكنت لتسطو ثم كان ليغفرا

و لحفظ أدب البابية قدم السطوة على المغفرة، كما قدم الباء على السين في البسملة، هذا في القوس الصعودي و بالنسبة إلينا، و أما في القوس النزولي فالنبوة مقدمة على الولاية بثمانين ألف سنة، فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مظهر جلال القدرة، و كان يطوف حول جلال العظمة، و الولي مظهر العظمة و كان يطوف حول جلال القدرة.

كما

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما رواه في «البحار» عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنه سأله عن أول ما خلق اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أول ما خلق اللّه نور بينك يا جابر كان يطوف حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة فلمّا وصل إلى جلال العظمة خلق فيه نور علي عليه السّلام، فكان نوري يطوف حول جلال

العظمة و نور علي يطوف حول جلال القدرة ...» الخبر «1».

و ذلك لأن القدرة مقدمة على العظمة، فإنّ أول ما يظهر من القادر هو قدرته التي يصدر بها جميع أفاعيله و آثاره و شؤونه و لذا كانت لها الاستطالة على كل شي ء كما أشير إليه

بقوله في دعاء السحر و غيره: «اللهم إني أسئلك من قدرتك بالقدرة التي استطلت بها على كل شي ء و كل قدرتك مستطيلة».

و هذه هي الولاية المطلقة التي هي باطن النبوة لا الولاية التي تقابلها، و هي الكلمة التي انزجر بها العمق الأكبر يعني الإمكان فضلا عن الأكوان، و هي اليد التي في قبضتها السموات و الأرض و ملكوت كل شي ء الآخذة بناصية كل دابة بل كل شي ء.

و أما العظمة فهي مقام الكثرة و الظهور، و هي تحت القدرة إذ القدرة مقام الإجمال، و العظمة مقام التفصيل، و القدرة الأصل القديم و العظمة الفرع الكريم،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 57/ 117 و ج 25/ 22، ح 38.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 133

و العظمة مظهر الإرادة و لذا يعبر عن الأولى بالكاف و عن الثانية بالنون، و استدارته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حول جلال القدرة استدارة ذاتية افتقارية استمدادية استفاضية على التوالي، و هذه هو القدم الذي أشير إليه

في الخطبة العلوية بقوله: «و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، استخلصه في القدم على سائر الأمم على علم منه، انفرد عن التشاكل و التماثل من أبناء الجنس، و انتجبه آمرا و ناهيا عنه ...

إلخ» «1».

و لم يزل متحركا بالحركة المتوالية السريعة إلى أن قطع المنازل الثمانية التي هي الاستعداد و التمكن من الأسفار الأربعة في الغيب و الشهادة، و هي

السفر من الخلق إلى الحق، و السفر في الحق بالحق، و السفر من الحق إلى الخلق، و السفر في الخلق بالحق، و المراد بالخلق نفسه لا غيره، و إلّا فهو بعد لم ينزل إلى مقام غيره، فهذه الأسفار الأربعة في مرتبتي الغيب و الشهادة ثمانية تنتهي بكمال العدد و ترقيه إلى ثمانين، و لمّا كان مقامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حينئذ مقام الربوبية إذ لا مربوب عينا لا ذكرا، رجعت المراتب إلى الأيام الربوبية، إذ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «2»، فلذلك كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يطوف حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة، فلمّا خصه سبحانه بمزيد الألطاف، و تم ميقات هذا الطواف انتهى إلى أدنى درجات حجاب القدرة و هو أعلى مقامات حجاب العظمة، فخلق منه نور علي عليه السّلام، كما

قال عليه السّلام: «أنا من محمد كالضوء من الضوء» «3»

، و

قال عليه السّلام: «أنا عبد من عبيد محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» «4».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 97/ 113، ح 8.

(2) الحج: 47.

(3)

جملة من كتابه عليه السّلام إلى عثمان بن حنيف و فيه: أنا من رسول اللّه كالصنو عن الصنو- رقم 45 من الكتب في نهج البلاغة.

(4) لم أظفر على مصدر له.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 134

فطواف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حركة إدبارية على خلاف التوالي للإفاضة و التربية، و طواف أمير المؤمنين حول جلال القدرة حركة إقبالية على التوالي للاستفاضة، فظهرت القدرة بالعظمة و ظهرت العظمة بالملك المشار إليه بالميم في بِسْمِ اللَّهِ و لذا كانت أئمتنا صلوات اللّه عليهم أجمعين شهداء على الناس، و كان الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهيدا عليهم، كما قال تعالى فيهم: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «1».

و

في قراءة الأئمة عليهم السّلام: أئمة وسطا «2».

و الناس يشمل جميع الأنام، بل في تفسير الباطن يشمل كافة الموجودات، و عامة الكائنات، و جميع الذرات من الجمادات و النباتات، و الحيوانات، و الأمم السالفة مع أنبيائهم، بل الملائكة المقربين و الكروبيين، و الملائكة العالين.

و هذه الجملة مع تظافر الأخبار عليها مستفادة أيضا من بعض الآيات كقوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ «3».

و قوله: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «4».

و قوله تعالى: إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً.

و هذه الشهادة هي الشهادة المستفادة إثباتا لا نفيا من قوله:

ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً

______________________________

(1) البقرة: 143.

(2) لم أظفر على هذه القراءة، نعم في المقام روآيات عشر فسرت الأمة فيها بالأئمة عليهم السلام، راجع تفسير البرهان: ج 1/ 159 و ص 160، و تفسير نور الثقلين: ج 1/ 134 و 135.

(3) الأنعام: 38.

(4) فاطر: 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 135

«1».

و لذا

وصفهم الحجة عجل اللّه فرجه في الدعاء الرجبية بقوله: «أشهاد و أعضاد».

فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الحجة الشاهد المفيض عليهم، و هم المستفيضون منه المستضيئون بنوره المفيضون على الخلائق أجمعين حتى الملائكة المقربين و الأنبياء و المرسلين.

إيراد مقال لدفع إشكال

و لعلك تقول: قد تكاثرت الأخبار و تواتر الآثار على أن النبي و الأئمة عليهم الصلاة و السّلام كانوا في

أول الخلق نورا واحدا و أنه لا تفاضل بينهم في أصل الخلقة على وجه الحقيقة، و لذا

قالوا: «أولنا محمد، و أوسطنا محمد، و آخرنا محمد».

و

في «تأويل الآيات» بالإسناد عن الثمالي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى أحد واحد، و تفرّد في وحدانيته ثم تكلّم بكلمة فصارت نورا، ثم خلق من ذلك النور محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خلقني و ذريتي، ثم تكلّم بكلمة فصارت روحا فأسكنه اللّه في ذلك النور، و أسكنه في أبداننا، فنحن روح اللّه و كلماته، و بنا احتجب عن خلقه» «2».

و

فيه عن جابر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: «إن اللّه تبارك و تعالى لما أراد أن

______________________________

(1) الكهف: 51.

(2) بحار الأنوار ج 15/ 9، ح 10 «كنز» من كتاب الواحدة، عن أبي محمد الحسن بن عبد اللّه؟؟؟؟؟ تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 136

يخلقني خلقني نطفة بيضاء، فأودعها صلب آدم، فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلى رحم طاهر إلى نوح و إبراهيم، ثم كذلك إلى عبد المطلب، ثم افترقت تلك النطفة شطرين: إلى عبد اللّه و إلى أبي طالب فولدني أبي عبد اللّه، فختم اللّه بي النبوة، و ولد عمي أبو طالب عليا، فتمت به الوصية، ثم اجتمعت النطفتان مني و من علي و فاطمة فولدنا الجهر و الجهيرة، فختم اللّه بهما أسباط النبوة ...» الخبر «1».

و

فيه: عن الشيخ أبي جعفر الطوسي بالإسناد عن الكاظم عليه السّلام قال: إن اللّه تعالى خلق نور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من نور اختراعه من نور عظمته و جلاله، و كان

ذلك النور محمدا فلما أراد أن يخلق محمدا منه قسم ذلك النور شطرين فخلق من الشطر الأول محمدا و من الشطر الآخر علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليهما، و لم يخلق من ذلك النور غيرهما، خلقهما اللّه بيده، و نفخ فيهما بنفسه من نفسه لنفسه و صورهما على صورتهما، و جعلهما أمناء له و شهداء على خلقه، و خلفا على خليقته و عينا له عليهم، و لسانا له إليهم، و جعل أحدهما نفسه و الآخر روحه، لا يقوم واحد بغير صاحبه، ظاهرهما بشريه و باطنهما لاهوتية ظهرا للخلق على هياكل الناسوتية حتى يطيقوا رؤيتهما، و هو قوله:

وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ «2».

فهما مقام رب العالمين، و حجاب خالق الخلائق أجمعين ...» الخبر بطوله «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة عليه، و

في الزيارة الجامعة: «و أشهد أنّ أرواحكم و نوركم و طينتكم واحدة، طابت و طهرت، بعضها من بعض، خلقكم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22/ 111، ح 76.

(2) الأنعام: 9.

(3) بحار الأنوار: ج 35/ 28، ح 24. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 137

اللّه تعالى نورا فجعلكم بعرشه محدقين، حتى منّ علينا بكم، فجعلكم في بيوت أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه».

و حاصل البحث أن يقال:

أولا: مقتضى الأخبار الكثيرة اتحاد نور نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع أنوار الأئمة عليهم السّلام اتحاد حقيقيا واقعيا بحيث لا مجال معه للقول بالفصل أو الفضل.

و ثانيا: أنه قد يترائى من صريح بعض أهل العلم، بل من فحاوي بعض الأخبار أيضا فضل الولاية المطلقة الكلية على النبوة، و لا ريب أن نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صاحب النبوة المطلقة و أن

وصيه صاحب الولاية المطلقة، و قضية ما سمعت تعكيس الأمر فكيف التوفيق؟

و الجواب من الأول: أن لهم عليهم السّلام مقامين:

أحدهما: مقام نسبهم إلى ما سواهم من المخلوقين، و كلهم في هذه النسبة و هي معرفة الخلق لهم و الإيمان بهم متحدون متساوون لا نفرق بين أحد منهم، و نحن لهم مسلمون، و عليه يحمل الأخبار الدالة على تساويهم في الخلقة و الدرجة و المرتبة، و إن أمرنا واحد، و علمنا واحد، و حكمنا واحد، و نورنا واحد.

روى الشيخ المفيد «1» بإسناده عن زيد الشحام قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

أيهما أفضل الحسن أم الحسين؟

فقال عليه السّلام:

«إنّ فضل أولنا يلحق بفضل آخرنا، و فضل آخرنا يلحق بفضل أولنا، و كل له فضل.

قال: قلت له: جعلت فداك وسّع عليّ في الجواب، فإنّي و اللّه ما سألتك إلا

______________________________

(1) هو أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد، توفي ببغداد سنة (413) ه. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 138

مرتادا «1» فقال:

نحن من شجرة طيبة، برأنا اللّه من طينة واحدة، فضلنا من اللّه، و علمنا من عند اللّه، و نحن أمناؤه على خلقه، و الدعاة إلى دينه، و الحجاب فيما بينه و بين خلقه.

أزيدك يا زيد؟

قلت: نعم، فقال: خلقنا واحد، و علمنا واحد، و فضلنا واحد، و كلنا واحد عند اللّه عزّ و جل في مبتدأ خلقنا، أوّلنا محمد، و أوسطنا محمّد، و آخرنا محمد «2»

صلى اللّه عليهم أجمعين.

و ثانيهما: مقام نسبتهم إلى ربهم في كيفية الإجابة و تقدّمها و تأخّرها، و هم مختلفون في ذلك، فمن تقدّم في الإجابة و التلبية كان هو الأفضل المقدّم، و لذا دلّت الأخبار على تقديم بعضهم على بعض، و أفضلية

بعضهم من بعض.

و لعل إجماع المسلمين واقع على أفضلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أمير المؤمنين عليه السّلام و على سائر الأئمة عليهم السّلام، و إليه يرمي

قوله: «أنا عبد من عبيد محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «3»، و علّمني ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب «4»

، و

قوله: أنا من محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالضوء من الضوء» «5»

و لا ريب أنّ السراجين من طينة واحدة إلّا أنّ الأول مقدّم و الثاني اشتعل منه.

و

في «بصائر الدرجات» عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالا: «إنّ اللّه خلق محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من طينة من جوهرة تحت العرش و أنه كان لطينته

______________________________

(1) مرتادا: طالبا، أي طالبا لمعرفتكم و الاطلاع على فضائلكم.

(2) بحار الأنوار: ج 25/ 363، ح 23 عن كتاب المتحضر: ص 160.

(3) لم أظفر على مصدره.

(4) رواه غير واحد من الفريقين منهم التفتازاني في شرح المقاصد ج 2 ص 220، و القندوزى في الينابيع ص 77.

(5)

نهج البلاغة كتابه عليه السّلام الى عثمان بن حنيف رقم 45. و فيه كالصنو من الصنو. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 139

نضج فجبل طينة أمير المؤمنين عليه السّلام من نضج طينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان لطينة أمير المؤمنين عليه السّلام نضج فجبل طينتنا من فضل طينة أمير المؤمنين عليه السّلام، و كانت لطينتنا نضج فجبل طينة شيعتنا من نضج طينتنا، فقلوبهم تحنّ إلينا، و قلوبنا تعطف عليهم تعطّف الوالد على الولد» «1».

و

في «البحار» نقلا من كتاب «المقتضب» عن سلمان الفارسي،

قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا سلمان! خلقني اللّه من صفاء نوره فدعاني فأطعته، و خلق من نوري عليا فدعاه إلى طاعته فأطاعه، و خلق من نوري و نور علي فاطمة فدعاها فأطاعته، و خلق مني و من علي و من فاطمة الحسن و الحسين فدعاهما فأطاعاه فسمانا اللّه عز و جل بخمسة أسماء من أسمائه، فاللّه المحمود و أنا محمد، و اللّه العلي و هذا علي، و اللّه فاطر و هذه فاطمة، و اللّه قديم الإحسان و هذا الحسن، و اللّه المحسن و هذا الحسين.

ثم خلق من نور الحسين تسعة أئمة، فدعاهم فأطاعوه، قبل أن يخلق اللّه سماء مبنيّة، أو أرضا مدحية، أو هواء أو ماء، أو ملكا أو بشرا و كنّا بعلمه أنوارا نسبحه، و نسمع له و نطيع ...» «2» الخبر.

و

فيه عن «رياض الجنان» عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أول ما خلق اللّه نوري، ابتدعه من نوره، و اشتقّه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد للّه تعظيما، ففتق منه نور علي عليه السّلام».

و

فيه بإسناد آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما سأله جابر: أول شي ء خلق اللّه تعالى ما هو؟

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 25/ 8، ح 11 عن بصائر الدرجات ص 5.

(2) بحار الأنوار: ج 25/ 6، ح 9. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 140

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «نور نبيك يا جابر، خلقه اللّه ثم خلق منه كل خير ...» «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على ما سمعت

تصريحا أو تلويحا كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ورد من الآثار، و جاس خلال تلك الديار.

و أيضا

ورد في تسميته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأبي القاسم أنه أبو أمته و من جملة أمته في زمانه أمير المؤمنين عليه السّلام، و هو قسيم الجنة و النار، فهو القاسم

، نقلته بالمعنى و الخبر مذكور في «علل الشرائع» «2».

و أيضا أسماؤهم الشريفة مكتوبة على العرش و غيره بالترتيب و قضية الإمكان الأشرف و التطبيق تقديم الأشرف.

و أيضا لا ريب في أفضلية أمير المؤمنين عليه السّلام على الحسنين و على سائر الأئمة عليهم السّلام، كما

في النبوي: «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، أبوهما خير منهما» «3».

فيما ذكرناه و نقلناه كفاية لمن كان من أهل الدراية، و إلا فالإحاطة بمقامهم و حقائقهم مخصوصة بهم دون غيرهم ليس لأحد ممن سواهم أن يحوم حول حرم كبرياء ذواتهم و أنوارهم إذ يخطف دون النظر إلى سبحات أنوار جلال جبلّاتهم البصائر و الأبصار، و يضمحل بملاحظة أشعّة شموس وجودهم سائر الأنوار، بل لا

______________________________

(1) المصدر نفسه: ج 25/ 21، ح 37.

(2)

علل الشرائع: ص 53 و 54، و معاني الأخبار: ص 20، و عيون الأخبار: ص 38 و عنها البحار: ج 16/ 95 في العيون عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه قال: سألت الرضا عليه السّلام فقلت له: لم كني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأبي القاسم؟ قال عليه السّلام: «أما علمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أب لجميع أمته، و علي عليه السّلام منهم؟ قلت: بلى، قال: أما علمت أن عليا قاسم الجنة و النار؟ ...» الخبر.

(3)

هذا الحديث من الأحاديث المتواترة المشهورة عند الفريقين و أخرجه غير واحد منهم الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج 3/ 189.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 141

يقدر البصائر و العقول النظر إلى أشعة أنوار شيعتهم فضلا عن حقيقتهم و طينتهم.

كما

ورد في «البصائر» و «السرائر» عن الصادق عليه السّلام: «ان الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم اللّه خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على الأرض لكفاهم.

ثم قال عليه السّلام: إن موسى على نبينا و آله و عليه السّلام لما سأل ربه ما سأل، أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكّا، و ذلك لأنّه مرفوع عن علمنا، متعال عن إدراكنا، و هو فوق حقيقة ذواتنا، و نحن لا ندرك إلا ما هو في مرتبتنا، و لا نصل إلا إلى مقامنا و درجة ذواتنا، و لا نقرأ إلا حروف أنفسنا، و ما منّا- إلا له مقام معلوم» «1».

و الجواب عن الثاني: أنّ تفضيل الولاية على النبوة و إن صرّح به البعض كالشيخ ابن أبي الجمهور، و غيره إلّا أنّي لم أظفر به في شي ء من الأخبار، و مرادهم على ما صرّحوا به ترجيح الولاية التي هي التصرف و الوساطة في الأمور التكوينية و التشريعية على النبوة التي هي مجرد السفارة، و هذا الترجيح يمكن أن يعتبر بين وصفين من شخص أو شخصين كما هو المشهور عندهم، و المعروف لديهم، فإن الولاية المطلقة رياسة عامّة و تصرّف كلي في جميع الأمور التكوينية و التشريعية و هي الوساطة العامّة بين المخلوق و الخالق.

و لذا ذكر بعض الأعلام:

«أن الإمامة و الولاية و الخلافة إذا أخذت على الوجه المطلق كانت شيئا واحدا و ألفاظا مترادفة، و قد تطلق بالمعنى

الأخصّ فتكون الإمامة و الولاية و الخلافة يراد بها التصرف المذكور المأخوذ من النبوة، بحيث يلاحظ فيها كون

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13/ 224، ح 18 عن البصائر: ص 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 142

الكمالية المشتملة عليها ذلك الشخص المجتمع فيه شرائط الخلافة و الولاية بسبب قربه من مشكاة النبوة، و أخذ العلوم الحقيقية و الكمالات النفسية منها، فيكون بينها و بين النبوة عموم و خصوص مطلق، لصدق الولّي على كل نبيّ و ولي و خليفة و إمام و لا عكس، فإنّ مرتبة النبوة أقوى من مرتبة الولاية الخاصة، لأنّ هذه الولاية مبدؤها النبوة بخاصيّة كمال متابعته له، و قوة سلوكه مواطئ أقدام مقاماته، حتى يصير متكمّلا بجميع كمالاته، فيقوم مقامه في الخلافة و الولاية، فهو مقتبس لها من مشكاة النبوة، مستفيد لأنوارها منه بغير واسطة شي ء خارج فيوجب له الاستغناء من المرشد و المعلّم، بل يفيض عليه الكمال الأعلى، و النور الأسنى، بسبب مقابلة نفسه لنفسه و شدة اتصالها بها، فينطبع فيها جميع الصور المنتقشة فيها من عالم الغيب، لكون نفسه نفسا قدسية كنفسه لشدة اتصالها بالعالم العلوي و المبدء الأعلى، و جمعها بين القوتين، إلّا أنّ ذلك الاتصال لها مشروط باتصالها بمشكاة النبوة التي هي الطريق لها إلى الوصول إلى ذلك الاتصال.

فعلم من ذلك أنّ الولاية المطلقة أجلّ و أعلى و أشرف من مرتبة النبوة.

لأن الولاية مبدء لها، إذ النبي لا يكون نبيا حتى يكون وليا، فالولاية مبدء النبوة، و إذا كانت مبدأ لها كانت سابقة عليها، و علة في حصولها فتكون ولاية النبي المطلقة أجل و أعلى و أشرف من نبوته.

و لأنّ مقام الولاية هي الوحدة المطلقة التي هي مقام لا يسعه

ملك مقرب و لا نبي مرسل، و كمال النبوة من جهة الكثرة الحاصلة بسبب الرد إليها بعد مقام الوحدة المشار إليها

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فإني أباهي بكم الأمم» «1».

و لا ريب أن مقام الوحدة أجل و أعلى من مقام الكثرة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 5/ 293، ح 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 143

و لأن الولاية تصرّف، و إحاطه و سلطانه بإذن اللّه في الأمور التشريعية و التكوينية، فلسان الولي لسان اللّه، و يده يد اللّه، و قلبه وعاء لمشية اللّه، كما

قالوا: «إنّ قلوبنا أوعية لمشية اللّه، فإذا شاء اللّه شئنا» «1».

وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2».

و اما النبوة فهي سفارة و رسالة و وساطة في التشريعات وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ «3»، هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ «4».

و قد تبيّن مما ذكرناه أنّ لخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل لغيره من الأنبياء و المرسلين مقامات أعلاها و أسناها مقام ولايتهم المطلقة أو المقيّدة، كلّ على حسب مرتبته، و ولاية كلّ منهم إذا قيست إلى ولاية وصيّه المقتبس من مشكاة نوره المستضي ء بتجلّي ظهوره كانت أعلى و أشرف و أسنى منها، فلا يلزم من ترجيح الولاية و تفضيلها على النبوة و الرسالة تفضيل الوصي على النبي، بل هو مؤيّد و مؤكّد للعكس، و لذا أثبت اللّه الولاية لنفسه أوّلا، ثم للنبي و الوصي على الترتيب فقال:

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ «5».

و قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا «6».

و

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كنت مولاه فعلي مولاه» «7».

______________________________

(1)

بحار الأنوار: ج 25/ 337، ح 16 عن غيبة الطوسي: ص 160.

(2) سورة الإنسان: 30 و سورة التكوير: 29.

(3) سورة النور: 54 و سورة العنكبوت: 18.

(4) سورة الكهف: 44.

(5) المائدة: 55.

(6) سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ص 11.

(7) رواه غير واحد من أعلام الفريقين من غير واحد من الصحابة و التابعين، راجع عبقات

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 144

إلى غير ذلك من فحاوي الآيات و الأخبار.

و من هنا يظهر أنّ من أسخف الآراء و أضعف الأهواء مقالة قوم يزعمون أنّ أفضلية الولاية على النبوة تقتضي أفضلية الوليّ على النبي مطلقا، ثم فرّعوا على ذلك كون مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام هو ولي اللّه و حامل الولاية المطلقة أفضل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي هو حامل النبوة المطلقة لأنه قد ظهر بالنبوة، و عليّ بالولاية، و الظاهر بالولاية أفضل من الظاهر بالنبوة، بل ربما أيّده بعضهم

بالحديث القدسي خطابا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لولاك لمّا خلقت الأفلاك، و لولا عليّ لما خلقتك» «1».

فإنه كما يقتضي شرافة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على من دونه من الأفلاك و غيره كذلك يقتضي شرافة أمير المؤمنين عليه السّلام عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ الأصل و الظاهر جعل النسبتين من نوع واحد في الشرف و الكرامة.

و

بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا علي! أنت مني بمنزلة الرأس من الجسد» «2».

و لا شك أن الرأس أشرف من الجسد.

و

بقوله: «يا علي! أنت نفسي التي بين جنبي» «3».

و من البيّن أنّ النفس أشرف من البدن، و بما ظهر من

أمير المؤمنين عليه السّلام من المعجزات و خوارق العادات و غرائب الخطب و المراسلات، و سائر الأطوار و العجائب ممّا لم يظهر من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى ادّعت جماعة فيه الربوبيّة دون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خطّأ آخرون جبرئيل في نزوله على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنهم يقولون: إنه

______________________________

الأنوار، و الغدير و غيرهما.

(1) جنّة العاصمة.

(2)

مشارق أنوار اليقين للبرسي عن سلمان و أبي ذر عن أمير المؤمنين عليه السّلام ص 161 و فيه: «أنت مني بمنزلة الروح و الجسد»، و في البحار: ج 19/ 82: «أنت مني بمنزلة السمع و البصر و الرأس من الجسد».

(3)

في المشارق: ص 161 «أنت روحي التي بين جنبي». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 145

كان مأمورا بالنزول على أمير المؤمنين عليه السّلام.

إلى غير ذلك من الشبهات التي قد غطّت على بصائر معرفتهم، و مدارك علومهم، فضلّوا و أضلّوا كثيرا، و ضلّوا عن سواء السبيل.

لكن لا يخفى على المتأمل ضعف هذه الوجوه.

أما الأول: و هو تفضيل الولاية على النبوّة فلما سمعت من أنه كذلك إذا اعتبرنا هما في مرتبة واحدة كما إذا اعتبرت نبوة نبي بالنسبة إلى ولايته، و أما بالنسبة إلى شخصين فلا يمكن الحكم بترجيح الولاية مطلقا، إذ لكل منهما عرض عريض يعبّر كلّ مرتبة من إحداهما مع سابقة الأخرى و لاحقتها فكيف يحكم بالترجيح على الإطلاق، سيما في مثل النبي و وصيه الذي هو بمنزلة حسنة من حسناته، و هو المستمدّ بفضل نوره المتشعشع بشعاع ظهوره و لذا سمي بالبشر الثاني نظرا إلى أولية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

نعم، يظهر من بعض

الأعلام «1» أنّ الترجيح في المقام إنما هو باعتبار الكميّة لا الكيفية فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له مقامان: مقام النبوة و الولاية، و هو جامع المرتبتين بخلاف الولي فإن له الولاية خاصة دون النبوة، فالجامع بين الأفضل و غيره أشرف من المتفرد بواحد و إن كان أفضل، فالنبي باعتبار الجامعية أفضل من الولي.

قال: «و إلى هذا المعنى يشير

قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنا أصغر من ربي بسنتين» «2»

، و المراد من الرب هو المربي، و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

______________________________

(1) هو السيد كاظم بن قاسم الحسيني الجيلاني الرشتي، كان من تلامذة الشيخ أحمد الأحسائي، توفي سنة 1259، و لا يخفى أن نقل هذا الكلام كان قبل ظهور انحراف المنقول عنه للناقل، لأن مقامه أجل من أن ينقل ممن ظهر انحرافه و يعبر عنه ببعض الأعلام، و إن كان ضعّف كلامه و ردّ عليه كما سيأتي.

(2) لم أظفر على مصدر له،

قال النراقي في مشكلات العلوم: ص 20: روي عن عليّ عليه السّلام أنه تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 146

و السنة: المرتبة، يعني هو جامع المرتبتين، و أنا عندي مرتبة واحدة، فهو أكبر بتينك المرتبتين و هاتان المرتبتان صارتا سببا لكونه أصغر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمرتبة فله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الجامعية بخلافه عليه السّلام.

لا كما يزعمون من أنّ الرب هو اللّه و المرتبتان هي الألوهية و النبوة «1».

فإن هذا الكلام باطل و قول مجتث ذابل، لأن ذات اللّه لا تنسب و لا توصف، و لا بينه و بين غيره نسبة و اتصال». انتهى كلامه ملخصا.

و فيه

ضعف ظاهر لأن قضيّة ما سمعت من الأخبار و فحاوي كلمات علمائنا الأخيار، إنما هو أفضلية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مرتبة الولاية أيضا من حيث الإحاطة و التصرف و سبق الخلقة و شدة التوجه و الاتصال كما مر الخبر في سبق خلقته بثمانين ألف سنة و إنّ مقام النبي مقام القدرة و مقام وصيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقام العظمية.

بل هذا القائل ذكر في موضع آخر: إن جلال القدرة التي هي الولاية الحقيقية إنما هي للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكنها قد ظهرت في أمير المؤمنين عليه السّلام كما ظهرت الكواكب المدبرات و البروج و المنازل و ساير المبادي في الكرسي دون العرش مع أنه أعظم و أقوى و الكرسي حينئذ طائف حول جلال القدرة في عالم الظهور، و لأن الفيوضات الواردة في العالم المنتشرة في أقطار الكرسي كلها من الكرسي و كان الكرسي لا يستمد إلا من العرش.

فمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علي عليه السّلام نسبتهما في العالم الباطن نسبة العرش و الكرسي،

______________________________

قال: «انا أصغر من ربي بسنتين»

ثم احتمل له معنيين أولهما بعيد جدا، و سأنقل كلامه إن شاء اللّه تعالى.

(1) لعل مراده من الزاعم هو المرحوم المهدي النراقي المتوفى (1209) ه، فإنه بعد ما نقل الحديث في «مشكلات العلوم»: ص 20، و فسر السنة بالمرتبة قال: المراد من الرب إما ربه الحقيقي و هو اللّه سبحانه فالمراد أن جميع مراتب كمالات الوجود المطلق حاصلة لي سوى مرتبتين و هما: مرتبة الالوهيّة و وجوب الوجود، و مرتبة النبوة ... إلخ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 147

فالعرش كان طائفا حول جلال

القدرة قبل خلق الكرسي، أي كان حاملا لولاية اللّه، فلما خلق اللّه الكرسي ظهرت له إنيّته النورانية بظهور النفس القدسية المطمئنة، فكانت سببا لتفاصيل ظهور الولاية الإجمالية التي كانت للعرش.

فالولاية ظهرت في الكرسي و ثبتت الكرسي و بقي العرش على محض الرسالة و الترجمة المعبر عنه بالنبوة.

و أما ما ذكره في معنى خبر أنا أصغر من ربي بسنتين، فلعل الأمر بالعكس فإن المعنى الذي ذكره لا ينطبق على العبارة، بل لا يساق مثل هذه العبارة لمثل ذلك المعنى، سيما مع اختلافه في نفسه حسب ما سمعت.

نعم، المنساق كونه فاقدا للمرتبتين: الألوهية و النبوة، و لذا كانت الشهادة بولايته عليه السّلام في المرتبة الثالثة من الشهادة، و كان اسمه الشريف مكتوبا في السطر الثالث من العرش، و كل ذلك لا يقتضي أنّ بينه و بين خالقه نسبة و لا اتصالا، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، بل إنما هو لمجرد التعبير عن حقارة الصغير، لا لتحديد الكبير كما لا يخفى على الخبير البصير.

و اعلم أن هذا الخبر لم أظفر به في شي ء من الأصول و كتب الأخبار، و لا في شي ء من مصنفات من تقدم من علمائنا الأخيار، و لا بأس به بعد موافقة مؤداه لساير الآثار.

و أما الثاني: و هو خبر

«لولا علي لما خلقتك»

فلأن قصارى ما يدل عليه أنّ وجود أمير المؤمنين عليه السّلام مما يتوقّف عليه وجود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أين هذا من الأفضلية، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما كان في مقام الولاية الكلية المطلقة العامة التشريعية و التكوينية، و لذا كان حقيقة النعمة و مدينة الحكمة، فلا يكاد ينتفع به

أحد من الناس إلا بوساطة سفيره و وزيره و هو وصيه المتشعشع بشعاع نوره، المتشخص بتجليات أنوار ظهوره، و لولاه لم يصلح أحد من الأنام لنيل هذا

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 148

المقام، فلم يكن حينئذ مخلوقا لهذا المقام الشامخ و القدر الباذخ، و لذا عبّر عن تعيين وصيه بإكمال الدين و إتمام النعمة في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1»، بل نفي مع عدمه التبليغ رأسا في قوله: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «2».

و بالجملة مجرد التوقف لا يدل على الأفضلية ضرورة توقف الشي ء على جملة من الأجزاء و الشروط في التشريعيات و التكوينيات، ألا ترى أن الصلاة أفضل من الوضوء مع توقفه عليه

لقوله: «لا صلاة إلا بطهور».

و كذا القلب أشرف من الكبد من أنه لا ريب في توقف حياته بوجودها بل بوجود غيرها من الأجزاء الشريفة و الخسيسة فمجرد التوقف لا يقضي بالأفضلية.

و اعلم أن هذا الخبر أيضا لم أظفر به في شي ء من الأصول و المصنفات، و إن كان في بعض الأخبار ما يدل عليه كما

في تفسير الإمام عليه السّلام في حديث «الشجرة» التي انقلعت بأصولها و عروقها حتى دنت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نادت بصوت فصيح: «ها أنا ذا يا رسول اللّه، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: دعوتك لتشهدي لي بالنبوة بعد شهادتك للّه بالتوحيد ثم تشهدي لعلي بالإمامة و أنه سندي، و ظهري، و عضدي، و فخري، و لولاه لما خلق اللّه تعالى شيئا مما خلق ...» الخبر «3».

و قضية العموم كما ترى شموله للنبي و غيره فيوافق ذلك الخبر أيضا.

و

في

كتاب «رياض الجنان» في خبر طويل على ما رواه «البحار» و فيه: «ثم قال سبحانه لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و عزتي و جلالي و علو شأني لولاك و لولا علي و عترتكما الهادون المهديون الراشدون ما خلقت الجنة و لا النار و لا المكان

______________________________

(1) المائدة: 3.

(2) المائدة: 67.

(3) بحار الأنوار: ج 17/ 317، ح 14، عن تفسير المنسوب إلى الإمام عليه السّلام. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 149

و لا الأرض و لا السماء و لا الملائكة و لا خلقا يعبدني.

نعم، سئل عنه الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي (المتوفى سنة 1243 ه)، فأجاب بقوله:

«اعلم أن صدر هذا الحديث مستفيض بل متواتر معنى لا يختلف في معناه أحد من المسلمين، و أما عجزه فلم أقف عليه في كتاب، نعم، سمعناه من الأفواه بل منقولا عمن يعتمد علي قولهم و نقلهم.

أخبرني شيخي الشيخ محمد بن محسن بن الشيخ على القرني الأحسائي تغمده اللّه برحمته و أسكنه بحبوحة جنته، و كان صادق الحديث، قال: سئلت الشيخ الفاخر، زبدة الأوائل و الأواخر الشيخ الآقا محمّد باقر بن الشيخ محمد أكمل أكمله اللّه رفيع رتبته و قدس طيب تربته

عن قول اللّه تعالى: «لولاك لما خلقت الأفلاك»

و عن معناه.

فقال: هذا لا إشكال فيه و إنما الإشكال في تتمة الحديث و هو

قوله: «لو لا علي لما خلقتك»

و كلامه مع شدة فحصه في تصحيح الأخبار وجودة فكره و عظيم اطلاعه و سابقته في ذلك المضمار كالنص على ثبوته عنده، و إن احتمل أنه إنما أورده كما سمعه إيرادا و إن لم يثبت عنده إلا من السماع الأفواهي إلا أن الأول هو الظاهر.

ثم ذكر فيه وجوها ذكر أن

كلها مرادة للّه تعالى:

أحدها: أن اللّه تعالى خلق محمدا و عليا من نور واحد فقسم ذلك النور قسمين، فقال للقسم الأول: كن محمدا و للآخر كن عليا فيصدق أنه لو لا أحد القسمين لم يخلق القسم الآخر، و إلا لم يكن الشي ء شيئا و إلى ذلك

أشار عليّ عليه السّلام في جوابه لليهودي لما سئله من نصف الشي ء فقال مؤمن مثلي،

فافهم.

ثانيها: أن العلة في خلق النبي من حيث هو نبي الإخبار عن اللّه و التبليغ

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 150

تفسير الصراط المستقيم ج 3 169

للرسالة فيما يحتاج إليها الخلق، و لا ريب أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك محتاج إلى وجود علي عليه السّلام لأنه نصف النور الآخر و هذا

قول علي عليه السّلام في خطبته في حق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فعلّمني علمه و علّمته علمي» «1».

ثالثها: أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حيث إنه بشير نذير يتوقف على هاد و مضل يعني على مورد و ذائد و هو علي عليه السّلام، قال اللّه تعالى:

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «2» و بيان هذا الحرف يوجب كشف الستر عن مفتاح من الألف الباب الذي كل باب ينفتح منه ألف باب بل و من كل باب أيضا الف باب.

رابعها: أنه من حيث هو نبيّ لا بد له من آية تدل على نبوته و هي علي عليه السّلام،

قال عليّ عليه السّلام كما رواه الفريقان: «الست آية نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»

، و

قال عليه السّلام: «ليس للّه آية أعظم مني» «3».

خامسها:

أنه قال: «يا علي! أنت مني بمنزلة الروح من

الجسد، و أنت نفسي التي بين جنبي».

و

روى الفريقان أنه قال: «أنت مني بمنزلة الرأس من الجسد».

و قال تعالى: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ «4».

و لا ريب أن الروح و النفس و الرأس يتوقف وجود الجسد عليه.

سادسها: أن النبوة مسبوقة بالولاية و هذا ظاهر، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الظاهر

______________________________

(1) الخطبة التطنجية نقلها صاحب الزام الناصب و عنه الدكتور عبد العلى گويا في شرحه على الخطبة ص 136.

(2) الرعد: 7.

(3)

في ينابيع المودة: ج 3/ 402: ما للّه نبأ أعظم مني و لا للّه آية أكبر مني.

(4) آل عمران: 61.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 151

بالنبوة و علي عليه السّلام هو الظاهر بالولاية، و لا نبوة إلا بالولاية، و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صاحب التنزيل، و علي عليه السّلام صاحب التأويل، و إلى هذا الإشارة

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعطيت لواء الحمد و عليّ حامله» «1».

سابعها: أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حيث أنه خاتم النبيين يتوقف ختمه للنبوة على كون علي عليه السّلام خاتم الوصيين، إذ لو تختم الوصية لم تختم النبوة، و لا يخفى في الظاهر أن الأمر في هذا الوجه على العكس و لكن في الحقيقة لا منافاة في كون المعلول علة لكون علته علة من باب التضايف إذ الشي ء لا يكون علة إلا يكون المعلول معلولا له، فافهم.

ثامنها: أن الأشياء كلها بحكم شي ء واحد، بل هو شي ء واحد في الحقيقة يتوقف بعضها على بعض لكون العالي مجازا و درجة لما تحته في الصعود و وسيلة له إلى المعبود، و كون السافل مجازا للعالي و مظهرا في النزول و

رابطة بين العلة و المعلول حتى أنه لو تغير البعض تغير الكل.

كما

ورد في الخبر: أن نبيا من الأنبياء شكى بعض ما ناله من المكروه إلى اللّه تعالى، فأوحى اللّه تعالى إليه: أ تشكوني و لست بأهل ذم لا شكوى، هكذا بدو شأنك في علم الغيب فلم تسخط قضائي عليك، أ تريد أن أغيّر الدنيا لأجلك أو أغيّر اللوح المحفوظ بسببك، فأقضى ما تريد دون ما أريد و يكون ما تحب دون ما أحب؟ فبعزتي لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى لأسلبنك ثواب النبوة و لأوردتك النار و لا أبالي.

الخبر فإنه صريح في توقف الأشياء بعضها على بعض». انتهى كلامه.

______________________________

(1)

في البحار ج 39 ص 219 ح 13 عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أعطيت في على خمس خصال ... الى أن قال: و أمّا الثانية فلواء الحمد بيده و آدم و من ولد تحته. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 152

لكنه لا يخفى عليك أنّ هذه الوجوه مع ضعف بعضها و رجوع بعضها إلى بعض لا يحسم كلها مادّة الإشكال، بل ربما يزيد في الإعضال، نعم، لا بأس ببعضها حسبما أشرنا إليه، و من جميع ما مر قد ظهر الجواب عن الثالث و الرابع و هما الخبران.

و أما الخامس: و هو ما ظهر منه عليه السّلام من المعجزات.

فاعلم أن كل ما صدر منه عليه السّلام بل و من غيره من الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقربين، فإنما هو تفصيل و بيان و شرح و ظهور لشؤون خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنه الفاتح الخاتم، و الشاهد على الجميع، و المهيمن على ذلك كله، و أمير المؤمنين عليه السّلام

باب مدينة علمه و فوارة ينبوع حكمته، و هو لسانه الناطق عنه في أمته كما في قوله تعالى:

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «1».

عن الصادق عليه السّلام أنّ اللسان هو أمير المؤمنين عليه السّلام «2»

و هو يده الباسطة على اللّه تعالى بالنعمة و النقمة، و لذا كان نعمة اللّه على الأبرار و نقمته على الفجار، و هو نفسه في قوله: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ «3».

و أخوه في عقد المؤاخاة:

«أنت أخي و وصيي و قاضي ديني و منجز وعدي» «4»

و ابنه لأنه من أمته و هو قاسم الجنة و النار، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبو أمته فهو أبو

______________________________

(1) مريم: 97.

(2) لم أظفر على مصدر لذاك الحديث، نعم

في تفسير القمي في ذيل آية 50 من سورة مريم: وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا قال: يعني أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، حدثني بذلك أبي عن الحسن بن علي العسكري عليه السّلام.

(3) آل عمران: 61.

(4) بحار الأنوار ج 38 ص 90 ح 166.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 153

القاسم كما في الخبر المذكور في «العلل» «1» و هو المرتضى منه المشار إليه بقوله:

عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «2»

ففي الخبر «3» أنه المرتضى من الرسول.

بل هو النفس المضافة إلى الضمير المتكلم في قوله:

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي «4».

باعتبار كون الإضافة لامية و اللام للتمليك كما سميت النفس الملكوتية بذات اللّه العليا.

و بالجملة كل ذلك ظهور و بروز لشؤون خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تطوراته و تجلياته فهو الأصل القديم و خليفته الفرع الكريم، و لذا

ورد في زيارته: «السّلام على النور

الشعشعاني و البشر الثاني».

و ذلك لأن الإجمال أصل للتفصيل و اللّه يقول الحق و هو يهدي السبيل.

«عود إلى المرام و ختام للمقام».

قد سمعت أن الباء إشارة إلى مقام مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، فهي الباب، و الحجاب، و المبدأ و المآب، و طريق الصواب، و لب الألباب، و الشمس الساطعة من وراء السحاب، و لها شؤون ربانية، و قوى ملكوتية.

فهي للاستعانة لما مر من الخبر الدال «5» على طوف مولانا أمير المؤمنين روحي له الفداء حول سرادق القدرة التي بها كان ما كان، و وجد الأكوان و الأعيان،

______________________________

(1) علل الشرائع ص 53- 54 و معاني الأخبار ص 20.

(2) سورة الجن: 27.

(3) تفسير فرات بن إبراهيم: ص 511.

(4) طه: 41.

(5) تقدّم الخبر نقلا عن البحار ج 25 ص 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 154

و هو الإنسان علّمه البيان، فهو السبيل الأعظم، و المنهج الأقوم، به يفوز الفائزون، و ينجو الصالحون، و يصل الواصلون، و به تمت الكلمة، و عظمت النعمة، و ائتلفت الفرقة.

و هي للإلصاق لإيصال الفيوض الإلهية إلى الأرواح الملكوتية و الأشباح الناسوتية، فيعطى بإذن اللّه كل ذي حق حقه، و يسوق إلى كل مخلوق رزقه، و لإيصال الخلق إلى اللّه بحبل ولايته، و عروة وثقى محبته، و جذبة إحاطته و تصرفه، فهو حبل اللّه المتين و جنبه المكين.

قال اللّه تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا «1».

و قال: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «2».

و للمصاحبة مع اللّه تعالى كما

قالوا عليهم السّلام: «إن قلوبنا أوعية لمشية اللّه، فإذا شئنا شاء اللّه» «3».

و

قال عليه السّلام: «ظاهري إمامة و باطني غيب لا يدرك».

و لمصاحبته مع الخلق كما

قالوا: «إن لنا

مع كل ولي لنا أذن سامعة و عين ناظرة».

و

في الخطبة النطنجية: «لقد علمت ما فوق الفردوس الأعلى و ما تحت السابعة السفلى و ما في السموات العلى و ما تحت الثرى، كل ذلك علم إحاطة لا علم إخبار» «4».

______________________________

(1) آل عمران: 103.

(2) الزمر: 56.

(3)

غيبة الشيخ الطوسي: ص 160 عن الإمام الحسن العسكري في جواب المفوضة، و فيه: كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة اللّه فإذا شاء شئنا و اللّه يقول: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ

(4) على عليه السّلام و خطبة تطنجية للدكتور عبد العلى گويا ص 167 عن الزام الناصب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 155

و للتعدية إذ به يصل الواصلون و يفوز الفائزون فإنّ كل ذرة من ذرأت الوجود لا تصل وصولا فعليا إلى حقيقتها الكمالية الإمكانية إلّا بنور الهداية و شرف الولاية، فتتعدى اللوازم إلى إظهار مستجنات «1» الإمكان في عالم العيان في الأكوان و الأعيان.

و للسببية، فإنهم عليهم السّلام أسباب كينونات العباد، و وجوداتهم، و هدايتهم إلى مصالح المعاش و المعاد، و نزول البركات الدينية و الدنيوية عليهم، كما يستفاد ذلك كله من تضاعيف الأخبار المتواترة الدالة على بدو أنوارهم و أرواحهم، و أنّ كل ما سواهم من الذوات و الأنوار و الخيرات و السعادات و البركات إنما خلقت من أشعة أنوارهم، بهم فتح اللّه و بهم يختم، و بهم ينزل الغيث و بهم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، و بهم ينفس الهم و يكشف الضر، و بهم علمنا اللّه معالم ديننا و أصلح ما كان فسد من دنيانا.

و

في «التوحيد» عن الصادق عليه السّلام قال: «إن اللّه خلقنا فأحسن خلقنا، و صوّرنا فأحسن صورنا، و جعلنا عينه في

عباده، و لسانه الناطق في خلقه، و يده المبسوطة على عبادة بالرأفة و الرحمة، و وجهه الذي يؤتى منه، و بابه الذي يدل عليه، و خزاّنه في سمائه و أرضه، بنا أثمرت الأشجار، و أينعت الثمار، و جرت الأنهار، و بنا نزل غيث السماء، و نبت عشب الأرض، و بعبادتنا عبد اللّه، و لو لا نحن ما عبد اللّه» «2».

و الأخبار بهذا المضمون كثيرة لا تحصى مذكورة في «البحار» و غيره.

قال مولانا محمد صالح المازندراني طاب ثراه في شرح

قوله عليه السّلام: «بنا أثمرت الأشجار»

: أي بوجودنا و بركتنا أو بأمرنا صارت الأشجار مثمرة.

______________________________

(1) مشارق الأنوار: 167.

(2) توحيد الصدوق: ص 140- 141 و عنه بحار الأنوار: ج 24/ 197.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 156

أما الأول: فلأن وجودهم سبب لبقاء نظام العالم، فلو لم يكن وجودهم لم يكن عالم و لا نظام و لا أشجار و لا أثمار.

و اما الثاني: فلأنهم المدبرون في هذا العالم بإذن ربهم.

أقول: و لعل الأولى ترك التقييد بهذا العالم في كلامه الأخير لما ورد من انهم الحجج للّه سبحانه على خلقه في جمع العوالم التي ورد في بعض الأخبار أنها ألف ألف عالم على ما يأتي في تفسير قوله تعالى رَبِّ الْعالَمِينَ

و بالجملة فهم المقصود في جميع النشئات و العوالم، و لذا خوطب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

بقوله: «لولاك لما خلقت الأفلاك» «1».

و

بقوله: «خلقتك لأجلي و خلقت الأشياء لأجلك».

و

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض خطبة المذكورة في «نهج البلاغة»: نحن «صنائع اللّه و الخلق بعد صنائع لنا أو صنائع اللّه لنا» «2».

و إن كانت العبارة أيضا صالحة للإشارة إلى كونهم العلة الفاعلية.

و

في الخبر المذكور

في كتاب «الأنوار» على ما حكاه في البحار عن مولانا أمير المؤمنين روحي له الفداء: «إنّ نور نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقي الف عام بين يدي اللّه عزّ و جل واقفا يسبّحه و يحمده و الحق تبارك و تعالى ينظر إليه و يقول: يا عبدي أنت المراد و المريد و أنت خيرتي من خلقي، و عزتي و جلالي لولاك لما خلقت الأفلاك» «3».

______________________________

(1)

بحار الأنوار: ج 15/ 28 و ج 57/ 199 و فيه «لولاك ما خلقت الأفلاك»

من غير اللام.

(2)

نهج البلاغة: الكتاب 28، و فيه: فإنا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا. و في البحار ج 35 ص 178 عن الاحتجاج من توقيع الإمام عجل اللّه تعالى فرجه الشريف: و فخر صنائع ربنا و الخلق بعد صنائعنا.

(3)

بحار الأنوار: ج 15/ 28، و فيه: «لولاك ما خلقت الأفلاك»

من غير اللام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 157

و ما ذكرناه من معاني حرف الباء أنموذج يظهر لك باقي معانيها و أمير المؤمنين عليه السّلام هو غيب ذلك كله و حقيقته و مبدؤه و أصله و منشؤه.

و إليه الإشارة

بقوله: «أنا النقطة تحت الباء»

أي غيبها و سرها المستتر المقنع بالسر و حقيقتها المحجوبة في ذاتها المتنزلة إلى عالم الناسوت، إذ ليس المراد هو النقطة الواقعة تحت حرف الباء بالمداد و السواد بحيث نميز الباء عن التاء و الثاء و الياء، فإنها حدود عرضية و صفات خارجية و علامات مميزة لا دخل لها في جوهر الذات، بل المراد أنّ الوحدة إما وحدة حقية لا تعرّف بكمّ و لا كيف و لا جهة و لا إضافة و لا ذات و لا وصف و لا نعت و لا حقيقة

و لا اعتبار، بل هو الواجب الحق و المجهول المطلق من حيث الذات لا من حيث الآثار، و لذا ينبغي قطع الطمع عن التكلم فيه تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

و إمّا وحدة خلقية و لها تجليات و مظاهر في جميع العوالم المرتبة في السلسلة الطولية من الدرّة إلى الذرّة ففي عالم الجبروت هي الوحدة و هي المشية الكلية، و نور محمد و علي عليهما السّلام، و هذه الوحدة لا تزال تتنزل من عالم إلى عالم حتى تظهر في عالم الحروف الكتبية المنقوشة في الألواح و السطور بالنقطة التي هي أصل كل الحروف.

فإن أوّل ما يقع القلم في اللوح تظهر النقطة و لو قبل الجريان، فتظهر هي بنفسها و تتجلى ساير الحروف بها فهي آية نقشية ناسوتية المشية الكلية الإلهية، كما

قال عليه السّلام: «خلق اللّه المشية بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشية» «1».

ثم اعلم أن الحروف تنقسم إلى حروف كتبية و لفظية و نفسية، فالباء مثلا لها صورة كتبية منقوشة بالأقلام على الألواح، و صورة لفظية حاصلة من تقطيع الهواء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/ 145، عن توحيد الصدوق عن الصادق عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 158

الخارجة بالاستنشاق عند مخرج ذلك الحرف المركب من مادة و صورة فمادته هي الهواء الخارج و صورته اعتماده و تقطيعه عند خصوص مخرجه.

و لا ريب أن الباء المعبّر بها عن الباب الأقدم و الحجاب الأعظم مخرجها باب الفم و هو الشفه لأن اللّه تعالى اخترعها بالخطاب الفوهاني الشفاهي بل لا يمكن التكلم إلا بعد انطباق الفم، لأنه النور الفاتق لظلمة العدم.

أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا (بولاية أمير المؤمنين) أَنَّ السَّماواتِ (سموات العقول و المجردات) وَ الْأَرْضَ (أرض النفوس

و الماديات) كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما «1» بنور المشية الذي هو الفيض الأول، و النور الذي أشرق من صبح الأزل و هو الماء المطهر النافذ في العمق الأكبر و لذا قال:

وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ «2».

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ (و هي أرض الإمكان) فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ «3».

______________________________

(1) الأنبياء: 30.

(2) الأنبياء: 30.

(3) السجدة: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 159

الفصل الثاني
في الاسم

اعلم أن الناس اختلفوا في اشتقاق الاسم:

فعن الكوفيين: أنّ أصله (وسم) حذفت الواو و عوّضت عنها همزة الوصل ليقلّ إعلاله، إذ بزيادة الهمزة ينجبر النقصان إذ الحذف يوجب مع انعدام خصوصية الحرف نقصان كمية ما تركبت منه و بالتعويض ينجبر الثاني.

و ردّ بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم المطرد فيه تعويض الهاء في الآخر كما في (وعد) إذ لم يقولوا (أعد) بل قالوا (عدة)، كما أن المطرد فيما حذف عجزه تعويض الهمزة، كما في (ابن و أخواتها).

و فيه بعد تسليم اطراد القاعدة في المقامين أنّ قضيتها في المقام (سمة) و قد استعملت أيضا كما

في الخبر عن الرضا عليه السّلام في تفسير بسم اللّه قال «أسم نفسي بسمة من سمات اللّه» «1».

غاية الأمر أنه استعمل في المقام على وجه آخر أيضا استعمالا شايعا، كما أنه استعمل بدون العوض أيضا، إذ ذكروا أن من لغاته (سم و سم) بالكسر و الضم، كقول رؤبة «2»:

______________________________

(1) نور الثقلين ج 1/ 11، ح 31 عن عيون الأخبار.

(2) هو رؤبة بن عبد اللّه بن الحجاج بن رؤبة التميمي من الفصحاء المشهورين و من مخضرمي الدولتين: الأموية و العباسية، توفي سنة (145) ه- الأعلام:

ج 3/ 62.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 160 باسم الذي في كل سورة سمه أرسل فيها باذلا يقرمه

و قيل: إنه لا حذف و لا تعويض و إنما قبلت الواو همزة كإعاء و إشاح، ثم كره استعماله فجعل همزته همزة وصل فوزنه (فعل) لا (أعل).

و عن البصريين: أنه من (السمو) لأنه رفعة للمسمى و شعار له، فأصله (سمو) بسكون العين مع كسر الفاء أو ضمه لا فتحه، لأنه لا يجمع على أفعال.

قالوا: و هي من الأسماء العشرة التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال و هي (اسم و است و ابن و ابنه و ابنم، و اثنان، و اثنتان، و إمرأ، و امرأة، و أيمن) قسما فبنيت أوائلها على السكون، فتوصلوا إلى الابتداء بها بهمزة الوصل حذرا من الابتداء بالسكن المستحيل عند بعضهم المستنكر عند آخرين، و ربما استشهدوا بشيوع استعماله في جمعه الأسماء و الأسامي.

لكن عن «الصحاح» و «القاموس» أن الثاني جمع الجمع و في تصغيره سمي و في إسناد الفعل الضمير الحاضر سميت، و مجيئ سمى كهدى لغة فيه كما أنشدوا:

و اللّه أسماك سما مباركاآثرك اللّه به تباركا

و إن قيل إنّه لا حجة في هذا الأخير لاحتمال أنه على لغة من قال (سم) و نصبه لوقوعه مفعولا.

و بالجملة قضية التصاريف المتقدمة كونه مأخوذا من (السمو) إذ لو كان معتّل الأول كما قال الكوفيون لقالوا في جمعه (أوسام) و في تصغيره (و سيم) و في الإسناد (و سمت) و توهم حصول القلب المكاني فيها بأن يقال: أصل (أسماء أوسام).

و هكذا البواقي مع بعده لكونه خلاف الأصل مردود بأنه غير مطرد في ساير صيغ الاشتقاق و من هنا يتجه أن الأشبه بقواعد الاشتقاق هو الثاني.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 3، ص: 161

و أما الرضوي «1» المتقدم فكأنه مبني على الاشتقاق المعنوي لا اللفظي.

ثم إن فيه سبع لغات قد نظمها بعضهم بقوله:

في الاسم سبع لغات كلها سمعت و إنّني قد جمعت الكلّ مرتجلا

اسم بكسر و ضم مع سم بهماو في سما بثلاث حيثما نقلا

و نظمها آخر مقتصرا على السنّة:

اسم بفتح أول و الكسرمع همزة و حذفها و القصر

ثم اعلم أنّ اسم الشي ء ما يدلّ عليه دلالة لا يشارك مسمّاه في مرتبة دلالته شي ء، فاللفظ الذي تكثر معناه يدل على كل من مسميّاته دلالة لا يشارك مسماه غيره في مرتبة تلك الدلالة الجزئية، و ذلك لقضية تعدد الوضع، و لا ينافيه دلالته على مسماه الآخر أيضا، إذ ذلك أيضا بوضع وحداني مختص به لا يشاركه فيه غيره.

و لذلك يحصل التردد إذا استعمل اللفظ المشترك من دون قرينة معيّنة.

و من هنا قال الأصوليون:

«إن عدم صحة سلب المعنى عن المورد دليل على مجازية اللفظ في غيره بالنسبة إليه، و كذا العكس، و مثل اللفظ المشترك الأوصاف المشتركة التي هي من الأسماء المعنوية، فإن دلالة كل منهما على موضوعه من حيث عروضه لا يشاركه فيها غيره.

و بالجملة: قد سمعت أن الاسم مشتق من (الوسم) الذي هو العلامة اشتقاقا لفظيا أو معنويا، فكل ما كان علامة لشي ء من الأشياء فهو من هذه الحيثية اسمه و ذلك مسماه.

______________________________

(1) نور الثقلين: ج 1/ 11، ح 31 عن عيون الأخبار.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 162

و من هنا لا غرو أن يكون كل من الفعل و الفاعل و المفعول، و كلّ من الأثر و المؤثر، و كل من العلة و المعلول، و كل من اللازم و الملزوم اسما للآخر، فكل منها اسم

باعتبار و مسمّى باعتبار.

و من هنا يظهر أنّ أسمائه سبحانه تنقسم إلى أقسام أربعة: ذاتيّة و فعليّة و معنويّة و لفظيّة.

فالذاتية: هي المعاني التي يعبّر عنها بالذات و عن الذات بها، بل هي الذات حقيقة بلا مغايرة حقيقية أو اعتبارية، و لذا لا فرق بينها و بين اطلاق المبادي و المشتقات كالعلم و القدرة و الحياة، فهو علم و عالم، قدرة و قادرة، حي و حياة.

كما

قال الصادق عليه السّلام: «هو نور لا ظلمة فيه، و حياة لا موت فيه، و علم لا جهل فيه، و حق لا باطل فيه» «1».

و الفعلية: نفس فعله تعالى المعبّر عنها بالإرادة و المشية و الإبداع.

كما

قال الرضا عليه السّلام: «إن أسمائها ثلاثة و معناها واحد» «2».

و هذا الاسم أقدم الأسماء و أعظمها، و أكرمها، و أتمها، و أحسنها، و أشرفها.

و هو الاسم العظيم الأعظم، الأجل الأكرم الذي وضعه اللّه على النهار فأضاء و على الليل فأظلم «3».

فإنه المشية التي دان لها العالمون و لها انقادت السموات و الأرضون «4».

و أما الأسماء المعنوية: فهي الحقائق المخلوقة الجعلية من الكلية و الجزئية

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/ 70، ح 16 عن توحيد الصدوق.

(2) البحار: ج 57/ 50، ح 27، و فيه: و اعلم أن الإبداع و المشية و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة ...

(3) اشارة إلى ما في الدعاء الرجبية الخارجة من الإمام عليه السّلام على يد أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد، رواها المجلسي قدس سره في البحار: ج 98/ 393.

(4) اشارة إلى ما في دعاء السمات المروية في البحار: ج 90/ 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 163

و المادية و المجردة، الملكوتية و الناسوتية، و البسيطة و المركبة، و العلوية

و السفلية، فإن كلا منها اسم من الأسماء الإلهية، و هي المشار إليها

في دعاء الكميل بقوله: «و بأسمائك التي ملأت أركان كل شي ء، و بنور وجهك الذي أضاء له كل شي ء» «1».

و

في دعاء شهر رمضان: «اللهم إني أسألك باسمك الذي دان له كل شي ء» «2».

و بالجملة فكل حقيقة من الحقائق أو ذات من الذوات، أو وصف من الأوصاف، أو عرض من الأعراض، أو اسم من أسماء اللّه، و أعظمها أعظمها، و أكبرها أكبرها، و كل أسمائه عظيمة كبيرة، كما

في دعاء السحر: «اللهم إني أسألك من أسمائك بأكبرها، و كل أسمائك كبيرة» «3».

و ذلك لانتسابه إليه.

فشرافة الاسم بشرافة المسمى و عظمته و كبريائه، فلذلك استأنف الدعاء

بقوله: «اللهم إني أسألك بأسمائك كلها»

، حيث أنها بأجمعها تدل على العظمة و الكبرياء.

و من هنا قيل: إن قوله تعالى: وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ أو وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها و قوله: وَ الضُّحى وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى و غيرهما مما أقسم اللّه تعالى به من قليل و جليل و صغير و كبير أنما هو بمنزلة

قوله: «و عزتي و جلالي و كبريائي و قدرتي و جبروتي»

إلى غير ذلك من الصفات الجمالية و الجلالية، فإن كل شي ء من الأشياء مظهر لتلك الصفات الذاتية و الفعليّة.

ففي كل شي ء له آيةتدل على أنه واحد

______________________________

(1) البحار: ج 86/ 326.

(2) بحار الأنوار: ج 97/ 341.

(3) بحار الأنوار: ج 97/ 370.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 164

و

في الزيارة يسبح اللّه بأسمائه جميع خلقه «1».

و

قال مولانا الرضا عليه السّلام: «الاسم صفة لموصوف» «2».

فكل صفة من صفاته الفعلية أو الذاتية اسم من أسمائه، و كذا مظاهرها، و آثارها، و أسبابها و علائقها، و لوازمها، و هي الأسماء التي علمها اللّه

أبانا آدم على محمد و آله و عليه السّلام كما في قوله: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «3».

فإن اللّه تعالى خلقه من صفو جميع العالم، و أودع فيه قبضة من جميع العوالم، فآدم مجمع قوى العالم، كما

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: أ تزعم أنك جرم صغير* و فيك انطوى العالم الأكبر

و سيجي ء الإشارة إلى هذا في تفسير الآية إن شاء اللّه تعالى.

و أما الأسماء اللفظية: فهي الألفاظ المؤلّفة من الحروف الموضوعة للاقسام الأول لغرض التفهيم و التعليم و التعبير، كما

قال أبو الحسن الرضا عليه السّلام في خطبة: «فأسماؤه تعبير و صفاته تفهيم» «4».

و هذه في الحقيقة أسماء أسمائه، بل بأزيد من واسطة، فإن المعاني بعضها عنوان للآخر، فالإسم بهذه المعاني كلها غير المسمى، و ليس المعبود الحق هذه الأسماء اللفظية الوضعية، و لا معانيها المرتسمة منها في الأذهان، و لا الحقائق الكلية التي وضعت هذه الألفاظ بإزائها مع قطع النظر عن تحققها في الذهن أو في الخارج، فإنّ هذه كلها أسماء و صفات، و المسمّى الحق وراء ذلك كله.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 89/ 303، ح 3.

(2) البحار: ج 4/ 159، ح 3، عن التوحيد و المعاني و العيون.

(3) البقرة: 31.

(4)

بحار الأنوار: ج 4/ 228، ح 3، عن «التوحيد» و «العيون» عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السّلام و فيه: «فأسماؤه تعبير و أفعاله تفهيم». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 165

كما

عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: «من عبد ربه بالتوهم فقد كفر، و من عبد الاسم دون المعنى فقد كفر «1»، و من عبد الاسم و المعنى فقد أشرك، و من عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه

قلبه و نطق به لسانه في سر امره و علانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام حقا».

و

في خبر آخر: «أولئك هم المؤمنون حقا» «2».

فالعبادة بالتوهم أن يعبد الحقيقة المعقولة المتصورة في الذهن، فإن من يعبد ما في الأذهان كمن يعبد الأوثان و هم الذين يعبدون ما ينحتونه بأذهانهم و اللّه خلقهم و ما يعملون.

و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام: «كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مثلكم، مردود إليكم» «3».

و مما ذكرنا يظهر ما هو الحق في المسألة المعروفة و هي أنّ الاسم هل هو عين المسمى أو غيره.

و قد طال التشاجر فيه بين المتكلمين، فجلّ الأشاعرة بل كلّهم على الأوّل، و أصحابنا الإمامية و المعتزلة على الثاني.

و قد وردت بذلك جملة من الروايات عن الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين

كقول الصادق عليه السّلام في خبر هشام: «و الاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر و لم يعبد شيئا، و من عبد الاسم و المعنى فقد كفر، و عبد اثنين، و من عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد، أ فهمت يا هشام؟

قال: فقلت: زدني جعلت فداك.

______________________________

(1)

في البحار: و من عبد الاسم و لم يعبد المعنى فقد كفر».

(2) بحار الأنوار: ج 4/ 166، ح 7 عن «التوحيد».

(3) البحار: ج 69/ 292. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 166

قال: إن للّه تعالى تسعة و تسعين اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها، و لكن اللّه معنى يدل عليه بهذه الأسماء، و كلها غيره يا هشام، الخبز اسم للمأكول، و الماء اسم للمشروب، و الثوب اسم للملبوس، و النار اسم للمحرق» «1».

و غير ذلك من الأخبار و كان هذا

الخلاف في زمن الأئمة عليهم السّلام أيضا و لذا ورد السؤال عنه في بعض الأخبار.

ففي «الاحتجاج» عن أبي هاشم الجعفري و قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السّلام فسأله رجل، فقال: أخبرني عن الرب تبارك و تعالى أله أسماء و صفات في كتابه؟ و هل أسماؤه و صفاته هي هو؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام:

«إن لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: هي هو أنه ذو عدد و كثرة، فتعالى اللّه عن ذلك، و إن كنت تقول: هذه الأسماء و الصفات لم تزل فإنّ لم تزل تحتمل معنيين، فإن قلت: لم تزل عنده في علمه و هو يستحقها «2» فنعم، و إن كنت تقول: لم تزل تصويرها «3» و هجاؤها و تقطيع حروفها، فمعاذ اللّه أن يكون معه شي ء غيره، بل كان اللّه تعالى ذكره و لا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه و بين خلقه، يتضرعون إليه و يعبدونه و هي ذكره، و كان اللّه سبحانه و لا ذكر، و المذكور بالذكر هو اللّه القديم الذي لم يزل، و الأسماء و الصفات مخلوقات «4»» «5» الخبر.

ثم إن المتأخّرين لمّا رأو شناعة مقالة الأشعرية حيث ذهبوا إلى أن الاسم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/ 157- 158، ح 2، عن «التوحيد» و «الاحتجاج».

(2)

في الكافي و التوحيد: و هو مستحقها.

(3)

في البحار نقلا عن «الاحتجاج»: لم يزل صورها و هجاؤها.

(4)

في التوحيد: «و الصفات مخلوقة المعاني».

و

في الكافي: «و الأسماء و الصفات مخلوقات و المعاني».

(5) بحار الأنوار: ج 4/ 153، ح 1، عن «الاحتجاج».

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 167

عين المسمى و أن العبارة التي يعبر بها عن المسمى تسميته تحيّروا في تحرير محل البحث على نحو يكون حريّا لهذا التشاجر، فعن

بعضهم حمل كلامهم على ظاهره و الحكم بسخافته.

و لذا قال الرازي في تفسيره: «إن هذا البحث يجري مجرى العبث» «1».

و قال بعضهم: «إنّ الاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى، لأنه يتألّف من أصوات مقطّعة غير قارّة، و يختلف باختلاف الأمم و الأعصار و يتعدد تارة كألفاظ مترادفة و يتحد أخرى، و المسمى لا يكون كذلك، و إن أريد به ذات الشي ء فهو المسمى و لكنه لم يشتهر بهذا المعنى، و إن أريد به الصفة كما هو رأي الشيخ أبي «2» الحسن الأشعري، انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى و إلى ما هو غيره، و إلى ما ليس هو نفسه و لا غيره، فإنّ الصفة عنده منها عين الموصوف كالوجود و منها غيره، و هي ما يمكن مفارقتها كالخلق و الرزق، و منها لا هو و لا غيره، و هي ما يمتنع انفكاكها كالقدرة و العلم.

و عن بعض الصوفية: إنّ الاسم هو الذات المتعيّنة بصفة، فتعين ذاته المقدسة بصفة العلم اسمه العليم و بصفة القدرة هو القدير.

قال القيصري «3» في «شرح الفصوص»:

«الذات مع صفة معيّنة و اعتبار تجلّ من تجلياته تسمّى بالاسم، فإنّ الرحمن ذات لها الرحمة، و القهّار ذات لها القهر، و هذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء.

______________________________

(1) مفاتيح الغيب: ج 1/ 109.

(2) أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر المتكلم البصري، توفي سنة (324) ه.- العبر:

ج 2/ 208.

(3) هو داود بن محمود بن محمد القيصري الرومي، المتوفى سنة (751) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 168

و من هنا يعلم أنّ المراد بأن الاسم عين المسمى ما هو» «1».

قلت: و فيه، أنّه إن أراد بالصفة الصفات الذاتية التي لا مغايرة لها

مع الذات الأحدية لا حقيقة و لا اعتبارا انتفى التعدّد، و إن أراد الفعلية أو الأعم انتفت العينية.

و في الكلمة الشعيبية من «الفصوص» أنّ الأسماء الإلهية عين المسمّى من حيث الوجود و أحدية الذات، و إن كانت غيرا باعتبار كثرتها «2».

و بعض الأعلام جعل النزاع في المقام في أنّ المفهوم من اسم اللّه مثلا هل هو عين المفهوم من اللّه أم لا؟

و على كل حال فاستدّل القائلون بالاتحاد بقوله تعالى:

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها ... «3».

و هم إنما عبدوا الذات لا العبارة.

و أيضا التسمية إنما يكون للذات لا العبارة.

و بقوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فإنه أمر بالتسبيح، و هو التنزيه الذي يكون للذات القديم المنزه عن النقصان، لا للعبارة التي هو في حيّز الحدوث و الإمكان.

و بالبسملة فإن المستعان به هو اللّه الحي القيوم.

و بقوله: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ «4».

و أجيب عن الجميع بأن المراد بالاسم في الآيات اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته و صفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها من الرفث و سوء

______________________________

(1) شرح فصوص الحكم: ص 13.

(2) شرح الفصوص: ص 271.

(3) سورة النجم: 23.

(4) الرحمن: 87.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 169

الأدب.

و بأن الاسم فيه مقحم كما في قول لبيد «1» يخاطب ابنتيه وقت وفاته:

إلى الحول- ثم اسم السّلام عليكماو من يبك حولا كاملا فقد اعتذر

و بأنّ معنى قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ سبّحه، و هي ما يسبّح به و مثله قوله:

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ «2» أي سبح ربك باسمه.

و بأنّ من جملة صنوف التعظيم أن لا يصرّح بمن يراد تعظيمه، بل يذكر ما يتعلق به الحضرة و الجناب كما يقول: السّلام على الحضرة العالية و السدة السنية و الجناب

الرفيع.

ثم بعد تسليم إطلاق الاسم و إرادة المسمى لا يلزم منه كون أحدهما عين الآخر، بل كما في ساير المجازات.

و احتج من ذهب إلى المغايرة بقوله: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «3» و بقوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «4».

و بالأخبار الكثيرة التي مرّت إلى بعضها الإشارة، سيما مع اشتمالها على بعض الأدلة القوية

كقوله: «إن للّه تسعة تسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها».

______________________________

(1) هو لبيد بن ربيعة العامري من مشاهير الشعراء و من المعمرين، قيل: توفي في إمرة عثمان بالكوفة، و قيل: في سنة (41) ه عن مائة و خمسين سنة.- العبر: ج 1/ 50.

(2) الواقعة: 74.

(3) الأعراف: 180.

(4) الإسراء: 110.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 170

و

تفسير الصراط المستقيم ج 3 201

قوله: «الخبز اسم للمأكول» «1».

فإنه إشارة إلي بيان الفرق بين الاتحاد في المفهوم و الاتحاد في المصداق، فإن مسمى الخبز مصداق المأكول، و مفهوم المأكول لا يتصف بما يتصف به مصداقه، فإن معنى المأكول غير مأكول، و معنى المشروب غير مشروب، إنما المأكول و المشروب شي ء آخر غير المعنيين، و هما الخبز و الماء، فمجرد صدق الأسماء على اللّه لا يدل على اتحادهما في أنفسهما، و لا على عينيتها له سبحانه.

و بأنه لو كان الاسم عين المسمى لصح أن يقال: (عبدت اسم اللّه) و (رزقني اسم اللّه) و (أكلت اسم الخبز) و (شربت اسم الماء) و هذا مما ينسب قائله إلى الجهل.

و بأنه إذا سئل عن اسم شخص يقال في جوابه اللفظ الموضوع له، و لا يشار إلى عينه.

هذا حاصل ما ذكروه في المقام مع زيادة تحرير و تحبير.

و قد

تبيّن من جميع ما مرّ أن الاسم بأي معنى من المعاني، و في كل مرتبة من المراتب غير المسمى في تلك المرتبة، لأنه قضيّة التسمية، فإن الواجب تعالى هو الوجود الحق الذي ليس إطلاق، و لا تقييد، و لا عموم، و لا خصوص، و لا مهية أخرى غير الوجود، بل إنيّته مهيته، و مهيته إنيّته، فجميع الأسماء و الصفات بألفاظها و معانيها و مفاهيمها خارجة عنه مغايرة له، نعم، إنما خلقها اللّه تعالى ليدعوه بها عباده، و إنما المراد بها كلها هو المعبود الحق.

قال الصادق عليه السّلام في خبر الزنديق: «إنه هو الرب و هو المعبود، و هو اللّه، و ليس قولي اللّه إثبات هذه الحروف:

ألف و لام، و هاء لكني أرجع إلى معنى هو شي ء خالق الأشياء و صانعها، وقعت

______________________________

(1) نفس المصدر. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 171

عليه هذه الحروف و هو المعنى يسمى به اللّه، و الرحمن، و الرحيم و أشباه ذلك من أسمائه، و هو المعبود جل جلاله» «1».

ثم لا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه من المغايرة إنما هو في غير الصفات الذاتية التي هي عينه بلا مغايرة حقيقية أو اعتبارية كالعلم الذاتي و القدرة و الحياة و الوجود.

فإن هذه الصفات الذاتية عين ذاته تعالى بلا مغايرة أصلا، حتى أنه لا فرق بين اتصافه بتلك المبادي أو بما اشتق منه كالعالم و القادر، بل علمه عين قدرته، و قدرته عين علمه، لاتحاد كل منهما مع الذات.

ففي «التوحيد» عن الصادق عليه السّلام: «لم يزل اللّه جل و عز ربنا و العلم ذاته و لا معلوم، و السمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر، و القدرة ذاته و لا

مقدور» «2».

و

فيه عن هشام بن سالم قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال لي:

«أ تنعت اللّه تعالى؟ قلت: نعم، قال: هات! فقلت: هو السميع البصير، قال:

هذه صفة يشترك فيها المخلوقون، قلت: و كيف تنعته؟ فقال: هو نور و لا ظلمة فيه، و حياة لا موت فيه، و علم لا جهل فيه، و حق لا باطل فيه» «3».

استبصار

روى ثقة الإسلام في «الكافي» و الصدوق في «التوحيد» مسندا عن الصادق عليه السّلام قال: «إن اللّه تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير مصوت «4»،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10/ 196، ح 3 عن «التوحيد».

(2) بحار الأنوار: ج 4/ 71، ح 18 عن «التوحيد».

(3) بحار الأنوار: ج 4/ 70، ح 16 عن «التوحيد».

(4)

في الكافي: «غير متصوت»

، و

في التوحيد «غير منعوت». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 172

و باللفظ غير منطق، و بالشخص غير مجسد، و بالتشبيه غير موصوف، و باللون غير مصبوغ، منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر، فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها و حجب واحدا منها، و هو الاسم المكنون المخزون، فهذه الأسماء الثلاثة التي ظهرت، فالظاهر هو اللّه تبارك و تعالى، و سخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه الأسماء أربعة أركان، فلذلك اثنى عشر ركنا، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها فهو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، لا تأخذه سنة و لا نوم، العليم، الخبير، السميع، البصير، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر، العلي، العظيم، المقتدر، القادر، السّلام، المؤمن، المهيمن، البارئ «1»، المنشئ، البديع، الرفيع، الجليل، الكريم،

الرزاق «2»، المحيي، المميت، الباعث، الوارث.

فهذه الأسماء و ما كان من الأسماء الحسنى حتى تتمّ ثلاثمائة و ستون اسما، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة.

و هذه الأسماء الثلاثة أسماء «3» و حجب للاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، و ذلك قوله عزّ و جل: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «4»» «5».

أقول: و المراد بهذا الاسم و اللّه أعلم و قد علمه معادن علمه، هو الصادر

______________________________

(1) مكرر، و لعله من النساخ.

(2) في البحار: الرازق.

(3)

في البحار: و هذه الأسماء الثلاثة أركان.

(4) الإسراء: 110.

(5) بحار الأنوار: ج 4/ 166، ح 8، عن توحيد الصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 173

الأول عن الواجب، و هو الوجود المطلق، و النفس الرحماني، و النور الشعشعاني، و البشر الأول بل الثاني، و السبع المثاني، و مقام البيان و المعاني، و الغيب الأول، و النور الذي أشرق من صبح الأزل، و فلك الولاية المطلقة و الكاف المستديرة على نفسها، و المشية الكلية، و المحبة الحقيقية، و الحضرة الواحدية، و الحقيقة المحمدية، و الولاية العلوية، و السرّ المستتر، و السر المقنع بالسر، و مبدأ الأسماء و الصفات، و أوّل مقام شؤون الذات، و الشمس الطالعة في أفق لم يزل، و وجه اللّه عزّ و جلّ، و القديم الأول، إذ الحق تعالى هو القديم المطلق الذي لا ثاني له، و إليه الإشارة

في الخطبة الأميرية الغديرية على منشئها آلاف الثناء و التحية بقوله: «استخلصه اللّه في القدم على سائر الأمم، أقامه في سائر عوالمه مقامه في الأداء، إذ كان لا تدركه الأبصار و لا تحويه خواطر الأفكار» «1».

و هذا الاسم هو قطب الأقطاب، و باب الأبواب، و حقيقة أم الكتاب،

و منه المبدأ، و إليه المآب، و بحر الإمكان و الأكوان، و المقامات التي لا تعطيل لها في كل مكان و صاغورة الجنان، و باكورة نفس الرحمان، و الإنسان الذي علمه البيان و باء البسملة و سر الحوقلة، و مظهر الحمدلة، و حقيقة السمعلة، إلى غير ذلك من الأسماء الشريفة و الألقاب المنيفة.

و هذا الاسم بالحروف غير مصوت، لأن الصوت من الأعراض الضعيفة، و الأوصاف السخيفة، و حروف هذا الاسم عالية لامعة، و كلماتها متعالية جامعة، و هي المشار إليها

بقول مولانا الرضا عليه السّلام و روحي و روح العالمين له الفداء و عليه و على آبائه و أبنائه آلاف التحية و الثناء في خبر عمران الصابي حيث قال: «و اعلم أن الإبداع و المشية و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة، و كان

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 97/ 113، عن مصباح الزائر. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 174

أول إبداعه و أرادته و مشيته الحروف التي جعلها أصلا لكل شي ء و دليلا على كلّ مدرك و فاصلا لكل مشكل، و بتلك الحروف تفريق كل شي ء من اسم حق أو باطل، أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، و عليها اجتمعت الأمور كلها» «1».

لكن الحروف في هذا الخبر هو الركن الرابع من هذا الاسم كما ستعرف.

و باللفظ غير منطق، لما سمعت، بل نطق به اللّه سبحانه من غير لفظ، يقول و لا يلفظ، و يرى و لا يلحظ.

ففي «تأويل الآيات» بالإسناد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إن اللّه تبارك و تعالى أحد واحد تفرد في وحدانيته، ثم تكلّم بكلمة فصارت نورا، ثم خلق من ذلك النور

محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خلقني و ذريتي، ثم تكلّم بكلمة فصارت روحا فأسكنه اللّه في ذلك النور، و أسكنه في أبداننا، فنحن روح اللّه و كلماته، و بنا احتجب من خلقه» «2».

و

في «مصباح الأنوار» أنه سئل العباس: كيف كان بدو خلقكم يا رسول اللّه؟

فقال: «يا عم! لما أراد اللّه تعالى أن يخلقنا تكلم بكلمة خلق منها نورا، ثم تكلم بكلمة أخرى فخلق منها روحا، ثم خلط النور بالروح فخلقني و خلق عليا و فاطمة و الحسن و الحسين» «3».

و بالشخص غير مسجد لتقدس ذاته عن الاتصاف بعوارض الماديات من التجسّد و التجسّم و التجزية و التفكيك و التحليل.

و بالتشبيه غير موصوف، فإنه ليس كمثله شي ء بناء على أن الكاف للتشبيه و ليست زائدة، لأن المثل بكسر الميم و سكون المثلثة و المثل بالفتحتين عندنا بمعنى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10/ 314، ح 1.

(2) بحار الأنوار: ج 15/ 10، ح 10.

(3) بحار الأنوار: ج 57/ 193.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 175

واحد و المراد به الصفة، فإن صفة الشي ء مثله، بل لا يعرف الشي ء إلا بصفة التي هي مثله، و للّه المثل الأعلى في السموات و الأرض.

و

في الأدعية: «أسئلك بأسمائك الحسنى و أمثالك العليا».

و

في الجامعة الكبيرة: «انهم المثل الأعلى».

و ذلك لأنهم الآيات التي يستدل بها عليه سبحانه، فهم مثله أي مثل صفته التي تدل عليه كما

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «صفة استدلال عليه، لا صفة تكشف له».

فصح بذلك ثبوت المثل و اتضح نفي المثل، و لا يستلزم ذلك نفي الذات كما توهم لأن الموصوف لا يصح أن يكون صفة لصفته.

و باللون غير مصبوغ لا بالألوان بل بصبغة اللّه التي هي حكاية

فعله، و تجوهر أنوار قدسه «و من أحسن من اللّه صبغة» «1».

منفي عنه الأقطار لبساطته المطلقة التي لا أبسط منه في أفق الأكوان و الوجود، فلا يتصف بشي ء من الأقطار و الحدود.

محجوب عنه حس كل متوهم لأنه عال متعال من أن تناله الأوهام أو تدركه الأفهام، و ذلك لأنه إنما تحد الأدوات أنفسها، و تشير الآلات إلى نظائرها، و توهّم كل متوهم إنما هو من سنخ رتبته لا يجاوز طوره و مقامه، فالمحجوب إنما هو حسّ المتوهم لقصوره في ذاته و انحجابه بنفسه، لا ذلك الاسم، فإنه ظاهر مكشوف باهر معروف، هذا كاحتجاب الشمس عن أعين الخفافيش.

نعم، في تعليق الحكم على الموصوف إيماء إلى أنه يمكن إدراكه بنور الفؤاد الذي هو أعلى مشاعر الإنسان، و ذلك لأنه المشية الجزئيّة، و الكلية الإلهية، و ذلك،

______________________________

(1) سورة البقرة: 138.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 176

بعد محو الموهوم، و صحو المعلوم، لتنكشف سبحات الجلال من غير إشارة، إذ مع الإشارة إلى الكشف و المكشوف يكون الحجاب نفس الإشارة، فافهم الإشارة مع قصور العبارة.

مستتر غير مستور، فإنّ الاستتار و الاحتجاب من المشاعر يكون على وجوه ثلاثة: ضعف الشي ء في نفسه، و حيلولة الحجاب بينه و بين المدرك، و ضعف المدرك و قصوره عن إدراكه و الإحاطة عليه، لاضمحلال نوره، و تلاشي ظهوره، بمجرد إشراق شمس وجوده عليه.

بل هاهنا وجه رابع: و ذلك أن يكون الشي ء في نهاية الاستغراق و الشمول و في غاية الإطلاق و العموم بحيث لا يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السموات و الأرض، و قد أحاط بسلطانه و هيمنته و إشراقه و أشعته على جميع الكائنات من الدرة إلى الذرة فصار ظهوره سبب خفائه.

و لا غرو

في ذلك، فإن الأشياء تستبان بأضدادها «1»، و ما عمّ وجوده حتى لا ضد له عسر إدراكه و مثاله كما قيل: نور الشمس المشرق على الأرض، فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض يحدث في الأرض و يزول عند غيبة الشمس، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها لكنا نظن أن لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها و هي السواد و البياض و غيرهما، فإنا لا نشاهد في الأسود إلّا السواد، و في الأبيض إلا البياض و هكذا.

______________________________

(1) قال الرومي: بد ندانى تا ندانى نيك راضد را از ضد توان ديد أى فتى

و قال الشبسترى: ظهور جمله اشيا بضد است ولى حق را نه مانند و نه ند است

اگر خورشيد بر يك حال بودى شعاع أو بيك منوال بودى

ندانستى كسي كأين پرتو اوست نبودى هيچ فرق از مغز تا پوست تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 177

و أما الضوء فلا ندركه وحده، و لكن لمّا غابت الشمس و أظلمت المواضع أدركنا التفرقة بين الحالتين، فعلمنا أن الأجسام كانت قد استضاءت بضوء، و اتصفت بصفة فارقتها عند الغروب، فعرفنا وجود النور بعدمه، و ما كنا نطلع عليه لو لا عدمه إلا بعسر شديد، و ذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام و النور.

هذا مع أنّ النور أظهر المحسوسات فهو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، و قد خفي أمره بسبب ظهوره لو لا طريان ضده.

فالوجود المطلق فضلا عن الحقّ حريّ بالاختفاء لفرط ظهوره و شدة نوره «1».

فجعله بالجعل الإبداعي التكويني كلمة تامة لتمامية المتكلّم به و كماله في صفتي الجلال و الجمال على أربعة أجزاء فإنّ للمشية الكلية أربعة مقامات:

الأول: مقام اسم الفاعل و مثاله القايم من زيد

فإن زيدا لمّا ظهر بصفة القيام قيل له: القائم، ففعله قيامه، و هو القائم لكن لا بذاته، و لذا لو قعد لم يكن قائما، بل بفعله، فهو اسم للفاعل من حيث هو فاعل، و هو الذي خلقه اللّه بنفسه و أمسكه بظلة، فإنه تعالى لا ظل له يمسكه، و هو يمسك الأشياء بأظلّتها، و هو المشار إليه

في الدعاء الرجبية المهدوية عجل اللّه فرجه بقوله: «و مقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك، لا فرق

______________________________

(1) قال الحكيم المتأله السبزواري:

يا من هو اختفى لفرط نوره* الظاهر الباطن في ظهوره و قال الشبستري:

جهان جمله فروغ نور حق دان* حق اندر وي زبيدائي است پنهان تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 178

بينك و بينها إلا أنهم عبادك و خلقك» «1».

الثاني: مقام الفعل الذي

قال الرضا عليه السّلام: «أسماؤه ثلاثة و معناه واحد، و هي الإبداع و الإرادة و المشية ...» «2».

الثالث: مقام المفعول المطلق و هو الوجود المنبسط و الظل الممدود.

الرابع: مقام المفعول الأول و هو التعين الأول، و النور الذي أشرق من صبح الأزل، و صبح الأزل هو المشية، و هذا النور هو النور المحمدي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو أول فائض عن الفعل، و من أشعته خلق اللّه سبحانه كل شي ء المؤمن من نفس الشعاع، و الكافر من عكس الشعاع.

و هذه الأربعة لها معية وحدانية، ليس منها واحد قبل الآخر، و إنما التفكيك و التحليل بينها في التنزيل الفؤادي، و إلا فهي واحدة و ما أمرنا إلا واحدة «3» و هي المشار إليها

بقوله: «خلق اللّه المشية بنفسها» «4».

فأظهر منها الثلاثة الأخير لفاقة الخلق و حجب منها: الأول،

فإنه المكنون المخزون، حارث دونه الأفكار و كلّت عن رؤيته الأبصار.

ثم إنه لما كانت هذه المراتب و المقامات حادثة ما استغنت كل مرتبة منها من أربعة أركان: الخلق و الحياة و الرزق و الموت، و هي الأركان الأربعة للعرش الإلهي في الدنيا المشار إليها بقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «5».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 98/ 393.

(2) بحار الأنوار: ج 10/ 314، ح 1.

(3) سورة البقرة: 50.

(4) بحار الأنوار: 4/ 145، ح 20 عن توحيد الصدوق.

(5) سورة الروم: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 179

فإن من جملة إطلاقات العرش هو المشية الكلية، بل هو أول إطلاقاته، و أعلى مقاماته، و هي المشار إليها

بقوله في الجامعة الكبيرة: «خلقكم اللّه تعالى أنوارا فجعلكم بعرشه محدقين» «1».

و هو العرش الأعظم الذي استوى عليه الرحمن برحمانيته، الجامع للمقامات الأربعة المتقدمة، فإذا اعتبرت الأركان الأربعة في العوالم الثلاثة كان المجموع اثنى عشر.

ثم إن اللّه تعالى لما نزّلها من علّو و سمّو مكانها، و مقامها سار بكل مرتبة من تلك المراتب في ثلاثين عالما، و أظهرها في جميع هذه العوالم، فتمّت كلمته، و عظمت نعمته، و بلغت حجّته، و كملت عطيّته فسار بكلّ منها في عالم الوجود المقيّد، ثم في عالم العقل، ثمّ في عالم الروح، ثم في عالم النفس، ثمّ في عالم الطبيعة، ثم في عالم الهيولى، و هي المادّة ثمّ في عالم الصورة، ثم في عالم المثال، ثمّ في عالم العناصر الجسمانيّة، ثمّ في عالم الأعراض، و لكلّ منها ثلاث مراتب:

الأعلى، و الأوسط، و الأسفل، فتمام الأدوار و الأطوار و المراتب تنتهي الى ثلاثمائة و ستّين.

لكن لا يخفى أنّ هذا العدد إنّما هو باعتبار ما عندنا، و

إلّا إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «2». و لمّا كان العرش الأعظم من عالم الربوبية، كان عدد أركان ثلاثمائة و ستون ألفا كما

رواه مولانا أبو محمد العسكري روحي له الفداء و على ابنه و آبائه آلاف التحية و الثناء في تفسيره، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه لما خلق العرش خلق له ثلاثمائة و ستين ألف

______________________________

(1) الجامعة الكبيرة المرويّة عن الامام الهادي عليه السّلام كما في الفقيه و العيون و غيرهما.

(2) الحج: 47. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 180

ركن، و خلق عند كل ركن ثلاثمائة ألف و ستين ألف ملك، لو أذن اللّه تعالى لأصغرهم فالتقم السموات السبع و الأرضين السبع ما كان ذلك بين لهواته إلا كالرملة في المفازة الفضفاضة «1»، فقال لهم اللّه: يا عبادي احتملوا عرشي هذا، فتعاطوه، فلم يطيقوا حمله و لا تحريكه، فخلق اللّه عزّ و جل مع كل واحد منهم واحدا فلم يقدروا أن يزعزعوه، فخلق اللّه مع كل واحد منهم عشرة فلم يقدروا أن يحرّكوه فخلق اللّه بعدد كل واحد منهم مثل جماعتهم فلم يقدروا أن يحركوه، فقال اللّه عزّ و جل لجميعهم: خلّوه عليّ أمسكه بقدرتي، فخلّوه فأمسكه اللّه عزّ و جل بقدرته، ثم قال لثمانية منهم: احملوه أنتم، فقالوا: يا ربنا لم نطقه نحن و هذا الخلق الكثير و الجم الغفير فكيف نطيقه الآن دونهم؟ فقال اللّه عزّ و جل: لأني أنا اللّه المقرّب للبعيد، و المخفّف للشديد و المسهّل للعسير، أفعل ما أشاء و أحكم ما أريد، أعلّمكم كلمات تقولونها يخفّف بها عليكم، قالوا: و ما هي؟ قال: تقولون: بسم اللّه الرحمن الرحيم، و

لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم، و صلى اللّه على محمد و آله الطيبين، فقالوها، فحملوه و خفّ على كواهلهم كشعرة نابتة على كاهل رجل جلد قوي.

فقال اللّه عزّ و جل لسائر تلك الأملاك: «خلّوا على هؤلاء الثمانية عرشي ليحملوه و طوقوا أنتم حوله و سبّحوني، و مجدّوني، و قدّسوني، فأنا اللّه القادر على ما رأيتم و على كل شي ء قدير» «2».

و أمّا بيان أنّ حملة العرش في الدنيا أربعة، و في يوم القيامة يحمله ثمانية، فسيأتي الإشارة إليه في موضع آخر.

______________________________

(1) الفضفاضة: الواسعة.

(2) بحار الأنوار: ج 27/ 97، ح 60 عن التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 181

و هذا بيان الخبر على ما أفيض عليّ من بركات أئمة الأنام عليهم الصلاة و السّلام.

و لا علينا أن نقصّ عليك بعض ما قد وصل إلينا في بيانه من علمائنا الأعلام رفع اللّه أقدارهم في دار السّلام.

قال مولانا التقيّ الورع المجلسي على ما حكاه ولده المجلسي الثاني في شرحه على الكافي:

«إنّ الاسم الأول كان اسما جامعا للدلالة على الذات و الصفات، و لمّا كان معرفة الذات محجوبة عن غيره تعالى جزّء ذلك الاسم على أربعة أجزاء، و جعل الاسم الدالّ على الذات محجوبا عن الخلق، و هو الاسم الأعظم، و الأسماء التي أظهرها اللّه للخلق على ثلاثة أقسام:

منها ما يدلّ على التقديس مثل: العليّ العظيم العزيز الجبار المتكبر.

و منها ما يدلّ على علمه تعالى.

و منها ما يدلّ على قدرته تعالى.

و انقسام كل منها إلى أربعة أقسام بأن يكون التنزيه إمّا مطلقا أو للذات أو الصفات أو الأفعال.

و يكون ما يدل على العلم: إما لمطلق العلم، أو للعلم بالجزئيات كالسميع

و البصير أو الظاهر و الباطن.

و ما يدلّ على القدرة: إما للرحمة الظاهرة أو الباطنة أو الغضب ظاهرا أو باطنا أو ما يقرب من هذا التقسيم.

و الأسماء المفردة على ما ورد في القرآن و الأخبار يقرب من ثلاثمائة و ستين اسما ذكرها الكفعمي في مصباحه، فعليك بجمعها و التدبر في ربط كل منها بركن من

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 182

تلك الأركان» «1». انتهى كلامه زيد مقامه.

و نسج على منواله مولانا ولده العلامة المجلسي قدّس سرّه في «البحار» لكنه نبّه على ذكر الأسماء الثلاثة في الخبر، قال:

«و هو (اللّه تبارك و تعالى) على نسخة «الكافي و (سبحانه) بدل (تعالى) على نسخة «التوحيد»، فاللّه موضوع للذات المستجمع للصفات الذاتية الكمالية و (تبارك) إشارة إلى أنه معدن الفيوض، و منبع الخيرات التي لا تتناهى، و إليه «2» يرجع جميع الصفات من الخالقية، و الرازقية، و المنعمية، و غيرها، كما أن الأول «3» جامع للصفات الذاتية الجمالية.

و أما الثالث و هو (تعالى) أو (سبحانه) فإشارة إلى الصفات الجلالية المنزهة له من جميع النقايص، و لكل من الثلاثة أربعة أركان.

أما اللّه فدعائمه الأربع و هي وجوب الوجود المعبر عنه بالصمدية و القيومية و العلم و القدرة و الحياة.

و أما البركة «4» فلها الإيجاد و التربية في الدارين و الهداية في الدنيا و المجازات في الآخرة.

و أما التنزيه «5» فللذات عن مشابهة الممكنات و من إدراك الأوهام و العقول و لصفاته عن النقايص، و لأفعاله عن الظلم و العجز.

إلى أن قال: و ظاهر أنّ لكل منها شعبا كثيرة، فجعل عليه السّلام شعب كل منها

______________________________

(1) مرآة العقول: ج 2/ 29.

(2) في البحار: و هو رئيس جميع الصفات الفعلية.

(3) في البحار: كما

أن الأول رئيس الصفات الوجودية من العلم و القدرة و غيرهما.

(4) في البحار: و أما (تبارك) فله أركان أربعة: هي الإيجاد ...

(5) في البحار: و أمّا (سبحان) فله أربعة أركان لأنه إما تنزيه الذات عن مشابهة الممكنات أو تنزيهه عن إدراك الحواس و الأوهام ...

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 183

ثلاثين، و ذكر بعض أسماء اللّه الحسنى على وجه التمثيل و أجمل الباقي «1»، إلى آخر ما ذكره قدس روحه.

و للصدر الأجل الشيرازي كلام مبسوط في شرح الخبر حاصله أنّ الاسم هو الوجود المطلق و أمّا كونه على أربعة أجزاء فتلك الأجزاء ليست أجزاء خارجية و لا مقدارية و لا حدّية بل إنما هي معاني و اعتبارات و مفاهيم اسمائية و صفاتية، فالأربعة هي: الحياة و العلم و الإرادة و القدرة، فإنها أمهات الأسماء الإلهية، و ما سواها كلها مندرجة تحت هذه الأربعة، ثلاثة منها مضافة إلى الخلق، لأن العلم و الإرادة و القدرة من صفات الإضافة فهي طالبة لمعلوم، و مراد، و مقدور، و واحد منها ليس كذلك و هو الاسم المكنون المخزون.

و بوجه آخر: للصادر الأول أربع حيثيات: الوجوب، و الوجود، و الهيئة الإمكانية، و التشخص.

فالأول هو الاسم المكنون، و الثلاثة هي الأسماء البارزة لحاجة الخلق، و كما أنّ الاسم الجامع و إمام الأئمة هو اسم اللّه المتضمن لجميع الأسماء، فكذلك خليفة اللّه في الأرض و السماء، مختصر جامع لمدلولات الأسماء و كلمة جامعة لمعانيها، و العالم كلّه تفصيل ذاته، بصورها القائمة بالنفس الرحماني، و الفيض الانبساطي بحسب منازله و مراتبه، و ذلك قوله: فالظاهر هو اللّه تبارك و تعالى، إذ الاسم عين المسمى بوجه، و الظاهر عين المظهر بوجه.

و أما الأركان الأربعة فلكل

من الأسماء الأربعة مراتب أربعة هي كالأركان

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/ 166- 172.

و في مرآة العقول: ج 2/ 28 بعد ما شرح الحديث قال: هداني إلى ذلك ما أورده ذريعتي إلى الدرجات العلى و وسيلتي إلى مسالك الهدى بعد أئمة الورى عليهم السّلام، أعني والدي العلامة قدس اللّه روحه في شرح هذا الخبر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 184

لها، فمراتب العلم تعقل للعقل، و تفكر للنفس الناطقة، و تخيل للنفس الحيوانية، و شهوة للطبيعة الحسية، و مراتب الإرادة عشق و هوى، و شوق و شهوة، و مراتب القدرة: الإبداع و الاختراع و هو التصوير، و الفعل، و هو الإعداد و التحريك.

و الأول من الكل للعقل الى آخر ما مرّ من الترتيب.

ثم استقرب وجها آخر و هو أنّ هذه الأسماء الثلاثة لمّا كانت اسما لكلمة واحدة، و كلها في مرتبة واحدة، لا تقدّم لواحد منها على الآخر فالمسخّر المربوب لكل واحد هو بعينه المسخّر المربوب للآخر، فالأركان الأربعة المسخرة لهذه الأسماء الثلاثة يجب أن يكون أعيانها بإزاء العين لهذه الكلمة، و أوصافها الاسمية بإزاء هذه الأسماء الثلاثة.

فكل من الأسماء الثلاثة مشتمل على الأركان الأربعة و بالعكس.

إلى أن قال: و لهذه المناسبة انقسمت الأفلاك بما فيها باثني عشر قسما هي البروج المشهورة على وجه التربيع التثليثي لظهور كل من الطبائع الأربعة العنصرية التي هي بإزاء العقل و النفس و الطبيعة و المادة في ثلاثة مواضع من الفلك الأقصى، و لذا صار كل ثلاثة من البروج متعلقا بعنصر من العناصر، و إذا أجرى في كل من هذه الأسماء و مربوباتها حكم الأسماء الثلاثة الأصلية التي هي الأئمة الكبرى بعد إمام الأئمة، صارت ستة و ثلاثين عدد الأسماء المذكورة

في هذا الحديث من الرحمن إلى الوارث.

و إذا ضوعف كل منها عشرة باعتبار الأسماء التي للمقولات العشر: الجوهر، و الكم و الكيف، و الأين، و المتى، و الوضع و الفعل، و الانفعال، و الملك، و الجدة، إذ بإزاء كل منها حقيقة ربانية و اسم إلهي، ارتقى عدد الأسماء و مربوباتها إلى ثلاثمائة و ستين عدد الدرجات الفلكية، فيكون تحت كل اسم من الأسماء الاثنى عشر ثلاثين اسما من الأسماء العقلية التي هي دون الأسماء القضائية و القدرية، و كذلك

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 185

انقسم كل برج فلكي و ركن سماوي إلى ثلاثين اسما و فعلا منسوبا إليها إلى آخر ما ذكره قدس سره «1».

و ذكر الشيخ أحمد الأحسائى في «شرح الزيارة» في شرح

قوله: «و له المثل الأعلى»

: أنّ المراد بهذه الاسم المذكور في الخبر هو جميع ما سوى اللّه، و الأسماء الثلاثة التي ظهرت عالم الجبروت، و هي العقول، و عالم الملكوت، أي النفوس، و عالم الملك، أي الأجسام، و الجزء المحجوب هو فعل اللّه المسمى بالمشية و الارادة، و الإبداع، قال قدّس سرّه و قد ذكرت لشرحه رسالة من أراد الوقوف على ذلك طلبها.

قلت: و نحن لم نقف عليها إلى الآن، و وقفت بعد ذلك على كلام للقاضي سعيد «2» القمي تلميذ المحدث الفيض «3» في «أربعينه» قال:

«إنّ الاسم هذا عبارة عن العقل الأول الكلي الذي هو عبارة عن جملة الموجودات على الإجمال العقلي، و تسميته اسما لكونه مظهر اسم اللّه الأعظم الجامع لجميع الأسماء، إذ كما كان اسم اللّه جامعا لجميع الأسماء، كذلك العقل الأول جامع لجميع الموجودات التي هي مظاهر أسماء اللّه.

و أيضا الألوهية إنما تحقق بوجود المألوهية، و لو

لا مألوهية العقل لم يتحقق الألوهية كما أشير

في الحديث: ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان» «4».

______________________________

(1) شرح أصول الكافي: باب حدوث الأسماء، ص 284- 285، ح 1.

(2) هو القاضي سعيد محمد بن محمد مفيد القمي المتوفى (1107) ه.

(3) هو محمد بن مرتضى المعروف بمحسن الملقب بالفيض الكاشاني توفي سنة (1091) ه.

(4) بحار الأنوار: ج 1/ 116، ح 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 186

أي العقل ما صار به الرحمن معبودا، لأنّ العقل أول من قرع باب الأحدية، و أسلم للحضرة السبحانية، و الحروف عبارة عن جهات العقل لأن الحرف طرف الشي ء و الأطراف هي الجهات، و هي للعقل أربعة:

أحدها: كونه عقلا كليا صادرا عن المبدأ الأول بلا واسطة.

ثانيها: كونه متوجها إلى اللّه سبحانه مستفيضا منه الكمالات.

ثالثها: نظره إلى نفسه و أنه نفس النظام الكلي العقلي لجميع الأشياء قابل للظهور.

رابعها: كونه طالبا للظهور و البروز شائيا لإظهار الجواهر الغيبية المختفية المكنونة في الكنوز، حمدا لنعم اللّه، و شكرا لآلائه، فأظهر منها ثلاثة بأن أوجد من ثلاثة من تلك الجهات ثلاثة أشياء فصدر من الثانية العقل و من الثالثة الهيولى، و من الرابعة النفس، و ليس هو من الجهة الأولى بمصدر لشي ء من الأشياء، لأنها جهة تألهه، و تضرّعه، و توجهه إلى بارئه، لا التفات له من هذه الجهة إلى ما دونه.

و هو الواحد المحجوب عن الأكوان، المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت تلك الثلاثة ذلك الواحد بأن صارت مظاهر لأحكامه، حاكية لأفاعيله.

فالعقل مكنون في معقولاته الثلاثة و هي مظاهر له، لأن العلّة كما تكون ظاهرة بالمعلول بمعنى أن المعلول إنما هو أثر العلة و الحاكي لأفاعيلها كذلك مختفية فيه لأن المعلول

شأن من شؤونه، و لباس يتلبس به العلة.

و حيث إنّ العقل بجهاته مظاهر اسم اللّه الأعظم

قال الصادق عليه السّلام: «الظاهر في الحقيقة في هذه الأسماء، بل في كل ذرة في الأرض و السماء، هو اللّه سبحانه، ليس لها في أنفسها ظهور، بل هي على سلبها البسيط ما شمت

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 187

رائحة الظهور، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ «1».

سخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه الأسماء الثلاثة أربعة أركان: أمّا أركان النفس الكليّة فهي الأملاك الأربعة المقرّبون حملة عرش اللّه العظيم.

أولهم و أعلاهم إسرافيل، صاحب الصور، و باعث من في القبور، و شأنه نفخ الروح في القوالب المتجسّدة، و إفاضة الصور و الكمالات على الموادّ المستعدة.

ثم ميكائيل الموكّل على التغذية و التنمية، و إيصال الرزق و التقديرات و التحريكات.

ثم جبرائيل صاحب الوحي المطاع في السموات و المتحمل للكلمات، و الواسطة في إفاضة المعارف الحقيقية و الأنوار الربانية.

ثم عزرائيل، القابض للأرواح، الفاعل للانقلابات و الاستحالات.

و أما أركان المادة الكلية فهي القابلة لفيضان النفوس و الأرواح و الصور و القابلة للنمو الاغتذاء، و الحركات، و المستعدة لقبول الكمالات الحقيقية و المعارف الإلهية، و القابلة للانقلابات و الاستحالات و التبدلات، فهذه أربعة.

و أما أركان الطبيعة الكلية فهي الصورة الكمالية المنفوخة في الأجساد القابلة من الصور و النفوس و الأرواح، و الصور الكمالية الحالة في المادّة المغتذية من القوى المباشرة للطلب و الدفع و التأدي و الإيصال، و صورة الكمالات العلمية الفائضة على النفوس الشريفة، و الصورة الحادثة من الانقلابات و الاستحالات و الانتقالات و الترقيات من موطن إلى موطن، فهذه أيضا أربعة.

ثم ساق الكلام في ذكر الأسماء الثلاثين لكل ركن منها من دون

حصر فيها

______________________________

(1) النجم: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 188

و لا استقصاء لها.

أقول: و أنت ترى أنّه كأكثر ما حكيناه عن غيره أيضا كلها تكلّفات و تصنّعات في معنى الخبر. و لعل المعنى الأول الذي ذكرناه هو الأظهر.

تنبيه نبيه

ربما علّل الافتتاح بالاسم في البسملة بكونه مقحما كما مرّ خروجا للكلام من صورة اليمين إلى التيمّن، أو لإجراء الكلام موافقا للعرف و عادات الناس الذين كانوا من عبدة الأصنام، حيث إنّهم كانوا يقولون باسم اللّات و العزى، أو لاستصغاء القلوب عن العلايق، و استخلاص الأسرار من غواشي العوائق، قبل التلفظ باسم الخالق، كي يحصل التوسّل به بعد التخلي عن الأغيار و التحلي بالأسرار، و صفاء الأنوار، أو لغرض التوصل إلى التبرّك و الاستعانة بذكر اسمه تعالى، حيث إنّه يحصل بالتلبس بالآلة نحو كتبت بالقلم، و من البيّن أنه بالاسم لا بالذات، و لو قال باللّه لأوهم التلبس بالذات، أو لئلا يخص التبرك باسم دون اسم.

فالاستعانة بذكر اسمه يشمل جميع أسمائه، لأن إضافة اسم الجنس إلى المعرفة تفيد العموم، يحصل الاستعانة بجميع أسمائه التي منها لفظة (اللّه) لا بلفظة (اللّه) فقط.

أو لأنّ الابتداء باسم اللّه تعالى أشدّ وفاقا لحديث الابتداء و هو

النبوي: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر» «1».

إلى غير ذلك مما لا يخلو بعضها من تأمل.

لكن الذي ينبغي أن يقال في المقام: أنّك قد سمعت أنّ اللّه سبحانه خلق

______________________________

(1) مفاتيح الغيب: ج 1/ 196.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 189

لنفسه أسماء أظهرها لعباده كي يدعوه بها، فقال عز من قائل: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «1».

و

ورد في الأخبار المستفيضة عن الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين: «نحن أسماء اللّه الحسنى» «2».

و

عن

أبي جعفر عليه السّلام «3»: «إنه جعل محمدا و آل محمد الأبواب التي يؤتى منها».

و ذلك قوله: لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «4».

و

عن الصادق عليه السّلام: «نحن و اللّه الأسماء الحسنى التي لا يقبل اللّه من العباد عملا إلا بمعرفتنا» «5».

فهم الأسماء الفعلية الأولية الإبداعية الذين جعلهم اللّه أبوابا لعباده، و وسائل إلى مرضاته.

و قد قال اللّه سبحانه: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «6».

و قال: وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «7».

و قال: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً «8».

______________________________

(1) الأعراف: 180.

(2)

بحار الأنوار: ج 25/ 5، ح 7، و فيه: نحن الأسماء الحسنى التي لا يقبل اللّه من العباد عملا إلا بمعرفتنا.

(3) بحار الأنوار: ج 8/ 336، ح 5.

(4) البقرة: 189.

(5) الكافي: ج 1/ 143- 144.

(6) البقرة: 189.

(7) المائدة: 35.

(8) آل عمران: 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 190

و في كثير من الأدعية: «اللهم إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم» أو «باسمك الذي» أو «بأسمائك الحسنى و أمثالك العليا».

و بالجملة قد علّمنا اللّه سبحانه في مفتتح كتابه الجامع التدويني الذي جعله مصدّقا لما بين يديه من الكتاب، و مهيمنا عليه كيفية التوسل إليه و التقرّب لديه بالاستعانة بأبوابه و حجابه و شفعائه، و هم أسماؤه الحسنى، و أمثاله العليا، فبهم تاب اللّه على من تاب، و توجه على من أناب، بعد الدخول من الباب، و الوصول إلى الحجاب.

قال اللّه تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «1».

و المراد بها أسماؤهم الشريفة كما في الأخبار الكثيرة.

و

في الجامعة الكبيرة: «من أراد اللّه بدء بكم و من وحّده قبل عنكم و من قصده توجه إليكم» «2».

فافتتح كتابه باسمهم بل بهم، و علّمنا

الاستعانة بهم، فهم المستعانون بهم لكن بإذن ربّهم، فإنّهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «3».

و على هذا فإضافة الاسم إلى اللّه لامية لا بيانية، فإنهم الاسم اللّه، لا الاسم الذي هو اللّه.

ثم إنّ ألف الاسم و إن كان للوصل يسقط في الدرج لكنه يثبت في الرسم و الكتابة كقوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ «4»، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «5»، و إنما أسقطوه في

______________________________

(1) البقرة: 37.

(2) بحار الأنوار: ج 102/ 131، ح 4.

(3) الأنبياء: 26- 27.

(4) الواقعة: 96. الحاقة: 52.

(5) العلق: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 191

البسملة لكثرة الاستعمال.

و من الخليل «1»: التعليل بأن الهمزة إنّما أدخلت في بسم اللّه بسبب تعذر الابتداء بالساكن، و هو السين، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف، فسقطت في الخط، و لم تسقط من قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ لأن الباء لا تنوب منه فيه دون البسملة.

و هو كما ترى، قيل: و طولّت الباء عوضا عنه.

و قيل: لأنها مبدء كتاب اللّه فابتداؤه بصورة التفخيم تعظيما له، و اطرد ذلك في بقية السور.

ثم الحذف مختص عند الفراء «2» باللّه، و بالباء، فلا تحذف في غيره كاسم ربك، و لا في غير الباء من حروف الجر نحو ليس اسم كاسم اللّه.

و عن الأخفش «3» أنه لا يختص باسم اللّه بل يجري في غيره كبسم الرحمن و بسم الخالق.

لكن الجمهور على خلافه و كذا نقصوا الألف من اسم اللّه و الرحمن مطلقا سواء كان في البسملة أو لا لكثرتهما في الكلام.

إشارة لأهل البشارة

اعلم أن الألف أوّل الحروف ظهورا و وجودا، و له حكم السريان و الانبساط

______________________________

(1) هو الخليل بن أحمد الأزدي البصري العروضي، توفي سنة (175) ه أو قبلها أو

بعدها.- العبر: ج 1/ 268.

(2) هو يحيى بن زياد الأسلمي الكوفي النحوي، توفي سنة (307) ه. العبر: ج 1/ 354.

(3) هو سعيد بن مسعدة البلخي البصري المعروف بالأخفش الأوسط، توفي سنة (215) ه.

الأعلام: ج 3/ 154.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 192

في ساير الحروف، بل قيل مجموع هذه الحروف في سرّ العقل كان ألفا واحدا، و أما في سرّ الروح فهو شكل ضلعين من أضلاع المثلّث متساوي الأضلاع، ضلع قائم، و آخر مبسوط، و القائم ضلع الألف، و المبسوط ضلع الباء، فهما ألفان: ألف قائم و الف مبسوط.

على أن الأول حامل الأسرار الوحدة، و الثاني كافل لمراتب الكثرة، و الأول هو المحبوب المحجوب، و الثاني هو الباب و الحجاب، و لذا قالوا: إن الألف يشار به إلى الذات الأحدية.

و ذلك لما أفيض عليه من خلع الكرامة ما استحق بها للقيام في عالم الحروف مقامه لأولية المطلقة السارية في جميع الأطوار و الأدوار كما في ترتيب أبجد، و أيقغ، و ابتث، و أهطم، و غيرها من الدوائر السبع، أو العشر، أو السبعين، و لتجرده من القيود و إضافات النقاط و الحركات.

و لقيوميته المطلقة التي اختص بها من بين الحروف لقيامه بنفسه و قيام غيره به، و لانفصاله عن الحروف. فلا يتصل بشي ء منها ابتداء أصلا.

و لافتقار جميع الحروف إليه افتقارا أوليا كالباء و الحاء و الواو، أو ثانويا كالجيم و السين و الميم لتمامية الياء به.

و هو أول الحروف و آخرها لانتهائها إليه من حيث البيّنة و ظاهرها، كما لا يخفى و باطنها كما سمعت، فهو من جملة الآيات التدوينية في عالم الحروف، و هو الظاهر بنفسه المحتجب بخلقه.

كما

قال مولانا أمير المؤمنين عليهم السّلام: «خلقة اللّه الخلق

حجاب بينه و بينهم» «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/ 228، ح 2 عن التوحيد و العيون. و فيه عن الامام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 193

و

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «إنه هو المشيّئ و نحن الشي ء، و هو الخالق و نحن المخلوق، و هو الرب و نحن المربوب، و هو المعنى و نحن أسماؤه، و هو المحتجب و نحن حجبه» «1».

فكان كما قلت شعرا:

ففي أزل الآزال قبل الخليقةتجلى له فيه بسرّ الهوية

فلمّا تجلّى نوره بأشعّةربوبية كانت بنفس المشية

بدا ظاهرا للكل بعد احتجابه بكل ففي الأشياء أسرار وحدة

فافهم الإشارة بسر العبارة تغفلها القلوب اللاهية و تعيها أذن واعية.

و ربما يقال: إنّ من جملة أسرار افتتاح الكتاب التدويني بالباء و اختتامه بالسين أنه كفى بهذا النور اللامع و الضياء الساطع و الكتاب الجامع، إذ المؤلف من الحرفين كلمة (بس) يقال: بسك، أي حسبك، كما في «القاموس» و غيره، فكأنه يشير فيما أضمر: حسبك من الكونين ما أعطيناك بين الحرفين لتقرّ به العين.

و إليه أشار الحكيم الغزنوي فيما أنشده بالفارسية:

أول و آخر قرآن زچه با آمد و سين يعنى أندر ره دين رهبر تو قرآن بس

و يقال: إن الباء في بسم كشف البقاء لأهل الفناء، و السين كشف سناء القدس لأهل الأنس، و الميم كشف الملكوت لأهل النعوت.

و إن الباء برّه للعموم، و السين سرّه للخصوص، و الميم ملك الولاية.

و

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أن الباء بهاؤه، و السين سناؤه، و الميم مجده» «2».

و قيل: إن البهاء بمعنى الضياء الذي هو الأصل، و السناء هو النور و الشعاع الذي هو الفرع.

______________________________

(1) لم أظفر على مصدر له.

(2)

الكافي: ج 1/ 114، و التوحيد: ص 230، و فيهما عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 194

و ذلك لقضية التقديم و الترتيب الوجودي الجاري على حكمة الاختراع و الابتداع و يؤيده قوله: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ «1».

فإن البرق هو حامل النور الذي حملته الكرة الأثيرية بواسطة الشمس، فالبرق تابع للشمس في الوجود و الاقتضاء و التحقق و التذوت.

لكنك قد سمعت سابقا أن الباء إشارة إلى الباب الأقدم و الحجاب الأعظم، و هو سر الولاية و مقام الحجابة و السقاية و مظهر السر و الوقاية، و مجلي العناية و الكفاية.

و هو مقام مولانا و مولى العالمين أمير المؤمنين عليه السّلام.

و السين إشارة إلى السيادة الكبرى، و الرياسة العظمى، و الغاية القصوى و النذير العريان من النذر الأولى و هو سيدنا و سيد العالمين خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله أجمعين.

و منه يظهر أنّ تقديم الباء على السين ليس تقديم شرف و علو رتبة، بل تقديم بابية و حجابية.

و لذا

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا مدينة الحكمة و علي بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها» «2».

و قال اللّه تعالى: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «3».

و كذلك تقديم السين على اللّه تقديم للفعل على الفاعل، و للجعل على الجاعل، و للقمر على الضياء، و للبهاء على السنا، بل للضياء على الشمس.

______________________________

(1) يونس: 5.

(2) الجامع الصغير للسيوطي: ج 1/ 108، حرف الهمزة.

(3) البقرة: 189.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 195

وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1».

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2».

فافهم الكلام و

على من يفهمه السّلام.

و

روى الثعلبي «3» في «العرايس» عن الإمام الهمام كهف الأنام علي بن موسى، عن أبيه عن جده جعفر بن محمد عليه الصلاة و السّلام، أنه قال في بِسْمِ اللَّهِ «الباء بقاؤه، و السين أسماؤه، و الميم ملكه، قال: فإيمان المؤمن ذكره ببقائه، و خدمة المريد ذكره بأسمائه، و استغناء العارف عن المملكة بالمالك».

قلت: و لعل الخبر إشارة إلى أقسام الوجود الثلاثة.

فبقائه إشارة إلى الوجود الحق الذي هو المجهول المطلق، و هو الأحدية المحضة، و الوحدة الصرفة، و الهوية الغيبية، و الذات الأزلية.

و أسماؤه إشارة إلى مقام الواحدية، و تجلي الربوبية و ظهور الجلال في مرآة الجمال، و تجلي الجمال في قدس الجلال، و هو الوجود المطلق، و مظهر الحق و المشية الكلية و المحبة الحقيقية و حجاب الغيب و سرّ للاريب.

و أما الملك فهو الوجودات المقيّدة، و المفاعيل المطلقة من المجردات، و الملكوتيات، و الناسوتيات، و بالجملة من الدّرة إلى الذرة، و من العقل الكلي إلى الجهل الكلي.

و

في خبر مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في جواب اليهودي على ما رواه في

______________________________

(1) الروم: 27.

(2) التوبة: 128.

(3) هو أبو إسحاق احمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، المتوفى: (427) ه. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 196

«التوحيد» و «المعاني» قال عليه السّلام: «ما من حرف إلا و هو اسم من أسماء اللّه عزّ و جل» «1».

ثم فسر الألف باللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، و الباء ببقائه بعد فناء خلقه، و السين بالسميع البصير، و الميم بمالك الملك.

و

في خبر آخر مروي عنه في الكتابين و في «العيون» و «الأمالي» قال: «إن أول ما خلق اللّه عزّ و جل ليعرف به خلقه الكتابة حروف

المعجم» «2».

إلى أن قال: «الألف آلاء اللّه و الباء بهجة اللّه و السين سناء اللّه و الميم ملك اللّه يوم لا مالك غيره».

فيقول عزّ و جل: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «3».

ثم ينطق أرواح أنبياءه و رسله و حججه فيقولون: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «4» فيقول جل جلاله: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ «5».

ثم إن لبعضهم في الافتتاح بالباء إشارات أخر مثل ما يقال: إنه ورد أن كل ما في الكتب المنزلة فهو مندرج في القرآن، و كل ما في القرآن ففي الفاتحة، و كل ما في الفاتحة ففي البسملة، و كل ما في البسملة ففي الباء «6» المفيدة للإلصاق الدالة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 2/ 320، ح 4 عن التوحيد و المعاني.

(2) البحار: ج 2/ 318، عن المعاني، و العيون، و الأمالي، و التوحيد.

(3) سورة غافر: 16.

(4) سورة غافر: 17.

(5) سورة المؤمن: 17.

(6)

قال القاضي سعيد في «شرح التوحيد» ص 132: صدر عن مولانا علي بن أبي طالب عليه السّلام: أن حقائق القرآن مندرجة في الفاتحة، و جميع معارف الفاتحة في البسملة، و علوم البسملة تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 197

على أن المقصود من إرسال الرسل و إنزال الكتب إنما هو القرب و الوصال و دوام الاتصال.

بل المقصود من جميع ذلك هو الوصل و الإيصال، و هو باطن النبوة و سر الولاية.

و عن ابن العربي فيما سماه ب «الفتوحات»: إن في الحروف مراتب خمس:

الخاصة و هي الفواتح المقطعات، و خاصة الخاصة و هي حروف أوائل السور، و الخلاصة و هي أواخر السور، و صفاء الخلاصة و هي حروف البسملة، و عين صفاء الخلاصة و هي الباء، و لها رتبه التقدم على

ساير الحروف، و لذا وقعت أول البسملة في كل سورة، بل في سورة برائة أيضا، و إن لم تفتتح بالبسملة.

بل ذكر أنه قال له واحد من أحبار بني إسرائيل: ليس لكم حظ من التوحيد، فإنه قد افتتحت كتابكم بحرف الباء الدالة على الاثنينية فأجابه: بأن التوراة أيضا كذلك لافتتاحها بقوله: بشيم اردناي «1».

مع أنه لا يتحقق حقيقة التوحيد إلا بهذا الحرف النائب عن الألف التي يمتنع الافتتاح بها، و كأنه أشار إلى التعين الأول و الثاني، كما قيل، بل إلى مقام الفعل و المفعول المطلق.

______________________________

في بائها، ثم قال عليه السّلام: و أنا النقطة تحت الباء.

و في ذيل الكتاب: قال ابن أبي جمهور في المجلي ص 409: القائل هو علي عليه السّلام دون غيره، نقله عنه أكابر الصحابة كسلمان و أبي ذر و كميل ...

و لصدر المتألهين الشيرازي بيان مفيد في شرح هذا الكلام في الأسفار: ج 7/ 32- 34.

(1) الفتوحات المكّية ج 1 ص 83 مع تفاوت يسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 199

الفصل الثالث
في المباحث المتعلقة بلفظة اللّه

اعلم أنّه كما عجزت العقول عن إدراك كنه جماله، و انحسرت البصائر و الأبصار دون النظر إلى سبحات وجهه و عزّ جلاله، لاحتجابه بأنوار العظمة و الكبرياء و أشعة سرادق البهاء و السناء.

كذلك تحيّروا أيضا في لفظة (اللّه) كأنّه انعكس إليه من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، و لذا تحيّر فيه أفكار الناظرين، فاختلفوا فيه أنه سرياني، أو عبراني، اسم، أو صفة، مشتقّ، و مم اشتقاقه، أو غير مشتق، علم أو غير علم.

و حاصل الأقوال فيه أربعة:

أحدها: أنه ليس بعربي، بل هو معرب، أصله (لاها) بالسريانية، و قيل بالعبرانية، فعرب بحذف الألف الأخيرة، و إدخال الألف و اللام عليه، و ردّ

بأن فيه إثبات العجمة بغير دليل.

مضافا إلى ما ستسمع من الشواهد الدالة على اشتقاقه من الأخبار و غيرها.

ثانيها: انه اسم عربي علم غير مشتق، بل مرتجل.

قيل: و عليه الأكثر و هو المحكي عن الخليل- و أتباعه من أكثر الأصوليين و الفقهاء، و اختاره الرازي، و نسبه إلى سيبويه «1» أيضا.

______________________________

(1) سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان البصري، توفي سنة (180) ه- العبر: ج 1/ 278.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 200

و احتجوا بأنه لو كان مشتقا لكان معناه كليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه، فلا يفيد كلمة التوحيد التوحيد المحض، و لا الكافر يدخل بها في الإسلام، كما لا يدخل فيه بقولنا: لا إله إلا المعبود أو الملك أو العالم و نحوها بالاتفاق.

و بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «1».

و ليس المراد الصفة، و إلا لزم خلاف الواقع للاشتراك في أسماء الصفات و عدم الحظر في الإطلاق، فالمراد اسم العلم، و ليس إلا اللّه.

و بأنّه يوصف بسائر الأسماء و لا توصف به، و لذا قدّم على الجميع مع الاجتماع فتقول: اللّه الرحمن الرحيم العليم الحكيم، كما تقول: زيد العالم الشجاع السخي و لا يجوز العكس فيهما، و لذا جعلوا في قوله: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، (اللَّهِ) «2» على قراءة الجر عطف بيان للعزيز لا نعتا.

و بأنه سبحانه يوصف بصفات مخصوصة، فلا بدّ له من اسم خاصّ يجري عليه تلك الصفات، لأن الموصوف إمّا أخص أو مساو للصفة، و لا يصلح له من الأسماء التي يطلق عليه سواه.

و بأنّ كل شي ء يتوجه الأذهان إليه، و يحتاج إلى التعبير عنه قد وضع له اسم توقيفي أو اصطلاحي فكيف يهمل خالق الأشياء و مبدعها و لم يوضع

له اسم يجرى عليه ما يعزى إليه.

و الجواب عن الأول: أنه يجوز أن يكون أصله الوصفية، إلّا أنّه نقل إلى العلمية، و غلب عليه سبحانه كما قيل: إنه لم يطلق على غيره سبحانه، لا في

______________________________

(1) مريم: 65.

(2) سبأ: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 201

الجاهلية و لا في الإسلام، فلثبوت اختصاصه به سبحانه و عدم إطلاقه على غيره أستفيد من كلمته.

هذا مضافا إلى جواز الاختصاص من نفس المفهوم لا من الغلبة، ككونه المعبود الحق، أو المفزع لجميع الموجودات، أو المحتجب بلوامع الأنوار عن البصائر و الأبصار فلا يكون لعنوانه مصداق غيره سبحانه.

و ربما يجاب أيضا بالمعارضة بأنه لو كان علما لفرد معين من ذلك المفهوم- لم يكن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مفيدا للتوحيد، لجواز أن يكون لذلك المفهوم فردان أو أكثر في نفس الأمر، و يكون لفظة الجلالة علما لأحدهما، مع أنهم جعلوا السورة المباركة من الأدلّة السمعية على التوحيد.

و ردّ بأنّ أوّل هذه السورة يدل على الأحدية الذاتية التي هي عدم قبول القسمة بأنحائها.

و أما الواحدية بمعنى نفي الشريك، فمستفاد من آخر السورة.

و عن الثاني أنّ المراد كماله الذي لا يشاركه فيه غيره، و هو ربوبيته الكبرى و رحمته الواسعة كما يومي إليه صدر الآية: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «1».

و لذا قيل فيه: أي مثلا و نظيرا، و إنما قيل للمثل سمّي لأن كل متشابهين يسمى كلّ منهما سمّيا لصاحبه.

و عن الثالث أنّه إنما يدلّ على نفس الوصفية، لا على ثبوت العلّمية، إذ أسماء الأجناس، و لفظ الشي ء أيضا كذلك، و بأنّ الصفات الغالبة تعامل معاملة الأعلام في كثير من الأحكام.

______________________________

(1) مريم: 65.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 3، ص: 202

تفسير الصراط المستقيم ج 3 248

و بأنه منقوض بلفظ (هو)، فإنّه اسم من أسمائه تعالى يوصف و لا يوصف به.

و في الأخير نظر، إذ مع أن الكلام ليس في مثله، لا توصف الضمائر، و لا بها.

و عن الرابع أنّ كثيرا من صفاته التي يتصف بها ذاته تقع على الذات من حيث هي، من دون اعتبار مغايرة حقيقية أو اعتبارية ذهنية أو خارجية.

مضافا إلى ما قيل: من أنه مغالطة من باب الاشتباه بين أحكام اللفظ و أحكام المعنى، إذ الاتصاف بالأوصاف يوجب المساواة أو الأخصية بالقياس إلى معنى الصفة لا وقوع لفظ مخصوص بإزاء الذات.

على أنه بعد التسليم لا يلزم كونه على وجه العلمية، بل يكفي غلبة الوصفية و منه يظهر الجواب عن الخامس أيضا.

ثالثها: أنه علم مشتقّ غالب.

رابعها: أنه صفة مشتقة غالبة، قيل: و الفرق بينهما أنّ الاشتقاق في الأول عارضي، و في الأخير أصلي، إذ اعتبار المعنى في التسمية على ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يكون المعنى باعثا على تعيين الاسم خارجا عن الموضوع له، كأحمر علما لما فيه حمرة.

و الثاني: أن يكون داخلا في الموضوع له، و مفهومه مركّب من ذات و معنى معين، كاسم الآلة و الزمان و المكان.

و الثالث: أن يكون داخلا في الموضوع له، و مفهومه مركب من ذات مبهمة و معنى معين كقائم، و خالق، و هذا يسمى صفة، و الأولان من الأسماء يوصفان، و لا يوصف بهما، عكس الصفة، و لفظ (اللّه) إن قلنا إنّه صفة لكنه لا يوصف به.

و فيه أن الصفات المشتقة أيضا لا يوصف بها إلّا مع لمح الوصفية لا العلمية.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 203

و عن التفتازاني «1»: أن اللفظ إن

وضع للشي ء باعتبار بعض معانيه و أوصافه من غير ملاحظة لخصوصية الذات، حتى أنّ اعتبار الذات عند ملاحظته لا تكون إلا لضرورة، إذ المعنى لا يقوم إلا بالذات، فهو صفة كالمعبود، و لذا فسّروا الصفة بما تدل على ذات باعتبار معنى هو المقصود، أو على ذات مبهمة و معنى معين، و اسم الصفة ما دل على ذات ما باعتبار معنى ليس مقصودا، فلفظة الإله دالّ على ذات مقدسة باعتبار معنى هو المعبودية بالحق و المقصود الذات المقدسة لا غير، و لفظ المعبود بالحق دالّ على الذات المقدسة باعتبار معنى هو المعبودية بالحق و هو المقصود لا غير، فهذا هو نفس الصفة و الأول اسمها، و إن وضع له بدون ملاحظة ما فيه من المعاني كرجل و فرس، أو مع ملاحظة بعض ذلك أي مع ملاحظة خصوصية الذات كالكتاب للشي ء المكتوب، و النبات للجسم النابت و كجميع أسماء الزمان و المكان و الآلة، فهو اسم غير صفة و يستدل على أن المقصود هو المعنى أو الذات بأن الأوّل لا يوصف و يوصف به، و الثاني بالعكس، و لا خفاء في أن الإله من قبيل الثاني، إذ ثبت في الاستعمال إله واحد، و لم يثبت شي ء إله فيكون اسما.

و اعترض بأنه لو كان تعيين الذات معتبرا في الإله دون المعبود، و في الكتاب دون المكتوب لاستفيد منها تعين لا يستفاد من المعبود و المكتوب، و ليس كذلك.

و فيه أن التعين مستفاد منها، و ذلك أن المكتوب هو العنوان، و الكتاب هو المعنون وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «2».

نعم، ربما يمنع من اعتبار تعيين الذات في أسماء الزمان و المكان و الآلة أيضا، إذ لو

كان معتبرا فيها لدلّت عليه تلك الأسماء، و ليس فليس، فكما أن معنى

______________________________

(1) التفتازاني مسعود بن عمر بن عبد اللّه، توفي سنة (792) ه أو قبلها.- معجم المؤلفين:

ج 12/ 228.

(2) الروم: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 204

الضارب من له الضرب، و معنى المقتول من عليه القتل، كذلك معنى المقتل ما فيه القتل من الزمان و المكان، و معنى المفتاح ما به الفتح، و كما يعيّن خصوص الذات في الضارب و المقتول ببعض أفراد الإنسان، كذلك يعيّن في المقتل ببعض أشخاص الزمان و المكان، و في المفتاح بشخص من أشخاص الخشب مثلا، و لذا قيل: إنّ الأظهر أن يقال: لا يكفي في الصفة أن يدل على ذات مبهم باعتبار معنى معين بل لا بد مع ذلك أن يقع صفة و لا يقع موصوفا، و بهذا القيد يخرج مثل الكتاب و الآلة و أسماء الزمان و المكان و نظائرها من تعريف الصفة.

و على كل حال فاحتجّ القائلون بالاشتقاق و هم معظم أصحابنا الإمامية عطر اللّه مراقدهم، و جمهور المتصوفة، و كثير من العامة بقوله تعالى: وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ «1».

إذ لو كان علما لم تفد الآية معنى صحيحا.

قيل: لا لأنه يشعر بالمكانية، إذ ذلك لا يتعلق بمباحث الألفاظ، و الألفاظ الموهمة للتجسّم في القرآن كثيرة، بل لأنّ الاسم الجامد لا يصلح معناه للتقييد بالظرف، و لذا لا يصح أن يقال: زيد إنسان في الأرض، و الطير حيوان في الهواء.

و فيه: أن الاسم قد يلاحظ فيه معنى و صفي اشتهر مسماه به، فيتعلق به الظرف لذلك كقوله: «أسد عليّ و في الحروب نعامة» «2» لتضمنه معنى الصائل أو المقدم و قوله: «هو حاتم

في البلد أي جواد».

و أما ما يقال من أنّ ملاحظة المعنى في أمثال الحاتم و الأسد ليس إلا

______________________________

(1) الأنعام: 3.

(2) مصراعه الآخر: فتخاء تنفر من صفير الصافر.

و البيت لعمران بن حطان السدوسي يهجو به الحجّاج الثقفي، و يستهزئ به.- جامع الشواهد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 205

لاشتهارهما بذلك، و أما في اللفظة المقدسة فعليكم أن تثبتوا أن ذلك لدليل الاشتهار لا الاشتقاق، و دون إثباته خرط القتاد.

ففيه أنّ الاحتمال كاف في دفع الاستدلال.

و بأنّ الاسم الموضوع إنما يحتاج إليه في الشي ء الذي يدرك بالحس و يتصور في الوهم، و ينضبط في العقل، حتى يشار بذلك الاسم الموضوع إلى ذاته المخصوصة، و الحق سبحانه يمتنع إدراكه بالحواس، و كذا تصوره بالأوهام و انضباطه بمدارك العقول، فيمتنع وضع الاسم العلم له، و إنما يذكر سبحانه بالألفاظ الدالة على شي ء من صفاته الجمالية أو الجلالية.

و فيه منع واضح لمسيس الحاجة إلى التعبير عن ذاته المقدسة، فوجب في الحكمة وضع اسم لها كما قرّر في محله، مع أنّه لا يتمّ على ما هو الحقّ من كون الواضع هو اللّه سبحانه.

و بأنّ المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمّى ليعرف ذلك المسمى عن غيره، و الواجب الحق هو المجهول المطلق، فلا مطمع لأحد في تعريفه و تعرفه، فلا يبقى لوضع الاسم لهذه الحقيقة فائدة.

و فيه أنه ليس المقصود من وضع الاسم الإحاطة بكنه الحقيقة، و لا معرفة الذات الإلهية، بل في أيّ موضع حصل من وضع الاسم لحقيقة من الحقائق اكتناهها و الإحاطة بحقيقتها، و إنما المراد رفع حاجة المخلوق في دعائه و التوسل إليه و التعبير عنه و التوكل عليه، و هذا قد يكون باعتبار ذاته المطلقة، و قد

يكون باعتبار تجلّيه بشي ء من الصفات الجمالية الذاتية أو الفعلية أو الجلالية.

و أما ما يقال: من أن الذات المقدسة إما أن تدرك بمفهومات كلية منحصرة في فرد، فيكون اللفظ موضوعا في الحقيقة لمفهوم ذلك الكلي لا لجزئي حقيقي فلا يكون علما، و إن جعل المفهوم الكلي آلة للوضع، و جعل الموضوع له الخصوصية

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 206

التي يصدق عليها هذا المفهوم، كما في الضمائر و أسماء الإشارة على ما قيل، فلم يكن أيضا علما، بل ينتظم في سلك المضمرات و أسماء الإشارة.

و أيضا البرهان قائم على أنّ التصور بوجه في حقه تعالى ممتنع إذ في المرتبة الأحدية لا اسم و لا رسم و لا نعت و لا وصف.

فلا يخفى عليك ما فيهما بعد ما سمعت، لضعف الأول بأن الملحوظ هو العنوان لا على وجه يحتمل الشركة إذ نفيها من مشخصاته، مضافا إلى ملزوميّة سلبها لغيره كالقيومية المطلقة، و مبدئية الكل، و وجوب الوجود و غيرها.

و الثاني: بأن الحدود السلبية المذكورة أيضا من المشخصات المصحّحة للوضع، هذا مضافا إلى ما قيل، بل لعلّه الحق من أن الواضع هو اللّه مطلقا أو في أسمائه خاصة.

و بأنّ المقصود من وضع الاسم علما أن يتميّز المسمى عما يشاركه في نوعه أو جنسه، و تعالى اللّه سبحانه أن يكون تحت جنس أو نوع، فيمتنع وضع اسم علم له.

و فيه ما يظهر مما مر.

و بأن الاسم العلم لا يوضع إلا لما كان معلوما، و الخلق لا يعلمون الحقّ من حيث ذاته، فوضع الاسم له محال، و أيضا فالألفاظ إنّما تدلّ على ما تشخص في الأذهان لا على ما في الأعيان، و لهذا قيل: الألفاظ تدل على المعاني و المعاني هي

التي عناها العاني و هي أمور ذهنية متشخصة مقيدة متميزة عن سائر المتشخصات الذهنية، و الحق سبحانه منزه عن جميع ذلك.

و فيه أنه إن أريد بالعلم ما يمتاز به المعلوم من غيره فهو حاصل في المقام و لو بعنوان أنه واجب الوجود، أو مبدء الكل، بأن يكون المقصود هو المتعين بهذا الاسم لا من حيث الخصوصية، و إن أريد العلم بالحقيقة و كنه الذات فهو غير لازم

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 207

في شي ء من المسميات.

و أما حكاية وضع الألفاظ للأمور الذهنية: فهو مما طال التشاجر فيه بين العلماء، فعن بعضهم ذلك، و عن آخرين أن الموضوع له هو الموجودات الخارجية، و لكل منهما أدلة يمنع ضعفها عن التعرض بها في المقام.

نعم، ربما بيني الخلاف فيها على الخلاف في مسألة أخرى، و هو أن المعلوم بالذات هل هو الصورة الذهنية كما ذهب إليه الفارابي «1»، و الشيخ الرئيس، و أتباعهما بناء على أنّ الحاصل في الذهن حقيقة هو الصورة الذهنية، و ذو الصورة إنما يحصل فيه بناء على أنّ صورة المطابقة و عدمها حاصلة فيه، مع أنا نتصور بل نحكم على أشياء لا وجود لها في الخارج.

أو أنه هو ذو الصورة، كما ذهب إليه المحقق الطوسي «2»، و الرازي، و السيد الشريف، و غيرهم نظرا إلى أنّ ذا الصورة هو الملتفت إليه بالذات و الصورة إنما هي من مراتب ملاحظته، و لذا قد يحصل الالتفات إلى الأمر الخارجي من دون توجه إلى الصورة، بل المتكلمون ذهبوا إلى نفي الوجود الذهني.

فالقائلون بالأول قالوا بالأول و بالثاني بالثاني.

و ربما يزاد في المسألة قول ثالث و هو أن اللفظ في الموجود الخارجي موضوع لما هو موجود في الخارج،

و فيما عدى ذلك للأمر الذهني كما يظهر من صاحب «المحاكمات» «3».

بل ربما يدّعى رجوع القولين المتقدمين إليه، فيرجع النزاع لفظيا، و يرتفع

______________________________

(1) الفارابي أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان التركي الحكيم المتوفى (339) ه.- العبر:

ج 2/ 257.

(2) هو محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الحكيم المتكلم المتوفى (672) ه.

(3) صاحب المحاكمات: قطب الدين محمد بن محمد الرازي المتوفى (766) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 208

الخلاف من البين في كلتا المسألتين.

نعم، ربما يقال بوضع الألفاظ للماهية من حيث هي مع قطع النظر من كونها موجودة في الخارج أو الذّهن، و هو جيّد بالنسبة إلى الطبائع الكليّة. فالحقّ كما قيل أن يقال: إنّ اللفظ في الكليّات موضوع للماهيّة من حيث هي، و في الجزئيّات الخارجية للّشخص الخارجي، و في الذهنيّة للشخص الذهني، فلفظ اللّه على فرض كونه علما موضوع للذات من حيث هي، و أمّا الخارج و الذهن فهما ظرفان للأشخاص و الصور الكائنة في سرادق الإمكان، تعالى اللّه عن ذلك علّوا كبيرا.

نعم لا بأس فيه على فرض تعميم الخارج.

و من جميع ما مرّ يظهر ضعف ما ذكره الشيخ صدر الدّين القونوى «1» في تفسير الفاتحة من إختيار وضع الألفاظ للمعاني الذّهنيّة نظرا إلى أنّه إذ راى جسم من بعيد و ظنّ أنّه صخرة فاذا قرب و شوهدت حركته قيل: طير فاذا قرب جدّا قيل: إنسان، فاختلاف الأسماء لاختلاف التّصورات الذّهنيّة يدلّ على أنّ مدلول الألفاظ هو الصّور الذّهنيّة ثمّ أيّده بأنّه على فرض الوضع للموجود الخارجي إذا قال إنسان:

العالم قديم، و قال غيره: إنّه حادث لزم كون العالم قديما حادثا معا و هو تناقض، أمّا على فرض الوضع للمعاني الذّهنيّة يكون هذان

القولان دالّين على حصول هذين الحكمين من هذين الانسانين بحسب تصوّرهما الذّهنى و لا تناقض في ذلك انتهى.

إذ فيه أنّ تغيير التّسمية لتغيّر الأمر الخارجي في اعتقاد المتكلّم إذ الصّخرة و الطّير و الإنسان قد وضع كلّ منهما للأمر الخارجي إلّا أنّ المتكلّم لمّا توهّم الشّبح

______________________________

(1) هو محمد بن إسحاق صدر الدين القونوى من تلامذة ابن عربي توفى سنة (672)- معجم المؤلّفين ج 9 ص 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 209

صخرة أطلق عليه لفظها ثمّ لمّا تبين خطاؤه و ظنّ كونه طيرا أطلق عليه الطّير و هكذا فتغير الصورة الذهنيّة إنّما هو لتغيّر الشّبح في نظره فالعبرة بتغيّر الصورة الخارجيّة لا الذّهنيّة الّتي هي تابعة.

و أمّا ما أيّده به فهو بمكان من الضعف و القصور.

ثمّ انّ هذا الشيخ ذكر انّه لا يصحّ أن يكون للحقّ اسم علم يدلّ عليه دلالة مطابقة بحيث لا يفهم منه معنى آخر و استدلّ عليه بالأدلّة العقليّة الّتي مرّ الكلام مستقصى في نقلها و تزييفها.

و بالدّليل الذّوقى الّذي أطال الكلام في بيانه و حاصله أنّ الحقّ من حيث ذاته المجرّدة عن جميع التّعلقّات لا يقتضي أمرا و لا يناسبه شي ء و لا يتقيّد بحكم و لا اعتبار، و لا يتعلّق به معرفة و لا ينضبط بوجه، و كلّ ما سمّي أو تعقّل بواسطة اعتبار أو اسم أو غيرها فقد تقيّد من وجه و انحصر باعتبار و انضبط بحكم و لا يجوز شي ء من ذلك عليه سبحانه، و لا يصحّ عليه حكم سلبّي أو ايجابيّ أو جمع بينهما أو تنزّه عنهما، بل إدراك حقايق الأشياء من حيث بساطتها و وحدتها متعذّر، إذ الواحد البسيط لا يدركه إلّا الواحد البسيط، فاذا

عجزنا عن إدراك حقايق الأشياء من حيث تجرّدها، و المناسبة ثابتة بيننا من عدّة وجوه، فعجزنا عن إدراك حقيقة الحقّ أولى و أحدى، و على هذا فتسميتنا لها باسم يدل عليها بالمطابقة دون استلزامه معنى زائدا على كنه الحقيقة متعذّر ضرورة.

و توهّم انّه يجوز أن يسمّى الحقّ نفسه باسم يدلّ على ذاته بالمطابقة ثمّ يعرّفنا ذلك الاسم فيكون هو المسمّي نفسه على ما يعلمها لا نحن.

مدفوع أوّلا بالاستقراء فانّ هذا النّوع لم نجده في الأسماء و لا نقل إلينا عن الرّسل الّذين هم أعلم الخلق باللّه سيّما نبيّنا و آله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذينهم أعلم الرّسل و أفضلهم و أكملهم و الشّاهد لهم و المهيمن عليهم مع أنّه

كان يقول في دعائه: اللّهم إنّى أسئلك

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 210

بكلّ اسم سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من عبادك، أو استاثرك به في علم غيبك «1».

فلو حصل له هذا الاسم، مع ما تقرّر أنّ مثل هذا يكون أجلّ الأسماء و أشرفها و أكملها لكمال مطابقة الذّات و اختصاصه بكمال الدّلالة عليها دون تضمّنه معنى آخر يوهم اشتراكا أو يفهم تعدّدا أو كثرة أو غير ذلك، لم يحتج في دعائه إلى هذه التّقاسيم.

و أمّا ما يقال من أنّ جماعة من عباد اللّه عرفوا أسماء للحقّ تصرّفوا بها في كثير من الأمور و كانوا يدعون الحقّ بذلك فلم يتأخر إجابته ايّاهم فيما سئلوا كما دعا بلعم على موسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام و على قومه حتّى ماتوا في التيّه بعد أن بقوا فيه حيارى ما شاء اللّه من السّنين، مع أنّه كان من الغاوين فلم

يكن إلّا لخاصيّة الاسم.

ففيه انّا لا نمنع أن يكون للّه أسماء يتصرّف بها في عالم الأكوان لكنّ المقصود منع دلالته على ذات الحقّ بالمطابقة التّامّة و أين هذا من ذاك.

و ثانيا بأنّ التّعريف الواصل إلينا من الحقّ بهذا الاسم لا يمكن أن يكون بدون واسطة أصلا كما قال عزّ من قائل: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ «2» مع أنّ أقلّ ما يتوقّف عليه الخطاب حجاب واحد و هو نسبة المخاطبة الحاصلة بين المخاطب و المخاطب، و الخطاب من احكام التّجلى و لوازمه، و التّجلى لا يكون إلّا في مظهر يتبعه احكامه فينصبغ بحكم ما يصل إليه و يمرّ عليه و المخاطب مقيد باستعداد خاصّ و مرتبة

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 95 ص 279 باب 108 في أدعية دفع المهموم ح 1 عن دعوات الراوندي، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع تفاوت يسير.

(2) الشورى: 51.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 211

و حالة و غيرها من القيود الّتي يتقيّد بها الخطاب فلا يبقى على إطلاقه.

أقول لا ريب أنّ مجرّد التّسميّة غير متوقف على الاحاطة التّامّة و معرفة كنه الحقيقة ضرورة أنّ مثل هذه المعرفة غير حاصل لنا في شي ء من المسمّيات، و لا بالنّسبة إلى أنفسنا أيضا بل على وجه يمتاز به المسمّى عن غيره بلا فرق بين امتيازه عن الغير أو امتياز الغير عند كما في الواجب الحقّ و لذا

قال مولينا على بن موسى الرضا عليه و على آبائه المطّهرين و على ذرّيّته المعصومين آلاف التّحية و الثّناء: كنهه تفريق بينه و بين خلقه، و غيوره «1» تحديد لما

سواه «2».

مع أنّ واجب الوجود و إن كان من حيث الكنه و الحقيقة أخفى الأشياء لكنّه من حيث الانيّة و التّحقق أجلاها و أظهرها،

قال مولينا سيّد الشّهداء عليه الصّلوة و السّلام في دعاء عرفة: متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك و متى بعدت حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها- رقيبا. آه. «3»

و لك أن تعتبر شيئا من العنوانات المختّصة كالواجب الحقّ، و المجهول المطلق، و القديم بالذات، و نحوها و تعريه من جميع الملاحظات و الاعتبارات حتّى من الجهة الّتي صار بها عنوانا للملاحظة و هذا الذي

أشار إليه مولينا

______________________________

(1) في بحار الأنوار: و غيوره (بالياء التحتانية) و قال في بيانه: الغيور إمّا مصدر، أو جميع غير، اى كونه مغايرا له تحديد لما سواه، فكل ما سواه مغاير له في الكنه، و في شرح التوحيد للقاضي سعيد القمى: و غبوره (بالباء الموحّدة) و هو من الأضداد بمعنى الذهاب و المكث إلّا أنّ المراد هو الثاني أى البقاء، فيصير المعنى أنّ بقائه سبحانه هو الّذى يحدّد وجود ما سواه ... إلخ.

(2) البحار ج 4 ص 128 ح 3 عن التوحيد و العيون- و شرح التوحيد للقاضي سعيد القمى ج 1 ص 136.

(3) بحار الأنوار ج 98 في اعمال السنين و الشهور و الأيام ص 226. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 212

أمير المؤمنين عليه السّلام في بيان الحقيقة بقوله: «كشف سبحات الجلال من غير اشارة» «1».

فسبحات الجلال هي الشؤون الربّانية و الصفات الجماليّة و الجلاليّة، و بعد كشفها و إلقائها بأجمعها لكونها أجنبيّة عن مقام الّذات يظهر سرّ الحقيقة بشرط عدم الإشارة رأسا كيلا يغشاها غشاوة التقيّد و التعيّن.

و

هذا كما يعتبر العالم الأصولي الفرد من الماهيّة و يجعله مرآتا لملاحظة الطبيعة من حيث هي بإلغاء جميع القيود و المشخّصات، فآلة الملاحظة هي الفرد، و الملحوظ هو الطبيعة من حيث هي، لكن للّه المثل الأعلى، فلا ملاحظة في المقام.

و لا ملحوظ أصلا إلّا على نحو التنزيه و التقديس عن احاطة الأوهام و إدراك الأفهام.

ثمّ إنّ هذا كلّه على فرض كون الواضع هو البشر، و لكنّ الخطب أسهل فيه لو قلنا بأنّه هو اللّه تعالى في جميع الألفاظ كما يستفاد من بعض الأخبار و عليه جمع من علمائنا الأخيار.

و

قد أشار الإمام عليه السّلام في تفسير قوله: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «2» قال: «علّمه أسماء كلّ شي ء» «3».

و

في صحف النبي إدريس على نبينا و آله و عليه السّلام: «إن اللّه أنزل على آدم كتابا بالسريانية و قطع الحروف في إحدى و عشرين ورقة، و هو أول كتاب أنزل اللّه تعالى في الدنيا و أنزل اللّه عليه الألسن كلها، فكان فيه ألف ألف لسان لا يفهم

______________________________

(1) ذيل شرح التوحيد للعارف القاضي سعيد القمى ج 2 ص 522 بتحقيق الدكتور نجفقلى الحبيبي قال: هذا الحديث المنقول عن كميل النخعي صاحب مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام حيث سأله عن الحقيقة نقله السيّد حيدر الآملي في جامع الأسرار ص 28.

(2) البقرة: 31.

(3)

في بصائر الدرجات ص 438، عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أما إن جبرئيل أخبرني أن اللّه علمك اسم كل شي ء كما علم آدم الأسماء كلها. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 213

فيه أهل لسان من أهل لسان حرفا واحدا بغير تعليم» «1».

أو في بعض الأسماء التي

منها خصوص أسماء اللّه تعالى، و لذا قيل: إنّها توقيفية لا يجوز إطلاقها إلّا بعد الوصول من صاحب الشريعة، كما

قال مولانا الرضا عليه السّلام: «إنّ اللّه تبارك و تعالى قديم، و القدم صفة دلت العاقل على أنه لا شي ء قبله و لا شي ء معه في ديمومته، ثم وصف نفسه تبارك و تعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم و تعبدهم و ابتلاهم إلى أن يدعوه بها، فسمى نفسه سميعا بصيرا قادرا حيا قيوما» «2».

و

سأل محمّد بن سنان أبا الحسن الرضا عليه السّلام، هل كان اللّه عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟ قال:

«نعم» إلى أن قال: «فليس يحتاج إلى أن يسمّي نفسه و لكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها، لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف.

فأوّل ما اختاره لنفسه العليّ العظيم، لأنّه أعلى الأسماء كلها، فمعناه اللّه، و اسمه العلي العظيم» «3».

تجديد للكلام و عود للمرام

و حيث قد سمعت ضعف أدلّة الفريقين القائلين بالعلمية و بالاشتقاق، فاعلم أنّ الحقّ الذي لا محيص عنه هو القول بالاشتقاق لجريان قواعد الاشتقاق فيه على حسب غيره من الألفاظ المشتقّة التي لا تحتاج إلى تجشّم الاستدلال على اشتقاقها

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11/ 257، ح 3 عن سعد السعود ص 37.

(2) البحار: ج 4/ 176، عن التوحيد و العيون.

(3) بحار الأنوار: ج 4/ 88، عن التوحيد و المعاني و العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 214

غير ملاحظة اتحاده مع أصله الذي هو مادّته في جوهر الحروف، و حقيقة المعنى حسبما تسمع الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

و للأخبار الكثيرة الدالة على ذلك،

ففي «الكافي» و «التوحيد» و «الاحتجاج» عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أسماء اللّه و اشتقاقها، فقلت: اللّه

ممّا هو مشتق؟ فقال: «يا هشام! اللّه مشتق من إله و إله يقتضي مألوها، و الاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر» «1».

و

في «التوحيد» عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «معنى اللّه الذي يأله فيه الخلق و يؤله إليه، و «اللّه» هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام و الخطرات».

ثم

قال أبو جعفر عليه السّلام: «اللّه معناه المعبود الذي اله الخلق عن درك ماهيّته و الإحاطة بكيفية و تقول العرب: اله الرجل إذا تحيّر في الشي ء، فلم يحط به علما، و وله إذا فزع إلى شي ء مما يحذره و يخافه، فالإله هو المستور عن حواسّ الخلق» إلى أن قال: «فمعنى قول «اللّه أحد» أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه و الإحاطة بكيفية» «2».

و

في تفسير الإمام الهمام عليه و على ابنه الحجّة و على آبائه الكرام آلاف التحية و السلام: «اللّه هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج و الشدائد كل مخلوق و عند انقطاع الّرجاء من كل من دونه، و تقطّع الأسباب من جميع من سواه، تقول بسم اللّه، أي أستعين على أموري كلها باللّه الذي لا يحقّ العبادة إلا له، المغيث إذا استغيث،

______________________________

(1) البحار: ج 4/ 157، ح 2، عن الاحتجاج.

(2) بحار الأنوار: ج 3/ 222- 223، ح 12، عن التوحيد. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 215

و المجيب إذا دعي» إلى أن قال: «قال جدي أمير المؤمنين عليه السّلام: اللّه أعظم اسم من أسماء اللّه تعالى، و هو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه، و لن يسمّ به مخلوق» قيل: فما تفسيره؟

قال عليه السّلام: «هو الذي يتأله إليه عند الحوائج» «1».

إلى آخر ما

مر عنه عليه السّلام.

و

في الخطبة الرضوية: «رب إذ لا مربوب، إله إذ لا مألوه» «2».

و دلالة الأخبار على الاشتقاق واضحة من حيث التصريح به، و التعبير عن الاسم الشريف بالمعبود، و غيره من المعاني الوصفية، كالفزع إليه، و التحير فيه، و العجز من إدراكه.

و يؤيّده الوجوه المتقدمة لإثبات الاشتقاق و إبطال العلمية و إن أشرنا إلى بطلان جملة منها.

و على كل حال، فالقائلون باشتقاقه اختلفوا في المبدأ، فقيل: إنه من الآلهة كالعبادة وزنا و معنى، و يؤيّده

قراءة مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام:

وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ «3»

أي عبادتك «4».

و رواه الجمهور عن ابن عباس، و حكي عنه أنه قال: «أصل هذا الاسم (إله) على فعال بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي معبود كقولنا: (إمام) فعال بمعنى مفعول لأنه مؤتم به».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 92/ 232، عن التوحيد ص 163.

(2) البحار: ج 4/ 285، عن التوحيد.

(3) الأعراف: 127.

(4) المختصر في شواذ القرآن: ص 45، لابن خالويه الحسين بن أحمد المتوفى سنة (370) أو (371) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 216

كذا في «الصحاح» ثم أدخلت عليه الألف و اللام فصار (الإله) ثم خفّفت الهمزة بأن ألقيت حركتها على اللام الساكنة قبلها و حذفت فصار (اللاه)، ثم أجريت الحركة العارضة مجرى الحركة اللازمة فأدغمت اللام الأولى في الثانية بعد أن سكنت حركتها فقيل: (اللّه).

قالوا: و ليست الألف و اللام عوضين عن الهمزة المحذوفة و إلّا اجتمعا مع المعوض عنه في قولهم (الإله).

و لكن قال الجوهري «1»: «سمعت أبا علي «2» النحوي يقول: إنهما عوض عنها، قال: و يدل على ذلك استجازتهم لقطع الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعريف في القسم و النداء، و ذلك قولهم: أ فاللّه

ليفعلن، و يا اللّه اغفر لي، الا ترى أنه لو كانت غير عوض لم تثبت كما لم تثبت في غير هذا الاسم. قال: و لا يجوز أن يكون للزوم الحرف لأنّ ذلك يوجب ان تقطع همزة الذي و الّتي قال: و لا يجوز أيضا أن يكون لأنّها همزة مفتوحة و إن كانت موصولة، كما لم يجز في أيم اللّه و أيمن اللّه التي هي همزة وصل فإنها مفتوحة.

قال: و لا يجوز أن يكون ذلك أيضا لكثرة الاستعمال لأن ذلك يوجب أن تقطع الهمزة أيضا في غير هذا مما يكثر استعمالهم له، فعلمنا أن ذلك لمعنى اختصّت به ليس في غيرها و لا شي ء أولى بذلك المعنى من أن يكون المعوّض من الحرف المحذوف الذي هو الفاء» «3». انتهى ما حكاه في الصحاح.

______________________________

(1) الجوهري: إسماعيل بن حماد أبو نصر الأديب اللغوي، اختلفوا في تاريخ وفاته بين (333، 353، 396، 398، و 400)- ريحانة الأدب: ج 1/ 438.

(2) أبو علي الفارسي: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار النحوي المتوفي (377) ه.- العبر:

ج 3/ 4.

(3) الصحاح: ج 6/ 2223، باب الهاء، ط بيروت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 217

و قيل: إنها من الألهانية على وزن الرهبانية بمعنى العبادة أيضا، كما في الخبر: «إذا وقع العبد في ألهانية الرب ...» «1».

أو من ألهت إلى فلان، أي سكنت، فإن النفوس لا تسكن إلا إليه، و العقول لا تقف إلا لديه، لأنه المقصود المطلوب أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «2».

أو من أله الرجل يأله إذا تحير في الشي ء، لتحير الأوهام من إدراك كنه جلاله، و ذهول الأفهام دون النظر إلى سبحات وجهه.

و لذا

ورد النهي عن التفكر في اللّه

، و إليه الإشارة

بقوله: وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى «3».

و

قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا انتهى الكلام إلى اللّه فأمسكوا» «4».

و لبعض المتحيرين:

قد تحيّرت فيك خذ بيدي يا دليلا لمن تحيّر فيكا

و يؤيده ما مر

عن «التوحيد» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام معنى اللّه المعبود الذي يأله فيه الخلق و يؤله إليه «5».

فقوله: (يأله فيه)، أي يتحيّر فيه، و يؤله إليه، أي يسكن إليه.

______________________________

(1) قال ابن منظور الإفريقي في لسان العرب ج 13 حرف الهاء، فصل الهمزة: الألهانيّة، في حديث وهيب بن الورد: إذا وقع العبد في ألهانيّة الرّب. مهيمنيّة الصدّيقين، و رهبانيّة الأبرار لم يجد أحدا يأخذ بقلبه.

و قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 11 ص 150 رقم 7811: وهيب بن الورد بن ابى الورد القرشي ... كان من العبّاد المتجردين لترك الدنيا مات سنة (153).

(2) الرعد: 28.

(3) النجم: 42.

(4) في بحار الأنوار: ج 3/ 259، ح 6 و ص 246، ح 22 عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام.

(5) بحار الأنوار: ج 3/ 222، ح 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 218

أو من أله الرجل بالكسر فيه كسابقه يأله إذا فزع من أمر نزل به، فآلهه بمد الألف و فتح اللام و همزته للسلب، أي أجاره، فإنه المجير لكل الخلايق من كل المضار و هو الذي بيده بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ، وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ «1».

أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، لأن العباد في البليات يتضرعون إليه، و في المهمات يتوكلون عليه وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ «2».

أو من لاه يلوه إذا احتجب لاحتجاب نوره بكمال ظهوره، و لأن خلق اللّه حجاب بينه و

بينهم، كما

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اللّه هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام و الخطرات» «3».

أو من لاه بمعنى ظهر فهو من الأضداد لظهوره لمخلوقاته.

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ «4».

أو من لاه بمعنى ارتفع لارتفاعه عن مشابهة الممكنات، و عن إحاطة العقول و الإدراك.

أو أنه على هذين الوجهين أصله لاه، مصدر لاه يلوه ليها بالكسر و لاها بالفتح، إذا احتجب و ارتفع، لاحتجابه عن إدراك البصائر و الأبصار، و ارتفاعه عما تدركه العقول و الأفكار لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «5».

و مما يؤمي إلى ذلك الخبر الآتي في بحث الاشتقاق

المروي عن الكاظم عليه السّلام قال: «إن اللّه تبارك و تعالى خلق نور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اختراعه- من نور عظمته

______________________________

(1) المؤمنون: 88.

(2) الروم: 33.

(3) بحار الأنوار: ج 3/ 222، ح 12، عن التوحيد.

(4) فصلت: 53.

(5) الأنعام: 103. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 219

و جلاله، و هو نور لاهوتيّته الذي تبدّى» «1».

من لاه، أي من آلهيته.

أو انه من و له إذا تحير و تخبط عقله، و أصله ولاه، فقلبوا الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضم في وجوه، فقيل: إلاه، كما قيل: إعاء، و إشاح، و أصلهما وعاء و وشاح.

قيل: و يرده الجمع على (آلهة) دون (أولهة)، فإن جمع الكثرة كالتصغير يرد الأشياء إلى أصولها، كما جمع إعاء و أشاح على أوعية و أوشحة.

و ربما يدفع بأنّه لما أبدلت الواو همزة في جميع تصاريف (اله) عوملت معاملة الأصلية.

و يؤيّده كلام الجوهري: «أله يأله ألها و أصله وله يوله ولها».

و على كل حال فالأقوال في اشتقاقه كثيرة

جدّا، و إن أمكن إرجاع بعضها إلى بعض.

بل قال في «القاموس»: «أله إلهة و ألوهة و ألوهية عبد عبادة، و منه لفظ الجلالة، و اختلف فيه على عشرين قولا ذكرتها في المباسيط، و أصحها أنه علم غير مشتق، أو أصله إله كفعال، بمعنى مألوه، و كل ما أتّخذ معبودا إله عند متخذه بين الإلاهة بالكسر، و الألاهة بالضم، و الألهانية كرهبانية.

و قال في لاه يليه ليها بمعنى تستر: أنه جوّز سيبويه اشتقاق لفظ الجلالة منها» انتهى.

لكن قد سمعت أنّ الأظهر الأقوى فيه الاشتقاق للمعتبرة المستفيضة عن أئمة الدين عليهم السّلام الذين هم أعلم الخلق باللّه، و بصفاته العليا، و أسمائه الحسنى، سيّما بعد حقوق شرائط الاشتقاق فيه، و مناسبة لما اشتق منه مادة و صورة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 35/ 28، ح 24، عن كنز الدقائق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 220

نعم، يمكن الإشكال فيها من حيث اختلافها في نفسها لتضمن بعضها اشتقاقه من و له بمعنى فزع، أو من أله بمعنى تحيّر أو عبد أو احتجب، أو غير ذلك.

لكن مع ذلك لا ينبغي التأمل في أصل الاشتقاق للأخبار التي يستفاد منها كون هذا البحث مطرحا للأنظار في عصر الأئمة الأطهار عليهم السّلام، بل يمكن دفع الإشكال أيضا بعد إمكان إرجاع الجميع إلى مادة واحدة لو لم يرجع إلى معنى واحد.

مضافا إلى إعمال حكم الترجيح بينها حسب ما هو قضية التعارض بعد جواز اشتقاقه عن كل منها، و اشتراك الكل في عدم دلالته على الذات المقدسة من حيث هي لدلالتها على الشؤون و السبحات التي هي فزع المخلوقين إليه أو تحيرهم فيه أو عبادتهم إلى غير ذلك.

بل ربما يقال بجواز اشتقاق هذه المواد بتلك المعاني عن ذلك

الاسم المقدس، سيّما على مذهب بعض أصحاب العربية، بل قطع الشيخ الأحسائي «1» طاب ثراه، حيث قال في «شرح التبصرة» بعد حكاية جملة من الأقوال: «إن هذه الأقوال كما ترى، لأنّ استعمال المشتقّ من شي ء مسبوق باستعمال ذلك الشي ء و لا كذلك هذا، بل الحقّ أنّها كلها مشتقة منه و فائضة عنه.

و لعل ما ذكره قدّس سرّه بالنسبة إلى الاشتقاق المعنوي، و إلا فهو بالنسبة إلى الاشتقاق اللفظي ضعيف كما لا يخفى.

______________________________

(1) تقدم أنه الشيخ أحمد بن زين الدين بن إبراهيم الإحسائي المتوفى بالمدينة المنورة سنة (1242) ه أو بعدها، و قيل في تاريخ وفاته: الشيخ أحمد بن زين الدين ذو العلم و الشهود و اليقين

فوارة النور جليل أمجدبعد (دعاء) رحم الشيخ أحمد

و لا يخفى أن العلماء في عصره و بعده مختلفون في حقه بين مثن عليه و قادح فيه، و اللّه تعالى هو العالم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 221

و على كلّ حال فالحقّ جواز اشتقاقه من كل منها، بل الجميع على فرض التغاير بناء على عموم المجاز، أو استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد.

و من هنا ذكر بعض الأجلّة أن التحقيق على ما يظهر من جملة الأخبار هو أن في اشتقاق اللفظة المقدسة لوحظ جميع هذه المعاني ليذهب الذهن منه إلى كل مذهب، و هذا من خواص ذلك الاسم الشريف.

ذكر في «مجمع البيان»: «أن معنى (اللّه) و (الإله) الذي تحق له العبادة، و إنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام و إحيائها و الإنعام عليها بما يستحق به العبادة، و هو تعالى إله للحيوان و الجماد، لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق العبادة.

فأما من قال:

معنى الإله هو المستحق للعبادة فيلزمه أن لا يكون إلها في الأزل، لأنه لم يفعل الإنعام الذي يستحق به العبادة و هذا خطأ «1».

أقول: و الظاهر أنّه أراد أنّ إطلاق الألوهية إنما هو باعتبار القدرة التي هي من صفات الذات، سواء تعلقت بابتداء الخلق أو بالإنعام على المخلوق، لكنه لا يخفى أنّ الفرق غير «2» ظاهر بين من تحقّ له العبادة و بين المستحقّ للعبادة، حيث اثبت الأول و نفى الثاني.

اللهم إلا أن يقال: إنه باعتبار التعبير بالثاني من الصفات الفعلية و هي الربوبية إذ مربوب، و بالأول من الصفات الذاتية و هي الربوبية إذ لا مربوب.

إلّا أنّ العبارة لا تساعده، بل لعلّ اقتصاره على ما ذكره متعلقا للقدرة لتوهّم أنّ غيره غير محتاج في بقائه إلى الفيوض الإلهية و الإمدادات الغيبية، و هو غريب

______________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 21.

(2) الفرق ظاهر لأنّ الأوّل من له الحق سواء طلب حقّه أم لا و أمّا الثاني فهو من له الحقّ و طلب حقّه فإنّه من باب الاستفعال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 222

جدّا و كون التعرض له على وجه المثال يردّه التفكيك في العبارة.

و ما أشبه هذا الكلام بالكلام المحكي عن السيد المرتضى «1» الدالّ على أنّ المركبّات محتاجة في بقائها إلى المدد، و الجوهر الفرد و الأعراض غير محتاجة إليها، حيث قال ما عبارته المحكية: و يوصف بإله بمعنى أن العبادة تحق له، و إنما تحق له العبادة لأنه القادر على خلق الأجسام و إحيائها و الإنعام عليها بالنعم التي يستحق بها العبادة عليها، و هو تعالى كذلك فيما لم يزل.

و لا يجوز أن يكون إلها للأعراض و لا الجواهر الآحاد لاستحالة أن ينعم

عليها بما يستحق به العبادة و إنما هو إله للأجسام الحيوان منها و الجماد، لأنه تعالى قادر على أن ينعم على كل جسم بما معه يستحق العبادة إلى آخر ما ذكره.

إيراد مقال لدفع إشكال

استشكل بعض الأجلة «2» فيما يعزى إلى الأكثر من اشتقاق هذا الاسم من أله بالفتح كعبد وزنا و معنى الهة كعبادة بأن الظاهر من الأخبار بل صريحها خلافه.

ففي الخطبة الرضوية المذكورة في «توحيد الصدوق» له معنى الربوبية إذ لا مربوب، و معنى الإلهية «3» إذ لا مألوه، و معنى العالم إذ لا معلوم «4»، و معنى الخالق إذ لا مخلوق «5»، و تأويل السمع إذ لا مسموع «6»» «7».

______________________________

(1) الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي نقيب الطالبيين بالعراق و رئيس الإمامية في عصره، توفي سنة (436) و له (81) سنة.- العبر: ج 3/ 186.

(2) هو على ما حكى عن المصنف القاضي سعيد القمي المتوفى (1107) ه. ذكر الإشكال في أربعينه.

(3) في البحار: و حقيقة الإلهية.

(4) في البحار: و لا معلوم.

(5) في البحار: و لا مخلوق.

(6)

في البحار: و لا مسموع.

(7) بحار الأنوار: ج 4/ 229، ح 3 عن التوحيد و العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 223

و هو صريح في أنّ المألوه بمعنى العابد لا بمعنى المعبود، كما في أخواتها.

و

في «الكافي» في خبر هشام: «اللّه مشتق من إله و الإله يقتضي مألوها» «8».

و الإله لما كان بمعنى المعبود، و العبادة من الأمور النسبية التي لا بد معها من المنتسبين، فالمعبود يقتضي عابدا، فيكون المألوه بمعنى العابد، و يؤيده

قوله بعد ذلك: «فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر» «9».

و أجيب بوجوه: أحدها ما ذكره الصدر الأجل الشيرازي قدّس سرّه من أن الإله مصدر بمعنى المفعول أي

المألوه و هو الحق.

و

قوله: الإله يقتضي مألوها

معناه أنّ هذا المفهوم المصدري يقتضي أن يكون في الخارج موجود هو ذات المعبود الحقيقي، ليدلّ على أنّ مفهوم الاسم غير المسمّى، و لذا عقّبه

بقوله: و الاسم غير المسمّى.

و تبعه في ذلك صهره المحدّث الكاشاني و اعترض بانّ حاصل المعنى حينئذ هو أنّ المألوه يقتضي مألوها، و مثل هذا الكلام لا يصدر عن مثل الإمام عليه السّلام.

ثمّ على تسليم أنّ المراد بالمألوه في الأوّل الاسم، و في الثّاني الذّات، فللخصم أن يقول: لا نسلّم ذلك الاقتضاء، فإنّ كثيرا من الأسماء المتداولة بين الجمهور لا ذات لمسمّاها، و لا تحقّق لمعناها كعنقاء المغرب و أمثاله.

و فيه أنّ التّغاير المشار إليه في الجواب من حيث المفهوم و المصداق كاف في انسياق الكلام له، بل الظّاهر من مساق الخبر بيان مغايرة اللّفظ للمعنى، و أنّ الأوّل يدلّ على الثّانى، حيث

قال: «فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، و من عبد الاسم

______________________________

(8) بحار الأنوار: ج 4/ 157، عن الاحتجاج.

(9) بحار الأنوار: ج 4/ 157، عن الاحتجاج. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 224

و المعنى فقد عبد اثنين، و من عبد المعنى دون الاسم فذلك التّوحيد» «1».

ثمّ استدلّ عليه السّلام بأنّ للّه تسعة و تسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلها، و لكنّ للّه معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء، و كلّها غيره، ثمّ تمثل لذلك بانّ الخبز اسم للمأكول، و الماء اسم للمشروب، و الثّوب اسم للملبوس، و النّار اسم للمحرق.

و من البيّن أنّ ظاهر صدر الخبر فضلا عمّا ذيّله به من الدليل و التّمثيل بيان مغايرة اللفظ للمعنى، و الاسم للمسمّى، ردّا على من توهّم الاتّحاد

فيهما على ما مرّت الاشارة إلى الكلام في أصل المسألة.

و من هنا يضعّف ما ذكره شيخنا البهائي في كشكوله من أنّ أصحاب القلوب على أنّ الاسم هو الذّات مع صفة معيّنة و تجلّى خاص، و هذا الاسم هو الّذى وقع فيه التّشاجر أنّه هل هو عين المسمّى أو غيره و ليس التّشاجر في مجرّد اللّفظ كما ظنّه المتكلّمون فسوّدوا قراطيسهم و أفنوا كرابيسهم بما لا يجدي بطائل و لا يفوق العالم به على الجاهل.

إذ فيه أنّه مخالف لظاهر الخبر و غيره على ما مرّ بل قد سمعت حكايته عن القيصري أيضا و لقد أجاد الفاضل المازندراني حيث قال في شرح قوله: و إله يقتضي مألوها اى متحيّرا مدهوشا في أمره أو متعبّدا له أو مطمئنّا بذكره أو معبودا و هو الأنسب بقوله في الاسم غير المسمّى.

ثانيها: ما ذكره صهره المحدّث الفيض رحمه اللّه من احتمال جعله بفتح الالف و سكون اللّام مصدر اله بالفتح إلها بالسّكون بمعنى العبادة، ثمّ قال: إنّ العبادة يقتضي أن يكون في الموجودات ذات معبود، و لا يكفى فيه مجرّد الاسم من دون

______________________________

(1) بحار الأنوار: 4/ 157.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 225

أن يكون له مسمّى.

حكاه عنه تلميذه القاضي سعيد القمى قدّس سرّه و اعترضه أوّلا بانّه لم يجي ء في اللّغة اله بفتح الألف و سكون اللّام مصدر اله بمعنى عبد، و ما نقل هو من الصّحاح من قوله اله بالفتح الهة اى عبد عبادة فانّما هي إلهة بكسر الهمزة و فتح اللّام مع الألف كما صرّح به شيخنا البهائي و صاحب مجمل اللّغة و أكثر أئمّة اللّغة نعم إنّما جاء بفتح الألف و إسكان اللّام مصدر اله بمعنى تحيّر.

و ثانيا:

بانّه لمانع أن يمنع ذلك الاقتضاء إن أراد انّ العبادة أى وقوعها يقتضي معبودا حقيقيّا، و إن أراد مطلق المعبود فلا مانع من الاقتضاء و لا يجدي نفعا.

قلت: يمكن دفع الثّانى على تكلّف لكن لا وجه لالتزامه، كما لا وجه لتكلّف جعله بفتح الهمزة و سكون اللّام، و لو على فرض جوازه لشذوذه، بل الظّاهر كونه بكسر الهمزة و فتح اللّام بعدها ألف و منه

قراءة مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام: و يذرك و الهتك

اى عبادتك حسبما مرّ فحذفت منها التّاء.

ثالثها ما ذكره القاضي الماضي ذكره انّه ممّا ألهمنى اللّه معتضدا بالعقل الصّريح و الوجدان الصّحيح و هو أنّ الإله فعال مشتقّ من أله بالفتح بمعنى عبد على صيغة المجهول، كولع بمعنى أولع، و أمثال ذلك كثيرة كما هو غير خاف على من له تدرّب في العلوم الأدبيّة، و لا ريب أنّ صيغة المفعول للفعل الّذى معلومه بمعنى مجهول فعل آخر يكون ذلك المفعول بمعنى صيغة الفاعل من هذا الفعل الاخر، لأنّ اسم الفاعل بمنزلة الفعل المعلوم و اسم المفعول بمنزلة الفعل المجهول، و أيضا إذا كان الفعل المعلوم بمعنى فعل مجهول متعدّ معلوم ذلك المجهول إلى مفعول واحد فيجيب بالضّرورة أن يكون الفعل المعلوم الأوّل لازما، و لا شكّ أنّ اسم الفاعل و المفعول في الأفعال اللازمة يكونان بمعنى واحد و لهذا اكتفوا في تلك الأفعال اللّازمة بواحد من اسمى الفاعل و المفعول حسبما اقتضاه ذلك الفعل، ففي مثل اليافع

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 226

و المائت اجتزوا باسم الفاعل، و هو بمعنى المفعول حقيقة و في نحو المشعوف و المنهوم اكتفوا باسم المفعول أى ذو الشّعف و النّهمة أو الّذي أظهر الشّعف

و الحرص على الشّي ء، و من الدّليل على أنّ اله بمعنى عبد على صيغة المجهول أنّ مصادرها مقابلة لمصادر عبد بصيغة المعلوم كالألوهيّة و الالوهة و الإلهة بضمّ الهمزة في الأوليين و كسرها في الأخيرة و في قراءة ابن عباس و يذرك و إلهتك، اى الوهيّتك.

و بالجملة على ما حقّقنا يكون الإله فعالا بمعنى المعبود، و أمّا المألوه فهو بمعنى الّذى له الأله فيكون بمعنى العابد.

و قال ابن العربي في الفصوص: لولا مألوهيّتنا لم يكن إلها يعنى لولا عابديّتنا لم يكن معبودا بالفعل، كما انّه لولا مرزوقيّتنا لم يكن رازقا بالفعل، إذ الألوهيّة معنى نسبّى لا يتحقّق إلّا بالمنتسبين كما مرّ في الخبر المتقدّم في قوله و الإله يقتضي مألوها ثمّ قال فاحتفظ بذلك فانّه من الإلهامات و لم ينل إليه أيدى الطّلبات.

أقول لا يخفى أنّ الاشتقاق من الأفعال المجهولة لكونه على خلاف الأصل و القياس مقصور على السّماع المفقود في مثل المقام، بل الظّاهر اختصاصه بالأفعال الّتي تستعمل مجهولا دائما أو غالبا.

قال في القاموس عنى بالضمّ عناية و كرضى قليل فهو به عن، إلخ.

على أنّ اشتقاق الوصفين معا من مثل هذا الفعل غير معهود كي يكون المفعول من المجهول بمعنى الفاعل من المعلوم، سيّما في هذه المادّة الّتي اشتقّوا ما اشتقّوا من معلومها.

و بالجملة لا داعي للالتزام بمثل هذا التكلّف في الجواب بعد وضوح الجواب من الخبرين، إمّا من

قوله له معنى الالوهيّة إذ لا مألوه

، فلأنّ المراد بالمألوه من له

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 227

الأله كما صرّح به المجلسي في البحار «1» بل هذا الفاضل في كلامه المتقدّم.

و امّا من الخبر الثّاني فلما أشرنا إليه في الجواب الأوّل.

كما أنّه لا داعي

لما تكلّفه القيصري في توجيه ما ذكره ابن العربي في الفصوص من أنّ الألوهيّة تطلب المألوه و الرّبوبيّة تطلب المربوب حيث قال: إن الشيخ يستعمل المألوه في جميع كتبه و يريد به العالم و اللّغة يقتضي أن يطلق على الحقّ إلّا في بعض معانيه لاشتقاقه من اله إلهة بمعنى العبادة و الفزع و الالتجاء و الثّبات و السكون و التحيّر، و لا ريب أنّ المعبود و المفزع و المسكون إليه هو الحقّ و المتحيّر و المثبت هو العالم، ثمّ قال و يمكن أن يستعمل لغة في معان أخر تليق بالعالم.

أقول و بما ذكرنا في توجيه الخبر المتقدم يظهر وجه كلام شيخة بحيث لا حاجة إلى التزام استعمال اللّفظ في المعاني الشّاذة الّتي لا يكاد ينساق إلى الذّهن إلّا بعد نصب القرينة المفقودة في المقام.

تنبيه

ربما يقال إنّ هذا الاسم العظيم هو الاسم الأعظم لاختصاصه بمزايا خواص لا توجد في غيره، و لتقدّمه على جميع الأسماء الكريمة الواردة في الكتب الإلهيّة و على ألسنة الرّسل، و لذا يوصف بالجميع و يقدّم عليها، و لا يوصف شي ء منها به.

و لدلالته على الذّات المستجمع لصفات الكمال بحيث لا يخرج من تحت حيطته شي ء من الصّفات الجماليّة و الجلاليّة، و لذا يشار بغيره من الأسماء إلى شي ء منها.

______________________________

(1) بحار الأنوار: 4/ 159 في ذيل ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 228

و لاشتهاره بلفظه بين جميع الأمم و الطّوائف و الملل مع اختلاف ألسنتهم و أديانهم وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1».

و لتكرّره في كتاب اللّه المجيد المهيمن على غيره من الكتب أكثر من غيره من الأسماء حتّى قيل: إنّ عدده فيه مع ما في

البسملة ألفان و ثمان مائة و اثنا عشر، و ليس لغيره من الأسماء هذا العدد في كتاب اللّه.

و لإناطة التوحيد عليه في كلمتي الشّهادة لا اله الّا اللّه محمّد رسول اللّه.

و لانتساب أشرف الأنام إليه في أشرف أسمائه و هو عبد اللّه و لذا قدّمه على الرّسالة في التّشهّد: و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله.

و لما يستأنس له من بعض الأدعية الدّالة عليه

كقوله عليه السّلام في دعاء سحر و ايّام شهر رمضان اللّهم إنّى أسئلك بما تجيبني به حين أسئلك به فأجبني يا اللّه، و في بعضها نعم دعوتك يا اللّه

إلى غير ذلك من التّقريبات الّتي لا تحقيق معها لأصل القصد الّذي هو أنّ الاسم أعظم هل هو من سنخ الألفاظ و من عالم الحروف و الكلمات كما هو ظاهر الأكثر بل صريح غير واحد من المحقّقين أو أنّه من عالم المعاني و المراتب الكونيّة كما يظهر من البعض، بل لعلّه الظّاهر ممّن ينفى الأعظميّة في الأسماء كالطريحى و غيره و لذا قد ينزّل عليه ما

ورد من أنّه تعالى خلق اسما بالحروف غير مصوت «2»، و باللّفظ غير منطق، و بالشّخص غير مجسّد، و بالتّشبيه غير موصوف، و باللّون غير مصبوغ منفيّ عنه الأقطار، مبعّد عنه الحدود، و محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم، مستتر غير مستور، إلخ «3».

و ذلك لما قد يقال من أنّ كلّ ما خلقه اللّه تعالى فانّما هو من أسمائه بما توسّم

______________________________

(1) الزمر: 38.

(2)

في البحار عن التوحيد: بالحروف غير منعوت.

(3) بحار الأنوار: 4/ 166 ح 8 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 229

به من اثار الصّنع و دلائل التّربية و كلّها من حيث انتسابها إلى اللّه العظيم عظيمة

كما إليه الاشارة في بعض الآيات و الاخبار و الأدعية سيّما في جميع فقرات دعاء سحر شهر رمضان و ذلك لأنّ اللّه سبحانه عظيم لا يصدر عن العظيم الّا العظيم فكلّ شي ء خلقه اللّه تعالى و جعله لنفسه اسما و دليلا و آية إنّما خلقه على وجه العظمة لا غير، فليس معنى الدّعوة بالاسم الأعظم أنّ الاسم على قسمين أعظم و غير أعظم، بل المراد أنّ دعوة الدّاعى بالاسم تكون على قسمين: قسم يصرف الدّاعى هذا الاسم الّذي يدعو به على ما هو عليه من العظمة و الجلالة و رتبته من الوجود بل يتحقّق بحقيقته الّتي خلقه اللّه تعالى عليها، و قسم يضلّ و فيه و لا يهتدى اليه و لا يعرفه على ما هو عليه من الجلالة و العظمة.

أقول الظّاهر أنّه لا مجال إلى إنكار الاسم الأعظم من حيث اللّفظ لدلالة ظواهر كثير من الأخبار عليه و اشتهاره بين الأصحاب، بحيث قد يدّعى قيام ضرورة المذهب بل الدّين عليه، نعم قد سمعت انقسام الأسماء إلى الأقسام الأربعة، و الظّاهر اشتمال كلّ منها على العظيمة و غيرها فمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أوصيائه الطّيبّون عليهم السّلام هم أعظم الأسماء الالهيّة، و لذا

ورد أنّهم الأسماء الحسنى و الأمثال العليا كما في الجامعة الكبيرة و كثير من الأدعية

، و لهذا ينكشف بعض الاستتار عن وجوه بعض الأخبار.

ففي البصائر عن مولينا أبى جعفر عليه السّلام قال: إنّ اسم اللّه الأعظم على ثلاثة و تسعين حرفا و انّما عند آصف منها حرف واحد فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس، ثمّ تناول السرّير بيده، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة

عين، و عندنا نحن من الاسم اثنان و سبعون حرفا، و حرف عند اللّه استاثر به

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 230

في علم الغيب عنده، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العلّى العظيم «1».

و

فيه عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل اسمه الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا فأعطى آدم منها ستّة و عشرين حرفا، و أعطى نوحا منها خمسة و عشرين حرفا، و أعطى منها إبراهيم ثمانية أحرف، و أعطى موسى منها أربعة أحرف، و أعطى عيسى منها حرفين، و كان يحيى بهما الموتى، و يبرئ بهما الأكمه و الأبرص، و أعطى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اثنين و سبعين حرفا و احتجب حرفا لئلّا يعلم ما في نفسه، و يعلم ما في نفس العباد» «2».

و ظاهر هذه الأخبار هو الاسم اللفظي، و إن قيل بجواز حمله على الكوني أيضا، و يدل على ما ذكرناه مضافا إلى ذلك، و الأخبار المختلفة في تعيين الاسم الأعظم.

فعن الصادق عليه السّلام قال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر العين إلى بياضها» «3».

و

عن الرضا عليه السّلام: «إنه أقرب إلى الاسم الأعظم من بياض «4» إلى سوادها» «5».

و

عن مولانا الباقر عليه السّلام: «حدثني أبي عن جده أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال:

رأيت الخضر في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علّمني شيئا أنتصر به على الأعداء، فقال: قل: يا هو يا من لا هو إلا هو، فلما أصبحت قصصت ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: يا علي علّمت الاسم الأعظم فكان على لساني يوم بدر،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/

210 عن البصائر.

(2) بحار الأنوار: ج 4/ 211، ح 5، عن البصائر.

(3) البحار: ج 78/ 371، ح 6.

(4)

في البحار: من سواد العين إلى بياضها.

(5) البحار: ج 93/ 223. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 231

و كان يقول ذلك يوم صفين و هو يطارد، فقال له عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: اسم اللّه الأعظم» الخبر «1».

و

في «المشارق» أنّه لمّا دخل مولانا الصادق عليه السّلام على داود قاتل المعلّى بن خنيس فقال:

«يا داود! قتلت مولاي و وكيلي، و ما كفاك القتل حتى صلبته، و اللّه لأدعونّ عليك فيقتلك اللّه كما قتلته».

فقال داود: أ تهدّدني بدعائك؟ أدع اللّه فإذا استجاب لك فادعه عليّ، فخرج أبو عبد اللّه عليه السّلام مغضبا، فلما جنّ الليل اغتسل و استقبل القبلة ثم قال:

«يا ذا يا ذي يا ذوات إرم داود بسهم من سهام قهرك تقلقل به قلبه» ثم قال لغلامه: «أخرج و اسمع الصائح»، فجاء الخبر أنّ داود قد هلك، فخرّ الإمام عليه السّلام ساجدا و قال:

«لقد دعوت بثلاث كلمات لو قسمت على أهل الأرض لزلزلت بمن عليها» «2».

قلت: و لعلّ ذا إشارة إلى اللّه سبحانه الحاضر القريب الذي لا أقرب منه من حيث حضوره و ظهوره و تجلّيه في كل شي ء بفعله و صنعه و نوره، و ذي إشارة إليه من طريق النفس التي هي أعظم آية و أقرب لها إليه، إذ ليس شي ء أقرب و لا أدلّ من نفس الشي ء عليه.

و الذوات إشارة إليه من طريق جميع الذوات التي هو سبحانه مذوتّها فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 93/ 232، ح 3، عن التوحيد.

(2) مشارق الأنوار: ص 92- 93.

(3) البقرة: 115.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 3، ص: 232

و على كلّ حال فليكن هذا الإجمال على ذكر منك حتى نفصّل الكلام إن شاء اللّه تعالى في تحقيق الاسم الأعظم و معنى أعظميته و أنّ الاستجابة به مشروطة بشرط أم لا في موضع أليق على وجه أتم.

نعم، مما ينبغي التعرض له في المقام اختصاص هذا الاسم الشريف و هو (اللّه) بمزايا لا توجد في غيرها و قد أشار إلى بعضها بعض المحققين.

منها: أن جميع أسماء الحق تنسب إليه، و لا ينسب إلى شي ء منها كما نسب سبحانه في قوله: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «1» جميع الأسماء إليه، فكأنه عنوان و لو في الجملة لغير من الأسماء.

و منها: أنه لم يسمّ به أحد من الخلق لا تسمية و لا توصيفا لقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا و قد مرّ تمام البحث فيه.

و منها تعويض الألف و اللام فيه من الهمزة المحذوفة عند من يرى أن أصله إله كما هو الحق المستفاد من الأخبار المتقدمة، و لم يعوض في غيره أداة التعريف عن المحذوف.

قال في «المجمع» حكاية عن أحد قولي سيبويه أن أصله إله فحذفت الفاء التي هي الهمزة و جعلت الألف و اللام عوضا لازما عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعريف في القسم و النداء نحو قولهم: أ فاللّه لتفعلن، و يا اللّه اغفر لي، و لو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل «2».

و منها: أنهم جمعوا فيه بين أداة التعريف و حرف النداء عند كونه مناديا، و لم يرد ذلك في غيره إلّا شاذا في ضرورة الشعر كقوله:

______________________________

(1) الأعراف: 180.

(2) مجمع البيان: ج 1/ 19، في تفسير البسملة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 233 فيا الغلامان اللذان فرّاإيّاكما

أن تكسبانا شرا «1»

و لذا قيل: إن من قال: إنّ لفظة الجلالة من الأعلام الواقعة على سبيل الارتجال من غير أن يؤخذ من أصل آخر و أنّ الألف و اللام فيه جزء اللفظ لم يرد عليه الاعتراض بنداء ما فيه الألف و اللام.

و أما من يقول: بأن الألف و اللام فيه للتعريف فقد أجابوا عن الاعتراض بأن اللام فيه بمنزلة الأصل، للزومها و كونها عوضا عن الهمزة التي هي فاء.

أو لأن النداء فيه أكثر من غيره فخفّفت بحذف الوصلة بدخول كلمة (أل) و لم يخفف بانتزاع اللام لأنه يفضي إلى تغيّر الاسم و زوال ما قصد به التعظيم.

أو لأنهم كرهوا بأن يأتوا باسم مبهم يطلقونه على اللّه عز اسمه.

أو لأن إطلاق الأسماء عليه توقيفية و لم يرد الإذن بمثل (يا أيها اللّه)، كي لا يحصل الفصل بين حرفي التعريف بالاسم المبهم.

و منها: امتناع دخول كلمة أي و الهاء للتنبيه عليه مع حرف النداء بخلاف غيره من الأسماء و الأوصاف كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُ و لعله يرجع إلى ما مر، فإن أيّ جعلت وصلة إلى نداء المعرّف باللام نظرا إلى امتناع دخول اللام عليه لتعذر الجمع بين حرفي التعريف، فإنّ حرف النداء لتعريف المنادي.

و لذا قيل في الضابطة: إنّ مدخول لام التعريف إمّا أن يكون علما أو غير علم، فإن كان غير علم فلا يخلو إما أن يصحّ نزع اللام منه أو لا، فإن لم يصح نزع اللام منه كالصعق و الثريا لا يصح نداؤه، إذ لا ينزع منه اللام، و معها لا يدخله حرف النداء، فالطريق في ندائه أن يؤتى بمن فيقال (يا من هو الصعق) و إن كان علما يصح

______________________________

(1) لم يسمّ

قائله و لكن استشهد النحويّون كالسيوطي و الجامي به في باب المنادي. و في شرح ابن عقيل: إيّاكما أن تعقبانا شرّا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 234

نزع اللام منه كالحارث و العباس فقيل: إنه ينادى بنزع اللام، و قيل: لا يجوز نداؤه لا مع اللام لامتناع الجمع، و لا بدونها لاستلزامه تغيير صورة العلم.

و فيه: أنه إن كان علما بدونها فلا محذور في حذفها، أو معها فهي كالجزء، كما لو سمي بمركب، بل بجملة فعلية كيا تأبط شرا، أو اسمية كيا الرجل منطلق.

و أمّا المعرف باللام الذي ليس علما فلا يباشره حرف النداء و لكن يؤتى بأيها أو ذا، أو أيهذا، أو هذا، فيقال: يا أيها الرجل، أو يا ذا الرجل، أو يا أيهذا الرجل، أو يا هذا الرجل.

كأنهم كرهوا أن يجمعوا بين حرفي التعريف و حرف النداء، كما كرهوا حذف اللام فيه، لما فيه من الانتقال من التعريف الأقوى إلى التعريف الأضعف، فأتوا باسم مبهم مجرد عن حرف التعريف جعلوه المنادي في اللفظ و أجروا عليه حكم المعرّف باللام المقصود بالنداء.

و منها: تعويض الميم المشددة في آخره عن حرف النداء، و لذا لا يجتمعان إلا شاذا و شدّد لكونها عوضا عن حرفين، و هذا هو المشهور، و قيل: أصله يا اللّه أمنّا بخير، فخفّف لكثرة الاستعمال بحذف حرف النداء و متعلقات الفعل و همزته.

و هذا أيضا من خواصّ هذا الاسم بل فيه الإشارة إلى كثرة التوسل بهذا الاسم في الدعوات كي استحق مثل هذا التخفيف.

و منها: ما قد يقال: إنه قد يسقط الألف و اللام أيضا مع إلحاق الميم المشددة و يقال لاهم.

قال أبو خراش «1» في الشوط الخامس: لا همّ هذا خامس إن تمّا.

______________________________

(1)

هو أبو خراش خويلد بن مرة، شاعر فحل من شعراء هذيل، مخضرم أدرك الجاهلية و الإسلام فأسلم و مات سنة (15) ه في خلافة عمر بن الخطاب، نهشته أفعى فمات.- الأغاني: ج 21/ 205.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 235

و منها اختصاصه بتاء القسم، فلا تستعمل التاء مع غيره.

و منها: اختصاصه بلفظ أيمن الموضوع للقسم، فيقال: أيمن اللّه، و كذا سائر لغاته، و هي ثمان و عشرون لغة، أشار إليها في «القاموس» قال: «و أيمن اللّه، و أيم اللّه، و بكسر أولهما، و أيمن اللّه بفتح الميم و الهمزة و تكسر، و إيم اللّه بكسر الهمزة و الميم، و قيل: ألفه ألف الوصل، و هيم اللّه بفتح الهاء، و ضمّ الميم، و أم اللّه مثلثة الميم، و إم اللّه بكسر الهمزة و ضم الميم و فتحها، و من اللّه مثلثة الميم و النون، و م اللّه مثلثة، و ليم اللّه، و ليمن اللّه: اسم وضع للقسم، و التقدير أيمن اللّه قسمي» «1». انتهى بعبارته.

و منها: أنهم كتبوه بلامين في الخط مع حذف الألف و وصل الهاء، أما كتابته باللامين فلعله الأصل في مثله كما في اللعب و اللمم و اللحم و نحوها.

إلا أنهم كتبوا (الذي) بلام واحدة مع تساويهما في كثرة الدوران و لزوم التعريف لنقصانه الناشي من بنائه فأدخلوا فيه النقصان في الخط أيضا، فإذا ثنى ضعفت مشابهته بالحرف حيث إنه لا يثنى فيكتب بلامين.

و على هذا فإثبات التشديد في غير الذي على خلاف القياس، و لعله علامة لفظية لا للنيابة الخطية، و أما الحذف و الإيصال فلكثرة الاستعمال على أنّ الثاني مع فرض الأول على القياس.

و منها: أنه لا يغيّر بتثنية أو جمع أو

تصغير أو تكسير.

و منها: أنه بعد حذف الجار قد يبقى في القسم مجرورا نحو اللّه- لأفعلن.

بل قيل: قد يحذف مع ذلك أيضا الألف و اللام، فيقال: لاه لأفعلن، حكاه أبو حاتم.

______________________________

(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي: 4/ 279.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 236

و منها: تفخيم لامه إذا كان ما قبله مفتوحا أو مضموما.

قال في «شرح طيبة النشر»: «و أما اسم اللّه تبارك و تعالى فكل القراء على تفخيمه إذا وقع بعد فتح نحو: قال اللّه، و شهد اللّه، و كذا إذا ابتدى به نحو: اللّه لطيف بعباده «1»، و كذا إذا وقع بعد ضم، نحو رسل اللّه «2»، و إذ قالوا اللهم» «3».

و ما حكاه الأهوازى «4» عن السوسي «5» من الترقيق فيه فهو شاذّ لا يؤخذ به و لا يصح تلاوته.

نعم، اختلفوا في ترقيقه و تفخيمه إذا وقع بعد حرف ممال و ذلك في موضعين: نَرَى اللَّهَ «6» و سَيَرَى اللَّهُ «7» في رواية السوسي، قالوا: و الوجهان صحيحان.

قلت: بل عن أبي البقاء عن بعضهم تفخيم لامه مطلقا و لو بعد الكسر، إلا أن هذا القول مناف لنقل جمع الاتفاق على أنه لا يفخم عند الكسر.

قال الرازي: «أطبق القراء على ترك تغليظ اللام في قوله بِسْمِ اللَّهِ و في قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ و السبب فيه أن الانتقال من الكسرة إلى للام المفخمة ثقيل». ثم حكى عنهم في ضابط التفخيم ما لا يخلو من نظر واضح فلاحظ.

نعم، حكي عنهم أن المقصود من هذا التفخيم أمور كالفرق بينه و بين لفظ

______________________________

(1) الشورى: 19.

(2) الأنعام: 124.

(3) الأنفال: 32.

(4) الأهوازي: أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأستاذ في القراءة و كان بدمشق، توفى سنة (446) ه.- النشر في القراءات

العشر: ج 1/ ص 35.

(5) السوسي: أبو شعيب صالح بن زياد المتوفى (261) ه.- النشر: ج 1/ 134.

(6) البقرة: 55.

(7) التوبة: 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 237

اللات في الذكر، و أن التفخيم مشعر بالتعظيم، و هذه اللفظة تستحق المبالغة فيه، و المرققة تذكر بطرف اللسان، و المغلظة بكله، فأوجب لزيادة القصد و العمل فيه كثرة الثواب، مع أن ذكره بكل اللسان يشعر بذكره بكل القلب، فيكون امتثالا لما عن «التوراة»: «يا موسى! أجب ربك بكل ذكر».

أقول: و لعل الأولى من كل ذلك الاستناد إلى قراءة العرب الذين هم من أهل اللسان، و إن كان لا يعلل عندهم أيضا بشي ء إليه، فإن ذلك يرجع إلى الحرف و كيفية أدائه، لا إلى جوهره و مادته.

و من هنا يظهر الجواب عما استشكله الرازي من أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء، و كنسبة السين إلى الصاد، و حيث اعتبروا التغاير بين كل من الحرفين فليعتبر أيضا بين هاتين.

و وجه وحدة النسبة على ما صرح به أن الرقيقة كالتاء يؤدى بطرف اللسان و المغلظة كالطاء بكله.

و فيه أن العمدة ما سمعت من أن امتياز الحروف إنما هو بجواهرها و موادها، لا مجرد الاختلاف في المخارج، مع تحقق المغايرة، هذا مع أن الإجماع حاصل على عدّ الرقيقة و المغلظة حرفا واحدا، و على عدّ الدال و الطاء و كذا السين و الصاد حرفين، و اعتبار المغايرة مبنيّ على فرض التغاير المفقود في المقام.

و الحق على ما هو المقرّر في محله أنّ لكل حرف من الحروف مخرجا على حدة، و لو باعتبار اختلاف كيفية الاعتماد و تحريك العضلات و الأعصاب اللسانية و غيرها، على ما يشهد به

الوجدان.

و منها: ما قيل: من أنه إذا ألقيت من هذا الاسم الألف بقي (للّه)، لِلَّهِ الْأَمْرُ

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 238

مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ «1»، و إن تركت اللام الأولى بقيت البقية على صورة (له)، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «2»، و إن تركت اللام الثانية أيضا بقي الهاء المضمومة من هو، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «3»، و الواو زائدة حاصلة من الإشباع، و لذا يسقط في (هما) و (هم) إلى غير ذلك من الخواص التي يختص بها هذا الاسم.

و اعلم أن أصل هذا الاسم و أسه و أساسه هو الهاء التي تدلّ عليه مجردا عن سائر حروف الاسم و لو مشبعا بالواو، أو مع سائر الأدوات الجارّة، و هي النقطة الجوّالة، و الدائرة السيّالة، و عددها خمسة، و هي قوى الباب، و فصل الخطاب و منه المبدأ، و إليه المآب.

مع أنّ في هذا العدد خصوصية في ظهوره في المظاهر، و عدم احتجابه بالسواتر، و لذا سمّاه أرباب الارثماطيقي «4» بالعدد الدائر، فإنه إذا ضرب في نفسه كان بعينه محفوظا في الحاصل، و كذا إذا ضرب في الحاصل، أو الحاصل في الحاصل، و هكذا متصاعدا إلى ما لا نهاية له، فتكون الخمسة محفوظة في المال و الكعب، و مال المال، و مال الكعب، و كعب الكعب، و هكذا، و لذا كنّوا و أشاروا به إلى الواحد البحت الحقّ الظاهر بصنعه و آثاره في كل شي ء كما

قال سيد الشهداء عليه السّلام: «أنت الذي تعرّفت إليّ في كل شي ء فرأيتك ظاهرا في كل شي ء، فأنت الظاهر لكل شي ء» «5»، «متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، و متى بعدت حتى تكون الآثار

هي التي توصل إليك» «6».

______________________________

(1) الروم: 4.

(2) النساء: 171.

(3) البقرة: 163.

(4) الإرثماطيقي Aritmetic (هو علم الحساب النظري.

(5) بحار الأنوار: ج 98/ 228.

(6) بحار الأنوار: ج 98/ 226.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 239

مع ما فيه من الإشارة إلى كليات الجواهر الخمسة، و العوالم الخمسة الكلية:

و هي: الأزل سبحانه و تعالى.

و عالم السرمد، و هو عالم الرجحان و الأمر، و المشية الكلية، و الفعل، و الإبداع.

و عالم الجبروت، أي العقول و المعاني المجردة عن المادة و المدّة و الصورة و عالم الملكوت، أي النفوس و الصور المجردة البرزخية و الجوهرية.

و عالم الملك، أي الأجسام التي أعلاها محدّد الجهات، و هو المساوق في الوجود للزمان و المكان، بحيث لا يسبق شي ء من هذه الثلاثة الآخرين في الغيب و الشهادة، بل لا يفضل شي ء منها عن أخويه و لا ينقص عنه.

و إلى الخمسة العبائية «الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا» «1» و هو أول المخمّسات البسيطة، و أول أعداد المربعات النارية، و ليس في الأفراد ما يدل على تركيب ما هو أوله سواه.

و هذا الحرف هو الاسم الأعظم و النور المعظم، و الحرف المقدم عند كثير من أرباب التحقيق، بل هو في الحقيقة اسم اللّه العظيم جل جلاله، و الألف و اللام للتعريف، و اللام و الألف لنفي الغير، فهو إشارة إلى الهوية المجرّدة الغيبية الإلهية.

بل قيل: إنّه الذكر الجاري على الدوام في أنفاس الحيوانات في حركتها و سكونها، و نومها و يقظتها، و اختيارها و اضطرارها.

بل قيل: إنّ الحكماء الإلهيين وضعوا الأرقام التسعة المشهورة التي هي أصول الأعداد الباقية، و كذا الحروف المفردة التي يحاذي الأعداد التسعة بحساب الجمل بإزاء الأصول التسعة للموجودات و هي (الباري)

عزّ شأنه، و (العقل)،

______________________________

(1) اقتباس من آية التطهير في سورة الأحزاب (33).

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 240

و (النفس)، و (الطبيعة) و (الهيولى).

و الأربعة الأول لمّا كانت من الفواعل فاعتبارها من حيث ذواتها غير مضافة إلى ما بعدها، ثم من حيث تأثيرها في معلولاتها يحصل ثمانية و مع الهيولى تسعة، و هي أصول الموجودات.

فقالوا: الألف إنما يدلّ بها على الأحدية الصرفة تعالى شأنه من غير اعتبار الإضافة، و الباء للعقل كذلك، و الجيم للنفس كذلك، و الدال للطبيعة كذلك، ثم الهاء للباري تعالى باعتبار إضافتها إلى ما تحتها و هي مرتبة الألوهيّة و الواو للعقل كذلك، و الزاي للنفس كذلك، و الحاء للطبيعة كذلك.

ثم الطاء للهيولى لأنها في أخيرة المراتب، و ليس لها إلا حيثية واحدة.

و هذه الوجوه و إن كانت في الظاهر مناسبات اعتبارية، إلا أنها حاكية عن حقايق متأصلة أشرقت عليها بتجلي ظهورها و فاضل نورها، فكانت مرآة لها و دليلا عليها.

نعم في بعض ما في عباراتهم من الإضافة إلى الباري و عدّه من جملة المراتب و غيرهما بعض المسامحات.

ثم إنه إذا أشبع بعد ضمّه و توجهه إلى مبدأه ظهر بظاهره و باطنه، و هو ستة عدد قوي الواو الذي هو أيضا من الأعداد الدائرة الكرية التي تظهر بنفسها و بصورتها في جميع مربعاتها و مكعباتها و مضروباتها، و ذلك أن العدد الدائر ليس بعد الواحد إلا الخمسة و الستة، و يقال له الكري أيضا.

و قد اجتمعا في كلمة (هو) و هو الإشارة إلى الهوية الثانية الأحدية.

و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام في قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قال: «قل أي أظهر ما أوحينا إليك و نبّأناك به بتأليف الحروف التي قرأناها لك ليهتدي

بها من ألقى السمع و هو شهيد، و هو اسم مشار و مكنّى إلى غائب، فالهاء

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 241

تنبيه عن معنى ثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواس، كما أنّ قولك: هذا إشارة إلى الشاهد عند الحواس، و ذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك، فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الذي تدعو إليه، حتى نراه و ندركه، فأنزل اللّه تبارك و تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فالهاء تثبيت للثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواس».

ثم

روى عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «رأيت الخضر على نبينا و آله و عليه السّلام في المنام قبل بدر بليلة فقلت له: علّمني شيئا أنصر به على الأعداء، فقال: قل: يا هو يا من لا هو إلا هو، فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا علي علّمت الاسم الأعظم» «1» الخبر.

ثم إنّه بقواه العددية يساوي قوى حرف النداء الذي يتوصل به إلى نداء البعيد و القريب فإنه أقرب من كل قريب و أبعد من كل بعيد.

فإذا استنطقته في مقام الانبساط و التفصيل ظهر اسم مولانا أمير المؤمنين علي عليه السّلام فإنه الحجاب و الباب و أمّ الكتاب و فصل الخطاب، فينتهي الأحد عشر بعد بسط الآحاد بالعشرات إلى مائة و عشرة.

بل يستفاد من تضاعيف الأحاديث المأثورة من أهل البيت عليهم السّلام أنه انطوى اسمه الأعظم على أسمائهم، و على ولايتهم، و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما مر في «توحيد الصدوق» قدّس سرّه في تفسير لفظة (اللّه): «إنّ الألف آلاء

اللّه على خلقه من النعيم بولايتنا، و اللام إلزام اللّه خلقه على ولايتنا، و الهاء هوان لمن خالف محمّدا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 3/ 221- 222، ح 12، عن التوحيد. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 242

و آله محمد» «1».

فهم مظاهر الاسم، بل هو الاسم الأعظم، و النور الأقدم.

ثم إنك قد سمعت أنّ الألف إشارة إلى الذات الأحدية الحقة، و الهاء دالّة على مرتبة الألوهية التي هي الذات المستجمعة لصفات الكمال و الجلال، و هي مدلولة هذا الاسم الشريف فيصير الباقي بعد وضع الطرفين (لا) و فيه إشارة إلى أنه هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن، و أن لا شي ء في الوجود بحقيقة الشيئية إلّا هو سبحانه، فكلمة لا إله إلا اللّه هي تفصيل ما أجمل في هذه اللفظة لدلالتها على نفي الاعتبار، و إثبات الواحد القهار، و هذا بحسب المعنى، بل هي كذلك بحسب اللفظ أيضا، فإن حروف الكلمة هي تكرار حروف اللفظة من غير زيادة.

أيقاظ و استيفاق في تحقيق الاشتقاق

قد مرّ الكلام في اشتقاق لفظ الجلالة، و بقي الكلام في أقسام الاشتقاق، و أحكامه و لا علينا أن نشير إلى نبذة يسيرة من القول فيه، تكون أصلا لما يأتي فنقول: الاشتقاق على قسمين: لفظي و معنوي، فاللفظي اقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريفه على حروف ذلك الأصل لو لا المقتضي لتغير بعضها بحذف أو نقل أو قلب، و أقسامه خمسة عشر قسما: فإنه إمّا بزيادة أو بالنقصان أو بهما معا، و كل من الأوّلين، إما في الحرف، أو في الحركة، أو فيهما معا فهذه ستّة و يحصل من الثالث تسعة أقسام: لأن الزيادة مع النقصان إما أن يقعا في الحركة فقط، أو في الحرف فقط، أو

فيهما معا.

فالذي في الحركة نقصانها مع زيادتها، نقصانها مع زيادة الحرف، نقصانها مع

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 92/ 231، ح 12، عن التوحيد و المعاني.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 243

زيادة الحركة و الحرف.

و الذي في الحرف نقصانه مع زيادته، نقصانه مع زيادة الحركة، نقصانه مع زيادتهما.

و الذي فيهما معا نقصانهما مع زيادتهما معا، نقصانهما معا مع زيادة الحركة، نقصانهما مع زيادة الحرف.

فهذه تسعة، و مع الستة الأولى خمسة عشر قسما، فتأمّل فإن الخطب فيه سهل كسهولة الخطب فيما اختلفوا فيه من اشتقاق الفعل من المصدر كما عن البصريين أو العكس كما عن الكوفيين.

و إن ذهب الجمهور إلى الأول، نظرا إلى أن المصدر جزء من الفعل الذي مدلوله الحدث و الزمان، إذ مدلول المصدر هو الحدث خاصة، فيقدم عليه تقدم الجزء على الكل، فلو اشتقّ المصدر من الفعل لتأخّر عنه، لكنّه متقدم عليه فيدور.

و فيه: أن التقدم الرتبي المعنوي على فرضه لا يقضي بالاشتقاق اللفظي، سيما مع كون المعنى المصدري من المعاني النسبية الربطية التي لا تحقق لها إلا باستناد الفعل إلى الفاعل.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنهم لما رأوا المصدر كالأصل المحفوظ بجوهره، و مادته مع اعتوار الصور المختلفة عليه باعتبار اختلاف الحركات و السكنات و زيادة الحروف و نقصانها لتحصيل معان مختلفة بالاعتبارات و الجهات.

و إن كان كلها تدور على ذلك المعنى الواحد الساري في الجميع الذي هو بمنزلة الصور المعتورة عليها، فلذا حكموا بكون المصدر هو الأصل من جهة القواعد اللفظية الاشتقاقية التي نظرهم مقصور على ملاحظتها و اعتبارها.

و لذا أخذوا الفاعل من أجزاء الفعل و متمّماته و اعتباراته، و إن كان مقتضى القواعد المعنوية الحقيقية كون الأصل هو الفاعل، بل هو و لا

سواه، بمعنى أنه ليس

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 244

له ثان في رتبة وجوده و تحققه، و كل من الفعل و غيره من جملة شؤونه و تجلياته و تطوراته التي يكون له، لا في مرتبة الذات، بل في مرتبة الظهور و التجلّي بصفة من صفاته الفعلية.

فأول ما يظهر منه و هو الفعل المعبر عنه بالإبداع و المشية و الإرادة، و هي و إن كانت أسماؤها مختلفة إلا أن معناها واحد، كما نبّه عليه مولانا الرضا عليه التحية و الثناء في خبر عمران الصابي «1».

و لذا

قال الصادق عليه السّلام: «خلق اللّه المشية بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشية» «2».

فالفعل مقدم على المصدر الذي هو المفعول المطلق كما في قولك: ضربت ضربا، فضربا الذي هو المصدر و هو المفعول المطلق قد تحصّل و انوجد من الفعل، لأن الموجود بعد الوجود، بل الوجود بعد الإيجاد، بل الإيجاد بعد أوجد فافهم الكلام حتى تعرف الفرق بين الاشتقاقين الذين أحدهما عكس الآخر.

فلك تصحيح كل من القولين بالاعتبارين، إلّا أنّه لما كان مدار علمهم و بحثهم و اصطلاحهم على الألفاظ اللغوية، لا الحقائق المعنوية كان الجدير بهم الاتفاق على اشتقاق الفعل من المصدر، كما اختاره الجمهور منهم.

و لعل الفرقة الأخرى قد آنست من جانب طور الحقائق نارا و برقا، فرأى أن الأمر هكذا بحسب الحقيقة و المعنى، و لكن سنا برقه ذهب ببصره و ما استشعر أن هذا في عالم الحقائق لا الألفاظ التي هي محلّ بحثهم.

و من جميع ما مر ظهر بعض الكلام في الاشتقاق المعنوي أيضا، و إن تنوّع

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10/ 314، ح 1 عن التوحيد و العيون.

(2) البحار: ج 4/ 145، ح 20، عن التوحيد.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 3، ص: 245

على أنواع شتى كلها ترجع إلى معنى واحد عند التحقيق على بعض الوجوه.

فمنها الاشتقاق العيني المشار إليه في كثير من الأخبار و الأدعية المعصومية، كما

في دعاء يوم السبت المروي في «المتهجد»: «أنت الجبار تعزّزت بجبروتك، و تجبّرت بعزتك، و تملّكت بسلطانك، و تسلّطت بملكك، و تعظّمت بكبريائك، و تشرّفت بمجدك، و تكرّمت بجودك، و جدت بكرمك، و قدرت بعلوّك، و تعاليت بقدرتك» «1».

فإنّ كلّا من هذه الصفات الجلالية و الجمالية عين الأخرى، بل الكل واحد في الحقيقة بلا مغايرة أو تعدد حقيقي أو اعتباري أو ذهني أو خارجي، و هو الذات البحت المجرد عن جميع الاعتبارات و الإضافات و الشؤون و الكثرات.

و لذا

قال مولانا أمير المؤمنين روحنا له الفداء و عليه و على نفسه و ذريته آلاف التحية و الثناء: «و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه» «2».

ثم لو حملنا الدعاء على ذكر الصفات الفعلية فالأمر فيه أيضا ما مر.

قال اللّه تعالى: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ «3».

و يمكن الحمل على الاشتقاق الفعلي، و فائدة استدارة كل منها على الآخر الإشارة إلى أنّ كلّا من تلك الصفات ذاتي و فعلي كانقسام الربوبية إذ لا مربوب

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 90/ 149.

(2) نهج البلاغة: الخطبة الأولى.

(3) القمر: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 246

و إذ مربوب.

و لعله يحمل

على المعنيين الأخيرين أو الثالث أو كل من الثلاثة

قوله عليه السّلام في تعقيب صلاة التسبيح على ما رواه في «المتهجد»: «أسألك باسمك الذي اشتققته من عظمتك و أسألك بعظمتك التي اشتققتها من كبريائك و أسألك بكبريائك التي اشتققتها من كينونيتك، و اسألك بكينونيتك التي اشتققتها من جودك، و أسألك من جودك الذي اشتققته من عزك، و اسألك بعزّك الذي اشتققته من كرمك» الدعاء «1».

و منها الاشتقاق الفعلي الإبداعي الذي هو نفس المشيّة الكلية و العناية الربانية و النفس الرحماني، و النور الشعشعاني.

فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما رواه في كتاب «المعراج»: «يا علي! إن اللّه تبارك و تعالى كان و لا شي ء معه، فخلقني و خلقك روحين من نور جلاله» «2».

و

في «رياض الجنان» عن أبي جعفر عليه السّلام: «كان اللّه و لا شي ء غيره، لا معلوم و لا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خلقنا أهل البيت معه من نور عظمته» إلى أن قال عليه السّلام:

«يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس» «3».

و

في «تأويل الآيات» عن الشيخ الطوسي قدّس سرّه بالإسناد عن الكاظم عليه السّلام قال: (إن اللّه تبارك و تعالى خلق نور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من نور اخترعه من نور عظمته و جلاله، و هو نور لاهوتيته الذي تبدّى و تجلّى لموسى عليه السّلام في طور سيناء، فما استقرّ له، و لا أطاق موسى لرؤيته، و لا ثبت له حتى خرّ صعقا مغشيا عليه، و كان ذلك النور نور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا أراد أن

يخلق محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منه قسم ذلك النور

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 91/ 195، عن جمال الأسبوع.

(2) كنز الفوائد: ص 374، و عنه بحار الأنوار: ج 25/ 3، ح 5.

(3) بحار الأنوار ج 25/ 17: عن رياض الجنان. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 247

شطرين، فخلق من الشطر الأول محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من الشطر الآخر علي بن أبي طالب عليه السّلام، و لم يخلق من ذلك النور غيرهما خلقهما بيده، و نفخ فيهما بنفسه لنفسه، و صوّرهما على صورتهما، و جعلهما أمناء على خلقه، و خلفاء على خليقته، و عينا له عليهم، و لسانا له إليهم، قد استودع فيهما علمه، و علمها البيان، و استطلعهما على غيبه، و جعل أحدهما نفسه، و الآخر روحه، لا يقوم واحد بغير صاحبه، ظاهرهما بشرية، و باطنهما لاهوتية، ظهرا للخلق على هياكل الناسوتية حتى يطيقوا رؤيتهما.

و هو قوله تعالى وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ «1»، فهما مقام رب العالمين، و حجاب خالق الخلائق أجمعين.

بهما فتح بدء الخلق و بهما يختم الملك و المقادير، ثم اقتبس من نور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة ابنته، كما من نور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابنته كما اقتبس نوره من نوره، و اقتبس من نور فاطمة و علي عليه السّلام الحسن و الحسين كاقتباس المصابيح ...» الخبر «2».

و فيه شهادة لما يأتي أيضا و لذا نقلنا كثيرا منه مع ما فيه من الفوائد الشريفة و العوائد المنيفة.

و منها الاشتقاق النفسي المشار إليه بقوله: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ «3».

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا علي

أنت نفسي التي بين جنبي» «4».

______________________________

(1) الأنعام: 9.

(2) بحار الأنوار: ج 35/ 28، و فيه بعد «و استطلعهما على غيبه»: بهما فتح بدء الخلق ... و أما جملة «و جعل أحدهما ... إلى حجاب خالق الخلائق أجمعين» فليست موجودة فيه.

(3) آل عمران: 61.

(4) لم أظفر على مصدر له بهذه الألفاظ، نعم

في مقتل الحسين عليه السّلام للخوارزمي: ص 41، «علي نفسي»

و

في مفتاح النجا للبدخشي ص 43: (علي بن أبي طالب مني كروحي في جسدي». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 248

و

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالضوء من الضوء» «1».

و

في نهج البلاغة: «أنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالضوء من الصنو و الذراع من العضد» «2».

و في الخبر المتقدم إشارة إليه، بل هو المقصود من الاقتباس المذكور في ذيله، و إن شبهه باقتباس المصابيح كما شبه اقتباس نور فاطمة عليها السّلام من نوره باقتباس نوره من نور اللّه عزّ و جل، إلا أن بين التشبيهين فرقا بينا أبعد مما بين السماء و الأرض.

وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3».

و

في «أمالي الصدوق» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن اللّه خلق ماء من تحت العرش» إلى أن قال: «فلم يزل ينتقل ذلك الماء من ظهر إلى ظهر حتى صار إلى عبد المطلب «4» فشقه اللّه فصار نصفه في أبي عبد اللّه و نصفه في أبي طالب، فأنا من نصف الماء و علي من النصف الآخر» «5».

و

في «رياض الجنان» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أوّل ما خلق اللّه نوري،

ففتق منه نور علي عليه السّلام» «6».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مرت الإشارة إلى بعضها، و إلى

أن نور علي عليه السّلام خلق بعد نور نبينا محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بثمانين ألف سنة، و هو في هذه المدة

______________________________

(1)

في البحار: ج 21/ 26: «أنا من أحمد كالضوء من الضوء».

(2) نهج البلاغة: الكتاب 45، كتابه عليه السّلام إلى عثمان بن حنيف الأنصارى.

(3) الروم: 27.

(4)

في البحار: «في عبد المطلب».

(5) بحار الأنوار: ج 15/ 13.

(6) البحار: ج 57/ 170، ح 117. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 249

تفسير الصراط المستقيم ج 3 269

يطوف حول حجاب العظمة، فلما انتهى في القوس النزولي التفصيلي إلى حجاب القدرة خلق منه نور علي عليه السّلام

حسبما مر «1».

و منها: الاشتقاق الفرعي الشعاعي بواسطة أو بوسائط، كاشتقاق شيعتهم منهم، و لذا

قالوا: «شيعتنا منا بدؤوا و إلينا يعودون» «2».

و

في خبر آخر: «و إنما سمّوا شيعة لأنهم خلقوا من شعاع نورنا» «3».

و

في «الأمالي» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لعلي عليه السّلام: «يا علي! أنت مني و أنا منك، روحك من روحي، و طينتك من طينتي، و شيعتك خلقوا من فضل طينتنا، فمن أحبهم فقد أحبنا، و من أبغضهم فقد أبغضنا» «4».

و

في «بشارة المصطفى» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خبر طويل: «يا علي! إن اللّه عزّ و جل اختار شيعتك بعلمه لنا من بين الخلق و خلقهم من طينتنا و استودعهم سرنا، و الزم قلوبهم معرفة حقنا» «5».

و

عن رضي الدين بن طاووس قدسّ سرّه أنه قال: «سمعت القائم عجل اللّه فرجه بسر من راى يدعو من وراء الحائط و أنا

أسمعه و لا أراه و هو يقول:

«اللهم إن شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا، و عجنوا بماء ولايتنا اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتكالا على حبنا، و لنا يوم القيامة أمورهم، و لا تؤاخذهم بما اقترفوه من السيّئات، إكراما لنا و لا تقاصصهم يوم القيامة مقابل أعدائنا، و إن خفت موازينهم فثقلّها بفاضل حسناتها» «6».

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 25/ 22، ح 38، عن رياض الجنان.

(2) البحار: ج 25/ 21، ح 34.

(3) بحار الأنوار ج 25/ 23.

(4) بحار الأنوار: ج 68/ 7، ح 1.

(5) البحار: ج 39/ 309، ح 122.

(6) بحار الأنوار: ج 53/ 303، ح 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 250

و

في «رياض الجنان» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «اتقوا فراسة المؤمن فإن ينظر بنور اللّه»، قيل: يا أمير المؤمنين! كيف ينظر بنور اللّه؟ قال: «لأنا خلقنا من نور اللّه، و خلق شيعتنا من شعاع نورنا، فهم أصفياء أبرار أطهار متوسمون، نورهم يضي ء على من سواهم كالبدر في الليلة الظلماء» «1».

و

في «البصائر» عن الصادقين عليهما السّلام قالا: «إن اللّه خلق محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من طينة من جوهرة تحت العرش، و إنه كان لطينته نضح فجبل طينة أمير المؤمنين عليه السّلام من نضح طينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان لطينة أمير المؤمنين عليه السّلام نضح فجبل طينتنا من فضل طينة أمير المؤمنين عليه السّلام، و كانت لطينتنا نضح فجبل طينة شيعتنا من نضح طينتنا، فقلوبهم تحنّ إلينا، و قلوبنا تعطف عليهم تعطف الوالد على الولد، نحن خير لهم و هم خير لنا، و رسول اللّه لنا خير، و نحن له خير» «2».

و

فيه

عن الباقر عليه السّلام: «يا جابر! خلقنا نحن و محبونا من طينة واحدة بيضاء نقية من أعلى عليين، فخلقنا نحن من أعلاها، و خلق محبونا من دونها، فإذا كان يوم القيامة التفّت العليا بالسفلى، و إذا كان يوم القيامة ضربنا بأيدينا إلى حجزة نبينا، و ضرب أشياعنا بأيديهم إلى حجزتنا، فأين ترى يصيّر اللّه نبيه و ذريته؟

و أين ترى يصيّر ذريته محبيّها» «3».

و

فيه عن محمد بن عيسى، عن أبي الحجاج عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن اللّه خلق محمدا و آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من طينة عليين، و خلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، و خلق شيعتنا من طينة دون عليين، و خلق قلوبهم من طينة عليين،

______________________________

(1) البحار: ج 25/ 21، ح 32، عن رياض الجنان.

(2) بصائر الدرجات: ص 5، و عن البحار ج 25/ 8، ح 11.

(3) البصائر: ص 6، و عنه البحار: ج 25/ 11، ح 16. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 251

فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد عليهم السّلام» «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على ذلك، و إن اختلفت في التعبير عنه بالنضح الذي هو الرش من قولهم نضحت الثوب بالماء أي رششته به، أو من نضحت القربة أي رشحت و منه «فكل إناء بالذي فيه ينضح».

و بالفضل، و الشعاع، و الدون، و غيرها مما يئول إلى معنى واحد، و كلها تعبير و استعارة عن الحقيقة التي لا يحيط بها الكلام، و لا يجري عليها الأقلام.

نعم، ينبغي أن يعلم أنّ طينة سائر الأنبياء و المرسلين و الملائكة و المقربين مشتقة من أنوارهم في هذه المرتبة.

و لذا

ورد عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى:

وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ «2» على ما رواه في تأويل الآيات بالإسناد: «إنّ اللّه لما خلق إبراهيم عليه السّلام كشف له عن بصره، فرأى أنوار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام فقال: إلهي! ما هذه الأنوار؟ فقيل له: إنها أنوار صفوتي من خلقي و خيرتي من بريتي، ثم قال إبراهيم: الهي و سيدي! أرى أنوارا قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم إلّا أنت، قيل: يا إبراهيم! هؤلاء شيعتهم، شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام، قال إبراهيم: اللهم اجعلني من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: فأخبر اللّه تعالى في كتابه فقال: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ «3»».

و

فيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن اللّه خلقني و خلق عليا قبل أن يخلق آدم بأربعين ألف عام، و خلق نورا فقسمه نصفين، فخلقني من نصفه، و خلق عليا من النصف

______________________________

(1) بصائر الدرجات: ج 1/ 14، الباب 9، ح 2.

(2) الصافات: 83.

(3) الصافات: 83، و الحديث منقول بالمعنى و مختصر عن الحديث الذي أورده في البحار:

ج 36/ 151- 152، ح 131، عن الكنز. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 252

الآخر قبل الأشياء كلها، ثم خلق الأشياء كلها فنورها من نوري و نور علي» «1».

و بالجملة المستفاد من الأخبار الكثيرة أنه قد خلق من شعاع أنوارهم جميع الأنوار و الأرواح الطيبة من الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقربين و العباد الصالحين.

بل الجنة، و الرضوان، و الحور، و القصور، و الأفلاك، و الأملاك، و الشمس و القمر، و النجوم، بل الأعمال الحسنة و الأفعال الصالحة.

و لذا

قال الصادق عليه السّلام في خبر المفضل بن عمر: «نحن أصل كل خير، و من

فروعنا كل بر، و من البر: التوحيد، و الصلاة و الصيام و كظم الغيظ عن المسيئ، و رحمة الفقير، و تعاهد الجار، و الإقرار بالفضل لأهله.

و عدونا أصل كلّ شر، و من فروعهم كل قبيح و فاحشة، فمنهم الكذب و النميمة، و البخل، و القطيعة» إلى أن قال: «و كذب من قال: إنّه معنا و هو متعلق بفرع غيرنا» «2».

و منها: الاشتقاق العكسي الظلّي التبعي، و إن كان إطلاق الاشتقاق عليه لا يخلو من نوع تسامح، و ذلك كاشتقاق الظل من الشاخص و الظلمة من النور، و الحزن من السرور و العدم المضاف من الوجود، و الطينة الخبيثة من الطيبة، و السجين من عليين، فإن اللّه تعالى كان في أزليته فردا متفردا ليس معه شي ء فخلق الأشياء لا من شي ء، فأول ما خلقه من الأكوان هو المشية الكونية، خلقها بنفسها و خلق الأشياء بها سعيدها و شقيها طيبها و خبيثها برها و فاجرها، إلّا أنّ المسمّيات الأوليّات خلقت من سنخ المشية، و هو العبودية التي حقيقتها المعرفة باللّه و التقرب إليه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26/ 345، ح 18، عن إرشاد القلوب.

(2) البحار: ج 24/ 303، ح 47.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 253

و لذا

فسّر مولانا الصادق عليه السّلام العبد بقوله: «العين علمه باللّه، و الباء: بعده عن غيره، و الدال: دنّوه منه» «1».

فيتحصّل من العلم الجهل، و من القرب البعد، و هذا معنى فرعيّة الماهية للوجود و ترتبها عليه، بل و تأخر خلقة الجهل عن العقل كما في الخبر، و كذا تأخر خلقة الطينة الخبيثة من الطيّبة، بل ترتب كل متأخر على المتقدم و فرعية له، و ذلك قوله وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «2»،

هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ «3».

و

قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته: «بمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له» «4».

فالماهية زوج الوجود و ظلّه و لباسه و ضده، و هي جهة توجه الشي ء إلى نفسه، كما أن الوجود توجهه إلى ربه، و هو جهة فقره إلى اللّه، و بفقره إليه استغنى من غيره، قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ «5».

و

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الفقر فخري و به أفتخر على الأنبياء» «6».

و الماهية جهة استغنائه الذي صار سببا لفقره و افتقاره، و هذا الفقر هو سواد الوجه في الدارين، لتوجه الوجه معه إلى الظلمة لا إلى النور اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ «7» ظلمة العدم، و ظلمة الجهل، و ظلمة الكفر و الشرك و العصيان إِلَى النُّورِ. نور العبودية، و هو نور ولاية مولانا أمير المؤمنين الذي هو المنهج القويم و الصراط المستقيم، وَ الَّذِينَ كَفَرُوا كفر الجهل أو الجحود أو

______________________________

(1) مصباح الشريعة الباب المائة في حقيقة العبودية، و فيه: الباء بونه عمّن سواه.

(2) الذاريات: 49.

(3) البقرة: 187.

(4) نهج البلاغة: الخطبة: 186.

(5) فاطر: 15.

(6) بحار الأنوار: ج 72/ 30- 49، و جملة «و به أفتخر على الأنبياء غير موجودة فيه».

(7) البقرة: 257.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 254

الشقاق و النفاق أو الشرك أو العصيان أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ

و الإتيان بصيغة الجمع لأن الباطل ليس له حدّ ينتهي إليه، و لذا قال سبحانه:

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «1».

و قال حكاية من العبد الصالح يوسف بن يعقوب

على نبينا و آله و عليهما السّلام: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2».

يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ «3» نور ولاية ولي الحق إِلَى الظُّلُماتِ «4».

فالوجود المطلق الذي لا يشوبه ظلمة الماهية و الالتفات إلى الإنيّة، هو الفيض المطلق، و ولي الحق و باب الجبروت و حجاب اللاهوت و بحر الرحموت و وجه الحي الذي لا يموت.

و الماهية المحضة هي الغاسقة في ظلمة العدم، و هي التي ما شمّت رائحة الوجود و بينهما عرض عريض، و طول طويل أبعد مما بين السماء و الأرض، بل مما بين أعلى عليين إلى أسفل سافلين، و ينفتح منه باب آخر و هو سرّ المزج بين الطينتين و العقد بين الزوجين امتزاج الطينتين و تقاطع المنطقتين و تقابل (الجوهرين، كما

ورد في أخبار الطينة: «و إن اللّه جمع بين الطينتين: طينة أوليائه و طينة أعدائه، فخلطهما و عركهما عرك الأديم و مزجها بالمائين» «5».

و ستسمع تمام الكلام في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1) الانعام: 153.

(2) يوسف: 39.

(3) البقرة: 257.

(4) البقرة: 257.

(5) منقول بالمعنى عن حديث مبسوط رواه الصدوق بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام و ختم بهذا الحديث كتاب العلل و عنه بحار الأنوار ج 5/ 228- 233، ح 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 255

الفصل الرابع
في المباحث المتعلقة بالاسمين العظيمين الكريمين

و هما الرحمن الرحيم المشتقان على ما قيل من رحم بكسر العين للمبالغة على وزن ندمان و نديم و اشتقاق الصفة المشبهة من المتعدي مع لزوم صوغها من اللازم مبنيّ على ما نصّ عليه غير واحد من أئمة الأدب من أنّ المتعدّي قد يجعل لازما بمنزلة و الغرائز، فينقل إلى فعل بضم العين، ثم يشتق منه الصفة المشبهة.

قالوا: و هذا باب

مطّرد في المدح و الذم، و لذا قيل في قوله: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ «1»: رفيع درجاته لا رافع للدرجات.

بل ربما يرفع الإشكال عن «الرحيم» مضافا إلى ذلك بنصّ سيبويه على كونه صيغة مبالغة من قولهم «هو رحيم فلانا».

و كيف كان فالرحمة لغة قيل بمعنى الرقة و الانعطاف الموجب للتفضل و الإحسان، و منه الرحم لانعطافها على ما فيها.

و تستعمل مضافا إليه سبحانه بمعنى إيصال الفضائل و دفع المكاره، و بمعنى الحياة مطلقا أو الحياة الإيمانية، بمعنى المغفرة

كقوله: «يا بارئ خلقي رحمة لي» «2»

و لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ «3»،

______________________________

(1) غافر: 15.

(2) بحار الأنوار: ج 85/ 235 ح 59 عن مصباح الشيخ.

(3) هود: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 256

فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ «1».

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2».

أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3».

و ربما يقال: إنها قد استعملت في العافية و السلامة في قوله:

هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ «4».

و في الرزق في قوله: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي «5».

بل من «بصائر الكلمات» إنهاء معانيها إلى عشرين معنى.

و عن بعضهم: أن المعنى الحقيقي له هو رقة القلب خاصة، و لذا لما لم يجز إطلاق «الرحمن» على غيره سبحانه، بل هو من أسمائه الخاصة اضطربت كلماتهم في إطلاقه على اللّه سبحانه، لاستلزامه المجاز بلا حقيقة، و لا يسوغ بمجرد الوضع بل لا بد من الاستعمال.

فقيل: إنه غير مشتق، بل هو من الأسماء الجامدة، و إلا لا تّصل بالمرحوم، فلا يقال: رحمن بعباده كما يقال: رحيم بعباده.

و قيل: إنه غير عربي، بل عبري كما عن ثعلب «6»، و لذا كانت الجاهلية لا تعرفه

كما يستفاد من قوله تعالى:

______________________________

(1) الروم: 50.

(2) الأنبياء: 107.

(3) التوبة: 99.

(4) الزمر: 38.

(5) الإسراء: 100.

(6) ثعلب: أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الكوفي الشيباني بالو لاء، أمام الكوفيين في النحو و اللغة ولد سنة (200) في بغداد و مات بها (291) ه، من كتبه في اللغة «الفصيح» مطبوع.- الأعلام ج 1/ 252.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 257

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ «1».

و قوله: وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ «2».

و من ثمّ كان مذكورا في التوراة و لذا قيل: إن عبد اللّه «3» بن سلام أو غيره من اليهود قال: يا رسول اللّه! إنك لتقلّ ذكر الرحمن و قد أكثره اللّه تعالى في التوراة فنزلت: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «4».

لكنه لا ينبغي التأمل في عربيته و لا في اشتقاقه للأصل بمعنى الظاهر، و قواعد الاشتقاق، و الأخبار الآتية و قولهم: و ما الرحمن «5» مثل قول فرعون: وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ «6» إنكار و تحقير و تعجيب، و مجرد ذكره في التوراة على فرضه مع أنه غير ثابت لا يخرجه عن العربية، و لعله في الكتاب المحرف عندهم لا المنزل من عند اللّه.

هذا مضافا إلى ما قيل من أن هذا اللفظ كانت مشهورة في الجاهلية عند العرب موجودة في أشعارهم كما من الشنفري «7»:

ألا ضربت تلك الفتاة هجينهاألا قضب الرحمن ربّي يعينها

و قال سلامة «8» بن جندل: «و ما يشأ الرحمن يعقد و يطلق».

______________________________

(1) الفرقان: 60.

(2) الرعد: 30.

(3) عبد اللّه بن سلام الإسرائيلي حليف الأنصار المتوفى سنة (43) ه.

(4) الإسراء: 110.

(5) الفرقان: 60.

(6) الشعراء: 23.

(7) هو عمرو بن مالك الشنفري: شاعر جاهلي يماني مات نحو (70) قبل الهجرة-

الاعلام:

ج 5/ 258.

(8) سلامة بن جندل بن عبد عمرو، أبو مالك: شاعر جاهلي من الفرسان من أهل الحجاز، مات سنة (23 قبل الهجرة).- الأعلام: ج 3/ 162.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 258

و علي ما سمعت فلا ينهض شي ء من الوجهين لدفع الإشكال، كما لا ينهض له ما قيل: من منع اختصاصه باللّه سبحانه، فإنه ليس في محلّه لما صرح به كثير منهم من اختصاصه به، بل يومي إليه الأمر بالسجود له في قوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا «1» الآية.

و يصرّح به

قول الصادق عليه السّلام: «الرحمن اسم خاص بصفة عامة، و الرّحيم اسم عام بصفة خاصة» «2».

يعني أن الرحمن اسم خاص باللّه لا يصح إطلاقه على غيره تعالى لما ستعرفه.

و أما قول بني حنيفة: مسيلمة «3» رحمن اليمامة، و قول شاعرهم فيه: و أنت غيث الورى لا زلت رحمانا.

فقد قيل: إنه من تعنّتهم و كفرهم فلا يعبأ به سيّما مع وصول المنع من الشرع.

و لذا قال الصدوق في كتاب «التوحيد»: «إنه يقال للرجل رحيم القلب و لا يقال: الرحمن، لأن الرحمن يقدر على كشف البلوى و لا يقدر الرحيم من خلقه على ذلك، و قد جوّز قوم أن يقال للرجل: رحمن، و أرادوا به الغاية في الرحمة، و هذا خطأ» «4» انتهى.

و في «مجمع البيان»: «إن الرحمن بمنزلة اسم العلم، من حيث لا يوصف به إلا اللّه، فوجب لذلك تقديمه بخلاف الرحيم، لأنه يطلق عليه و على غيره» «5».

______________________________

(1) الفرقان: 60.

(2) مجمع البيان: ج 1/ 21.

(3) مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة المقتول في وقعة اليمامة سنة (12) ه.

(4) التوحيد: ص 203، باب أسماء اللّه تعالى.

(5) مجمع البيان: ج 1/ 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3،

ص: 259

و لا ما قيل من أن أسماء اللّه تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات «1».

فإنه تسليم للشبهة و التزام بإطلاق السبب على المسبب، بل الحق أن يقال:

إن الأسماء المشتركة بين اللّه و بين خلقه بحسب الإطلاق ليس لها اشتراك بينهما بحسب المعنى، بأن يكون إطلاقه عليهما بمعنى واحد، و حقيقة واحدة كي يكون المبدء مشتركا معنويا بينهما، فإنّ ذلك مستلزم لأحد المحذورين: إمكان الواجب أو وجوب الممكن «تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا»، بلا فرق في ذلك بين الصفات الجلالية أو الجمالية الذاتية أو الفعلية، فإن صفات الممكن إنما هي على سبيل العروض، و مغايرتها للذات و اتصافها بها على وجه الاستعداد و القبول و الاستكمال، و لا يجري عليه سبحانه ما هو أجراه على خلقه، و لذا

قال مولانا الرضا عليه السّلام في خبر طويل رواه في «التوحيد» و «الاحتجاج» و «العيون»: «إن اللّه تعالى سمى نفسه سميعا بصيرا، قادرا، قاهرا، حيا، قيوما، ظاهرا، باطنا، لطيفا، خبيرا، قويا، عزيزا، حكيما، عليما، و ما أشبه هذه الأسماء، فلما راى ذلك من أسمائه الغالون المكذبون و قد سمعونا نحدث عن اللّه أنه لا شي ء مثله، و لا شبه له من الخلق، قالوا أخبرونا إذ زعمتم أنه لا مثل اللّه و لا شبه له كيف شاركتموه في أسمائه الحسنى فتسميتم بجميعها؟ فإنّ في ذلك دليلا على أنكم مثله في حالاته كلها أو في بعضها دون بعض.

قيل: لهم: إنّ اللّه تبارك و تعالى ألزم العباد أسماء من أسمائه على اختلاف المعاني، و ذلك كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين».

إلى أن قال: «و إنما نسمي اللّه بالعالم بغير علم حادث علم به

الأشياء

______________________________

(1) كما في تفسير روح البيان: ج 1/ 8. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 260

و استعان به على حفظ ما يستقبل من أمره و الرويّة فيما يخلق من خلقه مما لو لم يحضره ذلك العلم و يغيبه كان جاهلا ضعيفا، كما أنّا رأينا علماء الخلق إنما سمّوا بالعلم لعلم حادث، إذ كانوا قبله جاهلين، و ربما فارقهم العلم فصاروا إلى الجهل، و إنما سمي اللّه عالما لأنه لا يجهل شيئا، فقد جمع الخالق و المخلوق اسم العلم و اختلف المعنى».

ثم فصّل عليه السّلام الكلام في غيره من الأسماء المذكورة في صدر الخبر إلى أن قال في ذيله: «و هكذا جميع الأسماء و إن كنا لم نسمّها كلها فقد تكتفي للاعتبار بما القينا إليك» «1».

و بالجملة فالرحمة إذا اتصف بها اللّه سبحانه فليست بالمعنى الذي يتصف به خلقه، فهي من اللّه يده المبسوطة على خلقه بالفيض المقدس، أي الفيض الجاري على يده، فإن كانت اليمنى و كلتا يديه يمين كما في الخبر «2» فهو الفضل و إلا فالعدل الذي هو الرحمة الرحمانية كما أن فضله هو الرحمة الرحيمية.

و لعلّه إلى ما ذكرناه يرجع قول الصدوق رضى اللّه عنه: «إن الرحمة هي النعمة لا الرقّة، لأنها من اللّه منتفية و إنما سمي رقيق القلب من الناس رحيما لكثرة ما يوجد الرحمة منه» «3».

قلت: و هو كما ترى صريح في أن معنى الرحمة مطلقا هو النعمة، لا الرقة حتى باعتبار إطلاقه على الناس، و استعمالها في الرقة على الضرب من المجاز، كما أنه إليه يرجع ما قيل: إنها فيض اللّه سبحانه الجاري على أطوار الموجودات، فإن جرى على مقتضى المشيّة الحتمية فهي الرحمة الواسعة، و إن جرى على

مقتضى

______________________________

(1) التوحيد: ص 186، باب أسماء اللّه تعالى، ح 2.

(2) الكافي: ج 2/ 126، و عنه البحار: ج 7/ 195، ح 64.

(3) التوحيد: باب أسماء اللّه تعالى: ص 204.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 261

المشية العزمية فهي المكتوبة.

أقول: و ستسمع عن قريب تمام البحث في مغايرة المادّة التي اشتق منها اسم الرحمن، و ما اشتق منه اسم الرحيم بحسب المعنى الملحوظ فيهما.

بقي الكلام في تحقيق هذين القسمين من الرحمة، و إن كان سيأتي إن شاء اللّه في الآية المتضمنة لهما رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «1»، إلا أنه لا بد في المقام من شرح الاسمين الذين أحدهما إشارة إلى الواسعة و هو الرحمن، و الآخر إلى المكتوبة، و هو الرحيم.

و ذلك أن اللّه تعالى و هو الفعّال لما يريد، علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى أن يجري فيض جوده على حسب قبول الأعيان و اختياراتها و استعداداتها من السعادة و الشقاوة و الخير و الشر و النعيم و الجحيم و الاستقامة و الاعوجاج و غير ذلك مما يختاره الشي ء حين تشيّئه و حين ما هو شي ء و من حيث ما هو مختار.

إذ الحق أنه لا جبر و لا إكراه و لا اضطرار في الشرع التكويني و لا في الكون التشريعي لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «2»، أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «3».

أنزل من السماء سماء الوجود و منبع الجود، عرش الإمكان و الأكوان، و مستوى الرحمن، ماء، و هو ماء الإفاضة و الإيجاد و مادة المواد، و مفيض القابلية و الاستعداد فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «4» و انوجدت الأشياء على حسب قبولها و اختيارها، و

هذه الرحمة التي هي مقتضى تلك المشية الحتمية يسمى رحمة العدل

______________________________

(1) الأعراف: 156.

(2) البقرة: 256.

(3) يونس: 99.

(4) الرعد: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 262

المشار إليها بقوله تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ «1» فإن كلا من الخيرات و الشرور، و الجنان و النيران، و السعادة و الشقاوة، يطلق عليها اسم الشي ء، بل المبعدون المطرودون عن منبع النور أشد تحققا في الشيئية من حيث أنفسها و إنياتها.

و لذا

لمّا سئل مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عن الشي ء أجاب عليه السّلام بأنه كافر مثلك «2».

سيّما مع مطابقة أعداده للمنكر الذي هو الثاني المطرود المبعّد عن معدن النور أبو الشرور.

ثم إنّ اسم الرحمن هو الظاهر بهذه الرحمة الواسعة و النعمة الجامعة، قد استوى على عرش الوجود و فتح أبواب خزائن الرحمة و الجود، و لذا قال سبحانه:

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «3»، لإفادة الوجود و الفيوض الموجبة للعبودية، و هو القدر المعلوم المشار إليه بقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «4»، و هو و إن كان متساوي النسبة إلا أن الاختلاف لاختلاف القوابل و الأسولة فيعطي من سئله قدر سؤاله، و لو سئلته القوابل على نسبة واحدة لأعطاهم كذلك.

و لذا قال سبحانه: سَواءً لِلسَّائِلِينَ «5»، و قال: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «6» بألسنة قبولهم و اختيارهم و استعدادهم كل يوم، أي آن من الآنات،

______________________________

(1) الأعراف: 156.

(2) لم أظفر على مصدر له.

(3) سورة مريم: 93.

(4) الحجر: 21.

(5) فصلت: 10.

(6) الرحمن: 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 263

أو رتبة من المراتب الإمكانية و الكونية من الطولية و العرضية هو في شأن من شؤون الربوبية برحمته

الواسعة و يده الباسطة، فإن له الربوبية إذ لا مربوب، و هذه ربوبية إذ مربوب، فافهم الكلام و على من يفهم السّلام.

و أما الرحمة المكتوبة المشار إليها بقوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ «1».

ثم فسر الآيات بمتابعة: النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ «2» و الإيمان بالنور الذي معه و هو مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام.

و بقوله تعالى: وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً «3» الآية.

و هذه الرحمة هي التي بها يسعد من سعد، و يفوز من يفوز، و يشقى من يشقى و هو العقل الذي به يثيب و به يعاقب، و به يعبد الرحمن و يكتسب الجنان، و هي مقتضى المشية العرضية، فإن اللّه تعالى أحبّ لعباده الخير ليوصلهم إلى جنات و نهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، بل إنما خلقهم لهذا لا لغيره، و لذا قال:

وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ «4»، و قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «5».

و الظاهر بهذه الرحمة بل مظهرها هو اسمه تعالى الرحيم، و لذا

قال الصادق صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما رواه في «التوحيد» و «تفسير الإمام»: الرحمن الذي يرحم

______________________________

(1) الأعراف: 156.

(2) الأعراف: 157.

(3) الأنعام: 54.

(4) هود: 18- 19.

(5) الذاريات: 22. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 264

ببسط الرزق علينا» «1».

و

في تفسير الإمام: «العاطف على خلقه بالرزق، لا يقطع عنهم مواد رزقه و إن انقطعوا عن طاعته، و الرحيم بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته، و بعباده الكافرين في الرفق بهم

في دعائهم إلى موافقته».

قال الإمام عليه السّلام في معنى الرحمن: «و من رحمته أنه لما سلب الطفل قوة النهوض و التغذي جعل تلك القوة في أمه و رققها عليه، لتقوم بتربيته و حضانته فإن قسي قلب أم من الأمهات أوجب تربية هذا الطفل على سائر المؤمنين، و لمّا سلب بعض الحيوانات قوة التربية لأولادها و القيام بمصالحها جعل تلك القوة في الأولاد لينهض حين تولد و تسير إلى رزقها المسبب لها».

إلى أن قال عليه السّلام:

«فأما الرحيم فإن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: رحيم بعباده المؤمنين، و من رحمته أنه خلق مائة رحمة، و جعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم فبها يترحم الناس، و ترحم الوالدة لولدها، و تحنوا الأمهات «2» من الحيوانات على كل أولادها «3»، فإذا كان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلى تسعة و تسعين رحمة فيرحم بها أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم يشفعهم فيمن يحبون له الشفاعة من أهل الملة حتى أن الواحد ليجي ء إلى مؤمن من الشيعة فيقول: اشفع لي، فيقول: و أيّ حق لك علي؟ فيقول:

سقيتك يوما ماء فيذكر ذلك له، فيشفع له فيشفع فيه، و يجي ء آخر فيقول له: إن لي عليك حقا فاشفع لي، فيقول: و ما حقك علي؟ فيقول: استظللت بظل جداري ساعة في يوم حارّ، فيشفع له فيشفع فيه، و لا يزال يشفع حتى يشفع في جيرانه و خلطائه

______________________________

(1) التوحيد: ص 164، و عن البحار: ج 92/ 233.

(2)

في البحار: و تحنن.

(3)

في البحار: على أولادها. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 265

و معارفه فإن المؤمن أكرم على اللّه مما يظنون» «1».

و روى في «المجمع» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم ما يقرب منه «2».

و من جميع ما مر يظهر معنى

قول مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه في «المجمع» قال: «الرحمن اسم خاص بصفة عامة و الرحيم اسم عام بصفة خاصة» «3».

و في بعض النسخ اللام عوض الباء.

و على كل حال، فالمعنى أنّ الرحمن اسم خاص باللّه سبحانه لا يطلق على غيره حسب ما مر، و إطلاقه عليه إنما هو باعتبار صفة عامة يعم الخلق جميعا: البر منهم و الفاجر، و الباطن منهم و الظاهر، لأنه يشملهم في مقام التكوين بعد التمكين و في رتبة جريان الماء على الطين قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «4».

و أن الرحيم اسم عام يطلق عليه و على غيره، لكن باعتبار تعدد المعنى لا اتحاده حسبما سمعت، و إطلاقه عليه سبحانه باعتبار معنى خاص يشمل المؤمنين خاصة.

نعم، ربما يقال: إنّ الرحمن هو معطي الرحمة و الخير و البركة و الرزق و الحياة في الدنيا و الرحيم هو معطي النور و الكرامة و المغفرة و الثواب في الآخرة فخصوا الرحمة الدنيوية فضلا كانت أو عدلا باسم الرحمن، و الأخروية من الصنفين جميعا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 92/ 240- 257، ح 48 عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام.

(2) مجمع البيان: ج 1/ 21.

(3) المجمع: ج 1/ 21.

(4) الملك: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 266

باسم الرحيم.

و ربما يستدل له بما

رواه في «المجمع» عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا و الرحيم رحيم الآخرة» «1».

قلت: و هذه الرواية كأنها عامية مع أن الكلمتين عربيتان.

و على كل حال فهو لا يعارض

الأخبار المتقدمة الظاهرة في إطلاقهما في كل من الدارين، سيما بعد ما

ورد في الدعاء: «يا رحمن الدنيا و رحيمهما» كما في الدعاء الرابع و الخمسين من «الصحيفة السجادية» و غيرها.

و لعل المراد بالنبوي المتقدم أنه الرحمن في الأمور الدنيوية، الرحيم في الأمور الأخروية، فعبر بالأول عن الفضل و بالثاني عن العدل، مع وقوع كل من الأمرين في الدنيا و الآخرة و أن يد اللّه ليست مغلولة في الدنيا و لا في الآخرة، بل يداه مبسوطتان بالعدل و الفضل فيهما ينفق كيف يشاء بالمشية الحتمية أو العرفية حسبما سمعت.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه في «الكافي» و «التوحيد» و «العياشي» في تفسير البسملة: «إن الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه، و الميم مجد اللّه».

و

في رواية «ملك اللّه و اللّه إله كل شي ء الرحمن بجميع خلقه الرحيم بالمؤمنين خاصة» «2».

و

في «التوحيد»: «الرحمن بجميع العالم و الرحيم بالمؤمنين و هم شيعة

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1/ 21.

(2) التوحيد للصدوق: ص 203، ح 2 و 3، باب معنى بسم اللّه. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 267

آل محمد خاصة» «1».

قلت: و إليه الإشارة بقوله وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «2» و إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «3».

فالعدل يشمل كل العالم في الدنيا و الآخرة بلا فرق بين البر و الفاجر إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «4»، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «5».

و الفضل يشمل المؤمنين في الدنيا بالتوفيق للصالحات و العصمة عن السيّئات و إدرار الرزق، و رفع البلاء، و جميل العطاء، و في الآخرة بالمغفرة و الجنة التي لا يستحقه أحد بعمله.

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «6».

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ

وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ «7».

بالمشية العزمية الفضلية بل ورد في تفسير قوله: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ «8».

في «المجمع» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «و الذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: و لا أنت يا رسول اللّه؟ قال: و لا أنا، إلا أن يتغمدني اللّه

______________________________

(1) التوحيد للصدوق: ص 203، ح 3، و فيه: بالمؤمنين خاصة.

(2) الأحزاب: 43.

(3) الأعراف: 56.

(4) يونس: 44.

(5) النساء: 40.

(6) يونس: 58.

(7) النور: 21.

(8) الأنعام: 15- 16. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 268

برحمته منه و فضل» «1».

و يشمل الكافر أيضا من جهة إدرار الرزق، و دفع البلاء و نحوه، إلا أنه مع كونه بتبعية المؤمنين لأنفسهم و إصلاح معاشهم إمهال و استدراج لهم.

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «2».

فقد تبيّن مما مرّ أنّ الفرق بين الاسمين باعتبار الشمول و العدل لا الدنيا و الآخرة.

إيراد مقال لدفع إشكال

ربما يورد على ما ذكرناه من انقسام الرحمة إلى القسمين و أنّ الرحمانية هي العامة الواسعة التي يشترك فيها الموافق و المنافق إشكال حاصله أنه

ورد في الدعاء: «اللهمّ إنّك قلت و قولك الحق: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ «3» و أنا شي ء فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين» «4».

و من البيّن أنّ الرّحمة المسؤولة هي الفضل الذي بيد اللّه، يؤتيه من يشاء قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «5».

و هو الرحمة الرحيمية الإيمانية المشار إليها بقوله:

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 2/ 280، و

عنه البحار: ج 7/ 11.

(2) آل عمران: 178.

(3) الأعراف: 156.

(4) مصباح المتهجد: ص 250، و عنه البحار: ج 90/ 8.

(5) يونس: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 269

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ «1» و قوله: أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ «2».

و أمّا رحمة العدل فلا بد أن يجري على حسب القبول و الاستعداد و الحكمة و التربية، و لذا يشترك فيها المؤمن و الكافر، و البر و الفاجر.

بل رحمة العدل ليس شي ء منها يسأل أو يطلب، لأن الخوف كل الخوف من عدله تعالى، و لذا

ورد: «إلهي ربّ عاملنا بفضلك و لا تعاملنا بعدلك»

و

في الدعاء: «كل خوفي من عدلك»

و

ورد في قوله: وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ «3»، أنّ المراد هو الاستقصاء و المداقّة فسمّاه سوء الحساب.

و على هذا فكيف يستقيم الاستشهاد بالآية سيّما بعد ملاحظة ما سبق، و مقابلتها بالمكتوبة مع أنّ ظاهره الاستدلال بعموم الشي ء.

و ربما يجاب بأن اللّه تعالى حيث إنّه عالم السر و الخفيات يعلم مراد السائلين، و يطلع على ضمائر الطالبين، خاطبه الداعي بما عنده مما يعلمه أن اللّه يعلم ما في سره و قلبه، فكأنه أراد بقوله: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ أنّ فضلك شامل، فوسع كلّ من رضيت دينه، و أنا يا إلهي ممن ترضى دينه لإيماني بالتوحيد و النبوة و الولاية، و إتياني بما أمرتني به خاضعا مسلما، فلتسعني رحمتك، و لا تؤاخذني بالمعاصي الذي اقترفت و اغفرها لي.

و حاصله كما صرّح به هذا القائل تخصيص الشي ء في الآية و إطلاق الرحمة الواسعة على رحمة الفضل.

قلت: و يمكن أن يكون الإطلاق في الدعاء على فرضه، حيث

إنّي لا

______________________________

(1) البقرة: 105.

(2) هود: 3.

(3) الرعد: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 270

تفسير الصراط المستقيم ج 3 299

يحضرني موضعه «1» مبنيّا على تنزيل ما سوى المرحوم بالرحمة الرحيمية بمنزلة المعدوم، و أن الشي ء حقيقة هو المرحوم بالرحمة الإيمانية، و أما المرحوم بالرحمة الرحمانية خاصة فهو لا شي ء، كما هو المستفاد من قوله تعالى: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً «2».

و لذا

لمّا سئل مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عن لا شي ء أجاب بأنّه سراب.

و من هنا نفى عنهم الحياة و السمع و البصر في كثير من الآيات كقوله:

أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ «3»، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ «4» الآية، و غيرها من الآيات.

فكأنه ادّعى أنّ رحمتك هي الرحمة الإيمانية، و هي وسعت كل شي ء بالمعنى المتقدّم كقوله: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ «5».

و أما قوله: «و أنا شي ء» فمعناه بالتوجه إليك، و السؤال منك، و الإقبال عليك.

على أنّ هذا النوع من التلطف في السؤال مبنيّ على ضرب من الإدلال، لا يعرفه أصحاب القيل و القال، و مثله كثير في المناجاة المأثورة عن النبي و الآل عليهم صلوات اللّه الملك المتعال.

تنبيه

ما ذكرناه في اشتقاق الرحمة إنّما هو بحسب الاشتقاق اللفظي، و أمّا من

______________________________

(1) تقدّم الموضع: مصباح المتهجّد ص 250 و عنه البحار: ج 90/ 8.

(2) النور: 39.

(3) النحل: 21.

(4) الفرقان: 44.

(5) يس: 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 271

حيث المعنوي الذي قد سمعت جملة الكلام فيه فهي مشتقّة من رحم محمد و آل محمد صلّى اللّه عليهم أجمعين، و ذلك أنهم هم الرحمة الموصولة المشار إليها في الزيارة الجامعة أي الموصولة

بفعله سبحانه، فهم نفس فعله الموصول به سبحانه، اتصال الفعل بالفاعل، و الصنع بالصانع، و شيعتهم موصولون بهم اتصال شعاع الشمس بالشمس، و النور بالمنير، بأنحاء التجلّيات و الإشراقات الواقعة في السلسلة الطولية، و في عرض تلك السلسلة، و ذلك أنه إن ذكر الخير كانوا أوله و أصله و معدنه و مأواه و منتهاه، فطينة شيعتهم مشتقة من فضل طينتهم، و أفعالهم من أفعالهم و أقوالهم من أقوالهم، و أحوالهم من أحوالهم، و إرادتهم من إرادتهم.

فمن أخذ بالمنهج القويم، و سلك الصراط المستقيم، و اتبعهم في جميع الأفعال و الأقوال بلا تخلّف عنهم في أمر من الأمور فقد اقتبس من أنوارهم، و اقتفى على آثارهم و وصل رحمهم، و من خالفهم في الجميع فقد قطع رحمهم، و بين هذين درجات و مراتب يسير فيها السائرون، و يسلكها السالكون، فأصل هذه الرحم هو الولاية، و من فروعها كلّ خير و برّ و إحسان.

و لذا

قال الصادق عليه السّلام في الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «1»: «إنها نزلت في رحم آل محمد عليهم السّلام و قد يكون في قرابتك» ثم قال عليه السّلام:

«فلا تكونن ممّن يقول للشي ء: إنه في شي ء واحد» «2».

و

في تفسير الإمام عليه الصلاة و السّلام عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ الرحمن مشتقّ من الرحمة، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: قال اللّه عزّ و جلّ: أنا الرحمن و هي الرحم، شققت لها اسما من اسمي، من وصلها وصلته،

______________________________

(1) الرعد: 21.

(2) بحار: ج 74/ 130، ح 95. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 272

و من قطعها قطعته».

ثم قال علي عليه السّلام: «أو تدري ما هذه الرحم التي

من وصلها وصله الرحمن، و من قطعها قطعه الرحمن؟» فقيل: يا أمير المؤمنين حثّ بهذا كلّ قوم أن يكرموا أقربائهم و يصلوا أرحامهم، فقال لهم: أحثّهم على أن يصلوا أرحامهم الكافرين، و أن يعظّموا من حقّره اللّه و أوجب احتقاره من الكافرين؟ قالوا: لا و لكنه حثّهم على صلة أرحامهم المؤمنين، قال: فقال: أوجب حقوق أرحامهم لاتصالهم بآبائهم و أمهاتهم، قلت: بلى يا أخا رسول اللّه، قال: فآباؤهم و أمهاتهم، إنّما غذّوهم في الدنيا و وقوهم مكارهها و هي نعمة زائلة، و مكروه ينقضي، و رسول ربهم ساقهم إلى نعمة دائمة لا تنقضي، و وقاهم مكروها مؤبدا لا يبيد.

فأي النعمتين أعظم؟ قلت: نعمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعظم و أجل و أكبر، قال:

فكيف يجوز أن يحثّ على قضاء حقّ من صغّر اللّه حقّه، و لا يحثّ على قضاء من كبّر اللّه حقه؟ قلت: لا يجوز ذلك، قال فإذا حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعظم من حق الوالدين، و حقّ رحمه أيضا أعظم من حقّ رحمهما، فرحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أولى بالصلة و أعظم في القطيعة، فالويل كلّ الويل لمن قطعها، و الويل كل الويل لمن لم يعظّم حرمتها، أو ما علمت أنّ حرمة رحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرمة اللّه؟ و أنّ اللّه أعظم حقا من كل منعم سواه، فإنّ كل منعم سواه إنما أنعم حيث قيضه له ذلك ربّه و وفّقه، أما علمت ما قال اللّه تعالى لموسى بن عمران حيث قال: يا موسى أ تدري ما بلغت رحمتي إيّاك؟ فقال موسى عليه

السّلام: أنت أرحم بي من أبي و أمي، فقال اللّه: يا موسى! إنما رحمتك أمّك لفضل رحمتي، فأنا الذي رفّقتها عليك، و طيّبت قلبها لتترك طيب و سنها لتربيتك، و لو لم أفعل ذلك بها لكانت و سائر الناس سواء، يا موسى أ تدري أنّ عبدا من عبادي مؤمنا تكون له ذنوب و خطايا تبلغ أعنان السماء فأغفرها له و لا أبالي، قال: يا رب! و كيف لا تبالي؟

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 273

قال: لخصلة شريفة تكون في عبدي أحبّها، و هي أن يحبّ إخوانه الفقراء المؤمنين، و يتعاهدهم و يساوي نفسه بهم، و لا يتكبر عليهم، و إذا فعل ذلك غفرت له ذنوبه و لا أبالي.

يا موسى إنّ العظمة ردائي، و الكبرياء ازاري، فمن نازعني في شي ء منهما عذّبته بناري.

يا موسى إنّ من إعظام جلالي إكرام عبدي الذي أنلته حظا من الدنيا عبدا من عبادي مؤمنا قصرت يده في الدنيا، فإن تكبّر عليه فقد استخفّ بعظيم جلالي.

ثم قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الرحم الذي اشتقها اللّه من رحمته بقوله: أنا الرحمن، هي رحم آل محمد، و إنّ إعظام اللّه تعالى إعظام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنّ كل مؤمن و مؤمنة من شيعتنا هو من رحم آل محمد، و إن إعظامهم من إعظام محمّد، فالويل لمن استخفّ بشي ء من حرمة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طوبى لمن عظّم حرمته، و أكرم رحمه و وصلها ...» «1» الخبر.

و هذا الذي ذكرته شعبة من الصلة و إلّا

فقد ورد أنهم أصل كل خير، و من فروعهم كلّ برّ و عمل صالح من الصلاة و الصوم و الزكاة و

الحج و الصدق و الأمانة و التقوى و غير ذلك من العبادات القالبية و القلبية، و أنّ عدوّهم أصل كل شرّ و من فروعهم كلّ شرّ، فمن انقطع منهم و أخذ بفروع أعدائهم قولا و فعلا و عملا فقد انقطع عنهم و قطع رحمهم و لذا قالوا: «كذب من زعم أنّه من شيعتنا و هو آخذ بفروع غيرنا» «2».

ثم لا يخفى عليك أنّ الرحمة الإيمانية كما أنها مشتقة منهم، فكذلك الرحمة الرحمانية فإنهم الرحمة الكلية و المشية الإلهية، بهم فتح اللّه و بهم يختم، و بهم ينزل

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23/ 266/ 268، عن تفسير الإمام عليه السّلام.

(2)

بحار الأنوار: ج 24/ 303- 304، ح 15 عن كنز الفوائد و فيه: كذب من قال: إنه معنا و هو متعلق بفرع غيرنا. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 274

الغيث، و بهم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، و ذلك أنّ اله تعالى فتح بهم كلّ بر و خير، بل كلّ خلق و إيجاد و إمكان.

كما

رواه جابر بن عبد اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما هو المروي في «رياض الجنان» قال: قلت: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوّل شي ء خلقه اللّه ما هو؟ فقال:

«نور نبيك يا جابر خلقه اللّه، ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء اللّه ثم جعله أقساما، فخلق العرش من قسم، و الكرسي من قسم، و حملة العرش و خزانة الكرسي من قسم.

و أقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء اللّه، ثم جعله أقساما فخلق القلم من قسم، و اللوح من قسم و الجنة

من قسم.

و أقام الرابع في مقام الخوف ما شاء اللّه، ثم جعله أجزاء، فخلق الملائكة من جزء، و الشمس من جزء، و القمر و الكواكب من جزء، و أقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء اللّه، ثم جعله أجزاء فخلق العقل من جزء، و العلم و الحلم من جزء، و العصمة و التوفيق من جزء، و أقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء اللّه، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشّح من ذلك النور قطرات: مائة ألف و أربعة عشرون ألف قطرة، فخلق اللّه من كل قطرة روح نبي و رسول، ثم تنفّست أرواح الأنبياء فخلق اللّه من أنفاسها أرواح الأولياء و الشهداء و الصالحين» «1» الخبر بطوله.

فهم الرحمة العامة، و الكلمة التامة، و مبدء الإيجاد و مادة المواد، و معطي القابلية و الاستعداد، بإذن الوهاب الجواد.

فإنّ المشية الكلية تقوّمت بالحقيقة المحمدية تقوّم ظهور، فظهرت و أشرقت أرض الإمكان و الأكوان بنورها، و ظهرت الأشعة بإشراقها، هي الزيتونة التي يكاد زيتها يضي ء و لو لم تمسسه نار.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 25/ 21- 23، ح 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 275

تبصرة

قد تبيّن لك مما سمعت سابقا السرّ في تقديم اسم الرحمن على الرحيم، و ذلك أنّ الرحمن إشارة إلى الرحمة الواسعة السابقة في عالم الناسوت من حيث الظهور و البروز، كتقدّم الشجرة على الثمرة، و إن كانت الثمرة هي الأصل في الشجرة، و كتقدّم الأنبياء على خاتم النبيين صلوات اللّه عليهم أجمعين مع أنه كان نبيا و آدم بين الماء و الطين.

هذا مضافا إلى وسعتها و عمومها و اختصاصها باللّه سبحانه، حيث إنّك قد سمعت أنه لا يجوز إطلاقه على غيره، و لذا قرنه

مع اسم الذات في مقام الدعاء الذي لا ينبغي أن يشرك به أحدا في قوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «1» و إن أمكن أن يقال: أن ليس المراد ذكر خصوصية للإسمين، بل التسوية بينهما و بين سائر الأسماء لقوله: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2»، كما في قوله: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «3».

إلّا أن الظاهر من الاقتصار عليهما و الاقتران مع اسم الذات، بل وضعهما موضعه في الآية الثانية تقدّمه على سائر الأسماء.

و لذا

ورد في النبوي: «أحب الأسماء إلى اللّه عبد اللّه و عبد الرحمن» «4».

و أيضا

ورد في الخبر المشهور: «إن للّه تسعة و تسعين اسما، من أحصاها

______________________________

(1) الإسراء: 110.

(2) الإسراء: 110.

(3) الأعراف: 180.

(4)

بحار الأنوار: ج 104/ 93، ص 93 عن مكارم الأخلاق: ص 252 و فيه: «أحسن الأسماء»

و

في نفس المصدر ص 127، ح 2 عن الخصال: ج 1/ 171 «خير الأسماء»

و أيضا

في البحار: ج 104/ 130، ح 21 عن نوادر الراوندي ص 90 «نعم الأسماء». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 276

دخل الجنة و هي: اللّه، الإله، الواحد، ... الرحمن، الرحيم ...» «1».

فقدّمه على غيره من أسماء الصفات مع أن الرحمة الرحمانية كالمادة الأولية لعامة الخلق، و الرحيمية كالصورة الإيمانية، و الأولى في رتبة النبوة، و الأخرى في مقام الولاية بها تمام النبوة بل إكمال الدين و إتمام النعمة هذا في الظاهر.

و أما في الباطن فالأمر على العكس، فإن الولاية التامة العامة الكاملة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ظهور النبوة بوصيّه لأنه الباب و الحجاب، و لذا قال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى قوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2» أي بوصيّة الذي هو نفس الإيمان و

مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «3».

و أيضا قد ورد اسم «الرحمن» في القرآن المجيد بعد تكرره في أوائل السور في البسملة في بضع و أربعين موضعا و لم يذكر في شي ء منها بعد اسم من الأسماء إلا بعد كلمة «اللّه» أو الضمير الدال عليه، كما في قوله: هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ «4».

فإنه قد وقع رديفا لكثير من الصفات الفعلية كالغفور، و الرب، و الرؤوف، و العزيز، بل لم يأت متصلا بما يدل على الذات من الاسم الظاهر و المضمر.

و أيضا ربّما يعلل التقديم مرة باختصاص الأول بالدنيا و الأخير بالأخرى، و فيه ما سمعت.

و باختصاص الرحمن بالعرش الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «5» كالرحيم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/ 186، ح 1 عن التوحيد و الخصال.

(2) التوبة: 128.

(3) المائدة: 5.

(4) البقرة: 163.

(5) طه: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 277

بالكرسي، و لا ريب في فضل الأوّل على الثاني، و إن كان كل منهما بابا من أبواب الغيوب، إلى غير ذلك من المناسبات التي ينبغي أن يقال: إن الصحيحة منها نكات بعد الوقوع.

و أخرى بأنه صار كالعلم للّه، لا من حيث إنّه موضوع لذاته تعالى، بل من حيث إنه لا يوصف به غيره، فهو أليق بلصوق لفظ الجلالة، و بكونه بمنزلة الموصوف للرحيم، و بالتوسط بينهما لكونه ذا جهتين.

بل عن بعض المحققين أنّه بدل من لفظ الجلالة، و الرحيم صفة له، لا للجلالة، إذ حق النعت التقديم على البدل.

و ذكر بعض الأجلّة أن الرحمن صفة للجلالة و الرحيم صفة الرحمن، مضافا إلى اختصاص معناه به سبحانه، و ذلك لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، و ذلك لا يصدق على غيره،

لأن من عداه فهو مستفيض بلطفه و إنعامه، يريد جزيل ثواب، أو جميل ثناء، أو إزالة الرقة الناشية من الجنسية، كمن رأى بعض أبناء جنسه في بلية، فتألّم قلبه ورقّ له و خلصه منها، طلبا لإزالة ذلك التألم بالتخليص المذكور، أو إزالة حب المال و رذيلة البخل، الذي هو أقبح الخصال، و أشنع الرذائل كمن يفرّق أمواله في الناس تكميلا لنفسه و تخليصا لها من تلك الرذيلة، فمبالغة الرحمة حيث اختصّت به سبحانه أفادت اختصاص الوصف به.

نعم، ربما يناقش فيه بأن ذلك يتصور بأحد وجهين:

أحدها: أن يكون الذات المعتبر فيه معيّنا بأنه المنعم الحقيقي لا من حيث المفهوم.

و الآخر: أنّ الزيادة المبالغة في الصيغة تستدعي البلوغ إلى الغاية، و يلزم منه أن لا يصدق إلّا على المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها و هو اللّه، فيأوّل معناه إلى ذلك و كلاهما فاسدان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 278

أما الأول، فلأنه مع تعيّن الذات يكون اسما لا صفة، و المفروض خلافه.

و أما الثاني فلأنّ زيادة المبالغة في الصفة لو استدعى البلوغ إلى الغاية لكان العلّام لا يصدق إلّا عليه سبحانه، فإنه البالغ إلى غاية العلم، و كذا الكبّار بالتشديد لا يصدق إلّا عليه، لأنه البالغ إلى غاية العظمة و الكبرياء، فإذن معنى لفظ الرحمن لا يستدعي أن يختصّ هذا الاسم به سبحانه، و مقتضى القياس صحّة إطلاقه على كل من وجد فيه معناه، لكنّه خصّ الاستعمال عليه تعالى، فلم يصحّ إطلاقه على غيره تعالى اتباعا للاستعمال، كما أوجب حذف عامل سقيا و و رعيا اتباعا له و القياس جواز ذكره.

أقول: و هو مدفوع بأنّ المراد هو الوجه الثاني، لكن الصفات على قسمين:

صفات ربوبيّة و صفات عبودية، و

قد سمعت سابقا أن إطلاق ما يجوز إطلاقه على اللّه و على خلقه ليس على سبيل الاشتراك المعنوي، بل إطلاقه على كل منهما بمعنى غير الآخر، كما وقع التصريح به في أخبار أهل البيت عليهم السّلام.

فالرحمة التي وضع الرحمن للمتصف بها هي الرحمة التي لا يمكن صدورها من غيره كالإبداع و الإيجاد و إنشاء الرحمة الواسعة و المشيّة الكلية، و الحقيقة المحمدية، بل هكذا غيرها من الفيوض الدنيوية و الأخروية، فإنّ جميعها منه سبحانه، و هو المنعم بها على خلقه لا غيره، و لو كان لغيره مدخلية فيها، فإنما هي على وجه الوساطة و التبعية و التلقي.

فالرحمة المأخوذة مادة للرحمن إنما أخذت بهذا المعنى، و هيئة المبالغة الحاصلة بزيادة الألف و النون إنما أفادت عموما في الخصوص.

و من هنا يسقط النقض بمثل العلّام فإن الاختصاص لم يصل من مجرّد المبالغة، و لذا لا نقول به في الرحيم المأخوذ مادته من مطلق الرحمة.

و في المقام وجه آخر و هو البناء على اتحاد المادة فيهما إلا أن بناء فعلان من

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 279

هذه المادة لإفادة المبالغة الخاصّة المتقدمة لا مطلق المبالغة التي يبنى لإفادتها ساير الصيغ و بكل من الوجهين يحصل الجمع بين المنع عن إطلاقه إلى غيره تعالى شرعا و لغة و بين ما هو الأظهر الأشهر.

بل ادّعى بعض المحققين عليه الإجماع من كونه وصفا لا علما، و لذا وصف به في البسملة و غيرها و أضيف فيما يظهر فيه معنى الوصفية كما في الدعاء: «يا رحمن الدنيا و الآخرة» و غير ذلك مما ينافي العلمية.

و أمّا ما ذكره أخيرا من أنّ عدم صحة الإطلاق إتباع للاستعمال ففيه ما لا يخفى، سيما بعد

ورود الشرع بالمنع عنه، ضرورة أنه لا يكون ذلك إلا باعتبار المعنى.

و مما يؤيّد ما ذكرناه من المغايرة بحسب المعنى ما ذكره الصدوق في كتاب «التوحيد» حيث قال: أنه يقال للرجل: رحيم القلب، و لا يقال: الرحمن، لأن الرحمن يقتدر على كشف البلوى و لا يقدر الرحيم من خلقه على ذلك.

قال: و قد جوّز قوم أن يقال للرجل: رحمن، و أرادوا به الغاية في الرحمة و هذا خطأ «1».

أقول: فانظر كيف أخذ الرحمن من الفعل الربوبي الذي يعجز عنه الرحيم من خلقه، و كيف حكم بخطإ من أخذه من الرحمة التي هي مادة الرحيم مع اعتبار المبالغة فيها.

و من تصانيف ما مرّ يظهر لك ضعف ما قيل أيضا من أنّ السبب في أبلغية اسم الرحمن زيادة البناء لأنها تدل على زيادة المعنى كما في قطع و قطّع، و كبار و كبّار.

______________________________

(1) توحيد الصدوق: ص 203، باب أسماء اللّه تعالى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 280

فإنّه مبنيّ على اتحاد المعنى الذي أخذت منه الصيغتان، و قد سمعت أنه قد أخذ كلّ منهما من غير ما أخذت منه الأخرى.

ثم إن قاعدة دلالة زيادة المباني على زيادة المعاني قد نقضت بحذر و حاذر، فإن الأول أبلغ كما صرّحوا به، و أجيب بأن الشرط اتّحاد الكلمتين بأن يكون كل واحد منهما اسم فاعل أو صفة مشبهة مثلا، سلّمنا لكن القاعدة أغلبية لا كلية سلّمنا لكن أبلغية حذر إنّما نشأت من إلحاقه بالغرائز كنهم و فطن، فجاز أن يكون حاذر أبلغ لدلالته على زيادة الحذر بسبب زيادة لفظه، فأبلغية حذر إنّما هو من حيث الثبوت و الاستمرار، و أبلغية حاذر من حيث الشدّة من غير إفادة الاستمرار، فتأمل، فإن الزيادة منتفية

حينئذ بل الحاصل المساوات في جهة الزيادة.

و هذه الوجوه و إن كانت بحذافيرها ساقطة في خصوص المقام على ما أصّلناه لك سابقا من اختلاف المادّة معنى، إلّا أن القاعدة لا بأس بها على وجه الغلبة لو لم ندّع الكلية بعد التأمل في قواعد الاشتقاق، و كون الداعي في زيادة الحروف على المبادي و اعتوار الهيئات المختلفة عليها إفادة الخصوصيات الزائدة.

و لذا ربما يستشهد عليها بالكلام الموروث عن العبد الصالح آصف بن برخيا حيث قال: إنّ الأشكال مغناطيس الأرواح، فإنّ الروح في الجسد كالمعنى في اللفظ، كما في العلوي.

ثمّ إنه قد ظهر مما مرّ كون الرحمن وصفا، و أنّه تابع لاسم الجلالة معنى و إعرابا، و ربما يحكى عن جماعة كابن مالك و الأعلم و ابن هشام كونه علما بالغلبة، فلا يجوز كونه وصفا، بل يتعيّن كونه بدلا من لفظ الجلالة، و به أسقطوا سؤال الزمخشري و غيره عن سبب تقديم الرحمن مع أنّ عادتهم تقديم غير الأبلغ كقولهم عالم نحرير، و جواد فياض.

بل استدلّوا أيضا لذلك بمجيئه كثيرا غير تابع نحو الرَّحْمنُ عَلَّمَ

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 281

الْقُرْآنَ «1»، قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «2»، وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ «3».

و قد طعن غير واحد منهم على من استعمله مجردا من اللام.

قال ابن هشام: و أما قول الزمخشري: و إذا قلت: اللّه رحمن أ تصرفه أم لا.

و قول ابن الحاجب: إنّه اختلف في رحمن أي في صرفه فخارج عن كلام العرب من وجهين: لأنه لم يستعمل صفة و لا مجردا من أل في الضرورة.

ثم إنّ منشأ الاختلاف في صرفه و عدمه هو الاختلاف في أنّ شرط تأثير الألف

و النون هل هو عدم قبول الوصف للحوق التاء إمّا لأنه لا مؤنث له أصلا كلحيان الكبير اللحية، أو لأن مؤنثه فعلى فهو على الأول ممتنع صرفه لانتفاء رحمانة، و على الثاني منصرف لانتفاء رحمي.

و قد تكلم نجم الأئمة و غيره في ترجيح أحد المذهبين على الآخر بما لا يعود إلى طائل، فلاحظ.

ختام و تكملة في انتظام الأسماء الثلاثة في البسملة

اعلم أنّ اللّه سبحانه من حيث ذاته المطلقة لا اسم له و لا رسم، و لا نعت و لا وصف، و هو مقام الأحدية المطلقة و الهوية الغيبية، و أما في مقام الواحدية فله صفات ذاتية و فعلية، و الفعلية عدلية و فضلية، و لما كان مقام البسملة هو الوسيلة الكلية و العناية الإلهية و الإقبال الكلي و الرجوع إلى الفقر الأصلي و كان حقيقة العبد

______________________________

(1) الرحمن: 1- 2.

(2) الإسراء: 110.

(3) الفرقان: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 282

هي نفس الفقر الكلي المحيط به من جميع جهاته، لا جرم ينبغي له الاستعانة و الالتجاء إلى اللّه سبحانه بجميع أسماءه و صفاته و هي و إن كانت غير متناهية ليس لأحد الوقوف على شي ء منها إلا بإلهامه و تعليمه سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا «1».

إلا أن هذه الأسماء الثلاثة جامعة لجميعها، و لذا بدأ سبحانه في تعليمه لنا بالبسملة التي هي كنز من كنوز الغيبية، بل مفتاح كليّ للخزائن الإلهية بالاسم الدالّ على الذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية من الجمالية و الجلالية.

و لذا لا يعرف منه شي ء إلا تحير العقول فيه حسب ما يشهد به اشتقاقه الذي مر الكلام فيه، ثم بالصفات الفعلية التي مرجعها بكثرتها إلى القسمين و لذا افتتحت بها السور القرآنية التي هي الحبل الممدود بين السماء و الأرض.

بل

عن الصادق عليه السّلام: «ما نزل كتاب من السماء إلا أوله بسم اللّه الرحمن الرحيم» «2».

و

عن أبي جعفر عليه السّلام: «أول كل كتاب نزل من السماء بسم اللّه الرحمن الرحيم، فإذا قرأت بسم اللّه الرحمن الرحيم فلا تبالي أن لا تستعيذ، و إذا قرأتها سترتك فيما بين السماء و الأرض» «3».

بل يظهر من الأخبار أنّ التسمية باسمه سبحانه لا يتأتّى للعبد إلا بعد الانسلاخ عن العلايق البشرية و الانصباغ بالأنوار الإلهية، و عبور النفس عن

______________________________

(1) البقرة: 32.

(2)

بحار الأنوار: ج 85/ 20، ح 10، عن تفسير العياشي: ج 1/ 19 ح 5، و فيه: «ما أنزل اللّه من السماء كتابا إلا و فاتحته بسم اللّه ...».

(3) الكافي: ج 3/ 313، ح 3، و عنه البحار: ج 85/ 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 283

مقاماتها الكلية و انغماسها في البحار الغيبية.

ففي «العلل» عن الصادق عليه السّلام في حديث علّة الصلاة: «ثم إنّ اللّه عزّ و جل قال: يا محمد! استقبل الحجر الأسود و هو بحيالي و كبّرني بعدد حجبي، فمن أجل ذلك صار التكبير سبعا لأن الحجب سبعة، و افتتح القراءة عند انقطاع الحجب، فمن أجل ذلك صار الافتتاح سنّة، و الحجب مطابقة ثلثا بعدد النور الذي أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثلاثا، فلذلك كان الافتتاح ثلاث مرات، فلأجل ذلك كان التكبير سبعا و الافتتاح ثلاثا، فلما فرغ من التكبير و الافتتاح قال اللّه عزّ و جل: الآن وصلت إليّ فسمّ باسمي، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فمن أجل ذلك جعلت في أول السورة» «1» الخبر.

ثم إنّ الانتظام الأسماء الثلاثة فيها وجوها أخر لا بأس بالإشارة إليها:

منها: أن أصول العقائد الإسلامية و

منتهى المقاصد الدينية هي التوحيد و النبوة و الإمامة المشار إلى جملتها بالأسماء الثلاثة، فإن الأصل الأول و إن كان هو التوحيد إلا أن الإقرار به لا يتم و لا يقبل و لا ينفع إلا بالإقرار بالنبوة كما أن الإقرار بالنبوة لا يتم إلا بالإقرار بالولاية، فهو الكاشف الأخير عن الأول كما يستفاد ذلك من الأخبار الكثيرة التي تعرّضنا لها في غير المقام، بل كل من التاليين لا يتم و لا يتحقق إلا بسابقه كما

في دعاء الحجة عجل اللّه فرجه الإشارة إليه: «اللهم عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، أللهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجتك، أللهم عرّفني حجتك، فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللت عن ديني» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18/ 358، ح 66، باب إثبات المعراج.

(2) بحار الأنوار: ج 52/ 147، ح 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 284

و أما الحكم بطهارة المنكرين للولاية الحقّة و إسلامهم، و إجراء أحكامه عليهم من جواز التناكح و حل الذبائح و التوارث و غيرها، فإنما هي أحكام ظاهرية جعلت و شرعت للترفيق على الشيعة الإمامية حيث كانوا مختلطين بهم، مقهورين تحت أيديهم معدودين في زمرتهم، بل لم يقم لهم سوق لغلبة أهل الفجور و الفسوق، و لذا يسّر اللّه لهم بإجراء أحكام الإسلام في ظاهر الشريعة مع ثبوت الكفر الباطني لهم، بل لعلّهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، فإنهم يهود هذه الأمة لمتابعتهم عجلها و سامريها و هما صنما قريش و جبتاها، و طاغوتاها و إفكاها، و لذا عبر عن الولاية بالإيمان و عن عدمها بالكفر في قوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ

مِنَ الْخاسِرِينَ «1».

بل عن الثلاثة بالثلاثة في قوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ «2».

فإكمال الدين و إتمام النعمة إنما هو بالولاية، و لذا ارتدّ الناس بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا أربعة، فرجعوا على أعقابهم القهقرى أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ «3».

هذا مضافا إلى أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الولي هما الواسطتان في تلّقي الفيوض الإلهية من التشريعية و التكوينية، كما مرّ غير مرّة، فالمستعين باللّه و المتوجه إليه لا بدّ له من حفظ المراتب للوصول إلى ماله من المطالب و المآرب، و لذا علّمنا الاستعانة باللّه الذي أنشأ المشية الكلية و الحقيقية المحمدية الّذي هو الرحمة الرحمانية و الرحمة الرحيمية الإيمانية.

______________________________

(1) المائدة: 5.

(2) الحجرات: 7.

(3) آل عمران: 144.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 285

و منها: أن للعبد حالات ثلاثة:

الأولى: حاجته إلى الوجود، و هو لم يكن شيئا مذكورا، بل لم يكن شيئا أصلا أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً «1».

الثانية: حاجته بعد الوجود إلى أسباب البقا.

الثالثة: حاجته في القيامة إلى العفو و المغفرة إذ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «2».

و في الأسماء الثلاثة إشارة إلى هذه المقاصد، فالمستعين المتوسّل بها سائل لها طالب إيّاها، فاللّه هو: الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «3»، قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ «4».

و الرحمن هو الذي وسعت رحمته كلّ شي ء و لم يخرج عن تربيته شي ء وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ «5».

و الرحيم هو المتعطف على المؤمنين نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

«6»، وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «7».

و منها ما قيل من أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مبعوثا إلى الناس كافّة، و كان أهل العالم في زمانه على أصناف ثلاثة: عبدة الأصنام، و اليهود، و النصاري.

فالفرقة الأولى كانوا يعرفون من أسمائه سبحانه اسم الجلالة

______________________________

(1) مريم: 67.

(2) النور: 21.

(3) الحشر: 24.

(4) الرعد: 16.

(5) طه: 90.

(6) الحجر: 49.

(7) الأحزاب: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 286

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1».

و لذا كانوا يقولون هؤُلاءِ- أي هذه الأصنام- شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «2».

و الثانية: كانوا يعرفون الرحمن الذي قيل «3»: إنّه في لغتهم رخمن بالخاء المعجمة، و قد تقدّم أنه قد تكرّر ذكره في التوراة، بل عن ابن سلام أنه قال: يا رسول اللّه إنك لتقلّ ذكر الرحمن و قد أكثره اللّه في التوراة، فنزلت قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «4».

و الثالثة: كانوا مشعوفين بذكر الرحيم الذي قيل: إنه في لغة الإنجيل رهما أو رهيما، و كان جاريا على ألسنتهم، فلمّا أمر اللّه سبحانه نبيّه بدعوة تلك الفرق الثلاثة إلى الصراط المستقيم افتتح كتابه بل كل سورة منه بما يعرفونه من الأسماء و هو اللّه الرحمن الرحيم، ليستأنسوا به و لا يتنفرّوا إذ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ «5».

و منها أنّ الأسماء الثلاثة للأصناف الثلاثة الذين هم أهل الحقيقة و الطريقة، و الشريعة، فأصحاب الحقيقة هم المنسوبون إلى اللّه سبحانه بالوصول إلى مقام الولاية و نيل الهداية، هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ «6»، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا «7».

و أصحاب الطريقة هم السائرون إلى حريم القدس، و حرم الأنس، بأقدام

______________________________

(1) لقمان: 25.

(2) يونس: 18.

(3) قالة ثعلب و المبرد، و الزجاج.

(4) الإسراء:

110.

(5) الروم: 32.

(6) الكهف: 44.

(7) البقرة: 257.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 287

المودّة و المحبّة، و لذا يدعونه باسم الّرحمن سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «1».

و أرباب الشريعة هم أهل الإيمان الذين توسّلوا باسم الرحيم في سلوك الصراط المستقيم وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «2».

و منها: أنها إشارة إلى المعبود الحق و الصنفين من عبيدة اللذين هما المراد و المريد، كما

أشار مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه عنه في «العرايس» قال: «إنهما واقعان على المريدين و المرادين، فإسم الرحمن للمرادين لاستغراقهم في أنوار الحقائق، و الرحيم للمريدين لبقائهم مع أنفسهم و اشتغالهم بالظاهر».

تتمة مهمة في فضائل البسملة المروية عن الأئمة عليهم السّلام

قد ظهر مما مر أن البسملة مشتملة على أصول الحقائق التي هي الأساس للعقائد الحقة الإسلامية و المناهج المستقيمة الإيمانية التي هي بجملتها من أشعة أنوار التوحيد و النبوة و الولاية حسبما أشير إليها بالأسماء الثلاثة.

بل قد سمعت أنه

قد ورد من طرق الفريقين أنّ فيها جميع ما في القرآن مع أن فيه تفصيل كل شي ء «3».

و في «تفسير القمي» عن عبد الكريم بن عبد الرحيم أن كتاب أصحاب اليمين بسم اللّه الرحمن الرحيم.

و قد مر الخبر

عن مولانا الرضا عليه السّلام أنه قال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم أقرب

______________________________

(1) مريم: 96.

(2) الأحزاب: 43.

(3) في شرح العيون و عنه مصابيح الأنوار: ج 1/ 435، و عنها جامع الأخبار و الآثار:

ج 2/ 48، ح 2. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 288

إلى الاسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها» «1».

و

إن الصادق عليه السّلام قال: «ما نزل كتاب من السماء إلا و أوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «2».

و أنها من السبع المثاني و هي أفضلهن «3».

و ذلك أنها هي الكلمة الجامعة المتشعشعة لتجليات أنوار الجمال، و لذا أمر

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خبر المعراج بذكرها بعد رفع الحجب عند هبوب نفحات روح الوصال، على ما

رواه في «العلل» في خبر طويل مرت إليه الإشارة و إلى قوله تعالى: «الآن وصلت إلى فسمّ باسمي» «4».

و

في «المجمع» و «جامع الأخبار» و غيرهما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إذا قال المعلّم للصبي قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال الصبي: بسم اللّه الرحمن الرحيم، كتب اللّه برائة للصبي و برائة لأبويه و برائة للمعلّم» «5».

و

عن ابن مسعود عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من أراد أن ينجيه اللّه من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، فإنها تسعة عشر حرفا ليجعل اللّه كل حرف منها جنة من واحد منهم» «6».

و

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «ما لهم قاتلهم اللّه، عمدوا إلى أعظم آية في

______________________________

(1)

تفسير العياشي: ج 1/ 21، ح 13 و العيون: ج 2/ 5، ح 41، و فيه: «من سواد العين إلى بياضها.

(2)

العياشي: ج 1/ 19، ح 5، و فيه: «ما انزل اللّه من السماء كتابا إلا و فاتحته بسم اللّه الرحمن الرحيم» نور الثقلين ج 1/ 6.

(3) تهذيب الأحكام، و عنه تفسير نور الثقلين: ج 1/ 8، ح 24.

(4) بحار الأنوار: ج 18/ 358/ ح 66، باب إثبات المعراج.

(5) مجمع البيان: ج 1/ 18، و جامع الأخبار: ص 49 و عنه البحار: ج 93/ 257.

(6) المجمع: ج 1/ 19 و جامع الأخبار: ص 49 و عنه البحار: ج 92/ 258. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 289

كتاب اللّه فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها، و هي بسم اللّه الرحمن الرحيم» «1».

و فيه

رد على العامّة على ما مر.

و

عن الباقر عليه السّلام أنه قال: «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم» «2».

و

في «تفسير القمي» عن الصادق عليه السّلام: «إنّها أحق ما يجهر به، و هي الآية التي قال اللّه عزّ و جل وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً «3»» «4».

بل

في «الخصال» عنه عليه السّلام: «إنّ الإجهار بها في الصلوات واجب» «5».

و المراد تأكد.

و

في «جامع الأخبار» عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتب اللّه له بكل حرف أربعة آلاف حسنة، و محى عنه أربعة آلاف سيئة، و رفع له أربعة آلاف درجة» «6».

و

فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قال بسم اللّه الرحمن الرحيم بنى اللّه في الجنة سبعين ألف قصر من ياقوتة حمراء، في كل قصر سبعون ألف بيت من لؤلؤة بيضاء، في كل بيت سبعون ألف سرير من زبرجد خضراء، فوق كلّ سرير سبعون ألف فراش من سندس و إستبرق، و عليه زوجة من حور العين، و لها سبعون الف ذؤابة مكلّلة بالدر

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1/ 21، ح 16، و عنه البحار: ج 85/ 21.

(2) العياشي: ج 1/ 19 و عنه البحار: ج 85/ 20، ح 10.

(3) الإسراء: 46.

(4) تفسير القمي: ص 25، و عنه البحار: ج 85/ ص 82، ح 25.

(5)

الخصال: ص 604، ح 9، و عنه البحار: ج 85/ 75، ح 5. و فيه: الإجهار ببسم اللّه الرحمن الرحيم في الصلوة واجب.

(6) جامع الأخبار: ص 49، و عنه البحار: ج 92/ 258، ح 52. تفسير الصراط المستقيم،

ج 3، ص: 290

و اليواقيت مكتوب على خدّها الأيمن: محمد رسول اللّه، و على خدّها الأيسر: عليّ ولي اللّه، على جبينها: الحسن، و علي ذقنها: الحسين و على شفتيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قلت: يا رسول اللّه! لمن هذه الكرامة؟

قال: لمن يقول بالحرمة و التعظيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «1».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا قال العبد عند منامه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول اللّه: يا ملائكتي اكتبوا له الحسنات إلى الصباح» «2».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذ مرّ المؤمن على الصراط فيقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طفئت لهيب النيران، و تقول: جز يا يا مؤمن فإنّ نورك أطفأ لهبي» «3».

ثم أنه قد ورد الأمر بالتسمية عند كثير من العبادات و غيرها كالوضوء و الغسل و الأكل و الشرب و دخول المسجد و البيت و الخروج منهما و التذكية و الاصطياد بل دخول الخلوة و خروجها، و كل فعل من الأفعال.

حتى

ورد عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: «إذا توضّأ أحدكم أو أكل أو شرب أو لبس لباسا ينبغي له أن يسمّي عليه فإن لم يفعل كان للشيطان فيه شرك» «4».

و

عنه عليه السّلام: «إنّ رجلا توضأ و صلّى، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعد وضوئك و صلاتك، ففعل و توضأ و صلّى، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعد وضوئك و صلاتك، ففعل و توضأ و صلّى، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعد وضوئك و صلاتك، فأتى أمير المؤمنين عليه السّلام فشكا إليه ذلك، فقال له: هل سميّت حيث توضأت؟ قال: لا، قال: سمّ على

______________________________

(1) الجامع: ص 49، و عنه البحار: ج 92، ص 258، ح 52، و المستدرك: ج 5/ 387، ح 20.

(2)

جامع الأخبار: ص 50، و عنه البحار ج 92/ 258، و فيه: «اكتبوا نفسه إلى الصباح».

(3) الجامع: ص 50، و عنه البحار: ج 92/ 258.

(4) المحاسن للبرقي: ص 433، و عنه البحار: ج 66/ 373. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 291

وضوئك، فسمّى و توضأ و صلى، فأتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يأمره أن يعيد».

و

في «المحاسن» عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا أكلت الطعام، فقل بسم اللّه في أوله و آخره، فإن العبد إذا سمّى في طعامه قبل أن يأكل لم يأكل معه الشيطان، و إذا سمّى بعد ما يأكل و أكل الشيطان معه تقيأ ما كان أكل» «1».

و

عنه عليه السّلام: «إن الرجل إذا دنى من المرأة و جلس مجلسه حضره الشيطان، فإن هو ذكر اسم اللّه تنحى الشيطان عنه، و إن فعل و لم يسمّ أدخل الشيطان ذكره فكان العمل منهما جميعا، و النطفة واحدة» «2».

و في معناه أخبار كثيرة.

و

فيه عنه عليه السّلام أنه قال له قائل: إني صاحب صيد سبع و أبيت بالليل في الخرابات و المكان الموحش، فقال: «إذا دخلت فقل بسم اللّه، و ادخل برجلك اليمنى، و إذا خرجت فاخرج برجلك اليسرى قل: بسم اللّه فإنك لا ترى مكروها إن شاء اللّه» «3».

و

في «جامع الأخبار» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه سئل هل يأكل الشيطان مع الإنسان؟ فقال: «نعم، كل مائدة لم يذكر بسم اللّه الرحمن الرحيم عليها يأكل الشيطان معهم و يرفع اللّه البركة عنها» «4».

و

في «الكافي» عن النبي صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم قال: «إذا ركب الرجل الدابة، فسمّى، ردفه ملك يحفظه حتى ينزل، و إن ركب و لم يسمّ ردفه شيطان فيقول له: تغنّ، فإن قال

______________________________

(1) المحاسن: ص 432، و عنه بحار الأنوار: ج 66/ 372.

(2) التهذيب: ج 7/ 407، و عنه البحار: ج 63/ 202.

(3) المحاسن: ص 370، و عنه البحار: ج 76/ 248، ح 39.

(4) جامع الأخبار: ص 50 و عنه البحار: ج 92/ 258، ح 52. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 292

له: لا أحسن، قال له: تمن، فلا يزال يتمنى حتى ينزل» «1».

و

فيه عن الصادق عليه السّلام: «إن على ذروة كل جسر شيطانا، فإذا انتهيت إليه، فقل: بسم اللّه، يرحل عنك» «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الآمرة بها عموما و خصوصا عند كل فعل مما سمعت، و غيرها من حقير أو خطير، يسيرا و كثيرا.

بل

عن مولانا الصادق عليه السّلام: «لا تدع بسم اللّه و إن كان بعده بيت من الشعر» «3».

و ذلك لما عرفت من أن ما يدل على شي ء من غير الألفاظ يسمى أثرا و اسما للشي ء، بل لعل الأثر أدل على الشي ء من اللفظ الموضوع له، لأن دلالته أتم و أظهر، بل هي أشبه بالطبيعة العقلية، و دلالة اللفظ وضعية، و قد سمعت أن الاسم ما يدل على المسمى.

ثم إن الأثر هو الفعل، و الفعل إمّا مضاف إلى اللّه تعالى صادر منه، أو إلى العبد صادر منه.

و الصادر من اللّه هو خلق الأسباب و الآلات و الأدوات و المشاعر و القوى و المبادئ، و كل ما يحتاج إليه في بقائها من الإضافات و الإمدادات و غيرها.

و الصادر من العبد هو صرف هذه الأسباب و الآلات فإن صرفها

فيما خلقت له فهو الطاعة، أو في غيره فهو المعصية، فالأسباب و الآلات في الطاعات و المعاصي واحدة.

______________________________

(1) فروع الكافي: ج 6/ 540، و عنه البحار: ج 63/ 204.

(2) فروع الكافي: ج 4/ 287، و عنه البحار: ج 63/ 202.

(3) الكافي: ج 2/ 672، ح 1، و عنه الوسائل: ج 8/ 494، ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 293

نعم من جهة صرفها في الطاعات التي هي مرضات اللّه، يطلق التوفيق الذي هو موافقة إرادة العبد لصرف الأسباب فيما يحبه اللّه تعالى و يرضاه، و من جهة صرفها في المعاصي التي هي موجبات سخطه يطلق الخذلان الذي هو ترك العبد و ما يشتهيه و تخليته و ما يريده.

و قد قيل: لا تدع النفس و هواها، فإنّ في هواها رداها، و ترك النفس و ما تهوى شفاها، و ردع النفس عما تهوى هداها و شفاها.

و بالجملة فقول القائل: بسم اللّه عند كل فعل من الأفعال معناه الاستعانة فيه به سبحانه و بأسمائه الحسنى تيمّنا و تبركا بذكر اسمه الشريف على الوجه الذي مرت إليه الإشارة من حفظ الحدود مع قصد الاستعانة بما أنعم و أفاض عليه من الآلات و الأدوات المصروفة في إتمام هذا الفعل لفائدة شكر تلك النعم و صرفها فيما خلقت لأجله على الوجه اللايق بحاله في الكون التشريعي موافقا لمحبّته كي يقع الفعل على جهة العبودية تحصيلا لمرضاته سبحانه، فيظهر عليه أثر العبودية.

و لعله إليه الإشارة

بقول مولانا الرضا عليه التحية و الثناء في معنى البسملة «أسم نفسي بسمة اللّه تعالى» «1».

و كأنه مأخوذ من الوسم الذي يتميز به مواشي السلطان أو السيماء الذي يتميز به حواشيه.

و هو المشار إليه بقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَ

مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً «2».

و بقولي في القصيدة المهدوية شعرا:

ترى صبغة الرحمن صاغت وجوههم و إنّ صباغ الحبّ صبغ التجمّل

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين: ج 1/ 11، ح 41 عن العيون.

(2) البقرة: 138.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 294

فالتسمية سمة الطاعة و صبغة العبودية و شكر النعمة و حد المائدة.

و لذا

ورد في أخبار كثيرة عن مولانا الصادق عليه السّلام: «إنّ حدّ المائدة أن تقول إذا وضعت بسم اللّه و إذا رفعت الحمد للّه» «1».

و

في «العلل» عنه عليه السّلام قال: «لمّا جاء المرسلون إلى إبراهيم على نبينا و آله و عليه السّلام جاءهم بالعجل فقال: كلوا، فقالوا: لا نأكل حتى تخبرنا بثمنه، فقال عليه السّلام: «إذا أكلتم فقولوا: بسم اللّه، و إذا فرغتم فقولوا: الحمد للّه، قال: فالتفت جبرئيل إلى أصحابه و كانوا أربعة و جبرئيل رئيسهم، فقال: حقّ للّه أن يتّخذ هذا خليلا» «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة فإذا توسم العبد بسمة طاعته و سمّى عند كل فعل من الأفعال ابتغاء مرضاته، فقد جمع بين التسمية الفعلية و القولية، و أظهر فيه العبودية المحضة التي لا يشاركه فيها الشيطان، لأنه قد يئس من الاستيلاء بعباد الرحمن بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «3».

و أما إذا نسيها فقد شاركه فيه، ثم إن استدركته العناية الربانية و تدارك التسمية

فقد ورد في الأخبار: «إن الشيطان تقيأ ما أكله» كما في الخبر المتقدم المروي عن «المحاسن» «4».

و لعل المراد أنه يرجع عن المشاركة في ذلك الفعل، و يعود كله خالصا للّه من أوله، إذ الأمور الملكوتية المقيدة بالزمان يتساوى عندها جميع الأزمنة فيتأثر منها

______________________________

(1)

المحاسن: ص 431، و عنه البحار: ج 66/ 37، ح 9، و فيه: «إذا وضع

قيل: بسم اللّه، و إذا رفع قيل: الحمد للّه».

(2) علل الشرائع: ص 23- 24، و عنه البحار: ج 12/ 5.

(3) الحجر: 42.

(4) المحاسن: ص 432، و عنه البحار: ج 66، ص 372.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 295

الحوادث و إن سبقت في الزمان.

و لذا

ورد في العلوي على ما رواه في «المحاسن»: «من أكل طعاما فليذكر اسم اللّه عليه فإن نسي ثم ذكر اللّه بعده تقيأ الشيطان ما أكل، و استقبل الرجل طعامه» «1».

لكن

المحكي عن «الكافي» «2» في هذا الخبر «و استقل».

قال في «البحار»: «و هو الصواب أي وجده قليلا لما قد أكل الشيطان منه فإن ما يتقيأه لا يدخل في طعامه، أو هو على الحذف و الإيصال، أي استقل في أكل طعامه، قال: و الأول أظهر» «3».

قلت: لكن الرواية الأولى هي أظهر، و على الثانية فالثاني ينطبق على ما سمعت.

و على كل حال فللتّسمية فضل جميل، و ثواب جزيل، و لها بل لكل اسم من الأسماء الثالثة المشتملة عليها عند أهل التصريف و التكسير فوائد عظيمة و منافع جسيمة سيما مع المداومة عليها و التحقق بحقائقها و التخلق بأخلاقها إلى غير ذلك مما لا ينبغي التعرض لها.

بل

روي أنه لمّا نزلت البسملة اقشعرّت منها الجبال «4».

و

أنها تسعة عشر حرفا بعدد زبانية النار، من قرأها نجى منها «5».

______________________________

(1) المحاسن: ص 434 و عنه البحار: ج 66/ 374، ح 20.

(2) الكافي: ج 6/ 293.

(3) البحار: 66/ 374.

(4) في الدر المنثور ج 1/ 9 عن ابن مردويه، و الثعلبي، عن جابر الأنصاري: «لما نزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هرب الغيم إلى المشرق و سكنت الريح، و هاج البحر، أصغت البهائم بآذانها، و رجمت الشياطين من السماء.

(5)

في «مجمع البيان»:

ج 1/ 19: عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أراد أن ينجيه اللّه من تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 296

و

في بعض الكتب عن مولانا الصادق عليه السّلام: «من كانت له حاجة كلية فليكتب في رقعة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من عبده الذليل إلى ربه الجليل «رب إني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ و ليطرحها في نهر عظيم قائلا: أللهم بمحمد و آله الطيبين الطاهرين و صحبه المرضيين، اقض حاجتي يا أرحم الراحمين، و ليذكر حاجته، فإنه تقضى إن شاء اللّه تعالى».

و لنختم المقام بذكر ما

أورده الإمام أبو محمد العسكري عليه السّلام في فضل البسملة، قال عليه السّلام:

«قال الصادق عليه السّلام: و لربما ترك في افتتاح أمر بعض شيعتنا بسم اللّه الرحمن الرحيم، فيمتحنه اللّه بمكروه لينبّهه على شكر اللّه تعالى و الثناء عليه و يمحو عنه و صمة تقصيره عند تركه قوله بسم اللّه، لقد دخل عبد اللّه بن يحيى على أمير المؤمنين عليه السّلام و بين يديه كرسي، فأمره بالجلوس، فجلس عليه فمال به حتى سقط على رأسه، فأوضح عن عظم رأسه و سال الدم، فأمر أمير المؤمنين عليه السّلام بماء فغسل عنه ذلك الدم، ثم قال: أدن مني! فدنا منه، فوضع يده على موضحته، و قد كان يجد من ألمها ما لا صبر له معه، و مسح يده عليها و تفل فيها حتى اندمل، و صار كأنه لم يصبه شي ء قط، ثم قال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا عبد اللّه! الحمد للّه الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم لتسلم لهم طاعتهم، و يستحقوا عليها ثوابا». ثم ساق الخبر إلى أن قال: «فقال عبد

اللّه بن يحيى: يا أمير المؤمنين! قد أفدتني و علّمتني فإن رأيت أن تعرّفني ذنبي الذي امتحنت به في هذا المجلس حتى لا أعود إلى مثله، قال: تركك حين جلست أن تقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فجعل

______________________________

الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإنها تسعة عشر حرفا ....».

كما تقدّم. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 297

اللّه ذلك بسهوك عما ندبت إليه تمحيصا بما أصابك، أما علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حدثني عن اللّه عزّ و جل أنه قال: كلّ امر ذي بال لم يذكر اسم اللّه فيه فهو أبتر؟

فقلت: بلى بأبي أنت و أمي لا أتركها بعدها، قال: إذا تحظى بذلك و تسعد، ثم قال عبد اللّه بن يحيى: يا أمير المؤمنين! ما تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال:

إن العبد إذا أراد أن يقرأ و يعمل عملا فيقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أي بهذا الاسم أعمل هذا العمل، فكل عمل يعمله يبتدأ فيه ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإنه يبارك له فيه.

ثم ساق الخبر إلى أن قال: إنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ما معناه؟ فقال:

إن قولك: «اللّه» أعظم الأسماء من أسماء اللّه تعالى، هو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه تعالى و لم يتسم به مخلوق.

فقال الرجل: فما تفسير قوله «اللّه»؟

فقال: هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج و الشدائد كل مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع من دونه و يقطع الأسباب من كل من سواه، و ذلك أن كل مترأس في هذه الدنيا أو متعظم فيها و إن عظم غناؤه و طغيانه،

و كثرت حوائج من دونه إليه، فإنهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعظم، و كذلك هذا المتعظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها، فينقطع إلى اللّه عند ضرورته و حاجته و فاقته حتى إذا كفي همه عاد إلى شركه، ألم تسمع اللّه عزّ و جل يقول: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ «1». فقال اللّه تعالى لعباده: «يا أيها الفقراء

______________________________

(1) الأنعام: 41. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 298

إلى رحمتي إني قد ألزمتكم الحاجة إلى في كل حال، و ذلة العبودية في كل وقت، فإليّ فافزعوا في كل أمر تأخذون فيه و ترجون تمامه و بلوغ غايته، فإني إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم، و إن أردت منعكم لم يقدر غيري على إعطائكم، فأنا أحقّ من سئل و أولى من تضرّع إليه، فقولوا عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أي أستعين على هذا الأمر باللّه الذي لا تحقّ العبادة لغيره، المغيث إذا استغيث، و المجيب إذا دعي، الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا و دنيانا و آخرتنا، خفف علينا الدين و جعله سهلا خفيفا، و هو يرحمنا بتمييزنا عن أعدائه.

ثم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من حزنه أمر تعاطاه فقال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و هو مخلص للّه عزّ و جل يقبل بقلبه إليه، لم ينفكّ من أحد الشيئين «1»: إما بلوغ حاجته الدنياوية، و إما ما يعد له عنده و يدخّر لديه، و

ما عند اللّه خير و أبقى للمؤمنين».

و قال الحسن بن علي عليهما السّلام: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية من فاتحة الكتاب و هي سبع آيات تمامها ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .

قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إن اللّه عزّ و جل قال لي: يا محمد وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «2» فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب و جعلها بإزاء القرآن العظيم و أنّ فاتحة الكتاب أعظم و أشرف مما في العرش و إن اللّه تعالى خص بها محمدا و شرفه، و لم يشرك معه فيها أحدا من أنبيائه ما خلا سليمان على نبينا و آله و عليه السّلام فإنه أعطاه منها بسم اللّه الرحمن

______________________________

(1)

في البحار: «عن احدى اثنتين».

(2) الحجر: 87. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 299

الرحيم، ألا تراه إنه يحكي عن بلقيس حين قالت: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «1».

ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد و آله الطيبين منقادا لأمرهم، مؤمنا بظاهرهم و باطنهم أعطاه اللّه عزّ و جل بكل حرف منها حسنة منها أفضل له من الدنيا و ما فيها من أصناف أموالها و خزائنها، و من استمع قاريا يقرؤها كان له قدر ثلث ما للقارى ء، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض لكم، فإنه غنيمة فلا يذهبن أوانه فتبقي في قلوبكم الحسرة» «2».

أقول: و هذا الخبر و إن مرت الإشارة إلى جملة منها فيما تقدم إلا أنا ذكرناه بتمامه في المقام تنبيها على الفوائد التي لا تستفاد إلا بتمام الكلام.

______________________________

(1) النمل: 29.

(2) تفسير الإمام: ص 9- 24،

و عنه بحار الأنوار: ج 92/ 240- 257، ح 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 301

تفسير الصراط المستقيم

[سورة الفاتحة(1): آية 2]

[في تفسير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
الفصل الأوّل فيما يتعلّق بالحمد
اشارة

تفسير الصراط المستقيم ج 3 330

ثمّ إنّ اللّه سبحانه و له الحمد و المنّة لمّا علّمنا كيفية التبرك بالاستعانة به و التوسل بأسمائه و الانصباغ بصبغته مع التنبيه على أنّ جميع النعم الدنيوية و الأخروية و التشريعية و التكوينية كلها منه، و الأمور كلها بيده، و هو المبتدء بالنعم قبل استحقاقها، و السائق إلى المستحقّين حقوقها، أراد أن يحمد نفسه بالثناء عليه على نعمه الجميلة الجليلة و آلائه الجزيلة النبيلة، تعليما للعباد، و هداية لهم إلى سبيل الرشاد، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

الحمد في الأصل مصدر (حمد) كسمع، حمدا و محمدا و محمدة بكسر الثالث و فتحه فيهما بمعنى الثناء، كحمدته عل فعله، و الشكر كحمدته على نعمه، و الرضا كحمدت بسيرة فلان، و المدح كحمدت فلانا على فضله، لكن الغالب عليه في الاستعمال هو المعنى الأول، هذه المعاني متغايرة و إن تقاربت، و لذا كان لكلّ منها نقيض غير نقيض الآخر، فالنقيض للحمد الذم، و للشكر الكفر، و للمدح الهجا، و الذم أيضا و لعله الأغلب.

و بالجملة فقد عرّفوا الحمد بالثناء باللسان على الجميل الاختياري من نعمة و غيرها.

فهو أخصّ من المدح الذي هو الثناء على الجميل المطلق اختيارا كان أو غيره، و لذا يقال: مدحت زيدا على حسنه، دون حمدته، و يطلقان بالنسبة إلى علمه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 302

و من الشكر الذي هو تعظيم المنعم بالاعتراف بالنعم الواصلة إليه باللسان و الأركان و الجنان، إلا أن أخصيّته من المدح على الإطلاق و من الشكر من وجه، فهو أعمّ من كل الأولين من وجه، لوجوده

دونهما في أفعال القلب و الجوارح.

و إن اجتمع الكلّ في فعل اللسان و ترتب الحمد و المدح على كل من الفضائل التي هي المزايا الغير المتعدية، و الفواضل التي هي المزايا المتعدية، و هي المواهب و العطايا، إلّا أن هذا كأنّه مجرد اصطلاح لا يساعده تتبع موارد إطلاقاتها.

و لذا أنكر بعضهم تقييد الحمد بكون الجميل اختياريا، بل ذكر شيخنا البهائي أنّ هذا التقييد غير موجود في كلام الأكثر، بل أنكره البعض لقولهم: الصبر يحمد في المواطن كلها، و عاقبة الصبر محمودة، بل في القرآن: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1».

و

في كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «فعند الصباح يحمد القوم السري» «2».

فلا داعي للتكلف في تلك الإطلاقات بأنه استعمل في معنى المدح أو الرضا مجازا، أو أنّه من قبيل وصف الشي ء بحال متعلقه، أي المقام محمود صاحبه، و السري محمود عليه كالصبر.

هذا مضافا إلى تصريح اللغويّين بعموم معناه.

قال في «الصحاح»: «الحمد أعم من الشكر، و ظاهره الإطلاق، و لذا قال:

و المحمّد الذي كثرت خصاله المحمودة» «3».

______________________________

(1) الإسراء: 79.

(2) نهج البلاغة: الخطبة (160) آخرها. و لا يخفى أن هذه الجملة من الأمثال و معناها: إذا أصبح النائمون و قد رأوا السارين ليلا وصلوا إلى مقاصدهم حمدوا سراهم و ندموا على نوم أنفسهم. و السري بضم السين المهملة و فتح الراء: السير ليلا.

(3) الصحاح: باب الدال، فصل الحاء، و استشهد بقول الأعشى: إلى الماجد القرم الجواد المحمد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 303

و في «القاموس»: الحمد: الشكر، و الرضاء، و الجزاء، و قضاء الحق.

و في «المصباح المنير» للفيومي: حمدته على شجاعته و إحسانه حمدا:

أثنيت عليه.

و من هنا كان الحمد غير الشكر لأنه يستعمل لصفة في الشخص و

فيه معنى التعجب، و يكون فيه معنى التعظيم للممدوح و خضوع المادح، كقول المبتلى: إلى الحمد للّه، إذ ليس هناك شي ء من نعم الدنيا و يكون في مقابلة إحسان يصل إلى الحامد.

و أما الشكر فلا يكون إلا في مقابلة الصنيع، فلا يقال: شكرته على شجاعته و يقال غير ذلك. انتهى.

و بالجملة، الأظهر أنه موضوع للمعنى الأعم من دون أن يؤخذ في مفهومه كونه باللسان أو على الجميل الاختياري.

أمّا الأول فلثنائه سبحانه على نفسه، و لقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» و غير ذلك.

و احتمال التجوز في اللسان، أو في الحمد، أو تكلف التأويل مما لا ينبغي الإصغاء إليه، و ما يقال: من أنه لمّا ثبت الاختصاص بالنقل عن الثقات من أرباب اللغات فيحمل أمثال ذلك على المجاز مردود بما سمعت.

و أما الثاني فلشهادة الإطلاق، و نص أهل اللغة، و أصالة الحقيقة، و أولويتها مع عموم المعنى على المجاز.

نعم، بعض هؤلاء المنكرين للتقييد بالاختياري من الفلاسفة الذين يزعمون أن اللّه تعالى فاعل بالإيجاب و العلّية دون الإرادة فالتزموا بقدم العالم، نظرا إلى أن

______________________________

(1) الإسراء: 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 304

ذات الواجب تعالى إمّا أن يستجمع جميع شرائط التأثير في الأزل أو لا؟

فعلى الأول يلزم القدم، ضرورة امتناع تخلف المعلول عن علته العامة.

و على الثاني يتوقف وجود الأثر و هو العالم على شرط حادث، و ننقل الكلام إليه حتى يلزم التسلسل الذي قامت القواطع العقلية على استحالته، بل استدلوا على نفي إرادته الحادثة بأدلة ضعيفة واهية، سنشير إن شاء اللّه تعالى إلى الجواب عنها، و عن ساير ما استدلوا به للقدم في موضع أليق.

و لعل اختيار الحمد في المقام على المدح للإشعار بكون

محامده اختيارية و بعد الإحسان، إذ المدح على ما قيل أعم من كون الممدوح به اختياريا أو لا، صدر قبل الإحسان أو بعده.

مضافا إلى ما قيل: إن المدح مذموم،

للعلوي: «أحثوا التراب في وجوه المداحين» «1».

و الحمد مأمور به

لقوله: «من لم يحمد الناس لم يحمد اللّه» «2».

و إن كان لا يخلو من تكلف، إذ منشأ الذم فيه بعض الجهات الخارجية كالإطراء، و مجاوزة الحد، و شوب النفاق و نحوها.

و اما اختياره على الشكر فلأن الشكر إنما هو بإزاء ما وصل من النعم إلى الشاكر، و أما الحمد فإنما هو بإزاء ما عليه النعم من المحامد.

و لذا

ورد: «الحمد للّه كما هو أهله و مستحقه» «3».

______________________________

(1)

بحار الأنوار: ج 73/ 294، ح 1 عن أمالي الصدوق: ص 256، و فيه: «احثوا في وجوه المداحين التراب»

، و جعله من مناهي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(2) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1/ 218.

(3) بحار الأنوار: ج 86/ 163، ح 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 305

و

في الدعاء: «و لك الحمد بجميع محامدك كلها على جميع نعمك كلها» «1».

و كم الفرق بين الثناء عليه سبحانه بما هو أهله و مستحقه مع الأغماض و قطع النظر عن الإنعام على الحامد أو غيره، أو العدم مطلقا، و بين مجازات نعمه الجميلة الجليلة بألسنة قصيرة و أزمنة يسيرة يحتاج شكر كل زمان منها إلى أزمنة كثيرة.

و على هذا فيستوعب الحمد شكر جميع الشاكرين مع الزيادة، فإن الصفات الذاتية و النعم التي لم يصل بعد إلى أحد من المخلوقين محامد توجب الحمد لا الشكر.

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه «الكافي»: «ما أنعم اللّه على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد

للّه إلا أدى شكرها» «2».

و

في دعاء الصحيفة السجادية: «الحمد للّه الذي هدانا لحمده، و جعلنا من أهله لنكون لإحسانه من الشاكرين» «3».

و

في «كشف الغمة» عن الصادق عليه السّلام: «إن أبا جعفر عليه السّلام فقد بغلة له، فقال: لئن ردها اللّه لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أتى بها بسرجها و لجامها، فلما استوى عليها و ضم عليها ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال: «الحمد للّه» فلم يزد، ثم قال: ما تركت و لا أبقيت، شيئا جعلت كل أنواع المحامد للّه عزّ و جل، فما من حمد إلا و هو داخل فيما قلت» «4».

و

في «تفسير الإمام» و «الاحتجاج» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنه سئل عن

______________________________

(1) البحار: ج 95/ 413.

(2) الكافي: ج 2/ 96، و عنه البحار: ج 71/ 32، ح 9.

(3) صحيفة السجادية الجامعة: ص 209، دعائه عليه السّلام إذا دخل شهر رمضان.

(4) كشف الغمة: ج 2/ 319، و عنه البحار: ج 46/ 290، ح 15، و أخرجه ابن طلحة في مطالب السؤول: ص 81، و أبو نعيم في الحلية: ج 3/ 183 بتفاوت. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 306

تفسير «الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فقال: «هو أن اللّه عرّق عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال لهم: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا» «1».

و

عن مولانا الصادق عليه السّلام في معنى الحمد، قال: «معناه: الشكر للّه و هو المنعم بجميع نعمائه على خلقه» «2».

و

قال عليه السّلام: «من حمده بصفاته كما وصف نفسه، فقد حمده، لأن الحمد حاء و الميم و دال، فالحاء من الوحدانية و الميم من الملك و الدال

من الديمومة، فمن عرفه بالوحدانية و الملك و الديمومة فقد عرفه».

رواهما القاضي سعيد في «أسرار الصلاة» عنه عليه السّلام مرسلا و يأتي الأخير بلفظ آخر عن السلمي عنه عليه السّلام.

بل ربما يستفاد من بعض الأدلة و فحاوي الأخبار اختصاص الحمد باللّه سبحانه بحيث ليس أحد ممّن سواه أهلا لأن يحمد كما

في «المتهجد» في دعاء يوم الجمعة: «اللهم لك الحمد كما توليّت الحمد بقدرتك، و استخلصت الحمد لنفسك، و جعلت الحمد من خاصتك، و رضيت بالحمد من عبادك، ففتحت بالحمد كتابك، و ختمت بالحمد قضائك، و لم يعدل إلى غيرك، و لم يقصر الحمد دونك، فلا مدفع للحمد عنك، و لا مستقر للحمد إلا عندك، و لا ينبغي الحمد إلا لك» «3».

و لعل ذلك الاختصاص لدلالة الحمد على كون المحامد ذاتية أصلية قائمة بالمحمود بقيمومية المطلقة التي لا يشاركها فيه غيره.

______________________________

(1) تفسير الإمام: ص 11.

(2) تفسير القمي: ص 26، و عنه البحار: ج 92/ 229.

(3) مصباح المتهجد: ص 348، و عنه البحار: ج 90/ 129- 130.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 307

و لذا

ورد في الخطبة الأميرية الغديرية: «الحمد للّه الذي جعل الحمد من غير حاجة منه إلى حامديه، طريقا من طرق الاعتراف بلاهوتيته و صمدانيته و ربانيته و فردانيته، و سببا إلى المزيد من رحمته، و محجة للطالب من فضله، و كمّن في إبطال اللفظ حقيقة الاعتراف له بأنه المنعم على كل حمد باللفظ، و إن عظم» «1».

فجعله طريقا من طرق الاعتراف بالألوهية دليل على اختصاصه مطلقا أو على بعض الوجوه به سبحانه.

و المراد

بقوله: «و كمن في إبطال اللفظ»

الإشارة إلى أنه سبحانه قد أنزل الحقائق الكلية من الخزائن الغيبية إلى العوالم النازلة الناسوتية بكسوة الألفاظ و الحروف

الصوريّة، فسهّل بذلك حمده و ذكره على قاطبة البريّة.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مر أنّ الحمد من الألفاظ الجامدة الموضوعة، نعم ربّما يقال: إنّه مشتّق من الحمدة (بالفتحات) و هي صوت التهاب النار، حيث إنّ العبد بعد مشاهدة النعماء الغير المتناهية يشتغل في قلبه نيران المحبة، فيستنير بنور معرفته الجنان و ينطبق بحمده اللسان.

و إمّا من الحمادى كحبارى بمعنى الغاية و النهاية، و منه

الخبر: حماديات النساء غضّ الطرف» «2».

أي غاياتهن و منتهى ما يحمد منهم غضّ الطرف عمّا حرّم اللّه، و ذلك أنّ الحمد منتهى مقصد القاصدين، و اجتهاد المجتهدين، سيّما مع توقفه على معرفة المنعم بالنعمة، و انبساط يديه بالرحمة.

______________________________

(1) مصباح المتهجد: ص 524، و أخرجه المجلسي قدس سره في البحار: ج 97/ 113، عن مصباح الزائر الفصل السابع.

(2) الاحتجاج: ج 1/ 167، ط بيروت و عنه البحار: ج 32/ 151، و هذه الكلمة من كلام أم سلمة بنت أمية قالتها لعائشة لما أزمعت الخروج إلى البصرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 308

و الحقّ أنّ اشتقاقه منهما تكلّف مستغنى عنه، بل لعلّ المعنيين مأخوذان منه على ضرب من الاشتقاق، و إن كان فيه إشعار بالمعنيين، سيما مع إضافته إلى اللّه، كما أنّه مشتقّ بالاشتقاق المعنوي من الصفات الربانية و النعوت الكمالية.

كما

رواه السلمي «1» في «الحقائق» عن مولانا و مولى الخلائق جعفر بن محمد الصادق عليه الصلاة و السّلام أنه قال: «الحمد ثلاثة أحرف الحاء و الميم و الدال. فالحاء: من الوحدانيّة، و الميم:

من الملك، و الدال: من الديمومية، فمن قال: الحمد للّه، فقد وصف اللّه بالوحدانية و الملك و الديمومة».

و لعل الوجه فيه أنّ الحمد التامّ الكامل الذي يفوق جميع المحامد ما كان المحمود

فيه كاملا تاما في جميع الصفات الذاتية و الفعلية، و الوحدانية إشارة إلى كماله في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته تعالى بلا مغايرة حقيقية و اعتبارية، و إلا لانثلمت الوحدانية، فإن كمال التوحيد نفي الصفات عنه بدليل أن كل صفة غير الموصوف و كل موصوف غير الصفة.

و أما الصفات الفعلية لم تكن قديمة عين الذات و لا شريكا له مع الذات، بل حادثة بحدوث الفعل و المفاعيل كانت ملكا له، فلذا عبر عنها به، و حيث إن فيضه عزّ و جل في صقع الإمكان و الحدوث لا يزال و لم يزل، إذ كل يوم هو في شأن، و لا يشغله شأن عن شأن، فلذا استحق المحامد الجميلة الجليلة خلود دوام ربوبيته و هو المشار إليه بالديمومية.

______________________________

(1) السلمي: محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدى النيسابوري المحدث الحافظ المفسّر المتوفّى سنة (412) ه من تصانيفه: حقايق تفسير القرآن.- معجم المؤلّفين ج 9 ص 258.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 309

تبصرة عرفانية

روى السيد الجليل ابن طاووس في «سعد السعود» نقلا عن النقاش مسندا إلى ابن عباس قال: قال لي علي عليه السّلام: «يا بن عباس! إذا صليت الآخرة، فالحقني إلى الجبّانة»، قال: فصلّيت و لحقته، و كانت ليلة مقمرة، فقال لي: «ما تفسير الألف من الحمد جميعا؟» قال:

فما علمت حرفا أجيبه، قال: فتكلم في تفسيرها ساعة تامة، ثم قال لي: «ما تفسير اللام من الحمد؟» قال: فقلت: لا أعلم، قال: فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة، ثم قال: «ما تفسير الحاء من الحمد؟» قال: فقلت، لا أعلم، فتكلّم في تفسيرها ساعة تامة، ثم قال: «ما تفسير الميم من الحمد؟» فقلت: لا أعلم، فتكلّم في تفسيرها ساعة، ثم

قال «فما تفسير الدال من الحمد؟» قلت: لا أدري، فتكلم فيها إلى أن برق عمود الفجر، قال: فقال: «قم يا بن عباس إلى منزلك فتأهّب لفرضك، فقمت و قد وعيت كلما قال، قال: ثم تفكرت فإذا علمي بالقرآن في علم علي عليه السّلام كالقرارة في المثعنجر، قال: و القرارة: الغدير، و المثعنجر: البحر «1».

أقول: في «القاموس»: المثعنجر بفتح الجيم وسط البحر، و ليس في البحر ماء يشبهه.

و قول ابن عباس و ذكر عليا عليه السّلام: علمي إلى علمه كالقرارة في المثعنجر، أي مقيسا إلى علمه كالقرارة موضوعة في جنب المثعنجر، انتهى.

و فيه: القرارة بالضم ما بقي في القدرة، أو ما لزق بأسفلها من مرق أو حطام، و القرارة مثّلثة الماء البارد الذي يصبّ في القدر.

قلت: فتفسيرها بالغدير ليس على ما ينبغي، بل التشبيه ليس في محله و لو

______________________________

(1) سعد السعود: ص 284، و عنه البحار: ج 92/ 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 310

بالقطرة و الذرة، و الصواب ترك النسبة، بل الانتساب، فأين التراب و أبو تراب؟ و لو كانت بينهما نسبة لتكلّم ابن عباس بحرف واحد، أو بكلمة واحدة، مع أنّ ما تكلّم عليه السّلام به في تلك الليلة مع ضيق الوقت إنما هو على قدر فهمه و حسب مقامه، لأنهم مأمورون بتكلّم الناس على قدر عقولهم.

و لذا قال ابن عباس: «فقمت و قد وعيت كل ما قال»، و إلا فهو عليه السّلام كان قادرا على استخراج جميع العلوم و المعارف و الأحكام المتعلقة بالإمكان و الأكوان من الحقائق التكوينية و العلوم التشريعية من كلمة واحدة بل من حرف واحد.

و لذا

قال عليه السّلام: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير باء بسم اللّه».

و في خبر

آخر: «من تفسير فاتحة الكتاب» رواه الشهيد في «أسرار الصلاة» «1».

و

قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: «لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الإيمان و الدين و الشرائع من الصمد، و كيف لي بذلك و لم يجد جدي أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء «2» و يقول على المنبر: «سلوني قبل أن تفقدوني» فإنّ بين الجوانح مني لعلما جمّا، هاه هاه ألا لا أجد من يحمله، ألا و إنّي عليكم من اللّه الحجة البالغة «فلا تتولوا قوما غضب اللّه عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور» «3».

و بالجملة، فالحروف و الكلمات لها مراتب و درجات و أطوار علوية و سفلية، مجردة و مادية، جبروتية و ملكوتية و ناسوتية، و المدرك منها بالمشاعر الظلمانية

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 92/ 103 عن «أسرار الصلاة».

(2) الصعداء- بضم الصادر و فتح العين- التنفس الطويل من أو تعب.

(3) بحار الأنوار: ج 3/ 225، 15 و الآية بلا لفظ الغاء في سورة الممتحنة: 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 311

المادية الناسوتية هو المتنزل منها إلى هذا العالم الجسماني بالصور اللفظية و الكتبية، فما يرى سواد العين إلّا سواد المداد بالألحاظ و لا تسمع الأذن إلا الأصوات و الألفاظ، و أنّى لهما الدخول في حريم هذه المعاني و الاستقصاء عما لها من المباني من العالي و الداني.

و أما العقل الإنساني فقد ابتلى بالتقيّد عن التجرّد، و احتجب عن مشاهدة الأنوار الملكوتية بالحجب الناسوتية، فوقع من القربة في الغربة، مع أنّ كل شي ء لا يدرك ما فوق عالمه، و لا يتجاوز عن معالمه، و كيف يدرك العقل الجزئي الحقائق الكلية إلّا بعد

الوصل الكلي، بقطع جبل الإنيّة، و التجرد عن العلايق الجسمانية و الخروج من عرف قدره لا يتعدّى طوره.

و لذا لو أنزل اللّه هذا القرآن على ما هو عليه من قدس ملكوته و عز جبروته «1»، و لذا أتى بما يشار به إلى القريب، تنبيها إلى أنه بعد باق على علوه و رفعته على جبل عظيم من الجبال التي هي مظاهر العظمة في هذا العالم الجسماني، أو على جبلة من جبلات الإنية الواقعة في صقع النفوس لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لعدم صبره و تحمله و ثباته، و لذا أنزله اللّه تبارك و تعالى بكسوة الألفاظ و الحروف التي هي أمثلة و أظلة للحقائق الكلية وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «2»، فيصلون بالألفاظ إلى المعاني، و من المعاني إلى المباني و من المباني إلى النور الشعشعاني، أعني معرفة البشر الثاني.

______________________________

(1) مقتبس من الآية (21) من سورة الحشر: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ

(2) الحشر: 21

.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 312

نفحات قدسية

ينقسم الحمد باعتبار الحامد إلى: حقّي، و حقيقي، و خلقي، و إطلاقي.

فالحقي من حيث الذات: هو الهوية الغيبية التي ليس لها اسم و لا رسم و لا نعت و لا وصف، و بذلك أثنى على ذاته بذاته، فثناؤه ذاته، و ذاته ثناؤه، فامتنع بعزّ قدسه من أن تناله الأوهام، أو أن تصل إلى معرفته ثواقب العقول و الأفهام.

و من حيث الفعل هو المشيّة الكلية، و هو الفعل الذي خلقه بنفسه و أسكنه في ظلّه، و هو في صقع الإمكان و الأكوان، حقيقة الحقائق و مبدء المبادئ، و أصل الأصول، و أسطقسّ الأسطقسّات، فالثناء على اللّه تعالى

بعد ثنائه على ذاته لا يكون إلا في مظهر من المظاهر الكونية، فأعلى المظاهر أجلاها و أسناها ثناء على اللّه.

و حيث إنّ المشيّة الكونية و الإمكانية أعلى المظاهر و أوّل الأوائل في عالم الأكوان و الإمكان، كان هذا الحمد له، و أفضل الحمد عنده، و أحقّ الحمد لديه، و أحبّ الحمد إليه، كما في دعاء يوم الإثنين «1».

ثم إنّ الحمد الحقي في مقام الفعل هو بعينه الحمد الحقيقي في مقام الذات، و إن كان هناك تغاير بحسب الاعتبار، فإنّ ذات المشيّة هو فعل الرب سبحانه و هو إبداعه و إرادته كما أشار إليه مولانا الرضا عليه السّلام.

فالحمد الحقيقي ينقسم أيضا إلى ذاتي هو ما سمعت، و إلى فعلي و هو دوام توجهه و افتقاره و انقطاعه إلى اللّه سبحانه بالتضرع و السؤال و الابتهال و الاستمداد لتحصيل الاستعداد، و هو الحمد الذي يصل إليه أوله، و لا ينقطع آخره، لم يجعل له أمدا، و لا ينفد أبدا، و هو الذي أشار إليه

في الدعاء:

______________________________

(1) مصباح المتهجد: ص 217، و عنه البحار: ج 90/ 174. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 313

«حمدا دائما يدوم ما دام سلطانك، و يدوم ما دام وجهك، و يدوم ما دامت جنتك، و يدوم ما دامت نعمتك، و يدوم ما دامت رحمتك، حمدا يصعد و لا ينفد، يبلغك أوله و لا ينقطع آخره، حمدا سرمدا لا يحصى عددا و لا ينقطع أبدا» «1».

كما أن الحقيقي الذاتي هو المشار إليه

بقوله: «ففتحت بالحمد كتابك» «2».

بناء على أن المراد بالكتاب هو الكتاب التكويني أو الإمكاني، و إن كان ابتداء الكتاب التدويني به أيضا، و

بقوله: «حمدا سعة علمك و مقدار عظمتك و كنه قدرتك و

مبلغ مدحك و مداد كلماتك ...» «3».

و أما الحمد الخلقي فيكون أيضا في مقام الذات و في مقام الفعل، فالذاتي يشترك فيه جميع العالم من حيث التحقق و الوجود، و إن كان بين أفراده من الاختلاف ما لا يحصى و لا يستقصي كاختلاف ذوات الذرّات في السلسلة الطولية و العرضية و هو المعبر عنه بالتسبيح الذاتي المشار إليه بقوله يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «4»، وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «5».

لكن التسبيح المذكور في الآيتين و غيرهما يراد به مضافا إلى ما ذكر من التسبيح الفطري الذاتي، التسبيح الشعوري الاختياري التكليفي الذي نطقت به الآيات و الأخبار حسبما يأتي بيانه إن شاء اللّه.

و لذا قال سبحانه:

______________________________

(1) البلد الأمين ص 82. مصباح المتهجد: ص 343، دعاء يوم الجمعة.

(2) نفس المصدر.

(3) بحار الأنوار: ج 90/ 130، دعاء الجمعة.

(4) الجمعة، و التغابن: 1.

(5) الإسراء: 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 314

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ «1».

فإنه نسب السجود إلى غير الناس على سبيل الكلية و إليهم على وجه الجزئية، و هذا هو السجود الاختياري و التكليف الشعوري الإرادي.

و أما التسبيح الفطري الذاتي فيشترك فيه جميع الأشياء و الأكوان مما دخل في صقع الإمكان أو في بقعة الوجود حتى أن الكافر و المشرك في حال كفره و شركه موحد للّه تعالى مسبح له، و لذا قيل بالفارسية:

«عين إنكار كافر إقرار است».

و قيل أيضا:

هر گياهي كه از زمين رويدوحده لا

شريك له كويد

و

في «الجامعة الصغيرة»: «يسبح اللّه بأسمائه كل شي ء».

و ذلك لأن كل ما دخل في عالم الوجود من الأكوان و الأعيان و المجردات و الماديات و الفلكيات و العنصريات و الجمادات و النباتات و الحيوانات فهو ينادي بأعلى صوته بل بجميع ألسنة وجوده بأني عبد عاجز مصنوع لا أقدر على شي ء و لا أملك لنفسي شيئا، بل لست بشي ء و إن لي ربا قادرا، عالما، قيوما، حيا، قديما، جامعا لصفات الكمال و نعوت الجلال و إنه شيأني بمشيته و أوجدني بقدرته و أفاض علي من رحمته، و أقامني بأمره قيام صدور و ظهور، بحيث لو قطع فيضه عني لكنت عدما محضا، و هذه المقالة مما جرت عليها ألسنة جميع الذرات و الكائنات من جميع جهات وجودها و كينونتها في جميع الأدوار و الأكوار و الأطوار و الأوطار، فقد ملأ الدهر قدسه لا يرى فيه نور إلا نوره، و لا يسمع فيها صوت إلا

______________________________

(1) الحج: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 315

صوته كما في الدعاء.

و أما الحمد الخلقي الفعلي فيكون بالجنان و بالأركان و باللسان و لذا قيل: «إن الثناء للسلطان باللسان ينجيك من سيف السلطان، و يسلمك من آفة الكفران، و شكر الأركان ينجيك من دركات النيران، و يبلغك إلى أعلى درجات الجنان، و الحمد بالجنان يقربك إلى الرحمن و يشرفك بالعرفان.

و أدنى درجات حمده في هذا المقام انفراد اللسان بالثناء عليه من دون مواثقة الجنان و الأركان، و ربما كان مذموما لأنه من شعب النفاق.

و أعلاها و أغلاها و أرفعها في هذه المرتبة توافق الثلاثة، و إن كان الأصل فيها معرفة المحمود، و وقوع عظمته في القلب، فإن الأركان حتى اللسان بمنزلة الآلات

و الأدوات للقلب تجري بحكمه و يترشح عليها ما وقع فيه، فكل إناء بالذي فيه ينضح.

و لذا قال روح اللّه عيسى على نبينا و آله و عليه السّلام: «إن اللسان يتكلم بزوائد القلب، فإذا وقعت في القلب عظمة شخص و كماله و جلاله بادرت الأركان و الألسنة إلى تعظيمة و الثناء عليه، حتى ربما تقع لها شبه الاضطرار من شدة البدار، و لذا اضطرت العقول بالاستكانة لديه و نطقت الألسن بالثناء عليه، بل كل ركن من الأركان، و كل مشعر من المشاعر لسان من الألسنة بل و كذا الأوصاف و الأعراض و الأحوال و الخيالات و الخطرات و النيات و الأعمال.

و أما الحمد الإطلاقي فهو العام التام الكامل الشامل لجميع ما ذكرناه و ما لم نذكره، مما لم يثبت في الدفاتر، و لم يجر على الخواطر.

و إلى ما ذكرناه من مراتب الحمد إشارة

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الدعاء: «الحمد للّه كلما حمد اللّه شي ء، و كما يحب اللّه أن يحمد، و كما هو أهله، و كما ينبغي لكرم

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 316

وجهه و عز جلاله» «1».

فقوله «الْحَمْدُ لِلَّهِ إشارة إلى الحمد الإطلاقي العمومي الشامل لجميع المحامد، و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام في الخبر المتقدم «2» بعد وجدان البغلة: «الْحَمْدُ لِلَّهِ و لم يزد، ثم قال: «ما تركت و لا بقيت شيئا جعلت كل أنواع المحامد للّه عزّ و جل فما، من حمد إلا و هو داخل فيما قلت».

و

قوله «كلما حمد اللّه شي ء»

، إشارة إلى الحمد الخلقي الشامل لمحامد جميع المخلوق في رتبة المفعول بجميع أدواتهم و مشاعرهم و ألسنتهم و أركانهم و لغاتهم و أحوالهم.

و

قوله «و كما يحب

اللّه أن يحمد»

، إشارة إلى الحمد الخلقي الذاتي أو الحقيقي، فإنهما في رتبة واحدة و إن كانا متغايرين بالاعتبار، و جعله أثرا للمحبة لكونه من آثار المشية التي هي المحبة الكلية الأصلية المشار إليها

بقوله: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق كي أعرف» «3».

فعبر فيه عن الوجود المطلق الذي هو الواسطة بين الوجود الحق و هو الكنز المخفي أي المجهول المطلق، و بين الوجود المقيد و هو الخلق بالمحبة التي هي جذبة التوحيد و مقام التفريد، و الآخذ بناصية كل شي ء، فهو راجع إليها رجوع الفي ء أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ «4».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 86/ 44، في ما يستحب عقيب الصلاة.

(2) كشف الغمة: ج 2/ 319.

(3) الحديث مشهور تارة نسب الى داود النبي عليه السّلام و اخرى نسب الى النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لكن قال السيوطي في الدرر المنثرة ص 193: لا أصل له، و قال ابن العربي في الفتوحات ج 2 ص 399: الحديث صحيح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كشفا لا نقلا.

(4) النحل: 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 317

و

قوله «و كما هو أهله»

: إشارة إلى الحمد الحقيقي الذاتي الحقي الفعلي الذي قد عرفت سابقا اتحادهما أيضا من وجه، و إن تغايرا من وجه آخر، فإن فعله سبحانه أهل له، و هو أهل لفعله، و هذا التأهل إنما هو في مقام الفعل لا الذات.

و

قوله «و كما ينبغي لكرم وجهه و عز جلاله»

، إشارة إلى الحمد الحقي الذاتي في مقام الواحدية لا الأحدية التي هو الغيب المطلق،

فله في مقام الواحدية الظهور بالصفات الكمالية من الجمالية و الجلالية.

فقوله «لكرم وجهه»

إشارة إلى ظهوره بالصفات الكمالية من العلم و القدرة و الحياة و القدم و غيرها،

«و عز جلاله»

إشارة إلى تقدسه عن كل ما يعدّ في النقصان أو ينتهي إلى رتبة الإمكان.

فانظر كيف أطلق الحمد أولا بالإطلاق الشمولي الإحاطي، ثم فصّله في مراتبه و درجاته متدرّجا من الأدنى إلى الأعلى، كما هو القانون في التوجهات و الأسفار و الترقيات الواقعة في عالم الموادّ، و صقع الاستعداد إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «1».

ثم بعد تفصيل المراتب في المقامات الأربعة التي هي الأركان الأربعة لعرش المعرفة و التقديس، و هي التسبيح و التهليل و التحميد و التكبير، فصّل بعد الإجمال و أجمل بعد التفصيل

فقال: و سبحانه اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر على كل نعمة أنعم بها عليّ و على كل أحد من خلقه، ممن كان أو يكون إلى يوم القيامة «2».

ثم اعلم أن الثناء الواقع من كل أحد للّه سبحانه إنما هو على حسب مقامه و رتبته و قابليته و استعداده و اللّه سبحانه منزه عن كل ذلك، فإنه قد انتهى المخلوق

______________________________

(1) فاطر: 10.

(2) بحار الأنوار: ج 86/ 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 318

إلى مثله و ألجأه الطلب إلى شكله، و أنّى له و الثناء على اللّه بما هو أهله و مستحقه إلا بمجرد إطلاق القول بذلك و الحوالة على ما هنالك، و لذا

ورد في الدعاء: «الحمد للّه كما هو أهله و مستحقه».

و

قال أشرف الأنبياء و المرسلين صلى اللّه عليه و آله و عليهم أجمعين: «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»

«1».

و ذلك لأن الخلق و إن بالغ في السعي و الاجتهاد و أتى بما في وسعه من القوة و الاستعداد، فلا يمكن له الخروج من حدود الإمكان المحفوف بالقصور و النقصان في جميع العوالم من الإمكان و الأعيان و الأكوان، فمن أين له الإحاطة بكمال الواجب سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً.

فالعجز عن درك الإدراك إدراك و الخوض في طلب الإدراك إشراك

و لذا نزّهه عن أوصافهم و توصيفاتهم في قوله: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ «2».

ثم استثنى توصيف عباده الذين يصفونه بما وصف به نفسه بقوله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ «3» و توصيفهم هو الذي أشار إليه في الآية التالية: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ الغلبة و الكبرياء عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ الذين يصفونه بما وصف به نفسه و هو قولهم: وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4».

ورد في النبوي أنه دعوة أهل الجنة «5»

كما في الآية «6».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 71/ 23.

(2) الصافات: 159.

(3) الصافات: 160.

(4) الصافات: 180- 183.

(5) تفسير العياشي: ج 1/ 23.

(6) يونس: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 319

و

في «الاحتجاج» عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قال العبد الحمد للّه أنعم اللّه عليه بنعيم الدنيا موصولا بنعيم الآخرة و هي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها و ينقطع الكلام الذي يقولونه في الدنيا ما خلا «الْحَمْدُ لِلَّهِ و ذلك قوله: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1»» «2».

و أما حمده سبحانه على نعمه و آلائه فمع توقفه على معرفة المنعم موقوف على العلم التفصيلي بالنعم و أجناسها و أنواعها و أصنافها و مباديها و أسبابها و غاياتها و افتراقاتها في إبداع فؤاده، و خلق عقله، و روحه و

نفسه، و طبيعته و مزاجه، و مثاله و عنصره، و جسمه و جسده، و أعضاؤه و أخلاطه، و قواه و مشاعره، و ظاهره و باطنه، و سره و علانيته، و أغذيته الروحانية و الجسمانية، و ملاحظة مباديها و نزولها من البحر الذي هو تحت العرش بأيدي الملكة الحفظة الكرام، من الذاريات، و الحاملات و الجاريات، و المقسمات، و المدبّرات، و غيرها من عمّال الكائنات و المكوّنات، و عبودها من أطباق السموات إلى أن حملتها الرياح، ثم السحاب، ثم الهواء، ثم الأرض، ثم النبات، ثم الحيوانات و ما له فيما بين ذلك من الكيموسات و الكيلوسات و الاستحالات و التنقلات، و الإشراقات و الإمدادات و الإفاضات و القرانات و المقابلات و المزاحمات و المدافعات.

فمن أين للعبد الذليل الضعيف المسكين المستكين أن يشكر واحدة من نعمه الكثرة الجميلة الجزيلة الجليلة التي لا تحصى و لا تستقصى، و لذلك أفرد النعمة في قوله: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «3» أي من حيث الشكر عليها من حيث المبادي و الأسباب و غيرها مما ذكرناه و مما لم نذكر.

______________________________

(1) يونس: 10.

(2) بحار الأنوار: ج 9/ 295، ح 5.

(3) يونس: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 320

و من هنا

قال مولانا سيد الشهداء صلى اللّه عليه و على الأرواح التي حلت بفناءه في دعائه يوم عرفة بعد الإشارة إلى جملة من نعمه سبحانه:

«فأي نعمك يا إلهي أحصي عددا و ذكرا، أم أي عطاياك أقوم بها شكرا؟

و هي يا رب أكثر من أن يحصيها العادّون أو يبلغ علما بها الحافظون، ثم ما صرفت و درأت عني، اللهم من الضرّ و الضراء أكثر مما ظهر لي من العاقبة و السرّاء، و أنا أشهد

يا إلهي بحقيقة إيماني، و عقد عزمات يقيني، و خالص صريح توحيدي، و باطن مكنون ضميري، و علائق مجاري نور بصري، و أسارير صفحة جبيني، و خرق مسارب نفسي، و خذاريف مآرن عرنيني، و مسارب صماخ سمعي، و ما ضمّت و أطبقت عليه شفتاي، و حركات لفظ لساني، و مغرز حنك فمي و فكي، و منابت أضراسي، و بلوغ حبائل بارع عنقي، و مساغ مأكلي و مشربي، و حمالة أم رأسي، و جمل حمائل حبل وتيني، ما اشتمل عليه تامور صدري، و نياط حجاب قلبي، و أفلاذ حواشي كبدي، و ما حوته شراسيف أضلاعي، و حقاق مفاصلي، و أطراف أناملي، و قبض عواملي، و لحمي و دمي و شعري و بشري و عصبي و قصبي و عظامي و مخي و عروقي و جميع جوارحي، و ما انتسج على ذلك أيّام رضاعي، و ما أقلّت الأرض مني، و نومي و يقظتي و سكوني و حركتي، و حركات ركوعي و سجودي، أن لو حاولت و اجتهدت مدى الأعصار و الأحقاب لو عمرتها أن أؤدي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلّا بمنّك الموجب علي شكرا آنفا جديدا، و ثناء طارفا عتيدا، أجل و لو حرصت أنا و العادّون من أنامك أن نحصي مدى إنعامك سالفة و آنفة لما حصرناه عددا و لا أحصيناه أبدا، هيهات أنّى ذلك و أنت المخبر عن نفسك في كتابك

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 321

الناطق و النبأ الصادق: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1»» «2».

و إنما ذكره بطوله لما فيه من الشهادة بجميع أعضائه و جوارحه و ظاهره و باطنه على قصوره من أداء شكر نعمة واحدة من نعمه

سبحانه، فإذا كان مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء عاجزا عن ذلك، فما ظنّك بغيره! بل غاية المطلوب منّا إنما هو الاعتراف بالعجز و القصور، بل التفاوت في الدرجات و اختلاف مراتب الممكنات إنما هو بحسب اختلاف معرفتهم و تصديقهم بالعجز عن ذلك و اعترافهم بذلك و هو التحقق بمقام العبودية و الإذعان بالعجز عن إحصاء شؤون الربوبية.

درّة بيضا في حقيقة اللواء

اعلم أن اللواء بالهمزة و اللواي و اللواية بالياء بدون الهاء و معها، بمعنى العلم بالفتحتين أو العلم الكبير.

و قد تظافرت الأخبار بل تواترت بأنه أعطي نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله لواء الحمد و هو حامله.

و في أكثر الأخبار أنّ حامله مولانا أمير المؤمنين و أن آدم و من دونه من الأنبياء و المرسلين تحت هذا اللواء.

و لم أر لأحد من العلماء الأعلام رفع اللّه قدرهم في دار السّلام كلاما في هذا المرام، فلا بأس بالإشارة إلى بعض الأخبار في المقام ثم التعرض لبعض المقاصد التي يصل إليها أكثر الأفهام، فإنه ليس كل ما يعلم يقال، و لا كل ما يقال حضر له

______________________________

(1) إبراهيم: 34.

(2) بحار الأنوار: ج 98/ 218.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 322

رجال، و لا كلما حضر له رجال حان له المجال.

ففي «العيون» عن مولانا الرضا عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا علي! أنت أول من يدخل الجنة و بيدك لوائي، و هو لواء الحمد، و هو سبعون شقة الشقة منه أوسع من الشمس و القمر» «1».

و

فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا علي! إني سألت ربي فيك خمس خصال فأعطانيها، أحدها أن يجعلك حامل لوائي، و هو لواء اللّه الأكبر

مكتوب عليه المفلحون هم الفائزون بالجنة» «2» الخبر.

و في «المناقب» عن مقاتل، و الضحاك، و عطاء، و ابن عباس في قوله تعالى:

وَ مِنْهُمْ أي من المنافقين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ و

أنت تخطب على منبرك تقول:

إنّ حامل لواء الحمد يوم القيامة علي بن أبي طالب

حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ تفرقوا و قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً على المنبر استهزاء بذلك كأنهم لم يسمعوا، ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «3»» «4».

و

في «العلل»: «يا علي! أنت أول من يدخل الجنة، فقلت: يا رسول اللّه أدخلها قبلك؟ قال: نعم، لأنك صاحب لوائي في الآخرة كما أنّك صاحب لوائي في الدنيا و حامل اللواء هو المتقدّم ثم قال عليه السّلام: يا علي! كأني بك و قد دخلت الجنة و بيدك لوائي و هو لواء الحمد تحته آدم فمن دونه «5».

و

في «تفسير فرات بن إبراهيم» عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي أعطى يوم القيامة أربعة

______________________________

(1) العيون: ص 168، و عنه البحار: ج 8/ 4.

(2) العيون: ص 198، و عنه البحار: ج 8/ 4.

(3) سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 16.

(4) المناقب: ج 2/ 21، و عنه البحار: ج 39/ 213.

(5) علل الشرائع ص 68 و عنه البحار ج 39 ص 217 ح 9. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 323

ألوية فلواء الحمد بيدي، و أدفع لواء التهليل لعلي، و أوجّهه في أول فوج و هم الذين يحاسبون حسابا يسيرا، و يدخلون الجنة بغير حساب عليهم، و أدفع لواء التكبير إلى حمزة، و أوّجهه في الفوج الثاني، و أدفع لواء التسبيح إلى جعفر، و أوجّهه في الفوج الثالث، ثم أقيم على

أمتي أشفع لهم ثم أكون أنا القائد و إبراهيم السائق حتى أدخل أمتي الجنة» «1».

و

في «الأمالي» بالإسناد: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: آخى بين المسلمين ثم قال: «يا علي أنت أخي و أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، أما علمت يا علي أنّه أول من يدعى به يوم القيامة يدعى بي، فأقوم عن يمين العرش فأكسى حلّة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بأبينا إبراهيم فيقوم سماطين «2» عن يمين العرش في ظلّه فيكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ألا و إني أخبرك يا علي إن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشرّك يا علي إنّ أول من يدعى يوم القيامة يدعى بك هذا لقرابتك مني و منزلتك عندي، فيدفع إليك لوائي و هو لواء الحمد فتسير به بين السماطين، و إن آدم و جميع من خلق اللّه يستظلون بظل لوائي يوم القيامة، و طوله مسيرة ألف سنة، سنانه ياقوتة حمراء، قصبه فضة بيضاء، زجه «3» درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور، ذوابة في المشرق، و ذوابة في المغرب، و ذوابة في وسط الدنيا، مكتوب عليها ثلاث أسطر:

السطر الأول «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، و الآخر «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و الثالث «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه»، طول كل سطر مسيرة ألف سنة، و عرضه مسيرة

______________________________

(1) تفسير فرات ص 206 و عنه البحار ج 8 ص 7 ح 11.

(2) السماط (بكسر السين المهملة): الشي ء المصطف.

(3) الزج (بضم الزاي): الحديدة التي في أسفل الرمح. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 324

ألف سنة، فتسير باللواء و الحسن عن يمينك، و الحسين عن يسارك حتى

تقف بيني و بين إبراهيم في ظل العرش فتكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم ينادي مناد من عند العرش: نعم الأب أبوك إبراهيم، و نعم الأخ أخوك علي، ألا و إني أبشرك يا علي إنك تدعى إذا دعيت و تكسى إذا كسيت و تحيى إذا حييت «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و الإشارة الإجمالية أنك قد سمعت أنّ الحمد الحقي الفعلي هو الحقيقي الذاتي الذي هو المشية الكلية، و الحقيقية المحمدية، و اسمه في السماء أحمد، و في الأرض محمد كما في الخبر يعني أن اسمه في سماء الرفعة و الوجود و الإقبال و الاستفاضة هو احمد بزيادة الألف في أوله للإشعار إلى مقام الإقبال و شدة التوجه و التجريد و الانغماس في بحر التوحيد و لذا أفاد معنى التفضيل فإنه خير مظهر و مظهر أول المحامد الربانية فظهر به مجده و ثنائه، و تجلى فيه قدسه و بهاؤه، تجلى له ربه فأشرق، و طالعه فتلألأ، و ألقى في هويته مثاله فأظهر عنه أفعاله.

و في أرض الانوجاد و الإمكان و الإدبار و الإفاضة على غيره هو محمّد بزيادة الميمين إشارة إلى المقام المخصوص به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون علي عليه السّلام و هو طوافه حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة.

كما

في خبر جابر الأنصاري عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تفسير قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «2»، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أول ما خلق اللّه نور نبيك يا جابر ابتدعه عن نوره و اشتقه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد للّه

تعظيما، ففتق منه نور علي، فكان نوري محيطا

______________________________

(1) أمالي الصدوق ص 195 و عنه البحار ج 8 ص 1 ح 1.

(2) آل عمران: 110. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 325

بالعظمة، و نور علي محيطا بالقدرة، ثم خلق العرش و اللوح و الشمس» «1» الخبر

و قد مر الكلام في بيان الخبر فلاحظ.

فنبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشتق من الحمد على الوجهين بالاشتقاق اللفظي و المعنوي ليطابق الظاهر الباطن، بل هو مشتق من اسمه سبحانه الحميد و المحمود بالاشتقاق المعنوي، فهو العزيز الحميد، و هذا محمد.

و

في الخبر: «أنا المحمود و أنت محمد شققت لك اسما من اسمي» «2».

و إليه أشار أبو طالب (رضي اللّه عنه) في قصيدته في مدح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ألم تر أن اللّه أرسل عبده ببرهانه و اللّه أعلى و أمجد

و شقّ له من اسمه ليجله فذو العرش محمود و هذا محمّد «3»

فالحمد و الثناء كله للّه و باللّه و من اللّه إلا أنه ليس في مرتبة ذاته الأحدية المجردة الذي ليس له اسم و لا رسم و لا وصف و لا نعت، بل إنما هو في مرتبة فعله، و فعله حادث ليس معه قديما بالقدم الأزلية سبحانه له القوة القوية و القدم الأزلية، بل القدم المضاف إلى الفعل إنما هو القدم في عالم الإمكان و في صقع الوجود المطلق و المشية الكلية و الحقيقية المحمدية.

كما

في الخطبة الغديرية الأميرية على ما رواه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في «المتهجد» بالإسناد عن مولانا الرضا عليه السّلام و فيها: «و أشهد أن محمدا عبده و رسوله استخلصه في القدم على سائر الأمم ...

إلى قوله عليه السّلام: «و أن

اللّه اختص لنفسه بعد نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من بريته خاصة علاهم بتعليته و سما بهم إلى رتبته و جعلهم الدعاة بالحق إليه، و الأدلاء بالإرشاد إليه لقرن

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 25 ص 22 ح 38.

(2) أمالي الصدوق ص 213 و عنه البحار 18 ص 338.

(3) بحار الأنوار ج 16 ص 120 و قيل: الشعر لحسان. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 326

قرن و زمن زمن.

أنشاهم في القدم قبل كل مذروء و مبروء، أنوارا أنطقها بتحميده، و ألهمها شكره و تمجيده، و جعلها الحجج على كل معترف له بملكة الربوبية و سلطان العبودية و استنطق بها الخرسان بأنواع اللغات بخوعا «1» له بأنه فاطر الأرضين و السموات و أشهدهم خلق خلقه و ولّاهم ما شاء من أمره و جعلهم تراجمة مشيته، و ألسن إرادته، عبيدا لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون» «2».

و قد ظهر من هذه الخطبة الشريفة كما في الأخبار المتواترة أنهم هم الفيض الأول، و النور المشرق من صبح الأزل، و أن اللّه أنشأهم في القدم قبل كل شي ء، و ولّاهم أمر كل شي ء، فظهر بوجودهم محامده الفعلية الأولية، و بوساطتهم لخلق الخلائق و رزقهم و ساير فيوضهم و تجلياتهم نعمه الجليلة الجميلة التي لا تحصى و لا تستقصى على جميع خلقه، فاللواء هو العلم الذي يرفعه الأمير للشهرة و لظهور النصرة و لتحقق الإمرة، و حيث أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الواسطة لجميع الإفاضات الربانية و النعم الإلهية، بل به ظهر مجده و ثناؤه، و قدسه و فعله، و أمره و مشيته، فهو الظاهر و المظهر و المظهر، و هو المخصوص بلواء الحمد

و الثناء و المجد و البهاء و القدس و السناء و النور و الضياء و النعمة و العطاء.

و أما إن حامله علي عليه السّلام فلأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مدينة العلم و الحكمة و علي بابها، و قد قال اللّه تعالى: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «3».

و لذا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صاحب التنزيل و علي عليه السّلام صاحب التأويل، فإن المراد بالعلم في خبر المدينة الأعم من التكويني و التشريعي، فلا يصل شي ء من الفيوض إلى

______________________________

(1) البخوع: المبالغة في الإذعان و الإقرار.

(2) مصباح المتهجد ص 524 و عنه البحار ج 97 ص 113.

(3) البقرة: 189.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 327

أحد من الخلايق إلا بواسطته، و الخروج من يده، لأنه من حجاب القدرة، و طائف حول حجاب العظمة، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حجاب العظمة، و طائف حول حجاب القدرة، و بالجملة فالولاية المطلقة التامة العامة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الحامل لتلك الولاية و المتصدي لإحيائها إنما هو مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في جميع العوالم التكوينية و التشريعية.

و لذا يكون تحتها آدم و من دونه من الأنبياء و المرسلين و الأوصياء و الصديقين و الملائكة المقربين صلى اللّه على محمد و آله و عليهم أجمعين.

و هذا لضرب من البيان و إلا فتحتها جميع العالم من الدرة إلى الذرة، و من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، بل جميع ما خلق اللّه سبحانه من ألف ألف عالم، و ألف ألف آدم في جميع الأكوار و الأدوار و الأوطار و الأطوار إلى غير ذلك مما لا يعلمه أحد

إلا اللّه العزيز الجبار و لذا

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خبر «الأمالي»: «إن آدم و جميع من خلق اللّه يستظلون بظل لوائي يوم القيامة».

و من هنا يظهر أن الإختصاص و الحمل للواء ليس في خصوص الآخرة، بل في الدنيا أيضا و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخبر المتقدم عن «العلل»: «إنّك صاحب لوائي في الآخرة كما أنت صاحب لوائي في الدنيا» «1».

نعم ظهور هذا اللواء أعني الولاية المطلقة إنما يكون في الآخرة يوم تبلى السرائر، هنالك الولاية للّه الحق، إذ له الملك و له الحمد، هو المالك لما ملكهم، و القادر على ما عليه أقدرهم.

و أما إن له سبعين شقّة كل شقّة منه أوسع من الشمس و القمر فهو إشارة إلى كماله و تماميته في عالم الإمكان و الأكوان، و أنه ليس له في هذا العالم قصور و لا

______________________________

(1) العلل ص 68 و عنه البحار ج 39 ص 217 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 328

نقصان، فإن السبعة هي العدد الكامل، و النور الشامل من أول الإفراد إلى ثاني الأزواج، و من أول الأزواج إلى ثاني الأفراد، و ظهور انبساطه و ترقيه إنما هو بالترقي إلى العشرات، و لذا يعبر به عن الأعداد الكاملة التي لها الغاية القصوى كقوله إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «1».

و

للنبوي: «إنه ليغان على قلبي و إني لأستغفر اللّه في كل يوم سبعين مرة» «2».

مع أن تعدد الشقة باعتبار تعدد العوالم، فإن كل شقة منها محيطة بعالم من العوالم، و لذا تكون أوسع من الشمس و القمر في الإحاطة و الضياء و البهاء و النور.

بل في كلام بعض

السادة الأعلام: أنه ورد أن له سبعين ألف شقة، لكن الخطب سهل بعد ما علم أنه يعبر عن الكثرة العددية بهذا العدد و إن لم يكن مقصودا بالخصوص كما يعبّر عنها بعدد الألف أيضا، منه ما

في خبر «الأمالي» من أن طول كل سطر و عرضه ألف سنة «3».

و كأنه من سني الربوبية الصغرى أو الكبرى، وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «4» و له كل يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «5».

بل عرض كل من الأسطر الثلاثة و طولها بقدر عالم الأكوان و الإمكان، فإن كل شي ء من الموجودات رقمت عليه الأسطر الثلاثة بحيث قد استوعب جميعه من ظاهره و باطن و ملكه و ملكوته، بل لا تزاحم بين الأسطر و لا تدافع فيها فكل سطر منها محيط بكله فكل شي ء موسوم بسمة اللّه.

______________________________

(1) التوبة: 80.

(2) كشف التوبة ص 254 و عنه البحار ج 25 ص 204.

(3) أمالي الصدوق ص 195 و عنه البحار ج 8 ص 1 ح 1.

(4) الحج: 47.

(5) المعارج: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 329

كما عن الرضا عليه السّلام في تفسير البسملة «1».

مظهر لثنائه سبحانه، بل مظهر له بأفصح لسانه دال بجميع وجوده و جهات ظهوره على توحيد خلقه و تتريهه من سمات الحدوث و النقصان و الإقرار بالبابية الكبرى، و الوساطة العظمى للنورين الأولين القديمين في عالم الكون و الإمكان، و هو محمد و علي (صلوات اللّه عليهما و آلهما) فإن من لم يقر لهما بهذا المقام لم يخرج من غسق العدم إلى عتبة الوجود، و الأخبار بذلك كثيرة، بل يدل عليه أيضا ما ورد من أن أسمائهم مكتوبة على العرش الذي أظهر إطلاقاته في المقام هو

جملة العالم.

نعم لو أطلق في مقابلة غيره أريد منه الخصوصية كما

في «الإحتجاج» عن الصادق عليه السّلام و فيه ما يدل على أصل المقصود أيضا قال عليه السّلام: «لمّا خلق اللّه العرش كتب على قوائمه: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، على أمير المؤمنين، و لمّا خلق اللّه الماء كتب على مجراه لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين، و لمّا خلق اللّه (عزّ و جل) إسرافيل كتب على جبهته: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، على أمير المؤمنين، و لما خلق اللّه (عزّ و جل) جبريل كتب على جناحيه: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين، و لما خلق اللّه (عزّ و جل) السموات كتب على أكتافها: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين، و لما خلق اللّه (عزّ و جل) الأرضين كتب في أطباقها: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين».

ثم ذكر عليه السّلام الجبال و الشمس و القمر، ثم قال: «و هو السواد الذي ترونه في القمر، فإذا قال أحدكم: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، فليقل: علي أمير المؤمنين

______________________________

(1) معاني الأخبار ص 3 و عنه البحار ج 92 ص 230. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 330

ولي اللّه» الخبر «1».

و هذه السطور و الأرقام كلها في هذه اللواء، بل سائر الأشياء كلّها مرقومة بقلم النور من مداد السرور في صحيفة الظهور و قد كتبه مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اللّه سبحانه حين أشهدهم خلقها و ولاهم أمرها كما في الخطبة الأميرية الغديرية المتقدمة «2»، و في

خبر محمد بن سنان و غيره فالتوحيد الذي فطر اللّه عليه الخلق لا يتم إلا بالإسلام الذي هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالإيمان الذي هو مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، و لذا يستنطق الإسلام من بينات اسم محمد «3» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإيمان من بينات اسم علي عليه السّلام «4» فلا يقبل التوحيد إلا بالإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «5» مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ «6».

و لا يقبل الإسلام إلا بالإيمان يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «7».

تنبيه

تفسير الصراط المستقيم ج 3 359

ربما يقال إن قوله: (الحمد للّه) يحتمل الإخبار و الأمر و الابتداء و لعل المراد بالأخير هو الإنشاء لا مطلقة، فإن الأمر نوع منه، بل إنشاء الحمد كالدعاء، فالأولى

______________________________

(1) الإحتجاج ص 83 و عنه البحار ج 27 ص 1 ح 1.

(2) مصباح المتهجد ص 524 و عنه البحار ج 97 ص 113.

(3) فإن بينات كل منهما بحسب العدد يساوي (132).

(4) لأن بينة (علي) بحسب لعدد (102) و هو يساوي كلمة (إيمان).

(5) آل عمران: 19.

(6) الحج: 78.

(7) الحجرات: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 331

أن يقال: إنه يحتمل الإنشاء و الإخبار.

و على كل من الوجهين إما بتقدير القول و ما معناه، كاحمدوا و أشكروا و نحوهما، أولا، فالاحتمالات أربعة.

فعلى الإنشاء هو إنشاء من اللّه لحمد ذاته بذاته فيتحد الحامد و المحمود و الحمد، و إن كان في مقام الواحدية لعدم إيجابه التغاير أو بفعله فيتغاير الحمد الحامد و المحمود.

و يؤيد الإنشاء على الوجهين أو على

الوجه الثاني خاصة

قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «1»

إشارة إلى ذلك إذ هو مع ظهوره في كون الثناء منه سبحانه، ظاهر في الإنشاء أيضا، و إن أوجب ذلك تعليم غيره أيضا، فإنه لا يوجب انحصار الفائدة فيه، و على فرضه لا يستلزم أن يكون الكلام مسوقا على وجه الأمر.

و على الثاني لا بد من إضمار، و أنسبه على ما قيل: لفظ القول لاقترانه في مواضع كقوله: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً «2» وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ «3» قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ «4».

فالمعنى قولوا: الحمد للّه.

أو أنه حمد من اللّه على لسان عبده كقوله: «سمع اللّه لمن حوله».

و على الإخبار إخبار منه سبحانه بأن المحامد كلها منه، و له، فهو المختص

______________________________

(1) الإقبال ص 47- 57 و عنه البحار ج 97 ص 328 و فيه/ لا أحصي الثناء عليك و لو حرصت، و أنت كما أثنيت على نفسك سبحانك و بحمدك.

(2) الإسراء: 111.

(3) النمل: 93.

(4) النمل: 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 332

بها، أو أن الأمر له كقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ «1» بناء على ما قيل: من أن الحمد بمعنى الأمر بل عليه يحمل قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ «2».

و لعله بناء على كون الأمر بمعنى الشأن، ليشمل جميع الشؤون التكوينية و التشريعية في العوالم كلها، فيرجع إلى اختصاصه سبحانه بالمحامد كلها لكنه على إضمار القول لما كان العبد عاجزا عن عدّ نعمه سبحانه وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «3» و عن الشكر عليها كما هو أهله و مستحقه، فلذا أجمل القول و

عمّم، فأثبت جميع المحامد الشامل للمحامد الذاتية و الفعلية من الحقية و الحقيقة و الخلقية له سبحانه، و إلّا فإحصاء محامده مما لا يطيقه البشر بل لا يطيق شكر نعمة واحدة من نعمه الكثيرة التي لا تتناهى.

حسب ما سمعت في كلام مولانا سيد الشهداء روحي و روح العالمين له الفداء «4».

بل

في دعاء سجود الشكر للسيد السجاد عليه السّلام: «إلهي لو أني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل شعرة في كل طرفة عين سرمد الأبد بحمد الخلايق و شكرهم أجمعين لكنت مقصّرا في بلوغ أداء شكر أخفى نعمة من نعمك» «5».

و بالجملة فلكون الغرض إفادة الشمول و العموم أتى بالمصدر المعرّف بلام الجنس، أو الاستغراق، حسب ما تسمع مرفوعا على الابتداء، و خبره للّه ليدلّ على

______________________________

(1) آل عمران: 154.

(2) النصر: 3.

(3) النحل: 18.

(4) بحار الأنوار: ج 98/ 218 دعاء عرفة.

(5) البحار: ج 94/ 90.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 333

الإستيعاب و الاستقصاء مضافا إلى إفادته الدوام و الثبات، و عدم تقيّده بواحد من الأزمنة مطلقا، بناء على عدم ثبوت المحامد الذاتية و الفعلية له سبحانه قبل خلق الزمان و المكان، فإنهما من أنزل مراتب الأكوان و الإمكان.

و هذه الفوائد لا تستفاد من المصدر المنكّر إذ المرفوع منه يدل على ثبوت الفرد الواحد المنتشر على البدلية، و المنصوب منه مفعول مطلق لفعل محذوف لا يكاد يستعمل معه كقولك سقيا و رعيا، و هو مع إفادته للفرد لكونه مفعولا مطلقا نوعيا، لا توكيديا لكون مدلوله معرفا باللام زايدا على مدلول الفعل، و لا عدديا لانتفاء ما يدلّ عليه يدلّ على التجدد و الحدوث و التقيد بشي ء من الأزمنة خاصة.

و لهذه الجملة لم

يأت بالجملة الفعلية أيضا، فإنها تدلّ على ثبوت حمد خاصّ عن حامد واحد في واحد من الأزمنة، و أين هذا ممّا سمعت من ثبوت المحامد كلها من جميع الحامدين له سبحانه على سبيل الدوام و الاستقرار و الثبوت.

اشارة الى معنى الالف و اللام في الحمد

اعلم أنّ الألف و اللام في قوله (الحمد للّه) يمكن أن يكون للإشارة إلى الطبيعة الجنسية فإن هذه الطبيعة لا يستحقه بحقيقة الاستحقاق إلا اللّه لاختصاصه به، أو لكونه ملكا له، و للحقيقة المتقررة لما مر، و للعهد الذهني و معناه على ما قيل الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو.

بل في بعض حواشي «الكشاف»: أن تعريف الحقيقة راجع إلى تعريف العهد الذهني كما عليه المحققون نظرا إلى أن اللفظ الدال على الماهية من غير نظر إلى وحدة و كثرة و استغراق و عدمه و تعين و إبهام ذهنا أو خارجا و إن لم يخل عن أحدها هو المطلق، و الدال عليها باعتبار تعينها ذهنا بنفسه علم الجنس، و بأداة التعريف هو

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 334

المعرّف بتعريف الماهية، و الفرق بين ملاحظة التعين و مصاحبة التعين بيّن.

و قولك: أدخل السوق لمن بينك و بينه سوق معهود من هذا القبيل، لأنّ الدالّ على الحقيقة صالح للإطلاق على الفرد الخارجي المشتمل عليها معيّنا كان فيه أو لا، و قد جعل قسما برأسه و ضم النشر بقدر الإمكان أولى.

قلت: لكن لا يخفى أن الماهية الملحوظة من حيث تحصّلها في ضمن فرد ما و لو مع عدم التعيين كما هو المعهود في العهد مغايرة للملحوظة من حيث نفسها مع قطع النظر عن تحققها في ضمن الأفراد أو مع ملاحظة العدم كما هو الملحوظ في القسمين الأولين

من الأقسام المتقدمة فضم النشر خير مع الإحصاء لا الضياع و للاستغراق الجنسي أو الخصائصي أو الإفرادي نظرا إلى اختصاصه سبحانه بجميع المحامد و بالحقيقة الملحوظة في ضمنها أو المستجمعة لخصائصها.

و قد حكي حمل اللام على الاستغراق عن الجمهور بل المشهور و يحتمل الحمل على كل من الثلاثة و إن كان محط أنظارهم بل الظاهر من عباراتهم هو الإفرادي و لعل غيره أبلغ و للعهد بإرادة أكمل أفراده و هو حمده تعالى لذاته كما يليق بكماله و ينبغي لكرم وجهه و عز جلاله كما في التحميد الذي تقدمت الإشارة إلى مراتبه الأربعة، و لذا

قال سيد المرسلين (صلى اللّه عليه و آله أجمعين): «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «1».

و لعل هذا هو الوجه في حمل اللام على العهد في المقام، كما عن بعض الأعلام لكنه لا يخفى عليك بعد ملاحظة ما مر من أقسام الحمد الحقي و الحقيقي و الإطلاقي من حيث الذات و الفعل بشئونه و أطواره أنه من حيث الحقيقة و الفرد مخصوص به سبحانه فجميع المحامد منه و له، فإن أبيت عن حمل اللام على جميع

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 71/ 23 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 335

معانيها و لو لإرجاعها إلى معنى واحد أو لاعتبار مراتب البطون، فإن القرآن ذلول ذو وجوه و له ظهور و بطون، فلا أقل من حملها على الاستغراق الجنسي الدال على استيعاب جميع الأفراد التي تقدمت إليها الإشارة و أما ما في «الكشاف» من أنه لتعريف الجنس و معناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو نحو التعريف في «أرسلها العراك» «1» و إن الاستغراق الذي يتوهمه

كثير من الناس و هم منهم «2»- انتهى.

ففيه أنه أولى بالوهم لما سمعت، نعم ذكر المتعرضون لكلامه في توجيهه وجوها.

منها: أنه مبني على مسألة خلق الأعمال، فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة الذين هو منهم كانت المحامد كلها راجعة إليهم، فلا يصح اختصاص المحامد كلها به سبحانه، و فيه: أنه لا يمنع أن تمكين العباد و إقدارهم على الأعمال التي يستحقون بها الحمد إنما هو منه سبحانه بل لوح إليه في سورة التغابن حيث قال في قوله: لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ «3» قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك و الحمد باللّه تعالى لأنهما على الحقيقة، لأنه مبدء كل شي ء و مبدعه، و أصول النعم و فروعها منه، ثم قال: و أما حمد غيره فاعتداد بأن نعمة اللّه جرت على يده «4» انتهى.

و بالجملة فالأفعال و إن كانت منسوبة إلى العبيد من حيث إن لهم الإختيار

______________________________

(1) من كلام لبيد العامري ان ربيعة الشاعر المخضرم المتوفي في أول خلافة معاوية في بيت: و أرسلها العراك و لم يذدهاو لم يشفق على نغص الدخال

(2) الكشاف ج 1 ص 49 ط بيروت دار الفكر.

(3) الغابن: 1.

(4) حاشية الكشاف للسيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفي (816) ص 52 ر ط بيروت دار الفكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 336

فيها إلا أن جميع ما للعبد من الآلات و الأدوات و الأعضاء و الجوارح و المشاعر و القوى و غيرها كلها فائضة من اللّه و هو سبحانه يستحق الحمد و الشكر على إفاضتها و إبقائها في كل آن من الآنات بما لا يقوم به أحد من عبيده حسب ما مرت إلى جملة منها الإشارة.

هذا مضافا إلى

أن البناء على مسألة خلق الأعمال، كما أنه يمنع من الحمل على الاستغراق كذلك يمنع من الحمل على الجنس فإنه لا يصح حينئذ اختصاص الجنس به سبحانه، و الحمل على التوسع و أصول النعم مشترك بالنسبة إلى المعنيين.

و قد ذكر في «الكشاف» في قوله وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «1» أن اللام فيه للجنس فيتناول كل محسن «2»، و في قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «3» أنه للجنس مع وجود الاستثناء الدال على شمول الإفراد.

إلا أن يقال: إنه قد أراد بالجنس هنا غير ما أراد به هناك كما قيل، و هو كما ترى.

و منها أن هذه المصادر نائبة مناب الفعل و سادّة مسدّه و الأصل فيها النصب و العدول إلى الرفع بجمل الجملة اسمية للدلالة على الدوام و الثبات، و الفعل إنما يدل على الحقيقة دون الاستغراق فكذا ينوب منابه.

و فيه أن النائب عن الفعل إنّما هو المصدر المجرد القائم مقامه إذ هو المؤدى لمدلوله، و أما المعرف باللام فلا مانع من استفادة الاستغراق منه من جهة التعريف الذي هو بمنزلة القرينة، أو من باب تعدد كل من الدال و المدلول.

على أن النيابة إنما هي في جوهر الكلمة لا في جميع مقتضيات الصورة

______________________________

(1) آل عمران: 134.

(2) الكشاف: ج 1/ 464 ط بيروت.

(3) العصر: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 337

و الهيئة و إلا لامتنع التغاير من حيث الاسمية و الفعلية و مقتضياتها و مع ضرورة التغاير فيها نقول: إنه منها.

و منها: أن الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال سيما في المصادر، و عند خفاء قرائن الاستغراق.

و فيه المنع عن التبادر و الغلبة سيما في مقام المخاطبة و عند الامتنان و التعليم و التعظيم و الشكر،

بل قيل: أيّ مقام أدلّ بملاحظة الشمول و الاستغراق من مقام تخصيص الحمد باللّه سبحانه تعظيما له فقرينة الاستغراق فيما نحن فيه كنار على علم.

و منها: ما ذكره غياث المحققين «1» من أن الحق أن السبب في الإختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام، و هو مستلزم لاختصاص جميع الأفراد به تعالى فلا حاجة في تأدية المقصود الذي هو ثبوت الحمد له تعالى و انتفاؤه من غيره إلى أن يلاحظ الشمول و الإحاطة و يستعان فيه بالأمور الخارجة عن اللفظ «2».

و فيه مع الغضّ عن منع الاستلزام بحيث يتعلق المقصود به لاختلاف المقاصد في ذلك و لو باعتبار تطرّق الانصراف إلى العموم الجنسي في الجملة دن الاستغراقي، و عن منع الحاجة في إفادة الشمول إلى الاستعانة بالأمور الخارجة أزيد مما تحتاج إليه في إفادة الجنس لاستفادة كل منهما من اللام و لو بمساعدة المقام للقرينة على المرام.

أنّ الظاهر من كلام الزمخشري كما فهمه غير واحد منه نفي الاستغراق في

______________________________

(1) المراد به السيد الشريف الجرجاني المتوفي (816) المتقدم ذكره.

(2) حاشية الكشاف للجرجاني ج 1 ص 52.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 338

المقام، و عدم الحمل عليه، و ظاهره أنه من جهة عدم الصلاحية، لا من جهة الحاجة إلى الاستعانة بالأمور الخارجة و عدمها في إفادته أو كونه مجازا محتاجا إلى القرينة و لذا تريه في كثير من الموارد يذكر الوجوه و الاحتمالات الظاهرة و غيرها من غير اقتصار منه على المعاني الحقيقية أو الوجوه الراجحة.

هذا كله بعد تسليم التجوز و عدم الظهور أو ظهور العدم بالنسبة إلى الاستغراق.

و من جميع ما مر يظهر النظر بما ذكره التفتازاني و تبعه بعض من تأخر عنه من

أن اللام للتعريف إجماعا و معناه التعيين و الإشارة، و هذا ليس في شي ء من الإحاطة و الشمول الذي هو معنى الاستغراق.

قال و هذا معنى ما حكي عن بعض النحاة أن اللام لا يفيد سوى التعريف و الإشارة، و الاسم لا يدل إلا على مسمّاه، فإذا لا يكون ثمّت استغراق، و لذا حصر في «المفصل» فائدة اللام في التعريف في العهد و الجنس، ثم ذكر تحقيقا حاصله أنّ إفادة اللام الاستغراق إنما هي لدلالتها على الماهية من حيث وجوده في ضمن الأفراد و عدم وجدان القرينة البعضية ففي المقام الخطابي يحمل على العموم و الاستغراق احترازا عن ترجيح أحد المتساويين، و مثله لفظ كل مضافا إلى النكرة، و في مقام الاستدلال على الأقل لأنه المتيقن، بل في «كشف معضلات الكشاف»:

الدال على الماهية مع كثرة غير معينة اسم الجمع و مع الكثرة المستوعبة الاسم المستغرق و هو العام عند الأصولي.

قال: و منه ظهر أن الاستغراق ليس من التعريف في شي ء، و كفاك استغراق نحو «لا رجل» و «تمرة خير من جرادة» شاهدا فلا بد معه من اعتبار تعين ذهني أو خارجي، فلا يخرج من القسمين أعني تعريف الحقيقة أو العهد الخارجي.

ثم ذكر أن إرادة الاستغراق إنما هو على وجه التجوز حتى عند الأصوليين

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 339

إلا أن هذا التجوز مستمر عند أكثرهم في الجموع المعرفة باللام، و عند بعضهم في المفرد الجنسي المعرف بها أيضا عند عدم العهد فيهما، لكن الأكثر على منع الاستمرار.

و منه يظهر أن الاستغراق في المقام أولا و هم، و ثانيا يأبى المقام عنه لأن اختصاص حقيقة الحمد به سبحانه أبلغ من اختصاص أفرادها جمعا و فرادى.

و فيه أن

حصر وجه إفادة اللام الاستغراق فيما ذكره غير جيد، فإنه قد يكون من جهة الوضع و من جهة قرينة المقام و دلالتها على استيعاب الأفراد و تعليق الحكم على كل فرد منها، و أين هذا من الحمل على العموم إذا وقع في كلام الحكيم احترازا عن ترجيح أحد المتساويين المعبر عنه عند الأصوليين بالعموم من جهة الحكمة.

و أما ما ذكره صاحب «الكشف» من حصر معنى اللام في تعريف الحقيقة و العهد الخارجي، ففي غاية الغرابة، كيف و قد جعلوا الاستغراق قسيما لهما بعد اعتبار التعين بالنسبة إلى الأفراد، من أنك قد سمعت أن اللام وضعت للإشارة إلى مدلول مدخولها الذي ربما يكون هي الماهية من حيث تحصلها في ضمن جميع الأفراد، و قد أجمعوا على أن الجمع المحلى باللام يفيد العموم على وجه الاستغراق إذا لم يكن هناك قرينة على إرادة الجنس أو العهد، بل قيل: إنه ظاهر، بل حقيقة في العموم الإفرادي، لا الجمعي، و المجموعي، حسب ما هو ظاهر من ملاحظة العرف و اللغة لقضية التبادر و غيره من أماراة الحقيقة نعم قد يتأمل في كون ذلك هل هو على وجه تعدد الدال و المدلول أو من جهة أن هذا وضع مستقل للهيئة التركيبية بحيث صار سببا لهجر المعنى الذي كان يقتضيه الأصل، و هو كلام آخر محرر في الأصول.

و على كل حال فلا ريب في كون الاستغراق من المعاني التي يفيده المعرف باللام كسائر ما يفيده و لو بقرينة المقام من العهد و الجنس و غيرهما حسب ما

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 340

سمعت، فالفصل بينهما ليس بالفصل بل هو قول هزل.

و مرادهم من إطلاق الاستغراق هو التعريف على هذا الوجه نظير إطلاقهم

الجنس و العهد، فيسقط ما ذكره من دعوى أن الاستغراق ليس من التعريف في شي ء و إرجاعه مع التعين الذهني أو الخارجي إلى أحد القسمين حسبما ذكره من الغرائب، و أغرب منه نسبته إلى الأصوليين كون ذلك في الجموع على وجه التجوز و حمله على التجوز من حيث اللغة أو وضع المفردات كما ترى.

و أما دعوى كون اختصاص حقيقة الحمد به أبلغ من اختصاص أفرادها.

ففيها أنك قد سمعت أن للحمد مقامات و درجات كالحمد الحقي و الحقيقي و الخلقي و الإطلاقي و كل ذلك إما في مقام الذات أو الفعل و بعضه إما بالجنان أو بالأركان أو باللسان أو بالجميع، و من البيّن أنّ الأكمل في مقام الثناء إثباته له بجميع مقاماته و درجاته كما

في الدعاء: «الحمد للّه كلّما حمد اللّه شي ء، و كما يحب اللّه أن يحمد، و كما هو أهله و كما ينبغي لكرم وجه و عز جلاله» «1».

فالأول يدل على الإستيعاب، و الثلاث الأخر على الكيفية.

و أما ما ذكره في «الكشف» و غيره من أن المستغرق لا يجوز أن يختص به تعالى، بل الحمد الحقيقي الكامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات فاللام للحقيقة و يراد أكمل أنواعه من باب «ذلك الكتاب» و حاتم الجواد، إشعارا بأنه هو الحمد الذي يحق أن يطلق عليه الحقيقة كأنه كل الحقيقة.

ففيه أنه يمكنه أيضا إختيار الاستغراق، بناء على تنزيل ما عدا محامده سبحانه منزلة العدم، إذ لا يعبؤ بمحامد غيره بالقياس إلى محامده، فلا فرق بين المعنيين في صلاحيتهما لتأويل يصح معه الإختصاص.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 86/ 44 ح 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 341

نعم ربما يقال: إن الوهم الذي ردّه صاحب «الكشاف» هو كون الاستغراق

معنى تعريف الجنس لا كونه مستفادا من المعرف بلام الجنس على الشمول و الإحاطة.

بل في بعض حواشي «الكشاف» استنباط القول عن ذلك حيث قال: أنه توهم كثير من الناس أن معنى تعريف الجنس هو الاستغراق.

قال: و يبطله أن الاستغراق قد يتحقق في النفي و الإثبات و ليس معه تعريف أصلا كما في «لا رجل و تمرة خير من جرادة».

أقول: و هذا بمعزل عما يستفاد من ظاهر العبارة على ما فهمه الناظرون في كلامه أن تعريف الجنس بالاستغراق لم نعرفه من أحد فضلا من أن يعزى إلى توهم كثير من الناس.

و كأنه إنما دعاهم إلى توهم القول و النسبة مجرد تصحيح العبارة و هو كما ترى.

و أما الخلط بين الاستغراق و تعريفه فقد مرت الإشارة إليه.

نعم، عن الزركشي «1»: «يشبه أن يكون مراد الزمخشري أن المطلوب من العبد إنشاء الحمد لا الإخبار به، و حينئذ يستحيل كونها للاستغراق إذ لا يمكن للعبد أن ينشئ جميع المحامد منه، و من غيره بخلاف كونها للجنس و فيه نظر.

______________________________

(1) الزركشي: محمد بن عبد اللّه بن بهادر الفقيه الأصولي المحدث الشافعي المتوفى (794) ه- حسن المحاضرة: ج 1/ 248.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 343

الفصل الثاني فيما يتعلق بقوله تعالى «لله»

قد أسلفنا بعض ما يتعلّق بهذا الاسم الأعظم و الجامع المقدم.

و نقول الآن: إنما نسب الحمد إليه دون سائر الأسماء لأنه سبحانه حسب ما سمعت لا يمكن الإحاطة بذاته و لا بحقايق صفاته حيث إنّه لا يحيط به الأفهام و لا يدركه خواطر الظنون و الأوهام.

كما

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «الطريق مسدود و الطلب مردود».

و أما من حيث ظهوره في الظاهرة بشؤونه و أفعاله فله الأسماء الحسنى و إن كانت مختلفة من حيث العموم و

الشمول بحسب المظاهر، و قد مر أن عموم الظهور يستلزم خصوص الاسم و حيث إن أوّل ظهوره و أشمله و أعمه إنما هو بالألوهية كان هذا الاسم هو المقدم الجامع لجميع الأسماء و الصفات و قد وسع و ملأ جميع فضاء الإمكان و الأعيان و الأكوان، و شي ء من الأسماء ليس له هذه الإحاطة و العموم، فليس له هذا الاختصاص من حيث المفهوم، و لذا نسب الحمد إليه دون غيره من الأسماء للإشعار على ثبوت الحمد له و اختصاصه به بالألوهية الجامعة لجميع الصفات و الأسماء من القدس و الإضافة و الخلق في عالمي الإمكان و الأكوان لما ستعرف من أن الحق مجعولية الإمكان خلق اللّه المشية الإمكانية بنفسها و خلق الإمكانات بها، فحمده قد ملأ و وسع جميع فضاء الإمكان، فما بقي في الإمكان و لا في الأكوان فضاء و لا مكان إلا و قد ملأ حمده من جميع الجهات و الاعتبارات كما

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 344

وسعه ألوهيته.

و هو

قوله: «قد ملأ الدهر قدسه و أحاط بكل شي ء علمه، و كما أنه أعلم الأسماء و أشملها فهو أعلاها و أولها» «1».

فالحمد الذي علقه عليه أعلى المحامد و أولها، و لذا نبّه على اختصاصه به باللام المفيدة له إفادة أولية أصلية، فإنه الأصل في معانيها المتكثرة التي أنهاها بعضهم إلى نيّف و عشرين معنى و هو المراد بها في المقام، لكنه ينبغي أن يعلم أن المراد بالاختصاص هو الربط الملحوظ بين الشيئين على الوجه المعتبر في النسبة، و هذا قد يكون بالاستحقاق نحو: الحمد للّه، و الملك للّه، و العزة للّه، و ويل للمطففين، و نحوها ...، قيل: و هو المراد بها حيث وقعت بين

معنى و ذات، و قد يكون بالملك نحو:

«لك يا إلهي وحدانية العدد» «2» على ما في الصحيفة السجادية

، أي إنها ملك له سبحانه، فهي من جملة خلقه، لا انه يتصف بها في ذاته.

و مثله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «3» و هذا هو الملكية الحقيقية الأصلية و أما الفرعية الظلية فكقولك: هذا المال لزيد، و له علي عشرة دراهم، فإنها ملكية شرعية اعتبرها الشارع الحكيم في صقع الناسوت بين بني آدم بأسباب جعلية شرعية حفظا للنظام و لطفا على الأنام، مع أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، هو المالك لما ملكهم و القادر على ما عليه أقدرهم.

و قد يكون بمجرد الاختصاص و إن لم يبلغ الملكية الاعتبارية أيضا نحو الجل للفرس، و الحصير للمسجد، و المنبر للخطيب.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 93/ 255، ح 1.

(2)

الصحيفة السجادية: الدعاء 25، أولها: أللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك.

(3) طه: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 345

و قوله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «1»، و قوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «2».

و ربما يعدّ هذا الأخير من شبه التمليك، لكن الوجه ما سمعت من رجوع الجميع إلى معنى الاختصاص الذي يختلف وجوهه باعتبار الموارد و وجوه النسب التي بين الشيئين.

و لذا قسّمه بعض الأعلام ثلاثة أقسام:

اختصاص السافل بالعالي على وجه الملك، نحو: لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ «3»، و العكس نحو: رَبِّ الْعالَمِينَ «4»، و مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «5»، إذ الإضافة فيهما بتقدير اللام، و العالي و إن كان لا يلتفت إلى السافل إلا أنّ السافل من جهة استمداده منه و لواذه به و التجائه إليه ظهر به فليس له حقيقة إلا ظهور العالي به و تعريفه له بنفسه، كما

قال مولانا

أمير المؤمنين عليه السّلام: «بها تجلّى صانعها للعقول» «6».

فيكون للعالي أيضا اختصاص به من حيث الإفاضة و الإمداد و الإبقاء و اختصاص بعض المتباينين بالبينونة الاعتزالية بالآخر، و ذلك من جهة التناسب الواقع بينهما في صقع الاعتبار و الافتقار.

و على كل حال، فحقيقة الاختصاص و تمامه إنما هو اختصاص السافل بالعالي لأنه اختصاص من جميع الوجوه و بكل الاعتبارات، فإن السافل كله للعالي على الإطلاق، و هو رب الأرباب، إذ منه ذاته و وجوده و صفاته و آثاره و أفعاله.

______________________________

(1) النساء: 11.

(2) النحل: 72، الشورى: 11.

(3) التغابن: 1.

(4) فاتحة الكتاب: 2.

(5) فاتحة الكتاب: 4.

(6) بحار الأنوار: ج 4/ 230، ح 3 و ص 254، ح 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 346

و استمداده في كل ذلك لأنه قائم بأمر اللّه بالقيام الصدوري كما

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «كل شي ء سواك قام بأمرك».

و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ «1».

ثم إن الأصل في كل كلمة على حرف واحد كالواو، و الفاء، و السين، و اللام، و غيرها هو الفتح، لأن الحرف الواحد لا حظ له في الإعراب بل يقع مبتدأ في الكلام و لا يبتدأ بساكن، فاختير له الفتح، لأنه أخفّ الحركات، و الأنسب الابتداء بالأخف، فنقول: جاء زيد و عمرو أو فعمرو، و سيخرج زيد.

و قد خرج من هذه القاعدة الباء الجارة التي مضى الكلام فيها، و اللام الجازمة في «ليفعل» فرقا بينها و بين لام التوكيد، و اللام الجارة في مثل المقام فرقا بين لام الملك و لام التوكيد، فإذا قلت: إن المال لهذا- أي في ملكه- و أن المال لهذا أي هو هو.

و إنما قيّدناه بمثل

المقام لأنها إذا دخلت على المضمر ردت إلى الأصل و هو الفتح، فنقول: له و لك و لنا، لارتفاع اللبس لتغاير ضمير الجر للرفع.

نعم، كسروها مع ياء المتكلم لأن هذا الياء لا يكون قبلها مكسورا بلا فرق بين الاسم و الفعل و الحرف، نحو: غلامي و ضربني ولي.

و لذا لمّا كان الجرّ لا يدخل الفعل زادوا قبل الياء نون الوقاية، وقاية للفعل من كسر آخره.

بقي الكلام فيما يتعلق بقراءة الآية الشريفة، و قد ادّعي في «المجمع» و غيره إجماع القرّاء على ضم الدال من الْحَمْدُ و كسر اللام من لِلَّهِ

قال: «و روى في الشواذ بكسر الدال و اللام، و بضم الدال و اللام، و بفتح الدال

______________________________

(1) الروم: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 347

و كسر اللام، و أجمعوا على كسر الباء من رب، و روي عن زيد «1» بن علي نصب الباء، و يحمل على أنه بين جوازه لا أنه قراءة» «2».

و حكي في «الكشاف» القراءة بالكسرتين عن الحسن «3» البصري، و بالضمتين عن إبراهيم «4» بن أبي عبلة للاتباع فيهما، قال: و الذي جسرهما على ذلك، و الاتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم: منحدر الجبل و مغيره تنّزل الكلمتين منزلة كلمة واحدة لكثرة استعمالها مقترنتين، و جعل الأفضل قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى بخلاف قراءة الحسن» «5».

لكنه لا يخفى أن هذه القرائات كلها مشتركة في الشذوذ، فلا يجوز القراءة بشي ء منها في الصلاة و غيرها، و كذا نصب الرب المحكي عن زيد بن علي عليه السّلام و إن أمكن توجيهه بالنصب على المدح أو بما دل عليه الْحَمْدُ لِلَّهِ كأنه قيل «نحمد اللّه ربّ العالمين».

ثم إنه

قد ذكر بعض العامة في كتاب أورد فيه ضبط رسوم الكلمات أن لِلَّهِ كتب بلامين، و القياس يوجب أن يكون بثلاث لا مات، و كذا كل كلمة يجتمع فيها ثلاث لا مات حذف منها واحدة نحو: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى

أقول: و فيما ذكره من المثال ما لا يخفى، و لعل الأولى رسمه بلام واحدة لمكان التشديد كما لا يخفى.

______________________________

(1) هو: زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السّلام المعروف يزيد الشهيد، استشهد بالكوفة سنة (120) ه كما في إرشاد المفيد ص 286 أو سنة (123) ه.- كما في الأعلام: ج 3/ 98.

(2) مجمع البيان: ج 1/ 21.

(3) الحسن البصري المتوفى (110) ه.

(4) إبراهيم بن أبي عبلة شمر بن يقظان الدمشقي توفي بفلسطين سنة (152) ه. الثقات لابن حبان: ج 4/ 11.

(5) الكشاف: ج 1/ 51- 52.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 349

الفصل الثالث في معنى كلمة «رب»
اشارة

اعلم أن الربّ في الأصل إما مصدر من ربّه يربه ربا بمعنى التربية، بل يقال:

إنّ التربيّة كان في الأصل مضاعفا خفّف بتبديل الباء الثاني ياء كما في التمطي و التظني، فإن أصلهما التمطط و التظنن، و يستعمل أيضا بمعنى الإصلاح، و الجمع و الزيادة و اللزوم، و الإقامة و التطبب، و الملك، كما يظهر من «القاموس»، فالوصف به حينئذ للمبالغة على حد قولك: زيد صوم، و عمرو عدل.

و أما اسم من قولك: رب يرب فهو رب كبّر من بر يبر و أصله بار.

و إما صفة مشبهة منه كنّم ينمّ فهو نمّ، قيل: و المصدر حينئذ الربابة.

لكن في «القاموس» الرب باللام لا يطلق لغير اللّه عزّ و جل، و قد يخفف و الاسم الربابة بالكسر و الربوبية بالضم، و على ربوبي بالفتح نسبة

إلى الرب على غير قياس، و ربّ كل شي ء مالكه و مستحقّه أو صاحبه، و الجمع أرباب و ربوب و الرباني المتأله العارف باللّه عزّ و جل.

و في «توحيد الصدوق»: الرب المالك و كل من ملك شيئا فهو ربّه، و منه قوله عزّ و جل: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ «1» أي إلى سيدك و مليكك، و قال قائل يوم حنين: لئن

______________________________

(1) يوسف: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 350

يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن «1»، يريد يملكني و يصير لي ربا و مالكا، و لا يقال لمخلوق: الرب بالألف و اللام، لأن الألف و اللام دالتان على العموم، و إنما يقال للمخلوق: ربّ كذا، فيعرف بالإضافة لأنه لا يملك غيره «2».

و ظاهرهما كصريح بعض المفسرين هو الثالث، أي كونه صفة مشبهة بعد نقل المشتق منه إلى فعل اللازم، جعلا له بمنزلة الغرايز كما سبق في اشتقاق الرحمن و الإضافة معنوية من قبيل كريم البلد لانتفاء عامل النصب فلا إشكال في وصف المعرفة به.

و في «الكشاف» ترجيح المصدرية على الوصفية و علّل بأبلغيته و سلامته عن تكلف جعل المتعدي لازما «3».

و فيه: منه كونه تكلفا بعد اطراده في باب المدح و الذم كما صرح به السكاكي «4» في «المفتاح».

بل الزمخشري أيضا في «الفايق» عند ذكر فقير و رفيع فالترجيح بالأبلغية حجة عليه مضافا إلى أن التربية من الصفات الفعلية التي ينبغي حمله عليه سبحانه

______________________________

(1) هو صفوان بن أمية بن خلف الجمحي أسلم بعد الفتح و مات بمكة سنة (41) ه، هرب يوم الفتح، ثم رجع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شهد معه حنينا و هو

كافر و صار من المؤلفة القلوب، أعطاه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غنائم حنين حين أسلم، و لما هرب المسلمون يوم حنين في أول القتال استبشر أبو سفيان و قال: غلبت و اللّه هوازني، إذن لا يردهم إلا البحر، فرد عليه صفوان قائلا: بفيك الكثكث- دقاق الحجارة-، لأن يربني رجل من قريش ... إلخ.

(2) كتاب التوحيد: باب أسماء اللّه تعالى، ص 203، ط قم، مؤسسة المدرسين.

(3) في الكشاف ج 1/ 52: و يجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، انتهى، و ليس فيه ترجيح و لا علة ترجيح، ما حكاه المصنف قدس سره عنه لم أظفر عليه في الكشاف.

(4) السكاكي: يوسف بن أبي بكر المتوفى (626) ه.- الأعلام: ج 3/ 160.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 351

بذو هو في ملكه لا هو هو في ذاته و بالمبالغة على الوجه الثاني ينثلم تنزيهه سبحانه و لذا يستفاد من ظاهر الأكثر كصريح بعضهم ترجيح الوصفية، و يؤيده ما

في الدعاء: «يا ربّ كل شي ء و صانعه» «1».

و على كل حال فهو يطلق على السيّد المطاع، و حمل عليه قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ «2».

بل عن ابن عباس حمل قوله رَبِّ الْعالَمِينَ عليه، لكنه غير جيّد، إذ السيد لا يضاف إلى غير ذوي العقول، فلا يقال: فلا يقال: سيد السموات و الأرض كما يقال: رب السموات و الأرض، و حمل العالمين على ذوي العقول لذلك تكلّف في تكلف، مع أن المقام تأبى عنه لوجوه لا تخفى، نعم المعنى المستفاد من السيادة مقصود في المقام على وجه أبلغ مما يستفاد من المعاني الآتية.

و على المربي الذي يبلغ بالشي ء إلى كماله شيئا فشيئا بالتدريج و عليه حمله

في «التيسير» بل يحمل عليه قول فرعون لموسى عليه السّلام: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «3»، بناء على ما مر من التخفيف بتبديل الباء ياء.

و لا بأس بإرادته في المقام على الوجه الذي يليق بعزّ جلاله من كون التربية له من جميع الوجوه، و على وجه القيوميّة المطلقة لا لغرض و لا لعوض يعود إليه حسب ما يأتي.

و على المالك كما يقال: ربّ الدار و ربّ الغنم.

و على الصاحب، تقول: زيد رب عمرو أي صاحبه، و يطلق عليه سبحانه كما

______________________________

(1) دعاء الجوشن الكبير، الفصل (94).

(2) يوسف: 42.

(3) الشعراء: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 352

ورد في الدعاء: «اللهم أنت رب الصاحب في السفر» «1».

و على المدبر، و منه ربّاني الأمة لمدبّر أمور دينهم و المصلح من رب القيعة «2»- أي أصلحها- و الجامع من التربب بمعنى الاجتماع و الثابت من ربّ بالمكان أي ثبت، و الدائم من أربّت السحابة أي أدامت.

و هذه المعاني و إن صحّ إطلاقها على اللّه سبحانه على وجه الأصالة و الذاتية و القيّوميّة المطلقة التي لا تليق بغيره سبحانه، إذ كل شي ء سواه قام بأمره، إلّا أنّ أمّ المعاني في هذا الباب و أصلها و أساسها بل جامعها الذي يرجع جميعها إليه إنما هو التربية، و هو تبليغ الشي ء إلى كماله أو حال أحسن من حاله، و بالجملة إلى كماله الحقيقي أو الإضافي شيئا فشيئا.

و هذا المعنى سار في جميع المعاني المتقدمة كما يظهر بأدنى تأمّل، فالربّ إن كان مربيا أو مصلحا و مفيضا للظاهر و الباطن من كل الجهات و في جميع الأحوال، فهو الرب على الإطلاق الذي هو المنعم الحقيقي أو من بعض الجهات دون بعض، و ذلك لا يكون

إلا بعض وسائط الفيض، فإن اللّه جعل لكل شي ء سببا، و أبى اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها.

و لذا

ورد: «من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه» «3».

لكنه لا بد من حفظ الحدود كي لا ينقلب الشكر شركا بمجرد التغيير و لو بالتقديم و التأخير.

كما

في رواية العياشي عن الصادق عليه السّلام في قوله:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10/ 112، ح 1.

(2) القيعة- بكسر القاف- المستوي من الأرض.

(3)

في البحار ج 71/ 44، ح 47: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 353

وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ «1» قال عليه السّلام: «هو الرجل يقول: لو لا فلان لهلكت، و لو لا فلان لأصابني «2» كذا و كذا، و لو لا فلان لضاع عيالي، أ ترى أنه قد جعل للّه شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه».

قيل: فيقول: لولا أن منّ اللّه، عليّ بفلان لهلكت.

قال عليه السّلام: «نعم، لا بأس بهذا» «3».

فالرب من بعض الجهات من الوسائط لا المبدأ، إذ لو كان من هذه الجهة ربا لذاته و مفيضا لا بواسطة غيره لكان ربا على الإطلاق بالذات من كل الجهات، و هذا خلف، و هذا معنى إطلاقه على العبيد حيث أطلق كقوله تعالى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ «4».

و لذا لا يطلق حينئذ إلا مضافا لأن المخلوق ليس ربا مطلقا بل واسطة لتربية بعض الأشياء من بعض الجهات في بعض الأحوال، فأضيف إلى مرباه أو بعض جهاته الملابسة له لكفاية أدنى الملابسة في الإضافة.

و منه يظهر أن المضاف المطلق على المخلوق غير المطلق على الخالق سواء أضيف حينئذ إلى العام نحو رب الناس، و رب العالمين، و رب كل شي ء،

أو الخاصّ نحو ربي و ربك و ربه، فإنّ المعنيين متغايران من دون جامع حقيقي بينهما و إن كان من حيث بعض الاعتبارات حسب ما هو المقرّر في سائر الأسماء المشتركة بحسب الظاهر بين الخلق و الخالق كالعالم و القادر و الحي و غيرها.

و أما مطلق المعرّف باللام فلا يطلق إلا على اللّه سبحانه كما صرّح به

______________________________

(1) يوسف: 106.

(2)

في تفسير العياشي: ط طهران العلمية الإسلامية: «لأصبت كذا و كذا ...».

(3)

في تفسير العياشي: لو لا أن اللّه منّ عليّ بفلان لهلكت.

(4) يوسف: 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 354

الصدوق و الفيروزآبادي «1» و غيرهما لما عرفت من أنّ المستفاد من لام الجنس أو الاستغراق كونه ربّا لكلّ شي ء من كلّ وجه في كل حال، و هذا لا يكون إلا الملك الحق جلّت عظمته.

و إن أمكن المناقشة في المعرف بلام الجنس فضلا من الدالّة على العهد كقولك في جواب من ربّ هذه الدار؟: زيد الربّ، إلّا أنّ الخطب فيه سهل، لأن اللام عوض عن المضاف إليه، و المعنى زيد رب الدار.

و أما المنوّن بتنوين التمكن فلا يستعمل كالمعرّف إلّا على الحق القيوم و بتنوين النكرة و العوض عن المضاف إليه يجوز إطلاقه على المخلوق.

أما الطرفان فلما مرّ، و أما الوسط فانّ تنكيره يدلّ على انتشار الأفراد و تكثرها و الأرباب المتكثرة لا يمكن كون كل واحد منها ربا مطلقا و مبدأ أوليا لجميع الفيوض.

فلا بد من حملها على الوسايط الجزئية للفيوض الجزئية أو على مجرد الدعوى الباطلة التي دليل بطلانها معها، و لذا أبطل العبد الصالح يوسف بن يعقوب على نبينا و آله و عليهما السلام مقالتهم بقوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ

الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2» فإنهم إذا كانوا أربابا متكثّرين فلا يصلح شي ء منهم للربوبية، إذ الربّ من كان ربا حقا و مطلقا، و تعدّدهم دليل على تقيّدهم فليس شي ء منهم مطلقا في الربوبية، و قد سمعت أنّ عدم مطلقيتهم فيها ملزوم لعدم حقيقتهم و تأصّلهم في الفيوض التي هي أمداد التربية، و لذا عقبّه بقوله

______________________________

(1) الفيروزآبادي: محمد بن يعقوب الشيرازي اللغوي، توفي سنة (818) ه.- بغية الوعاة:

ص 117.

(2) يوسف: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 355

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ «1».

و هذه مناقضة لطيفة لإبطال آراء المشركين و هو نظير الاستدلال للتوحيد بقوله عزّ من قائل: وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «2» و هو دليل رقيق لطيف جدّا على نوعي التوحيد بل أنواعه لمن تأمله.

ثم إنه يؤيّد ما ذكرناه من معنى الربوبية، بل و إرجاع معانيها إلى ما سمعت ما رواه مولانا العسكري عليه و على ابنه الحجة و على آبائه آلاف الثناء و التحية في تفسيره.

و

في «الاحتجاج» أيضا عن السّجاد عليه السّلام أنّ رجلا أتى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال:

أخبرني عن قوله عزّ و جل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ما تفسيره؟ فقال:

«الحمد للّه هو أن عرّف اللّه عباده بعض نعمه عليهم جملا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لأنّها أكثر من أن تحصى أن تعرف، فقال لهم: قولوا الحمد للّه على ما أنعم به علينا ربّ العالمين، يعني مالك العالمين، و هم الجماعات من كلّ المخلوق من الجمادات و الحيوانات، فأما الحيوانات فهو يقلّبها في قدرته، و يغذّيها من رزقه، و يحوطها بكنفه، و يدبّر كلا منها بمصلحته.

و أمّا الجمادات فهو

يمسكها بقدرته يمسك ما اتصل منها أن يتهافت، و يمسك المتهافت منها أن يتلاصق، و يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، و يمسك الأرض أن تنخسف إلّا بأمره، إنه بعباده رؤف رحيم.

قال عليه السّلام: و «رَبِّ الْعالَمِينَ مالكهم و خالقهم و سائق أرزاقهم من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون، فالرزق مقسوم، و هو يأتي ابن آدم على أيّ سيرة سارها من

______________________________

(1) يوسف: 40.

(2) سورة النحل: 51. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 356

الدنيا ليس تقوى متق بزائده، و لا فجور فاجر بناقصه، و بينه و بينه ستر «1» و هو طالبه، و لو أن أحدكم يتربص «2» رزقه لطلبه رزقه كما يطلبه الموت.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «فقال اللّه لهم: قولوا الحمد للّه على ما أنعم به علينا و ذكرنا به من خير في كتب الأولين من قبل أن نكون».

ففي هذا إيجاب على محمد و آله محمد بما فضّله و فضّلهم و على شيعتهم أن يشكروه بما فضّلهم به على غيرهم.

و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لما بعث اللّه تعالى موسى بن عمران و اصطفاه نجيا، و فلق البحر فنجّى بني إسرائيل، و أعطاه التوراة و الألواح رأى مكانه من ربه عزّ و جل فقال: يا ربّ لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا قبلي، فقال اللّه عزّ و جل: يا موسى! أما علمت أن محمّدا أفضل عندي من جميع ملائكتي و جميع خلقي؟ قال موسى: يا ربّ فإن كان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل عندك من جميع خلقك فهل في آل الأنبياء أكرم من آلي؟ قال اللّه عزّ و

جل: يا موسى! أما علمت أن فضل آل محمد على جميع آل النبيين كفضل محمّد على جميع المرسلين؟ فقال: يا ربّ فإن كان آل محمد عندك كذلك، فهل في صحابة الأنبياء أكرم من صحابتي؟ قال اللّه عزّ و جل: يا موسى! أما علمت أن فضل صحابة محمد على جميع صحابة المرسلين كفضل آل محمّد على جميع آل النبيين، و كفضل محمّد على جميع المرسلين؟ فقال موسى: يا رب! فإن كان محمد و آله و صحبه كما وصفت فهل في أمم الأنبياء أفضل عندك من أمتي ظلّلت عليهم الغمام و أنزلت عليهم المنّ و السلوى و فلقت لهم البحر؟ فقال اللّه: يا موسى! أما علمت أنّ فضل أمّة محمد على جميع

______________________________

(1)

في التفسير: شبر.

(2)

في البحار: يفر من رزقه. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 357

الأمم كفضلي على جميع خلقي؟ قال موسى: يا ربّ ليتني كنت أراهم، فأوحى اللّه إليه: يا موسى! إنّك لن تراهم فليس هذا أوان ظهورهم، و لكن سوف تراهم في الجنة «1» جنات عدن و الفردوس بحضرة محمّد في نعمتها يتقّلبون، و في خيراتها يتبجحون، أ فتحبّ أن أسمعك كلامهم؟ فقال: نعم يا إلهي قال: قم بين يدي و اشدد مئزرك قيام العبد الذليل بين يدي السيد الملك الجليل.

ففعل ذلك موسى فنادى ربنا: يا أمة محمد! فأجابوه كلهم و هم في أصلاب آبائهم و أرحام أمهاتهم: لبيك اللهم لبيك، إنّ الحمد و النعمة و الملك لك لا شريك لك لبيك.

قال: فجعل اللّه تلك الإجابة منهم شعار الحج، ثم نادى ربنا عزّ و جل: يا أمّة محمد! إنّ قضائي عليكم، إنّ رحمتي سبقت غضبي، و عفوي سبق عقابي، فقد استجبت لكم من قبل أن تدعوني

و أعطيتكم من قبل أن تسألوني، من لقيني منكم بشهادة أن إله إلا اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمدا عبده و رسوله صادق في أقواله، محقّ في أفعاله، و أن علي بن أبي طالب أخوه و وصيه من بعده و وليه يلتزم طاعته كما يلتزم طاعة محمد و أنّ أولادهم المصطفين الأخيار المطهرين الميامين لعجائب «2» آيات اللّه، و دلائل حجج اللّه من بعدهما أولياؤه، أدخله «3» جنتي و إن كان ذنوبه مثل زبد البحر.

قال: فلمّا بعث اللّه نبينا محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يا محمد! و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا أمتك بهذه الكرامة، ثم قال عزّ و جل لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قل الحمد للّه رب العالمين على ما اختصصتنا به من هذه الفضيلة.

______________________________

(1)

في البحار: «سوف تراهم في الجنان جنات عدن».

(2)

في البحار: «بعجائب».

(3)

أدخلته جنّتى. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 358

و قال لأمته: قولوا أنتم: الحمد للّه رب العالمين على ما اختصنا به من هذه الفضائل» «1».

تبصرة

ربما يقال: إن الربّ هو الاسم الأعظم نظرا إلى اختصاصه من بين الأسماء بجواز إطلاق مقلوبه على اللّه سبحانه، إذ «البر» أيضا من أسماءه الحسنى إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ «2».

و كأنه مع ملاحظة الاختلاف في التخفيف و التشديد أيضا بالنسبة إلى الحرفين.

بل ربما يحكى ذلك عن الخضر النبي على نبينا و آله و عليه السلام مؤيدا بإشراق أشعة أنوار التوحيد منه في البداية و النهاية كما في الآيتين أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «3»، وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى «4» و يجعله في الأولى إقرارا بالتوحيد بمنزلة لا إله إلا اللّه، و لذا ذكر كلمتي الرحمن

و الرحيم في الفاتحة بعد هذا الاسم، و في البسملة بعد لفظة الجلالة تنبيها على أنه بمنزلته.

و بأنه أوقع في القرآن كثيرا حتى أنه لم يذكر بعد لفظة الجلالة شي ء من الأسماء بكثرته «5» و هو مذكور في أربع و تسعين من السور.

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري عليه السّلام: ص 11- 12. عيون الأخبار: ص 156- 158، و عنهما بحار الأنوار: ج 26، ص 274- 277، ح 17.

(2) الطور: 28.

(3) الأعراف: 172.

(4) النجم: 42.

(5) هذا الاسم الشريف ذكر في القرآن (نحو 969) مرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 359

و بأنه هو المذكور عند الأمر بالدعاء ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً «1» وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» و عند البشارة بالاستجابة كقوله:

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ «3» بعد تكرر الرب خمس مرات في الحوائج المسؤولة في الآيات المتقدمة.

و بأنه مختص من بين الأسماء بإضافته إلى أقسام المضمرات من الغائب و الحاضر و المتكلم بأنواعها كقوله: وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ «4» وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ «5» وَ اعْبُدْ رَبَّكَ «6» ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ «7» إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ «8» إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ «9» اللَّهُ رَبُّنا «10» و إلى أنواع المظهرات من عمومها و خصوصها ك رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما «11» فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ «12»، هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ «13»، فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ «14»،

______________________________

(1) الأعراف: 55.

(2) غافر: 66.

(3) آل عمران: 195.

(4) غافر: 26.

(5) الانشقاق: 5.

(6) الحجر: 99.

(7) الفجر: 28.

(8) يونس: 3.

(9) يوسف: 100.

(10) الشورى: 15.

(11) مريم: 65.

(12) الذاريات: 23.

(13) المؤمنون: 116.

(14) المعارج: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 360

تفسير الصراط المستقيم ج 3 399

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «1»، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ

«2»، و بِرَبِّ النَّاسِ «3»، و بِرَبِّ الْفَلَقِ «4» و رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ «5» و رَبَّ هذَا الْبَيْتِ «6»، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «7».

و بالجملة فلعموم ربوبيته و ظهور تربيته في جميع الأشياء أضيف إليها خصوصا كما سمعت و عموما كقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ و رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ «8» فهو منتهى مطلب الحاجات، و عنده نيل الطلبات، و مفتاح الكرامات، و وسيلة العنايات.

و لذا توسل المتوسلون بل الأنبياء و المرسلون به سبحانه من جهة ظهوره و تجليه بشأن الربوبية الجامعة لجميع صفات الفعل بل الذات حسب ما تعرف إن شاء اللّه.

فدعاه أبونا آدم على نبينا و آله و عليه السلام لتوبته: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «9».

و النبي نوح عليه السّلام بقوله رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ «10»، و رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ «11».

______________________________

(1) الرحمن: 17.

(2) الشعراء: 28.

(3) الناس: 1.

(4) الفلق: 1.

(5) النمل: 91.

(6) قريش: 3.

(7) سورة الرحمن.

(8) الأنعام: 164.

(9) الأعراف: 23.

(10) نوح: 28.

(11) نوح: 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 361

و خليل الرحمن بقوله: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «1».

و يوسف الصديق بقوله: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ «2».

و النبي شعيب بقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ «3».

و موسى الكليم بقوله: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي «4».

و سليمان بن داود بقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً «5» و رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ «6».

وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ «7».

و زكريا النبي عليه السّلام بقوله: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي «8».

و المسيح النوراني بقوله: رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ «9».

و نبينا خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله أجمعين بقوله: أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ «10».

«وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ و هم الأئمة عليهم السّلام

يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا «11».

______________________________

(1) البقرة: 26.

(2) يوسف: 101.

(3) الأعراف: 89.

(4) طه: 25.

(5) ص: 35.

(6) النمل: 19.

(7) الأنبياء: 83.

(8) مريم: 4.

(9) المائدة: 114.

(10) البقرة: 285.

(11) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 362

و قد خوطب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ولاية أمير المؤمنين و المعصومين من ذريته بقوله: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «1» في علي.

و بقوله: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما «2»، إلى قوله:

وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «3» أي لأمير المؤمنين عليه السّلام.

و مولانا سيد الشهداء حين بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ «4».

و مولانا القائم عجل اللّه فرجه كان مكتوبا على عضده الأيمن حين ولادته وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا «5».

و أصحاب الكهف إذ أووا إلى الكهف فقالوا: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً «6».

و الحواريون إذ قالوا: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ «7».

و الصحابة بقولهم: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا «8» لولاية أمير المؤمنين و أولاده الطيبين.

و التابعون بقولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ «9».

______________________________

(1) المائدة: 67.

(2) النساء: 65.

(3) النساء: 65.

(4) الأحقاف: 15.

(5) الأنعام: 115.

(6) الكهف: 10.

(7) آل عمران: 53.

(8) آل عمران: 8.

(9) الحشر: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 363

و آسية امرأة فرعون إذ قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «1».

و بلقيس ملكة سبأ قالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2».

و مريم إذ قالت: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ «3».

و حملة العرش: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً «4».

و الآباء: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ «5».

و الأولاد: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي

صَغِيراً «6».

و أهل الجنة: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا «7» وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «8».

و أهل النار: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها «9» رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا «10» رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا «11».

و إبليس اللعين: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «12».

و أتباع الجبت و الطاغوت: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا

______________________________

(1) التحريم: 11.

(2) النمل: 44.

(3) آل عمران: 47.

(4) غافر: 7.

(5) الفرقان: 74.

(6) الإسراء: 24.

(7) التحريم: 8.

(8) الإنسان: 21.

(9) المؤمنون: 107.

(10) المؤمنون: 106.

(11) السجدة: 12.

(12) الحجر: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 364

«1»، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «2».

و بالجملة فجميع الفيوض التي تصل من اللّه إلى عبده إنما تصل من جهة التربية و الإفاضة و التكميل، و قد سمعت أنه سبحانه من حيث ذاته هو المجهول المطلق، و ليس للخلق طريق إلى معرفته إلا من حيث ظهوره في المظاهر الفعلية، و تجلّيه في المجالى الأسمائية، و هذا هو السر في تعدّد أسمائه قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «3».

فمن حيث ظهور فعله بصفة الخلق خالق، و بصفة الرزق رازق، و بصفة الرحمة الواسعة و المكتوبة هو الرحمن الرحيم، و من حيث ربوبيّته لخلقه يسمّى بالرب، و هذه الربوبية جامعة لأركان العرش الأربعة و هي الخلق، و الرزق، و الإحياء، و الإماتة المشار إليها في الآية الكريمة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «4».

فالربوبية بشمولها جامعة لجميع الفيوض الواصلة إلى الخلق حين الخلقة و بعدها في الوجود و البقاء و أسباب المعاش و المعاد للأبرار و الفجار كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً «5» إذ لا

بخل في المبدء الفياض، و به يسعد السعيد و به يشقى الشقي قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «6» وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً «7».

______________________________

(1) الأحزاب: 67.

(2) الأحزاب: 68.

(3) الإسراء: 110.

(4) الروم: 40.

(5) الإسراء: 20.

(6) النساء: 78.

(7) الأعراف: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 365 كقطرة الماء في الأصداف درّو في بطن الأفاعي صار سما

نعم له سبحانه نوع من الإفاضات القدسية و الإمدادات الإيمانية الغيبية، و هو الفضل الذي بيده يؤتيه من يشاء،

«إن لربكم في أيام دهركم نفحات إلا فتعرّضوا لها» «1».

فانظر كيف جعله من شؤون الربوبية و أضافه إلى الأيام الدهرية التي هي وعاء للنفوس القدسية و العقول الجبروتية دون الأزمنة التي هي وعاء للأجسام الغاسقة الناسوتية، و النفوس المنهمكة في الشهوات الجسمانية، فهو سبحانه قد تجلّى في خلقه لخلقه بخلقه، بها تجلّى صانعها للعقول، بحيث قد ملأ العمق الأكبر بشؤون ربوبيته كما

قال الإمام عليه السّلام: «لا يرى في نور إلا نورك و لا يسمع فيها صوت إلا صوتك» «2»

فظهر لكل شي ء بصفة ربوبيته، و لذا علّق المعرفة باسم الرب دون غيره من الأسماء

في قوله: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» «3»

و

«أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه»

، فكلّ من طلب منه حاجة من حوائج الدنيا و الآخرة، أو انتجع منه فائدة فلا بد أن يدعوه بهذا الاسم الذي هو رب نوع المطالب و المقاصد، و حل طلسم العوائد و الفوائد، بل في دعائه باسم الربوبية إذعان له بحقيقة العبودية التي هي جوهرة كنهها الربوبية كما في الخبر «4» الذي تأتي إلى تحقيق معناه الإشارة، و لذا جعلوه مفتاحا لحوائجهم، تحقيقا لعبوديتهم و تصديقا بربوبيته، و توصلا بما هو

كالمفتاح للكنوز الغيبية، و الخزائن الإلهية، و كالطالع للمواليد القدسية و النفحات الملكوتية، بل أضيف في المقام إلى «العالمين» المحلى بالألف و اللام المفيدة للعموم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 71، ص 221، و ج 90، ص 95، ح 10.

(2) بحار الأنوار: ج 90/ 204، ح 34، دعاء ليلة الخميس.

(3) البحار: ج 2/ 32، ح 22.

(4) مصباح الشريعة: الباب الأول في العبودية.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 366

تنبيها على ظهور ربوبيته و سريان فيض تربيته في جميع الإمكان و الأكوان من الدرّة إلى الذرّة، و عقّبه باسمي الرحمن و الرحيم إشعارا بأن إتمام النعمة إنما هو بصفتي الرحمة، و هذه الجملة كالاستدلال على استحقاقه لجميع المحامد التي سمعت الكلام في عمومها و إحاطتها.

إحقاق و إزهاق

كما أنّ الرب حسبما سمعت إمّا مطلق لا يطلق إلا عليه سبحانه، أو مقيّد يطلق على غيره أيضا، كذلك ينقسم إلى حقيقي و واسطي، و بعبارة أخرى إما أصلي أو ظلي آلي، و الحقيقي الأصلي هو اللّه سبحانه سواء اعتبر مطلقا أو مقيدا، لا من حيث التقيد و القصور في نفسه، بل من حيث التعبير و ملاحظة المورد، فهو الرب الحقيقي لكل شي ء من كل وجه، و لذا قال: رَبِّ الْعالَمِينَ و رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ «1» و رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ «2».

و

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «توحّد بالربوبية و خص نفسه بالوحدانية» «3»،

فهو الرب الحق، و الرب المطلق، و لذلك تنقطع عنده الوسائط، و تضمحل الكثرات، و يستند الكل إليه، لأنه معطي القابليات و مفيض الاستعدادات، و مسبب الأسباب، و رب الأرباب.

و إلى هذا أشار كليم اللّه على نبينا و آله و عليه السلام بعد قول فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما

يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «4».

______________________________

(1) الأنعام: 164.

(2) مريم: 65.

(3) بحار الأنوار: ج 4/ 270، ح 15.

(4) طه: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 367

يعني أعطاه وجوده و استعداده و قابليته، ثم سبّب الأسباب لوصوله إلى مراتب الكمال للتحقق بحقيقة الإقبال، و أمّا اختلاف المربوبات من أصناف الكائنات فإنما هو مستند إلى اختلافهم في اختياراتهم و قبولهم في بقعة التكوين و صقع التشريع بعد أن بيّن لهم سبيل الخير و الشر، و أمرهم في الموقفين بارتكاب الخيرات و اجتناب الشرور لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «1».

و أما ما ربما يقال من استناد الاختلاف إلى مراتب الاستعدادت و إمكانات الأشياء في أنفسها بالذات و عدم تعلق الجعل بالإمكان لكونه من الأمور الاعتبارية ففساده واضح عندنا بعد القول بالّتوحيد و نفي الشريك، إذ كان اللّه و لم يكن معه شي ء، و هو أمكن الإمكان حيث لا إمكان، و هي بقسميها خلقها اللّه بنفسها و خلق بها الإمكان و الأكوان و الإمكانات بعد تسليم كونها أعداما المقيدة و إن تمايزت من حيث القيود أو التقيدات إلا أنها معتبرة حينئذ باعتبارات وجودية.

فما قيل من أن إمكان الألف مثلا مغاير لإمكان الواو، لاعتبار الاستقامة في الأول، و الاعوجاج في الثاني، و لو أنّ الكاتب كتبهما على غير هذا الوجه فكأنه لم يكتبهما لأن ما بالذات لا يتخلف بل الذات لا تتبدل.

ففيه: أن هذا الاختلاف المستند إلى الإمكان بل نفس الإمكان إن كان مجعولا من اللّه سبحانه و لم يكن قبل ذلك شيئا أصلا فهو المطلوب، و إلا فلا بد أن يكون ثابتا في القدم تعالى اللّه عن ذلك علوا

كبيرا.

و هذا هو القول بالأعيان الثابتة الذي أسّس عليه بناء القول بوحدة الوجود و تشعّبت منه أنواع الزندقة و الجحود، قال قائلهم و هو عبد الرحمن الجامي «2»:

______________________________

(1) الأنفال: 42.

(2) هو عبد الرحمن بن أحمد الجامي الشيرازي توفي سنة (898) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 368

أعيان

همه شيشه هاى گوناگون بودكافتاد بر أو پرتو أنوار وجود

هر شيشه كه بود سرخ يا زرد و كبودخورشيد در آن آينه آن رنگ نمود

بل أفرط بعضهم في القول و قال: إنّ الماهيات كما هي غير مجعولة فكذلك الوجودات و اتصاف الماهيات بها.

قال المحدّث الفيض فيما سماه ب «الكلمات المكنونة» بعد أن ذكر أن الماهيات ليست بجعل جاعل، و كذلك الوجود، قال: «بل تأثيره في الماهية باعتبار الوجود، بمعنى أنه يجعلها متّصفة بالوجود، لا بمعنى أنه يجعل اتصافها موجودا متحققا في الخارج، فإنّ الصباغ مثلا إذا صبغ ثوبا فإنه لا يجعل الثوب ثوبا و لا الصبغ صبغا، بل يجعل الثوب متّصفا بالصبغ في الخارج، لا أن يجعل اتصافه به موجودا في الخارج.

فليست الماهيات في أنفسها مجعولة و لا وجوداتها في أنفسها أيضا مجعولة، بل الماهيات في كونها موجودة مجعولة، و الوجودات من حيث تعيناتها و خصوصياتها مجعولة، و ذلك لأن الإمكان إنما يتعلّق بالوجود من حيث التعين و التخصص، لا من حيث الحقيقة و الذات، فإنه واجب من هذه الحيثية، فالوجود وجود أزلا و أبدا، و الماهية ماهية أزلا و أبدا، غير موجودة و لا معدومة أزلا و أبدا.

و ليست هي في منزلة بين الوجود و العدم، بل إنما وجوداتها بالعرض و بتبعية الوجود لا بالذات، و لهذا لا يسمى وجودا بل ثبوتا.

و من هنا يعلم أن الماهيات عين

الوجود و الحقيقة و إن كانت غيره بالاعتبار إلى آخر ما ذكره.

فوا عجبا كيف احتمل الوجود البحت الواجب جميع الوجودات و جميع الماهيات، بل و جميع الاتصافات بحيث لم يخرج شي ء من هذه الثلاثة من العدم إلى الوجود بل الكل عين الوجود البسيط المجرد (تعالى اللّه عن ذلك و عما يقولون

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 369

علوا كبيرا).

و مع اتحاد الجميع فمن أين حصل التغاير في هذا البين، و ما شؤون الربوبية؟

و ما حدود الخلق؟ و كيف تنزيه الخالق بعد اتحاده مع الخلق، بل الكثافات و القاذورات، و أنت تعلم أنّ الصباغ لم يؤثّر في خلق الثوب، و لا في خلق الصبغ، و قد أوجد الانصباغ و اتصاف الثوب بالصبغ و لو بالتسبيب، فإذا كان اللّه تعالى لم يوجد شيئا من الماهيات و لا من الوجودات، بل و لا شيئا من اتصاف الماهية بالوجود، فكيف يكون خالقا موجدا مبدعا فردا واحدا قديما متفردا في أزليته منزها عما يجوز على خلقه.

و بالجملة القول بوحدة الوجود ينثلم معه جميع أساس التوحيد بل الشرائع كافة، و لهذا ظهر منهم القول بالحلول و الاتحاد و انقطاع العذاب و غيرها من المقالات التي سنفصل الكلام في تحريرها و إبطالها في موضع أليق إن شاء اللّه تعالى.

و إن كان بطلانها غنيا عن ذلك، فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «1».

تتميم نفعه عميم

اعلم أنّ الربوبية من الرب مطلقا أو مقيدا لها درجات و مقامات يجمعها أمران:

أحدهما: الربوبية إذ لا مربوب لا ذكرا و لا عينا و لا ظهورا و هي الذات البحت القديم الذي لا اسم له

و لا رسم، و لا وصف و لا نعت، و لا عبارة، و لا إشارة،

______________________________

(1) النور: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 370

الطريق مسدود و الطلب مردود.

و ربما يذكر بعده قسم آخر و هو دليل تلك الربوبية و صفتها و آيتها، أي العين التي تستدل بها عليها، و هي لا ذكر و لا عين و لا ظهور للمربوبية فيها بوجه من الوجوه لأنها وجه اللّه و دليله، فلو كانت فيها كثرة لعرفنا اللّه بالكثرة، لأن معرفة الوجه عين معرفة ذي الوجه، و هو معنى

قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «يا من دل على ذاته بذاته» «1».

قلت: و هذه الربوبية إما عين الأولى أو غيرها، فعلى الأول لا تعدد، و على الثاني ليست إذ لا مربوب على ذلك الوجه، مع أنه إذا لم يكن للمربوبين فيها ذكر و لا عين و لا ظهور، فكيف تكون دليلا لهم «تعالى الله عن ذلك».

و أما

قوله: «يا من دل على ذاته بذاته»

، فكل من الذات المدلول عليها و الذات الدالة هي الذات البحت، لكن الدلالة هي ما خلق من وصفه لخلقه بذواتهم في الخطاب الفهواني.

كما

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «بها تجلى صانعها للعقول» «2».

أو بآياته و أمثاله في الآفاق و في أنفسهم أو بما أشرق على خلقه من صفة وحدته التي يستدلون بها على وحدانيته، أو أن المدلول عليها هي الذات البحت أيضا و الدلالة هي معانيه، أي معاني أفعاله المشار إليها

في خبر جابر بقوله: يا جابر أو تدري ما المعرفة؟ المعرفة إثبات التوحيد أولا ثم معرفة المعاني ثانيا، ثم معرفة الأبواب ثالثا إلى أن قال: و أما المعاني فنحن معانيه صلوات اللّه عليهم «3».

أو أن المدلول عليها هي المعاني

عليهم السّلام، و الدلالة هي العلامات و المقامات التي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 87/ 339، ح 19.

(2) بحار الأنوار: ج 4/ 230، ح 3.

(3) بحار الأنوار: ج 26/ 13- 14 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 371

لا تعطيل لها في كل مكان يعرفه بها من عرفه، و إن أبيت من إطلاق الذات عليهم فلاحظ

قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خبر الأعرابي حيث سئله عن النفس إلى أن قال عليه السّلام في النفس اللاهوتية الملكية: «إنها قوة لاهوتية، و جوهرة بسيطة حية بالذات، أصلها العقل منه بدت، و عنه دعت، و إليه دلّت و أشارت، و عودتها إليه إذ كملت و شابهته، و منه بدئت الموجودات، و إليها تعود بالكمال، فهي ذات اللّه العليا، و شجرة طوبى، و سدرة المنتهى، و جنة المأوى «1».

و أيضا في الخبر المشهور في الألسنة و إن لم يحضرني موضعه الآن:

«لا تسبوا عليا فإن ذاته ممسوس أو ممسوس بذات اللّه» «2».

ثانيهما: الربوبية إذ مربوب ذكرا أو عينا و ظهورا، و هذه الربوبية بهذا القيد من صفات الفعل، كما أن الأولى من صفات الذات.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه

قد ورد في خطبة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و كذا في خطبة مولانا الرضا عليه السّلام: «له معنى الربوبية إذ لا مربوب» «3»

و الظرف إما قيد للربوبية و إما ظرف للثبوت الذي تعلق به الجار و يؤيده

قوله عليه السّلام بعد ذلك: «و له حقيقة الالهية إذ لا مألوه و معنى العالم إذ لا معلوم، و معنى الخالق و لا مخلوق، و تأويل السمع و لا مسموع، ليس مذ خلق استحق معنى الخالقية، و لا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية، كيف و

لا تغيّبه مذ، و لا تدنيه قد، و لا يحجبه لعلّ، و لا يوقته متى، و لا يشتمله حين، و لا تقارنه مع، إنما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الآلة إلى نظائرها «4»».

______________________________

(1) شرح الأسماء الحسنى، ملا هادي السبزواري: ج 2/ 46.

(2) بحار الأنوار: ج 39/ 313، «مناقب آل أبي طالب» ج 3/ 221.

(3) بحار الأنوار: ج 4/ 285، ح 17، عن «التوحيد».

(4) بحار الأنوار: ج 4/ 229، ح 3، عن «التوحيد» و «العيون».

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 372

و على الأول ينقسم الربوبية إلى قسمين و معناه الإشارة إلى ثبوت معنى الربوبية له سبحانه بالمعنى الأوّل بمعنى أنّه ربّ بهذا المعنى، فربوبيته نفس ذاته تعالى بلا مغايرة بينهما، بوجه من الوجوه، فهو حينئذ من الصفات الذاتية التي لا حاجة في اتصافه بها إلى غيره، و مرجعها إلى العلم و القدرة و سائر الصفات الذاتية.

و أما الربوبية بالمعنى الثاني بمراتبه و درجاته فهي ثابتة له سبحانه في ملكه، لا في ذاته.

فاللام للتمليك فهو يملك الربّ و التربية و الربوبية كلّها بغير المعنى الأول في ملكه و خلقه، و هم الأبواب الذين أمر اللّه تعالى بمعرفتهم و ولايتهم و لا تمسك بحبلهم، فإن اللّه تعالى جعلهم أبوابا لفيوضه و أعضادا لبريته، و أشهادا على خليقته و هم المقامات و العلامات التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفهم به من عرفه، و هم السبيل الأعظم، و الصراط الأقوم، و شهداء دار الفناء، و شفعاء دار البقاء.

فالربوبيّة المطلقة المقترنة بالمربوب و لو ذكرا حادثة في عالم الإمكان و هي المشية الكلية، و أمر اللّه الفعلي الذي به قامت السموات و الأرض قياما صدوريا ركنيا.

فمن عرفهم فقد عرف اللّه،

و من أنكرهم فقد أنكر اللّه، و من اعتصم بهم فقد اعتصم باللّه.

و

في الزيارة: «من أراد اللّه بدأ بكم، و من وحّده قبل عنكم، و من قصده توجه إليكم» «1».

و ذلك أن اللّه تعالى جعلهم وسائط فيضه، و مرآة أنوار جلاله و جماله، و أشهدهم خلق خلقه.

______________________________

(1) الجامعة الكبيرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 373

بل يستفاد من بعض الأخبار و الخطب المأثورة عنهم عليهم السّلام أنه سبحانه فوّض إليهم جميع شؤون الربوبية في الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة، لكن لا تفويض تشريك، و لا عزلة و تخيير، و لا تفويض توكيل، كما يفوّض أحدنا أموره إلى وكيله، فيتصرّف في أموره بعد إذن الموكل بقوّته بالاستقلال، فإنّ هذه المعاني للتفويض كلها كفر و زندقة.

و هذا معنى

قول مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه شيخنا المجلسي قدّس سرّه: «من قال نحن خالقون بأمر اللّه فقد كفر» «1».

فإن المراد نفي الاستقلال و الاستبداد الذي يكون لوكيل بعد إذن الموكل، إذ ليس لهم توهم هذه الاستقلال و الإنيّة بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «2» إلى قوله تعالى: وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «3».

بل المراد بالتفويض الذي نقول به هو تفويض الوساطة و الآلية و الإشراق و العبوديّة كما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السّلام: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ «4».

و بالجملة الأخبار الدالّة على تفويض الأمور التكوينية و التشريعية إليهم عليهم السّلام كثيرة جدا بالغة حدّ التواتر لمن تتبعها في مظانها، لكن ينبغي حملها على وجهها الذي أريد منها، و هو أن جميع الآثار

من الخلق و الرزق و غيرهما منه سبحانه، إلّا أنّه لمّا جرت عادته سبحانه بأن يكون له وسائط لإفاضته التكوينية كما أنّ له

______________________________

(1) لم أظفر على مصدره بعد التفحص في البحار.

(2) الأنبياء: 26- 27.

(3) الأنبياء: 29.

(4) آل عمران: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 374

وسائط لإفاضته التشريعية مع عدم قابلية الداني لتلقي الفيض إلا بالوسائط، فهم كالمرآة المحاذي لشمس وجود الحق قد تجلى لها ربها فأشرقت، و طالعها فتلألأت، و ألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله.

و لذا قال من قال:

فعلوا فعال الرب إلا أنهم بشر فضاع على الغلاة الفارق

جعلوا الذي قد كان نفس نبيهم هو نفس خالقهم تعالى الخالق

لا عذر للنصاب و الغالي له عذر لبعض ذوي العقول موافق

كفرت به الفئتان لكن ليستاشرعا «1» فإن النصب كفر خارق

لا ينسب الإسلام للغالي له فإن ادّعى الإسلام فهو منافق

لو شاء تعطيلا لأفلاك السماءما عاقه عن مثل ذلك عائق

و بكفّه القلم الذي في جبهةالاشهاد يكتب مؤمن أو فاسق

ساووا كتاب اللّه إلّا أنه هو صامت و هم الكتاب الناطق

و قال ابن أبي الحديد في قصيدته البائية:

تقيّلت «2» أفعال الربوبية التي عذرت بها من شكّ أنك مربوب

و بالجملة، فلهم الربوبية الفعلية، بل هم نفس الربوبيّة في مقام الفعل، لكونهم نفس المشية أو محالّها، كما عن الحجة عجل اللّه فرجه: «إن قلوبنا أوعية لمشية اللّه فإذا شاء اللّه شئنا و ما تشاؤون إلا أن يشاء اللّه» «3».

و في مقام الفعل يتحد الوصف و الموصوف، فافهم.

______________________________

(1) الشرع- بكسر الشين-: المثل.

(2) تقيل: قال في «المنجد»: تقيل أباه: أشبهه.

(3) بحار الأنوار: ج 25/ 337، ح 16، عن غيبة الطوسي: ص 159، و الآية في سورة الدهر:

30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص:

375

و لذا

ورد أن رسول اللّه و أمير المؤمنين عليهما السّلام أبوا هذه الأمة، و أن الأب هو الرب الأصغر «1».

و

ورد في تفسير قوله تعالى: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها «2» عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: «رب الأرض إمام الأرض. قيل: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس و القمر و يجتزءون بنور الإمام» «3».

و مثله في «إرشاد المفيد» و «غيبة الشيخ» و «الدعائم» و «إكمال الدين» و غيرها.

بل

في الزيارة الجامعة تبيينا لمعنى الآية و خطابا للأئمة عليهم السّلام: «و أشرقت الأرض بنوركم»

و ذلك لأنهم الخلفاء فيها، و فيهم ورد قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «4».

أو لأنهم مالكها كما

ورد: «أن الأرض كلها للإمام عليه السّلام».

فعن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خلق اللّه آدم و أقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم عليه السّلام فهو لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ما كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فهو للأئمة من آل محمد عليهم السّلام» «5».

و

قال مولانا الصادق عليه السّلام في خبر أبي سيّار: «إن الأرض كلها لنا فما أخرج اللّه منها من شي ء فهو لنا» «6».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 36/ 9، 11، 14، 255.

(2) الزمر: 69.

(3) البحار: ج 7/ 326، ح 1، عن «تفسير القمي»: ص 581.

(4) النور: 55.

(5) الكافي: ج 1/ 409، ح 7.

(6) الكافي: ج 1/ 408، ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 376

و

عنه عن كتاب أمير المؤمنين: «أنا و أهل بيتي الذي أورثنا اللّه الأرض و نحن المتقون و الأرض كلها لنا» «1».

و

قال

عليه السّلام لأبي بصير: «أما علمت أنّ الدنيا و الآخرة للإمام عليه السّلام يضعها حيث يشاء، و يدفعها إلى من يشاء، جايز له ذلك من اللّه» «2».

و

عنه عليه السّلام: «إن الدنيا «3» و ما فيها للّه تبارك و تعالى و لرسوله و لنا» «4».

و لذا حكموا بأن ما في أيدي مخالفيهم من الأرض غصب حرام عليهم التصرف فيه، بل في بعض الأخبار حرمة مشيهم على الأرض و شربهم الماء.

أو لأنهم المتصرفون فيها بإذن ربهم حيث جعلهم اللّه وسائط فيوضه و خزان رحمته.

و لذا

روى القمي رحمه اللّه في قوله: صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «5»، قال: «يعني عليا- إنه- جعله خازنه على ما في السموات و ما في الأرض من شي ء و ائتمنه عليه» «6».

عود إلى الحقيق بطرز أنيق

اعلم أنّ الربوبية إن اعتبرت من صفات الذات فهي فيها حقيقة و ذاتا و اعتبارا و وجودا و مفهوما و خارجا و واقعا، و إلا فمع فرض التغاير و لو اعتبارا تنثلم الوحدة،

______________________________

(1) الكافي: ج 1/ 407، ح 1، باب أن الأرض كلها للإمام عليه السّلام.

(2) الكافي: ج 1/ 408 و 409، ح 4.

(3)

في المصدر: الدنيا و ما فيها

و ليس فيه كلمة إن.

(4) الكافي: ج 1/ 408، ح 1.

(5) الشورى: 56.

(6) تفسير القمى ص 606 و عنه البحار ج 35/ 367 ح 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 377

و كذا الحال في سائر الصفات الذاتية من العلم و الوجود و القدرة و السمع و البصر و غيرها.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «كان اللّه «1» ربنا عزّ و جل و العلم ذاته و لا معلوم، و القدرة ذاته و لا مقدور، و السمع ذاته و لا

مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر» «2» الخبر.

على حد ما

سمعت من خطبهم عليهم السّلام له معنى الربوبية إذ لا مربوب و حقيقة الإلهية إذ لا مألوه و معنى العالم و لا معلوم و معنى الخالق و لا مخلوق و تأويل السمع و لا مسموع» «3».

و مرجع الجميع إلى إثبات وجود هو علم، هو قدرة، هو حياة، هو ربوبية، إلى غير ذلك حسب ما يأتي بيانه في مقامه، و لذلك كان كمال التوحيد نفي الصفات، لأن الاقتران دليل الحدوث و التعدد و التجرية و الافتقار، و هذه الربوبية هي التي يجب تنزيلهم عنها.

كما

ورد عنهم: «نزّلونا عن الربوبية و ارفعوا عنّا حظوظ البشرية، فإنّا عنها مبعدون، و عما يجوز عليكم منزهون، ثم قولوا في حقنا ما استطعتم فإن البحر لا ينزف، و سر الغيب لا يعرف، و كلمة اللّه لا توصف، و من قال لم و بم و ممّ فقد كفر» «4».

و

في الخطبة النورانية: «لا تدعونا أربابا و قولوا فينا ما شئتم، ففينا هلك من

______________________________

(1) في المصدر: «لم يزل اللّه عزّ و جل ربنا و العالم ذاته ...».

(2) الكافي: ج 1/ 107، ح 1، باب صفات الذات.

(3) بحار الأنوار: ج 4/ 229، ح 3.

(4)

في مشارق الأنوار: ص 69: «نزهونا عن الربوبية و ارفعوا عنا حظوظ البشرية، يعني الحظوظ التي تجوز عليكم فلا يقاس بنا أحد من الناس، فإنا نحن الأسرار الإلهية المودعة في الهيا كل البشرية، و الكلمة الربانية الناطقة في الأجساد الترابية، و قولوا بعد ذلك ما استطعتم فإن البحر لا ينزف ...». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 378

هلك، و بنا نجى من نجى» «1».

و

عنهم عليهم السّلام: «اجعلوا لنا ربّا نؤب إليه ثم قولوا

فينا ما استطعتم و لن تبلغوا، فإنه لم يخرج منا إليكم إلا ألف غير معطوفة» «2».

و إن اعتبرت من صفات الفعل فمن البيّن أن صفات الفعل حادثة ليست في مرتبة الذات في القدم.

و لذا

قال الصادق عليه السّلام لما قيل له: لم يزل اللّه مريدا: «إن المريد لا يكون إلا لمراد معه، بل لم يزل اللّه عالما قادرا ثم أراد» «3».

و

قال مولانا الرضا عليه السّلام: «إن المشية و الإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أن اللّه لم يزل شائيا مريدا فليس بموحد» «4»

و هو سر تقييد الربوبية له سبحانه بقوله: إذ لا مربوب، فإن الربوبية إذ مربوب علما أو عينا أو وجودا لها صفة الاقتران مع المربوب، و الاقتران دليل الحدوث.

و لأنها نفس المشية التي

قال الإمام عليه السّلام انها محدثة «5» و أن اللّه تعالى خلقها بنفسها و خلق الأشياء بها «6».

و لأنها لو كانت في مرتبة الذات لاعتورتها حالتان: ربوبية إذ مربوب

______________________________

(1) مشارق أنوار اليقين: ص 162.

(2) في «بصائر الدرجات» ص 149 بإسناده عن كامل التمار، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام ذات يوم، فقال لي: «يا كامل! اجعل لنا ربا نؤب إليه و قولوا فينا ما شئتم ... إلى أن قال:

و عسى أن نقول: ما خرج إليكم من علمنا إلا ألف غير معطوفة».

(3) بحار الأنوار: ج 4/ 144، عن «التوحيد».

(4) في البحار: ج 4/ 145 عن «التوحيد»، عن الرضا عليه السّلام، قال: «المشية من صفات الأفعال، فمن زعم أن اللّه لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد».

(5) بحار الأنوار: ج 4/ 144.

(6) البحار: ج 4/ 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 379

و ربوبية إذ لا مربوب، فيكون ذاته محلا للحوادث (تعالى اللّه

عن ذلك).

و إن كانتا قديمتين تعددت القدماء، فإذا ثبت حدوثها فلا تخلو إما أن تكون من الأمور الاعتبارية التي ليس لها تحقق و لا تحصل في الخارج إلا مجرد الفرض و الاعتبار، كما هو الشأن في الأمور الاعتبارية، أو أنها من الأمور المتأصلة في الوجود المتحصلة في الشهود الخاضعة لحضرة المعبود، لا سبيل إلى الأول إذ النسبة تقتضي تحقق النسبتين معها في صقع عالمها، و مجرد الفرض و الاعتبار فرع الفارض و المعتبر، و تعالى الحق عن ذلك- لأنه لا يهمّ و لا يفكّر و لا يضمر و لا يروّى، بل فعله إيجاده لا من شي ء، و إنما الفعل منه إحداثه و إبداعه فلا يجري عليه ما هو أجراه على خلقه.

مع أن المربوبات من أنواع الكائنات منتسبون إلى الربوبية، منها نشأت، و إليها انتسبت.

فإذا كانت الربوبية أمرا اعتباريا فالمربوب أولى و أحرى بالاعتبارية.

فإن قلت إنّ المربوبية من جملة الكائنات لا ريب في تذوّتها و تجوهرها و تحققها في الأعيان و إن كان ذلك بقيّومية الحق سبحانه، و أمّا الربوبيّة فهي من المعاني المصدرية النسبية التي لا تحقق لها بنفسها و لو بقيوميّته تعالى، لعدم تأهلها لذلك، فإنها في أصل الجعل مجعولة على وجه الارتباط و التعلق، أ لا ترى أن الضرب لا تحصل له في الأعيان إلا بعد وجود المضروب و تعلقه به و وصوله من الضارب إليه، فمع فرض عدم وجود المضروب و لو في حال تحقّق الضرب كيف يتصور وجوده في الأعيان؟

نعم يمكن تصوره في الأذهان لكنه خلاف المقصود.

قلت: هذا تمثيل بأفعالنا الناقصة القاصرة لإبداع الخلاق المتعالي و قد قال

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 380

سبحانه: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ

وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1».

و من البيّن أنّ إبداع المبدع ليس أثرا ارتباطيا و أصلا منه إلى موجود آخر غيره، و إلّا لزم قدم المتعلق شخصا أو نوعا، و هذا إنكار للإبداع، فالفعل المتعدي منّا صدور الأثر عن الفاعل و وقوعه على المفعول، و فعله سبحانه هو إحداثه لا غير، و ليس لفعله ارتباط به أصلا، إلا ارتباط الصنع بالصانع على وجه الإبداع في ملكه و لا بالمفعول لانتفاء أثر الوقوع بفقد المتعلق.

فلا بد من أن يكون فعله أول إبداعه و لذا

قال مولانا الرضا عليه السّلام في خبر عمران: «اعلم أنّ الإبداع و المشية و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة» «2».

و من البيّن أنه لا يجوز اتصافه بالفعل و الإرادة و المشية بمعانيها المعروفة التي يتصف بها المخلوق، لأنها بتلك المعاني عن الكيفيات النفسانية، و من الأعراض القائمة بالمحل، و الضرورة قضت باستحالة اتصافه سبحانه بمثل هذه المعاني، فلا يمكن اعتبارها أعراضا قائمة به لذلك، و لا بغيره لسبقها على غيرها.

فلا بد أن تكون موجودة بإيجاده قائمة بقيوميّته واسطة في إيصال الفيض منه إلى غيره.

و بالجملة فالربوبية في هذا الموضع هو الرب المخلوق و العبد المرزوق و هو الفعل الذي خلقه بنفسه، و أقامه في ظله، و التعبير عنه بالمعنى المصدري النسبي سهل الاندفاع، و إن شئت فعبر عنه بالمعنى الوصفي لكونه مصدرا لفعل الحق، بل هو المفعول المطلق لكنه لا بد من حفظ الحدود و لحظ القيود، بأن يعلم عدم تأصل الوجود لتقومه بفعل الحق المعبود، فهو عبد ذليل خاضع خاشع منقاد للّه سبحانه،

______________________________

(1) النحل: 74.

(2) بحار الأنوار: ج 10/ 314، عن «التوحيد» و «العيون».

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 381

بل عباد مكرمون لا

يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون.

و إنما نال ما نال من القرب و الكرامة بحقيقة العبودية التي أركانها ثلاثة:

فالعين علمه باللّه «1»، لأنه نفس العلم الفعلي المخلوق الواقع على المعلوم المشار إليه بقوله: فلما خلق الأشياء وقع العلم منه على المعلوم، و السمع على المسموع، و البصر على المبصر «2».

و الباء: بونه عن الخلق و انقطاعه عنهم، لعلمه بأنهم لا يملكون له نفعا و لا ضرا، و بأنهم فقراء محتاجون أذلاء، فكيف يسأل محتاج محتاجا، و أنى يفزع معدوم إلى معدوم.

و بينونة العالي سيما الواقف «3» على التطنجين، و الناظر في المشرقين عن السافل بينونة صفة و افتقار، لا بينونة عزلة و انقطاع، فإن له قوسي الإقبال و الإدبار، و صفتي الاستفاضة و الإفاضة.

و الدال دنوه من الخلق لأنه باب حطة الوجود، و أول عابد للمعبود قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «4»، و هذه الأركان قد أشار إليها الصادق عليه السّلام «5».

______________________________

(1) إشارة إلى ما نقل عن الإمام الصادق عليه السّلام كما

في «شرح الزيارة الجامعة»: ج 1/ 308: قال الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا: «العين علمه باللّه، و الباء بونه من الخلق، و الدال دنوه من الخالق بلا إشارة و لا كيف» 9.- و نقل أيضا في مصباح الشريعة باب 100 في حقيقة العبودية

. (2)

بحار الأنوار: ج 4/ 71، عن التوحيد و فيه: فلما أحدث الأشياء و كان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ...

(3) المراد به أمير المؤمنين عليه السّلام كما

نقل عنه في «مشارق أنوار اليقين» في خطبة سماها الطتنجية، لما فيه: «أنا الواقف على طتنجين أنا الناظر إلى المغربين

و المشرقين».

(4) الزخرف: 81.

(5) تقدم نقله عن شرح الزيارة للشيخ أحمد الاحسائي: ج 1، ص 308، و مصباح الشريعة:

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 382

و بالجملة فلما كمل الميزان و تمت الأركان و تحقق في مقام العبودية ظهر بصفة الربوبية، كما

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فقد من العبودية وجد في الربوبية، و ما خفي عن الربوبية أصيب في العبودية، قال اللّه عزّ و جل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ «1»» «2»

أي موجود في غيبتك و في حضرتك.

فالعبد إذا تمكن في مقام العبودية و انقطع نظره عن نفسه و دام توجهه إلى ربه اضمحلت ماهيته و إنيته، و لذا قيل:

بيني و بينك إنّي ينازعني فادفع بلطفك إنّي من البين

و قد يقال: إن المشية هي الوجود المطلق الذي لا ماهية له أصلا لانقطاع نظره عن نفسه، فليس إلا ظهور الرب به و من ثم ظهر بصفة الربوبية إذ مربوب كما

ورد في الخبر القدسي: «عبدي إني أقول للشي ء كن فيكون، أطعني تكن مثلي تقول للشي ء كن فيكون» «3».

نفحات غيبوبيّة في أنّ العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة

قد سمعت في الخبر المتقدم المروي في «مصباح الشريعة» عن مولانا

______________________________

باب 100.

(1) فصلت: 53.

(2) مصباح الشريعة: باب (100) في العبودية.

(3) شرح توحيد الصدوق: ج 1/ 316 في شرح الحديث السابع عشر لقاضي سعيد القمي المتوفى (1107) ه. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 383

الصادق عليه السّلام: «إن العبودية جوهرة كنهها الربوبية» «1»

إلى آخر ما مرّ و حيث قد استصعب فهمه على الأفهام تصدّى لبيانه جمع من علمائنا الأعلام رفع اللّه قدرهم في دار السلام.

و لا بأس بالتعرض لما ذكروه مع

ذكر ما من اللّه على هذا الفقير الذي لهم من جملة الخدام.

فمنها ما ذكره المجلسي الثاني حيث سئل عن معنى الخبر قال: «إن هذا الخبر مأخوذ من مصباح الشريعة و قد وصل إلينا برواية شقيق البلخي الذي هو من صوفية العامة مع اشتماله على جمله من النقل المعلوم انتفائها عن الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و على تقدير صحة الخبر لعل المراد أن العبودية و الربوبية متقابلان فيعرف كل منهما بمقابله، كما قيل: «تعرف الأشياء بأضدادها»، و لذا فسّر

الخبر المشهور: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» «2»

بما يئول إليه و ذلك أن عرف نفسه بالفقر و القصور و الحاجة و النقصان و صفات الإمكان فقد عرف ربه بالغنى و الكمال و التقدس عن سمة الحدوث و التغير و صفات الإمكان، و كذلك من عرف نفسه بالدنائة و الخسة، فقد عرف ربه بالعلو و الرفعة، و من عرف نفسه بالجهل و العلم الخارج عن الذات فقد عرف ربه بالعلم الذي هو عين الذات، إلى غير ذلك.

و الحاصل إن العبودية يعرف كنهها من معرفة الربوبية، فما فقد في العبودية من صفات القدس و الكمال كوجوب الوجود و التجرد و الاستغناء المطلق و العلم الذاتي إلى غير ذلك من الكمالات التي لا حظ للممكن فيها، وجد في الربوبية و ما

______________________________

(1) مصباح الشريعة: باب (100).

(2) كلام مشهور رواه الفريقان عن نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و عن علي عليه السّلام، و عن عيسى المسيح عليه السّلام، و عن بعض الحكماء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 384

خفي عن الناس من صفات الربوبية وجد في العبودية، يعني يعرف من إضافة الصفات إلى العبودية، أن اللّه سبحانه بري ء منها.

ثم قال: و للخبر

معان بعيدة عن الأذهان، و لذلك تركنا التعرض لها».

أقول: أما القدح في سند الرواية بل الكتاب فهو و إن كان في موضعه إلا أنه لا يخلو من نوع اعتبار، و لذا ذكر السيد علي بن طاووس في كتاب «أمان الأخطار» قال: «و يصحب المسافر معه كتاب مصباح الشريعة و مفتاح الحقيقة عن الصادق عليه السّلام، فإنه كتاب لطيف شريف في التعرض بالتسليك إلى اللّه جل جلاله و الإقبال عليه، و الظفر بالأسرار التي اشتملت عليه.

و أما ما ذكره من أن راويه شقيق البلخي فالوجه فيه ما أشار إليه في أول «البحار» من أن الشيخ روى في مجالسه بعض أخباره هكذا: أخبرنا جماعة عن أبي الفضل الشيباني بإسناده عن شقيق البلخي عمن أخبره من أهل العلم.

قال و هذا يدل على أنه كان عند الشيخ قدس سره و في عصره و كان يأخذ منه و لكن لا يثق به كل الوثوق، و لم يثبت عنده كونه مرويا عن الصادق عليه السّلام و أن سنده ينتهي إلى الصوفية، و لذا اشتمل على كثير من اصطلاحاتهم و على الرواية عن مشايخهم، و من يعتمدون عليه في رواياتهم». «1». انتهى.

أقول: و إني لم أظفر بمثل هذا السند في «أمالي» الشيخ المنسوب إلى ابنه بعد الفحص البليغ إلا أنه كفى بشيخنا المجلسي عطر اللّه مرقده ناقلا بصيرا و ناقدا خبيرا.

نعم، ما ذكره جيد بعد ملاحظة الأسلوب و الحكاية عن بعض مشايخهم و غير ذلك، لكنه لا يمنع من الاعتبار في الجملة سيما بعد شهادة السيد له بما سمعت.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1/ 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 385

و أما ما ذكره في معنى الخبر فبعيد جدا خصوصا بعد التعبير بالكنه، و

تفريع الوجدان و الفقدان عليه.

و لعل فيما أشار إليه من المعاني البعيدة عن الأذهان كفاية و بلاغا لو وجد مساغا للبيان.

و منها ما ذكره الفاضل المحقق القمي صاحب «القوانين» قدس سره حيث سئل عن ذلك، فأجاب قدس سره عنه بقوله: «إن العبودية يحتمل كونه مصدرا من صفة الذات بمعنى كون الشخص عبدا أو صيرورة الشخص عبدا، و يمكن أن يكون مصدرا لصفة الفعل مثل عابد، و حينئذ فالمراد كون الشخص عابدا، أو صيرورته عابدا متعبدا أو مطيعا.

و الربوبية تحتمل المعاني الثلاثة، فالمعنى أن ماهية العبودية و حقيقة إطاعة العبد و انقياده لمولاه جوهرة، يعني خصلة نفيسة عزيزة، تشبيها لها بالجواهر العالية الثمنية، كنهها يعني ذاتها و جوهرها و ما به قوامها الربوبية، يعني التشبه بالرب و التخلّص بأخلاقه في جميع صفاته و أفعاله حتى في الخلق و الإيجاد، لا بمعنى خلق الأجسام بل بمعنى إحياء النفوس و إيلادها بالتعليم و الإرشاد وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً «1»، أو المراد صيرورته ربا لقواه البهيمية، و مالكا لها، و مسلطا عليها بالرياضات و المجاهدات، فإذا فعل ذلك فيصل له حقيقة العبودية يعني لا يحصل حقيقة العبودية إلا مع حصول حقيقة الربوبية بأحد المعنيين اللذين هما التشبه بالرب في صفاته و التربب على قوتيه الشهوية و الغضبية، فما فقد من العبودية بعد التدبر و التفكر في حقيقتها و الفحص عن أركانها و مقدماتها و أجزائها بأن لم يبلغ إليه فطنته و لم تصل إليه معرفته وجد في الربوبية، فإن معرفة حقيقة

______________________________

(1) المائدة: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 386

العبودية محولة على معرفة حقيقة الربوبية بأحد المعنيين، فبعد الاطلاع عليها يعثر حينئذ على ما فقده من العبودية و

يطلع عليه و يصير خبيرا على ما فقده من شرائطها و أطوارها.

و ما خفي عن الربوبية و أشكل عليك الإحاطة بمقامها بأحد المعنيين أصيب العلم به في مرحلة العبودية بأن تعبد و تطيع بقدر علمك، كما

قال عليه السّلام: «من عمل بما يعلم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم» «1».

فحاصل الكلام أنّ كنه العبودية هو المشي على طريقة الربوبية، و لو كان على وجه المشابهة فما وصل إليه عقلك في استدراك طريقة الربوبية، فالعمل عليه هو نفس العبادة، و المشي عليه هو المشي على طريقة العبودية، و ما لم يصل إليه عقلك من طريقة الربوبية فعليك بالعمل فيما عرفته من العبودية فإنه يوصلك إلى ما لم تعرفه من الربوبية التي هي كنهه و أصله فتصير بعد ذلك كاملا في العبودية واصلا إلى كنهها و هو المشي على طريقة الربوبية بأحد المعنيين.

ثم ذكر أن المراد من الاستشهاد بالآية الاستدلال بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ «2» على أنه سبحانه موجود في غيبتك و حضرتك، يعني أنّ حقيقة العبودية و كنهه هو التشبّه بالرب، و التخلّق بأخلاقه، أو التربب على القوتين كي يحصل بذلك التجرد و قطع العلائق و صرف النظر عما سوى اللّه و الانقطاع إليه بشراشره.

و وجه كون حقيقة العبودية ذلك و لزوم بلوغ العبد في العبادة إلى هذه المرتبة أنه تعالى شهيد على كل شي ء و موجود و رقيب في حال حضورك مع اللّه، و حال غيبتك و غفلتك منه، يعني إذا كان اللّه مع العبد بهذه المثابة من القرب

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 40/ 128.

(2) فصلت: 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 387

و الحضور فلا بد للعبد أن يسلك في

عبادته هذا المسلك الذي هو التشبه بالرب و التسلك على القوتين.

و لذلك

قال عليه السّلام بعد ذلك: «و تفسير العبودية بذل الكلية و سبب ذلك منع النفس عما تهوى و حملها على ما تكره و مفتاج ذلك ترك الراحة وحب العزلة و طريقة الافتقار إلى اللّه عزّ و جل، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: أعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1». «2»

أقول: هو رحمة اللّه و إن أجاد فيما أفاد لكنه لم يأت بتمام المراد، فالتحقيق أن يقال: إن المراد بالربوبية إذ هو الربوبية إذ مربوب التي هي من مراتب الفعل حسب ما مرت إليه الإشارة.

و بالعبودية هي القيام بجميع وظائف الانقياد و الطاعة في جميع نشأت الوجود بحيث لا يحصل له الفتور في شي ء من العبادات القلبية و القالبية، بل و لا في شي ء من التوجهات الإقبالية العلمية و العملية على ما هو مقتضى الولاية الكلية و لاستقامة في الطريقة الإلهية إلى أن يتحقق في مقام الولاية التي هي الإحاطة و التصرف في الملك و الملكوت بإذن اللّه بعد إجابة نداء:

«عبدي أطعني فكن مثلي» «3»

حيث إنه قد وصل حينئذ إلى درجة المحبة و صار محبوبا للّه سبحانه

«فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و يده التي يبطش بها، إن دعاه أجابه، و إن سأله أعطاه «4»

، بل قد يمزج بالمحبة لحمه و دمه

______________________________

(1) مصباح الشريعة: باب (100).

(2)؟؟؟؟

(3) لم أظفر بهذه العبارة على الحديث، نعم قد مر مضمونه

عن شرح التوحيد للقاضي سعيد القمي: ج 1، ص 316 هكذا: «يا بن آدم! أطعني أجعلك مثلي، إذا قلت لشي ء: كن،

فيكون».

(4) إشارة إلى

الحديث القدسي المروي في «محاسن البرقي»: ص 291 عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال: تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 388

فضلا عن قلبه و فؤاده إلى أن يغيب عن نفسه، و يذهل عن حسه فضلا عن غيره فيكون كما قيل:

جنوني فيك لا يخفى و ناري فيك لا تخبوفأنت السمع و الأبصار و الأركان و القلب

و حينئذ فيضمحلّ من أنانيته، و يحيى حياة طيبة بالتوجه إلى ربه، و يصير قلبه وعاء لمشيته، و محلا لإرادته، فيفعل بإرادته ما يشاء في التكوين، و لا يشاء إلا ما يشاء اللّه رب العالمين.

و هذا هو تجلي الرب له بصفة الربوبية المشار إليه

في العلوي «تجلى لها ربّها فأشرقت، و طالعها فتلألأت و ألقى في هويتها مثاله فأظهر منها أفعاله» «1».

و هذا المقام الذي هو نهاية قوس الإمكان إنما يحصل بالتحقق في مقام العبودية التي كنهها الربوبية إذ مربوب في عالم الملك و الملكوت حسبما سمعت، و هو الفقر الكلي الإقبالي الذاتي الذي افتخر به سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و اله و سلّم حيث

قال: «الفقر فخري و به أفتخر على الأنبياء من قبلي» «2».

و من ثم اشتقت العبودية من الحروف الثلاثة التي مر تفسيرها في كلام مولانا الصادق عليه السّلام، بل إنما ذكر ذلك التفسير في ذيل الكلام المتقدم «3».

و من هنا يظهر وجه أولوية إطلاق العبد على النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في قوله:

______________________________

«قال الله: ما تحبب إلى عبدي بشي أ أحب إلي مما افترضته عليه، و إنه ليتحبب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و لسانه الذي

ينطق به، يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها، إذا دعاني أجبته و إذا سألني أعطيته».

(1) البحار: ج 40/ 165.

(2) بحار الأنوار: ج 69، ص 30 و 49.

(3) مصباح الشريعة: باب (100).

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 389

وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ «1» و تقديمه على الرسالة التي هي أشرف من كل شرف في الشهادة العامة «و أشهد أن محمدا عبده و رسوله».

بل و أولوية إطلاقه عليه أيضا كما يظهر من أخبار بدو كينونتهم «2» و من قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «3» على أحد الوجوه في الآية.

و بالجملة قد ظهر من تضاعيف ما مر أنّ مطلق العبودية لها عرض عريض أعلاه العبودية المطلقة، و حينئذ فما فقد من العبودية في شي ء من المراتب النازلة من التشبه بالمبادي العالية و الاتصاف بالحقائق الملكوتية وجد في الربوبية لأن المفقود من الأعدام الإمكانية و النقصانات الخلقية التي ينجبر بالاتّصاف بالأخلاق الإلهية و التشبه بالمبادي العالية القدسية.

و ما خفي من الربوبية لغلبة أحكام الإمكان و ظهور النقصان و الخسران في الميزان أصيب في العبودية المطلقة بعد التحقق بحقيقتها حسب ما سمعت، و لهذا استشهد الصادق عليه السّلام بعد ذلك قوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا «4» إلى آخر الآية التي أشير في أولها إلى مطلق العبودية الحاصلة بالنظر إلى آياته الآفاقية و الأنفسية و في آخرها إلى العبودية المطلقة التي لا تحصل إلا بعد التحقق بالفناء الأصلي و الشهود الكلي.

هذا ما أدى إليه النظر السقيم وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «5».

______________________________

(1) سورة الجن: 19.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 15/ 1- 26.

(3) الزخرف: 81.

(4) فصلت: 53.

(5) البقرة: 213.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص:

390

إشارة إلى ما يسمونه بربّ النوع

اعلم أنّه قد ذهب جم غفير من الحكماء الإلهيين و العرفاء الربانيين كأفلاطون و من يحذو حذوه من المتألهين و صاحب حكمة الإشراق و «المطارحات» و غيرهما، و صدر المتألهين في كتبه، و غيرهم من أهل الإشراق إلى أن لكل نوع من الأفلاك و الكواكب و بسايط العناصر و مركباتها ربا في عالم القدس، و هو عقل مدبّر لذلك النوع، و له عناية به و تربية له، لكونه واسطة له في إيصال الفيوض إليه حتى يوصله إلى كماله النوعي أو الشخصي، و لذلك يسمونه رب النوع، و رب الصنم، و رب الطلسم.

و ربما يحكى ذلك عن هرمس «1»، و أغثاذيمون «2» و جميع حكماء الفرس فإنهم كانوا أشد مبالغة في أرباب الطلسمات و قد سمّوه أردي بهشت.

و ربما يحكى عن معلم الفلاسفة أرسطاطاليس و لعله في كتاب «أثولوجيا» المنسوب إليه المترجم بمعرفة الربوبية.

فإنه أشار إليه في مواضع من هذا الكتاب كقوله: إن في الإنسان الجسماني الإنسان النفساني، و الإنسان العقلي، و لست أعني أنه هما لكني أعني به أن متصل بهما، و أنه منه لهما، و ذلك أن يفعل بعض أفاعيل الإنسان العقلي و بعض أفاعيل الإنسان النفساني، و ذلك أن في الإنسان الجسماني كلتا الكلمتين أعني النفسانية و العقلية، إلا أنهما فيه قليلة ضعيفة نزرة، لأنه صنم للصنم فقد بان أن الإنسان الأول حساس إلا أنه بنوع أعلى و أفضل من الحس الكائن في الإنسان

______________________________

(1) هو إدريس النبي عليه السّلام، ولد في مصر و اسمه بالعبراني خنوخ.- تاريخ الحكماء للقفطي:

ص 7.

(2) أغثاديمون المصري، كان أحد الأنبياء اليونانيين قبل هرمس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 391

السفلي، و أن الإنسان السفلي إنما ينال الحس من

الإنسان الكاين في العالم الأعلى العقلي.

و قال في موضع آخر: إن البارئ الأول أبدع جميع الأشياء بغير رويّة و لا فكرة، فأبدع العالم الأعلى، و فيه جميع الصور تامة كاملة من غير رويّة لأنه أبدعها بأنه فقط لا بصفة أخرى غير الإنية، ثم أبدع هذا العالم الحسي و صيّره صنما لذلك العالم.

فإن كان هكذا قلنا: إنه لما أبدع الفرس و غيره من الحيوان لم يبدع ليكون هنا، لكنه أبدعه ليكون في العالم التام الأعلى الكامل، و أنه أبدع جميع صور الحيوان و صيّرها هنالك بنوع أعلى و أشرف و أكرم و أفضل، ثم أتبع ذلك الخلق هذا الخلق إلى غير ذلك من عباراته المكررة في «أثولوجيا» حيث إنه صرح بثبوت الإنسان العقلي، و الفرس العقلي، و النباتات، و الحبوب، و الحيوانات العقلية، بل السموات العلى العقلية، و الأرضين السفلى الحية الشاعرة و ساير الصور الحية المدركة المجردة الإلهية، و يجعلها وسائط للفيوض النازلة إلى هذه الأجسام السفلية الناسوتية و مربية لها.

لكن الشيخ الرئيس في كتبه بل و سائر المشائين لما لم يسلكوا مسلكهم و لم يشربوا مشربهم، لم يذهبوا مذهبهم بل بالغوا في الرد و الإنكار عليهم بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله.

و لذا طفق «1» الشيخ الرئيس يقدح على أفلاطون و سقراط قدحا عظيما و كأنه لم ينظر إلى ما ذكره المعلم الأول في «أثولوجيا» أو أنه لم ينسبه إليه بل إلى أفلاطن، كما قيل لكنه بعيد جدا لأنه يحكي عن أفلاطون كثيرا، كما في شرح

______________________________

(1) طفق: ابتدأ و أخذ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 392

النفس و غيره فلاحظ، بل في أوّله التصريح بنسبته إليه.

و على كل حال فكلام هذا

الفيلسوف العظيم في هذا الكتاب يشير إلى شيئين أحدهما إثبات عالم المثال و المقادير المجردة و الهور قليا، و أن في ذلك العالم جميع ما في هذا العالم من الفلكيات و العنصريات و المواليد بأجناسها و أنواعها و أصنافها على وجه أشرف و ألطف و أعلى و أبهى و أصفى و هذا هو الذي أشير إليه في الأخبار بمدينة جابلسا و جابلقا، و جنة أبينا آدم، و هما الجنتان المدهامّتان اللتان تظهران في آخر الزمان.

و لعل هذا هو المراد المثل الأفلاطونية التي يحكى عنه القول بها، حيث ذهب إلى أن بين عالمي المحسوس و المعقول واسطة تسمى عالم المثل و هو برزخ بين العالمين من حيث التجرد و التعلق و فيه لكل موجود من الموجودات مثال قائم بذاته معلق لا في مادة، و ربما يظهر للحس بمعونة مظهر كالمرآة و الخيال و الماء و غيرها من الأجسام الصيقلية.

و الآخر أن الأشياء كلها و إن كانت صدرت و أفيضت من الصانع الحق و المبدع المطلق إلّا أن بعضها صدرت منه بلا واسطة و بعضها بالواسطة، و هذه الأشياء المحسوسة من جميع ما في هذا العالم لها وسائط عالية و مبادئ متعالية تتلقى بواسطتها الفيوض الإلهية و الأنوار الربانية، و للنفس الإنسانية خاصية الإحاطة و الاستيلاء و الاطلاع على تلك المبادئ و إن لم يشاهدها بالعين الحاسة الناسوتية.

قال: و الدليل على صدق ما قلناه قيدارس الصانع فإنّه لما أراد أن يعمل صنم المشتري لم يره في شي ء من المحسوسات، و لم يلق بصره إلى شي ء يشبه به لكنه ترقى توهمه فوق الأشياء المحسوسة فصوّر المشتري بصورة حسنة جميلة فوق كل حسن و جمال من الصور الحسنة، فلو

أنّ المشتري أراد أن يتصور بصورة من

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 393

الصور لتقع تحت أبصارنا لما تقبل إلّا الصورة التي عملها قيدارس الصانع.

و كيف كان فقد استدلّوا لإثبات أرباب الأنواع بوجوه: أحدها: أنّ لكلّ نوع من أنواع النباتات و الحيوانات و المعادن أفاعيل خاصة به لا يشاركه فيها غيره، بل ربما تكون تلك الآثار و الخواص مختلفة باختلاف القوابل و سائر المشخصات، و صدور تلك الأفاعيل من القوى الطبيعية التي لا شعور لها أصلا ممتنعة جدا، كيف و لو تأمل المتأمل لم يجد فيها شيئا من الاختلاف و النقصان و التخلف بوجه من الوجوه، فحفظ تلك الا و صدورها على طريقة مستمرة مستقرة دليل على أن لكل نوع من تلك الأنواع ربا ملكوتيا عالما شاعرا مفيضا على الأشخاص الجزئية التي تحت نوعها ممدا لها بأنواع الإمدادات و الإفاضات و الخيرات، حافظا لها من الزيادة و النقصان حسب ما يقتضيه نوعه بعد ملاحظة المشخصات الفاعليّة و القابلية.

ثانيها: أن الأفراد التي تحت نوع واحد من الأنواع من اختلافها بحسب المشخصات الفردية بحيث لا يكاد يوجد فيها فردان متفقان في جميع الخصوصيات و المشخصات متفقة في حد عرضي محفوظ عن الزيادة و النقصان و لو مع اعتبار الطواري و العوارض و المقتضيات الخارجة مثلا لأشخاص الإنسان حد من الطول و العرض و اللون و القوة و الإدراك و الفهم و سائر الكمالات، و كل شخص من أشخاصه متردد بين طرفي حدود نوعه و ليس لهذه الحدود حافظ سوى رب النوع، فهو حافظ الكمالات و مصدرها و ممدها.

و لذا قيل: إن هؤلاء يتعجبون ممن يقول: إنّ الألوان العجيبة في ريش من رياش الطواويس إنما كان لاختلاف أمزجة تلك

الريشة من غير قانون مضبوط و رب نوع حافظ.

و سبب التعجب أنّك ترى تلك الألوان مترتبة على مناسبات صناعية و مشاكلات تعمدية لا اتفاقية مع توافق المتقابلين منها في المقادير و الألوان

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 394

و الاشكال و حصول شكل واحد متناسب من ملاحظة المجموع.

و لذا

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في الخطبة الطاووسية: «و من أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، و نضد ألوانه في أحسن تنضيد» «1».

إلى آخر ما ذكره في «نهج البلاغة».

فلاحظ بل هذه الهيئات العجيبة عندهم ظلال لإشراقات نورية و نسب معنوية في تلك الأرباب النورية، كما أن الصور و الروائح و الطعوم و الأشكال و المقادير و القوى و غيرها كلها منسوبة إلى تلك الأرباب، و لعله لذلك قال خاتم الحكماء و المحققين في «التجريد»: «و المصورة عندي باطلة لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركبة من قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا» «2».

بل قيل: إن الغزالي «3» بالغ في ذلك حتى أبطل القوى مطلقا، و ادعى أن الأفعال المنسوبة إلى القوى صادرة عن ملائكة موكّلة بهذه الأفعال تفعلها بالشعور و الاختيار «4».

نعم ذكر العلامة الحلي رحمه اللّه في شرح «حكمة العين» «5» أن المصورة تفيد التخليق و التشكيل و القوى الحاملة و الأعراض الخاصة.

ثم قال رحمه اللّه: و عندنا أن استناد التصوير إلى اللّه تعالى ابتداء من غير توسل هذه

______________________________

(1) نهج البلاغة: ص 520، ط فيض.

(2) تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي في المسألة الثانية عشرة، في القوى النباتية.

(3) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي المتوفى (505) ه.

(4) شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي: ص 207.

(5) مصنف «حكمة العين» هو نجم الدين علي

بن عمر القزويني المعروف بدبيران، توفي سنة (678) و كان من أساتذة العلامة الحلي، و العلامة قدس سره أول من شرح «حكمة العين» و سماء إيضاح المقاصد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 395

القوة، فإنه من المستحيل استناد هذه الآثار العجيبة المختلفة الدالة على حكمة تؤثرها إلى قوة تفعل من غير توسط إرادة و شعور.

و قال رحمه اللّه: في كتابه الموسوم ب «الأسرار الخفية»: «إن المولدة هي التي تفصل جزءا من فضل الهضم الأخير و يودعه قوة من جنسه.

قالوا: و من شأنها تخليق البزر و تطبيعه و إفادة أجزائه هيأت تناسبها مما يصلح لمبدئيّة شخص آخر من نوعه، و هذا مما يجزم ببطلانه، فإن القوى الطبيعية يستحيل أن يصدر منها آثار مختلفة.

ثالثها: ما قيل من أن هرمس و سقراط و أفلاطون و أغاذيمون و غيرهم من الحكماء المتألهين بل قاطبة الإشراقيين و إن لم يذكروا الحجة علي إثبات أرباب الأنواع إلا أنهم قد ادعوا فيها المشاهدة الحقة المتكررة المتبينة على رياضاتهم و مجاهداتهم و خلعهم أبدانهم في إرصادهم الروحانية و معارجهم النورانيّة، كما أشار إليه المعلم الأول في كلامه المذكور في «أثولوجيا» حيث قال: إني ربما خلوت بنفسي إلى آخر ما ذكره، و في كلمة المحكي من قيدارس الصانع كما سمعت، و على هذا فليس لنا أن نناظرهم، كما أن المشائين لا يناظرون بطلميوس و أبرخس «1» و أضرابهما، حتى أن أرسطو عوّل على إرصاد بابل.

و إذا اعتبر رصد شخص أو أشخاص معدودة من أصحاب الإرصاد الجسمانية في الأمور الفلكية حتى تبعهم من تلاهم، و بنوا عليه علوما كالهيئة و النجوم فكيف لا يعتبر قول أساطين الحكمة و التألّه في أمور شاهدوها بإرصادهم الروحانية في خلواتهم و

رياضاتهم، بل هذا أولى، و ليس للمشّائين دليل على حصر

______________________________

(1) كان من حكماء الكلدانيّين و ماهرا في الرياضيات سيما الأرصاد و النجوم و اعتمد عليه بطلميوس اليوناني و ذكره كثيرا في «المجسطي».

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 396

العقول في عشرة أو عشرين، بل العقول كما بيّنه شيخ الإشراق «1» يحصل منها مبلغ كثير على الترتيب الطولي، و يحصل من تلك الطبقة على نسب بينها طبقة اخرى عرضية تجري مجرى الفروع يحصل من الفروع الأجسام الفلكية و العنصرية من البسائط و المركبات.

رابعها: أنّ أرباب الطلسمات إذا بالغوا في التجريد و التفريد و الرياضة و الانخلاع عن الشواغل الجسمانية و الاتصال بالمجردّات النوارنية يحصل لهم قوة الاقتدار على تسخير أرباب النوع فينفذ عليها أمرهم و يجري فيها مشيتهم و لذا ترى أو تسمع أنّ بعضهم رفع الطاعون عن بعض البلاد و حبسه منهم ما دام حكم الطلسم باقيا، و بعضهم حبس البقّ عن أرض معينة، و قد صنع بعضهم قدحا مملوا ماء يشرب منه العساكر العظام فلا ينقص منه شي ء، و بعضهم حوضا على باب النوبة من رخام أسود و لا ينقص على الدهر، و جميع أهل المدينة يشربون منه و لا ينقص ماؤه، و إنما صنع لهم ذلك لبعدهم عن النيل، و قربهم من البحر المالح.

و المعروف في الألسنة عن شيخنا البهائي رحمه اللّه أنه حبس الطاعون عن أصبهان.

و سمعت عن بعض الثقات أنّ المير فندرسكي «2» حبس البقّ عن حجرته التي كان مقيما فيها بأصبهان، حتى أنّ بعض الأعاظم أراد امتحان ذلك فوضع فيها الحلاوات من العسل و غيره فلم يقربه البقّ أصلا.

______________________________

(1) هو شهاب الدين أبو حفص السهروردي، قتل بقلعة حلب في أواخر سنة (586)

و له من العمر نحو (36) سنة، و له تصانيف منها «حكمة الإشراق».- معجم المؤلفين: ج 7، ص 310.

(2) هو أبو القاسم الميرفندرسكى الفيلسوف المتأله المتوفى سنة (1050) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 397

و قد ذكر الفاضل الجلدكي «1» في كتاب «البرهان في علم الميزان» أنّ من طلاسم جلب المنافع ما في دير الزرازير بالروم، فإنّه صنع قبة هائلة و حولها محيط كبير بجدران قائمة، و وضع على رأس القبة زرزورا «2» له جسم مختلط تحت كل من أرجله صفة زيتونة و هو ماسك لها بأظفاره، ثم ركّبه على أعلى القبة في وقت رصده و طالع اختاره، فكلّما ينقضي العام، و يأتي مثل ذلك اليوم الذي كان في نصب هذا الطلسم تأتي الزرازير من أقطار الدنيا من غامض علم اللّه تعالى بعدد لا يحصى لكثرته، و كل طائر منها في منقاره زيتونة سوداء، و في رجله زيتونتان، فيلقي الثلاث زيتونات على رأس الطلسم الذي في أعلى القبة، فيجتمع من ذلك الزيتون في ذلك اليوم الواحد في ذلك المحيط شي ء كثير فيعصرونه زيتا، و يأكلون منه من العام- العام في تلك الأماكن التي ليس بها شي ء من شجر الزيتون أصلا لقوة البرد هنالك، فليت شعري من أين تنقل تلك الزرازير ذلك الزيتون الذي تحمله لذلك الطلسم، و ليت شعري ما السبب المسخر لها و المحرك لأن تفعل ذلك، و ليت شعري هل هن زرازير؟ أم أرواح روحانية متطورة على صفاتها؟ و هل ينقلون ذلك الزيتون من محظور أو مباح؟ و ربما أقامت الزرازير تنقل الزيتون إلى ذلك اليوم من اليوم إلى مدة سبعة أيام».

إلى أن قال: و من جلب المنافع أيضا ما هو مشاهد إلى الآن

في ساحل مدينة يافا «3» من اجتماع الأسماك من جميع أنواعها إلى طلسم موضوع لهم هنالك.

و من العجب أنّ الجهّال يظنّون أنّ السمك يحجّون إلى ذلك المكان من العام

______________________________

(1) هو أيد مر بن علي بن أيدمر الجلدكي عز الدين كان من علماء الكيمياء، توفي بالقاهرة سنة (743) أو (750) أو (762).- معجم المؤلفين: ج 3، ص 28.

(2) الزرزور- بضم الزائين-: طائر أكبر من العصفور.

(3) مدينة في قرب بحر الروم- المسمى مديترانة بالفارسي-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 398

الى العام، و لا يصيدون منها شيئا، و إنما كان الناس يصيدون منها الأسماك فيأكلون و يملحون منها ما يكفيهم من الحول إلى الحول.

إلى غير ذلك من الطلاسم الكثيرة التي منها دثر و مضى و تعطلت منافعها، و منها باق إلى الآن مثل طلسم العقارب و طلسم الحيات في مدينة حمص، و هما باقيتان إلى الآن، فالعقارب لا تؤذي و لا الحيّات في إقليم حمص من الجانب الشرقي من النهر أبدا، و أمّا في الجانب الغربي فهي قاتلة.

و كان بمدينة حمص طلسم للنمل في قبة منيعة ففتحها جاهل من الجهّال و وجد في صدرها صفّة مبنية، و من فوقها مكان مربع، و من فوقه طبق من فضة، و فيه نمل من ذهب صغار، و من فوقها نملة من فضّة، و عليها أخرى من ذهب، فلمّا رفع الطبق من مكانه تسلّط النمل على الناس في مدينة حمص.

و في إقليم الهرمل طلاسم عظيمة باقية و كذلك الأهرامات و البراني من إقليم مصر و غير ذلك في كثير من الأقاليم.

و أما طلاسم الكنوز و الموانع فإنها من العجائب التي لا يكاد أن يصدّق الأخبار عنها إلّا من له نظر و عقل

و جنان فافهم ذلك، و تعجب مما صنع الرحمن» انتهى.

إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى، و لعلّ وقوع نوعه من المقطوعات، و ذلك إنما هو بتسخير ربّ هذا النوع و الحكم عليه بما يريد.

بل و لعلّ من هذا الباب الاطّلاع على الأعمال العجيبة و الصنائع الدقيقة التي ربّما يعدّ في السحر و خوارق العادات و كذا الاستشراف على العلوم و المعارف.

و لذا يحكى عن هرمس: أنه كان يقول: إن ذاتا روحانية ألقت إليّ المعارف فقلت لها: من أنت؟ فقال: أنا طباعك التام.

لكنك لا يخفى عليك أن ما ذكرناه في هذا البحث إنما هو مع الجري على

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 399

مقاصد القوم، فإنّه لمّا كانوا مختلطين مع أوساخ الدهرية و الطباعية زعموا أن الأفاعيل الصادرة عن العناصر و المعادن و النباتات منسوبة إلى قوى طبيعية صادرة عنها من دون شعور و اختيار و إرادة، بل لم يثبتوا الشعور و الإرادة إلّا للحيوان من حيث إنّه حيوان، أي حسّاس متحرك بالإرادة.

و أما من حيث كونه جسما أو ناميا فلم يثبتوا له الإرادة بل زعموا أنّ أفعاله طبيعية، و لذا وقعوا في مثل المصوّرة في حيص و بيص، حيث إنّ القوة البسيطة العديمة الشعور كيف يمكن أن يصدر عنها أفعال مختلفة و أشكال و تخاطيط متناسبة فالتجئوا في خصوص المصوّرة أو في مطلق القوى حسب ما سمعت إلى إثبات الملائكة.

و الذي يظهر من التأمّل التامّ في الكتاب العزيز و كلمات أهل البيت عليهم السّلام أنّ كل شي ء دخل في صقع الوجود فله نحو من الشعور.

و لذا قيل: إنّ الوجود كله شعور و اختيار و إرادة و تمييز و فهم و حياة، فهذه الصفات ثابتة لكل

شي ء من الأشياء على حسب رتبتها في الوجود فما كان قريبا بالمبدء كانت فيه هذه الأوصاف أقوى و أظهر و أشد كالإنسان الكامل الذي هو خليفة الرحمن و ما كان بعيدا عنه كانت في أضعف و أخفى كالحركات و الألوان سائر الأعراض و الجمادات و الأفاعيل الصادرة عنها إنما تصدر بالشعور و الإرادة أيضا و لذا نطقت الشريعة الحقّة بتسبيح الأشياء كلها من الدرة إلى الذرة، كما قال اللّه سبحانه: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «1».

و قال:

______________________________

(1) الجمعة: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 400

تفسير الصراط المستقيم ج 3 449

تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1».

و قال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ... «2».

و قال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ «3».

و قال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ «4».

و ورد في موضعين من القرآن شهادة الأدوات و الجوارح كالأيدي و الأرجل وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ «5».

و لذا قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه على ما حكاه عن بعضهم في الآية الثالثة: «إنّ هذه الآية تدلّ على أنّ العالم كلّه في مقام الشهود و العبادة إلا كلّ مخلوق له قوة التفكر، و ليس إلّا النفوس الناطقة الإنسانية و الحيوانية خاصة من حيث أعيان أنفسهم، لا من حيث هياكلهم،

فإنّ هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له و السجود، فأعضاء البدن كلّها مسبّحة ناطقة، ألا تراها تشهد على النفوس المسخّرة لها يوم القيامة من الجلود و الأيدي و الأرجل و الألسنة و السمع و البصر و جميع القوى.

ثم قال المجلسي قدس سره: و الأرواح و النفوس أيضا لها جهتان: فمن جهة مسخرة منقادة لربها في جميع ما أراد منها، و من جهة أخرى عاصية مخالفة لربها بل من هذه الجهة أيضا مسخرة ساجدة خاضعة لإرادة ربها حيث أقدرها على ما

______________________________

(1) الإسراء: 44.

(2) الحج: 18.

(3) النور: 41.

(4) سبأ: 10.

(5) فصلت: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 401

أرادت و دالة على وجود صانعها الذي جعلها مختارة مريدة قادرة على الإتيان بما أرادت، فهي من هذه الجهة أيضا مسبحة لربها ذاكرة له دالة عليه، منادية بلسان حالها من جهة إمكانها و حدوثها و افتقارها بأن لي ربا جعلني مريدا مختارا لحكمته و كماله و عنايته الأزلية، كما قال بعض العارفين: «عين إنكار منكر إقرار است».

ثم قال: و الكلام في هذا المقام دقيق، لا يمكن إجراء أكثر من ذلك منه على الأقلام و يصعب دركها على الأفهام، و قد أومأت إلى شي ء منه في شرح كتاب توحيد «الكافي» «1».

قلت: و بعد ثبوت هذه المقدمة لا ريب أنه قد جرت عادته بأن لا يصل الفيض إلى الأدنى إلا بواسطة الأعلى، و لا إلى الماديات إلا بواسطة المجردات، حسب ما هو مشروح في موضعه، و أن للّه تعالى ملائكة موكلة بمصالح العالم و أموره، أشرفهم أربعة موكلة على الأركان الأربعة العرشية، و هي الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة، و ملائكة أخر موكلة على الأملاك و العناصر و الكواكب و السحاب

و الرياح و الأشجار و النباتات و الحيوانات و أفراد الإنسان و ألحاظهم و ألفاظهم و حركتهم و سكونهم و فكرهم و نظرهم و قواهم و على القوى الطبيعية من الجاذبة و الدافعة و الممسكة و الهاضمة و المولدة و المصورة و غيرها.

و منهم الملكان الخلاقان يخلقان في الأرحام ما يشاء اللّه و يشكلانه و يصورانه و يكتبان عليه ما يشاء اللّه من الرزق و الحياة و العمر و الشكل و السعادة و الشقاوة إلى غير ذلك.

و منهم الملائكة الموكّلة بقطر الأمطار و إنزالها و بلوغها إلى مواقعها، فإنه ينزل مع كل قطرة من المطر ملك لا يصعد أبدا.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 60/ 168 ط طهران دار الكتب الاسلاميّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 402

و منهم الملائكة المشار إليها بقوله: وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً «1» و بقوله في سورة الذاريات: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً «2» حيث فسّره مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خبر ابن الكوا بالملائكة «3».

و بقوله تعالى: وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً «4» الآيات، و بقوله: وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً «5» إلى قوله: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً «6» المفسّرة بالملائكة، تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة، كما عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام «7»، أو بالملائكة الأربع الموكّلة الحاملة لعرش التكوين أو بالأفلاك التي يقع فيها أمر اللّه فيجري بها القضاء في الدنيا، كما رواه علي بن إبراهيم «8».

إلى غير ذلك من الملائكة التي لا تحصى و لا تستقصى وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ «9».

و

في «الصحيفة السجادية»: «و الذين على أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدك، و خزّان المطر، و زواجر السحاب، و الذي بصوت زجره يسمع زجل

الرعود «10»، و إذا سبّحت به حفيفة «11» السحاب التمعت «12» صواعق البروق،

______________________________

(1) الصفات: 1- 2- 3.

(2) الذاريات: 4.

(3) احتجاج الطبرسي: ص 386.

(4) المرسلات: 4.

(5) النازعات: 1.

(6) النازعات: 5.

(7) نور الثقلين: ج 5، ص 498، ح 12، عن مجمع البيان.

(8) نفس المصدر: ج 5، ص 498، ح 13 عن علي بن إبراهيم.

(9) المدثر: 31.

(10) الزجل: الصوت العالي.

(11) حفيفة السحاب: دويّه.

(12) التمعت: أضائت. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 403

و مشيّعي الثلج و البرد، و الهابطين مع قطر المطر إذا نزل، و القوّام على خزائن الرياح، و الموكّلين بالجبال فلا تزول، و الذين عرّفتهم مثاقيل المياه وكيل ما تحويه لواعج الأمطار و عوالجها و رسلك من الملائكة إلى الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء، و محبوب الرخاء و السفرة الكرام البررة، و الحفظة الكرام الكاتبين» «1» الدعاء.

ثم إن استناد الشؤون الإلهية و الفيوض الربانية إلى هذه الملائكة الذين هم مسخّرة بأمر اللّه تعالى لا يقدح في التوحيد، بل لعله لا يتم الآية بعد ملاحظة اختلاف المراتب و تفاوت الدرجات، و بطلان الطفرة، و عموم الفيض، كما أنه لا يقدح فيه ما أشرنا إليه مرارا من وساطة نبينا و آله المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين لجميع الخلق في الفيوض التكوينية و التشريعية، و أنه لا يصل إلى شي ء من ذرّات العالم شي ء من الفيوض إلا بحجابتهم و وساطتهم و بابيتهم، مع أن الفيوض كلها منه سبحانه، بل يصح أن يقال: إنه لا مؤثر في الوجود إلا اللّه، له الخلق و الأمر تبارك اللّه رب العالمين.

و لذا نسب قبض الأرواح مرة إليه سبحانه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «2».

و مرّة إلى ملك الموت: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ

بِكُمْ «3».

و أخرى إلى الرسل الذين هم أعوان ملك الموت من الملائكة

______________________________

(1) الصحيفة السجادية: دعائه عليه السلام في الصلاة على حملة العرش و كل ملك مقرب. رقم (12).

(2) الزمر: 42.

(3) السجدة: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 404

حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ «1» الآية و تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «2»، تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ «3»، تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ «4».

و

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خبر الزنديق الذي ادّعي التناقض في القرآن على ما رواه في «الاحتجاج»: «إن اللّه تعالى أجل و أعظم من أن يتولّى ذلك بنفسه، و فعل رسله و ملائكته فعله، لأنهم بأمره يعملون، فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلا و سفرة بينه و بين خلقه، و هم الذي قال اللّه فيهم: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ «5».

فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة، و من كان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة، و لملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة و النقمة يصدرون عن أمره، و فعلهم فعله، و كل ما يؤتونه منسوب إليه، فإذا فعلهم فعل ملك الموت، و فعل ملك الموت فعل اللّه، لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء و يعطي و يمنع و يثيب و يعاقب على يد من يشاء، فإن فعل أمنائه فعله، كما قال: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «6»» «7».

فهؤلاء الملائكة المسخرون المدبرون بأمره المتصرفون في صقع التقدير بملكة التسخير هم الذي سماهم هؤلاء الفلاسفة بأرباب الأنواع، فإن رجع الخلاف إلى مجرد التسمية فالأمر سهل، و إلا فينبغي إنكار الملائكة نظرا إلى استناد تلك

______________________________

(1) الأعراف: 37.

(2) الأنعام: 61.

(3) النحل: 32.

(4) النحل: 28.

(5) الحج: 75.

(6) الإنسان: 30.

(7) الاحتجاج:

ج 1، ص 367، ط قم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 405

الأفاعيل إلى قوى طبيعية غير شاعرة، كما صدر عن بعض متأخري الفلاسفة المتشبثين بأذيال أو ساخ الدهرية و الطباعية.

و لعل من أمعن النظر في كلمات قدماء الفلاسفة يعلم أنه لا خلاف بينهم في ذلك، بل هم موافقون للشريعة الحقة في إثبات هذه الأنوار المجردة الفلكية و الأرضية المسماة بالملائكة، و ستسمع إن شاء اللّه تمام الكلام في المقام في ذكر قصة نبينا آدم عليه الصلاة و السلام.

و مما يظهر النظر في كثير مما أسلفنا منهم من الكلام و اللّه ولي الفضل و الإنعام.

و أما المذهب المحكي عن أفلاطون فقد اختلفوا في تأويل كلامه، و بيان مرامه على أقوال كثيرة.

فعن الفارابي الملقب عندهم بالمعلم الثاني في مقالته المسماة بالجمع بين الرأيين: أن مراده من المثل هي الصور العلمية القائمة بذاته تعالى علما حصوليا لأنها باقية غير داثرة و لا متغيرة و إن تغيرت و زالت الأشخاص الزمانية و المكانية.

و عن شيخهم الرئيس أن المراد منها وجود الطبائع النوعية في الخارج أي الكلي الطبيعي للأشخاص و هو الماهية لا بشرط شي ء، فحكموا بوجود الماهيات المجردة عن العوارض في الخارج بناء على وجودها بعين وجود أشخاصها، مع عوارضها و لواحقها المادية وجودا متكثرا في العين، متوحدا في الحد و النوع.

و عن شيخ الإشراق أنها عبارة عن سلسلة الأنوار العقلية الغير المترتبة في العلية النازلة في آخر مراتب العقول فيصدر منها أنواع الأجسام البسيطة فلكية كانت أو عنصرية و المركبة حيوانية كانت أو نباتية أو جمادية.

و عن بعضهم أنها الأشباح المثالية المقدارية الموجودة في عالم المثال الذي هو المتوسط بين عالم المفارقات و عالم الماديات، و حمله الصدر الأجل

الشيرازي

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 406

على أن لكل نوع من الأنواع الجسمانية فردا كاملا في عالم الإبداع، و أنه هو الأصل و المبدأ لساير أفراد النوع و هي فروعه و معاليله و آثاره، و ذلك الفرد لتمامه و كماله لا يفتقر إلى محل، بخلاف هذه التشخصات التي هي لضعفها و نقصها مفتقرة إلى المادة و عوارضها، و لذا جاز اختلاف أفراده حقيقة واحدة في القيام بالمادة و عدمه لاختلافها كمالا و نقصا.

إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لا داعي للتعرض لها بعد وضوح ضعفها على أن نسبة تلك المطالب السخيفة إلى ذلك القائل رجم بالغيب و اتهام بالعيب فإن الصور العلمية منفية عندنا، بل عند معشر الموحدين، و ترتب العقول غير ثابت و أدلتهم ضعيفة، كعدم ثبوت الفرد الكامل من النوع بنفسه.

نعم، قد قررنا في موضعه أن الذوات و الماهيات و الذاتيات، بل كل ما كان له نحو من الامتياز كلها مجعولة مخلوقة للّه سبحانه في صقع الإمكان أو الأكوان، غير مفتقرة في تحققها إلى شي ء من المشخصات الفردية، و يترتب عليها في صقع وجودها جملة من الأحكام و الآثار و الخواص و هي المعبر عنها بالأمور الواقعية و القضايا النفس الأمرية و بحسبها يعتبر الصدق و الكذب.

و لعل كلام الشيخ الرئيس لا يأبى عن حمله على هذا، كما أن كلام أفلاطون يمكن حمله على إرادة عالم المثال الذي هو البرزخ بين المحسوس و المعقول، و لذا سموه ب «المثل الأفلاطونية».

و كيف كان فالخطب فيه سهل، إذ المهم إنما هو تحقيق الحقائق لا تعيين المقاصد، مع أن ما ذكرناه على وجه الاحتمال لا التسجيل وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ

تفسير الصراط

المستقيم، ج 3، ص: 407

الفصل الرابع في البحث عن قوله تعالى «العالمين»
اشارة

و هو جمع عالم بالفتح من العلم بالفتحتين بمعنى العلامة، و لذا سميت به الراية اسم لما يعلم به كالطابع و القالب و الخاتم بفتح العين فيها لما يطبع أو يقلب أو يختم.

و لذا قال الراغب: «فاعل كثيرا ما يجي ء اسما للآلة التي يفعل بها الشي ء كما سمعت لكنه غلب هنا في الأجناس التي يعلم بها الصانع تعالى، لا في الأفراد و لا فيما يعلم به غيره، و لذا لا يقال: عالم زيد و عمرو، و إنما يقال: عالم الأفلاك و عالم الأرواح، و عالم الملكوت و الجبروت و الناسوت، بل و لا يطلق باعتبار ما يعلم به غيره تعالى و من العلم بالكسر، و لعلّه لا يأبى عنه إطلاق كثير عنهم، لو لم يكن ظاهرا أو صريحا فيه، بل الأصل فيهما واحد.

نعم، ربما يقال: إنّه جمع لا واحد له من لفظه كالقوم و الرهط.

و عن أبي البقاء أنّه اسم موضوع للجمع و لا واحد له في اللفظ.

و عن الزجاج «1» أنه لا واحد لعالم من لفظه لأنه لما جمع أشياء مختلفة فإن جعل له مفرد صار جمعا لأشياء متفقة.

و فيه: أنه لا وجه للقول بكونه جمعا بعد جريان حكم المفرد عليه، و أما

______________________________

(1) الزجاج: أبو إسحاق إبراهيم بن السري النحوي، توفي سنة (319) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 408

بحسب المعنى فهو الجميع لا الأفراد المجتمعة.

مع أن الظاهر أن إفادة الكلية مستندة إلى حذف المتعلق الذي هو المضاف إليه على وجه الظهور، لا الوضع فغلب استعماله مطلقا على ما سوى اللّه، و مضافا إلى شي ء من كليات العوالم فيما أضيف إليه، كما أن الغالب كون المضاف إليه جنسا من أجناس ذوي

العلم أو من أجناس ما سوى اللّه، فيقال: عالم الجبروت، و عالم العقول و عالم النفوس، و هكذا.

و أما أفراد الجنس فقيل: إنه لا يجوز إطلاقه عليها، فلا يقال: عالم زيد و عمرو، و لذا أورد عليه بأنه إذا لم يطلق على شي ء من أفراد الجنس المسمى به، فإذا عرّف باللام امتنع استغراقه لأفراد جنس واحد، فإن اللفظ المفرد إنما يستغرق أفرادا يطلق على كل واحد منها و كذا إذا جمع و عرّف لم يتناول إلا الأجناس التي يطلق عليها دون افرادها.

و أجيب بأن العالم لما كان مطلقا على الجنس بأسره نزل منزلة الجمع، و من ثم قيل: هو جمع لا واحد له من لفظه، فكما أن الجمع إذا عرف استغرق آحاد مفرده و إن لم يكن صادقا عليها كقوله: وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «1» أي كل محسن، و يقال: لا أشتري العبيد أي كل واحد منهم، كذلك العالم إذا عرف يشمل أفراد الجنس المسمى به.

و فيه تأمل، فإن شمول العالم لأفراد الجنس ليس كشمول الجمع لمفرداته، بل كشمول الكل لأجزائه.

و لذا ربما قيل: بشمول العالمين لكليات العوالم، لا لأجزائها، فالفرق بينه و بين العالم دلالته على استغراق الأجناس، دون العالم الدال على جنس واحد منها،

______________________________

(1) آل عمران: 134.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 409

متعين بالتعريف أو منتشر بالتنكير، و يمكن تأييده بما

في تفسير الإمام عليه الصلاة و السلام قال عليه السّلام رَبِّ الْعالَمِينَ يعني مالك العالمين و هم الجماعة و في بعض النسخ الجماعات من كل مخلوق من الجمادات و الحيوانات «1»

إلى آخر ما مر في تفسير الرب.

و لعلّ الخطب فيه سهل فإنّ تربية الكل مشتمل على تربية جميع الأجزاء و الجزئيات، و البحث في

صدق العالم من العالمين على كل فرد من الأجناس هيّن جدّا، نعم لو كان المراد بالعالم مجموع ما سوى اللّه كان مع العالمين متحدا في المصداق حينئذ.

و لذا قيل: إن العالم و العالمين كعرفة و عرفات، فإنّ عرفات جمع بحسب الصيغة و اللفظ لا بحسب المعنى و الحقيقة إذ لم يستعمل إلا علما، و لم يوجد له واحد، و عرفة ليس واحد عرفات، لأن مدلولهما واحد، إذ ليس ثمّة أماكن متعددة كل منها عرفة حتى يقال: إنها جمعت على عرفات، فالعالم إذا أريد به المجموع من حيث المجموع فليس هناك غيره شي ء من الأفراد حتى يجمع على العالمين، فهو جمع لفظا لا معنى.

و في «القاموس»: العالم الخلق كله أو ما حواه بطن الفلك و لا يجمع فاعل بالواو و النون غيره، و غير ياسم «2».

و ربما يقال: إن العالم اسم لذوي العلم من الملائكة و الثقلين و تناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع، و لعله من باب استعمال الفاعل بالفتح في معنى الفاعل بالكسر، لكنه غير معهود، بل غير صحيح سيما مع أن المفتوح لم يستعمل إلا في

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري عليه السّلام: ص 11.

(2) يقال: الياسمون و الياسمين: نبات زهرة طيب الرائحة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 410

الآلة، فالأظهر كونه عند هذا القائل أيضا اسم آلة لما يعلم به الصانع، لكن لا لمطلقه بل لجنس واحد منه، و هو ذو العلم.

و ربما يقال: على أحد الوجهين المذكورين أن المراد به أفراد الإنسان، فإن كل واحد منهم عالم من حيث اشتماله على كل ما في العالم الكبير من العقول و النفوس و الأرواح و الظلال و قوى الأفلاك و العناصر و المعادن و النباتات و الحيوان

بل

روى بعض أهل العلم عن مولانا الصادق عليه السّلام أنه قال: «العالم عالمان، عالم كبير، و هو الفلك و ما فيه، و عالم صغير و هو الإنسان».

و قال: «سمي كل إنسان عالما لأن فيه جواهر العالم الأكبر من الأخلاط الأربعة لأن لحمه كالأرض و عظامه كالجبال و دمه في العروق كالمياه في الأنهار، و نفسه كالريح و شعره كالنبات و فيه من الملك العقل، و من البهائم الشهوة، فصار عالما يعلم به وحدانيته كما يعلم بالعالم الكبير» «1».

قلت: و الذي ينبغي أن يقال في المقام: أن العالم حسب ما سمعت له إطلاقات عديدة، فيطلق على مجموع ما سوى اللّه، و على خصوص ذوي العقول منهم، و على كل ما يعلم به الصانع، و على خصوص جنس من المخلوق، بلا فرق بين الأجناس العالية المنطقية كعالم الأجسام، و السافلة كعالم الحيوان، و الإنسان، و على كل فرد من أفراد الإنسان، لكونه مما يعلم به الصانع، أو لاشتماله على جميع ما في العالم الكبير و على كل جزئي من جزئيات عالم الأكوان بلا فرق بين الأجزاء

______________________________

(1) لم أظفر على مصدره و لكن

في «الاختصاص»: ص 142 روي عن العالم عليه السّلام ما يقرب منه، قال: «خلق اللّه عالمين متصلين: فعالم علوي، و عالم سفلي، و ركب العالمين جميعا في ابن آدم و خلقه كرويا مدورا فخلق اللّه رأس ابن آدم كقبة الفلك، و شعره كعدد النجوم، و عينيه كالشمس و القمر، و منخريه كالشمال و الجنوب و أذنيه كالمشرق و المغرب، و جعل لمحه كالبرق، و كلامه كالرعد، و مشيه كسير الكواكب ... إلخ»

و سيأتي تمامه في المتن إن شاء اللّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 411

الروحانية

و الجسمانية و هذه الإطلاقات و إن كانت جارية في العالم، فلا يستوعب جميع المخلوق على بعض الوجوه، إلا أن العالمين يستوعب جميع الأفراد من جميع الأجناس، و بالجملة جميع ما سوى اللّه بالشمول الجمعي أو المجموعي أو الأفرادي، فيحمل عليه ما لم يقم قرينة على خلافه، فلا يصغي حينئذ إلى ما ربما يقال: من أن العالمين أيضا له إطلاقات فيطلق على الإنس و الجن كقوله لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «1» و على الإنس كقوله: بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ «2» و على أهل الكتاب كقوله: وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ على خصوص المؤمنين كقوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ و على المنافقين: أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ و على أهل كل قرن من القرون: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ و على مجموع السموات و الأرض و ما بينهما كما في قوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا، و على كل ما سوى اللّه كما في آية الحمد.

إذ فيه: أن الظاهر إرادة المعنى الأخير منه في سائر الموارد أيضا، و اختصاص المورد لا يقتضي باختصاص المعنى بعد صلاحية الإطلاق في الجميع، و مساعدة الوضع في توافق العالمين.

قد سمعت التصريح في الخبر المتقدم عن مولانا الصادق عليه السّلام بانقسام العالم إلى العالم الصغير و الكبير، و قد وقع التلويح به في أخبار أخر أيضا، كما

روى عنه عليه السّلام أن الصورة الإنسانية هي أكبر حجة للّه على خلقه، و هي الكتاب الذي كتبه بيده، و هي الهيكل الذي بناه بحكمته، و هي مجموع صور العالمين، و هي المختصر

______________________________

(1) الفرقان: 1.

(2) الأنبياء: 71. تفسير

الصراط المستقيم، ج 3، ص: 412

من العلوم في اللوح المحفوظ، و هي الشاهد على كل غائب، و هي الحجة على كل جاحد، و هي الطريق المستقيم إلى كل خبر، و هي الصراط الممدود بين الجنة و النار «1».

و

في الأشعار المنسوبة إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: دوائك و ما تشعر* و دائك منك و لا تبصر و تحسب أنك جرم صغير* و فيك انطوى العالم الأكبر و أنت الكتاب المبين الذي* بأحرفه يظهر المضمر فلا حاجة لك في خارج* تخبّر عنك بما تنظر

و إليه الإشارة في التفسير الباطن بقوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «2»، فإن الإنسان مطرح لأشعة الأنوار القدسية، و بقوله: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «3» أي جعله مظهرا لجميع الأسماء الإلهية، و التجلّيات الربانية و لذا اختصّ من بين الموجودات بالخلافة الإلهية في العوالم الكلية، فإن نسخة وجود آدم موافقة لما في العالم و أنموذج له، و لذا يقال: إن الإنسان عالم صغير و العالم إنسان كبير، و ربما يقال بالعكس على بعض الوجوه، فقد اندرج في الإنسان على وجه الإجمال و الاختصار كليات ما في العوالم كلها، فإنه قد تنزل منها و انصبغ بصبغها.

ففي الشخص الإنساني نشأة إجمالية قرآنية، و في الإنسان الكبير نشأة تفصيلية فرقانية.

كما

رواه صاحب كتاب «الاختصاص» قال العالم: خلق اللّه عالمين: فعالم علوي و عالم سفلي، و ركب العالمين جميعا في ابن آدم و خلقه كرويا مدورا، فخلق

______________________________

(1) شرح الأسماء الحسنى: ج 1/ 12.

(2) الواقعة: 75.

(3) البقرة: 31. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 413

اللّه رأس ابن آدم كقبة الفلك، و شعره كعدد النجوم، و عينيه كالشمس و القمر، و منخريه كالشمال و الجنوب، و أذنية كالمشرق و المغرب،

و جعل لمحه كالبرق، و كلامه كالرعد، و مشيه كسير الكواكب، و قعوده كشرفها، و غفوه «1» كهبوطها، و موته كاحتراقها، و خلق في ظهره أربعة و عشرين فقرة كعدد ساعات الليل و النهار، و خلق له ثلاثين معي كعدد الهلال ثلاثين يوما، و خلق له اثنى عشر وصلا كعدد السنة اثنى عشر شهرا، و خلق له ثلاثمائة و ستّين عرقا كعدد السنة ثلاثمائة و ستين يوما، و خلق له سبعمائة عصبة و اثنى عشر عضوا، و هو مقدار «2» ما يقيم الجنين في بطن أمه، و عجنه من مياه أربعة: فخلق المالح في عينيه، فهما لا يذوبان في الحر، و لا يجمدان في البرد، و خلق المر في أذنيه لكيلا تقربهما الهوام، و خلق المني في ظهره لكيلا يعتريه الفساد و خلق العذب في لسانه ليجد طعم الطعام و الشراب، و خلقه بنفس و جسد و روح، فروحه التي لا تفارقه إلا بفراق الدنيا، و نفسه الّتي يرى بها الأحلام و جسمه هو الذي يبلى و يرجع إلى التراب «3».

و ذكر بعض أرباب التحقيق في بيان هذا التطبيق أنّ نظير الأفلاك طبقات أعضائه التسعة المتناضدة المصلح كل عال لسافله من المخ و العظم و العصب و اللحم و الدم و الأوردة و الشرائين و الجلد و الشعر و الظفر.

و نظير الأقسام الاثنى عشر المسماة بالبروج الثقب الاثنى عشر التي نصفها في اليمين الجنوبي و نصفها في الشمال الشمالي، و هي ثقبتان في كل من العين و الأذن و الأنف و الثدي و الفرج مع الفم و السرة.

و نظير السيارات الأعضاء الرئيسية السبعة و هي الدماغ و القلب و الكبد

______________________________

(1) الغفو: النومة الخفيفة.

(2) «و هو

مقدار ما يقيم» أي الإثنا عشر، فإن أكثر الحمل إثنا عشر شهرا على الأشهر.

(3) بحار الأنوار: ج 61/ 253- 254، ح 6، عن «الاختصاص»: ص 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 414

و الطحال و الرئة و الكلية و الأنثيان، أو الأعضاء الآلية و هي اليد و الرجل و العين و الأذن و اللسان و البطن و الفرج.

و نظائر روحانيات الكواكب السبعة الفعالة القوى السبعة المدركة، فالحواسّ الظاهرة كالمتحيرة، و العاقلة كالشمس، و الناطقة كالقمر، إذ الناطقة مستفيدة للنور من العاقلة، و لذلك عدد حروف النطق كعدد منازل القمر.

و كما أن لكل من الخمسة المتحيّرة بيتين لكلّ من الحواس الخمس مجريان، فللذوق الفم و الفرج، و للمس اليدان، و الباقي ظاهر.

و كما أن لكل من الشمس و القمر بيتا واحدا، فللعاقلة بيت واحد هو وسط الدماغ كوسط الأفلاك للشمس، و للناطقة اللسان، و نظير الجوزهرين الصحة و السقم حيث لا يدرك ذاتهما بل أثرهما و لذلك غلب آثارهما في الدماغ و القلب كآثار الجوزهرين في الشمس و القمر بالكسوف و الخسوف. و لذلك يسري صحتهما و سقمهما في سائر الأعضاء سريان حال الشمس و القمر في سائر الكواكب، و نظير الأركان الأخلاط.

ثم البدن كالأرض، و العظام كالجبال، و البطن كالبحر، و العروق كالأنهار، و المخ كالمعدن، و الشعر كالنبات، و القدّام كالمشرق، و الخلف كالمغرب، و اليمين كالجنوب، و الشمال كالشمال، و الأنفاس كالرياح، و الصوت كالرعد و البكاء كالمطر، و الفم كظلمة الليل، و النوم كالموت، و اليقظة كالحياة، و الصبى كالربيع، و الشباب كالصيف، و الكهولة كالخريف، و الشيخوخة كالشتاء، و الحركة كدوران الكواكب، و الحضور كالطلوع، و الغيبة كالغروب، و استقامة أموره كاستقامة الكواكب،

و التوقف كالوقوف، و الندامة كالرجوع، و الجاه و الرفعة كالشرف، و الأوج و عكسه كالهبوط، و النفس الإنسانية كالملك، و الجسد كالمدينة، و القوى كالعسكر، و الملائكة و الأعضاء كالرعايا و الخدم، و الحواس الظاهرة كأصحاب الأخبار

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 415

المنصوبة في كل ناحية معينة من المملكة لاتصال خبر مخصوص لا مشارك له.

ثم القوى الخمس الباطنة للنفس الناطقة ثلاثة منها كالندماء و الحجاب و الخواص المطلعة على أسرار الملك و هي المتخيلة في مقدم الدماغ، و المفكّرة في وسطه، و الحافظة في آخره.

و الرابعة و هي الناطقة كالترجمان المعبّر عما في ضمير الملك.

و الخامسة و هي العاقلة كالوزير المدبر لأمر المملكة و سياسة الرعية.

و هذه القوى متفاوتة في إتمام أمر الملك، فالمتخيلة تأخذ صور المحسوسات من الحواس الظاهرة و يسلّمها للمفكّرة التي يتصرّف فيها و يميّز بين الحق و الباطل و يسلّمها إلى الحافظة ليأخذ منها الذاكرة، و يظهرها الناطقة بعبارة توافق إرادة النفس لتستعلمها العاقلة في أعمالها المذكورة.

إلى غير ذلك من وجوه المطابقة و الموافقة، لكنها مع ابتنائها على بعض المناسبات كما ترى لا يخلو جملة منها من بعض التكلف.

و الذي ينبغي أن يقال في المراد بهذا التطبيق مع عدم المنع عما ذكر، سيما مع ورود بعض النصوص به: أنّ الإنسان و إن كان من حيث حقيقته و نورانيته و ملكوته سابقا على الأشياء كلها في رتبة الوجود إلّا أنّه في عالم الناسوت متأخّر عنها جميعا، إذا الحقائق الملكوتية يتأخر عنها في الناسوت ما كان مقدّما منها في الملكوت كتأخّر ظهور الثمرة عن كينونة الشجرة مع أنها الأصل و المادة للشجرة، و تأخر خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و اله و سلّم

عن سائرهم مع أنه كان نبيا و آدم بين الماء و الطين، بل آدم و من دونه تحت لوائه، و كلهم خلقوا من أشعة نوره، و فاضل ظهوره، و تأخر إفاضة الأرواح عن خلق الأبدان مع أنّ اللّه تعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف عام أو سبعين ألف عام، فلمّا خلق اللّه سبحانه كليّات العوالم مبتدأ بالأعلى الأصفى الألطف الأشرف إلى أن انتهى الأمر إلى الأسفل الأكثف خلق الإنسان في أنزل

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 416

مراتب الوجود و آخرها، و لذا خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «1» أي سموات العقول و الأرواح و غيرها من المجردات التي لا تعلق لها بمادة أو بمدة، و أرض النفوس و الأجسام و غيرها من الماديّات التي هي كالقشور و الأكمام الكثافات، فلمّا تمت الأدوار و عادت الأكوار و كملت الأنوار و استخبت الأسرار بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من ماء مهين في قرار مكين، و حيث إنّ أول السنة يوم السبت المتعلق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لكنه أول ما خلق اللّه فكان خلق الإنسان في يوم الجمعة لكونه مجمعا للعوالم الكلية، و لذا سمي به.

و إليه الإشارة

بقول مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه في «الكافي» قال: «إنّ اللّه عزّ و جل لما أراد أن يخلق آدم على نبينا و آله و عليه السّلام بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا و أخذ من كل سماء تربة، و قبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر اللّه كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه

و القبضة الأخرى بشماله» «2» الخبر.

و ذلك أن اللّه تعالى خلق ألف ألف عالم و ألف ألف آدم، و نحن في آخر العوالم و آخر الآدميين، فأول ساعة من يوم الجمعة إشارة إلى أول آخر مراتب العوالم بأجمعها، و هو يوم جمع فيه مراتب الوجود الكلية من عالم المشية و العقل و النفس و الروح و المثال و الطبيعة و العنصر، فبدأ خلقه من الطين الذي هو مجمع القابليات، و محل الاستعدادات، و مطرح أشعة التجليات و الإشراقات، ثم أفيض عليه من القوى و الأنوار مبتدأ من الأخسّ الذي هو القوى النباتية ثم الحيوانية

______________________________

(1) الأعراف: 54.

(2) بحار الأنوار: ج 67/ 87، ح 10، عن «الكافي»: ج 2/ 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 417

و هكذا إلى أن ينتهي إلى الناطقة القدسية و الكلية الإلهية، عكس القوس الأولى هبوطا و صعودا، فالإنسان قد اجتمعت فيه قوى المعادن و النباتات و الحيوانات و الملائكة، بل قوى بسايط العالم من العناصر الأربعة، و الأفلاك السبعة التي لكل منها روحانية خاصّة، و كوكبها محل القلب منها، فإن الشمس ينبوع القوة الحيوانية، و القمر ينبوع القوة الطبيعية، و زحل ينبوع القوة الماسكة، و المشتري ينبوع القوة النامية، و عطارد ينبوع القوة الفكرية و الذكرية، و المرّيخ ينبوع القوّة الغضبية، و الزهرة ينبوع القوة الشهوية، و لذلك يكون عطارد و المرّيخ و الزهرة في المواليد أدلّة على أخلاق صاحبها و صناعته.

كما ذكر معلم الأحكام بطلميوس في كلمة من كلماته، و ربما تساعده التجارب الأحكامية في زائجة المواليد.

نعم، ذكر بعض مشايخنا عطر اللّه مرقده أنّ روحانية القوة العلمية في فلك المشتري، و الخيالية في فلك الزهرة، و الفكرية في عطارد، و الوهمية في

المريخ، و التعقلية في زحل، و الحياة في فلك القمر، و الوجود الثاني من الشمس، فقبض من كل هذه الأفلاك قبضة، و من محدّد الجهات قبضة خلق منها قلبه، و من الكرسي قبضة خلق منها صدره، حكاه من بعض العارفين ثم قال: و أنا أكتب هذا فيما كتبت حيث أقرّ به قلبي استنادا إلى اعتبارات منها قطعية و منها ظنية متآخمة للعلم، و المستند ما يشير إليه الأخبار.

قلت: و لست بصدد ترجيح أحد القولين على الآخر، لكن المقصود المشترك بينهما كون الإنسان مجمعا لقواها و روحانيتها مطرحا لأشعة نجومها، و لذا سماه اللّه تعالى في باطن قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «1».

______________________________

(1) الواقعة: 75.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 418

و منه انكشف السر

عن قول مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء: «يا من استوى برحمانيته على العرش، فصار العرش غيبا في رحمانيته كما كانت العوالم غيبا في عرشه، محقت الآثار بالآثار، و محوت الأغيار بمحيطات الأفلاك الأنوار «1».

فالمراد بالعرش في المقام هو قلب المؤمن الذي صارت العوالم غيبا فيه و استوى عليه الرحمن برحمانيته.

و لذا

ورد: «لا يسعني أرضي و لا سمائي و لكن يسعني قلب عبدي المؤمن» «2».

فكما أنّ القلب عرش للعالم الصغير فكذلك العرش العظيم قلب للإنسان الكبير، و إدراك الإنسان لكل من العوالم و المراتب إنما هو بواسطة ما خمر فيه من اقبضة المأخوذة من ذلك العالم.

فالعوالم متطابقة متوافقة، و تلك القبضات كالجداول و الأنهار المتصلة بالبحر، و كالكوى و الشبابيك التي يدخل منها الضوء في البيت.

فظاهر الإنسان ناسوتي جسماني عنصري، و في بدنه العنصري بدن مثالي برزخي، و له سبيل آخر إلى عالم المثال المسمى بعالم الهور قليا

و بالخيال المنفصل و المراد بالسبيل هو الخيال المتصل الذي يحصل به الاطلاع على المقادير المجردة عن المواد العنصرية، و لذا يسمى بالخيال المقيّد، كما أن عالم المثال يسمى بالخيال المطلق، و عند تحقق النوم و انقطاع توجه النفس عن التصرف في هذا البدن، ينفتح الباب بينها و بين هذا العالم، فيشاهد ما فيها من الحقائق المتجلية التي يعبر عنها

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 98/ 227، عن «الإقبال»: ص 350.

(2) بحار الأنوار: ج 55/ 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 419

بالرؤيا الصادقة و بالمبشّرات، أو من التجليات الفاسدة التي يختلقها بواسطة الوهم المعبرة عنها بأضغاث الأحلام.

و له أيضا باب متصل إلى عالم النفوس بأقسامها الأربعة الآتية و إلى العقول بأقسامها، فإن للعقل رؤوسا بعدد الخلائق، كما

ورد في الخبر: «و لكل آدمي رأس من رؤوس العقل» «1».

و هذا الباب قد ينسد فيعرض الجنون الذي هو ستر العقل بحجاب الغفلة، أو المعصية أو الأمور البدنية، و غلبة الاخلاط الغير طبيعية.

و مع انفتاحه قد يتسع فيكمل العقول و يتمّ الأحلام فيصير القلب مجتمعا و المدينة حصينة، و الصدور أمينة و الأحلام و زينة.

و هذا إذا انفتح الباب و نعق الغراب، و أزيل ريشه لكينونة العقاب، و وضع اللّه يده على رؤوس أولي الألباب بظهور ولي اللّه الذي عليه الحساب و إليه الإياب.

و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام على ما رواه في «الكافي»: «إذا قام قائمنا وضع اللّه يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم و كملت به أحلامهم» «2».

و له أيضا باب إلى عالم المشية يسمى بالفؤاد و باب الاستعداد و مادة المواد، و مجمع الأضداد، و غاية المراد، و أقصى البلاد من أرض السواد و فاقد الأنداد، و هو

المشية الجزئية و الكلية الإلهية به يشاهد بعين اليقين، و يصل إلى حق اليقين، و هو المعبر عنه بالوجود الأول، و الوجود المطلق أي بالنسبة إلى الشخص، و إلا فهو مقيّد

______________________________

(1)

بحار الأنوار: ج 1/ 99، عن «علل الشرائع» عن علي بن أبي طالب عليه السّلام أنه قال: «إن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم سئل مما خلق اللّه عزّ و جل العقل؟ قال: خلقه ملك له رؤوس بعدد الخلائق من خلق و من يخلق إلى يوم القيامة و لكل رأس وجه، و لكل آدمي رأس من رؤوس العقل و اسم ذلك الإنسان على وجه ذلك الرأس مكتوب ... إلخ».

(2) بحار الأنوار: ج 52/ 328.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 420

ينتهي إلى المطلق، كما أن المشية الجزئية تنتهي إلى الكلية التي هو العقل.

ثم إنّك إذا تتبعت أنحاء الموجودات و تطوّر الكائنات وجدت في كل نوع من أنواعها أو جنس من أجناسها صفة غالبة يختص بها، بحيث كأنّه صار مظهرا لها من بين سائر الموجودات، و لذا لا يكاد يفقدها فرد من أفراده.

و أما الإنسان فهو الجامع لجميع هذه الصفات و الأطوار بحسب القبول و الاستعداد، و لذا يتصف بها أفراده على وجه الجمعية أو التوارد أو الاختصاص الناشي من الفعل لا الذات لبقاء قبول غيرها، بل فعلية غيرها في غيره من الإفراد، و لذا ترى فيه خاصية الملائكة من الطاعة و الحياة، بل التقوى و الانتعاش و التغذي بالعبادة، و الخاصية الكلية لجميع الحيوانات من جلب المنفعة و دفع المضرة إمّا قهرا و غلبة كالسباع، و هم الملوك و الجبابرة و الفراعنة، الذي يسعون في الأرض علوا و فسادا، أو تملّقا كالكلاب و الهرّة، أو

حيلة كالعنكبوت و الثعلب، ففيهم الزاهد العابد كالملائكة، و الطاغي المتمرد كالشياطين و الخناس في صدور الناس كالوسواس، و الشجاع القوي المتهوّر كالأسد، و المتكبر المتنمّر كالنمر، و الجبان كالأرنب، و السخي كالديك، و البخيل كالكلب، و المتسلح كالقنفذ، و الهارب كالطير، و الفخور كالطاووس، و السارق الموذي كالفأرة، و الوحشي كالنمر، و الأنيس كالحمام، و الحقير كالحمار، و الصانع المهندس كالنحل، و السليم كالغنم، و الحمول كالبقر، و الحقود كالجمل، و الحريص كالخنزير، و الجامع الذخار كالنمل، و الشموس كالبغل، و المبارك كالطوطي، و الشوم كالبوم، إلى غير ذلك من الصفات الظاهرة في مظاهر الموجودات المجتمعة في المؤخر الجامع الذي هو الإنسان، و لذا كان مظهرا في كينونته للمقدم الجامع الذي هو اسم اللّه، لاحتوائه على جميع النشآت و التجليات، و قابليته للتعرض لقاطبة النفحات، و توسطه بين العوالم الخمس الكلية التي يعبر عنها بالحضرات، لا على الوجه الذي فسّرها الصوفية من أن أولها حضرة

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 421

الغيب المطلق، و عالمها عالم الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية، لابتنائه على رأيهم الفاسد الكاسد من وحدة الوجود، و الغيب المطلق مما لا اسم له و لا رسم، و الحضرة العلمية ليس فيها شي ء، و الأعيان الثابتة غير ثابتة عندنا، بل معها ينثلم التوحيد.

بل على الوجه المستفاد من طريق أهل البيت عليهم الصلاة و السلام، و هو أن الحضرة الأولى هي الحضرة المشية، و هو الغيب المطلق و عالمها عالم الجبروت و الرحموت، و تقابلها عالم الشهادة المطلقة المعبر عنها بعالم الملك و الناسوت، و حضرة الغيب المضاف.

و هي تنقسم إلى ما يكون أقرب إلى الغيب المطلق، و عالمها عالم العقول و النفوس، و الأرواح

الملكوتية المجردة من التعلقات الذاتية بالمواد الناسوتية.

و إلى ما يكون أقرب إلى الشهادة، و عالمها عالم المثال، و هو المقادير المجردة عن المواد حسب ما يأتي إليه الإشارة.

و أما الخامسة فهي الحضرة الجامعة للحضرات الأربعة المذكورة، و عالمها عالم الإنسان الجامع لجميع العوالم، و ما فيها حسب ما سمعت إشارة إلى تعدد العوالم، و قد استفاضت الأخبار بل تواترت بتعدد العوالم و تكثرها و ترتبها في السلسلة الطولية و العرضية، بل يستفاد من بعضها أنّ هذا العالم الجسماني المحاط بالجسم الأعظم المسمى بمحدّد الجهات بما فيه من البسائط و المركبات، و ما تعلق به من الأرواح و القوى عالم من تلك العوالم الكثيرة التي أنهاها بعض الأخبار إلى ألف ألف عالم، كما أنّ أبانا أبا البشر و ذريته آدم من أولئك الآدميين الألف ألف.

ففي «الخصال» و «التوحيد» عن جابر بن يزيد، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 422

قول اللّه عزّ و جل: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ «1» فقال:

«يا جابر! تأويل ذلك أن اللّه عزّ و جل إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم، و أسكن أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار جدد اللّه «2» عزّ و جل عالما غير هذا العالم، و جدّد خلقا «3» من غير فحولة و لا إناث، يعبدونه و يوحدونه، و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم، و سماء غير هذه السماء تظلهم، لعلك ترى أن اللّه عزّ و جل إنما خلق هذا العالم الواحد، و ترى أن اللّه عزّ و جل لم يخلق بشرا غيركم، بلى و اللّه! لقد خلق اللّه تعالى ألف ألف عالم،

و ألف ألف آدم، أنت في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميّين» «4».

و

في «الخصال» و «منتخب البصائر» عن الصادق عليه السّلام قال: «إن للّه عزّ و جل اثنى عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين ما يرى عالم منهم أن للّه عزّ و جل عالما غيرهم و أنا الحجة عليهم» «5».

و لعلّ اختلاف العدد فيهما منزّل على ملاحظة كليات العوالم و جزئياتها، و كذا في غيرهما من أخبار الباب، مع ظهور الحمل في بعضها على خصوص السلسلة الطولية أو العرضية أو العموم.

فإنّ أخبار هذا الباب مختلفة جدا، فمنها ما سمعت من الالف ألف، و الاثنى عشر ألف، و منها ما

روي عن ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنه قال: «إن من وراء قاف سبع بحار و كل بحر خمسمائة عام، و من وراء ذلك سبع أرضين يضي ء نورها

______________________________

(1) سورة ق: 15.

(2)

في بعض النسخ: «أوجد اللّه».

(3)

في الخصال: «و جدد عالما».

(4) الخصال: ج 2/ 652، ح 54، ط قم مؤسسة النشر الإسلامي 1414 و «التوحيد»:

ص 277، باب 38، ح 2.

(5) الخصال: ج 2/ 639، ح 14. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 423

لأهلها، و من وراء ذلك سبعون ألف أمة خلقوا على أمثال الطير، و هو و فرخه في الهواء لا يفترون عن تسبيحة واحدة، و من وراء ذلك سبعون ألف أمة خلقوا من ريح، طعامهم ريح و شرابهم ريح، و ثيابهم من ريح، و آنيتهم من ريح، و دوابهم من ريح، لا تستقرّ حوافر دوابّهم إلى الأرض إلى قيام الساعة، أعينهم في صدورهم، ينام أحدهم نومة واحدة، ينتبه و رزقه عند رأسه، و من وراء

ذلك ظل العرش، و في ظل العرش سبعون ألف أمّة ما يعلمون أنّ اللّه خلق آدم و لا ولد آدم، و لا إبليس و لا ولد إبليس، و هو قوله تعالى: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «1»» «2».

و منها ما

رواه في «الكافي» عن ابن عباس، قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن الخلق، فقال: «خلق اللّه ألفا و مائتين في البرّ، و ألفا و مائتين في البحر، و أجناس من بني آدم سبعون جنسا، و الناس ولد آدم ما خلا يأجوج و مأجوج» «3».

و منها ما

رواه في «البصائر» عن مولانا أبي الحسن عليه السّلام قال: «إن للّه خلف هذا النطاق زبرجدة خضراء، فمن خضرتها «4» اخضرت السماء، قيل «5»: و ما النطاق؟

قال: الحجاب، و للّه وراء ذلك سبعون ألف عالم، أكثر من عدد الإنس و الجن، كلهم يلعن فلانا و فلانا» «6».

و منها أخبار القباب،

ففي «الكافي» عن أبي حمزة، قال: قال أبو جعفر عليه السّلام ليلة و أنا عنده و نظر إلى السماء: يا أبا حمزة! هذه قبة أبينا آدم، و إن للّه عزّ و جل

______________________________

(1) النحل: 8.

(2) بحار الأنوار: ج 57/ 348، ح 44.

(3) بحار الأنوار: ج 6/ 314، عن «الكافي».

(4)

في البحار: «منها اخضرت السماء».

(5) في البحار: قلت- و القائل هو الراوي عبيد اللّه بن عبد اللّه الدهقان-.

(6) بحار الأنوار: ج 58/ 91، ح 10، عن «منتخب البصائر». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 424

سواها تسعة و ثلاثين قبة فيها خلق اللّه ما عصوا اللّه طرفة عين» «1».

و

فيه، عن عجلان أبي صالح، قال: دخل رجل «2» على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له: جعلت فداك! هذه قبة آدم؟ قال: «نعم، و للّه قباب

كثيرة، ألا إنّ خلف مغربكم «3» هذا تسعة و ثلاثين مغربا أرضا بيضاء مملوة خلقا يستضيئون بنورنا لم يعصوا اللّه عزّ و جل طرفة عين، لا يدرون أخلق اللّه آدم أم لم يخلقه، يتبرءون من فلان و فلان» «4».

و

في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام: «إنّ من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس فيها خلق كثير، و إن من وراء قمركم أربعين قمرا فيها خلق كثير لا يدرون أن اللّه خلق آدم أم لم يخلقه ... إلخ» «5».

و

فيه عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنه يقول: «إن من وراء شمسكم هذه أربعين عين شمس، ما بين شمس إلى شمس أربعون عاما فيها خلق كثير ما يعلمون أنّ اللّه عزّ و جل خلق آدم أو لم يخلقه، و إن من وراء قمركم هذا أربعين قمرا، ما بين قمر إلى قمر مسيرة أربعين يوما فيها خلق كثير ما يعلمون أن اللّه عزّ و جل خلق آدم أو لم يخلقه ... إلخ» «6».

و

في خبر السحابة المروي بطرق عديدة عن سلمان رضي اللّه عنه ... إلى أن قال: و قمنا ندور في قاف، فسألت مولاي أمير المؤمنين عليه السّلام مما وراء قاف، فقال:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 57/ 335، عن روضة الكافي، ح 300.

(2)

في بحار الأنوار: عن عجلان أبي صالح قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قبة آدم فقلت له:

هذه قبة آدم؟ ...

(3)

في البحار: «أما إن خلق مغربكم ...».

(4) بحار الأنوار: ج 27/ 45، ح 5، عن «البصائر» ص 145.

(5) بحار الأنوار: ج 57/ 329، عن «البصائر».

(6) بحار الأنوار: ج 27/ 45، عن «البصائر» ص 145. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 425

«ما ورائه «1» أربعون دنيا، كل دنيا

مثل هذه الدنيا أربعين مرة».

فقلنا: كيف علمك بذلك؟

فقال عليه السّلام: كعلمي بهذه الدنيا و من فيها و بطرق السماوات و الأرضين» «2».

و

عن ابن عباس عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: إن من وراء هذه الآفاق عالما لا يصل إليه أحد غيري، و أنا المحيط بما وراء، و علمي به كعلمي بدنياكم هذه، و أنا الحفيظ الشهيد عليها، و لو أردت أن أجوب الدنيا بأسرها و السموات السبع و الأرضين في أقل من طرفة عين لفعلت، لما عندي من الاسم الأعظم ... إلخ» «3».

فقبة أبينا آدم هي محدد الجهات المحيط بجميع أجسام هذا العالم، و لكونه بحركته بجميع أجسام هذا العالم، و لكونه بحركته الدورية وعاء للزمان عبر عنه بقبة الزمان على بعض الوجوه

في دعاء السمات، حيث قال: و بمجدك الذي ظهر لموسى بن عمران على قبة الزمان «4»

- بناء على قراءته بالزاي المعجمة-.

و إنما قلنا: على بعض الوجوه لأن فيها وجوها أخر على هذه القراءة، إذ قد فسرت بالمساجد و بيوت الأنبياء، و بيت المقدس، و بالقبة التي بناها موسى و هارون على التيه بأمره تعالى فكان معبدا لهم.

قيل: و قد تكرر ذكر هذه القبة في التوراة.

______________________________

(1)

في «نفس الرحمن في فضائل سلمان»: قال عليه السّلام: «ورائه ما لا يصل إليكم علمه»، فقلنا:

تعلم ذلك يا أمير المؤمنين عليه السّلام؟ فقال عليه السّلام: «علمي بما ورائه كعلمي بحال هذه الدنيا و ما فيها ... إلخ».

(2) نفس الرحمن للنوري: ص 471- 476، و رواه البحراني في «مدينة المعاجز» عن «منهج التحقيق».

(3) بحار الأنوار: ج 57/ 336، ح 26.

(4) مصباح المتهجد- البلد الأمين: ص 91، جمال الأسبوع: ص 323، و عنهما البحار: ج 90، ص 96.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 3، ص: 426

و

في تفسير القمي عن الصادق عليه السّلام في حديث إبراهيم على نبينا و آله و عليه السلام أنه لما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر اللّه إبراهيم أن يبني البيت، فقال: يا رب في أي بقعة؟ قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل القبة التي أنزلها على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان، أيام نوح، فلما غرقت الدنيا رفع اللّه تلك القبة و غرقت الدنيا إلا موضع البيت فسميت البيت العتيق «1».

و منها

خبر الخيام المروي في «البصائر» عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام، فركض برجله الأرض فإذا بحر فيه سفن من فضة، فركب و ركبت معه حتى انتهى إلى موضع في خيام من فضة، فدخلها، ثم خرج، فقال:

«رأيت الخيمة التي دخلتها أو لا؟» فقلت: نعم، قال: «تلك خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، و الأخرى خيمة أمير المؤمنين عليه السّلام، و الثالثة خيمة فاطمة عليها السّلام، و الرابعة خيمة خديجة، و الخامسة خيمة الحسن عليه السّلام، و السادسة خيمة الحسين عليه السّلام، و السابعة خيمة علي بن الحسين عليه السّلام و الثامنة خيمة أبي عليه السّلام و التاسعة: «خيمتي و ليس أحد منا يموت إلا و له خيمة يسكن فيها» «2».

و

في «البصائر» خبر طويل في إرائة أبي جعفر عليه السّلام جابرا ملكوت الأرض، و فيه: فقال لي: «هل تدري أين أنت؟»، قلت: لا، قال: «أنت واقف على عين الحياة التي شرب منها الخضر عليه السّلام»، و خرجنا من ذلك العالم إلى عالم آخر، فسلكنا فيه فرأينا كهيئة عالمنا في بنائه و مساكنه و أهله، ثم خرجنا إلى عالم

ثالث كهيئة الأول و الثاني حتى وردنا خمسة عوالم، قال: ثم قال عليه السّلام: «هذه ملكوت الأرض و لم يرها إبراهيم، و إنما رأى ملكوت السموات، و هي إثنا عشر عالما، كل عالم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12/ 99، ح 6، عن «تفسير القمي»: ص 51- 53.

(2) بصائر الدرجات: ص 119، و عنه «البحار»: ج 6/ 245، ح 75، و ج 47: ص 91، ح 97، و ج 57/ 328. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 427

كهيئة ما رأيت، كلّما مضى منا إمام سكن أحد هذه العوالم حتى يكون آخرهم القائم في عالمنا الذي نحن ساكنوه» «1» الخبر.

و

فيه: إنّ عالم المدينة- و أراد به نفسه- يقطع اثنى عشر شمسا و اثنى عشر قمرا، و اثنى عشر مشرقا و اثنى عشر مغربا و اثنى عشر برا و اثنى عشر بحرا و اثنى عشر عالما ...» «2» الخبر.

و منها ما

رواه ابن طاووس في كتاب «النجوم» قال: إن رجلا أتى علي بن الحسين عليهما السّلام و عنده أصحابه فقال له: من الرجل؟ قال: أنا منجم قائف عرّاف، فنظر إليه ثم قال: هل أدلّك على رجل قد مرّ منذ دخلت علينا في أربعة آلاف عالم؟

قال: من هو؟ قال عليه السّلام: أما الرجل فلا اذكره، و لكن إن شئت أخبرتك بما أكلت و ادّخرت في بيتك، قال: نبئني، قال: أكلت في هذا اليوم حيسا «3»، و أما في بيتك فعشرون دينارا، منها ثلاثة دنانير وازنة، فقال له الرجل: أشهد أنك الحجة العظمى و المثل الأعلى و كلمة التقوى، فقال له: و أنت صدّيق امتحن اللّه قلبك بالإيمان فأثبت «4».

و

في «البصائر» ما يقرب منه، إلا أن فيه: هل أدلك على رجل قد

مر مذ دخلت علينا في أربعة عشر عالما، كل عالم أكبر من الدنيا ثلاث مرات لم يتحرك من مكانه «5».

______________________________

(1) البصائر: ص، و عنه «بحار الأنوار»: ج 57/ 327- 328.

(2) بصائر الدرجات: ص 401، ح 16، مع تفاوت يسير.

(3) الحيس: بفتح الحاء المهملة و سكون الياء-: طعام مركب من تمر و سمن، و سويق. و في «البحار»: (الجبن) بالجيم و الباء الموحدة.

(4) فرج المهموم في معرفة الحلال و الحرام من النجوم: ص 111، ط النجف، و عنه «بحار الأنوار»: ج 46/ 42، ح 40.

(5) بصائر الدرجات: ج 8/ 400- 401، ح 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 428

تنبيه

لا يخفى عليك أن المقصود الأصلي في المقام من نقل الأخبار المتقدمة إنما هو التنبيه على كثرة العوالم و تعددها و وسعتها، و جميع ما سمعت في الأخبار المتقدمة إنما هو فيما وراء هذه العالم الجسماني الناسوتي و أما هذا العالم بما فيه من الأرواح القدسية و الإنسية و الأجسام الفلكية العنصرية البسيطة و المركبة و المواليد الثلاثة فلا يخفى عليك ما فيه من الوسعة، و لعلك تسمع فيما يأتي في الآيات المتعلقة بخلق السموات و الأرض كلاما مشبعا في ذلك، و كفاك للدلالة على السعة المكانية ملاحظة خبر زينب العطارة المروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المستغني لشهرته عن الذكر «1».

و غيره من الأخبار الكثيرة التي منها ما

روي عن مولانا السجاد عليه السّلام أن للّه ملكا يقال له: حزوقائيل، له ثمانية عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام فخطر له خاطر: هل فوق العرش شي ء فزاد اللّه مثلها أجنحة أخرى فكانت له ست و ثلاثون ألف جناح ما بين الجناح

و الجناح خمسمائة عام، ثم أوحى اللّه إليه:

أيها الملك طر! فطار مقدار عشرين ألف عام لم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش، ثم ضاعف اللّه له في الجناح و القوة و أمره أن يطير فطار مقدار ثلاثين ألف عام لم ينل أيضا، فأوحى اللّه: أيها الملك! لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك و قوتك لم تبلغ إلى ساق عرشي، فقال الملك: سبحان ربي الأعلى، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجعلوها في سجودكم» «2».

و يدل على السعة الزمانية أيضا أخبار كثيرة.

______________________________

(1) الكافي: ج 8/ 153، و «التوحيد»: ص 199، و عنهما «البحار»: ج 60/ 83- 85، ح 10.

(2) تفسير نور الثقلين: ج 5/ 554، ح 13، عن «روضة الواعظين».

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 429

إزهاق و إحقاق

من المذاهب السخيفة المحكية عن بعض أوساخ الفلاسفة أنّ العالم واحد، و هو المحاط بمحدّب محدّد الجهات، و استدلّوا له بوجوه:

الأوّل: أنه لو وجد عالم آخر كان شكله الطبيعي الكرة، فيلزم وقوع الخلاء بين الكرتين.

و توهم أنّه لا خلاء و لا ملأ مدفوع بكونه محصورا بين الحاصرين، فالبعد الّذي هو المكان حاصل.

الثاني: لو وجد عالمان في كل منهما نار و أرض لزم أن يكون للأجسام المتّفقة الطبيعة أحياز مختلفة، و هو باطل، لأنّ طبعها يقتضي جواز الاتّصال، فإذا اتّصلت في أحد المكانين كان ذلك المكان طبيعيّا لها، فلا يكون الآخر طبيعيّا و إلّا لكان لجسم واحد مكانان طبيعيّان، و هذا خلف.

الثالث: أنّه قد ثبت عندهم أنّ فوق محدّد الجهات لا خلاء و لا ملأ، فلو كان هناك عالم آخر لكان ملأ، و هذا خلف.

و لا يخفى عليك ضعف هذه الوجوه، أمّا الأوّل فلأنّه يجوز أن لا يكون

كرويا، و مجرد كون الطبيعي ذلك لا يقضي بالمنع، إذ مع تسليمه ربما يمنع عنه المانع فيشكّل على غيره قسرا.

مع أنّه مبنيّ على امتناع الخلاء، و الكلام فيه مشهور، مضافا إلى أنّه يجوز أن يكون بين الكرتين أجسام أخر بحيث يكون ذلك البعد مكانا طبيعيّا لها مع فرض كرة محيطة على جميع الكرات المتماسّة بنقطة أوّلا، و أن يكون هذا العالم بجملته مركوزا في ثخن فلك آخر كالتدوير في ثخن الحامل فلا يلزم الخلاء.

و أما الثاني فلجواز أن يكون في ذلك العالم أجسام أخر مخالفة لأجزاء هذا

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 430

العالم جنسا و نوعا و طبيعة و دعوى انحصار الأجسام أو الجواهر أو الموجودات الممكنة فيما ذكروه شخصا أو جنسا أوّل الكلام، مضافا إلى ضعف ما تمسّكوا به في امتناع استحقاق الجسم مكانين.

و أمّا الثالث فللمنع من ثبوته لضعف ما تمسّكوا به مضافا الى بعض ما مرّ في الجواب عن الأوّل.

و بالجملة فبمثل هذه الوجوه لا ينبغي انكار عالم آخر غير هذا العالم المحسوس المشاهد، كما أنّه لا ينبغي نفيه بمجرد الاستبعاد كما فعله معلّم الفلاسفة أرسطاطاليس حيث إنّه أبطل القول بالمثل الافلاطونيّة و لم يبرهن عليه إلّا أن قال:

يلزم أن يكون في الخارج أملاك سوى هذه الأفلاك، و عناصر سوى هذه العناصر، و حركات و سكونات، إلى غير ذلك.

و هذا كما ترى مجرّد استبعاد لا ينفى به المحتمل بعد شهادة جمّ غفير من أرباب المشاهدات و المكاشفات بوجوده بل بمشاهدته، سيّما بعد ما سمعت من الأخبار الكثيرة الدالّة على تعدّد العوالم، و أنّ هذه القبّة واحدة من قباب كثيرة، و أنّ فوق العرش الّذي يسمّونه محدّد الجهات عوالم كثيرة و مخلوقات لا تحصى

من الكروبيّين و الحجب و السرادقات و غير ذلك مما تظافرت به الروايات.

بل الظاهر من كثير الأخبار أنّ جميع ذلك من أجزاء هذا العالم، و هناك عوالم أخر.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام فيما رواه في التوحيد و الخصال: لعلّك ترى أنّ اللّه عزّ و جل إنّما خلق هذا العالم الواحد، أو ترى أنّ اللّه تعالى لم يخلق بشرا غيركم، بلى و اللّه لقد خلق اللّه ألف ألف عالم و ألف ألف آدم، و أنت في آخر تلك

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 431

العوالم و أولئك الآدميين «1».

و

فيما رواه في الخصال و منتخب البصائر: أنّ للّه عزّ و جلّ اثنى عشر ألف عالم إلى آخر ما مرّ «2».

و

في تفسير القمى عن ابن عبّاس قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق ثلاثمائة عالم و بضعة عشر عالما خلف قاف- و خلف البحار السبعة، لم يعصوا اللّه طرفة عين قطّ، و لم يعرفوا آدم و لا ولده، كل عالم منهم يزيد عن ثلاثمائة و ثلاثة عشر مثل آدم و ما ولد، فذلك قوله: «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «3»» «4».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي مضت إلى بعضها الإشارة.

و حمل هذه العوالم على العوالم الكليّة الروحانيّة، و انحصار الجسماني فيما ذكروه بعيد، بل المتأمّل في أخبار الباب يقطع بخلافه، فمن ليس من أهل التصديق و الإقرار فلا ينبغي له البدار الى الإنكار، سيّما بعد تظافر الشواهد بل الأدلّة على المذهب المختار.

نمط آخر في تعدّد عالم الأكوان

قد سمعت في خبر الخصال «5» و البصائر، و غيرهما من الأخبار المتقدّمة بأنّ الإمام عليه السّلام هو الحجّة على جميع تلك العوالم، بل المستفاد من الأخبار المستفيضة أنّ له الولاية المطلقة في جميع

العوالم الكليّة و الجزئية في الأمور التكوينية

______________________________

(1) التوحيد ص 200- الخصال ص 180 و عنهما بحار الأنوار: ج 57/ 321 ح 3.

(2) الخصال ص 172 و عنه بحار الأنوار ج 57/ 320 ح 2.

(3) التكوير: 29.

(4) تفسير القمي ص 715 و عنه بحار الأنوار ج 57/ 322 ح 4.

(5) الخصال: 172.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 432

و التشريعيّة، لأنّه الحجاب و الباب في المبدأ و المآب و هو المراد

بقول الحجّة عجّل اللّه فرجه: «أشهاد و أعضاد» «1».

مشيرا إلى فحوى قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً «2».

و قد سمعت خبر ابن سنان، و الخطبة الغديريّة الأميرية، و غيرهما فيما تقدّم، فهم المشيّة الّتي خلقها اللّه بنفسها، و خلق الأشياء بها «3» كما

أشار مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام في الخطبة الّتي رواها السيّد الّرضى رضى اللّه عنه في نهج البلاغة: فإنّا صنائع ربّنا و النّاس بعد صنائع لنا» «4»

و اللام للصلة و إن أفاد العليّة أيضا، و لذا

قال مولينا الحجّة عجّل اللّه فرجه على ما رواه في الاحتجاج عنه عليه السّلام: «و نحن صنائع ربّنا و الخلق بعد صنائعنا» «5».

فقد استفيد منه قسمان من العليّة، و أمّا الآخران فبوجوه قد مرّت إلى بعضها الاشارة، فالمشيّة هي آدم الأوّل.

و في بعض خطب أمير المؤمنين عليه السّلام الإشارة إليه، بل التصريح، و من صلبه ذلك الألف ألف آدم، و الألف ألف عالم، و لذا قال سبحانه: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «6».

______________________________

(1) مفاتيح الجنان ص 130 ط طهران 1391 نقلا عن الشيخ أنه صدر من الناحية المقدسّة على يد الشيخ الكبير أبي جعفر محمد بن عثمان هذا

التوقيع الشريف: اقرأ في كل يوم من أيّام رجب ...

(2) الكهف: 51.

(3) بحار الأنوار ج 4 ص 145 عن توحيد الصدوق، و مجمع النورين ص 125.

(4) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج 19/ 104.

(5) غيبة الشيخ ص 184- 185- الاحتجاج ص 253.

(6) سورة الأنبياء: 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 433

فإنّه هو الرحمة الكليّة و المشيّة الإلهيّة الّتي خلقت العوالم بجملتها من أشعّة نوره، و ظهرت بفاضل ظهوره، بل الأنبياء عليهم السّلام خلقوا كافّة من رشحات ناسوته و طفحات رحموته، و لذا

ورد في الخبر الّذي رواه في البحار عن ابى الحسن البكري «1» أستاذ الّشهيد الثاني في كتاب الأنوار عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ نور نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ما سبّح اللّه في الاثنى عشر حجابا و في العشرين بحرا حسب ما فصّل في الخبر، قال: فلمّا خرج من آخر الأبحر قال اللّه تعالى: يا حبيبي و يا سيّد رسلي و يا أوّل مخلوقاتي، و يا آخر رسلي أنت الشفيع يوم المحشر، فخرّ النور ساجدا ثم قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة ألف و أربعة و عشرين ألف قطرة فخلق اللّه تعالى من كلّ قطرة من نوره نبيّا من الأنبياء، فلمّا تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما تطوف الحاجّ حول بيت اللّه الحرام ... الخبر بطوله «2»

و الأخبار بهذا المعنى كثيرة، و لذا قال شيخنا المجلسي في أوّل البحار: إنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليه السّلام الوسائل بين الحق و الخلق في افاضة جميع الرّحمات و العلوم و الكمالات على جميع الخلق، فكلّما يكون التوسّل بهم

______________________________

(1)

البكري أبو الحسن أحمد بن عبد اللّه البكري و لكنّه ليس من أساتذه الشهيد الثاني، بل هو من العلماء الإماميّة المتقدّمية و لتشيّعه صار متّهما بالكذب و انتسابه إلى المذاهب الفاسدة و كتابه «الأنوار» في مولد النبيّ المختار كما ترجمه شيخنا المجيز آقا بزرگ الطهراني قدّس سرّه في سبعة أجزاء كما ذكره كشف الظنون و جعله العلامة المجلسي مع كتابيه الآخرين:

«مقتل أمير المؤمنين عليه السّلام و وفاة فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها» من مآخذ البحار عند ذكر كتب الخاصّة و نسب الثلاثة الى أبى الحسن البكري المصري الذي قرأ عليه الشهيد الثاني بمصر و توفى بها سنة (953) و لكن نسبة الكتب الثلاثة الى ذلك المصري سهو بل هي من مصنّفات البكري المتقدّم و صرّح به ابن تيميّة المتوفى (728) في كتابه منهاج السنّة، راجع الذريعة ج 2/ 409- 410 رقم 1638.

(2) بحار الأنوار ج 57/ 198- 200، ح 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 434

و الإذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من اللّه تعالى أكثر، انتهى «1».

فهو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أوصيائه عليهم السّلام هم الواسطة في إيصال الفيوض الإلهية على جميع من سواهم في جميع العوالم المتناهية الامكانيّة، بلا فرق بين إفراد العالم و جمعه، لشموله للكلّ على الوجهين شمول الكلّ لأجزائه أو الكلّى لجزئيّاته.

فاذا اعتبر العالم مفردا على الإطلاق غير مضاف و لا مقيّدا بشي ء دخل فيه جميع ما سوى اللّه، و إذا اعتبر متعددا، اثنين فصاعدا فلا بدّ من فصل ذاتيّ أو عرضيّ مقسّم للجامع. فيقال: إنّه اثنان عالم الغيب و الشهادة، أو الظاهر و الباطن، أو الأمر و الخلق، أو العقل و المعقول، أو الوجود المطلق و

المقيّد، أو المادّى و المجرّد، أو البسيط و المركّب، لكن لا يخفى عليك أنّ التجرّد و البساطة لا ينافيان التركيب في رتبة الإمكان و لو من المادّة و الصورة، فإنّ كلّ ممكن زوج تركيبىّ حتى العقل، بل المشيّة أيضا و إن اضمحلّت فيهما سيّما الثاني جهة الماهيّة الّتي توجب التركيب في كلّ ممكن، بل المراد التجرّد عن المادة العنصريّة و المدّة الزمانيّة.

فما ربما يحكى عن شيخنا المجلسي في أوّل البحار من الحكم بكفر من قال: بإثبات مجرّد غير اللّه تعالى ليس في محلّه على الإطلاق بل لعلّه لا نزاع فيه أصلا على أنّ عبارة المجلسي ليست صريحة في ذلك، بل لعلّها ظاهرة في خلافه حيث قال: المعنى السّادس ممّا يطلق عليه العقل ما ذهب اليه الفلاسفة و أثبتوه بزعمهم من جوهر مجرّد قديم لا تعلّق له بالمادّة ذاتا و لا فعلا، و القول به كما ذكروه مستلزم لإنكار كثير من ضروريّات الدين من حدوث العالم و غيره، و بعض المنتحلين منهم للإسلام أثبتوا عقولا حادثة و هي أيضا على ما أثبتوها مستلزمة لإنكار كثير من الأصول المقرّرة الاسلاميّة مع أنّه لا يظهر من الأخبار وجود مجرّد

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1/ 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 435

سوى اللّه .... الى أن قال:

فلو قال أحد بجوهر مجرّد لا يقول بقدمه و لا بتوقّف تأثير الواجب في الممكنات عليه، و لا بتأثيره في خلق اللّه الأشياء و يسمّيه العقل و يجعل بعض الأخبار الواردة في العقل منطبقا عليه فيمكنه أن يقول: إنّ إقباله عبارة عن توجّهه إلى المبدأ، و إدباره عبارة عن توجّهه الى النفوس لإشراقه عليها. انتهى «1».

و ظاهره عدم الثبوت لا ثبوت العدم فضلا عن التكفير

بإثباته.

و أمّا العوالم الثلاثة فالوجود الحقّ و الوجود المطلق الذي هو الفعل و الارادة و المشيّة، و الوجود المقيّد الذي ما دونه من عالم الخلق، و الى هذه الثلاثة الاشارة

بقوله في الحديث القدسي: «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق كى أعرف» «2»

فالكنز المخفي هو غيب الغيوب و المجهول المطلق لا اسم له و لا رسم، الطريق مسدود، و الطلب مردود، وجوده إثباته، و دليله آياته، و المحبّة الكليّة هي عالم المشيّة أوّل من قرع باب الإمكان و أشرق على أفق الأكوان، و الثالث المخلوق الذي هو في رتبة المفعول.

و إذا اعتبرت الثلاثة في رتبة الإمكان فهي جبروت المشيّة بالصفات الفعليّة، و ملكوت المجرّدات، و ناسوت الماديّات العنصريّة، و المدّة الزمانيّة، أو في رتبة المفعول فهي العقول المجردة من المادّة ذاتا و فعلا، و النفوس المجردة ذاتا لا فعلا، و الأجسام الغاسقة في ظلمة الهيولى أو أنّها الأرواح الشاملة للعقول و النفوس و الأبدان و المثال الذي هو برزخ كلّي بينهما، بل العوالم الثلاثة سارية في العمق

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 1/ ص 101- 103.

(2) حديث مشهور نقل عن داود النبي و نقله بعضهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ربه.

قال ابن عربي في الفتوحات ج 2/ 392: ورد في الحديث الصحيح كشفا الغير الثابت نقلا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ربّه قال: «كنت كنزا ...». تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 436

الأكبر طولا و عرضا كلّا و بعضا، حيث إنّ له بكلّ الإعتبار جهتين و بينهما برزخ لا يبغيان.

و العوالم الأربعة هي اللاهوت الّذي لا ينبغي فيه إلّا السكوت خضوعا للحيّ الّذي لا

يموت، و الجبروت هو عالم الإبداع و العقل، و الملكوت و الناسوت، و في رتبة الإمكان بل الأكوان هي الرحموت و الجبروت و تالياه، فالرحموت عالم المشيّة لأنّها الرّحمة الّتي وسعت كلّ شي ء. و الجبروت بهذا الاعتبار هو عالم العقول، كما أنّ المراد بالملكوت النفوس.

أو أنّها هي الأركان الأربعة لعرش الرحمة و الكرامة الّذي استوى عليه الرحمن برحمانيّته، و هي المشار إليها بقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «1» و حملتها الملائكة الأربعة، و من الأنبياء أولو العزم الأربعة عليهم السّلام، و أمّا خامسهم و هو نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو الشاهد المهيمن عليهم و على جميع أهل العالم، «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «2»، و لذا جعل كتابه مصدّقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه، و باقيات العوالم الجزئيّة في ثخن العمق الأكبر الّذى هو الحامل المحرّك لها حول مركز العالم كثيرة جدّا.

كالطبائع الأربعة الّتي هي حرارة الكون المتكونة من حركة بحر الوجود و من دوام دورانه على نفسه على خلاف التوالي دوران فناء و تصرّم و انقضاء، و على أمر ربّه بالتوالي دوران تجدّد و استفاضة و بقاء.

و برودته الذاتيّة اللازمة لإمكانه و افتقاره فإنّ البرودة طبيعة الموت.

______________________________

(1) الروم: 40.

(2) النساء: 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 437

و رطوبته الحاصلة من جعله قابلا مستعدّا بعد أن لم يكن شيئا أصلا، فإنّه سبحانه هو معطي القابليّات و الاستعدادات، فأعطى كلّ شي ء خلقه ثمّ هدى الى ما يحصل به الفعليّة و الكمال.

و يبوسته الحافظة للعطايا المفاضة عليه، و هذه الطبائع الأربعة سارية في جميع أجزاء الكون. و

الكون متقدّم بها قيام تحقّق، و لذا قيل مشيرا الى ذلك و الى ما تقدّم من أنّ لكلّ شي ء ملكا و ملكوتا و برزخا بينهما: «إنّ كلّ شي ء مثلّث الكيان مربع الكيفيّة، و هذا هو الحقّ في تفسير العبارة الّتي قضيّة كليّتها سريان حكمها في كلّ شي ء، لا ما قيل: من أنّ المقصود المواليد الثلاثة و الأركان الأربعة الّتي هي العناصر الأربعة.

و أمّا الأربعة المحسوسة الملموسة فهي من أشعّة ظهورها الساطعة في عالم الناسوت على وجه يقتضيه المظهر، و حيث إنّ ثنتين منها فاعلتان، و الأخريين منفعلتان، حصلت من اجتماع كلّ مع كلّ الأصول و الأربعة الّتي هي الإمكان و العناصر و الأسطقسّات، كلّ باعتبار، و من تركّبها و ازدواجها المواليد الثلاثة بأنواعها و أصنافها و جزئياتها و خواصّها و آثارها ما يترتّب عليها، و كالنفوس الأربعة المذكورة في خبر كميل و الأعرابي عن مولينا أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام «1».

و حيث إنّ بيانها و تحقيق مراتبها يفضي الى التطويل اقتصرنا فيها كغيرها من العوالم السابقة و اللاحقة على نوع الإشارة روما للاختصار و حذرا من التكرار، فإنّك ستسمع الكلام في كلّ منها إن شاء اللّه تعالى في الموضع اللائق به.

______________________________

(1) رواه المجلسي قدّس سرّه في البحار ج 61 ص 84- 85 عن بعض كتب الصوفيّة، و لكن قال: هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الاخبار المعتبرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 438

و العوالم الخمسة هي الأربعة الكونيّة المتقدّمة بعد عالم الأزل، و إن كانت حضرة التنزيه تأبى من عدّه في عداد خلقه، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «1»، إلّا أنّ بينونته عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة، داخل في الأشياء

لا كولوج شي ء في شي ء، و خارج لا كخروج شي ء من شي ء، ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ

الى غير ذلك من العوالم الكليّة و الجزئيّة الّتي لا يمكن إحصائها و استقصائها، و لذا عبّر عنها «2»، العالم عليه السّلام بألف الف عالم، مشيرا الى نوع الكثرة و الزيادة، و إلّا فلعلّها على فرض كونها متناهية أكثر من ذلك بكثير، بل العوالم المندرجة تحت عالم الإمكان لا تحدّ بحدّ و لا تعدّ بعدّ، إذ لا نهاية لكلّ جزئيّ من جزئياته، فسبحان اللّه ذي الملك و الملكوت، سبحان اللّه ذي العزّ و الجبروت، سبحان الحيّ الذي لا يموت.

تذييل و تكميل

قال البيضاوي: إنّ في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ دليلا على انّ الممكنات كما هي مفتقرة الى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة الى المبقى حال بقائها بناء على ما ذكر سابقا أنّ معنى التربية تبليغ الشي ء الى كماله شيئا فشيئا، و بيّنه شيخنا البهائى في حواشيه بأنّ الصفة المشبّهة دالّة على الثبوت و الاستمرار فتربيتها الّتي هي تبليغها على التدريج حدّ كمالها مستمرّة ثابتة له تعالى، و من جملة ذلك إبقائها الى الأمد الذي يقتضيه حالها بل هو من أعظم افراد التربية التي

______________________________

(1) المائدة: 73.

(2) المجادلة: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 439

يقضيه مقام التمدّح.

و اعترض صدر المحقّقين على البيضاوي بأنّه ليس فيه دليل على ذلك إذ الشي ء التدريجي لما كان حصوله على هذا الوجه فجميع زمان وجوده هو بعينه زمان حدوثه، فالنّامى مثلا زمان نموّه من أوّل نشوه إلى منتهى كماله المقداري هو زمان حدوث مقداره الحاصل له شيئا

فشيئا و كفعل الصلوة فان زمانه من لدن أوّل تكبيرة الافتتاح إلى آخر تسليم الاختتام كلّه وقت الحدوث لا وقت البقاء.

نعم فيه دليل على أنّ العالم تدريجيّ الحصول متدرّج في التكوّن بناء على أنّ جواهر هذا العالم و الصّور الطّبيعيّة للأجرام السّماويّة و الأسطقسيّة كلّها تدريجيّة الكون سيّالة الحصول غير قارّة الوجود كالحركة القطعيّة و مقدارها من الزّمان «1».

قلت: أمّا دلالة الآية على حدوث العالم بجميع أجزائه و جزئيّاته بمعنى افتقاره إلى القيّوم المبدع فممّا لا خفاء فيها غير أنّ معنى الحادث يختلف باختلاف أجزائه لتبعيّته للحوادث فحدوث عالم الملك من الأجسام الفلكيّة و العنصريّة أعنى من المحدّد الأعلى إلى الأرض السّابعة السّفلى حدوث زماني أي حدثت مصاحبة مساوقة له من دون تقدّم لأحدهما على الآخر فانّهما كفرسي رهان و رضيعي لبان، بل هما كذلك مع المكان فالثلاثة متساوقة في الوجود و حدوث عالم الملكوت، أي الأرواح المجرّدة دهريّ بنحو ما مرّ في الزّمان و حدوث عالم الجبروت.

أعني الفعل و الإبداع سرمديّ و الكلّ حادث ذاتي، و إن كان الثّاني قديما

______________________________

(1) تفسير صدر المتألهين ج 1/ 81- 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 440

زمانيا لسبقه على الزّمان بل الزّمان الّذى ليس له أوّل و لا آخر زمانيّ بالنّسبة إلى عالم الدّهر كحلقة ملقاة في فلاة قيّ و كذلك الثالث قديم دهريّ و النّسبة ما سمعت، و توهّم أنّ العالم كلّه بجميع أجزائه حادث زمانيّ أى مسبوق بالزّمان نظرا إلى انّه الظّاهر من الأدلّة الشّرعيّة و المتحصّل من مذهب المتشرّعة ممّا يقضى ببطلانه ضرورة الوجدان، فإنّ من جملة أجزاء العالم هو الزّمان، و كيف يتعقّل كونه مسبوقا بعدم زماني ضرورة أنّه يلزم من فرض عدمه تحقّق وجوده،

بل كيف يتصوّر حدوث السّرادقات الدّهريّة و السّرمديّة في الزّمان مسبوقة به، مع أنّه لا يصحّ نسبتها إلى الزّمان أصلا ألا ترى أنّ الاعداد و النّسب المقداريّة الّتي بينها بل جميع لوازمها كزوجيّة الإثنين و كونه نصف الأربعة مثلا من جملة المحدثات، و من أجزاء العالم مع أنّه لا يصحّ نسبتها إلى الزّمان أصلا بأن يقال إنّما خلقت منذ ألف سنة أو أزيد أو أقلّ.

و توهّم كونها من الأمور الاعتباريّة الّتي لا وجود لها في الخارج كما ترى، لضرورة أن لا تمايز في الاعدام و سيجي ء تمام الكلام عند قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1» و قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الآية «2».

و أمّا دلالتها على افتقار الممكنات إلى المبقي فالإنصاف أنّه لا دلالة في الآية عليه بوجه فإنّ الظّاهر من التّربية حسب ما صرّحوا به تبليغ الشّي ء إلى كماله، و التّبليغ إلى الكمال إنّما هو بإفاضة المفقود لا بإبقاء الموجود، إلّا أن يقال إنّ الإبقاء أيضا من الأوّل، لأنّ البقاء في الآن الثّانى غير موجود في الآن الأوّل، أو أنّ التّربية لا تكون إلّا حال البقاء فتوقّف عليه فتأمّل، فإنّه لا يستفاد من افتقاره إلى المربي

______________________________

(1) البقرة: 117.

(2) البقرة: 164.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 441

افتقاره إلى المبقى إذ لعلّ للشي ء بقاء بعد وجوده نعم الحقّ أنّ مسألة الحاجة إلى المبقى أوضح من أن يستدلّ عليه بمثل هذه الظّواهر، بل الإمكان الذّاتي الّذى لا ينفكّ منه أصلا دليل الافتقار، و بعد ثبوت الحاجة به أو بوجه آخر تدلّ الآية على أنّه سبحانه هو المنعم بالإبقاء لا غيره.

و ممّا مرّ يظهر النّظر أيضا فيما ذكره الشّيخ البهائي عطّر اللّه مرقده مضافا إلى

ما قيل من أنّ توجيهه لا يوافق مذهب البيضاوي، إذ مختاره كون الرّبّ مصدرا لا وصفا فتأمّل.

و أمّا ما ذكره الصّدر الأجلّ ففيه أوّلا انّ ما ذكره من المناقشة كأنه مبنىّ على ما صرّح به أخيرا من كون الموجودات كافة تدريجيّة الحصول، و على هذا فلا معنى للتّربية إلّا الافاضة السّيالة التّجديدية الّتي هي الإبقاء لطروّ الفناء بعدمها فتربية الجماد مثلا بدوام إفاضة الوجود عليه حيث إنّ وجوده و كينونته من حيث المادّة و الصّورة سيّال متصرّم غير قارة- الذّات، و على هذا فما ذكره من المناقشة كانّه تحقيق لمعنى التّربية و إثبات لها.

و ثانيا: انّ ما ذكره من دلالة الآية على كون العالم تدريجيّ الحصول غريب جدّا إذ مدلول الآية كونه سبحانه مربيّا للعالم، موصلا له إلى كماله، و امّا إنّ هذا الإيصال هل هو مجرّد الإبقاء أو بإعطاء الكمالات المفقودة أو بتجدّد الأمثال بالإيجاد بعد الفناء أو بسيلان الفيض الموجب للصّوغ بعد الكسر حسبما تسمع في موضعه إن شاء اللّه، فلا دلالة فيها على شي ء منها بوجه من الوجوه و من أين يستفاد منها كون العالم بجميع أجزائه الجوهريّة سيّالة الحصول غير قارّة الوجود كالحركة المتّصلة، بل الإنصاف أنّ فيها دلالة على ثبوتها و تقرّرها و بقائها كى يصحّ نسبة التّربية الظّاهرة في تكميل الشّي ء بعد ثبوته و تقرّره إليه سبحانه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 442

وصل

لمّا نبّه سبحانه على اختصاص جميع أفراد الحمد و أنواعه من جميع خلقه بألسنة ذواتهم و صفاتهم و وجوداتهم و استعداداتهم و قابليّاتهم في جميع شؤوناتهم و ظهوراتهم و تطوّراتهم و تجلّياتهم و مراتبهم به سبحانه بحيث لا يشاركه فيه غيره و وصف نفسه بما هو كالبرهان

على ذلك من كونه مربّيا لجميع ذوات الوجود من الغيب و الشهود بل لجميع العوالم الكلّية و الجزئيّة من الدّرة إلى الذّرّة حسب ما سمعت عقّبه بذكر وصف ثان و ثالث و رابع تفصيلا لما أجمل أوّلا من ذكر التّربية و بيانا لأركانها و مقوّماتها و سريان حكمها و لو على وجه الاقتضاء لو لا المانع من المحلّ في جميع العوالم و النشئات بالنّسبة إلى جميع الأشياء و المكوّنات و لذا قيل:

إنّ الثلاثة وصف للأوّل لا للّه و على كلّ حال فقد نبّه سبحانه بالتّفصيل بعد الإجمال على ما هو كالاستدلال فقال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

أمّا الاسمان الكريمان فقد مرّ بعض القول فيهما و فائدة التكرير زيادة التقرير و إيقاع الحكم في الضّمير، سيّما مع ذكر المنعم عليهم في الأخير، مع ما فيه من الإشعار على أنّ من فقد شيئا من النعم فليس ذلك لقصور الكرم، لأنّ رحمته وسعت كلّ شي ء على حسب قابليّته و استعداده و قبوله، فتربيته عامة تامة شاملة لجميع الأكوان في كينوناتهم و اختياراتهم و شؤونهم التكوينيّة و التّشريعيّة في الدّنيا و الآخرة على مقتضى العدل و الفضل، و لذلك كان أهل الحمد و مستحقّه بحقيقة الحمد كما ينبغي لكرم وجهه و عزّ جلاله و بجميع تطوّراته بألسنة خلقه حسب ما سمعت من أقسام الحمد، فتقديم مثل هذا التحميد كالتمهيد للتّمجيد باستحقاقه لاختصاصه بالعبادة له و الاستعانة به دون غيره من خلقه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 443

و هذا أولى ممّا قيل في وجه التكرير: أنّ في الأوّل ذكر الإلهيّة فوصل بذكر النعم الّتي بها يستحقّ العبادة، و هنا ذكر الحمد، فوصله بذكر ما يستحقّ به الحمد و الشكر على النّعم

فتأمّل.

نعم ربّما يقال في وجه إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذّات الجامع لصفات الكمال انّ الّذي يحمده النّاس و يعظّمونه إنّما يكون حمده و تعظيمه لأحد أمور أربعة إمّا لكونه كاملا في ذاته و صفاته، و إن لم يكن منه إحسان إليهم، و إمّا لكونه محسنا إليهم و منعما عليهم، و إمّا لأنهم يرجون لطفه و إحسانه في الاستقبال، و إمّا يخافون قهره و كمال قدرته و سطوته و هذه هي الجهات الموجبة للحمد و التّعظيم فكأنّه تعالى يقول أيّها النّاس ان كنتم تحمدون و تعظّمون للكمال الذّاتى و الصّفاتى فاحمدونى فانّى أنا اللّه، و ان كان للإحسان و التربية و الانعام، فأنا ربّ العالمين، و إن كان للرّجاء و الطّمع في المستقبل، فأنا الرّحمن الرّحيم، و إن كان للخوف عن كمال القدرة و السّطوة فأنا مالك يوم الدّين.

و قد يقال إنّ وصفه سبحانه بقسمي الرّحمة للدّلالة على أنّه سبحانه متفضّل بالإيجاد و التربية مختار فيهما ليس يصدر عنه شي ء لا يجاب بالذّات كما هو رأى الفلاسفة أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتّى يستحقّ به الحمد كما هو رأى المعتزلة القائلين بوجوب إيصال الثواب إلى العباد في مقابل سوابق أعمال الخير الّتي صدرت عنهم، فانّ كلّا من المذهبين يقتضي عدم استحقاقه الحمد على تلك الأمور لكونها لازمة لذاته أو واجبة عليه فليس مختارا متفضّلا بها بخلاف الأشاعرة فانّهم لا يوجبون صدور تلك الآثار عنه، فصدورها عنه ليس إلّا على سبيل التفضّل و الرحمة على العباد.

أقول و مراده انّ تعقيب الحمد الّذى هو الثّناء على الجميل الاختياري بالتربية و قسمي الرّحمة دليل على صدورها عنه تعالى لا على وجه اللّزوم و الوجوب كما

تفسير الصراط

المستقيم، ج 3، ص: 444

عليه الفلاسفة و المعتزلة بل على وجه الإختيار كما هو مختار الأشاعرة.

و فيه نظر أمّا أوّلا فلان مذهب الحكماء في كونه سبحانه فاعلا بالعناية و إن كان باطلا في نفسه لتفسيرهم العناية بالعلم بالوجه الأحسن الأكمل في كلّ شي ء فمرجعه إلى العلم الّذى هو ذاته كما صرّحوا به فيلزمه فاعلا بالإيجاب لكون ذاته علّة تامّة لمعلوماته، فهو غير فاقد لما قدمه، ضرورة استحالة انفكاك المعلول عن علّته التّامة إلّا أنّهم لا ينكرون التّفضّل و الجود منه، و إن أنكروا الغرض و الغاية، و لذا فسّروا الجود بإفادة ما ينبغي لا لعوض حقّ المدح و الثّناء و التخلّص من الذّم إلّا أنّه لا يخفى أنّ عدم قصد التمدح و التخلص غير لازم لعدم استحقاقه فانّ الاستحقاق إنّما هو على فعل الحسن من حيث هو حسن و إن لم يقصد به التمدّح و التخلص عن المذمّة.

بل ربما يقال إنّ مذهبهم في الإيجاب يؤكّد التفضّل فانّهم يوافقون الملّيّين على أنّه تعالى إن شاء فعل و ان شاء لم يفعل، إلّا أنّهم يقولون الفعل الّذي هو خير لازم لذاته الّذي هو خير محض لانّه الجواد الحقّ و الفيّاض المطلق فيستحيل انفكاكه عنها فقدم الشّرطيّة الاولى واجب صدقه فقد شاء و فعل و مقدّم الشّرطيّة الثابتة ممتنع الصّدق لاستحالة النقص عليه تعالى، و صدق الشّرطيّة لا يقتضي صدق الطّرفين و لا صدق إحداهما، إلا أن يدّعى أنّ الاختيار المأخوذ في تعريف الحمد هو الإختيار بمعنى جواز الفعل و الترك و هو ممنوع، بل سمعت كون الحمد أعمّ من كلّ ذلك و انّ ما أخذوه قيدا في تعريفه من كونه الثناء على الجميل الاختياري إنّما هو في اطلاق

البعض و أمّا الأكثر فلا يوجد هذا التقييد في كلامهم كما نبّه عليه شيخنا البهائى قال: بل أنكره بعضهم مستشهدا بقولهم عند الصّباح يحمد القوم السّرى، و في قولهم: عاقبة الصّبر محمودة، و يكفى في ذلك قوله: عَسى أَنْ

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 445

يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1»، ثمّ قال: و حينئذ يستغنى عن بعض التكلّفات.

ثمّ بعد تسليم التقيّد لا يخفى في كون أفعاله سبحانه على مذهبهم اختياريّا حسب ما سمعت.

و لذا عدّ الصدر الأجل الشّيرازى و غيره من أفاخم الطّائفة الفاعل بالعناية من أقسام الفاعل بالاختيار ضرورة انّهم لم يقصدوا صرف العلّية الّتي ليس معها إدراك و علم و إرادة و قدرة أصلا فانّهم يثبتون هذه الصّفات له سبحانه على الوجه الأجلّ الأفضل الأكمل، و قضية ذلك ثبوت الاختيار له في فعله و لو على الوجه الّذى سمعت، هذا كلّه مضافا إلى ما سمعت من عدم اختصاص الحمد باللّسان فضلا عن كونه اختياريّا لشموله للحمد الذّاتى و الفعلى و غير ذلك من الأقسام في جميع النّشئات و شئون الوجودات الثلاثة.

و أمّا ثانيا فلأنّ ما أورده على المعتزلة غير وارد عليهم، فانّهم لم يقولوا إنّ جميع ما يصدر عنه سبحانه من النّعم و الإحسان و كلّ ما يفاض عنه من الكرم و الامتنان واجبة عليه حتّى لا يوصف بالنّسبة إلى شي ء منها بالتّفضّل كى يستحقّ به المدح و الثّناء كيف و هو سبحانه مبتدئ بالنعم قبل استحقاقها، بل إنّما ذهبوا إلى وجوب بعض الأشياء عليه كبعض الألطاف المقرّبة بالطّاعات و الباعثة على فعل العبادات.

و توهّم أنّهم كالإماميّة عطّر اللّه مراقدهم قالوا بوجوب الأصلح عليه سبحانه، و من البيّن أنّ كلّ فرد من أفراد الإحسان

لحسن بحال لوجوبه لا يكون متفضّلا كى يستحقّ الحمد عليه مدفوع بأنّ هذا تقوّل عليه و جهل بمذهبه حيث ما صرّح به محقّقوهم.

______________________________

(1) الإسراء: 79.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 446

و لذا قال في التّجريد: و الأصلح قد يجب عليه تعالى، و الشّارح لمّا لم يتفطّن بما يقتضيه لفظة قد التّقليليّة اعترض بما لا يرد عليه، و لذا نبّه عليه الورع الأردبيلى و شيخنا البهائى و غيرهما، سلّمنا كون القضيّة عندهم كلّية بالنّسبة إلى الإمدادات الوجوديّة و الكماليّة بعد الإيجاد لكن الإيجاد غير واجب عليه عندهم، كما صرّحوا به و به يستحقّ الثّناء عليه بل على جميع الفيوض الواصلة منه بعد الإيجاد لترتّبه عليه.

هذا مضافا إلى أنّ وجوب الأصلح عليه لا ينافي استحقاق الثّناء بفعله، إذ لا يخرج الفعل بوجوبه عن كونه اختياريّا، و لذا لم يقيّدوا الجميل في تعريف الحمد بعدم الوجوب بل بكونه اختياريّا، و ليت شعري كيف يستحقّ تعالى الحمد على صفاته الّتي يستحيل انفكاكها منه مع انّه غير مختار فيها و لا موصوف بالتفضل بها و لا يستحق الحمد على أفعاله الجميلة الاختياريّة بمجرّد القول بكونها واجبة عليها.

إيراد كلام لنقض إبرام

قد سمعت وجه اختصاص الرحمن به سبحانه و انّه لا يجوز إطلاقه على غيره و إن جاز اطلاق الرّحمة كقوله: وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً «1» و قوله:

وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «2» و

قولهم: «ارحم ترحم» «3»

و

«انّ اللّه قسّم جزء من الرّحمة بين خلقه به يتراحمون و يتعاطفون» «4».

إلى غير ذلك من الإطلاقات الكثيرة

______________________________

(1) الروم: 21.

(2) يوسف: 66.

(3) بحار الأنوار: ج 4/ 100 ح 48.

(4) لم أظفر على مصدره و لكن قريب منه ما

روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من رحمته أنّه خلق تفسير

الصراط المستقيم، ج 3، ص: 447

الظّاهرة في كونها على وجه الحقيقة بل لعلّها مقطوعة نعم ذكر بعض الأعلام في المقام أنّ إطلاق الرّحمة على غيره مجاز رأسا و استدلّ بوجوه:

الأوّل: انّ الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض و كلّ أحد غير اللّه لا يعطى شيئا إلّا ليأخذ عوضا، لأنّ الأعواض و الأغراض بعضها جسمانيّة و بعضها حسيّة و بعضها خياليّة و بعضها عقليّة، فالأوّل كمن أعطى دينارا ليأخذ ثوبا، و الثّاني كمن يعطى المال لطلب الخدمة و الإعانة، و الثالث كمن يعطيه لطلب الثّناء الجميل، و الرّابع كمن يعطيه لطلب الثّواب الجزيل، أو لإزالة حبّ الدّنيا من قلبه، و هذه الأقسام كلّها أعواض، فيكون ذلك الإعطاء بالحقيقة معاوضة و معاملة، و لا يكون جودا و لا هبة، و أمّا الحقّ تعالى فهو لمّا كان كاملا في ذاته و صفاته فيستحيل أن يعطى شيئا ليستفيد به كمالا و هو الجواد المطلق و الرّحم الحقّ، و هذا إنّما يتمّ على مذهب أهل الحقّ القائلين بأنّه تعالى تامّ الفاعليّة بحسب ذاته و صفاته، لا يعتريه قصد زائد، و لا لفعله غاية سوى ذاته، و كان صدور الأشياء منه على سبيل العناية و الفيض دون القصد و الروية.

الثّاني: انّ كلّ ما سوية ممكن الوجود بحسب مهيّته و الممكن مفتقر في وجوده إلى إيجاد الواجب إيّاه ابتداء إذ إمكان الشي ء علّة احتياجه إلى المؤثّر الواجب و كلّ رحمة تصدر عن غير اللّه فهي إنّما دخلت في الوجود بإيجاد اللّه، لا بإيجاد غير اللّه إذ ليس لغيره صفة الإيجاد بل إنّما شأن غيره الاعداد و التّخصيص في الاستناد فيكون الرّاحم في الحقيقة هو اللّه.

الثالث: إنّ فلانا يعطى الحنطة مثلا و لكن لا

يقع الانتفاع بها ما لم يحصل

______________________________

مائة رحمة جعل منها رحمة واحدة في الخلق كلّهم فبها يترحّم الناس ...» البحار ج 4/ 183 و ج 8/ 44 و ج 92/ 250. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 448

المعدة الهاضمة للطّعام، و الشّهوة الرّاغبة إلى أكله، و القوى النّاهضة لذلك، و الآلات المعدّة لنقله و طحنه و عجنه و طبخه و غير ذلك، و ما يتوقّف عليها من الخشب و الحديد و النّجار و الحدّاد و الأرض الّتي يقومون عليه، و الهواء الّذي يتنفّسون به، و الفلك الّذى يحدّد جهات أمكنتهم و أزمنتهم، و الكواكب الّتي تنوّر في اللّيل و النّهار بحركاتها أكنافهم و يسخّن أطرافهم و تنضج حبوبهم و اثمارهم الّتي يتغذّون بها إلى غير ذلك من الآلات و المعدّات و الملائكة الموكّلة بذلك و وسائط فيوضهم فما لم يخلق اللّه هذه الأشياء لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة فخالق تلك الحنطة و الممكّن لنا من الانتفاع بحفظ هذه الأسباب حتّى يحصل الانتفاع هو الرّاحم.

أقول لا يخفى عليك ضعف هذه الوجود، و عدم مطابقتها للمدّعى رأسا، إذا المدّعى كما صرّح به كون إطلاق الرّحمة على غيره سبحانه مجازا و أين هذا من إثبات أنّ الفيوض كلّها من اللّه ابتداء و أصالة و إن جرت على أيدى الخلق من حيث التوسّط و قيوميّة الحقّ.

على أنّ هذا لا اختصاص له بالرّحمة بل يجرى في جميع الأفعال الاختياريّة الّتي تصدر من العبيد بحسب الظّاهر حسب ما يؤمي إليه، دليله الثّاني، و في خصوص الخيرات على بعض الوجوه و كان مراده و إن لم يساعده عنوانه بيان قيوميّة الحقّ سبحانه، و أنّ الكلّ منه و بيده، هو المالك لما ملكهم، و

القادر على ما عليه أقدرهم، لكن في بعض ما ذكره بعض المناقشات و ان اشتمل أيضا على بعض الفوائد و لذا حكيناه بطوله.

و امّا انّ أفعال العباد هل هو منهم على وجه الاستقلال أو من اللّه كذلك أو منهما على وجه التبعيّة أو الألية أو القيّوميّة أو الإشراق و الافاضة أو غير ذلك فلا يناسب المقام بسط الكلام فيه فارتقبه في موضعه إن شاء اللّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 449

القراءة

اعلم أنّ في قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قراءتان مشهورتان و قراءات أخر شاذّة، فالمحكي عن عاصم، و الكسائي و خلف، و يعقوب الحضرمي «مالك» بالألف مجرورا، و الباقون من القراء «ملك» من دون الألف مجرورا، و المحكيّ عن الأعمش بالألف منصوبا على المدح أو الحال، و عن شاذ آخر مالك بالرّفع منوّنا، و عن ثالث به مضافا على أنّه فيهما خبر مبتدأ محذوف، و عن رابع ملك بلفظ الفعل فما بعده منصوب به، فهو جملة خبرية منصوبة المحلّ بالحاليّة، و إن قال أبو حيّان لا محلّ لها من الإعراب، و عن خامس و سادس مضافا مرفوعا و منصوبا على الخبريّة، أو النّداء و الاضافة فيهما بمعنى اللّام كما عن أبى حيّان لا بمعنى في كما عن بعضهم، و عن سابع و هو ربيعة بن نزار ملك فصار مجرورا مخفّفا بتسكين اللّام كما يقال: فخذ و فخذ فهذه تسع قراءات، سبعة منها شاذة ساقطة بالشّذوذ مع الجهل بقائل الجلّ.

أمّا الأوليان فهما المشهورتان إلّا أنّ لهم وجوها في ترجيح كلّ منهما على الاخرى، فممّا يرجّح به الأولى أنّ المالك أعمّ شمولا و أكثر إحاطة لإضافته إلى الملك و الملك بالضّم و الكسر، فيقال: مالك الملك و مالك

الملك، و لا يضاف الملك إلّا إلى الثّانى، و المالك يضاف إلى كلّ شي ء فيقال: مالك الطّير و الدّواب و العبيد و الإماء و الملك لا يضاف إلّا إلى الثقلين، و المالك يضاف إلى الذّات و الفعل فيقال مالك الملك و مالك التّصرف، و الملك لا يضاف إلّا إلى الذّات، و أنّ المالك أقوى سلطنة من الملك من حيث التّملك إذ المملوك لا يملك لنفسه الخروج من الملكيّة بخلاف الرّعيّة و الملك ينفذ أمره و نهيه دون ساير التّصرفات بخلاف المالك، و أنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 450

تفسير الصراط المستقيم ج 3 499

الملك بالضمّ قد يكون بالتغلّب و غير الاستحقاق بخلاف الملك بالكسر، و انّ المملوك لا يقدر على شي ء و هو كلّ على موليه بخلاف الرّعيّة، فلهم التّصرف في أمورهم فسلطنة المالك أقوى، لأنّه مالك الرّقبة و الملك ملك الرّعيّة و رحمته أوسع إذ لا يختار الملك إلّا القوىّ الصّحيح المنتفع به، و لذا قيل: إنّ المالك نافع و الملك طامع، و انّ المنساق من المالك هو الرّحمة و العناية و من الملك هو الهيبة و السّياسة، و المرجوّ المناسب للمقام الموعود لكافّة الأنام يوم القيمة هو الأوّل، و أنّ زيادة الحروف مع إيجابه فضل الثّواب إذ يعطى القارى بكلّ حرف عشر حسنات، تدلّ على زيادة المعاني أيضا و أنّه الأوفق بقوله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «1» فانّ اختصاصه سبحانه بالأمر بعد نفى المالكيّة من غيره يشعر بانّ المراد بالأمر الملك و إثبات الملك له في هذا اليوم هو المقصود بقوله:

مالك يوم الدّين و انّ الملك يملك من بعض الوجوه مع قهر و سياسة، و

المالك يملك على كلّ حال و بعد الموت له الولاء، و أنّ الحقّ سبحانه يمدح بكونه مالك الملك بضمّ الميم في قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «2» و لم يمدح بكونه ملك الملك بالكسر، و حيث إنّ- الملك بالضمّ أشرف فالمالك أولى، فانّ الملك بالضمّ كما قيل و إن كان يرجع مع الملك بالكسر إلى أصل واحد و هو الرّبط و الشّدّ كقولهم: ملكت العجين اى شددته و قوله: ملكت بها كفّى فأنهرت فتقها «3» أى شددت بالطّعنة كفّى لكنّ المراد به نسبة من قام به و من تعلّق به، و إن شئت قلت صفة قائمة بذاته متعلّقة بالغير تعلّق التّصرف التّام المقتضى استغناء المتصرّف و افتقار المتصرف فيه، و لهذا لا

______________________________

(1) الإنفطار: 19.

(2) آل عمران: 26.

(3) قائله قيس بن الحطيم الأوسى، و مصراعه الآخر: يرى قائم من دونها ما ورائها. لسان العرب في مادّة نهر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 451

يصحّ على الإطلاق إلّا للّه تعالى و هو أخصّ من الملك بالكسر لأنّه تعلّق الاستيلاء مع ضبط و تمكّن من التّصرف في الموضوع اللّغوى، و بزيادة كونه حقّا في الشرع من غير نظر إلى استغناء و افتقار لكنّهما في الاطلإق قد لا يتصادقان من الطّرفين إذ بينهما العموم من وجه فينفكّ كلّ منهما عن الأخرى لكنّ المالكيّة سبب لإطلاق التّصرف و الملكيّة ليست كذلك.

و ممّا يرجّح به الاخرى أنّ المالك مندرج في الاسم الرّبّ فانّه أحد معانيه كما سمعت و القرآن ورد بسرّ الاعجاز و الإيجاز فقضيّة نفى التكرار تعيين الملك، على أنّ الكشف التّام أفاد أن لا تكرار في الوجود أصلا، و أنّ هذه الصّفة أمدح إذ لا يكون إلّا مع التعظيم و الاحتواء

على الجمع الكثير من الأشياء، و لذا قيل: انّ كلّ ملك مالك، و ليس كلّ مالك ملكا و إنّما قال تعالى: مالِكَ الْمُلْكِ «1» لأنّه يملك ملوك الدّنيا و ما ملكوا فملكهم له يوليه فيها من يشاء منهم، و أمّا يوم الدّين فالملك يومئذ للّه، و انّ اللّه سبحانه وصف نفسه في خاتمة الكتاب بعد وصفه بالرّبوبيّة فقال:

ربّ النّاس ملك الناس، فناسب أن يكون وصفه في فاتحة الكتاب جاريا على هذا المنوال لمطابقة الفاتحة و كشف كلّ منهما عن الآخر و أن قضيّة قوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ «2» و قوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «3» انّه الملك و لذا يقال انّه ملك بيّن الملك بضمّ الميم و مالك بيّن الملك بكسر الميم و فتحها و ضمّ الميم فيه لغة شاذة فتكرّر إثبات الملك بالضمّ له في الآيتين و في قوله: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «4» في آيات كثيرة يؤيّد قراءة الملك مع تكرّر وصفه به أيضا في قوله تعالى:

______________________________

(1) آل عمران: 26.

(2) غافر: 16.

(3) الحج: 56.

(4) الفرقان: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 452

فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ «1» و الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ «2» و مَلِكِ النَّاسِ «3».

و إنّ الأسماء المستقلّة لها تقدّم على الأسماء المضافة و اسم الملك ورد مستقلّا بخلاف المالك و يؤيّد التقدّم مضافا إلى البساطة أنّ الأسماء المضافة، «كفالق الإصباح» و «مخرج الحىّ من الميّت» و ذي الملك و الملكوت و غيرها لم تنقل في الأسماء التّسع و التّسعين الّتي من أحصيها دخل الجنّة و أنّه

قد ورد في بعض الأدعية النبويّة: لك الحمد لا اله إلا أنت ربّ كلّ شي ء و مليكه

، و لم يرد و مالكه و هذا السياق مناسب

لسياق الأسماء المذكورة في أوّل الفاتحة و انّ الملك قراءة أهل الحرمين الّذين هم أدرى بما انزل في الحرم.

و أنّ الملك من الأسماء المذكورة في خبر الإحصاء دون المالك، و انّ الملك لمّا كان أقدر على ما يريد من متصرّفاته من المالك كان نسبة الجزاء إليه أنسب و أولى، و أنّه أنسب بالإضافة إلى يوم الدّين كما يقال: ملك المصر، و أنّ هذه القراءة غنيّة من توجيه وصف المعرفة بما ظاهره التنكير، و إضافة اسم الفاعل إلى الظّرف لإجرائه مجرى المفعول به توسّعا إذا المراد مالك الأمور كلّها في ذلك اليوم، و سوّغ وصف المعرفة به و ارادة معنى المضيّ تنزيلا لمحقّق الوقوع منزلة ما وقع أو ارادة الاستمرار الثبوتي، و أمّا قراءة ملك فغنيّة عن التّوجيه لأنّها من قبيل كريم البلد.

هذا قصارى ما قيل في ترجيح كلّ من القراءتين على الأخرى لكنّه لا يخفى عليك اشتراك الجميع في الضّعف إذ الوجوه اللّفظية كما ترى في القصور و مرجع الوجوه المعنويّة من الطّرفين إلى التّرجيح في المعاني المضافة إلينا تعالى اللّه عن ذلك.

______________________________

(1) طه: 114.

(2) الحشر: 23.

(3) الناس: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 453

و قد سمعت فيما أسلفناه أنّ الأسماء المشتركة لا تطلق على اللّه و على خلقه بمعنى واحد من باب الاشتراك المعنوي، و ليس إطلاقه على خلقه من باب السنخيّة و الفرع و الظلّ و غير ذلك بل المغايرة بين الوصفين كالمغايرة بين الذّاتين فله معنى المالكيّة إذ لا مملوك و الملكيّة إذ لا ملك و بهذا الاعتبار يكونان من صفات الذّات بمعنى اتّحادهما للذّات بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة أو خارجيّة كرجوع الصّفات الذّاتيّة إلى الوجود الحقّ البحت المجرّد و له معنى

المالكيّة و الملكيّة في فعله بمعنى له الخلق و الأمر فبيده ناصية كلّ شي ء و حكمه نافذ في كلّ شي ء و بقيّوميّته قامت الأشياء كلّها فمالكيّته عامة تامّة و لا تتمّ إلّا بالملكيّة، و ملكيّة تامّة عامّة و لا تتمّ إلّا بالمالكيّة، و أين هذا من معنى المالكيّة في المخلوق إذ ليس إلّا أمرا جزئيّا ارتباطيّا اعتباريّا شرعيّا قد اعتبر الشّارع بين العباد لرفع حوائجهم و إصلاح حالهم في أمر المعاش و المعاد، مع أنّه هو المالك لما ملّكهم و القادر على ما عليه أقدرهم، و كذا معنى الملكيّة فيه استيلاء لغلبية أو جعليّة شرعيّة لو قيل بشمولها لمثل الإمامة و يؤمي إلى احتواء كلّ من الملكيّة و المالكيّة في حقّه تعالى على الآخر قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «1» فأضاف المالك إلى مبدء الآخر و إليه الإشارة بلام التّمليك في قوله: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «2»، وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى «3».

ثمّ لو سلّمنا اختلاف المعنيين في قوله تعالى، و رجحان أحدهما على الآخر في نفسه لكن لا يخفى انّ ذلك لا يقضى بتعيّن الرّاجح في المقام إذ لا خلاف في كونهما اسمين للّه و قد وردا معا في الكتاب العزيز، فالتّعيين بالمرجّح من قبيل إثبات اللّغة بالقياس، سيّما بعد ورود القراءة بكلّ منهما و ورود الرّخصة بل الأمر عن

______________________________

(1) آل عمران: 26.

(2) الحديد: 2 و 5.

(3) الليل: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 454

موالينا الأئمّة الأنام عليهم الصّلوة و السّلام بالقراءة كما يقرء النّاس «1»، و انّه لا يحاجّ بالقرآن اليوم «2».

ثمّ انّه يمكن ترجيح قراءة مالك بما

في تفسير الإمام عليه السّلام قال: مالك يوم الدّين أى قادر على إقامة يوم

الدّين و هو يوم الحساب قادر على تقديمه عن وقته و تأخيره بعد وقته و هو المالك أيضا في يوم الدّين و هو يقضى بالحقّ لا يملك الحكم و القضاء في ذلك اليوم من يظلم و يجور كما يجور في الدّنيا من يملك الأحكام «3».

نظرا إلى التّعبير في الموضعين بالمطلوب مضافا إلى إرجاع ملك الأحكام إليه و منه يظهر وجه آخر للتّرجيح فانّ مالكيّته مطلقة بالنّسبة إلى كلّ شي ء حتّى ملك الأحكام و نفوذ الأمر و النّهى المستفاد من الملك.

هذا مضافا إلى ما

رواه في المجمع عن العيّاشى عن الصّادق عليه السّلام في فضل الفاتحة إلى أن قال: و مالك يوم الدّين قال جبرئيل ما قالها مسلم قطّ إلّا صدّقها اللّه و أهل سماواته «4».

و

في العيون و تفسير الإمام عليه الصّلوة و السّلام عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فضلها إلى أن قال: فاذا قال مالك يوم الدّين قال اللّه: أشهدكم كما اعترف بأنّى أنا الملك «5» يوم الدّين لأسهلنّ يوم الحساب حسابه و لأفضلنّ حسناته و لأتجاوزنّ عن

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 193 و عنه البحار: ج 92/ 88.

(2)

بحار الأنوار: ج 2/ 245 عن أمير المؤمنين عليه السّلام انه قال لابن عبّاس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج: لا تخاصمهم بالقرآن فان القرآن حمّال ذو وجوه.

(3) بحار الأنوار: ج 92/ 250 عن تفسير الامام.

(4) تفسير العيّاشى: ج 1/ 22.

(5)

في البحار عن تفسير الامام و الأمالى و العيون: اعترف عبدي أنّي مالك يوم الدين. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 455

سيّئاته «1».

و في تفسير المالك بالملك إشارة إلى ما ذكرناه من رجوعهما إلى معنى واحد في حقّه تعالى، و لعلّه لذا و لما ذكرناه

من جواز القراءة في زمان الغيبة بكلّ ما قرء النّاس قرء مولينا الصّادق عليه السّلام إرشادا و تعليما لشيعته بالقراءة الأخرى أيضا كما

في «المجمع» عنه عليه السّلام أنّه كان يقرء ملك يوم الدّين

و إن كان في التّعبير بلفظة كان الإشعار بالاستمرار «2».

و

في الصّافي عن العيّاشى أنّه قرأ الصّادق عليه السّلام ما لا يحصى «3».

و فيه أيضا دليل على الوجهين، فالعمدة ما سمعت من الإذن لنا خصوصا في المقام، و عموما في القراءة بما يقرأ النّاس، لا ما قيل من دعوى تواتر القراءات السّبعة لعدم تحقّق التواتر بشرائطه الّتي منها بلوغ العدد في جميع الطبقات بالنّسبة إلى شي ء منها سيّما بعد ما ذكره بعض العامّة، و هو كذلك من أنّ منشأ اختلاف القراء السّبعة اختلاف المصاحف العثمانية الغير المعربة.

ثمّ لا يخفى أنّ الرّسم في كثير من المصاحف القديمة بل في كلّها ترك الألف في كثير من الكلمات كأصحب و الشّيطين، و الصّعقة، و الكتب، و مالك أيضا من الكلمات الّتي يكتب في الرّسم ملك فلعلّ هذا هو الوجه في الاختلاف، بل رأيت كتابا من بعض العامّة ألّفه في ضبط الرّسوم قال ملك كتب بغير الف، و لا يجوز أن يكتب بإثباتها لانّ في إثباتها يؤدّى إلى مخالفة من قرء بغير الف و مخالفة مصحف الإمام و مراده الثالث- قال: و مخالفة الإمام لا يجوز بوجه ما،

______________________________

(1) تفسير الامام ص 27- أمالي الصدوق ص 105- العيون ج 1/ 300 و عنها البحار:

ج 92/ 226.

(2) مجمع البيان ج 1/ 31 عن تفسير العيّاشى: ج 1/ 22 ح 21.

(3) تفسير الصافي ج 1/ 71 عن تفسير العيّاشى ج 1/ 22 ح 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 456

و لهذا

وجب مراعاة حروف الإمام، لأنّ في كلّ حرف فائدة تزول بتغيير ذلك ألا ترى إلى قوله: يَقْضِي بِالْحَقِ «1» كتب بغير ياء، و لو كتب بالياء لبطل قراءة من قرء بالصّاد، و كذلك قوله: غَيابَتِ الْجُبِ «2» كتب بالتّاء من غير الف إذ لو كتب الألف بطل قراءة من قرء غيابة على الواحدة، و لو كتب بالهاء بطل قراءة من قرء بالجمع.

أقول: و هو كما ترى مبنىّ على ملاحظة الوجوه الاعتباريّة و الرّسوم الغير المعتبرة من دون استناد كلّ من الرّسوم و القراءات إلى ما يصلح الاعتماد عليه، و على فرض انتهاء الجميع إلى النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالواسطة بينهم و بينه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم ما ذكروه في كتبهم ممّن لا يخفى حاله و عدده، و مع ذلك فلعلّ الأولى ترجيح قراءة مالك لما سمعت نعم ربما يقال: إنّ الأولى القراءة بكلّ منهما في ركعة، و تقديم المدّ في الاولى لزيادته نظرا إلى تطويل الاولى على الثّانية فتأمّل.

تنبيه

اعلم أنّ لليوم إطلاقات أحدها: مجرّد الوقت و الزّمان طويلا كان أو قصيرا حتى الآن كقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «3» فانّ شئون الرّبوبيّة دائمة مستمرة سيّالة كاستمرار الزّمان و سيلانه ففي كلّ آن له شأن بل شئون و قوله: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ «4» أى وقته وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ «5»،

______________________________

(1) غافر: 20.

(2) سورة يوسف: 10- 15.

(3) الرحمن: 29.

(4) الانعام: 141.

(5) الأنفال: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 457

لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ «1»، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ «2»، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ «3» قل

يوم الفتح لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ «4»، وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا «5»، يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ «6»، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة الواردة في القرآن و في كلام أهل اللّسان كقوله: فيوم علينا و يوم لنا.

بل ربما يقال: إنّ اليوم في الأصل موضوع لمطلق الوقت و الزّمان، و أمّا ما كان بعده ليلة أو بعد اللّيل فهو المخصوص باسم النّهار، و لذا عدل إليه في قوله:

وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «7».

و من هنا يظهر أنّه في أكثر إطلاقاته في الكتاب محمول عليه حتّى في مثل قوله: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ «8» و يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى «9» و يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ «10»، وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ «11» و يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ «12» إلى غير ذلك ممّا أريد فيه التنبيه على خصوص الفعل و لو بذكر وقته لا

______________________________

(1) التوبة: 108.

(2) يونس: 92.

(3) الأنعام: 158.

(4) السجدة: 29.

(5) مريم: 33.

(6) النحل: 80.

(7) يس: 37.

(8) التوبة: 35.

(9) النازعات: 35.

(10) النبأ: 40.

(11) مريم: 39.

(12) ق: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 458

الإشارة إلى مجموع الوقت المشتمل على غيره من الشّدائد أيضا كما هو أحد الاحتمالين في هذه الآيات أيضا، نعم ينبغي تعميم الوقت و الزّمان بحيث يشمل الوعاء الدّهري و السّرمديّ أيضا.

ثانيها: مرادف النّهار و المقابل للّيل المحدود شرعا بطلوع الفجر الثّاني إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة على الأظهر الأشهر و إلى غيبوبة قرص الشّمس عند بعض، و عرفا عامّا أو خاصّا عند المنجمين بل قيل عند أهل فارس و الروم أيضا من طلوع الشّمس إلى غروبها بل ذكر أبو ريحان «1» انّ

هذا التّحديد بتعارف من النّاس قاطبة فيما بينهم و اتّفاق من جمهورهم لا يتنازعون فيه إلّا أن بعض علماء الفقه في الإسلام حدّ أوّل النّهار بطلوع الفجر و آخره بغروب الشّمس تسوية منه بينه و بين مدّة الصّوم، ثمّ استدلّ لإثبات مذهب المنجّمين بوجوه مرجعها إلى أنّه مقتضى الحساب و القواعد النجوميّة لكنّه لا إشكال في استقرار عرف الشّرع على كونه من الفجر الثّاني، و عليه ينزل يوم الصّوم و يوم الاعتكاف، و يوم التّراوح، بل ادّعى المجلسي و غيره استقرار العرف العامّ عليه أيضا قال: و انّما استقرار العرف العامّ و الخاصّ على جعل أوّل النّهار الفجر و أوّل اللّيل الغروب لأنّ النّاس لمّا كانوا في اللّيل فارغين عن أعمالهم الضروريّة للظّلمة المانعة فاغتنموا شيئا من الضّياء لحركتهم و توجّههم إلى أعمالهم الدّينيّة و الدّنيويّة و في اللّيل بالعكس لأنّهم لمّا كلّوا و ملّوا من حركات النّهار و أعماله اغتنموا شيئا من الظّلمة لتركهم ذلك فلذلك اختلف الأمر في أوّل النّهار و آخره.

و بالجملة فالعمدة استقرار الشّرع عليه و تبعيّة العرف له حتّى ظنّ استقرار

______________________________

(1) هو ابو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي الحكيم الرياضي الطبيب الأديب ولد سنة (362) و توفي سنة (440) ه- معجم المؤلفين ج 8/ 241.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 459

العرف العامّ عليه أيضا بحيث يحمل عليه الإطلاق في مثل النذر، و شبهه، و في الإجارة، و غيرها على تأمّل في بعضها بالنّسبة إلى بعض الأعمال الّتي يقضى العرف و العادة استقرارا أو غلبة بوقوعه في النّهار النجومى.

ثالثها: مجموع اللّيل و النّهار و هذا الإطلاق شايع عند المنجّمين بل قال العلّامة الشيرازي: انّه يراد به اليوم بليلته حيث أطلق و

ينقسم عندهم إلى حقيقىّ و وسطى فالحقيقيّ هو الزّمان المتخلّل بين مفارقة مركز الشّمس نصف عظيمة يتوهّم ثابتا كأحد نصفى دائرة الأفق أو أحد نصفى دائرة نصف النّهار و بين عوده إلى ذلك الموضع بعد دورة تامّة بالحركة الاولى و هي دورة تامّة للمعدّل مع قوس تقطعها الشّمس بحركتها الخاصّة إلى أن تعود إلى موضعها الأوّل و التّرديد في نصف العظيمة بين الدائرتين إنّما هو للاختلاف في تعيين المبدأ، مع اتّحاد الجميع في المقدار فإنّ كلّ واحد من العظام أفق بالقوّة بل أفق حقيقىّ لمسكن من المساكن، فمبدأ اليوم بليلته عند العرب غروب الشّمس من أفق البلد إلى غروبها من الغد لأنّ مبادئ شهورهم من الهلال و رؤيته بعد الغروب غالبا، أو لأنّ الظّلمة أصل في الرّتبة مقدّم بالطّبع و لذا قدّمه في قوله: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ «1» و النّور طار عليه، و الابتداء بالأصل المقدّم بالطبع أولى، و لذا جرت عادتهم بتقديم اللّيالى على الأيّام إذا نسبوها إلى أسماء الأسابيع أو عدد أيّام الشّهور.

و عند الروم و الفرس و من وافقهم طلوع الشّمس من أفق المشرق إلى طلوعها منه بالغد إذ شهورهم حسابيّة غير متعلّق بشي ء من الكواكب فرجّحوا النّور على الظّلمة تفضيلا للوجود على العدم.

و أمّا المنجّمون و أهل الحساب سيّما المغاربة و أهل الأوساط فاليوم بليلته

______________________________

(1) الأنعام: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 460

عندهم من موافاة الشّمس دائرة نصف النّهار إلى موافاتها إيّاه في نهار الغد، فجعلوا المبدأ النّصف الظّاهر من الدّائرة و بنوا عليه حسابهم في زيجاتهم و تقاويمهم، و ذلك لوجوه يظهر لمن مارس حسابهم و انس بصناعتهم، نعم آثر بعضهم النصف الخفيّ للبداية فجعلوا المبدأ نصف اللّيل،

فصار حاصل الأقوال في تعيين المبدأ أربعة، و أمّا الوسطى فهو مقدار دورة من المعدّل مع مطالع قوس تقطعه الشّمس بالسير الوسطى، و لأجل الاختلاف بين الحركة الوسطية و الحركة التقويميّة يختلف الأيّام بالمعنيين اختلافا يسيرا يحسّ به بعد اجتماعه في أيّام كثيرة حسب ما فصّل في موضعه، و لا يهمّنا التّعرض له في المقام، نعم ينبغي أن يعلم أنّ هذا المعنى لليوم و هو إطلاقه على مجموع اللّيل و النّهار أى دورة واحدة للشمس من دون اعتبار خصوص وضع من الأوضاع من طلوع أو غروب في المبدأ من المعاني العرفيّة المشهورة يبنى عليها كثير من إطلاقاتهم بل لعلّه المنساق منها إذا لم يقابل بها اللّيالى سيّما إذا كانت بصيغة الجمع أو التثنية، و هذا المعنى مع كونه مصرّحا به في كلام جمع من الأساطين يبنى عليه و المواعيد، و الآجال العرفيّة، بل الشرعيّة أيضا.

معترضة استطراديّة في مسألة فقهيّة

قد ورد في أخبار أهل البيت عليهم السّلام إطلاق الأيّام و قد أنيط بها كثير من الأحكام كخيار الحيوان المحدود بثلثة أيّام، و خيار التّأخير، و قصد إقامة عشرة ايّام، و اقامة الثّلثين من دون قصد، و أيّام العدد، و الاستبراء، و أجل الدّين، و السّلم، و مدّة الإجارة، إلى غير ذلك.

و الأظهر في جميع ذلك تلفيق المنكسر و الابتداء من حين السّبب إلى تمام العدد و لو مع التّلفيق فيدخل اللّيالى في مفهوم الأيّام اسما و حكما، فلو اشترى

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 461

الحيوان في ظهر الخميس كان آخر زمان الخيار ظهر يوم الأحد فإنّه ثلاث دورات للشّمس و الكلّ اثنان و سبعون ساعة، و مثله البحث في أيّام الإقامة و الترديد و العدد و غيرها من الآجال

المحدودة بالأيّام.

نعم ذكر شيخنا العلّامة في جواهر الكلام عند التّعرض لمسقطات خيار الحيوان الّتي منها انقضاء الثلاثة انّ الظّاهر دخول اللّيلتين المتوسطتين في الحكم دون الاسم، إذ ليس اليوم لغة و شرعا و عرفا إلّا البياض المقابل لليل بل الظّاهر دخول المنكسر من اليوم كذلك أيضا فاذا وقع العقد مثلا ظهر يوم الخميس فالخيار متّصل إلى أن يتحقّق مصداق مضيّ ثلاثة أيّام، و لا يكون ذلك إلّا بانتهاء يوم الأحد و هو غروب الشّمس منه، و لو وقع في أوّل ليلة الخميس مثلا فالخيار فيه إلى مضىّ الثلاثة فتدخل اللّيلة في الحكم لا في اسم اليوم، بل هذا كاد أن يكون صريح

قول الصّادق عليه السّلام في صحيح ابن رئاب فإذا مضت ثلاثة أيّام فقد وجب الشراء «1»

إذ مفهومه أنّ العقد على الخيار إن لم تمض، فالمنكسر في النّهار و اللّيل حينئذ داخلان في حكم البقاء على الخيار إلى حصول الغاية، لا في مفهوم الأيّام المنافي للّغة و الشّرع و العرف، كدعوى صدق اليوم على الملفّق من يوم آخر أو من اللّيل المنافية للثلاثة أيضا، و حينئذ فالخيار في الزّيادة على الأيّام الثّلثة مستفاد من دليل الخيار بالتقريب الّذى ذكرناه، ثمّ قال: فتأمّل جيّدا فانّه دقيق نافع في كثير من المقامات فإنّى لم أجد من تنبّه له، مع أنّه بالتّأمل في المقام و غيره يمكن القطع به لمن رزقه اللّه تعالى اعتدال الذّهن «2».

أقول: و فيه مع الغضّ عمّا يلزمه بل قد صرّح به في المثال من كون مدّة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 103/ 109 باب الخيار ح 2 عن قرب الإسناد ص 78 و الوسائل الباب الثالث من أبواب الخيار ح 9.

(2) جواهر الكلام ج

23/ 30 كتاب التجارة في خيار الحيوان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 462

الخيار ثلاثة أيّام و نصف أنّ جميع ما ذكره رحمة اللّه عليه مبنىّ على فرض عدم دخول اللّيالي في مفهوم الأيّام بوجه بناء على أنّ اليوم مرادف للنّهار، و قد سمعت أنّ له إطلاقا آخر شايعا في العرف و الشّرع و هو استعماله في مقدار مجموع اللّيل و النّهار من الزّمان، و لا يهمّنى بين كون ذلك من باب الاشتراك أو المجاز، و إن كان قد يظهر من بعض الأعاظم دعوى الغلبة و الانصراف بل التبادر بالنّسبة إلى ما ذكرناه، و بالجملة فالظّاهر انّ المعنى المستعمل فيه في مثل قوله صاحب الحيوان بالخيار، في ثلاثة أيّام هو المقدار المجموع.

و لذا قال بعض الأفاضل: إن دخول اللّيالي إنّما هو على التّحقيق لأنّه الأصل في التحديد و الظّاهر دخول اللّيلتين اصالة فتدخل الثالثة و إلّا اختلف معنى الآحاد في استعمال واحد «1» انتهى و إن اعترض عليه في الجواهر بما لا يرد عليه فإنّ الإلحاق في الحكم مع عدم شمول الاسم ممّا لا يساعده دليل سوى الإجماع الّذى يقضى على انّهم قالوا بدخول الأخيرة كالمتوسّطتين، إذ ليس المراد به مجرّد ظهور الاتّفاق أو تحقّقه حتّى يقال: إنّ الفرض وقوع الخلاف، على أنّ المسألة غير مذكورة في كلام الأكثر رأسا فكيف يدّعى الوفاق، بل المراد ما هو الحجّة عند الفرقة المحقّة من مسلك الحدس و غيره بل ربما يظهر ما ذكرناه من فحاوي بعض الأخبار أيضا بل في بعضها عبر عنها باللّيالي تغليبا.

و من الغريب ما وقع لشيخنا في الجواهر في بحث استبراء البائع الأمة الموطوئة حيث وقع في عبارة جملة من الأصحاب التّعبير عن مدّة الاستبراء

بخمسة و أربعين يوما، و في جلّ الأخبار بل كلّها التّعبير باللّيالي، و مع ذلك فقد حكى عن شرح استاذه انّه تدخل في الخمسة و أربعين يوما الليالي المتوسّطة دون

______________________________

(1) الجواهر: ج 23/ 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 463

الاولى و الاخرة و المنكسر لا يحسب يوما مستقلّا و يقوّي احتسابه بالإكمال ثمّ قال و هو جيّد «1».

إذ فيه مضافا إلى ما مرّ انّ الحكم في خصوص المقام معلّق في صريح الأخبار باللّيالى فإلقاء الطّرفين اعتبارا بالأيّام على الوجه الّذى ذكره في خيار الحيوان لا وجه له، مع أنّ قضيّة ما سمعت منه فيما مرّ عدم احتساب المنكسر بالإكمال، بل عدم احتسابه رأسا تكميلا للعدة من الأيّام التّامة حسب ما ذكره، ثمّ إنّ اللّيلة الأولى الّتي ذكرها لم أر لها وجها، و كذا قضيّة ذلك الاجتزاء بثلثة و أربعين ليلة بإسقاط اللّيلتين بعد إحراز اليومين و هو كما ترى، سيّما بعد ملاحظة نصوص الباب.

و ممّا يؤمي إلى ما ذكرناه ما ذكره كثير من الفقهاء في تحديد أقلّ الحيض من أنّ اللّيالى داخلة، بل عن التذكرة أنّه لا خلاف فيه بين فقهاء أهل البيت و إن قيل إنّ معقد الإجماع فيه، و في المنتهى: ليس خصوص دخول اللّيالى.

و قال المحقّق «2» الثّاني في جامع المقاصد: لا ريب أنّ اللّيالى معتبرة في الأيّام إمّا لكونها داخلة في مسمّاها أو تغليبا قال: و قد صرّح بدخولها في بعض الأخبار من طرق العامّة «3» و في عبارة بعض «4» الاصحاب و ادّعى المصنّف الإجماع على ذلك في المنتهى «5». «6»

______________________________

(1) الجواهر: ج 24/ 198- 199.

(2) هو الشيخ الجليل أبو الحسن على بن الحسين العاملي الكركي المولود سنة 868 و

المتوفى سنة (940) ه.

(3) سنن النسائي ج 1/ 182.

(4) المعتبر ج 1/ 202 و فيه: قال أبو على ابن الجنيد في المختصر: أقلّه ثلاثة أيّام بلياليها.

(5) المنتهى ج 1/ 97.

(6) جامع المقاصد: ج 1/ 287.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 464

و مثله من الوجهين للدّخول عن الرّوض و غيره، بل يمكن استظهاره من بعض الأخبار و الفتاوى في حكم من سافر إلى أربعة فراسخ فصاعدا حيث أرادوا باليوم ما يشمل اللّيلة، و في بعض أخبار ناوى الإقامة عشرة أيّام ذكر العشر بدون التّاء مع حذف التّمييز، و مع كلّ ذلك فللتّأمّل في هذا مسألة مجال واسع و تمام الكلام في الفقه.

و رابعها اليوم الملكوتي و يعبّر عنه باليوم الرّبوبى اقتباسا من قوله تعالى:

وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «1».

خامسها: اليوم الجبروتى المعبّر عنه بالأيّام الإلهيّة المشار إليها بقوله:

تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «2».

و التّعبير بالرّبوبي و الإلهى إنّما هو لمجرّد الإشارة و التّمييز، و إلّا فمن الواضح أنّه عند ربّك لا صباح و لا مساء، و حديث الزّمان منقطع هناك رأسا بل لا ذكر الزّمان في عالم الدّهر الّذي هو وراء النّفوس و العقول فضلا عن السرمد فما ظنك بالأزل جلّت عظمته.

و هذان اليومان في القرآن لعلّهما إشارتان إلى الوعائين المتقدّمين على الزّمان فإنّ الأزل غير داخل في الأوعية رأسا بل هو عين الذّات، بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة، و هو عين الأبد فأوليّته عين آخريّته، و آخريّته عين أوّليّته، و هما عين الذّات بلا مغايرة أصلا، و إلّا لزم التّعدد المحال مضافا إلى استلزامه لما هو المستحيل أيضا من الظّرفيّة و الشّمول و الإحاطة و

الافتقار فأوّليّته و سبقه على الأشياء ليست بالزّمان و لا بالامتداد الموهوم كما ربما يختلقه بعض الأوهام و لا

______________________________

(1) سورة الحج: 47.

(2) المعارج: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 465

بالرّتبة و لا بالأوليّة الدّهريّة و السّرمديّة، بل أوّلّية حقّيّة ذاتيّة قيّوميّة، لا يحيط بها الأفهام و لا يعبّر عنها الكلام، و أمّا الأوعية الثّلثة الواقعة في حيّز الإمكان فأعلاها السّرمد، و هو ظرف للمشيّة ليس قبله شي ء من الممكنات و لا من الكاينات، و ذلك بالنّسبة إلى المشيّة الإمكانيّة و الكونيّة و ما لهما من الوعاء فافهم، و ليس للسرمد نهاية في نفسه إلّا بالنّسبة إلى غيره، و به فارق الدّهر و الزّمان لانتهائهما إلى الغير، و امّا لا تناهيها فلعدم انتهائها إلى شي ء و عدم تعلّقها بشي ء فليس لها حدّ تقف عنده، ألا ترى أنّ كلّ شي ء من الأشياء يجوز أن يلبس في إمكانه كلّ صورة من الصّور في السّلسلة الطّوليّة و العرضيّة بلا نهاية، فيجوز أن يكون عقلا أو نفسا أو طبيعة أو كلّيا أو جزئيا و خيرا و شرّا، و أرضا و سماء و زيدا و عمروا، و شجرا و حجرا إلى غير ذلك من جزئيّات العالم الّتي لا يمكن إحصاؤها و استقصاؤها مع قياس كميّاتها و كيفيّاتها و أمكنتها و حدودها و أوضاعها و آجالها المتساوية نسبة كلّها إليها، فليس شي ء أقرب إليها من شي ء، و لا شي ء أبعد منها من شي ء، و إليها الإشارة

بقول مولينا الصّادق عليه السّلام في تفسير قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» استوى من كلّ شي ء فليس شي ء أقرب إليه من شي ء «2».

و

في خبر آخر: استوى من كلّ شي ء فليس شي ء أقرب إليه من شي ء لم يبعد

منه بعيد و لم يقرب منه قريب، استوى من كلّ شي ء «3».

فالآن الواحد من السرمد يطوى المتعدّد مع تباين أمكنتها و أوقاتها و حدودها من دون انثلام وحدته، و لا طروّ تكثّر في انبساطه لا حقيقة و لا معنى و لا صورة و أوسطها الدّهر، و هو وعاء و ظرف للمجرّدات من المادّة العنصرية و المدّة الزّمانيّة،

______________________________

(1) طه: 5.

(2) بحار الأنوار: ج 3/ 336 ح 45- 46 عن التوحيد و تفسير القمى.

(3) البحار: ج 3/ 337 ح 47 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 466

سواء كان تجرّده عن المادّة بحسب الذّات و الفعل كالعقول، أو بحسب الذّات خاصّة كالنّفوس الّتي لا يتمّ أفعالها إلّا بواسطة الأجسام، على حسب اختلاف مراتبها و درجاتها في التّعلق و التّجرد و المعاني المعقولة و المهيّات الكليّة و الاعداد و النّسب العددية الّتي بينها كلّها من حوادث هذا العالم فليس لها حدوث زماني، لأنّ الزّمان كلّه في رتبة الدّهر، كنقطة محدودة و الحوادث الدّهرية ليس لها حدود زمانيّة و لذا لا يصحّ أن يقال إنّ زوجيّة الأربع مثلا، أو سلسلة الأعداد، أو كون عدد نصف آخر، و ثلث ثالث، و ربع رابع مثلا كم لها من السنين أو متى حدثت، و اين مكانها و إلى أين تنتقل، و متى تفنى؟

و بالجملة لما كان الزّمان و المكان متساوقين للأجسام فلا يقال شي ء منهما على المعاني المعقولة بنفي و لا إثبات.

و توهّم أنّ هذه المعاني من الأمور الاعتباريّة الّتي ليس لها وجود متأصّل عينىّ فليست من الموجودات و لا من الحوادث حتّى يقال أن لها ظرفا و وعاء و ان وقتها الدهر.

مدفوع بانّه إن أريد بكونها من الأمور الاعتبارية فليست من الموجودات

المتأصّلة الخارجيّة المتحيّزة الّتي هي الأجسام أو مع لواحقها و عوارضها فمسلّم، لكن التّفريع في غير موضعه، لعدم انحصار الموجودات فيها، و إن أريد أنّها ليست موجودة أصلا بل إنّما هي باعتبار المعتبر و فرض الفارض ففيه منع واضح، كيف و لكلّ من هذه المعاني و النّسب واقع متأصّل قد يطابقه القضيّة و قد يخالفها، و من أين يتطرّق الصّدق و الكذب في القضايا الّتي ليست للنّسب الحكميّة الّتي فيها تحقّق سوى مجرّد الفرض و الاعتبار، و ما أشبه هذا التّوهّم بهذيانات أوساخ الفلاسفة و حمقاء المتكلّمين من العامّة العمياء الّذين ينكرون نصف العالم بل أكثر و أكثر و أكثر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 467

و لذا حصروا الموجودات في الأشياء المحسوسة بالحواس الظّاهرية و أنكر كثير من المنتسبين إلى الفلسفة الموجودات الواقعيّة المسمّاة عندهم بالموجود الذّهني، بل المتكلّمون كافّة أنكروا بعد الواجب ما سوى المتحيّز و الأعراض القائمة به.

قال في المواقف و شرحه: الموجود اى في الخارج (إذ لا يثبتون الوجود الذّهني) إمّا لا يكون له أوّل و هو القديم، أو يكون له أوّل و هو الحادث، و الحادث إمّا متحيّز بالذّات أو حالّ في المتحيّز بالذّات، أو لا متحيّز و لا حالّ فيه، فالمتحيّز هو الجوهر، و نعنى به المشار اليه إشارة حسّية بأنّه هنا أو هناك، و الحالّ في المتحيّز هو العرض، و ما ليس متحيّزا و لا حالّا فيه لم يثبت وجوده عندنا.

و منهم من قنع بهذا القدر، و منهم من جزم بامتناعه لوجهين: أحدهما انّه لو وجد لشاركه في هذا الوصف الّذى هو عدم التحيّز و عدم الحلول في المتحيّز، و لا بدّ من أن يمايزه بغيره فيلزم التركّب في الباري

من المشترك و المميّز و هو محال.

و الثّاني: أنّ هذا الوصف أخصّ صفات الباري فإنّ من سئل عنه لا يجاب إلّا به، و لو شاركه فيه غيره لشاركه أيضا في الحقيقة، فيلزم إمّا قدم الحادث أو حدوث القديم، ثمّ أجاب عن الوجهين بجواز الاشتراك في عارض ثبوتى و بالمنع من كونه أخصّ صفاته.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هذين القسمين من الأيّام أعنى الأيّام الرّبوبيّة و الأيّام الإلهيّة يمكن أن يكونا إشارتين إلى الوعاء الدّهرى و السرمدي و حينئذ فالتّحديد بألف سنة أو بخمسين ألف سنة ليس على وجهه، بل المراد به مجرّد الإشعار على الكثرة و التقريب على الأفهام كتقريب الكثرة بالسّبعين في قوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «1»، و يمكن أن يكونا إشارتين إلى الزّمان

______________________________

(1) التوبة: 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 468

الّذى هو قبل خلق الأفلاك و الزّمان الّذي بعد فنائها، كما في الآيتين «1».

و قد حمل بعض الأعلام «2» السّتّة الأيّام التي خلق اللّه فيها السّموات و الأرض «3» على هذه الأيّام، و عليه حمل ما

في الأخبار من اختزال السّتة الأيّام من أيّام السنة «4»

مؤيّدا بما

ورد من أنّ رباط يوم في سبيل اللّه خير من عبادة الرّجل في أهله سنة ثلثمائة و ستّين يوما كلّ يوم ألف سنة و انّ صلوة المغرب هي السّاعة الّتي تاب اللّه عزّ و جلّ فيها على آدم و كان بين ما أكل من الشّجرة و بين ما تاب اللّه عليه ثلثمائة سنة من أيّام الدّنيا،

بل عن الطبري في تاريخه: إنّ حمل تلك الأيّام السّتة على الأيّام الرّبانيّة أمر مقرر بين أهل الإسلام «5» إلى غير ذلك من الشّواهد الّتي تسمع إن

شاء اللّه تمام الكلام فيها و في تحقيق المرام عند تفسير الآية و لعلّه لا تمانع بين الوجهين فانّ الجنّة الّتي خرج منها أبونا آدم من عالم المثال الّذي هو في الإقليم الثّامن و ليس في أفق الزّمان، و لذا كان يوم أيّامه كألف سنة من هذا العالم، و كذلك عالم الآخرة من عالم الملكوت و ليس من عالم الزّمان و لذا يحشر فيه جميع الأزمنة.

و من البيّن أنّ الزّمان لا يمكن أن يحشر فيه زمان آخر، و

قد ورد أنّه يحشر الأزمنة بما فيها من الأفعال و تشهد للعباد

، و

في خطبة مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام المذكورة في نهج البلاغة: و أنّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شي ء معه كما

______________________________

(1) الحج: 47- و المعارج: 4.

(2) هو العلّامة المجلسي قدّس سرّه كما في البحار ج 57/ 218.

(3) الأعراف: 54 و غيرها.

(4) إشارة إلى ما

رواه الكليني في الكافي كتاب الصوم ب 7 ح 3 عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: إن اللّه تبارك و تعالى خلق الدنيا في ستّة أيّام، ثمّ اختزلها عن أيّام السنة، فالسنة ثلثمائة و اربعة و خمسون يوما ....

(5) بحار الأنوار: ج 57/ 215 الى ص 223. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 469

كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت و لا مكان و لا حين و لا زمان عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السّنون و السّاعات. «1» الخطبة.

و

في تفسير الامام عليه السّلام: إن اللّيالى و الأيّام و الشّهور شهوده له أو عليه إلى أن قال: و يحشر اللّيالى و الأيّام و يستشهد البقاع و الشّهور على أعمال العباد فمن عمل صالحا شهدت له جوارحه و بقاعه

و شهوره و اعوامه و ساعاته و أيّامه و ليالي الجمع و ساعاتها و أيّامها فيسعد بذلك سعادة الأبد إلى أن قال:

و ينادى مناد يا رجب و يا شعبان و يا شهر رمضان كيف عمل هذا العبد فيكم و كيف كانت طاعته للّه عزّ و جل؟ فيقول رجب و شعبان و شهر رمضان: يا ربّنا ما تزود منّا إلّا استعانة على طاعتك فقال للملائكة الموكّلين بهذه الشّهور ما ذا تقولون في هذه الشّهادة لهذا العبد؟ فيقولون: يا ربّنا صدق رجب و شعبان و شهر رمضان، الخبر بطوله «2».

فالمستفاد منه و من غيره بل من بعض الآيات أيضا كقوله: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ على تقريب لا يخفى انّه يحشر الزّمان في المحشر بجميع ما فيه من أفعال العباد و أعمالهم فلو كان يوم الحشر أيضا زمانيّا لم يمكن ذلك لعدم كون الزّمان ظرفا لمثله بل جميع الزّمان في جنب الدّهر كنقطة محدودة و قد استفيد من الخبر أيضا أنّه ليس المراد من حشر الزّمان و شهادته شهادة الملائكة الموكّلة به على العاملين فيه حسب ما هو صريح الخبر.

و أمّا كيفيّة امتداد عالم الآخر في المحشر، و في الجنّة و النّار فلا تدركه عقولنا بحقيقته، و على فرض كونه من سنخ هذا الامتداد المحسوس في هذا العالم لعلّ المراد بحشر الزّمان فيه معنى آخر، أو أنّه على كيفيّة اخرى لا تدركه

______________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة (186).

(2) بحار الأنوار: ج 7/ 315- 316 ح 11 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 470

عقولنا و اللّه العالم.

سادسها: الحوادث الزّمانيّة بل مطلق الشّؤن الرّبانيّة، فإنّ كلّا من الحوادث و الشّئون يوم من

الأيّام و منه أيّام العرب لوقائعها أو حروبها، و فسّرت في قوله:

وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ «1» بنعم اللّه و شئون ربوبيّته كنعمة إنجائهم من آل فرعون، و قبول توبتهم، و تظليل الغمام، و إنزال المنّ و السّلوى، إلى غير ذلك و بنقمة الّتي انتقامها اللّه من الأمم السّالفة فيكون أيّام اللّه كناية عن عقوباته الّتي نزلت بمن مضى في الأيّام الخالية.

و

فسرها مولينا الباقر عليه السّلام بيوم يقوم القائم عليه السّلام، و يوم الكرة، و يوم القيامة.

و مولينا الصادق عليه السّلام: بنعم اللّه و آلائه «2».

و

عن مولينا أبى الحسن الثّالث عليه السّلام في معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تعادوا الأيّام فتعاديكم انّ السّبت اسم محمّد عليه السّلام، و الأحد أمير المؤمنين، و الاثنين الحسن و الحسين و الثلاثاء علىّ بن الحسين و محمد بن علىّ و جعفر بن محمّد، و الأربعاء موسى بن جعفر و علىّ بن موسى و محمّد بن علىّ و أنا، و الخميس إبني الحسن، و الجمعة ابن إبني، و اليه تجتمع عصابة الحقّ، و هو الّذي يملأها قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا فهذا معنى الأيّام فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة «3».

و لعلّ ذلك لكونهم من الشّئون الجليلة الإلهيّة بناء على اطلاق الأيّام عليها سواء كان من الحوادث الزّمانيّة أو من الإبداعيّات الملكوتيّة لكنّهم عليهم السّلام لمّا كانوا اوّل الشّؤون و أعلاها و أقدمها اختصّوا باسم الأيّام على الإطلاق.

______________________________

(1) سورة إبراهيم: 5.

(2) تفسير العيّاشى: ج 1/ 222 ح 2.

(3) بحار الأنوار: ج 24/ 238.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 471

تفسير [سورة الفاتحة(1): الآيات 4 الى 5]

فصل الدين
اشارة

اعلم أنّ الدّين هو الحساب و قيل: هو الجزاء، و منه قولهم:

كما تدين تدان، الأوّل بالفتح للفاعل و الثّانى بالضّم للمفعول أى كما تجزى تجزى.

قال أخو عبد قيس:

و اعلم و أيقن أنّ ملكك زائل و اعلم بأنّك ما تدين تدان

بل

عن النّبىّ: البرّ لا يبلى و الذّنب لا ينسى «1» و الدّيان لا يفنى فكن كما شئت كما تدين تدان «2».

و قيل غير ذلك من المعاني الّتي يستعمل فيها في خصوص الموارد بل أنهاها في القاموس إلى بضع و عشرين قال: الدّين بالكسر الجزاء، و قد دنته بالكسر دينا و يكسر، و الإسلام، و قد دنت به بالكسر، و العادة، و العبادة، و المواظب من الأمطار، و اللّين منها و الطّاعة كالدّينة بالهاء فيهما، و الذّل، و الدّاء و الحساب، و القهر، و الغلبة، و الاستعلاء، و السلطان، و الملك، و الحكم، و السّيرة، و التدبير، و التّوحيد، و اسم لجميع ما يتعبّد اللّه عزّ و جلّ به، و الملّة، و الورع، و المعصية، و الإكراه، و من الأمطار ما تعاهد موضعا و صار ذلك له عادة، و الحال، و القضاء.

لكنّها مع رجوع بعضها إلى بعض آخر لا يصلح إرادة كلّها في المقام و ان

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10/ 100.

(2) البحار: ج 13/ 353.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 472

أمكن ذلك على تكلّف فالجزاء كقوله: إنا لمدينون و كما تدين تدان، و لعلّ إرادته في المقام أنسب من غيره من المعاني كما قال: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1»، الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «2».

و الجزاء بعد الحساب فهو يشمله، و الحساب للجزاء فيدلّ عليه، و لذا

فسّره مولينا العسكريّ عليه السّلام في تفسيره بيوم الحساب قال: و يوم الدين هو يوم الحساب «3» و رواه

في «المجمع» عن أبى جعفر عليه السّلام.

و منه يظهر أنّه لا داعي إلى تكلّف غيره من المعاني، و ان كانت المناسبة الّتي بينه و بين كثير منها كافية في التّسمية، فإنّه يوم جزاء الإسلام بتقدير المضاف، و كذا لو أخذ بمعنى العبادة، أو الطّاعة، أو الملّة، و التّوحيد، أو أنّه يوم أصحاب التوحيد، أو يوم ظهور الوحدانيّة له تعالى و بطلان الشرك بتبري الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا فإنّهم و ما يعبدون من دون اللّه حصب جهنّم» فهو يوم ذلّة المشركين بل المجرمين، وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ «4»، آه و يوم القهر و الغلبة بمعنى الفاعل و المفعول، و يوم ظهور السّلطنة و العلو و الملك و الحكم و سيرة العدل و التدبير للّه ربّ العالمين، و لأوليائه القوّامين بأمره العاملين بإرادته.

ثمّ انك إذا اعتبرت معاني اليوم و معاني الدين على وجه الظهور و البطون، أو عموم المجاز أو الحقيقة بعد الحقيقة، أو استعمال اللّفظ في المعنيين الحقيقيّين، أو المعنى الحقيقي و المجازي على فرض جوازهما يظهر لك معان كثيرة و شئون غفيرة للرّبوبيّة.

______________________________

(1) الجاثية: 28.

(2) غافر: 17.

(3) مجمع البيان: ج 1/ 24.

(4) السجدة: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 473

و اعلم أنّه على قراءة ملك تكون الإضافة معنويّة موجبة لتعريف المضاف كى يصحّ توصيف المعرفة الّتي هو اللّه به لأنّ الصّفة المشبّهة لا تعمل النّصب حتى تكون مضافة إلى المفعول به لاشتقاقها من اللّازم، و إضافتها اللّفظية منحصرة في اضافتها إلى فاعلها فالاضافة في ملك يوم الدّين مثل كريم البلد حقيقيّة يكسب التّعريف.

و أمّا تجويز سيبويه هو رحيم فلانا و جليس زيدا فقد قيل إنّه نصّ على أنّ الأوّل من

ابنية المبالغة، و حكمه حكم اسم الفاعل حينئذ، و الثّانى بمعنى مجالس و إلّا لم يكن متعدّيا.

و احتمال كون ملك في المقام من أبنية المبالغة نظرا إلى كونه متعدّيا، مع أنّهم صرّحوا بلزوم اشتقاق الصفّة من الفعل اللّازم مدفوع بما مرّ من تصريحهم بتقدير اللّزوم فيه و في نظائره في باب المدح و الذم بنقل الفعل إلى القرائن بل قيل: إنّ تقدير اللّزوم في المتعدّى كثير في كلامهم كقولهم يعطى و يمنع أو يفعل الإعطاء و المنع، من غير اعتبار أنّه من يعطيه و ما يعطيه.

و أمّا على قراءة مالك فقد أجيب عن إشكال وقوعه صفة للمعرفة بوجهين:

أحدهما تجريده عن معنى الحدوث و التّجدد بمعنى أنّ له الملك في هذا اليوم على وجه الثّبوت و الدّوام و الاستمرار فلا يكون مشابها لفعل في التّجدد و الحدوث، نعم ربما يقال لا مانع من عمله حينئذ أيضا و يستشهد له بقوله: جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً «1» بنصب الشمس و القمر عطفا على محلّ اللّيل مع قصد الاستمرار من اسم الفاعل كما عطف على محلّه في قوله:

هل أنت باعث دينار لحاجتناأو عبد ربّ أخاعون بن محراق

بنصب عبد، و قد يجاب بانّ الاستمرار يحتوي على الأزمنة الماضية و الآتية

______________________________

(1) الأنعام: 96 على قراءة (جاعل) لا القراءة الموسومة إنّها (جعل).

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 474

و الحال، فتارة يعتبر جانب الماضي فتجعل الإضافة حقيقيّة، و تارة جانب الآتي و الحال فتجعل لفظيّة، و التعويل على القرائن و المقامات.

و توهّم منافاة التّقييد بيوم الدّين للاستمرار نظرا إلى صراحته في الاستقبال مدفوع بأنّ المراد الثّبوت و الاستمرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة، و مثل هذا المعنى

لا يمتنع أن يعتبر بالنّسبة إلى يوم الدّين كأنّه قيل هو ثابت المالكيّة في ذلك اليوم.

و ربما يقال: إنّ الاستمرار في مالك يوم الدّين ثبوتى، و في جاعل اللّيل تجدّدي، لتعاقب أفراده فكان الثّانى عاملا و إضافته لفظيّة لورود المضارع بمعناه دون الأوّل، و الثّانى أنّه بمعنى الماضي تنزيلا لما تحقّق وقوعه و لو في زمان من الأزمنة منزلة الواقع، و مثله كثير في القرآن، و أمّا إضافته إلى الظّرف مع عدم كونه فاعلا و لا الوصف عاملا فعلى الاتّساع و التّجوز عند الأكثر فأجرى الظّرف مجرى المفعول به حيث لا يقدّر معه في، بل ينصب نصبه و يضاف إليه على حسبه.

و فيه: مع أنّه التزام بكونه حينئذ عاملا أنّه مشتمل على تكلّف لا داعي إليه، و هو جعل اسم الفاعل بمعنى الماضي لتكون الاضافة معنويّة ثمّ جعل الماضي بمعنى المستقبل، و هو كما ترى.

مع أنّ هذا كلّه بناء على الجري على طريقة القوم و إلّا فلا يخفى أنّ الأزمنة كلّها منقطعة في حقّه سبحانه إذ ليس عند ربّك صباح و لا مساء فجميع الأزمنة عند فعله بل عند ملكوته كنقطة محدودة و إنّما يتوارد الأزمنة بحدودها و أطوارها و اكوارها علينا في هذا العالم النّاسوت.

و من هنا يظهر أنّ الأظهر في الجواب هو الوجه الأوّل لضعف الثّانى كضعف ما قيل أيضا في الجواب من كونه بدلا ليحصل التخلّص من تلك التكلّفات، نظرا إلى ما هو المختار عند المحقّقين من النّحويّين من جواز إبدال النكرة الغير

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 475

الموصوفة من المعرفة، إذ فيه أنّ البدل هو التّابع المقصود بالحكم بلا واسطة و من البيّن أنّ المقصود في المقام إثبات الحمد للّه باعتبار هذه

الصّفات لا أنّه ثابت للوصف الأخير فاللّه هو المقصود بالحكم و هو المتبوع لا التّابع.

ثمّ انّه يستفاد من تفسير الامام عليه السّلام جواز كون الإضافة إلى الظّرف و إلى المفعول

قال عليه السّلام: مالك يوم الدين أي قادر على إقامة يوم الدّين و هو يوم الحساب، قادر على تقديمه عن وقته و تأخيره بعد وقته و هو المالك أيضا في يوم الدين فهو يقضى بالحقّ لا يملك الحكم و القضاء في ذلك اليوم من يظلم و يجور كما قد يجور في الدّنيا من يملك الأحكام، قال و قال أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الّدين هو يوم الحساب «1».

أسماء القيامة

اعلم أنّ للقيمة أسماء كثيرة باعتبار الشّؤون الواقعة في ذلك اليوم، و قد ضبطها بعضهم بواحد و مائة يستفاد أكثرها بالتلويح كيوم النشور، و يوم الفراق، و يوم القضاء، و يوم الزّلفة، و يوم السّكرة، و غيرها المصرّح به منها في الكتاب العزيز أربع و ثلثون منها المجرّد من لفظة اليوم، و هي أحد عشر اسما السّاعة، و الحاقة، و الطّامّة، و الآزفة، و الغاشية، و القارعة، و الرّاجفة، و الرّادفة، و الواقعة، و الخافضة، و الرّافعة، و منها المقترنة بها بالإضافة و التّوصيف كاليوم الآخر، و يوم الآزفة، و يوم التّلاق، و يوم تبلى السّرائر، و يوم التّغابن، و يوم التّناد، و يوم الجمع، و يوم الحسرة، و يوم الحساب، و اليوم الحقّ، و يوم الخروج، و يوم الخلود، و يوم عبوس قمطرير، و يوم عظيم، و يوم عسير، و يوم الفصل، و يوم القيمة، و يوم معلوم، و يوم مجموع له

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 92/ 250 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3،

ص: 476

النّاس، و يوم مشهود، و يوم الوعيد، و يوم الموعود، و يوم الدّين الّذى قد سمعت وجه تسمية به بمعانيه، لكنّه خصّه بإضافة المالك أو الملك إليه مع ثبوت الوصفين له في جميع العوالم و النشئات بكلّ الاعتبارات لإفادة تعظيم ذلك اليوم، فانّ الانتساب إلى العظيم تنبيه على التّعظيم، و لأنّ الملك و الملك الحاصلان في هذا العالم ربّما ينتسبان إلى غيره انتسابا ثانويّا بواسطة أو بوسائط مجعولا من قبله لانتفاع الخلق بهما كما قال سبحانه: يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ «1»، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ «2»، وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً «3» و قال: أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ «4».

و ذلك لاحتياجهم في أمر معاشهم و معادهم و نظام أمورهم إلى هذه الأمور الاعتباريّة، و الارتباطات الّتي لا حقيقة لها سوى جعله مع أنّه هو المالك لما ملكهم و هو المالك لهم بل شتّان بين الملكيّة المجعولة لنا في أموالنا و أرقّاتنا لفائدة لانتفاعنا بها و بالتّصرف فيها في الحيوة الدّنيا و بين الملكيّة الّتي له سبحانه فيما أنشأه و قدّره و قضاه و أمضاه و خلقه و صوّره و رزقه و أتقن خلقه، و أفاض عليه الإفاضات السّيالة الدّائمة اللّايزالية الغير المنقطعة، بحيث لو انقطع عنها فيضه لكان عدما محضا بحتا، و أمّا في يوم القيمة تنقطع تلك العلائق و ترتفع تلك الاعتبارات لعدم الحاجة إليها بل لعدم الانتفاع بها فإنّ الأشياء المملوكة في هذه الدّنيا من سنخ هذا العالم، فيحصل الانتفاع بها في هذه الدّار دون الدّار الاخرة كما لا يحصل الانتفاع لأهل هذا العالم بدم الحيض و إن كانوا ينتفعون بها في عالم

الأرحام، و كما لا يحصل للملك الانتفاع بالأغذية الجسمانيّة النّاسوتيّة، و لذا لا يكون الملك

______________________________

(1) البقرة: 245.

(2) آل عمران: 26.

(3) المائدة: 20.

(4) يس: 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 477

و الملك مجعولا لهم يوم القيمة، فيكون الأمر و الملك كلّه للّه كما كان في الدّنيا إلّا أنّه في الدّنيا ربما ينصرف النّظر إلى بعض الاعتبارات و الجعليّات الظلّيّة فيتوهّمها من الحقائق المتحصّلة المتأصّلة كما قال فرعون: أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ «1».

و

في مصباح الشريعة: يقول ابن آدم: ملكي ملكي و مالي مالي، يا مسكين اين كنت حيث كان الملك و لم تكن، و هل لك إلّا ما أكلت فأفنيت. إلخ «2».

و أمّا في الاخرة فينكشف الغطاء من البصائر و الأبصار و ينجلي لهم حقائق الأسرار كما قال سبحانه: لقد كنت في غفلة من هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «3» فيرى الملك كلّه للّه كما يحكى سبحانه عن السائلين و المجيبين في ذلك اليوم و هم الأئمّة عليهم السّلام كما في الخبر لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار «4». «5» و لأنّ بالرّبوبيّة المطلقة الكليّة التّامّة العامّة المشار إليها بقوله: ربّ العالمين سيّما بعد تعقيبه بذكر الرّحمتين اللّتين هما العدل و الفضل اللّذين يتمّ و يكمل بهما الرّبوبيّة قد ثبت له سبحانه جميع الشّئون الّتى منها الملك و الملك في عالم التّربية الّتي هو عالم التّرقّى و الكسب و ظهور الأمور و حيث كانت الاشارة فيها خفية على ثبوت تلك الشؤون بل الشؤون الّتي يناسبها يوم الجزاء في ذلك اليوم أظهرها و أكّدها بقوله: مالك يوم الدّين.

______________________________

(1) الزخرف: 51.

(2) بحار الأنوار ج 71 ص 356

ح 17 عن مصباح الشريعة الباب (37) عن الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(3) ق: 22.

(4) غافر: 16.

(5) نور الثقلين ج 4/ 514 ح 25 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 478

ثمّ انّ هذا كلّه على فرض اختصاص يوم الدّين بيوم القيامة و الّا فالأظهر شموله لجميع النّشئات و العوالم بجميع معاني الدّين عن الإسلام و الجزاء و الحساب و الحكم و غيرها فإنّ شئون الرّبوبيّة لا تعطيل لها في شي ء من المراتب و الأمكنة و النّشئات و العوالم غاية الأمر انّه في كلّ عالم بحسبه فالدّين يعنى الإسلام ثابت في جميع العوالم و هو مالكه و معطيه و ممدّه و المجزى عليه، و بمعنى الجزاء ثابت في الدّنيا و في البرزخ أيضا غاية الأمر أنّ الجزاء الّذي هو في الدّنيا من سنخ الأمتعة الدّنيويّة كما يقال للكفّار: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها «1». و أيضا من سنخ الإمدادات و الإفاضات و التّوفيق و الخذلان و غيرها، بل في كلّ أن يحصل لكلّ موجود من الموجودات في كلّ عالم من العوالم كسر وصوغ فينكسر و يتلاشى من حيث إنيّته و يصوغ صيغة على حسب رتبته و درجته و نيّته و شاكلته و منه يتحصّل معنى الحساب أيضا.

و لذا قيل: إنّ معنى سرعة الحساب إنّ اللّه سبحانه يحاسب العبد في الدّنيا في كلّ ان و لحظة و يجزيه على عمله، و في كلّ حركة و سكون و يكافي طاعاته بالتّوفيقات و معاصيه بالخذلانات، فالخير يجرّ الخير و الشرّ يدعو إلى الشرّ، و من حاسب نفسه في الدّنيا عرف هذا المعنى كما

قال عليه السّلام: «حاسبوا أنفسكم قبل أن

تحاسبوا و زنوها قبل أن توزنوا» «2».

تبصرة

قد سمعت أنّ مالك يوم الدين بجميع معانيه في جميع العوالم هو اللّه سبحانه لا شريك له في ذلك و لا معين و لا ظهير له في شي ء منه فليس له شريك في الملك

______________________________

(1) الأحقاف: 20.

(2) بحار الأنوار: ج 70/ 73 ح 36 عن محاسبة النفس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 479

و لا له ولىّ من الذّل إلّا أنّه بعزّته قد اتّخذ لنفسه أولياء من خلقه و جعلهم أمناء و حججه على بريّته و هم محمّد و آل محمّد عليهم الصلاة و السّلام فولّاهم أمر خلقه في جميع الشؤون الّتي مرجعها إلى الفعل، فانّهم أمر اللّه الفعلى الّذى بهم قامت السّموات و الأرض قياما صدوريّا و قياما ركينا، فإليهم إياب الخلق و عليهم حسابهم كما في الزّيارة الجامعة بل في الاخبار المستفيضة بل المتواترة في تفسير الآية و في كونهم قسيم الجنّة و النّار و في باب الشّفاعة و غير ذلك، و لا غرو في التفويض السّيلانى بالنّسبة إليهم، فإنّ هذا ثابت في حقّ شيعتهم أيضا كما

روى في مشكاة الأنوار عن مولانا الباقر عليه السّلام إنّ المؤمن ليفوّض اللّه إليه يوم القيمة فيضع ما شاء فسأله جابر الجعفي عنه من كتاب اللّه فقال قوله: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ فمشيّة اللّه مفوّضة إليه و المزيد من اللّه ما لا يحصى.

ثمّ قال يا جابر و لا تستعن بعدوّنا في حاجة، و لا تستطعمه و لا تسأله شربة ماء انّه ليخلّد في النّار فيمرّ به المؤمن، فيقول: يا مؤمن أ لست فعلت بك كذا و كذا؟

فيستحيي منه فيستنقذه من النّار، و إنّما سمّى المؤمن مؤمنا لأنّه يؤمن على

اللّه فيجيز اللّه أمانه «1».

فالدّين إن كان بمعنى الحساب عليهم و كذا بمعنى الجزاء لقضيّته القسمة بل في الزّيارة الرجبيّة: أنا سائلكم و املكم فيما إليكم التفويض، و عليكم التّعويض فبكم يجبر المهيض و يشفى المريض.

و

من كلام مولانا أمير المؤمنين قبل موته «غدا ترون ايّامى و تكشف لكم من سرائري» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8/ 42 ح 36 عن محاسن البرقي ص 185.

(2) بحار الأنوار: ج 42/ 207 ح 11 عن الكافي ج 1 ص 300.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 480

إِيَّاكَ نَعْبُدُ
فصل

ثمّ انّه لما ثبت لنفسه على لسان عبده الرّبوبيّة و الرّحمة و الملك بحيث لا يشاركه في شي ء منها غيره بل قد انحصر أسباب الخوف و الرّجاء فيه سبحانه بحيث ليس للعبد مطمع في غيره و لا له خوف إلّا منه مع أطباق العقول على ضرورة وجوب شكر المنعم و عبادته سيّما بعد كون المعاد إليه و الجزاء من لديه المشعرين بامره و طلبه و إيجابه التفت من مقام الغيبة و الحكاية إلى مشهد الحضور و العناية فصار ما هو الثّابت بالبرهان مشاهدا بالعيان فتعرض لنفحات القدس و تمكّن على سرير الأنس و تحلّى بحلية العبادة و تخلّى عن الاستعانة بغيره في الفوز بالسّعادة، فقال بلسان عبيده تعليما لهم على وجه الاخبار و الإنشاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.

و هذه هي الآية المتوسطة بين الرّب و بين عبده فانّ أوّل السّورة تحميد و تمجيد و مدحة للّه سبحانه و آخرها دعاء و رغبة و رهبة و في هذه الآية بيان انتساب العبد إلى ربّه و افتخاره به و افتقاره إليه و لذا جعلها واسطة بين تمجيده بأتم الصّفات و دعائه لأعظم المهمّات بل بين

الإفاضة و الاستفاضة.

اللّغة و القراءة
بحث نحوي في ايّاك

اختلفوا في إيّاك و أخواته من الضّمائر المنصوبة المنفصلة هل الضّمير منه إيّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 481

خاصّة؟ أو الضّمائم المتّصلة به من الهاء و الكاف و الياء و غيرها؟ أو المجموع من حيث المجموع، أو الجميع بمعنى كلّ منهما على أقوال.

فالجمهور على أنّ إيّا اسم للمضمر المنصوب، و لواحقه حروف للخطاب و غيره اكّد بها الضّمير لا محلّ لها من الاعراب كما لا محلّ للكاف و أخواته في قولك: ذلك ذلكما ذلكم، و قولك: أ رايتك أ رايتكما أ رايتكم بمعنى طلب الإخبار عن علم.

حيث إنّه لو كان الكاف مفعولا لزم الجمع بين ضميري الفاعل و المفعول في غير أفعال القلوب، و لكان قولك أ رايتك زيدا ما شانه بمعنى أ رايت نفسك زيدا ما شانه، فيلزم أن يكون معدّى إلى ثلاثة مفاعيل، مع عدم استقامة المعنى أيضا، و هذا مذهب الأفضل و المحكي عن البصريّين بل عن الكوفيّين أيضا.

و عن الزّجاج و غيره أنّ إيّا اسم للمضمر المنصوب، إلّا أنّه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات فتقول: إيّاه ضربت، و إيّاك أكرمت، و إيّاي أعطيت، فموضع إيّا النّصب بالفعل، و موضع الضّمائم الخفض بالاضافة إلّا أنّه لا يضاف إلى غيرها إلّا شاذّا كما حكى الخليل عن العرب: إذا بلغ الرّجل السّتين فإيّاه و ايّا الشّوابّ أى فليحذر من النّسوة الشّابة.

و ردّ بأنّ إيّا ليس بظاهر بل مضمر لتغيّر ذاته و امتناع ثباته في حال الرّفع و الجرّ و الظّاهر يتوارد عليه الحركات في اخره من غير أن يتغيّر بنفسه.

و فيه المنع من تغيّره في ذاته لانّ المتغيّر هو اللّواحق مع إمكان أن يكون لنوع من الضّمير، و هو المنصوب خاصّة.

فالاولى في

الجواب أن يقال: إنّ إيّا إذا كان اسما للمضمر فهو يفيد إفادته فإضافته إليه تكرير أو تأكيد غير مستفاد من اللّفظ، و بهذا يبطل أيضا ما يحكى عن بعضهم إنّ إيّا اسم مضمر نائب مناب الضّمير و لعلّه يرجع إلى ما مرّ و إن قيل: إنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 482

سيبويه إنّما عدل إليه نظرا إلى أنّ الضّمير لا يضاف سيّما مع كونه أعرف المعارف.

و ربّما يقال: إنّه اسم مشتقّ من أوى يأوى، و أصله عند هذا القابل إويا على وزن فعلى فقلبت الواو ياء و أدغمت في الياء لاجتماعهما و سبقة أوّلهما بالسّكون.

و ربّما يقال: إنّه اسم ظاهر لازم للإضافة مثل سبحان، و عن ابن درستويه أنّه متوسّط بين الظّاهر و المضمر كاسم الإشارة.

و عن المبرّد أنّه اسم مبهم أضيف إلى ما بعده كاضافة كلّ و بعض، و عن سيبويه و الأخفش و أكثر المتأخّرين أنّ الضّمير هو إيّاه و اللّواحق لمجرّد الدّلالة على الغيبة و الخطاب و التكلّم و الإفراد و الجمع و غير ذلك.

و عن بعضهم أنّ كلّ واحدة من الصّيغ الّتي هي إيّاه و ايّاهما إيّاهما الى إيّاى ايّانا صيغة مستقلّة، و الضّمير هو مجموع الكلمة، و لا داعي إلى جعله بعضها بعد الاستفادة من الكلّ، سيّما مع عدم مرجّح للبعض على الكلّ و على بعض آخر.

و ربما يقال: إنّ إيّا اسم بمعنى النفس الّتي تضاف إلى الأشخاص و الأعيان فمعنى إيّاك نعبد نفسك نعبد كما قال تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1» إلى غير ذلك من الأقوال الضّعيفة الّتي لم نتعرّض لأدلّتها لضعفها جدا و لعل الأقوى و إن خالف المشهور بينهم في

الجملة إذ لا بأس به انّ الضّماير هي الهاء و الياء و ما اشتقّ منها للمثنى و الجمع هو بعينها الضّماير المتّصلة المنصوبة في قولك أكرمته و أكرمهما، إلخ.

و أكرمتك و اكرمتكما و أكرمتني و أكرمتنا و بالجملة هذه الضّماير المتّصلة المنصوبة هي بعينها الضّمائر المنفصلة المنصوبة غاية الأمر انّها لما كانت ممّا لا يبتدأ بها توصّلوا إلى الابتداء بها بلفظ أيّا و لذا سمّاه الكوفيّون عمادا لما يأتى

______________________________

(1) المائدة: 116.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 483

بعدها من اللّواحق، و لعلّه أيضا مراد من سمّاه سلّم اللّسان حيث إنّه سبب التمكّن اللّسان من التّلفظ بها عند ارادة تقديمها على الفعل أو تأخيرها عن ارادة الاستثناء و التفكيك بين حالتي الاتّصال و الانفصال بالإعمال و الإهمال لا يخلو عن شوب الإشكال، و على كلّ حال فيتوصل بالعماد إلى التكلّم بهذه الضّماير عند ارادة تقديمها على الفعل كما في المقام أو الفصل بالاستثناء نحو ما أردت إلّا إيّاك أو العطف نحو ذكرتك و إيّاه أو التكرار نحو: أدعوك و ايّاك أو لضرورة الشّعر.

و ممّا يؤيّد ما ذكرناه ما ذكره الجوهري حيث قال: إنّه اسم مبهم و يتّصل به جميع المضمرات المتّصلة للنّصب نحو: إيّاى و إيّاك و إيّاه و إيّانا، و جعلت الكاف و الياء و الهاء بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من الغايب، و لا موضع لها من الإعراب، فهي كالكاف في ذلك و أ رايتك و كالألف و النون الّتي في أنت، فيكون إيّا الاسم و ما بعدها للخطاب «1».

و في القاموس ما يقرب منه و صرّح فيه بانّ إيّا بالكسر و الفتح، و أنّ همزته تبدل هاء و تارة واوا ففيه ستّ لغات و

قد قرئ في المقام بأربعة منها، و هي ما سوى الواو مكسورة و مفتوحة لكنّ الثلاثة غير الاولى من الشواذّ.

و قرئ بكسر النّون في الفعلين (اى نعبد و نستعين قيل: و هي لغة بنى تميم فإنّهم يكسرون حرف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها، فإن انضمّ ما بعدها كتقوم لم تكسر لثقل الانتقال عن الكسر إلى الضّم.

و في الكشّاف قرأ ابن حبيش «2» نستعين بكسر النّون.

______________________________

(1) الصحاح ج 6/ باب الألف الليّنة.

(2) هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه بن حبيش الأندلسى المقرئ ولد سنة (504) و توفّى سنة (584).- غاية النهاية ج 1/ 378.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 484

قلت: ذكر الشّيخ الّرضى «1» رضى اللّه عنه أنّ كسر حروف المضارعة إلّا الياء لغة غير الحجازيّين إذا كان الماضي مكسور العين و يكسرون الياء أيضا إذا كان ما بعدها ياء اخرى.

قوله نعبد إمّا من العبادة، أو من العبوديّة، فانّ الأتي منهما مضموم العين، و إن كان الماضي من الأوّل بالفتح، و من الثاني بالضّم، فصاحب العبادة عابد مطيع، و صاحب العبودية عبد منقاد.

و العبادة أن تفعل ما يرضيه اللّه، و العبوديّة أن ترضى بما يفعله اللّه، و أصل الباب هو الذّلّة و الانقياد تقول: طريق معبّد: أى مذلّل بكثرة الوطي، و المعبّد على ما في القاموس من الأضداد يطلق على المذلّل و على المكرّم، و ذلك لأنّ ذلّة العبوديّة توجب الفوز بالكرامة و السّلامة و الاقامة في دار المقامة، و هذه العبوديّة هي الّتي افتخر بها نبيّنا خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على سائر الأنبياء

في قوله: «الفقر فخرى و به أفتخر على سائر الأنبياء» «2»

، إذ المراد به

هو الافتقار و الانقطاع الكلّى إلى اللّه تعالى. و بالجملة كلّ من العبادة و العبوديّة على فرض تغايرهما تصلح لاشتقاق الفعل منه، و لذا اثنى اللّه تعالى على الأنبياء و الملئكة في قوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «3»، لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «4»، وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ «5» و كانُوا لَنا عابِدِينَ «6».

______________________________

(1) هو محمد بن الحسن رضى الدين الإسترابادى شارح الكافية و الشافية لابن الحاجب توفّى سنة (686) ه.- معجم المؤلفين ج 9/ 183.

(2) بحار الأنوار: ج 69/ 30 و ليس فيه: (على سائر الأنبياء).

(3) الأنبياء: 26.

(4) الأعراف: 206.

(5) ص: 45.

(6) الأنبياء: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 485

و شرّف المؤمنين بانتسابهم إلى عبوديته و كرّمهم و فضّلهم بقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا «1»، يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ «2»، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «3».

و وصفهم بأحسن الحلية في قوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «4».

و العبوديّة أصل للعبادة و لذا قال سبحانه: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ «5» آه تنبيها على أنّ العبوديّة تقتضي العبادة و الاستنكاف عنها استنكاف عن الأولى.

ثمّ إنّ العبوديّة و إن قيل انّها تجي ء في اللّغة لمعان خمسة: الذلّة و المقهورية كقوله: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ «6» اى ذلّلتهم و قهّرتهم، و التكليف بالأمر و النّهى كقولك تعبّد فلانا أى كلّفه بالأمر و النّهى، و شدّة نسبح الثّوب و قوّته من قولهم: ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاءة و قوّة، و تحمّل العناء من قولك: بعير معبّد إذا كان مطليّا بالقطران، و الانكسار و الخضوع عن قولهم طريق معبّد.

إلّا أنّ الحقّ رجوعها إلى

ما سمعت و إن كان بين كلّ منها و بين العبوديّة المضافة إلينا من المناسبة ما لا يخفى، و كذا سائر مستعملاتها ممّا سوى الخمسة، بل و كذا معاني العبادة الّتي قيل هي التّوحيد في قوله: وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «7» و الدّعاء في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «8» و الطّاعة في

______________________________

(1) الزمر: 53.

(2) الزخرف: 68.

(3) الحجر: 42.

(4) التوبة: 112.

(5) الأنبياء: 172.

(6) الشعراء: 22.

(7) النساء: 36.

(8) غافر: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 486

قوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي «9».

و لذا

قال مولينا عليه السّلام: من أصغى إلى ناطق فقد عبده فان كان النّاطق ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه و ان كان الناطق ينطق عن الشّيطان فقد عبد الشّيطان «10».

و الكرامة في قول حاتم الطّائي «11»: أرى المال عند الباخلين معبّدا «12» أى مكرّما.

و يؤيّده ما سمعت من القاموس، و التجريد في قول الأعشى يجوب البوادي كالبعير المعبّد أى المجرّد بل قد يحكى عن ابن السّكيت إنّ العبادة هي التّجرد.

و مناسبة المعاني الخمسة للمطلوب واضحة أمّا التوحيد فلأنّ أوّل الدّين معرفته و كمال معرفته توحيده «13»، و أمّا الدّعاء

فلقول الصّادق عليه السّلام أنّه العبادة، و حقيقة العبادة و أفضل العبادة «14».

و ذلك لما فيه من الانقطاع الكلّى إلى اللّه، و الاعتراف حالا و بالا و قالا بالعبوديّة و الافتقار الكلّى إلى الغنى المطلق و القيّوم الحقّ الّذي هو منتهى مطلب

______________________________

(9) يس: 60- 61.

(10)

في البحار: ج 26/ 239 ح 1 عن العيون ص 168 عن الامام الرضا عليه السّلام عن آبائه الكرام عليهم السّلام، عن النّبي

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من أصغى الى ناطق فقد عبده ... الى أن قال: و ان كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.

(11) هو حاتم بن عبد اللّه بن سعد الطائي القحطانى، شاعر، فارس، جواد جاهلي مات (46) قبل الهجرة.

(12) في تاج العروس ج 7 ط الكويت: تقول: ألا تبقى عليك فإنّنى أرى المال عند الممسكين معبّدا

(13) نهج البلاغة أوائل الخطبة الأولى.

(14)

بحار الأنوار: ج 93/ 298 و فيه: هي و اللّه العبادة، هي و اللّه العبادة ... تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 487

الحاجات و من عنده نيل الطّلبات و لذا قال سبحانه: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ «1»، و ذلك لأنّه حقيقة العبادة الّتي خلق العباد لأجلها.

و أمّا الطّاعة فلأنّها من مقتضيات التّوحيد و مراتبه، و لذا يعدّ المخالف فيها مشركا كما في قوله:

وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ «2»، و إن

ورد في الخبر: انّه شرك طاعة و ليس شرك عبادة «3».

فانّه بالنظر إلى إطلاقها الخاصّ الّذى هو للعامّة لا للعام الّذي هو للخاصّة فالتّوحيد بداية مراتب الطّاعة، و الطّاعة نهاية مراتب التّوحيد، و العبادة بكلّ من المعنيين تتضمّن الآخر، و أمّا الكرامة فهو الافتخار النّاشى من الافتخار المشار اليه

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «الفقر فخرى و به افتخر على سائر الأنبياء»

لتحقّقه في مقام العبوديّة و استقامته في طريق الجنّة حتّى أقرّ له بالرّبوبيّة و الألوهيّة مخلصا صادقا في جميع أفعاله و أقواله و أحواله و خطراته و نيّاته و ظاهره و باطنه و سرّه و علانيته فهو آدم الأوّل الأقدم، و السيّد المعظم المكرّم و لقد كرّم اللّه

نبيّه، و ذرّيّته بفضل كرامته، بأن منّ عليهم باشراق أشعة أنوار طاعته و عبادته فقال: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «4»، الآية فاذا أخلص الطّاعة للّه و محّض العبادة له تجرّد عن الإضافات و العلائق الجسمانيّة و العوايق الهيولانيّة و الغواسق الظّلمانيّة فيتحقّق في مقام العبوديّة و يجنى من ثمار الرّبوبيّة و يتمكّن على بساط الأنس المستمرّ في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

______________________________

(1) الفرقان: 77.

(2) سورة يوسف: 106.

(3) تفسير القمى ج 1/ 358 باسناده عن أبى جعفر عليه السّلام.

(4) الإسراء: 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 488

ثمّ انّه يستفاد من تفسير الإمام عليه السّلام أنّ الكلام على تقدير القول حيث

قال: قال اللّه تعالى: قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا و نطيعك مخلصين مع التذلّل و الخضوع بلا رياء و لا سمعة، و إيّاك نستعين منك نسئل المعونة على طاعتك لنؤديها كما أمرت و نتّقي من دنيانا ما نهيت عنه، و نعتصم من الشّيطان الرّجيم من سائر مردة الجنّ و الانس من المضلّين و من المؤذين الظّالمين بعصمتك «1».

نقل و افادة في تحقيق العبادة

العبادة قيل هي سياسة النفس على تحمّل المشاق في الطّاعة، و ردّ بانّ للملائكة عبادة ليست فيها شي ء من المشقّة لكونها على مقتضى كينوناتهم المجرّدة المحضة و لذا

ورد أنّ غذائهم التّسبيح

بل و كذا غيرهم من الّذين يتبهّجون بالعبادة و يتنعّمون بها و بانّه قد يصدق على طاعة الابن لأبيه و العبد لسيّده و الأجير للمستأجر و نحوها، و قيل: إنّها الطّاعة للمعبود و هو مشتمل على دور ظاهر مضافا إلى انتقاضه طردا بإطاعة كلّ مطيع لكلّ مطاع و عكسا بعبادة الكفّار للأصنام الّتي ليس لها أمر و لا نهى بل لا

يتحقّق الامتثال بالنّسبة إليها.

و يمكن دفع الأوّل بأنّ التّعريف لفظىّ أريد به مجرّد تصوّر المعنى، و الثّانى بعدم صدق المعبود على كلّ مطاع و الشّاهد العرف، و الثّالث: بأنّ المعبود حقيقة عند عبادة الأصنام هو الشّيطان، و لذا قابله بعبادة الرّحمن في قوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ

______________________________

(1) تفسير الامام العسكري عليه السلام ص 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 489

«1» إلّا أن يقال إنّه لا يمنع من إطلاقه على غيره أيضا.

و قيل: إنّها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع مع التعظيم بأعلى مراتب التّعظيم، و لا يستحقّ ذلك إلّا بأصول النّعم و أعظمها من الوجود و الحيوة و الأرزاق و الإمدادات الجسمانيّة و الروحانيّة ممّا لا يقدر عليه أحد إلّا اللّه، و لذلك اختصّ سبحانه بأن يعبد دون غيره، فلا يستحقّ بعضنا على بعض العبادة و إن استحقّ عليه الشّكر و الطّاعة.

و هذا التّعريف ذكره أكثر المحقّقين كالطّبرسى و البهائى و الصّدر الشّيرازى و غيرهم إلّا أنّه يخرج عنه كثير من أفراد العبادة ممّا ليس في أعلى مراتب الخضوع و التّعظيم، سواء اعتبر التّفضيل على الإطلاق أو بالاضافة في كلّ أحد بالنّسبة إلى حدّه و مقامه و درجته.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الطّاعة بأنواعها و إن كانت مشتملة على الخضوع و التّعظيم إلّا أنّ نوعا منها مفضّل على غيره من الأنواع و هو ما كان على وجه العبوديّة للاله الحقّ أو الباطل ممّا يتخذونه آلهة فإنّ هؤلاء و إن لم يكونوا آلهة في الحقيقة، و لذا لا تحقّ لها العبادة لكن اللّغة بل العرف لا تأبى عن إطلاق العبادة على

تعظيم عبدة الأصنام لآلهتها.

و على كلّ حال فالأمر سهل هيّن في التّعاريف اللّفظية الّتي هي مجرّد القشور، و لا يحتوي على شي ء من النّور، و إنّما الخطب في تحقيق حقيقة العبادة بل في التّحقق بها، و لذا قيل: إنّها خلوص النّفس عن رقّ كلّ حظّ من الحظوظ الدّنيوية و الأخرويّة ليعبد اللّه للحقّ لا للحظّ.

و الحقّ أنّ هذا أكمل مراتبها و أرفع درجاتها فلا ترفع التسمية عن غيرها،

______________________________

(1) يس: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 490

و لذا

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك «1»

، حيث أنّ ظاهره صدقها على الأوّلين أيضا و ان اختصّ عليه السّلام بالثّالث.

و أظهر منه ما

روى عن مولانا الصّادق عليه السّلام قال: العبّاد ثلاثة قوم عبدوا اللّه خوفا فتلك عبادة العبيد و قوم عبدوا اللّه طمعا فتلك عبادة الأجراء، و قوم عبدوا اللّه حبّا فتلك عبادة الأحرار «2».

و أمّا أركان العبادة و حدودها الموجبة للتّحقّق بحقيقتها فهي ما

أشار إليه مولانا الصّادق عليه السّلام في خبر عنوان البصري على ما رواه شيخنا المجلسي في البحار قال عليه السّلام: ليس العلم بالتّعلّم إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه فان أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة و اطلب العلم باستعماله و استفهم اللّه يفهمك قال: قلت: فما حقيقة العبوديّة؟ قال: ثلاثة أشياء أن لا يرى العبد لنفسه ممّا خوّله اللّه ملكا، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال اللّه يضعونه حيث أمرهم اللّه به، و لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا، و جملة اشتغاله فيما أمره اللّه به و نهاه

عنه، فاذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله اللّه ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره اللّه تعالى أن ينفق فيه، و إذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هان عليه مصائب الدّنيا، و إذا اشتغل العبد بما أمره اللّه تعالى و نهاه لا يتفرّغ منهما إلى المراء و المباهاة مع النّاس، فاذا أكرم اللّه العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدّنيا و إبليس و الخلق، و لا يطلب الدّنيا تكاثرا و تفاخرا، و لا يطلب ما عند النّاس عزّا و علوّا، و لا يدع

______________________________

(1) شرح غرر و درر للخوانسارى ج 2/ 580.

شرح التوحيد للقاضي سعيد القمى ج 1/ 733.

(2) الكافي ج 2/ 84 و عنه البحار: ج 70/ 255 ح 12. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 491

أيّامه باطلا فهذا أوّل درجة التّقى «1»، الخبر

فهذه الأمور الثّلثة الّتي ذكرها عليه السّلام منازل و مراحل يقطعها النّساك و الئلّاك في التّوصّل إلى حقيقة العبودية للّه سبحانه توصّلا مبنيا تحقيقيا و هي مترتبة متدّرجة من الأدنى إلى الأعلى فأوّلها أن لا يرى العبد لنفسه ملكا ممّا خوّله اللّه تعالى من الوجود و البقاء و الإدراكات و الإرادات و الآلات و الأدوات و الأفعال و الأعمال و الأقوال و الأموال و غيرها ممّا ينسب إليه و لو بالنّسبة الجعلية أو يضاف إليه بالاضافات الاعتباريّة، و بالجملة يرى كلّ شي ء منه سبحانه و في قبضته و إرادته كما

قال مولينا الرّضا عليه السّلام هو المالك لما ملكهم و القادر على ما عليه أقدرهم،

و بعد كشف السّبحات و سقوط الإضافات ينفتح باب الفؤاد و يبشّر بنيل السّداد و ينتهى إلى المقام الثّاني و يرى نفسه في قبضته فالأرض جميعا قبضته و سموات

العقول مطويات بيمينه، فيرى ذاته و حقيقته فائضا من اللّه قائما بفعله سبحانه قيام صدور، و لذا لا يدبّر لنفسه شيئا إذا لأمر كلّه للّه، و هو عبد مملوك لا يقدر على شي ء و هو كلّ على مولاه لا يستطيع لنفسه نفعا و لا ضرّا و لا يملك موتا و لا حيوة و لا نشورا، فاذا لم يهمّه أمر نفسه و شئون ذاته في صقع التمكين و التكوين و مقام الاستعداد و سائر شؤنه في عالم الملك و عرصة التضادّ، و شمّر من ساق الجدّ و الاجتهاد لطاعة ربّ العباد فيجعل جملة اشتغاله فيما أمره اللّه به و نهاه عنه، و يصرف كلّ نعمة من النّعم الّتي أنعم اللّه بها عليه من القوى الباطنة و الظّاهرة و الآلات و الأدوات و الأموال و غيرها من الإضافات فيما خلق لأجله، و هو حقيقة الشكر الّذي يجب للمنعم الحقيقي على العبيد.

و لذا قال غير واحد من المحقّقين: إنّ العبادة ضرب من الشكر، بل هو أعلاه و أغلاه، فيرى العبد حينئذ جميع نعمه من اللّه فيصرفه فيما أمره به، لأنّ اللّه تعالى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1/ 224- 226 ح 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 492

استخلفه فيه كما قال: وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «1»، و

روى العيّاشى عن مولينا الصّادق عليه السّلام: قال أ ترى اللّه أعطى من أعطى من كرامته عليه، و منع من منع من هوان به عليه، لا و لكنّ المال مال اللّه يضعه عند الرّجل و ودائع، و جوّز لهم أن يأكلوا قصدا، و يشربوا قصدا، و يعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، و يلمّوا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان يأكل

حلالا و يشرب حلالا و يركب و ينكح حلالا، و من عدا ذلك كان عليه حراما ثمّ قال: وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «2» أ ترى اللّه ائتمن رجلا على مال خوّل له أن يشترى فرسا بعشرة آلاف درهم و يجزيه فرس بعشرين درهما و يشترى جارية بألف دينار و يجزيه بعشرين دينارا و قال: و لا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين «3».

و بالجملة إذا تحقّق العبد في مقام العبوديّة حسب ما ذكره عليه السّلام هانت عليه جميع الطّاعات القلبيّة و القالبيّة و الماليّة و هانت عليه جميع الآلام و المصائب لأنّه حينئذ كالميّت بين يدي الغسّال و ليس له نظر إلّا إلى العزيز المتعال، فاندكّت جبل إنيّته و اضمحلّت إرادته في إرادته، فلا يشاء إلّا ما أراد اللّه، لصيرورة قلبه وعاء لمشيّة اللّه، فيكون

سمعه الّذى يسمع به و بصره الّذى يبصر به، و لسانه الّذى ينطق به كما في الحديث القدسي «4».

اعلم أنّ الالتفات من الغيبة إلى الخطاب من جملة فنون البلاغة الّتي يتفنّن بها مصاقع البلغاء، و ذلك لأنّه لما كانت الدّنيا دار التّعب و الكلال و النّصب و الملال و تطوّر الأحوال، فمن عادة الفصحاء التفنّن في الكلام، و العدول من طرز إلى طرز،

______________________________

(1) الحديد: 7.

(2) الأعراف: 31.

(3) بحار الأنوار: ج 75/ 305 ح 6 عن تفسير العياشي ج 2/ 13.

(4) البحار: ج 70/ 22 ح 21 عن محاسن البرقي ص 291.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 493

و من نمط إلى نمط، تنشيطا للسّامع، و تنبيها للغافل و الذّاهل.

فمنه العدول عن كلّ من الخطاب و الغيبة و التكلّم إلى الآخر، و هذا أحسن من الجري على نمط واحد، و اللّزوم

لمسلك متكرّر، و مع ذلك فربما يختصّ مواقع الالتفات بزوائد فوائد من النكات، فانّ الألفاظ إشكال و أشباح، و الأشباح مغناطيس الأرواح، و لذا

ورد عن مولينا أمير المؤمنين: انّ الرّوح في الجسد كالمعنى في اللّفظ،

فكلّ طور من أطوار المبانى مصيدة و شبكة لفنّ من فنون المعاني و قد ذكر الموافقون للنّظر في أنوار التّنزيل و اسرار التّأويل للالتفات من الغيبة إلى الخطاب في المقام وجوها من الكلام لعلّ كلّها بعض المقصود من كلام الملك العلّام، مثل ما قيل من أنّ القراءة ينبغي أن تكون صادرة عن قلب حاضر و تأمّل وافر، بحيث يجد القارى عند الشّروع فيها محرّكا للإقبال إلى المنعم الحقيقي الّذي أنطق لسانه بتحميده، و وفّقه للقيام بتمجيده، ثمّ كلّما مجده بصفة من صفاته العليا و سمّاه باسم من أسمائه الحسنى قوى ذلك المحرّك و ازداد، حتّى إذا انتهى إلى مالكيّة الأمر يوم المعاد، تناهي في القوّة و الاشتداد و آل الأمر بالضّرورة إلى دفع الحجاب، و الإقبال عليه بالخطاب، و انّ المقام مقام عظيم و خطب جسيم يدهش فيه الإنسان، و يتلجلج فيه اللّسان، فيتغيّر الكلام، و يخرج عن الأسلوب و النّظام، و هو كما ترى فانّ الكلام كلام الملك العلّام و انّ من أوّل السّورة إلى هذا المقام تعداد لصفاته الّتي لا يليق عدّها في الحضور بل الأنسب طريق الغيبة بلا ريبة لأنّ الثناء في الغيبة أولى منه في الحضور لكنّ العبادة و الاستعانة ينبغي إظهارها للمعبود دون غيره.

و إنّ في الالتفات إشعارا بأنّ العبادة السّالمة عن القصور ما يكون العابد حين الإشتغال مستغرقة في بحر الحضور يشاهده بنور العلم و العرفان و يخاطبه بالجنان و اللّسان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص:

494

و انّ حقّ الكلام أن يجرى من أوّل الأمر على طريق الخطاب لأنّه تعالى حاضر لا يغيب بل هو أقرب من كلّ قريب، لكنّه جرى على طريق الغيبة رعاية لقانون الأدب الّذى هو دأب السّالكين، و منهاج العارفين، و طريقة العاشقين كما قيل:

بأدب در طريق عشق كه هست طرق العشق كلّها آداب

در پس پرده رمزها است بسى فاسئلوهن من وراء حجاب

فبعد رعاية الأدب تقرّب إليه و اقترب، و تمكّن في بساط الحضور و استنار بإظهار العبوديّة من معدن النّور.

و انّ العابد لما حقّر عبادته النّاقصة القاصرة و البائرة و أراد ترويجا لكساده و إصلاحا لفساده أن يمزج عبادته بعبادة جميع العابدين من الأنبياء و المرسلين و الملئكة المقرّبين و يعرض الكلّ دفعة واحدة على حريم قدس ربّ العالمين رجاء أن يصير الانضمام سببا لقبول التّمام بفضل ذي الجود و الانعام، فلذا أتى في الفعل بنون المتكلّم مع الغير، ليندرج عبادته في عبادتهم، و تصير مقبولة ببركتهم، فساق الكلام على النّمط اللّايق بحالهم، و الأسلوب المناسب لمقامهم الّذى هو الحضور و الخطاب لحضرة المعبود لارتقائهم عن عالم الغيبة إلى مقام الشّهود لو قال إيّاه نعبد لكان كالإزراء بشأنهم، و الإفضاء عن علوّ مكانهم، و انّ من لزم جادّة الأدب و الانكسار و رأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو الحقيق بان تدركه الرّحمة و تناله النّعمة فيتخطى على بساط الاقتراب فائزا بعزّ الحضور و سعادة الخطاب.

و انّ لآيات القرآن المجيد سيّما ما كان مشتملا على التحميد و التّمجيد لشأنا عجيبا و أثرا غريبا في الإيصال إلى مقام القرب و الكمال فيستأهل بعد رفع الحجاب للتّشرّف بمقام الحضور حتّى أنّ العبد باجرائه هذا القدر منه

على لسانه و نقشه على

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 495

صفحة جنانه يخرج من الظّلمة إلى النّور و من الغياب إلى الحضور فكيف لو لازم وظائف الأذكار و دوام على تلاوته آناء اللّيل و أطراف النّهار فحينئذ يرتفع الحجب من البين و يصل من الأثر إلى العين كما

روى عن الإمام الهمام كشّاف الحقائق جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام لقد تجلّى اللّه لعباده في كلامه و لكن لا يبصرون.

و

روى عنه عليه السّلام: انّه كان يصلّى في بعض الأيّام فخرّ مغشيّا عليه في أثناء الصلاة فسئل عن ذلك فقال: ما زلت اردّد آية من كتاب اللّه حتّى سمعتها من قائلها «1».

قال بعض أصحاب القلوب انّ الآية كانت هذه الآية بل

ذكر شيخنا البهائى قدّس سرّه الخبر هكذا ما زلت أردّد هذه الآية إلخ

ثمّ حكى عن بعض العارفين: أنّ لسان جعفر الصّادق عليه السّلام كان في ذلك الوقت كشجرة الطّور عند قول إنّى أنا اللّه ثمّ قال:

و ما أحسن قول الشّيخ الشّبسترى «2» بالفارسيّة نظما:

روا باشد أنا اللّه از درختى چرا نبود روا از نيك بختى «3»

قلت: أمّا التّشبيه فالأظهر فيه التّعكيس لكن مع حفظ الحدود للأمن عن التّلبيس، و أمّا قول الشّبسترى ففيه إيماء إلى وحدة الوجود، و تضييع الحدود، و عدم تميّز العابد عن المعبود، و لعلّه إشارة إلى تصحيح قول من قال أنا اللّه، و ليس في جبّتى سوى اللّه، و غيرها من المزخرفات الباطلة و التّرهّات العاطلة و بين المقامين بون بعيد لا يخفى على من له قلب أو القى السّمع و هو شهيد «4».

______________________________

(1)

كنز الدقائق ج 1/ 60 و فيه: ما زلت أردّد الآية حتى سمعتها من المتكلّم بها.

(2) هو الشيخ محمود

بن عبد الكريم الشبسترى المتوفى (720) ه و كان عمره (33) سنة.

(3) مفتاح الفلاح ص 777.

(4) قال العلّامة الخواجوئي في تعليقه على المفتاح: قوله: چرا نبود روا از نيك بختى لأنّه يكون من مقولة قول فرعون «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى بل يكون أقبح منه، لأنّ هذا يمكن تأويله بأنّ المراد بالربّ هنا ملك مصر في قوله «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ في سورة يوسف: 50، و بالأعلى انه أعلى شأنا من سائر الملوك، بخلاف كلمة أنا اللّه، فإنّه علم الذات الواجب الوجود ... إلخ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 496

و انّه قد تقرّر في العلوم الإلهيّة أنّ شدّة الإدراك و تأكّد الصّورة العلميّة في الوضوح و الإنارة و قوّة الشّوق إلى المدرك و رسوخه يوجبان حضور المعلوم، و لذا قيل: إنّ المشاهدة و الرّؤية ثمرة اليقين، فلمّا ذكر اللّه سبحانه و وصفه بصفات كماليّة و نعوت جلاليّة و جماليّة و خصائص إلهيّة من كونه حقيقا بالحمد، ربّا للعالمين، موجدا للكلّ منعما عليهم بالنّعم كلّها جليلها و دقيقها دنيويّها و أخرويّها ظاهرها و باطنها، مالكا لأمورهم يوم الجزاء و اللّقاء تميّز بها ذاته عن سائر الذّوات، و تنوّر القلب بأنوار معرفة هذه الصّفات، و انفتحت عين البصيرة بتلاوة هذه الآيات فينتقل من الغياب إلى الخطاب قائلا يا من هو بالحمد حقيق، و بهذه الصّفات الكماليّة يليق، نخصّك بالعبادة و الاستكانة، و نطلب منك السّداد و الإعانة.

و أنّ العباد أراد بذلك أن ينخرط في سلك أرباب الشّهود و الحضور، و يجبر ما في عبادته من القصور و الفتور، نظرا إلى أنّ من تشبه بقوم كاد أن يكون منهم، و أنّه لا حجاب بين المملوك و المالك إلّا حجاب ملك نفس المملوك، فاذا

عبر عن حجاب ملك النّفس وصل إلى مشاهدة مالك النفس.

كما

ورد في تفسير قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» عن مولينا جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: انّ التّوبة هي قتل النّفس، و ناجى بعض الأنبياء ربّه كيف الوصول إليك؟ فخوطب دع نفسك.

و للنّفس صفات أربع كلّها حجب لها ظلمانيّة و نورانيّة، و هي كونها أمّارة إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «2» لوّامة وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ «3» و ملهمة

______________________________

(1) سورة البقرة: 54.

(2) سورة يوسف: 53.

(3) القيامة: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 497

و نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها «1» و مطمئنّة: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي «2» فأمر العبد المملوك بأن يذكر المالك بالصّفات الأربع الّتي هي الإلهيّة و الرّبوبيّة و الرّحمانيّة و الرّحيميّة، فيعبر بجذبات مدح الإلهيّة و شكر الرّبوبيّة و تمجيد الرحيميّة عن حجب مهالك الصّفات الأربع للنّفس فيتخلّص من ظلمات ليلة نفسه بطلوع صبح صادق مالكيّة يوم الدّين يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «3» فيذكره بفضله و رحمته إنجازا لوعده كما قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «4»، و يشرّفه بخطاب يا أيّتها النّفس المطمئنّة ثمّ يجذبه عن غيبة نفسه إلى شهود مالكيّة فيقول له: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ فيشاهد جمال المالك، و يهيم في بيداء فيافي تلك المسالك، و يناديه نداء عبد ذليل خاضع خاشع كما قرأ بعضهم مالك يوم الدّين بالنّصب على النّداء.

و انّه لمّا كان الحمد إظهار صفات الكمال لا يتفاوت بالنظر إلى غيبة المحمود و حضوره، بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل و أتمّ و كانت العبادة لا يليق بها الغائب، و إنّما يستحقّها من هو حاضر لا يغيب كما حكى سبحانه عن

الخليل على نبيّنا و آله و عليه السّلام فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ «5»، لا جرم عبّر سبحانه عن الحمد و إظهار الكمال بطريق الغيبة و عنها بطريق الخطاب إعطاء لكلّ منهما ما يليق به على النّمط المستطاب.

و أنّه لما لم يكن في ذكر صفات الكمال مزيد كلفة بخلاف العبادة الّتي فيها

______________________________

(1) الشمس: 7.

(2) الفجر: 28.

(3) الانفطار: 19.

(4) البقرة: 152.

(5) الانعام: 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 498

من الكلفة و المشقّة ما لا يخفى، و من عادة المحبّ أن لا يحسّ بالمشاقّ في حضور المحبوب بل يتحمل منها في الحضور مع غاية الابتهاج و السّرور مالا يتحمّل جزء منها حال الغفلة و الغيبة، و لذا قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره و نظره إلى العابد تداركا و انجبارا لما فيها من الكلفة و المشقة كما

قال مولينا الصّادق عليه السّلام على ما رواه في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «1»: لذّة ما في النّداء أزال ما في العبادة من التّعب و العناء «2».

فحينئذ يأتى بها العابد مع غاية البهجة و السّرور لما أشرق على قلبه من أنوار قدس الشّهود و الحضور.

و أنّ مقام الحمد و الثّناء مقام البعد عن ساحة الكبرياء فانّه كما قيل: إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السّالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب، و أمّا إذا زال الحجاب من البين و وصل من الأثر إلى العين، و انكشف له غطاء الخفاء عن وجه قوله: أنا جليس من ذكرني «3»، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «4» فينخرق الأستار، و يضمحلّ الأقدار و ينكشف الأسرار، فلا جرم ينعطف عنان لسانه إلى جنابه

و يصير كلامه منحصرا في خطابه.

و مثل ما قلت مضافا إلى بعض ما سبق من أن في سوق الكلام على الغيبة في مقام الحمد و الثّناء، و على الخطاب في مقام إظهار العبوديّة و طلب الاستعانة إشعارا بأنّ العبد و إن بالغ في الثّناء على ربّه حتّى لو مجّده بكلامه المنزل عن عزّ جلاله، فهو بعد ذلك قاصر عن ذلك، بعيد عمّا هنالك، أين التّراب و ثناء ربّ

______________________________

(1) البقرة: 183.

(2) مجمع البيان ج 1/ 271.

(3) خاتمة مفتاح الفلاح ص 776.

(4) البقرة: 115.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 499

الأرباب و كمال التنزيه عن الكمال، و كمال التّوحيد نفى الصّفات، و اللّه أكبر من أن يوصف، فما دام العبد في مقام الحمد فهو بعد بعيد، غائب عن ساحة الكبرياء.

و أمّا العبادة فينبغي أن تكون مع كمال التّوجّه و الإقبال إلى حضرة ذي العزّ و الجلال، و لذا

ورد «أنّ الصّلوة معراج المؤمن» «1»

، و

«المصلّى مناج ربّه» «2»

، و

«انّه لا يقبل منها إلّا ما أقبلت عليه بقلبك» «3»

، و

«انّ من الصّلوة ما يقبل نصفه و ثلثه و ربعه» «4»

، و ذلك على حسب التّوجّه و الإقبال و لذا علّمنا اللّه تعالى و ادّبنا بالانتقال و الإياب إلى حالة الحضور و الخطاب عند عبادة ربّ الأرباب، و انّ حمده سبحانه ينبغي أن يكون بما حمد به نفسه لتنزّهه عن وصف الواصفين و نعت النّاعتين، سبحان اللّه عمّا يصفون إلّا عباد اللّه المخلصين الّذين لا يصفونه إلّا بما وصف به نفسه، و لذا قال بعد ذلك مثنيا على المرسلين الّذين يصفونه بما وصف به نفسه، و سلام على المرسلين و الحمد للّه ربّ العالمين، و من هذا

قال سيّد الكونين و ختم

المصطفين سبحانك لا أحصى ثناء عليك كما أثنيت على نفسك فالحمد ثناء من المحمود على نفسه و العبادة تذلّل و خضوع من العابد للمعبود.

و انّ من أوّل السّورة إلى هذه الآية بيان لمراتب الوجود التكويني الّذى يقال له الشّرع الكونى، و من هذه الآية إلى آخر السّورة بيان لمراتب الوجود التّشريعى الّذي يقال له الكون الشّرعى، و لا ريب أنّ الاختيار في الأوّل جبلي فطري، و في الثّانى إرادى و شعورى ظهورىّ قد قام به كون التشريع في هذا العالم الّذى ما دام

______________________________

(1) مستدرك سفينة البحار ج 6 ص 333.

(2) عوالي اللئالى ج 4 ص 39.

(3) بحار الأنوار: ج 84/ 237.

(4) عوالي اللئالى ج 1/ 411 ح 78.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 500

تفسير الصراط المستقيم ج 3 549

المكلّف فيه ناظرا إليه فهو غائب من الأوّل، و الأوّل غائب عنه، و إن لم يكن الحجاب عنه إلّا التطورات الوجوديّة الثّابتة النّاشية في هذا العالم، و إنّ فيه تعليما له لتحقيق مسلك التّوحيد و الخروج عن ربقة التّقليد و التّحقّق بحقيقة العبادة و الفوز بشهود المعبود الّذي هو تمام السّعادة و ذلك انّ اللّه سبحانه لم يخلق الجنّ و الإنس إلّا للعبادة الّتي لا بدّ فيها من معرفة المعبود كى يستقيم التّوجّه إليه بعين الشّهود و السّبيل العاري عن شوب التقليد إلى معرفة المعبود للعامة إنّما هو ملاحظة الآيات الافاقيّة و الأنفسيّة و لذا قال: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ «1»، الآية وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَ فِي أَنْفُسِكُمْ «2».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من عرف نفسه «3»، و أعرفكم بنفسه «4»

إلى غير ذلك.

فالعابد الدّاعى لمّا أراد التّوجّه إليه

بالعبادة و الدّعاء الّذى هو مخّها و حقيقتها، نظر بقلبه إلى العالم بجميع أجزائه و جزئيّاته فرأى فيه اثار الألوهيّة و مراتب الرّبوبيّة، و الرّحمة الكلّية التّامّة العامة الواسعة، و الخاصّة المكتوبة المقتضى كلّ ذلك نظرا إلى العدل و إتمام الدّورة لانشاء النشأة الآخرة، فلمّا انتقل من البرهان إلى العيان تحوّل من الغياب إلى الخطاب، فالتّمجيد الّذى من أوّل السّورة إلى هنا كأنّه ليس حمدا للثّابت بل إثباتا للمحمود.

و هذه الوجوه و ان اشتمل بعضها على ضعف أو تكرار، إلّا أنّه لا بأس بالالتفات إليها للتّأدّب بآداب العبوديّة بين يدي اللّه سبحانه و ان كانت بمراحل عمّا هو المقصود بالذّات من الالتفات.

______________________________

(1) فصّلت: 53.

(2) الذاريات: 20- 21.

(3) عوالي اللئالى ج 4/ 102 ح 149.

(4) معارج اليقين للسبزوارى ص 35 ح 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 501

في سرّ تقدّم المفعول

إنّما قدّم المفعول، و حقّه التّأخير لتقدّمه في الوجود، و للإشعار على التّعظيم، و لزيادة الاهتمام النّاشى عن شدّة اقتضاء الكلام السّابق الخطاب حسبما سمعت، و لشدّة العناية به في ذكره، و الاستمداد به و لو في إظهار عبادته و طلب إعانته، و للدّلالة على حصر المعبود و المستعان به حقيقة فيه سبحانه و لذا حكى عن ابن عبّاس أنّ معناه نعبدك لا نعبد غيرك «1».

و ما يقال من منع دلالة التقديم على الحصر و إنّما غاية ما يدلّ عليه هو الإختصاص و لذا عبّر به في الكشّاف هنا بدل الحصر، و الحصر هنا لم يستفد منه، بل من خصوص المادّة و هي العبادة و الاستعانة.

ففيه أنّ الظّاهر اتّحاد مفاد العبارتين حسب ما صرّحوا به، و الفارق قد فرّق بينهما بما لا يصلح إلّا للفرق بين الحصر و الاختصاص

المفاد بلامه لا الاختصاص المرادف للقصر، و لذا قيل لا يضرّ في ترادفهما اشتراك الاختصاص بين الحصر و الاختصاص المفاد بلامه كما لا يمنع من إفادة التقديم الحصر عدم إفادته له في مواضع، لأنّ الحكم على الغلبة لا الاطّراد، و الإطّراد بمعونة القرينة أو ما لم يكن قرينة على الخلاف.

نعم قال بعض المحقّقين: إنّ في خطابنا له تعالى بانّ خضوعنا التّام و استعانتنا منحصران فيه جلّ شأنه و تكرارنا ذلك في كلّ يوم و ليلة مرارا عديدة مع خضوعنا الكامل لأهل الدنيا من الملوك و الوزراء و من يحذوا حذوهم و استعانتنا في حوائجنا و استمدادنا في نجاحها منهم جرأة عظيمة توجب مزيد الخذلان و عظيم الحرمان لو لا أن تداركنا رحمته الكاملة و عنايته الشّاملة، روى عن مالك بن دينار أنّه كان

______________________________

(1) تفسير روح المعاني ج 1/ 87.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 502

يقول لو لا انّي مأمور بقراءة هذه الآية من اللّه تعالى ما قرأتها قطّ لأنّى كاذب فيها، ثمّ حكى عن بعض الفضلاء: انّ في العدول في فعل العبادة و الاستعانة من الإفراد إلى الجمع نكتة هي التحرّز عن الوقوع في الكذب إذ يمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء الخلصاء من الأولياء المقرّبين على غيرهم بخلاف صيغة المفرد فانّه لا يتأنّى فيه ذلك.

قلت: الخضوع لغير اللّه و الاستمداد منه و الاستعانة به و صرف الحوائج إليه إن كان بأمر اللّه و على القدر المحدود منه، من حيث الكميّة و الكيفيّة و سائر المشخصات الوجوديّة فلا ريب في كونه عبادة مطلوبة مرغوبة عند الشّارع كطاعة الولد للوالدين، و العبد للسيّد، و المتعلّم للمعلّم، و الصّغير للكبير، بل المؤمن مطلقا كلّ ذلك في

غير معصية اللّه، بل لكونه مأمورا بذلك في الشريعة، بل ربّما يرجّح و يقدّم بعض أفرادها لما فيه من الخصوصيّات على بعض العبادات البدنيّة المحضة من المندوبات، بل ربما يجب أو يندب تعظيم الظّلمة و الوزراء و السّلاطين بل المخالفين و الكافرين حفظا للدّين أو على بعض المؤمنين و للتقيّة الّتي هي من دين سيّد المرسلين بل و يندب شكر من حصل أو وصل بواسطته شي ء من النّعم الإلهيّة، فإنّ من لم يشكر النّاس لم يشكر اللّه، و لعن اللّه قاطعي سبيل المعروف بترك الشكر، فضلا عن الكفران، لكنّ المسلك و عر صعب دقيق.

و لذا

قال مولينا الصّادق عليه السّلام في تفسير قوله: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ «1» انّه هو الرجل يقول: لو لا فلان لهلكت، و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا، و لو لا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنّه قد جعل للّه شريكا في ملكه يرزقه

______________________________

(1) سورة يوسف: 106. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 503

و يدفع عنه قيل: فيقول: لو لا أن منّ اللّه علىّ بفلان لهلكت قال: نعم لا بأس بهذا «1».

و بالجملة مراعاة الصّدق في المقام يقتضي حفظ حدود العبوديّة و القيام بوظائفها، و أمّا إذا لم يكن بأمر اللّه فربّما يكون مثل هذا الخطاب نفاقا بل شركا في الطّاعة لو لم يكن في العبادة بل

قد ورد: من أصغى إلى ناطق فقد عبده «2».

و لذا ينبغي قبل الدّخول في الصّلوة تطهير القلب بالتّصميم على إخلاص الطّاعة و العبادة له دون غيره، لئلا يخاطب بخطاب المنافق و المستهزء كما أنّه ينبغي الحضور التّام عند تلاوة هذه الآية بحصر النّفس على كمال الإقبال و التّوجّه

إلى جناب ربّ الأرباب كيلا يخاطب غيره ممّا يخطر بباله بهذا الخطاب. و لذا قيل بالفارسيّة:

إيّاك نعبد بر زبان دل در خيال اين و آن

كفر است اگر لإخوانى يكى شرك است اگر گوئى دو تا

و لأنّ في تقديم المعبود تنبيها للعابد كيلا يتكاسل في شرائط العبادة، و يقبل على آدابها بحسن الرّعاية تحصيلا للسّعادة، مع ما في ملاحظة من تخفيف التكليف بل الاستغراق التّام في حضرة القدس، و حريم حرم الأنس، بحيث لا ذكر معه لغيره حتّى لنفسه، إلّا من جهة ارتباطه و انتسابه من حيث العبوديّة و الافتقار إليه سبحانه، و لذا فضّل ما حكى اللّه عن حبيبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين قال لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «3» على ما حكاه عن كليمه حيث قال: إِنَّ مَعِي رَبِّي «4» مع ما في الآية الأولى من الانتساب إلى الاسم الأعظم المقدّم الجامع، و الإتيان بضمير الجمع المشعر برياسته

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين ج 2/ 476 عن تفسير العياشي بتفاوت يسير.

(2) بحار الأنوار: ج 26/ 239 ح 1 عن العيون ص 168.

(3) سورة التوبة: 40.

(4) سورة الشعراء: 62.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 504

الكليّة و بابيّته المطلقة، و هيمنته على من سواه.

فالنظر في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» من المعبود إلى العبادة بحيث لا يرى العبادة إلّا و يرى اللّه قبلها، و في نعبدك من العبادة الى المعبود، فمن كان نظره الى المعبود فقد فاز بالسعادة، و من كان نظره الى العبادة فقد احتجب عن المعبود بالعبادة، فإنّ العبادة من أعظم الحجب النورانيّة الّتي بين العابد و المعبود، كما

ورد: «ان للّه سبعين ألف حجاب من نور و ظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى

اليه بصره «1».

فالحجب غير منحصرة في الظلمانيّة الهيولانيّة الغاسقة، بل منها حجاب العلم، و حجاب المعرفة، و حجاب المحبّة، و حجاب العبادة، و كلها من سبحات حجاب الذات الذي هو أعظم الحجب كما قيل:

فقلت و ما أذنبت قالت مجيبةو جودك ذنب لا يقاس به ذنب

فلا بدّ أن يكون النظر عند كلّ شأن من شؤون العبوديّة أو الربوبيّة الى المبدأ الأعلى الذي هو المقصد الأسنى.

و لذا قيل: من كان نظره في وقت النعمة الى المنعم لا الى النعمة كان نظره عند البلاء الى المبلى لا الى البلاء، فيكون جميع حالاته فريقا ملاحظة الحقّ، متوجّها الى الحبيب المطلق، و هذه أعلى درجات السعادة، و معه يحصل الانس باللّه و الفرار عمّا سواه فيتحقّق بحقيقة الزهد المجتمعة في كلمتين من القرآن: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «2».

و لأنّ في تقديم المعبود الحقّ إقناطا كليّا لإبليس و غيره ممّا يعبد من دون اللّه من وقوع عبادته لغيره تعالى استقلالا أو تشريكا، سيّما مع إشعاره من أجل

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 55/ 45 باب 5.

(2) الحديد: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 505

الخطاب بكون العابد شاهدا لتجليات أنوار القدس، متمكّنا في حريم حرم الانس، متحصّنا من أحزاب مردة أتباع الشيطان بحصينة إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1»، و هذا بخلاف ما لو أطلق العبادة، ثم يذكر المعبود.

و لأنّ فيه إشعارا بالتوسّل اليه و الاستعانة باسمه في عبادته، فكأنّ الجملة الثانية من حيث المقال حكاية للأولى باعتبار الحال.

استكشاف و استعانة عن حقيقة الاستعانة

الاستعانة استفعال من العون بمعنى الظهير، يقال: استعنته، و به فأعاننى و قواني، و الاسم العون و المعانة و المعونة كمقولة، و المعونة كمكحلة.

ثم إنّ المعونة إمّا

كونيّة و إمّا شرعيّة، و كلّ منها إمّا ضروريّة أو غير ضرورية، فأقسامها أربعة: الكونيّة الضروريّة، و هي الّتي لا يتحقّق التكوين بدونها من الوجود و الماهيّة، و حدود القابليّة و الهندسة التكوينيّة و غيرها ممّا أشير إليها اجمالا

بقوله عليه السّلام: لا يكون شي ء في الأرض و لا في السماء إلّا بعلم فمشيّة، و إرادة، و قدرة، و قضاء و أيضا «2» ، حسب ما نفصّل الكلام فيها في موضعها (إن شاء اللّه).

و طلب هذه المعونة إنما هو بلسان القبول و الاستعداد المفاض عليه حين الإعطاء لا قبله، إذ ليس له قبل ذلك ذكر في شي ء من العوالم، و هو سبحانه مشيّئ الأشياء لا من شي ء، و معطي الاستعدادات و القابليّات، و مفيض التقرّرات و الكينونات الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «3» و المبتدء بالنعم قبل استحقاقها.

__________________________________________________

(1) الحجر: 43.

(2) الكافي ج 1/ 148- 152 فيه أحاديث كثيرة في هذا الباب.

(3) سورة طه: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 506

فالسؤال في قوله سَواءً لِلسَّائِلِينَ «1» و غيره ممّا ورد في الآيات و الأخبار محمول على السؤال الجعلى الإبداعى الأوّلي الّذى حين العطاء و حين القبول.

و أمّا القول بالأعيان الثابتة، و أنّ الماهيّات في أنفسها غير مجعولة، و أنّ لها استعدادات و قابليّات ذاتيّة غير مفاضة بالجعل الإبداعى، و هي الموجبة لاختلاف قبولها و مراتبها فممّا يأبى عنه القول بالتوحيد و تمجيده سبحانه بالتفريد، لاستلزامه تعدّد القدماء، إذ ليست أعداما محضة، ضرورة عدم التمايز فيها، و لا واسطة بين الوجود و العدم، لبطلانها في نفسها، مع أنّ أصحاب الأعيان يصرّحون بنفيها فلم يقولوا به من جهتها، و ظاهر أكثر المعروفين بالعلم و

المعرفة و إن كان إثبات الأعيان، إلّا أنّ العقل القاطع يأبى عن متابعتهم بعد قيام صريح البرهان، فإنّ الحقّ حقّ بالتصديق و الإذعان.

هذا كلّه بالنسبة الى بدو التكوين، و أمّا في الإمدادات السيّاله و الفيوض المتّصلة ففيها مضافا إلى ما مرّ من السؤال نظرا الى القول بتجدّد الأمثال سؤال آخر استعدادي متأخّر عن الكينونة المتقدّمة و باقترانه بالإجابة يتحصّل التقرّر و البقاء، وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «2».

و قد ينضمّ إليهما سؤال ثالث يظهر أوّلا في الجنان، ثمّ يتجلّى بآثاره و بأشعّة أنواره على الأركان و اللّسان.

و أمّا الكينونة الغير الضرورية فهي ما لا يتوقّف عليه الوجود و البقاء من النعم الّتي توجب الوسعة في المعيشة، و سؤالها على الوجهين الأوّلين و قد يقترنان بالثالث.

__________________________________________________

(1) سورة فصّلت: 10.

(2) سورة النحل: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 507

و أمّا الشرعيّة الضرورية فهي الّتي مرجعها إلى أسباب التمكين من الفعل بحيث لا يتأتّى الفعل بدونه كعلم المكلّف و قدرته في نفسه، و التمكّن من الآلات و الأدوات الّتي لا يتوصّل إلى الفعل بدونها فيقبح التكليف مع انتفائها عندنا، و إن جاز عند الأشاعرة القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق و طلب المحال بل الطلب المحال و إن لم يقولوا بوقوعه.

و سؤالها مرّة ذاتي جبلي فطريّ، من حيث أنّ في كينونة الإنسان الشوق الى الكمال و الابتهاج بالإقبال، و السرور بالتشرّف بمقام الامتثال الذي به الفوز و النجاة و الخروج عن حضيض البهيميّة إلى أوج ذروة الوصال.

و أخرى ظاهرى مقالي على اللسان كقوله: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ «1».

و أمّا الشرعيّة الغير الضروريّة أى الّتي يمكن الفعل

بدونها، و لذا لا يتوقّف صحّة التكليف عليها، لكن يتيسّر به الفعل و يسهل كمقرّبات الطاعة و مبعّدات المعصية، و المرغبات الّتي توجب الحثّ على الفعل من الوعد و الوعيد و نحوها ممّا لا يؤدى الى الإلجاء و الاضطرار، و هذا في الجملة حسب ما تأتى الإشارة اليه هو المسمّى عندهم باللطف، و قد أطبقت الفرقة المحقّة الاماميّة على وجوبه على اللّه، بمعنى أنّه سبحانه كتبه على نفسه، و لا يتجاوز عنه في تشريعه و تكليفه على خلقه، و وافقهم في ذلك المعتزلة، و به يثبتون وجوب بعث الأنبياء و نصب الأوصياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب، و ما تكرّر فيها من الوعد بالثواب و الوعيد بالعقاب و عدم خلوّ الأرض من حجّة، و غير ذلك من المباحث المهمّة نظرا إلى أنّ ترك اللّطف يوجب نقض غرض المكلّف (بكسر اللام)، فإنّه إذا علم أنّ المكلّف (بفتح

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 286.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 508

اللام) لا يطيع إلّا باللّطف، فلو كلّفه من دونه كان ناقضا لغرضه، و نقض الغرض عليه سبحانه محال.

و توهّم أنّ أفعاله تعالى غير معلّلة بالأغراض كما زعمته الأشاعرة نظرا إلى أنّ الغرض هو السبب الباعث للفاعل على الفعل فهو المحرّك الأوّل للفاعل، و به يصير الفاعل فاعلا لذلك الفعل، و لذلك قيل: إنّ العلّة الغائية علّة فاعلة لفاعليّة الفاعل و من البيّن أنّه سبحانه أجلّ أن ينفعل من شي ء أو يستكمل بشي ء فلا يكون معلّلا بغرض، و أيضا كلّ من يفعل لغرض فوجود ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من عدمه، فلو كان لفعله تعالى غرض لزم كونه سبحانه مستكملا بغيره و هو ذلك الغرض.

مدفوع بأنّه إنّما يلزم الاستكمال

إذا كان الغرض عائدا إلى الفاعل: و أمّا عوده إلى غيره فلا يلزم ذلك.

فان قلت: إنّ نفع غيره إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه عاد المحذور، و إلّا لم يصلح أن يكون غرضا له، فالفاعل الّذى يفعل فعلا لغرض غيره لا بدّ ان يكون له في تحصيل ذلك الفوض غرض عائد.

قلت: نختار الأوّل و نقول: إنّ إيصال النفع الى غيره أولى من عدمه لا بالنسبة الى ذاته حتّى يكون في ذاته مستكملا بغيره، بل بالنسبة الى فعله الّذى هو في رتبة الإمكان و صقع الحدوث، فإنّ فعل الكامل يلزم أن يكون على أكمل الوجوه و أتمّها، و الضرورة قضت بقبح العبث في أفعال الحكيم.

و بالجملة فالفرق واضح بين الغرض المستلزم للاستكمال أو لإظهار الكمال، و بين الغاية اللازمة في أفعال الكامل، و الأوّل نقص و الثاني كمال، لأنّ كمال الفعل إنّما هو باعتبار اشتماله على الحكم و المصالح و الأغراض النافعة.

و أيضا الفعل إذا لوحظ في ذاته مرّة مشتملا على جهات الحسن و وجوه

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 509

المنافع العائدة إلى المستحقّين، و اخرى عارية عنها، بل مشتملة على مفاسد لا تعدّ و لا تحصى، فالضرورة القطعيّة قاضية بترجيح الأوّل على الثاني و ترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا و شرعا.

نعم لا ينبغي التكلّم بمثل هذا الكلام مع الاشاعرة الذين يكابرون الضرورة و ينكرون الحسن و القبح العقليّين و يقتحمون في أغلاط لا يليق التكلم معهم فيها، فالأولى الاقتصار في جوابهم على ما ذكرناه أوّلا و إن عميت قلوبهم من إدراكه أيضا حيث لم يفرّقوا بين الذات و الفعل و جعلوا جملة من الصفات الفعليّة قديما ثابتا للذات، بل التزموا بإثبات

قدماء سبعة أو ثمانية، الى غير ذلك من الشنائع الّتي خرجوا بها من الدين المبين، بل اعتزلوا بها عن شريعة سيّد المرسلين، و لذا قيل:

إنّهم يلزمهم خلاف العقل لما سمعت و النقل لتعليق الأحكام في الكتاب و السنّة على العلل و المصالح و الأغراض كقوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1»، وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ «2»، لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ «3»، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ «4»، لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ «5»، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «6»، الى غير ذلك من الآيات، بل الأخبار الّتي لا تحصى و لا تستقصى.

بل ربما يدعى عليه الإجماع بمعنى الاتّفاق أيضا، فإنّ المعتزلة و من يحذو حذوهم قائلون به، و الأشاعرة و من تابعهم قائلون بالقياس الفقهي، و هو فرع العلّة

__________________________________________________

(1) الذاريات: 56.

(2) سورة هود: 119.

(3) المائدة: 95.

(4) الأنفال: 42.

(5) المائدة: 94.

(6) النساء: 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 510

و الغرض لما صرّحوا به من لزوم كون العلّة باعثة و غرضا للشارع من شرع الحكم في الأصل لا مجرّد أمارة و مظنّة فيلزمهم إمّا بطلان القياس أو هذا الأصل.

و لعلّه لذا حكى في شرح المواقف عن الفقهاء جواز كون الأفعال معلّلة و ان لم يجب، مع أنّ قضية دليلهم حسب ما سمعت عدم الجواز.

و بالجملة فبطلان مقالهم أوضح من أن يستدلّ عليه بمثل هذه الوجوه الّتي ربما يوهم تطرّق بعض المناقشات إليها.

و حيث قد سمعت فساد أوهام الأشاعرة فقد صحّ اتصافه سبحانه بالإعانة و أنّه هو المعين لخلقه في الأمور التكوينيّة و التشريعيّة بالإعانة الضرورية و غيرها و منه الاستعانة في جميع الفيوض و الإمدادات الابتدائيّة

و الاستعداديّة و الاستحقاقيّة، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً «1».

و لذا حذف مفعول الفعل الذي هو متعلّق الاستعانة تنبيها على عمومه و شيوعه للجميع، نظرا إلى أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم الذي من أظهر مصاديقه في المقام و أهمّها من بين المهام طلب المعونة في أداء العبادة.

و لعلّه لذا

فسّره الإمام عليه السّلام بقوله: منك نسأل المعونة على طاعتك لنؤدّيها كما أمرت، و نتّقي من دنيانا ما نهيت عنه، و نعتصم من الشيطان الرّجيم و من ساير مردة الجنّ و الإنس من المضلّين و من المؤذين الظالمين بعصمتك ... الى أن قال: قال رسول اللّه: قال اللّه عزّ و جلّ: قولوا: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على طاعتك و عبادتك و على دفع شرور أعدائك و ردّ مكائدهم، و المقام على ما أمرتنا به «2».

__________________________________________________

(1) الإسراء: 20.

(2) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام ص 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 511

فلا تتوهّم منه و من بعض المفسّرين الّذين فسّروه بالاستعانة في العبادة كما يحكى عن ابن عبّاس أيضا حصره فيها «1»، فإنّ القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه.

نعم ربما يقال: باشتقاقها من العين، إمّا بمعنى الناظرة فكما أنّ مطلب أصحاب الرسوم طلب المعونة لعبادة المعبود كذلك مقصد أرباب المكاشفات و حقايق العلوم طلب النور المتجلّى على قلوبهم للتحقّق بمقام المعاينة و الشهود، و هو الفوز بمقام الإحسان، فإنّ كلّ عابد ليس بمحسن في عبادته بل

الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه «2» ، فمعنى الاستعانة طلب المعاينة من قولهم: لا أطلب أثرا بعد عين أى بعد معاينة.

و إمّا بمعنى النابعة، فكأنّه يطلب جريان

ينابيع الحكمة و المعرفة في قلبه و من قلبه على لسانه.

لكنّ الاشتقاق منه على الوجهين مع بعده في نفسه و مخالفته لما في تفسير الإمام عليه السّلام موجب للاختصاص في الفائدة الذي لا داعي اليه في المقام.

بقي الكلام في أمور: أحدها في الجمع بين العبادة و الاستعانة، و تقديم الأولى على الثانية، و ذلك أنّه لما نسب جميع الشّئون حتّى التربية و إفاضة الرحمة إليه سبحانه إلى أن تمكّن في مقام الاستغراق في بحر الشهود و التشرّف بمخاطبة الربّ المعبود أقر على نفسه بالعبوديّة، و أضاف إليها فعل العبادة الّتي هي التربية الحقيقيّة، و حقيقة الرحمة الرحيميّة، ثمّ لمّا أوهم هذا أنّ له استقلالا في ذلك، أو أنّ له أنانيّة هنالك، فينثلم به أساس التوحيد، و ينمحق به ما أسّسه أوّلا من التمجيد

__________________________________________________

(1) في تفسير البصائر ج الفاتحة ص 128: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فيه قولان: قال ابن عبّاس:

اى إيّاك نستعين على طاعتك و على أمورنا كلّها.

(2) نور الثقلين ج 1/ 553 ح 579 عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 512

و التفريد سلب من نفسه الحول و القوة و أضاف الى ربّه الإمداد و المعونة على وجه الطلب و السؤال الذي هو وظيفة العبوديّة إزالة لغبار الشرك في الأفعال من أوهام الأغيار، و إرجاعا لجميع الفيوض و الإمدادات الى اللّه الواحد القهّار.

فالعبادة و ان كانت هي المقصودة بالذات من العباد و لذا قدّمها، إلّا أنّها لا تتمّ إلّا بمعونة الحقّ و إمداده و إفاضته، لا بحول العبد و قوّته، فإنّه لا حول من المعاصي، و لا قوة على شي ء من الطاعات إلّا بمعرفة اللّه و توفيقه،

فقرنها بالاستعانة.

و لذا ربما قيل: إنّ الجملة الثانية حاليّة و الواو للحال، إشعارا على كون العبادة في حال الاستعانة، فالاستعانة بل الإعانة أيضا مقدّمة على العبادة رتبة و إن أخّرها لفظا، نظرا إلى ما سمعت.

مضافا إلى أنّ العبادة مطلوب اللّه من العباد، و الاستعانة مطلوبهم منه، فناسب أن يقدّم مطلوبه على مطلوبهم.

و أنّ اقتران العبادة بالاستعانة للجمع بين ما يتقرّب به العباد الى ربّهم و بين ما يطلبونه و يحتاجون اليه من جهة، و تقديم العبادة على الاستعانة كتقديم الوسيلة على طلب الحاجة رجاء الاجابة كما نبّه سبحانه على ذلك بقوله: وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «1».

مضافا إلى أنّ المعبود بالحق هو الذات البحت المجرّد عن جميع الإضافات و الأوصاف المشار إليها بالأحدية المطلقة، بل بالهويّة الغيبيّة، و المستعان به هو المتجلّى بصفة الإعانة الّتي هي من صفات الفعل، فالعبادة توحيد ذاتي و الاستعانة توحيد فعلي، بل العبادة إذعان بالتوحيد، و الاستعانة تصديق بالولاية الّتي هي باطن النبوّة، فإن صفات الفعل كلها حادثة، عندنا، و ستسمع (إن شاء اللّه تعالى)

__________________________________________________

(1) المائدة: 35.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 513

مزيد بيان لهذا الكلام.

هذا كلّه مضافا إلى ما قيل من توافق الفواصل كلّها في متلو الحرف الأخير، سواء كانت البسملة آية منها أولا، و إنّهما و ان كانا فعلين للعبد إلا أنّ العبادة من مدلولات الاسم المقدّس الذي معناه المعبود بالحقّ فكانت أحرى بالقرب منه، بل بالتقديم كما أنّ ذلك الاسم هو المقدّم الجامع، و أنّ العبادة أنسب بذكر الجزاء، كما أنّ الاستعانة ألصق بطلب الهداية.

و أنّ زيادة الاهتمام بشأن العبادة و إظهارها تقتضي تقديمها على الاستعانة الّتي متعلّقها حسب ما سمعت أعمّ من العبادة و غيرها، و

هي في نفسها و ان كانت عبادة أيضا إلّا أنّها لعموم متعلّقها ربما كانت مشوبة ببعض الحظوظ النفسيّة و الفيوض الدنيويّة.

و أنّ مبدأ الإسلام الحثّ على العبادة و التحريض عليها على وجه الإخلاص و نفى الشرك، و أمّا التخصيص بالاستعانة فإنّما يحصل بعد الرسوخ التام في الدين فكانت أحرى بالتأخير.

و بالجملة الجملة الاولى للتخلّص من الشّرك الظاهر، و الثانية للتخلّص من الشرك الخفي، و أنّ الاولى اشارة الى التحلّى بحلية العبادة الّتي هي أصل الفضائل، و الثانية تنبيه على التخلّى عن الالتفات الى النفس و الى غيره تعالى، بل عن الانانيّة الّتي هي أمّ الرذائل.

و تقديم الأوّل لكونه الغاية المقصودة و لإعانته على الثاني، و الإشعار على أنّه ينبغي الكون على الفطرة الأوليّة الاصليّة الّتي يكون المقصود منها حفظ الصحّة لا رفع المرض فتأمّل.

و

في علل فضل بن شاذان عن مولينا الّرضا عليه السّلام، قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ رغبة و تقرّبا الى اللّه و إخلاصا بالعمل له دون غيره، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ استزادة من برّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 514

و توفيقه و عبادته و استدامة لما أنعم عليه و نصره «1».

ثمّ اعلم أنّ في هذه الآية الشريفة تحقيقا للمنزلة بين المنزلتين، و إثباتا للأمر بين الأمرين حيث أبطل بقوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مذهب الجبريّة الذين ينسبون الأفعال كلّها إلى اللّه و يقولون: لا مؤثّر و لا فاعل في الوجود إلّا اللّه، لقوله تعالى:

هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ «2»، و

قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما شاء اللّه كان، و ما لم يشأ لم يكن» «3» ، حتى أنّ بعضهم كجهم بن صفوان «4» و غيره لا يفرّقون بين حركة المرتعش و غيره، و

لا بين سكون الزمن و غيره، و يقولون: إنّ جميع الخيرات و الشرور من ناحية القدر، و لا قدرة للعبد في شي ء منها، بل هو مجرّد الآلة يفعل بإرادة حادثة فيه من اللّه تعالى فهو المريد و هو الفاعل.

فأبطل مقالتهم: بنسبة العبادة الّتي هي الخضوع و التذلّل الى العبد، كما أبطل مقالة المفوّضة الذين يعزلون اللّه عن خلقه و عن ملكه، بطلب المعونة منه، فإنّه يدلّ على افتقار العبد في عبادتهم و في سائر حوائجهم و مهمّاتهم الى معونته و توفيقه و إمداده.

بل في قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إشارة الى بطلان المذهبين معا لدلالته على أنّ الطلب من العبد و المعونة من اللّه، فتحقّق أن لا جبر و لا تفويض، بل أمر بين الأمرين.

ثمّ إنّ التفويض إمّا في التشريعيّات و إمّا في التكوينيات و بالأولى يبطل الأوّل

__________________________________________________

(1) من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 203- 214 ضمن ح 927- العيون ج ص 107.

(2) فاطر: 3.

(3) بحار الأنوار ج 10/ 109 ح 1 و ج 73 ص 394 ح 10.

(4) جهم بن صفوان: أبو محرز السمرقندي رأس الجهميّة قتل بأمر نصر بن سيّار سنة (128) ه- الأعلام ج 2/ 138.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 515

و بالثانية الثاني.

ثمّ إنّ بعض الجبريّة لمّا رأوا فساد مذهبهم و شناعة مقالتهم قسموا الجبر الى أقسام أربعة:

الجبر الجزئي، و جبر التيقّن، و جبر التخلّق، و جبر التحقّق، فنفوا الأوّل لما فيه من إبطال التكاليف و الشرائع كافّة، و مخالفة الحسّ و الضرورة، و أثبتوا الثلاثة، مفسرين لها بتوحيد الأفعال و الصفات، و بمرتبة البقاء بعد الفناء كما قيل:

و كلّ الذي شاهدته فعل واحد بمفردة لكن

بحجب الأكنّة و

في الحديث القدسي: لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الّذي يبصر به «1».

قلت: و هو حقّ بالنسبة الى انكار الأوّل، و أمّا إثبات الثلاثة فعلى تفصيل يأتى اليه الإشارة كما يأتى تمام الكلام إن شاء اللّه تعالى في مسألة الجبر و القدر في موضع أليق، و إنّما المقصود في المقام الإشارة الى دلالة الآية.

ثانيها: في إيثار الجمع على ضمير الوحدة في الفعلين، بل و في الثالث المتعقب لهما في سؤال الهداية.

و ذلك إمّا باعتبار الحفظة و الكرام الكاتبين، و المعقّبات الّذى من خلفه و من بين يديه «2»، و غير ذلك من الملائكة الموكّلين بحفظه و بحفظ أعماله و أفعاله و أعضائه و جوارحه و قواه و مشاعره، و قبضات وجوده و المأمورين بإيصال الفيوض و الإمدادات إليه من جميع الجهات في كلّ العوالم في جميع المراتب و الوسائط.

و إمّا باعتبار جميع الأجزاء و الجزئيات، و قبضات الوجود الّتي تركّب منها

__________________________________________________

(1) أصول الكافي كتاب الايمان و الكفر باب من أذى المسلمين و احتقرهم ح 7 و 8- بحار الأنوار ج 67/ 22.

(2) اقتباس من الآية (11) من سورة الرعد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 516

المعجمون الإنسانى الذي هو نسخة مختصرة من مجموع العالم الكبير لانطوائه فيه بجميع أجزاءه من الدرّة الى الذرّة، فإنّ فيه من كلّ شي ء شيئا، ففيه رأس من المشيّة المعبّر عنه بالمشيّة الجزئيّة، و فيه قبضة من العقل، و قبضة من النفس، و قبضة من الطبيعة، و قبضة من المزاج، و قبضة من عالم المثال، و قبضة من الأفلاك السبعة، و قبضة من العناصر الأربعة، و قبضة

من المواليد الثلاثة حسب ما نفصّل كلّا منها في موضعه إن شاء اللّه، و كلّ شي ء من الأشياء شاعر بنفسه مسبّح لربّه، لائذ في فناء الفناء إلى باب قدس الجود و البقاء، و لذا قال سبحانه:

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «1».

و قال سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «2».

و ذلك لما قرّر في محلّه من أنّ الوجود الإمكانى يساوق الشعور، و الشعور التذلّل و الاستكانة، حتى أنّ الكافر بجميع أجزائه مسبّح للّه تعالى في جميع العوالم المرتبة إلّا بقلبه و لسانه أحيانا في مقام الشعور الإنساني و لذا

في دعاء الركوع: خشع لك سمعي و بصرى و شعري و بصرى و لحمى و دمي و مخّي و عصبي و عظامي» «3».

و في دعاء عرفة المتقدّم ذكر بعضه ما سمعت.

و امّا باعتبار التمهيد لعموم الدعاء، حيث إنّه لمّا مجّد اللّه و وصفه بصفاته الحسنى، و أظهر له العبوديّة أراد أن يسأله الهداية الّتي هي الجامعة لخير الدنيا و الآخرة عمّم المسألة لأنّه أقرب الى الاجابة، مع ما

ورد من أنّه من دعا لأخيه

__________________________________________________

(1) الجمعة: 1 و التغابن: 1.

(2) الإسراء: 44.

(3) بحار الأنوار: ج 85/ 111.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 517

بظهر الغيب نودي من العرش: و لك مائة ألف ضعف مثله «1» و لذا عمّهم في إظهار العبودية تمهيدا لسؤال الهداية للكافّة فنسب كلّ من يعبد اللّه الى العبادة ثمّ طلب لهم الهداية.

و إمّا باعتبار الوسائط المترتّبة بين المشيّة الكليّة و بين العابد، و ذلك أنّ العبادة و المعونة من جملة الفيوض الواصلة الى العبد، و قد تقرّر في

محلّه أنّ الفيض لا يصل الى السافل إلّا بواسطة العالي و بابيّته و حجابيّته و أنّ الباب الأقدم و الحجاب الأعظم هو الحقيقة المحمديّة و عترته المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين، فالعبادة و الاستعانة لمّا كانت بالتوجه الى المبدأ الأوّل بالتوسّل إلى المبادى العالية و الاستشفاع بهم و بالاستفاضة من تلك المبادى و الاشراق عليه منها، فسيلان فيض العبوديّة و الاستكانة للاستفاضة في جميع السلسلة عبادة للجميع و هو المفروض باب الأحديّة جبرا للنقصان، و استدعاء للقبول و الإحسان و هذا الاعتبار الّذى لوحنا إليه يتكثر به الواحد الذي هو المشيّة الكليّة و الوجود المطلق و الفيض الانبساطى و يتّحد به المتكثّر الذي هو الوجودات الجزئيّة المقيّدة الواقعة في صقع المفعول برجوع الكل إليه، و خضوع الجمع لديه.

و الى هذا المعنى

أشار رأس الجالوت أعلم علماء اليهود حيث سأل من مولينا الرضا عليه التحية و الثناء و قال: يا رئيس المسلمين ما الواحد المتكثّر. و ما المتكثّر المتوحد، و ما الجاري المنجمد، و ما الناقص الزائد، فأجاب عليه السّلام يا ابن أبيه أىّ شي ء تقول و ممّن تقول، و لمن تقول، و بمن تقول؟ بينا أنت أنت صرنا نحن نحن، و هذا جواب موجز ... الخبر «2».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 93/ 384 ح 8.

(2)؟؟؟؟

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 518

و هذا الخبر و إن لم أظفر به في أصول أصحابنا الاعلام إلّا أنّه حكاه بعض السادة الكرام رفع اللّه قدره في دار السلام و مجمل الاشارة الى مفاده أن رأس الجالوت لمّا اقتبس من أنوار النبوة و الولاية بالاطّلاع على الصحف السابقة، أو من تجليات أنوار الامام انقسام ما في الكون الى الوجود

المطلق الذي هو الفعل و المشيّة الكلية و الوجود المقيّد الذي هو المفعول و المشيّة الجزئيّة، و قد تبيّن عنده أنّه لا يصل الفيض الى السافل إلّا بواسطة العالي، فلذا سأل عن الواحد المتكثّر و هو الوجود المطلق المنبسط، فوحدته في نفسه و تكثّره بانبساطه و فيضانه، و من المتكثر المتوحد و هو المفعول أى عالم الخلق بجملته لتكثّره في نفسه و انتهائه في سيره و توجهه إلى اللّه الى الباب الأعظم الذي هو الوجود المطلق.

و ممّا أشرنا إليه يظهر ان الأوّل هو الجاري السيّال المنبسط في نفسه المنجمد المقيّد باعتبار محلّه و متعلّقه، و أنّ الثاني هو الناقص في نفسه الزائد باعتبار الانتهاء الى مبدئه بالإقبال و الاستكمال، فأجابه الإمام عليه السّلام مخاطبا له بابن أبيه خطاب مدح لانّهم، إذ قد يسمّى به من لا يليق به أن ينسب الى أبيه الناسوتي لرفعته عنه اشعارا بأنه ينبغي انتسابه الى الآباء الروحانية النورانية، و لعل المقام منه، تعجّبا من دقّة مسئلته، و غموض حكمته.

و قد يسمّى به من ينفى عن أبيه عهدا و سفاحا، كزياد بن أبيه «1».

ثمّ عظّم المسألة بالسؤال عنها و عمّن قالها، و لمن قالها، و بمن قالها، و كشف له عن حقيقة الأمر، و بيّن له أنّه في مقام المشيّة حيث ذكر له: انّك حيث أنت أنت توجهت الى مقام المشار إليه بقوله: انا و أنت بعد قطع جميع العلائق فحينئذ صرنا

__________________________________________________

(1) زياد بن أبيه ولد بالطائف، كان مع أمير المؤمنين عليه السّلام في مشاهده و مع الحسن عليه السّلام الى زمان صلحه ثم لحق معاوية، و هلك بالكوفة سنة (53)- سفينة البحار ج 3/ 577.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3،

ص: 519

نحن نحن لرجوع المقيّد الى المطلق، و الجزء الى الكلّ، و السافل الى العالي و الموجود الى الوجود، فافهم الكلام و على من فهمه السلام.

و إمّا لان العبادة لا تقبل إلّا من أهل الولاية و أصحاب الولاية الذين تقبل منهم طاعتهم و عبادتهم إذا كان في عبادتهم قصور و فتور كما هو الغالب الدائم، فالظاهر من الأخبار أنّه ينجبر ذلك النقصان بفاضل حسنات الإمام عليه السّلام و ذلك عند عرض اعمال العباد عليهم عليهم السّلام.

و لذا

ورد عنهم عليهم السّلام في الزيارة الرجبيّة على ما في «المتهجّد»: أنا سائلكم و آملكم إليكم التفويض، و عليكم التعويض، فبكم يجبر المهيض و يشفى المريض «1».

و

فيما سمعه السيّد ابن طاوس عن الحجّة عجّل اللّه فرجه في الناحية المقدّسة: اللهمّ إنّ شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا و عجنوا بماء ولايتنا، اللهمّ اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتكالا على حبّنا، و ولّنا يوم القيامة أمورهم، و لا تؤاخذهم بما اقترفوه من السيئات إكراما لنا و لا تقاصصهم «2» يوم القيامة مقابل أعدائنا، و إن خفّت موازينهم فثقّلهم بفاضل حسناتنا «3».

و إمّا حكاية منه سبحانه عن كافّة عبيده، فكأنّه قال: يا عبادي قولوا: إيّاك نعبد.

و يؤيّده ما

في تفسير الامام عليه السّلام حيث قال: قال اللّه تعالى: قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم: إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا، و نطيعك مخلصين مع التذلل و الخضوع بلا

__________________________________________________

(1) مصباح المتهجد ص 756 الزيارة الرجبيّة.

(2)

في البحار: و لا تقاصّهم. (3) بحار الأنوار: ج 53/ 303.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 520

رياء و لا سمعة، و إيّاك نستعين منك نسأل المعونة على طاعتك «1».

و حكاه في المجمع عن الكسائي، قال: تقديره قولوا: إيّاك

نعبد، و لهذا كما قال اللّه: وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا «2» اى يقولون: ربّنا، و قال: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ «3»، اى يقولون: سلام «4».

و إمّا لما ذكره القوم من أنّ المقصود الإشعار بحقارة نفسه من عرض العبادة منفردا و طلب الإعانة مستقلا من دون الانضمام و الدخول في جملة جماعة يشاركون في عرض العبادة على باب العظمة و الكبرياء، كما هو الدأب عند عرض الهدايا على الملوك و رفع الحوائج إليهم.

و أنّ في خطابنا له عزّ و علا بأنّ خضوعنا التامّ و استعانتنا في المهامّ منحصران فيه سبحانه مع خضوعنا الكامل لأهل الدنيا من الملوك و الوزراء و من يحذو حذوهم جرأة عظيمة و جسارة جسيمة، فقصد بإيثار ضمير الجمع تغليب الأصفياء الخلّص على غيرهم كى يحترز بذلك عن الكذب الظاهر و التهوّر الشنيع.

و أنّ هنا مسألة فقهيّة و هي أنّ من باع أمتعة مختلفة صفقة واحدة فخرج بعضها معيبا فللمشتري أن يقبل الجميع أو يردّ الجميع، و ليس له التبعّض، فكأنّ العابد أراد أن يحتال لقبول عبادته الناقصة بأن أدرجها في عبادات غيره من الأولياء و المقرّبين، و عرض الجميع صفقة واحدة على حضرة ذي الجود و الإفضال فهو عزّ شأنه أجلّ من أن يردّ المعيب و يقبل الصحيح، كيف و قد نهى

__________________________________________________

(1) تفسير الامام عليه السّلام ص 18 و عنه كنز الدقائق ج 1/ 64.

(2) السجدة: 2.

(3) الرعد: 23.

(4) مجمع البيان ج 1/ 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 521

عبيده عن تبعيض الصفقة.

و أنّه يمكن إرادة التفخيم و التعظيم، إذا المقام و إن

استدعى الذلّه و الانكسار تحقيقا للعبوديّة، إلّا أنّ فيه إشعارا بأنّه لا فخر للعبد إلّا في عبوديته، و لذا قيل: كفى لي فخرا أن أكون لك عبدا، فينبغي الافتخار لعبوديّته، فكأنّ من يعبده، و يعظّمه و يجلّله يبتدأ أوّلا بتعظيم نفسه بتحقّقه في مقام العبوديّة.

و أنّه لو كان العبد قال: إيّاك أعبد لكان يشمّ منه رائحة الاستقلال الذي ربما يؤدّى الى العجب و تعظيم العبادة فأدرج نفسه في زمرة العابدين من الملائكة و الجنّ و الإنس إشعارا بأنّه واحد من جملتهم، كى يكون أقرب الى التواضع و الانكسار.

و ذكر ابن العربي في الفتوحات: أنّ العارف ينظر الى تفصيل عوالمه، و انّ الصلاة قد عمّ حكمها جميع حالاته ظاهرا و باطنا لم ينفرد بذلك جزء عن آخر، فإنه يقف بكلّه، و يركع كذلك، و يسجد كذلك، و يجلس كذلك، فجميع عالمه على عبادة ربّه، طالبا منه المعونة على عبادته، فجاء بنون الجمع في الفعلين، فعلم من الحقّ سبحانه لما قيّده بالنون أنه يريد منه أن يعبده بكليّته، و يستعين به بكليّته، و متى لم يكن المصلّى بهذه المثابة من جمع عالمه على عبادة ربّه كان كاذبا في قراءته، فإن اللّه ينظر اليه فيراه ملتفتا في صلاته أو مشغولا بخاطره و قلبه في دكّانه و تجارته، و هو مع هذا يقول: نعبد، يقول اللّه له كذبت في كنايتك بجمعيّتك على عبادتي، ألم تلتفت ببصرك الى غير قبلتك، ألم تصغ بسمعك الى حديث الحاضرين تسمع ما يقولون. ألم تمش بقلبك و فكرك في سوقك، فأين صدقك في قولك: نعبد، فيحضر العارف هذا كلّه في خواطره فيستحقّ أن يقول: إيّاك نعبد لئلّا يقال له كذبت، فلا بدّ أن يجتمع

من هذه تلاوته على عبادة ربّه حتّى يقول الحقّ له: صدقت في جمعيتك على عبادتك و طلب معونتى.

ثمّ قال: روينا في هذا الباب من بعض المعلّمين من الصالحين أنّ شابّا صغيرا

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 522

كان عليه القرآن فرآه مصفرّ اللون فسأل عن حاله، فقيل له: إنّه يقوم الليل بالقرآن كلّه، فقال له: يا ولدي أخبرت أنّك تقوم الليل بالقرآن كلّه؟ فقال: هو ما قيل لك، فقال: يا ولدي إذا كان في هذه الليلة فاحضرنى في قبلتك و اقرأ القرآن عليّ في صلاتك و لا تغفل عنّى، فقال الشابّ: نعم، فلمّا أصبح، قال له: هل فعلت ما أمرتك به؟ قال: نعم يا أستاذ، قال: و هل ختمت القرآن البارحة؟ قال: لا ما قدرت على أكثر من نصف القرآن، قال: يا ولدي هذا أحسن، إذا كان هذه الليلة فاجعل من الصحابة أمامك الذين سمعوا القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و اقرأ عليه و احذر و احذر، فإنّهم سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فلا تزل في تلاوتك، فلمّا أصبح سأله الأستاذ عن ليلته، فقال: ما قدرت على أكثر من ربع القرآن، فقال: يا ولدي أتل هذه الليلة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم الّذى عليه نزل القران، و اعرف بين يدي من تتلوه، فقال: نعم، فلمّا أصبح، قال: يا أستاذ ما قدرت طول ليلتي على أكثر من جزء من القرآن أو ما يقاربه، فقال: يا ولدي إذا كان هذه الليلة فلتكن تقرأ القرآن بين يدي جبرئيل الّذى نزل به على قلب محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و

احذر و اعرف من تقرأ عليه فلمّا أصبح قال: يا أستاذ ما قدرت على أكثر من كذا و ذكر سورا قليلة من القرآن، قال: يا ولدي إذا كان هذه الليلة تب الى اللّه و تأهب، و اعلم أنّ المصلي يناجي ربّه، و أنّك واقف بين يديه تتلو عليه كلامه فانظر حظّك من القرآن و حظّه و تدبّر ما تقرأ. فليس المراد جمع الحروف و لا تأليفها، و لا حكاية الأقوال، و إنّما المراد بالقراءة التدبّر لمعانى ما تتلوه، فلا تك جاهلا، فلمّا أصبح انتظر الأستاذ الشاب فلم يجي ء إليه، فبعث من يسئل من شانه، فقيل له: إنّه أصبح مريضا يعاد، فجاء إليه الأستاذ فلمّا أبصره الشابّ بكى و قال: يا أستاذ جزاك اللّه عنى خيرا، ما عرفت أني كاذب إلّا البارحة، لمّا قمت الى مصلّاى و أحضرت الحق و انا بين يديه أتلو عليه كتابه، فلمّا استفتحت الفاتحة و وصلت الى قوله: إيّاك نعبد، نظرت الى نفسي فلم أرها تصدق في قولها فاستحييت أن أقول

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 523

بين يديه إيّاك نعبد و هو يعلم أنّى أكذب في مقالتي، فانى رأيت نفسي لاهية بخواطرها عن عبادته، فبقيت أردّد القراءة من أوّل الفاتحة الى قوله مالك يوم الدين و لا أقدر أن أقول إياك نعبد، فإنّه ما خلصت لي، فبقيت أستحيى أن أكذب بين يديه فيمنعني، فما ركعت حتى طلع الفجر و قد رصّت كبدي، و ما أنا إلّا راحل اليه على حالة لا أرضاها من نفسي. فما انقضت ثالثة حتى مات الشابّ فلمّا دفن أتى الأستاذ الى قبره فسأل عن حاله فسمع صوت الشابّ من قبره و هو يقول: يا أستاذ أنا

حيّ عند حيّ لم يحاسبني بشي ء، فرجع الأستاذ الى بيته، و لزم فراشه مريضا ممّا أثّر فيه حال الفتى فلحق به، فمن قرأ إيّاك نعبد على قراءة الشابّ فقد قرأ «1».

ثالثها: في تكرير الضمير، و الوجه فيه على ما قيل إمّا التأكيد كما يقال: الدار بين زيد و بين عمرو، مع جواز الاقتصار بأحدهما، بأن يقال: الدار بين زيد و عمرو، و منه تكرار لا النافية في قوله تعالى: وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ «2» و ما يستوي الأحياء وَ لَا الْأَمْواتُ «3»، و تكرير بين في قول عدى بن زيد «4»:

و جاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار و بين الليل قد فصلا و ردّه في المجمع بأنّ التكرير إنّما يكون إذا لم يكن محمولا على فعل ثان، و إيّاك الثاني في الآية محمول على نستعين و مفعول به فكيف يكون تأكيدا «5».

__________________________________________________

(1) الفتوحات المكيّة ج 1 ص 425 عن أبى بكر المقرّى محمد بن خلف المعدى الإشبيلى المتوفى (586) ه.

(2) فاطر: 21.

(3) فاطر: 22.

(4) هو عدى بن زيد بن حمّاد التميمي الشاعر الجاهلى من أهل الحيرة مات سنة (35) قبل الهجرة- معجم المؤلفين ج 6 ص 274.

(5) مجمع البيان ج 1/ 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 524

و يمكن الجواب بأنّ المراد معنى التأكيد و هو التنصيص على التخصيص بالاستعانة، و لو اكتفى بمجرّد العطف من دون تكرير الضمير ربما أوهم أنه قد يستعين بغيره و لا يخصّه بالاستعانة كما يخصّه بالعبادة.

على أنّ نفى الشرك في الاستعانة أبلغ في نفى الشرك في العبادة، فمع إفادته فائدة جديدة في الثانية

يؤكّد الاولى أيضا.

و إمّا التنصيص على حصول التقرّب بكلّ من الفعلين، فإنّه لو اقتصر على واحد منهما ربما توهّم متوهم أنّه لا يحصل التقرّب إلّا بهما معا، مضافا إلى ما فيه من الإشعار بمراعاة النكات المتقدّمة لضمير الجمع و غيره في كلّ من الفعلين لا فيهما معا.

و لعلّه أيضا مراد من عبّر عنه بالتأكيد ممثلا له بقوله تعالى: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً «1».

و إمّا الاستلذاذ بطول الخطاب مع المحبوب و بسط الكلام عنده كما في قول موسى على نبينا و آله و عليه السلام: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي «2» الآية.

و إمّا لأن الواو للحال، و الجملة حاليّة، أى نعبدك مستعينين بك، فلو ترك التكرار لفات المقصود.

و إمّا لأنّ متعلّق الإشارة في إيّاك نعبد ليس بمتعلّق الإشارة في و إيّاك نستعين، نظرا الى أنّ الأوّل اشارة الى الأمر الذي ثبت استحقاقه للعبادة عند العابد، و صار منتهى مدى مقصده و وجهته بحسب علمه أو شهوده، أو اعتقاده المتحصّل

__________________________________________________

(1) طه: 33.

(2) طه: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 525

من موادّ الظنون و التخيّلات المنبّه عليها من قبل، و متعلّق الإشارة في الثاني ليس من حيث كونه معبودا فقط، بل من حيث إنّ له صلاحية أن يعين من يعبده فيما لا يستقلّ به العابد إذا طلب الإعانة منه، كذا ذكره الشيخ القونوى «1» في تفسير الفاتحة.

و فيه مضافا إلى ابتنائه على تخيّل المعبود و توهّمه الذي ينبغي تنزيهه عنه بل لا يتمّ التوحيد إلّا بذلك، إذ من يعبد المتوهّم فهو مشرك أو كافر، أنّ قيد الإطلاق، و الحيثيّات و القيود مسلوبة هناك.

و ما أشار إليه بحيثيّة صلاحيّة الإعانة

ليس من الذات في شي ء، بل إنّما هو في صقع الفعل حسب ما أشرنا إليه سابقا. (ختام للمقام) قال في مجمع البيان: قد أخطأ من استدلّ بهذه الآية على أنّ القدرة مع الفعل، من حيث إنّ القدرة لو كانت متقدّمة لما كان لطلب المعونة وجه، لأنّ الرغبة الى اللّه في طلب المعونة على وجهين:

أحدهما أن يسأل اللّه تعالى من الطاقة و ما يقوى دواعيه و يسهّل الفعل عليه ما ليس بحاصل، و متى لطف له بأن يعلّمه أنّ له في فعله الثواب العظيم زاد ذلك في نشاطه و رغبته.

و الثاني أن يطلب بقاء كونه قادرا على طاعاته المستقبلة، بأن يجدّد له القدرة حالا بعد حال عند من لا يقول ببقائها، و أن لا يفعل ما يضادّها و ينفيها عند من قال ببقائها «2».

أقول: هذا إشارة الى المسألة المعروفة بين المتكلّمين، و مجمل الاشارة إليها

__________________________________________________

(1) هو محمد بن إسحاق صدر الدين الصوفي الرومي القونوي المتوفى سنة (672) ه- معجم المؤلفين ج 9 ص 43.

(2) مجمع البيان ج 1/ 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 526

في المقام مع تحقيق ما لأصل المرام، هو أنّهم في أنّ القدرة على الفعل هل هي معه فيمتنع قبله فضلا عن تعلّقها به، أو أنّها قبله و يتعلّق به حينئذ، فيستحيل تعلّقها به حال حدوثه، فالأشاعرة على الأوّل نظرا إلى أنّ قبل الفعل لا يمكن الفعل، بل يمتنع وجوده فيه و الّا فلنفرض وجوده فيه فالحالة السابقة ليست كذلك، بل هي حال الفعل.

و لأنّها عرض لا يبقى زمانين فلو كان قبله لا نعدم حاله، و لزم وجود المقدور بدون القدرة.

و لأنّه يلزم من فرض وقوع الفعل قبل وقوعه حيث إنّه

ممكن و يلزم اجتماع النقيضين: وجود الفعل و عدمه.

و هذه كلّها كغيرها من حججهم بل كأصل المذهب واهية جدّا، لضعف الأوّل بأنّ الممتنع حصول الفعل في زمان بشرط كونه قبل الفعل، و أمّا وجوده في زمان عدمه لا بأن يجتمع فيه الوجود و العدم بل بأن يكون مكان العدم الوجود فلا محذور فيه أصلا، و أمّا النقض بالقدرة القديمة فمع عدم الحاجة إليه غير صحيح عندنا إذ الحقّ كون القدرة عين ذاته بدون مغايرة حقيقيّة و لا اعتبارية فليس فيها تعلّق و لا مطابقة و لا غير ذلك من صفات الإمكان و الحدوث.

و لضعف الثاني أيضا بالمنع من عدم بقاء العرض زمانين، و أدلّتهم على ذلك واهية جدّا كما قرّر في محلّه.

و بعد ذلك فربما يجاب أيضا بعد التسليم بتأثير القدرة المتقدّمة في الفعل المتأخّر و منع اعتبار المقارنة، سلّمنا لكن يجوز حدوث مثلها بناء على القول بتجدّد الأمثال على سبيل الاستمرار الى حال الفعل.

و توهّم أنّ وجود المقدور حينئذ إمّا بالقدرة الزائلة فيعود المحذور، أو الحاصلة و هو المطلوب، مدفوع بأنّه بالحاصلة لكنّها حاصلة من الزائلة على سبيل

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 527

الكسر و الصوغ فهي هي و هي غيرها.

على أنّه لا نزاع في لزوم القدرة حال الفعل، و إنّما البحث في جوازها قبله و العدم، فبطلت الشرطيّة، فإنّ استناد الفعل الى اللاحقة لا يخرج السابقة من كونها قدرة لكفاية التأهّل و الصلوح في ذلك، و إن لم يكن هناك فعليّة.

و أمّا النقض بالقدرة القديمة فلا يصحّ عندنا كما في السابق، إذ صفاته ليست بأعراض، و من الغريب الاعتذار عن ذلك بأنّ الكلام في المعاني لا في اطلاق الألفاظ.

و أمّا ضعف الدليل

الثالث فيظهر ممّا سمعت في ضعف الأوّل.

و أمّا المعتزلة فإنّهم وافقوا الاماميّة في إثبات القدرة قبل الفعل، و استدلّوا أوّلا بأنّها لو لم تكن قبل الفعل لما كان الكافر مكلّفا بالإيمان حال الكفر.

و أجيب بأنّ الكافر مكلّف في الحال بإيقاع الإيمان في ثانى الحال، و بالجملة فزمان التكليف غير زمان الفعل، و الحاجة الى القدرة في الثاني.

و يجوز أن لا يكون مقدورا في الزمان الأول الّذى هو زمان التكليف خاصّة، كالمكلّف في ليالي شهر رمضان بإيقاع الصوم في نهاره، فإنّ إيقاع الصوم النهارى غير مقدور في الليل، مع أنّ المحقّقين من الفقهاء قالوا بجواز تعلّق الوجوب قبل زمان الأداء، و لذا قالوا بوجوب الغسل على الجنب قبل الفجر.

و فيه أنّ من التكاليف ما يكون زمان أدائه مستوعبا لجميع أزمنة التكليف كالإيمان فيلزم من ذلك أن لا يكون مكلّفا بالإيمان في جميع أزمنة كفره، فحال تعلّق التكليف بالإيمان مع تركه إن كان مكلّفا به ثبت المطلوب و إلّا بطل بالإجماع.

و توهّم أنّه يكفى في تعلّق التكليف به حصول القدرة عليه حال الفعل، فالقدر اللازم أن يكون المكلّف به مقدورا في زمان وجوده، و أمّا كون القدرة مجامعة

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 528

للتكليف فلا.

مدفوع بأنّه على هذا لو مات كافر على كفره و لم يؤمن يلزم منه أن لا يكون الإيمان مقدورا له، لأنّ القدرة مع وجود الفعل و لم يقع منه، فيلزم أن يكون ذلك الكافر مكلّفا بشي ء لم يكن مقدورا له، و هو وقوع التكليف بما لا يطاق، إلّا أنّك تعلم أنّ الالتزام بهذا و نحوه ليس ببدع من الأشاعرة الذين ينكرون الحسيّات، و يردّون العقول و يخالفون الشرائع.

و لذا أجاب في المواقف عن

أصل الدليل بجواز التكليف بالمحال. بل التزم بجواز التكليف بخلق الجواهر و الأعراض ممّا ليس مقدورا له.

و حكى العلّامة الحلّى في أنوار الملكوت عن الرازي الاعتراض عليه بأنّ لزوم تكليف ما لا يطاق وارد على المعتزلة، لأنّ المكلّف حال حصول القدرة على الايمان أعنى حال الكفر بزعمهم لا يمكنه الفعل أعنى الايمان لاستحالة الجمع بين المتقابلين، و هما الإيمان و الكفر، و حال حصول الفعل أعنى الإيمان لا قدرة عليه لوجوبه.

ثم أجاب عنه الفاضل بأنّ القدرة على الفعل ليست بأن يوجد الفعل أوّل زمان وجودها بل بأن يوجده ثانى الحال، و حينئذ لا يكون قول المعترض: إنّه لا يمكنه لا فعل يعنى الايمان حال الكفر صادقا و حال الكفر يتعلّق بمكنته لا بالفعل.

قلت: و الأوضح في الجواب أن يقال: ببقاء القدرة في كلّ من الحالين، أمّا حال الكفر فلا قدرة على تبديل الكفر بالإيمان قبل أن يستمرّ عليه الكفر، فالتعبير بحال الكفر إنّما هو لعدم الايمان، و معه هو حال الايمان فلا يجتمع المتقابلان و أمّا حال الايمان فللقدرة على إزالته و تبديله بالارتداد في كلّ حال من أحوال استمراره.

و ثانيا بان المراد من القدرة هي القوّة الّتي هي مبدأ الأفعال المختلفة بحيث

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 529

لو انضمّ إليها إرادة أحد الضدّين عمل ذلك الضدّ و تحقّق في الوجود، و لو بمزاولة الآلات و مباشرة الأفعال، و هذا المعنى وجوده قبل الفعل ضروريّ لكلّ أحد، و لعلّ إنكاره أشبه بإنكار الضروريات.

و لذا ربما يحمل القدرة الّتي ينكر الأشعري تقدّمها على الفعل على معنى آخر و هو القوة المستجمعة لشرائط التأثير بأجمعها و لا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدين و الّا لزم اجتماعهما

في الوجود، بل هي بالنسبة الى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى المقدور الأخر، لاختلاف الشرائط المعتبرة في تحقّق المقدورات، إذ لخصوص كل مقدور شروط خاصّة لا يتعديها بجملتها.

و من هنا نقل عن الأشعرى استحالة تحقّق القدرة بالضدّين بناء على المعنى الثاني من القدرة، و المعتزلة أرادوا الأوّل، نعم اعترض عليه في المواقف بأنّ القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الأشعرى فكيف يصحّ أن يقال: إنّه أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير.

و فيه أنّ المراد بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير القوّة المستوفية لجميع الشرائط إلّا عدم هذه القدرة القديمة المانعة من فعليّة تأثيرها و وقوعه، و ليس المراد به فعليّة التأثير، بل الصلاحية المشروطة بشرائط من جملتها عدم تأثير القدرة القديمة، و هو ليس بمتحقّق، فلا يتحقّق التأثير لعدم شرطها.

مع إنّ ربما يقال: إنّه في الكلام استثناء، و القرينة عليه أنّه بصدد توجيه مذهب الأشعرى القائل بعدم تأثير القدرة الحادثة لمانعيّة القدرة القديمة، بناء على جعل الشرط شاملا لعدم المانع.

و مع كلّ ذلك فلعلّ النزاع مرتفع بأسره، بل لعلّ الضرورة قاضية على بطلان مقالتهم على فرض مخالفتهم.

و أمّا استدلالهم بالآية فضعيف جدّا، إذ لا إشعار في طلب المعونة على كون

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 530

القدرة مع الفعل، بل يمكن أن يقال: إنّ فيها دلالة على تقدّم القدرة على الفعل، و كونها من العبد، خلافا للأشعرى في المسئلتين، نظرا إلى أنّ في طلب المعونة دعوى ضرب من الاستطاعة و الاستقلال، كما في قول ذي القرنين: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً «1» فكأنّه يقول: إنّك قد أعطيتنى قوّة أقتدر بها على تحصيل مقاصدي و مآربى في الدنيا و الآخرة لكنّي غير

مستغن عن لطفك و معونتك و إمدادك و إبقاء قوّتك.

هذا مضافا الى أنّه نسب طلب المعونة الى نفسه فهو فعل منه، و المطلوب حصول المعونة قبل المستعان فيه لاقتران الإجابة بالسؤال.

__________________________________________________

(1) الكهف: 95.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 531

[سورة الفاتحة(1): الآيات 6 الى 7]

تفسير في اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
(وصل)

و حيث إنّه سبحانه علّمنا بعد تمجيده و ثنائه و دعائه بأحسن صفاته و أعظم أسمائه أن نقرّ له بالعبوديّة، و نطلب منه المعونة اعترافا له بمراتب التوحيد، و عروجا على معارج التحميد و التمجيد أراد أن يقرن الإجابة بالسؤال و الجود بالإفضال و الجمال بالجلال، تحقيقا للتحقق بحقيقة العبوديّة الّتي كنهها الربوبيّة، و تنبيها على أنّ تمام العناية هو الاستقامة في مرتبة الولاية، فجمع بين السؤال و الإجابة، إنجازا للوعد و تعليما للعبد، فاستجاب طلب طالب المعونة، بأن وفّقه لطلب الهداية، و عبر بالصراط المستقيم من مقام الولاية، تنبيها على أنّ النهاية معيار البداية، فقال في أوّل النصف الذي لعبده، و لعبدي ما سأل، اى الولي المطلق، أو الداعي، أو الأوّل الأوّل، و الثاني الثاني: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ تفصيلا للتوحيد بعد الإجمال، و تنبيها على أنّ الوليّ المطلق صلوات اللّه عليه و آله مظهر أشعّة أنوار الجلال و الجمال، فإنّهم عليهم السّلام مقاماته، و علاماته الّتي لا تعليل لها في كلّ مكان يعرفه بهم من عرفه، كما في الدعاء المهدويّة الرجبيّة عليه و على آبائه آلاف الثناء و التحيّة.

القراءة

اختلفوا في قراءة الصراط كيف وقع في القرآن أعنى معرّفا باللام، أو غير

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 532

معرّف بها منكرا أو مضافا الى الظاهر أو الضمير كما وقع في موضعين في هذه السورة، و في قوله: صِراطٌ عَلَيَ «1» على الوجهين «2»، و صِراطِ اللَّهِ «3».

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً «4»، على أقوال:

أحدها عن قنبل «5»، عن ابن كثير «6» على خلاف، و عن رويس «7» عن يعقوب «8» بلا خلاف بالسين، على الأصل حسب ما تسمع.

ثانيها ما عن البعض من القراءة بالزاي الخالصة.

ثالثها قراءة

الباقين بالصاد كيفما وقع، إلّا أنّ خلفا «9» عن حمزة «10» يشمّها الزاى.

و أمّا خلّاد «11» فقد اختلفت عنه، فروى عنه بعضهم الإشمام في الأول من الفاتحة فقط.

و آخر له الإشمام في الأوّل و الثاني منها فحسب.

______________________________

(1) الحجر: 41.

(2) المراد بالوجهين: إضافة صراط الى عليّ، و عدمها.

(3) الشورى: 53.

(4) الانعام: 153.

(5) هو محمد بن عبد الرحمن المخزومي مولاهم المكيّ المعروف بقنبل قارئ أهل مكّة المكرّمة توفي سنة (291) ه عن (96) سنة- العبر ج 2/ 95.

(6) ابن كثير: هو عبد اللّه بن عمرو بن عبد اللّه المتوفى (120) ه- العبر ج 1 ص 152.

(7) رويس: محمد بن متوكل اللؤلؤي البصري المتوفى سنة (238) ه.

(8) هو يعقوب بن إسحاق بن زيد البصري المتوفى (205).

(9) هو خلف بن هشام البغدادي المتوفى سنة (229).

(10) هو حمزة بن حبيب التيمي الكوفي الزيّات أحد القراء السبعة توفّي (156) ه- العبر ج 1 ص 226.

(11) هو خلّاد بن خالد الصيرفي الكوفي قارئ الكوفة، توفّي سنة (220) ه- العبر ج 1 ص 379.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 533

و ثالث: بالمعرّف باللّام فقط أينما وقع.

و رابع: عدم الإشمام مطلقا.

قالوا: و الأصل فيه السين من قولهم: سرط الطعام، إذا ابتلعه، و مسرّط الطعام لممرّه، و اليسير طواط للفالوذج، و السرواط بالكسر للأكول، و سرطة كهمزة: سريع الابتلاع، في المثل: الأخذ سرّيطى و القضاء ضرّيطى، بالضمتين، ثم المشدّدتين المفتوحتين، أو بالكسرات، و فيهما لغات أخر، أى يأخذ الدين فيبلعه، فاذا طولب للقضاء أضرط به، قال في القاموس: السراط بالكسر السبيل أو الطريق الواضح، لأنّ الذاهب فيه يغيب غيبة الطعام المسرّط.

و الصاد أعلى المضارعة و السين الأصل.

و قول من قال بالزاي المخلّصة خطّا خطأ.

قلت: و لعلّ

الاقتصار على الأوّل أولى، و لذا قيل: إنّ الصراط، و السبيل، و الطريق، و السرب، و الشعب للمطلق، و المنهج، و المنهاج، و المرصد، و المرصاد، و الشارع و الجادّة، و اللقم، و الحجّة للواضح، و علل التسمية مضافا الى ما ذكره بوجه آخر، و هو أنّ السابلة تسرط الطريق اى تبتلعه بقطعه، فهم يسترطون السبيل، أو هي تسترطهم، كما يقال: أكلته المفازة إذا أضمرته و أهلكته، و أكل المفازة إذا قطعها، بل يجرى الوجهان في اللقم و الملتقم، و المراد بالمضارعة الّتي علّل بها علو الصاد مع الأصل السين مطابقتها للطاء في الاستعلاء و الاطباق مع مناسبتها للسين الّتي هي الأصل في الهمس و اتحاد المخرج.

مضافا الى كراهتهم للجمع بين السين الموصوفة بالسكون و التسفل و الرخاوة و الهمس و الانفتاح و الطاء المتصفة بأضداد تلك الصفات من الغلظة و الاستعلاء و الشدّة و الجهر و الإطباق، و لذا ربما اطرد بعضهم ذلك في مثل يبسط و سيطر، بل في كلّ كلمة اجتمعتا فيها، و رام بعضهم زيادات المجانسة فضارع الصاد الزاى،

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 534

و معنى المضارعة أن تشرب الصاد شيئا من صوت الزاى فتصير بين بين، اى تصير حرفا مخرجه بين مخرج الصاد و مخرج الزاى كيلا يذهب ما يختصّ بكل منهما بالكليّة.

بل أبدلها بعضهم بالزاي الخالصة، بل في «عين المعاني» أنّ هذه الحروف الثلاثة يتبدل كلّ منهما من غيرها، فيقال في سقر: صقر و زقر.

و أنّ الصاد لغة قريش، و السين لبني قيس، و الزاى لبني عذرة.

و لعلّه لهذا قال في الكشّاف: إنّ فصحاهنّ إخلاص الصاد، و هي لغة قريش و ذلك أنّ قريشا فصحاء العرب، مع أنّ المكتوب في

المصاحف، بل المأثور

في أخبار أهل البيت عليهم السّلام إنّما هو الصاد.

و لعلّ في انتقال بداية الصراط من حضيض التسفّل و الرخاوة الى أوج قوّة الاستعلاء الّتي للصاد اشارة الى أنّ اتصال الضعيف بالقوى و سلوكه في الصراط المستقيم للتوصّل إليه موجب لقوّته و خروجه من حضيض ضعفه و طبيعته إلى أوج شرف القدس و التشرف.

دراية في معنى الهداية

اعلم أنّ الهدى و الهداية ضدّ الضلال و الضلالة، و يستعمل في اللّغة لازما بمعنى الاهتداء و الرشد كقوله: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1»، و متعدّيا بمعنى الإراءة أو الإيصال، فيقابله الإضلال، و يعدّى بنفسه، و باللام، و ب إلى، و الفعل كضرب.

قال في القاموس: الهدى بضمّ الهاء و فتح الدال: الرشاد و الدلالة، هداه هدى

______________________________

(1) سبأ: 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 535

و هديا و هداية و هدية بكسرهما: أرشده، فتهدّى، و اهتدى.

و المستفاد منه كغيره اتحاد الهدى و الهداية معنى إذا استعملا متعدّيين، لكن قد يفرّق بينهما باختصاص الأوّل بإراءة طريق الدين خاصّة دون الثاني فإنه يعمّ إراءة كل طريق، مضافا الى أنّه لا يستعمل الّا متعدّيا دون الهدى فإنّه قد يستعمل لازما أيضا.

و الحقّ أنّه لا اختصاص لشي ء منهما بشي ء بشهادة اللغة و العرف تصريحا و استعمالا، و لاتّحاد المادّة، و الغلبة غير معلومة لو لم تكن معلومة العدم، كما أنّه لا اختصاص لهما بل لا اختصاص لمشتقّاتها أيضا بالدلالة الموصلة أو بالإيصال الى المطلوب، و لا بالدلالة على ما يوصل، و إن ذهب الى كلّ فريق، بل فصّل ثالث أو رابع بأنّها إن تعدّت بنفسها كانت بمعنى الإيصال و لا يسند حينئذ إلّا الى اللّه كقوله:

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَ الَّذِينَ

جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «1»، و إن تعدّت باللام أو إلى كانت بمعنى اراءة الطريق، فكما يسند حينئذ الى اللّه تعالى يسند أيضا الى القرآن و إلى النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، كقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «2»، إنّك لا تهدى من أحببت «3».

و فيه: أنّه لا يختصّ المعنى باختصاص المورد، سيّما بعد الاشتراك في المادّة، و منع الغلبة الموجبة للنقل، و لذا قيل: إنّ أصله أن يعدي باللّام، أو إلى فعومل في تعدّيه بنفسه معاملة لفظة (اختار) في قوله: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا «4».

______________________________

(1) العنكبوت: 69.

(2) الإسراء: 9.

(3) القصص: 56.

(4) الأعراف: 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 536

نعم صرّح بعضهم بأنّه مأخوذ في أصله اللّطف في الدلالة، و لذا اشتقّوا منه الهديّة لدلالتها على الوصلة بين المهدي و المهدي اليه بلطف، مع ما فيها من الحثّ على الإسعاف بالمطلوب الذي هو زيادة المحبّة و الالفة أو غيرها.

بل هكذا هو ادى الوحش لأوّل جماعة يتقدّمها فيتبعها الوحش فتدلها على الكلاء و الماء.

و أمّا الدلالة الخالية عن لطف كقوله: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «1»، فإنّها على حدّ فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» تنزيلا للتضادّ منزلة التناسب، و إن احتمل بعض الأجلّة وروده على حقيقته من غير تهكّم، نظرا إلى أنّهم لمّا قطعوا بأن لا منزل لهم سوى الجحيم و لا بدّ لهم منها، فاللطف بهم أن يعرفوا طريقها ليسهل عليهم الوصول إليها استخلاصا من تعب الطريق.

لكنه هيّن جدّا فإنّ تعب الطريق راحة لهم بالنسبة الى ما ينزلونه من العذاب و المضيق.

و بالجملة فأصل الباب هو الدلالة بلطف، و قيل: إنّه الميل، و لذا يقال:

التهادي للمشي المتمايل، و الهديّة تميل

القلوب الى المحبّة، يقال: تهادوا تحابّوا.

ثمّ إنّه بعد ذلك يستعمل في الكتاب العزيز و غيره بمعنى التوفيق كقوله تعالى:

بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ «3».

و قال الشاعر:

فلا تعجلنّ هداك المليك فإنّ لكلّ مقام مقالا

______________________________

(1) الصافّات: 23.

(2) لقمان: 7.

(3) الحجرات: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 537

و الدلالة و الإرشاد كقوله: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى «1».

و النجاة و الفوز كقوله: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ «2».

و الجزاء و الثواب كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ «3».

و الحكم و التسمية أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ «4»، يعنى أن تسمّوا مهتديا من سمّاه اللّه ضالا و حكم عليه بذلك.

و الدعوة كقوله: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «5»، أى داع.

و البيان كقوله: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «6» أي بيّنا لهم، و إن كان الحقّ رجوعهما الى الثاني.

و الغلبة بالحجّة كقوله في محاجّة إبراهيم لعدو اللّه: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «7».

و الإصلاح كقوله: أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ «8».

و الإلهام كقوله: وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «9».

و التقديم كقوله: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «10».

______________________________

(1) الليل: 12.

(2) إبراهيم: 21.

(3) سورة يونس: 9.

(4) النساء: 88.

(5) الرعد: 7.

(6) فصّلت: 17.

(7) البقرة: 258.

(8) يوسف: 52.

(9) الأعلى: 3.

(10) الصافّات: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 538

و خلق الهداية في العبد: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1».

و الإثبات و الدوام على الهداية: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «2».

و كثير من هذه المعاني و إن أمكن إرجاعه الى غيره بل هو راجع اليه لكن الخطب فيه سهل، إنّما الكلام في جواز نسبتها بمعانيها كلّا أو بعضا الى اللّه سبحانه و العدم، فالأشاعرة نسبوها اليه سبحانه بناء على أصلهم الباطل من

نفى الحسن و القبح العقليّين، و عدم قبح شي ء عليه تعالى و جواز الجبر و التكليف بالمحال سبحانه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و أمّا على مذهب العدليّة و أصولهم فنسبتها بكثير من معانيها إليه جائزة، بل في الجملة واجبة، إذ من جملتها اللطف الذي أطبقت العدليّة على وجوبه في الجملة، و إن لم يقولوا بوجوب جميع الألطاف، بل القدر الواجب منه ما لا يمكن حصول الغرض من التكليف إلّا به، فهذا القدر منه يشمل المطيع و العاصي، و السعيد و الشقي، و أمّا الهداية المختصّة بالصلحاء دون الأشقياء كقوله تعالى:

يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «3» فالمراد بها اللطف الخاصّ الّذي لا يوجب وجوده الإلجاء و الجبر و لا عدمه نقض الغرض، و ذلك لأنّه لمّا كان العباد مختلفين في إرادتهم و شئونهم، و اختباراتهم بعد ثبوت الاختيار لهم، فإنّه لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ «4»- لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «5»،

______________________________

(1) يونس: 25.

(2) الفاتحة: 6.

(3) فاطر: 8.

(4) البقرة: 256.

(5) الأنفال: 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 539

وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ «1».

فاذا عمّهم اللطف المقرّب الى الطاعة المبعّد عن المعصية فليس للناس على اللّه حجّة بعده، لكنّه قد يخصّ من يعلم أنّه يطيع باختياره لمجرّد اللّطف السابق ببعض الألطاف الذي ليس بواجب عليه كى يوجب زيادة تقريبه الى الطاعة لما يعلم من نيّته بامتثال ما يرد عليه من الأوامر و إن لم يتفضل عليه بهذا القسم من اللطف، كما أنّه يوكل من يعلم منه المعصية باختياره و إرادته إلى ماهيّا له من اللطف الذي معه إتمام الحجّة و

إبلاغ المعذرة من دون أن يتفضّل عليه بالقسم الآخر من اللطف.

و لذا ربما يمثّل لذلك بمولى له عبدان، أحدهما سلس القياد، طيّب السريرة، جميل السيرة، مطيع لمولاه، و الاخر عاص معاند خبيث الباطن كثير المخالفة لمولاه و لكنّهما مشتركان في القدرة على كلّ من الفعل و الترك، من دون أن يكون هناك شي ء يوجب شيئا من الطرفين على أحد العبدين على وجه الإلجاء و الاضطرار، ثمّ إنّ المولى أمرهما بأمر من أوامره، و قدّم إليهما الوعد و الوعيد، ثمّ تلطّف في الخلوة الى الّذى هو أحبّ اليه عن الآخر لحسن سيرته و طيب سريرته بالرفق و الرأفة، و العطية الخاصّة الموجبة لمزيد رغبته في الامتثال، و لم يفعل ذلك بالنسبة الى الآخر، فامتثل الأوّل و خالف الآخر، فأحسن الى المطيع لعمله، و وفي له بوعده، و أدّب العاصي و زجره لمخالفته، فلا ريب أنّ مثل هذا المولى موصوف بالعدل و الفضل، و لا ينسب إليه شي ء من الظلم و القبح.

فإن قلت: ما السبب في هذا اللطف الخاصّ بالنسبة الى العبد الأوّل، و ما المرجّح الّذي خصّه به مع أنّ العاصي كان أولى به.

قلت: إنّ هذا تفضّل من اللّه، و اللّه يختصّ برحمته من يشاء، و المفروض أنّ

______________________________

(1) هود: 118.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 540

منع الأوّل منه لا يوجب خروجه الى زمرة العاصين، و التفضّل على الثاني به لا يوجب دخوله في فرقة المطيعين.

على أنّ هاهنا بابا آخر من العلم، و هو الأصل في المقام، و ذلك أن اللّه تعالى أنعم على كلّ فريق من المطيعين و العصاة ما أنعم على الآخر، إلا أنّه يوجب نجاة الفرقة الأولى بإطاعتهم و اختيارهم موافقة المولى و امتثاله

كما أنّه بعينه يوجب هلاك العاصين بمخالفتهم، و لذا قيل:

أرى الإحسان عند الحرّ ديناو عند النذل منقصة و ذمّا

كقطر الماء في الأصداف درّو في جوف الأفاعى صار سمّا

و قال سبحانه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً «1».

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «2».

و

ورد في زيارة مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام «3»، بل في زيارة مولينا الحجّة الخلف أيضا عجّل اللّه فرجه: أنّه نعمة اللّه على الأبرار و نقمته على الفجّار.

و لهذا الكلام شرح تسمعه فيما يأتى إن شاء اللّه تعالى.

نعم ذكر الفاضل القمى رحمة اللّه عليه جوابا من الشبهة المتقدّمة حكاية عن غيره بأنّ وجه استحقاقه ذلك اللطف هو طيب نفس ذلك و حسن نيّته في الطاعة، و وجه منع الآخر خبث ذاته و التزامه طريقة المخالفة.

ثم أورد سؤالا آخر، و هو أنّ السبب إذا كان مقتضى الذات، و الذات هي الداعية الى الامتثال و ان لم يكن هذا اللطف الخاصّ أيضا، فيرجع الكلام الى أنّ

______________________________

(1) البقرة: 26.

(2) الإسراء: 82.

(3) بحار الأنوار: ج 100/ 305 عن الشيخ المفيد قدّس سرّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 541

سبب اختلاف العباد في أفعالهم هو اختلاف قابليّاتهم، لكن يعود البحث في القابليّة حينئذ، فيقال: إنّ سبب افاضة القابليّة ما هو، و مفيضها من هو؟

و الجواب عنه كالجواب عن إفاضة الوجودات على الماهيّات و اختلافها فإنّه تعالى خلق الذوات على ما هي عليها في علمه، لا أنّه ذوّت الذوات، ثم أوجدها فإنّ ماهيّة الأربعة من حيث هي أربعة يقتضي الزوجيّة و التركيب من الآحاد الأربعة، بخلاف الخمسة، و كذا الجسم ماهيّة بحيث وجد في الخارج فهو قائم

بنفسه بخلاف اللون، فلو خلق اللّه الأربعة خمسة أو الجسم عرضا فقد خلق الخمسة و العرض لا أنّه جعل الاربعة خمسة أو الجسم عرضا، و بالجملة فمراتب الأعداد ممّا لا بدّ منها في نفس الأمر، و كلّ منهما غير الآخر، و كلّ منها في مرتبته يقتضي وجودا خاصّا لا يتداخل مع الآخر، و كذلك سائر الماهيات من الحيوانات و النباتات، فإنّ ماهيّة الإنسان على ما هي عليه غير ماهية الكلب على ما هي عليه، فلو خلق الكلب إنسانا فقد خلق الإنسان لا أنّه جعل الكلب إنسانا، فهو من فيض الشامل أفاض على مرتبة ما هو أهل لها، و منه يظهر القابليّة، إذ القابليّة تابعة للموادّ، و باختلاف الموادّ و الماهيّات اختلفت القابليّات و بالجملة لا يمكن جعل ماهيّة الكلب إنسانا كما لا يمكن جعل ماهية الزوج فردا، و الاربعة خمسة، و كذا قابليّتها لا لعدم شمول قدرة اللّه، بل لعدم مقدورية ذلك و امتناعه انتهى.

و فيه: أنّه مبنيّ على القول بالأعيان الثابتة الّتي قلّ من سلم من القول بإثباتها للغفلة عن مفاسدها لا يكاد يمكن الجمع بين التوحيد و بين الالتزام بها، فإنّه لو كان للأشياء ثبوت و تفرّد في أنفسها بحيث يمتاز بعضها من بعض لم تكن أعداما محضة، إذ من البيّن أنّه لا تمايز في الأعدام، فقوله رحمه اللّه: إنّه تعالى خلق الذوات على ما هي عليها في علمه.

فيه أولا أنّ الهويّة الّتي خلق عليها الأشياء إن كانت حادثة فقبل خلقها

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 542

و تعلّق الوجود بها لم تكن شيئا أصلا، فمن أين اختلاف الذوات في أنفسها بعد القول بحدوث كلّ من الاختلاف و الذوات و الأنفس، و بعد الإقرار بأنّه

كان اللّه و لم يكن معه شي ء حتى المفاهيم و الاعتبارات و التفردات و الامتيازات الواقعيّة.

و ان كانت قديمة غير متعلقة للخلق، كما هو ظاهر كلامه بل لعلّه صريحه لزم تعدّد القدماء.

فان قلت: إنّها من الأمور الاعتبارية الّتي لا تحصّل و لا تحقّق لها في الخارج، و أما الأمور الحقيقية الّتي هي الموجودات العينيّة فكلّها حادثة و لا كلام لنا فيها.

قلت: إن أردت بكونها من الأمور الاعتباريّة أن ليس لها تحصّل و وجود إلّا بفرض الفارض و اعتبار المعتبر فممنوع كونها كذلك، كيف و هي أمور واقعيّة متقرّرة يتحقق بالنسبة إليها الصدق و الكذب، كما نبّه عليه بقوله: و بالجملة مراتب الأعداد ممّا لا بدّ منها في نفس الأمر و كلّ منها غير الآخر .... الى قوله: و كذلك سائر الماهيّات من الحيوانات و النباتات ... إلخ.

على أنّها حينئذ ليست صالحة لأن تكون منشأ لاختلاف الماهيات و الاستعدادات و ساير الذاتيات و العوارض مع أنّ سياق الجواب استناد الجميع إليها.

و إن أردت بها أنّها ليست من الموجودات العينيّة الخارجيّة و لكنّ الموجودات الإمكانية غير منحصرة فيها، فإنّ المفاهيم و المعاني و النفوس و قواها ليست من الموجودات العينيّة الزمانيّة.

و ما أشبه القول بعدم وجودها بعد الالتزام بثبوتها و تقرّرها و تمايزها في أنفسها بقول الأشاعرة المثبتين للحال، و هي الواسطة بين الوجود و العدم.

و ثانيا أنّ جعل علمه سبحانه ظرفا لها ليس على ما ينبغي، فإنّ علمه سبحانه ليس بحصول الصورة، و لا الصورة الحاصلة، و لا غيرها من الإضافات

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 543

و الأعراض و التعلّقات، و ذلك لأنّ علمه الذاتي عين ذاته سبحانه بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة، فكما يمتنع تعلّق

ذاته سبحانه بغيره فكذا علمه لأنّه هو، بل ليس لشي ء من الممكنات ذكر في حضرة الذات، و إن كان سبحانه عالما بها في إمكاناتها و حدودها، حيث لا يخفى عليه شي ء منها في رتبة الأحدية و الواحديّة.

ثم إنّه حكى عن العارف الرومي أبياتا يخالف ما ذكره، قوله بالفارسيّة:

آنچنان دلها كه بدشان ما و من نعتشان شد بل أشدّ قسوة

جاده آن دل عطاى بى دلى است داد أو را قابليّت شرط نيست

بلكه شرط قابليّت داد أو است داد لبّ و قابليت هست پوست

نيست از أسباب تصريف خدا است نيستها را قابليّت از كجا است

قابلى گر شرط فعل حق بدى هيچ معدومى بهستى نامدى

إلى آخر ما حكاه، ثمّ اعترض عليه .... إلى أن قال:

و أمّا ثانيا فتمسّكه بقبول المعدومات الوجود لا يلائم مقصوده، فإنّ المراد بقابليّة المعدوم للوجود هو كونه ممكنا فإنّ بعض المعدومات ممتنع وجوده كاجتماع النقيضين.

و أمّا قبوله للنّوع الخاصّ من الوجود فلا غائلة فيه أيضا، إذ المعدوم إذا كان قابلا للوجود بسبب الإمكان المطلق، فيمكن أن يكون قابلا لنوع خاصّ من الوجود بسبب الإمكان المخصوص.

و أمّا ما توهّمه بعض المحشين في هذا المقام في توجيه كلامه من أنّ ذلك لأجل أنّ ثبوت شي ء لشي ء فرع ثبوت المثبت له، و القابليّة أمر وجودى فلا بدّ أن لا يثبت للمعدوم.

ففيه منع كون القابليّة من الموجودات العينيّة، و منع لزوم كون المثبت له من

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 544

جملتها، بل الوجود العلمى كاف في إثبات شي ء له.

أقول: و فيه مضافا الى ما مرّ، أنّ الأظهر كما حقّق في محلّه كون الإمكان مجعولا، و القول بكونه من الأمور الاعتباريّة مدفوع بما سمعت من الترديد فيه بين المعنيين،

فأوّل ما خلق اللّه سبحانه هو المشيّة الإمكانيّة، خلقها اللّه بنفسها، و خلق إمكانات الأشياء بها. فلكلّ شي ء إمكانات غير متناهية باعتبار المشخّصات الوجوديّة من الذاتيّة و العرضيّة، بعد أن لم يكن شيئا أصلا، حتى الإمكان الذي ذهب الجمهور الى عدم كونه مجعولا، بل أمرا اعتباريا غير متأصّل في الوجود.

و بالجملة لا ريب في امتياز الإمكان من كلّ من الوجوب و الامتناع بحسب المفهوم، و بحسب نفس الأمر، و الامتياز دليل الوجود، إذ لا تمايز في الأعدام فلو لم يكن مجعولا لكان متقرّرا في ذاته، ثابتا في نفسه.

ثمّ انّ المفاهيم المعدومة الّتي أشار إليها، إن أراد كونها معدومة من حيث المفهوم فمن أين التحصّل و التعدّد كى يستقيم التعبير عنها بصيغة الجمع، أو من حيث المصداق فمسلّم، لكنّ المفاهيم أيضا من جملة الموجودات الحادثة، و لها وجودات واقعيّة في نفس الأمر، و ظرف وجودها الدهر لا الزمان، و لذا لا يصحّ أن يقال: إنّها منذ كم سنة حدثت، فإنّ الحوادث الكائنة في صقع الدهر و أفق السرمد لا نسبة لها الى الزمان و الزمانيات المتجددة المتصرّمة أصلا، و كذلك مراتب الأعداد، فإنّها مترتبة متمايزة و العدم المحض كيف يكون كذلك، بل كيف يكون قابلا لشي ء دون شي ء، بل كيف يصحّ أن يشار اليه، أو يحكم عليه أو يخبر عنه بالإثبات و النفي.

و من هنا يظهر المناقشة في قوله: يمكن أن يكون قابلا لنوع خاصّ من الوجود.

و أمّا ما أورد بعض المحشين ففيه أوّلا أنّ منع كون القابليّة من الموجودات

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 545

العينيّة مسلّم بناء على تفسير الوجود العيني بالخارجى الذي يكون منشأ للآثار و لكنّ الكلام في نفى الوجود الإمكانى، على أنّه

يمكن المناقشة في ذلك أيضا، فإنّ الوجود العيني في كلّ عالم من العوالم إنّما هو بحسبه، و كذلك يختلف الآثار باختلاف العوالم الّتي هي ظرف للتأثير و ترتّب الأحكام، فانتفاء بعض الآثار في بعض العوالم لا يدلّ على انتفاء المنشئيّة مطلقا، سيّما مع تبدّل الآثار.

و ثانيا أنّ المراد بالوجود العلمى الّذى أضافها الى الماهيّات و القابليات إن كان هو العلم الذاتي فلا ذكر للأشياء فيه أصلا، أو العلم الفعلي عند من يقول بثبوته فهو بجميع متعلقاته عندهم حادث سرمدي أو دهري أو زماني بحسب اختلاف المتعلّق من حيث القرب و البعد.

و كأنّ القول بالصور العلميّة مبني على مذهب أفلاطون في إثبات الصور المفارقة و المثل العقلية الّتي يقال لها ربّ النوع على ما أشرنا اليه آنفا، أو على مذهب المعتزلة القائلين بثبوت المعدومات الممكنة قبل وجودها، بناء على أنّ علم الباري عندهم بثبوت صور هذه الممكنات في الأزل، أو على مذهب الصوفية، بل لعلّه المتعيّن، لأنهم القائلون بالصور العلميّة في مقابل المعتزلة القائلين بالصور العينيّة، لكنّ المذاهب الثلاثة مع فساد بعضها مطلقا، و كلّها على بعض الوجوه، مشتركة في عدم افادة مطلوبه بأنّ هذه الصور إن كانت قديمة غير مسبوقة بالجعل و الحدوث لزم تعدّد القدماء، و إن كانت حادثة في الإمكان و ان لم يدخل في صقع الأكوان لزم الجعل و الحدوث و إفاضة القابليّة و حدوث العلم على زعمهم.

نعم ذكرت الصوفيّة أنّ أسمائه الّتي هي عين ذاته هي المتجلّية بصور العالم فالعالم مظهر ذاته و أسمائه و صفاته، و علمه بها نفس علمه بالعالم.

و لذا أجابوا عمّا ربّما يورد من أنّه كيف يكون ذاته تعالى و علمه الذي هو عين ذاته محلّا للأمور

المتكثّرة مع عدم انثلام الوحدة الحقّة الحقيقيّة الّتي لا أبسط

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 546

منها في الوجود، بأنّه إنّما يلزم ذلك إذا كانت تلك الأمور المتكثّرة غيره تعالى كما هو عند المحجوبين عن الحقّ، أمّا إذا كانت عينه من حيث الوجود و الحقيقة، و غيره باعتبار التعيّن و التقيّد فلا يلزم ذلك، بل قالوا: إنّه ليس حالّا و لا محلا، بل شي ء واحد ظهر بالمحليّة تارة و بالحاليّة اخرى.

و لا أظنّ الفاضل المتقدّم يوافقهم في مقالتهم الّتي هي كفر صريح، و هي القول بوحدة الوجود المبتنى على إثبات الأعيان الثابتة و الصور العلميّة.

و بالجملة فالقول بكلّ منها مخالف لضرورة مذهب الإماميّة، و لعلّه رحمه اللّه أطلق القول بإثبات الصور العلميّة سيّما على وجه التمايز و ترتب بعض اللوازم و الآثار غفلة عن حقيقة الحال و عمّا يرد عليه من الإشكال.

اشارة إلى مراتب الهداية

اعلم أنّ اسم الهادي من جملة أسماء اللّه الحسنى الّتي أمرنا بدعائه سبحانه بها، بل من الأسماء التسع و التسعين الّتي من أحصاها و تحقّق بمراتب مباديها وجبت له الجنّة فهو فيها في الدنيا و لا يخرج منها في الآخرة الّتي تنكشف فيها الضمائر، و تبلى السرائر.

و الهادي يطلق على اللّه سبحانه وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» اى آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام، أو آمنوا بالولاية و ذلك نفس الهداية.

و على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما في قوله:

______________________________

(1) الحج: 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 547

وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1».

و

في الخطبة العلوية التطنجية: ابتعثه هاديا مهديا حلاحلا «2» طلسميّا «3». «4»

و على

مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام كما في قوله تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «5».

فقد ورد مستفيضا: أنّه نزل: و علي لكل قوم هاد، «6»

و ما أحسن من قال:

إنّما أنت منذر لعبادو عليّ لكلّ قوم هاد

و

في الإحتجاج عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام في خبر الزنديق ان الهداية هي الولاية كما قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «7»، و قال عليه السّلام: و الذين آمنوا في هذا الموضع هم المؤتمنون على الخلائق من الحجج و الأوصياء في عصر بعد عصر «8».

فان اللّه تعالى هو الهادي بمحمّد و إليه و محمّد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم هو الهادي بعليّ و إليه، وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «9» و هو مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام كما في الخبر «10».

______________________________

(1) الشورى: 52.

(2) الحلاحل (بضم الحاء الاولى و كسر الثانية) هو الرئيس في القوم.

(3) قيل: انه مركب من الظل بمعنى الأثر، و الاسم اى اثر الاسم، و قيل: هو يوناني و معناه عقد لا ينحلّ، و قيل: هو مقلوب مسلّط.

(4) شرح الخطبة للسيّد محمد كاظم الرشتي ج 1 ص 473.

(5) الرعد: 7.

(6) لم أظفر على حديث واحد دالّ على نزوله هكذا: (و علي لكلّ قوم هاد) نعم توجد روايات في كتب التفاسير و الأحاديث بأنّ المراد بالهادي في الآية الكريمة أمير المؤمنين و الائمّة المعصومين من ولده عليهم السّلام راجع بحار الأنوار ج 35/ 400 الى ص 407.

(7) المائدة: 56.

(8) الاحتجاج ص 248 ط بيروت و الأعلمى.

(9) الشورى: 52- 53.

(10)

في البحار ج 35 ص

370 عن بصائر الدرجات ص 21- 22 عن ابى جعفر الباقر عليه السّلام أنّه تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 548

و عليّ هو الهادي الى اللّه و الى رسوله، قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي «1».

و لقد قلت:

فالأمر متّحد و الاسم مختلف و النكر مفترق و العرف مؤتلف

لوحدة الحقّ أهل الحقّ متّحدلكثرة الغيّ أهل الغيّ مختلف

فمستقيم الحدود واحد أبداو لا تكثّر إلّا حين ينحرف

بأنّ هذا صراطي مفردا و كذابالنهي عن سبل التفريق ينكشف

و هذا إشارة الى قوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «2»، فإنّه أمر باتّباع الصراط الذي هو السبيل كما أشار إليه أخيرا بصورة الإفراد، و نهى عن متابعة السبل الّتي يستلزم تكثّرها البطلان و عدم الإصابة.

و لذا

ورد أنّه لمّا نزلت نكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده خطّا مستقيما ثم نكت من طرفيه خطوطا كثيرة يلزمها من الاتصال بالأوّل الاعوجاج المستلزم للانحراف و عدم الإصابة و بعد المسافة، و لذا قيل: أقصر الخطوط الخطّ المستقيم، و عرفوه بأنه أقصر الخطوط الواصلة بين الطرفين.

ثم انّ الهداية لها اعتبارات و أقدار في عالم الأنوار و الاكدار بحسب الأطوار و الأدوار و الأكوار:

______________________________

قال: و أمّا قوله: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إنّك لتأمر بولاية على و تدعو إليها و هو على صراط مستقيم.

و في المصدر: و هو الصراط المستقيم.

(1) يوسف: 108.

(2) الأنعام: 153.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 549

فمنها الهداية التكوينيّة السارية في جميع ذرأت العالم على الوجه الأتم لا يشذّ عن حكمه شي ء من العمق الأكبر و هو سرّ الحقيقة و مفتاح الطريقة،

و بحر القدر الذي من غرق فيه فقد كفر، و إليه الاشارة

بقول أمير المؤمنين عليه السّلام حيث سئل عنه: بحر عميق فلا تلجوه، طريق مظلم فلا تسلكوه، سرّ اللّه فلا تتكلّفوه «1».

و هو المشار اليه بقوله تعالى: الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «2» و بقوله: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «3».

و هذه الهداية كانت في أرض الإمكان قبل خلق الأكوان و الأزمان، و هي الأرض الجرز الّتي ساق اللّه اليه ماء الوجود الذي أخرج اللّه به زرعا تأكل منه أنعامهم و أنفسهم، (بضم الفاء أو بفتحها)، فإنّ البدن مركب الروح، و هو أنفس من البدن، و القلب أنفس من القالب، و رسول اللّه أنفس من ساير الخلق، و لذا قرأ الإمام عليه السّلام بفتح الفاء في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «4».

و هي الهداية المكتوبة على جميع ذرّات الكائنات من المجردات و الماديّات، السعداء و الأشقياء في الذرّ الأوّل، فاهتدوا أوّلا الى قبول الوجود و هو الإيجاد بالاختيار و الشعور، ثمّ إلى قبول الاستعدادات و القابليّات و الشؤون الصلوحيّة الاختياريّة.

و إنّما كان هذا بعد عرض جميع مراتب الكون على كلّ شي ء فاختار كل شي ء شيئا، فخلقهم كما كانوا لعلمهم بما كانوا أى تكونوا و اختاروا في رتبة الانوجاد و القبول لأنفسهم، فلا جبر في الإيجاد و التكوين، و لا إكراه في الدين،

______________________________

(1) نهج البلاغة باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام رقم 287.

(2) الأعلى: 3.

(3) طه: 50.

(4) التوبة: 128.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 550

تفسير الصراط المستقيم ج 3 599

و عند ذلك تميزت الماهيّات و اختلفت الاستعدادات.

و منها الهداية التشريعيّة الأوليّة في عالم الأرواح و الأظلّة و الأعيان قبل خلق الأبدان

و الأكوان في أفق الأزمان، و المتحمّل لأعباء هذه الهداية و الرسالة هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة الطاهرون عليهم السّلام في عالم الانبساط و التجرّد و الوحدة، و اليه الاشارة

بقوله: كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين «1».

و

في أخبار كثيرة: أنّ أنوارهم سبّحت فسبّحت بتعليمهم و إرشادهم جميع الأشياء حتى الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقرّبين «2».

و

في رياض الجنان في خبر طويل عن الباقر عليه السّلام الى أن قال: فنحن أوّل خلق اللّه و أوّل خلق عبد اللّه و سبّحه، و نحن سبب الخلق و سبب تسبيحهم و عبادتهم من الملائكة و الآدميّين ... الخبر «3».

و

في العلل في خبر طويل عن الصادق عليه السّلام يذكر فيه: أنّ مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام قسيم الجنّة و النار ... إلى أن قال: يا مفضّل أما علمت أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث رسول اللّه و هو روح الى الأنبياء عليهم السّلام و هم أرواح قبل خلق الخلق بألفى عام، قلت: بلى، قال: أما علمت أنّه دعاهم الى توحيد اللّه و طاعته، و اتّباع أمره، و وعدهم الجنّة على ذلك، و أوعد من خالف ما أجابوا إليه ... الخبر «4».

و إنّما عبّرنا عنه بالتشريعى الأوّلي، بالنظر إلى الثانوى في هذا العالم الناسوتي، و إلّا فهي ثانوية في عالم الرقائق و الذرّات فهدى اللّه الذين آمنوا (بولاية

______________________________

(1) سنن الترمذي ج 5 ص 585- بحار الأنوار ج 16 ص 402.

(2) كنز الفوائد ص 461 و عنه البحار ج 24 ص 88 ح 3.

(3) بحار الأنوار ج 25 ص 20 ح 31.

(4) بحار الأنوار ج 15 ص 14 ح 17 عن علل الشرائع

ص 65.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 551

أمير المؤمنين عليه السّلام) لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ «1».

أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «2».

و هذه القلوب المكتوب عليها الايمان من الناس هي المعبّر عنها في كلام أهل البيت عليهم السّلام بورق الآس، على ما في الأخبار كما

في ثواب الأعمال بالإسناد عن سهل بن سعد الأنصارى قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم عن قول اللّه عزّ و جل:

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ «3» قال: كتب اللّه عزّ و جلّ كتابا قبل ان يخلق الخلق بألفى عام في ورق آس أنبتها ثمّ وضعها على العرش، ثمّ نادى يا أمّة محمّد إنّ رحمتي سبقت غضبى أعطيتكم قبل أن تسألونى، و غفرت لكم قبل أن تستغفروا فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلّا أنا، و محمّد عبدي و رسولي أدخلته الجنّة برحمتي «4».

و

في تأويل الآيات عن الشيخ أبى جعفر الطوسي بالإسناد عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا «5» قال: كتاب كتبه اللّه عزّ و جلّ قبل أن يخلق الخلق بألفى عام في ورقة آس فوضعها على العرش، قلت: يا سيّدى و ما في ذلك الكتاب؟ قال: في الكتاب مكتوب: يا شيعة آل محمّد أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تعصوني، و عفوت عنكم قبل أن تذنبوا، من جائني بالولاية أسكنته جنّتى برحمتي «6».

اعلم أنّ الآس شجر معروف كثير بأرض فارس في الجانب الغربي منه،

______________________________

(1) البقرة: 213.

(2) المجادلة: 22.

(3) القصص: 46.

(4) بحار الأنوار ج 3/ 12 ح 24.

(5) القصص: 46.

(6) كنز الفوائد ص 215 و البحار ج 24/ 266

عن تفسير فرات بتفاوت يسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 552

و خضرته دائمة ينمو حتى يكون شجرا عظيما، و يسمّى بالفارسيّة «مورد» له زهر بيضاء طيبة الرائحة، و ثمره سوداء، طعمها مركّب من حلاوة و عفوصة و قليل مرارة كذا ذكره سديد الكاذرونى في شرح الموجز.

و ذلك أنّ هذه الهداية في عالم الأرواح، بل في صقع الأظّلة و الأشباح خضرة نضرة، دائمة بالديمومة الدهريّة الّتي هي نقطة محدودة في عالم السرمد، و منبت هذه الشجرة أرض فارس الّتي هي مادّة المواد و مجمع التضادّ لكمال الاستعداد و التهيّؤ لنيل المراد، و لذا

لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس «1» كما ورد عنهم عليهم السّلام في تفسير قوله تعالى: وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «2».

و منها: نصب الدلائل و اقامة الحجج و إراءة الطريق الموصل الى الحقّ في هذا العالم الجسماني الظلماني الذي امتزج فيه الحقّ بالباطل، و الصدق بالكذب لأنّه ملتقى الأبخرة الصاعدة من سجّين، و الرشحات النافلة من عليّين، فهو مجمع البحرين و ملتقى التطنجين، و المنزلة بين المنزلتين، و البرزخ بين العين و الغين.

و لذا خلق الإنسان فيه من نطفة أمشاج، و انحرفت طبيعته عن الاعتدال الحقيقي في المزاج، و إن كان هو أقرب الى الاعتدال من ساير الأزواج، و لذا خصّ بمزايا بين البرايا، و من هنا قالوا: إنّ عطاياهم لا تحملها إلّا قطاياهم.

و تلك الدلائل المنصوبة المعبّر عنها بإراءة الطريق منصوبة أوّلا في عالم

______________________________

(1)

في مسند ابن حنبل ج 15 ص 218 ح 67- 80: لو كان الدين عند الثريّا لذهب من فارس أو أبناء فارس حتى يتناوله و في ص 96 من نفس المصدر ح 7937: لو كان

العلم بالثريّاء لتناولته أناس من أبناء فارس. و في سنن الترمذي ج 5 ص 384 ما يقرب منه.

و

في مجمع البيان ج 10 ص 284: روى عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟

فوضع يده على كتف سلمان و قال: لو كان الايمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء.

(2) سورة الجمعة: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 553

الأفئدة الّتي هي من رؤوس المشيّة، ثمّ في عالم العقول، ثمّ النفوس، ثم الطبائع، ثمّ الرقائق، ثمّ المثال، ثمّ في العالم الجسماني الظلماني الهيولاني، فظهرت تلك الدلائل في الأنفس، و في جميع الآفاق من العلويّة و السفليّة و المجرّدة، و الماديّة، و البسيطة و المركبة من جميع جهاتها و أحوالها و أطوارها و شئونها و مباديها و نهاياتها، و عللها، و أسبابها، و لوازمها، فبهم ملأت سماءك و أرضك حتى ظهر أن لا إله إلّا أنت.

و

في الدعاء: أسألك بأسمائك الّتي ملأت أركان كلّ شي ء «1»

فإنّ هذه الأسماء أسماء فعليّة، قامت بها الأشياء قيام صدور و ظهور و تحقّق، و الفعل أول شي ء دلالة على الفاعل، بل أدلّ عليه من غيره هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «2».

و

قال الامام عليه السّلام: بصنع اللّه يستدلّ عليه «3».

بل لكل حقيقة من الحقائق آيات بيّنات في الكتاب التدوينى، و بيانات واضحات مطابقات في الكتاب التكويني أنّ على كلّ حقّ حقيقة، و على كلّ صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالفه فذروه.

و تلك الآيات ظاهرة لأهلها، واضحة الدلالات للمتأمل فيها، و لا يتدكّر بها إلّا أرباب الألباب و العقول الذين هديهم اللّه لمتابعة عترة الرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «4».

و في سورة البقرة:

______________________________

(1) دعاء كميل.

(2) لقمان: 11.

(3) تحف العقول ص 43- روضة الواعظين ج 1 ص 20.

(4) آل عمران: 190.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 554

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ... الى قوله تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «1» و قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى «2».

و ذلك للإعراض و الإغفال و لذا قال تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ «3».

و بالجملة من تأمّل في جزئيّات الحوادث الكائنة في الآفاق و في الأنفس يعلم أنّ كل حقيقة من الحقائق لها ظهورات و تجليّات و بيانات و تحقّقات في كلّ عالم من العوالم المترتبة النازلة، سواء كانت تلك الحقيقة من علوم التوحيد و المبدأ و المعاد، أو مقامات النفس و منازل السائرين.

و قد جعل اللّه تعالى عقل الإنسان كمرآة مجلوّة منصوبة شطر الحقّ بحيث ينطبع فيه لو خلّي و طبعه إذا لم يكن مشوبا بشوب الاكدار، و التعلّق بالأغيار جميع الحقائق على ما هي عليها في مراتبها.

و بعد ذلك كلّه فقد بعث اللّه تعالى رسلا مبشرين و منذرين لئلّا يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرسل، و الرسل شاملة للأنبياء و الأوصياء و خلفائهم و نوابهم الخاصّة و العامّة.

و بالجملة يندرج فيها القرى المباركة و القرى الظاهرة الّتي يسير الناس فيها ليالي

و أيّاما آمنين الى تلك القرى المباركة، فإنّ الجميع رسل من قبله، ينطقون عنه، و يبلّغون معارفه و أحكامه، و يبثّون في الناس حلاله و حرامه، حتى أنّه

ورد أنّ

______________________________

(1) البقرة: 164.

(2) طه: 124- 126.

(3) يوسف: 105. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 555

المسكين رسول اللّه إليكم فانظروا كيف تعاملون مع رسوله «1».

فكلّ من تلك الإشارات و الدلائل هداية و رشاد لقوم، و غيّ و ضلالة لآخرين، يضل به كثيرا و يهدى به كثيرا.

و لذا

ورد في شأن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام، و كذا في الحجّة الخلف عجّل اللّه فرجه نعمة اللّه للأبرار، و نقمته على الفجّار «2».

اعلم أنّ الأصل في الهداية بهذا المعنى هو الدلالة على الخيرات و المصالح الّتي يتوصّل بها الى النعيم المقيم و يحصل بها الفوز العظيم و الثواب الجسيم، كقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «3».

و يطلق على سبيل التهكم أو الانسلاخ عن خصوص المتعلّق، أو لعلاقة المضادّة، أو لأنّ المعنى مطلق الدلالة و الإرائة، أو لخصوص ما يطلبه طالبه و يرومه قاصده، أو التغليب في بعض ما تسمع على الدلالة على المعاطب و المهالك، كقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «4» و هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «5» إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً «6».

و السبيل «7» و ان كان مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام لكنّه هو الهادي أيضا، فهو الذي

______________________________

(1)

في نهج البلاغة تحت الرقم 304 من قسم الحكم: إنّ المسكين رسول اللّه فمن منعه فقد منع اللّه، و من أعطاه فقد أعطى اللّه.

(2) بحار الأنوار: ج 100/ 305.

(3) الإسراء: 9.

(4) الصافّات: 23.

(5) البلد: 10.

(6) الإنسان: 3.

(7)

في البحار: ج 24/ 17 مسندا عن الصادق عليه السّلام

في تفسير قوله تعالى: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا الفرقان (27) قال: يعنى على بن أبى طالب عليهم السّلام. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 556

هدى الناس بهدايته و أرشدهم الى ولايته في جميع العوالم و المواقف و المراتب، فدلّ على ذاته بذاته، و لم يرشدهم إلّا على رضوان اللّه و كرامته، إلّا أنّ من قبل ذلك فقد اهتدى بصفة القبول و الاجابة، و من خالفه ضلّ و خاب بإرشاده لصفة الردّ و المخالفة.

فالهداية قد ظهرت في هذا العالم بصفة التكليف الذي هو نور إلهى سار في كينونات جميع الخلايق سريان الروح في الجسد، و به يصل المسافرون و السالكون الى منازلهم الحقيقيّة و أوطانهم الأصليّة، الّتي حبّها من الإيمان، و بغضها من الكفر، بتيسير الأعمال و الأقوال، و تسهيل الإرادات و الأفعال، و الوصول الى المسبّبات و اللوازم.

و منها: التوفيق للوصول إلى سواء الطريق المعبّر عنه في بعض العبارات بالايصال الى المطلوب. كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1».

و هذا المعنى و إن كان عامّا شاملا للمعاني الآتية إلّا أنّ المقصود به في المقام هو المعنى العامّ الشامل لجميع مراتب الايمان و درجاته، و بالجملة المراد مطلق الهداية لا الهداية المطلقة.

و منها: الزيادة في كل مرتبة من مراتب الايمان و اليقين في كل حال من الأحوال، و في ولاية الائمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين، فإنّ السالك لا يزال كلّما يتدرّج الى مرتبة من المراتب يلوح له بعض الأنوار، و يكشف له عن بعض الأسرار، و كلّ نور يلوح له في درجة من الدرجات يكون أشدّ إشراقا من السابق، فإن للّه تعالى سبعين الف حجاب من

نور و ظلمة لو كشفها لا حرقت

______________________________

(1) القصص: 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 557

سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره «1» فلعل السالك المتغرق يزعم أنّه قد حصّل المنية و ليس وراء عبّادان قرية مع أنه ليس لهذه المنازل غاية و لا نهاية.

كما

ورد في الخبر القدسي: كلّما رفعت لهم عليا وضعت لهم حلما و ليس لمحبتي غاية و لا نهاية «2».

و لعلّ الى ما ذكرناه الاشارة بما حكى اللّه سبحانه عن خليله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً «3» الآيات، إذ وقع نظره أوّلا الى الكوكب، ثم انجلى له القمر، ثم انكشفت له الشمس، ثم انتقل عليه السّلام من ملاحظة زوال كل منها و تغيّرها إلى التنزيه المطلق و التوجه الى المعبود الحقّ بقوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ «4» فلا يزال المؤمنون يتردّدون و ينتقلون في هذه الدرجات الّتي هي منازل القدس و مراحل الانس، و قد أشير في الكتاب العزيز إلى زيادة الايمان و الهداية بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ «5»، وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً «6» و قوله تعالى: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً «7».

و قوله تعالى في أصحاب الكهف:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 58/ 39.

(2)

في الجواهر السنية ص 151 عن إرشاد القلوب عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن الله سبحانه أنه قال: يا محمد ليس لمحبتي غاية و لا نهاية، كل ما رفعت لهم عملا وضعت لهم علما.

(3) الانعام: 76.

(4) الانعام: 79.

(5) محمد صلى الله عليه و آله و سلم: 17.

(6) مريم: 76.

(7) الأنفال: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 558

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً «1».

في

الكافي عن مولينا الصادق عليه السّلام قال: للايمان حالات و درجات و طبقات و منازل، فمنه التامّ المنتهى تمامه، و منه الناقص البيّن نقصانه، و منه الراجح الزائد رجحانه ... الخبر «2».

و منها: الهداية في طريق الوصول الى مقامات القدس و حظاير الانس بالانخلاع عن العلايق الجسمانيّة و العوائق الناسوتيّة الهيولانيّة ثمّ الاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال، و مطالعة أنوار الجمال، باضمحلال الإنيّة، و استيلاء حكم الوجود على مقتضيات الماهيّة، فيصير السالك حينئذ في طريق المحبّة و الوداد، فتقرّ عينه بنيل المقصود و المراد،

فاذا أحبّه كان سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يسمع به و يده الّتي يبطش بها، إن دعاه أجابه، و ان ناداه لبّاه «3».

و كيف لا يجيبه و لم يبق له إرادة و لا اختيار، و من دون أن يصل الى حدّ الاضطرار، بل صار قلبه وعاء لمشيّته و محلا لإرادته و مخزنا لمحبّته.

و هذه الهداية هي الجذبة الربانيّة، و العناية الإلهيّة، ذلك هدى اللّه يهدى به من يشاء، و ممّن شاء لهم ذلك الأنبياء، و لذا وصفهم بعد ذكرهم بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «4».

______________________________

(1) الكهف: 13.

(2) الكافي ج 2 ص 42 و عنه بحار الأنوار: ج 69/ 23 ح 6.

(3) نقل بالمعنى

من حديث قدسيّ رواه الشيخ الحرّ العاملي في الجواهر السنيّة ص 101 نصّه: ما يتقرّب إلىّ عبد من عبادي بشي ء أحبّ إلي ممّا افترضته عليه، و إنّه يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و لسان الذي ينطق به ... إلخ.

(4) الأنعام: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 559

و قال خليل الرحمن: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي

سَيَهْدِينِ «1».

و قال تعالى في نبيّه الأفضل الأكمل: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «2»، أى هدى العالم حتّى الأنبياء إلى ولايتك و ولاية وصيّك، أو هداك الى ما تحققت عليه في كينونتك.

و لذا

ورد في النبوي: و اللّه لولا اللّه ما اهتدينا* و لا تصدّقنا و لا صلّينا «3»

و في العبارة بشارة لأهل الإشارة.

و بالجملة فالهداية بهذا المعنى هي قصوى الدرجة الايمانيّة و المرتبة الإحسانيّة الحاصلة بعد العبادة التامّة العامّة الجهاديّة المشار إليها بالمعيّة الإحسانيّة في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «4».

و هم الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى، المعبر عنهم عند القوم بالمجذوب السالك.

و لذا قيل: جذبة من جذبات الربّ توازى عبادة الثقلين.

و ستسمع إن شاء اللّه تعالى بيانا وافيا في أنّ هذه الهداية لم تحصل لأحد من الأنبياء إلّا بالاعتصام بحبل ولاية محمّد و آله الطاهرين الذين هم الصراط

______________________________

(1) الصافّات: 99.

(2) الضحى: 7.

(3)

في البحار ج 20/ 199: عن البراء بن عازب، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، و قد وارى التراب بياض بطنه و هو يقول:

لا همّ لو لا أنت لما اهتدينا* و لا تصدّقنا و لا صلّينا و في صحيح البخاري ج 5 ص 139 و ص 140: اللهمّ لو لا أنت ما اهتدينا و في رواية: و اللّه لو لا اللّه ما أهدينا.

(4) العنكبوت: 69.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 560

المستقيم، و فقنا اللّه و ايّاكم الاعتصام بحبلهم بلطفه العميم و فضله الجسيم، إنّه هو البرّ الرحيم، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم.

كلام في المقام لبعض الاعلام

قال في المجلى: في الهداية أقوال: أحدها قول

أهل الظاهر، فإنّهم قالوا:

هداية اللّه للإنسان على اربعة أوجه:

الأول: الهداية العامّة لكل مكلّف، و هي العقل، و الفطنة، و إزاحة العلّة، و نصب الأدلّة.

الثاني: الهداية الحاصلة للإنسان بدعائه إيّاه على ألسنة الأنبياء و الأولياء و إنزال الكتب و الشرائع و الإنذار و الترهيبات و الترغيبات.

الثالث: اللطف الخاصّ الذي يختصّ به من سلك طريق السعادة الاخروية المشار اليه بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «1».

الرابع: الهداية في الآخرة الى طريق الجنّة للثواب: سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ «2».

و في هذا الوجه نسبوا الهداية الى الجنة و الثواب الى الآخرة، و هو خارج من الأصول، لأنّ دخول الجنّة عند بعض ليس إلّا بالايمان، و عند الآخرين بالايمان مع الأعمال الصالحة، و على التقديرين إذا حصلا وجب دخول الجنّة بلا خلاف، فلا يحتاج صاحبها الى إرشاد و هداية إليها، و إن لم يحصلا فلا هداية له و لا جنة و لا ثواب، فلا تصلح نسبة الهداية إلى الآخرة لأنّها دار الجزاء لا دار العمل فيكون

______________________________

(1) محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 17.

(2) محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 561

سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ... بسبب ذلك لأنّ السين فيه للاستعمال لا للاستقبال.

ثانيها: قول أهل الباطن فالهداية عندهم ثلاثة أقسام: هداية العامّ، و هداية الخاصّ، و هداية الأخصّ، فهداية العام بالإسلام و الإيمان، و هداية الخاصّ بالإيقان و الإحسان، و هداية الأخصّ بالكشف و المشاهدة من حيث العيان.

و قالوا: الهداية على قدر التقوى فلمّا كانت ثلاثة أقسام فكانت الهداية أيضا كذلك، فتقوى العام عن الشرك و الكفر، و تقوى الخاصّ عن الذنب و العصيان، و تقوى الأخصّ

عن ملاحظة غير الرحمن، و هذا طريق أهل السلف.

ثالثها: قول المتأخرين فالهداية الحقيقيّة هي الهداية من الكثرة إلى الوحدة، و من التفرقة الى الجمعيّة، و من الشرك الى التوحيد، و من الشكّ الى اليقين، و من الرياء الى الإخلاص، و من الوجودات المقيّدة الى الوجود المطلق، و من مشاهدة الخلق الى مشاهدته الحقّ .... و كلّها موقوفة على التقوى الّتي أدناها الاتّقاء عن المحرّمات، و أعلاها الاتّقاء عن رؤية وجود الغير مطلقا.

قلت: ما حكاه في الهداية الاخروية فلا ريب أنّها بعينها الهداية الدنيوية الّتي توجب الفوز بالجنّة، بل هي الجنّة الظاهرة في الدنيا بالصورة المثاليّة، و لذا

قال الامام عليه السّلام: الدنيا في الآخرة، و الآخرة محيطة بالدنيا و الدنيا رسم الآخرة، و الآخرة رسم الدنيا ... الخبر «1».

و بالجملة، فلا وجه لتخصيص الهداية بالهداية الاخروية الى الجنّة، كما نبّه عليه، و لا بأس في حمل السين على الاستقبال باعتبار ما بقي من الأعمار، أو باعتبار مراتب القرب الّتي لا تعدّ و لا تحصى.

و امّا كون السين للاستعمال فلم أفهم له معنى واضحا.

______________________________

(1) لم أظفر على مصدر له.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 562

و ما حكاه أخيرا عن المتأخرين، فلعلّه من القائلين الذين ينبغي التبرّى منهم و من كلماتهم، و إن كان للكلمات المحكيّة في المقام محامل صحيحة.

إيراد و دفع

ربما يستشكل في حمل الهداية في الآية على بعض المعاني المتقدّمة كالإرشاد و الاعلام و إرائة الطريق بأنّ طلبها على المسلمين و المؤمنين تحصيل للحاصل، و توصيل للواصل، سيّما مع تفسير الصراط المستقيم بالإسلام و الإيمان كما ورد في بعض الأخبار.

بل و يسرى الاشكال أيضا بناء على تفسيره بالولاية كما في أكثر الأخبار، فإنّ المؤمنين الذين يدعون اللّه بهذا

الدعاء في الصلوات كلّها كلّهم من أهل الولاية، و يمكن الجواب بوجوه:

أحدها: أنّ التالي لهذه الآية و الداعي بها إن كان من أهل المرتبة الدانية فالمسئول هو المرتبة العالية الّتي بعدها، أو العالية على الإطلاق، و إن كان واجدا، للمرتبة العالية و الدرجة القصوى فالمسئول هو الثبات عليها.

و يؤيّده ما

في تفسير الإمام عليه السّلام حيث فسر الآية بقوله: أدم لنا توفيقك الّذى به أطعناك فيما مضى من أيّامنا، حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا «1».

و

فسره مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: ثبّتنا على ما روى عنه.

بل لعلّه الظاهر أيضا

من قول مولينا الّصادق عليه السّلام في تفسير الآية على ما حكاه الإمام عليه السّلام في تفسير الآية قال: أرشدنا الصراط المستقيم، أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي الى محبتك، و المبلغ جنتك، و المانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب، أو

______________________________

(1) كنز الدقائق ج 1 ص 70. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 563

تأخذ بآرائنا فنهلك «1».

و

روى في البصائر و غيره أنّه وقع شي ء من القرآن في عهد الثاني إلى أهل الروم فأرسلوا وفدا من النصارى الى المدينة لإشكالات زعموا و رودها منها ما يتعلّق بهذه الآية و هو أنّ طلب الهداية و الرشاد دعاء من ليس على الطريق القويم و النهج المستقيم، فإن لم تكونوا أنتم على سبيل الرشاد فما لكم و إرشاد العباد؟

و حيث عجز الثاني عن الجواب سأل عنه مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فأجاب بأنّ معنى اهدنا ثبتنا، فقالت النصارى: إذا كان الداعي على الصراط المستقيم فما الحاجة الى طلب الثبات؟

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ لكل حقّ باطلا، و لكلّ قائم مائلا، و لكل ثابت زائلا، فإذا لم يحصل الهداية المطلوبة الّتي هي الثبات لم

تنفع الاولى الّتي هي مجرّد الرشاد «2».

قلت: و لعلّه الى هذا يشير أيضا ما قيل في تفسير الثبات: بأنّ اللّه تعالى قد هدى الخلق كلّهم إلّا أنّ الإنسان قد يزلّ و ترد عليه الخواطر الفاسدة، فيحسن أن يسأل اللّه تعالى أن يثبّته على دينه و يديمه عليه، و يعطيه زيادات الهدى الّتي هي أحد أسباب الثبات على الدين كما تقول لمن يأكل: كل أى أدم الأكل.

ثانيها: أنّ الهداية هي لقوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ «3»، فالمعنى أرشدنا الى طريق الجنة ثوابا لنا، و لذا قالوا بعد دخولها: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «4».

______________________________

(1) كنز الدقائق ج 1 ص 72 عن شرح الآيات الباهرة.

(2) لم أظفر على مصدره.

(3) يونس: 9.

(4) الأعراف: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 564

و هو كما ترى سيّما بعد ما سمعت عن صاحب المجلى.

ثالثها: أن المسؤل هو الزيادة مطلقا، إذ ليس لفيوض الحقّ و هداياته نهاية و لا غاية، و لذا قال: وَ زِدْناهُمْ هُدىً «1».

رابعها: أنه يجوز تعلّق السؤال بالأمر الحاصل إذا كانت فيه فائدة كقوله:

قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ «2»، و دعاء إبراهيم خليل الرحمن: وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ «3»، و قوله: وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ «4».

و الفائدة في المقام إظهار الذلّة و الاستكانة و العبوديّة الّتي هي أفضل أنواع العبادة، كما

ورد: انّ الدعاء مخّ العبادة و أصلها و أفضلها «5».

بل في التنزيل: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ «6»، ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ «7».

و هذا كما إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ «8»، و قد أمرنا بسؤال الصلوات عليه، و إنما الفائدة فيه حصول الانتساب و تأكّد

الارتباط بيننا و بينه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لنيل الشفاعة الكليّة و الرحمة الالهيّة.

خامسها: ما هو الحقّ في المقام، و إن لم ينبّه عليه أحد من الأعلام، و يساعده الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام، و هو أن يكون الطلب متعلّقا

______________________________

(1) الكهف: 13.

(2) الأنبياء: 112.

(3) الشعراء: 87.

(4) البقرة: 286.

(5) البحار: ج 93 ص 300.

(6) الفرقان: 77.

(7) غافر: 60.

(8) الأحزاب: 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 565

بالهداية و مقتضياتها و لوازمها و آثارها الّتي من جملتها سريانها في القلب و القالب و على جميع الأعضاء و الجوارح و الثبات عليها في جميع الأحوال و الأهوال و الاستمرار عليها في جميع الخطرات الّتي تخطر بالبال، و في جميع الأفعال و استزادتها مع كلّ ذلك من كلّ أحد في كلّ حال، إذ لا نهاية لها باعتبار الفيوض الإلهيّة اللايزاليّة فإنّها من الأنوار اللامعة الّتي تلوح آثارها على هياكل التوحيد.

فيكون المسئول جميع أنواع الهداية لجميع الناس، و جميع مراتب الإسلام و الإيمان و الإحسان الذي

فسّره جبرئيل عليه السّلام بأن تعبد اللّه كأنّك تراه، فان لم تكن تراه فإنّه يراك «1».

و لذا فسّرت الهداية في المقام بالإرائة الّتي لا يراد بها مجرّد الاعلام، بل الرؤية القلبيّة الفؤاديّة، كما قال سبحانه: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «2».

و

قال مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام حين سأله ذعلب: هل رأيت ربّك؟ أ فأعبد مالا أرى؟ و قال عليه السّلام: لم تره العيون بمشاهدة العيان، و لكن تراه القلوب بحقايق الإيمان «3».

و لعلّه المراد بما

رواه الكاشفى «4» في جواهره عن مولينا الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في تفسيره: أنّ اهدنا بمعنى أرنا، ثم قال عليه السّلام: إنّ كلّ فرقة يطلبون الهداية

على حسب أحوالهم، فهداية التائبين بالإنابة، و العارفين بالمعرفة، و المخلصين بدقائق حقايق الإخلاص، و المحبّين باستعلام أعلام المحبّة، و المريدين بطلب طريق السلوك و الانقطاع، و الأولياء بالانخلاع عن رؤية الوسائط

______________________________

(1) في تفسير نور الثقلين ج 1 ص 553 رواه عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم.

(2) النجم: 11.

(3) بحار الأنوار: ج 4/ 304 و ج 10 ص 118.

(4)؟؟؟؟ تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 566

و مشاهدة الروابط، كيلا يحجبوا برؤية العبادة عن المعبود، و بالاشتغال بوظائف الطريق من المقصود ... الخبر.

كشف ايماني بتعليم ربّاني

«اهدنا» دعاء و سؤال للعبد من اللّه سبحانه على وجه الذلّة و المسكنة بتلقينه و تعليمه سبحانه فضلا منه على عباده، و لذا

ورد في الخبر: «قسمت الصلوة بيني و بين عبدي نصفين، فنصفها لي و نصفها لعبدي ... الى ان قال: فاذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الى آخره، قال: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل» «1».

فعلّمنا في هذا التلقين كيفيّة الدعاء المقترن بما يوجب الإجابة من الأمور الّتي ينبغي للداعي مراعاتها، و هي كثيرة راجعة الى الداعي أو المسألة أو كيفيّة الدعاء، أو زمانه و مكانه و غير ذلك ممّا تسمع تفصيل الكلام فيه في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.

لكنّ الذي ينبغي التنبيه عليه في المقام، استفادة من كلام الملك العلّام، وجوه:

منها: الابتداء بالاستعانة به سبحانه و التيمّن باسمه الشريف و ذكره بأسمائه الحسنى الّتي أمرنا أن ندعوه بها مع تحميده و تمجيده و ثنائه قبل دعائه، و التنبيه على إلهيته الكبرى و ربوبيّته المطلقة، و أنّه المنّان على عباده بالرحمة الرحمانية و الرحيمية، و بيده مقاليد الأمور كلّها.

و لذا

قال مولينا الصادق عليه السّلام: إنّ في كتاب أمير المؤمنين صلوات

اللّه عليه: أنّ المدحة قبل المسألة، فإذا دعوت اللّه عزّ و جلّ فمجّده «2».

______________________________

(1) عيون الأخبار ج 1 ص 301 و عنه كنز الدقائق ج 1 ص 85.

(2) بحار الأنوار: ج 93/ 315.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 567

و

قال الصادق عليه السّلام: إنّما هي المدحة، ثمّ الثناء، ثمّ الإقرار بالذنب، ثمّ المسألة «1».

و

قال لعثمان بن المغيرة: إذا أردت أن تدعو فمجّد اللّه عزّ و جلّ، و احمده، و سبّحه، و هلّله، و أثن عليه، و صلّ على محمّد النبي و آله، ثمّ صل تعط «2».

و

قال عليه السّلام لعيص: إذا طلب أحدكم الحاجة فليثن على ربّه، و ليحمده، و ليمجّده، فإنّ الرّجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيّأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه، فاذا طلبتم الحاجة فمجّدوا اللّه العزيز الجبّار، و امدحوه، و اثنوا عليه ...

إلى أن قال عليه السّلام: إنّ رجلا دخل المسجد، فصلّى ركعتين، ثمّ سأل اللّه عزّ و جلّ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعجل العبد ربّه، و جاء آخر فصلّى ركعتين، ثمّ أثنى على اللّه عزّ و جلّ، و صلّى على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سل تعط «3»

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و منها: التعميم في الدعاء فإنّه أقرب له إلى الإجابة كما في النبوي «4»، و لذا عدل في الضمير المتصل بالفعل من المفرد الى الجمع تعميما للدعاء و توسّلا الى الإجابة، مضافا الى الوجوه المتقدّمة في العدول في «نعبد و نستعين».

مع أنّه

قد ورد أنه سبحانه أوحى الى بعض أنبيائه عليهم السّلام: ادعني بلسان لم تعصني به، فقال: يا ربّ

كيف أدعوك بلسان لم أعصك به، و ما هو إلّا لسان واحد و لم أزل أعصيك به؟ فقال اللّه سبحانه: ادعني بلسان غيرك فإنّك لم تعصني به «5».

______________________________

(1) البحار: ج 93/ 318.

(2) البحار: ج 93/ 314 عن مكارم الأخلاق.

(3) بحار الأنوار: ج 93/ 315 عن مكارم الأخلاق.

(4)

البحار: ج 93/ 313 عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إذا دعا أحد فليعمّ فإنه أوجب للدعاء.

(5)

البحار: ج 93/ 342: روى أنّ اللّه سبحانه اوحى الى موسى: ادعني عن لسان غير ... تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 568

فمن فوائد العموم في الدعاء أنّه في حق الغير مقرون بالإجابة فكذا في حق الداعي لقضيّة عدم تبعّض الصفقة، فلأنّه يأبى عنه كرم الكريم ما هكذا الظّن به، و لا هو المعروف من فضله.

و منها: الدعاء لإخوان المؤمنين بظهر الغيب لإرادتهم من ضمير الجمع المتصل بالفعل، و ذلك أنّه وسيلة لإجابة الدعاء في حقّهم و في حقّه لما مرّ، و للتفضل عليه بمثل ما يدعو لجميعهم، أو بأضعافه.

فقد روى عن مولينا الباقر عليه السّلام: أسرع الدعاء نجحا للإجابة دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب «1».

و

عن مولينا الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مؤمن دعا للمؤمنين و المؤمنات إلّا ردّ اللّه عزّ و جلّ عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن و مؤمنة معنى من أول الدهر أو هو آت الى يوم القيامة، إنّ العبد ليؤمر به الى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون و المؤمنات: يا ربّ هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه، فشفّعهم اللّه عزّ و جلّ فيه فينجو «2».

و

عن إبراهيم بن هاشم، قال: رأيت

عبد اللّه بن جندب في الموقف فلم أر موقفا كان أحسن من موقفه، فما زال مادّا يديه الى السماء و دموعه تسيل على خدّيه حتى تبلغ الأرض، فلمّا صدر الناس قلت له: يا أبا محمّد ما رأيت موقفا قط أحسن من موقفك، قال: و اللّه ما دعوت إلّا لإخوانى، و ذلك أنّ أبا الحسن موسى عليه السّلام أخبرني: أنّ من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش: و لك مائة ألف ضعف، فكرهت أن أدع مائة ألف ضعف مضمونة لواحدة لا أدرى تستجاب أم لا «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 76/ 60 و ج 93/ 387.

(2) البحار: ج 93/ 384 عن أمالى الطوسي ج 2/ 95 بتفاوت يسير.

(3) بحار الأنوار: ج 93/ 384- 385 عن أمالى الصدوق ص 273.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 569

و

في عدّة الداعي عن معاوية بن عمّار، عن الصادق عليه السّلام: من دعا لأخيه في ظهر الغيب نادى ملك من السماء الدنيا: يا عبد اللّه لك مائة ألف ضعف ممّا دعوت، و ناداه ملك من السماء الثانية يا عبد اللّه و لك مائتا ألف ضعف مما دعوت، و ناداه ملك من السماء الثالثة: يا عبد اللّه و لك ثلاثمائة ألف ضعف ممّا دعوت، و ناداه ملك من السماء الرابعة: يا عبد اللّه و لك أربعمائة ألف ضعف مما دعوت، و ناداه ملك من السماء الخامسة: يا عبد اللّه و لك خمسمائة الف ضعف مما دعوت، و ناداه ملك من السماء السادسة: يا عبد اللّه و لك ستمائة الف ضعف ممّا دعوت، و ناداه ملك من السماء السابعة: يا عبد اللّه و لك سبعمائة ألف ضعف ممّا دعوت.

ثم يناديه اللّه تبارك و تعالى: أنا

الغني الّذى لا افتقر يا عبد اللّه لك ألف ألف ضعف ممّا دعوت. الخبر «1».

و منها: الإلحاح في الدعاء، فإنّ هذا الدعاء يتكرّر في الصلوات اليوميّة، مرات مديدة، و الإلحاح من أسباب الإجابة.

عن مولانا أبى جعفر عليه السّلام أنّه قال: و اللّه لا يلحّ عبد مؤمن على اللّه عزّ و جلّ إلّا استجاب له «2».

و منها: الإقبال على الدعاء.

قال الصادق عليه السّلام: إنّ اللّه لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فاذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة «3».

و استفادة هذا من تقديم الخطاب و تكريره المنافي لحالة الغياب، إذ عند الخطاب يفتح الباب و ينكشف الحجاب، و يتوجّه العبد بكليّته الى ربّ الأرباب،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 93/ 387 ح 19 عن دعوات الراوندي.

(2) الكافي ج 2/ 475- بحار الأنوار: ج 93/ 374 عن عدّة الداعي.

(3) البحار: ج 93/ 305 عن عدة الداعي ص 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 570

فيقبل الثناء و يجيب الدعاء.

و منها: اشتمال الدعاء على الاستشفاء و التوسّل بمحمد و آله الأطهار عليهم السّلام فإنّه يوجب الإجابة.

و لذا

قال مولينا الصادق عليه السّلام: من كانت له الى اللّه عزّ و جلّ حاجة فليبدأ بالصلاة على محمّد و آله ثم يسئل حاجته ثم يختم بالصلوة على محمد و آل محمّد، فإنّ اللّه عزّ و جلّ أكرم من أن يقبل الطرفين و يدع الوسط، إذ كانت الصلاة على محمّد لا تحجب عنه «1».

و ستسمع أنّ المراد بالصراط المستقيم هو ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام فطلب الهداية إليه استشفاع بهم، و توسّل الى اللّه تعالى بولايتهم، و كما أنّه دعاء لاستفاضة جميع المؤمنين بهم كذلك دعاء لهم بإفاضة ربّ العالمين من فيوضه على المؤمنين أجمعين بسبب

ولاية أهل البيت و فجتهم صلوات اللّه عليهم.

و هو حقيقة الصلوات المأمور بها، فإنّه من الصلة، أو الوصل، و اختتام الدعاء ينبغي أن يكون بالصلوات عليهم حتى يكون الختام مسكا و في ذلك فليتنافس المتنافسون.

و ممّا مرّ يظهر وجه العدول من الضمير المفرد الى الجمع.

مضافا الى أنّ الأرض لا تخلو أبدا من حجّة و وليّ ممّن يستجاب له، و لا يردّ دعائه، فإذا عمّ الدعاء استجيب لغيره أيضا ممّن لا يحقّ له ذلك.

مع أنّه إذا كان الداعي هو العالي فينبغي أن يقترن بالداني اقترانا إفاضية و معيّة اشراقيّة، و إذا كان الداعي هو الداني فلا بدّ له من معيّة استفاضيّة استشفاعيّة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 93/ 316.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 571

و من هنا يظهر أيضا معنى ما

روى أنّ اللّه عزّ و جلّ حمّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذنوب شيعتنا، ثم غفرها له بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ «1». «2»

إرشاد و هداية في تفسير الصراط

الصراط في الأصل مطلق الطريق، أو الطريق الواضح، أو خصوص المتّسع منه، من سرّطه إذا ابتلعه، سمّى به لأنّه يسرط المارّة، أى يبتلعها، و هو كالطريق و السبيل في التذكير و التأنيث، إذ قد يذكّر صفة كلّ منهما باعتبار اللفظ، و قد تؤنّث باعتبار المعنى، كذا قيل، لكنّه لا يخلو من تأمّل، إذ الظاهر من كلام أهل اللغة و الاستعمالات العرفية أنّ الصراط لا يؤنّث، و الطريق قد يؤنّث، و السبيل قد تذكّر.

و يفرّق بحسب المعنى بينها بأنّ الطريق ما يطرقه طارق، و السبيل ما كان معتاد السلوك و الصراط كالسبيل إلّا أنّه يستقيم غالبا.

و الخطب سهل بعد وضوح استعمال كل منها موضع الآخر، إنّما

الكلام في المقصود بالصراط المستقيم في المقام.

فقيل:

إنّه كتاب اللّه تعالى، بل في «المجمع» إنّه المرويّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عن أمير المؤمنين عليه السّلام «3»،

و لذا فسّره به ابن مسعود.

و قيل: إنّه الإسلام، و هو المحكي عن جابر و ابن عبّاس، و لعلّه المراد

______________________________

(1) الفتح: 2.

(2) كنز الدقائق ج 12 ص 269 عن تأويل الآيات الباهرة ح 591 عن محمد بن سعيد المروزي قال: قلت لرجل: أذنب محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطّ؟ قال: لا، قلت: فقول اللّه تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» ما معناه؟ قال: إنّ اللّه سبحانه حمّل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله ذنوب شيعة عليّ عليه السّلام ثم غفر له ما تقدّم منها و ما تأخّر.

(3) مجمع البيان: ج 1/ 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 572

بالمحكي عن محمد بن الحنفيّة من أنّه دين اللّه الذي لا يقبل عن العباد غيره.

و قيل: إنّه النبي و الأئمّة القائمون مقامه صلوات اللّه عليهم أجمعين، و هو المرويّ في أخبار كثيرة.

روى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار عن المفضّل، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصراط فقال: هو الطريق الى معرفة اللّه عزّ و جلّ، و هما صراطان:

صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة، فاما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض «1» الطاعة، من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنّم «2».

و

في تفسير مولينا الامام العسكري عليه السّلام: الصراط المستقيم صراطان: صراط في الدنيا

و صراط في الآخرة، فأما الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر من الغلو، و ارتفع عن التقصير و استقام فلم يعدل الى شي ء من الباطل، و أمّا في الآخرة فهو طريق المؤمن الى الجنّة الذي هو مستقيم، لا يعدلون من الجنّة الى النار، و لا الى غير النار سوى الجنّة «3».

و

في الأمالى بالإسناد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: إذا كان يوم القيامة، و نصب الصراط على جهنّم، لم يجز عليه إلّا من كان معه جواز فيه ولاية على بن أبى طالب عليه السّلام، و ذلك قوله تعالى: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «4» يعنى عن ولاية على

______________________________

(1)

في المصدر: المفترض الطاعة.

(2) كنز الدقائق ج 1 ص 69 عن معاني الأخبار ص 28 ح 1.

(3) كنز الدقائق ج 1/ 70- نور الثقلين: ج 1/ 22.

(4) الصافّات: 24. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 573

ابن أبى طالب عليه السّلام «1».

و

في الخصال عن الصادق عليه السّلام عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّ للجنّة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون و الصدّيقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منه شيعتنا و محبّونا، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو و أقول: ربّ سلّم شيعتي و محبّي و أنصاري و من تولّاني في دار الدنيا، فإذا النداء من بطنان العرش: قد أجيبت دعوتك، و شفّعت في شيعتك، و يشفّع كلّ رجل من شيعتي و من تولّاني، و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه ساير المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلا اللّه، و لم يكن في قلبه مثقال ذرّة من

بغضنا أهل البيت «2».

و

في الأمالى عن الصادق عليه السّلام قال: الناس يمرّون على الصراط طبقات، و الصراط أدقّ من الشعر و أحدّ من السيف، فمنهم من يمرّ مثل البرق، و منهم من يمرّ مثل عدو الفرس، و منهم من يمرّ حبوا، و منهم من يمرّ مشيا، و منهم من يمرّ متعلقا قد تأخذ النار منه شيئا و تترك شيئا «3».

و

في تفسير فرات: انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاه جبرئيل، فقال: أبشرك يا محمد بما تجوز على الصراط؟ قال: قلت: بلى، قال: تجوز بنور اللّه، و يجوز عليّ بنورك، و نورك من نور اللّه، و تجوز أمّتك بنور عليّ، و نور عليّ من نورك، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «4». «5»

______________________________

(1) نور الثقلين: ج 4/ 401 عن أمالى شيخ الطائفة.

(2) الخصال ص 408 باب الثمانية ح 6.

(3) بحار الأنوار: ج 8/ 64- 65 عن أمالى الصدوق ص 107.

(4) سورة النور: 40.

(5) البحار: ج 8/ 69 عن تفسير فرات ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 574

و

في المعاني و عقائد الصدوق، و تأويل الآيات و غيرها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ إذا كان يوم القيامة أقعد أنا و أنت و جبرئيل على الصراط، فلم يجز أحد إلّا من كان معه كتاب فيه برائة بولايتك «1».

و

في الكنز عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: إذ كان يوم القيامة أمر اللّه مالكا أن يسعر النيران السبع، و يأمر رضوان أن يزخرف الجنان الثمان، و يقول: يا ميكائيل مدّ الصراط على متن جهنّم و يقول: يا جبرئيل انصب ميزان العدل تحت العرش، و يقول: يا محمّد قرّب أمّتك

للحساب، ثم يأمر اللّه أن يعقد على الصراط سبع قناطر طول كلّ قنطرة سبعة عشر ألف فرسخ، و على كلّ قنطرة سبعون الف ملك، يسألون هذه الأمّة رجالهم و نساءهم في القنطرة الاولى عن ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و حبّ أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فمن أتى به جاز القنطرة الاولى، كالبرق الخاطف، و من لم يحبّ أهل بيته سقط على أمّ رأسه في قعر جهنّم و لو كان معه من أعمال البرّ عمل سبعين صدّيقا «2».

و

روى في المناقب عن الصادقين عليهما السّلام في اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قالا:

دين اللّه الذي نزل به جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، صراط الذين أنعمت عليهم، فهديتهم بالإسلام بولاية على بن ابى طالب، و لم تغضب عليهم و لم يضلّوا، فالمغضوب عليهم اليهود و النصارى و الشكّاك الذين لا يعرفون إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و الضالّين عن إمامة على بن أبى طالب عليه السّلام.

و فيه عن تفسير وكيع، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال: قولوا معاشر العباد: أرشدنا الى حبّ النبي و أهل بيته عليهم السّلام.

______________________________

(1) البحار: ج 8/ 66 عن المعاني ص 14.

(2) بحار الأنوار: ج 7/ 341 ح 12، عن الكنز.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 575

و عن تفسير الثعلبي، و ابن شاهين عن بريدة في هذه الآية قال: صراط محمّد و آله «1».

و في كشف الغمّة ممّا أخرجه المحدّث الحنبلي في هذه الآية، قال بريدة صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هو صراط محمد و آله «2».

و

في المناقب عن التهذيب و المصباح في دعاء الغدير: و أشهد أنّ الامام الهادي الرشيد أمير المؤمنين الذي

ذكرته في كتابك.

فقلت: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «3»: إنّ امّ الكتاب الفاتحة، يعنى انّ فيها ذكره عليه السّلام «4».

و

فيه بالإسناد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: لكل شي ء جواز، و جواز الصراط حبّ على بن أبى طالب عليه السّلام «5».

و

في المعاني عن السجّاد عليه السّلام قال: نحن أبواب اللّه، و نحن صراطه المستقيم، و نحن عيبة علمه، و موضع سرّه و قال: ليس بين اللّه و بين حجّته حجاب، و لا للّه دون حجته سرّ «6».

و

في خبر معرفتهم بالنورانيّة: محمّد خاتم النبيّين، و أنا خاتم الوصيّين، محمّد صاحب الدعوة، و أنا صاحب السيف و السطوة، محمّد النبي الكريم، و أنا الصراط المستقيم «7».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 24/ 16 عن المناقب ج 3/ 73.

(2) البحار: ج 24/ 17 عن كشف الغمّة ص 91.

(3) الزخرف: 4.

(4) المناقب ج 3/ 107.

(5) بحار الأنوار: ج 39/ 202 عن المناقب ج 1 ص 346.

(6) معاني الأخبار: ص 14 و عنه البحار: ج 4/ 12 مع تقديم و تأخير في بعض العبارات.

(7)

بحار الأنوار: ج 26/ 4 و 5 و فيه: صار محمد خاتم النبيين و صرت أنا خاتم الوصيين. و أنا تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 576

و

في فضائل الشيعة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أثبتكم قدما على الصراط أشدّكم حبّا لأهل بيتي «1».

و

فيه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يا عليّ ما ثبت حبّك في قلب امرئ مؤمن فزلّت به قدم على الصراط إلّا ثبت له قدم حتّى أدخله اللّه بحبّك الجنّة «2».

و

في البصائر عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ «3» قال: هو و اللّه عليّ،

هو و اللّه عليّ الصراط و الميزان «4».

و

في المناقب عن مولينا الصادق عن أبيه، عن جده عليهم السّلام قال: قال يوما الثاني لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّك لا تزال تقول لعليّ: أنت منّى بمنزلة هارون من موسى، فقد ذكر اللّه هارون في امّ القرى و لم يذكر عليّا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا غليظ يا جاهل أما سمعت يقول: صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ «5».

و فيه و في الطرائف عن قتادة، قال: سمعت الحسن البصري يقرأ هذا الحرف:

هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قلت: ما معناه؟ قال: هذا طريق علي بن أبى طالب، و دينه طريق دين مستقيم فاتّبعوه و تمسكوا به فإنّه واضح لا عوج فيه «6».

و فيه عن تفسير مقاتل عن ابن عبّاس في قوله تعالى:

______________________________

النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، و لا أحد اختلف الا في ولايتي، و صار محمد صاحب الدعوة، و صرت أنا صاحب السيف ... إلخ.

(1) بحار الأنوار: ج 8/ 69 عن فضائل الشيعة للصدوق.

(2) البحار: ج 8/ 69 عن الفضائل.

(3) الحجر: 41.

(4) روى العياشي في ج 2 ص 242 ح 15 مثله مع تفاوت يسير.

(5) المناقب لابن شهر آشوب ج 3/ 107 و في ذيل الحديث قال المؤلف: و قرئ مثله في روآية جابر.

(6) المناقب ج 3/ 107 عن أبى بكر الشيرازي في كتابه بالإسناد عن شعبة، عن قتادة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 577

يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَ «1»: لا يعذّب اللّه محمّدا و الذين آمنوا معه، لا يعذّب على بن ابى طالب و فاطمة، و الحسن، و الحسين، و حمزة، و جعفرا، نورهم يسعى، يضي ء على الصراط لعلى و فاطمة مثل الدنيا سبعين مرّة، فيسعى نورهم بين

أيديهم و يسعى من أيمانهم و هم يتبعونها، فيمضى أهل بيت محمّد و آله زمرة على الصراط مثل البرق الخاطف، ثمّ قوم مثل الريح، ثم قوم مثل عدو الفرس، ثمّ يمضى قوم مثل المشي، ثمّ قوم مثل الحبو، ثمّ قوم مثل الزحف، و يجعله اللّه على المؤمنين عريضا، و على المذنبين دقيقا «2».

و التعرض للأخبار العاميّة من الصحابة و التابعين في مثل المقام و غيره إنّما هو للتمسّك به على الخصم الّذى هو المخالف المعاند، فإنّ الفضل ما شهدت به الأعداء.

و على كلّ حالّ فتمام الكلام في المقام بذكر فوائد:

إحداها اعلم أنّ الأرواح الانسانيّة و النفوس الملكوتيّة لمّا خلقها اللّه في أحسن تقويم، و ذلك قبل خلق الزمان و الزمانيات حيث لا أين، و لا متى، لتقدّم عالم الدهر بجملته على عالم الزمان الذي هو وعاء الأجسام و الجسمانيّات، نزعت تلك الأرواح الى دعوى الربوبيّة و الاستغناء و القيوميّة المطلقة، فخوطبت بنداء اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً «3» اى مجتمعين حال الهبوط، و ذلك لمرورها على جميع العوالم المترتبة المتنزّلة و تعلّقها بشي ء من تلك العوالم فلها من كلّ عالم من العوالم قيضة مخالفة في الكينونة و الاقتضاء لغيرها، و لذا قال: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «4»،

______________________________

(1) التحريم: 8.

(2) تفسير البرهان ج 4/ 357 عن المناقب لابن شهر آشوب.

(3) البقرة: 38.

(4) البقرة: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 578

لاستدامة التجاذب و التمانع و التدافع بينها، لكونه في هذا العالم معترك القوى النورانيّة العقليّة، و الشهوات النفسيّة، و الشيطانيّة الوهميّة، و الحيوانيّة البهيميّة، و الظلمانيّة الجسميّة، و له في أرض عالم الناسوت مستقرّ حال العمر، و متاع الى حين الأجل.

و اليه الاشارة بقول الشيخ ابن سينا في شعره:

هبطت إليك من

المحلّ الأرفع ورقاء ذات تعزز و تمنّع

قيل: إنّه سئل أفلاطون عن سبب هبوط الأرواح، فقال: إنّها احترقت رياشها لبعض الأوهام الرديّة فسقطت الى هذا العالم، فلمّا ارتاشت «1» صعدت.

و الى الإشارة بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ «2».

فدعا الناس الى إتّباع هداه ليخرجهم من الظلمات الى النور بإذن ربّهم الى صراط العزيز الحميد.

فللإنسان في هذه النشأة الدنيويّة انتقالات رتبيّة، و ترقيّات نفسيّة، و استفاضات نوريّة عقليّة إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «3».

فلا تزال النفوس الانسانيّة تسير في المراتب النفسانيّة متدرّجة في الأطوار بعد الأطوار، مستعدّة لإشراق أشعّة الأنوار، يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ «4»:

ظلمة البلادة البهيميّة، و الجمودة الجسميّة، و الانحرافات النفسانيّة.

______________________________

(1) ارتاش: أصاب خيرا و صلحت حاله.

(2) البقرة: 38.

(3) فاطر: 10.

(4) سورة الزمر: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 579

و هذه الانتقالات ليست بحركات جوهريّة، و تبدّلات ذاتيّة و انتقالات طبيعيّة اشتداديّة، كما ذهب اليه بعض الأعلام، نظرا الى القول بثبوت الحركة في مقولة الجوهر، بل ربما ينسب اليه القول بتبدّل كلّ من الجواهر الى غيره، حتى تبدل الهيولى صورة، و الصورة جسما، و الجسم نفسا، و النفس عقلا.

و ظنّى أنّه ينبغي تنزيهه عن هذه النسبة، بل ربما يأبى عنه كلامه حيث ذكر في بيان هذه الحركة: أنّ أوّل نشأة الإنسان بحسب جسميته و قالبه قوة استعداديّة، ثم صورة طبيعيّة شأنها حفظ المزاج للتركيب، ثمّ صورة مغذّية لمادّة بدنيّة، ثمّ صورة حيوانيّة يدرك المحسوسات و يتحرّك بالإرادة، و هذا آخر درجات الصور الحسيّة.

و أوّل درجات الصور العقليّة قوّة تسمّى عند الحكماء بالعقل المنفعل، ثم تنتقل من

صورة الى صورة حتّى تتّصل بالعالم العقلي، و يلحق بالملإ الأعلى إن ساعده التوفيق، أو يحشر مع الشياطين و الحشرات في عالم الظلمات إن ولّاه الطبع و الشيطان و قارنه الخذلان.

و ربما يقال: إنّه لمّا اثبت التعقّل و إدراك المعقولات، و أنكر وجود العقل، فلا بدّ له من أن يحكم على النفس بالوصول الى هذه الرتبة، فمراده بصيرورتها عقلا أنّها تعقل الأشياء، لا أنّها تنقلب عقلا عنده، لأنّه لا يثبت العقل.

و فيه: أنّ النفس مادّتها التأييدات العقليّة، و هي إشراقات من العقل، محلّها منه محلّ الإشراق من الشمس، و النور من المنير، و الضوء من السراج، فكما لا يكون الإشراق شمسا، و لا الضوء سراجا، و لو بالترقّى و الاشتداد في جوهره و نوعه كذلك لا تكون النفس بترقّيها عقلا، و إنّما غاية ما يحصل لها من الترقّى هو الوصول الى أقصى مراتب النفس الّتي هي دون أفق العقل، كما أنّ مراتب الجسم دون أفق النفس، فكما لا يكون الجسم نفسا كذلك لا تكون النفس عقلا، نعم

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 580

يحصل لكلّ منهما الترقي و التنزّل في مراتب عرض رتبته.

و إنكار وجود العقل ضعيف بالأدلّة السمعيّة و العقلية الدالّة على وجوده، و لعلّنا نشير إليها في موضع أليق إن شاء اللّه تعالى.

و على كلّ حال فللنفس انتقالات و ترقيات في عرض المراتب و الدرجات، أو في طولها أيضا، فينتقل من حال الى حال، و من درجة الى درجة، فجميع الناس سائرون في هذه النشأة الدنيوية بأقدام أعمالهم و علومهم، طائرون بجناحي العلم و العمل.

و هم في سيرهم إمّا واصلون الى ربّهم، أى إلى مرضاته و محلّ قربه و كرامته، فيرون ما تشتهيه الأنفس

و تلذ الأعين، لسيرهم في الطريق الّذى أمروا بسلوكه، لأنّهم تخفّفوا فلحقوا، و صاروا من عباده الذين هم بالبداء إليه يسارعون، و هم المتّقون الذين هم في جنات و نهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

و إمّا واقفون للعطالة، و البطالة، أو لتردّدهم في سيرهم بين الصعود و الهبوط، و مثاله ما كان لبني إسرائيل في التيه حيث لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ.

و ما ذكرناه ليس مبنيّا على القول بالإحباط و التكفير، و إن قلنا بهما على بعض الوجوه الصحيحة.

و أمّا غير الفريقين السابقين فهم الراجعون، ناكسوا رؤوسهم عند ربهم لانتكاس أعمالهم بترك العمل أو فساده، فهم السائرون على غير الطريق المستقيم لا يزيدهم سيرهم إلّا بعدا كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «1».

ثانيها: اعلم أنّ للإنسان قوّتين هما له كجناحين يطير بهما:

______________________________

(1) سورة المطفّفين: 14- 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 581

قوّة نظريّة علميّة، و قوة عمليّة، فإنّ له قوّة الإدراك و قوّة التحريك، و لكل منهما شعبتان: العقل النظري، و العقل العملي، و الشهوة، و الغضب.

الأوّل مبدء التأثر عن المبادى العالية لقبول الصور العلميّة.

و الثانية مبدء تحريك البدن في الأفعال الجزئية بالرويّة.

و الثالثة مبدء جلب الملائم، و الرابعة مبدء رفع غير الملائم على وجه الغلبة.

فإن كانت الاولى قاهرة غالبة على غيرها يحصل انتظام الأمور الانسانية في الحال و المآل، و يحصل الوفاق و التسالم بين القوى الأربعة، و يدخلن في السلم كافة، و لا يتبعن خطوات الشيطان، فينزل اللّه السكينة، و تكون المدينة حصينة فيحصل من تهذيب العاقلة الحكمة، و من تهذيب الغضبيّة الحكم و الشجاعة، و من تهذيب الشهوية العفّة، و من رعاية الاعتدال

في جميع القوى العدالة.

و ليعلم أيضا أنّ هذه الأربعة بمنزلة الأوساط و لكلّ وسط طرفا إفراط و تفريط.

اليمين و الشمال مضلّة و الطريق الوسطى هي الجادّة كما أثر عن أمير المؤمنين عليه صلوات اللّه «1».

و لمّا كان أجناس الفضائل أربعة كانت أجناس الرذائل ثمانية. فضدّ الحكمة في طرف الإفراط الجربزة مأخوذة من جربز اى ذهب أو انقبض أو سقط، أو إنّها معرّبة كربزة اى الخداع الخبيث كما في القاموس «2»، و على كل حال يحصل من هذا الإفراط أخلاق رديّة كالمكر و الخداع و الشيطنة و الوسوسة، و سوء الظّن، و التهمة، و الغدر.

______________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة (16).

(2) باب الزاى فصل الجيم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 582

و في طرف التفريط البلادة و البلاهة الّتي لا ينتقل معها إلى شي ء لفرط الخمود و الجمود، و قلّة فطانته لدقائق الأمور فينشأ منها الحماقة و الغفلة و الانخداع و الحيرة و السفاهة.

و ضدّ العفّة في طرف الإفراط الفجور الذي لا يبالي معه صاحبه من السرقة و أكل الحرام و الزنا، و ساير الفواحش.

و في طرف التفريط الخمول من خمل إذا سقط فإنّ الخامل الساقط الذي لا نباهة له.

و ضدّ الجرأة في طرف الإفراط التهور الذي لا يبالي معه صاحبه من الوقوع في المهالك، فيقدم على ما ينبغي الحذر منه.

و في طرف التفريط الجبن الذي تسكن معه النفس عن دفاع الضارّ، و جلب الضروري، و يكون معه الكسالة و البطالة.

و من عدّ العدالة فضيلة رابعة خارجة عن مجموع الثلاثة قال: إنّ ضدّها في طرف الإفراط الظلم بالتصرّف في حقوق الناس و أموالهم بغير حقّ.

و في طرف التفريط الانظلام اى قبول الظلم و تمكين الظالم من الظلم عليه و انقياده

له فيما يريده من التعدّى فيما يتعلّق به.

لكن ربما يقال: إنّ للعدالة مع ملاحظة ما لا ينفكّ عنه من لازمه طرفا واحدا و هو الجور و الظلم، و يشمل جميع ذمائم الصفات و لا يختصّ بالتصرّف في حقوق الناس و أموالهم بدون جهة شرعيّة، لأنّ العدالة بهذا المعنى عبارة عن ضبط العقل العملي تحت إشارة العقل النظري، فهو جامع للكمالات بأسرها، و الظلم الذي هو مقابلها جامع للنقائص بأسرها، إذ حقيقة الظلم وضع الشي ء في غير موضعه، و هو يتناول جميع الذمائم و منها الانظلام فإنّه تمكين الظالم في ظلمه و هو أيضا ظلم.

و فيه أنّ الغرض ضبط المعاني و أطراف الأوساط و التعبير فيها بالألفاظ الدالّة

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 583

عليها، و لا ريب أنّ للعدالة طرفين يعبّر عنهما بلفظين، و تكلّف التعبير عنهما بلفظ واحد أو إرجاعهما الى جامع واحد و لو بالتلازم قليل الجدوى، و الكلام في العدالة بالمعنى الخاصّ الذي يقابله الظلم بالمعنى الخاصّ، و أمّا العدالة بالمعنى العامّ الشامل لجميع الأوساط كما هو الحقّ فهو امتزاج القوى و تسالمها و انقيادها تحت العاقلة بحيث يرتفع بينها التنازع.

ثالثها: أنّ الحقيقة الواحدة ربما تظهر في العوالم المتعدّدة على صور متكثرة مختلفة غاية الاختلاف حتى في الجوهريّة و العرضية، فإنّ الجواهر القائمة بنفسها في الخارج المستغنية عن غيرها فيه باعتبار وجودها في الذهن أعراض قائمة به حسب ما ذكره الحكماء المشاوون. و ان كان لا يخلو من شي ء، لكنّه لا يقدح في أصل القاعدة.

فالعلم مثلا يظهر في الدنيا على المشاعر بصورة عرضيّة قائمة بها، و في النوم الذي هو المثال المنفصل يظهر بصورة اللّبن كما في الخبر: و في الآخرة بصورة النور و

الحياة.

و الظلم الذي هو من عوارض الأفعال و الأقوال في هذه النشأة ظلمات يوم القيامة.

و من يتفكّه بغيبة أخيه المسلم فإنّما يأكل لحم أخيه ميتا.

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً «1».

و من يشرب من آنية الذهب و الفضّة فإنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم، و الجرجرة «2»: الصبّ.

______________________________

(1) النساء: 10.

(2) اشارة الى ما

في المجازات النبوية ص 90 قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للشارب في آنية الذهب و الفضّة: «إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم».

و عنه البحار: ج 66/ 531. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 584

و ذلك أنّ كل حقيقة محفوظة بنفسها في جميع العوالم، لكنّها تختلف ظهورا و خفاء، و حقيقة و مثالا باعتبار العوالم، ففي الدنيا بصورة الجواهر و الأعراض الكائنة فيها، و في الآخرة، و هي اليوم الذي فيه تبلى السرائر و تكشف الضمائر، يظهر كل شي ء بحقيقته الّتي هو عليها من دون مثال و حكاية، فيظهر نور الإيمان و الولاية بحقيقته النورانيّة و لذا قال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ «1».

و هو النور المشار اليه بقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «2».

و لذا يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا.

في الدنيا «انْظُرُونا» اى انظروا إلينا «نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ، على سبيل الاستضائة و الاستشراق، «قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ يعنى الى الدنيا فَالْتَمِسُوا نُوراً «3».

فإنّ هناك يكتسب النور، و هذا يوم الظهور، فالدنيا عمل و لا جزاء و الآخرة جزاء و لا عمل، بل الدنيا هي أرض المحشر و الطبقة الاولى من جهنّم و هي سجن المؤمن و ناره، وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «4»، و لذا

يقول المؤمنون يوم القيامة:

جزناها، و هي نار خامدة، و الحمّى حظّ المؤمن من قيح جهنّم، و التكاليف الدنيويّة هي النار المؤججة في عالم الذرّات فمن دخلها كانت عليه بردا و سلاما.

و سوء الخلق هو الذي يوجب ضغطة القبر، بل هو هي بعينها، بل البدن الدنيوي قبر متصل لصاحبه قبل القبر المنفصل، و لذا جعلت من بيانيّة في قوله

______________________________

(1) الحديد: 12.

(2) البقرة: 257.

(3) الحديد: 13.

(4) سورة مريم: 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 585

تعالى: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ «1» و قال: وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «2»، و اليه الاشارة

بقول مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام.

و في الجهل قبل الموت موت لأهله* و أبدانهم قبل القبور قبور و كلّ امرء لم يحيي بالعلم ميّت* و ليس له حتى النشور نشور «3»

و بالجملة صاحب الخلق السّيّئ ترى صدره ضيّقا حرجا و هو لا يزال في ضيق و ضنك من العيش، و هو ضمّة القبر له في الدنيا و في البرزخ أيضا.

و لذا

لمّا مات سعد بن معاذ «4» و شيّعه سبعون الف ملك، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تشييعه بلا حذاء و لا رداء تأسيا بالملائكة، و لحدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سوّى عليه اللبن بيده الشريفة، فقالت امّ سعد يا سعد هنيئا لك الجنّة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا امّ سعد مه لا تجزمي على ربّك، إنّ سعدا قد أصابته ضمّة، إنّه كان في خلقه مع أهله سوء «5».

و بعد ذلك كلّه ينكشف سرّ قوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «6» و قوله: وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «7»

و قوله: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «8».

______________________________

(1) الممتحنة: 13.

(2) فاطر: 22.

(3) الديوان المنسوب الى أمير المؤمنين عليه السّلام.

(4) سعد بن معاذ الصحابي الأنصارى كان سيّد الأوس توفّي سنة (5) ه بعد غزوة الأحزاب بسهم أصابه في تلك الغزوة- العبر ج 1 ص 7.

(5) بحار الأنوار: ج 73/ 297.

(6) العنكبوت: 54.

(7) الصافات: 39.

(8) الزلزال: 6- 7- 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 586

فتح للباب و كشف الحجاب

إن تقصد و الرشد لدين قويم فالتزموا صراطه المستقيم

من جاء بالحبّ له في الورى فقد أتى اللّه بقلب سليم

اعلم أنّ مقتضى الالوهيّة أن يعرّف اللّه تعالى نفسه لعباده حتى يعرفوه و إذا عرفوه عبدوه، كما ورد في اخبار مستفيضة، و مقتضى الربوبيّة أن يسوق إليهم ما يمدّ وجودهم و بقائهم و تنقلهم و تحولهم في كل عالم من العوالم، الأرواح، و الأشباح، و الأصلاب، و الأرحام إلى البرزخ و الحشر ثم الى الجنة أو النار.

و قضيّة الإمكان أنّ الإنسان في كل العوالم يحتاج إلى جملة من الإمدادات و الفيوضات بحسب أجزائه و أعضائه و مشاعره و قواه، و لا تصل تلك الفيوضات إلا من اللّه سبحانه، و حيث إنّه تعالى أبى أن يجرى الأمور إلا أسبابها، و منها الطريق الموصل للإفاضات الى العبد و هذا الطريق هو صراط اللّه الى عبده، فكلّ من كان واسطة لإيصال شي ء من الفيوض هو صراط منه سبحانه، لكن الصراط الأتمّ الأقوم هو النبيّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أمير المؤمنين، و ذريّته الطيّبون صلوات اللّه عليهم أجمعين، فإنهم صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي

الْأَرْضِ «1» على أحد الوجهين من كون الوصف و الضمير للصراط على وجه التحمّل و الوساطة لا الشركة و الاستقلال.

و لذا عقّبه بقوله: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «2» و لا ينافيه قوله: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أى إياب هذا الخلق ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ «3» بعد حفظ الحدود، و أفاض عليهم من رحمته، و قامت بهم غيرهم قياما إفاضيا اشراقيا كالإشراقات

______________________________

(1) الشورى: 53.

(2) الشورى: 53.

(3) الغاشية: 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 587

الساطعة من المراة المجلوّة الموضوعة شطر الشمس، بل كالشعاع الذي هو أثر فعل الشمس في انبساطه، و تجلّيه و فيضانه على الأشياء.

نعم إنّهم عليهم السّلام الصراط المستقيم من الحقّ الى الخلق في جميع الشؤون الفائضة منه سبحانه الى الخزائن الغيبيّة النازلة الى الخلق أجمعين و من هنا يقال:

إنّهم العلّة في خلق الأشياء فإنّ المستفاد من الأخبار المأثورة أنّ اللّه تعالى خلق من نور محمد و آله صلّى اللّه عليه و آله أنوار جميع الأنبياء و الملائكة و الجنّة و العرش و الكرسي، و الحجب و السماوات، و الأرضين.

قال شيخنا المجلسي في رسالة اعتقاداته: اعلموا أنّ اللّه تعالى كرّم نبيّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته سلام اللّه عليهم أجمعين و فضّلهم على جميع خلقه، و جعلهم معادن رحمته و علمه و حكمته، فهم المقصودون في إيجاد عالم الوجود، المخصوصون بالشفاعة الكبرى و المقام المحمود، و معنى الشفاعة وسائط فيوض اللّه تعالى في هذه النشأة و النشأة الآخرة، إذ هم القابلون للفيوض الإلهيّة، و بتطفّلهم تفيض الرحمة على سائر الموجودات.

و هذه هي الحكمة في لزوم الصلوات عليهم، و التوسل بهم في كلّ حاجة، لأنّه إذا صلّى عليهم لا يردّ، لأنّ المبدأ

فيّاض، و المحلّ قابل، ببركتهم تفيض على الداعي بل على جميع الخلق. إلى أن قال: فكذلك سائر الفيوض و الكمالات هم وسائط بين ربّهم و بين سائر الموجودات، فكلّ وجود يبتدأ بهم، ثم ينقسم على سائر الخلق، ففي الصلاة عليهم استجلاب الرحمة الى معدنها.

فقد صرّح في أوائل البحار بمثل ذلك، و أنه قد ثبت في الاخبار كونهم علة غائيّة لجميع المخلوقات، و أنه لولاهم لما خلق اللّه الأفلاك و غيرها ... الى أن قال:

فالحاصل انّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليهم السّلام الوسائل بين الخلق و بين الحقّ في افاضة جميع الرحمات و العلوم و الكمالات ....

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 588

إيراد كلام لدفع أوهام

و كانّي بصائل يصول و يقول هذه كلّها من مقالات الغالين المنحرفين عن الدين المبين، الهالكين في مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام كما

قال عليه السّلام: قد هلك فيّ رجلان محبّ غال و مبغض قال «1».

و ذلك لأن هذه كلها شؤون الربوبيّة و خواصّ الألوهيّة، و كيف ينسب تدبير نظام العالم إلى المستحدث من النّسم، و الموجود بعد العدم، الذي ليس له حظّ من القدم، و هل هذا إلّا الشرك في خلّاق العالم، أول القول بالتفويض الّذي اطبق على عناده كافّة الأمم.

و الاخبار الدالّة على إثبات بعض هذه الشؤون لهم يجب إطراحها أو تأويلها لشذوذها في نفسها، و ضعف أسانيد أكثرها، و مخالفتها للأخبار الصحيحة الصّريحة المعتبرة، بل للآيات المحكمة القرآنية.

كقوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ «2».

و قوله: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «3».

و قوله: اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ «4».

و قوله:

______________________________

(1)

في بحار الأنوار: ج 25/ 285 عن المناقب

ج 1 ص 227: يهلك في اثنان: محب غال، و مبغض قال.

(2) فاطر: 3.

(3) لقمان: 11.

(4) العنكبوت: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 589

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «1».

و قوله: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ «2»، و قوله: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى «3»، و قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ «4».

و ما يدّعونه هؤلاء من أنّ هذه الشؤون منهم لمّا كانت باذنه سبحانه فكأنّها وقعت منه فلا تنافيه الآيات.

مدفوع بصريح

قول مولينا الصادق عليه السّلام: إنّ من زعم أنّا خالقون بأمر اللّه فقد كفر «5».

بل ذكر الصدوق وفاقا لشيخه ابن الوليد «6»: أنّ أوّل مرتبة الغلوّ نفي السهو عن النبيّ و الأئمّة عليهم السّلام.

و ذهب الشيخ المفيد و السيّد المرتضى و العلّامة و غيرهم من أجلّة الإماميّة إلى بطلان القول بسبق خلق الأرواح على الأبدان.

مع أنّ القول باستناد تلك الشؤون إليهم و وساطتهم لها من بدو العالم لا يتمّ الّا على القول بالسبق ضرورة حدوث أبدانهم الشريفة في آخر الزمان، فكيف تكون أرواحهم الشريفة مخلوقة قبل ذلك، مدبّرة متصرّفة بإذن اللّه و لذا أنكروا عالم الذرّ،

______________________________

(1) الروم: 40.

(2) الرعد: 16.

(3) الروم: 8.

(4) الذاريات: 58.

(5) لم أظفر على مصدره و لكن في البحار ج 25/ 343، عن اعتقادات الصدوق أنّا أرباب فنحن منه براء، و من زعم أنّ إلينا الخلق و علينا الرزق فنحن براء منه.

(6) هو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، ثقة، ثقة، عين، عارف بالرجال له كتب، روى 71 رواية. و كان من

شيوخ الصدوق المتوفى (381) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 590

حتّى قال المفيد في شرح اعتقادات الصدوق: إنّ القول به من مذاهب أصحاب التناسخ، و منهم من دخلت الشبهة على حشوية الشيعة فتوهّموا أنّ الذوات الفعّالة المأمورة المتهيّة كانت مخلوقة في الذرّة و تتعارف و تتعقل و تفهم و تنطق ثمّ خلق اللّه لها أجسادا بعد ذلك فركبها فيها، و لو كانت ذلك كذلك لكنّا نعرف نحن ما كنّا عليه و إذا ذكرناه به ذكرناه.

إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه حسبما تسمع حكايته عند قوله: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «1».

و الجواب عن ذلك و عن القدح فيما ينسب إليهم من علم الغيب و غيره من غرائب الأحوال و عجائب الأفعال أنّ هاهنا مقامين لتقرير الإشكال:

أحدهما أنّ هذه المراتب و الشؤون بجميع معانيها أو على الوجوه المرادة منها ليست من المراتب الإمكانية الّتي أمكن اتّصاف أحد من المخلوقين بها بل كلّها من الشؤون الإلهية الّتي تفرد بها خالق الملك و الملكوت و مشاركة غيره تعالى له فيها شرك صريح مردود بحكم المعقول و الأثر المنقول.

و ثانيهما أنّها مراتب إمكانية ممكنة في حقّ الممكنات إلّا انّه لا دليل على ثبوتها للائمّة عليهم السّلام، و الأخبار الدالة عليه أحاد ليست بحجّة مطلقا سلّمنا لكن حجّيتها مقصورة على الفروع لا مثل هذه المسائل الّتي من الأصول أو من فروع الأصول دون الفروع، سلّمنا لكنها فاقدة لشرائط الحجّية من صحّة السند و قوّة الدلالة و الاستناد بالعمل و غيرها أو واجدة لموانعها كمخالفة الكتاب و وجود المعارض الأقوى، و إعراض الاصحاب عن العمل بها.

امّا المقام الأوّل فالكلام فيه طويل عريض و حاصله أن هذه الشؤون

______________________________

(1) الأعراف: 172.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 591

و الأحوال بل كلّ فعل من الأفعال إذا نسب إليهم أو غيرهم على وجه الاستقلال بان يكون الفعل منهم بحولهم و قوّتهم من دون إفاضة و تأثير من اللّه تعالى أصلا، أو مع ابتدائيّة إنشائيّة لا مستمرّة متجدّدة سيّالة أو من اللّه و عبده على سبيل اشتراك كلّ منهما للآخر على وجه الثابت له، فهذه الوجوه الثلاثة كلّها كفر صريح مخالفة للعقل الصحيح، و نحن برآء من الذين يدينون اللّه بها و يعتقدونها في حقّ أحد من المخلوق.

و عليه يحمل الاخبار الدالّة على شرك القائل بالتفويض

كالمرويّ في الإحتجاج عن ابى الحسن الرضا عليه السّلام من زعم أنّ اللّه يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر، و من زعم أنّ اللّه فوّض أمر الخلايق و الرزق إلى حججه عليهم السّلام فقد قال بالتفويض، و القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك «1».

بل الحقّ أنّ القول باستغناء الباقي في بقائه عن المؤثّر و أنّ الموجد للشي ء مبق له بنفس الإيجاد من دون إفاضة متجدّدة مستمرّة راجع إلى الوجوه المتقدمة الموجبة للشرك و انثلام التوحيد، و إن ذهب إليه بعض علماء الإسلام، بل ربما مال إليه بعض مشايخنا العظام، غفلة عن حقيقة الحال، و نحن لا نقول بثبوت شي ء من تلك الشؤون على شي ء من هذه الوجوه، بل المراد أنّهم عبيد مربوبون محتاجون مفتقرون، بحيث قد فاق فقرهم على فقر العالمين لأنّ الخلق كلّهم عيال لهم و لذا

قال مولينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الفقر فخرى و به أفتخر على الأنبياء قبلي «2».

لكن اللّه تعالى قد اصطفاهم و فضّلهم على جميع الخلق أجمعين و اختارهم

على علم على العالمين، فجعلهم أبوابه و سبله و حملة فيضه، و ترجمان وحيه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 25/ 328- 329 عن عيون أخبار الرضا عليه السّلام ص 70.

(2) عوالي اللآلى ج 1/ 39 ح 38.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 592

و بالجملة التوسط في الفيوض التكوينية و التشريعية غير مستنكر في الشريعة بل ربّما توجبه الحكمة الربانية، و عليه جرت السنّة الالهيّة في التشريع، فأرسل أنبياء و جعل لهم أوصياء و خلفاء، و جعل بين الناس و بين القرى المباركة قرى ظاهرة في كينونات الأشياء أيضا فخلق لكلّ شي ء شيئا فأضاء بالشمس، و أنار بالقمر، و سخّن بالنار، و برد بالماء، و وكل بكلّ شي ء ملائكة يحفظونه بأمر اللّه، بل وكل بالشئون الأربعة الّتي هي أركان عرش التكوين الملئكة الاربعة المقربين، كما ورد في كثير من الأخبار و الأدعية، و وكل بخلق المولود و تصويره ملكين خلّاقين يقتحمان رحم المرئة، فيقولان يا ربّ نخلقه ذكرا أم أنثى، سعيدا أم شقيا، مليحا أم قبيحا، و وكل بالامانة و قبض الأرواح ملئكة هم أعوان للملك الجليل عزرائيل بإذن الرب الجليل، و لذا نسب القبض و التوفّى في صريح القرآن إليه و إلى كلّ منهما، و

قد أجاب مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام عن الزنديق المدعى للتناقض في آي من القرآن كقوله: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «2»، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «3»، حيث إنّه تعالى يجعل الفعل مرّة لنفسه، و مرّة لملك الموت، و مرّة للملائكة بقوله عليه السّلام: ان اللّه أجل و أعظم من ان يتولى ذلك بنفسه و فعل رسله و ملئكة فعله لأنهم بامره يعملون فاصطفى جلّ ذكره من

الملئكة رسلا و سفرة بينه و بين خلقه و هم الذين قال اللّه فيهم: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ «4» فمن كان من أهل الطاعة تولّت قبض روحه ملئكة الرحمة، و من كان من أهل المعصية تولّى قبض روحه ملائكة النعمة.

______________________________

(1) السجدة: 14.

(2) الزمر: 42.

(3) النحل: 28.

(4) الحجّ: 75. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 593

و لملك الموت أعوان من ملئكة الرحمة و النقمة يصدرون عن أمره، و فعلهم فعله، و كلّ ما يأتونه منسوب اليه، و إذا كان فعلهم فعل ملك الموت، و فعل ملك الموت فعل اللّه لأنّه يتوفّى الأنفس على يد من يشاء و يعطى و يمنع و يثيب، و يعاقب على يد من يشاء و إنّ فعل امنائه فعله كما قال تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1». «2» إلى أن قال عليه السّلام.

و امّا ما أراك من الخطاب بالانفراد مرّة و بالجمع اخرى، من صفة الباري جلّ ذكره فان اللّه على ما وصف به نفسه بالانفراد و الوحدانية هو النور الأزلي القديم الذي ليس كمثله شي ء لا يتغير، و يحكم ما يشاء و يختار و لا معقب لحكمه، و لا رادّ لقضائه، و لا ما خلق زاد في ملكه و عزّه و لا نقص منه عالم يخلقه، و انّما أراد بالخلق إظهار قدرته و إبداء سلطانه، و تبين براهين حكمته، فخلق ما شاء كما شاء، و أجرى فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى من امنائه، و كان فعلهم فعله، و أمرهم امره كما قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «3». تفسير الصراط المستقيم ج 3 629

و جعل السماء و الأرض و وعاء لمن شاء

من خلقه ليميّز الخبيث من الطّيب، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها، و ليجعل ذلك مثالا لأوليائه و امنائه، و عرّف الخليقة فضل منزلة أوليائه، و فرض عليهم من طاعتهم مثل الذي فرضه منها لنفسه، و ألزمهم الحجّة بأن خاطبهم خطابا يدلّ على انفراده و توحده و بأنّ له أولياء تجري أفعالهم و أحكامهم مجرى فعله، فهم العباد المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون، و هم الذين ايّدهم بروح منه، و عرّف الخلق اقتدارهم على علم الغيب، بقوله:

______________________________

(1) الإنسان: 30- التكوير: 29.

(2) بحار الأنوار: ج 93/ 108- 109 عن الإحتجاج.

(3) النساء: 80. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 594

عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1» و هم النعيم الذي يسئل العباد عنه، لان اللّه أنعم بهم على من اتّبعهم من أوليائهم.

قال السائل: من هؤلاء الحجج؟ قال علىّ عليه السّلام: هم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من حلّ محلّه من أصفيائه اللّه الذين قرنهم اللّه بنفسه و برسوله، و فرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه و هم ولاة الأمر الذين قال اللّه فيهم:

أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «2»، و قال فيهم: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «3».

قال السائل ما ذاك الأمر؟ قال علىّ عليه السّلام: الّذى به تنزّل الملئكة في الليلة الّتي يفرق فيها كلّ امر حكيم من خلق و رزق، و أجل و عمل و حيوة و موت، و علم غيب السموات و الأرض، و المعجزات الّتي لا ينبغي إلّا للّه و أصفيائه و

السفرة بينه و بين خلقه، و هم وجه اللّه الذي قال: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «4».

هم بقيّة اللّه يعنى المهدي الذي يأتى عند انقضاء هذه النظرة، فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما.

و من آياته الغيبة و الاكتتام عند عموم الطغيان و حلول الانتقام، و لو كان هذا الأمر الذي عرفتك نبأه للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون غيره لكان الخطاب يدلّ على فعل ماض غير دائم لا مستقبل، و لقال نزّلت الملئكة و فرّق كلّ أمر حكيم، و لم يقل: تنزّل الملئكة و يفرق كلّ أمر حكيم، الخبر بطوله «5».

______________________________

(1) الجنّ: 26.

(2) النساء: 59.

(3) النساء: 83.

(4) البقرة: 115.

(5) بحار الأنوار: ج 93 باب ردّ التناقض في القرآن ص 98- 119.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 595

و انما زيّنا المقام بنقل كثير منه لاشتماله على فوائد مهمّة في المقام و غيره كالبيّنة على أنّ ضمائر الجمع في كثير من ايات القرآن لاقتران أوليائه بنفسه في تلك الشؤون مع كونه سبحانه على توحده و انفراده.

و لذا قال مولينا المجلسي رحمه اللّه بعد ذكر ما ورد في تفسير قوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ «1»، من الأخبار الدالّة على أنّ المراد بضمير الجمع هو النبي و الائمّة عليهم السّلام: هذا تأويل ظاهر شايع في كلام العرب جار في كثير من الآيات إذ عادة السلاطين و الأمراء جارية بأن ينسبوا ما يقع من خدمهم بأمرهم إلى أنفسهم مجازا، بل أكثر الآيات الّتي وردت بصيغة الجمع و ضميره كذلك كما لا يخفى على المتتبع. انتهى كلامه زيد مقامه «2».

و كالتصريح بأنّهم عليهم السّلام ولاة الأمر حسب ما فسّر به الآيتين

«3» بل صرّح بانّ ذلك الأمر الذي هم ولاته هو من جملة الأمور التكوينية من خلق و رزق و أجل و عمل إلى آخر ما ذكره.

بل فسر بهما الأمر في قوله: كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا «4» و العمل في قوله: وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «5» كما اليه الإشارة في الخطبة الاميرية الغديرية.

و بالجملة المتوسط في مثل تلك الشؤون على الوجه الذي سمعت ليس غلوّا فيهم، و لا اثباتا للصفات الربوبيّة المطلقة الالهية لهم، و

قد قال مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام على ما يحكى عن بعض الأصول: نحن اسرار اللّه المودعة في الهيا

______________________________

(1) الغاشية: 25.

(2)

ج 24/ 268 و من الأخبار الدالّة ما رواه الكليني في الكافي ج 8/ 162 ح 167 عن الكاظم عليه السّلام: إلينا إياب هذا الخلق و علينا حسابهم ...

(3) المراد بهما آية (59) و آية (83) من النساء.

(4) الدخان: 4- 5.

(5) الأنبياء: 27. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 596

كل البشرية، يا سلمان نزّلونا عن الربوبيّة و ادفعوا عنا حظوظ البشريّة، فانا عنها مبعدون، و ممّا يجوز عليكم منزّهون، ثمّ قولوا فينا ما استطعتم فإنّ البحر لا ينزف، و سرّ الغيب لا يعرف، و كلمة اللّه لا توصف، و من قال هناك لم و بم و ممّ فقد كفر «1».

و

قال مولينا الصادق عليه السّلام على ما رواه في البصائر و غيره: اجعلوا لنا ربّا نؤب إليه و قولوا فينا ما شئتم و لن تبلغوا فقال له السائل نقول ما شئنا قال عليه السّلام و عسى أن نقول: و اللّه ما خرج إليكم من علمنا إلّا الف غير معطوفة.

قال المجلسي رحمه اللّه: ألف غير معطوفة أى نصف حرف كناية عن نهاية القلّة

فان الالف بالخطّ الكوفي نصفه مستقيم و نصفه معطوف هكذا «ل» و قيل: أى الف ليس بعده شي ء، و قيل: ألف ليس قبله صفراى باب واحد ثمّ قال: و الاول هو الصّواب و المسموع من اولى الألباب «2».

قلت: و

قد ذكر السيّد السند رحمه اللّه في شرح الخطبة قال: و قد روى الكليني في الكافي ما معناه انّه قيل للصادق عليه السّلام: إنّ ما علّمه النبي عليّا من الأبواب الّتي ينفتح من كلّ باب ألف باب هل ظهرت لشيعتكم كلّها؟ قال عليه السّلام: ما ظهر منها باب أو بابان، قال فما ظهر من فضلكم لشيعتك إلّا باب أو بابان؟ قال: و ما عسى أن يظهر لكم، و اللّه ما ظهر لكم من فضلنا إلّا ألف غير معطوفة «3».

______________________________

(1) مشارق الأنوار ص 69- 70 مثله بتفاوت.

(2) بحار الأنوار: ج 25/ 283 مع تفاوت يسير عن بصائر الدرجات ص 149.

(3) ذكر المصنف هذا الحديث بالمعنى و نحن نذكره هنا بالنص تيمنا و تبركا،

ففي الكافي 1/ 297 عن يونس بن رباط قال: «دخلت أنا و كامل التمار على ابى عبد اللّه عليه السّلام فقال له كامل: جعلت فداك حديث رواه فلان فقال: أذكره، فقال: حدثني أن النبي صلّى اللّه عليه و آله حدّث عليا عليه السّلام بألف باب يوم توفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كل باب يفتح الف باب فذاك ألف ألف باب، فقال: لقد كان ذلك، قلت: جعلت فداك، فظهر ذلك لشيعتكم و مواليكم؟ فقال: يا كامل باب تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 597

ثمّ قال رحمه اللّه: إن المعاني و الدلالات كلّها انما تحصل بالحروف و تأليفها و ترتيبها على نظم معيّن، و الحروف تحصل

من انعطاف الالف اللّينية إلى الأطوار و الأحوال الثمانية و العشرين فقبل انعطاف الالف لم تظهر الحروف، فضلا عن ظهور المعاني المختلفة المتعدّدة الغير المتناهية فالالف الغير المعطوفة من حيث هي ليس فيها شي ء أصلا من المعاني الّتي تظهر بالحروف.

أقول: و لعلّ التّعبير حينئذ بالألف الغير المعطوفة إشارة إلى عدم ظهور شي ء من حقائقهم و معاني ذواتهم، و معرفة كينوناتهم، و مراتبهم عند اللّه تعالى لأحد من شيعتهم، فضلا عن غيرهم.

و

في حديث معرفتهم بالنورانية: إنّ المؤمن الممتحن هو الذي لا يرد من أمرنا اليه شي ء إلّا شرح صدره و لم يشكّ و لم يرتدد «1»، اعلم يا أبا ذر انا عبد اللّه عزّ و جلّ و خليفته على عباده لا تجعلونا أربابا و قولوا ما شئتم في فضلنا فإنّكم لا تبلغون كنه ما فينا و لا نهايته فانّ اللّه عزّ و جلّ قد أعطانا أكبر و أعظم عمّا يصفه و أصفكم أو يخطر على قلب أحدكم فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون «2».

و

في الاحتجاج و تفسير الامام عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم و لن تبلغوا و إياكم و الغلوّ كغلو النصارى فانى برى ء من الغالين «3».

و فيه اشارة إلى معنى الغلوّ المنهي عنه فيهم، و انه ما قيل فيهم من الصفات

______________________________

أو بابان؟ فقلت: جعلت فداك، فما يروى من فضلكم من الف الف باب الّا باب أو بابان؟ قال:

فقال: و ما عسيتم أن ترووا من فضلنا ما تروون من فضلنا الّا ألفا غير معطوفة».

(1) و في البحار: و لم يرتب.

(2) بحار الأنوار: ج 26/ 2 عن والده.

(3) البحار: ج 25/ 274 ح 20 عن تفسير الامام عليه

السّلام ص 18 و الاحتجاج للطبرسي ص 242.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 598

الإمكانية الّتي تساوق العبوديّة فليس غلوّا في شي ء، و لذا بيّن الغلو بتشبيهه بغلوّ النصارى القائلين بالحلول و الاتّحاد و التثليث و إضافة النبوّة إلى النبوّة، و ذلك لقصور أنظارهم و ضيق صدورهم عن ملاحظة ما منّ اللّه تعالى على أوليائه من التّصرف في الملك و الملكوت مع أنّ الأمر كله بيده سبحانه وحده لا شريك له حسب ما سمعت.

و من هنا يعلم أنّ الأخبار الناهية عن الغلوّ محمولة على المعاني الثلاثة المتقدّمة كما هو معلوم من حال عبد اللّه بن سبا «1» اوّل الغلاة المذكور حاله في الرجال.

و

في بصائر الدرجات و كتاب الدلائل للحميري عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي ابو عبد اللّه عليه السّلام: يا إسماعيل ضع لي للمتوضّا ماء قال: فقمت فوضعت له فدخل فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا و كذا و يدخل المتوّضا و يتوضّأ.

قال فلم يلبث أن خرج، فقال: يا اسمعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم اجعلونا مخلوقين و قولوا فينا ما شئتم و لن تبلغوا، فقال إسمعيل و كنت أقول إنّه هو و أقول و أقول «2».

أقول: قيل: المراد انّه الربّ تعالى اللّه عن ذلك، و أقول أي لم أرجع بعد عن هذا القول، أو المعنى كنت مصرّا على هذا القول.

و

في حديث الأربعمائة عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام: إيّاكم و الغلوّ فينا فإنّا

______________________________

(1) قال المحدّث القمى قدّس سرّه في سفينة البحار ج 6 ص 68: عبد اللّه بن سبأ غال ملعون استهواه الشيطان و كان يأتيه و يلقى في روعه ما اعتقده من الباطل فكان يدّعى النبوة و أنّ أمير المؤمنين

هو اللّه تعالى فحبسه أمير المؤمنين عليه السّلام و استتابه فلم يتب فأحرقه بالنار.

(2) بحار الأنوار: ج 25/ 279 ح 22 عن بصائر الدرجات ص 64. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 599

عباد مربوبون و قولوا في فضلنا ما شئتم «1».

بل يستفاد من تتبع مذاهب الغلاة حسب ما نشير إليها في تفسير غير المغضوب عليهم: أنّ مساق الأخبار الرادّة عليهم ما سمعت من الحلول و الاتحاد و الالوهية و النبوة و غيرها ممّا يأتى اليه الاشارة و لذا

شبّه مولينا أبو محمد العسكري عليه السّلام على ما في تفسيره و في الإحتجاج بما يحكى عن قصورهم حيث قال راويا عن جدّه الرضا عليه السّلام انّهم كانوا كطلاب ملك من ملوك الدنيا ينتجعون فضله، و يأملون نائله، و يرجون التفيّؤ بظله، و الانتعاش بمعروفه، و الانقلاب إلى أهلهم بجزيل عطائه الذي يعينهم على طلب الدنيا، و ينقذهم من التعرّض لدني المكاسب و جنس المطالب، فبيناهم يسئلون عن طريق الملك ليترصّدوه و قد وجّهوا الرغبة نحوه و تعلقت قلوبهم برؤيته، إذ قيل سيطلع عليكم في جيوشه و مراكبه و خيله و رجله، فاذا رأيتموه فأعطوا من التعظيم حقّه، و من الإقرار بالمملكة واجبه، و إياكم أن تسمّوا باسمه غيره، أو تعظّموا سواه كتعظيمه فتكونوا قد بخستم الملك حقه و أزريتم عليه، و استحققتم بذلك منه عظيم عقوبته فقالوا نحن كذلك فاعلون جهدنا و طاقتنا فما لبثوا أن طلع عليهم بعض عبيد الملك في خيل قد ضمّها إليه سيّده و رجل قد جعلهم في جملته، و أحوال قد حباه بها، فنظر هؤلاء و هم للملك طالبون و استكثروا ما رأوه بهذا العبد من نعم سيّده، و رفعوه عن أن يكون

من هو المنعم عليه بما وجدوا معه عبدا، فأقبلوا يحيّونه تحيّة الملك، و يسمّونه باسمه، و يجحدون أن يكون فوقه ملك، أوله مالك.

فأقبل عليهم العبد المنعم عليه و سائر جنوده بالزجر و النهى عن ذلك و البرائة مما يسمّونه به، و يخبرونهم بأن الملك هو الذي أنعم عليه بهذا و اختصّه به.

______________________________

(1) الخصال: ج 2/ 37 و عنه البحار: ج 25/ 270. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 600

و ان قولكم ما تقولون يوجب عليكم سخط الملك و عذابه و يفوتكم كلّ ما أملتموه من جهته و اقبل هؤلاء القوم يكذبونهم و يزدري عليهم قولهم فما ذاك كذلك حتى غضب عليهم الملك لما وجد هؤلاء قد ساووا به عبده و أزروا عليه في مملكته و بخسوه حقّ تعظيمه فحشرهم أجمعين إلى حبسه، و وكل بهم من يسومهم سوء العذاب، فكذلك هؤلاء وجدوا أمير المؤمنين عليه السّلام عبدا أكرمه اللّه ليبيّن فضله و يقيم حجته فصغّروا عندهم خالقهم ان يكون جعل عليّا له عبدا و كبّروا عليّا من أن يكون اللّه تعالى له ربا فسمّوا بغير اسمه فنهاهم هو و أتباعه من أهل ملّته و شيعته و قالوا لهم يا هؤلاء إنّ عليّا و ولده عباد مكرمون مخلوقون مدبّرون لا يقدرون إلّا ما أقدرهم عليه اللّه ربّ العالمين، و لا يملكون إلّا ما ملّكهم اللّه، و لا يملكون موتا و لا حيوة و لا نشورا و لا قبضا و لا بسطا و لا حركة و لا سكونا إلّا ما أقدرهم عليه و طوّقهم و أنّ ربهم و خالقهم يجلّ عن صفات المحدثين و يتعالى عن نعوت المخلوقين، و أنّ من اتّخذهم أو واحدا منهم أربابا من دون

اللّه فهو من الكافرين، و قد ضلّوا سواء السبيل، فأبى القوم إلّا جماها، و امتدّوا في طغيانهم يعمهون، فبطلت أمانيّهم و خابت مطالبهم، و بقوا في العذاب الأليم «1».

و بالجملة ان كون الشؤون المذكورة على الوجه المتقدم من المراتب الإمكانية الّتي يجب تنزيه الواجب عنها و يمكن اتّصاف بعض الممكنات بها ممّا لا ريب فيه و لا شبهة يعتريه و لعلّ تطويل الكلام فيه من الاشتغال بالواضحات.

و ما أحسن ما ذكره شيخ فلاسفة الإسلام من انّه كلّ ما لم يقم على امتناعه صحيح البرهان فذروه في بقعة الإمكان.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 25/ 277- 278 عن احتجاج الطبرسي ص 242 و تفسير الامام عليه السّلام ص 18- 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 601

و امّا المقام الثاني فلعلّ الخطب فيه سهل بعد التدبّر في الآيات المفسرة عن أهل البيت عليه السّلام إن لم تكن على قلوب أقفالها و كذا بملاحظة الأخبار المتواترة المذكورة في مواضع شتّى بل يستفاد ذلك أيضا من بعض الخطب و الأدعية و الزيارات المأثورة عنهم عليهم السّلام.

ففي الخطبة الأميرية الغديرية: و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، استخلصه في القدم على ساير الأمم على علم منه به انفرد عن التشاكل و التماثل من أبناء الجنس انتجبه و آمرا و ناهيا عنه، أقامه في ساير عالمه في الأداء مقامه إلى قوله:

و اختصّه من تكرمته بما لم يلحقه فيه أحد من بريّته، فهو أهل ذلك لخاصته و خلّته، إذ لا يختصّ من يشوبه التغيير و لا يخالل «1» من يلحقه التظنين، و انّ اللّه اختصّ لنفسه من بعد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة علّاهم بتعليته، و سما بهم إلى رتبته، و جعلهم الدعاة

بالحق إليه، و الأدلّاء بالإرشاد عليه، لقرن قرن، و زمن زمن، أنشأهم في القدم قبل كلّ مذروء و مبروء، أنوارا أنطقها بتحميده، و ألهمها بشكره و تمجيده، و جعلها الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبيّة و سلطان العبودية، و استنطق بها الخرسان بأنواع اللغات بخوعا «2» له بأنّه فاطر الأرضين و السموات، و أشهدهم خلق خلقه، و ولّاهم ما شاء من أمره، و جعلهم تراجم مشيّة، و ألسن إرادته، و عبيدا لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون.

الخطبة رواها الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد في متهجّده

و فيها وجوه من الدلالة لا تخفى على من تأمّلها و

روى أيضا التوقيع الخارج من الناحية المقدسة المشتمل على قوله: و مقامك الّتي لا تفصيل لها في كلّ مكان يعرفك بها من عرفك،

______________________________

(1) يخالله: يصادقه و يتّخذه خليلا.

(2) بخع له بخوعا: أقرّ له إقرار المذعن. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 602

لا فرق بينك و بينها إلّا أنّهم عبادك و خلقك فتقها و رتقها بيدك بدؤها منك و وجودها إليك أعضاء و أشهاد و مناة و أزواد و حفظة و روّاد فبهم ملات سماءك و أرضك حتّى ظهران لا اله الّا أنت «1». الدعاء.

و ستسمع تمام الكلام في تفسير هذه الكلمات الشريفة النورانية عند تفسير قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً «2».

و

في الكافي في باب نوادر التوحيد عن مولينا الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه خلقنا فأحسن خلقنا، و صوّرنا فأحسن صورنا، و جعلنا عينه في عباده، و لسانه الناطق في خلقه، و يده المبسوطة على عباده بالرأفة و الرحمة، و وجهه الذي يؤتى منه، و بابه

الّذي يدلّ عليه، و خزانته في أرضه، بنا أثمرت الأشجار، و أينعت الثمار، و جرت الأنهار، و بنا ينزل غيث السماء، و نبت عشب الأرض، و بعبادتنا عبد اللّه و لو لا نحن ما عبد اللّه «3».

و

فيه في باب مولد النّبي صلّى اللّه عليه و آله بالإسناد عن محمد بن سنان قال: كنت عند ابى جعفر الثاني عليه السّلام فأجريت اختلاف الشيعة فقال يا محمد إن اللّه تبارك و تعالى لم يزل متفرّدا بوحدانيته ثم خلق محمّدا و عليّا و فاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها و أجرى طاعتهم عليها، و فوّض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤن، و يحرّمون ما يشاؤن، و لن يشاءوا إلّا أن يشاء اللّه تبارك و تعالى ثمّ قال يا محمد هذه الديانة الّتي من تقدّمها مرق، و من تخلّف عنها محق، و من لزمها لحق،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 98/ 392- 393.

(2) الكهف: 51.

(3) بحار الأنوار: ج 24/ 197 ح 24- و ج 25 ص 5 ح 7. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 603

خذها إليك يا محمّد «1».

و مثله في الاختصاص عنه عليه السّلام «2».

و

في الخرائج عن مولينا الصادق عليه السّلام انه قال لداود الرقّى يا داود لو لا اسمى و روحي لما أطردت الأنهار و لا أينعت الثمار و لا اخضرت الأشجار «3».

و قد مرّ في مواضع من هذا التفسير بعض الأخبار الدالّة على هذا المرام، و سيأتى جملة مقنعة منها أيضا فيما يأتى من الكلام، فان تطويل الكلام بذكر الاخبار يخرجنا عمّا نحن بصدده من الإيجاز و الاختصار.

و الإنصاف أنّ من كان مأنوسا مطلعا على الآثار المأثورة في هذه الشريعة الحقّة النبويّة المصطفوية على

صادعها ألف صلوة و سلام و تحيّة يحصل له العلم اليقيني البرهاني بل الشهودى العيانى أولا باستحقاق مولينا أمير المؤمنين و ذرّيته الطّيبين صلوات اللّه عليهم أجمعين للخلافة الحقّة و الوصاية المطلقة الاتصاليّة، و ثانيا بثبوت تلك الفضائل و المقامات و المراتب الّتي رتّبهم اللّه تعالى فيها حسب ما وقع التصريح بها في الأخبار المتواترة الّتي تصدّى لجمعها علماؤنا الأعلام رفع اللّه أقدارهم في دار السلام و كفاك في ذلك التدبر في الزيارة الجامعة الكبيرة فانّها بحر الأنوار، و مخزن كنوز الأسرار، و هو الكتاب الناطق بمفاخر الائمّة الأطهار.

و المناقشة بضعف السند أو الدلالة في هذه الأخبار ضعيفة جدّا بعد تتبّعها و الاطلّاع بها و قوّة دلالتها و تكرّرها في الأصول و تلقّيها بالقبول عن كثير من الفحول، و موافقتها لحكم الأفئدة و القبول.

و من التعجب أنّ كثيرا ممّن أسئل اللّه العافية من الابتلاء بهم يتلقّى الزيارة

______________________________

(1) أصول الكافي ج 1 ص 440 و 441 و عنه البحار ج 25 ص 340 ح 24.

(2) الاختصاص ص 327 و عنه البحار ج 25 ص 339.

(3) بحار الأنوار: ج 47/ 100 ح 120.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 604

الجامعة و غيرها من الزيارات و الأدعية و الاخبار المشتملة على غرائب أحوالهم عليهم السّلام على وجه التسليم و القبول ثمّ إذا سمعوا منك شيئا من فضائلهم سلقوك بألسنة حداد، و قالوا: هذا غلوّ و إلحاد، و أعجب منه أنّي رأيت غير مرّة بعض الشعراء قد انشد القصائد الغراء في مدح بعض العلماء الأجلّاء، و ذكر فيها ان القدر نافذ بإذنك و القضاءها و بأمرك و غيره ممّا يساوق هذا المعنى فقرأها عليهم في محضرهم فسكتوا عنه بل اطروا في

الثناء عليه، و أحضروا الجوائز بين يديه، و إذا سمعوه في حقّ مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام زعموا العالي غاليا و القالي مواليا فبادروا في الإنكار عليك أو همّوا و حسبوا أن لا تكون فتنة فعموا و صمّوا، و ممّا يحضرني الآن من الأشعار الّتي أنشدوها في مدح هؤلاء الفضلاء هذا:

دست تو رازق است و ضمير تو غيب دان بى دعوى خدائى و لاف پيغمبرى

فان قلت: إنّ الوساطة و البابيّة في مثل الشؤون المتقدّمة و ان كانت ثابتة لهم للأخبار و غيرها الّا أنّ ذلك لا يسمّى خلقا و رزقا، و لا فاعله خالقا و رازقا ضرورة عدم استقلاله في شي ء من ذلك، و من البيّن اعتبار الاستقلال و التأصّل في مفهوم اللفظين و غيرهما يأبى عن صدقه على غيره سبحانه.

قلت: مع الغضّ عن رجوع ذلك إلى الوضع اللفظي الذي لا ينبغي البحث فيه لا ريب في إطلاق الخلق و الرزق في حقّ غيره سبحانه في الآيات و غيرها كخلق المسيح، و السامرىّ، و الملكين الخلّاقين، و حسبك في ذلك ملاحظة التفضيل المثبت للشركة في قوله: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» سيّما بعد ما

ورد في تفسيره عن مولينا الرضا عليه السّلام أنّه سئل أو غير الخالق الجليل خالق؟ فقال: إنّ اللّه

______________________________

(1) المؤمنون: 14. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 605

تعالى قال: أحسن الخالقين، و قد أخبر أنّ في عباده خالقين و غير خالقين، منهم عيسى بن مريم خلق لهم من الطّين كهيئة الطّير بإذن اللّه، و السامرىّ خلق لهم عجلا جسدا له خوار «1».

بل

روى النعماني عن مولينا الصادق عليه السّلام أنّه سئل أمير المؤمنين عن متشابه الخلق فقال عليه السّلام: هو على ثلاثة أوجه:

فمنه خلق الاختراع كقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ «2».

و خلق الاستحالة كقوله: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ «3»، و قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ «4».

و خلق التقدير كقول اللّه تعالى لنبيّه عيسى على نبيّنا و آله و عليه السلام:

وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ «5». «6»

و قد سمعت أنّ نسبة الخالقيّة و غيرها اليه سبحانه و الى عباده المكرمين و ملائكته المقرّبين على وجوه مختلفة، و إن كانت من جهات اخرى غير مذكورة في الخبر فإنّ المراد الإشارة إلى نوع الاختلاف، و من هنا و غيره ممّا مرّ يظهر الجواب عن الاستدلال بالآيات الدالّة على نسبة الخالقيّة اليه سبحانه دون غيره، فإنّ فعل عبيده فعله، لأنّهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون، كما أجاب به مولينا أمير المؤمنين في خبر سؤال الزنديق المتقدم ذكره.

بل لمّا اندكت جبل انيّاتهم من أشعّة تجليّات العظمة و الجلال، و أشرقت على

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4/ 147- 148.

(2) الأعراف: 53، يونس: 3، هود: 57، الحديد: 4.

(3) الزمر: 6.

(4) غافر: 67.

(5) المائدة: 110.

(6) بحار الأنوار: ج 60/ 333 عن النعماني.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 606

حقائقهم القدسيّة في مقام الوصال عند انتهاء قوس الإقبال أنوار الكمال و الجمال كانت قلوبهم أوعية لمشية اللّه الّتي هي أصل صفات الأفعال.

و لذا

روى في الخرائج عن مولينا القائم المهدي عجّل اللّه فرجه و سهّل مخرجه و أوسع منهجه أنّه سئل عن المفوّضة فقال عليه السّلام: كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة اللّه عز و جلّ فاذا شاء شئنا. ثمّ تلا قوله تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1». «2»

فتدبّر في اشتمال هذا الخبر على نوعي

التفويض اللذين أحدهما شرك و الآخر ايمان، حسب ما مرّ بيانه كى يظهر لك الجواب عمّا في السؤال أيضا من

قول مولينا الصادق عليه السّلام: من زعم أنّا خالقون.

و أمّا عدّ نفى السهو عنهم عليهم السّلام غلوّا فليس ببدع منهم بعد ما اشتهر من القميّين بل و بعض أئمّة الرجال أيضا كابن الغضايرى، و غيره من نسبة الراوي إلى الغلوّ و الارتفاع بمجرّد رواية بعض الأخبار الدالّة على ثبوت بعض المراتب و الفضائل للنّبي و الأئمّة عليهم السّلام، و لذا طعنوا في كثير من الرواة بذلك، بل رموا به كثيرا من خواصّ أصحابهم و ثقاتهم و بطانتهم كمحمّد بن سنان، و المعلى بن الخنيس، و المفضل بن عمر، و نصر بن صباح، و غيرهم من الاجلّة و المشايخ الذين قلّ من سلم من الطعن بذلك، و بغيره من المفاسد الذين هم منزّهون منه كما نبّه عليه المحقّق البهبهاني في تعليقاته الرجاليّة بل قال: إنّه نسب ابن طاووس، و الخواجة نصير الدين، و ابن فهد، و الشهيد الثاني، و شيخنا البهائى و جدّي العلّامة التقى المجلسي و غيرهم من الأجلّة إلى التصوّف، و غير خفيّ أنّ ضرر التصوّف إنّما هو فساد

______________________________

(1) الدهر: 30.

(2) بحار الأنوار: ج 25/ 337 عن غيبة الطوسي ص 160.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 607

الإعتقاد من القول بالحلول، أو الوحدة في الوجود، و الاتحاد أو فساد الأعمال كالأعمال المخالفة للشرع الّتي يرتكبها كثير من المتصوّفة في مقام الرياضة أو العبادة، و غير خفيّ على المطّلعين على أحوال هؤلاء الأجلّة أنّهم منزّهون عن كلا الفسادين قطعا، و نسب جدّى العالم الرباني محمد صالح المازندراني و غيره من الأجلّة إلى القول باشتراك اللفظ، و المحمدون

الثلاثة كابن الوليد إلى القول بتجويز السهو على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و نسب الصدوق بل و ابن الوليد منكر السهو إلى الغلوّ، و بالجملة أكثر الاجلّة ليسوا بخالصين عن أمثال ما أشرنا اليه.

أقول و للّه درّه قدس سرّه حيث شمر عن ساق الجدّ و الاجتهاد لدفع المطاعن الّتي قد حوا بها في كثير من رواة الأخبار و أصحاب الأئمّة الاطهار، حتّى انه أصلح كثيرا من الجراحات الواقعة عليهم من مطاعن الشيخ الحسين بن عبد اللّه الغضايرى الذي قيل لا يكاد يسلم جليل من قدحه و جرحه، و غيره من المشايخ سيّما القميين الذين لا ينبغي ان يقال فيهم بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله، و ذلك لأنّه كان ناشيا من شدّة ورعهم و احتياطهم في الدين و إن كان ذلك سببا للقدح في أخبار عديدة مستمرا الى مدّة مديدة سيّما مع تنويع الأخبار إلى أقسام الاربعة، و غيرها من الاصطلاحات الجديدة، و بالجملة الظاهر أنّ منشأ كلّ ذلك عدم استقرار المذهب و اختلاط أهله مع العامّة العمياء خذلهم اللّه، و شدّة التقيّة، و عموم البليّة و تشتّت المؤمنين في البلاد، و ظهور الفساد من أهل العناد، و اختلاط الأخبار، و عدم اجتماع الآثار الواردة في كلّ باب من الأبواب، و قصور كثير من الأنظار، و عدم تفرّغهم للتدبّر في الآيات و الأخبار.

و لذا صدرت من بعضهم جملة من المذاهب الفاسدة الّتي ربما قامت الضرورة

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 608

على عنادها في مثل هذه الأزمنة، كما نبّه عليه الشيخ سليمان «1» صاحب «المعراج» و غيره من الأجلّة فإنّ العلامة حكى في «الخلاصة» عن الشيخ أبى جعفر الطوسي قدّس

سرّه انه كان يذهب إلى مذاهب الوعيدية، و هو و شيخة المفيد إلى أنّه تعالى لا يقدر على غير مقدور العبد كما هو مذهب الجبائي «2» و السيّد المرتضى رضى اللّه عنه إلى مذهب البهشميّة من أن إرادته تعالى عرض لا في محلّ.

و الشيخ الجليل ابو سهل إسماعيل النوبختي «3» الى جواز اللذة العقلية عليه سبحانه، و انّ مهيته تعالى معلومة كوجوده، و ماهيّته الوجود المعلوم، و أنّ المخالفين يخرجون من النار و لا يدخلون الجنّة.

و محمّد بن ابى عبد اللّه الأسدي «4» إلى الجبر و التشبيه، و الصدوق، و شيخة ابن الوليد، و الطبرسي في مجمع البيان إلى جواز السهو على النبي عليه السّلام و غير ذلك ممّا يطول به الكلام.

و من ذلك ما مرّ في السؤال من إنكار عالم الذرات، بل إنكار سبق خلق الأرواح على الأبدان كما ذهب إليه الشيخ المفيد و السيّد المرتضى و غيرهما، لكن المتتبع المطلع على أخبار الأئمة الاطهار يعلم أنّ إثباتهما كان من ضروريات

______________________________

(1) هو الشيخ سليمان بن عبد اللّه بن على البحراني المتوفى (1121) ه و كتابه معراج أهل الكمال الى معرفة الرجال شرح لفهرست شيخ الطائفة لم يتمّ بل خرج منه حرف الألف و الباء و التاء فقط- الذريعة ج 21 ص 228.

(2) هو عبد السلام بن محمّد بن عبد الوهّاب أبو هاشم الجبّائى من شيوخ المعتزلة توفّي سنة (321) ه- معجم المؤلفين ج 5 ص 230.

(3) هو إسماعيل بن على بن إسحاق أبو سهل النوبختي المتكلم الامامى البغدادي المعاصر لأبى القاسم الحسين بن روح السفير للإمام عليه أفضل الصلاة و السلام.

(4) هو محمد بن أبى عبد اللّه جعفر بن محمد بن عون الأسدى

الرازي الامامى الثقة، روى عنه الكليني المتوفى (329) ه كثيرا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 609

مذهب الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و لذا قال شيخنا المجلسي بعد نقل جملة منها في جامعة بحار الأنوار و حكاية هذا القول عنهم أنّ طرح هذه الأخبار بأمثال تلك الدلائل الضعيفة و الوجوه السخيفة جرأة على اللّه و على أئمّة الدين، و لو تأمّلت فيما يدعوهم إلى ذلك من دلائلهم و ما يرد عليها من الاعتراضات الواردة لعرفت أنّ بأمثالها لا يمكن الاجتراء على طرح خبر واحد فكيف يمكن طرح تلك الاخبار الكثيرة الموافقة لظاهر الآية الكريمة بها و بأمثالها «1». انتهى.

على أنّ الشيخ المفيد مع غاية مبالغته في إنكار الأمرين لمّا لاحظ صحّة أخبار الباب و قوّة دلالتها ألجأه ذلك إلى أن قال: و الصحيح

من حديث الأشباح الرواية الّتي جاءت عن الثقات بان آدم عليه السّلام راى على العرش أشباحا فسئل اللّه تعالى عنها، فأوحى اليه أنّها أشباح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و فاطمة صلوات اللّه عليهم، و أغلمة أن لو لا الأشباح الّتي راها ما خلقه، و لا خلق سماء و لا أرضا.

و الوجه فيما أظهره اللّه تعالى من الأشباح و الصّور لآدم أن دلّه على تعظيمهم و تبجيلهم، و جعل ذلك إجلالا لهم، و مقدمة لما يفترضه من طاعتهم و دليلا على أن مصالح الدين و الدنيا لا تتم الّا بهم، و لم يكونوا في تلك الحال صورا مجيبة، و لا أرواحا ناطقة لكنها كانت على مثل صورهم في البشريّة يدلّ على ما يكونون عليه في المستقبل في الهيئة و النور الّذى جعله عليهم

يدلّ على نور الدين بهم و ضياء الحق بحججهم، و

قد روى أنّ أسماءهم كانت مكتوبة إذ ذاك على العرش و أنّ آدم عليه السّلام لمّا تاب إلى اللّه عز و جلّ و ناجاه بقبول توبته سئله بحقّهم عليه و محلّهم عنده

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 5/ 267. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 610

فأجابه.

و هذا غير منكر في العقول و لا مضادّ للشرع المنقول و قد رواه الصالحون الثقات المأمونون و سلّم لروايته طائفة الحق و لا طريق إلى إنكاره. «1» انتهى.

فانظر كيف اضطره صحّة الخبر إلى حمله على ما يقطع بفساده من له أدنى اطّلاع باخبار الباب، و ليت شعري ما المانع من حمل هذه الأخبار على ظواهرها؟

و ما الصارف عنها إلى مثل هذه المحامل، و لعلّ هذا كلّه ناش عن الاستيناس بأصول غير مؤسّسة كلامية عامية، و لذا ليس عندهم للإمام فضل على غيره من الأنام إلّا في قليل من العلوم المتعلّقة بالاحكام، و يتحاشون عن إثبات ما تقتضيه العصمة و الولاية في الأمور التشريعية، فضلا فتبعهم من ليس منهم غفلة عن حقيقة الحال، حتّى أنكروا كون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السّلام حجّة للّه على جميع ما خلق، مع أنّهم بهم فتح اللّه و بهم يختم، و بهم ينزل الغيث، و بهم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا باذنه، طأطأ كلّ شريف لشرفهم، و بخع كلّ متكبّر لفضلهم، و ذلّ كلّ شي ء لهم، و أشرقت الأرض بنورهم، و فاز الفائزون بولايتهم، و قد أخذ اللّه ميثاق ولايتهم على جميع الأنبياء و الأوصياء و الشهداء و الصدّيقين و الصالحين، و الملئكة المقربين، و الخليل لمّا عهدوا منه

الوفاء ألبسوه حلّة الاصطفاء، و روح القدس في الجنان الصاقورة ذاق من حدائقهم الباكورة، و بهم ابتلى من ابتلى من الأولين و الآخرين، و نجا من نجا و هلك من هلك، ما من مولود يولد و لا أحد يموت و يبعث إلّا بحضورهم و بابيتهم و وساطتهم و هم الحجج على العوالم لاثني عشر ألف عالم كلّ عالم أكبر من السموات و الأرض أو الألف ألف عالم و ألف ألف أدم، و لا يكون الحجّة على قوم إلّا من يعلّمهم و يشهدهم، فهم يد اللّه الباسطة، و قدرته القاهرة،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 5/ 262.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 611

و مشيّته النافذة، و عينه النّاظرة.

و لذا

قال الصادق عليه السّلام لليمنى الذي حضر مجلسه: إنّ عالم المدينة يسير في ساعة من النهار مسير ألف ألف سنة حتى يقطع الف عالم مثل عالمكم هذا «1».

و

قال ابو جعفر عليه السّلام لميسر الذي قال: قمت ببابه فخرجت جارية خماسيّة فوضعت يدي على رأسها فناداني عليه السّلام من أقصى الدار: ادخل لا أبا لك لو كانت هذه الجدر تحجب أبصارنا كما تحجب أبصاركم لكنّا نحن و إياكم سواء «2».

و

في الآثار الجعفرية روحي له الفداء: الدنيا ممثلة للإمام كفلقة الجوزة في يد أحدكم «3».

و

عنه عليه السّلام يا مفضل إنّ العالم منا يعلم كلّ شي ء حتّى تقلّب جناح الطير في الهواء و من أنكر من ذلك شيئا فقد كفر باللّه من فوق عرشه و أوجب لأوليائه الجهل، و هم حلماء علماء أبرار أتقياء يا مفضل من زعم أنّ الإمام من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعزب عنه شي ء في السموات و الأرض من الأمر المحتوم فقد كفر بما أنزل

اللّه على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

في البحار عن نوادر الحكمة عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: يا حمران إن الدنيا عند الامام و السموات و الأرضون إلّا هكذا، و أشار بيده إلى راحته، يعرف ظاهرها و باطنها و داخلها و خارجها و رطبها و يابسها «4».

و

فيه عن أبى بصير قال كنت عند أبى عبد اللّه عليه السّلام فدخل عليه المفضّل بن عمر

______________________________

(1)

في البحار ج 55/ 228 عن البصائر: يسير في ساعة من النهار مسيرة الشمس سنة حتى يقطع اثنى عشر الف عالم مثل عالمكم هذا ...

(2) البحار: ج 46/ 258.

(3) البحار: ج 25/ 368 عن البصائر ص 121.

(4) بحار الأنوار: ج 25/ 385 ح 42 و فيه بعد ذكر الحديث: بيان: (إن الدنيا): إن نافية، أو حرف النفي ساقط، أو مقدّر، أو إلّا زائدة. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 612

فقال: مسألة يا بن رسول اللّه قال: سل يا مفضل، قال: ما منتهى علم العالم؟ قال:

قد سئلت جسيما و لقد سئلت عظيما ما السماء الدنيا في السماء الثانية الّا كحلقة درع ملقاة في أرض فلاة، و كذلك كلّ سماء اخرى، و كذلك السماء السابعة عند الظلمة، و لا الظلمة عند النور، و لا ذلك كلّه في الهواء و لا الأرضون بعضها في بعض، و لا مثل ذلك كلّه في علم العالم يعنى الامام إلا مثل مدّمن خردل دققته دقا ثم ضربته بالماء حتّى إذا اختلط و رخا «1» أخذت منه لعقة بإصبعك و لا علم العالم في علم اللّه تعالى إلّا مثل مدّمن خردل دققته دقّا ثم ضربته بالماء حتى إذا اختلط و رغا انتهزت منه برأس ابرة نهزة «2».

الى غير ذلك

من الاخبار الكثيرة التي ستسمع الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ «3».

و

كان مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام يقول غير مرّة على ما رواه المخالف و المؤالف: سلوني قبل ان تفقدوني فأنا بطرق السماء اعلم منى بطرق الأرض «4».

قد علّم بعض أصحابه علم البلايا و المنايا، و قصّة رشيد الهجري و حبيب بن مظاهر، و ميثم التّمار مشهورة مذكورة في كتب الرجال و غيرها، و إرائتهم ملكوت السموات و الأرضين لأبى بصير و غيره مشهور مستفيض.

و انكار غرائب أحوال سلمان ممّا لا يليق باهل الإيمان فاذا عرفت أحوال أصحابهم فما ظنّك بهم فإنّهم نور اللّه المخزون، و سرّ اللّه المكنون، و امره بين الكاف

______________________________

(1) رخا اللبن: صار له رغوة أى الزيد.

(2) بحار الأنوار: ج 25/ 385 ح 43- و الانتهاز: الأخذ بالسرعة.

(3) آل عمران: 179.

(4) ينابيع المودة ص 66 ط اسلامبول و عنه ملحقات الإحقاق ج 7 ص 618.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 613

و النون، خلقهم اللّه تعالى نورا فجعلهم محدقين بعرش العظمة و الجلالة حتّى منّ اللّه تعالى علينا بهم فجعلهم في بيوت من أبدانهم الناسوتيّة و هياكلهم البشرية كما

قالوا نحن اسرار اللّه المودعة في الهياكل البشرية

فهم من اللّه و الكلّ منهم كما

في الخبر و خلق المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشية، و هم صنائع اللّه، و الخلق بعد صنائع لهم، أو صنائعهم على اختلاف الخبر، فإن الأوّل مروىّ عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام مذكور في نهج البلاغة «1» و الثاني عن الحجّة المنتظر عجل اللّه فرجه كما نقله في الاحتجاج «2».

أشهدهم اللّه خلق الأشياء، و أجرى طاعتهم

عليها، فميّتهم إذا مات لم يمت، بل هم أحياء عند ربّهم يرزقون، و غائبهم إذا غاب لم يغب، بل هم للأشياء مشاهدون، فلا يعزب عنهم شي ء في الأرض و لا في السماء بإذن خالقهم و بارئهم.

فلا ينبغي الإصغاء الى ما يقال: من انّه لا علم لهم بما غاب عنهم و بما استقبل من أحوالهم و أحوال غيرهم نظرا إلى انّه تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ.

إذ مع الغضّ عن الاستثناء في الأوّل و الإستدراك في الثاني لا يخفى أنّ علمهم ليس علما بالغيب بل هو تعلّم من ذي علم كما أجاب به مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام من اعترضه بمثل ذلك على ما في نهج البلاغة «3».

على أنّه لا ينكر و لا يدافع علمهم بالكتاب الذي فيه تفصيل كلّ شي ء ممّا كان أو يكون إلى يوم القيمة من الأمور التكوينية و التشريعية و الجزئيّة و الكليّة، كما

______________________________

(1) نهج البلاغة: الرسالة (28) و عنه البحار ج 33 ص 58 ح 398.

(2) بحار الأنوار: ج 53/ 178 ح 9 عن الإحتجاج.

(3) نهج البلاغة ج 1 ص 245 و عنه البحار ج 26 ص 103 ح 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 614

في الآيات الكثيرة و الأخبار المستفيضة بل المتواترة.

إلّا أنّ بعض من لم يطّلع على غرائب أحوالهم قاس حالهم بحالهم، و لذا قال السيّد المرتضى رضى اللّه عنه في كتابه «تنزيه الأنبياء» معترضا على نفسه بما حاصله أنّه ما العذر في خروج مولينا سيّد الشهداء روحي له الفداء من مكة بأهله و عياله إلى الكوفة و

المستولي عليها أعدائه و كيف خالف ظنّه ظن جميع نصحائه في الخروج؟

و ابن عباس يشير بالعدول عن الخروج و يقطع على العطب فيه، و ابن عمر لمّا ودّعه يقول له: أستودعك من قتيل، ثمّ كيف لم يبايع يزيد حقنا لدمه و دماء من معه من أهله و شيعته و مواليه؟ و لم ألق بيده إلى التهلكة؟ الى آخر ما ذكره.

ثمّ أجاب بما حاصله أنّ الإمام متى غلب على ظنّه أنّه يصل إلى حقّه و القيام بما فوّض اليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلك، و ان كان فيه ضرب من المشقة يتحمّل مثلها، و سيّدنا ابو عبد اللّه عليه السّلام لم يسر إلى الكوفة إلّا بعد توثّق من القوم و عهود و عقود، و بالجملة أسباب الظفر بالأعداء كانت لائحة، و انّ الاتّفاق السّيئ هو الذي عكس الأمر و قلبه حتّى تمّ فيه ما تمّ ... الى أن قال:

و ليس يمتنع أن يكون عليه السّلام في تلك الحال مجوزا أن يفي ء اليه قوم ممّن بايعه و عاهده، ثم قعد عنه و يحملهم ما يرون من صبره و استسلامه و قلة ناصره على الرجوع إلى الحقّ دينا أو حميّة فقد فعل ذلك تفر منهم حتى قتلوا بين يديه شهداء و مثل هذا يطمع فيه و يتوقّع في أحوال الشدّة.

فأمّا الجمع بين فعله و فعل أخيه الحسن فواضح صحيح، لأنّ أخاه سلّم كفّا للفتنة و خوفا على نفسه و أهله و شيعته و إحساسا بالغدر من أصحابه و الحسين عليه السّلام لمّا قوي في ظنّه النصرة ممّن كاتبه و وثق له، و راى من أسباب قوّة نصّار الحقّ و ضعف نصّار الباطل ما وجب معه عليه الطلب

و الخروج، فلمّا انعكس ذلك و ظهر أمارات الغدر و سوء الاتّفاق رام الرجوع، و المكافّة و التسليم كما فعل أخوه فمنع

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 615

من ذلك، و حيل بينه و بينه، فالحالان متفقان إلّا أنّ التسليم و المكافة عند ظهور أسباب الخوف لم يقبلا منه عليه السّلام «1».

انتهى ملخصا فانظر إلى هذا الجليل الذي لا يجوز عنده إلّا العمل على العلم لانسداد باب الظّن عنده للمجتهد كيف فتح باب العمل بالظّن للإمام عليه السّلام سيّما مثل هذا الظّن الّذى أطبق على خلافه جميع نصحائه و هم مصيبون، ثمّ كيف التزم بإصابة ابن عباس و عبد اللّه بن عمرو غيرهما في ظنونهم، و خطاء الإمام عليه السّلام في ظنّه، ثمّ كيف اعتمد عليه السّلام على مثل هذا الظّن، و متى رام الرجوع و التسليم فلم يقبل منه فوا عجباه كيف لم يكن عليه السّلام عالما بما يجرى عليه من الرزايا و البلايا و قد أخبر اللّه تعالى نبيّه في آيات كثيرة من القرآن تأويلا و تنزيلا بما يجرى عليه كقوله:

كهيعص وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا «2»، وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ «3».

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ «4»، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ «5»، يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «6»، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «7»، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ «8»، وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ «9»، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ «10».

إلى غير ذلك من الآيات الّتي لا يخفى على من لاحظ الاخبار المأثورة في

______________________________

(1) تلخيص الشافي ج 4 ص 182 مع التلخيص- تنزيه الأنبياء ص 177- 178.

(2) الإسراء: 33.

(3) التكوير: 8.

(4) الأحقاف: 15.

(5) البقرة: 246.

(6) الفجر: 27.

(7) الحج: 40.

(8) الصافات: 88.

(9) الصافات: 107.

(10) البقرة: 37.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 3، ص: 616

تفسيرها و تأويلها، أنّ اللّه تعالى أخبر ساير الأنبياء أيضا بذلك، و قد أخبر رسول اللّه و أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء، و السبط المسموم، و الشهيد المظلوم، صلى اللّه عليهم أجمعين كلّهم بذلك في أخبار كثيرة متفردة بالتصانيف إلى دعاء الثالث من شعبان: بكته السماء و من فيها و الأرض و من عليها و لمّا يطأ لابتيها «1» و هو تأويل قوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ «2» من باب مفهوم المخالفة.

فهل كان عليه السّلام و العياذ باللّه جاهلا بجميع تلك الآيات و الأخبار الّتي قرع الأسماع، و ملأ الأصقاع، حتّى أخبروا عليهم السلام الكفرة الفجرة الذين يقتلونهم و يظلمونهم بذلك، إلى غير ذلك، ممّا لا يحتمل المقام ذكرها، و لا ذكر أسباب الشهادة و اسرارها من نيل الشفاعة، و حفظ الدين، و كشف الكفر عن العالمين، و لا استقصاء الاعتراضات الواردة على عبارة السيّد «ره» و ان صدر عن بعض المتأخّرين أيضا ما يقرب منه.

فإنّ الفاضل القمى رحمه اللّه في باب ترك الاستفصال من قوانينه تمسّك بأصالة عدم علم الإمام فلاحظ «3».

و شيخنا الفقيه صاحب جواهر الكلام استشكل في باب تحديد الكر بالوزن و المساحة و عدم انطباقهما معا بل نقصان الوزن عن المساحة بالمذهب المشهور دائما بأنّه لا داعي إلى هذا التقدير المختلف بعد علمه بنقص الوزن عن المساحة دائما مع القدرة على ضابط بغير ذلك منطبق عليه.

ثمّ أجاب عنه بأنّ دعوى علم النّبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام بذلك ممنوعة و لا غضاضة لأنّ علمهم عليهم السّلام ليس كعلم الخالق عزّ و جلّ فقد يكون قدّروه بأذهانهم

______________________________

(1) مصباح المتهجد: ص 758.

(2) الدخان: 29.

(3)

قوانين الأصول الباب الثالث في العموم و الخصوص ص 226.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 617

الشريفة و أجرى اللّه الحكم عليه «1».

أقول: و لنا على جواهر الكلام حواشي و تعليقات ذكرت في هذا الموضع منها: قوله: و لا غضاضة، آه، بل فيه غضاضة و أىّ غضاضة لأنّه لو أنكر علم النّبى و الأئمّة عليهم السّلام بالنّسبة إلى التكوينيّات فلا سبيل إلى إنكاره في التشريعيّات يتعلّق بها من الموضوعات سيّما بعد شهادة اللّه تعالى له بقوله: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2»، و قوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ «3»، و لا ريب أنّ الكر و إن كان الموضوعات لكنّه يناط به كثير من الأحكام بل لعلّه من الموضوعات الشرعيّة من حيث التّحديد، و بالجملة دعوى جهل النّبى و الائمّة عليهم السّلام بالكر الحقيقي أو بتفاوت التقريبين لعلّه إقرار بجهلهم بالشرع المبين أو تقوّلهم على اللّه تعالى بالخرص و التخمين، و قد قال اللّه تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «4».

و لعمري إنّ مثل شيخنا الشارح لا ينبغي ان ينسب اليه مثل هذا التقريب الذي هو أقرب إلى التبعيد، فكيف إلى النّبى صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام الذين هم مهابط الوحي و خزّان العلم فكيف يقدّرون بأذهانهم الشريفة مثل هذا التقدير، و كيف يقع إجراء الحكم عليه من اللّطيف الخبير.

هذا كلّه مع الغضّ عن علمهم بالقرآن الذي فيه كلّ شي ء من الحلال و الحرام ممّا يحتاج اليه الامّة إلى يوم القيامة بل جميع الحوادث و الكينونات و لو من غير

______________________________

(1) الجواهر ج 1 ص 182.

(2) النجم: 3.

(3) الأنعام: 50.

(4)

الحاقّة: 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 618

الأحكام لقوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «1»، وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «2»، وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «3».

و

عن الباقر عليه السّلام انّ اللّه لم يدع شيئا يحتاج إليه الامّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «4».

و

عن الصادق عليه السّلام ما من امر يختلف فيه اثنان و له أصل في كتاب اللّه و لكن لا تبلغه عقول الرجال «5».

و

عنه عليه السّلام انّ اللّه انزل في القرآن تبيان كلّ شي ء حتّى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا انزل في القرآن «6».

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة الدالّة على علمهم بما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و بخبر السماء و بخبر الأرض، و خبر الجنّة و النّار، و ان ذلك كلّه بتعليم من اللّه فلا ينافي ذلك ظاهر قوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ «7» و قوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «8»، فانّ النّبى و الائمّة عليهم السّلام هم المستثنون في الآيتين، بل هو المرتضى و هم المجتبون كما يؤمي اليه بعض الأخبار.

مضافا إلى أنّ لنا طرقا اخرى إلى إثبات علمهم عليهم السّلام بجميع الأمور التكوينيّة

______________________________

(1) الأنعام: 38.

(2) النحل: 89.

(3) الانعام: 59.

(4) الكافي ج 1 ص 59 ح 2.

(5) الكافي ج 1 ص 60 ح 6.

(6) الكافي ج 1 ص 59 ح 1.

(7) آل عمران: 179.

(8) الجنّ: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص:

619

و التشريعيّة لعموم ولايتهم في الأمرين و برزخيّتهم الكبرى في البين، مع كونهم الأشهاد في خلق الأرض و السّموات و الأعضاد لبارئ الكاينات إلى غير ذلك مما قصرت عن نيل إدراكه أكثر الأفهام فالأولى أن نقبض عنان الكلام كيلا تتحرك سلسلة جحود اللّئام و على اللّه التوكّل و به الاعتصام.

(نصيحة): اعلم يا أخى و حبيبي أنّه لم يسعنا في المقام إقامة الحجّة على غرائب أحوالهم عليهم السّلام على وجه الاستقصاء لتوقّفها على مقدّمات كثيرة، و إثبات أمور لا يهمنا البحث عنها في المقام، و لعلّنا نشير إلى جملة وافية منها في مواضع من هذا التفسير، فإن حصل لك التصديق التفصيلي أو الإجمالي بها أو شي ء منها فكن للّه من الشاكرين، و الّا فإياك ثمّ إياك أن تبادر إلى الإنكار و التكذيب لما بلغك عنهم أو نسب إليهم فتكون من الهالكين.

قال مولينا الصادق عليه السّلام: لا تكذبوا بحديث أتاكم أحد فإنّكم لا تدرون لعلّه من الحقّ فتكذّبوا اللّه فوق عرشه «1».

و

عن أبي الحسن عليه السّلام أنه كتب في رسالة كتبها الى على بن سويد السائي: و لا تقل لما بلغك عنّا أو نسب إلينا: هذا باطل، و ان كنت تعرف خلافه فإنّك لا تدري لم قلنا، و على أيّ وجه و صفة «2».

بل

روى الصدوق «في العلل» بالإسناد عن أحدهما عليهما السّلام: لا تكذّبوا بحديث آتاكم مرجئيّ و لا قدريّ و لا خارجيّ نسبه إلينا، فإنّكم لا تدرون لعلّه شي ء من الحقّ فتكذّبوا اللّه عز و جلّ فوق عرشه «3».

إلى غير ذلك من الاخبار الدالّة على وجوب التسليم لهم و الرّد إليهم، و انّ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 2/ 186 ح 10 عن بصائر الدرجات.

(2) البحار:

ج 2/ 186 ح 11 عن البصائر.

(3) بحار الأنوار: ج 2/ 187- 188 عن علل الشرائع.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 620

الكلمة لتنصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج، فانّهم لا يعدّون الرجل من شيعتهم حتّى يلحن له فيعرف اللحن، و

انّ حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يحتمله الّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للايمان «1».

فإنّ من الملئكة مقرّبين و غير مقرّبين، و من الأنبياء مرسلين و غير مرسلين، و من المؤمنين ممتحنين و غير ممتحنين، فعرض ولايتهم على الملئكة فلم يقرّبه الّا المقرّبون، و عرض على الأنبياء فلم يقرّبه إلّا المرسلون، و عرض على المؤمنين فلم يقرّبه الّا الممتحنون «2».

بل

من أخبارهم و أحوالهم ما لا يحتمله ملك مقرّب و لا نبىّ مرسل و لا مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان، قيل فمن يحتمله قال عليه السّلام نحن نحتمله «3».

و في خبر آخر: من شئنا «4».

و لذا كان لأخبارهم و أسرارهم مراتب مختلفة: منها، ما لا يحتمله غيرهم، و منها ما يحتمله بعض الأنبياء عليه السّلام أو بعض الملائكة أو خواص شيعتهم، و في كلّ من هذه الأقسام عرض عريض و ذلك لاختلاف الهويّات و المهيّات في الكينونات و الاقتضاءات و القابليات و الاستعدادات، و كلّ أحد لا يدرك فوق رتبته، و لا يتجاوز إدراكه عن قوس كماله، إلّا على سبيل الاشراق و التّجلى و الإفاضة من العالي إلى السافل بحسب اختلاف القابل في الصقالة و الكدورة و القرب و البعد و التّهيؤ للقبول و العدم و زيادة الحجب و قلّتها و غلظتها و رقّتها و نورها و ظلمتها إلى غير ذلك من الأسباب و المعدّات و الموانع الّتي ربّما تفضي

إلى الإنكار البحت، و للّه درّ من قال

______________________________

(1) البحار: ج 2/ 189 ح 21 عن البصائر.

(2) في البحار: ج 2/ 190 ح 23 ما يقرب منه.

(3) البحار: ج 2 ص 193 ح 36 عن البصائر.

(4) البحار: ج 2/ 192 ح 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 621

بالفارسية:

از همه محروم تر خفّاش بودكو عدوى آفتاب فاش بود

فإن كنت من أهل الحكمة الّتي هي معرفة الامام عليه السّلام كما في بعض الكتب المعتبرة فقد أوتيت خيرا كثيرا، و الّا فأسلم تسلم فإنّ الإسلام مشتقّ من التسليم بل الإيمان مشروط به فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ في ولي الأمر- ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. «1» و اعلم أنّ ما أشرنا اليه في هذا الباب و غيره من الأبواب من رتبة الإمام و أحواله و شئونه فكلّه مأخوذ من أخبارهم و آثارهم، مقتبس من أنوارهم، و مع ذلك فهو من مكنون أسرارهم فإن افتريته فعلىّ إجرامى و على من يفهم كلامي سلامي.

عود إلى الكلام لإتمام المرام:

قد سمعت أنّ الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين صراط اللّه سبحانه إلى عبيده في جميع نعمه و فيوضه التكوينيّة و التشريعيّة، فاعلم أنّهم عليهم السّلام الصراط المستقيم لكافّة الخلق كلّهم إلى اللّه سبحانه إلى مرضاته و محبّته و رحمته و نعمته و مشيّته، فإنّ الخلق سائرون متوجّهون بأقدام أعمالهم القلبيّة و القالبيّة بل طائرون مسرعون بأجنحتهم الروحانيّة الإيمانية من حضيض أبدان طبائعهم العنصريّة المكنّى عنها بأرض الموقف إلى فضاء عالم القدس و حريم حرم الانس و دار الاقامة و منزل الكرامة و انّما يتمّ سيرهم في سفرهم هذا بالاستقامة في أمور:

أحدها القيام بأوامر اللّه و

نواهيه، و سائر وظائفه الشرعية من فعل ما امر به

______________________________

(1) النساء: 65.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 622

و لو بالأمر الاستحبابي و ترك ما نهى عنه و لو بالنهي التنزيهي، و الاستدامة على ذلك في جميع الحالات و الأوقات ما لم يوجب شي ء منها سقوط التكليف لتعذّر أو تعسّر أو تبدّل حال أو انقلاب موضوع، أو غير ذلك ممّا يوجب اختلاف الحكم، و بالجملة يكون بين يدي اللّه سبحانه كالعبد المطيع المنتظر لصدور الأمر من مولاه كى يبادر إلى قبوله و امتثاله، حسب وسعه و طاقته في إيقاعه على أحسن وجوهه و أكملها من حيث اشتماله على جميع المتمّمات و المكمّلات، و اقترانه بالنيّة الصّحيحة الحاوية لملاحظة جميع الغايات الّتي ربما يرجّح العمل اليسير معها على أضعافه بدونها، فإنّ لكلّ امرئ ما نوى و إنّما الأعمال بالنيّات.

و لذا

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمولينا أمير المؤمنين عليه السّلام يا علىّ إذا تقرّب الناس إلى اللّه بأنواع العمل فتقرّب إليه بأنواع النيّة تسبقهم

و لذا ترى الأولياء بل الأنبياء موافقين لغيرهم في الأعمال الظاهرة و إن كان ما بين أعمالهم من حيث إيجابها للتقرّب و العدم بون بعيد أبعد ممّا بين السماء و الأرض.

بل تعلم أن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانوا يصلّون خلفه كلّهم صلوة واحدة متوافقة في الأقوال و الأفعال الظاهرة الّتي هي جسم الصلوة و ناسوتها و إن لم تكن صلوتهم متوافقة في كيفيّة القبول و كمية الأجر و الثواب التابعين للحضور و الإقبال و التوجّه و الإخلاص و المعرفة الّتي هي روح العبادة و لبّها و حقيقتها و أصلها.

بل لا يكاد تتوافق صلوة إثنين منهم لضرورة اختلافهم

في أحوالهم و أخلاقهم و نيّاتهم و عقائدهم و ضمائر هم إلى غير ذلك.

بل لعلّ صلوة واحد من أصحابه صلّى اللّه عليه و آله مثل مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام حقيقة الإيمان و محضة و خالصة و كماله، و صلوة بعض المنافقين الذين يصلّون خلفه و أحزابهم الشياطين حقيقة الكفر و الشرك و النفاق، فإنّ سجودهم كان لأصنامهم الحقيقة الّتي كانت بين يديهم أو الظاهرة الّتي كانت بين رجليهم كما في الصك الذي

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 623

كتبه الثاني الى و اليه و قد أراها ابنه لابنه عليهم جميعا لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين.

ثانيها: صدور هذا الامتثال لا على وجه الكلفة و المشقة و الانزجار الّتي ربما توجب بغض عبادة اللّه و الاستراحة في تركها، و الاستبدال عنها بغيرها، و طلب الإذن و الرخصة في القعود عنها، و التّعلل في تركها بكلّ علّة، و التوصل للفرار منها بكل حيلة.

بل على وجه المحبّة و الاشتياق و اللّذة و البهجة و السرور فإنّ العبادة قوّة قلوب العارفين، و قرّة أعين الصالحين، و لذة نفوس المشتاقين، و غاية آمال المجتهدين الذين دأبهم الارتياح اليه و الحنين، و ديدنهم الزفرة و الأنين، فإنّ عباده هم الذين بالبدار اليه يسارعون و بابه على الدوام يطرقون، و ايّاه في الليل و النهار يعبدون، فصفى اللّه لهم المشارب، و بلّغهم المآرب، و أنجح لهم المطالب و ملأ لهم ضمائرهم من حبّه، فبه إلى لذيذ مناجاته و صلوا، و منه أقصى مقاصدهم حصّلوا.

ثالثها: ولاية أولياء اللّه الذين هم ولاة الأمر، وسّاط الخلق إلى الخالق، و لذا قرن اللّه طاعتهم بطاعته و ولايتهم بولايته، و محبّتهم بمحبّته فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ

تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» و مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «2».

و

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه «3».

فيجب معرفتهم، و الإقرار بجملتهم، و الموالاة لأوليائهم، و المعادات لاعدائهم، و الاقتداء بهديهم، و الالتزام بطاعتهم الّتي هي بعينها طاعة اللّه.

و لذا

قال عليه السّلام في الجامعة الكبيرة: من أطاعكم فقد أطاع اللّه، و من عصاكم

______________________________

(1) آل عمران: 31.

(2) النساء: 80.

(3) بحار الأنوار: ج 37/ 126. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 624

فقد عصى اللّه، و من أحبكم فقد أحب اللّه، و من أبغضكم فقد أبغض اللّه، و من اعتصم بكم فقد اعتصم باللّه.

و

في الكافي و التوحيد عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «1»: قال: إنّ اللّه تعالى لا يأسف كأسفنا لكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون، و هم مخلوقون مربوبون، فقد جعل رضيهم رضى نفسه، و سخطهم سخط نفسه «2».

إذ بولايتهم تقبل الطاعة المفترضة، و لهم المودّة الواجبة.

و لذا

ورد عن مولينا أبى جعفر عليه السّلام في خبر بناء الإسلام على الخمسة الّتي هي الصلوة و الزكاة و الحجّ و الصوم و الولاية إلى أن قال عليه السّلام: ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأنبياء، و رضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته ان اللّه عز و جلّ يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «3».

أما لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره و تصدّق بجميع ماله، و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية ولى اللّه فيواليه و يكون جميع أعماله بدلالته اليه ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه، و لا كان

من أهل الايمان «4».

بل

ورد مثله من طرق العامة فعن ابن مردويه في كتابه بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: يا على لو أنّ عبدا عبد اللّه مثل ما قام نوح في قومه، و كان له مثل جبل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل اللّه و مدّ في عمره حتى حجّ ألف عام على قدميه ثمّ قتل

______________________________

(1) الزخرف: 55.

(2) نور الثقلين: ج 4/ 608 عن التوحيد و الكافي.

(3) النساء: 80.

(4) بحار الأنوار: ج 23/ 294 عن تفسير العيّاشى ج 1 ص 254. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 625

بين الصفا و المروة مظلوما ثمّ لم يوالك يا على لم يشمّ رائحة الجنّة و لم يدخلها «1».

و

في المناقب عن تاريخ النسائي و شرف المصطفى و اللفظ له عنه: لو أنّ عبدا عبد اللّه تعالى بين الركن و المقام ألف عام ثمّ ألف عام و لم يكن يحبّنا أهل البيت لاكبّه اللّه على منخره في النار «2».

و

عن الفردوس و الرسالة القوامية عنه صلّى اللّه عليه و آله: حبّ على بن ابى طالب يأكل الذنوب كما يأكل النار الحطب «3».

ثمّ إنّ هذا الأمر الثالث و إن عددناه واحدا من تلك الأمور إلّا أنّه جامع لجملتها محتو على حدودها و مقاماتها و ذلك أنّ مقتضى القوام بولاية النبي و الأئمّة عليهم السّلام هو حفظ جميع الحدود و الأحكام الشرعيّة من التكليفيّة و الوضعيّة و الإقامة عليها و امتثالها بالاشتغال بما يرضاه اللّه و الاجتناب عمّا يسخطه بل عمّا لا يرضاه لينحصر فيه فعله في الوجوب و الاستحباب لا الإباحة و ذلك كلّه بحسب جميع نشأة وجوده و كونه من الأفعال و الأقوال و الأحوال و النيّات و الخطرات

و الإعتقادات.

و لذا

قال مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث معرفته بالنورانيّة: انّ إقامة الصلوة إقامة ولايتي فمن أقام ولايتي فقد أقام الصلوة، و إقامة ولايتي صعب مستصعب لا يحتمله الّا ملك مقرّب أو نبىّ مرسل أو مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان فالملك إذا لم يكن مقرّبا لا يحتمله، و النّبي إذا لم يكن مرسلا لم يحتمله، و المؤمن

______________________________

(1) ينابيع المودّة ج 3 ص 293 ح 845 و رواه ابن شهر آشوب في المناقب ج 3 ص 198 عن ابن مردويه.

(2) المناقب ج 3 ص 198 عن تاريخ النسائي و شرف المصطفى.

(3) ينابيع المودة ج 2 ص 246 عن الفردوس ج 2 ص 226 ح 2544. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 626

إذا لم يكن ممتحنا لم يحتمله «1».

فصورة ولايتهم و محبّتهم و طاعتهم هو الطريق المستقيم إلى اللّه، و ذلك هدى اللّه يهدى به من يشاء.

و هذا الصراط لا يقطعه في هذه الدنيا بسهولة إلّا محمّد و أهل بيته الطاهرون و شيعته المنتجبون، و لو من الأنبياء و المرسلين، و الملئكة المقرّبين، فإنّهم يقطعونها بفضل عصمتهم و ولايتهم و عنايتهم برفق و سهولة.

قال عليه السّلام في خبر النورانيّة بعد ما سمعت يا سلمان تصديق ذلك قوله تعالى في كتابه العزيز: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «2».

فالصبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الصلوة إقامة ولايتي فمنها قال اللّه تعالى: و إنّها لكبيرة و لم يقل: و إنّهما لكبيرة لأنّ الولاية كبير حملها إلّا على الخاشعين، و الخاشعون هم الشيعة المستبصرون «3».

ثمّ إنّ من تأمّل في الأخبار الكثيرة الدالّة على العوالم الكثيرة الّتي منها الأربعون عالما، و

الاثنى عشر ألف عالم، أو الألف ألف عالم، و الألف ألف آدم، و على كونهم حجّة على جميع تلك العوالم و انّ اللّه قد أخذ ميثاق ولايتهم على جميع الذرات و الكائنات و الموجودات إلى غير ذلك من الأخبار المختلفة الواردة في الموارد المتفرقة: أنّه لم يعص اللّه تعالى أحد من أوّل الدهر إلى آخره، بل في جميع العوالم و النشآت إلّا بالانحراف عن ولايتهم و محبّتهم، و لم يطعه أحد من جميع ما سمعت إلّا بذلك، هنالك الولاية للّه الحق.

و لو أردنا استقصاء الأخبار بذلك في هذا المقام لطال بنا الكلام، غير أنّي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26/ 2 ح 1.

(2) البقرة: 45.

(3) البحار: ج 26/ 2 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 627

أذكر حديثا واحدا في هذا الباب مع حوالة الباقي إلى ساير المواضع من هذا الكتاب.

في «البحار» عن أبى حمزة الثمالي أنّه دخل عبد اللّه بن عمر على مولينا زين العابدين روحي له الفداء و عليه و على آبائه و أولاده آلاف التحيّة و الثّناء و قال: يا علىّ بن الحسين أنت الذي تقول: إنّ يونس بن متّى إنّما لقي من الحوت ما لقي لأنّه عرضت عليه ولاية جدّي فتوقّف قال عليه السّلام: بلى ثكلتك أمّك قال فأرني أنت ذلك إن كنت من الصادقين قال: فأمر بشدّ عينيه بعصابة و عينيّ بعصابة ثمّ أمر بعد ساعة بفتح أعيننا فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه، فقال ابن عمر: يا سيّدى دمي في رقبتك اللّه اللّه في نفسي فقال عليه السّلام: هيه و أراه إن كنت من الصادقين ثمّ قال عليه السّلام أيّتها الحوت قال: فاطلع الحوت من البحر مثل الجبل العظيم، و

هي تقول:

لبيك يا وليّ اللّه فقال عليه السّلام: من أنت قالت: أنا حوت يونس يا سيّدي، قال: ايتينا بالخبر، قالت: يا سيدي إنّ اللّه لم يبعث نبيّا من آدم عليه السّلام على نبيّنا و آله و عليه السلام إلى أن صار جدّك محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلّا و قد عرضت عليه ولايتكم أهل البيت فمن قبلها من الأنبياء سلم و تخلّص، و من توقّف عنها و تمنّع في حملها لقي ما لقي، فمن ذلك ما لقي آدم من المعصية، و ما لقي نوح من الغرق، و ما لقي إبراهيم من النار، و ما لقي يوسف من الجبّ، و ما لقي أيوب من البلاء، و ما لقي داود من الخطيئة، إلى أن بعث اللّه تعالى يونس فأوحى اللّه تعالى إليه: أن يا يونس تولّ أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة الراشدين من صلبه عليهم السّلام في كلام، قال: و كيف أتولّى من لم أره و لم أعرفه و ذهب مغاضبا فأوحى اللّه تعالى إلىّ: أن القمي يونس، و لا توهني له عظما، فمكث في بطني أربعين صباحا يطوف معي في البحار في ظلمات ثلاث ينادي: لا اله الّا أنت سبحانك إنّى كنت من الظالمين، قد قبلت ولاية علي بن أبي طالب و الائمّة الراشدين من ولده صلوات اللّه عليهم أجمعين، فلمّا آمن بولايتكم أمرنى ربّي فقذفته على

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 628

ساحل البحر فقال زين العابدين عليه السّلام: إرجع أيّها الحوت إلى و كرك «1» و استوى الماء «2». الخبر.

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على عرض ولايتهم على جميع الأنبياء و الأوصياء و الأمم، بل و جميع الملئكة من العالين و الكروبيّين

و المقرّبين و غيرهم، بل على جميع السموات و الأرض و النّجوم و العناصر و المياه و الجبال و غيرها من الجواهر و الاعراض، فمن قبلها منها سعد، و طاب، و صفي، و من أنكرها أو تأمّل فيها أو لم يقم بوظائفها أو لم يحفظ حدودها أو قصر عن نيل مقام الإذعان و التصديق و الإعتقاد بتفاصيلها شقي أو خبث أو ابتلى بالبلايا و الرزايا على المراتب الّتي لا يحيط بها الكلام، بل لعلّه لا يخطر تفاصيلها على الأفهام، إلّا أنّ المقصود الإشارة إلى نوع المراد ليصل الطالب إلى سبيل الرشاد، و ذلك أنّ مقتضى ولايتهم الّتي هي من أشعّة أنوار كينوناتهم النورانيّة اللمعانيّة الّتي هي نفس مشيّة اللّه و إرادته و رحمته و محبّته و رضاه و قربه و جواره أن يطاع اللّه و لا يعصى في ملكه أبدا بأن لا يقع في ملكه من كلّ مخلوق في جميع الأزمنة و الأمكنة إلّا ما يوافق رضاه و محبّته و إرادته، لأنّ هذه صور أعمالهم و أفعالهم و أحوالهم و إرادتهم الفانية في إرادة اللّه سبحانه، فلا يشاؤن إلّا ما يشاء اللّه، لاندكاك جبل إنيّاتهم، فهم كالميّت بين يدي الغسّال، و قلبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن، بل لا فرق بينه و بينهم إلّا أنّهم عباده و خلقه، فمن أشرق عليه من أنوار ولايتهم الكونيّة في صقع الرحمة الرّحمانية بأن تذوّتت إنّيته و حقيقته من فاضل أشعّة أنوار أجسادهم على حسب الاختلاف، و مراتب القرب و البعد في ذلك ترشّحت عليه فضفاض من رشحات

______________________________

(1) الوكر: عش الطائر.

(2) بحار الأنوار: ج 46/ 39- 40 عن المناقب لابن شهرآشوب ج 4 ص 138.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3،

ص: 629

تجلّيات أنوار أجساد عباداتهم التي هي أفعالهم الشرعيّة في ناحية الرّحمة الرحيميّة، و هم الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «1» فاستجابوا للّه و للرسول و لوليّ الأمر من بعده فلمّا أجابوا خلقوا بصورة الإجابة على هيكل التوحيد الذي هو صبغة اللّه، فيكون مبدؤه من النور، إلى النور، و منقلبه في النور، فيشرح اللّه صدره للإسلام بالطاعة التامّة العامّة لوليّ الأمر عليه السّلام.

و امّا الّذين أنكروا بقلوبهم أو في مقام التفصيل بعد ما أقرّوا بألسنتهم في مقام الإجمال فخلقهم اللّه من الظلمة الّتي هي حقيقة الإنكار و ولاية الجبت و الطاغوت فبانكارهم خلقوا من الظلمة، و لو أقرّوا لخلقوا من النور حين اقرّوا و لكنهم أنكروا فخرجوا عن ولاية أولياء اللّه الّتي هي مطرح أشعّة أنوار الإيمان إلى ولاية أعدائه الّتي هي بحر الظلمة، و دار النقمة المخلوقة من جهة المقابلة، فإنّ اللّه تعالى خلق النور و خلق الظلمة فالمؤمن بحسن اختياره بأفعاله خلق من النور، و المنافق بسوء إختياره و قبح أفعاله خلق من الظلمة المخلوقة من الظلم، إنّ اللّه لا يظلم الناس شيئا و لكنّ الناس أنفسهم يظلمون.

نقد و تحصيل

لعلّك بعد التأمل فيما ذكرناه ينكشف لك النقاب عن وجوه الأخبار الواردة في الباب فإنّك قد عرفت أنّ معرفتهم و محبّتهم و إطاعتهم هي الطريق المستقيم للخلق إلى الخالق بشرط أن يكون عدلا متوسطا بين الغلو و التقصير، فإنّ ذلك هو مقتضى ولايتهم دون غيره كما أنّ مقتضاها الاعتدال و التوسط في جميع الأحوال و الأخلاق الّتي قد سمعت أنّ فضائلها هي الأوساط المتوسطة بين طرفي الأضداد

______________________________

(1) فصّلت: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 630

تفسير الصراط المستقيم ج 3 649

الّتي هي الرذائل الواقعة في

طريق الإفراط و التفريط فبعد تحقّق ذلك كلّه يحصل حقيقة الإيمان بجميع حدوده و شرائطه و مراتبه، و لذا

فسّر الإيمان في قوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ «1» بالولاية في أخبار كثيرة بل من طرق العامة أيضا

كما فسّر بها أيضا و الثلاثة بالثلاثة في قوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ «2» فلا إيمان الّا بالولاية و معها، بل هي هو و هو هي، و لا تنال الشفاعة فاقدا لها.

و لذا

ورد في النبوي من طرق الخاصة و العامة: حبّ علىّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة و بغض علىّ سيّئة لا ينفع معها حسنة «3».

فالتصديق بالولاية كاشف عن التصديق بالنّبوة كما أنّ التصديق بالنبوّة كاشف عن التصديق بالتوحيد، بمعنى أن كلّا منها مصحّح و متمّم لسابقه و كاشف عن صحّته و وقوعه بل إذا وقع السابق على الوجه المرضي المأمور به لحقه المتأخر لا محالة و إلّا لم يكن السابق أصلا بمعنى أنّه لم يتحقّق.

و لذا لا يعدّ اليهود و النصارى من أهل التوحيد و لو عدّوا فلا ينفعهم توحيدهم، كما لا ينفع أهل السنّة تصديقهم الظاهري بالشهادتين، فإنّ هذا كلّه من شعب التصديق الظاهري الأوّلى في عالم الذّات قبل الابتلاء و التمحيص، و ليس منه في القلب أثر، و لذا ينتفى بل ينقلب كفرا بالامتحان ليميز اللّه الخبيث من الطّيب، و كذا الّذين قالوا آمنّا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم، فإن الإيمان الظاهري البدني تتبعه الأحكام الظاهريّة البدنيّة، و الإيمان الحقيقي القلبي تتبعه الأحكام الواقعة المعنوية الحقيقية.

و لذا

قال السيّد السّجاد في دعائه الذي رواه الثمالي: أللهم إنّ قوما امنوا

______________________________

(1) المائدة: 5.

(2)

الحجرات: 7.

(3) ينابيع المودة ج 1 ص 270 عن المناقب للخوارزمي ص 76 ح 56. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 631

بلسانهم ليحقنوا به دمائهم فأدركوا ما أمّلوا و إنّا آمنّا بألسنتنا و قلوبنا لتعفو عنّا فأدركنا ما أمّلنا.

ثمّ انّ هذا الإيمان الجامع للحدود الظاهرية و الحقائق الواقعيّة من الإعتقادات و النيات و الأخلاق و الأعمال و غيرها من الشرائع التكوينيّة و التكوينيّات الشّرعيّة هو الطريق الأقرب للسّالكين الى اللّه و الوافدين عليه، و هو بمنزلة الخطّ المستقيم الذي هو أقصر الخطوط الواصلة بين النهايتين و ان كان سبحانه يجلّ عن اكتناه الحدود و الأطراف و النهايات فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1».

بل قد انتهى المخلوق إلى مثله و ألجأه الطلب إلى شكله، فهو طريق إلى قربه و جواره، بل هو طريق إلى حقيقة العبد و هي العبوديّة الّتي كنهها الربوبيّة فإنّ الطريق إلى اللّه مسدود، و الطلب مردود، و لا يتجاوز الممكن مقام نفسه وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «2» و خلق اللّه الخلق حجاب بينه و بينهم، و لا يرتفع الحجاب إلّا بفتح الباب، و سدّ الأبواب يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «3» فلا ينصبغ العبد بصبغة اللّه و لا يتخلق بأخلاقه ما دام فيه تلوّن من عقله و نفسه الناطقة فضلا عن الأرواح الحيوانيّة و السبعية و البهيمية و الشيطانيّة و الجسمانيّة فاذا استسلم و تعلّم كلب الكهف باسطا ذراعيه فنائه كان لون الماء لون إنائه فيقلبهم اللّه ذات اليمين و ذات الشمال، و يصير العبد بحقيقة مرآة مجلوّة لإشراق أشعة أنوار الجلال و الجمال، و هذا هو الطريق الموصل إلى قرب الحقّ و جواره الذي

هو صورة ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام في الدنيا بل متفرّع من هيئات أعماله و أفعاله و آثاره، بل مقتبس من إشراق أشعّة أنواره، و هو الذي يتجوهر في يوم القيمة الذي تبلى فيه السرائر، و تنكشف الضمائر، فيكون على صورة الصراط جسرا ممدودا على متن

______________________________

(1) البقرة: 115.

(2) الحديد: 4.

(3) يوسف: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 632

جهنّم الذي هو تجوهر البعد عن ساحة قربه سبحانه للاشتغال بالهواجس النفسانيّة و الانغماس في الكدورات الظلمانية و الاستغراق في الغواسق البدنية و لذا يكون في تجوهره أدقّ من الشعر و أحدّ من السيف و النّاس يمرّون عليه على طبقات فمنهم من يمرّ مثل البرق أو عدو الفرس، أو المشي أو متعلقا بيديه قد تأخذ النار منه شيئا و تترك شيئا أو على الصدر إلى غير ذلك من الطبقات و المراتب الّتي يشاهد مثلها في هذا العالم في سلوك الدين المبين و الاهتداء بشريعة سيّد المرسلين فمنهم الذين استسهلوا ما استوعره المترفون بل انخمدت نار طبيعتهم، و فنوا عن إنيّتهم فتمتّعوا بلذيذ مناجاته، و حملوا في سفن نجاته و أوردوا حياض حبّه و أذيقوا حلاوة ودّه و قربه، و منهم غير ذلك إلى أخر المراتب.

و لذا

ورد فيما رويناه سابقا عن تفسير المقاتل أنّه يجعله اللّه على المؤمنين عريضا و على المذنبين دقيقا.

و

في النبوي على ما رواه بعض الأجلّة مرسلا أن الصراط يظهر يوم القيمة للأبصار على قدر نور المارّين عليه، فيكون دقيقا في حقّ بعض، و جليلا في حقّ آخرين.

قيل: و يصدّقه قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ «1».

نعم ربما تقول في معنى كونه أدقّ من الشعر و أحد من السيف أنّ كمال الإنسان في سلوكه إلى

الحق منوط باستكمال قوّتيه، أمّا العلميّة فبحسب إصابة الحقّ في الأنظار الدقيقة الّتي هي أدقّ من الشعر في المعالم الالهية و امّا العمليّة فبحسب قوّة الشهوية و الغضبيّة و الفكرية في الأعمال لتحصيل ملكة العدالة و هي أحدّ من السيف فللصراط المستقيم و جهان: أحدهما أحدّ من السيف من وقف عليه شقّه فيشقّ قدم من مشى أو وقف عليه لحدّته و دقّته و صعوبة الثبات و اجتماع

______________________________

(1) التحريم: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 633

المشاعر عليه، بل أكثر من يمرّ عليه تتفرق مشاعره و حواسّه الظاهرة و الباطنة، بل يفترق بالعبور عنه كلّ من الحقّ و الباطل عن الآخر ليميز اللّه الخبيث من الطّيب.

و ثانيهما أدقّ من الشعر لشدّة اضطرابه بالسائر عليه فلا يزال يمرّ و يضطرب و لا يثبت عليه إلّا من ثبّته اللّه بالقول الثابت في الحيوة الدنيا و في الآخرة.

و الوقوف على الأوّل يوجب القطع و الفصل أي تفريق الإدراك و العمل، حيث لا يقدر السائر على تخليص الحقّ عن شائبة الباطل، و لا على إخلاص العمل عن شائبة الشرك و الأغراض الباطلة، فيكون النظر و العمل شقّين لأنّه أحد من السيف فيشق القدم العابر به عن بصيرة النظر و نية العمل، و لكن الإنصاف أنّ هذا كلّه كغيره ممّا في «شواهد الربوبيّة» و «العرشية» و غيرهما تكلّف مستغن عنه، بل و كذا ما في شرح الثاني «1» للعارف الصمداني نظرا إلى أنّ المقصود من التشبيه تصوير دقّته و شدّة صعوبة العبور عليه، و ليس كلّ من الوصفين نعتا لوجه دون الآخر، بل ليس له و جهان متغايران من حيث الاقتضاء و الحكم، فإنّه أمر وحداني معنوي أو صوري حسب ما سمعت

من أنّه صورة ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام.

نعم ربما يستشكل في المقام بأنّ نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و طريقته و ولايته التي هي باطن النبوة بل نبوّته الّتي هي حقيقة الولاية أقوم و أتمّ و أكمل و أجمل من ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام فإنّه عبد من عبيده، و لذا كنّي صلّى اللّه عليه و آله بأبي القاسم حيث إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أبو أمّته الذين كان واحدا منهم و هو وصيّه و خليفته قسيم الجنّة و النار، كما ورد التصريح به في بعض الأخبار، و على هذا فما السبب في تفسير الصراط بولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام و إضافته إليه دون النبي صلّى اللّه عليه و آله كما في الأخبار المتقدّمة المرويّة من طريق الخاصّة و العامة.

و الجواب ما أشرنا اليه سابقا من أنّ الولاية ولاية واحدة، و هي قوله:

______________________________

(1) مراده شرح العرشية في المبدأ و المعاد تصنيف المولى صدر الدين الشيرازي المتوفى (1050) ه للشيخ احمد بن زين الدين الاحسائى المتوفى (1243).

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 634

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ «1»، فمرّة تضاف إلى اللّه، و مرّة إلى رسوله، و أخرى إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و لذا قال إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا «2»، و قال:

هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ «3».

و

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: من كنت مولاه فعلى مولاه «4».

لكن لمّا كان الكاشف الحقّ عن ولايته سبحانه التصديق بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و عن التصديق بالنبي صلّى اللّه عليه و آله ولاية ولاة الأمر من بعده، فولايتهم ولاية النبي صلّى اللّه عليه و آله، و ولاية

النبي ولاية اللّه، و الآخذ بحجزتهم آخذ بحجزة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الآخذ بحجزة النبي صلّى اللّه عليه و آله آخذ بحجزة اللّه سبحانه كما في الاخبار الكثيرة «5».

بل فيما قدمناه

عن «تفسير فرات» أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاه جبرئيل فقال:

أبشرك يا محمّد بما تجوز على الصراط قال: قلت بلى قال تجوز بنور اللّه و يجوز عليّ بنورك و نورك من نور اللّه، و تجوز أمّتك بنور علىّ، و نور عليّ من نورك، و من لم يجعل اللّه له نورا فماله من نور «6».

و لذا فسّر الصراط في كثير من الأخبار المتقدّمة بصراط محمّد و آله، فنورهم واحد، و صراطهم واحد، و سبيلهم واحد، و طريقتهم واحدة، ألا إنّ الناس لم يختلفوا في اللّه و لا في رسوله صلى اللّه عليه و آله، و إنّما اختلفوا في مولينا أمير المؤمنين، فبولايته يسلك إلى الرضوان، و على من جحد ولايته غضب الرحمن، فهو و الأئمّة الطاهرة من ذريته أبوابه و سبله جعلهم اللّه ائمّة وسطا ليكونوا

______________________________

(1) سبأ: 46.

(2) المائدة: 55.

(3) الكهف: 44.

(4) الإصابة ج 1 ص 577 و عنه ينابيع المودة ج 1 ص 108.

(5) بحار الأنوار: ج 68 ص 134.

(6) تفسير فرات ص 287 ح 387- و الآية من سورة النور: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 635

شهداء على الناس و يكون الرسول شهيدا عليهم «1».

فالنبي صلّى اللّه عليه و آله يدعو الناس إلى ولايتهم، و هم يدعون الناس إلى ولايته، قال اللّه تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2».

عن القمى قال عليه السّلام يعنى إنك لتأمر بولاية علىّ و تدعو إليها، و علىّ هو الصراط المستقيم، صِراطِ

اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «3» قال: يعنى عليّا إنّه جعله خازنه على ما في السموات و ما في الأرض من شي ء، و ائتمنه عليه «4».

و قال سبحانه: وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

القمي قال عليه السّلام إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام «5».

وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ «6»:

القمى قال عليه السّلام: عن الإمام لحائدون «7».

و يؤيّده ما

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه الصلوة و السلام ان اللّه تبارك و تعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه لكن جعلنا أبوابه، و صراطه، و سبيله، و الوجه الّذى يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون «8».

هذا لكن الشيخ الأكبر الأمجد عطر اللّه مرقده استشعر في «شرحه للعرشية»

______________________________

(1) نقل بالمعنى من سورة البقرة آية: 143.

(2) الشورى: 52.

(3) الشورى: 53.

(4) تفسير القمى ج 2/ 280.

(5) تفسير القمى ج 2/ 92.

(6) المؤمنون: 74.

(7) تفسير القمى ج 2/ 92.

(8) بحار الأنوار ج 24 ص 253 عن بصائر الدرجات ص 146.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 636

لهذا الإشكال في شرح قول الملّا صدرا: و أتمّ الصراطات المستقيمة نفس أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ نفوس أولاده المقدسين، فقال: إنّه يحتمل وجوها حيث لم يذكر نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله مع أنها أتمّ من نفس أمير المؤمنين، و نفوس ذريته المعصومين:

الاول أنّه ورد أنّ الصراط المستقيم أمير المؤمنين و أهل بيته الطاهرين سلام اللّه عليهم أجمعين، فاستطرد عند ذكره و وصفه بالصراط المستقيم تفسير الصراط المطلق المشتمل على المستقيم و غيره، و بيّن أنّ نفسه و نفوس أولاده المعصومين عليهم السّلام

أتمّ الصراطات المذكورة لأنّ المذكور هنا هو و أولاده عليهم السّلام، و النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يذكر في الموصوفين بالصراط المستقيم و إن كان فسّر مطلق الصراط لأنّ الموجب لذكر المطلق هو ذكره بالصراط المستقيم قال قدّس سرّه: و لعل المصنّف يرد غير هذا الوجه.

الثاني أنه عليه السّلام هو المشتهر بالولاية و النبي صلّى اللّه عليه و آله اشتهر بالنبوة، و الولاية فسّرت بالصراط المستقيم دون النبوة.

الثالث: أنّ نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله هي الغاية التي الصراطات كلّها تؤدي إليها لما دلّت عليه الأدلّة النقلية و العقلية فردّه و مصيره إلى اللّه تعالى، و قد دلّت الأدلة عقلا و نقلا على أن الردّ إلى اللّه و الرجوع و المصير إليه هو الردّ و الرجوع و المصير إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله في الدنيا و الاخرة، لأنّ الحوادث لا تنتهي إلّا إلى مثلها كما قال مولينا أمير المؤمنين: انتهى المخلوق الى مثله و ألجأه الطلب إلى شكله.

و

قوله عليه السّلام في شأن النبي صلّى اللّه عليه و آله في خطبته يوم الجمعة و الغدير قال: أقامه في سائر عالمه مقامه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار و لا تحويه خواطر الأفكار «1».

ثمّ قال: و إذا قطعنا النظر من كلام المصنّف و عن مراده فلك أن تعتبر الوجه الثالث لأنّه الجاري على تفسير باطن الباطن و بيان السرّ المقنع بالسرّ و لك أن تفسّر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 97/ 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 637

الصراطات المطلقة يعنى الشاملة لكلّ أحد فان قلت أكملها تعينت نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و إن قلت أتمّها فكما قال المصنف، و لك أن

تستعمل أتمّ بصيغة التفضيل المطلق، فتقول أتمّها نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و تلك الأتميّة الحقيقة، و إن أردت الأتمّية الإضافية فكما قال المصنف، انتهى كلامه زيد مقامه.

لكن لا يخفى أنّ كلامه في تعدّد الصراطات في المقام جار على منوال ما ذكره الملا صدرا من أنّ كلّ نفس صراط إلى الآخرة بوجه كما أنّها سالكة أيضا بوجه، فالمتحرّك و المسافة شي ء واحد بالذات، متغايرة بالاعتبار، فالنفوس صراطات إلى العاقبة بعضها مستقيمة، و بعضها منحرفة، و بعضها منكوسة، و المستقيمة بعضها واقفة، و معطّلة، و الواصلة بعضها سريعة، و بعضها بطيئة إلى غير ذلك ممّا ذكره في «عرشيته» و «شواهده» و أسفاره، و تفسيره و غيرها من كتبه الّتي بنى الأمر فيها على الحركات الجوهريّة و الانتقالات النفسانية في نشاة ذاتية حسب ما أشرنا سابقا إليها و إلى التأمل فيها.

بل ينبغي التأمل أيضا في بعض ما حكيناه في المقام فإنّ الوجه الأول و الثاني لا يحسمان مادّة الإشكال، بل لعلّهما سيّما الثاني أقرب إلى المصادرة، و على كلّ حال فلعل الوجه ما ذكرناه اوّلا.

ثمّ انّه لما كانت الطّرق إلى اللّه كثيرة بعدد نفوس الخلائق، بل بعدد أنفاسهم و إن اختلفت في الاستقامة و سرعة الوصول و شرف القبول، و غيرها بين الصراط المطلوب المسئول، بعد توصيفه بالاستقامة المطلقة الجامعة المجملة، تأكيدا بل تكريرا للسؤال و تفصيلا بعد الإجمال فأبدل عنه قوله: صراط الذين أنعمت عليهم بدل الكلّ الّذى هو بمنزلة تكرير العامل فيه، و لذا ذهب الأخفش، و الزمخشري، و أكثر المتأخرين على ما قيل إلى أنّ العامل في البدل مقدّر من جنس المذكور، نظرا إلى أنّه و إن عدّ من التوابع إلّا أنّه

مستقلّ برأسه مقصود بالحكم و لذا لم يشترط مطابقته للمبدل منه تعريفا و تنكيرا، و مقتضى ذلك أن يكون عامله أيضا مستقلا

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 638

على حدة، لا عاملا في شي ء قبله، غاية الأمر أنّه لدلالة سابقه عليه اطّرد حذفه عن الكلام فيقدّر كما يقدّر الفعل بدلالة اللّاحق في مثل قوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «1».

لكن قد يقال: إنّ هذا الدليل بعينه استدلّ به أصحاب القول الآخر الذي هو أنّ العامل فيه هو العامل في المبدل منه كغيره من التوابع الّتي عدّ واحدا منها بل قيل: إنه ألصق بمدّعيهم حيث إنّهم قالوا: استقلال البدل، و كونه هو المقصود بالنسبة يؤذنان بأنّ العامل فيه هو الأوّل لا مقدّر آخر، إذا المتبوع كالساقط، فكأنّ العامل لم يعمل في الأوّل و لم يباشر أصلا.

و شيخنا الطبرسي قدّس سرّه جعله صفة للصراط المستقيم قال: و يجوز أن يكون بدلا عنه، و الفصل بين الصفة و البدل أنّ في تقدير تكرير العامل بدلالة تكرير حرف الجرّ في قوله: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ «2» و ليس كذلك الصفة فكما أعيدت اللام الجارّة في الاسم، فكذلك العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرير فكأنّه قال: اهدنا صراط الذين، و ليس يخرج البدل و إن كان كذلك عن أن يكون فيه تبيين للأوّل كما أنّ الصفة كذلك و لهذا لم يجز سيبويه بي المسكين كان الأمر و لا بك المسكين كما أجاز ذلك في الغايب نحو مررت به المسكين «3».

قلت: أمّا جعله صفة فبعيد جدّا سيّما مع التكرير، و لذا جعلوا ناصية في قوله: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ «4» بدلا لا نعتا بل هو قد صرّح به

كغيره مع أنّ في عبارته تسامحا في جعل الموصوف الوصف مع الموصوف، و أمّا ما ذكره في الفرق

______________________________

(1) الانشقاق: 1.

(2) الأعراف: 75.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 29.

(4) العلق: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 639

بين الصفة و البدل فهو مبنيّ على اعتبار تكرير العامل في البدل نظرا إلى ما سمعت ضعفه و إلى ما ذكره من تكرير الجارّة في الآية و في قوله: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ «1».

و فيه أنّ الجارّ و المجرور بدل من الجار و المجرور، و العامل و هو الفعل في الموضعين غير مكرّر كما صرّح به الشيخ الرضيّ رضي اللّه عنه.

بل أورد على نفسه أنّه لو لم يكن المجرور وحده بدلا من المجرور لم يسمّ هذا بدل الاشتمال، لأنّ الجارّ و المجرور ليس بمشتمل على الجار و المجرور بل البيت مشتمل على الكافر، كما أن من آمن بعض الذين استضعفوا.

و أجاب بأنّه لمّا لم يحصل من اللام فائدة إلّا التأكيد جاز لهم أن يجعلوه كالعدم، و يسمّوه بدل الاشتمال نظرا إلى المجرور، و لا يكرّر في اللفظ في البدل من العوامل إلّا حرف الجرّ لكونه كبعض حروف المجرور.

و بالجملة الأظهر في البدل بل في سائر التوابع وفاقا للاكثر أنّ العامل فيها هو العامل في المتبوع، لأنّ المنسوب إلى المتبوع في قصد المتكلم منسوب إليه مع تابعه و لذا قالوا: إنّ الفعل لا يرفع أزيد من واحد بالأصالة إخراجا للتبعيّة.

هذا مضافا إلى ضعف القولين الآخرين فيها و هو تقدير العامل كما سمعت أو كونه معنويا كما في المبتدأ، و هو المحكي عن الأخفش لكونهما على خلاف الأصل، و الظاهر سيّما مع شذوذ الثاني.

و امّا ما

ذكره الإمام عليه السّلام في المقام

تفسيرا للآية من قوله: أي قولوا: صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك و طاعتك «2» ... آه.

فلا دلالة على التقدير بل هو مبني على ما ذكروه من أنّ المبدل منه في درجة السقوط و إن كان الحقّ فيه أنّه ليس على وجه الكلّية أيضا لكونه المرجع

______________________________

(1) الزخرف: 33.

(2) كنز الدقائق ج 1 ص 75 عن معاني الأخبار ص 32 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 640

لضمير البدل أحيانا.

و على كلّ حال ففائدة البدل مطلقا و إن كان تأكيدا لحكم بتكرير ذكر المنسوب اليه، و تكرير النسبة تقديرا أو اعتبارا إلّا أنّه يفيد في المقام مضافا إليه الإشعار بأنّ استقامة الصراط إنّما هو بكونه محصورا بين المنعم و المنعم عليهم، و إن كان المخلوق إنّما ينتهي إلى مثله، لأنّ الطلب إنّما يلجئه إلى شكله، و انّ الصراط المستقيم نعمة منه سبحانه لا من غيره، و أنّ في سلوكه اشتياقا لنفوس المشتاقين و ابتهاجا لأرواح السالكين بسبب مرافقة تلك الأرواح القدسيّة و الأشباح الإنسيّة فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1».

بل قد يقال: إنّه بدل البعض من الكل طلبا لا قرب السبل، فإنّ المستقيم و إن أفاد تخصيص الصراط بإخراج الطرق المعوجة الّتي لا يزيد سالكها إلّا بعدا من اللّه إلّا أنّه يشمل بعد ذلك طريق المقرّبين و أصحاب اليمين، بل يشمل الفرق الثالث الذين أورثهم اللّه كتابه فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ «2».

و طرق الجميع و إن كانت مشتركة في الانتهاء إلى اللّه لاشتراكها في المنتهى، إلّا أنّها مختلفة في المبدأ قربا و بعدا، بل في

نفس المسلك و كيفيّة السلوك أيضا فإنّ بعضهم يتوجّهون إلى اللّه بأبدان الأعمال، و آخرون بأرواحها الّتي هي نفس التوجّه و الإقبال، و لذا قيل: إنّ الآية متضمّنة لجملة من السؤال و الجواب، فكأنّ لسان الربوبية لمّا قال العبد: اهدنا الصراط، سأله أيّ الصراط فإنّ الطرق كثيرة فيجيبه لسان العبوديّة باستدعاء الصراط المستقيم ثمّ خاطبه ثانيا بأنّ الطرق المستقيمة أيضا كثيرة مختلفة لا في نفسها فإنّ المستقيم الواصل بين النهايتين لا يزيد على

______________________________

(1) النساء: 69.

(2) فاطر: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 641

واحد، بل باعتبار المبدأ بحسب القرب و البعد و إن كان الكلّ ينتهى إليه سبحانه، فأجاب العبد، بل الرب بلسان عبد: بأنّ المسئول طريق الذين أنعمت عليهم بشرف الوصال، من دون شوب الغضب و الضلال، فهم أرباب المنحة لا المحنة و أصحاب النعمة لا النقمة، بل هم الواصلون، و غيرهم الضالّون المضلّون.

خليلىّ قطّاع الطريق إلى الحمى كثير و لكن واصلوه قليل

ثمّ إنّ الذين في موضوع الجرّ بإضافة الصراط إليه، و هو جمع الّذي من لفظه لذوي العلم في الأحوال الثلاثة عند الأكثر، و هو الأصحّ و الأفصح، و اللّذون رفعا هذليّة و منه قولهم:

نحن اللّذون صبّحوا الصبّاحا.

نعم ربما يقال: إنّ إعراب الجمع لغة من شدّد الياء في الواحد، و هذا يقوّي قول الجزولي: إنّ الذي مشدّد الياء معرب و أصله اللّذيّون فحذف أحد اليائين، ثمّ عمل ما عمل بقاضون، و عن بعضهم عدم الحذف و العمل أصلا، بل الجري على الأصل بالواو رفعا، و بالياء مع الياء المشدّدة نصبا و جدّا.

و هذا كلّه من أضغاث أحلام المعربين الذين وجدوا الألفاظ مستعملة ثم تكلّموا فيها بما هو شبيه برجم الغيب، كما تكلّموا في الّذى

أيضا بمثل ذلك، حيث زعم الكوفيون أنّ أصله الذال الساكنة فلما أرادوا إدخال اللّام الساكنة عليها زادوا قبلها لا ما متحرّكة لئلّا يجمعوا بين الذال الساكنة و لام التعريف الساكنة، ثمّ حرّكوا الذال بالكسر، و أشبعوا الكسر فتولّدت ياء.

و البصريون أنّ أصله لذ بالفتح و الكسر ألزمت اللام التعريف الّتي لا تفيدها تعريفا، لكونها من المعارف تحسينا للفظها و أشبعت الكسرة ياء.

لكنّه كغيره من تكلّفاتهم ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، بل و لا إلى ما ذكره عارفهم الشيخ صدر الدين القونوى من أنّ الّذي أصله الذيّ، و لكثرة التداول و الاستعمال أفضى فيه الأمر إلى أن حذفت ياؤه المشدّدة، ثم تدرّجوا فحذفوا الياء

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 642

الاخرى فقالوا اللذ ثم حذف بعضهم الذال أيضا فلم يبق إلّا اللام المشدّدة الذي هو عين الفعل، فإنّ اللام الاخرى لام التعريف، فاذا قلت زيد الذي قام، أو قلت القائم، كان المعنى واحدا فلام القائم ناب مناب قولك: الذي، و الياء و النون في الّذين ليس للجمع، بل لزيادة الدلالة لما تقرّر أنّ الموصولات لفظ الواحد، و الجمع فيهن سواء، لأنّه لو كان الياء و النون في الّذين للجمع لا عيد إليه حين الجمع الياء الأصلية المحذوفة على العادة الجارية في مثل ذلك، و لم يكن أيضا نبيّا بل معربا و الّذين مبنيّ بلا شكّ انتهى.

إذ فيه أنّه من أين علم أنّ اللام الموصولة أصلها الذيّ و أن أصله أيضا بتشديد الياء، و ما الداعي إلى ذلك و هل رأت النحاة إلا بعض الاستعمالات التي ربما استنبط بعضهم منها بعض النكات التي ليست بعلل أوليّة.

نعم ربما يقال: إنّ في المفرد أربع وجوه، بل لغات يختلف باعتبارها صيغ المثنى

و المجموع: أحدها بالياء المشدّدة كالنبيّ، و المثنّى اللذيات بزيادة الألف و النون بعد الياء المشدّدة، و الجمع اللذيون بضمّ الياء المشدّدة رفعا و اللذين بكسرها نصبا و جرّا على وزن النبيّين.

ثانيها اللغة المشهورة الّتي هي تخفيف الياء في المفرد، و حذفها مع زيادة الألف و النون رفعا و الياء و النون نصبا و جرّا مع فتح الذال في الأحوال كقوله:

وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها «1» أَرِنَا الَّذَيْنِ «2».

و إن قيل: إنّه ربّما يشدّد النون حينئذ كما قيل: إنّ هذه الملحقات ليست علائم للإعراب و إن توهّمها بعض القاصرين فإنّ الموصولات بأسرها مبنيّات وضعت صيغتها للدلالة على معانيها، و لذا كان جمعه في الأحوال بالياء و النون و إن اشتهرت عن هذيل بالواو رفعا، بل ربما يقال: إنّ الياء و النون في الّذين ليست

______________________________

(1) النساء: 16.

(2) فصّلت: 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 643

علامة للجمع أصلا، بل لزيادة الدلالة، بل قيل: من لطائف الغرائب أنّ المفرد و المثنى يعمّ ذوي العقول و غيرهم، بخلاف الجمع فإنّه يختصّ بذوي العقول، و لعلّها قيست بالجمع السالم.

ثالثها حذف الياء اكتفاء بالكسرة الدالّة عليها على حدّ قوله: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ «1» لكنّها شاذّة كالوجه الرابع الذي يحذف فيه الكسرة أيضا، و كانّهما وقعا في ضرورة الشعر فظنّوهما لغتين، بل لعلّ الوجه الأول أيضا كذلك.

تبصرة

للصراط اعتبارات ثلاثة لأنّه في نفسه طريق معنوي محصور بين المبدأ و المنتهى، و هو مشروع مجعول من اللّه سبحانه لسلوك العبد فيه، و لذا وصفه أوّلا بالاستقامة التي هي صفة ذاتية له، ثمّ أضافه في السالكين الذين أنعم اللّه عليهم بسلوك هذا الصراط المستقيم في التوجه إليه و الإقبال عليه، ثمّ أشار الى أنّه نعمة منه،

و أنّه هو المنعم به على عبيده، و إنّما أضافه إلى المنعم عليهم بالفتح دون المنعم بالكسر للتنبيه على كون هذا الصراط الموصوف بالاستقامة طريقا لهم نعمة من اللّه عليهم، و لذا قال بعد قوله: وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ... فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ «2».

و انّه ليس لأحد التنعّم بهذه النعمة الجليلة المحتوية على خير الدنيا و الاخرة إلّا بمتابعتهم و مشايعتهم و الاقتداء بهديهم و الاهتداء بنورهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «3».

______________________________

(1) القمر: 6.

(2) النساء: 68- 69.

(3) الانعام: 90.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 644

فإن القرآن نزل على حدّ إيّاك أعنى و اسمعي يا جاره، و من هنا يظهر أنّه يمكن الاستدلال بهذه الآية على أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين وسائط الخلق إلى اللّه سبحانه و أنّهم الأبواب و الحجاب و النواب، سيّما بعد ما سمعت أنّ ولايتهم هو الصراط المستقيم الذي نجى به من نجى و هلك من هلك، فبهم تمّت الكلمة، و عظمت النعمة، و هم السبيل الأعظم إلى اللّه، و الصراط الأقوم إليه، و شهداء دار الفناء، فلا يغيب منهم عمل عامل من حق أو باطل، و شفعاء دار البقاء فيشفعون لمن ارتضى اللّه دينه بولايتهم، و محبّتهم و الانقطاع إليهم، و الأخذ منهم و العمل بمقتضيات ولايتهم.

و الآية و إن لم يكن فيها تصريح بالتّعيين فضلا عن الحصر إلّا أنّه يتمّ ذلك بضميمة الأخبار المستفيضة المتقدمة المصرّحة بكونهم الصراط المستقيم، مضافا إلى ما سمعت من الإشارة إلى ذلك في آيات كثيرة يقطع الناظر فيها سيّما بعد التأمّل فيما ورد في

تفاسيرها من الطريقين لو كان من أهل الشك و الارتياب.

أمّا المؤالف المؤتمن فضلا عن المؤمن الممتحن فلعلّه لا يستريب في وساطتهم المحقّقة و بابيّتهم المطلقة في جميع الفيوض التكوينيّة و التشريعيّة على وجه لا يوجب الإلحاد و لا التعطيل حسب ما أشرنا إليه، كما أنّه يستفاد من الآية أيضا مضافا إلى ما استفيد من الآية المتقدّمة حسب ما أشرنا اليه تقرير الأمر بين الأمرين على أتمّ الوجوه و أبلغها بالنسبة إلى المنعم عليهم الّذين هم قادة الأمم و أولياء النعم، نظرا إلى أنّه سبحانه أضاف الصراط إليهم أوّلا نفيا لتوهّم الجبر و أضاف النعمة إليه سبحانه، ثانيا دفعا لشوب التفويض الّذى توهمته الغلاة أو المفوضة إليهم أو إلى أنفسهم، و لذا أضاف إلى نفسه و إلى خلقه معا الصراط كما في هذه الآية،

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 645

و في قوله: أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ «1» و الدين في قوله: أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ «2»، و الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «3» و الهداية في قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «4» و إن كان مرجع الثلاثة الى واحد.

ثمّ إنّ إضافة الصراط إلى الموصولة لاميّة تفيد اختصاصه بهم فإن أريد بهم المتبوعون فالاختصاص بهم واضح، و إن أريد التابعون فاختصاصه بهم من حيث السلوك و الاستطراق و إن كان مختصّا بالنّبي صلّى اللّه عليه و آله و عترته المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين من حيث الإشراق و الاشتقاق، و باللّه سبحانه من حيث الانوجاد و الانخلاق لكفاية أدنى الملابسة في باب الإضافة.

و لذا أضيف إليه سبحانه في قوله: صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ «5» الآية و قوله: صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ «6»

و إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ «7».

و إلى مولينا أمير المؤمنين روحي له الفداء في قوله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ «8» على وجه البيان أو الاضافة، و ان كان محتملا للأول، و لتقدير اللام.

ثمّ إنّ التعبير بالذين في المقام دون من و غيره من الأسماء الموصولة إنّما هو لزيادة الإشعار فيه بالتعظيم و التفخيم، بل التصريح بالجمعيّة الداعية إلى الالتحاق

______________________________

(1) الأنعام: 153.

(2) آل عمران: 83.

(3) المائدة: 3.

(4) الانعام: 90.

(5) إبراهيم: 1- 2.

(6) الشورى: 53.

(7) يوسف: 108.

(8) الحجر: 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 646

بهم و الانخراط في زمرتهم إيثارا لموافقتهم و مرافقتهم، و لذا ندب سبحانه إلى طاعته و طاعة رسوله موافقة أوليائه في قوله: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1».

نعم قرء شاذا صراط من أنعمت عليهم و نسبه في الكشّاف إلى عبد اللّه بن مسعود، بل رواه مرسلا شيخ الطائفة في «البيان» و الطبرسي في «مجمع البيان» «2» عن أهل البيت عليهم السّلام لكنه لا ريب في شذوذه و عدم ثبوته لهذه الرواية المرسلة الّتي لا جابر لها، مضافا إلى أنّ الموجود في تفسير الامام عليه السّلام بل و في غيره من الأخبار المشتملة على تفسير هذه المباركة و الآية الشريفة هو القراءة المشهورة، هذا مضافا إلى أنّه نسب في «التبيان» و في «مجمع البيان» هذه القراءة الشاذة إلى شاذّ من الناس كالثاني و الزبيري و من البيّن أنّ الرشد في خلافهما.

نعم

روى القمي في تفسيره عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد اللّه عليه

السّلام أنّه قرأ صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و غير الضالين «3».

و لعل الأولى حمله على التقيّة لما سمعت.

بسط في الكلام لبيان معنى الإنعام

الإنعام إفعال من النعمة بمعنى إعطائها و إيصالها، و هي بالكسر و إن قيل: إنّها مأخوذة من النعمة بالفتح بمعنى اللين، و منها النعومة في البدن، و النعامى بالضم ريح

______________________________

(1) النساء: 69.

(2)

في مجمع البيان ج 1 ص 28 قرأ: «صراط من أنعمت عليهم» عمر بن الخطاب و عمرو بن عبد اللّه الزبيري، و روى ذلك عن أهل البيت عليهم السّلام.

(3) تفسير القمي ج 1 ص 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 647

الجنوب لكنها بالفتح اسم بمعنى التنعّم كما صرحوا مضافا إلى قوله: وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ «1»، و لذا قيل: بأنّ الموجود في كتب اللغة أنّها بالفتح هي التّنعم، و بالكسر هي المال، و نحوه، و من كلامهم: كم من ذي نعمة لا نعمة له، أي كم من ذي مال لا تنعم له.

و قيل: إنّها من النعمة بالضم بمعنى المسرة و البهجة فالنعمة ما توجبها و تقرّبه العين.

و قيل: إن الإنعام الإتمام تقول: أنعمت دقّه إذا بالغت فيه و أتممته، و لعلّ أصل الباب للمبالغة و الزيادة لكن على وجه الرفق و السهولة، و لذا اقتصر عليها في «مجمع البيان» و إن لم يذكر القيد، و على كلّ حال فالنعمة في الأصل و إن كانت هي الحالة المستلذّة للإنسان لكونه صحيحا مليّا وجيها إلى غير ذلك ممّا تشتهيه الأنفس و تقرّبه الأعين، إلّا أنّها أطلقت على نفس الشي ء المستلذّ به كالمال، و الصّحة، و الجاه إطلاقا لاسم المسبب على السبب، نعم يختلف النعمة باختلاف الأشخاص و الأحوال و الأزمان إلى غير ذلك من

المشخّصات الّتي قد يكون الشي ء معها نعمة و نقمة من جهتين، فالمال مثلا في نفسه و بالنسبة إلى بعض الأشخاص أو مطلقا نعمة، و قد يكون نقمة على غيره، إذ يسعد به قوم، و يشقى به آخرون إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «2» و وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ «3»، أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ «4».

______________________________

(1) الدخان: 27.

(2) العلق: 6.

(3) الشورى: 27.

(4) إبراهيم: 28.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 648

كما أنّه ربما يكون الشخص حيث يتلذّذ و يتنعّم بكلّ ما يرد عليه و لو من البلايا و المحن الدنيوية كالفقر و المرض و الذلّة و غيرها من البلايا و المصائب.

و لذا

ورد في الخبر: إنّ العبد إذا بلغ حقايق اليقين، فالبلاء عنده نعمة.

و

في العلوي الّذي رواه كميل بن زياد انّ النفس الكلية الالهيّة لها خمس قوى بقاء في فناء، و نعيم في شقاء، و عزّ في ذلّ، و فقر في غناء، و صبر في بلاء، و لها خاصيّتان: الرضا و التسليم «1».

و ذلك لا لإيثار الفقر و الذلّة و البلاء على أضدادها من حيث هي، فإنّ الكلّ نعمة منه تعالى مع أنّ النعمة في أضدادها أتمّ و أعمّ، بل إنّما ذلك لما يلزمها من قطع العلائق و الانقطاع عن الخلايق، و التوجّه التّام إلى جناب الخالق، أو لأن العبد يلزم أن يكون في مقام التسليم بحيث يتلقّى و يرضى بما يرد عليه، و لذا عدّ في العلوي المتقدّم من خواصّ النفس الكلّية الالهية الرضا و التسليم، و هو من أسنى المقامات على ما يستفاد من أخبار كثيرة.

ثمّ إنّ نعم اللّه سبحانه على كلّ

عبد من عبيده ممّا لا تعدّ و لا تحصى و لذا قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2» كيف و لا يمكن لأحد الاطّلاع على الاستقصاء بجميع الارتباطات الّتي بينه و بين كلّ جزئي من جزئيّات العالم، ممّا جعله اللّه تعالى من روابط فيوضه الروحانية و الجسمانية بلا واسطة أو معها مع وحدتها أو تكثّرها بل لعل الفيض الواحد الجزئى، فضلا عن الفيوض الكثيرة الغير المتناهية الّتي لا يعلمها أحد إلّا هو سبحانه له ارتباط بجميع مراتب الفيوض الواقعة

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 61 ص 85 عن بعض كتب الصوفيّة.

(2) إبراهيم: 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 649

في السلسلة الطّولية و العرضية لإستحالة الطفرة في الوجود و انقطاع الروابط بين العابد و المعبود، بل كلّ عال مجاز و درجة لما تحته في الصعود، و وسيلة له إلى واجب الوجود، و كلّ سافل مجاز للعالي و مظهر له في النزول، و رابطة بين العلّة و المعلول، حتّى أنّه لو تغيّر البعض تغيّر الكل، و لذا قال سبحانه: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ «1».

و

ورد أبى اللّه أن يجرى الأمور إلّا بأسبابها «2».

و بالجملة فرحمته عامّة شاملة و عنايته تامّة كاملة، و حينئذ فينفتح بهذا المقال باب للسؤال، و هو أنّ المنعم عليهم جميع الخلق أجمعين من المسلمين و المشركين و الكافرين، و قضيّة عموم الموصول، و حذف متعلق النعمة، و عدم التعرض لخصوصيّتها شمول الموصول لكلّ من أنعم اللّه تعالى عليه بأيّ نعمة كان، فيكون المسئول طرق جميع أهل العالم، و لا يمكن الجمع بين طرق الجميع الشامل للمؤمن و الكافر و المشرك و المنافق و المطيع بمراتب الإطاعة و درجاتها- و العاصي بفسوق المعصية و دركاتها،

و لا ريب أنّ المقصود بالسؤال خلافه.

لكنّ الخطب سهل في دفعه بعد افتتاح الآية في الهداية الظاهرة في طريق الصواب الموصل إلى الأحباب، و نيل الثواب، سيّما مع توصيفه بالمستقيم الذي هو صفة مخصّصة للصراط إن لم نقل: إنّ اللام فيه للإشارة إلى الفرد الكامل الذي هو تمام الحقيقة، أو إلى المعهود الذي هو المقصود، أو أنّ غيره لا ينبغي أن يسمّى صراطا، و لا الإرشاد إليه و إرائته هداية إلّا على وجه التهكّم.

هذا مع أن الّذين أنعمت عليهم ظاهر في المعهودية في خصوص قوم، و هم

______________________________

(1) القمر: 50.

(2)

في عوالي اللآلى ج 3 ص 286 ح 27 عن الصادق عليه السّلام: أبى اللّه أن يجرى الأشياء الّا على الأسباب و في الكافي كتاب الحجّة ح 7. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 650

تفسير الصراط المستقيم ج 3 699

الّذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصّدّيقين و الشهداء و الصالحين، و لو لاستفادته من التعبير بالموصولة أو ظهور النعمة في الفرد الأكمل، أو جميع أفرادها التي يختص بها المؤمن الكامل، أو لأنّ النعمة لم تبق على الكفّار نعمة، بل جعلوها نقمة عليهم، و لذا كان مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام، بل كلّ نعمة من نعم اللّه الّتي هو عليه السّلام أعظمها نعمة على الأبرار، و نقمة على الفجار أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً «1» مضافا إلى تعقيبه بالمخصّص المتّصل الذي هو غير المغضوب عليهم و لا الضالّين على فرض عمومه و إلّا فقد عرفت اختصاصه من وجوه عديدة.

و لذا

قال مولينا الإمام عليه السّلام: إنّ هؤلاء هم الذين قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ

عَلَيْهِمْ «2». «3» و حكى هذا بعينه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال ثمّ قال عليه السّلام ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال و صحّة البدن، و إن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة ألا ترون أنّ هؤلاء قد يكونون كفّارا أو فسّاقا فما ندبتم أن تدعوا بأن ترشدوا إلى صراطهم، و انّما أمرتم بالدعاء لأن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم بالإيمان باللّه و تصديق رسوله، و بالولاية لمحمّد و اللّه الطّيبين و أصحابه الخيّرين المنتجبين، و بالتقيّة الحسنة التي يسلم بها من شرّ عباد اللّه و من شرّ الزنادقة في أيّام أعداء اللّه بكفرهم بأن تداريهم فلا تغريهم بأذاك و لا أذى المؤمنين، و بالمعرفة بحقوق الإخوان من المؤمنين فإنّه ما من عبد و لا أمة و الى محمّدا و آل محمّد و أصحاب محمد و عادى من عاديهم إلّا كان قد اتّخذ من عذاب اللّه حصنا منيعا و جنّة حصينة، و ما من عبد و لا أمة داري عباد اللّه بأحسن المداراة فلم يدخل بها في باطل، و لم يخرج بها عن

______________________________

(1) إبراهيم: 28.

(2) النساء: 69.

(3) تفسير العسكري: ص 22- 23. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 651

حقّ إلا جعل اللّه نفسه تسبيحا و زكّى عمله، و أعطاه بصيرة على كتمان سرّنا و احتمال الغيظ لما يسمعه من أعدائنا ثواب المتشحط بدمه في سبيل اللّه، و ما من عبد أخذ نفسه بحقوق إخوانه فوفّاهم حقوقهم جهده و أعطيهم ممكنه، و رضي عنهم بعفوهم، و ترك الاستقصاء عليهم فيما يكون من زللهم و غفرها لهم إلّا قال اللّه عز و جلّ له يوم القيمة: يا عبدي قضيت حقوق إخوانك و لم تستقص عليهم

فيما لك عليهم، فإنى أجود و أكرم، و أولى بمثل ما فعلته من المسامحة و التكرم، فأنا أقضيك اليوم على حقّ وعدتك به و أزيدك من الفضل «1» الواسع، و لا أستقصى عليك في تقصيرك في بعض حقوقي قال عليه السّلام فيلحقه بمحمّد و آله و أصحابه و يجعله من خيار شيعتهم «2».

ثمّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد اللّه أحبّ في اللّه و أبغض في اللّه، و وال في اللّه و عاد في اللّه، فإنه لا تنال ولاية اللّه إلّا بذلك، و لا يجد رجل طعم الإيمان و ان كثرت صلاته و صيامه حتى يكون كذلك، و قد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا عليها يتوادون و عليها يتباغضون، لا يغني من اللّه شيئا فقال الرجل: يا رسول اللّه فكيف أن أعلم أنّى قد واليت في اللّه و عاديت في اللّه و من ولي اللّه حتى أواليه، و من عدو اللّه حتى أعاديه فأشار له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عليّ عليه السّلام فقال: أ ترى هذا؟ قال: بلى قال: ولى هذا ولى اللّه فواله، و عدوّ هذا عدو اللّه فعاده، و وال وليّ هذا و لو أنّه قاتل أبيك و ولدك، و عاد عدوّ هذا و لو أنّه أبوك و ولدك «3».

______________________________

(1) في البحار: من فضلي الواسع.

(2) بحار الأنوار: ج 24/ 10- 11 عن تفسير الإمام ص 17- 18.

(3) البحار ج 27 ص 54 ح 8 عن تفسير الامام ص 18 و معاني الاخبار ص 113 و عيون الأخبار ص 161 و علل الشرائع ص 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3،

ص: 652

تتمّة مهمّة في أنّ النعمة هي الولاية

قد سمعت تواتر الأخبار و شهادة الإعتبار على أنّ المراد بالصراط المستقيم هي ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام، و هي طريقته في معرفته للّه تعالى و لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في عبادته و عبوديّته لوقوفه على التطنجين و برزخيته الكبرى في البين.

و نزيد في المقام أنّ قضيّة الإنعام أنّ هاهنا أمورا ثلاثة: المنعم و المنعم عليهم و النعمة، فالأول هو اللّه تعالى، و الثاني قد مرّ أنّه جميع من أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصّديقين و الشهداء و الصالحين بل و الكروبيّين و العالين، بل و غيرهم من صنوف الملئكة و الجنّة و الناس أجمعين، و امّا الثالث فهو ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام إذ بولايته و محبّته و مشايعته في عبادة ربّه و متابعته في طريق معرفته قد فاز الفائزون، و نجى الصالحون، و لذا

ورد: أنّ اللّه تعالى قد أخذ ميثاق ولايته على الأنبياء و المرسلين و جميع الخلق أجمعين

فسعد من صدّقه بتصديقه، فخلق بهيئة التصديق، و هيكل التوحيد، و شقي من كذّبه بتكذيبه، فإنّ ولايته متضمنة لولاية اللّه تعالى و ولاية رسوله، بل لإطاعة اللّه عزّ و جلّ في كلّ ما دقّ و جلّ من الأصول و الفروع و الآداب و السنن و الأحكام الاقتضائية و التخييريّة و الوضعيّة على حسب حال موضوعاتها من العموم و الخصوص و الإطلاق و التقييد و الظاهر و الباطل.

و لذا

قال مولينا الصادق عليه السّلام: إنّ الدهر فينا قسّمت حدوده و لنا أخذت عهوده «1».

بل

ورد من طريق العامة أيضا عن انس بن مالك قال دفع على بن أبي طالب عليه السّلام إلى بلال درهما ليشتري به بطيخا

قال: فاشتريت به بطيخة فوجدها مرّة فقال: يا بلال ردّ هذا إلى صاحبه و أتني بالدرهم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لي: إنّ اللّه أخذ حبّك على البشر و الشجر و الثمر و البذر فما أجاب إلى حبّك عذب و طاب، و ما

______________________________

(1) لم أظفر على مصدره. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 653

لم يجب خبث و مرّ، و إنّي أظنّ أنّ هذه ممّا لم يجب «1».

و ممّا يصرّح بكون ولايته عليه السّلام تمام النعمة قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ «2».

لما ستسمع من استفاضة الأخبار بل تواترها من الفريقين على أنّ المراد بها في الآية تنزيلا و تأويلا ولايته عليه السّلام و نصبه علما للناس.

و لذا

قال مولينا الصادق عليه السّلام في الدعاء المرويّ في «التهذيب» و غيره بعد صلوة الغدير: و مننت محمّدا و ذريّته «3».

و في تفسير قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ «4»

عن القمى عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام قال عليه السّلام: ما بال قوم غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عدلوا عن وصيّة لا يخالفون أن ينزل بهم العذاب، ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال: نحن النعمة التي أنعم اللّه على عباده، و بنا يفوز من فاز يوم القيمة «5».

و

فيه عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ «6» قال: أ تدري ما آلاء اللّه؟ قلت: لا، قال: هي أعظم نعم اللّه على خلقه و هي ولايتنا «7».

و

روى القمي و غيره عن مولينا الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً «8»، قال: أمّا

النعمة الظاهرة فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به من معرفة

______________________________

(1) ينابيع المودّة ج 2 ص 180 ح 520 و ذخائر العقبى ص 92.

(2) المائدة: 3.

(3) معاني الاخبار ص 31 ح 7.

(4) إبراهيم: 28.

(5) بحار الأنوار: ج 58 ص 22.

(6) الأعراف: 69.

(7) البحار: ج 24/ 59 عن الكافي ج 1 ص 217.

(8) لقمان: 20. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 654

اللّه و توحيده، و أمّا النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت و عقد مودّتنا «1».

و بمعناه أخبار أخر، بل

في بعضها أنّ النعمة الظاهرة الإمام الظاهر و الباطنة الإمام الباطن.

و

في «المحاسن» مسندا عنه عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله يا أبا ذر من أحبّنا أهل البيت فليحمد اللّه على أوّل النعم، قال: يا رسول اللّه و ما أوّل النعم؟ قال: طيب الولادة لا يحبّنا أهل البيت إلّا طاب مولده «2».

و

في الزيارة الجامعة: بموالاتكم تمّت الكلمة، و عظمت النعمة.

ثمّ إنّه قد فسّرت النعمة في هذه الآية و في غيرها أيضا بالدين، و الإسلام، و الإيمان، و المعرفة، و التقوى، و التوحيد، و غيرها من التعبيرات المختلفة الّتي مرجعها إلى حقيقة الولاية بالحدود المعتبرة.

عباراتنا شتّى و حسنك واحدو كلّ إلى ذاك الجمال يشير

و لذا فرض اللّه طاعته و إقامة ولايته على الناس أجمعين بل جعل ولايته المعرّف الصحيح، و الكاشف الأخير لتوحيده و نبوة رسوله.

و

ورد في النبوي: أنّ اللّه تعالى لمّا خلق آدم و نفخ فيه من روحه عطس آدم فقال: الحمد للّه، فأوحى اللّه تعالى إليه حمدتني، و عزّتي و جلالي لو لا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدنيا «3» ما خلقتك يا آدم قال: إلهى فيكونان منّي، قال: نعم

يا آدم ارفع رأسك و انظر، فرفع رأسه فإذا مكتوب على العرش: لا اله الّا اللّه، محمّد نبيّ الرحمة، و عليّ مقيم «4» الحجّة، من عرف حقّ عليّ زكى و طاب، و من أنكر حقّه لعن و خاب، أقسمت بعزّتي أن أدخل الجنّة من أطاعه و إن عصاني، و أقسمت

______________________________

(1) البحار: ج 24/ 54 عن المناقب ج 3 ص 314.

(2) بحار الأنوار: ج 27/ 150 عن أمالى ابن الشيخ ص 38- 39.

(3)

في البحار: في آخر الدنيا.

(4)

في البحار: و على مفتاح الجنّة. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 655

بعزّتي أن أدخل النار من عصاه و إن أطاعني «1».

بل

قد ورد أخبار كثيرة في تفسير قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ «2».

الآية: أنّ المراد بالحسنة و اللّه ولاية أمير المؤمنين، و السّيئة و اللّه اتّباع أعدائه.

و

في الكافي عن مولينا الصادق عليه السّلام عن جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الآية قال عليه السّلام: الحسنة معرفة الولاية و حبّنا أهل البيت، و السّيئة إنكار الولاية و بغضنا أهل البيت «3».

و مثله أخبار كثيرة تأتي في موضعها، بل ورد مثله في طرق العامّة عن عبد اللّه بن مسعود و غيره عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

فعن «المناقب» للخوارزمي عنه صلّى اللّه عليه و آله: لو اجتمع الناس على حبّ عليّ بن أبي طالب لما خلق اللّه عزّ و جل النار «4».

و

عن كتاب «الفردوس» عن معاذ عنه صلّى اللّه عليه و آله: حبّ علىّ بن أبي طالب حسنة لا تضر معها سيّئة و بغضه سيّئة لا ينفع معها حسنة، و ادخل الجنة

من أطاعه و إن عصاني و ادخل النار من عصاه و إن أطاعني «5».

بل في المحكي عن الزمخشري في بيانه أنّه قال: هذا رمز حسن، و ذلك أنّ حبّ عليّ هو الإيمان الكامل، و الإيمان الكامل لا تضرّ معه السيّئات قوله: و إن عصاني فإنّى أغفر له إكراما و أدخله الجنّة فله الجنة بالإيمان، و له بحبّ عليّ العفو و الغفران، و قوله: ادخل النار من عصاه و إن أطاعنى، و ذلك لأنّه إن لم يوال عليا فلا

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 68 ص 130 ح 61 عن بشارة المصطفى ص 82 و ليس فيه: (أدخل الجنة من أطاعه و إن عصاني ...) نعم في ذيله: أقسم بعزّتى أن أرحم من تولّاه و أعذّب من عاداه.

(2) النمل: 89- 90.

(3) أصول الكافي ج 1 ص 185 ح 14.

(4) المناقب للخوارزمي ص 607 الفصل 6 ص 39.

(5) الفردوس ج 2 ص 142 ح 2725 و ليس فيه: (و ادخل الجنّة ... إلخ).

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 656

إيمان له و طاعته هناك مجاز حقيقة، لأن الطاعة الحقيقية هي المضاف إليها سائر الأعمال، فمن أحبّ عليّا فقد أطاع اللّه و نجى.

فعلم أنّ حبّه هو الإيمان و بغضه هو الكفر، و ليس يوم القيمة إلا محبّ و مبغض، فمحبّه لا سيّئة له و لا حساب عليه، و من لا حساب فالجنة داره، و مبغضه لا إيمان له، و من لا إيمان له ينظر اللّه إليه بغير رحمته، و طاعته عين المعصية إلى أخر ما ذكره في مادّة «عصاني» مجمع البحرين «1» و كأنّه حكاه عن الشيخ البرسي الذي خلط كلامه بكلام الزمخشري فلاحظ «2».

و حيث إنّك قد سمعت أن المنعم عليهم

هم الأنبياء و المرسلون، و الملئكة أجمعون، و العباد الصالحون حسب ما هو قضيّة عموم الآية بل خصوص الآية الاخرى المتقدّمة، سيّما مع ملاحظة تفسير الإمام عليه السّلام فالنعمة عليهم جميعا في ولاية مولينا أمير المؤمنين، حسب ما مرّت الإشارة إليها آنفا من أنّ المراد بولايته هو القيام بحدود العبوديّة و وظائفها، و ملازمة التقوى، و الطاعة الكاملة المطلقة في جميع ما شاء اللّه و أحبّ من الأمور التشريعية و غيرها، فكلّ من ارتكب منهم شيئا خلاف ما هو الأولى و الأحرى فقد خرج عن حدود ولايته، كما أنّه خرج عن وظائف عبوديّة اللّه سبحانه، و لا تتوهم من هذا شركا أو إلحادا فإنّ اللّه تعالى جعل ولايتهم ولايته، و طاعتهم طاعته، و معصيتهم معصيته، و محبّتهم محبّته، و إن شئت فقل: جعل ولايته ولايتهم للأول إلى الاتّحاد من غير إلحاد، و في البين ما تقرّبه العين فمن أطاعهم فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصى اللّه، و من أحبّهم فقد أحبّ اللّه، و من أبغضهم فقد أبغض اللّه، لا لقضية الملازمة فإنّها بعيدة غير ملائمة، بل لأنها هي، لا لأنّهم هو، بل لأنّهم الأعراف الّذين لا يعرف اللّه إلّا بسبيل محبّتهم و معرفتهم و ولايتهم لأنه جعلهم أبوابه و سبله و حجبه، و معادن لكلماته و أركانا لتوحيده و آياته

______________________________

(1) مجمع البحرين ج 1 ص 259 في ذيل كلمة (عصى) ط بيروت.

(2) مشارق أنوار اليقين للبرسي ص 66.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 657

و مقاماته الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان يعرفه بها من عرفه لا فرق بينه و بينهم إلّا أنّهم عباده و خلقه فإنّهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و

هم بأمره يعملون.

ثمّ إنّ سبل الذين أنعم اللّه عليهم من هؤلاء المعدودين و إن كانت بمختلفة جدّا لاختلاف مراتب القبول الّتي يختلف بها الوصول لكنّ المسؤول هو النوع الّذي لأفرادها عرض عريض جدّا حتّى أنّ الهداية اللائقة بشخص واحد خاصّ من حيث الاستعداد و القبول لها جزئيّات مختلفة من حيث خصوصيّات الأزمان و الأحوال، و من هنا يسقط ما لو ربّما توهّم من أنّه كيف يصحّ سؤال الصراط المبهم و سؤال ما لا ينال قطعا إذ مع أن سبيل كلّ واحد لا يتعدّاه لا ريب أنّ سبيل الأنبياء و الأوصياء المخصوصين بالعصمة على اختلاف مراتبها لا يتعدّاهم إلى غيرهم، و مع فرضه فمن البيّن أنّه لا يناله كلّ أحد ممّن امر بهذا الطلب في كلّ صلوة و غيرها.

ثم إنّه قد ظهر من جميع ما مرّ أنّ النعمة التي منّ اللّه تعالى بها عليهم هو نفس هدايتهم إلى الصراط المستقيم، أو نفس الصراط على بعض الوجوه، فكأنّه جعل المقصد الصراط الذي هو النعمة العظمى: منه سبحانه على جميع المؤمنين و الشهداء و الصالحين بل الأنبياء و المرسلين و لذا جمعهم في الهداية مع الامتنان عليهم بالنعمة في الآية بل في صريح الآية المتقدّمة و في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1»، و إن لم يصرّح بالصراط لأنّ الآية في حقّه و في يوم نصبه، و في قوله تعالى: خطابا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «2» و إتمام النعمة عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجعل وصيّه بابه و حجابه ليتمّ بولايته نبوّته من حيث التبليغ و الإرشاد و هداية

الخلق.

و أمّا هدايته إلى الصراط المستقيم فإمّا باعتبار نيل ذلك المقام الذي به إتمام

______________________________

(1) المائدة: 3.

(2) الفتح: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 658

القوسين و الوقوف على التطنجين.

و لذا

ورد في القدسيّات على ما مرّ: لولاك لما خلقت الأفلاك، و لو لا علىّ لما خلقتك «1»

، و إمّا للتعبير به عن هداية أمّته، حيث

إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحمّل ذنوب أمّته عنهم ليغفر له اللّه ما تقدّم من ذنب أمّته و ما تأخر، كما ورد عن الإمام عليه السّلام في تفسير صدر الآية.

ثمّ إنّه يظهر لك ممّا مرّ أنّ تفسير المنعم عليهم بخصوص المتقين أو السالكين، أو التائبين، أو المشتاقين، أو المنقطعين إليه سبحانه، أو الفانين عن هويّات وجوداتهم و ذواتهم فيه به له، إلى غير ذلك من المقامات الّتي لا تدركها العقول، و لا تنالها الأوهام إلّا بعد الوصول تخصيص من غير مخصّص بعد اشتراك الجميع في الهداية و الاستقامة، و إن اختلفت في مراتب الفضل و الكرامة، فإنّ هذه كلّها كالفروع و الجزئيّات لما ذكرناه من الولاية التي هي الأصل المحتوي على جميع ذلك و على غيره ممّا لم يذكر في المقام، و لم تجربها الأقلام، بل لم تخطر على الأوهام.

و أمّا تعيين الفرقة المنعم عليهم من بين فرق الإسلام فقد لوّحنا لك أنّه الفرقة الناجية الإماميّة الاثنى عشرية، و ستسمع تمام الكلام في إقامة البرهان من طريق العقل و النقل على أنّهم هم المخصوصون بالهداية و العناية و الكرامة و الاستقامة من بين الفرق الاسلاميّة الذين أضافوا إليهم اسمه و أضاعوا رسمه، و هم بضع و سبعون فرقة كلّهم في النار فضلا عن غيرهم من فرق الكفار، و لانحرافهم

بالغلوّ و الإلحاد عن الصراط المستقيم الذي هو الإقتصاد في الأقوال و الأفعال و الإعتقاد فيمن سمّاهم اللّه تعالى بالمنذر و الهاد.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 15 ص 28 ح 5- و ج 57 ص 99 ح 3 و الجملة الثانية ليست موجودة فيه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 659

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وصل

و حيث قد سمعت أنّ الاستقامة يلزمها طرفان نوعيّان محصوران بكثرة أفرادهما في القصور و التقصير أراد سبحانه بعد التلويح به بوصف الصّراط بالاستقامة التصريح ببيان أحوال الفرق الثلاث و اعدادها فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها فجعل المسئول المأمول صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصّديقين و الشهداء و الصالحين.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بالتقصير و التفريط في ولاية أوليائه حتى ألحقوا بتهودهم و رجوعهم إلى الجاهلية الاولى و إتّباعهم لعجل الامّة و سامريّها بمن لعنه اللّه و غضب عليه و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت فإنّ المسخ الباطني غير منسوخ في هذه الامّة.

وَ لَا الضَّالِّينَ الذين أفرطوا و غلوا في حبّهم و طاعتهم حتّى اتّبعوا بغلوّهم أهواء النصارى الّذين قد ضلّوا من قبل و أضلّوا كثيرا و ضلّوا عن سواء السبيل.

و لذا فسّر في بعض الأخبار باليهود و النصارى، و في بعضها بالغلاة و القلاة:

و في ثالث تنزيل كلّ من الوصفين على كلّ من الفريقين، بل جميع الفرق المنحرفة كما

في «تفسير الامام عليه السّلام» عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه أمر عباده أن يسألوه طريق المنعم عليهم، و هم النبيّون و الصّديقون و الشهداء.

و أن يستعيذوا به من طريق المغضوب عليهم، و هم اليهود الّذين قال اللّه تعالى

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 660

فيهم: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ

اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ «1».

و أن يستعيذوا به من طريق الضالّين و هم الذين قال اللّه فيهم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ «2» الآية و هم النصارى.

ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: كلّ من كفر باللّه فهو مغضوب عليه، و ضالّ عن سبيل اللّه عز و جل «3».

و قال الرضا عليه السّلام مثله و زاد فيه: من تجاوز بأمير المؤمنين العبوديّة فهو من المغضوب عليهم و من الضّالين «4».

إلى آخر ما تسمعه في مقالة الغلاة.

و

روى القمي عن مولينا الصادق عليه السّلام قال: إنّ المغضوب عليهم النصارى و الضّالين أهل الشكوك الّذين لا يعرفون الإمام عليه السّلام «5».

إلى غير ذلك ممّا تسمعه في بيان حال الفرقتين بعد التنبيه على أنّ الغير من الأسماء المتوغلة في الإبهام مثل المثل و الشبه، إلّا أنّ هذين للمماثلة و المشابهة و ذلك للمغايرة في الذات أو في الصفات، أو الآثار، أو من كلّ وجه أو مطلقا أو مطلقها، و على كلّ حال لا يزول إبهامها و لو بالإضافة إلى المعارف إلّا إذا وقعت بين ضدّين كما في المقام، و في قولهم: الحركة غير السكون، فيضعف إبهامها، كما عن الأكثر أو يزول رأسا كما عن السيرافي فتتعرّف عنده، و تكون بدلا لا صفة و من

______________________________

(1) المائدة: 60.

(2) المائدة: 77.

(3) بحار الأنوار ج 25 ص 273- 274 ح 20 عن الاحتجاج و تفسير الإمام عليه السّلام.

(4) بحار الأنوار ج 25 ص 273- 274 ح 20 عن الاحتجاج و تفسير الإمام عليه السّلام.

(5) تفسير القمي ج 1 ص 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 661

حقّها في

الأصل أن يوصف بها لما فيها من معنى اسم الفاعل الّذي هو المغايرة، فمعنى قولك زيد غير عمرو: مغاير له، و موصوفها نكرة محضة نحو: نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ «1» أو معنى خاصّة كما في المقام على أحد الوجهين و إن كان في اللفظ معرفة.

قال في «القاموس»: إنّها بمعنى سوى، و تكون بمعنى لا فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ «2» اى جائعا لا باغيا، و بمعنى إلّا.

قلت: و مثله عن «التيسير» في استعمالها على الوجوه الثلاثة، بل ربما يقال بجوازها في المقام أيضا.

فالأولان على قراءة الجرّ، و ان كان الفرق بينهما أنّها في الأوّل بمعنى المغايرة كقوله تعالى: لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ «3» اي سواه، و في الثاني لمجرّد النفي كقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ «4» أى لا متجانف، و عليهما تكون مجرورة بالتّبعية كما تسمع.

و الثالث على قراءة النصب على الحال أو الاستثناء أو الإضمار.

ثمّ إنّها لشدّة إبهامها و نسبيّة معناها تلزمها الإضافة في المعنى، و ربما قطعت عنها لفظا إن فهم معناه، و تقدّمت عليها ليس، لا غيره من ألفاظ الجحد، و لذا قيل:

إنّ لا غير لحن و ردّ بأنّه مسموع في قول الشاعر:

جوابا به تنجو اعتمد فو ربّنالعن عمل أسلفت لا غير تسئل

قيل: و قد سمع قبضت عشرة ليس غيرها بالرفع و بالنصب، و ليس غير بالفتح

______________________________

(1) فاطر: 37.

(2) البقرة: 173، الأنعام: 145، النحل: 115.

(3) الإسراء: 73.

(4) المائدة: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 662

على حذف المضاف و إضمار الاسم، و ليس غير بالضم، و يحتمل كونه ضمّه بناء و إعراب، و ليس غير بالرفع، و ليس غيرا بالنصب.

و على كلّ حال فإذا كانت للاستثناء

تكون معربة بما يستحقّه المستثنى بإلّا في ذلك الكلام، و إن حكى في «الصحاح» عن الفراء أنّ بعض بنى أسد و قضاعة ينصبون غير إذا كانت بمعنى إلّا تمّ الكلام قبلها أو لم يتمّ، يقولون: ما جائني غيرك فإنّه على فرض صحة النقل شاذّ جدّا.

نعم قد يقال: إنّها تفارق إلّا في خمس مسائل.

و هي أنّ إلّا تقع بعدها الجمل دون غير.

و أنّه يجوز عندي درهم غير جيّد على الصّفة، و يمتنع عندي درهم إلا جيّد.

و أنّه يجوز قام غير زيد، دون قام إلّا زيد.

و أنّه يجوز ما قام القوم غير زيد و عمرو بجرّ عمرو على لفظ زيد، و رفعه حملا على المعنى لأنّ المعنى ما قام إلّا زيد و عمرو، و مع إلّا لا يجوز إلّا مراعاة اللفظ.

و أنّه يجوز ما جئتك إلّا ابتغاء معروفك بالنصب، و لا يجوز مع غير إلّا بالجرّ فتقول: ما جئتك لغير ابتغاء معروفك.

القراءة و الإعراب

اعلم أنّ لهم في هذه الآية اختلافات ثلاثة:

أحدها أنّ المشهور في «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ قراءة الجرّ و يحكى في الشواذ النصب، لكنّ الأكثر على الأوّل، و إن اختلفوا في وجهه.

فبين من جعله بدلا من ضمير الجمع و هو الهاء و الميم في «أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 663

لجواز إبدال الظاهر من ضمير الغائب مطلقا نحو: وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «1» على أحد الوجوه، و قوله:

على حالة لو أنّ في القوم حاتماعلى جوده قد ظنّ بالماء حاتم «2»

فجر حاتم على البدل من الهاء في جوده.

أو بدلا من قوله: «الَّذِينَ بناء على أنّ المقصود بالمنعم عليهم هم الّذين أسلموا من الغضب و الضلال.

و إنّما ساغ جعله على الوجهين بدلا نظرا إلى غلبة الاسميّة عليها،

فيسقط ما قد يقال من ضعف بدليتها نظرا إلى أنّ أصل وضعها الوصف، حسب ما سمعت أنّ معناها المغاير، و البدل بالوصف ضعيف عندهم، و لذا قوّى بعضهم الوجه الثالث في جرّها، و هو كونها صفة لموصولة، و إن كان يرد عليه أيضا أنّ أصل غير أن تكون صفة للنكرة كما مرّ تقول: مررت برجل غيرك، فإنّها و إن أضيفت إلى أخصّ المعارف الذي هو ضمير الحاضر، لكنّها وصفت بها النكرة فكأنك قلت: مررت برجل آخر أو برجل ليس بك، و من هنا مع ملاحظة لزوم تطابق الصفة للموصوف اضطرّوا إلى التأويل.

إمّا بتنكير الموصوف الّذي هو الموصولة إجراء لها مجرى النكرة، نظرا إلى معناه، حيث لم يقصد بها عامّة المسلمين خاصّة، و لا طائفة منهم بأعيانهم، بل طائفة غير معيّنة منهم بأعيانهم، و إن كانوا معلومين بأوصافهم، فيجوز حينئذ أن يعامل معاملة المعرفة بالنظر إلى لفظه فيوصف بالمعرفة، و يجعل مبتدءا، و ذا حال، و معاملة النكرة بالنظر إلى المعنى فيوصف بالنكرة كما يوصف بها المحلّى

______________________________

(1) الأنبياء: 3.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 664

باللّام في قوله:

و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني فمضيت ثمّة قلت لا يعنيني

أي لئيم يسبّني إذ لا مرور على الكل، و لا دلالة على التعيين، و إن كان يمكن حمله على ضرب من العهد: فتأمّل فإنّ مراد القائل مدح نفسه بالحلم و إغماض العين، و قصد التنكير من المعارف باب وسيع تقول: إنّى لأمرّ على الرجل مثلك فيكرمني، بل يجرى في الأعلام الشخصيّة على تأويل المسمّى بهذا الاسم، و لذا ذكروا أنّ غير المنصرف بالعلميّة و سبب آخر ينصرف عند التنكير كقوله: مررت بأحمدكم.

و إمّا بتعريف

اللفظ نظرا إلى زوال إبهامها في المقام رأسا كما مرّ حكايته عن السيرافي، و غيره، و لذا قال السراج: إنّ غيرا في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة لأنّ حكم كلّ مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، و إنّما تنكرت غير و مثل، مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، و ذلك أنّك إذا قلت رأيت غيرك فكلّ شي ء يرى سوى المخاطب فهو غيره، و كذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى، و أمّا إذا كان شي ء معرفة له ضدّ واحد و أردت إثباته و نفى ضدّه، و علم ذلك السامع، فوصفت بغير و أضفت غير إلى ضدّه فهو معرفة، و ذلك نحو قولك: عليك بالحركة غير السكون، فغير السكون معرفة و هي الحركة، فكأنّك كرّرت الحركة تأكيدا و كذلك قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فغير المغضوب عليهم هم الذين أنعم عليهم، فمتى كانت غير بهذه الصفة فهي معرفة، و كذلك إذا عرف إنسان بأنّه مثلك في ضرب من الضروب فقيل فيه: قد جاء مثلك، كانت معرفة إذا أردت المعروف بمثلك.

قال: و من جعل غير بدلا استغنى من هذا الإحتجاج، لأنّ النكرة قد تبدل من المعرفة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 665

قلت: و هذا الوجه أولى من تنكير الموصول، سيّما بعد ما سمعت من تفسيره بالأخبار بالنبيّين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و غيرهم من أولياء مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام.

مضافا إلى استفادة حصر أصناف النّاس كافّة حينئذ في الثلاثة الراجعة إلى الإثنين: أهل الحق و هم أهل ولاية من يدور مع الحق حيثما دار، و أهل الباطل الذين انحرفوا عن الحقّ بالغلوّ و التقصير، فلا داعي إلى التكليف

بتنكير الموصول الذي هو في غاية البعد.

نعم عن عليّ بن عيسى الرّماني أنّه قال: إنّما جاز أن يكون نعتا للّذين لأنّ الّذين بصلتها ليست بالمعرفة المعينة كالأعلام نحو زيد و عمرو، إنّما هي كالنكرات إذا عرّفت نحو الرّجل و الفرس، فلمّا كانت الذين كذلك، كانت صفتها كذلك أيضا كما يقال: لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل، و لو كانت بمنزلة الأعلام لما جاز كما لم يجز مررت بزيد غير الظريف بالجرّ على الصفة.

ثمّ إنّه على فرض كونها صفة قيل بجواز كونها صفة مبينة له، على تقدير أن يراد بالنعم في أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ النعم الاخروية، و ما يتوصّل إلى نيلها من الدنيوية، أو مقيّدة على فرض إرادة مطلق النعم أو الدنيوية مطلقا لدخول الكافر حينئذ.

لكن في «الحواشي البهائيّة» أنّ الأولى التفصيل بأنّه قد سبق أنّ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ هم المؤمنون أو الأنبياء أو أصحاب موسى و عيسى على نبيّنا و آله و عليهما السلام قبل التحريف و النسخ، فعلى الأوّل إن أريد بهم من اتّصف بالايمان و لو في الجملة، و بالمغضوب عليهم و الضّالّين العصاة منهم، و الجاهلون ببعض العقائد فالصفة مقيّدة، و إن أريد به الكاملون في الإيمان فمبينة أيضا، و إن أريد بالمغضوب عليهم و الضالين اليهود و النصارى فمبيّنة أيضا سواء أريد بالمؤمنين

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 666

الكاملون أو في الجملة، و على الثاني الصفة مبينة لا غير باىّ تفسير فسّر المغضوب عليهم و الضالّين، و على الثالث كالأوّل.

أقول: و لعلّ الأولى من هذا التطويل الّذي لا طائل تحته لابتنائه على تفسير المخالفين الاقتصار على ما يستفاد من أخبار الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم، من كون الصفة مبيّنة فإنّه و

إن كان التأسيس أولى، للتّبيين هنا مزيد فائدة، و هو التنبيه على انقسام الناس كافّة إلى أقسام ثلاثة: التالي الموالي، و القالي، و الغالي، أو إلى المتوسطين على الصراط السويّ المستقيم، و المنحرفين عنه بالقصور و التقصير.

و بالجملة فهؤلاء لهم صفتان وجوديّة هو كونهم منعما عليهم بذلك الصراط، و عدميّة هو عدم الغضب عليهم و عدم ضلالتهم.

و على كلّ حال فقراءة النصب محكيّة عن ابن كثير، و نسبت في غير واحد من التفاسير إلى الشذوذ، بل في بعضها أنّ الرواية شاذّة، و قضيتها عدم ثبوت القراءة عنه، لكن في «الكشّاف» أنّها قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قيل يريد أنّها عادته قبل العرضة الأخيرة و الّا فكلّ القراءات قراءته عليه السّلام.

لكن قد يقال: كلّ من القراءات السبع المتواترة إنّما نسب إلى واحد من الائمّة السبعة لاشتهاره بها، و تفرّده فيها بأحكام خاصّة، و امّا غيرها فإذا لم يشتهر بها أحد نسب اليه صلّى اللّه عليه و آله سواء كان عادته أم لا، قيل: و هذا هو المختار عند المحقّقين، و لا يخفى فساده بعد ما سمعت في المقدّمات من سبب حدوث الاختلاف فيها و أنّ القرآن واحد، نزل من عند واحد.

ثمّ إنّ نصبه إمّا على الحاليّة من المضمر في عَلَيْهِمْ و العامل في الحال و صاحبها معا هو أَنْعَمْتَ و العبرة بالمجرور، فإنّ الجار صلة تجرّ معنى الفعل إليه، فالمجرور بالحرف بنفسه منصوب المحلّ بالفعل، و بهذا الإعتبار وقع ذا حال، فلا يرد أنّ العامل في ذي الحال هو الحرف الجارّ، مع أنّه لا بدّ من اتّحاد العامل في

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 667

الحال و صاحبها.

و إمّا على الاستثناء المنقطع

كما صرّح به في «المجمع» و غيره، بناء على التقريب المتقدّم الذي ظهر منه أن الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من غير جنس المنعم عليهم، أو المتصل كما يظهر من البيضاوي حيث اشترط فيه تفسير المنعم بما يعمّ القبيلتين، و لعلّه لأولويّة التأسيس، أو أصالة الاتصال، أو إطلاق النعمة.

لكن الكلّ كما ترى بعد ما سمعت من تفسير النعمة سيّما مع البيانات الواردة عن الأئمّة صلى اللّه عليهم أجمعين.

نعم عن الرمّانى أنّ من نصب على الاستثناء جعل «لا صلة» كما أنشد أبو عبيدة: «في بئر لا حور سرى و ما شعر».

أى في بئر هلكته، و تقديره غير المغضوب عليهم و الضالين، كما قال: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «1»، «2» و ستسمع الكلام فيه، بل و في أنّ «لا» في آية السجود ليست بزائدة و إن اطبقوا عليه ظاهرا.

و إمّا على القطع بتقدير أعني، و اعلم أنّه على فرض التبعيّة أو القطع لا يلزم بل لا يجوز أن يقال غير المغضوبين عليهم لمراعاة المطابقة نظرا إلى الاستغناء عن الجمع بضمير الموصول به بالحرف الجارّ، بل قيل: إنّ هذا حكم كلّ ما يعدّى بحرف جرّ تقول: رأيت القوم غير مذهوب بهم، فاستغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب.

ثانيها اختلافهم في الهاء و الميم من عليهم هنا، و فيما تقدّم و إن أغفلنا ذكره هناك، لكون الجميع آية واحدة و لنظمه مع غيره من الاختلافات، و بالجملة اختلفوا

______________________________

(1) الأعراف: 12.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 668

في ضمير عليهم في كلّ موضع، و كذلك لديهم، و إليهم، بل كلّ هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية و جمع المذكر و المؤنّث و غيرها نحو عليهما، و

إليهما، و فيهما، و عليهم، و فيهم، و عليهنّ، و فيهنّ، و اتيهم، و صياصيهم، و يزكّيهم، و أيديهم، و أيديهنّ و إن اختلفوا في التعميم و العدم أيضا، فقرأ يعقوب ثلاثة منها، و هي: عليهم، و إليهم، و لديهم، حيث وقعت بضمّ الهاء، و مثله حمزة فيها و إن في التعميم في جميع ما مرّ فإنّه لم يستثن من الهاء الواقعة بعد الياء الساكنة إلّا ضمير المفرد، و قرء الباقون في الجميع بكسر الهاء، فالأقوال فيها ثلاثة:

الضمّ مطلقا للأصل، فإنّها تضمّ مبتدئة نحوهم فعلوا، و كذا بعد الألف و الفتحة و الضّمة و الواو و السكون في سوى الياء، بل و الياء سوى الساكنة نحو رآهم، جائهم، يعلمهم، أخوهم، منهم، يغنيهم، فيظهر من ذلك أنّ الضّمة هي الأصل فيها لا يعدل عنها إلّا بسبب طار، و هو مفقود في المقام.

بل عن السراج أنّها القراءة القديمة، و لغة قريش، و أهل الحجاز، و من حولهم من فصحاء اليمن.

و الكسر مطلقا لمناسبته للياء و خفّته بالإضافة، و الفرار من ثقل الانتقال من الياء الّتي تجانس الكسرة إلى الضمّ، و للتفصيل بين الألفاظ الثلاثة و غيرها انقلاب الياء فيها عن الألف بدليل على زيد، و إلى عمرو، ولدي بكر، و الألف بضمّ الهاء بعدها نحو: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1» فكذلك بعد المنقلب منها إجراء لحكم الأصل و دلالة عليه.

ثمّ إنّهم قد أطبقوا على عدم الضمّ في قوله: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ «2».

______________________________

(1) البقرة: 8.

(2) الأنفال: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 669

بل قيل: لا خلاف بينهم في كسرها إذا كان ما قبلها مشدّدة مكسورة، فإنّها بمنزلة الكسرتين اللّتين يتعسر الانتقال منهما إلى الضمّ لثقله جدّا، كما

أنّهم قد اتفقوا على الكسر أيضا إذا سقطت الياء بسبب جزم أو بناء نحو: وَ يُخْزِهِمْ «1» وَ إِنْ يَأْتِهِمْ «2» و فَآتِهِمْ «3» و فَاسْتَفْتِهِمْ «4».

إذ لا خلاف بينهم في كسرها حينئذ مطلقا إلا فيما يحكى عن رويس، حيث إنّه يرعى الأصل و لم يعتد بعارض السقوط.

نعم اختلف النقل عنه في وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ «5» في سورة الحجر وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ «6»، وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ «7» كلاهما في غافر، يُغْنِهِمُ اللَّهُ «8» في النور، فروى عنه بعضهم ضمّها في الجميع طردا للباب، و روى آخرون كسرها لأجل الساكن بعدها إلحاقا بنحو بِهِمُ الْأَسْبابُ «9».

ثمّ إنّ لهم في المقام اختلافا آخر في الميم، حاصله أنّ ميم الجمع بعد الهاء إمّا أن يكون بعدها متحرّك أو ساكن فعلى الأوّل كما في هذه السورة في موضعين، و في قوله: هُمْ يُوقِنُونَ «10» و قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ

______________________________

(1) التوبة: 14.

(2) الأعراف: 169.

(3) الأعراف: 38.

(4) الصافات: 11- 149.

(5) الحجر: 3.

(6) غافر: 19.

(7) غافر: 7.

(8) النور: 37.

(9) البقرة: 166.

(10) البقرة: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 670

«1».

فالمحكيّ عن أبى جعفر، و ابن كثير، و قالون بخلاف عنه في حالة الوصل، وصل الميم بواو انضمّت الهاء قبلها أو انكسرت فيقولون: عليهم و همو و قلوبهمو، و سمعهمو إلى غير ذلك.

و نسبه في الجمع إلى أهل الحجاز، قال: إلّا أنّ نافعا اختلف عنه، و أمّا الباقون فبالإسكان من غير صلة.

و حكى في «المجمع» عليهم بالضّمتين قراءة ابن أبى اسحق، و عيسى الثقفي، و عليهمى بالكسر و الياء قراءة الحسن البصري و عمرو بن فائد، و عليهم مكسورة الهاء مضمومة الميم بغير واو و عليهم

مضمومة الهاء و الميم من غير بلوغ واو، مرويّتان من الأعرج قال: فهذه سبع قراءات «2».

قلت: و لعلّه باعتبار انضمام الاختلاف الاول إليه فالثامن ما حكاه الجزري في «طيبة النشر» عن ورش، و هو الوصل و الإشباع قبل همزة القطع كما في عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «3» و أَنَّهُمْ إِلَيْنا «4».

امّا الحجّة على هذه القراءات فلعلّ العمدة اختلاف اللّغات بالنسبة إلى الجلّ أو الكلّ، و إن قال في «المجمع».

أنّ من قرء عليهمو فإنّه اتبع الهاء ما أشبهها و هو الياء أو ترك ما لا يشبه الياء و الألف على الأصل و هو الميم.

و من قرء عليهم فكسر الهاء و أسكن الميم فلأنّه أمن اللبس، إذ كانت الألف

______________________________

(1) البقرة: 7.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 28.

(3) البقرة: 6.

(4) القصص: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 671

في التثنية قد دلّت على الإثنين و لا ميم في الواحد، فلمّا لزمت الميم الجمع، حذفوا الواو و أسكنوا الميم، طلبا للتخفيف إذا كان ذلك لا يشكل، و إنّما كسر الهاء مع أنّ الأصل الضمّ للياء الّتي قبلها.

و من قرء عليهمو فلأنّه الأصل لأنّ هذه الواو في الجمع وسيلة الألف في التثنية أعنى أنّ ثبات الواو كثبات الألف.

و من قرء عليهمي فإنه كسر الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة و كسر الميم كراهة للخروج من كسرة الهاء إلى ضمّة الميم، ثمّ انقلبت الواو ياء لسكونها و انكسار ما قبلها.

و من كسر الهاء و ضمّ الميم و حذف الواو فإنّه احتمل الضمّة بعد الكسرة لأنّها غير لازمة إذا كانت ألف التثنية يفتحها لكنّه حذف الواو تفاديا و تخلّصا من ثقلها مع ثقل الضمّة.

و من قرء عليهم فإنه حذف الواو استخفافا و

احتمل الضّمة قبلها دليلا عليها، انتهى «1».

لكنّ الكل كما ترى إن لم تكن مرجعها إلى لغات العرب التي لا يجوز الخروج عنها، و يجوز الأخذ بكل منها مع عدم شذوذه و جحوه فضلا عن صحّته و شيوعه.

نعم ذكر شارح «منظومة الجزري» أنّ كسر الهاء و إسكان الميم و اشباعها لغتان صحيحتان فصيحتان كما ذكر أنّ هذا كلّه في حال الوصل، إذ كلّهم متّفقون على الوقف عليها بالسكون.

و امّا على الثاني الذي يكون بعد الميم ساكن فعن أهل الحجاز، و عاصم،

______________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 672

و ابن عامر كسر الهاء و ضمّ الميم نحو: بِهِمُ الْأَسْبابُ «1»، عَلَيْهِمُ الْقِتالُ «2»، فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «3» لإجراء الميم على الأصل الذي هو الضمّ فيها كما سمعت، و بقاء الهاء على كسرها نظرا إلى أنّها تبعت الكسرة أو الياء، و لم يتبعها الميم لبعدها، و لم يشبعوا الميم في المقام حذرا عن التقاء السالكين، و عن المدّ الحاصل من الواو الساكنة بعدها سكون، فلمّا اضطروا إلى تحريكها ترجّح الأصل الذي هو الضم، و عن أبى عمرو كسر الميم حالة الوصل لأنّه كما كسرت الهاء لاتّباع ما قبلها كسرت الميم لاتّباع الهاء، مع انّه اتبعت الكسر الكسر لثقل الضّمة بعد الكسر، و عن حمزة و الكسائي و خلف ضمّ الهاء قبلها اتّباعا، و إذا وقفوا كسروا الهاء، إلّا حمزة فهو على أصله في ضمّ الهاء في نحو عَلَيْهِمُ الْقِتالُ «4» و إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ «5».

و عن يعقوب إتّباع الهاء الميم على ما تقرّر من مذهبه فيضمّ الميم إذا وقعت بعد الهاء المضمومة في مذهبه نحو: عَلَيْهِمُ الْقِتالُ «6» و يُرِيهِمُ اللَّهُ «7» و يكسرها إذا

وقعت بعدها مكسورة نحو: بِهِمُ الْأَسْبابُ «8» و قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «9»، هذا كلّه في الوصل.

و أمّا في الوقف فعلى الميم الساكنة و كسر الهاء سواء كان قبلها ياء ساكنة أو

______________________________

(1) البقرة: 166.

(2) البقرة: 246.

(3) البقرة: 93.

(4) البقرة: 246.

(5) يس: 14.

(6) البقرة: 246.

(7) البقرة: 167.

(8) البقرة: 166.

(9) البقرة: 93.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 673

كسرة، نعم عن حمزة في عليهم، و إليهم، و لديهم ضمّ الهاء وصلا و وقفا.

ثالثها ما قرء في الشواذّ:

«و غير الضالّين» قال في «المجمع»: و روى ذلك عن مولينا أمير المؤمنين روحي له الفداء و عليه و على أخيه و ذريته آلاف التحيّة و الثناء بعد ما حكاه عن أشقى الأشقياء أبى الشرور «1».

و دلالة الحكاية على وضع الرواية أو حملها على التقيّة في غاية الظهور، سيّما بعد ما ورد في أخبار كثيرة كتفسير الإمام عليه السّلام و غيره موافقا للقراءة المشهورة الّتي اتّفقوا عليها.

نعم قد مرّ عن القمي أنّه رواه في الصحيح عن الصادق عليه السّلام.

و

فيه في الصحيح أيضا عنه عليه السّلام في قوله: «غير المغضوب عليهم و غير الضالّين» قاله: المغضوب عليهم النّصاب، و الضالّين الشكاكون الذين لا يعرفون الإمام «2».

و فيه مع ضعف الثاني دلالة، أنّه لا يثبت القرءان بمثله سيّما بعد ما سمعت، ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ (لا) ليست في المقام للعطف، إذ شرط عطفها أن تسبق بإيجاب، و لذا جي ء بالواو للعطف، نعم قد يقال: إنّها زيدت لتوكيد النفي، كما عن البصريّين، بل ذكروا أنّ (لا) بعد الواو العاطفة إنّما تزاد إذا كانت في سياق النفي و فائدتها التوكيد، و التصريح بشموله لكلّ واحد من المعطوف و المعطوف عليه لئلّا يتوهّم أنّ المنفي هو المجموع من

حيث هو مجموع، فلا ينافيه ثبوت أحدهما معيّنا أولا على التّعيين، و قد سمعت أنّ لفظ غير في الأصل وصف بمعنى المغاير تفيد النفي إمّا بالاستلزام كما إذا وصف به إثباتا للمغايرة كما في الآية الكريمة فإنّ

______________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 28.

(2) تفسير القمى ج 1 ص 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 674

وصف الشي ء بكونه مغايرا للموصوف بوصف من حيث هذا الوصف تفيد نفى الوصف، و إمّا بالصراحة كما قيل في قولهم: أنا غير ضارب زيدا حيث إنّ المراد لست ضاربا له، لا أنا مغاير لشخص ضارب له، فالإضافة إنّها هي في اللفظ، و الّا فلا إضافة معنى، و لذا جوّزوا تقديم معمول المضاف إليه على المضاف في قلوبهم:

أنا زيدا غير ضارب كما جاز ذلك في قولهم: أنا زيدا لا ضارب، فنزّلوا غيرا منزلة لا في صيرورته جزء الكلمة كالمعدولة فينتفى الإضافة من غير أن يتطرق تخصيص إلى ما ذكروه من عدم جواز تقديم معمول المضاف إليه على المضاف.

و لذا لا يقال في أنا مثل ضارب زيدا أنا زيدا مثل ضارب لامتناع وقوع المعمول حيث يمتنع وقوع العامل.

و الحاصل جواز تقديم ما في حيّز النفي و لو بغير عليه دون ما في حيّز الإثبات لا لمجرّد الإثبات و النفي بل لما سمعت.

نعم قيل: شرط حرف النفي أن يكون لا أولم أو لن، دون ما و إن، و علّله التفتازاني بأنّ ما تدخل على القبيلتين أي الاسم و الفعل فيشبه الاستفهام، و لم و لن مختصّان بالفعل، و يكونان كالجزء منه و أمّا لا فهي و إن دخلت على القبيلتين إلّا أنّها حرف متصرّف فيها جاز عمل ما قبلها فيما بعدها، مثل جئت بلا

شي ء و أريد أن لا يخرج، فجاز العكس أيضا.

قلت: و لعلّ الأولى من كلّ ذلك الاقتصار على السمّاع، و تتبع موارد الاستعمال و ما أحسن الكسائي حيث سئل في حلقة يونس لم لا يجوز أعجبني أيّهم قام؟ فقال: أيّ كذا خلقت.

رابعها ما قرء في الشواذّ أيضا و لا الضالّين بالهمزة المفتوحة مقلوبة عن الألف و اللام المشالة في لغة من جدّ في الهرب عن التقاء الساكنين حتّى في مثل المقام الذي قد صرّحوا بجوازه فيه، لكون أوّل الساكنين حرف لين و الثاني مدغما

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 675

فيه مع كونهما في كلمة، من غير فرق بين كون حركة ما قبل حرف اللّين من جنسه أولا، و إن سمّي في الأول حرف المدّ أيضا، و الدليل على جوازه بعد جريان اللّغة عليه و وروده في كلمة أهلها أنّ في حرف اللّين نوعا من المدّ الذي يتوصل به إلى النطق بالساكن بعده، مع أنّ المدغم و المدغم فيه بمنزلة حرف واحد، إذ اللسان يرتفع عنهما دفعة واحدة و الثاني متحرك فالأوّل الّذى هو ثاني الساكنين بمنزلته.

نعم يظهر من أبى البقاء عدم جريان هذه اللغة في حروف المدّ فضلا عن اللّين، حيث قال: إنّها لغة ناشية في كلّ ألف وقع بعدها حرف مشدّدة.

و عن الفيروزآبادي: أنّ الذي نصّ عليه جمهور النحاة أنّ ذلك لا يقاس عليه، و إنّما سمع منه ألفاظ دابّة و شابّه ثمّ حكى عن أبى زيد سمعت عمرو بن عبيد يقرء فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ «1»، فظننته قد لحن حيث حتى سمعت من العرب دابّة و شابّة.

تحقيق لمعنى الغضب

اعلم أنّ الغضب بالتحريك مصدر أو اسم من غضب كسمع، عليه، و له

إذا كان حيّا و غضب به إذا كان ميّتا كما في «القاموس» و غيره، و هو ضدّ الرضا في الخالق و الخلق، و لذا ينسب إلى اللّه سبحانه أيضا كما في قوله: لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «2» و كذا في آية اللعان «3» و غيره، و إن كان لا يسمّى بالغضبان كما لا يسمّى باللّعان فإنّه فينا كيفيّة نفسانيّة يتبعها حركة الروح إلى الخارج دفعة طلبا

______________________________

(1) الرحمن: 39.

(2) النور: 9.

(3)؟؟؟؟

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 676

للانتقام، و هذه الحركة لما كانت شديدة عنيفة يتبعها شدة سخونة الروح و ثوران الحرارة المودعة في بدن الإنسان و اشتعالها فيغلي بهادم القلب، و ينتشر في العروق، و يرتفع إلى أعالى البدن كما ترتفع النار و الماء الذي في القدر فيظهر الحمرة و الحرارة و الالتهاب في أعالى البدن سيّما الوجه و العين اللّذين هما مظهران للنفس الإنسانيّة خصوصا بعد ما لهما من اللطافة و الصّفاء، بل يصعد حينئذ من البدن فضلا عن خصوص القلب الذي هو مستوقد الحرارة الحيوانيّة أبخرة رديّة مظلمة، شديدة الالتهاب، فيمتلأ بها الشريانات الدّماغيّة و لذا شبّهوا هيكل الإنسان عند ثوران الغضب بالتّنور المتوقّد باللهيب و الحريق فلا يكاد يسمع منه إلّا زفير و شهيق.

و

قد ورد في الخبر: الغضب شعلة من النار تلقي صاحبها في النار.

و

فيه أيضا: الغضب من الشيطان و إن الشيطان خلق من النار «1».

و

في الكافي: عن أبي جعفر عليه السّلام: إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في جوف ابن آدم و إنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه و انتفحت أوداجه، و دخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإنّ رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك

«2».

و على كلّ حال فهو من الانفعالات الرديّة النفسانية الّتي لا يليق بأوليائه فضلا عنه سبحانه.

و لذا

قال مولينا الباقر عليه السّلام لعمرو بن عبيد بعد ما سئله عن الغضب في قوله:

وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى «3»، إنّه هو العقاب، يا عمرو إنّه من زعم أنّ

______________________________

(1) سنن أبى داود ج 2 ص 550 عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(2) بحار الأنوار ج 63 ص 265 عن الكافي ج 2 ص 305.

(3) طه: 80. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 677

اللّه قد زال من شي ء فقد وصفه بصفة المخلوقين «1».

و

سئل مولينا الصادق عليه السّلام عن اللّه تعالى هل له رضى و سخط؟ فقال: لهم، و ليس على ما يوجد من المخلوقين، و لكن غضب اللّه عقابه و رضاه ثوابه «2».

و

في المناقب عن أبى جعفر عليه السّلام في قوله: وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «3» قال: إنّ اللّه أعظم و أعزّ و أجلّ من أن يظلم لكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه و ولايتنا ولايته، حيث يقول: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا «4» يعنى الائمّة ثم قال في موضع آخر وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «5».

و

فيه عن مولينا الصادق عليه السّلام في قوله: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «6»، فقال:

إنّ اللّه عز و جلّ لا يأسف كأسفنا و لكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون، و هم مخلوقون مربوبون «7»، فجعل رضاهم رضا نفسه، و سخطهم سخط نفسه، لأنه جعلهم الدعاة إليه و الأدلّاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، و ليس إنّ ذلك يصل إلى اللّه كما يصل إلى خلقه لكن هذا معنى ما قال من ذلك، و قد

قال: أيضا من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة و دعاني إليها، و قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «8»،

______________________________

(1) التوحيد للصدوق ص 168 ح 1.

(2) بحار الأنوار: ج 4/ 63.

(3) البقرة: 57.

(4) المائدة: 55.

(5) البحار ج 24 ص 222 عن المناقب عن أبى الحسن الماضي عليه السّلام.

(6) الزخرف: 55.

(7)

في البحار: مدبّرون.

(8) النساء: 80. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 678

و قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «1»، فكل هذا و شبهه على ما ذكرت لك و هكذا الرضا و الغضب و غيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك و لو كان يصل إلى اللّه «2» الأسف و الضجر و هو الذي خلقهما و أنشأهما لجاز لقائل ان يقول: إنّ الخالق «3» يبيد يوما لأنّه إذا دخله الغضب دخله التغيّر و إذا دخله التغيّر لم يؤمن عليه الإبادة ثمّ لم يعرف المكوّن من المكوّن، و لا القادر من المقدور، و لا الخالق من المخلوق، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فاذا كان لا لحاجة استحال الحدّ و الكيف فافهم ذلك إن شاء اللّه «4».

و روى الصدوق مثله في التوحيد و المعاني

إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أنّ إطلاق هذه الأفعال عليه سبحانه ليس باعتبار المبادي الّتي هي من أفعال أو انفعالات دالّة على التغيّر و النقصان و غيرهما من لوازم الإمكان الدالّة على الإبادة و الفناء كما أشار اليه

بقوله: إذا دخله الغضب دخله التغيّر و إذا دخله التغير لم يؤمن عليه الإبادة،

و ذلك لما قيل من أنّ هذه الأمور كيفيّات قابلة للاشتداد، و الاشتداد يلزمه التضاد، و المتضادان متفاسدان، و لذا ينقلب

الماء هواء، بل نارا باشتداد السخونة المفسدة لصورته المائيّة و الهواء ينقلب ماء باشتداد البرد، و الإنسان يموت فجأة عند اشتداد كلّ من الخوف و الغضب و الفرح و من أنّ كل متغيّر لا بدّله من مغيّر خارج من ذاته، إذا الشي ء لا يتحرّك من نفسه و كلّ ما له مغيّر قاهر عليه متصرف فيه قادر على إهلاكه و أنّ كلّ ما دخله التغيّر فهو مركّب من أمرين: أحدهما شي ء

______________________________

(1) الفتح: 10.

(2)

في البحار: و لو كان يصل إلى المكون الأسف.

(3)

في البحار: إنّ المكوّن يبيد.

(4)

في البحار: و لو كان يصل إلى المكوّن الأسف. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 679

بالفعل و الآخر بالقوّة لاستحالة أن يكون الشي ء من جهة ما هو بالفعل بالقوة و من جهة ما هو موجود معدوما إذ القوّة ضرب من العدم فلا بدّ فيه من تركيب من مادّة و صورة، و كلّ مركّب مسبوق بالعدم، قابل للانحلال و الزوال، و أنّ ما كانت له قوّة غير متناهية فلا يؤثّر فيه شي ء و هو لا يتأثر و لا ينفعل من شي ء، إذا الضعيف القوة لا يتقاوم قويها فضلا عن أن يغلب على القوي، فحينئذ كيف الحال إذا كان القوى ذا قوّة غير متناهية فدلّ ذلك بعكس النقيض على أن كلّ متغيّر منفعل فقوته متناهية إلى حدّ و كلّ ما هو كذلك فلا بدّ من أن ينتهى إلى الفناء و الدثور إلى غير ذلك من القواطع الدالّة على أنّ إطلاقها كإطلاق ما يضاهيها من المكر و الكيد و الاستهزاء و الأسف و المجي ء و نحوها ليست باعتبار مباديها، بل إنّما هو لأحد الوجهين المشار إليهما في الأخبار المتقدّمة: أحدهما باعتبار الغايات و لذا فسر في

كثير منها الغضب بالعقاب، و الرضاء بالثواب المحتملين لارادة المصدر، و اسمه و هو ما يعاقب به و ما يرضى به كالنار و الجنة، لا المعنيين المصدريين اللّذين ينبغي تنزيهه سبحانه عنه أيضا الّا أن يكون على وجه التشبيه و التمثيل بناء على أنّه واقع في صقع صفات الأفعال الّتي لا ريب في حدوثها، و برائة ساحة كبرياء الذات عنها، و لذا ورد نسبة جميع الأفعال المتقدّمة إليه، و إن كانت باعتبار المشاكلة و الازدواج لأفعال العباد كقوله: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1» إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ «2» إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «3» إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً «4».

______________________________

(1) آل عمران: 54.

(2) النساء: 142.

(3) البقرة: 14- 15.

(4) الطارق: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 680

اى يفعل بهم فعل الماكر، و المخادع، و المستهزء على حدّ قوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» المنساق لمجرّد المشاكلة على أحد الوجوه، أو باعتبارات ما يعود جزاء عليهم هو بعينه نفس أعمالهم الملازمة الغير المنفكّة عنهم، للزومها لهم لزوم الظلّ للشاخص، و لذا قال سبحانه: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «2» و ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «3» فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «4».

و لذا قيل بتجوهر الأعمال و تجسّم العقائد و الإرادات و الأحوال يوم القيمة مستشهدا له ببعض الظواهر كقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «5»، وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ «6»، و إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً «7».

بل

روى الشيخ الأمجد عن مولينا الصادق عليه السّلام ما معناه إنّه سمع رجلا من محبيه يقول: اللّهم أدخلنا الجنّة فقال عليه السّلام

إنّكم في الجنّة و لكن اسألوا اللّه أن لا يخرجكم منها إنّ الجنّة هي ولايتنا و هي تأويل قوله: وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ «8».

و ذكر في موضع آخر انّهم عليهم السّلام صرّحوا بانّ النار موجودة في الدنيا في أهلها و يوم القيمة أهلها فيها

إلى غير ذلك من الظواهر و الشواهد العقليّة الّتي ستسمع

______________________________

(1) الشورى: 40.

(2) فاطر: 43.

(3) آل عمران: 117.

(4) الفتح: 10.

(5) التوبة: 49.

(6) الإنفطار: 16.

(7) النساء: 10.

(8) هود: 108.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 681

الكلام فيها في مواضعها إن شاء اللّه.

ثانيهما باعتبار أنه سبحانه خلط أوليائه المقرّبين بنفسه فجعل ظلمهم وقوعا و صدورا ظلمه، و رضاهم رضاه و سخطهم سخطه، و حبهم حبّه كما صرّح به الامام عليه السّلام في الخبرين الأخيرين.

و ذلك لما ذكره صدر المحققين في شرح الخبر الأخير من أنّ الولي الكامل و الفاني المضمحلّ هو الّذى يستغرق وجوده في وجود الحقّ المعبود لأنّه الموجود في مقام العبودية و الشهود الراجع إلى عالم الوحدة الجمعيّة بعد طيّ منازل الكثرة في مراحل التفرقة و قد خرج من البين و الأين، و وصل و في في العين، فحينئذ إن بقي على هذه الحالة في المحو و لم يرجع إلى الصحو كان محجوبا بالحقّ عن الخلق على عكس حالة المحجوبين بالخلق عن الحق، فحينئذ لا شغل له في هذا العالم و لا أسف و لا ضجر و لا غضب و لا رضى و لا غير ذلك مع الخلق لأنّ جميع ذلك فرع الالتفات إليهم و لا معاملة معهم فإذا صارت تلك الحالة ملكة راسخة له و قويت ذاته بحسب وسع شخصه و قلبه انشرح صدره و صار جالسا في مقام التمكين على

الحدّ المشترك بين الحق و الخلق غير محتجب أحدهما عن الآخر فحينئذ كلّ ما يصدر عنه من الأعمال و الأفعال و المجاهدات و المخاصمات و غيرها كان للّه و باللّه و من اللّه و في اللّه، فإن غضب كان غضبه باللّه و للّه، و إن رضى كان رضاه كذلك و هكذا في جميع ما يفعل أو ينفعل فكان غضبه غضب الحق و رضاه رضاه من دون أن يكون انضجاره راجعا إلى أسف الخلق و انضجارهم بوجه.

لكن يجب أن يعلم لدفع الإشكال الوارد هنا بأنّ هذه الانفعالات و التغيّرات كيف تنسب إلى الحق تعالى، إنّ الأولياء الكاملين الكمّلين للخلق ما داموا في هذا العالم لا مخلص لهم عن الإشتغال بالخلق و المخالطة معهم و إصلاحهم و تأديبهم و تعليمهم و أمرهم بالمعروفات و نهيهم عن المنكرات، و حينئذ تلحقهم لوازم البشرية

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 682

و نقائص الخلقيّة من الأذى و الألم و الانضجار و الأسف و غيرها من الانفعالات و الاستحالات و إليه الاشارة

بقول الامام عليه السّلام في الخبر المتقدّم: يأسفون و يرضون و هم مخلوقون مربوبون،

و لكن لمّا كان أصل اشتغالهم بأمور الدنيا و التفاتهم إلى الخلائق بواسطة أمر اللّه و طاعته و عبارته فكلّما يلحقهم من ذلك و يصل إليهم كان للّه و في سبيله، فجعل رضاهم رضا نفسه، و سخطهم سخط نفسه.

و الحاصل الذي يستحيل على اللّه من الانفعالات و التغيرات هو الذي يكون وصفا له بالذات و بالحقيقة و يصل إلى ذاته بذاته، و الذي لا يكون أولا و بالذات بل بالعرض و بواسطة العبد واسطة في العروض لا واسطة في الثبوت و لا في الإثبات، و اليه الإشارة

بقوله: لأنه جعلهم

الدعاة إليه و الأدلّاء عليه، و لذلك صاروا كذلك،

فإنّ لهم لتوسّطهم بين اللّه و بين خلقه جهتين ظاهرية مع الخلق، و باطنية مع الحقّ.

ثمّ ذكر أنّ

في قوله في الخبر: «و ليس ذلك يصل إلى اللّه كما يصل إلى خلقه»

تنبيها لطيفا على أنّ كلّما هو من الصفات من الأمور الوجودية التي هي مظاهر أسمائه و صفاته فهو ثابت للحق تعالى على وجه أعلى و أشرف، فإنّ صفات الوجود كالوجود نفسه في كلّ موطن من المواطن و عالم من العوالم بحسب ذلك الموطن و المقام، فالغضب مثلا في الجسم جسماني وصفي كما يشاهد من ثوران الدّم و حرارة الجلد و حمرة الوجه، و في النفس نفساني إدراكى و هو إرادة الانتقام و التشفي من الغيظ، و في العقل عقلي، و هو الحكم الشرعي و التصديق بتعذيب طائفة، و المحاربة لأعداء اللّه، و إقامة الحدود و ما يجرى مجرى ذلك، و غضب اللّه ما يليق بمفهومات صفاته بوجود ذاته، و كذا الشهوة فانّها في النبات الميل إلى جذب الغذاء و النموّ، و في البدن الحيواني انفتاخ العضو المخصوص و امتلاء أوعية المنيّ، و جذب الرحم الإحليل، و في نفسه التلذذ النفساني بالمباشرة، و في النفس الإنساني محبّة الإخوان و المؤالفة و الصداقة و العشق العفيف الّذى منشؤه تناسب

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 683

الأعضاء و الشمائل الحسنة لحسان الوجوه، لا غلبة الشهوة و استيلاء الحيوانيّة البهميّة، و في العقل الابتهاج بمعرفة اللّه و صفاته و أفعاله و كيفيّة ترتيب الوجود و سلسلتي البدو و النهاية، و الخلق و الأمر، و الملك و الملكوت، و قد مرّ سابقا أنّه تعالى بحسب كلّ صفة و نعت هو له ليس

كمثله شي ء في تلك الصفة، و المخلوقات و صفاتها رشح و تبع لذاته و صفاته، و المجعول لا يساوى جاعله في وجوده و لا في صفات وجوده، فليس كمثله شي ء في كلّ الوجوه و الجهات، و لكن الجميع فيه على وجه أعلى و أشرف. انتهى كلامه زيد مقامه.

و فيه مع الغضّ عمّا في بعض كلامه من جواز عروض بعض الصفات و لو بواسطة العبد و كونه واسطة في العروض لوضوح فساده إلّا أن يريد به جواز الإطلاق لا العروض و من إثبات العشق العفيف حسبما أجمله في المقام و فصّله في أسفاره، و ستسمع تمام الكلام في إبطاله عند تفسير قوله: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً «1» آه.

أنّ صفات الإمكانية و المعاني الكلّية لا يتّصف بشي ء منها ذات الواجب جلّت عظمته، و القول بالرشح و النسخ و التنزل و غيرها ممّا تقوله بعض الصوفية القائلين بوحدة الوجود باطل جدّا حسبما أسلفنا بعض القول فيه، و بيّنا أنّ العلم و القدرة و غيرهما من صفات الذات أو من صفات الفعل ليس إطلاقه عليه سبحانه من باب الاشتراك المعنوي بأن يكون للعلم مثلا معنى واحد مختلف المراتب بحسب الشرافة و اللطافة و الإحاطة و البساطة و امتدادها فيتّصف الواجب به على وجه أشرف و غيره على حسب مرتبته، فإنّ هذا المعنى الواحد إن كان واجبا غير الذات فيتعدّد الواجب، و كيف يتّصف به غيره أو عينه فليس وصفا لغيره و إلا لكان

______________________________

(1) البقرة: 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 684

الذات وصفا للممكن أو من الممكنات فلا يجرى عليه ما هو أجراه على خلقه فهو بمعزل عن أن يكون وصفا للواجب، فالقول بالشركة المعنوية

باطل في نفس الوجود، و في الصفات الذاتية و الفعلية كما وقع التصريح به في أخبار أهل البيت عليهم السّلام.

و مثله القول باتّحاد المعنى مع نسبة الاختلاف إلى المراتب و الإضافات و الإعتبار كما يقوله الصوفيّة.

بل صرّح هذا الفاضل في موضع آخر أنّه ما من صورة إمكانية و صفة خلقيّة إلّا و لها حقيقة أصليّة في عالم الالهيّة و عالم الأسماء الربانيّة لكن على وجه أعلى و أشرف، ألا ترى أن الوجود حقيقة واحدة نوعيّة، و هو في مرتبة جسم، و في مرتبة نفس، و في مرتبة عقل، و في مرتبة حقّ تعالى عن المثل و التشبيه، و كذا حكم كلّ حقيقة وجوديّة، إذ الاختلاف بالشدّة و الضعف قد ينتهى إلى غاية التخالف. انتهى.

و هو كما ترى صريح في ان الوجود الحقّى و الخلقي متحد بحسب الحقيقة، و أنّه حقيقة واحدة نوعية، و الاختلاف إنما هو بحسب المراتب، بل صرّح بأنّ الاختلاف بالشّدة و الضعف، فيا للّه و للتوحيد، متى كان ذكر للإمكان و للممكنات في عالم الوجوب كى يتّحد معه في الحقيقة النوعيّة الوحدانيّة، و هل هذه الاعتبارات و المراتب و القيود كانت قديمة أو حادثة، و الأوّل واضح الفساد، و الثاني خلاف مدّعاهم، لكنّهم يقولون: إنّ جميع ما في الكون كلّها إشراقات و إضافات و اعتبارات للحقيقة الواحدة الّتي هي الوجود، فلا يثبتون في الكون و الإمكان إلّا سلوبا و غيورا، و إنّهم ليقولون منكرا من القول و زورا، فإذا سئلت عن كلّ منهم بل عن كلّ شي ء في العالم فإمّا عدم محض عندهم، أو أنّه واجب الوجود تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و ما أحسن ما وصّاه به شيخنا الأفخم الأمجد

قدّس سرّه في شرحه للعرشيّة حيث

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 685

قال: و أنا أقول للمصنّف لا يتعب نفسه فإنّه إن صعد السّماء أو نزل الأرض أو قتل نفسه أو غير ذلك لا يكون ربّا و لا يكون قديما، و لا أصل له في الأزل أبدا و لا يقبل منه ذلك إلّا من كان يريد مثل هذه المرتبة، و هم معه مثل ما قيل في ذمّ أبى الحسين الجزّارة.

إن تاه جزاركم عليكم بفطنة في الورى و كيس

فليس يرجوه غير كلب و ليس يخشاه غير كيس

و عن الشيخ علاء الدولة السمناني في حاشيته الحتوفات المسماة بالفتوحات عند قول ابن عربي: سبحان من أظهر الأشياء و هو عينها أنه قال: يا شيخ إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ شيئا لو قيل: إنّ فضلة الشيخ عين وجود الشيخ لا تسامحه بل تغضب عليه، فكيف يجوز ذلك أن تنسب هذا الهذيان إلى الملك الديّان تب الى اللّه تعالى لتنجو من هذه الورطة الوعرة الّتي تستنكف عنها الطّبيعيون و الدهريون.

نمط آخر من الكلام لتنقيح المرام

اعلم أنّ اللّه تعالى لم يخلق شيئا فردا لا ضدّ له كما قال: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «1».

و

في خبر عمران الصابي عن مولانا الرضا عليه السّلام: إنّ اللّه لم يخلق شيئا فردا قائما بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه و إثبات وجوده «2».

و ذلك لأنّ التماثل و التضاد و الاقتران كلّها من صفات الإمكان الّتي لا يتّصف الواجب بشي ء منها لتنزّهه عن الأنداد و الأضداد.

______________________________

(1) الذاريات: 49.

(2) التوحيد ص 318- العيون ج 1 ص 169 و عنهما البحار ج 57 ص 52.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 686

و لذا

ورد في الخطبة العلويّة و مثلها في الخطبة

الرضويّة: فبتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له و بتجهيره الجواهر عرف ان لا جوهر له و بمضادته بين الأشياء عرف ان لا ضدّ له و بمقارنته بين الأمور عرف ان لا قرين له ضادّ النور بالظلمة و اليبس بالبلل، و الصرد بالحرور، مؤلّفا بين متعادياتها مفرّقا بين متدانياتها دالة بتفريقها على مفرّقها و بتأليفها على مؤلّفها، و ذلك قوله تعالى: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ آه «1».

فالممكن لا يمكن إيجاده بمعنى أنّه لا ينوجد إلّا أن يكون له ضدّ، لأنّ كلّ ممكن زوج تركيبي، فيه جهة من ربّه، و جهة من نفسه، و ما هو عليه من رتبة إمكانه و فعليته وجوده جهة إمكانيّة يمكن فقدانها و زوالها، و هو بعينه طرو ضدّها، فلمّا خلق اللّه الرحمة محبّة لها و عناية بها أوّلا و بالذات، لأنّها من فيض جوده و تمام محبّته و مقام قربه استلزم إيجادها خلق الغضب الذي حقيقته البعد عن الرحمة و خلاف المحبّة، لأن خلق الغضب من تمام قابليّة الرحمة للخلق، فخلق الرحمة اوّلا و بالذات و الغضب ثانيا و بالعرض، لأنّه بخلاف محبّته و رضاه فلم يرده لذاته بل إنّما اراده لتمام الرحمة، فمراده و محبوبه هو الرحمة الّتي وسعت كلّ شي ء فكان خلقه قبل خلق الغضب قبليّة ذاتيّة، و لذا

سبقت رحمته غضبه كما في الدعاء.

و

عن مولينا الباقر عليه السّلام: إنّ اللّه خلق الجنّة قبل أن يخلق النار، إلى ان قال و خلق الرحمة قبل أن يخلق الغضب «2».

فنسب الرحمة و المغفرة إلى نفسه و اشتقّ لها أسماء منها ليفزع المخلوق بها اليه سبحانه فقال: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «3» ثمّ لم يشتقّ من

الغضب

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 130 ح 49 عن التوحيد.

(2) البحار ج 8 ص 308 ح 72 عن الكافي ج 8 ص 145 ح 116.

(3) الحجر: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 687

لنفسه اسما بل وصف العذاب بقوله: وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «1» فسبقت رحمته غضبه من وجهين بل من وجوه.

و لذا

قال أبو الحسن موسى عليه السّلام: إنّ اللّه جلّ ثناؤه خلق العقل و هو أول خلق خلقه اللّه من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره فقال له اقبل فاقبل ثمّ قال له أدبر فأدبر فقال اللّه تعالى خلقتك خلقا عظيما و كرّمتك على جميع خلقي، ثمّ خلق الجهل من البحر الأجاج الظلماني «2».

ثمّ جعل لكلّ منهما جنودا من جملتها الرحمة و الغضب «3» كما في الخبر

و ان احتمل فيه ان لا يكونا بالمعنى الكلّى الذي نحن بصدده فإنّ حقيقة الرحمة و أصله موافقة الرضا و المحبّة و مقام القرب خلقها اللّه بنفسها لنفسها و خلق من أشعّة أنوارها كلّ خير حتّى الجنة و أهلها و من فروعها الأنبياء و الأولياء و الصلحاء و الأخيار و الأبرار و الملئكة و الروحانيين و غيرهم من المقرّبين الذين فازوا بمقام القرب الّذى هو حقيقة الرحمة و لذا عبر عنها بالولاية الكليّة المختصة بنبينا خاتم النبيّين و اله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين فإنهم حقيقة الرحمة و مقام المحبة و تمام النعمة و من ثمّ أرسله اللّه تعالى رحمة للعالمين و أكمل بوصيّه الدين المبين و جعل من فروعهم كلّ خير و برّ من الأكوان و الأعيان و الكينونات التشريعيّة و التكوينيّة حتى الأخلاق و الأحوال الحسنة و العبادات الواجبة و المندوبة و غيرها

ممّا هو مقتضى الولاية الكليّة الّتي عرضها اللّه على جميع ذرأت العالم فما قبلها طاب و طهر، و تكوّن على وفق مشيّته و إرادته و محبّته و رضاه.

______________________________

(1) الحجر: 50.

(2) بحار الأنوار: ج 1 ص 109 ح 7 و ص 158 ح 30 و ج 78 ص 316 ح 1 باب مواعظ ابى الحسن موسى الكاظم عليه السّلام عن تحف العقول ص 383.

(3) ليس الغضب من جملتها، نعم من جملتها، الانتقام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 688

و هذا معنى

الدعاء المأثور في ليالي شهر رمضان: «اللّهم برحمتك في الصالحين فأدخلنا، و في عليين فارفعنا، و بكأس من معين من عين سلسبيل فاسقنا. الدعاء.

فإنّ جميع ما ذكره هنا و في سائر المواضع من شئون الرحمة و مقتضياتها و مظاهرها، و كذا قولهم بعد التوسلات و التضرّعات و السؤلات: «برحمتك يا أرحم الراحمين» فإنّه توسل بالرّحمة في طلب النعمة الّتي هي من مظاهرها و أشعتها و فروعها، و لذا يحشر المتقون إلى الرحمن وفدا و يساق المجرمون إلى جهنّم وردا، فإنّ الرحمن هو الظاهر بالرحمة الّتي مظهرها في القيمة هو الجنّة أعنى دار القرب و الكرامة و الفوز و السلامة الّتي خلقها اللّه برحمته كما أنّه من رحمته جعل لكم الليل و النهار، و غير ذلك ممّا منّ اللّه على عباده من مقتضيات الرحمة الواسعة، و المكتوبة المشار إليهما بالكلمتين في البسملة، و بالرحمتين في الآية، و

بقوله في دعاء السمات: «و برحمتك الّتي مننت بها على جميع خلقك»

، فيطلق على النعمة الرحمة قال: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي «1» و وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ «2» و منه قولهم بعد التسليم: «و رحمة اللّه و

بركاته»، و يطلق عليها أثر الرحمة فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها «3» أى أرض جرز الإمكان بماء رحمة الوجود المشار اليه بقوله: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ «4».

إذ ليس المراد به الماء العنصري الذي هو أحد بسلط الأجسام، مع أنّه لم يخلق منه إلّا بعض الأجسام المركّبة، و الالتزام بالتخصيص مع استغراق العموم و قلّة

______________________________

(1) الكهف: 98.

(2) المؤمنون: 75.

(3) الروم: 50.

(4) الأنبياء: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 689

الباقي مستهجن جدّا، و هو كما ترى و لو مع جواز التخصيص بالأكثر في نفسه، و الحيوة سارية في جميع الأكوان.

و أمّا الغضب نستجير باللّه منه فقد سمعت أنّ حقيقته هو البعد من اللّه و لذا لم يرضه و لم يرده لذاته، بل لم يزل بغيظا له سبحانه، و لذا لم ينظر اليه بعين الرحمة و العناية أبدا، و كذا إلى ما خلق منه كطينة سجّين، و أرض الخبال، و الشقاوة و الأشقياء الذين هم مظاهر تلك الشقاوة بكلّيتها و كافّة جنودها و أحزابها كأبى الدواهي، و أبي الشرور و أبى الملاهي، و أتباعهم و أعوانهم، و الراضيين بأفعالهم، و المائلين إليهم.

و بالجملة فكلّ منهم مظهر للغضب الإلهى على حسب رتبته من الشقاوة، بل من جملة مظاهره الكلّية الّتي يتجوهر في الآخرة بل في الدنيا أيضا و لو بصورة اخرى هي نار جهنّم و طبقاتها و دركاتها، و جميع ما فيها من الأمور المكروهة المناسبة لها من الحميم، و الغسلين، و الأغلال و النكال، و اللهيب، و الشرر و غيرها.

فكما يطلق الغضب على كلّ هذه المذكورات كذلك يطلق أيضا على ولاية أعداء اللّه، و عداوة أوليائه، و ما يتفرّع عليها من

الأعمال القبيحة الخبيثة الطالحة الّتي كلها من فروع الشجرة المجتثّة، فهذه الأعمال الشريرة كعامليها الأشرار كلّها من النار و إلى النار الّا ما كان منها من قبيل التلطخ و العروض فإنّه يرد إلى صاحبه يوم الفصل الأكبر و ليحملنّ أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم.

و امّا ما سواه

فقد ذكروا عليهم السلام أنّه ليس منّا من يدّعى ولايتنا و هو متمسّك بفروع غيرنا.

و لذا

قال مولينا الصادق عليه السّلام في جواب المفضّل على ما رواه الصّفار في «البصائر» في خبر طويل و فيه: إنّ أعدائنا هو الحرام المحرّم، و هم الفواحش ما

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 690

ظهر منها و ما بطن، و من فروعهم «1» الخمر و الميسر و الزنا و الربا أو الدم و الميتة و لحم الخنزير فهم الحرام المحرّم، و أصل كلّ حرام، و هم الشرّ و أصل كلّ شرّ، و منهم فروع الشرّ كلّه و من ذلك الفروع الحرام و استحلالهم إيّاها، من فروعهم تكذيب الأنبياء، و جحود الأوصياء، و ركوب الفواحش: الزنا و السرقة و شرب الخمر و المسكر و أكل مال اليتيم و أكل الربا و الخدعة و الخيانة و ركوب الحرام كلّها و انتهاك المعاصي، و إنّما يأمر اللّه بالعدل و الإحسان و إيتاء و هم المنهي عن مودّتهم و طاعتهم.

إلى ان قال: و اعلم أنّ اللّه قد حرّم هذا الأصل و حرّم فرعه و نهى عنه، و جعل ولايته كمن عبد من دون اللّه أوثانا و لو أنّي قلت إنّ ذلك كلّه هو فلان لصدقت إنّ فلانا هو المعبود المتعدّى حدود اللّه الّتي نهانا عن تعدّيها «2».

الخبر بطوله كما تسمعه إن شاء اللّه في تفسير قوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ

رَبِّيَ الْفَواحِشَ «3»، الآية.

و بالجملة فللغضب أيضا آثار و مظاهر كثيرة في عوالم متعدّدة، و من مظاهرها الفسوق و الفجور و الخيانة و غيرها من المعاصي.

و منها الأخلاق السّيئة و الإعتقادات الباطلة، و الإرادات و الشهوات الرديّة النفسانيّة و البهيمية و السبعية و الشيطانيّة.

و منها المسخ في الدنيا سواء كان صوريا ظاهريا كما في سائر الأمم، أو باطنيا معنويّا كما في هذه الامة المرحومة.

و منها الشرك و الكفر بجميع أقسامها و أحكامها و لوازمها.

______________________________

(1) ليس في البحار: «و من فروعهم».

(2) بحار الأنوار: ج 24 ص 290 ح 1 عن بصائر الدرجات ص 154.

(3) الأعراف: 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 691

و منها كينونات الأشقياء و الخبائث و الكدورات و الظلامات و الظلمات في جميع العوالم و النشآت.

و منها الاستدراج و الإمهال في الدنيا لإبداء السرائر و كشف الضمائر، و إن كان ذلك باستدامة النعمة و العافية.

و منها الزواجر و العقوبات الدنيوية البرزخيّة و الاخروية من سوء الموقف و سوء الحساب و النار أنواع العذاب المعدّة لهم فيها إلى غير ذلك ممّا هي آثار و لوازم و فروع لولاية أعداء الحقّ أعنى الجبت و الطاغوت و الشياطين و حزبهم الظالمين كما في الزيارة الجامعة.

إذ المراد بالأولين الأولان، و بالشياطين بنو أميّة قاطبة و منهم الثالث، و حزبهم أشياعهم و أتباعهم و الراضين بفعالهم، ممّن كان أو يكون إلى يوم القيمة، فإنّ كينونات أصولهم أصل الغضب الّذي هو تجوهر البعد من اللّه سبحانه و المخالفة لإرادته و رضاه في الكينونة و الكيفوفة و مراحل التكوين و منازل التمكين و مراتب التشريع و التفريع، و قد ظهر ممّا مرّ عموم «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ كما هو قضيّة العرف و اللغة لكلّ

معاند للحق جاهد له قد سخط اللّه عليه بإنكاره و عناده و نصبه و عداوته لأولياء الحق بلا فرق بين اليهود و النصارى و المجوس و غيرهم من فرق الكفار بل و كذا المخالفين الّذين هم يهود هذه الأمّة و أتباع عجلها و سامريّها فغضب اللّه عليهم يمسخهم في الباطن، و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت أولئك شرّ مكانا من فرق الكفار الذين ليسوا من أهل الجحود و النصب و العداوة لولي الأمر و أضلّ عن سواء السبيل الذي هو ولاية مولينا أمير المؤمنين بل قيل: إنّ الغضب أشدّ من اللعنة فخصّ باليهود أشدّ عداوة لأهل الحقّ العاملة الناصبة الجاحدة المعاندة لأهل البيت عليهم السّلام و ذرّيتهم و شيعتهم و محبيهم فالغضب عليهم أشد و أغلظ.

و لذا

ورد في النبوي على ما رواه في المجالس و تفسير العياشي عنه صلّى اللّه عليه و آله

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 692

قال: غضب اللّه على اليهود حين قالوا عزير ابن اللّه، و اشتدّ غضب اللّه على النصارى حين قالوا المسيح ابن اللّه و اشتد غضب اللّه على من أراق دمي و آذاني في عترتي «1».

و اشتداد الغضب هو الذي عبّر عنه بالمقت في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ «2».

فعن القمى قال: إنّ الذين كفروا يعنى بنو أميّة، و تدعون إلى الايمان، يعنى إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام «3».

و مثله في المناقب عن مولانا الباقر و الصادق عليهما السّلام

، بل في المقام أخبار كثيرة نذكرها إن شاء اللّه في تفسير قوله: و غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «4» و مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي «5»، و

لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «6»، و كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ «7» إلى غير ذلك من الآيات.

تفصيل للاجمال في تحقيق معنى الضلال: اعلم هداك اللّه بنور اليقين و أرشدك إلى ولاية الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين أنّ الضلال في الأصل ضدّ الرشاد، قال في القاموس: الضلال و الضلالة و الضلّ و يضمّ و الضلضلة و الاضلولة و الضلة بالكسر و الضلل محركة ضدّ الهدى، ضللت كزللت و مللت، و هذا إشارة إلى ما أشار اليه الفيّومي تبعا للجوهري، قال: ضلّ الرجل الطريق، و ضلّ عنه يضلّ من باب ضرب ضلالا و ضلالة، ضلّ عنه فلم يهتد اليه فهو ضالّ،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 71 ح 8 عن أمالى ابن الشيخ ص 88.

(2) غافر: 10.

(3) تفسير القمى ج 2 ص 255.

(4) الفتح: 6.

(5) طه: 81.

(6) الممتحنة: 13.

(7) غافر: 35 و الصف: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 693

هذه لغة نجد، و هي الفصيح، و بها جاء القرآن في قوله تعالى: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي «1».

و في لغة لأهل العالية من باب تعب، و الأصل في الضلال الغيبة، و منه قيل للحيوان الضائع ضالّة بالهاء للذكر و الأنثى إلى أخر ما ذكره.

و قد يقال: إنّه في الأصل خفاء الشي ء و هلاكه في الشي ء من قولهم: ضلّ الماء في اللبن.

و يقال: إنّه قد استعمل في القرآن على وجوه اثنى عشر: طلب الزلة، لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ «2»، و الكفر و الشرك: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ «3» و الخسران: وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ «4» اى خسار، و فرط المحبّة:

إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «5» و الشقاء: وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ

بَعِيدٍ «6»، و البطلان: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «7» و أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «8» و النسيان: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى «9»، و التلاشى و الاضمحلال: وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «10»، و الجمل:

______________________________

(1) سبأ: 50.

(2) النساء: 113.

(3) الواقعة: 51.

(4) غافر: 25.

(5) يوسف: 3.

(6) ق: 27.

(7) الكهف: 104.

(8) محمد (ص): 8.

(9) البقرة: 282.

(10) السجدة: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 694

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ «1» و الحرمان و الياس: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ «2» و الخطاء: لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى «3»، و الإغواء: لَأُضِلَّنَّهُمْ «4».

لكنه مع ظهور التكرار فيه في الجملة و رجوع البعض إلى البعض لا يخفى أن المثال في بعضها غير مطابق للممثل سيّما قوله في قصّة موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام: فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ «5».

فإنّه ليس من الجهالة، بل الضلال عن الطريق كما عن الإمام عليه السّلام: مضافا إلى أنّه لم يستوف جميع معانيها الّتي ورد عليها في القرآن كالإضلال من اللّه في قوله:

يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً «6» و الضلال للنّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «7».

فضلا عن المعاني المستعملة فيها في العرف و اللغة كالخفاء، و الضياع، و الغياب، و الحيرة، و الحذق بالدلالة، و كون الولد لغير رشده إلى غير ذلك ممّا في القاموس و غيره الذي لا داعي إلى الإطناب في نقله، فضلا عن إرجاع بعضها إلى بعض و إن قيل: إنّ الأصل في معانيه الهلاك أو الميل عن الشي ء.

نعم

في تفسير النعماني بالإسناد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: الضلال على وجوه فمنه محمود

و منه ما هو مذموم و منه ما ليس بمحمود و لا مذموم و منه ضلال النسيان، فامّا الضلال المحمود و هو المنسوب إلى اللّه تعالى كقوله:

______________________________

(1) الشعراء: 20.

(2) القمر: 47.

(3) طه: 52.

(4) النساء: 115.

(5) الشعراء: 20.

(6) البقرة: 26.

(7) الضحى: 7. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 695

يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ «1»، و هو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم، و المذموم هو قوله تعالى:

وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ «2»، وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى «3» و مثل ذلك كثير.

و أمّا الضلال المنسوب إلى الأصنام فقوله تعالى في قصّة إبراهيم: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «4»، الآية.

و الأصنام لا يضللن أحدا على الحقيقة انّما ضلّ الناس بها و كفروا حين عبدوها من دون اللّه عز و جلّ.

و امّا الضلال الذي هو النسيان هو قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «5».

و قد ذكر اللّه تعالى الضلال في مواضع من كتابه فمنه ما نسبه إلى نبيّه على ظاهر اللفظ كقوله سبحانه: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «6» فمعناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوتك فهديناهم بك.

و امّا الضلال المنسوب إلى اللّه تعالى الذي هو ضدّ الهدى، و الهدى هو البيان و هو معنى قوله: أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ «7» معناه أولم يبيّن لهم مثل قوله: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «8»، اى بيّنا لهم و هو قوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ «9».

______________________________

(1) المدثر: 31.

(2) طه: 85.

(3) طه: 79.

(4) إبراهيم: 36.

(5) البقرة: 282.

(6) الضحى: 7.

(7) طه: 128.

(8) فصّلت: 17.

(9) التوبة: 115. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 696

و امّا معنى الهدى فقوله عزّ و جل:

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «1»، و معنى الهادي المبيّن لما جاء به المنذر من عند اللّه، و قد احتجّ قوم من المنافقين على اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها «2» و ذلك أن اللّه تعالى لمّا أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ، قال طائفة من المنافقين:

ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً فأجابهم اللّه تعالى بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي الآية.

فهذا معنى الضلال المنسوب إلى اللّه سبحانه لأنه أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به المنذر فخالفوه و صرفوا عنه بعد أن أقرّوا بفرض طاعته، و لمّا بيّن لهم ما يأخذون و ما يذرون فخالفوه و ضلّوا.

هذا مع علمهم بما قاله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تصلّوا عليّ صلاة مبتورة إذا صلّيتم عليّ بل صلّوا على أهل بيتي و لا تقطعوهم عنّى فإنّ كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا سببى و نسبي، و لمّا خالفوا اللّه تعالى ضلّوا و اضلّوا فحذر اللّه الأمّة من إتّباع الهوى، فقال سبحانه: وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ «3» و السبيل هاهنا الوصىّ و قال سبحانه: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ «4»، الآية، فخالفوا ما وصّاهم اللّه تعالى به و اتّبعوا أهواءهم فحرّفوا دين اللّه جلّت عظمته و شرائعه و بدّلوا فرائضه و احكامه و جميع ما أمروا به كما عدلوا عمّن أمروا بطاعته و أخذ عليهم العهد بموالاته، و اضطرهم ذلك إلى استعمال الرأي و القياس

فزادهم ذلك حيرة و التباسا،

______________________________

(1) الرعد: 7.

(2) المائدة: 77.

(3) المائدة: 77.

(4) الأنعام: 153. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 697

و منه قوله سبحانه: وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ «1».

فكان تركهم إتّباع الدليل الذي أقام لهم ضلالة لهم، فصار ذلك كأنّه منسوب إليه تعالى لمّا خالفوا أمره في إتّباع الإمام ثمّ افترقوا و اختلفوا و لعن بعضهم بعضا و استحلّ بعضهم دماء بعض: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ «2». «3» الخبر.

و على كلّ حال فقضية الإطلاق و حذف المتعلق، سيّما بمعونة اختلاف الأخبار الواردة في تفسيره حسبما مرّ في اوّل تفسير الآية و يأتى أيضا حمل الضلال في المقام على كلّ انحراف و عدول عن الحقّ الّذى هو الدين القويم، و الصراط المستقيم، بلا فرق بين أن يكون ذلك الانحراف في الإعتقاد أو العمل أو اللسان فيما يتعلق بأصول الدين كلّها أو بعضها أو فروع الدين كذلك، أو أصول الفروع و فروع الأصول سواء كان ذلك على وجه الجحود و العناد، أو على سبيل الإعتقاد و توهّم الصواب و السداد، أو من جهة الاستضعاف و عدم التميز بين الفساد و الرشاد، انّ الضلالة تشتمل جميع ذلك منفردا و مجتمعا مع غيره حتى المجموع، و إن فسّرت في بعض الأخبار بالغلوّ و في بعضها بالنصب الذي هو الضلال عن سبيل اللّه كما مرّت حكايتهما عن تفسير الامام عليه السّلام و غيره.

بل

فيه أيضا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، و لكن يقبضه بقبض العلماء فإذا لم ينزل عالم إلى

عالم تصرّف عنه طلّاب حطام الدنيا و حرامها و يمنعون الحقّ من أهله، و يجعلونه لغير أهله اتّخذ الناس رؤساء

______________________________

(1) المدثر: 31.

(2) يونس: 32.

(3) بحار الأنوار: ج 5/ 208- 209 ح 48 عن تفسير النعماني ص 17- 20. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 698

جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا و أضلّوا «1».

و في كثير من الأخبار أنّ أهل الضلال هم المستضعفون بل في بعضها تثليث الإيمان و الكفر بالضلالة.

عن العيّاشى عن مولينا الصادق عليه السّلام قال: الناس على ستّ فرق يؤتون كلّهم إلى ثلث فرق: الإيمان، و الكفر، و الضلال، و هم أهل الوعد من الّذين وعدهم اللّه الجنّة و النار المؤمنون و الكافرون و المستضعفون و المرجون لأمر اللّه إمّا يعذبهم و إمّا يتوب عليهم، و المعترفون بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا و أهل الأعراف «2».

و

فيه عن زرارة قال دخلت أنا و حمران أو أنا و بكير «3» على أبى جعفر عليه السّلام قال قلنا له إنّما نمد المطمر قال: و ما المطمر؟ قلنا: الترّ فمن وافقنا من علويّ أو غيره تولّيناه، و من خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة قول اللّه أصدق من قولك فأين الّذين قال اللّه عزّ و جل: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا «4»، أين المرجون لأمر اللّه، أين الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا، أين أصحاب الأعراف، أين المؤلّفة قلوبهم.

و زاد حماد في الحديث قال زرارة: فارتفع صوت أبي جعفر عليه السّلام و صوتي حتى كان يسمعه من على باب الدار.

و زاد فيه جميل عن زرارة: فلمّا كثر الكلام بيني و

بينه قال لي: يا زرارة حقّا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 2/ 83 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) البحار: ج 72/ 165- 166 عن تفسير العياشي ج 2/ 111.

(3) في البحار و تفسير العياشي ليس «أو أنا و بكير».

(4) النساء: 98. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 699

على اللّه أن يدخل الضلّال الجنّة «1».

قلت: في «مجمع البحرين» المطمر بكسر الميم الأولى و فتح الثانية خيط يقوّم عليه البناء، و يسمّى الترّ أيضا و قال في التر: إنّه بالضم و التثقيل خيط البناء المطمر مثله ثمّ نقل الخبر و غيره «2».

و مراد زرارة به في الخبر إمّا الضال عن الاستقامة المطلقة في الأصول و الفروع و إمّا عن ولاية الائمّة الطاهرين.

و ظاهر الخبر أنّ كلّ من عدّه الإمام عليه السّلام داخل في الضّلال بالضّم و التشديد جمع الضالّ، و استحقاق الجنة لعدم تماميّة الحجّة عليهم.

و يؤيّده ما

في غيبة الشيخ قدّس سرّه في الصّحيح عن زرارة عن مولينا الصادق عليه السّلام قال: حقيق على اللّه أن يدخل الضلّال الجنة.

فقال زرارة كيف ذلك جعلت فداك؟

قال: يموت الناطق، و لا ينطق الصامت فيموت المرء بينهما فيدخله اللّه الجنّة «3».

على الأوّل لا إشكال فيه لإحراز الإسلام و الإيمان، و إن لم يكن على سبيل الكمال، و على الثاني لعلّ المراد كونهم حينئذ من المستضعفين الّذين لم يتمّ عليهم الحجّة في الدنيا بل يؤجّج لهم في البرزخ أو في الآخرة نار يمتحنون بها كغيرهم ممّن لم يتمّ عليهم الحجّة مثل الأطفال، و المجانين، و

الذي مات في الفترة بين النبيين و الأبله، و الأصمّ و الأبكم كما رواه في «المعاني» و «الخصال»

بل في بعض الأخبار إطلاق الضلّال على المخالفين مع تثليث القسمة.

______________________________

(1) تفسير العياشي ج

2 ص 93 و عنه البحار ج 72 ص 164 ح 26.

(2) مجمع البحرين حرف الراء باب ما أوله التاء.

(3) بحار الأنوار: ج 5/ 290 عن غيبة الطوسي ص 292.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 700

تفسير الصراط المستقيم ج 4 5

ففي الكافي بالإسناد عن سليم بن قيس الهلالي عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل أدنى ما يكون به العبد مؤمنا و أدنى ما يكون به العبد كافرا و أدنى ما يكون به العبد ضالّا فقال عليه السّلام قد سئلت فافهم «1» الجواب.

أمّا أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرّفه اللّه تبارك و تعالى نفسه فيقرّ له بالطاعة، و يعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة و يعرّفه إمامه و حجته في أرضه، و شاهده على خلقه، فيقرّ بالطاعة، قلت: يا أمير المؤمنين و إن جهل جميع الأشياء إلّا «2» ما وصفت؟ قال: نعم إذا أمر أطاع و إذا نهى انتهى.

و أدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أنّ شيئا نهى اللّه عنه أنّ اللّه أمر به، و نصبه دينا يتولّى عليه، و يزعم أنّه يعبد الذي أمره به و إنّما يعبد الشيطان.

و أدنى ما يكون به العبد ضالّا أن لا يعرف حجّة اللّه تبارك و تعالى و شاهده على عباده الذي أمر اللّه عزّ و جل بطاعته و فرض ولايته.

قلت: يا أمير المؤمنين صفهم لي فقال: الذين قرنهم اللّه عز و جلّ بنفسه و نبيّه فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3».

قلت: يا أمير المؤمنين جعلني اللّه فداك أوضح لي، فقال: الذين قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خطبته يوم قبضه

اللّه عز و جلّ اليه: إنّى قد تركت فيكم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إن تمسّكتم بهما: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير قد عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، و جمع بين مسبحتيه و لا أقول كهاتين و جمع بين المسبّحة و الوسطى فسبق إحداهما الأخرى فتمسكوا بهما لا تزلّوا و لا تضلّوا و لا تقدّموهم فتضلّوا «4».

______________________________

(1)

في البحار: فاسمع الجواب.

(2)

في البحار: غير ما وصفت.

(3) المائدة: 95.

(4) الكافي ج 2 ص 404- 405 ح 1 و رواه المجلسي قدّس سرّه في البحار عن كتاب سليم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 701

و إنما نقلناه بطوله لأنه في تثليثه كالتفسير للفرق الثلث المذكورة في هذه السورة الشريفة مع ما فيه من الإشعار بأن المخالف يسمّى ضالّا ما لم يكن من أهل الجحود و النصب و العداوة، و انّ نسبتهم إلى الضلال إنّما استفيد من خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين بل المتلقى عندهم بالقبول من غير شك و دين، و قضيّة ذلك التزامهم بضلالتهم حسب ما تأتي الإشارة اليه.

و أمّا ما

رواه في الكافي أيضا عن مولينا الصادق عليه السّلام في قوله: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ «1»: قال: الفواحش الزنا و السرقة و اللمم الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر اللّه منه، فلت: بين الضلال و الكفر منزلة؟ فقال ما أكثر عرى الإيمان «2».

فلعلّ الظاهر أنّ المراد الإشارة إلى التثليث المتقدم، فالمنزلة افتراق كلّ من الضلال و الكفر عن الآخر، أو إلى وسعة مقام الضلالة و كثرة أفرادها، فالمنزلة بين أول الضلالة و الكفر بسائر افراد الضلالة، و لذا أشار إلى كثرة عرى الايمان، فإنّ انقطاع كلّ عروة منها ضلالة و

إن لم يكن كفرا فتشمل جميع المذاهب الّتي افترقت عليها أمّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الفرقة المحقّة الاماميّة الاثنى عشرية الذين هم مع الايمان و الايمان معهم.

بقي في المقام وجوه أخر في بيان المراد من الفريقين مثل أن يكون المراد بالمغضوب عليهم المتمسّكين بالظاهر مع رفض الباطن رأسا، و بالضالّين العكس، و لذا فسر الاول باليهود و الثاني بالنصارى، و هما مشتركان في الانحراف عن الحق، إذ لا يكون ظاهر إلّا بالباطن و لا باطن إلّا بالظاهر كما في الخبر و لذا قال:

______________________________

(1) النجم: 22.

(2) الكافي: ج 2/ 442 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 702

وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ «1».

و

في الخبر عن الصادق عليه السّلام: إنّ قوما آمنوا بالظاهر و كفروا بالباطن فلم ينفعهم شي ء، و جاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن و كفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئا فلا إيمان بظاهر إلّا بباطن، و لا بباطن إلّا بظاهر «2».

أو أنّ المغضوب عليهم هم الذين خرجوا إلى الظلمة من النور بعد الشهود و الحضور، و أهل الضلال هم الذين أخطئوا الطريق بالاشتغال بالفسق و الفجور.

أو الغضب لأهل الإلحاد و العصبيّة و العناد لقوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ «3» و الضلال لأهل التقليد و الإتّباع لقوله: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «4».

أو الغضب الكفار و الضلال للفساق و الفجّار.

أو الغضب لأهل البدع المنحرفين في العلم و الضلال للعصاة المخالفين في العمل.

أو الغضب لمن اتّبع القوى الغضبية السبعية، و الضلال لمن انهمك في متابعة الشهوة البهيميّة، إلى غير ذلك من الوجوه الّتي مرجعها إلى

ما سمعت من اشتراك الفرقتين في الانحراف عن متابعة من جعله اللّه سبيلا إلى معرفته و وسيلة إلى مرضاته و هو النبأ العظيم، و الصراط المستقيم، و قسيم النعيم و الجحيم، و إنّه في امّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم.

______________________________

(1) الانعام: 120.

(2) بصائر الدرجات ص 157 و عنه البحار ج 24 ص 302 ح 11.

(3) الشورى: 16.

(4) الأحزاب: 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 703

تبصرة و إستبصار لمن أراد حسن الإختيار

إذا شئت أن تختر لنفسك مذهباينجيك يوم الحشر من لهب النّار

فدع عنك قول الشافعي و مالك و أحمد و المرويّ عن كعب أحبار

و وال أناسا قولهم و حديثهم روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

و لقد أجاد من قال:

إذا كان كلّ الناس سبعين فرقةو نيفا كما قد جاء في واضح النقل

و لم يك منهم ناجيا غير فرقةفما ذا ترى يا ذا البصيرة و العقل

أفي الفرقة النّاجين آل محمدأم الفرقة الهلّاك أيّهما قل لي

رضيت عليّا لي إماما و سيّداو أنت من الباقين في سائر الحلّ

اعلم أنّ جميع الفرق المتقدّمة من المسلمين

روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باختلاف النقلة و تشابه العبارة أنّه قال: ستفترق أمّتي على ثلاثة و سبعين فرقة، فرقة منها ناجية، و الباقي في النار.

ففي أمالى الطوسي عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال لرأس اليهود: على كم افترقتم؟ فقال: على كذا و كذا فرقة، فقال عليّ عليه السّلام كذبت.

ثمّ أقبل على الناس و قال: و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل القرآن بقرآنهم، افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة سبعون منها في النار، و واحدة منها في

الجنّة، و هي الّتي اتّبعت يوشع بن نون، و افترقت النصارى على اثنين و سبعين فرقة، إحدى و سبعون في النار، و واحدة منها في الجنّة و هي التي اتّبعت شمعون وصيّ عيسى عليه السّلام، و تفترق

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 704

هذه الامّة على ثلاث و سبعين فرقة، اثنتان و سبعون فرقة في النار، و واحدة في الجنة و هي الّتي اتبعت وصيّ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ضرب بيده على صدره، ثمّ قال ثلاث عشر فرقة من الثلاث و سبعين فرقة كلّها تنتحل مودّتي و حبّي واحدة منها في الجنة، و هم النّمط الأوسط، و اثنتى عشرة في النار «1».

بل

ورد من طريق العامة أيضا فعن موفق بن أحمد من علمائهم بالإسناد عن زاذان عن عليّ عليه السّلام قال تفترق هذه الامّة على ثلاث و سبعين فرقة ثنتان و سبعون في النار و واحدة في الجنّة و هم الذين قال اللّه عز و جلّ في حقّهم: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ «2» و هم انا و شيعتي «3».

و هو كما ترى مشتمل على تعيينه، بل

قد رووا هذه الرواية بطرق عديدة و في آخرها: و هي أى الواحدة الناجية الّتي تتبع وصيّي عليّا.

و

روى الحافظ محمد بن موسى الشيرازي في كتابه الّذى استخرجه من التفاسير الاثنى عشر الّتي هي لأبي يوسف يعقوب بن سفيان، و ابن جريح، و مقاتل بن سليمان، وكيع بن جراح، و يوسف بن موسى القطان، و قتادة، و أبى عبيدة القاسم بن سلام، و علىّ بن حرب الطائي، و السدّى و مجاهد، و مقاتل بن حيّان، و أبى صالح، و كلهم من

جمهور المخالفين، عن أنس بن مالك قال كنّا جلوسا عند رسول اللّه فتذاكرنا رجلا يصلّى و يصوم و يتصدّق و يزكّى فقال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا أعرفه، فقلنا يا رسول اللّه انّه يعبد اللّه و يسبّحه و يقدّسه و يوحّده، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا أعرفه، فبينا نحن في ذكر الرجل إذ قد طلع علينا فقلنا هو ذا فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال لأبى بكر: خذ سيفي هذا و امض إلى هذا الرجل و اضرب

______________________________

(1) الاحتجاج ص 140- 141 و عنه البحار ج 28 ص 4- 5 ح 5.

(2) الأعراف: 181.

(3) المناقب للخوارزمي ص 331 ح 351 و عنه ينابيع المودّة ج 1 ص 337. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 705

عنقه، فإنّه أوّل من يأتيه حزب الشيطان فدخل ابو بكر المسجد فرآه راكعا فقال و اللّه لا اقتله، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهانا عن قتل المصلّين فرجع الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا رسول اللّه انّي رايته يصلّى فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اجلس فلست بصاحبه، قم يا عمر فخذ سيفي من يد أبى بكر و ادخل المسجد و اضرب عنقه، قال عمر: فأخذت السيف من يد ابى بكر و دخلت المسجد فرأيت الرجل ساجدا فقلت و اللّه لا أقتله فقد استامنه من هو خير منّى، فرجعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت يا رسول اللّه إنّى رأيت الرجل ساجدا،

فقال يا عمر اجلس فلست بصاحبه، قم يا على فانك أنت قاتله إن وجدته فاقتله فإنك إن قتلته لم يقع بين أمّتي اختلاف أبدا قال عليّ عليه السّلام فأخذت السيف و دخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلى رسول اللّه عليه السّلام و قلت يا رسول اللّه ما رأيته، فقال لي يا أبا الحسن إنّ أمّة موسى افترقت على إحدى و سبعين فرقة، فرقة منها ناجية، و الباقون في النار فقلت: يا رسول اللّه و ما الناجية فقال المتمسك بما أنت عليه و أصحابك، فأنزل اللّه تعالى في ذلك الرجل ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ «1» يقول: هذا أول من يظهر من أصحاب البدع و الضلالات، قال ابن عباس و اللّه ما قتل ذلك الرجل إلّا أمير المؤمنين عليه السّلام يوم صفين «2».

قلت فانظر إلى هذا الخبر الذي رواه غير واحد من الجمهور المصرّح بمخالفتها للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما أمر هما به في مثل هذا الأمر الذي صار سببا لافتراق الامّة فكأنّهما صارا سببين لضلالتها و ارتدادها عن طريق الهدى بمخالفتهما له في حيوته و بعد وفاته.

و لذا جعل علامة الفرقة الناجية مشايعة أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه و التمسّك

______________________________

(1) الحج: 9.

(2) صوابه يوم النهروان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 706

بما هم عليه في الأصول و الفروع «1».

ثمّ إنّ هذه الأخبار المرويّة من الطريقين ما بين مصرّح بأنّ الفرقة الناجية هي الإمامية حسب ما سمعت، و بين مطلق لها إلّا أنّه على فرضه يستفاد التعيين أيضا من خبر صحيح متفق على نقله و صحته بين الفريقين، و هو

قوله عليه السّلام: مثل أهل بيتي كمثل سفينة

نوح من ركبها نجى و من تخلّف عنها غرق

، و لا ريب أنّ الإماميّة هم المختصون بركوب هذه السفينة فإنّهم لا يرجعون في شي ء من أحكامهم و مذهبهم إلّا إلى أهل البيت عليهم السّلام كما أنّ غيرهم من الفرق يرجعون إلى غيرهم كأصحاب أبى حنيفة، و أصحاب الشافعي، و مالك، و احمد، و غيرهم.

مضافا إلى أنّ المحكي عن أفضل المتأخرين نصير الملّة و الحقّ و الدين الطوسي عطّر اللّه مرقده أنّه باحث أصحاب المذاهب فاستدلّ بالخبر على أنّ الناجية هي الإماميّة، قال و ذلك أنّي وقفت على جميع المذاهب أصولها و فروعها فوجدت من عدا الإماميّة مشتركين في الأصول المعتبرة في الايمان و ان اختلفوا في أشياء يساوي إثباتها نفيها بالنسبة إلى الإيمان.

ثمّ وجدت أنّ طائفة الإماميّة هم يخالفون الكل في أصولهم، فلو كانت فرقة ممّن عدهم ناجية لكان الكلّ ناجين فيدل على أنّ الناجية هم الإمامية لا غير.

أقول: و لعلّ الظاهر من كلامه نوع الإعتقادات الاصولية المرتبطة بالايمان كالجبر، و التفويض، و القدر، و الرؤية، و الصفات، و الأحوال، و غيرها ممّا ستسمع إليها الاشارة بل يكفى في ذلك خصوص مسألة الإمامة.

و لذا قد يقال في تحرير كلامه: أنّ جميع الفرق متّفقون على أنّ مناط النجاة و دخول الجنّة هو الإقرار بالشهادتين و خالفهم الإماميّة في ذلك و قالوا لا بدّ من ضمّ

______________________________

(1) نفحات اللاهوت لعلى بن عبد العال الكركي ص 86 ط الغري و عنه إحقاق الحق ج 7 ص 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 707

ولاية أهل البيت و البرائة من أعدائهم و هي الّتي يدور عليها النجاة و الهلاك في الاخرة، لا خصوص الحكم بالإسلام و الكفر في الدنيا، فإنّه

من الأحكام الظاهرة الّتي قد شرعت تسهيلا على أهل الحق.

و امّا ما يقال من أنه لو أريد الخلود فيها هو خلاف الإجماع، فإنّ المؤمنين لا يخلدون فيها و إن أريد مجرد الدخول فهو مشترك بين الفرق إذ ما من فرقة إلّا و بعضها عصاة، و القول بأنّ معصية الفرقة الناجية مغفورة بعيد جدّا، و لا يبعد أن يكون المراد استقلال مكثهم في النار بالنسبة إلى سائر الفرق ترغيبا في تصحيح الاعتقاد.

ففيه أنّ عدم خلود المؤمنين و إن كان مسلما إلّا أنّ إيمان من عدا الفرقة الناجية ممنوع كيف و قد أطبقت الطائفة الحقّة على عدم إيمان من سويهم و انّ الولاية من شرائط الإيمان و الركن الأعظم الذي عليه السّلام من غير عكس.

مضافا إلى انفرادهم النصّ و العصمة و عدم انقطاع الحجّة و غير ذلك من الأصول الّتي انفردت بها من بين الفرق.

هذا كلّه مع الغضّ عن الوجوه المشخصة الخارجة الّتي منها خبر السفينة، و خبر الثقلين اللذين مرّت إليهما الاشارة في المقدمات.

و امّا ما وقع في كلامه استبعاد الغفران لمعاصى الفرقة الناجية فهو أولى بالاستبعاد، بل المرجوّ من فضلهم ذلك كيف و قد وعدنا اللّه تعالى على لسان أوليائه و هو لا يخلف الميعاد، و

قد ورد به أخبار مستفيضة بل متواترة متضمّنة لبذلهم حسناتهم لشيعتهم، و أنّ اللّه تعالى أعطاهم الوسيلة و الفضيلة و الشفاعة لأصحاب الكبائر من شيعتهم، و أنّ اللّه تعالى قد قال إنّي غفرت لشيعة علي و محبيه ذنوبهم جميعا، و أنّ اللّه تعالى يبتلي شيعتهم بالسّقم، و الفقر، و العاهة، و الذّلة في أهلهم و مالهم كفّارة لما اقترفوه من الذنوب الموبقة، حتّى أنّ منهم من يشدّد عليه خروج

تفسير

الصراط المستقيم، ج 3، ص: 708

نفسه كى يلقى اللّه تعالى حين يلقاه و هو عنه راض.

بل

روى ابن المغازلي الشافعي بالإسناد عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ثمّ التفت إلى علي عليه السّلام فقال هم من شيعتك و أنت إمامهم «1».

و

قال اخطب خوارزم في فضائله و ابن حجر في صواعقه بالإسناد إلى بلال بن حمام قال طلع علينا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجهه مشرق كدائرة القمر فقام اليه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول اللّه ما هذا النور؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بشارة أتتني من ربّي في أخي و ابن عمّي و ابنتي فاطمة ان اللّه تعالى زوّج عليّا «2» من فاطمة، و امر رضوان خازن الجنان فهزّ شجرة طوبى فحملت رقاقا يعنى صكاكا بعدد محبّى أهل بيتي و أنشأ من تحتها ملئكة من نور، و دفع إلى كلّ ملك صكا فإذا استوت القيمة بأهلها نادت الملئكة في الخلائق فلا تلقى محبّا لنا أهل البيت الّا دفعت إليه صكّا فيه فكاكه من النار «3».

الى غير ذلك مما تسمع في موضع أليق الإشارة إليها و إلى الجمع بينها و بين آيات الوعيد و أخباره حتى بالنسبة إلى المعنى العامّ للشيعة.

نعم ينبغي أن يعلم أنّ خبر الإفتراق قد رواه أصحاب جميع المذاهب، و أنّ كثيرا من العامّة و الخاصّة قد شمّروا عن ساق الجدّ و الاجتهاد لتكميل ما ذكره عليه السّلام في الخبر من الأعداد فإنّ الاختلافات الكليّة لا تبلغ هذا العدد، و الجزئيّة تجاوزها، و لذا ترى كثيرا منهم قد التجاء إلى عدّ الاختلاف

الواقع في الجبر و الإختيار و التفويض و غيرها من فروع الأصول، بل في بعض الأصول الكلامية من المذاهب

______________________________

(1)

المناقب لابن المغازلي ص 293 ح 335 و عنه ينابيع المودة ج 1 ص 374 و في آخره: التفت الى علي عليه السّلام و قال: هم الذين جاهدوا و امامهم هذا.

(2)

في ينابيع المودّة: إن اللّه تبارك و تعالى زوّج فاطمة بعليّ.

(3) الينابيع ج 2 ص 334.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 709

الثلاث و السبعين و أهمل كثيرا من الاختلافات الراجعة إلى الامامة في مذهب الاماميّة، و غيره.

على أنّك ترى بعضهم قد تكلّف في ذلك أمورا تنادي بأعلى صوتها بأنّ الدّاعى لتكلّفها إنّما هو تكميل العدّة، مع أنّ بعض ما أهملوه يضاهي ما ذكروه بل لعلّه أولى بالذكر، و كثير المذاهب الّتي لبعض الفرق قد انقطع اسمه و رسمه لانقراض أهله، و قد حدثت كثير من المذاهب بعدها بل كثير من المذاهب المتقدّمة المعدودة إنّما حدثت في أزمنة متطاولة على سبيل التدريج، و بعد حصر المذاهب قد حدث بعض البدع أيضا، و لعلّه يحدث أيضا غيرها في مستقبل الزمان.

و بالجملة فالذي يقضى به الإنصاف أنّ كلّ ما ذكروه لإكمال العدة تعسّف و تكلّف، لا داعي لحملة، بل و كذا ما ربما يقال من أنّ المراد نوع الاختلافات الواقعة في المسائل الأصوليّة الّتي منها مسألة الإمامة الّتي يعدّ الاختلاف فيها اختلافا واحدا أو أزيد إذ في الاوّل ربما تمسّ الحاجة إلى إدخال الاختلافات الفروعيّة لإكمال العدّة، و في الثاني ربّما تزيد الاختلافات الفروعية الواقعة في مسألة الإمامة خاصّة فضلا عن غيرها من الاختلافات الاصوليّة على العدة المذكورة.

و بذلك يتّضح لك ضعفه كضعف ما قد يقال أيضا أنّ الفرق الأحد

و السبعين كانت في أمّة موسى عليه السّلام و زيد عليها واحد في أمّة عيسى و ثنتان في أمّة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و عليهم أجمعين، فإنّه مخالف لصريح الخبر الدّال على ان الامة بعد الإقرار بالشهادتين مفترقة على تلك العدّة.

بل الّذى لا يزال يختلج بالبال في حلّ الاشكال أنّ المراد بالسبعين كمال العدد فإنّ السبعة يسمّى عندهم عددا كاملا لتركبه من زوج الزوج، و فرد الفرد أو لانّها تقوم من أوّل الأزواج إلى ثاني الأفراد، و من أوّل الأفراد إلى ثانى الأزواج،

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 710

فاذا حصل له الترقي بالبسط إلى العشرات صار سبعون، و لذا يعبّر به عن كمال العدد، من غير أن يقصد منه الخصوص كما في قوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «1».

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّى ليغان على قلبي و إنّي لأستغفر اللّه في كلّ يوم سبعين مرّة «2»،

و قوله تعالى: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً «3».

الى غير ذلك من الإطلاقات الّتي يستفاد من جملتها أنهم يطلقون هذا العدد من غير قصد إلى خصوصية، بل للإشعار بكمال الحكم المنوط به و هو في المقام الاختلاف الّذي بلغ فرق الكمال في أمّة موسى عليه السّلام و زيد عليه في أمّة عيسى عليه السّلام و زيد عليه أيضا في أمّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيكون في هذه الامّة جميع الاختلافات الواقعة في تلك الأمم مع زيادات، و له إشارات في الاخبار.

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لتركبن سنن من كان قبلكم» «4»

و غيره و حينئذ فالمراد كمال الاختلاف الواقع في هذه الأمّة أزيد من غيرها فلا

يهمنا التكلف إلّا كمال العدّة.

نعم

في كتاب سليم بن قيس عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّ الامّة تفرّقت على ثلاث و سبعين فرقة اثنتان و سبعون فرقة في النار، و فرقة في الجنّة و ثلاث عشرة فرقة من الثلاث و السبعين تنتحل مودّتنا أهل البيت، واحدة منها في الجنّة و اثنتا عشرة منها في النار. إلى أن قال: قيل يا أمير المؤمنين عليه السّلام أ رأيت من قد وقف فلم يأتم بكم و لم يعاندكم و لم ينصب لكم و لم يتولّكم و لم يبرأ من عدوّكم و قال: لا أدرى هو صادق؟

قال عليه السّلام: ليس أولئك من الثلاث و السبعين فرقة إنّما عنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) التوبة: 80.

(2) بحار الأنوار: ج 25 ص 204.

(3) الحاقّة: 32.

(4) بحار الأنوار: ج 13 ص 180 عن العيّاشى. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 711

بالثلاث و السبعين فرقة الباغين النصّابين الذين قد شهروا أنفسهم و دعوا إلى دينهم، ففرقة واحدة منها تدين بدين الرحمن، و اثنتان و سبعون تدين بدين الشيطان «1» الخبر بطوله.

و قد مرّ أيضا

في العلوي المروي في «الأمالى» ثلث عشر فرقة من الثلث و سبعين فرقة كلّها تنتحل مودّتى و حبّى واحدة منها في الجنّة و هم النمط الأوسط و اثنتا عشرة في النّار.

و لعلّه يستفاد منهما تحقيق العدد و من خصوص الأول أنّ المتحير الخالي عن الولاية و العناد ليس من الأعداد.

و على كلّ حال فينبغي البحث حينئذ بعد الإغماض عمّا سمعت اوّلا من الاستفادة من نفس الخبر حسب ما مرّ في أنّ من تلك الفرق المعدودة من الإسلام من الناجي الذي هداه اللّه إلى الصراط المستقيم،

و الضالّ، و المغضوب عليهم بالعذاب الأليم.

فنقول: إن كثيرا من تلك الفرق قد كفينا مؤنة إبطاله و ردّه لانقراض أهله الذي هو أدلّ دليل على بطلانه كجلّ فرق الشيعة بل كلهم غير الإماميّة الاثنى عشرية، و لذا ذهب كثير من الأساطين إلى أنّ الوقف على الشيعة تنصرف إليهم لذلك. لا للوضع كما أنّه قد انقرض أكثر فرق الغلاة و أكثر فرق النّواصب، نعم بقيت من الاولى شرذمة في أطراف البلاد ربّما لا يعرفون في الناس لشذوذهم كشذوذ أقوالهم و حججهم الّتي لا ترجع نحو شبهة فضلا عن حجّة، سيّما مع الاطلاع بالآيات و الأخبار القطعيّة، و الأصول العقليّة الّتي قضيتها بطلان الحلول، و الاتّحاد و تنزل الالوهيّة و غيرها من خرافاتهم، خصوصا بعد ما تواتر نقله عنه عليه السّلام من النهى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 28 ص 14- 15 ح 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 712

عن الغلوّ فيه

في قوله: هلك فيّ رجلان «1»

و غيره، بل برائتهم عن عبد اللّه بن سبا «2»، و البزيعية «3» و الخطابية «4» و غيرهم من الغلاة الذين كانوا في عصرهم عليهم السّلام و كونه عليه السّلام في عصره واحدا من أمّة النبي و رعيّته متعبّدا بالعبادات، مجتهدا فيها يجرى عليه ما يجرى على غيره من أفراد البشر من العوارض النفسانيّة و البدنيّة الدّالة على الحدوث حتى المرض و القتل كما وقع عليهم عليهم السّلام حتّى

قالوا: «ما منّا إلّا مسموم أو مقتول» «5».

بل في القرآن الإشارة إلى بطلان مذهبهم في آيات كثيرة كقوله: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ «6» و مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «7»، و ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ

وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي «8»، و لذا كانوا لم يزالوا يتضرّعون إلى اللّه و يبتهلون إليه في برائتهم ممّن اعتقد فيهم ذلك حتّى

أنّ مولينا الرضا عليه السّلام كان يقول في دعائه: اللّهم إنّى إليك من الّذين ادّعوا لنا ما ليس لنا بحقّ، اللّهم انّي أبرء إليك من الّذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا اللّهم لك الخلق و منك الأمر «9» ايّاك نعبد و إياك

______________________________

(1) نهج البلاغة ص 489 قصار الجمل: 117.

(2) كان يهوديا فأسلم، ثم ادّعى النبوّة و أنّ عليّا عليه السّلام هو اللّه تعالى فحبسه أمير المؤمنين عليه السّلام و استتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار- سفينة البحار ج 6 ص 68.

(3) أصحاب بزيع الحائك المدّعى للنبوّة كان من أصحاب أبى الخطاب لعنه الصادق عليه السّلام- سفينة البحار ج 1 ص 302.

(4) الخطابيّة أصحاب أبى الخطّاب محمد بن مقلاص الكوفي ادّعى النبوة و إنّ جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام هو اللّه تعالى و استحلّ المحارم كلّها- سفينة البحار ج 2 ص 646.

(5) بحار الأنوار: ج 44 ص 139 ح 6.

(6) النساء: 171.

(7) الأنبياء: 29.

(8) آل عمران: 79.

(9)

في البحار: و منك الرزق. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 713

نستعين، اللهم أنت خالقنا و خالق آبائنا الأولين و أبناءنا الآخرين اللّهم لا تليق الربوبيّة الّا بك، و لا تصلح الالهيّة الّا لك فالعن النصارى الذين صغّروا عظمتك، و العن المضاهئين لقولهم من بريتك، اللهم انا عبيدك و أبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا ضرّا و لا نفعا و لا موتا و لا حيوة و لا نشورا، اللّهم من زعم انّنا أرباب فنحن إليك منه براء، و

من زعم أنّ إلينا الخلق و علينا الرزق فنحن إليك منه براء كبراء عيسى من النصارى، اللّهم إنّا لم ندعهم الى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «1». «2»

إلى غير ذلك ممّا لا نطيل به الكلام لوضوح المرام، نعم العبرة في معنى الغلوّ ما سمعت سابقا و منه يظهر وجه الجمع بين قوله في هذا الخبر: «و من زعم أنّ إلينا الخلق» و بين ما في الزيارة الجامعة: و إياب الخلق إليكم و حسابهم عليكم، بل الأخبار بمعناها قريبة من التواتر فإنّ المنفيّ على وجه الاستقلال و الاستبداد و الأصالة، و المثبت على وجه البابية و الوساطة و الاستفاضة حسبما مرّ.

نعم يبقى الكلام فيما ربما يصدر عن بعض الغلاة من خوارق العادات كدخول النار، و عدم التأثر من السيف و غيره حسب ما حكاه شيخنا المجلسي قدّس سرّه إذ لا يخفى انّه لا يدلّ على إصابتهم بوجه من الوجوه، إذ مع الغضّ عن كونه أخذا بالعيون من قبيل السحر و الشعبدة و غيرها يمكن أن يكون منشؤه بعض الرياضات الّتي يرتاضون بها أنفسهم كالمرتاضين من الهنود سيّما الجوكية منهم، و ذلك لانّ اللّه لا يضيع عمل عامل من الناس، و مخالفة النفس مع كونها مطلوبة بالذات في جميع الملل لها خاصيّة ذاتيّة في نيل المقصد الذي جعله الإنسان نصب عينيه، خصوصا

______________________________

(1) نوح: 26.

(2) بحار الأنوار: ج 25 ص 343.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 714

إذا كان صاحبه كافرا فإنّه يعجّل له طيّباته في الدنيا الدنيّة العاجلة، و لذا يقال لهم يوم القيمة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا

وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها «1».

و لعله يقرب منه الرياضة الارتداديّة الّتي ابتلى بها بعض الأشقياء في زماننا بإغواء بعض شياطين الإنس، و ذلك أنّه تدرج في مراتب الارتداد بكيفيّة لا ينبغي نشرها في السطور إلى ان بلغ إحراق المصحف و غيره ممّا هو أعظم منه، نعوذ باللّه عن الغواية بعد الهداية حتّى بلغ حدا لا يؤثّر فيه شي ء من المؤذيات كالنّار و الحديد و غيرهما، و حينئذ ندم على ما فرّط منه فكان يصلّي عامة ليله و نهاره و وضع على جنبه منجزا يمتحن بها بدنه كلّ يوم و ليلة إذ قال له من أمره بذلك أنّ علامة قبول توبتك أن ترجع إلى حالك السابقة و يؤثّر فيك الحديد و غيره.

و بالجملة فعدم التأثير عن بعض المؤذيات بخصوصه أو عن كلّها ليس من علامات الحقيّة و الإصابة، كما أنّ التأثر فيها ليس من علامات البطلان و الخطاء، و لقد سمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة خيبر فما زالت الأكلة في فؤاده حتى قطعت أبهره فمات منها، و أمير المؤمنين عليه السّلام ضربه عبد الرحمن بن ملجم لعنه اللّه في موضع ضربة عمرو بن عبد ودّ و دفن بالغرىّ، و جرى بعدهما على الحسنين بل على سائر الأئمّة ما جرى، بل في الأنبياء من قتلوه ضربا أو حبسا أو غرقا أو حرقا.

و على كلّ حال فالامّة في هذه الأيام بل في بدو الإسلام بعد رحلة سيّد الأنام عليه و آله الصلوة و السلام على فريقتين: الأولى من أوفى بما عاهد عليه اللّه و رسوله من متابعة وليّ الأمر الّذي بايعوا معه يوم الغدير و اختصّ من بين الصحابة بالنّص و العصمة فقدّموا من

قدّمه اللّه، و والوا أوليائه، و هم الائمّة المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين، فإنّ اللّه تعالى انّما خصّهم بالعصمة ليأمن الناس من

______________________________

(1) الأحقاف: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 715

خطائهم و سهوهم و غلطهم فينقادوا إلى أوامرهم لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة بعد ذلك و ليهلك من هلك عن بيّنة، و يحيى من حيّ عن بيّنة، و حيث إن العصمة فضيلة موهبيّة لا يطلع عليها الناس وجب النّص عليهم من النّبى صلّى اللّه عليه و آله بل و من كلّ إمام سابق على إمام بعده.

الثانية منها هم الّذين انقلبوا على أعقابهم فأنكروا النصّ و الوصاية، و لم يوجبوا العصمة و الطهارة و قالوا: إنّ الأئمّة: بل الأنبياء غير معصومين و انّه يقع منهم الخطأ و السهو و النسيان بل الفسوق و الكذب و انّما وسعوا الباب ليتمكنوا من القول بخلافة مشايخهم الّذين انقضت أكثر أعمارهم في الكفر و الشّرك و عبادة الأوثان و شطر منها في النّفاق و عداوة أهل الإيمان كما أنّهم قالوا إنّ الخلفاء كالأنبياء يجتهدون في الأحكام و المسائل كي يستندوا إليه فيما يقع من مخالفة خلفائهم للنّبى صلّى اللّه عليه و آله كالوضوء المنكوس و المسح على الخفّين و غيرهما، بل لم يشترطوا في الخلافة العلم و العدالة، فجوّزوا إمامة الجاهل و الفاسق فضلا عن غير المعصوم، بل كثير منهم لم يثبتوا العدل و الحكمة في أفعاله تعالى و جوّزوا عليه الظّلم و القبيح و العبث و ما فيه الفساد للعباد، و أنّه تعالى لا يفعل لغرض من الأغراض بل جميع أفعاله خالية عن الأغراض و الحكم و المصالح، و أثبت كثير منهم قدماء كثيرة سمّوها بالمعاني، و جوّزوا رؤيته

في الدّنيا أو في الآخرة للكلّ، أو للصلحاء، تعالى اللّه عن ذلك، و عن سائر مقالاتهم الّتي يتبرّأ منها الإسلام و أهله، هذا مجمل حالهم في الأصول، و أمّا في الفروع ففتحوا على أنفسهم باب الآراء و الظّنون و القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و غيرها فأدخلوا في دين اللّه ما ليس منه، و حرّفوا أحكام الشّريعة، و أوجبوا أن يكون النّاس في الفروع تابعا لواحد من المذاهب الأربعة الّتي لم تكن في عصر النّبى صلّى اللّه عليه و آله و لا في عصر صحابته، بل قد أحدثوها بعد مدّة طويلة و ذهبوا معها إلى أمور شنيعة، فأباحوا النّبيذ و الفقّاع، بل الوضوء به،

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 716

و أباحوا اللّواط بالعبيد و بالأجير بل الزّنا بالأمّ إذا لفّ على ذكره خرقة، و كذا أباحوا الملاهي من الغناء و الشّطرنج و غيرها، و قالوا: إنّ الغاصب إذا غير صفة المغصوب ملكه، حتّى إنّهم قالوا: لو أنّ سارقا دخل دار شخص له فيه رحى و حنطة فطحن السّارق الطّعام برحى المالك ملكه، فلو جاء المالك و نازعه فيه كان المالك ظالما و السّارق مظلوما، و جوّزوا الصّلوة في جلد الكلب و السّجود على العذرة اليابسة.

و ذكر العلّامة أنّه حكى بعض الفقهاء لبعض الملوك و عنده بعض الفقهاء الحنفيّة صفة صلاة الحنفي فدخل دارا مغصوبة و توضّأ بالنّبيذ، و كبر بالفارسيّة من غير نيّة، و قرأ مدهامّتان لا غير بالفارسيّة، ثمّ طأطأ رأسه من غير طمأنينة، و سجد كذلك و رفع رأسه بقدر حدّ السّيف ثمّ سجد و قام، ففعل كذلك ثانية ثمّ أحدث، فتبرّأ الملك و كان حنفيا من هذا المذهب و اعترف بالحقّ.

و على

كلّ حال فيدلّ على وجوب التّمسّك بمذهب الإماميّة الاثنا عشريّة مضافا إلى ما سمعت عنا و في تحرير المذاهب وجوه كثيرة كالآيات التي سنشير إلى كلّ منها و ما يتعلّق بها في مواضعها و كالأخبار الّتي أشير فيها إلى تعيين الفرقة النّاجية المروية من طرق الفريقين.

كقوله: خلّفت فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا و انّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض «1».

و

عن مناقب ابن المغازلي عن أبى ذرّ الغفاري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من ناصب عليّا للخلافة بعدي فهو كافر قد حارب اللّه و رسوله، و من شكّ في عليّ فهو كافر «2».

______________________________

(1) الصواعق المحرقة 122 و في ذيله: روى هذا الحديث، ثلاثون صحابيا.

(2) بحار الأنوار: ج 38 ص 150 عن مناقب ابن المغازلي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 717

و

عن ابن شيرويه في «الفردوس» عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: خلقت أنا و عليّ من نور واحد قبل أن يخلق اللّه آدم بأربعة آلاف عام فلمّا خلق آدم ركّب ذلك النّور في صلبه فلم نزل في شي ء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطلب ففيّ النّبوّة و في عليّ الخلافة «1».

و

عن حلية الأولياء و فضائل السّمعاني و كتاب الطّبرانى و النطنزي عنه صلّى اللّه عليه و آله: ادعوا إلىّ سيّد العرب، يعنى عليّا فقالت عائشة أ لست سيّد العرب؟ قال: أنا سيّد ولد آدم و عليّ سيّد العرب، فلمّا جاء أرسل إلى الأنصار فقال: معاشر الأنصار أدلّكم على ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي؟ قالوا بلى يا رسول اللّه قال: هذا عليّ فأحبّوه لحبّى و اكرموه لكرامتي فإنّ جبرئيل أمرني بالذي قلت

لكم عن اللّه عزّ و جل «2».

و

عن معجم الطّبراني عنه صلّى اللّه عليه و آله: لكلّ نبيّ وصيّ و وارث، و انّ عليّا وصيّي و وارثي «3».

و

عن كتاب الأربعين للحافظ أبى بكر محمد بن أبى نصر عنه صلّى اللّه عليه و آله: أنا و علىّ حجة اللّه على عباده «4».

و

رواه المحدّث الحنبلي عنه صلّى اللّه عليه و آله، و عن كفاية الطّالب عن حذيفة قال: قالوا يا رسول اللّه ألا تستخلف عليّا؟ قال إن تولّوا عليّا تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطّريق المستقيم «5».

______________________________

(1) البحار ج 38/ 150 عن ابن شيرويه في الفردوس.

(2) البحار ج 38/ 150 عن المناقب لابن شهر آشوب.

(3) البحار: ج 38/ 154 عن معجم الطبراني.

(4) مناقب آل أبى طالب ج 1 ص 576 عن الفردوس.

(5) كشف الغمّة ص 45 عن كفاية الطالب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 718

و

عن السّمعانى في فضائل الصّحابة عنه صلّى اللّه عليه و آله: علىّ مع الحقّ و الحقّ مع علىّ لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض «1».

و

في مسند أبى يعلى عن الخدري قال: مرّ على بن أبي طالب فقال النّبى صلّى اللّه عليه و آله: الحقّ مع ذا الحقّ مع ذا «2».

و

سئل أبو ذر عن اختلاف النّاس عنه صلّى اللّه عليه و آله: فقال: عليك بكتاب اللّه و الشيخ علىّ بن أبي طالب فإنّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: عليّ مع الحقّ و الحقّ معه و على لسانه و الحقّ يدور حيث ما دار عليّ «3». و مثله عن السّمعاني في فضائل الصّحابة.

و

فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله: لا تضادّوا عليّا فتكفروا و لا تفضّلوا عليه فتردّوا «4».

و

عن مناقب ابن مردويه عنه

عليه السّلام: علىّ خير البشر من أبى فقد كفر «5».

و

فيه عن سلمان: انّ وصيّي و خليفتي و أخى و وزيري و خير من أخلّفه بعدي عليّ بن أبي طالب يؤدّي عنّي و ينجز موعدي «6».

و

عن أبى مجاهد في التّاريخ و الطّبرى في الولاية و الدّيلمى في الفردوس و أحمد في الفضائل و اعمش عن أبى وائل عنه عليه السّلام قال: علىّ خير البشر فمن أبى فقد كفر و من رضى فقد شكر «7».

و

عن موفّق بن أحمد من أعيان علمائهم بالإسناد عن مولانا

______________________________

(1) رواه أيضا الخطيب في تاريخ بغداد ج 14 ص 321.

(2) مجمع الزوائد ج 7 ص 234 عن أبى يعلى.

(3) بحار الأنوار: ج 38 ص 28 عن المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 552.

(4) البحار ج 38 ص 29 عن المناقب ج 2 ص 6.

(5) كنز العمّال ج 11 ص 625.

(6) البحار ج 38 ص 12 عن كشف الغمّة ص 45.

(7) البحار ج 38 ص 7 عن المناقب ج 1 ص 556. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 719

أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علىّ مثلك في أمّتي مثل عيسى بن مريم افترق قومه ثلاث فرق فرقة مؤمنون و هم الحواريّون، و فرقة عادوه و هم اليهود، و فرقة غلوا فيه فخرجوا عن الايمان، و انّ أمّتي ستفترق فيك ثلاث فرق فرقة هم شيعتك و هم المؤمنون، و فرقة هم أعداؤك و هم النّاكثون، و فرقة غلوا فيك و هم الضّالّون، و أنت يا عليّ و شيعتك في الجنّة، و عدوّك و الغالي فيك في النّار «1».

و

عن ابن مردويه و هو من ثقاتهم مسندا إلى

أبان بن تغلب عن سليم قال: سمعت أبا ذر و المقداد و سلمان يقولون: كنّا قعودا عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذ أقبل ثلاثة من المهاجرين فقال صلّى اللّه عليه و آله: تفترق أمّتي بعدي ثلث فرق: أهل حقّ لا يشوبونه بباطل مثلهم كالذّهب كلّما فتنتهم النّار زاد جودة و إمامهم هذا و أشار إلى أحد الثلاثة، و هو الّذي أمر اللّه تعالى في كتابه إماما و رحمة، و فرقة أهل الباطل لا يشوبونه بحقّ مثلهم كمثل الحديد كلّما فتنته النّار زاد خبثا و امامهم هذا أحد الثلاثة فسألته عن أهل الحقّ و امامهم؟ فقال: على بن أبى طالب عليه السّلام و أمسك عن آخرين فجهدت في الآخرين أن يسمّيهما فلم يفعل. «2»

و

عن ابن عبّاس قال: رأيت حسّان بن ثابت واقفا بمنى و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمنى مجتمعين فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: معاشر المسلمين هذا علىّ بن أبي طالب سيّد العرب و الوصىّ الأكبر منزلته منّى منزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبىّ بعدي لا تقبل التّوبة إلّا بحبّه يا حسّان قل فيه شيئا و قال حسّان:

______________________________

(1) المناقب للخوارزمي ص 317 ح 318.

(2) و

رواه المجلسي في بحار الأنوار: ج 28 ص 10 ح 16 عن كشف اليقين عن كتاب أخطب خوارزم مع تفاوت يسير عن أصبغ بن نباته عن سلمان، و فيه: فسألته عن أهل الحق و امامهم، فقال: هذا علي بن أبي طالب إمام المتقين، و أمسك عن الإثنين، فجهدت أن يسميهما فلم يفعل. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 720 لا تقبل التّوبة من تائب إلا بحبّ ابن أبي طالب

أخو رسول اللّه بل صهره و الصّهر

لا يعدل بالصّاحب

و من يكن مثل علىّ و قديأتى له الشمس من المغرب

ردّت عليه الشّمس في ضوئهابيضا كأنّ الشّمس لم تغرب «1»

و

عن ابن مردويه عن عليّ عليه السّلام: تفترق هذه الفرقة على ثلاث و سبعين فرقة اثنتان و سبعون في النّار و واحدة في الجنّة و هم الّذين قال اللّه تعالى: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ «2» و هم أنا و شيعتي «3».

و

عن الجمع بين الصّحيحين للحميدي عنه: سيكون بعدي اثنى عشر أميرا كلّهم من قريش «4».

و

في حديث ابن أبي عمير قال صلّى اللّه عليه و آله: لا يزال أمر النّاس ماضيا ما ولّاهم اثنى عشر رجلا «5».

و

في رواية مسلم عنه صلّى اللّه عليه و آله: لا يزال هذا الدّين عزيزا منيعا ما ولّاه اثنى عشر خليفة كلّهم من قريش «6».

و

في جامع الأصول عن صحيح البخاري و مسلم و التّرمذى و سنن أبى داود عن جابر بن سمرة قال: سمعت النّبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: يكون بعدي اثنى عشر أميرا فقال كلمة لم أسمعها فقال أبى أنّه قال: كلّهم من قريش «7».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 37 ص 260 عن بشارة المصطفى ص 180.

(2) الأعراف: 181.

(3) المناقب للخوارزمي ص 331 ح 351.

(4) صحيح البخاري ج 8 ص 127، و صحيح مسلم ج 2 ص 183 ح 1821.

(5) بحار الأنوار: ج 36 ص 266 عن المناقب.

(6) البحار: ج 36 ص 266 عن المناقب.

(7) المصدر السابق: ج 36 ص 266.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 721

و الأخبار بهذا المعنى كثيرة من طرقهم بل

قد تواتر أخبارهم عنه صلّى اللّه عليه و آله في الأخبار عن القائم المهدي و أنّه من

صلب الحسين عليه السّلام: و أنّه يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا.

عن البغوي في شرح السّنة و البخاري و مسلم بالإسناد عنه صلّى اللّه عليه و آله: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم و إمامكم منكم «1».

و

عن أبى داود و التّرمذى عنه صلّى اللّه عليه و آله: لو لم يبق من الدّنيا الّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يبعث اللّه رجلا منّى أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمى يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا «2».

و

عن محمّد بن يوسف الشّافعى في كفاية الطّالب عن أبى سعيد الخدري في حديث طويل عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال يا فاطمة أما علمت أنّ اللّه اطّلع إلى الأرض اطّلاعة فاختار منهم أباك فبعثه نبيّا ثمّ اطّلع ثانية فاختار منهم بعلك فأوحى إلىّ فأنكحته و اتّخذته وصيّا أما علمت انّك بكرامة اللّه إياك زوّجك أغزرهم «3» علما و أكثرهم حلما و أقدمهم سلما.

قال: و استبشرت فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يزيدهما مزيد الخير كله الذي قسّمه لمحمد و آل محمّد فقال: يا فاطمة و لعليّ ثمانية أضراس يعنى مناقب:

الإيمان باللّه و رسوله و حكمته، و زوجته، و سبطاه الحسن و الحسين، و أمره بالمعروف، و نهيه عن المنكر.

يا فاطمة إنّا أهل بيت أعطينا ستّ خصال لم يعطها أحد من الأوّلين و لا يدركها أحد من الآخرين غيرنا: نبيّنا خير الأنبياء، و هو أبوك، و وصيّنا خير

______________________________

(1) صحيح البخاري ج 4 ص 143 صحيح مسلم ج 1 ص 86 ح 244.

(2) الفصول المهمّة عن أبى داود و الترمذي ص 276

ط الغري.

(3)

في البحار: أعلمهم علما. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 722

الأوصياء و هو بعلك، و شهيدنا خير الشّهداء و هو حمزة عمّ أبيك، و منّا سبطا هذه الأمّة و هما ابناك، و منّا مهديّ الأمّة الّذي يصلّي عيسى خلفه.

ثمّ ضرب على منكب الحسين فقال: من هذا مهدىّ الأمّة. «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الّتي أفردتها الخاصّة بالتّصنيف بل العامّة أيضا كما تصدّى لنقل ذلك عنهم شيخنا العلّامة المجلسي قدّس سرّه في البحار.

و

عن كفاية الطّالب عن ابن عبّاس قال: ستكون فتنة فمن أدركها منكم فعليه بخصلتين: كتاب اللّه تعالى و على بن أبي طالب فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو آخذ بيد علىّ عليه السّلام و هو يقول: هو أوّل من امن بي، و أوّل من يصافحني. و هو فاروق هذه الأمّة يفرّق بين الحقّ و الباطل، و هو يعسوب الدّين، و المال يعسوب الظّلمة، و هو الصّديق الأكبر و هو بابى الّذى اوتي منه، و هو خليفتي من بعدي «2».

و

عن الحافظ النّطنزي عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ عليّ بن أبي طالب وصيّي و إمام أمّتي، و خليفتي عليها بعدي، و من ولده القائم المنتظر الّذي يملأ اللّه به الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما، و الّذى بعثني بالحقّ و نذيرا إنّ الثّابتين على القول به في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر.

فقام إليه جابر بن عبد اللّه الأنصاري فقال: يا رسول اللّه و للقائم من ولدك غيبة؟ قال: إي و ربّي لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ «3».

يا جابر، انّ هذا أمر من أمر اللّه عزّ و جلّ

و سرّ من سرّ اللّه، علمه مطوى عن عباد اللّه إيّاك و الشكّ في أمر اللّه عزّ و جلّ فانّه كفر «4».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 38 ص 11 ح 16 عن كشف الغمّة ص 44.

(2) بحار الأنوار: ج 38 ص 27.

(3) آل عمران: 141.

(4) البحار: ج 38/ 126- 127 عن اليقين ص 191.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 723

و

عن الحافظ أبى نعيم في كتاب ما نزل اللّه من القرآن في عليّ بالإسناد عن أبى سعيد الخدري قال إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: دعا النّاس إلى عليّ عليه السّلام في غدير خمّ و أمر بما تحت الشّجرة من شوك فقمّ فدعا عليّا عليه السّلام فأخذ بضبعيه فرفعهما حتّى نظرنا إلى بياض إبطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزلت هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1» الآية. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّه أكبر على إكمال الدّين و إتمام النّعمة و رضى الرّب برسالتي و بالولاية لعليّ من بعدي ثمّ قال: من كنت مولاه فعلىّ مولاه: اللّهم وال من والاه، و عاد من عاداه و انصر من نصره، و اخذل من خذله.

قال حسّان: ائذن لي يا رسول اللّه فأقول في علىّ أبياتا فقال: قل على بركة اللّه فأنشد:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم* بخمّ و أسمع بالنّبى مناديا و يقول فمن مولاكم و وليّكم* فقالوا و لم يبدوا هناك التّعاديا إلهك مولانا و أنت وليّنا* و لم تجدن منّا لك اليوم عاصيا فقال له قم يا علىّ فانّنى* رضيتك من بعدي إماما و هاديا هناك دعا اللهمّ وال وليّه* و كن للذي عادى عليّا معاديا ثمّ قال رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا حسّان لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نافحت «2» عنّا بلسانك.

بل قال ابن الجوزي: إنّه اتّفق علماء السّير على أنّ قصّة الغدير كانت بعد رجوع رسول اللّه من حجّة الوداع في الثامن عشر ذي الحجة و كان معه من الصّحابة

______________________________

(1) المائدة: 3.

(2) نافح عنه: دافع عنه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 724

و من الاعراب و ممّن يسكن حول مكة و المدينة مائة و عشرون ألفا، و هم الّذين شهدوا معه حجّة الوداع و سمعوا منه هذه المقالة، و قد أكثر الشّعراء في يوم الغدير ثمّ نقل أشعار حسّان و ما أنشده سعد بن عبادة الأنصاري بين يدي أمير المؤمنين عليه السّلام يوم صفّين في حكاية الغدير ثمّ حكى ما أنشده كميت:

و يوم الدّوح دوح غدير خمّ أبان له الولاية لو أطيعا

و لكنّ الرّجال تدافعوهافلم أر مثلها خطرا منيعا

فلم أر مثل ذاك اليوم يوماو لم أر مثله حقّا أضيعا «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي أفردوها بالتّصانيف، و ستسمع كثيرا منها في هذا التّفسير و إن كان كلّ ما ذكرناه كغيرنا قليلا من كثير.

هذا مضافا إلى انتهاء جميع الفضائل و الكمالات إليه عليه السّلام و كونه أعلم الصحابة و أفضلهم و أزهدهم و أعبدهم و أتقيهم، و رجوع جميع الصّحابة حتّى الخلفاء إليه في الأحكام و القضايا، حتّى قال عمر سبعين مرّة: لو لا علىّ لهلك عمر «2»، و كانت الصّحابة يرجعون إليه في حلّ المشاكل و كشف المعاضل.

كلّ ذلك مع الغضّ عن المطاعن و الرذائل التي كانت للآخرين بحيث ملئوا منها الطّوامير، و سطروا فيها الأساطير، بل أقرّ بجلّها لو لم نقل كلّها أكثر الجماهير و

إن كان كلّ ما ذكروه قليلا من كثير، فالاشتغال بذكرها لا يناسب ما نحن بصدده من الاكتفاء بالإشارة في هذا التّفسير.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 37 ص 112 و ص 150.

(2) المناقب للخوارزمي ص 97 ح 98 و ليس فيه ذكر العدد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 725

ختام به الإتمام

بقي في المقام شيئان أحدهما في التّامين الّذى هو قول آمين بعد الحمد، و هو في الأصل كلمة سريانيّة أو عبريّة كما عن الأخفش و عطية، أو فارسيّة معرّب همين أى لا نطلب شيئا سوى هذا كما عن التّيسير، أو عربيّة بالمدّ و تشديد الميم بمعنى قاصدين، منصوبا بفعل محذوف كدعوناك و نحوه كما رواه بعض المفسّرين من العامّة عن مولانا الصّادق عليه السّلام، و لم يثبت ذلك منه عليه السّلام، و على تقديره فلا دلالة فيه على جواز قولها بعد الحمد في الصّلوة كى يعارض ما صحّ عنه و عن غيره من أئمّة الأنام عليهم الصّلوة و السّلام من المنع عن قولها في الصّلوة للمأموم و للإمام، أو أنّه فعيل و الالف لإشباع الحركة لعدم كون فاعيل و افعيل و فيعيل من أوزان كلمات العرب كما عن أبى علىّ.

و جوّز نجم الائمّة أن يكون أصله أمين بالقصر، ثمّ مدّ فيكون عربيّا مصدرا في الأصل كالنّذير و النكير، جعل اسم فعل.

و في الكشّاف أنّه صوت يسمّى به الفعل الّذى هو استجب كما أنّ رويد و حيّهل و هلمّ أصوات سميت بها الإفعال الّتي هي أمهل و أقبل و اسرع.

و في المصباح المنير: أمين بالقصر في الحجاز، و بالمدّ في لغة بني عامر و المدّ إشباع بدليل أنّه لا يوجد في العربيّة كلمة على فاعيل، و معناه اللّهم استجب.

و قال

أبو حاتم: معناه يكون كذلك، و عن الحسن البصري: أنّه اسم من أسماء اللّه تعالى.

و الموجود في مشاهير الأصول المعتمدة أنّ التّشديد خطأ، و قال بعض أهل

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 726

العلم: التّشديد لغة قديم و هو وهم قديم، و ذلك أنّ أبا العباس أحمد بن يحيى قال:

و أمين مثل عاصين لغة فتوهّم أنّ المراد صيغة الجمع لا أنّه قابله بالجمع، و هو مردود بقول ابن جني و غيره أنّ المراد موازنة اللّفظ لا غير، و يؤيّده قول صاحب التّمثيل في «الفصيح» و التّشديد خطأ، ثمّ المعنى غير مستقيم على التشديد، لأنّ التقدير و لا الضّالّين قاصدين إليك و هذا لا يرتبط بما قبله.

قلت: و لعلّه جعله حالا من الفاعل فعاد نقضا على المطلوب، و أمّا على ما ذكرناه سابقا فلا محذور، غير أنّ الظّاهر أنّه اسم فعل لا اسم فاعل بمعنى استجب بنى على الحركة لالتقاء الساكنين و الفتح للخفّة.

و في القاموس آمين بالمدّ و القصر و قد يشدّد الممدود و يمال أيضا.

عن الواحدي في «البسيط»: اسم من أسماء اللّه أو معناه اللّهم استجب، أو كذلك فليكن، أو كذلك فافعل:

و عن ابن الأثير هو اسم مبنيّ على الفتح، و معناه: اللّهم استجب لي، و قيل:

معناه كذلك فليكن، بمعنى الدّعاء، و عن المغرب معناه استجب.

و بالجملة فالظّاهر كونه اسما مبنيّا على الفتح لطلب الحاجة، و هو بالتخفيف و التّشديد لغة أو غلط كما أنّ الأكثر مدّه، و به ورد في الأدعية الكثيرة عن أهل بيت العصمة، و أنشد مجنون بنى عامر:

يا ربّ لا تسلبني حبّها أبداو يرحم اللّه عبدا قال آمينا

نعم قد يقصّر لضرورة الشّعر كقوله:

تباعد عنّي فطحل إذ سئلته أمين فزاد اللّه ما

بيننا بعدا

و تقديمه على الدّعاء لمزيد الاهتمام، و يظهر من صريح بعض كظاهر آخرين جواز قصره في غير الضّرورة.

لكن الخطب فيه سهل كسهولته في القطع بعدم استحبابه في الصّلوة بعد

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 727

الفاتحة للمتفرد و الإمام و المأموم جهريّة كانت الصّلوة أو اخفاتيّة، و انّما هو من بدع أهل البدعة المتسمين باسم السّنة للتّضاد لرواية رواها أبو هريرة الّذى كان أكذب النّاس أو أكذب الأحياء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما

روى عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، بل عن الجاحظ في التوحيد انّ أبا هريرة ليس بثقة في الرّواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

، قال: و لم يكن علىّ يوثّقه في الرّواية بل يتّهمه، و يقدح فيه، و كذلك عمر، و عائشة.

و في مناقب الخوارزمي: أنّ رجلا سئل أبا هريرة بصفّين في مجلس معاوية فقال: أنشدك باللّه ان سألتك عن حديث سمعته عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أ تجيبنى؟ قال:

نعم، قال الرجل: أ سمعت

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعلىّ عليه السّلام من كنت مولاه فعلىّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه

قال: نعم.

قال: فإنّي رأيتك واليت أعدائه، و عاديت أوليائه، فقال أبو هريرة: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

بل قد يحكى عنهم انّه اتّفق له مع عمر بن الخطاب واقعة شهد فيها عليه بانّه عدوّ للّه و عدوّ للمسلمين، و حكم عليه بالخيانة و أوجب عليه عشرة ألف دينار و ألزمه بها بعد ولاية البحرين.

و حكى أبو المعالي الجويني الشّافعى المعروف بإمام الحرمين عدم عمل أبى حنيفة برواية أبى هريرة إلى غير ذلك ممّا اشتهر

عنهم فضلا عن غيرهم في القدح فيه و في غيره ممّن استندوا اليه في هذا الحكم و غيره.

هذا مضافا إلى الاحتياط اللازم المراعاة في مهيّة العبادات و مرجعه إلى قاعدة الاشتغال، و انّ ترك التأمين لا يقدح في صحّة العبادة إجماعا من الفريقين، و فعله بدعة يوجب بطلان العبادة عند الإماميّة الذين استفادوا علومهم و أحكامهم من أئمّتهم. أهل البيت الذين هم أدرى بما في البيت، مع أنّه قد صحّ عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 728

النّبى صلّى اللّه عليه و آله بين الفريقين أنّ هذه الصّلوة لا يصلح فيها شي ء من كلام الآدميين، و من البيّن أنّ قول آمين، من كلامهم أمّا على كونه سريانيّا أو عبريا أو معرّبا حسبما ذهب إلى كلّ منها فريق منهم كما مرّ فواضح.

و إمّا مع كونه عربيّا فلأنّ المراد من كلام الآدميين ما ليس بقرآن و لا دعاء و لا تسبيح و لا ذكر، و لذا

قال صلّى اللّه عليه و آله بعد الخبر المتقدّم إنّما هي التّسبيح و التكبير و قراءة القرآن

أمّا عدم كونه قرآنا فظاهر كظهور عدم كونه تسبيحا و أمّا عدم كونه دعاء فلأنّه اسم للدّعاء الّذى هو استجب كما صرّح به البيضاوي و غيره، و الإذن في أحدهما لا يستلزم الإذن في الآخر.

بل ذكر السيّد المرتضى رضى اللّه عنه في «الانتصار» أنّه لا خلاف في أنّ هذه اللّفظة ليست من جملة القرآن و لا مستقلّة بنفسها في كونها دعاء و تسبيحا فجرى التّلفظ بها مجرى كلّ كلام خارج عن القرآن و التّسبيح و الدّعاء.

و عن التّنقيح: اتّفق الكلّ على أنّها ليست قرآنا، و إنّما هي اسم للدّعاء، و الاسم غير المسمّى.

و في كشف اللّثام

بعد أن حكى عن «الخلاف» تعليل البطلان بانّه من كلام الآدميين الّذى لا يصلح قال: و هو مبنىّ على أنّه ليس دعاء كما هو المشهور المروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله مرفوعا في «معاني الاخبار» عن الصّادق عليه السّلام، و انّما هو كلمة تقال أو تكتب للختم كما روى أنّها خاتم ربّ العالمين، و قيل: إنّها تختم بها برائة أهل الجنّة و برائة أهل النّار.

ثمّ إنّه مع كونها من أسماء الأفعال فقد سمعت أنّ معناه لفظ استجب أو غيره ممّا مرّت حكايته عن القاموس و غيره، بل عن بعض الأجلّة أنّها اسم للفظ الفعل بإجماع أهل العربيّة، قال: بل هو بديهي عندهم.

لكنّه في «الحدائق» استظهر كونه دعاء كقولك: أللهمّ استجب، قال: و قد

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 729

صرّح بذلك نجم الأئمّة الرضى رضى اللّه عنه فقال: و ليس ممّا قال بعضهم إنّ صه مثلا اسم للفظ اسكت الّذى هو دالّ على معنى الفعل، فهو علم للفظ الفعل لا لمعناه بشي ء لأنّ العربي القح يقول: صه مع أنّه ربما لا يحضر في باله لفظ أسكت، و ربّما لم يسمعه أصلا و لو قلت اسم لا صمت أو امتنع، أو أكفف عن الكلام أو غير ذلك ممّا يؤدى هذا المعنى لصحّ، فعلمنا أنّ المقصود المعنى لا اللّفظ.

قلت و فيه: أن الظّاهر من كلام أهل اللّغة بل صريح غيرهم أنّها موضوعة للفظ الفعل، و لذا سمّيت بأسماء الأفعال، و ان كان ربما يكتفى في الإضافة بأدنى الملابسة لكنّه بمجرّده غير دافع للظّاهر، بل قد سمعت من غير واحد من الأساطين دعوى الاتّفاق على ذلك، نعم في «التصريح» أنّ أسماء الأفعال هل هي أسماء لألفاظ الأفعال، أو

لمعانيها من الأحداث و الأزمنة، أو أسماء للمصادر النّائبة عن الأفعال أو هي أفعال أقوال:

قال بالأول جمهور البصريّين، و بالثّانى صاحب البسيط، و نسبه إلى ظاهر قول سيبويه و الجماعة، و بالثالث جماعة من البصريّين، و بالرّابع الكوفيون.

و على القول بأنّها أفعال حقيقة أو أسماء لألفاظ الأفعال لا موضع لها من الإعراب عند الأخفش و طائفة، و اختاره ابن مالك، و على القول بأنّها أسماء للمصادر النّائبة عن الأفعال موضعها بأفعالها النّائبة عنها لوقوعها موقع ما هو في موضع نصب، و هو قول المازني.

و الصّحيح أنّ كلّا منها اسم لفعل، و أنّه لا موضع لها من الاعراب: انتهى.

و منه بل و من غيره ممّا مرّ يظهر قوة القول المذكور مع المنع من التبادر الّذى قد استدلّ به نجم الأئمّة، مع أنّ المعنى الفعلى لا يمكن وضع الاسم له ضرورة المغايرة الظّاهرة المانعة عن ذلك.

و استبعاد الوضع للفظ غير مسموع بعد تصريح أئمّة الفن.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 730

على أنّه قد يقال بالبطلان أيضا و لو مع تسليم كون معناه استجب، أو اللّهم استجب أو غير ذلك ممّا مرّ نظرا إلى اعتبار ورودها عرفا بعد الدعاء دون القرآن، و دون انفرادها فلا يكون حينئذ دعاء، و لذا قيل إنّه لو قال: اللّهم استجب لم يجز فكذا ما بمعناه.

بل ذكر بعض المشايخ انّه لو قيل: إنّ معناه كذلك فليكن، أو كذلك فافعل، لم يجز قطعا للزوم تعقّبها للدّعاء حينئذ، قال: و دعوى الاكتفاء بتعقّبها لما يصلح للدّعاء و ان لم يكن ذلك أو منع اعتبار وقوعه بعده فيها على التفسير الأوّل لها، و هو المعنى المعروف، إذ لا مانع من إرادة طلب الاستجابة لكلّ ما دعا به

في الزّمن السّابق، و يدعو به في الزّمن اللّاحق، أو يلتزم قصد الدّعائيّة مع القرآنيّة و لا تنافي بينهما، و إن حكى عن «تبيان» الشّيخ المنع من جمعهما بالقصد للزوم استعمال المشترك في معنييه، إذ التّحقيق ضعفه بما في «الذكرى» من أنّ المعنى هنا متّحد، و هو الدّعاء المنزل قرآنا، و من المعلوم أنّ اللّه إنّما كلّف بهذه الصّيغة لإرادته الدّعاء، فكيف يبطل الصلوة بقصده، فإذا صحّ وقوعها حينئذ بعد المقصود به الدّعاء من القرآن صحّ بعد غيره، لعدم القول بالفصل.

يدفع الأول منها شهادة تتبّع استعمالها و معلوميّة قبح وقوعها بعد غير المقصود به الدّعاء من اللغو و الهذر، و إن كان صالحا لأن يقصد به الدّعاء على معنى طلب الاستجابة فعليّة السّؤال بالأوّل قطعا.

بل و الثاني أيضا، و صحّته مستقلّا في اللهمّ استجب مثلا لا يقتضي صحّته في آمين، و العرف أعدل شاهد على ذلك، و قد سمعت نفي الخلاف في «الانتصار» على عدم كونها دعاء مستقلّا.

و الثّالث بمنع جواز القصد بهما أوّلا بناء على ما عندهم من وجوب تعيين المشترك بالقصد و النيّة كما ذكروه في البسملة، و ان كان قد يناقش فيه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 731

اللّهم إلّا أن يفرّق بأنّه لا ينافي القرآن بقصد الدّعاء بالمنزل منه، و لا يوجب الاشتراك لاتّحاد المعنى، بخلاف غيره من المشترك بين القرآن و غيره فلاحظ و تأمّل.

و ثانيا بالقلب على معنى عدم الصّحة إذا لم يقصد كما هو الغالب في القارئين من العرب و العجم و لا قائل بالفصل.

قلت: هذا غاية ما قيل أو يمكن أن يقال في المقام لكنّها لتطرّق وجوه المناقشة إليها لا تنهض بإثبات المرام لظهور صدق الدّعاء على اللّفظ الدّالّ

على طلب الإجابة و سؤالها، و لو باعتبار وضعه للفظ استجب و نحوه، فانّ المدار على دلالته عليه و استفادة ذلك منه و لو بالواسطة، بل و لو مع عدم قصد الدّاعى للدّعاء و عدم إنشائه لذلك، فإنّ العبرة في مثل ذلك بصلاحيّة اللّفظ و كونه موضوعا لذلك مستعملا في هذا المقصد لا بفعليّة القصد و الإنشاء كما هو الحال في الأدعية الكثيرة المشتملة على هذه الكلمة و غيرها المندوب قراءتها للقاصد المتذكّر و غيره، بل للعجمى البحت الّذى لا يفهم المعنى أصلا فضلا عن أن يكون في مقام الطّلب و السّؤال كى يكون تلاوته دعاء، ضرورة كونه دعاء بملاحظة نفسه مع قطع النّظر عن أحوال الدّاعى به و إن كان مراتب فضل قراءته تختلف باختلاف مراتب أحواله.

و امّا المنع من جواز قصد الدّعاء بالقرآن بل التأمّل في رجحانه فضلا عن جوازه فغريب جدّا، و أغرب منه توهّم كونه من باب استعمال المشترك في معنييه.

بل و ممّا ذكرناه يظهر النّظر فيما ذكره السيّد في «الغنية» أيضا لا في قوله: و لا يقول: آمين أخر الحمد بدليل الإجماع المشار اليه، و طريقة الاحتياط و اليقين ببرائة الذّمّة من الصّلوة فانّه جيّد وجيه.

بل في قوله بعد ذلك: و قولهم لفظة آمين و إن لم يكن دعاء و لا تسبيحا و لا من جملة القرآن فهي تأمين على دعاء تقدّم عليها، و قوله: اهدنا الصّراط المستقيم

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 732

لا يصحّ الاعتماد عليه لأنّ اللفظ إنّما يكون دعاء بالقصد إلى ذلك، و القاري إنّما يقصد التلاوة دون الدّعاء، و لو قصد الدّعاء دون التّلاوة لم يكن قاريا للقرآن و لم يصحّ صلوته، و إن جاز أن

يقصد التّلاوة و الدّعاء معا جائز منه أن لا يقصد الدّعاء و إذا لم يقصده لم يجز أن يقول أمين، و المخالف يقول إنّها مسنونة لكلّ مصلّ من غير أن يعتبر قصده الدّعاء، و إذا ثبت أنّ قولها لا يجوز لمن لم يقصده ثبت أنّه لا يجوز لمن قصده، لأنّ أحدا لم يفرّق بين الأمرين، إذ فيه المنع من انتفاء القراءة إذا كان داعيا بالقرآن، بل لعلّه القسم الأخير الّذى ظاهره تسليمه من هذا الوجه و إن ناقش فيه من وجه آخر.

مدفوع بجواز التّعبد به على فرضه بمجرّد الصلوح و لذا

ورد في القدسيّات: قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي، فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سئل إلى أن قال فاذا قال العبد: اهدنا الصّراط المستقيم إلى آخر السّورة قال اللّه جلّ جلاله هذا لعبدي، و لعبدي ما سئل فقد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمّل و أمنته ممّا منه و جلّ «1».

رواه في العيون و تفسير الامام عليه السّلام عن مولانا الصّادق عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله عزّ و جلّ.

و حاصل الكلام أنّ هذه الوجوه الّتي علّلوا الحكم بها إن كان المقصود بها إبطال مذهب العامّة في توهّمهم تشريع هذه البدعة فالأولى ترك محاجتهم بها إذ الأدلّة و الوجوه الضّعيفة ربّما توجب و هن المدّعى و ضعفه في نظر بعض القاصرين لتوهّمهم انحصار الدّليل فيها، و إن كان المقصود إبطال القول بالكراهة أو الحرمة من غير إبطال الصلوة كما ربّما يعزى إلى بعض أصحابنا فالاولى الاستدلال بظهور إجماعهم على ذلك، بل قد سمعت عن الإنتصار و الغنية عليه الإجماع كما هو

______________________________

(1) عيون الأخبار ج 1 ص 301.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3،

ص: 733

المحكي أيضا عن الخلاف و «التّحرير» و «نهاية الأحكام» و «التذكرة» و «احقاق الحق» و ظاهر «كشف الالتباس» و «المنتهى» و «جامع المقاصد» و غيره.

بل عن الصّدوق في أماليه من دين الإماميّة الإقرار بانّه لا يجوز قول آمين بعد فاتحة الكتاب، و في «الفقيه» أيضا: لا يجوز، لأنّ ذلك كان يقوله النصارى، و في «المقنعة» للمفيد قدّس سرّه: و لا يقل بعد فراغه من الحمد آمين كقوله اليهود، و إخوانهم النصّاب إلى غير ذلك من تضاعيف كلماتهم و حكاية إجماعاتهم الّتي يستفاد منها أنّ طلب تركه بل حرمته و بطلان الصّلوة به مذهب أهل البيت الّذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا.

و لذا استفاضت بها أخبارهم

كالصّحيح عن مولينا الصّادق عليه السّلام إذا كنت خلف إمام قرء الحمد تفرّغ من قراءتها فقل أنت الحمد للّه ربّ العالمين، و لا تقل آمين «1».

و

صحيح زرارة عن مولينا الباقر عليه السّلام و لا تقولنّ إذا فرغت من قراءتك: آمين فإن شئت قلت: الحمد للّه ربّ العالمين «2».

و

صحيح الحلبي و ان كان فيه محمّد بن سنان للاعتماد به بل عن جامع البزنطي روايته بإسناد آخر عن الصّادق عليه السّلام انه سئله أقول إذا فرغت من فاتحة الكتاب أمين قال لا «3».

و

عن دعائم الإسلام مرسلا عنهم عليهم السّلام: انّهم حرّموا أن يقال بعد قراءة فاتحة الكتاب أمين كما تقول العامة قال جعفر بن محمد عليه السّلام إنّما كانت النّصارى تقولها،

و

عنه عن آبائه عليهم السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تزال أمّتى بخير و على شريعة من دينها حسنة جميلة ما لم يتخطّوا القبلة باقدامهم و لم ينصرفوا قياما كفعل أهل

______________________________

(1) الكافي ج

1 ص 313 ح 5- تهذيب الأحكام ج 2 ص 74 ح 275.

(2) علل الشرائع ج 2 ص 47.

(3) التهذيب ج 2 ص 74 ح 276. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 734

الكتاب و لم تكن لهم ضجّة بآمين «1».

و

في مجمع البيان عن فضل بن يسار عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال إذا قرأت الفاتحة و قد فرغت من قراءتها و أنت في الصّلوة فقل الحمد للّه ربّ العالمين «2».

و

صحيح معاوية بن وهب: أقول آمين إذا قال الامام غير المغضوب عليهم و لا الضّالين فقال عليه السّلام هم اليهود و النّصارى «3».

اى الفرقتان المشار إليهما في الاية، أو الّذين يقولون آمين بعدها هم اليهود و النصارى من هذه الأمّة و الّا فمن البيّن أنّ اليهود و النّصارى لا يقرؤن الحمد كي يقولوا بعده آمين، و لعلّ الأخير أظهر بل هو المتعيّن لمن تدبّر.

و لذا قال شيخنا الشّارح: انّ فهم السائل بقرينة ما زاده في الوسائل في الخبر: و لم يجب من هذا انّ هذا جواب للمراد بالضّالين لا لسئواله ليس حجّة فلا حاجة حينئذ لحملة على ترك الجواب للتقيّة بل يمكن ارادة الامام في الجواب الجمع بين التقيّة و سؤال السّائل بالإيهام في العبارة.

و من هذا كلّه يظهر ضعف القول بالكراهة على فرض القائل به و إن لم أحقّقه عن أحد من المتقدّمين.

نعم قد يحكى عن الإسكافي و أبى الصّلاح لكن قد يقال: إنّهما مع كونها غير قادحين فيه قد حكى عن ثانيهما في «الذكرى» انّه لم يتعرّض لذلك بنفي و لا إثبات كابن أبى عقيل، و الجعفي، و صاحب الفاخر، و لا صراحة في كلام أولهما بل ظاهر بعض كلامه المحكي عنه الموافقة.

______________________________

(1) دعائم

الإسلام ج 1 ص 160.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 31.

(3) التهذيب ج 2 ص 74 ح 275 و عنه الوسائل ج 6 ص 67 ح 7363 و قال المصنف: عدول الامام عليه السّلام عن الجواب للتقية دليل على عدم جواز التأمين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 735

قال: و لا يصلّ الإمام و لا غيره قراءة و لا الضالين بآمين لأنّ ذلك يجرى مجرى الزّيادة في القرآن ممّا ليس منه، و ربما سمعها الجاهل فقرأها من التنزيل.

و قد روى سمرة و أبى بن كعب السكتتين و لم يذكرا فيها آمين، ثمّ قال بعد ذلك: و لو قال المأموم في نفسه: اللّهم اهدنا إلى صراطك كان أحبّ إلي: لأن ذلك ابتداء دعاء منه، و إذا قال آمين تأمينا على ما تلاه الإمام صرف القراءة إلى الدّعاء الّذى يؤمن عليه سامعه.

قلت و لعلّ نهيه الاول أن لا يريد المحبّة المقتضية للجواز و أمّا حكاية السكتتين فإشارة إلى ما روى من السكتتين اللّتين كانتا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله في القراءة و إن اختلفت الرواية في موضعهما.

فعن مولينا الصّادق عليه السّلام انّ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله اختلفا في صلوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فكتبا إلى أبى بن كعب كم كانت لرسول اللّه من سكتة قال:

كانت له سكتتان: سكتة إذا كبر، و سكتة إذا فرغ من قراءة أمّ القرآن «1».

و

عن ابن الجنيد انّه روى سمرة و أبى بن كعب عن النّبى صلّى اللّه عليه و اله أنّ السّكتة الأولى بعد تكبيرة الافتتاح، و الثّانية بعد الحمد.

و قد مرّت رواية الخصال «2» في المقدّمة فلاحظ.

و على كلّ حال فلا ريب

في ضعف القول المذكور و شذوذه كشذوذ القائل به، و إن احتمله المحقّق في المعتبر مستدلّا له بما

رواه الحسين بن سعيد عن ابن أبى عمير عن جميل في الصّحيح قال: سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول النّاس في الصلوة جماعة حين يقرأ فاتحة الكتاب آمين؟ قال: ما أحسنها و أخفض الصّوت بها «3».

______________________________

(1) المستدرك الباب 34 من أبواب القراءة في الصلاة ح 1- 2.

(2) الخصال للصدوق ج 1 ص 74 ح 116.

(3) الوسائل ج 6 ص 68 ح 7366.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 736

إذ فيه مع حمله على التّعجب انّه مخالف لإجماع الإماميّة بل لضرورة مذهبهم، لعدم قائل منّا بالاستحباب، بل يعرف إنكاره من مذهبنا كلّ مخالف و مؤالف، فيجب حمله على التقيّة، سيّما مع اشتماله على الأمر بخفض الصّوت الّذى هو عندهم، مستحب في مستحبّ.

و مع حمله على نفى التّحسين و استفادة الجواز عن الأمر بخفض الصّوت بها أنّه مخالف للظّاهر المنساق، بل قد يقال للإجماع أيضا، إذ المتبادر من الاقتصار على نفى الحسن انتفاء القبح أيضا.

مع أنّه من المحتمل لو لم يكن الظّاهر انّ قوله ما أحسنها على صيغة التكلّم من الإحسان أو التّحسين بمعنى الحكم بالحسن و قوله: أخفض الصّوت بها على صيغة الماضي من كلام الراوي فالفاعل الامام و هو مشعر بالتقيّة و تعبير به عن طلب تركه.

و بالجملة فالقرائن الدّاخلة و الخارجة متطابقة على ورود الرّواية مورد التّقيّة إن لم تحمل على ما ذكرناه لموافقتها للعامّة الّذى جعل اللّه الرشد في خلافهم، و لذا أجمعت الطّائفة المحقّة على الحرمة بل و على بطلان الصّلوة بها لظهور التّعبير عنه بالنّهى و بالحرمة في الأخبار المتقدّمة، و في فتاوى الجماعة

و لذا لم يفصل أحد منهم بين الأمرين عدا صاحب المدارك الّذى سبقه الإجماع و لحقه مضافا إلى الأخبار الكثيرة المتقدّمة الظّاهرة في عدم مطلوبيّة العبادة على هذا الوجه، بل عدم كونها حينئذ متعلّق الأمر باعتبار اشتمالها على التشريع المحرّم الّذى هو بدعة، و كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة سبيلها إلى النّار.

هذا مضافا إلى قاعدة التوظيفيّة و لزوم تحصيل البرائة عن الإشتغال بالعبادة و غيرها من الأصول و القواعد، فضلا عن خصوص النّصوص.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 737

فضل سورة الفاتحة

ثانيهما في فضل هذه السّورة المباركة و يدلّ عليه مضافا إلى ما سمعت من اشتمالها على الحقائق الكليّة و العلوم الالهيّة، و نعوت الجمال و الجلال، و اسرار المبدأ و المعاد، و إرشاد العباد إلى طريق السّداد، و غير ذلك كما مرّ تفصيل الكلام فيه، جملة من النّصوص المأثورة عن أهل الخصوص.

ففي «عدّة الدّاعى» و غيرها عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله قال: لمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن ينزّل فاتحة الكتاب، و آية الكرسي، و شهد اللّه، و قل اللّهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب تعلقن بالعرش و ليس بينهنّ و بين اللّه حجاب، فقلن: يا ربّ تهبطنا إلى دار الذّنوب، و إلى من يعصيك و نحن متعلقات بالطهور و القدس، فقال سبحانه: و عزّتى و جلالي ما من عبد قرأكن في دبر كلّ صلوة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان، و إلّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة، و إلّا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، و لأعذته من كلّ عدو و نصرته عليه،

و لا يمنعه دخول الجنّة إلّا الموت «1».

و

في الأمالى لابن الشّيخ عن الصّادق عليه السّلام قال: من نالته علّة فليقرأ في جيبه الحمد سبع مرّات فإن ذهب العلّة و إلّا فليقرأها سبعين مرّة و أنا الضّامن له العافية «2».

______________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 426 و عنه كنز الدقائق ج 1 ص 6.

(2) أمالى الطوسي ج 1 ص 290 و عنه البحار ج 92 ص 231 ح 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 738

و

في العلل و العيون بالإسناد عن مولينا الرّضا عليه السّلام فإن قال: فلم أمروا بالقراءة في الصّلوة؟ قيل: لئلّا يكون مهجورا مضيّعا، و ليكون محفوظا مدروسا، فلا يضمحلّ و لا يجهل.

فإن قال: فلم بدء بالحمد في كلّ قراءة دون سائر السّور؟ قيل: لأنّه ليس شي ء من القرآن و الكلام جمع فيه من جوامع الخير و الحكمة ما جمع في سورة الحمد، و ذلك أنّ قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ إنّما هو أداء لما أوجب اللّه تعالى على خلقه من الشّكر، و شكر لما وفّق عبده للخير، «رَبِّ الْعالَمِينَ تمجيد له، و تحميد، و إقرار بأنّه هو الخالق المالك لا غيره، «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ استعطاف و ذكر لآلائه، و نعمائه على جميع خلقه «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إقرار بالبعث و الحساب و المجازات، و إيجاب له ملك الآخرة كما أوجب له ملك الدّنيا «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» رغبة و تقرّب إلى اللّه تعالى و إخلاص بالعمل له دون غيره «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ استزادة من توفيقه و عبادته و استدامة لما أنعم عليه و نصره، «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ استرشاد لأدبه و استعصام بحبله و استزادة في المعرفة بربّه و بعظمته و كبريائه: «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ توكيد للسؤال و الرّغبة، و

ذكر لما تقدّم من نعمه على أوليائه، و رغبة في مثل تلك النعم: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ استعاذة عن أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفين به و بأمره و نهيه، «وَ لَا الضَّالِّينَ اعتصام من أن يكون من الضّالين الّذين ضلّوا عن سبيله من غير معرفة، و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.

فقد اجتمع فيه من جوامع الخير و الحكمة في أمر الآخرة و الدّنيا مالا تجمعه شي ء من الأشياء «1».

و

في «العيون» و «تفسير الامام عليه السّلام» قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: فاتحة

______________________________

(1) علل الشرائع ج 1 ص 247- عيون الأخبار ج 2 ص 107. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 739

الكتاب أعطاه اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و أمّته بدء فيها بالحمد و الثّناء عليه ثمّ ثنى بالدّعاء للّه عزّ و جلّ، و لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: قال اللّه عزّ و جلّ: قسمت الحمد بيني و بين عبدي نصفين، فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال العبد:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه عزّ و جلّ: بدأ عبدي باسمي و حقّ عليّ أن أتمم له أموره: و أبارك له في أحواله، فاذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال اللّه عزّ و جلّ: حمدنى عبدي و علم أنّ النّعم الّتي له من عندي، و أنّ البلايا الّتي اندفعت عنه فبطولى «1» أشهدكم يا ملائكتى انّي أضيف له نعم الدنيا إلى نعم الاخرة، و أدفع عنه بلايا الاخرة كما دفعت عنه بلايا الدّنيا.

و إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه عزّ و جلّ: شهد لي عبدي بأنّى الرّحمن الرّحيم، أشهدكم لأوفرنّ من رحمتي حظّه، و لأجزلنّ من عطائي

نصيبه، فإذا قال:

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال اللّه تعالى: أشهدكم كما اعترف بأنّي أنا الملك يوم الدّين لأسهلنّ يوم الحساب عليه حسابه، و لأتقبلنّ حسناته، و لأتجاوزنّ عن سيّئاته. فاذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ: قال اللّه تعالى: صدق عبدي إيّاى يعبد، أشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي، فاذا قال: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال اللّه عزّ و جلّ: بي استعان عبدي، و إليّ التجأ، أشهدكم لأعيننه في شدائده و لآخذنّ بيده يوم نوائبه، فاذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلخ قال اللّه عزّ و جلّ: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي، و أعطيته ما أمّل، و أمنته عمّا منه وجل «2».

و في كتاب العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم في تفسير الحمد للّه يعنى الشكر

______________________________

(1) في البحار: فبتطوّلى.

(2) تفسير الامام عليه السّلام ص 27- عيون الأخبار ج 1 ص 300.

تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 740

للّه و هو أمر و لفظه خبر، و الأمر مضمر فيه، و معناه قل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و معنى رَبِ اي خالق و الْعالَمِينَ كلّ مخلوق خلقه اللّه، الرَّحْمنِ بجميع خلقه الرَّحِيمِ بالمؤمنين خاصّة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يعنى يوم الحساب و المجازات، إِيَّاكَ نَعْبُدُ مخاطبة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عزّ و جلّ و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مثل ذلك، اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ

حدّثني أبي عن جدّي، عن حماد، عن الحلبي، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أمير المؤمنين، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يعنى النّصاب و لَا الضَّالِّينَ اليهود و النّصارى.

ثمّ قال: إنّ أوّل ما نزل على رسول اللّه عليه السّلام بمكّة بعد أن نبئ الحمد «1».

في

المجمع و جامع الاخبار بالإسناد عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كانّما قرأ ثلثي القرآن، و أعطى من الأجر كانّما تصدق على كلّ مؤمن و مؤمنة «2».

و فيهما انّه روى هذا الخبر عن طريق آخر إلّا أنّه قال كأنّما قرء القرآن.

و

عن أبي قال: قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاتحة الكتاب فقال: و الّذى نفسي بيده ما أنزل اللّه في التّوراة و لا في الإنجيل و لا في الزّبور و لا في الفرقان مثلها و هي أمّ القرآن، و هي السبع المثاني و هي مقسومة بين اللّه و بين عبده و لعبده ما سئل «3».

و

عن العيّاشي بالإسناد انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال لجابر بن عبد اللّه الانصاري يا جابر ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها اللّه تعالى في كتابه؟ قال: فقال له جابر: بلى بأبي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 82 ص 51- 53 كتاب الصلاة باب القراءة.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 17.

(3) نفس المصدر. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 741

أنت و أمّى يا رسول اللّه علّمنيها، قال فعلّمه الحمد للّه امّ الكتاب، ثمّ قال يا جابر ألا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبى أنت و أمّى فاخبرني قال هي شفاء من كلّ داء إلّا السّام، و السّام الموت «1».

و

عن سلمة بن محرز عن الصّادق عليه السّلام قال: من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شي ء «2».

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انّ اللّه عزّ و جلّ قال لي: يا محمّد وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ

الْعَظِيمَ «3» فأفرد الامتنان علىّ بفاتحة الكتاب، و جعلها نظير «4» القرآن و إنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، و انّ اللّه تعالى خصّ محمّدا و شرفه بها، و لم يشرك فيها أحدا من أنبيائه ما خلا سليمان على نبيّنا و آله و عليه السلام فانّه أعطاه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أ لا ترى يحكى عن بلقيس حين قالت إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «5».

ألا فمن قرأها متعمّدا بموالاة محمّد صلّى اللّه عليه و آله منقادا لأمرها مؤمنا بظاهرها و باطنها أعطاه اللّه عزّ و جلّ بكلّ حرف منها حسنة كلّ واحد منها أفضل له من الدّنيا بما فيها من أصناف أموالها و خزائنها، و من استمع إلى قارئ يقرءها كان له قدر ثلث ما للقارى ء، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض له فإنّه غنيمة لا يذهبن أوانه فتبقى في قلوبكم الحسرة «6».

______________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 17.

(2) نفس المصدر.

(3) الحجر: 87.

(4)

في مجمع البيان: و جعلها بإزاء القرآن.

(5) النمل: 29.

(6) مجمع البيان ج 1 ص 18. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 742

و مثله في تفسير مولينا العسكري عليه السّلام «1».

و

في «المكارم» عن الصّادق عليه السّلام: لو قرئت الحمد على ميّت سبعين مرّة ثمّ ردّت فيه الرّوح ما كان ذلك عجبا «2».

و

روي عن المفضل النوفلي مرفوعا قال: ما قرئت الفاتحة على وجع سبعين مرّة إلّا سكن «3».

و

عن الباقر عليه السّلام: من لم تبرئه الحمد لم تبرئه شي ء «4».

و

في طبّ الأئمّة عن الصّادق عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يديه فقرأ فاتحة

الكتاب، و المعوذتين ثمّ يمسح بهما وجهه فيذهب عنه ما كان يجده «5».

و

عن الباقر عليه السّلام قال: من لم تبرئه سورة الحمد و قل هو اللّه أحد لم يبرئه شي ء و كلّ علّة تبرء بهاتين السّورتين «6».

و

عن أحدهم عليهم السّلام قال: ما قرئت الحمد على وجع سبعين مرّة إلّا سكن بإذن اللّه و إن شئتم فجرّبوا و لا تشكّوا «7».

و

في الخصال عن الصّادق عليه السّلام قال: رنّ إبليس أربع رنّات: أولهنّ يوم لعن، و حين اهبط إلى الأرض، و حين بعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله على حين فترة من الرّسل، و حين

______________________________

(1) تفسير الامام عليه السّلام و عنه البحار ج 92 ص 245.

(2) مكارم الأخلاق ص 418 و عنه البحار ج 92 ص 257.

(3) بحار الأنوار ج 92/ 235 عن طبّ الأئمّة ص 54.

(4) نفس المصدر عن طب الائمة ح 19.

(5) نفس المصدر ح 18.

(6) نفس المصدر ح 19.

(7) طب الائمّة ص 54 و عنه البحار ج 92/ 235 ح 21. تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص: 743

أنزلت امّ الكتاب «1».

و في تفسير القمى عنه عليه السّلام مثله لكنّه اقتصر فيه على الأخيرتين «2».

الحمد للّه أوّلا و آخرا و ظاهرا و باطنا و الشكر له على أن وفّقني على تحقيق هذا السفر القيّم الكريم في تفسير فاتحة الكتاب من الصراط المستقيم تأليف العالم الجليل و الحبر المفسّر النبيل آية اللّه العظمى السيّد حسين البروجردي قدّس اللّه سرّه.

و ساعدني على طبعه السيّد المؤمن الّذي لم يرض بذكر اسمه في مؤسّسة المرحوم السيّد حسن بن الحسن الموسوي الخيريّة.

و أنا العبد الذليل غلام رضا بن علي أكبر مولانا البروجردي الراجي رحمة ربّ العالمين، تمّ التحقيق في

غرّة رجب المرجّب سنة 1421.

______________________________

(1) الخصال ج 1 ص 263 باب الأربعة ح 141.

(2) تفسير القمى ج 1 ص 29 و فيه: إنّ إبليس أنّ أنينا.

الجزء الرابع

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

تفسير سورة البقرة

وجه التسمية:

سمّيت بها لاشتمالها على قصّة ذبحها الّتي فيها الإشارة إلى ما هي الغاية القصوى و السعادة العظمى أعني تحصيل الحياة الطيّبة الأبديّة، و السعادة الدائمة السرمديّة، بذبح بقرة نفسه الحيوانيّة، و القوى الشهوانيّة بأسياف الرياضة على الاستقامة الّتي هي الموت الأصغر و الجهاد الأكبر إذا صلحت لذلك حيث لا فارِضٌ متهالك، و لا بِكْرٌ غير متمالك، بل عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ- على ما تسمع تمام القصّة هنالك.

و ربما يستكره أن يقال: سورة البقرة، بل قيل: ينبغي أن يقال:

السورة الّتي يذكر فيها البقرة.

و لعلّه لما يوهمه الإضافة، أو للتأسي بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في

قوله: «السورة الّتي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن» «1».

__________________________________________________

(1) رواها شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي المتوفى (509) ه ش في فردوس الأخبار ج 2 ص 344 رقم 3559 قال: عن أبي سعيد عن النبي صلّى اللّه عليه و اله: «السورة الّتي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلّموها فإنّ تعلّمها بركة. و تركها حسرة، و لا يستطيعها البطلة».

و رواها أيضا السيوطي في الجامع الصغير رقم 4841 و شرحها عبد الرءوف المناوي في فيض القدير ج 4 ص 149.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 6

و ضعف الوجهين واضح- سيّما مع ورودها على وجه الإضافة في الأخبار المعتبرة هنا «1» و في النحل، و النمل، و غيرها.

و التوصيف في النبوي تحقيق للتسمية، كما أنّه لعلّه الوجه في العنوان الذي في تفسير الإمام بمثل النبوي- و لذا عبّر عنها فيما رواه من الخبر بطريق الإضافة نعم يستفاد منه اسم آخر للسورة و هو فسطاط القرآن نظرا إلى اشتمالها على معظم أصول الدين و فروعه. و الإرشاد الى كثير من

مصالح العباد ممّا فيه نظام المعاش و نجاة المعاد، بل تسمع في النبوي الآتي أنّها سنام القرآن، و أنّها و آل عمران هما الزّهراوان، واحدتها زهراء (بفتح الزاي) لنورهما و إشراقهما، من الزهرة و هي البياض النيّر المشرق، لا من الزّهراء للبقرة الوحشيّة، و أنّها أوّل المثاني على ما مرّت «2» الى غير ذلك من الألقاب الشريفة الّتي ربما أشير إليها في الأخبار.

فضل السورة

في «ثواب الأعمال» بالإسناد، و في «المجمع» مرسلا عن مولانا الصادق عليه السّلام

__________________________________________________

(1) ستأتي الأخبار في فضلها إنشاء اللّه تعالى.

(2) راجع ج 3 ص 30 من الصراط المستقيم ط قم مؤسّسة المعارف الإسلاميّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 7

قال: «من قرأ سورة البقرة و آل عمران جاءتا يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين، أو مثل الغيّابتين» «1» يعني المظلّتين.

و مثله في تفسير الإمام عليه السّلام، و زاد بعد قوله: (أو غيابتان): أو فرقان «2» من طير صوّاف يحاجّان عن صاحبهما و يحاجّهما ربّ العزّة، و يقولان: يا ربّ الأرباب إنّ عبدك هذا قرأنا، و أظمأنا نهاره، و أسهرنا ليله، و أنصبنا بدنه، فيقول اللّه عزّ و جلّ: يا أيّها القرآن فكيف كان تسليمه لما أمرته (خ ل) (لما أنزلته فيك) من تفضيل علي بن أبي طالب أخي محمد رسول اللّه؟ فيقولان: يا ربّ الأرباب و إله الآلهة والاه، و والى وليّه (أولياءه خ ل) و عادى أعدائه، إذا قدر جهر، و إذا عجز اتقى و استتر، فيقول اللّه عزّ و جلّ: فقد عمل إذا بكما كما أمرته، و عظّم من خطبكما ما أعظمته، يا عليّ أما تسمع شهادة القرآن لوليّك هذا؟ فيقول عليّ: بلى يا ربّ، فيقول اللّه

تعالى: فاقترح له ما تريد، فيقترح له ما يريد على أمانيّ هذا القاري من الأضعاف المضاعفات ما لا يعلمه إلّا اللّه عزّ و جلّ، فيقول اللّه عزّ و جلّ: قد أعطيته ما اقترحت يا عليّ.

ثم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ والدي القارئ ليتوّجان بتاج الكرامة يضي ء نوره من مسيرة عشرة آلاف سنة، و يكسيان حلّة لا يقوّم لأقلّ سلك منها مائة ألف ضعف ما في الدنيا بما يشتمل عليه من خيراتها.

ثمّ يعطى هذا القاري الملك بيمينه في كتاب، و الخلد بشماله في كتاب.

يقرأ من كتابه بيمينه: قد جعلت من أفاضل ملوك الجنان، و من رفقاء محمّد سيّد الأنبياء، و عليّ خير الأوصياء، و الأئمّة بعدهما سادة الأتقياء.

و يقرأ من كتابه بشماله: قد أمنت الزوال و الانتقال عن هذه الملك، و أعذت

__________________________________________________

(1) ثواب الأعمال ص 133- مجمع البيان ج 1 ص 32.

(2) الفرقان (بكسر الفاء): طائفتان، قسمان من كل شي ء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 8

من الموت و الأسقام و كفيت الأمراض و الأعلال، و جنّبت حسد الحاسدين و كيد الكائدين.

ثمّ يقال له: اقرأ و ارق و منزلك عند آخر آية تقرأها.

فإذا نظر والداه إلى حليتهما و تاجيهما قالا:

«ربّنا أنّى لنا هذا الشرف و لم تبلغه أعمالنا؟ فيقال لهما: أكرم اللّه عزّ و جلّ هذا لكما بتعليمكما ولدكما القرآن» «1».

و في النبوي: «اقرأوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان او غيّابتان «2»، أو كأنّهما فرقان من طير صوّاف يحاجّان عن صاحبهما «3»، أي قطعتان من طير باسطات أجنحتها.

و في بعض نسخ الحديث: كأنّهما خرقان

بالخاء المعجمة المفتوحة و الراء المهملة من الخرق،

أو ما انخرق من الشي ء و بان منه، أو بكسر الخاء من الخرقة القطعة من الجراد.

و قيل: الصواب حزقان بالحاء المهملة و الزاي من الحزقة و هي الجماعة من الناس و الطير و غيرهما، كذا في نهاية ابن الأثير.

و كأن الترديد بين الثلاثة وقع منه صلّى اللّه عليه و آله باعتبار المراتب، و لذا قيل: إنّ الأوّل للقارئ، و الثاني للمداوم على القراءة، و الثالث لمن يقرئ مع ذلك، بناء على أنّ الكلام على الترقّي، إذ في الغيابة مزيد اختصاص لكونهما مظلّة الشخص نفسه، و الفرق من الطير فيها مع ذلك زيادة المحاجّة، و يمكن الحمل على التنزل باعتبار

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 كتاب العدل و المعاد ص 292 ح 5 عن تفسير الإمام عليه السّلام و ج 92 كتاب القرآن ص 268 ج 16 عن تفسير الامام عليه السّلام 4 ص 28.

(2) الغيّابة: السحابة المفردة.

(3) في سنن الدارمي ج 2 ص 450: تعلّموا سورة البقرة و آل عمران فإنّهما الزهراوان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 9

الشمول و الإحاطة، و ضمير المحاجّة للسورتين.

و عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ أربع آيات من أول البقرة و آية الكرسي و آيتين بعدهما، و ثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه الشيطان و لا ينسى القرآن «1».

و في «المجمع» عن أبيّ بن كعب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأها فصلوات اللّه عليه و رحمته، و أعطي من الأجر كالمرابط في سبيل اللّه سنة لا تسكن روعته» «2».

قال: و قال لي رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله: يا أبيّ مر المسلمين أن يتعلّموا سورة البقرة، فإنّ تعلّمها بركة، و تركها حسرة و لا يستطيعها البطلة، قلت: يا رسول اللّه ما البطلة؟

قال: السحرة «3».

و لعلّ المراد أنّهم لا يوفّقون لقراءتها.

و عن سهل بن سعد، عنه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لكل شي ء سناما، و سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيّام، و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال «4».

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث بعثا، ثم أخذ تتبعهم يستقرأهم، فجاء إنسان منهم، فقال: ماذا معك من القرآن؟ حتّى على أحدثهم سنّا، فقال له: ماذا معك من القرآن؟

قال: كذا و كذا و سورة البقرة، فقال: أخرجوا و هذا عليكم أمير.

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 621 ح 5 و عنه البرهان ج 1 ص 244 ح 1 و تفسير العياشي ج 1 ص 25 ح 3- و ثواب الأعمال ص 130 ح 1 و عنه بحار الأنوار ج 92 ص 265 ح 9.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 32.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 32.

(4) مجمع البيان ج 1 ص 32 و عنه نور الثقلين ج 1 ص 22 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 10

قالوا: يا رسول اللّه هو أحدثنا سنّا! قال: معه سورة البقرة «1».

و سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله: أيّ سور القرآن أفضل؟

قال: البقرة، قيل: أيّ آي البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي «2».

و عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أعطيت السورة الّتي يذكر فيها البقرة من الذّكر الأوّل،

و أعطيت طه و الطواسين من ألواح موسى، و أعطيت فواتح القرآن، و خواتيم السّورة الّتي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، و أعطيت المفصّل نافلة «3».

و اعلم أنه

قد ورد في قصّة حنين: أنّه لمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هزيمة أصحابه عنه قال للعبّاس، و كان رجلا جهوريّا صيّتا: ناد بالقوم، و ذكّرهم العهد، فنادى العبّاس بأعلى صوته: يا أهل بيعة الشجرة، و يا أصحاب سورة البقرة إلى أين تفرّون؟ أذكروا العهد الّذي عاهدتم عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «4».

قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه: كأنّه وبّخهم بذلك لقوله تعالى فيها:

فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ... «5». أو لاختتامها بقوله: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «6». أو لاشتمالها على آيات الجهاد، كقوله:

اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ* «7».

و قوله: وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ* «8»- أو لأن أكثر آيات النفاق ذمّ

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 32 و عنه نور الثقلين ج 1 ص 22 ح 3

(2) مجمع البيان ج 1 ص 32 و عنه نور الثقلين ج 1 ص 22 ح 3

(3) مجمع البيان ج 7 ص 183 و عنه نور الثقلين ج 4 ص 107 ح 4

(4) بحار الأنوار ج 21 ص 156 ح 6 عن الإرشاد ص 72.

(5) سورة البقرة: 246.

(6) سورة البقرة: 286.

(7) سورة البقرة: 190.

(8) سورة البقرة: 192.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 11

المنافقين فيها، أو لأنّها أوّل سورة ذكر فيها قصّة مخالفة بني إسرائيل موسى بعبادة العجل، و ترك دخول حطّة و الجهاد مع العمالقة، أو أراد جماعة حفظوا سورة البقرة، تعريضا بأنّه

لا يناسب حالهم تلك فعلهم ذلك.

أقول: و لعلّ الأولى من الجميع اشتمالها على قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1». و لذا ذكّرهم ببيعة الشجرة، و هي بيعة الرضوان، و أمرهم بعده بذكر العهد الّذي عاهدوا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا ما يحكى عن بعض العامّة حيث

ورد في أخبارهم: هذا مقام الذي أنزل عليه سورة البقرة

، و قالوا: خصّها لأنّ معظم أحكام المناسك فيها سيّما ما يتعلّق بوقت الرمي «2» ففيه ما لا يخفى.

نزول السورة

أمّا نزولها فهي على ما في «المجمع» كلّها مدنيّة إلّا آية واحدة منها و هي قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية «3» فإنّها نزلت في حجّة الوداع بمنى.

لكن فيه عند التعرّض لتفسيرها: أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خرج إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ... «4» فسمّيت آية

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 40.

(2) سورة البقرة: 281.

(3) سورة البقرة: 281.

(4) سورة النساء: 128.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 12

الصيف، ثمّ نزل عليه و هو واقف بعرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... الآية «1» فعاش بعدها أحد و ثمانين يوما، ثمّ نزلت عليه آيات الرّبا، ثمّ نزلت بعدها: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... «2» و هي آخر آية نزلت من السماء.

بل صرّح أيضا في كثير من الآيات بنزولها في غير المدينة، كنزول قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ... الآية «3» حيث قالت كفّار قريش: يا محمّد صف لنا ربّك، و انسب لنا ربك.

و قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ

... «4» في صلح الحديبيّة.

و قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ... «5» بين مكة و المدينة، أو ليلة مبيت أمير المؤمنين عليه السّلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى غير ذلك ممّا تأتي الإشارة في مواضعها إنشاء اللّه تعالى.

و احتمال أن يكون المراد بكونها مدنيّة نزولها بعد الهجرة و إن نزلت في غيرها مدفوع بما في كلامه من استثناء آية واحدة نزلت في حجّة الوداع بمنى.

عدد الآيات

و أمّا عدد آيها ففي «المجمع» مائتان و ستّ و ثمانون آية في العدد الكوفي، و هو العدد المروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، و سبع في العدد البصري، و خمس

__________________________________________________

(1) المائدة: 3.

(2) البقرة: 281.

(3) البقرة: 163.

(4) البقرة: 189.

(5) البقرة: 206.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 13

حجازي، و أربع شامي، خلافها إحدى عشر آية، عدّ الكوفي الم آية، و عدّ البصري إِلَّا خائِفِينَ «1» آية، و قَوْلًا مَعْرُوفاً «2» بصريّ، عَذابٌ أَلِيمٌ «3» شاميّ، مُصْلِحُونَ «4» غيرهم، يا أُولِي الْأَلْبابِ «5» عراقي، و المدني الأخير «6»، مِنْ خَلاقٍ «7» الثاني غير المدني الأخير، يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ «8» مكيّ و المدنيّ الأوّل، تَتَفَكَّرُونَ «9» كوفيّ و شامي و المدني الأخير، الْحَيُّ الْقَيُّومُ «10» مكيّ بصري و المدني الأخير، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «11» المدني الأول، و روي عن أهل مكّة: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ «12» «13».

أقول: و فيه أنّه مخالف من وجوه لما يظهر منه رحمه اللّه عند التعرّض لتفصيل الآيات، حيث إنّ ظاهره كما يأتي أنّه لا خلاف في عدم كون

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 114.

(2) سورة

البقرة: 235.

(3) سورة البقرة: 10.

(4) سورة البقرة: 11.

(5) سورة البقرة: 179- 197.

(6) قال السيوطي في الإتقان ج 1 ص 232: اختلف في عدّ الآي أهل المدينة و مكّة، و الشام، و البصرة و الكوفة، و لأهل المدينة عددان: عدد أوّل و هو عدد أبي جعفر يزيد بن القعقاع، و شيبة بن نصاح، و عدد آخر و هو عدد إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري.

(7) سورة البقرة: 200.

(8) سورة البقرة: 215.

(9) سورة البقرة: 219.

(10) البقرة: 255.

(11) البقرة: 257.

(12) البقرة: 282.

(13) مجمع البيان ج 1 ص 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 14

عَذابٌ أَلِيمٌ «1» آية، و كذا يا أُولِي الْأَلْبابِ «2»، و كذا يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ «3»، و كذا مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «4» و لا في كون مُصْلِحُونَ «5»، و كذا مِنْ خَلاقٍ «6» الثاني، و قال في قوله: تَتَفَكَّرُونَ «7» إلى عَزِيزٌ حَكِيمٌ «8»: آيتان في الكوفي و آية واحدة فيما عداه، عدّ الكوفي تَتَفَكَّرُونَ آية و تركها غيره «9».

و في قوله: قَوْلًا مَعْرُوفاً إلى غَفُورٌ حَلِيمٌ «10»: آية في الكوفي و آيتان في غيرهم يترك قَوْلًا مَعْرُوفاً الكوفي «11».

و في قوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ «12» إلى الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ: آيتان بصريّ، و آية واحدة عند غيرهم، عدّ البصري الْحَيُّ الْقَيُّومُ آية «13» و هذا كله مخالف لما صرّح به أوّلا هذا مضافا إلى أنّ المحصّل ممّا صرّح به أوّلا مخالف أيضا للأقوال الأربعة

__________________________________________________

(1) البقرة: 10.

(2) البقرة: 179- 197.

(3) البقرة: 215.

(4) البقرة: 257.

(5) البقرة: 11.

(6) البقرة: 200.

(7) البقرة: 219.

(8) البقرة: 220.

(9) مجمع البيان ج

1 ص 314.

(10) البقرة: 235.

(11) مجمع البيان: ج 1 ص 338.

(12) البقرة: 255.

(13) مجمع البيان ج 1 ص 360.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 15

الّتي نبّه عليها في صدر كلامه كما لا يخفى.

و أما تحقيق الحقّ في أعدادها و اختلافاتها فلا يحضرني شي ء من الكتب المصنّفة في ذلك لأصحابنا و غيرهم، و الخطب سهل في مثله، كسهولته في ضبط كلماتها و حروفها بعد اختلافهم في كيفيّة اعتبارهما حسب ما مرّت الإشارة إليه في الفاتحة.

[سورة البقرة(2): آية 1]

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم الكلام فيها و في غيرها من فواتح السور القرآنيّة الّتي هي المفاتح للغيوب الإمكانيّة، و الحقائق العرفانيّة يستدعي رسم مباحث:

البحث الأول: العوالم الإلهية

اعلم أنّ للّه تعالى في ملكه عوالم كلّية و جزئيّة، ملكيّة و ملكوتيّة، غيبيّة و شهوديّة، و هذه العوالم مترتّبة متناسبة متطابقة صعودا و نزولا، و أمر اللّه المفعولي ينزل في هذه العوالم المتناسبة في السلسلة الطوليّة، كما أشير إليه بقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ «1»، و إن كانت تلك الأوامر كالأوامر الجزئيّة المتنزلة فيها متناسبة أيضا في السلسلة العرضيّة.

عالم الحروف
اشارة

و من جملة تلك العوالم المتنزّلة الى الناسوت عالم الحروف، فإنّها مع

__________________________________________________

(1) سورة السجدة: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 16

انحصارها و تناهيها يشار بها إلى جميع المعارف و الحقائق، بل جميع الماهيّات و الأكوان الكليّة و الجزئيّة.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام: إنّ الكتاب الّذي أنزل على آدم على نبيّنا و آله و عليه السّلام أ ب ت ث ... إلخ.

بل الحروف الحقيقيّة هي الحقائق الكليّة المعبّرة عنها بالخزائن الغيبيّة المشار إليها بقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «1» و هذه الخزائن الغيبيّة هي الأصول الكليّة الّتي

أشار إليها مولانا الرضا عليه التحيّة و الثناء في خبر عمران الصابي المرويّ في «العيون» و «الاحتجاج» بقوله:

«و اعلم أنّ الإبداع و المشيّة و الإرادة معناها واحد، و أسماؤها ثلاثة، و كان أول إبداعه و إرادته» الحروف الّتي جعلها أصلا لكل شي ء، و دليلا على كلّ مدرك و فاصلا لكلّ مشكل، و بتلك الحروف تفريق كل شي ء من اسم حقّ و باطل أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، و عليها اجتمعت الأمور كلّها» «2».

و جملة الكلام أنّ للحروف باعتبار درجاتها و تنزّلاتها مراتب:

مراتب الحروف
اشارة

أحدها:

الحروف الأصليّة الأوّلية:

و هي مراتب الفعل المعبّر عنها بالعلم

__________________________________________________

(1) سورة الحجر: 21.

(2) عيون الأخبار ص 87- 100- التوحيد ص 428- 457- الإحتجاج ص 226- 233 و عنها بحار الأنوار ج 10 و هذه القطعة في ص 314.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 17

و المشيّة و الارادة، و الإبداع، و القدر، و القضاء، و الإمضاء، و الأجل، و الكتاب.

و هي الأمور الّتي لا يكون شي ء في الأرض و لا في السماء إلّا بها، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحد منها فقد كفر.

و تمام الكلام في حقائقها يأتي في محلّها ان شاء اللّه تعالى و هذه الحروف يتألّف منها الكلمات التامّات الربانية، و الحقائق القادسة النورانيّة، تجلّى لها ربّها فأشرقت، و طالعها فتلألأت، ألقى في هويّتها مثاله فأظهر منها أفعاله، و به سبحانه سمّي متكلّما، و كلماته التامّات الّتي تكلّم بها سبحانه بمشيّته و إرادته و ابداعه آل محمّد عليهم السّلام.

كما

في الخبر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى تفرّد في وحدانيته، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نورا، ثمّ خلق من ذلك النور محمّدا و عليّا و عترته عليهم السلام، ثم تكلّم بكلمة فصارت روحا و أسكنه في ذلك النور و أسكنه في أبداننا، فنحن روح اللّه و كلمته و بنا احتجب عن خلقه ...

الخبر «1».

و في كثير من أخبارهم وقع التصريح بذلك

كقولهم: «نحن الكلمات الّتي لا تدرك فضائلنا و لا تستقصى» «2».

بل و في الكتاب العزيز إشارات لذلك كقوله تعالى:

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «3».

و قوله تعالى:

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 15 ص 10

عن كنز الفوائد.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 174 ح 1 و ج 50 ص 166 ح 51.

(3) سورة لقمان: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 18

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ... «1».

و قوله تعالى:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ... «2».

و قوله تعالى:

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ... «3» و قد عبّر اللّه تعالى عن المسيح على نبيّنا و آله و عليه السّلام «بِكَلِمَةٍ مِنْهُ» «4» و ستسمع ان شاء اللّه كثيرا من أخبار الباب في طيّ تلك الآيات و غيرها.

الحروف الحقيقية المعنويّة

ثانيها: الحروف الحقيقية المعنويّة و هي الذّوات المتقرّرة المخلوقة في صقع الإمكان في عالم الأمر، و تنقسم إلى جبروتيّة و ملكوتيّة، و الكلام فيها هو الكلام في حقايق الأشياء.

و قد يعبّر بكلّ من الحروف عن شي ء من مراتب الوجود من الدرّة الى الذرة كما تأتي الإشارة إليه بمشيّة اللّه سبحانه.

الحروف الشبحية الظلّية

ثالثها: الحروف الشبحية الظلّية الفكريّة المتنزّلة الى المعاني العقليّة، أو الرقائق الروحيّة، أو الصور الشخصيّة، و هي صور انتزاعيّة شخصيّة قد تنزّلت من

__________________________________________________

(1) الكهف: 109.

(2) سورة البقرة: 37.

(3) البقرة: 124.

(4) آل عمران: 45

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 19

الملكية على أحد الوجهين اللّذين مرّت إليهما الإشارة في المقدّمة الاولى في تعريف العلم «1».

الحروف المتنزّلة الفكرية

رابعها: الحروف المتنزّلة الفكرية الصورية، و ذلك أنّ المعاني إذا ارتسمت أو خطرت في الذهن فربّما يعبّر الفكر عنها بألفاظ نفسيّة تعبيرية يعبّر عنها بالكلام النفسي على ما مرّ في مسألة حدوث القرآن.

الحروف العدديّة

خامسها: الحروف العدديّة الّتي يراد بها قوى الحروف من الأعداد الّتي هي بمنزلة الأرواح.

و هي إمّا مواهب إلهيّة ذاتيّة غير متخلّفة و لذا استخرجوا منها الروحانيّات و الملائكة العلويّات و الخدّام السلفيّات، و بنوا عليها أنواع التصرّفات و العمليّات.

و إمّا أمور جعليّة اصطلاحيّة موضوعة، و لذا اختلفت باختلاف الاصطلاحات من الأمم في ترتيب الأبجد و غيرها من الدوائر، و إن كان المستفاد من بعض الأخبار أنّ المعتبر المشتهر في زمن الأئمة عليهم السّلام هو الترتيب الأبجدي المعروف من الألف الى الألف الّذي هو الغين.

ففي موثّق سماعة عن الصادق عليه السّلام قال: قلت له: رجل ضرب لغلام «2» ضربة فقطع بعض لسانه، فأفصح ببعض، و لم يفصح ببعض، فقال عليه السّلام: يقرء المعجم فما

__________________________________________________

(1) الصراط المستقيم للمؤلّف ج 1 ص 138- 139 ط قم انصاريان.

(2) في التهذيب ج 10 ص 263 ح 1043: غلامه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 20

أفصح به طرح من الدية، و ما لم يفصح الزم الدية، قال: قلت: كيف هو؟ قال: على حساب الجمل ألف ديته واحد، و الباء ديتها اثنان، و الجيم ثلاثة، و الدال أربعة، و الهاء خمسة، و الواو ستة.

ثمّ ساق الكلام في تفصيل أعداد الحروف إلى قوله: و التاء أربعمائة و كل حرف يزيد بعد هذا فله مائة درهم.

و هذا الخبر و إن دلّ على صحّة الترتيب الأبجدي المشتهر إلّا أنّه مطعون بما ذكره الشيخ و غيره من أنّ تفصيل الدية على

الحروف يجوز أن يكون من كلام بعض الرواة «1»، حيث سمعوا أنّه قال: يفرّق الدية على حروف الجمّل ظنّوا أنّه على ما يتعارفه الحسّاب و لم يكن القصد ذلك، بل القصد أنّها تقسم أجزاء متساوية «2».

أقول: و على فرض كونه من كلام بعض الرّواة أيضا يدلّ على اشتهاره بينهم.

لكنّ الظاهر من خبر أبي لبيد ابتناؤه على حساب المغاربة على ما يأتي.

الحروف اللفظية

سادسها: الحروف اللفظية الّتي هي كغيرها من الممكنات بلا فرق بين الماديّات و المجرّدات زوج تركيبي من مادّة و صورة، و يعبّر عنها بالوجود و الماهيّة.

فمادّتها هي الهواء المستنشق في الرّية و قصبتها الفائدة ترويح الروح و دفع فضلاتها و أبخرتها، و الصوت إنّما يكون بنفس الإنسان، و أصله دويّ في أصل الرية و إنّما يصير صوتا عند طرف القصبة المسمّى برأس المزمار لتضايقه ثمّ اتّساعه عند

__________________________________________________

(1) مراده انّ قوله: ألف ديته واحد ... إلخ من كلام بعض الرواة.

(2) الإستبصار ج 4 ص 293 ح 1108 و قال: لو كان الأمر على ما تضمّنته هذه الرواية لما استكملت الحروف كلّها الدية على الكمال لأنّ ذلك لا يبلغ الدية إن حسبناها على الدراهم و ان حسبناها على الدنانير تضاعفت الدية، و كل ذلك فاسد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 21

الحنجرة فيبتدئ من سعة إلى ضيق، ثمّ إلى فضاء أوسع كما في المزمار، إذ لا بدّ للصوت من ضيق ليحبس الدويّ و يقدّره، و لا بدّ أيضا من الانضمام و الانفتاح ليحصل بهما قرع الصوت.

و صورتها هي الحدود و الأطراف الّتي ينقطع عندها الصوت، مع تكيّفه بالكيفيّة الخاصّة بكلّ حدّ من تلك الحدود الّتي هي المخارج المشهورة المتعدّدة بتعدّد الحروف فإنّ القوّة النطقيّة الإنسانيّة

تنبعث بالإرادة من باطن القلب بواسطة النفس الانساني و الصوت. فيمرّ على المخارج المشهورة و تستعين باللسان في التقطيع بكلّ منها فيصحب ذلك خصوص حكم الإرادة المتعلّقة بإظهار بعض الحروف مفردة و مركّبة ليوصل بعض ما في نفسه الى المخاطب، فحيث انتهى قوة دفع و امتداد من امتدادات نفسه، و ذلك لا يكون إلا عند مخرج من المخارج ظهر للنفس حين الانتهاء تعيّن خاصّ بالصدر الفاصل فينقطع الصوت به منتهيا إليه، متكيّفا بكيفيته، و لذا يسمّى حرفا، اي طرفا مع كونه اسما لا حرفا بمعنى قسيمه، مع أنّ الأخير اصطلاح مستحدث، و الأوّل مبني على أصل اللّغة.

ثم من مننه سبحانه و له الحمد أنّ هذه الحروف المعدودة الميسّرة يعبّر بها عن المعاني الكثيرة الّتي لا تكاد تتناهى، بل عن اللغات الكثيرة المنتشرة بين الأمم من لدن آدم عليه السّلام، و ذلك لاختلاف وجود تأليف الكلمات في أنفسها و مع غيرها، و إن كانت الأعداد الحاصلة بالاعتبار الأوّل ليست بهذه الكثرة.

قال شيخنا البهائي رحمه اللّه: إذا قيل: كم يحصل من تركيب الحروف المعجم كلمة ثنائيّة سواء كانت مهملة أو مستعملة؟

فاضرب ثمانية و عشرين في سبعة و عشرين فالحاصل جواب.

فإن قيل: كم يتركّب منها كلمة ثلاثية بشرط ان لا يجتمع حرفان من جنس واحد؟ فاضرب ثمانية و عشرين في سبعة و عشرين، ثم المبلغ في ستّة و عشرين

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 22

يكن تسعة عشر ألفا و ستّمائة و ستة و خمسين، و إن سئل عن الرباعيّة فاضرب هذا المبلغ في خمسة و عشرين، و القياس فيه مطرد في الخماسي فما فوقه.

الحروف الكتبيّة

سابعها: الحروف الكتبيّة، و تسمّى بالرقمية، و النقشيّة، و الرسميّة و الخطّية، و

هي الحاصلة من انبساط الألف اللينة بأطوار الحدود و القيود من الاستقامة و أنحاء الاعوجاج.

فمادّتها هي المداد الكائن في الدواة أو على القلم الصالح لكتابة كلّ حرف من الحروف به من مستقيم و معوج و طويل و قصير، و غيرها.

و صورتها هي الأطراف و الحدود الّتي ينتهي بها ظهور المداد على اللوح من جميع الوجوه في كلّ الجهات.

ثم اعلم أنّ المداد و نفس الإنسان في الحروف المثاليّة الظلّية بمنزلة مثال لنفس الرّحمن المشار اليه

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «أشمّ نفس الرّحمن من قبل يمن» «1» في الحروف الحقيقيّة المعنويّة و هذا النفس هو المعبّر عنه بالمشيّة الكليّة و المحبّة الحقيقية، و الفيض الأوّل، و الوجود المطلق، و اللاتعيّن الأوّل، و القدم المخلوق، و حضرة الفعل، و سرادق الإرادة، الى غير ذلك من الألقاب الشريفة المستفادة من الكتاب و السنّة تصريحا او تلويحا يفهمه من يفهمه، فإذا تقيّد هذا الوجود بلواحق الماهيّات و مقتضاياتها و حدودها حصل الوجودات المقيّدة المسمّاة

__________________________________________________

(1) لم أجده بهذا اللفظ و لكن ورد في عوالي اللئالي: ج 1 ص 51 ح 74، بهذا اللفظ: إني لأجد نفس الرّحمن يأتيني من قبل اليمن.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 23

بالحروف العاليات، و هذا مقام المفعول كما أنّ الأوّل رتبة الفعل، و هذه الحروف الحقيقية بحار زخّارة عميقة، بل حقائق كلّية غير متناهية يظهر رشحاتها و آثارها فيما دونها بطريق الإشراق و الانعكاس فيتحصّل باعتبار الحدود و التقيدات و التكثرات عوالم كلّية غير متناهية لا يحيط بها الّا خالقها و من أشهدهم خلقها، و هم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين.

كما

قال مولانا الحجّة

عجّل اللّه فرجه: «أعضاد، و أشهاد، و مناة، و أزواد، و حفظة، و رواد» «1» بل هو المقتبس تلويحا من قوله تعالى في حقّ أعدائهم: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً «2».

و قد صرّح به مولانا الباقر عليه السّلام على ما رواه

في «الكافي» عن ابن سنان قال:

كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السّلام فأجريت إختلاف الشيعة فقال: يا محمّد إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يزل متفرّدا بوحدانيّته، ثمّ خلق محمّدا، و عليّا، و فاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، و أجرى طاعتهم عليها و فوّض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤن و يحرّمون ما يشاؤن، و لن يشاءوا إلّا أن يشاء اللّه تبارك و تعالى.

ثم قال: يا محمد هذه الديانة الّتي من تقدّمها مرق، و من تخلّف عنها محق، و من لزمها لحق، خذها إليك يا محمد «3».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 98 ص 393.

(2) الكهف: 51.

(3) اصول الكافي ج 1 ص 440 و 441 و عنه بحار الأنوار ج 25 ص 340 ح 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 24

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي لا يخفى تواترها على من اطّلع عليها.

[البحث الثاني عدد الحروف العربية
اشارة

قد طال التشاجر بين أهل اللغة في عدد الحروف المستعملة في اللغة العربيّة، فالمشهور بينهم انّها ثمانية و عشرون حرفا بعدّ الهمزة و الألف حرفا واحدا، و لذا قسّموه إلى ليّنة و متحرّكة و ربما يظهر ذلك أيضا من المحكيّ عن الخليل و الجوهري، و غيرهما من أهل اللغة، بل هو المشهور بين الفقهاء أيضا، بل قد استفيض عليه دعوى الإجماع منهم،

و قالوا في القول الآخر الآتي بالطرح و الشذوذ، و هو المصرّح به في كثير من الأخبار،

كخبر السكوني عن الصادق عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أتي برجل ضرب فذهب بعض كلامه، و بقي بعض كلامه، فجعل ديته على حروف المعجم كلها ... إلى أن قال: و المعجم ثمانية و عشرون حرفا «1».

و في «الفقه» المنسوب الى مولانا الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء: «يقرء حروف المعجم، .... الى أن قيل له: كيف ذلك؟ قال: بحساب الجمّل، و هو حروف أبي جاد، من واحد إلى الألف، و عدد حروفه ثمانية و عشرون حرفا «2».

و في خبر عمران الصابي عن الرضا عليه السّلام: أنّها ثمانية و عشرون حرفا تدلّ على لغات العربية «3».

و هو المستفاد من جدول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و جدول إدريس النبي

__________________________________________________

(1) التهذيب ج 2 ص 519 و الاستبصار ج 4 ص 293 ح 5.

(2) بحار الأنوار، ج 104، ص 415، ح 318.

(3) بحار الأنوار ج 10 ص 314.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 25

على نبينا و آله و عليه السّلام المرويّين عنهما في طبائع الحروف.

بل قيل: إنّ هذا العدد هو المشهور المعروف بين أهل الشرع و العرف و الفنّ، و أنّ كلّ أعمالهم ينطبق عليها، و يظهر ذلك أيضا من بعض الأخبار المفسّرة لحرف أبجد.

و في صحيح ابن سنان من طريق الصدوق التصريح بهذا العدد أيضا. لكن فيه من طريق الكليني أنّها تسعة و عشرون حرفا.

و روي عن أبي ذرّ الغفاري أنّه قال: قلت: يا رسول اللّه أيّ كتاب أنزل اللّه على آدم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كتاب المعجم، قلت: أيّ كتاب

المعجم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ا ب ت ث الى آخرها قلت: يا رسول اللّه كم حرف؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تسعة و عشرون، قلت: يا رسول اللّه عددت ثمانية و عشرين حرفا، فغضب رسول اللّه حتى احمرّت عيناه، فقال: يا أبا ذر و الّذي بعثني بالحق نبيّا ما أنزل اللّه على آدم إلّا تسعة و عشرين حرفا، فقلت: يا رسول اللّه أليس فيها لام و ألف؟ فقال: ألف حرف واحد قد أنزل اللّه على آدم في صحيفة واحدة و معه سبعون ألف ملك، من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل اللّه عليّ «1».

و ستسمع في الرضوي الآتي، و الخبر الآخر المتضمّن لسؤال اليهودي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن فائدة حروف الهجاء و تفسيرها عدّ لام ألف أيضا في طيّها و تفسيرها بلا إله إلّا اللّه.

و هذا هو المشهور بين اهل العربيّة على ما يحكى عنهم، و اختاره بعض الفقهاء أيضا كيحيى بن سعيد، و غيره.

بل عن الأردبيلي أنه مقتضى الوجدان. و كأنّه يشير الى مخالفتها للهمزة في

__________________________________________________

(1) ينابيع المودة لذوي القربى ج 3 ص 202.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 26

المخرج، على ما صرح به غير واحد من أصحاب هذا الشأن.

بل عن سيبويه التصريح بأنّ أصل الحروف العربيّة تسعة و عشرون حرفا.

و هي الهمزة، و الألف، و الهاء ... إلخ و عنه و عن الأخفش، و ناظم الشاطبية و شرّاحة أنّ حروف الحلق سبعة بزيادة الألف، و جعلوا مخرجها بعد الهمزة قبل الهاء، أو بعدها. و في «طيبة النشر» للجزري: أنّ للحروف الثلاثة الليّنة و هي الجوفيّة هواء

الفم، و لذا تسمّى هوائيّة أيضا.

الى غير ذلك مما يدلّ على مغايرتها للهمزة، و لذا اضطرب كلمات الفريقين في الجمع بين الدليلين، و تحقيق ما هو الحقّ في البين.

فعن بعضهم القطع بالتغاير مع اختلاف المخرجين، و احتمال الأمرين مع الاتّحاد، و عن صاحب «الكشّاف»، و غيره أنّها تسعة و عشرون حرفا و اسمها ثمانية و عشرون.

و اختار بعض مشايخنا عطّر اللّه مرقده كونها تسعة و عشرين نطقا و ثمانية و عشرين دية، و جمع بذلك بين كلام أهل العربية و الفقهاء.

أقول: أمّا اختلاف المخرجين فلا بدّ من التزامه على فرض القول به في الواو و الياء الليّنتين أيضا كما عن الجزري، إلّا أنّ هذا القول شديد الشذوذ جدّا، فإنّ مخرج كلّ من الواو و الياء على فرض كونها ليّنة و غيرها متّحد عند الجمهور، و مثلها الهمزة و الألف، و لا يخفى أنّ مجرّد الإختلاف في المخرج لا يقضي بالتعدد فإنّ الحروف اللّينة مخارجها مغايرة لأصولها عند الجزري، و لا أراه و لا غيره يلتزم بزيادة عددها على أعداد الحروف، و من هنا يظهر ترجيح القول بكونها ثمانية و عشرين على ما هو المشهور المستفاد من المعتبرة المتقدّمة كما ظهر منه أيضا ضعف الوجوه المتقدّمة المحكيّة عنهم حتى الخبرين المتعارضين بأرجح منهما

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 27

سندا و عددا و دلالة، و اعتضادا، على أنّه يمكن الجمع بينهما بما يأتي.

و أمّا الجمع بالفصل على أحد الوجهين المقدّم فضعيف جدّا بعد التأمّل في الأخبار المتقدّمة سيّما قوله: «فجعل ديته على حروف المعجم كلّها»، و غيره ممّا مرّ.

منازل القمر

نعم، ربما يستدلّ لترجيح ما رجّحناه من العدد بمطابقته لمنازل القمر «1».

__________________________________________________

(1) اصطلاح هيوي و نجومي و

هو مسافة يقطعها القمر في مدة «28» يوما تقريبا و اسماء المنازل على ما اصطلحوا هكذا:

1- شرطان (بفتح الشين و الراء) أو بضمّ الشين، هو المنزل الأوّل و علامته نجمان زاهران على قرني الحمل بعد أحدهما عن الآخر ذراع واحد.

2- بطين (بضمّ الباء و فتح الطاء): المنزل الثاني و علامته نجوم ثلاثة.

3- الثريا (بضمّ الثاء و فتح الراء): المنزل الثالث و علامته ستّة نجوم متقاربة على شكل المسدّس.

4- الدبران (بفتح الدال و الباء): المنزل الرابع مشتمل على خمسة كواكب في برج الثور.

5- الهقعة (بفتح الهاء و سكون القاف) المنزل الخامس و علامته ثلاثة كواكب نيّرة فوق منكبي الجوزاء قريب بعضها من بعض كالأثافي 6- الهنعة (بفتح الهاء و سكون النون) المنزل السادس و علامته خمسة أنجم مصطفّة على مؤخّر الجوزاء 7- الذراع (بكسر الذال): المنزل السابع و علامته كوكبان بمنزلة الرأس من التوأمين و كل تلك المنازل السبعة تكون في فصل الربيع.

8- النثر (بفتح النون و سكون الثاء): المنزل الثامن و هو في السرطان و علامته كوكبان بينهما قدر شبر، و فيهما لطخ بياض كأنّه قطعة سحاب.

9- الطرف (بفتح الطاء): لا منزل التاسع للقمر في الصيف.

10- الجبهة: المنزل العاشر علامته أربعة كواكب على جنوب الأسد، و على زعم العرب هذه الكواكب الأربعة على جبهة الأسد.

11- الزبرة (بفتح الزاي): المنزل الحادي عشر في الأسد، علامته كوكبان على مؤخّر صورة الأسد بينهما ذراعان.

12- الصرفة (بفتح الصاد و سكون الراء): المنزل الثاني عشر، و علامته كوكب نيّر بمنزلة ذنب الأسد، أو قضيبه.

13- العراء (بفتح العين): المنزل الثالث عشر كواكبه اثنا و عشرون كوكبا على صورة رجل مدّ يديه.

14- السماك (بكسر السين المهملة): المنزل الرابع عشر في برج السنبلة

علامته كوكبان نيّران يقال لأحدهما: السماك الرامح، و للآخر: السماك الأعزل، و هذه المنازل السبعة تكون في فصل الصيف.

15- الغفر (بفتح الغين و سكون الفاء): المنزل الخامس عشر و علامته ثلاثة أنجم صغار في برج الميزان على خطّ مقوّس.

16- الزبانا (بضمّ الزاي): المنزل السادس عشر و علامته كوكبان على كفّتي الميزان و العرب تقول:

الكوكبان واقعان في زباني العقرب.

17- الإكليل (بكسر الهمزة): المنزل السابع عشر و علامته ثلاثة كواكب على جبهة العقرب.

18- القلب: المنزل الثامن عشر و علامته كوكب أحمر واقع بين كوكبين على خط مقوّس تحت الإكليل و كأنّه واقع في محلّ قلب العقرب.

19- الشولة (بفتح الشين): المنزل التاسع عشر و علامته كوكبان بينهما شبر.

20- النعائم: المنزل العشرون، و علامته ثمانية كواكب في المجرّة و خارجها على صورة النعامة أربعة منها داخلة في مجرّة، و اربعة منها خارجة.

21- بلدة الثعلب: المنزل الواحد و العشرون و هي فضاء واسعة بين النعائم و بين ذابح، و ليس فيها كوكب و هذه المنازل السبعة في فصل الخريف.

22- سعد الذابح: المنزل الثاني و العشرون و علامته كوكبان من كواكب صورة الجدي: الأول و الثالث كأنّهما على قرني الجدي.

23- سعد البلع، أو سعد البالع: المنزل الثالث و العشرون و علامته كوكبان واقعان على يسار صورة ساكب الماء.

24- سعد السعود: المنزل الرابع و العشرون و علامته كوكبان أحدهما في الشمال على المنكب الشمالي لساكب الماء، و الآخر واقع تحت إبطه.

25- سعد الأخبية: المنزل الخامس و العشرون، و علامته أربعة كواكب وقعت على الكفّ اليمنى من ساكب الماء.

26- الفرغ الأول، أو الفرغ المقدّم: المنزل السادس و الشعرون و علامته كوكبان نيّران من كواكب الفرس الأعظم.

27- الفرغ الثاني او الفرغ المؤخّر: المنزل السابع

و العشرون و علامته أيضا كوكبان نيّران من كواكب الفرس الأعظم.

28- بطن الحوت: الثامن و العشرون و علامته كوكب نيّر على رأس المرأة المسلسلة.

و هذه المنازل السبعة منازل القمر في فصل الشتاء.

و من أراد التفصيل فليطلبه في المفصّلات في النجوم و الهيئة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 29

و بأنّ أجزاء السبعة الّتي هي العدد الكامل ثمانية و عشرون، فإنّه الحاصل من جمع الواحد الى السبعة على النظم الطبيعي، و هو مرتبة الكمال للعدد.

و بأنّ مراتب الأعداد الّتي يعبّر عنها بالحروف تسعة للآحاد، و تسعة للعشرات، و تسعة للمئات، و واحد للألف.

و بأنّ الأصل في الموجودات كلّها الطبائع الأربع الّتي ظهرت في الأكوار السبعة، و هي الأيّام الستّة الّتي خلق اللّه فيها السماوات و الأرض، و اليوم السابع الّذي أكملها فيه، فلمّا ظهرت تلك الطبائع في هذه المراتب على حسبها في الشدّة و الضعف صارت لكلّ طبيعة سبع طبقات في قوّتها و ضعفها، فكان تمام الأمر في ثمانية و عشرين، و الحروف اللفظية على طبقها، و لذا قسمت على أربعة أقسام:

نارية، و هوائيّة، و مائية، و ترابيّة، و قسم كلّ منها سبعة أقسام الى آخر ما ذكروه «1».

__________________________________________________

(1) الحروف النارية: ا ه ط م ف ش ذ.

و الحروف الهوائية: ب و ي ن ص ت ض.

و الحروف المائية: ج ز ك س ق ث ظ.

و الحروف الترابية: د ح ل ع ر خ غ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 30

و بأنّ الأصل و العلة في إحداث الموجودات و إبرازها ظهور الإسم الأعظم الظاهر في الأركان الأربعة الّتي حدود بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*، كما

قال مولانا موسى بن جعفر عليهما السّلام: إنّ الإسم الأعظم أربعة أحرف: الحرف

الأوّل لا إله إلّا اللّه، و الحرف الثاني محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الحرف الثالث نحن و الرابع شيعتنا.

و لمّا كانت الأشياء بنيت على الكمال، و حدّ الكمال في الأعداد سبعة فكانت مراتب الأشياء سبعة، و لكلّ من هذه الأربعة يجب أن يكون ظهور في كلّ من هذه السبعة فكان تمام الوجود و كماله بثمانية و عشرين مرتبة، و كل مرتبة حرف من حروف الكلمة التامّة الكونيّة الوجودية الّتي تعلّق بها الكلمة التامّة الفعلية، و الحروف اللّفظية صفة للحروف الكونية المعنويّة، فوجب أن تطابقها و لا تخالفها.

و لا يخفى عليك أنّ هذه الوجوه كلّها استحسانات اعتبارية، و اعتبارات جعليّة لا ينبغي الإصغاء إليها، فضلا عن الاعتماد عليها «1».

نعم قد يقال: إنّ الألف الليّنة هي مادّة الموادّ لجميع الحروف، من حيث إنّه الصوت الممتدّ في الفضاء من غير تقطيع، فبأنواع التقطيع و انحائها يتنوّع منه الحروف، فهو الأصل فيها، و كلّ منها إنّما يتحصّل بظهوره في الصور الكثيرة.

و لعلّه هو المراد بقول مولانا الصادق عليه السّلام فيما رواه الثعلبي عنه على ما يأتي

__________________________________________________

(1) و إلّا فيمكن الاستدلال لمن يقول بأنّها تسع و عشرون بأنّ الألف الليّنة غير المتحركة بدليل اختلاف مخرجهما، و ثانيا يحتمل أنّ كون (الم) في أول سورة البقرة دليلا على أنّ الحروف الّتي تركّب عنها القرآن تكون تسع و عشرين لأنّ: عدد آلاف و اللام و الميم بحساب الأبجد الوضعي يكون تسع و عشرين لأنّ عدد الالف: (12) و عدد اللام: (8) و عدد الميم: (9).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 31

في البحث السابع من عدّ الصفات الستّة للألف

الى أن قال عليه السّلام: و

معناه من الألفة، فكما أنّ اللّه تعالى سبب الفة الخلق فكذلك الألف عليه تألّفت الحروف و هو سبب ألفتها «1».

كما انّه هو المراد أيضا بقول بعضهم: إنّ الحروف الثمانية و العشرين أولاد تولّدت من أب واحد و امّهات شتّى، فإذا لوحظت الأولاد فهي ثمانية و عشرون، و إذا لوحظ الأب معها كانت تسعة و عشرين، و لذا ورد الخبر بهما معا، و ذلك كما ربّما يعدّ الأئمة الإثنى عشر عليهم السّلام، و قد يعدّ معهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ابنته الصديقة الطاهرة سلام اللّه عليها فيقال: إنّهم أربعة عشر.

و أمّا اختيار خصوص اللام للتوصّل إلى التلفّظ بالألف الّتي لا تقبل الحركة فيمتنع الابتداء بها، فقد يعلّل بأنها الأصل في حروف العلّة، بل العلّة المادية لسائر الحروف فيناسب تركّبها مع الحرف الحاصل لقوى تمام القابليّة و هي ثلاثون، مع أنّها في هذه الرتبة بعد عدّ تسعة و عشرين.

و بأنّ كلّا منهما قلب الآخر.

و بأنّهم عوّضوه من التوصّل باللام الساكنة الّتي للتعريف.

و الأولى من الجميع الاستناد فيها الى ما مرّ من خبر أبي ذر، و ما يأتي من الأخبار المتضمّنة لمعاني الحروف.

و روي في بعض كتب علم الحروف عن مولانا سيد الشهداء عليه السّلام أنّه قال: علم الحروف في لام ألف، و علم لام ألف في الألف، و علم الألف في النقطة، و علم النقطة في المعرفة الأصلية، و علم المعرفة الأصلية في علم الأزل، و علم الأزل في المشيّة

__________________________________________________

(1) مستدرك سفينة البحار ج 1 ص 169.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 32

أي المعلوم، و علم المشيّة في غيب الهويّة، و هو الّذي دعى اللّه إليه نبيّه قال تعالى:

فَاعْلَمْ أَنَّهُ «1»

... و الهاء راجع الى غيب الهويّة «2».

ثمّ إنّ هذه الحروف هي المستعملة في اللغة العربية الّتي هي الأصل في اللغات و الألسنة و الكتب الإلهية على ما تأتي الإشارة اليه في موضعه، و امّا غيرها من اللغات فربما يستعملون بعضها، و ربما يزيدون عليها كما

قال مولانا الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء: و العبارات كلّها من اللّه عزّ و جلّ علّمها خلقه و هي ثلاثة و ثلاثون حرفا، فمنها ثمانية و عشرون حرفا تدلّ على اللغات العربية، و من الثمانية و العشرين اثنان و عشرون حرفا تدلّ على اللغات السريانية و العبرانيّة، و منها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلّها، و هي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية و العشرين الحروف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة و ثلاثين حرفا، فأمّا الخمسة المختلفة فبحجج لا يجوز ذكرها اكثر مما ذكرناه «3».

أقول: و هذه الخمسة المتحرّفة هي الپاء «4»، و الچيم «5»، و الژاي «6»، و التاء الهندية. و الگاف «7». و هي الّتي تحرّفت من الثمانية و العشرين في اللغة العجميّة الّتي يراد بها ما سوى العربية مطلقا.

لكنّه قد يقال: إنّ الّذي وجدناه بالتتبّع في الحروف المتحرفة في اللغات

__________________________________________________

(1) سورة محمد (ص): 19.

(2) ينابيع المودة لذوي القربى ج 3 ص 198.

(3) التوحيد ص 318 و العيون ج 1 ص 169 و عنهما البحار ج 57 ص 50.

(4) مثل «پياده» بمعنى الراجل.

(5) نحو «چه ميگويى» أي ماذا تقول.

(6) مثل «ژاله» أي الندى، الطلّ، المطر الضعيف.

(7) مثل «بگو» أي قل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 33

وجدنا اكثر من ذلك.

و أمّا قوله عليه السّلام: (فبحجج) فقد

يقال: إنّ الموجود في النسخ فبحجج: جمع الحجّة أي بعلل و أسباب من انحراف لهجات الخلق، و اختلاف منطقهم.

أو أنّ الأظهر أنّه عليه السّلام ذكر تلك الحروف فاشتبه على الرواة و صحّفوها.

و قد يقال: انّه مضارع ثلاثي من الخجّ (بالخاء المعجمة و الجيم) بمعنى الالتواء و الدفع و النسف في التراب، و يكون حاصل معناه أنّ هذه الخمسة ينبغي أن تدفع و تنسف في التراب لاستهجان التلفظ بها في لغة العرب.

أو انّها من باب التفعيل بالخاء المعجمة أيضا بمعنى الإخفاء في النفس أي هذه الخمسة ينبغي أن تخفى في النفس.

البحث الثالث: انقسام الحروف

ربما تنقسم الحروف باعتبارات شتّى الى اقسام مختلفة:

كانقسامها الى الحروف العليّة و الدنيّة، فالعليّة ما كان قوامها بالألف مع اختتامها مطلقا أو وصلا بالهمزة، و هي أحد عشر حرفا يجمعها: (خطير ثبت حفظه) و الدنيّة ما لم يختتم بالهمزة و هي سبعة عشر حرفا، و منها الزاي لاختتامها بالياء.

و الى القمرية و الشمسية، فالقمرية ما يظهر لام التعريف عندها من دون إدغام، و هي اربعة عشر حرفا يجمعها قولك: (ابغ حجك و خف عقيمه)، و الشمسيّة بخلافها كما في اللفظتين فهو من تسمية الكل باسم الجزء.

و الى ناطقة معجمة، و صامتة عارية عن النقطة، و الصوامت ثلاثة عشر، و إن قلنا بمغايرة الالف للهمزة فأربعة عشر، و على الوجهين فالنواطق أزيد، و لذا سمّي الكلّ بالمعجم تغليبا، أو الإعجام هو الإبهام و الهمزة للسلب، فبالنقطة تزول عجمته.

و تنقسم أيضا الى النورانية و الظلمانية، و الروحيّة و الجسميّة، و الحارة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 34

و الباردة، و الرطبة و اليابسة، و غير ذلك من الأقسام الّتي ينبغي الرجوع فيها الى أرباب تلك الصناعة.

إنّما الكلام في

المقام في انقسامها الى النورانيّة و الظلمانية فالنورانية هي المقطّعات في فواتح السور و هي أربعة عشر حرفا بعد حذف المكرّرات يجمعها قولك: «صراط عليّ حقّ نمسكه»، أو «عليّ صراط حقّ نمسكه».

و تنقسم النورانية أيضا الى عليّ و أعلى، فالعليّ سبعة يجمعها قولك: طريق سمح» و الأعلى أيضا سبعة يجمعها «صانعك له» فالمجموع «صانعك له طريق سمح».

و تسمية تلك الحروف بالنورانيّة في مصطلح القوم إنّما هو لشرف الإختصاص بالافتتاح، و ان كان ذلك لخواصّ واقعيّة، و منح ربانيّة تختصّ بها دون غيرها.

نعم قد ذكر بعضهم أنّها مختصّة بمزايا لا تكاد بجملتها في غيرها، مثل أنّ مجموع الحروف النورانيّة الواقعة في الفواتح على تكرار الحروف ثمانية و سبعون حرفا، و هي مع كونها نصف الحروف كأنّها قائمة مقام جميعها، لأنّ عدد هجاء حروف المعجم التسعة و العشرين مجموعه ثمانية و سبعون.

و أنّه ليس اسم من اسماء اللّه تعالى الا و فيه من هذه الحروف النورانية، و ليس شي ء من الأسماء خلوا منها إلّا اسمه «الودود»، و له سرّ غريب عند أهله.

و أنّ الحروف الظلمانية لا ينتظم منها كلام عربي تامّ و هي: (غ ض ش ج ب ث خ ذ و ز د ف ت ظ) بخلاف الحروف النورانية الّتي يتألّف منها أنواع من الكلم التامة حسبما سمعت.

و أنّك إذا استقريت الكلم و تراكيبها رأيت هذه الحروف اكثر وقوعا و أشيع دورانا في تراكيب الكلم من الحروف الّتي لم يجر لها ذكر في الفواتح.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 35

بل قد يؤيّد ذلك بأنّ الألف و اللام لمّا تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين كما في التسع من البقرة الى الحجر، و في

الروم، و العنكبوت، و لقمان، و السجدة.

و أنّ هذه الحروف الأربعة عشر إذا تأمّل فيها المتأمّل وجدها مشتملة على أنصاف أصناف الحروف.

إمّا تحقيقا كما في الحروف المهموسة الّتي يضعف الاعتماد على مخرجها تجمعها (فحثّه شخص سكت) «1» نصفها: (ح ه ص س ك).

و فيها من المجهورة الّتي هي البواقي نصفها: (ل ن ي ق ط ع ا م ر).

و فيها من الشديدة الّتي ينحصر فيها جري الصوت عند مخرجه و هي الثمانية المجموعة في (أجدت قطبك) نصفها: (ا ق ط ك).

و فيها من ضدّ الشديدة أي الرخوة الّتي هي بواقي الحروف نصفها: (ح م س ع ن ص ل ي ر ه).

و فيها من المطبقة و هي الّتي ينطبق فيها اللسان على الحنك الأعلى فينحصر الصوت حينئذ بين اللسان و ما حاذاه من الحنك الأعلى، و هي: (الصاد، و الضاد، و الطاء، و الظاء) نصفها: (ص ط).

و فيها من البواقي الّتي هي ضدّها المسماة بالمنفتحة نصفها: (ا ل ح ق ن ي م ع س ك ر ه).

و إما تقريبا كما في المستعلية الّتي يتصعّد الصوت بها في الحنك الأعلى و هي سبعة: (ق ص ض ط ظ خ ع) و لا نصف لها تحقيقا، و فيها أربعة منها و هي:

__________________________________________________

(1) و تجمعها أيضا: (ستحثك خصفه) الخصفة اسم امراة و معنى الجملة: ستصرّ خصفه في سؤالها عنك.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 36

(ق ص ط ع).

و كما في حروف القلقلة و هي خمسة مجتمعة في (قد طبج) و فيها اثنان منها و هما: (ق ط).

الى غير ذلك من أصناف الحروف على ما حرّره القاضي «1» تبعا للزمخشري «2» و غيره.

و يظهر بالتأمل فيما

مرّ و غيره أنّ تخصيص تلك الحروف مع ما هي عليها من الخواصّ و المزايا سيّما إذا وقع من الأمّي الّذي لم يعهد له دراسة و لا كتابة و لا خلطة مع أرباب تلك الصناعة مشتمل على ضرب من الإعجاز.

البحث الرابع: اشتمال الحروف على علوم جمّة
اشارة

في اشتمال الحروف على العلوم الجمّة، و المقاصد المهمّة.

اعلم أنّ هذه الحروف المثاليّة الكلية هيولا قابلة لصور جميع المعاني الكليّة و الجزئية، و هي مفاتيح الإلهيّة للخزائن الغيبيّة يؤلّفها من ائتمنه اللّه على سرّه، و اطّلعه على غيبه فيفتح بها الأبواب الّتي ينفتح من كلّ منها ألف باب، كما يستفاد ممّا يمرّ عليك من الأخبار.

بل

ورد في تفسير قوله: (الم)* و (عسق). و غيرهما أنّها من حروف اسم اللّه

__________________________________________________

(1) هو ناصر الدين أبو الخير عبد اللّه بن عمر القاضي البيضاوي الشافعي المفسّر المتوفّى (685) ه.

(2) هو ابو القاسم جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي المولود (467) و المتوفّى (538) و ما أشار المصنّف اليه مذكور في الكشاف للزمخشري ج 1 ص 101- 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 37

الأعظم المقطع في القرآن الّذي يؤلّفه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو الامام عليه السّلام فإذا دعا به أجيب «1».

و لذا نسبوا علم الحروف و الجفر الى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و الى ذريّته الطيّبين صلوات اللّه عليهم أجمعين، كما نطقت به الأخبار الكثيرة الّتي يضيق عن التعرض لها نطاق الكلام في المقام، بل هو المسلّم عند الخاصّ و العامّ، كما وقع التصريح به كثيرا في كلمات العامّة «2».

و قد مرّت عبارة السيّد الشريف في المقدّمة الاولى من هذا التفسير «3».

و عن الغزالي في «سرّ المصون و الجوهر المكنون»

أنّ كتابه هذا مشتمل على لوح المثلّث و مستخرج مما جمعه مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في كتابه المسمّى بجفر جامع الدنيا و الآخرة، و لم يطّلع على كشف خفايا ما فيه من الأسرار النورانيّة و الأنوار الربانيّة الّا سبطه جعفر الصادق عليه السّلام.

و كتب مولانا الرضا عليه السّلام في آخر ما كتبه بعد ما أخذ المأمون له ولاية العهد:

«و الجفر و الجامعة يدلّان على ضدّ ذلك، وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يقضي بالحقّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ، لكنّي امتثلت أمر أمير المؤمنين، و آثرت

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار باب معنى الحروف المقطعة في القرآن ص 23.

(2) قال القندوزي الحنفي في «الينابيع» ص 414 ط اسلامبول: عليّ أوّل من وضع مربّعا في مائة في الإسلام و قد صنّف الجفر الجامع في أسرار الحروف ... إلخ و نقل عن ابن طلحة الشافعي في الدر المنظم أنه قال: جفر الامام علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه و هو ألف و سبعمائة مصدر من مفاتيح العلوم المعروف بالجفر الجامع و قال العلّامة الأمر تسرى في أرجح المطالب ص 163 ط لاهور: علم الجفر و الحساب كان لعليّ عليه السّلام.

(3) ج 1 من الصراط المستقيم ص 35 ط طهران انتشارات الصدر: قال المحقق الشريف في شرح المواقف: الجفر و الجامعة كتابان لعلي عليه السّلام قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث ... الى انقراض العالم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 38

رضاه، و اللّه يعصمني و ايّاه «1» ....

قال الإربلي «2» في «كشف الغمّة»: رأيت خطّه عليه السّلام في واسط سنة سبع و سبعين و ستّمائة (677)

«3».

قيل: و منه استنباط فتح بيت المقدس في شهور سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة (583) من قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ ... إلى قوله تعالى: فِي بِضْعِ سِنِينَ «4»، كما ذكره في الباب الثاني من الفتوحات «5».

__________________________________________________

(1) كشف الغمّة ج 3 ص 179 و عنه البحار ج 49 ص 153.

(2) الإربلي: علي بن عيسى بن ابي الفتح أبو الحسن بهاء الدين الأديب المؤرّخ كان حيّا في سنة (687) و له مصنّفات منها كشف الغمّة في معرفة الأئمة.

(3) كشف الغمّة ج 3 ص 180 و عنه البحار ج 49 ص 154.

(4) سورة الروم: 1- 4.

(5) قال ابن عربي في الفتوحات ج 1 ص 60: إنّ البضع الّذي في سورة الروم ثمانية و خذ عدد (الم) بالجمل الصغير فتكون ثمانية. فتجمعها الى ثمانية البضع فتكون ستّة عشر، فتزيل الواحد الّذي للألف للاسّ فيبقى خمسة عشر، فتمسكها عندك ثم ترجع الى العمل في ذلك بالجمل الكبير فتضرب ثمانية البضع في أحد و سبعين و أجعل ذلك كلّه سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة و ثمانية و ستّون فتضيف إليها الخمسة عشر الّتي أمرتك أن ترفعها فتصير ثلاثة و ثمانين و خمسمائة سنة و هو زمان فتح بيت المقدس على قراءة من قرأ غلبت بفتح الغين و اللام و سيغلبون بضمّ الياء و فتح اللام.

و لا يخفى على المتأمّل ما في كلام صاحب «الفتوحات» حيث أتعب نفسه و تفوّه بكلمات واهية ليثبت أن ما اخبر اللّه سبحانه إشارة الى فتح بيت المقدس في سنة (583) و استدلّ لما رامه بالحروف و أعدادها الصغيرة و الكبيرة، و جمعها و ضربها و حذف واحد منها

بلا دليل، ثم التشبّث بقرائة شاذّة حتى ينطبق مع التاريخ المذكور الّذي فيه فتح اللّه سبحانه بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيّوبي يوسف بن أيّوب بن شادي.

و من نظر في كتب التفاسير للفريقين يعلم أنّ ما استخرجه الرّجل مخالف لمقالات كلّ المفسّرين الخاصّة و العامّة.

نعم أنّه تبع في مقالته أبا الحكم عبد السّلام بن عبد الرّحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي المعروف بابن برّجان المتصوّف المتوفّى (536) ه و له كتاب في تفسير القرآن، أكثر كلامه فيه على طريق الصوفيّة.

قال صاحب الفتوحات في ج 1 ص 59: جملتها: فواتح السور) على تكرارها ثمانية و سبعون حرفا فالثمانية حقيقة البضع، قال عليه السّلام: «الإيمان بضع و سبعون» و هذه الحروف (78) حرفا، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقايق هذه الحروف في سورها.

فإن قلت إنّ البضع مجهول في اللسان فإنّه من واحد الى تسعة، فمن أين قطعت بالثمانية عليه، فإن شئت قلت لك من طريق الكشف وصلت اليه فهو الطريق الّذي عليه أسلك و الركن الّذي اليه أستند في علومى كلّها، و إن شئت أبديت لك طرفا من باب العدد.

و إن كان أبو الحكم عبد السّلام بن برّجان لم يذكره في كتابه من هذا الباب الّذي نذكره، و إنّما ذكره من جهة علم الفلك، و جعله سترا على كشفه حين قطع بفتح بيت المقدّس سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة، فكذلك إن شئنا نحن كشفنا، و إن شئنا جعلنا العدد على ذلك حجابا، فنقول:

إنّ البضع في سورة الروم ثمانية، و خذ عدد (الم) ... إلى آخر ما نقلناه عنه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 39

و عن ابن العبّاس: أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام كان

يستخرج الفتن و الحوادث من (حم عسق).

و عن تفسير الثعلبي، و رسائل القشيري: أنّه لمّا نزلت هذه الآية ظهر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحزن و الكآبة فقيل له في ذلك؟ فقال: نبّئت عن فتن تكون في آخر الزمان من خسف، و قذف، و نار تجمعهم، و ريح تسوقهم، و علامات بعد علامات.

و سئل مولانا أبو عبد اللّه الحسين عليه السّلام عن (كهيعص) فقال عليه السّلام: (لو أخبرتكم به لمشيتم على الماء).

و روي عن الباقر عليه السّلام أنّ كل شي ء في (عسق).

و روى الصفّار بالإسناد عن أبان بن تغلب، و المفيد في الاختصاص عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 40

الحلبي، و الكليني عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليهم السّلام، و اللفظ للأوّل، قال: كان في ذؤابة سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صحيفة صغيرة، و انّ عليّا عليه السّلام دعا ابنه الحسن عليه السّلام فدفعها إليه، و دفع إليه سكّينا و قال له: افتحها فلم يستطع فتحها، ففتحها له، ثمّ قال له: اقرأ، فقرأ الحسن عليه السّلام: الألف، و الباء، و السين، و اللام، و حرفا بعد حرف، ثمّ طواها، فدفعها الى ابنه الحسين عليه السّلام فلم يقدر أن يفتحها، ففتحها له فقال له: اقرأ يا بنيّ فقرأها كما قرأ الحسن عليه السّلام ثمّ طواها فدفعها الى ابنه ابن الحنفيّة فلم يقدر على ان يفتحها ففتحها له، فقال له: اقرأ فلم يستخرج منها شيئا، فأخذها علي عليه السّلام و طواها، ثمّ علّقها من ذؤابة السيف.

قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أيّ شي ء كان في تلك الصحيفة؟ قال: هي الأحرف الّتي يفتح كل

حرف ألف حرف.

قال أبو بصير: قال ابو عبد اللّه عليه السّلام: فما خرج منها إلّا حرفان الى الساعة «1».

أقول: و لعلّ عدم قدرة الحسنين عليهما السّلام على فتحها لعدم انتقال الوصاية الفعليّة إليهما في حياة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و إن كانا ممنوحين حينئذ بالعلم و العصمة، و لذا قدرا على قراءتها.

و أما محمّد بن الحنفيّة فحيث لم يكن له علم الامامة لم يقدر على قراءة شي ء منها، و كأنّه للتنبيه على جهله و عدم استحقاقه للامامة كيلا ينازعهما فيها و لا المعصومين من ذرية الحسين عليهم السّلام.

و أمّا قصّته مع علي بن الحسين عليهما السّلام حتى استشهدا من الحجر الأسود فكأنه إنّما وقع لردع الناس كما ورد في بعض الأخبار «2».

__________________________________________________

(1) بصائر الدرجات ص 307 باب فيه الحروف الّتي علّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام.

(2) إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات ج 3 ص 6- 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 41

الحروف المقطّعة في القرآن

روى العيّاشي في تفسيره عن أبي لبيد المخزومي عن مولانا الباقر عليه السّلام قال:

قال عليه السّلام: «إنّ في حروف القرآن المقطّعة لعلما جمّا إنّ اللّه تعالى أنزل «الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» فقام محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى ظهر نوره، و ثبتت كلمته، و ولد يوم ولد و قد مضى من الألف السابع مائة سنة و ثلاث سنين.

ثم قال عليه السّلام: و تبيانه في كتاب اللّه تعالى في الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار، و ليس في الحروف المقطّعة حرف ينقضي الا و قيام قائم من بني هاشم عند انقضائه.

ثم قال عليه السّلام: الألف واحد، و اللام

ثلاثون و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فذلك مائة و إحدى و ستون. ثمّ كان بدو خروج الحسين عليه السّلام الم اللَّهُ، فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العبّاس عند المص، و يقوم قائمنا عند انقضائها ب الر* فافهم ذلك و عه و اكتمه «1».

أقول: لا يخفى أنّ الألوف الستّة الماضية ليست بالنسبة الى بدو خلق العالم، و لا خلق الأفلاك و الكواكب و لا حركتها لأنّها اكثر من ذلك بكثير، بل من خلق أبينا آدم على نبيّنا و آله و عليه السّلام أو هبوطه، أو إنزال الصحيفة و الشريعة عليه، و ان كان الأوسط أوسط، و يستفاد منه أنّ السنة الأولى من كلّ ألف سنة مبدأ تاريخ، فلمّا كملت ستّة آلاف سنة و انقضت من الدورة السابعة مائة و ثلاث سنين تولّد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي ج 2 ص ح 3 و عنه بحار الأنوار ج 52 ص 106 ح 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 42

و الإمام عليه السّلام بيّن بأنّه يمكن استنباط هذا التاريخ من جميع الحروف المبسوطة في فواتح السور بعد إسقاط الفواتح المكررة، دون الحروف المكررة.

هكذا: ألف لام ميم- ألف لام ميم صاد- ألف لام را- ألف لام ميم را- كاف ها يا عين صاد- طا ها-- طا سين ميم- طا سين- يا سين- صاد- حا ميم- حا ميم عين سين قاف- قاف- نون- فجميع هذه الحروف المستنطقة مائة و ثلاث.

قوله عليه السّلام: «و ليس من حروف مقطعة حرف ينقضي الا و قيام قائم من بنى هاشم عند انقضائه»

المراد بالحرف نوعه الشامل لكل فاتحة من الفواتح و إن كانت مشتملة على حروف فابتداء

دولة بني هاشم من عبد المطلب، و من ظهور دولة عبد المطلب الى دولة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إحدى و سبعون سنة كما ذكره بعض «1» الأعلام في المقام، و هو المشار اليه «ب الم» البقرة.

و أمّا الم آل عمران فإشارة الى خروج الحسين عليه السّلام، إذ من رواج دولة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى وقت خروجه عليه السّلام أحد و سبعون سنة تقريبا، فإنّ بعثته كانت قبل الهجرة نحوا من ثلاث عشرة سنة، و كان شيوع أمره و ظهوره بعد سنتين من البعثة.

و كان خروج الحسين عليه السّلام في أواخر سنة ستّين من الهجرة.

و أمّا المص فهو إشارة الى دولة بني العباس، كما أشار اليه الصادق عليه السّلام فيما

رواه الصدوق في «معاني الأخبار» مسندا عن رحمة بن صدقة قال: أتى رجل من بني اميّة، و كان زنديقا الى جعفر بن محمّد عليهما السّلام فقال له: قول اللّه في كتابه: المص __________________________________________________

(1) هو العلّامة المجلسي قدّس سرّه في بحار الأنوار ج 52 ص 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 43

أيّ شي ء أراد بهذا، و أيّ شي ء فيه من الحلال و الحرام، و أيّ شي ء في ذا ممّا ينتفع به الناس؟ قال فاغتاض لذلك جعفر بن محمّد عليهما السّلام فقال: أمسك ويحك الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد ستّون، كم معك؟ فقال الرّجل: أحد و ثلاثون و مائة، فقال جعفر بن محمد عليهما السّلام: إذا انقضت سنة إحدى و ثلاثين و مائة انقضى ملك أصحابك.

قال: فنظرنا فلمّا انقضت إحدى و ستّون و مائة يوم عاشوراء دخل المسوّدة «1» الكوفة و ذهب ملكهم «2».

أقول:

و لعلّه مبنيّ على حساب المغاربة كما قيل «3»، فإنّ ترتيب أبجد عندهم:

أبجد- هوز- حطي- كلمن- صعفض- قرست- ثخذ- ظعش-.

فالصاد المهملة عندهم ستّون، و حينئذ يستقيم إذا بني على البعثة، أو نزول الآية كما قيل «4».

و أمّا لو بني على ما هو المعروف من ترتيب أبي جاد فلا يستقيم، لأن عدد الحروف حينئذ أحد و ستّون و مائة، و الموجود في اكثر نسخ الكتاب أحد و ثلاثون و مائة، مع أنّه لا يتمّ حينئذ على تاريخ الهجرة، و لا على تاريخ عام الفيل، و لا على مدّة ملكهم لكونه ألف شهر.

و أمّا في ذيل

خبر أبي لبيد: «و يقوم قائمنا عند انقضائها «ب الر*» فقد تكلّم فيه

__________________________________________________

(1) المسوّده (بكسر الواو): لابسوا السواد و المراد أصحاب الدعوة العباسيّة لأنهم يلبسون ثيابا سوداء.

(2) رواه: البحار ج 19 ص 92 ط الكمباني عن العياشي في تفسيره ج 2 ص 1.

(3) احتمله المجلسي في البحار ج 53 ص 108 و ج 19 ص 92 ط الكمباني.

(4) المصدر السابق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 44

بعض «1» الأعلام، و ذكر احتمالات كثيرة في المقام مع انقضاء بعضها الى هذا العام، و عدم ظهور الحجّة عليه الصلاة و السّلام لكن الأولى السكوت عمّا سكت اللّه تعالى و أوليائه عنه، و ترك الفحص عمّا حجّبنا عنه حملة العلم و خزّان الوحي، كيلا يكذّبنا الصادق عليه السّلام

بقوله: كذب الوقّاتون.

فالأولى ترك البحث عنه و عمّا

وجد بخطّ الامام أبي محمد العسكري عليهما السّلام على ما رواه في البحار، من كتاب «المحتضر» للحسن بن سليمان تلميذ الشهيد الثاني، و فيه: «قد صعدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوّة و الولاية». الى أن قال:

و

سيسفر، و في بعض النسخ: و سيفجّر لهم، أي لشيعتهم، ينابيع الحيوان بعد لظى النيران لتمام الروطه و طواسين من السنين «2».

لأنّ العلم بمعرفته و استنباطه مختصّ بهم و بمن منحوه علمه من شعيتهم.

مضافا الى احتمال تطرق البداء فيما أريد به من الاحتمالات.

بل

في كتاب الغيبة للشيخ النعماني في الصحيح عن ابي حمزة الثمالي قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ عليا عليه السّلام كان يقول: الى السبعين بلاء، و كان يقول: بعد البلاء رخاء، و قد مضت السبعون و لم نر رخاء.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: يا ثابت إنّ اللّه تعالى كان وقّت هذا الأمر في السبعين، فلمّا قتل الحسين عليه السّلام اشتدّ غضب اللّه تعالى على اهل الأرض فأخّره الى أربعين و مائة سنة فحدّثناكم فأذعتم الحديث، و كشفتم قناع الستر فأخّره اللّه و لم يجعل له بعد ذلك وقتا عندنا، و يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «3» __________________________________________________

(1) هو العلامة المجلسي قدّس سره في البحار ج 52 ص 108- 109.

(2) بحار الأنوار ج 26 ص 265.

(3) الرعد: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 45

قال ابو حمزه: و قلت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال: قد كان ذاك «1».

و لكن نحن نردّ علم هذا الخبر أيضا إليهم عليهم السّلام.

و بالجملة فلا يصلح التعويل على شي ء من محتملات الخبرين رجما بالغيب من دون بيّنة واضحة على ذلك، و لذا أبطل أمير المؤمنين عليه السّلام مقالة اليهود في استنباطهم لمدّة الدّولة النبويّة الخاتميّة من هذه الحروف المقطّعة، كما رواه الإمام عليه السّلام في تفسيره.

و رواه الصدوق في «المعاني»، قال عليه السّلام: ثمّ اليهود يحرّفونه عن جهته، و

يتأولونه على غير وجهه، و يتعاطون التوصّل الى علم ما قد طواه اللّه عنهم من حال أجل هذه الامّة و كم مدّة ملكهم فجاء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم جماعة، فولّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام لمخاطبتهم، فقال قائلهم: إن كان ما يقول محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حقا فقد علّمناكم قدر ملك امّته، هو احدى و سبعون سنة: الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون.

فقال علي عليه السّلام: فما تصنعون بالمص و قد أنزلت عليه؟ قالوا: هذه إحدى و ستّون و مائة سنة قال عليه السّلام: فماذا تصنعون «ب الر*»؟ و قد أنزلت عليه، فقالوا: هذه أكثر، هذه مائتان و احدى و ثلاثون سنة، فقال عليّ عليه السّلام: فما تصنعون «ب المر»؟ قالوا: هذه مائتان و إحدى و سبعون سنة.

فقال عليّ عليه السّلام: فواحدة من هذه له، أو جميعها له؟

فاختلط كلامهم، فبعضهم قال: له واحدة منها، و بعضهم قال: بل يجمع له كلّها و ذلك سبعمائة و أربع و ثلاثون سنة، ثم يرجع الملك إلينا، يعني الى اليهود.

فقال عليّ عليه السّلام: أ كتاب من كتب اللّه نطق بهذا، أم آراؤكم دلّتكم عليه؟ فقال

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 52 ص 105 ح 11 عن كتاب الغيبة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 46

بعضهم كتاب اللّه نطق به، و قال آخرون منهم: بل آراؤنا دلّت عليه.

فقال عليه السّلام فأتوا بالكتاب من عند اللّه ينطق بما تقولون، فعجزوا عن إيراد ذلك، و قال للآخرين: فدلّونا على صواب هذا الرأي، فقالوا: صواب رأينا دليله أنّ هذا حساب الجمّل.

فقال عليه السّلام: كيف

دلّ على ما تقولون و ليس في هذه الحروف ما اقترحتم بلا بيان (و في نسخة: و ليس في هذه الحروف دلالة على ما اقترحتموه)، أ رايتم إن قيل لكم: إنّ هذه الحروف ليست دالّة على هذه المدّة لملك امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لكنها دالّة على أنّ كلّ واحد منكم قد لعن بعدد هذا الحساب، أو أنّ عند كلّ واحد منكم دينا مثل عدد هذا الحساب؟ قالوا: يا أبا الحسن ليس شي ء مما ذكرته منصوصا عليه في الم*، و المص، و الر* و المر.

فقال عليّ عليه السّلام: و لا شي ء مما ذكرتموه منصوص عليه في الم*، و المص، و الر*، و المر، فإن بطل قولنا لما قلتم بطل قولكم لما قلنا «1» ...

الى آخر ما يأتي ان شاء اللّه من تتمة الخبر في تفسير قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 10 ص 16- 17 عن معاني الاخبار ص 12- 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 47

البحث الخامس دلالة الحروف قبل التركيب

ربما يتوهّم أنّ الحروف المفردة قبل التركيب و الترتيب ليس لها وضع و دلالة على معان أصلا، و أنّ فائدتها منحصرة في تركيب الكلمات منها و طرو الوضع عليها.

و قد يؤيّد ذلك بما

روي في «العيون» و «الاحتجاج» و غيرهما عن مولانا الرضا عليه السّلام في خبر عمران الصابي.

قال الإمام عليه السّلام: و الإبداع سابق للحروف، و الحروف لا تدلّ على غير أنفسها.

قال المأمون: و كيف لا تدلّ على غير أنفسها قال الرضا عليه السّلام: لأنّ اللّه تبارك و تعالى لا يجمع منها شيئا لغير معنى أبدا، فإذا ألّف منها أحرفا أربعة أو خمسة أو ستة، أو أكثر من ذلك أو

أقلّ لم يؤلّفها لغير معنى، و لم يك إلّا لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئا.

قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟ قال الرضا عليه السّلام: أمّا المعرفة فوجه ذلك و بيانه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فردا فقلت: أ ب ت ث ج ح خ ... حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألّفتها و جمعت منها أحرفا و جعلتها اسما و صفة لمعنى ما طلبت و وجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية الى الموصوف بها ...

الخبر «1».

نظرا الى أنّ الدلالة على أنفسها الثابتة قبل التركيب بالفحوى هي تعيين مسمّياتها من النقوش و الألفاظ كما يستفاد ذلك من ملاحظة ذيل الخبر، و لكنّ

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 10 ص 314- 315 ح 1 عن التوحيد و العيون

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 48

الأظهر أنّه لا دلالة في الخبر على ذلك أصلا بل الظاهر منه أنّ سبيل الألفاظ الموضوعة لتلك الحروف أو الحروف أنفسها سبيل الأعلام الشخصيّة الّتي لا يستفاد منها عند إطلاقها غير أنفسها من دون أن نجعلها موضوعات لشي ء من القضايا، أو نحكم عليها بشي ء من الأحكام كما إذا قلت: محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، فإنّ هذه الأسماء الشريفة عند إطلاقها، و عدّها لا تدلّ على غير أنفسها و إن كانت معانيها من أعلى مراتب الوجود مشتملة على شئون لا تحصى و مناقب لا تستقصى.

هذا مضافا إلى الأخبار الكثيرة الدّالة على أنّها من الأسماء الإلهية و النعوت الربانيّة، بل قد ورد الحثّ الأكيد الشديد على معرفة مسمّياتها و معانيها.

ففي المعاني، و الخصال، و الأمالي، و

التوحيد بالإسناد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: سأل عثمان بن عفّان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال يا رسول اللّه ما تفسير أبجد؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تعلّموا تفسير أبجد فإنّ فيه الأعاجيب كلّها ويل لعالم جهل تفسيره، فقيل: يا رسول اللّه ما تفسير أبجد؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا الألف فآلاء اللّه، حرف من أسمائه، و أمّا الباء فبهجة اللّه، و أمّا الجيم فجنّة اللّه و جلال اللّه و جماله، و أمّا الدال فدين اللّه.

و أمّا هوّز فالهاء الهاوية فويل لمن هوى في النار، و أمّا الواو فويل لأهل النّار، و أمّا الزاي فزاوية في النار نعوذ باللّه ممّا في الزاوية يعني زوايا جهنّم.

و أمّا حطّي فالحاء حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر و ما نزل به جبرئيل مع الملائكة الى مطلع الفجر، و أمّا الطاء ف طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ، و هي شجرة غرسها اللّه عزّ و جلّ بيده و نفخ فيها من روحه، و إنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنّة تنبت بالحلي و الحلل و الثمار متدلّية على أفواههم.

و أمّا الياء فيد اللّه فوق خلقه سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ*.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 49

و أمّا كلمن فالكاف كلام اللّه لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ و لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، و أمّا اللام فإلمام أهل الجنّة بينهم في الزيارة و التحيّة و السّلام و تلاوم أهل النّار فيما بينهم، و أمّا الميم فملك اللّه الّذي لا يزول و دوام اللّه الّذي لا يفنى ... و أمّا النون ف ن وَ الْقَلَمِ وَ ما

يَسْطُرُونَ، فالقلم قلم من نور و كتاب من نور فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ... يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ...، وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً*.

و أمّا سعفص فالصاد صاع بصاع، و فصّ بفصّ، يعني الجزاء بالجزاء، و كما تدين تدان، إنّ اللّه لا يريد ظلما بالعباد.

و أمّا قرشت يعني قرشهم فحشرهم و نشرهم إلى يوم القيامة ف قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ «1».

و فيها و في العيون عن مولانا الرضا عليه السّلام قال: إنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ و جلّ ليعرف به خلقه الكتابة حروف المعجم ... إلى أن قال: و لقد حدّثني أبي- عن أبيه- عن جدّه، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم أجمعين في (ا ب ت ث) قال: الألف آلاء اللّه، و الباء بهجة اللّه، و التاء تمام الأمر بقائم آل محمّد، و الثاء ثواب المؤمنين على أعمالهم الصالحة، (ج ح خ) فالجيم جمال اللّه و جلال اللّه، و الحاء حلم اللّه، و الخاء خمول ذكر أهل المعاصي عند اللّه عزّ و جلّ، (د ذ)، فالدال دين اللّه، و الذال من ذي الجلال، (ر، ز)، فالراء من الرءوف الرّحيم، و الزاي زلازل القيامة، (س ش) فالسين سناء اللّه و الشين شاء اللّه ما شاء، و أراد ما أراد، وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ*، (ص ض) فالصاد من صادق الوعد في حمل الناس على الصراط، و حبس الظالمين عند المرصاد، و الضاد ضلّ من خالف محمدا و آل محمّد، (ط ظ) فالطاء طوبى المؤمنين وَ حُسْنُ مَآبٍ*، و الظاء ظنّ المؤمنين باللّه خيرا، و ظنّ الكافرين به سوءا (ع غ)، فالعين من

__________________________________________________

(1) الخصال ج 1 باب الستّة ح 30

تفسير الصراط

المستقيم، ج 4، ص: 50

العالم، و الغين من الغيّ، (ف ق) فالفاء فوج من أفواج النار، و القاف قرآن على اللّه جمعه و قرآنه (ك ل) فالكاف من الكافي، و اللام لعن «1» الكافرين في افتراءهم على اللّه الكذب (م ن) فالميم ملك اللّه يوم لا مالك غيره و يقول عزّ و جلّ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، ثم ينطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، فيقول جلّ جلاله:

الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ «2» و النون نوال اللّه للمؤمنين، و نكاله بالكافرين (و ه) فالواو ويل لمن عصى اللّه، و الهاء هان على اللّه من عصاه (لا ي) فلام ألف لا إله إلّا اللّه، و هي كلمة الإخلاص، ما من عبد قالها مخلصا إلّا وجبت له الجنّة، و الياء يد اللّه فوق خلقه باسطة بالرزق سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ*.

ثمّ قال عليه السّلام إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف الّتي يتداولها جميع العرب، ثم قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «3» «4».

و في التوحيد و الأمالي، و المعاني بالإسناد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السّلام قال: لمّا ولد عيسى بن مريم على نبيّنا و آله و عليه السّلام كان ابن يوم كأنه ابن شهرين، فلمّا كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده و جاءت به الى الكتّاب و أقعدته بين يدي المؤدّب، فقال له المؤدّب: قل بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، فقال عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم،

فقال له المؤدّب:

__________________________________________________

(1) في الأصل: لغو الكافرين

(2) غافر: 17.

(3) الإسراء: 88.

(4) بحار الأنوار ج 3 كتاب العلم ص 315- 319 ح 3 عن المعاني و العيون، و الأمالي، و التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 51

قل: أبجد فرفع عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام رأسه، فقال: هل تدري ما أبجد؟

فعلاه بالدّرّة ليضربه، فقال: يا مؤدّب لا تضربني إن كنت تدري، و إلّا فاسئلني حتّى أفسّر ذلك، فقال: فسّر لي، فقال عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام: أمّا الألف فآلاء اللّه، و الباء بهجة اللّه، و الجيم جمال اللّه، و الدال دين اللّه، (هوّز): الهاء هي هول جهنّم، و الواو: ويل لأهل النار، و الزاي: زفير جهنّم، (حطّي): حطّت الخطايا عن المستغفرين، (كلمن) كلام اللّه لا مبدّل لكلماته، (سعفص): صاع بصاع، و الجزاء بالجزاء، (قرشت): قرشهم «1» فحشرهم.

فقال المؤدّب: أيّتها المرأة خذي بيد ابنك فقد علم، و لا حاجة له في المؤدّب «2».

و في التوحيد و المعاني، عن الكاظم عليه السّلام، عن جدّه الحسين بن علي عليهما السّلام، قال: جاء يهوديّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام فقال له: ما الفائدة في حروف الهجاء؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: أجبه، و قال: اللّهم وفّقه و سدّده فقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: ما من حرف إلّا و هو من أسماء اللّه عزّ و جلّ، ثم قال: أمّا الألف فاللّه الّذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ*، و أمّا الباء فباق بعد فناء خلقه، و أمّا

التاء فالتوّاب يقبل التوبة من عباده، و أمّا الثاء فالثابت الكائن، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، و أمّا الجيم فجلّ ثناؤه و تقدست أسماؤه، و أمّا الحاء فحقّ حيّ حليم، و أمّا الخاء فخبير بما يعمل العباد، و أمّا الدال فديّان الدين، و أما الذال ف ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ، و أمّا الراء فرؤف بعباده، و أمّا الزاي فزين المعبودين (و في نسخة:

__________________________________________________

(1) قرشه يقرشه: قطّعه و جمعه من هاهنا و هاهنا و ضمّ الى بعض.

(2) بحار الأنوار ج 2 كتاب العلم ص 316- 317 ح 1 عن المعاني و الأمالي و التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 52

فزين العابدين) و أمّا السين فالسميع البصير، و أمّا الشين فالشاكر لعباده المؤمنين، و أمّا الصاد فصادق في وعده و وعيده، و أمّا الضاد فالضار النافع، و أمّا الطاء فالطاهر المطهّر، و أمّا الظاء فالظاهر المظهر لآياته، و أمّا العين فعالم بعباده، و أمّا الغين فغياث المستغيثين، و أمّا الفاء ف فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى و أمّا القاف فقادر على جميع خلقه و أمّا الكاف فالكافي الّذي لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ و لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، و أمّا اللام ف لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، أمّا الميم فمالك الملك، و أمّا النون ف نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من نور عرشه، و أما الواو فواحد صمد لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، أمّا الهاء فهاد لخلقه، أمّا اللام ألف فلا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أمّا الياء فيد اللّه باسطة على خلقه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

هذا هو القول الّذي رضي اللّه عزّ و جلّ لنفسه من جميع خلقه،

فأسلم اليهودي «1».

و روي عنهم عليهم السّلام في أدعية التعقيب: «اللهمّ بألف الابتداء، و بباء البهاء، بتاء التأليف، بثاء الثناء، بجيم الجلال، بحاء الحمد، بخاء الخفاء، بدال الدوام، بذال الذكر، براء الربوبيّة، بزاي الزيادة، بسين السّلامة، بشين الشكر، بصاد الصبر، بضاد الضوء، بطاء الطهر، بظاء الظلام، بعين العلم، بغين الغفران، بفاء الفردانيّة، بقاف القدرة، بكاف الكلمة التامّة، بلام اللوح، بميم الملك، بنون النور، بواو الوحدانيّة، بهاء الهيبة، بلام ألف لا إله إلّا أنت، بياء يا ذا الجلال و الإكرام و الدعاء.

و هذه الأخبار يستفاد منها و من غيرها ممّا ورد في تفسير البسملة و فواتح السور و غيرها أن كلّ حرف من الحروف اسم من أسماء الالهيّة المفتتحة بتلك الحروف، و لذا وقع الإختلاف في التعبير من تلك الأسماء.

و به قد يفسّر النفس في قوله: «لا تدلّ على غير نفسها» بناء على أنّها هي النفس الّتي من عرفها فقد عرف اللّه، و هو الحقيقة المشار إليها في

حديث كميل

__________________________________________________

(1) البحار ج 2 ص 318 ح 2، عن المعاني و الأمالي و التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 53

بكشف سبحات الجلال من غير إشارة، و بمحو الموهوم و صحو المعلوم «1»، و هو تجلّيه سبحانه بها لها.

بل قيل: إنّ المستفاد من تضاعيف أخبار الباب هو أنّ كلّ اسم و صفة إلهيّة، و كلّ حادثة ربانيّة مبدوئة بهذه الأحرف، أو مناسبة لها بأتمّ المناسبة فهي دالّة عليها و اسم لها، و إن كان من غير أسماء اللّه تعالى، أو منها و من غيرها كما ورد في تفسير (كهيعص) و (حم عسق)، و غيرهما.

و قد أشرنا فيما أسلفنا، في تفسير الفاتحة أنّ لكلّ اسم وجها و

قلبا و ربّما يعبّر بكلّ منهما، فوجه الكلمة حرفها الأوّل، و قلبها حرفها الأوسط، و الحروف الّتي هي وجوه الكلمات و قلوبها دلالات و إشارات الى الحقائق الكليّة، و المعارف الإلهيّة، و مصالح العباد، و جزئيّات المبدء و المعاد، يعرفها من يعرفها، و يستنكرها من يجهلها و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام في جواب أهل فلسطين حيث سأله وفدهم عن تفسير الصَّمَدُ فأجاب عليه السّلام بتفسير حروفه الخمسة الّتي هي وجوه الكلمات إلى أن قال: لو وجدت لعلمي الّذي آتاني اللّه عزّ و جلّ حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الإيمان، و الدين و الشرائع من الصمد، و كيف لي بذلك، و لم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه حتّى كان يتنفّس الصعداء و يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني «2».

قال بعض المحققين: إنّ قوله هذا ليس خاصّا بالصمد، بل كلّ كلمات اللّه عزّ و جلّ على هذا النحو،

__________________________________________________

(1) سفينة البحار ج 2 ص 603 و فيه: قال المجلسي: هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة.

(2) بحار الأنوار ج 3 ص 225 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 54

و كما أنّ للوليّ المطلق أن يستخرج من كلمة الصمد كلّما يحتاج إليه الخلق، فكذلك سائر كلمات اللّه تعالى للولي المطلق أن يستخرج من كلّ كلمة منها كلّما يحتاج إليه الخلق، نعم لاستنباطها طرق خاصّة مختصة بهم لا يشاركهم في علمها غيرهم، و لذا قال سبحانه: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1».

البحث السادس دلالة الحروف و الألفاظ على مدلولاتها هل هو بالوضع أو ذاتي
اشارة

قد ظهر ممّا مرّ أنّ للحروف الّتي هي أسماء لمسميّاتها قبل التركيب دلالات على مداليل جزئيّة و كلّية، نوعيّة

أو جنسيّة ناشئة من وضع الواضع الّذي هو اللّه تعالى، كما ذهب اليه جماعة من المحقّقين مستندا إلى ظاهر قوله تعالى: وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ «2» و عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ و عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «3».

سيّما مع ملاحظة ما ورد في تفسيرها من الأخبار حسبما تأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه تعالى.

أو البشر كما هو القول الآخر.

__________________________________________________

(1) سورة النساء: 83.

(2) سورة الروم: 22.

(3) البقرة: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 55

أو من مناسبة ذاتيّة بين الألفاظ و المعاني، كما من أهل التكسير، و بعض الاصوليّين، و اختاره الشيخ الأحسائي و السيّد الرشتي فالدلالة عندهم طبيعيّة غير ناشئة من الوضع، و ستسمع إنشاء اللّه تعالى تفصيل ذلك الكلام في تفسير قوله تعالى وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «1».

فإذا صدر الكلام من الحكيم العالم بأوضاع الحروف البسيطة و المركّبة و دلالتها من حيث الإفراد و التركيب و الترتيب و حقائقها و ذاتياتها و عوارضها و غير ذلك مما يتبعها، فلا ريب أنّ مقتضى الكمال الكلامي هو إرادة جميع تلك الوجوه و مراعاة ما يلحظ في الدّال و اعتبار المداليل، سيّما و أن يكون المتكلّم هو اللّه سبحانه المتعالي عن وصمة النقصان.

و المخاطب أوّل من قرع باب الوجود من سرادق الإمكان.

و الكلام هو القرآن الّذي لكل شي ء فيه تبيان.

و المعلّم هو الرَّحْمنُ الّذي عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ.

و التعليم في سرادق القدس و حضرة الأنس، فوق صاقورة «2» الجنان، فوق احساس الكروبيّين، فوق غمائم النور، و فوق تابوت الشهادة، فوق عمود النار، بلا زمان و لا مكان.

هذا مضافا الى ما مرّ من اشتمال القرآن على الظهور و البطون و الوجوه الّتي لها الإحاطة

التدوينيّة بجميع أحوال الأكوان و الكينونات و الحوادث و التشريعات، و لذا كان للإمام عليه السّلام أن يستنبط جميع ذلك من الحروف الخمسة في الصمد بل و من

__________________________________________________

(1) البقرة: 31.

(2) اشارة الى الحديث المروي عن الإمام العسكري عليه السّلام رواه في البحار ج 26 ص 265 عن كتاب المحتضر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 56

كل آية من آيات القرآن، و كلّ كلمة من كلماته، سيّما هذه الحروف المقطّعة الّتي افتتحت بها طائفة من السور.

تفسير الحروف المقطعة في القرآن

ففي معاني الأخبار عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: الم* هو حرف من حروف اسم اللّه الأعظم المقطّع في القرآن الّذي يؤلفه النبيّ أو الإمام فإذا دعا به أجيب «1».

و ورد مثله في تفسير (حم عسق) و في «المجمع» و غيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لكلّ كتاب صفوة، و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي» «2» و في (كهيعص): إنّه من أنباء الغيب.

و في (عسق): إنّه عدد سني القائم.

الى غير ذلك مما مرّ، و ممّا تأتي الإشارة إليه.

و الحاصل أنّه لا علم لنا إلّا ما تعلّمناه من أنوار آثار ائمّتنا عليهم السّلام الذين هم عيبة علم اللّه، و مهابط وحيه، و حملة كتابه.

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار باب معنى الحروف المقطعة ص 23.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 32- تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 57

الوجوه الستة المستفادة من الأحاديث
اشارة

و قد استفيد ممّا وصل إلينا من أخبارهم في هذه الحروف وجوه نشير إلى جملة منها:

منها: أنّها ظروف الحقائق و مباني المعاني، و هي مفاتيح الغيوب، و رموز بين المحبّ و المحبوب و ينفتح من كل حرف منها ألف باب، و إن اختصّ بعلمه من خوطب به وَ مَنْ عِنْدَهُ «عِلْمُ الْكِتابِ».

و قد مرّ في ذلك مضافا الى ما في المقام خبر ما في ذوابة سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خبر أبي لبيد، و غير ذلك ممّا مرّ.

بل

في بعض حواشي الكشّاف مرويّا عن الإمام الناطق جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام أنّه قال: الم* رمز و إشارة بينه تعالى و بين حبيبه عليه السّلام أراد أن لا يطّلع عليه سواه أخرجه بحروف و

بعّده عن درك الأخبار.

و منها: أنّها من حروف اسم اللّه الأعظم الّذي يؤلّفه العالم من آل محمّد عليهم السّلام فيستجاب له إذا دعى به.

و لذا

ورد في الأدعية عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام على ما روته العامّة و الخاصّة: يا كهيعص، يا حم عسق.

و

ورد فيما يدعى عقيب السادسة من ركعات صلاة الليل: اللهمّ إني أسئلك يا قدوس يا قدوس يا قدّوس يا كهيعص ... الدعاء «1».

و في مشارق الأمان: روى في معنى قوله تعالى: الم* أنّها اسم اللّه الأعظم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 87 ص 251 ح 59 عن مصباح المتهجد ص 101.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 58

ظاهرا و باطنا «1».

إلى غير ذلك مما يدلّ على أنّها من الإسم الأعظم و الحجر المكرّم.

بل

عن ابن الجوزي من العامّة: أنّ عليّا رضي اللّه عنه و كرّم وجهه قال: إنّ هذه الحروف اسماء مقطّعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم اللّه الّذي إذا دعي به أجاب.

و منها: أنّ كلا منها إشارة إلى اسم من أسماء اللّه تعالى أو صفة من صفاته المفتتحة بذلك الحروف، أو مطلقا بناء على الاكتفاء ببعض الكلمة عن تمامها كما مرّت الإشارة إليه في الأخبار المتقدمة لتفسير حروف التهجي، و يأتي في تفسير خصوص الفواتح ما يدلّ عليه.

و قد يجعل من ذلك أيضا

قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كفى بالسيف شا» أى شاهدا

، فحذف العين و اللام، و أبقى الفاء، و قد مرّ في تفسير البسملة ما يؤيّد ذلك.

و لذا قيل: إنّ معنى قوله: الم* أنا اللّه أعلم، و المر: أنا اللّه أعلم و أرى، و المص: أنا اللّه أعلم و أفصل.

و قد ورد في الخبر أنّ معنى

كهيعص: أنا الكافي الهادي العليم الصادق.

و في الم في آل عمران: أنا اللّه المجيد، كما في المعاني عن الصادق عليه السّلام.

و في المجمع عن أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره مسندا الى علي بن موسى الرضا عليهما السّلام قال: سئل جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام عن قوله تعالى: الم* فقال عليه السّلام:

في الألف ست صفات من صفات اللّه تعالى:

__________________________________________________

(1) في البحار ج 93 ص 224 عن مهج الدعوات عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاث: في البقرة، و آل عمران، و طه، قال أبو أمامة راوي الحديث: في البقرة، آية الكرسي و في آل عمران: الم، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، و في طه: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 59

الابتداء فإن اللّه ابتدأ جميع الخلق، و الألف ابتداء الحروف.

و الإستواء عادل غير جائر، و الألف مستو في ذاته.

و الانفراد، و اللّه فرد، و الألف فرد.

و اتصال الخلق باللّه، فاللّه لا يتّصل بالخلق، و كلّهم محتاجون الى اللّه و اللّه غنيّ عنهم، فكذلك الألف لا يتّصل بالحروف و الحروف متّصلة به.

و هو منقطع عن غيره، و اللّه تعالى باين بجميع صفاته عن خلقه.

و معناه من الألفة: فكما أنّ اللّه تعالى سبب ألفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألّفت الحروف و هو سبب ألفتها «1».

و لا يخفى أنّ

قوله عليه السّلام: «و هو منقطع عن غيره»

لبيان عدم احتياج الألف إلى غيره.

و

قوله عليه السّلام: «و اللّه سبحانه باين بجميع صفاته عن خلقه»

تأكيد لعدم اتصاله بالخلق لكونه قد بعد عن المقام، أو جملة استينافية لرفع توهم أنّ اتّصاف

الألف بتلك الصفات لعلّه من جهة الاشتراك في المعنى و الموافقة فيه، فرفع بها ذلك التوهم، و بيّن أنّه باعتبار الظليّة و المظهريّة لأنّه سبحانه لا يشركه شي ء في شي ء و لا يشبهه شي ء.

و يحتمل أن يكون الانفصال و عدم الاحتياج عبارة عن وجه واحد و هو رابع الوجوه الستّة، و

قوله: «و هو منقطع»

يعني الألف الى

قوله: «من خلقه»

هو الوجه الخامس، لكن غيّر الأسلوب هنا حديث قدّم حكم الألف بخلاف المتقدّم، و لا بأس.

ثم لا يخفي أيضا أنه عليه السّلام ذكر خمسة أوجه فيها لمسمّى الألف و هو ما يعدّ

__________________________________________________

(1) نور الثقلين ج 1 ص 30- 31 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 60

من حروف التهجّي، و ذكر الوجه السادس لمعنى الاسم حيث قال: معناه من الألفة.

سبب ألفة الخلق فكذلك الألف عليه تألّفت الحروف و هو سبب ألفتها «1».

و ذكر بعض المحقّقين أنّ من مداليل كلّ حرف من الحروف جميع الأسماء المفتتحة بذلك من أسماء اللّه الحسنى، و لعلّ في اختلاف الأخبار المفسّرة للحروف بالأسماء إشارة الى ذلك كما نبّهنا عليه، و بنى عليه آخرون التوسّل بتلك الأسماء الّتي لها الإحاطة و التصرف في الكائنات لنيل المطالب، و استجلاب المآرب، بأن يؤخذ لكلّ حرف من حروف اسم الطالب أو المقصد اسما من الأسماء الحسنى، أوّله ذلك الحرف فيذكرها بعدد أعدادها، أو بعدد حروف هجائها.

أو بعدد حروف أعدادها، أو غير ذلك من الوجوه المذكورة في موضعها.

و منها: أنّ فيها تواريخ حوادث العالم، أو خصوص ما يتعلّق بدولة بني هاشم المحقّين منهم، و المبطلين، و ما يتعلّق بقيام القائم عجّل اللّه فوجه حسبما سمعت في خبر أبي لبيد، و وجادة العسكري و تفسير عسق، و

غير ذلك.

و منها: أنّ فيها إفحاما للمشركين المعاندين، و إيقاظا لمن تحدّاهم به منهم، و تنبيها لهم على أنّ المتلوّ عليهم كلام منظوم ممّا ينظمون منه كلامهم و يتحاورونها في خطبهم و أشعارهم، فلو كان من عند غير اللّه تعالى لما عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، سيّما مع تظاهرهم، و توفّر دواعيهم و شدّة حرصهم على ذلك، و هو صلوات اللّه عليه يتلو عليهم: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «2».

و غير ذلك من الآيات المشتملة على التحدّي.

__________________________________________________

(1) نور الثقلين ج 1 ص 30- 31 ح 9.

(2) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 61

و منها: أنّ فيها إلزاما لليهود، و حجّة عليهم، حيث علموا بأخبار أنبيائهم أنّ الكتاب المنزل على خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مفتتحة سورها بالحروف المقطّعة.

و الى هذين الوجهين

أشار مولانا العسكري عليه السّلام في تفسيره حيث قال: كذّبت قريش و اليهود بالقرآن و قالوا: سحر مبين تَقَوَّلَهُ، فقال اللّه عزّ و جلّ الم ذلِكَ الْكِتابُ أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة الّتي أ ل م، و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا إن كنتم صادقين، و استعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ ... الآية.

قال اللّه عزّ و جلّ: الم هو القرآن الّذي افتتح بالم هو «ذلِكَ الْكِتابُ» الّذي أخبر به موسى، و من بعده من الأنبياء، و أخبروا بني إسرائيل أنّي سأنزل عليك يا محمد كتابا عربيّا عزيزا لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ... لا رَيْبَ فِيهِ لا شكّ فيه لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم أنّ محمدا ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء «1» يقرأه هو و أمّته على سائر أحوالهم «هُدىً» بيان من الضلالة «لِلْمُتَّقِينَ» الذين يتّقون الموبقات، و يتّقون تسليط السفه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم.

ثمّ قال: و قال الصادق عليه السّلام: ثمّ الألف حرف من حروف قولك: اللّه، دلّ بالألف على قولك: اللّه، و دلّ باللام على قولك: الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين، و دلّ بالميم على أنّه المجيد المحمود في كلّ أفعاله، و جعل هذا القول حجّة على اليهود، و ذلك أنّ اللّه تعالى لما بعث موسى بن عمران، ثم من بعده من الأنبياء إلى بني إسرائيل، لم يكن فيهم قوم إلّا أخذوا عليهم العهود و المواثيق ليؤمننّ بمحمّد العربي

__________________________________________________

(1) في نور الثقلين: لا يمحوه الباطل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 62

الأمّي المبعوث بمكّة الّذي يهاجر منها الى المدينة يأتي بكتاب اللّه بالحروف المقطّعة افتتاح بعض سوره، يحفّظه أمّته فيقرءونه قياما و قعودا و مساء و صباحا، و على كل حال، يسهّل اللّه حفظه عليهم، و يقرنون بمحمّد أخاه و وصيّه علي بن أبي طالب الآخذ منه علومه الّتي علّمها، و المتقلّد عنه أماناته الّتي قلّدها، و مذلّل كلّ من عاند محمدا بسيفه الباتر، و مفحم كلّ من جادله و خاصمه بدليله القاهر، يقاتل عباد اللّه على تنزيل كتاب اللّه حتّى يقودهم الى قبوله طائعين و كارهين، حتى إذا صار محمّد الى رضوان اللّه تعالى، و ارتدّ كثير ممّن كان أعطاه

ظاهرا الإيمان، و حرفوا تأويلاته، و غيّروا معانيه و وصفوها «1» على خلاف وجهها. قاتلهم بعد ذلك عليّ على تأويله حتى يكون إبليس الغاوي لهم هو الخاسئ الذليل المطرد المغلول.

قال: فلمّا بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أظهره بمكّة و سيّره منها الى المدينة و أظهره بها، ثمّ أنزل عليه الكتاب و جعل افتتاح سورته الكبرى الم يعني ال م ذلِكَ الْكِتابُ، و هو الكتاب الّذي أخبرت أنبيائي السالفين أنّي سأنزله عليك يا محمّد لا رَيْبَ فِيهِ.

فقد ظهر كما أخبر به أنبيائه، و أنّ محمّدا ينزل عليه كتاب مبارك لا يمحوه الماء يقرئه هو و أمّته على سائر أحوالهم ...

الى آخر ما مرّ «2».

و لعلّ المراد بقوله عليه السّلام «لا يمحوه الماء» أنّه لا ينسخه شي ء إلى يوم القيامة.

و في «النهاية الأثيرية»: في الخبر أنّه قال فيما يحكي عن ربّه: «و انزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما و يقظانا»

أراد أنه لا يمحى أبدا، بل هو محفوظ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ، و كانت الكتب

__________________________________________________

(1) في نور الثقلين: و وضعوها على خلاف وجوهها.

(2) نور الثقلين ج 1 ص 27- 28 ح 7 عن تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 63

المنزّلة لا تجمع حفظا، و إنّما يعتمد في حفظها على الصحف، بخلاف القرآن فإنّ حفّاظه أضعاف مضاعفة لصحفه.

و

قوله: «تقرأه نائما و يقظانا»

أي تجمعه في حالتي النوم و اليقظة، و قيل: أراد تقرأه في يسر و سهولة.

تنبيه

اعلم انّ هذه الوجوه الستّة المتقدمة المستفادة من آثار أهل البيت عليهم السّلام ممّا لا

تنافي بينها أصلا بعد ما سمعت من اشتمال كلمات القرآن و آياته على العلوم الغزيرة و البطون الكثيرة الّتي لا يعلمها إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، و على هذا فيصحّ إرادة الجميع، و إن كان كلّ ذلك بعضا قليلا من أبعاض ما أريد منها ممّا لا نحيط به علما، و لم يبلغنا علمها عن العالم بها، و لذا

قال عليه السّلام: «إنّ فيها لعلما جمّا» «1» ، و لعلّه هو المراد بقول من قال: إنّها من المتشابهات.

بل قد سمعت أنّ بعض الأخبار الواردة في تفسيرها، مثل ما يتعلّق بعدد سني القائم عليه صلوات اللّه و زمان ظهوره أيضا من المتشابهات.

بل في «مجمع البيان»: أختلف العلماء في هذه الحروف: فذهب بعضهم إلى أنّها من المتشابهات الّتي استأثر اللّه بعلمها، و لا يعلم تأويلها إلّا هو، و هذا هو المرويّ عن أئمتنا عليهم السّلام،

و روت العامّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: إنّ لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.

و عن الشعبي قال: اللّه تعالى في كتاب سرّ، و سرّه في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 52 ص 106.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 64

قال: و فسّرها الآخرون على وجوه، ثمّ ساق الكلام في عدّها «1».

و لعلّه أراد بكونها من المتشابهات عدم استفادة شي ء منها أصلا حتّى الإفحام و الإعجاز و التسكيت و غيرها ممّا عدّها في أقوال الآخرين، و لذا قابله بها فيه و في كثير من كتب التفاسير، و هو و إن لم يكن به بأس في نفسه، و إن لم أعرف قائله بالخصوص، إلّا أنّه لا ينبغي حمل ما روي عن أئمتنا عليهم السّلام،

لورود بعض البيانات عنهم فيها.

فالأولى هو القول بكونها باعتبار تمام ما هو المراد من معانيها و إشارتها و كيفيّات تأليفها و الاستخراج منها من المتشابهات و الأسرار، و إن فزنا ببركة أهل البيت عليهم السّلام برشحة من السحاب الماطر، و قطرة من البحر الزاخر.

و أمّا في تفسير الرازي نقلا عن المتكلّمين من أنّهم أنكروا القول بالمتشابه فيها، بل في القرآن مطلقا، نظرا إلى الآيات الآمرة بالتدبّر و التذكر، أو الدالّة على كون القرآن هدى، و ذكرا، و نورا، و تبيانا، و بيّنا، و بلاغا، و عربيّا، و غير ذلك مما يستفاد منه وضوح معانيه لعامّة العارفين باللّغة.

مضافا إلى أنّه لو ورد شي ء لا سبيل الى العلم به لكانت المخاطبة تجري مجرى مخاطبة العربي باللّغة الزنجيّة.

و إنّ المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة عبثا لا يليق بالحكيم.

و أنّ التحدّي وقع بالقرآن، و ما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التعدّي به «2» فضعفه واضح جدّا بعد ما سمعت في المقدّمات من اشتمال القرآن على

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 32.

(2) مفاتيح الغيب للفخر الرازي ج 2 ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 65

المتشابه الّذي لا يعلم تفسيره إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1».

بل بعد دلالة ظاهر الآية بل صريحها عليه، فكان الوجوه المذكورة في الرّد ردا على اللّه سبحانه و تعالى في صريح كلامه.

مضافا الى ما فيها من الضعف و القصور، فإنّ التدبّر و غيره حاصل بالنسبة إلى غير المتشابه مطلقا، و إلى المتشابه بعد ردّه إلى المحكم، و وصول البيان من أهل الذكر، و المخاطبة الكلّيّة إنّما كانت الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم، و لذا

ورد: إنّما يعرف القرآن من خوطب به «2» إشعارا على أنّه لا علم به بتمامه لغيره من علّمه إيّاه.

مع أنّه قد يقال: إنّ من جملة المحكم في إنزال المتشابهات أنّ المبطل لمّا علم اشتمال القرآن عليها يتأمله و يصغى إليه، و يجتهد في التفكر فيه رجاء أنّه ربما وجد بيانه في بقيّة كلامه، أو يجد فيها شيئا يقوّي قوله، و ينصر مذهبه في إبطاله، فيصير ذلك سببا لوقوفه على المحكمات المخلصة له من الضلالات.

و امّا ما ربما يتراءى من كلام المفسّرين في المقام من التنافر بين تلك المعاني بحيث يمنع من الجمع بينها، و لذا حكوا الاختلاف فيها و نسبوا كلا من الأقوال إلى قائل.

بل قال الرازي: إنّ المفسّرين ذكروا وجوها مختلفة، و ليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي، فإمّا أن يحمل على الكلّ و هو متعذّر بالإجماع لأنّ كلّ واحد من المفسّرين إنّما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة، و ليس فيهم من حملها على الكلّ «3».

__________________________________________________

(1) راجع سورة آل عمران: 7.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 139 ط، القديم باب تأويل «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ» (3) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 66

ففيه أنّه لا مانع من الحمل المذكور بعد قيام الدليل عليه من الأخبار المتقدّمة، بل و كذا الحال في كثير من الكلمات و الآيات، بل كلّها بعد ما هو المعلوم من إرادة ظاهرها و باطنها إلى سبعة أبطن أو سبعين بطنا، قد نبّهنا في المقدمات أنّه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع كون الجميع حقايق أو

مجازات أو ملفّقا منهما، بل يجوز مع ذلك إرادة الإشارات المدلولة عليها بصور الحروف و ترتيبها و تركيبها و إعدادها و غير ذلك بعد توجيه الخطاب الى العالم بالدلالة و الإرادة.

و أمّا ما ادّعاه من الإجماع فلا ينبغي الإصغاء إليه، سيّما بعد الإطلاع على ما هو الحجّة منه عند الإمامية.

بل قد ظهر مما مرّ جواز حملها مضافا إلى الوجوه المتقدّمة الّتي تضمّنها الروايات على غيرها أيضا من الوجوه.

الوجه السابع أنّها أسماء للسور

بل الأقوال الكثيرة الّتي منها: أنّها أسماء للسور و نسبه الرازي الى أكثر المتكلمين و في موضع آخر الى أكثر المحققين، و حكاه عن الخليل و سيبويه و في الكشّاف و تفسير القاضي أنّ عليه إطباق الأكثر، و في المجمع أنّه أجود الأقوال و عن القفّال: أنّ العرب قد سمّت بهذه الحروف أشياء فسمّوا بلام والد حارثة بن لام الطائي، و قالوا: جبل قاف، و بحر صاد، و سمّوا السحاب عينا، و الحوت نونا، و النحاس صادا، الى غير ذلك.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 67

و استدلّ عليه القاضي تبعا للرازي و غيره بأنّها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل، و التكلّم بالزنجي مع العربي، و لم يكن القرآن بأسره بيانا و هدى، و لمّا أمكن التحدّي به، و إن كانت مفهمة فإمّا أن يراد بها السورة الّتي هي مستهلّها على أنّها ألقابها، أو غير ذلك، و الثاني باطل، لأنّه إمّا أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب، و ظاهرا أنّه ليس كذلك، أو غيره و هو باطل، لأنّ القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى:

بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «1»، فلا يحمل على ما ليس في لغتهم.

و لا يخفى ضعفه من وجوه قد مرّ

التنبيه على كثير منها، كما لا يخفى ضعف ما في «مجمع البيان» بعد أن جعله أجود الأقوال قال: لأنّ أسماء الأعلام منقولة إلى التسمية من أصولها للتفرقة بين المسمّيات، فيكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية، و لهذا في أسماء العرب نظير، نحو أوس بن حارثة بن لام الطائي، و لا خلاف في جواز التسمية بحروف المعجم، كما يجوز أن يسمّى بالجمل، نحو تأبط شرّا، و برق نحره، و كل كلمة لم يكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق إلى آخر ما ذكره «2».

إذ فيه مع كونه أعمّ من المدّعى، أنّه شبه مصادرة، للشكّ في طرفي النقل فضلا عن كون المنقول اليه السور.

نعم يمكن التقريب له بما ورد في الأخبار الدالّة على أنّ من قرأ سورة يس، و صاد، و حم، و نون، و إلى غير ذلك من السور، فإنّ الظاهر منها كونها أسماء لتلك المسمّيات.

__________________________________________________

(1) النحل: 103.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 68

و بقوله: حم* لا ينصرون، بل

عن الفائق أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعله شعارا لقوم يوم الأحزاب

، و معناه على ما قيل: و منزّل حم*، على النصب و الجرّ، بناء على التنوين و الإضافة، و لا ينصرون جواب القسم، أو أنّه مرفوع على الابتدائية أو الخبرية، أي مقولي حم*، أو هو مقولي، و لا ينصرون استيناف، كأنّه قيل: ماذا يكون إذا؟ فقال: لا ينصرون.

و بقول شريح بن أوفى العنسي قاتل محمد بن طلحة، حيث شدّ عليه برمحه، و هو قد شلّ درعه بين رجله و قام عليها، و كلّما حمل عليه رجل قال: نشدتك ب حم* حيث كان

شعار حرب الحق يومئذ حم*، لقوله تعالى فيها: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» و كان محمد المعروف بالسجّاد يظهر بذلك أنّه ليس من حزب المخالفين، فقتله شريح و هو يقول:

و اشعث قوّام بآيات ربّه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم شككت له بالرمح جيب قميصه فخرّ صريعا لليدين و للفم على غير شي ء غير أن ليس تابعا عليّا و من لا يتبع الحقّ يظلم يذكّرني حاميم و الرمح شاجر فهلّا تلى حاميم قبل التقدّم حيث أنه أشار بها إلى السورة المشتملة على الآية.

و المناقشة في الوجوه المذكوره بكفاية أدنى الملابسة في الإضافة مدفوعة بأنّها لا تدفع الظهور المستفاد من الانسباق بمجرّد الإطلاق.

و أمّا ما يقال في ابطال القول بالتسمية: من أنّها لو كانت اسماء السور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر، لأنّها من الأمور العجيبة الّتي تتوفر الدواعي على نقلها.

و أنّ السورة الكثيرة قد اتفقت في الم* ... و الر*، و حم*، فالاشتباه حاصل،

__________________________________________________

(1) الشورى: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 69

و المقصود من التسمية إزالته.

و أن القرآن قد نزل بلغة العرب الذين لم يتجاوزوا في التسمية عن اسم أو اسمين كبعلبك و تأبط شرا، و لم يسمع منهم التسمية بثلاثة أسماء فضلا عن الأربعة و الخمسة، و القول بكونها أسماء للسور خروج عن طريقتهم الّتي يجب التوقف عليها.

و أنّها لو كانت أسماء السور لوجب اشتهارها بها لا بسائر الأسماء، لكنّها قد اشتهرت بسورة البقرة، و آل عمران، و الأعراف، و غيرها ممّا أثبتوها في التراجم، دون تلك الحروف.

و لوجب أيضا أن لا يخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه، مع أنّه ليس كذلك.

و أنّ هذه

الحروف من كل سورة جزئها، و من البيّن أنّ وضع الجزء للكلّ يؤدّي إلى اتحاد الاسم و المسمّى الّذي هو المجموع و لو ضمنا.

و أنّها تستدعي تأخر الجزء عن الكلّ، من حيث إنّ الإسم يتأخّر عن المسمى رتبة.

و انّ جعله جزءا يتوقف على كونه اسما إذ يمتنع من البليغ جعل المهمل جزءا من كلامه، و جعله اسما يتوقف على جعله جزءا، إذ هو اسم للمركّب من حيث هو مركّب.

ففيه: أنّ الجميع مشترك في الضعف، و غير ناهض لإثبات المطلوب، لاندفاع الأوّل بمنع الملازمة، و منع توفّر الدواعي على النقل، و إن توفّرت على الاستعمال، و كم أمر أهم من ذلك لم ينقل لنا النقل فيه و إن ثبت من وجوه أخر، كإثبات الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ العبادات و غيرها.

و الثاني بجواز التميّز ببعض المشخّصات بعد فرض التسمية و حصول

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 70

الاشتراك كغيرها من المشتركات.

و الثالث باختصاص الامتناع بما إذا ركّبت و جعلت اسما واحدا كما في بعلبك لا فيما نثرت نثر أسماء العدد، و لذا سوّى سيبويه بين التسمية بالجملة، و البيت من الشعر و طائفة من أسماء حروف المعجم.

و الرابع بالمنع منه، و أما ترك الإثبات في تراجم المصاحف فلعلّه لضرب من التوقيف الملحوظ فيها، مع أنّ تلك التراجم غير محفوظة عن أصحاب العصمة، و قد ورد كثير من الأخبار التعبير عن السور بتلك الحروف.

و الخامس بمنع الملازمة سيّما مع اقتضاء الحكمة للتسمية في موضع دون موضع.

و السّادس بكفاية المغائرة الاعتبارية، و لذا لم يقدح ذلك في الأسماء المتعارفة كالبقرة، و آل عمران الى آخر سور القرآن و غيرها ممّا هو شايع.

و ممّا ذكرنا و غيره يتّضح الجواب عن

السابع و الثامن ايضا.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ أدلة الفريقين لم تنهض لإثبات شي ء من الأمرين، و قضيّة الأصل العدم و ما ذكرناه، إنّما يثبت به الاستعمال أو غلبته و لو لا اشتمال السورة على الكلمة بعد النزول، و أما نزولها على هذا الوجه فلا، إلّا أن يقال بالاكتفاء بالأوّل و استلزامه للثاني و لو لا الأصل سيّما مع كون الدليل ظهور الأخبار المأثورة عنهم عليهم السّلام.

إلّا أنّه قد يقال: إنّ الإطلاق فيها نظير قول الناس: فلان يروي: «قفا نبك» و «عفت الديار»، و يقول الرجل لصاحبه: ما قرأت: يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ*، و بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ، و يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ، و اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، و ليست هذه الجمل بأسامي هذه القصائد، و هذه السور و الآي، و إنّما يعني رواية القصيدة الّتي ذاك استهلالها، و تلاوة السورة و الآية الّتي تلك فاتحتها، فلمّا جرى الكلام على أسلوب

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 71

من يقصد التسمية، و استفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة.

أقول: و يؤيّده شيوع التعبير بكلمات أوائل السور، و لو مع عدم كونها من المقطّعة، و لا مكتوبة في الترجمة، كسورة سُبْحانَ الَّذِي و سورة أَتى أَمْرُ اللَّهِ، و نحوهما.

ثمّ إنّه على فرض التسمية يكون هذا الوجه سابع الوجوه فلا تغفل.

الوجه الثامن أنّها أسماء القرآن

و منها: انّها من اسماء القرآن كما توهمه جمع من مفسّري العامّة، كقتادة، و مجاهد، و ابن جريح و السدّي و الكلبي، و لا وجه له عدى ما قيل: من أنه أخبر عنها بالكتاب و القرآن، و نحوهما، و هو كما ترى.

و منها: أنّها أبعاض أسماء اللّه تعالى، كما عن

ابن عباس، و سعيد بن جبير، و الحسن البصري، بل حكوا عن الأخير أنّ هذه الحروف المقطّعة في أوائل السور اسماء اللّه تعالى لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم اللّه الأعظم، ألا ترى أنّك تقول:

الر*، و تقول حم*، و تقول: ن، فيكون الرَّحْمنُ، و كذلك سايرها على هذا القول، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها و الجمع بينها.

أقول: و لعلّهم سمعوا الخبر المتقدم «1» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا المعنى، فراموا أن يتكلّموا ما لم يمنحوا علمه، و لم يكونوا من أهله.

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار ص 23 باب معنى الحروف المقطعة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 72

الوجه التاسع أنّها أبعاض أسماء اللّه عزّ و جلّ

و منها: ما يحكى عن ابن عبّاس و غيره من أنّها أقسام أقسم اللّه بها، و على هذا يحتمل كونها من أسماء اللّه أو من أسماء القرآن أو السور، أو من مبادي الأسماء أو أبعاضها.

وجوه آخر

أو أن المراد نفس الحروف المعجمة باعتبار معانيها، أو لشرفها و تركيب الألفاظ منها.

أو لأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، و أصول كلام الأمم كلّها بما يتعارفون و يذكرون اللّه و يوحدونه و يعبدونه مع أنّه ممّا كرّم اللّه به بني آدم.

أو لأنها من جملة خلقه سبحانه، و له الإقسام بكلّ شي ء من خلقه، من خطير أو حقير، كالسماء و الشمس، و القمر، و التين و الزيتون، فإنّ الجميع من مظاهر قدرته و كماله، و آثار صفة جماله، كأنّه سبحانه يقول في كل ذلك و «عزتي و جلالي و ربوبيتي و كبريائي»، و أداة القسم فيها مقدّرة حسبما يأتي في اعرابها.

و هذا الوجه و إن كان جائزا إلّا أنّي لم أجد عليه دليلا.

و منها: أن يكون المراد بها مدّة بقاء هذه الأمّة، حكاه في «المجمع» عن مقاتل بن سليمان، قال: حسبناها فبلغت بعد إسقاط المكرّر: (744) و هي بقيّة مدّة هذه الأمّة.

و هو كما ترى غلط واضح، و مثله ما عن علي بن فضّال المجاشعي النحوي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 73

إلّا أن يكون مراده مجرّد بيان العدد لا تحديد البقاء، و لذا قال: إنّي حسبتها فبلغت (3065) فحذفت المكرّرات فبقي (693) «1».

و أمّا ما

يروى من أنّ اليهود لمّا سمعوا (الم)* قالوا: مدّة ملك محمد قصيرة إنّما تبلغ إحدى و سبعين سنة، فلمّا نزلت الر*، و المر، و المص، و كهيعص، اتّسع عليهم الأمر «2».

و أنّه عليه السّلام لمّا

أتاه اليهود تلى عليهم الم البقرة فحسبوه قالوا: كيف ندخل في دين مدّته احدى و سبعين سنة: فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: و هل غيره؟ فقال:

المص، و الر*، و المر، فقالوا: خلطت علينا و لا ندري بأيّها نأخذ «3» ففيه: أنّه لا دلالة فيهما أصلا على ذلك، و لعلّ الأصل في الخبر ما مرّت حكايته عن تفسير العسكري عليه السّلام، و قد سمعت فيه ما أجابهم به مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و منه يظهر أنّ تبسّمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان تعجبا من جهلهم، لا من اطّلاعهم على هذا الرمز.

و أمّا ما يحكى عن أبي العالية من أنّها إشارة الى مدد أقوام و آجالهم بحساب الجمل فلا بأس به، و لعلّه استفاد ذلك من الأنوار المقتبسة من مهابط الوحي و التنزيل و معادن العلم و التأويل.

و منها غير ذلك من الأقوال الّتي لا شاهد على شي ء منها. مثل أنّ المراد بها الحروف المعجمة، استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها الّتي هي تمام الثمانية و العشرين حرفا، كما يستغنى بذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة،

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 33.

(2) البرهان ج 1 ص 55 عن تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام.

(3) البرهان ج 1 ص 55 عن تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 74

و كما يقال: ا، ب في أبجد «1».

و مثل ما يقال: إنّها تسكيت للكفّار، حيث إنّ المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يسمعوا لهذا القرآن و ان يلغوا فيه، كما أخبر اللّه تعالى عنهم

بقوله:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «2»، فكانوا ربّما صفّروا، و ربّما صفقوا، و ربّما لغطوا ليغلّطوا النبيّ فأنزل اللّه تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه، و تفكروا و اشتغلوا من تغليطه. فيقع القرآن في مسامعهم، و يكون ذلك سببا موصلا لهم الى استماعهم و فهمهم و هدايتهم «3».

و نحو ما قيل: أنّ بعضها يدلّ على اسماء اللّه تعالى، و بعضها على أسماء غيره تعالى، كما قيل في الم*: إنّ الألف من اللّه، و اللام عن جبرئيل، و الميم من محمّد، أي أنزل اللّه تعالى الكتاب على لسان جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و مثل ما قيل: إنّ كلّ واحد منها يدلّ على فعل من الأفعال، فالألف معناه ألف اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبعثه نبيّا، و اللام أي لامه الجاحدون، و الميم أي ميم الكافرون، من الموم بمعنى البرسام.

و نحو ما قيل: إنّها في التقدير اسمعوها مقطّعة حتّى إذا أوردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، كما أنّ الصبيان يعلمون هذه الحروف أولا مفردة، ثم يعلمون المركّبات.

و مثل ما يقال: إنّها تدلّ على انقطاع كلام و استيناف كلام آخر، و حكي عن أحمد بن يحيى بن تغلب أنّ العرب إذا استأنف كلاما فمن شأنهم أن يأتوا بشي ء من

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 33

(2) فصّلت: 26.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 75

غير الكلام الّذي يريدون استينافه فيجعلونه تنبيها للمخاطبين على قطع الكلام الأوّل و استيناف الكلام الجديد.

و نحو ما قيل: إنّها ثناء من اللّه

تعالى على نفسه.

و مثل ما قيل: إنّ إخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأسماء الحروف قبل أن يتعلّم من أحد من الآدميين يعلم منه أنّه تعلّم من معلّم آدم الأسماء، فيكون أوّل ما يسمع معجزة دالّة على أنّه من عنده عزّ و جلّ.

و مثل ما قيل: إنّها للردّ على من قال بقدم القرآن، فإنّه لمّا علم اللّه في القدم أنّ قوما سيقولون بقدم القرآن ذكر هذه الحروف تنبيها على أنّ هذا الكلام مؤلّف من الحروف الحادثة فلا يكون قديما.

و مثل ما قيل: إنّ المراد ب الم ألمّ بكم ذلك الكتاب، أي نزل عليكم نزول الزائر، لأنّ الإلمام الزيارة، فإنّ جبرئيل نزل به نزول الزائر.

و مثل ما قيل: إنّ الألف من أقصى الحلق، و هو أوّل المخارج، و اللام من طرف اللّسان و هو وسط المخارج، و الميم من الشفه و هو آخر المخارج، فهذه إشارة الى أنّه لا بدّ أن يكون أوّل ذكر العبد و وسطه و آخره اللّه تعالى.

و مثل ما قيل: إنّ الألف إشارة الى ما لا بد منه من الاستقامة في أوّل الأمر، و هو رعاية الشريعة، كما قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا* «1».

و اللام إشارة إلى الإلجاء الحاصل عند المجاهدات و هو رعاية الطريقة كما قال سبحانه: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «2»، و الميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام العبوديّة كالدائرة الّتي تكون نهايتها عين بدايتها، و بدايتها عين نهايتها،

__________________________________________________

(1) فصّلت: 30، الأحقاف: 13.

(2) العنكبوت: 69.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 76

و ذلك إنّما يكون بالفناء في اللّه بالكلّية و هو مقام الحقيقة، قال اللّه تعالى: قُلِ

اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ «1».

الى غير ذلك من الأقوال و الاحتمالات الّتي لا شاهد على شي ء منها.

البحث السابع احكام الحروف و عوارضها

في مستطرفات من أحكام تلك الحروف و عوارضها و هي أمور:

منها: أنّها و إن اشتهرت بالحروف إلا أنّها أسماء لمسمّياتها الّتي تتركّب منها الكلم لما هو واضح من دخولها تحت حدّ الاسم، و اعتداد ما يختصّ به من التعريف و التنكير، و الجمع، و التصغير و غيرها عليها، فكما أنّ الإنسان موضوع للمهيّة المعيّنة لها أفراد خارجيّة، فكذلك الجيم مثلا اسم لمهيّة الحرف المفرد البسيط المعلوم الصادق على الحرف الأوّل من جعفر، و جاء، و جعل، و نحوها.

و من هنا قيل: إنّها من اسماء الأجناس لا من الأعلام الشخصيّة، و لا أظنّ أحدا ينكر اسميّتها.

و به صرّح الخليل حيث سأل أصحابه: كيف تنطقون بالجيم من جعفر؟ فقالوا:

جيم، فقال: إنّما نطقتم بالاسم و لم تنطقوا بالمسئول عنه، و الجواب (ج)، لأنّه المسمّى.

بل قد يحكى الصريح به عن غير واحد من الأدباء.

و أمّا ما يحكى عن متقدّمي النحاة من تسميتها حروفا فمحمول على ضرب

__________________________________________________

(1) الأنعام: 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 77

من التسامح، و مثله كثير في كلامهم كتسميتهم الباء من حروف الجارّة، فإنّ مدخول اللام اسم قطعا، نعم مصاديقه من الحروف كالباء في مررت بزيد، و كذا اللام، و الواو، و غيرهما من الحروف المفردة الّتي يعبّر عنها بأسمائها.

و أمّا ما ورد في الأخبار الكثيرة في فضل القراءة من أنّ للقارئ بكل حرف خمسين حسنة، أو عشر حسنات، أو غير ذلك، بل

في بعضها: لا أقول بكلّ آية، بل بكل حرف، باء، أو تاء، أو شبههما.

و في خبر آخر أما إنّي لا أقول: الم* عشر، و لكن ألف

عشر، و لام عشر، و ميم عشر

فالمراد بالحرف فيها غير المعنى المصطلح عند النحاة، لأنّه عندهم من المنقولات العرفيّة الخاصّة، و في العرف العام يطلق على ما يعمّ الإسم و غيره، فالمراد به في الخبر هو ما يتركّب منه الكلم سواء لوحظت مفردة أو في ضمن المركّب.

ثمّ إنّهم راعوا في التسمية الدلالة على المسمّيات بصدور الأسماء إعمالا للمناسبة و ترجيحا للخصوصية، و ليكون هو أوّل ما يقرع السمع من الإسم، و هذه المناسبة ملحوظة في الجميع إلّا الألف الساكنة الّتي هي المدّة كوسط حروف (قال) فإنّه لا يمكن الافتتاح بها، لضرورة استحالة الابتداء بالساكن مطلقا، أو في لغة العرب، و لذا اختاروا لها اللام لما مرّ.

و إنّما قيّدنا هنا بالساكنة الّتي هي المدة احترازا عن المتحركة الّتي راعوا فيها المناسبة و أمّا الهمزة فليست من الأسماء الأصيلة للحروف، بل هي اسم محدث كما حكى عليه النّص عن ابن جني و غيره، و لذا قال الفيروزآبادي في ( (القاموس)): الألف ككتف الرجل العزب، و أول الحروف، و بوّب في آخر الكتاب للألف الليّنة بابا، و ذكر فيه أنّ أصول الألفات ثلاثة، و يتبعها الباقيات: أصليّة كألف (أخذ)، و قطعيّة كأحمد و أحسن، و وصليّة كاستخرج و استوفى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 78

ثمّ عدّ من التوابع الألف الفاصلة بعد واو الجمع، و نون الإناث، و ألف الإشباع، و الصلة، و غيرها.

و في: «الصحاح» و «مجمع البحرين»: أنّ الألف على ضربين ليّنة، و متحرّكة، فالليّنة تسمّى ألفا، و المتحرّكة همزة ثمّ ذكر انّ الهمزة على قسمين: ألف وصل، و ألف قطع ... إلخ و منه يظهر أنّ للألف إطلاقين، و الهمزة قسم منه يقابله بمعناه الأخصّ، و

لعلّه إنّما خصّ هذا القسم منه بها لما يظهر عند التلفّظ به من الغمز و العصر و الانضغاط.

و لذا قال في «الصحاح» بعد تفسير الهمز بالغمز و الضغط: و منه الهمز في الكلام، لأنّه يضغط، و قد همزت الحرف فانهمز، و قيل لأعرابي: أ تهمز الفاء؟ فقال:

السنّور يهمزها.

و في «مصباح المنير» و غيره ما يقرب منه.

و منها: أنّه لا ريب في أنّ هذه الأسماء ما لم يتعلّق بها شي ء من العوامل تقدمت عليها أو تأخرت عنها ساكنة الأعجاز، سواء كانت متفاصلة عند النطق بها أو متواصلة، فنقول: ألف- با، جيم، دال، من دون أن يظهر أثر الاعراب، بل شي ء من الحركات في أعجازها.

بل و كذا الأعداد المسرودة، و الأسماء المعدودة، فتقول: واحد، اثنان، ثلاثة، كما تقول: زيد، عمرو، بكر.

و إنّما الكلام في أنّ سكونها هل هو للوقف، أو للبناء، فصريح الزمخشري و تابعيه هو الأوّل، و هو المحكيّ عن جمهور المحقّقين من النحويين، حيث حصروا سبب بناء الأسماء في مناسبته ما لا تمكن له أصلا، و سمّوا الأسماء الخالية منها معربة، و جعلوا سكون أعجازها وقفا و لو مع اتّصال الكلام في الظاهر، إذ ليس في شي ء منها ما يوجب الوصلة، فكان بمنزلة الوقف عليها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 79

و ربّما استدلّوا عليه بأنّ العرب جوّزوا في الأسماء قبل التركيب التقاء الساكنين كما في الوقف فقالوا: زيد، عمرو، بكر، صاد، قاف، و لو كان سكونها بناء لما جمعوا بينهما كما في ساير الأسماء المبنيّة، نحو (كيف) و أخواتها، و لذا تحرّكها إذا أعددتها وصلا، فتقول: كيف، أين، حيث، فلم يجوّزوا في المعدودة منها التقاء الساكنين.

و بأنّهم عرّفوا المعرب بما يختلف آخره باختلاف العوامل في

أوّله، و أرادوا ما يمكنه الإختلاف على قانون اللغة، سواء اتصف به بالفعل، أو كان من شأنه ذلك إمّا قريبا كما وقع في التركيب و لم يعرب أو بعيدا كما في التحديد.

و بأنّ القول ببنائها يؤدّي إلى الفرق بين سببي البناء أعني وجود مانع الإعراب، و هو مشابهة الحرف و فقدان المقتضي كما في هذه الأسماء بتجويز التقاء الساكنين في الثاني دون الأوّل و هو تحكّم.

و يضعّف الدليل الأوّل بأنّ سكون أعجازها سردا وقفا و وصلا مع التقاء الساكنين و عدمه لعلّه من أثر البناء، فلا يغيّر، كما لا يغيّر الحركة في كيف و أخواتها، و انحصار جواز التقاء الساكنين في صورة الوقف ممنوع، كيف و هو أوّل الكلام.

و الثاني أيضا يضعّف بأنّه تعريف من البعض و ليس حجّة على غيره.

و الثالث أيضا ضعيف بأنّه مجرّد استبعاد، بل قد يستقرب الفرق بأنّ تلك الأسماء قد استمرّ بها السكون قبل التركيب فأشبهت الموقوف فاغتفر فيها ما جاز فيه.

و ذهب ابن الحاجب و بعض المتأخرين إلى أنّها مبنيّة، و قد عدّ غير واحد منهم من مقتضيات البناء الشبه الإهمالي الّذي ضبطوه بمشابهة الإسم الحرف في كونه غير عامل و لا معمول كأسماء الأصوات و الأسماء المسرودة، و الفواتح.

و حكى عن ابن مالك إدخاله في الشبه المعنوي، و عن غيره الشبه الاستعمالي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 80

و لكنّ الخطب فيه هيّن جدّا لعدم ظهور شدة للنزاع سيّما مع الاتفاق على سكونها على القولين إلّا في موضعين: أحدهما (ميم) أوّل العنكبوت على قراءة ورش «1»، و الأخر (ميم) أوّل آل عمران على قراءة جميع القرّاء إلّا أبا بكر بن عيّاش، عن عاصم «2».

إمّا لالتقاء الساكن الثالث الّذي

هو لام التعريف بعد سقوط الهمزة في الدرج في لفظ الجلالة على مذهب سيبويه.

و إما لنقل حركة همزة لفظ الجلالة إلى ميم (الم)* كما عن آخرين.

و على الوجهين فلا دلالة له على أحد القولين، لأنّ المبنيّ ربما يحرّك لضرورة التقاء الساكنين نحو (مِنَ اللَّهِ)*.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما يستدلّ به لكلّ من القولين من فقد المقتضي للآخر، إذ مع إمكان المعارضة ربما يقال: إنّما ضدّان فلا يكونان من قبيل الأعدام و الملكات حتى لا يمكن رفعهما.

بل قد ذكر بعض الأعلام في المقام أقوالا ثلاثة قال: قد اختلف في أنّ الأسماء قبل التركيب معربة، أو مبنيّة، أو لا معربة و لا و مبنيّة و لكن قابلة للإعراب، و ربما يعزى الى البيضاوي.

و أمّا ما في «مجمع البيان» من أنّ هذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجّي لأنّها مبنيّة على السكت، كما أنّ العدد مبنيّ على السكت، يدلّ على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك: لام، ميم، و تقول في العدد: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، فتقطع ألف إثنين مع أنها همزة وصل، و تذكر الهاء في ثلاثة

__________________________________________________

(1) هو عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش ... ولد سنة (110) و مات بمصر سنة (197) ه

(2) هو عاصم بن أبي النجود الكوفي القاري المتوفى (128).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 81

و أربعة و لو لا أنّك تقدّر السكت لقلت: ثلاثة بالتاء و يدلّ عليه قول الشاعر «1».

أقبلت من عند زياد كالخرف تخط رجلاي بخطّ مختلف تكتبان في الطريق لام ألف حيث ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها «2».

فالظاهر أنّ مراده من البناء معناه اللغوي، و أنّ سكونها عنده للوقف لا

البناء المصطلح كما يظهر من تضاعيف أدلّته، مع أنّه ذكر في أوّل سورة الأعراف: انّا قد بيّنا في أوّل سورة البقرة أنّ حروف الهجاء توصل على نيّة الوقف فرقا بينها و بين ما يوصل للمعاني «3».

و منها: أنّه قد يتلفّظ بما آخره ألف من هذه الأسماء مقصورا حالة التهجّي فتقول: با، تا، ثا، حا، خا، بالقصر في الجميع عند التعداد، فإذا ركّبتها و علقت عليها شيئا من العوامل مددتها فتقول: كتبت الباء معرّفا، و كتبت باء منوّنا، و كذا أخواته ممّا آخره ألف، و يلحق بالجميع أحكام الممدود من التثنية، و الجمع و التصغير و النسبة، و غيرها.

نعم ربما يبدل الهمزة أو الألف منها واوا أو ياء في النسبة و غيرها، و لذا قال في القاموس: التاء حرف هجاء، و قصيدة تائيّة، و تاوية، و تيويّة.

و أمّا ما فيه و في الصحاح من جواز المدّ و القصر في الحاء، فلعلّه مبني على الوجهين.

__________________________________________________

(1) هو ابو النجم الراجز الفضل بن قدامة العجلي الشاعر كان يحضر مجالس عبد الملك و هشام، مات سنة (130) ه

(2) مجمع البيان ج 1 ص 34.

(3) مجمع البيان ج 4 ص 394.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 82

ثم إنّه لا ينبغي التأمّل في كونها أسماء على الحالتين حسبما مرّ الكلام فيه.

و ربما يتوهم كونها حروفا مقصورة و أسماء ممدودة حملا على (لا) فإنّ ممدودتها اسم لمقصورتها فتعرب الممدودة بمقتضى الكلام و تدخلها التنوين و الإضافة و غيرهما، كقول حسّان «1» في مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده لولا التشهّد لم يسمع له أذلاء و في قول فرزدق «2» في

مدح مولانا السّجاد عليه صلوات اللّه:

ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده لولا التشهّد كانت لاؤه نعم و كقول الآخر:

كأنّك في الكتاب وجدت أذلاء محرّمة عليك فلا تحلّ و فيه المنع من كون (لا) حرفا في البيتين بعد كونه مسندا و لو على وجه الحكاية.

و أمّا تلك الحروف و الظاهر اطباقهم على اسميّتها لما سمعت.

بل عليه يتفرّع الإختلاف في اعرابها و بنائها.

مضافا إلى أنّهم قد صرحوا بأنّ الأسماء لمسمّياتها إنّما هي المقصودة من تلك الكلمات، و أنّها موضوعة على القصر، و أنّها في الأصل أسماء ثنائية إلّا أنّهم إذا أرادوا أن يعربوها بادراجها في الكلام زادوا عليها ألفا و قلبوها همزة حذرا لالتقاء الساكنين.

و إنّما حملهم على تلك الزيادة الحذر من بقاء الإسم على حرف واحد بعد

__________________________________________________

(1) حسّان بن ثابت بن المنذر الانصاري الخزرجي الشاعر عاش (130) سنة و توفي سنة (54) ه.

(2) هو همّام بن غالب الشاعر المعروف بفرزدق توفي سنة (110) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 83

دخول التنوين و سقوط الألف لالتقاء الساكنين، كما نبّه عليه نجم الائمة «1»، و غيره.

قالوا: و أمّا (زاي) فهو على ثلاث أحرف آخرها الياء كالواو، أعربته أو لم تعرب، و فيه لغة أخرى: (زي) نحو كي، فإذا ركّبتها او أعربتها تزيد عليها ياء، فتقول: كتبت زيّا بالتشديد كما يشدّدون في كل كلمة ثنائية ثانيها حرف علّة إذا أعربوها، نحو (لو) و (في) و (هو) و (هي)، فتقول: كتبت لوّا «2»، و هذه فيّ، بالتشديد فيهما.

أقول: و فيه لغات آخر أشار إليها في القاموس، قال: و الزاي إذا مدّ كتب بهمزة بعد الألف، و وهم الجوهري، و فيه لغات: الزاي، و الزاء، و

الزا، و الزيّ كالعليّ، و زي نحو كي، و زا منونة.

و ما اعترض به على الجوهري هو قوله: يمدّ و يقصر، و لا يكتب إلا بياء بعد الألف.

و منها: أنّهم قد قرّروا في أسماء حروف الهجاء أنّها لا تخلو إمّا أن يقصد بها نفس الأسماء، أو مسمّياتها الّتي هي مصاديق أسمائها أو غير ذلك من المعاني الّتي سمّيت بها، كما لو سمّي رجل بشي ء من الحروف المفردة أو المركبة.

فعلى الأوّل يجب الإتيان بالاسم كتبا و لفظا، فيقال: كتبت ألفا، و رأيت جيما.

و على الثاني يؤتى بالحرف المفرد خطّا و لفظا لأنّه المسمى حقيقة، فإذا قيل:

اكتب: جيم، فالمراد أول حرف من حروف جعفر و هو (ج) فإنّه هو المصداق لمفهوم مسمّاه، و كذا عند النطق به و إن وصل به هاء السكت حينئذ حذرا من الوقف على

__________________________________________________

(1) هو رضي الدين محمّد بن الحسن الأسترابادي النحوي المحقّق توفّي سنة (686) ه

(2) نحو قول الشاعر كما في البهجة المرضية للسيوطي:

ألام على لوّ و إن كنت عالما بأذناب (لوّ) لم تفتني أوائله

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 84

المتحرّك، و الابتداء بالساكن بل في الكتابة أيضا، لأنّ الأصل في كلّ كلمة أن تكتب بصورة لفظها بتقدير الابتداء بها و الوقف عليها، و لذا يكتب: ره زيدا، و قه عمروا.

و حكاية سؤال الخليل أصحابه في كيفيّة النطق بالجيم من جعفر مشهورة.

و أمّا على الثالث فاللازم فيه كتابة ألفاظها بحروف هجائها كالأوّل، و ربما يحكى فيه مذاهب أخر فيكون كالثاني، و لعلّه و هم، بل الإطباق حاصل منهم على الأوّل.

نعم قد اتّفقوا في رسم المصحف على كتابة تلك الحروف المقطّعة الواردة في بعض فواتح السور على صورها

الّتي هي مصاديق مسمّياتها سواء قلنا إنّها أسماء للسور أو للقرآن، أو لأشياء أخر، مثل (ق) للجبل و (ص) للنهر، أو أنّها أبعاض من أسماء اللّه تعالى، أو رموز لأمور، أو أسماء لحروف التهجّي تنبيها على أنّ القرآن مركّب من هذه الحروف كألفاظكم الّتي تكلّمون بها فهاتوا بمثلها إن قدرتم على ذلك، الى غير ذلك من الوجوه الّتي مرّت الإشارة إليها، فإنّهم مع اختلافهم في المراد بها، على أقوال كثيرة قد اتفقوا على رسمها بصورها و النطق بها بصورها الهجائية فأعملوا فيها القاعدة الموجبة لتفريع الرسم على المذاهب، و خالفوا بينه و بين النطق بها، و ذلك لمتابعة الرّسم الّذي قيل:

إنّه سنّة متّبعة، و لذا روعي التوقيف في التلاوة و الكتابة.

مضافا إلى ما لعلّه الوجه في ذلك من أنّها لمّا أريد منها معان متعدّدة متخالفة الأحكام حسبما اخترناه سابقا، و كان بعض هذه المعاني مقتضيا لإرادة المصاديق، و بعضها مقتضيا لإرادة نفس الأسماء أو المسمّيات الّتي هي غير المصاديق فراعوا فيها حكم الأوّل رسما، و حكم الأخيرين نطقا كي ينصرف نظر الناظر فيها الى الأمرين و لا يهمل بعض المقصود في البين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 85

و منها: أنّهم عدّوا بعض هذه الفواتح أية دون بعض من دون استناد فيه إلى ما يصلح مرجّحا لذلك، بل لمجرد التوقيف و التوظيف، فعدّوا (الم)* آية حيث وقعت من السور المفتتحة بها، و هي ستّ، و كذلك (المص) آية، و (طسم)* آية في سورتيها و (طه) آية، و (يس) آية، (حم)* آية في سورها كلّها، و (حم عسق) آيتان، و (كهيعص) آية واحدة.

و لكن لم يعدّوا من الآيات (الر)* في سورها الخمس، و (المر)، و (طس) و

(ص)، و (ق)، و (ن).

و هذا البناء على مذهب الكوفيين، و أمّا غيرهم فلم يعدّوا شيئا من الفواتح آية على ما حكاه عنهم الزمخشري في الكّشاف و غيره معتمدين فيها على مجرّد التوقيف.

نعم قال الطبرسي في «المجمع»: إنّما عدّ الكوفيّون (المص) آية و لم يعدّوا (ص) آية لأنّ (المص) بمنزلة الجملة، مع أنّ آخره على ثلاثة أحرف بمنزلة المردف، فلمّا اجتمع هذان السببان و كلّ واحد منهما يقتضي عدّه عدّوه، و لم يعدّوا (المر) لأنّ آخره لا يشبه المردف، و لم يعدّوا (ص) لأنّه بمنزلة اسم مفرد، و كذلك (ق) و (ن) «1».

و قال في (المر): إنّه لم يعدّها أحد آية، و عدّ الكوفي (طه) و (حم) آية لأنّ (طه) مشاكلة لرءوس الآي الّتي بعدها بالألف، مع أنّه لا يشبه الإسم المفرد كما أشبه صاد، و قاف، و نون، لأنّها بمنزلة باب، و نوح «2».

أقول: و لعلّ البناء على مجرّد التوقيف أولى من ذلك كلّه.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 4 سورة الأعراف ص 394.

(2) مجمع البيان ج 6 ص 6 سورة الرعد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 86

سيّما بعد ما هو المشهور من أنّ عدد الكوفي هو المروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

نعم إنّما الكلام في تشخيص الموضوع، إذ قد يحكى عن كتاب المرشد «1».

أنّ الفواتح في السور كلّها آيات عند الكوفيّين من غير تفرقة بينها.

بل قد يناقش أيضا في قولهم: «إنّ (الم)* آية حيث وقعت» بأنّها في سورة آل عمران ليست بآية، و كأنّه إنّما توهم ذلك من جهة الوصل بفتح الميم فيه على ما يأتي ان شاء اللّه تعالى، و لا يخفى ما فيه، نعم الرواية عنهم في ذلك لا تخلو من

تدافع، و الخطب سهل.

و منها: أنّ هذه الفواتح على أربعة أنواع، فإنّها إمّا اسماء مفردة ك ص، و ق، و ن، أو مركّبة مجموعها على زنة مفرد ك حم*، و طس، و يس، فإنّها على زنة هابيل و قابيل، أو ليست على زنة مفرد لكن يمكن اعتبار التركيب فيها، ك طسم*، بفتح النون مضمومة الى الميم كأنّهما جعلا اسما واحدا كالمركّب المزجي نحو بعلبك، أو مركّبة غير القسمين مثل (المر) و (كهيعص).

المتعيّن في النوع الأخير هو الحكاية، و أمّا الثلاثة قبله فيجوز فيها الأمران:

الإعراب، و الحكاية بصورة الوقف كالأعداد قبل التركيب، هذا كلّه على مذهب الزمخشري و أتباعه.

و اعترض عليه نجم الأئمّة رضي اللّه عنه بأنّ المبنيّ إذا سمّي به غير ذلك اللفظ فالواجب فيه الإعراب، و قد سمعت أنّ مذهب الزمخشري في هذه الأسماء الإعراب لكنّها لم تعرب لعدم المقتضي للإعراب، و على هذا فكيف تحكى و لا

__________________________________________________

(1) المرشد الوجيز الى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة عبد الرّحمن بن إسماعيل الدمشقي المتوفى (665) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 87

تعرب مع حصول المقتضي للإعراب إذا سمّيت بها السور.

و أمّا حكاية الحكاية فقد يورد عليها بأنّها إنّما تجري في بعض المركّبات المنقولة الى العلميّة، و في أعلام الألفاظ المحكيّة الملاحظ فيها مسمّى تلك الألفاظ نحو «ضرب فعل ماض» و «كم» للتكثير، لأنّ ضرب علم جنس لنحو ضرب زيد، و ضرب بكر، ففيه مجانسة مع المسمّى و اعتبار له فأوجب الحكاية إشعارا بأنّه ليس منقولا من الأصل من كلّ وجه، أمّا إذا جعل علما لرجل فيتعيّن فيه الإعراب على كلّ حال.

و أجيب عنه بأنّ هذه الأسماء شايع الاستعمال للدلالة على الحروف المبسوطة لمجرّد التعداد،

بل الأغلب عليها ذلك، فلمّا نقلت إلى جعلها أسماء للسور روعي الأصل في حكاية الوقف، و ليس لغيرها من الأسماء هذه الخاصيّة و إلّا لجوّزت حكايتها، على أنّ فيها شمّة من ملاحظة الأصل، لأنّ مدلولاتها مركّبات من تلك الحروف المبسوطة، و الغرض من هذه التسمية الإيقاظ، و قرع العصا.

و فيه: انّ مجرّد شيوع الاستعمال لا يقضي بالإلحاق، سيّما بعد وجود المقتضي للإعراب و ملاحظة الأصل متعينة بعد التسمية.

و لذا أجمعوا على وجوب الإعراب لو سمّيت بها غير تلك السور إنسانا كان المسمّى أو غيره، و كذا لو ركّبت ساير حروف المعجم مع عواملها، فإنّه لا يجوز الحكاية في الموضعين قولا واحدا.

و الفرق بما توهّموه في المقام غير فارق اللهمّ إلّا أن يستندوا فيه كغيره إلى السماع و التوقيف، و لا بأس به على فرض المساعدة.

نعم قسّم بعض المحققين أسماء السور على أقسام:

أحدها: ما فيه أل، و حكمه الصرف، كالأنعام، و الأعراف، و الأنفال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 88

الثاني: العاري منها، فإن لم تضف إليه سورة منع من الصرف، كهذه هود، و قرأت هود، و إن أضيف إليه سورة لفظا أو تقديرا صرف، كقرأت سورة هود، ما لم يكن فيه مانع يمنعه، كقرأت سورة يونس.

الثالث: الجملة نحو «قُلْ أُوحِيَ» و «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» فيحكى فإن كان أوّلها همزة وصل قطعت، لأنّها لا تكون في الأسماء إلّا في ألفاظ معدودة تحفظ و لا يقاس عليها، أو في آخره تاء التأنيث قلبت هاء في الوقف إذ هو شأن التاء الّتي في الأسماء، و تعرب لكونها اسما و لا موجب للبناء و يمنع الصرف للعلميّة و التأنيث، نحو «قرأت اقتربت» بفتح التاء، و في الوقف «اقتربه».

الرابع: حروف الهجاء

كصاد، و قاف، و نون، يجوز فيها الحكاية، لأنّها حرف فتحكى كما هي، و يجوز فيها الإعراب لجعلها أسماء لحروف الهجاء، و على هذا يجوز فيها الصرف و المنع، بناء على تذكير الحرف و تأنيثه، و سواء أضيف إليه سورة أم لا، نحو «قرأت صاد» أو «سورة صاد» بسكون الدال، و مثل «قرأت صاد أو قرأت صادا» و قرأت سورة صاد أو قرأت سورة صاد.

الخامس: في حم*، و طس، و يس اختلفوا، فأوجب ابن عصفور «1» فيها الحكاية، لأنّها حروف مقطّعة، و جوّز الشلوبين «2» فيها الحكاية و الإعراب غير منصرف لموازنتها هابيل و قابيل، و قد قرء ياسين بفتح النون، و سواء في جواز

__________________________________________________

(1) هو علي بن مؤمن بن محمد بن علي أبو الحسن بن عصفور النحوي الحضرمي الإشبيلي حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس ولد سنة (597) ه، و مات سنة (663) أو (669).

بغية الوعاة ص 357

(2) هو عمر بن محمد بن عمر بن عبد اللّه أبو علي الإشبيلي المعروف بالشلوبين و معناه بلغة الأندلس الأبيض الأشقر، كان من ائمة العربيّة في عصره ولد سنة (562) و مات سنة (645) ه بغية الوعاة ص 364.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 89

الأمرين أضيفت إليها سورة أم لا.

السادس: المركّب نحو طسم* إذا لم تضف إليها سورة ففيها يجوز الوجهان المتقدّمان: الحكاية، و الإعراب، و وجه ثالث أيضا و هو بناء الجزئين على الفتح كخمسة عشر.

و إن أضيف إليها سورة لفظا أو تقديرا ففيه الوجهان، و يجوز على الإعراب فتح النون و اجراء الإعراب على الميم نحو بعلبك، و إجراؤه على النون مضافا الى ما بعده، و على هذا يجوز في (ميم) الصرف و

عدمه على تذكيره و تأنيثه.

و أمّا كهيعص و حم عسق فلا يجوز فيهما إلّا الحكاية سواء أضيف إليها سورة أم لا، و لا يجوز فيهما الإعراب لفقد النظير في الأسماء المعربة، و لا تركيب المزج لأنّه لا يتركّب عن أسماء كثيرة.

و أجاز يونس «1» في كهيعص أن يكون كلّه مفتوحة، و الصاد مضمومة معربة، و وجهه أنّه جعله اسما أعجميا، و أعربه و إن لم يكن له نظير في الأسماء المعربة.

أقول: لكنّ الّذي حكاه عنه نجم الأئمة البناء على أن يكون كاف مركبا مع صاد و الباقي حشو لا يعتد به، و هو كما ترى.

و من جميع ما مرّ يظهر الوجه في قراءة من قرأ صاد، و قاف، و نون، مفتوحات، أو ياسينا منصوبا، أو غير ذلك من القراءات.

و منها: أنّ هذه الفواتح على فرض كونها أسماء اللّه تعالى أو للقرآن، أو للسورة، أو غيرها، لها حظّ من الإعراب.

فيجوز أن يكون محلّها الّرفع على الابتداء، و غيرها، مذكور أو محذوف، أو

__________________________________________________

(1) يونس بن حبيب النحوي المتوفى (182) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 90

على الخبر، و مبتدئها مذكور أو محذوف.

و أن يكون محلّها النصب بتقدير فعل مضمر خبريّ أو إنشائي نحو (أذكر) أمرا، أو (أذكر) مضارعا، أو بتقدير فعل القسم فيما يصلح لذلك بنزع الخافض و إيصال فعل القسم إليها، كما في قولهم: اللّه لأفعلن.

و أمّا ما يقال: من أنّه غير مرضيّ لتخلّفه في (وَ الْقُرْآنِ)* بعد يس، و ص، و ق.

و في «وَ الْقَلَمِ» بعد ن، لورودهما مجرورين، فلا يمكن العطف لتخالف المتعاطفين إعرابا، و لا جعل الواو للقسم لاتحاد المقسم عليه الدالّ على كون الواو للعطف و لذا استكره الخليل و سيبويه

في قوله تعالى: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «1» كون الواوين الأخريين بمنزلة الأولى، بل ذهبا إلى أنّهما للعطف.

ففيه: أنّ الاستكراه لا يدلّ على المنع، و الخلاف في المسألة مشهور بين النحاة و عدم استقامته او صحّته في البعض لا يقتضي إطراحه في الكلّ.

و يجوز أن يكون محلّها الجرّ، إبقاء للخفض بعد إسقاط الخافض فيما يصلح منها للقسم إضمارا للباء القسميّة، كقولهم: اللّه لأفعلن بالجرّ، و قولهم: «لاه أبوك» في التعجب، أصله للّه، أضمرت اللام الأولى فبقي لامان، أولاهما ساكنة و لم يمكن الإدغام لتعذّر الابتداء بالساكن فحذفت الأولى فبقى (لاه).

لكنّها مع الجرّ موقوفة للحكاية، أو مفتوحة لمنع الصرف فيما اجتمع فيه سببان.

و أما من كسر (صاد) فلاجتماع الساكنين، أو لأخذه من المصاداة بمعنى المعارضة على ما يأتى الكلام فيه إن شاء اللّه.

__________________________________________________

(1) الليل: 1- 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 91

ثمّ لا يخفى أنّه لو جعل هذه الحروف اختصارا من كلام، او حروفا مسرودة للإيقاظ، أو التحدّي، أو للإشعار على تاريخ، أو لفائدة التأليف على بعض الوجوه، فلا حظّ لها من الإعراب أصلا و إن أقيمت مقام شي ء من الجمل، أو أفادت فائدتها.

ثمّ إنّ كلّا من هذه الحروف لمّا كان كلمة جاز في الكناية عنها بالضمير أو الإشارة إليها التذكير باعتبار الإسم أو الحرف، و التأنيث باعتبار الكلمة أو السورة باعتبار الوضع لها.

و منها: أنّه يجب المدّ في هذه الفواتح فيما اجتمع فيه حرف المدّ و سببه: و في حرف اللين و الحركة العارضة وجهان بل وجوه، و لا مدّ مع فقد أحد الأمرين.

بيان ذلك أن حروف الفواتح على أربعة أقسام:

أحدها ما هو على

ثلاثة أحرف، و التقى فيه حرف المدّ و الساكن و حركة ما قبل حرف المدّ مجانسة له و هو ممدود بالاتّفاق، و ذلك في سبعة أحرف: للألف أربعة: صاد، قاف، كاف، لام، و للياء اثنان: سين، ميم، و للواو واحد و هو نون، فإن تحرّك الساكن نحو ميم في أوّل أل عمران على قراءة الجميع، و في أوّل العنكبوت على قراءة ورش، و نحو صاد، و قاف على قراءة بعضهم، ففي المدّ وجهان، و الأقيس عندهم المدّ.

و ثانيها مثل الأوّل إلّا أن حركة ما قبل حرف المدّ لا تجانسه و هو حرف واحد، و هو (عين) في كهيعص، و حم عسق، و فيه ثلاثة أقوال: المدّ، و التوسط، و القصر.

الثالث ما لم يلتقي الساكن نحو (حا).

و الرابع ما فقد فيه حرف المدّ نحو الألف، فلا مدّ في شي ء منهما.

[سورة البقرة(2): آية 2]

اشارة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 92

تفسير الآية (2) ذلِكَ الْكِتابُ ذلِكَ إشارة صدرت عن سرادق مجد العزّ، و قدس كبرياء الجبروت إلى الكتاب المنزل في كسوة المعاني و الحروف إلى الأرواح التائهة في فيافي بيداء الملكوت، و الأكوان الغاسغة في ظلمات علائق الناسوت، فإنّك قد سمعت أنّ هذا الكتاب هو النور المبين، و الماء المعين، و الحاكي لمرتبة سيّد المرسلين في صقع التدوين صلّى اللّه عليه و آله أجمعين، و قد تنزّلت تنزّلات كثيرة في عوالم مترتّبة.

و لذا أشير اليه بما يشار إلى البعيد.

أو أنّه إشارة إلى ما كان عليه في رتبته في أوّل الظهور، و فوق سرادق النور.

تنبيها على عظمة المشير، و غاية انحطاط تجلّيات ظهور النور عن الوصول إلى رتبة المنير.

أو على عظمة المشار إليه، سوق الكلام مساق إجرائه على لسان عبيده لانحطاط درجاتهم

عن رتبته.

و منه قولهم:

أقول له و الرّمح يأطر متنه تأمل خفافا إنّني أنا ذلكا «1» أي أنا ذلك الرّجل العظيم الّذي سمعت جلالته.

او إشارة إلى (الم) باعتبار تأويله بالمؤلّف من هذه الحروف.

أو كونه اسما للقرآن أو للسورة حيث إنّه جرى له ذكر و تقضّي جاز.

أن يعتبر متباعدا فيشار إليه بما يشار به إلى البعيد، كما في

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 93

قوله تعالى: لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» و قوله تعالى حكاية عن يوسف: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي «2».

أو إشارة إلى ما نزل بمكّة قبل هذه الّسورة، فإنّها مدنيّة، بناء على اطلاق الكتاب كالقرآن على البعض كالكلّ، و يؤيّده قول الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «3» و هم لم يسمعوا إلّا البعض، و تبعيد الإشارة باعتبار بعد الزمان.

أو إلى المجموع من حيث المجموع باعتبار وجوده الجمعي الملكوتي المثبت في اللوح المحفوظ، كما قال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «4»، و قال: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا «5».

أو باعتبار نزوله الجمعي الأولى في السماء الأولى على ما دلّت عليه الأخبار، بل و قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «6».

أو إشارة إلى الكتاب الحاضر حضورا ذكريا أو ذهنيّا، و ذلك بمعنى هذا، كما عن الأخفش، و غيره، بل و لعلّه إليه الإشارة بما

ذكره الإمام عليه السّلام في تفسيره حيث قال: كذّبت قريش و اليهود بالقرآن، و قالوا: سحر مبين تَقَوَّلَهُ، فقال: اللّه عزّ و جلّ: الم ذلِكَ الْكِتابُ أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة «7» ..

من الخبر على ما تقدّم.

__________________________________________________

(1) سورة

البقرة: 68.

(2) سورة يوسف: 37.

(3) سورة الأحقاف: 30.

(4) البروج: 22.

(5) الزخرف: 4.

(6) القدر: 1.

(7) نور الثقلين ج 1 ص 27- 28 ح 7 عن تفسير الإمام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 94

أو أنّ اللّه تعالى وعد نبيّه ان ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء و لا يخلق على كثرة الردّ، كذا في بعض الأخبار «1».

أو وعده سبحانه أن يلقي عليه قَوْلًا ثَقِيلًا، كما في الآية «2»، فلمّا أنزل القرآن قال: هذا القرآن ذلك الكتاب الّذي وعدتك.

أو انّ اللّه عزّ و جلّ وعد الأنبياء في الكتب السالفة أن ينزل على نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتابا مفتتحة بالحروف المقطّعة، فلمّا بعثه اللّه سبحانه و أنزل عليه الكتاب جعل افتتاح سورته الكبرى ب الم، يعني أنّ هذا هو ذلك الكتاب الّذي أخبرت أنبيائي السالفين، و خصوصا و ساير أنبياء بني إسرائيل أنّي سأنزل عليك يا محمد.

و هذا الوجه هو المستفاد ممّا ذكره الإمام عليه السّلام في تفسيره و قد حكيناه بطوله في البحث السابع «3».

و يؤيّده أيضا ما

رواه في المناقب عن أبي بكر الشيرازي في كتابه، و أبي صالح في تفسيره عن ابن عبّاس في قوله ذلِكَ الْكِتابُ يعني القرآن و هو الّذي وعد اللّه موسى و عيسى أنّه ينزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في آخر الزمان

، إلى آخر و سيأتي ان شاء اللّه تعالى.

فهذه وجوه تسعة، عاشرها المكمّل لها أن يكون ذلِكَ إشارة إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، و ذلك أنّه هو كتاب اللّه الناطق بأوامره و نواهيه، و لسانه الصادق الّذي لا رَيْبَ فِيهِ.

روى العياشي عن

الصادق عليه السّلام قال: كتاب عليّ لا رَيْبَ فِيهِ «4».

__________________________________________________

(1) الخبر المتقدم ذكره المروي من تفسير الإمام.

(2) المزمّل: 5.

(3) نور الثقلين ج 1 ص 27 ب 28 ح 7 عن تفسير الإمام.

(4) تفسير العياشي ج 1 ص 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 95

ما هو المراد بالكتاب

أقول: و المراد أنّ ذلِكَ إشارة إلى عليّ عليه السّلام، و الْكِتابُ عطف بيان له، و إضافة كتاب إلى علي في الخبر بيانيّة، و المعنى الكتاب الّذي هو عليّ عليه السّلام لا مرية فيه، و في كونه علما هاديا للمتّقين.

و في تفسير القمي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله: «ذلِكَ الْكِتابُ» فقال عليه السّلام:

الكتاب عليّ عليه السّلام لا شكّ فيه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، بيان لشيعتنا «1» ....

و في «مشارق الأمان» أنّه روى في معنى «ذلِكَ الْكِتابُ»: أنّه قال: الكتاب علي عليه السّلام.

و يؤيد ذلك ما

رواه في «الكافي» عن الكاظم عليه السّلام في جواب النصراني الّذي سأل عن تفسير قوله تعالى: حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* «2» في الباطن، فقال عليه السّلام: أمّا حم* فهو محمّد و هو في كتاب هود الّذي أنزل عليه و هو منقوص الحروف، و أمّا الْكِتابِ الْمُبِينِ* فهو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام «3».

أقول: و ذلك لما أشرنا إليه في مفتتح تفسير الفاتحة «4»: من أنّ الكتاب كتابان:

تدويني و تكويني، أحدهما بيان و حكاية للآخر الّذي هو الأصل في الجعل و الإبداع، و هذان الكتابان، أعني القرآن و أمير المؤمنين عليه السّلام هما الثقلان اللذان خلّفهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أمّته، و أمرهم بالتمسك بهما، و انّهما لا يفترقان حتّى يردا عليه الحوض، و النسختان متطابقان في

الاشتمال على حقايق المعارف

__________________________________________________

(1) تفسير القمي ص 30.

(2) الدخان: 1- 2.

(3) اصول الكافي ج 1 ص 479 و عنه البحار ج 16 ص 88.

(4) الصراط المستقيم ج 3 ص 14- 15 ط قم المعارف الاسلامية.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 96

و مراتب الإيمان، و فيما يجري لهما به الذكر و البيان، إلّا أنّ أحدهما صامت و الآخر ناطق، فللصامت دلالات و بيانات لا يطّلع عليها على ما هي عليها إلّا ذلك الناطق الّذي منحه اللّه تعالى علمه، و أورثه شأنه، و بيانه، و تنزيله و تأويله، و لذا يفسّر به في تفسير الباطن كما أشير إليه في الخبر.

و من هنا يظهر أنّه لا منافاة بين إرادته باعتبار الباطن، و بين إرادة ما هو المنساق من ظاهر اللفظ على ما هو الظّاهر من تفسير الإمام عليه السّلام، و غيره، مع أنّ استعمال الكتاب في الإنسان الكامل سيّما هو و ذريّته المعصومون سلام اللّه عليهم شايع مستفيض.

بل الظاهر من

الشعر المنسوب الى امير المؤمنين عليه السّلام:

دوائك فيك و ما تشعر و دائك منك و ما تبصر

و أنت الكتاب المبين الّذي بأحرفه يظهر المضمر

و من

قول الصادق عليه السّلام: إنّ الصورة الإنسانية هي أكبر حجّة للّه على خلقه، و هي الكتاب الّذي كتبه بيده «1» ...

الخبر على ما تقدم «2» في تفسير «الْعالَمِينَ» إطلاقه على مطلق الإنسان باعتبار اشتماله على حروف العالم الكبير و بسائطها في صقع الاستعداد و التكوين.

ثمّ إنّ ذلِكَ أصله ذا، و هو الإسم الموضوع للإشارة، و الأصل فيه أن يشار به إلى الحاضر القريب الّذي يصلح أن يقع مخاطبا إلّا أنّه لمّا اتصلت كاف الخطاب

به أخرجته عن هذه الصلاحيّة، إذ لا يخاطب اثنان في كلام واحد إلّا مع العطف الموجب للإضراب، أو اجتماعهما في كلمة الخطاب نحو أنت و أنت فعلتما، أو أنتما

__________________________________________________

(1) شرح الأسماء الحسنى ج 1 ص 12.

(2) الصراط المستقيم ج 3 ص 411 ط مؤسّسة المعارف الاسلامية.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 97

فعلتما، فكاف الخطاب توجب كون ما وليته غائبا في التعبير عنه، نحو غلامك قال كذا، و إن كان حينئذ غلامه حاضرا، إلّا أنّه لم يعتبر حضوره.

فهكذا في ذلك عبّروا بالجمع بين ما دلّ على الحضور و ما دلّ على الغيبة عن حال التوسط، ثمّ لمّا أرادوا التنصيص على البعد جاءوا بعلامته و هي اللام، فقالوا: ذلك، و هذه الكاف حرفيّة و إن كانت تتصرّف تصرّف الكاف الاسميّة غالبا ليتبيّن بها أحوال المخاطب من الإفراد و التثنية و الجمع و التذكير و التأنيث، نعم قد يستبان الأخيران بمجرّد الفتح و الكسر.

و ربما حمل عليه قوله تعالى في هذه السورة: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ «1»، و قوله سبحانه: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ «2» في سورة المجادلة.

و إن قيل: إنّ الخطاب فيهما للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ أحد.

الكتاب بحسب اللغة

مصدر سمّي به المفعول للمبالغة، و أصله بمعنى الجمع و منه: تكتّبوا أي تجمّعوا، و الكتيبة: الجيش لانضمام بعضهم إلى بعض.

و قيل: إنّه اسم جامد بني بمعنى المفعول، و على الوجهين إن كان معناه هو المنظوم لفظا أو وجودا فالإطلاق حقيقة، أو خطّا فمن مجاز الأوّل باعتبار ما يكتب، اللهمّ إلّا أن يعتبر إثباته في الألواح السماوية فكالأوّل حقيقة.

و ربما يطلق الكتاب على المكتوب فيه، بل اقتصر عليه في القاموس، و إن ذكر معه

معان أخر و ليس بجيّد، فإنّ إطلاقه عليه باعتبار ما كتب فيه.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 232.

(2) سورة المجادلة: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 98

و تذكير الإشارة مع كون المشار اليه اسم السورة باعتبار اللفظ، أو كونها بعض القرآن أو لمراعاة الخبر على بعض الوجوه.

و أما ما يقال من المنع من كون المشار إليه مؤنثا، لأنّه إمّا المسمّى و هو ذلك البعض أو الإسم و هو الم فكذلك، نعم لذلك المسمّى اسم آخر مؤنث، لكن الإسم المذكور مذكّر.

ففيه أنّهم ربما يعتبرون التأنيث في المسمّى بمجرد اعتبار تأنيث أحد الاسمين، ألا ترى أنّ كلّ حرف من الحروف يجوز تأنيث الضمير الراجع إليه باعتبار كونه كلمة، بل في «المصباح المنير» عن أبي عمرو «1» قال: سمعت أعرابيا يمانيّا يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟

قراءة غريبة

نقل عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قرأ: ألم تنزيل الكتاب «2».

__________________________________________________

(1) هو ابو عمرو إسحاق بن مراد الشيباني الكوفي المعروف بأبي عمرو الأحمر كان لغويا من أهل بغداد مات سنة (205) او (206) او (213) و قد بلغ مائة و عشر سنين- بغية الوعاة ص 193.

(2) نقله الزمخشري في الكشاف ج 1 ص 112.

و لا يخفى أنّ هذه القراءة مردودة لأنّها صريحة في تحريف الكتاب الإلهي الّذي وعد اللّه سبحانه حفظه بقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و أخبر بأنّه ليس فيه اختلاف بقوله سبحانه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً و هذه القراءة المنقولة عن ابن مسعود ليس من الاختلافات القرائية الراجعة إلى الهيئات او الموادّ الراجعة الى الهيئات، مثلا إذا قرء لا

ريب فيه برفع الباء فهو من الإختلاف في الهيئة. و إذا اختلف في يَعْلَمُونَ* في مورد مثلا هل هذه الكلمة بالياء أو بالتاء فهو اختلاف في المادة الراجعة الى الهيئة، أمّا تعويض ذلِكَ بكلمة تنزيل فهو من التحريف الّذي لا نعتقده.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 99

تفسير لا رَيْبَ فِيهِ
اشارة

الريب في الأصل مصدر رابني الشي ء إذا حصل فيك الريبة (بكسر الراء) و هي قلق النفس و اضطرابها، و منه

النبوي: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1» فإن الشكّ ريبة، و الصدق طمأنينة.

و من هنا قيل: إنّه الشك كما في الصحاح، و غيره، و قيل: إنّه أسوء الشك، و قيل: شكّ مع تهمة.

و لعلّ الثاني ينزّل على الثالث و إن كان أعمّ بحسب المفهوم، و فرّق بينهما في «فروق اللغات» على الوجه الثالث مستدلا عليه بهذه الآية، نظرا الى أنّ المشركين مع شكهم في القرآن كانوا يتهمون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّه هو الّذي افتراه، و أعانه عليه قوم آخرون.

قال: و أمّا قوله: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي «2» فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب أو غيرهم ممّن يعرف النبيّ بالصدق و الأمانة و لا ينسبه الى الكذب و الخيانة.

أقول: و فيهما نظر- أمّا في الأوّل فلأنه أعمّ من المطلوب، كيف و اتّهامهم له في موضع آخر لا يدلّ على دخوله تحت المنفي، و أمّا الثاني فلأنّ الشكّ غير مقيّد بعدم الاتّهام- بل هو أعمّ من الريب مطلقا، كما يظهر من أوّل كلامه، حيث عرّف الشك بتردّد الذهن بين أمرين على حدّ سواء، و الريب بأنّه شكّ مع تهمة.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 259 ح 7 و ص

260 ج 16.

(2) يونس: 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 100

و على هذا فلا حاجة الى ما تكلّفه في المقام، نعم الظاهر أنّ الريب كما يطلق على الشكّ الّذي معه تهمه كذلك يطلق كلّ من القيدين منفردا عن الآخر- و لذا فسّره في «القاموس» بالظنة و التهمة.

و في العلوي: «لا ترتابوا فتشكّوا و لا تشكّوا فتكفروا» «1» و قد فسّر في المقام بمطلق الشكّ في أخبار كثيرة:

ففي تفسير الإمام عليه السّلام: لا رَيْبَ فِيهِ، لا شكّ فيه، لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، يقرأه هو و أمّته على سائر أحوالهم «2».

و في بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه السّلام بعد تفسير الكتاب بأمير المؤمنين عليه السّلام قال:

لا شكّ فيه أنّه إمام و شيعتنا هم المتقون «3».

و في «مشارق الأمان»: لا رَيْبَ فِيهِ قال: لا شكّ فيه.

و مثله ما في المناقب عن ابن عبّاس.

و (لا) موضوعة لنفي الجنس، و يلزمه نفي الإفراد على وجه الاستغراق، إذ ما من فرد إلّا و الجنس حاصل في ضمنه، ركب معهما مدخولها فبنى على الفتح.

و النفي إمّا على حقيقته مع تقييد المتعلّق و المراد أنّ الكتاب لوضوح شأنه و سطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه بعد التأمل الصحيح و النظر البالغ في بلاغته و إيجازه و وجوه إعجازه، فلا ينافيه وقوع الريب فيه كما قال: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «4».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ص 39 ح 69.

(2) تفسير نور الثقلين ج 1 ص 27- 28 ح 7 عن تفسير

الامام عليه السّلام.

(3) تفسير القمي ج 1 ص 30 و في النسخة المعروفة لا شكّ فيه أنّه إمام هدى.

(4) سورة البقرة: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 101

على أنّ الشرطيّة لا تستلزم صدق المقدّم، و إنّما سبقت التعريف طريق مزيل له على فرض وجوده بأن يجتهدوا غاية جهدهم، و يبذلوا نهاية وسعهم في معارضة أقصر سورة من سوره، حتّى إذا عجزوا عن آخرهم عنها تحقّق لهم أن ليس مجال فيه للشبهة، و لا مدخل للريبة و إن كانوا بعد ذلك قد جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً.

أو أنّ المراد أنّه لا رَيْبَ فِيهِ للمتّقين الذين جانبوا العصبيّة و نظروا بعين البصيرة، فيكون (هُدىً) حالا من الضمير المجرور.

و العامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي أو خبرا عن النافية.

أو على حذف المضاف و المعنى: لا سبب شكّ فيه، إذ الأسباب الّتي توجب الشكّ في الكلام هي التلبيس و التعقيد و اختلال النظم و التناقض و الدعاء، و الدعاوى العارية من البرهان، و الإختلاف، و لذا قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1».

و إمّا بمعنى إنشاء الترك و إن كان لفظه الخبر، و المعنى لا ترتابوا و لا تشكّوا فيه، على حد قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ «2»، و المراد تحريم تعاطي أسبابه، أو مجرّد إظهاره.

و قد ظهر من جميع ما مرّ ضعف ما يحكى عن بعض الملاحدة من الطعن في الآية بأنّه إن عنى نفي الشكّ فيه عندنا فنحن نشكّ فيه، و إن عنى نفي الشك عنده فلا فائدة فيه.

__________________________________________________

(1) سورة النساء: 82.

(2) سورة البقرة:

197.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 102

قراءة شاذة

عن أبي الشعثاء «1» أنّه قرأ لا ريب بالرّفع على ان تكون (لا) هي المشبهة بليس، و الفرق بينها و بين القراءة المشهورة أنّ المشهورة صريحة في نفي جميع الأفراد و لو من جهة الاستلزام و هذه ظاهرة من جهة وقوع النكرة في سياق النفي، مع احتمال أن يراد به معنى لا يشمل المثنّى و المجموع.

و إنّما أخّر الظرف هنا بخلاف «لا فِيها غَوْلٌ» «2» لأنّهم يقدّمون الأهمّ، و هو في المقام نفي الرّيب بالكليّة من الكتاب، و إثبات أنّه حق و صدق، لا باطل و كذب، و لو قدّم فيه الظرف لأوهم وجود كتاب آخر فيه الرّيب لا في هذا، كما قصد في قوله:

«لا فِيها غَوْلٌ» تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا بفقد الصفة المصرّحة بها.

و هذا الوهم ممّا لم تسق الآية للإشعار بها، مع ما فيه من الإزراء بالمعنى الأوّل الّذي هو المقصود.

الوقف

الوقف على «فِيهِ» هو المشهور، و عن نافع «3»، و عاصم «4»: أنّهما وقفا على «لا رَيْبَ» بناء على حذف الخبر كما هو الشائع في هذا الباب للعلم به، و منه قوله تعالى:

قالُوا لا ضَيْرَ «5» و قولهم: لا بأس، و التقدير: لا ريب فيه، فيه هدى و لا بدّ أن

__________________________________________________

(1) ابو الشعثاء سليم بن أسود المحاربي الكوفي التابعي قتل يوم الزاوية مع ابن الأشعث في سنة (85)- تهذيب التهذيب ج 4 ص 149.

(2) الصافّات: 47.

(3) نافع بن أبي نعيم المدني من القرّاء السبعة توفي (169) أو (176).

(4) هو عاصم بن أبي النجود بن بهدلة الكوفي القاري المتوفى (127) أو (128).

(5) الشعراء: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 103

ينويه الواقف عليه، كيلا يكون

الوقف ناقصا.

القراءة

قرأ ابن كثير «1»: فيه هدى بوصل الهاء بياء آخر في اللفظ إشباعا لكسرة الهاء هنا و في كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة إذا لم يلق الهاء ساكن، و إلّا فلا إشباع نحو إِلَيْهِ الْمَصِيرُ* «2» و نحو يَعْلَمْهُ اللَّهُ* «3».

و الباقون من القرّاء متفقون على ترك الإشباع في كلّ ما قبله ساكن.

نعم وافق ابن كثير هشام «4» على صلة (أَرْجِهْ)* «5» بواو، و حفص «6» على صلة فِيهِ مُهاناً «7» بياء.

و الّذي ذكره شيخنا الطبرسي أخذا من كتاب «الحجّة» لأبي علي الفارسي «8» أنّه يجوز في العربيّة في (فيه) أربعة أوجه: «فيهو» و «فيهي» و «فيه» و «فيه».

و صرّح غير واحد منهم بأنّ الضمير المتصّل الغائب منصوبه و مجروره مختصر من الغائب المرفوع المنفصل بحذف حركة واو (هو)، لكنّهم لمّا قصدوا التخفيف في المتّصل لكونه كجزء الكلمة لم يأتوا في الوصل بالواو و الياء الساكنين فيما كان قبل الهاء ساكن نحو (منه)، و عليه فلا يقولون على الأكثر: «منهو»

__________________________________________________

(1) هو عبد اللّه بن كثير القاري المكّي المتوفى (120).

(2) المائدة: 18.

(3) البقرة: 197.

(4) هو هشام بن عمّار بن نصير بن ميسرة ابو الوليد السلمي الدمشقي المتوفى (245)- غاية النهاية ج 2 ص 354.

(5) الأعراف: 111.

(6) هو حفص بن سليمان الكوفي المتوفى (180) ه

(7) الفرقان: 69.

(8) هو ابو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي المتوفى (377) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 104

و «عليهي» لثقل الواو و الياء، و لكون الهاء لخفائها كالعدم. فكأنّه يلتقي ساكنان.

نعم قد ضمّوا هاء المذكّر إلّا أن يكون قبلها ياء، أو كسرة، فحينئذ أهل الحجاز يبقون ضمّها على ما حكاه

نجم الأئمة، و غيرهم يكسرونها.

و أمّا إن كان الساكن غير الياء فعن قوم من بكر بن وائل كسر الهاء في الواحد و المثنّى و المجموع فيقولون: «منه، منهما، منهم، منهنّ» و الباقون على الضمّ.

و أمّا الإشباع، فإنّ وليت متحركا نحو «به، و له، و ضربه» ففيه لغات، و المشهور الإشباع لا غير، و عن بني عقيل، و كلاب تجويز التخفيف بالحذف مع إبقاء الضمّة و الكسرة، و عن بعضهم التخفيف أيضا بتسكين الهاء اختيارا، و عن غيرهم تجويزهما ضرورة.

و إن وليت ساكنا فالأشهر ترك التوصّل مطلقا، و عن ابن كثير إثباته مطلقا، و فصّل سيبويه بين ما إذا كان الساكن الّذي قبلها حرفا صحيحا فالصلة نحو (منهو) و (أصابتهو)، أو حرف علّة فعدم الصلة نحو (ذوقوه) و (فيه).

و اعترض عليه نجم الأئمّة بأنّه لو عكس لكان أنسب لأنّ التقاء الساكنين إذا كان أوّلهما لينا أهون منه إذا كان أوّلهما صحيحا.

فقد تحصّل من ذلك أنّ المذاهب في نحو (فيه) أربعة: ضمّ الهاء، و كسرها مع الصلة و تركها.

قال نجم الأئمة: و قد قرئ بها كلّها في الكتاب العزيز.

و قد سمعت شهادة الطبرسي و الفارسي بجوازها في العربيّة فلا يبعد جواز القراءة بكلّ منها في القرآن و الصلاة بعد ورود الإذن بالقراءة كما يقرء الناس، و إن كان الحكم بالجواز في بعضها لا يخلو من تأمّل، بل الأحوط الاقتصار على ما هو المشهور.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 105

تفسير فِيهِ هُدىً
اشارة

هُدىً بيان و شفاء لِلْمُتَّقِينَ من شيعة محمد و علي عليهما السّلام الذين اتّقوا أنواع الكفر و تركوها، و اتّقوا أنواع الذنوب الموبقات فرفضوها، و اتّقوا إظهار أسرار اللّه تعالى و أسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمّد صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم فكتموها، و اتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها، و فيهم نشروها.

و قال عليه السّلام أيضا: (هُدىً) بيان من الضلالة لِلْمُتَّقِينَ الذين يتّقون الموبقات، و يتّقون تسليط السفه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضاء ربّهم.

أقسام الهداية

و الهدى مصدر على وزن فعل (بضم الفاء و فتح العين) و ان كان هذا الوزن قليلا في المصادر، بل قيل: إنّه يمكن أن يختصّ به المعتلّ نحو (السرى) و (العلى).

و قد مرّ في الفاتحة عدم الفرق بين الهدى و الهداية، خلافا لمن فرّق بينهما باختصاص الأوّل بإراءة طريق الدين خاصّة دون الثاني الّذي يعمّ إرائة كلّ طريق، و نبّهنا هناك أيضا على أنّه لا اختصاص لها و لمشتقّاتها بشي ء من الدّلالة الموصلة أو إرائة الطريق، بل يستعمل في كليهما على وجه الحقيقة.

نعم قد يقال: إنّ (الهدى) الدلالة الموصلة الى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابله، قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «1» و قال سبحانه:

__________________________________________________

(1) البقرة: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 106

لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1»، و لا ريب أنّ عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلالة، فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لما صحّت المقابلة، و لأنّه يقال:

مهديّ في موضع المدح كالمهتدي- بل لا يطلقان إلّا على من وصل الى المطلوب.

و لأنّ اهتدى مطاوع هدى و لا يكون المطاوع في خلاف معنى أصله، لأنّ المطاوع و المطاوع يشتركان في أصل المعنى، و إنّما الإفتراق في التأثير و التأثر، و من البيّن أنّ الوصول معتبر في اهتدى فكذا في أصله، كما يقال: غمّه فاغتمّ، و كسره فانكسر.

و لكن يضعّف الدليل

الأوّل بأنّ عدم الوصول المعتبر في مفهوم الضلال ليس لكونه فقدان المطلوب بل فقدان شرط الإيصال، مع أنّ الهدى في مقابل الإضلال فلمّا قوبل بالضلال أريد به الاهتداء تجوّزا.

و يضعّف الثاني بأنّ التمدّح لعلّه لمكان استعداد الكمال، و التمكن من الوصول إليه.

و دعوى انحصار إطلاقها على خصوص الواصل إلى البغية ممنوعة جدّا، و لذا يقال: هديته فلم يهتد، قال سبحانه: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «2».

و من هنا يظهر الجواب عن الثالث أيضا، فإنّ سبيله سبيل قولك: أمرته فلم يأتمر، و زجرته فلم ينزجر.

و أمّا ما يقال: من أنّ معناه وجّهت الأمر إليه فتوجّه، ثم أستعمل في الامتثال مجازا.

__________________________________________________

(1) سبأ: 24.

(2) فصلت: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 107

ففيه أنّه بعد تسليمه جاز في المقام أيضا.

وجه اختصاص الهدى بالمتقين

فإن قلت: لو كان الهدى مطلق الدلالة حصل به الوصول أم لا فما وجه الإختصاص بالمتقين في هذا المقام باللام المقيدة له؟

قلت: إنّ الهدى قد يستعمل مرّة باعتبار أصل معناه الّذي هو الدلالة و الإرائة، و أخرى يستعمل باعتبار حصول الثمرة و وصول النفع، و المقام من الثاني، كما أنّ قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ «1» من الأوّل، و حيث إنّ المتّقين هم المنتفعون المتّعظون بزواجره خصّهم به دون غيرهم- و إن كانت دلالته عامّة تامة لكلّ ناظر من مسلم و كافر، و هذا على حد قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «2» باعتبار انتفاعهم بإنذاره، و إن كان رسولا إلى الناس كَافَّةً* ... بَشِيراً وَ نَذِيراً*.

هذا مع أنّه ربما يقال: إنّه لا يهدي إلّا الموصوفين بالمرتبة الأولى من التقوى و هم الذين تأمّلوا الدلائل و اتّصلوا بالإسلام.

و فيه نظر، لأنّه

هدى للكفّار و المشركين أيضا بالنظر الى وجوه إعجازه و وقوع التحدّي به، و اشتماله على الإخبار من السرائر المكنونة، و الحوادث المستقبلة.

و أمّا كونه هدى للمتّقين مع أنّهم المهتدون الواصلون إلى البغية، فإنّما هو باعتبار مراتب الهداية و درجاتها فإنّ أهل كل درجة يهتدون به إلى الدرجة العالية،

__________________________________________________

(1) البقرة: 185.

(2) النازعات: 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 108

كما قال تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ «1»، و قال تعالى:

لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ «2».

أو باعتبار الثبات و البقاء عليه بعد حصوله على ما مرّ في الفاتحة «3».

أو أنّ المراد بالمتّقين المشارفون للتقوى، فإنّ أثر الهداية ظاهرة فيهم.

أو أنّه لا حاجة إلى ارتكاب التجوّز في شي ء من الطرفين، بل هو على حدّ قولهم: السلاح عصمة للمعتصم، و المال غنى للغنيّ، فإنّه على قصد السببيّة، و إن كان تحقّق الموضوع باعتبار الوصف.

و (هُدىً) ليس بمعنى الفاعل حتى يراد به الحدوث، و على فرضه فقد يراد به اللزوم و الاستمرار.

و المتّقي مفتعل من الوقاية، أصله الموتقى قلبت الواو تاء و أدغمت في تاء الافتعال، و أمّا قلب الواو تاء في التقوى حيث إنّ أصله و قوى فلخصوص المادّة كالتراث، دون الهيئة، بخلاف الأوّل فإنّه مطّرد الجواز في ذلك الباب كالاتّحاد، بل قال الجوهري: إنّه لمّا كثر استعماله على لفظ الافتعال توهّموا أنّ التاء من نفس الحرف فجعلوه (اتقى، يتقي) بفتح التاء فيهما مخفّفة، ثمّ لم يجدوا له مثالا في كلامهم يلحقونه به فقالوا: تقى يتقي مثل قضى يقضي.

و معنى التقوى في الأصل الصيانة و الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بالترس أي جعله حاجزا بينه و بينه.

__________________________________________________

(1) سورة محمد صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم: 17.

(2) سورة الفتح: 4.

(3) تفسير الصراط المستقيم ج 3 ص 562.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 109

قال الشاعر:

فألقت قناعا دونه الشمس و اتّقت بأحسن موصولين كفّ و معصم و غلب شرعا على ما يحجز عن سخط اللّه و عقابه من قول أو فعل أو ترك، فيشمل فعل الطاعات و ترك المعاصي.

ثمّ أن التقوى يطلق مرّة باعتبار نفس تلك الأفعال و التروك، و أخرى على الملكة الباعثة على ملازمة الامتثال و الموافقة في ابتغاء مرضاته و له درجات:

درجات التقوى

أحدها أن يتّقي الكفر و الشرك و المحادة للّه و لرسوله و لأوصياء رسوله الذين أمر اللّه تعالى بطاعتهم و ولايتهم و محبّتهم، و هذا أوّل درجات التقوى، و قبله لا يطلق هذا الإسم كما لا يصدق اسم الإيمان، فالإيمان و التقوى و الهداية متساوقة في هذه الدرجة، و لا يصدق شي ء منها على على أحد من المخالفين فضلا عن الكفّار و المشركين.

و هذا المعنى هو المراد بقوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «1»، حيث فسّرت بكلمة الشهادة، و في بعض الأخبار: أنّه الإيمان «2» و

عنهم عليهم السّلام في أخبار كثيرة: «نحن كلمة التقوى» «3».

__________________________________________________

(1) النسخ: 26.

(2) بحار الأنوار ج 69 ص 200.

(3) بحار الأنوار ج 24 ص 184 و ج 26 ص 244.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 110

و بقوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1»، يعني المقرّين بالولاية للولي.

الدرجة الثانية: أن يتّقي ارتكاب الكبائر، بأن لا يخلّ بالواجبات و لا يقترف شيئا من السيّئات الّتي تعدّ في الكبائر، حتى الإصرار على شي ء من الصغائر، و أما ارتكابها من غير إصرار فلا يخلّ بهذه الدرجة، بناء على

ما هو الحقّ من انقسام المعاصي الى القسمين، و أنّ الصغائر مكفّرة باجتناب الكبائر، كما يأتي إن شاء اللّه مشروحا في تفسير الآية، و هذا المعنى هو المراد بقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً «2»، و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا ... «3».

بل هو المراد بقول الفقهاء في تعريف العدالة: إنّها ملكة نفسانيّة باعثة على ملازمة التقوى و المروءة.

الدرجة الثالثة: أن يتقى ارتكاب الصغائر و الأفعال المباحة، بأن يكون له في كلّ من الأفعال المباحة في ذاتها قصد غاية من الغايات الراجحة حتى تصير بذلك عاداته كلّها عبادات و لعلّه هو المراد بقوله تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى «4» و قوله تعالى: وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ «5».

الدرجة الرابعة: أن يتقي مع كل ذلك ذمائم الأخلاق و رذائل الخصال مالا يحاسب به و لا يعاقب عليه فضلا عمّا فيه الحساب و العقاب، و لعلّه المراد

__________________________________________________

(1) المائدة: 27.

(2) الأحزاب: 70.

(3) الأعراف: 96.

(4) البقرة: 197.

(5) الأعراف: 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 111

بقوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «1».

خامسها و هي الدرجة العليا: ان يتّقي مع جميع ذلك الالتفات الى ما سوى اللّه تعالى، و ذلك إنّما يكون بدوام التوجه و الانقطاع إليه سبحانه بهواجس قلبه، و شراشر سرّه.

و إليه الإشارة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «2»، و بقوله تعالى: وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ بعد قوله: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى «3»، و بقوله سبحانه وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ «4»، و

بقوله تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «5».

و إن كان الأظهر صلاحيّة كلّ من هذه الآيات للدرجات السابقة، بل و كذا في المقام: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، و ذلك لاختلاف مراتب الهداية، و الإيمان بالغيب المكتنفين بالتقوى في المقام فيؤخذ باعتبار كل درجة منه ما يناسبه من مراتب الطرفين.

و جميع ذلك إنّما هو من شئون الولاية، و مقتضيات الإيمان بالولي، و لذا ورد أنّ المراد بالمتقين شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام،

ففي بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه السّلام قال: الكتاب أمير المؤمنين لا شكّ فيه أنّه إمام، و شيعتنا هم المتّقون «6».

__________________________________________________

(1) الطلاق: 3.

(2) آل عمران: 102.

(3) البقرة: 197.

(4) البقرة: 282.

(5) الأنفال: 29.

(6) تفسير القمي ج 1 ص 30 في بعض نسخه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 112

المتقون شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام

و في المعاني و تفسير العيّاشي عن الصادق عليه السّلام قال: المتّقون شيعتنا «1».

و في مشارق الأمان قال: روى في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: أنّ التقوى ما ينجى به من النار، و لا ينجي من النار إلّا حبّ عليّ عليه السّلام، فلا تقوى على الحقيقة إلّا حبّ علي عليه السّلام.

و في المناقب عن أبي بكر الشيرازي في كتابه و أبي صالح في تفسيره عن ابن عبّاس في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ قال: تبيان و نذير للمتقين عليّ بن أبي طالب الّذي لم يشرك باللّه طرفة عين و أخلص للّه العبادة فيدخل الجنّة بغير حساب، و شيعته «2».

و في الإكمال عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية، قال: المتّقون شيعة علي عليه السّلام «3».

و التقوى بهذا المعنى هو الّذي ورد الحثّ عليها في الآيات و الأخبار، مثل أنّه خير الزاد و شرط

قبول الأعمال.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: اتّق اللّه و كن حيث شئت، و من أيّ قوم شئت فإنّه لا خلاف لأحد في التقوى، و المتّقي محبوب عند كلّ فريق، و فيه جماع كلّ خير و رشد، و هو ميزان كلّ علم و حكمة، و أساس كل طاعة مقبولة، و التقوى ماء ينفجر من عين المعرفة باللّه، يحتاج إليه كلّ فن من العلم، و هو لا يحتاج إلّا إلى تصحيح المعرفة بالخمود تحت هيبة اللّه و سلطانه. و مزيد التقوى يكون من أصل اطلاع اللّه

__________________________________________________

(1) العياشي ج 1 ص 26 ح 1 و عنه البرهان ج 1 ص 53.

(2) المناقب لابن شهرآشوب ج 1 ص 565 و عنه البحار ج 35 ص 397.

(3) البرهان: ج ص 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 113

عزّ و جلّ على سرّ العبد بلطفه، فهذا أصل كل حقّ «1» و قال عليه السّلام: و قد جمع اللّه ما يتواصى به المتواصون من الأوّلين و الآخرين في خصلة واحدة و هي التقوى، قال اللّه جلّ و عزّ: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ «2»، و فيه جماع كلّ عبادة صالحة، و به وصل من وصل الى الدرجات العلى، و الرتبة القصوى، و به عاش من عاش مع اللّه بالحياة الطيّبة و الأنس الدائم، قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3» «4».

و قال عليه السّلام: التقوى على ثلاثة أوجه: تقوى باللّه و في اللّه، و هو ترك الحلال فضلا عن الشبهة، و هو تقوى خاصّ الخاصّ، و تقوى من

خوف النار و العقاب، و هو ترك الحرام و هو تقوى العام، و مثل التقوى كماء يجري في نهر، و مثل هذه الطبقات الثلاث في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر، من كل لون و جنس، و كلّ شجرة منها يستمصّ الماء من ذلك النهر على قدر جوهره و طعمه و لطافته و كثافته، ثمّ منافع الخلق من ذلك الأشجار و الثمار على قدرها و قيمتها، قال اللّه تعالى: صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «5».

فالتقوى في الطاعات كالماء للأشجار، و مثل طبائع الأشجار و الثمار في لونها و طعمها مثل مقادير الإيمان، فمن كان أعلى درجة في الإيمان و أصفى جوهرا

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 70 ص 394 ج 40 عن مصباح الشريعة ص 44.

(2) سورة النساء: 131.

(3) سورة القمر: 54.

(4) بحار الأنوار ج 78 ص 200.

(5) سورة الرعد: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 114

بالروح كان أتقى، و من كان أتقى كانت عبادته أخلص و أطهر، و من كان كذلك كان من اللّه أقرب، و كلّ عبادة غير مؤسّسة على التقوى فهو هباء منثور، قال اللّه عزّ و جلّ أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ «1». الآية و تفسير التقوى ترك ما ليس بأخذه بأس، و هو في الحقيقة طاعة و ذكر بلا نسيان، و علم بلا جهل، مقبول غير مردود «2» أقول: الأخبار في فضل التقوى و شرح مراتبه و درجاته كثيرة جدّا، و ستسمع إن شاء اللّه شطرا منها

مضافا الى ما سمعت في تفسير الآيات المتضمّنة لذكره.

وجوه إعراب الآية

أمّا الم فقد ظهر ممّا تقدّم أنّه يجوز فيه الرفع على الابتداء باعتبار من اسماء القرآن أو السورة، أو بتأويل المؤلّف من الحروف المتداولة، و خبره ذلِكَ الْكِتابُ.

أو على الخبريّة بتقدير مبتدء أي هذا المؤلّف، أو المتلو، أو المقروء، أو المنزل، و نحوها.

أو الفاعليّة لفعل مقدّر بناء على كونها من أسماء اللّه سبحانه، و كونها محذوفة الأعجاز المكتفي عنها بصدورها لو قلنا بجواز الإسناد إليها حينئذ، فكأنّه قال: قال اللّه اللطيف المالك، أو أنزل، و نحوه.

__________________________________________________

(1) سورة التوبة: 109.

(2) بحار الأنوار ج 70 ص 295- 296 ح 41 عن مصباح الشريعة ص 56- 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 115

و يجوز أن يكون محلّها النصب بإضمار فعل «1»، أو بنزع الخافض، و يمكن أن يكون محلها الجرّ مع حذف الجارّ و قد تقدّم فراجع.

و أمّا ذلِكَ فهو مرفوع على الخبريّة لمبتدء مذكور، أو محذوف، أو البدليّة على بعض الوجوه، أو على الابتدائية و خبره الكتاب، أو أنّ الكتاب عطف بيان لذلك، أو صفة له، أو بدل منه و الخبر حينئذ جملة لا رَيْبَ فِيهِ.

و أمّا هذه الجملة يجوز أن تكون خبرا، كما ذكر، و يجوز أن تكون حالا و العامل فيها معنى الإشارة، أو الفعل العامل في الم على تقديره.

و لا فيها لنفي الجنس مبني اسمها على الفتح على المشهور، و على ما مرّ عن أبي الشعثاء بمعنى ليس، و فِيهِ خبره.

و هُدىً مرفوع على الخبريّة، أو أنّه خبر ثان بعد لا ريب فيه، و يمكن أن يكون حالا، و يكون خبر لا محذوفا كما هو الشائع فيه كقولهم: لا بأس، و لا ضير،

و لا صلاة إلا بطهور، و قيل: هُدىً مرفوع على أنّه مبتدأ مؤخّر و فِيهِ خبره قدّم عليه لتنكيره، و التقدير لا ريب فيه فيه هدى، و يؤيّده ما يحكى عن نافع و عاصم أنّهما وقفا على لا رَيْبَ، إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لا خفاء في ضعف أكثرها، و لذا كان الأولى الإعراض عن الاشتغال بها، و الإقبال على دقايق المعاني و دقايق البلاغة.

بأن يقال: إنّها أربع جمل متناسبة تقرّر اللاحقة منها السابقة، و لذا لم يؤت بحرف نسق ينظم بينها فإنّ الجمل متآخية متعانقة بأنفسها من دون أداة، ف الم جملة محذوفة المبتدا أو محذوفة الخبر، و إن قيل: إنّ الأبلغ أن يقدّر هذه الم إشارة إلى أنّه الكلام المنزل المتحدّى به، فإنّ الخبر عن اسم الإشارة بأنّ القرآن يقتضي ذلك،

__________________________________________________

(1) نحو أذكر، أو أذكر (إنشاء، أو إخبارا)

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 116

و هذا هو المستفاد من تفسير الإمام عليه السّلام حيث قال: كذّبت قريش و اليهود بالقرآن و قالوا: سحر مبين تَقَوَّلَهُ، فقال اللّه تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة الّتي منها ألف و لام و ميم، و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين «1» إلخ.

فدلّ على أنّ المتحدّى به هو المؤلّف من جنس ما يركّبون منه كلامهم.

و ذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية مقرّرة لجهة التحدّي بأنّه الكامل الّذي لا يحقّ غيره أن يسمّى كتابا في جنسه أي في باب التحدّي و الهداية إلى صدق من جاء به، و أنّه هو الكتاب المبارك الّذي لا يمحوه الماء المختار من بين الكتب السماوية بإعجاز اللفظ و فخامة المعنى

الّذي أخبرت أنبيائي السالفين أني سأنزله ... الى آخر ما مرّت إليه الإشارة من كلام الإمام عليه السّلام.

و لا رَيْبَ فِيهِ جملة ثالثة نافية لأن يتثبّت به طرف من الريب فكان شهادة و تسجيلا بكماله، إذ لا كمال أكمل ممّا للحق و اليقين كما أنّه لا نقص أنقص ممّا للباطل و الشبهة.

قيل لبعض العلماء: فيم لذّتك؟ قال: في حجّة تتبختر اتّضاحا، و في شبهة تتضائل افتضاحا.

و هُدىً لِلْمُتَّقِينَ بما قدر له مبتدأ جملة رابعة مؤكّدة لكماله بافادة الهداية الّتي هي من شأن الكتب السماويّة.

فدلّت الجمل الأربعة على أنّه هو الحقيق بأن يتحدّى به و يهتدى بنوره الأمّة هو المبشّر به في الكتب السالفة، و لكمال نظمه في باب البلاغة، و كماله في نفسه، و فيما هو المقصود منه.

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 117

و قد يقال: إنّ الارتباط بين الجمل كأنّه من روابط العليّة و المعلوليّة و يقرّر مرّة بأنّ كلّا منها كأنّه مدلول عليه بسابقه مترتّب عليه ترتّب المدلول على الدليل، و ذلك أنّه لمّا نبّه أوّلا على إعجاز المتحدى به من حيث إنّه من جنس كلامهم، و قد عجزوا عن معارضته رتّب عليه أنّه الكتاب البالغ حدّ الكمال المبشّر به في الكتب السالفة، و استلزم ذلك أن لا يحوم حومه شكّ و ريبة، و ما كان كذلك كان لا محالة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.

و أخرى على عكس الأولى حملا على الاستيناف على ما باله صار معجزا؟

فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا و معنا، ثم سئل عن سبب الإختصاص؟

فأجيب بأنّه لا يحوم حوله ريب لكونه من عند اللّه، ثمّ لمّا طولب بالدخول على ذلك استدلّ بكونه هدى للمتقين.

و لا

يخفى أنّ طريقة الاستنتاج غير بعيد عن السياق، و أمّا الاستيناف فغير مستحسن بعد ظهور عدم كون السؤال ظاهر الورود مع أنّ بعض الأجوبة لو لم نقل كلّها على وجه المصادرة مضافا الى أنّ كونه هدى مسبّب عمّا سلف فلا يصحّ دليلا له.

[سورة البقرة(2): آية 3]

اشارة

تفسير الآية (3) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ شروع في بيان صفات المتقين، فبدأ بما هو كالأساس لغيره من صفاتهم الشريفة الّتي تترتّب على ذلك ترتّب الفروع على الأصل و تبتني عليه ابتناء البناء على الأساس و على هذا فالموصول موصول المتّقين.

و محلّه الجرّ على أنه صفة موضحة لحال المتقين، مبيّنة لما هم عليه في عقائدهم و أعمالهم و أموالهم إن فسّر التقوى بما يعمّ فعل الطاعة و ترك المعصية، أو

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 118

بغيره من الدرجات الرفيعة المتقدّمة.

أو مقيّدة لإطلاقه إن فسّر بترك المعاصي أو ما لا ينبغي فعله.

أو محلّه النصب بتقدير أعني، أو أمدح، أو أخصّ، أو الرّفع على أنّه خبر لمحذوف و التقدير هم الذين، أو على الابتداء و خبره (أُولئِكَ) فيكون مفصولا عنه، سواء جعلناه استينافا بيانيّا في جواب يقول: ما بال المتّقين قد خصّوا بهداية الكتاب لهم، أو استينافا نحويا.

و الإيمان إفعال من الأمن، يقال: أمنت و أنا أمن، و أمنت غيري، فالهمزة للتعدية، و يستعمل كثيرا بمعنى التصديق، حتى قال الأزهري: اتّفق العلماء على أنّ الإيمان هو التصديق، و استشهد بقوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «1» أي بمصدّق.

و من هنا قد يتوهّم أنّ التصديق معنى آخر حقيقي له لغوي أو عرفي، و لا بأس به و إن كان في الأصل مأخوذا من الأمن ضد الخوف، و ذلك أنّ آمنه بمعنى صدّقه كان في الأصل

آمنه التكذيب و المخالفة لكنّه قد يعدّى باللام كما في الآية المتقدّمة لإرادة معنى التصديق، و قد يعدّى بالباء لتضمينه معنى الإقرار و الاعتراف.

حقيقة الإيمان

ثمّ إنّ المراد به شرعا أو متشرعا هو التصديق بالعقائد الإسلاميّة من التوحيد، و النبوّة و المعاد، و غيرها، و القول بالأئمّة الإثني عشر صلوات اللّه عليهم أجمعين، مع عدم ما يوجب الخروج من الدين أو المذهب، و على هذا المعنى ينزّل كثير من الآيات و الأخبار، و هذا المعنى هو المراد به عند الإمامية، فلا يتّصف سائر الفرق من

__________________________________________________

(1) يوسف: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 119

الزيديّة، و الفطحيّة، و الإسماعيلية، و غيرهم، فضلا عن المخالفين بالإيمان، و لذا لو وقف على المؤمنين، أو أوصى لهم أو نذر لهم انصرف إلى الإثني عشريّة بلا خلاف فيه بينهم كما صرّحوا في الفقه.

نعم اختلفوا في أنّه هل يعتبر فيه اجتناب الكبائر أولا؟ فعن بعض القدماء كالشيخين، و القاضي و ابن حمزة هو الأوّل، و المشهور عندهم هو الثاني، بل هو المحكي عن الشيخ في التبيان قائلا: إنّه كذلك عندنا مشعرا بدعوى الاتفاق عليه.

و في الرياض، و غيره أنّ عليه كافّة المتأخّرين، و في الجواهر: إنّه استقرّ المذهب الآن على ذلك.

أقول: و الظاهر أنّه كذلك لظهور إجماع الفرقة، و لعطف عمل الصالحات على الإيمان في آيات كثيرة، و لعدم صحّة سلب المؤمن عمّن ارتكب شيئا من الكبائر، و لعدم الدليل على اعتباره فيما استدلّوا به.

نعم يمكن الاعتراض عليه بأنّ هاهنا أحاديث كثيرة تدلّ على اعتبار العمل في إطلاقه، مثل ما

رواه الصدوق في العيون بأسانيد عديدة عن الإمام الرّضا عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم أنّه قال: الإيمان اقرار باللسان و معرفة بالقلب و عمل بالأركان «1».

و في المعاني عن الصادق عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ليس الإيمان بالتحلّي و لا بالتمنّي، و لكن الإيمان ما خلق في القلب و صدّقه الأعمال «2».

و في الأمالي بالإسناد عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

__________________________________________________

(1) الخصال ج 1 ص 84- عيون الأخبار ج 1 ص 227 الأمالي ص 160.

(2) بحار الأنوار ج 69 ص 72.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 120

الإيمان قول مقول، و عمل معمول، و عرفان العقول «1».

و فيه عن الامام الرضا عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الإيمان إقرار باللسان، و معرفة بالقلب و عمل بالجوارح «2».

و في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: من شهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّد رسول اللّه كان مؤمنا؟ قال عليه السّلام: فأين فرائض اللّه تعالى «3».

قال: كان علي عليه السّلام يقول: لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم و لا صلاة، و لا حلال، و لا حرام «4».

قال أبو الصلاح الكناني: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ عندنا قوما يقولون: إذا شهد أن لا إله إلا اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه فهو مؤمن، قال: فلم يضربون الحدود؟ و لم يقطع أيديهم؟ و ما خلق اللّه عزّ و جلّ خلقا أكرم على اللّه عزّ و جلّ من مؤمن، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين، و انّ جوار اللّه للمؤمنين، و انّ الجنّة للمؤمنين، و إنّ الحور للمؤمنين، ثمّ قال: فما بال

من جحد الفرائض كان كافرا «5».

و في كنز الكراجكي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ملعون، ملعون من قال: الإيمان قول بلا عمل «6».

و في «الكافي» عن محمد بن الحكيم، قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال: نعم، و ما دون الكبائر، قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يزني

__________________________________________________

(1) مجالس المفيد ص 169- أمالي الطوسي ج 1 ص 35.

(2) أمالي الطوسي ج 1 ص 379.

(3) الكافي ج 2 ص 33 و عنه البحار ج 69 ص 19.

(4) الكافي ج 2 ص 33 و عنه البحار ج 69 ص 19.

(5) الكافي ج 2 ص 33 و عنه البحار ج 69 ص 19.

(6) كنز الكراجكي و عنه البحار ج 69 ص 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 121

الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السارق و هو مؤمن «1».

و فيه بالإسناد عن عبيد بن زرارة، قال: دخل ابن قيس الماصر، و عمر بن زرّة و أظنّ معهما أبو حنيفة على أبي جعفر عليه السّلام، فتكلم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا و أهل ملّتنا عن الإيمان في المعاصي و الذنوب.

قال: فقال له أبو جعفر عليه السّلام: يا ابن قيس أمّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد قال: لا يزني الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السارق و هو مؤمن فاذهب أنت و أصحابك حيث شئت «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي يستفاد منها اعتبار العمل في حقيقة الإيمان و في صدقه، بل يستفاد من بعضها كالخبر الأخير أنّ المسألة كانت مطرحا للأنظار في

عصر الأئمة الأطهار صلوات اللّه عليهم، و أنّه كان مذهب الإمام عليه السّلام اعتباره في معناه، و لعلّ هذه الأخبار هي الّتي ركن إليها متقدّموا أصحابنا فيما يعزى إليهم.

إطلاقات الايمان

و الّذي يظهر لي من التأمّل في الأخبار و الآيات هو أن له باعتبار مراتبه إطلاقات: أحدها ما مرّت إليه الإشارة من أنّه التصديق بالعقائد الحقّة و الأصول الخمسة، و هذا هو الّذي يترتّب عليه حقن الدماء و الأموال، و صحّة الأعمال و استحقاق الثواب و النجاة من الخلود في النار، و استحقاق العفو و الشفاعة و غيرها

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 284 و عنه البحار ج 69 ص 63.

(2) الكافي ج 2 ص 285 و عنه البحار ج 69 ص 63.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 122

ممّا يعمّ خصوص الفرقة الحقّة دون غيرهم من أرباب المذاهب و الملل، و هذا المعنى هو الّذي يبحث عنه الفقهاء في مسألة شرايط الإمام و مستحقّ الزكاة، و الكفاءة في النكاح و نحوها، و عليه ينزّل كثير من الآيات و الأخبار.

بل

في المعاني عن حفص الكناسي «1» قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا؟ قال: يشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله، و يقرّ بالطاعة، و يعرف إمام زمانه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن «2».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: المؤمن مؤمنان: فمؤمن صدق بعهد اللّه، و وفى بشرطه، و ذلك قوله عزّ و جلّ: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «3»، فذلك الّذي لا تصيبه أهوال الدنيا و لا أهوال الآخرة، و ذلك ممّن يشفّع و لا يشفّع له، و مؤمن كخامة

الزرع تعوج أحيانا و تقوم أحيانا، فذلك ممّن تصيبه اهوال الدنيا و أهوال الآخرة، و ذلك ممّن يشفع له و لا يشفع «4».

أقول: الخامة من الزرع هي الطاقة الليّنة من الزرع، و المراد باعوجاج المؤمن ميله الى الشهوات النفسانيّة و بقيامه استقامته على طريق الحقّ و مخالفته الأهواء الباطلة.

و في الكافي مرفوعا عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه علم أنّ الذنب خير للمؤمن من العجب، و لو لا ذلك ما أبتلي مؤمن بذنب أبدا «5».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على ابتلاء المؤمنين بالذنوب،

__________________________________________________

(1) في البحار: عن جعفر الكناسي.

(2) معاني الأخبار ص 393 و عنه البحار ج 69 ص 16.

(3) الأحزاب: 23.

(4) الكافي ج 2 ص 248 و عنه البحار ج 67 ص 189 ح 1.

(5) الكافي ج 2 ص 313 و عنه البحار ج 72 ص 306 و فيه: لما أبتلي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 123

و تمحيص ذنوبهم بالبلاء و أنواع المصائب في الدنيا، و بشدّة النزع عند الاحتضار، و ببعض أنواع العذاب في البرزخ، و في المحشر، و أنّ شفاعة و الأئمّة صلّى اللّه عليهم أجمعين مدّخرة لأهل الكبائر من المؤمنين، بل الظاهر تواترها معنى عليه، و لذا ادّعى غير واحد منهم الإجماع على ذلك، و إنّما عدّوا المخالف بعض المخالفين و سائر الفرق.

قال المحقق الطوسي في «قواعد العقائد»: اختلفوا في معنى الإيمان، فقال بعض السلف: إنّه إقرار باللّسان، و تصديق بالقلب، و عمل صالح بالجوارح، و قالت المعتزلة: أصول الإيمان خمسة: التوحيد، و العدل، و الإقرار بالنبوة، و بالوعد و الوعيد و القيام بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و قال الشيعة: اصول

الإيمان ثلاثة: التصديق بوحدانية اللّه تعالى في ذاته و العدل في أفعاله، و التصديق بنبوّة الأنبياء و بامامة الأئمة المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين، و التصديق بالأحكام الّتي يعلم يقينا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حكم بها، دون ما فيه الخلاف ...

إلى أن قال: و صاحب الكبيرة عند الخوارج كافر، لأنّهم جعلوا العمل الصالح جزء الإيمان، و عند غيرهم فاسق، و المؤمن عند المعتزلة و الوعيديّة لا يكون فاسقا، و جعلوا الفاسق الّذي لا يكون كافرا منزلة بين المنزلتين: الإيمان و الكفر، و هو عندهم يكون في النار خالدا، و عند غيرهم المؤمن قد يكون فاسقا و قد لا يكون، و تكون عاقبة الأمر على التقديرين الخلود في الجنّة.

و يقرب منه ما ذكره في كتاب المسائل.

و قال الخواجة الطوسي (ره) في التجريد: الإيمان التصديق بالقلب و اللسان ...

إلى أن قال: و الفسق الخروج من طاعة اللّه مع الإيمان به.

و قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في شرحه: اختلف الناس في الفاسق، فقالت

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 124

المعتزلة: إنّ الفاسق لا مؤمن و لا كافر، و اثبتوا له منزلة بين المنزلتين، و قال الحسن البصري: إنّه منافق، و قالت الزيديّة: إنّه كافر نعمة، و قالت الخوارج: إنّه كافر، و الحقّ ما ذهب إليه المصنّف، و هو مذهب الإماميّة و المرجئة، و أصحاب الحديث، و جماعة الأشعريّة من أنّه مؤمن «1».

إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة أو الظاهرة في إطباق الإماميّة عليه، بل وافقنا فيه كثير ممن خالفنا مستدلّين بظواهر كثير من الآيات، ملخّصها لعطف عمل الصالح عليه، و اقترانه بالمعاصي في قوله تعالى:

وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ

إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «2».

و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى «3».

و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ «4»، و غيرها من الآيات الكثيرة.

الإطلاق الثاني للإيمان هو الإقرار بالعقائد الحقّة المتقدّمة مع الإتيان بجملة من الفرائض، أو خصوص ما ثبت وجوبه من القرآن و ترك الكبائر الّتي أوعد اللّه عليها النار.

و على هذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة و الزكاة و الحجّ، إن لم تكن الأخبار محمولة على صورة الاستحلال، و يحمل عليه أيضا ما

ورد من أنّه لا يزني

__________________________________________________

(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 337- 338 ط قم المصطفوي.

(2) الحجرات: 9.

(3) البقرة: 178.

(4) التوبة: 38.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 125

الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السّارق و هو مؤمن «1».

الإطلاق الثالث للايمان الإقرار بالعقائد المذكورة مع فعل جميع الفرائض، و ترك جميع المحرمات.

رابعها: أنّ الإيمان- مضافا- إلى الأمور السابقة:

فعل المندوبات و ترك المكروهات بل المباحات.

و بين كلّ مرتبة و تاليتها مراتب متفاوتة و درجات متفاضلة و لذا

ورد: انّ من الإيمان التامّ الكامل تمامه، و منه الناقص المبيّن نقصانه، و منه الزائد البيّن زيادته «2».

و في «الخصال» عن عبد العزيز، قال: دخلت على ابي عبد اللّه عليه السّلام فذكرت له شيئا من أمر الشيعة و من أقاويلهم، فقال: يا عبد العزيز الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم له عشر مراقي و ترتقي منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شي ء و لا يقولنّ صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست

علي شي ء، حتى انتهى إلى العاشرة، ثم قال: و كان سلمان في العاشرة و أبو ذر في التاسعة، و المقداد في الثامنة فيها، يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، و إذا رأيت الّذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعا رفيعا فافعل، و لا تحملنّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنّ من كسر مؤمنا فعليه جبره لأنّك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته «3».

و من هنا يظهر أنّ إختلاف الأخبار محمولة على إختلاف المراتب

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 284 و عنه البحار ج 69 ص 63.

(2) الكافي ج 2 ص 40- 42 ج 6 و عنه البحار ج 69 ص 23.

(3) الكافي ج 2 ص 44 و عنه البحار ج 69 ص 165- 166.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 126

و الدرجات باعتبار ما يختصّ به كلّ منها من الفوائد و الثمرات، و بهذا الإعتبار قد ينفى الإيمان عمّن فقد شيئا من المراتب.

ففي «الكافي» عن علي بن جعفر قال سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول: ليس كلّ من يقول بولايتنا مؤمنا و لكن جعلوا انسا للمؤمنين «1».

و ورد في أخبار كثيرة أنّ المؤمن قليل قليل، و أنّه أعزّ من الكبريت الأحمر، و الغراب الأعصم «2».

و يظهر من بعضها أنّ المؤمنين هم الأئمّة المعصومون عليهم صلوات اللّه.

بل قد ورد في وجه تسمية المؤمن مؤمنا ما يدلّ على اختصاصه بمن يسمع شفاعته لغيره في الدنيا و الآخرة.

ففي العلل عن الّصادق عليه السّلام قال: إنّما سمّي المؤمن مؤمنا لأنّه يؤمّن على اللّه فيجيز أمانه «3».

و في المحاسن عن سنان بن طريف عن أبي عبد اللّه عليه السّلام

أنّه قال: لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ فقلت: لا أدري إلّا أنّه أراه يؤمن بما جاء من عند اللّه، فقال:

صدقت، و ليس لذلك سمّي المؤمن مؤمنا، فقلت: لم سمّي المؤمن مؤمنا، قال: إنّه يؤمن على اللّه يوم القيامة فيجيز إيمانه «4».

أقول: و قد تضمّن هذا الخبر وجهين للتسمية، و يظهر من غيرها وجوه أخر، مثل ما

رواه في العلل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا أنبّئكم لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ لإيمانه الناس على أنفسهم و أموالهم، ألا انبّئكم من المسلم؟ من سلم الناس من يده

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 67 ص 165 عن الكافي.

(2) الكافي ج 2 ص 242 و عنه البحار ج 67 ص 159 ح 3.

(3) علل الشرائع ج 2 ص 319 و عنه البحار ج 67 ص 60.

(4) المحاسن ص 229 و عنه البحار ج 67 ص 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 127

و لسانه «1».

و في صفات الشيعة باسناده عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ قال: لأنّه اشتقّ للمؤمن اسما من أسمائه تعالى فسمّاه مؤمنا، و إنّما سمّي المؤمن لأنّه يؤمن من عذاب اللّه و يؤمّن على اللّه يوم القيامة فيجيز له ذلك، و أنّه لو أكل أو شرب أو قام أو قعد، أو نام، أو نكح، أو مرّ بموضع قذر خوّله اللّه تعالى من سبع أرضين طهرا لا يصل إليه من قذرها شي ء «2».

ثمّ إنّه بعد ما علم عدم مدخليّة الأعمال مطلقا أو في الجملة في أدنى الإيمان و مسمّاه فهل المعتبر فيه هو التصديق بالجنان أو الإقرار باللّسان، أو الأمران معا؟

ذهب الى كلّ فريق،

و الأظهر الأشهر هو الأوّل، لأنّه سبحانه قد أضاف الإيمان إلى القلب في قوله: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «3»، و قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ «4»، و قوله تعالى: وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «5»، و قوله تعالى: وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ «6»، و قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ «7».

هذا مضافا الى أنّه أقرب الى معناه اللّغوي الّذي قد سمعت أنّه مطلق

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 219 و عنه البحار ج 67 ص 60.

(2) مستدرك سفينة البحار ج 1 ص 203.

(3) المجادلة: 22.

(4) المائدة: 141.

(5) الحجرات: 14.

(6) النحل: 106.

(7) الفتح: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 128

التصديق، فإنّه من أفعال القلوب، و إن اختلفوا في أنّ المعتبر من التصديق هل هو التصديق اليقيني الثابت الجازم الناشئ من الأدلّة، او أنّه يتحقّق مع فقد بعض القيود، أو كلّها، على أقوال لا داعي للتعرض لها في المقام.

و ممّا سمعت و غيره يظهر ضعف القول الثاني المنسوب إلى الكرّاميّة «1»، و إن استدلّوا له

بالنبوي عليه السّلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلّا اللّه «2».

و بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأسامة «3» حين قتل من تكلّم بالشهادتين: هل شققت قلبه «4».

و استدلّوا أيضا بأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الصحابة كانوا يكتفون في الخروج عن الكفر بكلمتي الشهادة.

و لكن ضعف المجموع واضح، فإنّ اعتبار اللسان إنّما هو بالنسبة الى الحكم الظاهري في الكشف عن حقيقة الإيمان، و اين هذا من اعتباره

في نفس الحقيقة.

__________________________________________________

(1) هم أتباع محمّد بن كرّام السجستاني المتكلم المتوفى سنة (244) في بيت المقدس.

(2) بحار الأنوار ج 37 ص 113.

(3) هو اسامة بن زيد بن حارثة الكلبي و امّة أمّ ايمن توفي سنة (54)- العبر في خبر من غبر ج 1 ص 59.

(4) بحار الأنوار ج 21 ص 11 عن تفسير القمي في تفسير «وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ... (سورة النساء: 94).

قال بعث النبي (ص) اسامة بن زيد في خيل الى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم الى الإسلام و كان رجل من اليهود يقال له مرداس بن نهيك فلمّا أحسّ بالخيل جمع أهله و ماله و صار في ناحية الجبل فأقبل يقول: اشهد ان لا إله إلا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، فمرّ به أسامة فطعنه و قتله، فلمّا رجع الى رسول اللّه (ص) و أخبره بذلك فقال له رسول اللّه (ص): قتلت رجلا شهد ان لا اله إلّا اللّه و انّي رسول اللّه (ص) فقال: يا رسول اللّه إنما قالها تعوّذا من القتل، فقال رسول اللّه (ص): «فلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت و لا ما كان في نفسه علمت ... إلخ تفسير القمي ص 136- 137.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 129

و لعلّ من هذا و غيره يظهر أيضا ضعف القول الثالث، و ان اختاره المحقق الطوسي في التجريد، مستدلّا بأنّه لا يكفي التصديق بالقلب دون اللسان لقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1» حيث أثبت للكفّار الاستيقان النفسي و هو التصديق القلبي، فلو كان الإيمان هو التصديق القلبي فقط

لزم اجتماع الكفر و الإيمان و هو باطل لأنّهما متقابلان، و لقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «2» حيث أثبت لهم الكفر مع المعرفة القلبيّة، و لا يكفي الإقرار باللسان دون التصديق أيضا ... لقوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «3»، و قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «4» حيث نفي عنهم الايمان مع اعترافهم به باللسان.

إذ فيه أنّ الاستدلال على الثاني و ان كان صحيحا موجّها جدّا، إلّا أن دليله على الأوّل أخصّ من المدّعى فإنّ الآية إنّما دلّت على ثبوت الكفر مع الجحود و الإنكار الّذي هو سبب مستقلّ للحكم بالكفر كإنكار الضروري و غيره، و اين هذا من الحكم بالكفر بمجرد ترك الإقرار باللسان مع التصديق بالجنان، و لعلّه هو السبب لرجوعه عن ذلك في غير التجريد من كتبه كقواعد العقائد، و الفصول على المحكي و ان كان استفادته منهما لا يخلو عن تأمّل.

و لقد أجاد شيخنا الطبرسي حيث ذكر أنّ أصل الإيمان هو المعرفة باللّه تعالى و برسله و بجميع ما جاءت به رسله، و كلّ عارف بشي ء فهو مصدّق به، و استدلّ عليه

__________________________________________________

(1) النمل: 14.

(2) البقرة: 89.

(3) الحجرات: 14.

(4) البقرة: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 130

بهذه الآية من حيث دلالة عطف إقامة الصلاة و غيرها على المغايرة، و

بالنبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الايمان سرّ و أشار الى صدره، و الإسلام علانية

، قال: و قد يسمّى الإقرار إيمانا كما يسمّى تصديقا، إلّا أنّه متى صدر من شكّ أو

جهل كان إيمانا لفظيّا لا حقيقيا، و قد يسمّى أعمال الجوارح أيضا ايمانا استعارة و تلويحا كما يسمّى تصديقا كذلك، فيقال: فلان يصدّق أفعاله مقاله، و لا خير في قول لا يصدّقه الفعل، و الفعل ليس بتصديق حقيقي باتّفاق أهل اللغة، و إنّما استعير له هذا الإسم على الوجه الّذي ذكرناه، فقد آل الأمر مع صحّة الرضوي الّذي رواه الخاصّ و العامّ من أنّه هو التصديق بالقلب، و الإقرار باللسان، و العمل بالأركان، و أنّه قول مقول، و عمل معمول، و عرفان بالعقول، و إتباع الرسول الى أنّ الإيمان هو المعرفة بالقلب و التصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة، و لا يطلق لفظه إلّا على ذلك، إلّا أنّه يستعمل في الإقرار باللسان او العمل بالأركان مجازا و اتّساعا «1»، انتهى كلامه زيد مقامه.

ثم إنّك بعد الإحاطة بما قرّرناه لا يخفى عليك ضعف سائر الأقوال في المسألة و إن أنهاها بعضهم الى عشرة فصاعدا إلا أنّ الجميع مشترك في الضعف مردود بإجماع الإماميّة على خلافه بعد الكتاب و السنّة و إن ذهب إليها بعض المخالفين و الخوارج و النصّاب.

الإيمان بالغيب

- تبصرة-: انظر كيف بدء اللّه سبحانه في أوّل هذه السورة الّتي هي أساس القرآن، و هو مفتتح كتابه بأنّه هو النور المبين و هو هدى للمتقين، ثمّ سمّاهم

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 38- 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 131

بأحسن أسمائهم، و وصفهم بأشرف صفاتهم و نعّتهم بما هو الأصل و الأساس لساير أسمائهم الحسنى و صفاتهم العليا، و هو إيمانهم بالغيب، حتّى صار ما غاب عنهم لقوة الإيمان بمنزلة العيان، فإنّ الإيمان نور إلهي ينقذف في القلب من التصديق و الإذعان

للّه تعالى و لأنبيائه و أوليائه، و هو يقبل الشدّة و الضعف، و الزيادة و النقصان بحسب الكمّية و الكيفيّة فيزيد شيئا فشيئا بزيادة الإعتبار و الإستبصار، و العلم الموجب لزيادة العمل و حسنه و خلوصه المؤدّي إلى زيادة المعرفة و جلاء البصيرة، فإنّ كلّا من العلم و العمل يدور على الآخر، الى ان ينتهي الى اليقين متدرّجا في مراتبه إلى أن يصل إلى معاينة الحقائق و التحقق بها في جميع المراتب. و هذا كلّه من مراتب الإيمان الّذي تنفتح معه البصيرة الباطنة، و لذا ورد: إنّ المؤمن له أربعة أعين، عينان في ظاهر البدن، و عينان في باطن القلب، و بهما يطّلع على الحقائق، و ينجلي ضياء المعرفة في قلبه، و يترشّح النور من قلبه على ساير جوارحه فلا يصدر شي ء منها من حركة أو سكون أو فعل او انفعال إلّا ما هو مقتضى الإيمان، و رضى الرحمان، و مطردة الشيطان.

و ذلك لأنّه قد استولى و غلب على قلبه التصديق و الإذعان و المعرفة باللّه و بأنبيائه و رسله و حججه، و باليوم الآخر، و وعده، و وعيده، و غير ذلك ممّا رأته القلوب بحقائق الايمان، و شهود الأنوار، و إن لم ترها العيون الّتي في الأبدان بمشاهدة الأبصار، بحيث لم يبق في قلبه متّسع لغير ذلك، فصار إيمانه هو الحاكم المتصرّف في نفسه فضلا عن بدنه على جهة الاستقامة على مقتضى الولاية الّتي هي حقيقة العبوديّة للّه سبحانه طوعا و اختيارا بحيث لا يكاد يميل قلبه إلى غيرها رغبا أو رهبا بعد استقرار السكينة في قلبه.

و الحاصل أنّ للإيمان الكامل آثارا من حيث التخلّق بالأخلاق الفاضلة الروحانية، و الإشتغال بالأعمال الصالحة البدنيّة، و

كلّها ناشية عن كمال الإذعان

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 132

و التصديق بالأصول الحقيقيّة، و العقائد الايمانيّة تفصيلا أو إجمالا و لو على وجه التسليم و ردّ العلم بالتفصيل أو الكيفيّة إلى عالمه.

و لذا ورد في أخبار كثيرة الأمر بالتسليم و ترك الإنكار فيما يعجز عقولنا عن إدراكه و الإحاطة بكيفيّته كمعرفته سبحانه، و كون صفاته عين ذاته بلا مغايرة اعتبارية، إلى غير ذلك من غرائب علم التوحيد، و غرائب أحوال النبيّ و الأئمّة صلّى اللّه عليهم أجمعين من بدء كينونتهم و اتحادهم في عالم الأنوار و احاطتهم الكليّة على ما في صقع عالم الأكوان، و كينونة سائر الأنبياء و الملائكة من فاضل طينتهم، و أنّ قائمهم المهدي عجّل اللّه فرجه الشريف يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا. و غير ذلك من أطوار البرزخ و أحوال القيامة و أهوالها، و الجنة و النار ممّا علم من الدين إجمالا او تفصيلا، فإنّ ذلك كلّه من الإيمان بالغيب الّذي يتبعه العبوديّة و العمل الصالح من حيث الشدّة و الضعف و الزيادة و النقصان.

البداء و دفع الإشكال

لعلّك يختلج في بالك أنّ من الغيب الّذي يلزمنا الإيمان به هو القول بالبداء، فإنّه ما عبد اللّه عزّ و جلّ بشي ء مثل البداء «1»، و ما عظّم سبحانه بمثله «2»، و ما بعث اللّه تعالى نبيّا قطّ حتى يأخذ عليه الإقرار بالعبوديّة و خلع الأنداد، و أنّ اللّه تعالى يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء «3».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 107 ح 19 عن توحيد الصدوق.

(2) البحار ج 4 ص 107 ح 20 عن توحيد الصدوق.

(3) البحار ج 4 ص 108 ح

21 عن توحيد الصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 133

و قد تواترت به الأخبار عن أهل البيت عليه السّلام، بل قد علم ذلك من ضرورة المذهب و إن طعن به علينا بعض الجهلة من المخالفين، حسبما تسمع إن شاء اللّه تمام الكلام في تحقيقه و في رفع شبه المخالفين في تفسير قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ «1».

ثم إنّ مقتضى الإيمان به أنّ له سبحانه محو ما شاء من التكوينيّات و تبديله بغيره ما لم يظهر في الوجود العيني، و من البيّن أنّ ما أخبر به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليه السّلام من ظهور الحجّة، و أحوال الرجعة، و تحقق القيامة، و الحساب، و الصراط، و الميزان، و الجنّة للمطيعين، و النار للعاصين، و غير ذلك من الأمور الكثيرة كلّها من التكوينيّات الّتي يتطرّق إليها احتمال البداء، و يلزمنا الإيمان به و معه كيف يمكن التصديق العلمي و الإعتقاد الجزمي بتلك الأمور من حيث التحقّق و الوقوع سيّما مع وقوعه فيما هو من اصول الاماميّة، كإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق عليه السّلام، و غيره ممّا وقع فيه البداء.

و الجواب أنّ هذه الأمور الّتي قد تواتر الأخبار بها من الأنبياء و الأئمّة عليه السّلام حتى صارت من ضروريات الدين بل من الأصول العلميّة الّتي يجب اعتقادها على جميع المؤمنين ممّا لا يتطرّق إليها احتمال المحو و التغيّر و التبدّل، و لا مجال للقول بالبداء فيها، حتّى أنّ الوعيديّة قالوا: بوجوب العذاب مع كثرة ما ورد من الوعد بالعفو و الصفح، فتلك الأمور و ما ضاهاها من العقائد الإيمانيّة لم نؤمر باعتقاد البداء فيها بل أمرنا فيها بالاعتقاد بالتحقّق

و الوقوع كما هي كذلك في الواقع.

و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام على ما رواه في المحاسن و العيّاشي في تفسيره قال عليه صلوات اللّه: العلم علمان: علم عند اللّه مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه،

__________________________________________________

(1) سورة الرعد: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 134

و علم علّمه ملائكته و رسله، فأمّا ما علّمه ملائكته و رسله فإنّه سيكون لا يكذّب نفسه و لا ملائكته و لا رسله، و علم عنده مخزون يقدّم فيه ما يشاء و يؤخّر ما يشاء و يثبت ما يشاء «1».

و روى العيّاشي باسناده عنه عليه السّلام، قال: من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، و من الأمور أمور موقوفة عند اللّه يقدّم منها ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا (يعني الموقوفة) فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه و لا نبيّه و لا ملائكته «2».

و المراد بالاطلاع المنفي هو إطلاع الخلق على وجه التبليغ و إيصال الأنبياء من اللّه سبحانه، و لذا قوبل بقوله: و أمّا ما جاءت به الرسل.

و من هنا يرتفع التنافي أيضا بين ما دلّ منها على عدم وقوعه فيما وصل إليهم علمه و ما دلّ على وقوعه في ذلك مثل ما دلّ على البداء في ظهور الحجّة عجّل اللّه فرجه للتوقيت و الإفشاء «3».

و في دفع ميتة السوء عن اليهودي الّذي سلّم على نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالسام ثم أتبعه بالصدقة «4».

و عن المرأة الّتي أخبر بموتها عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام في ليلة زفافها «5» إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و أمّا وقوع البداء في

إسماعيل فهو ممنوع بجملة من معانيها الّتي هي البداء

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 113 ح 36 عن المحاسن و العياشي.

(2) البحار ج 4 ص 119 ح 58 عن العيّاشي.

(3) البحار ج 52 ص 117 ح 42.

(4) البحار ج 4 ص 121 ح 67 عن الكافي.

(5) البحار ج 4 ص 94 ح 1 عن امالي الصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 135

في العلم، أو في الإرادة، أو في الأمر، أو في العقل، لذا أنكره المحقّق الطوسي، و غيره، بل من الواضح المتواتر من طرق الامامية و غيرهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضبط أسماء الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و صفاتهم، و أنّها مكتوبة على الألواح السماوية و على العرش، معروضة على الأنبياء عليهم السّلام لا يتطرّق إليهم النقص و التبديل قد اختارهم اللّه تعالى عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ.

و لذا قال شيخنا الصدوق رحمه اللّه في التوحيد: إنّ معنى

قول الصادق عليه السّلام:

ما بدا للّه بداء كما بدا له في إسماعيل ابني

أنّه ما ظهر للّه أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني إذ اخترمه «1» قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي «2».

قال الصدوق بعد الرواية: و قد روي لي من طريق أبي الحسين الأسدي رضوان اللّه عليه في ذلك شي ء غريب، و هو أنّه

روى أنّ الّصادق عليه السّلام قال: ما بدا للّه بداء كما بدا له في إسماعيل أبي، إذ امر أباه بذبحه ثم فداه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.

و في الحديث على الوجهين جميعا عندي نظر «3».

هذا مع أنّه لم يرد النصّ على إسماعيل من أحد من الأئمّة عليهم السّلام فكيف البداء، نعم كان الصادق عليه

السّلام يحبّه حبّا شديدا، و يكرمه إكراما عظيما بحيث يتوهم بعض الناس أنّه الإمام بعده.

و روي أنّه لمّا مات في حياة الإمام عليه السّلام بالعريض قرب المدينة قبل وفاة الإمام بعشرين سنة حمل على أعناق الرّجال و جزع أبو عبد اللّه عليه السّلام عليه جزعا شديدا، و تقدّم سريره بغير حذاء و لا رداء، و أمر بوضع سريره على الأرض قبل دفنه

__________________________________________________

(1) اخترمه: أهلكه.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 109 في ذيل ح 26 عن التوحيد.

(3) البحار ج 4 ص 109 عن توحيد الصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 136

مرارا، و كان يكشف عن وجهه و ينظر إليه، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانّين خلافته له من بعده و إزالة الشبهة عنهم في حياته.

بل روي أنّه عليه السّلام عقد على وفاته محضرا و أشهد عليه عامل المنصور بالمدينة، و قد ظهر قريبا سرّ الإشهاد على موته و كتابة المحضر عليه، و لم يعهد ميّت سجّل على موته، و ذلك أنّه لمّا رفع الى المنصور أنّ إسماعيل بن جعفر رئي بالبصرة واقفا على رجل مقعد فدعا له، فبرأ باذن اللّه، بعث المنصور الى الصادق عليه السّلام أنّ ابنك إسماعيل في الأحياء، و أنّه رئي بالبصرة، فأنفذ عليه السّلام السجلّ إليه، و عليه شهادة عامله بالمدينة فسكت.

تفسير وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
اشارة

الإقامة إفعال من القيام بمعنى الانتصاب، أو القوام بفتح القاف بمعنى العدل، و منه: قوله تعالى: وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «1» و الظاهر كونه حقيقة فيه كما هو الصّحاح و القاموس و المحكي عن تغلب و غيره، بل قد يشعر به الخبر المروي في تفسير الآية، و الهمزة للتعدية فمعنى أقام الشي ء على الأوّل

جعله منتصبا، و إذا قوّم العود قيل: أقامه أي سوّاه و أزال اعوجاجه، ثم استعيرت الإقامة من تسوية الأجسام الّتي قيل إنّها حقيقة فيها إلى تسوية المعاني كإقامة الصلاة بمعنى تعديل أركانها.

إلّا أنّ الأظهر كما قيل أنّه لا حاجة إلى التزام التجوّز فإنّها حقيقة في التسوية و التعديل من غير اختصاص بشي ء من الأجسام و المعاني، و التسوية و التعديل في

__________________________________________________

(1) الفرقان: 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 137

الصلاة بحفظ حدودها و احراز قيودها و رفض نواقصها و موانعها.

أو مأخوذة من قامت السوق إذا نفقت و أقامها أي جعلها نافقة غير كاسدة، فكأنّه جعلت المداومة عليها أو حسن المحافظة على حدودها و وظائفها بمنزلة نفاق السوق و عدم كسادها حيث إنّ كلّا من النفاق و المداومة و حسن المحافظة جعل متعلقه مرغوبا فيه متوجّها إليه، و منه قول الشاعر:

أقامت غزالة سوق الضراب لأهل العراقين حولا قميطا أو مأخوذة من قامت الحرب على ساقها، أو قام فلان بالأمر، إذا تجلّد و تشمّر لأدائها من دون توان فيها و لا فتور منها، فإن حقيقة قيام الشخص بالأمر تلبّسه به قائما و يلزمه عرفا اعتنائه بشأن ذلك الأمر و تشمّره له و تجلّده فيه، و لذا يقال في ضدّه: قعد عن الأمر و تقاعد.

أو من القيام الّذي هو من أجزاء الصلاة المتّصف بالوجوب الركني و غيره و بالاستحباب و لذا

قال عليه السّلام: «من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له» «1».

قيل: و منه: قد قامت الصلاة، و إنّه إنما ذكر القيام لأنّه أوّل أركانها و أمدّها، مع أنّه ربما يعبّر عنها بغيره من أركانها كالركوع و السجود، بل و من ساير أجزائها كالقنوت و

التسبيح.

أو مأخوذة من القائم للشي ء بمعنى الراتب الدائم، و منه قولهم: فلان يقيم أرزاق الجند، أي يديمها، قال في الصحاح: أقام الشي ء أي أدامه من قوله تعالى: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ.

أو أنّه بمعنى الفعل و الأداء على وجه التجريد، و قد يحمل عليه

قول الصادق عليه السّلام لحمّاد: «ما أقبح بالرجل منكم فأتى عليه ستون سنة أو سبعون سنة فلا

__________________________________________________

(1) الحدائق ج 8 ص 60 عن المحاسن و الكافي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 138

يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة» «1» لكنّه بعيد في الآية، بل في الخبر أيضا.

نعم ربما يرجّح المعنى الأوّل على غيره نظرا إلى أنّه أشهر، و إلى الحقيقة أقرب، و أفيد، لتضمّنه التنبيه على أنّ الحقيق بالمدح من يراعي حدودها الظاهرة من الفرائض و السنن و حقوقها الباطنة من الخشوع و الإقبال بقلبه على اللّه تعالى، لا المصلّون الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ، و لذلك ذكر في سياق المدح «وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» «2» و في معرض الذمّ «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» «3».

أقول: و فيه أنّ دعوى الأشهريّة ممنوعة، بل و كذا الأقربيّة، و لو سلّمنا الأخيرة فهو إنّما يوجب الترجيح على غير الحقيقة، و قد سمعت كونه حقيقة على الوجه الثاني.

و أمّا ما أفاده عن زيادة الفائدة فمن البيّن أنّه لا اختصاص له بالأوّل، بل المداومة و التجلّد و النفاق أوجب لحسّ القبول بسبب الكمال أيضا كذلك و إن كان كلّ منها موجبا للكمال من وجه.

و من هذا من بعد ملاحظة ما مرّت الإشارة إليها غير مرّة يظهر أنّ الأولى الحمل على المستجمع لجميع صفات لكمال من جهة حسن الفعل و تسويته و نفاقه و حسن الاهتمام به و التشمّر لأدائه و المداومة على

فعله بعد اشتماله على الآداب و الوظائف الداخلة و الخارجة.

و لذا

ورد في النبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ تسوية الصفّ من اقامة الصلاة» «4» ، و في

__________________________________________________

(1) الحدائق ج 8 ص 2 عن الوسائل الباب 1 من افعال الصلاة.

(2) النساء: 162.

(3) الماعون: 4.

(4) الحدائق ج 11 ص 168 عن صحاح العامّة مثل سنن ابي داود و صحيح مسلم و صحيح البخاري.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 139

تفسير الإمام عليه السّلام أنّه تعالى قال: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يعني بإتمام ركوعها و سجودها و حفظ مواقيتها و حدودها، و ضيافتها عمّا يصدّها و ينقضها، ثم قال:

و حدّثني أبي، عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان من خيار أصحابه أبو ذرّ الغفاري فجاء ذات يوم، فقال: يا رسول اللّه إنّ لي غنيمات قدر ستّين شاة اكره أن ابدو فيها و أفارق حضرتك و خدمتك، و اكره أن أكلها إلى راع فيظلمها أو يسي ء رعيها فكيف أصنع؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ابدأ فيها، فبدأ فيها، فلمّا كان في اليوم السابع جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا ذر، قال: لبّيك يا رسول اللّه، قال:

ما فعلت غنيماتك؟ قال: يا رسول اللّه إنّ لها قصّة عجيبة، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما هي؟ قال:

يا رسول اللّه بينا أنا في صلاتي إذ عدا الذئب على غنمي، فقلت: يا ربّ صلاتي و يا ربّ غنمي، فآثرت صلاتي على غنمي، و أخطر الشيطان ببالي:

يا أبا ذر أين أنت إن عدت الذئاب على غنمك و أنت تصلّي فأهلكتها و ما يبقى لك في الدنيا ما تتعيّش به؟

فقلت للشيطان: يبقى لي توحيد اللّه تعالى، و الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و موالاة أخيه سيّد الخلق بعده علي بن أبي طالب عليه السّلام، و موالاة الأئمة الهادين الطاهرين من ولده، و معاداة أعدائهم، و كل ما فات من الدنيا بعد ذلك سهل، فأقبلت على صلاتي، فجاء ذئب فأخذ حملا و ذهب به و أنا أحسّ به إذ أقبل على الذئب أسد فقطّعه نصفين و استنقذ الحمل و ردّه الى القطيع، ثمّ ناداني يا أبا ذرّ أقبل على صلاتك فإنّ اللّه قد وكّلني بغنمك الى أن تصلّي، فأقبلت على صلاتي و قد غشيني من التعجّب ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى حتى فرغت منها فجاءني الأسد و قال لي امض الى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره أنّ اللّه تعالى قد أكرم صاحبك الحافظ لشريعتك، و وكّل أسدا بغنمه يحفظها. فعجب من كان حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صدقت يا أبا ذر، و لقد آمنت به أنا و علي و فاطمة و الحسن و الحسين، فقال بعض

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 140

المنافقين: هذا المواطاة بين محمّد و أبي ذرّ، يريد أن يخدعنا بغروره، و اتفق منهم عشرون رجلا و قالوا: نذهب إلى غنمه و ننظر إليها و ننظر إليه إذا صلّى هل يأتي الأسد فيحفظ غنمه؟ فذهبوا و نظروا و أبو ذر قائم يصلّي، و الأسد يطوف

حول غنمه و يرعاها، و يردّ إلى القطيع ما شذّ عنه منها، حتّى إذا فرغ من صلاته ناداه الأسد:

هاك قطيعك مسلّمة وافرة العدد سالمة، ثم ناداهم الأسد: معاشر المنافقين أنكرتم لولي محمّد و عليّ و آلهما الطيّبين و المتوسّل إلى اللّه بهم أن يسخّرني اللّه ربّي لحفظ غنمه، و الّذي أكرم محمّدا و آله الطيبين الطاهرين لقد جعلني اللّه طوع يد أبي ذرّ حتى لو أمرني بافتراسكم و هلاككم لأهلكتكم، و الّذي لا يحلف بأعظم منه لو سئل اللّه بمحمّد و آله الطّيّبين أن يحوّل البحار دهن زنبق و بان و الجبال مسكا و عنبرا و كافورا، و قضبان الأشجار قضب الزمرّد و الزبرجد لما منعه اللّه ذلك.

فلمّا جاء أبو ذر الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا ذر إنّك أحسنت طاعة اللّه فسخّر اللّه لك من يطيعك في كفّ العوادي «1» عنك، فأنت من أفاضل من مدحه اللّه عزّ و جلّ بأنّه يقيم «2» الصلاة «3».

الصلاة بحسب اللغة

(و الصّلوة) فعله بالتحريك من صلّى كالزكاة من زكى لا من ذوات الواو، و إثباتها فيهما خطّا للتفخيم أي إمالة الالف نحو مخرج الواو، و لا ثالث لهما، و هو

__________________________________________________

(1) العوادي جمع العادية من العدوان، أو من عدا على الشي ء إذا اختلسه.

(2) في نسخة: بأنّهم يقيمون الصلاة.

(3) التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام ص 26- 27 و عنه بحار الأنوار ج 22 ص 393- 394 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 141

اسم يوضع موضع المصدر، يقال: صلّى صلاة، لا تصلية، و هي في الأصل بمعنى الدعاء

و منه قوله تعالى: وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ «1» أي أدع لهم بعد أخذ الصدقة بقبولها.

و الخبر «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب و إن كان صائما فليصلّ» «2» أي فليدع له بالخير و البركة.

و الخبر الآخر: «إذا متنا صلّى لنا عثمان بن مظعون»

اي دعا لنا بالمغفرة.

أو أنّه من صليت العود بالنار إذا ليّنته، لأنّ المصلّي في توجهه الى اللّه تعالى يقوّم ميله الى الباطل و اعوجاجه الحاصل من الالتفات إلى ما عداه و التوجّه الى ما سواه بالحرارة الّتي حصلت له من الحركة الصعودية و التقرّب من شهود الحقيقة المعنويّة.

بل قد يحتمل كون التفعيل للسلب كالإفعال، و إن كان نادرا، فيكون التصلية بمعنى إطفاء الحرارة كما

في النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قوموا إلى نيرانكم الّتي أوقدتموها على ظهوركم فأطفؤها بصلواتكم» «3» أي الأثقال المحمولة عليهما من الذنوب و المعاصي المتوقّدة بنيرانها الباطنة الّتي هي تجوهرها أو جزاؤها.

أو من اللزوم و منه قوله:

«و إنّي لحرّها اليوم صال»

أي ملازم لحرّها، فكان معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الّذي أمر اللّه تعالى به.

أو أنّها في اللّغة بمعنى التعظيم، و لذا قال في النهاية: إنّ قولنا: «اللهم صلّ محمد» معناه عظّمه في الدنيا بإعلاء ذكره و إظهار دعوته و إبقاء شريعته، و في

__________________________________________________

(1) التوبة: 103.

(2) المحلى، ج 9 ص 451.

(3) اقبال الأعمال ج 3 ص 367.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 142

الآخرة بتشفيعه في امّته، و تضعيف أجره. سمّيت بها العبادة الخاصّة لما فيها من التعظيم و العبوديّة له سبحانه.

أو أنّها من الصلى (بفتح الصاد و الألف المقصورة) و التثنية صلوان، و هي على ما في

«القاموس» وسط الظهر منّا و من كلّ ذي أربع، أو ما انحدر من الوركين، أو الفرجة بين الجاعرة و الذنب، أو ما عن يمين الذنب و شماله، فمعنى صلّى حرّك الصلوين، لأنّ أوّل ما يشاهد من احوال الصلاة المميزة لها من غيرها إنّما هو تحريكهما للركوع و السجود، و أمّا القيام فلا يختصّ بها، و منه المصلّي بكسر اللام للفرس الّذي بعد السابق لأن رأسه عند صلّى السابق.

و في الكافي و المناقب عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ «1» قال عليه السّلام: عني بها لم نك من أتباع الأئمّة الذين قال اللّه تبارك و تعالى فيهم: «وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» «2»، أما ترى الناس يسمّون الّذي يلي السابق في الحلبة مصلّيا، فذلك الّذي عني حيث قال: «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» «3» أي لم نك من أتباع السابقين «4».

و في خبر بناء الإسلام على الخمسة، انّ الأفضل من ذلك هو الولاية لأنّها مفتاحهنّ، و الوالي هو الدليل عليهنّ، ثمّ الّذي يليها في الفضل الصلاة ...

الخبر «5»، فهي الّتي تلي السابق في حلبة التقرّب إلى اللّه.

و احتمال أخذه من كون المصلّي ثانيا في الرتبة على ما يستفاد من

خبر

__________________________________________________

(1) المدثر: 43.

(2) الواقعة: 10.

(3) المدثر: 43.

(4) الكافي: ج 1 ص 419.

(5) راجع أصول الكافي، ج 2 ص 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 143

«قسّمت الصلاة بيني و بين عبدي ...» «1» سخيف جدّا.

و أمّا ما ذكره الرازي من أنّ هذا الاشتقاق يفضي الى طعن عظيم في حجّية القرآن، لأنّ لفظ الصلاة من أشدّ الألفاظ شهرة و أكثرها دورانا على ألسنة المسلمين، و اشتقاقه من تحريك

الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل، و لو جوّزنا أن يقال: مسمّى الصلاة ما ذكرتم أنّه خفى و اندرس حتّى صار بحيث لا يعرفه إلّا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ، و لو جوّزنا ذلك لما قطعنا بأنّ مراد اللّه تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا، لاحتمال كونها في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موضوعة لمعان آخر و كان مراد اللّه تلك المعاني إلّا أنّها قد خفيت في زماننا و اندرست كما وقع في هذه اللّفظة، و هو باطل بالإجماع فكذا ذلك.

ففيه أنّ هجر المعنى الأوّل في الألفاظ المنقولة ليس ببدع، و قياس غيرها بها كما ترى، و أصالة عدم النقل بل الهجر محكّمة في الإطلاقات العرفيّة الّتي ينزل عليها الخطابات الشرعية.

و على كلّ حال فقد يقال كما عن الباقلاني و غيره: ببقائها كغيرها من ألفاظ العبادات على المعاني اللغويّة و الأكثر على أنّها منقولة شرعا كما هو الأظهر الأشهر، أو متشرّعا كما عن جماعة إلى ذات الأركان و الكيفيات المخصوصة و إن اختلفت باختلاف أحوال المكلّفين من حيث اعتبار الأجزاء و الشرائط و الكيفيّات و غيرها كلّا أو بعضا، عينا أو بدلا.

و هذا كلّه ممّا يتعلّق بصحّتها و أجزائها، و لها آداب و وظائف تتعلّق بالقبول من الإقبال، و الخشوع، و التوجّه، و غير ذلك ممّا ستسمعها في موضعها إن شاء اللّه

__________________________________________________

(1) رواه في العيون ج 1 ص 234 ح 59 و في الأمالي ص 147.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 144

تعالى، و لذا لم نتعرّض لها إلّا عدى ما

رواه السيّد «1» بن طاوس طاب ثراه. قال:

جاء الحديث أنّ

رذام مولى خالد بن عبد اللّه، و كان من الأشقياء، سأل الإمام جعفر بن محمّد عليهما السّلام بحضرة أبي جعفر المنصور عن الصلاة و حدودها، فقال عليه السّلام: للصلاة أربعة آلاف حدّ لست تفي بواحد منها، فقال: أخبرني بما لا يحلّ تركه، و لا تتمّ الصلاة إلّا به، فقال عليه السّلام: لا تتمّ الصلاة إلا لذي طهر سابغ، و تمام بالغ غير نازغ و لا زائغ، عرف فاخبت و ثبت و هو واقف بين اليأس و الطمع، و الصبر و الجزع، كأنّ الوعد له صنع و الوعيد به وقع، بذل عرضه، و تمثّل غرضه، و بذل في اللّه المهجة و تنكّب إليه المحجّة، غير مرتغم بارتغام، يقطع علائق الاهتمام بغير من له قصد، و إليه وفد، و منه استرفد، فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة الّتي تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ.

فالتفت المنصور إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: يا أبا عبد اللّه لا نزال من بحرك نغترف، و إليك نزدلف، تبصّر من العمى، و تجلو بنورك الطخياء فنحن نقوم في سبحات قدسك، و طامي بحرك ...

الخبر «2».

و لعلّ

قوله عليه السّلام: و تمام بالغ

، إشارة إلى آيتي تمام النعمة و التبليغ، غير نازغ و لا زائغ كلاهما بالغين و الزاي المعجمتين- أي غير ناصب عداوة لأهل البيت، و لا مائل عنهم، و العرض بالمهملة المتاع، و بالمعجمة الهدف، أي بذل رأس ماله، و جعل نفسه هدفا لما يرمى إليه، و الارتغام اللصوق بالرغام و هو التراب.

__________________________________________________

(1) هو السيّد علي بن موسى بن جعفر الحسني الداودي المعروف بابن طاوس توفّى سنة (664) ه.

(2) مستدرك الوسائل: ج 4 ص 92.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 145

تأويل الصلاة بالولاية

روى الشيخ شرف الدين النجفي «رحمه اللّه» باسناده عن الشيخ أبي جعفر الطوسي «ره» مسندا إلى الفضل بن شاذان، عن داود بن كثير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أنتم الصلاة في كتاب اللّه عزّ و جلّ و أنتم الزكاة، و أنتم الحجّ؟ فقال: يا داود نحن الصلاة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و نحن الزكاة، و نحن الصيام و نحن الحج، و نحن الشهر الحرام، و نحن البلد الحرام، و نحن كعبة اللّه، و نحن قبلة اللّه، و نحن وجه اللّه، قال اللّه تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1» و نحن الآيات، و نحن البيّنات.

و عدوّنا في كتاب اللّه عزّ و جلّ، الفحشاء و المنكر و البغي، و الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام و الأوثان و الجبت و الطاغوت و الميتة و الدم و لحم الخنزير.

يا داود إنّ اللّه خلقنا فأكرم خلقنا و فضّلنا و جعلنا أمنائه و حفظته و خزّانه على ما في السّماوات و ما في الأرض و جعل لنا أضدادا و أعداء، فسمّانا في كتابه و كنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء و أحبّها إليه، و سمّى أضدادنا و أعدائنا في كتابه و كنّى عن أسمائهم، و ضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه و الى عباده المتّقين «2».

و فيه بالإسناد عنه عليه السّلام أنّه قال: نحن أصل كل خير، و من فروعنا كلّ برّ، و من البرّ التوحيد و الصلاة و الصيام، و كظم الغيظ، و العفو عن المسي ء، و رحمة الفقير، و تعاهد الجار، و الإقرار بالفضل لأهله، و عدوّنا أصل كلّ شرّ، و من فروعهم كلّ قبيح و فاحشة،

فمنهم الكذب، و النميمة، و البخل، و القطيعة، و أكل الربا، و أكل مال

__________________________________________________

(1) البقرة: 115.

(2) بحار الأنوار ج 23 ص 354.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 146

اليتيم بغير حقّه، و تعدّي الحدود الّتي أمر اللّه عزّ و جلّ، و ركوب الفواحش ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ* من الزنا و السرقة، و كلّ ما وافق ذلك من القبح، و كذب من قال: إنّه معنا و هو متعلّق بفرع غيرنا «1».

و في البصائر بالإسناد عن الصادق عليه السّلام فيما كتبه إلى المفضّل في خبر طويل، و فيه: ثمّ إنّي أخبرك أنّ الدّين و أصل الدين هو رجل، و ذلك الرّجل هو اليقين، و هو الإيمان، و هو إمام أمّته. أو أهل زمانه، فمن عرفه عرف اللّه و دينه، و من أنكره أنكر اللّه و دينه، و من جهله جهل اللّه و دينه، و المعرفة على ضربين: معرفة ثابتة على بصيرة يعرف بها دين اللّه، و يوصل بها الى معرفة اللّه، فهذه المعرفة الباطنة الثابتة، و معرفة في الظاهر، فأهل المعرفة في الظاهر الّذين علموا أمرنا بالحق على غير علم لا يلحقون بأهل المعرفة في الباطن على بصيرتهم، و لا يصلون بتلك المعرفة الى حقّ معرفة اللّه ... الى ان قال عليه السّلام: و أخبرك أنّي لو قلت: إنّ الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الحجّ، و العمرة، و المسجد الحرام، و البيت الحرام، و المشعر الحرام، و الطهور، و الاغتسال من الجنابة، و كل فريضة كان ذلك هو النبي الّذي جاء به من عند ربه لصدقت، لأنّ ذلك كلّه إنّما يعرف بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و

لولا معرفة ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإيمان و التسليم له ما عرف ذلك، فذلك من من اللّه تعالى على من يمنّ عليه ...

الخبر «2».

و في مشارق الأنوار، و غيره على ما رواه جملة من الأصحاب منهم الجليلان المجلسيّان طاب ثراهما في خبر معرفتهم بالنورانيّة، و فيه: يا سلمان، و يا جندب إنّ معرفتي بالنورانيّة معرفة اللّه، و معرفة اللّه معرفتي، و هو الدين الخالص بقول اللّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 24، ص 304.

(2) بصائر الدرجات: ص 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 147

سبحانه: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ «1».

الى قوله: وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ قال: و هي ولايتي، فمن والاني فقد أقام الصلاة، و هو صعب مستصعب ...

الخبر بطوله. و ستسمع ان شاء اللّه تمامه في تفسير قوله تعالى: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ «2» حيث فسّرهما فيه بمحمّد و علي صلّى اللّه عليهما و على آلهما.

و جملة الكلام في المقام أنّه قد تظافرت الأخبار بل تواترت على أنّه لا يقبل اللّه تعالى من شيئا من الطاعات و العبادات إلّا بولايتهم و محبتهم، و أنّها مما بني عليه الإسلام و الإيمان، بل هي أشدّها و أكدها.

ففي الكافي، و الأمالي، و المحاسن، و الخصال و غيرها عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة، و الزكاة، و الصوم، و الحجّ، و الولاية، و لم يناد بشي ء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع، و تركوا هذه «3»، يعني الولاية.

و في خبر آخر: أنّه تعالى رخّص في أربع و لم يرخّص في واحدة «4».

أقول: و الترخيص للضرورة و غيرها من الأعذار، و لا ضرورة في الولاية

الّتي هي من عمل القلب.

و في الكافي، و المحاسن، و تفسير العياشي عنه عليه السّلام: بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة و الزكاة و الصوم، و الحجّ، و الولاية، قال زرارة: فقلت: و أي شي ء من ذلك أفضل، قال عليه السّلام: الولاية أفضل لأنّها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل

__________________________________________________

(1) البيّنة: 5.

(2) البقرة: 45.

(3) بحار الأنوار ج 68 ص 329 من الكافي.

(4) الكافي ج 2 ص 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 148

عليهنّ ... إلى أن قال عليه السّلام: إنّ ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه، و باب الأشياء، و رضى الرّحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «1»، أما لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره، و تصدّق بجميع ماله، و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه و يكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه، و لما كان من أهل الإيمان «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على توقّف صحّة الأعمال و قبولها على معرفتهم و ولايتهم و أنّهم الأعراف الذين لا يعرف اللّه و لا يعبد إلّا بسبيل معرفتهم، و أنّهم أبواب الإيمان و أمناء الرّحمن، و أنّ لهم المودّة الواجبة، و بهم تقبل الطاعة المفترضة، و أنّ من مات و لم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهليّة، و أنّ من عرفهم فقد عرف اللّه، و من أنكرهم فقد أنكر اللّه.

و الّذي يستفاد ممّا أشرنا إليه و غيرها أنّ تسميتهم أو تسمية ولايتهم بالصلوة و غيرها من أسماء

العبادات و أفعال الخير يمكن أن يكون لوجوه:

أحدها: أنّ وجوداتهم و كينوناتهم في عالم التكوين هي الأصل و الأساس لساير الطاعات، لأنّها هي الحاصلة من هيأت أفعالهم و أقوالهم و أحوالهم، و لذا

قال في الخبر المتقدّم: نحن أصل كلّ خير، و من فروعنا كلّ برّ «3» الخبر.

و في أخبار خلق الطينة و مزج الطينتين، و رجوع كل عمل الى أهله، و تجسّم الأعمال، و تسمية الشيعة، و غيرها إشارة إلى ذلك أيضا، لدلالتها على أنّ اللّه تعالى

__________________________________________________

(1) النساء: 80.

(2) وسائل الشيعة ج 27 ص 66.

(3) الكافي ج 8 ص 242.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 149

خلق أنوارهم قبل خلق الأشياء كلّها، ثم خلق من أشعّة أنوارهم جميع الخيرات من الذوات و الصفات و الأخلاق و الأفعال الحسنة.

ثانيها: أنّه تعالى عبّر عنهم بهذه الأسماء الشريفة و الألقاب المنيفة، و عن أعدائهم بأضدادها تكنية عن أسمائهم، و حفظا لها عن تحريف المبطلين، و تأويل الجاهلين كما يومئ إليه الخبر الأوّل «1» و قد أشير إليه في العلوي المرويّ في الإحتجاج و غيره جوابا عن الزنديق الّذي سئله عن جملة من المتشابهات، حيث قال بعد تفسير جنب اللّه بأصفيائه و أوليائه ما

لفظه عليه السّلام: و إنّما جعل اللّه في كتابه هذه الرموز الّتي لا يعلمها غيره و غير أنبيائه و حججه في أرضه لعلمه بما يحدثه في كتابه المبطلين و تاويل الجاهلين.

ثالثها: أنّ الصلاة و غيرها من العبادات و الأفعال الحسنة لمّا كانت من شئون ولايتهم و لوازم معرفتهم و الإذعان بمراتبهم فلذا عبّر بها عن الولاية و الولي.

رابعها: أنّ هذه العبادات لمّا كانت مشروطة بالولاية بحيث لا يقبل شي ء منها بدونها كما أشير

اليه في خبر بناء الإسلام و غيره.

خامسها: أنّ هذه الفرائض لمّا علم وجوبها و حسنها و اشتمالها على مصالح الدارين و سعادة النشأتين بتعريفهم و بيانهم و تبليغهم ناسب أن تعبّر فيهم بها، كما يستفاد من خبر البصائر، و إن كان محتملا لبعض الوجوه المتقدّمة أيضا.

سادسها: أنّ هذه التعبيرات مبتنية على بعض القواعد الحسابيّة المصونة المكنونة المقررة في علم الجفر و غيره من العلوم المختصّة بهم و خواصّ شيعتهم، و لعلّ من جملة ذلك ملاحظة أعداد الحروف و قويها و نظائرها من الدوائر السبع أو السبعين و ملاحظة زبر الحروف و بيّناتها و استنطاق قواها، و غير ذلك ممّا لا يخفى

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 195.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 150

على أهله، بل لعلّه إليه الإشارة بقوله عليه السّلام في الخبر: تكنية عن العدد كما هو الموجود في تأويل الآيات للشيخ شرف الدين النجفي، و ان احتمل كونه بالواو، و لذا عدّاه بعن.

و بالجملة فقد ظهر من جميع ما مرّ أنه لا غضاضة في إطلاق تلك الأسماء عليهم و تأويلات الآيات المشتملة عليها بهم عليه السّلام كما دلّت عليه الأخبار المتقدّمة و غيرها ممّا لم نتعرّض لها بكثرتها.

و أمّا ما يستفاد منه المنع من ذلك

كالخبر المروي في رجال الكشي عن الصادق عليه السّلام أنّه كتب الى أبي الخطّاب: بلغني أنّك تزعم أنّ الزنا رجل، و أنّ الخمر رجل، و أنّ الصلاة رجل، و الصيام رجل، و أنّ الفواحش رجل، و ليس هو كما تقول، إنا أصل الحقّ و فروع الحقّ طاعة اللّه، و عدوّنا أصل الشرّ و فروعهم الفواحش، و كيف يطاع من لا يعرف، و كيف يعرف من لا

يطاع «1».

و فيه عنه عليه السّلام أنّه قيل له: روي أنّ الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجال، فقال: ما كان اللّه عزّ و جلّ ليخاطب خلقه بما لا يعلمون «2».

ففيه مع قصوره عن المعارضة لما سمعت أنّ الظانّ أبّا الخطّاب و أصحابه كانوا يؤوّلون تلك الآيات بالّرجال و يرفضون نفس العبارات و الأعمال و يزعمون أنّه يكفي في الإيمان مجرّد الولاية و البرائة كما يظهر ذلك من بعض الأخبار، و لذا

قال الصادق عليه السّلام لداود بن فرقد على ما رواه في البصائر: لا تقولوا لكلّ آية هذه رجل و هذه رجل، من القران حلال، و منه حرام، و منه نبأ ما قبلكم و حكم ما بينكم،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 299.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 300.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 151

و خبر ما بعدكم «1».

و المعنى على ما ذكره شيخنا المجلسي و غيره أي لا تقتصروا على هذا بأنّ تنفوا ظاهرها.

و أمّا ما ذكره السيّد الداماد في شرح الخبر الأوّل المروي في رجال الكشي من أنّ فيه وجهين:

أحدهما أن يكون الطاعة جمع طائع أو طيّع، كما أنّ السادة جمع سيّد، و القادة جمع قائد، و على هذا ففروع الحقّ الشيعة و معنى الكلام انّا أصل الحقّ و فروع الحقّ من شيعتنا إنّما هم المطيعون الطائعون المطيعون للّه عزّ و جلّ.

و الثاني أن تكون هي اسم الجنس فيعني بها جنس الطاعات و الحسنات، أو المصدر أي إطاعة اللّه، و التعبد له فيما أمر به من العبادات، و نهى عنه من المعاصي، و حينئذ يقدّر حذف المضاف الى الضمير في اسم انّ، و التقدير إنّ معرفة حقّنا و الدخول في

ولايتنا أصل الحق و أسّ الدين و فروع الحقّ و متمّمات الدين هي ضروب الطاعات و العبادات، و كذلك الفواحش.

إمّا بمعنى الطواغي جمع الفاحشة و الطاغية بالغاء للمبالغة لا بالتاء للتأنيث، فكلّ فاحش جاوز الحدّ في الفحش و السوء. و طاغ تعدّى الحد في الطغيان و العتوّ فهو فاحشة و طاغية من باب المبالغة، فالمعنى عدوّنا أصل الشرّ و أساس الظلم، و فروعهم الفواحش الطواغي من أصحاب الغواية و الضلالة.

و إمّا بمعنى الفاحشات من الآثام، السيّئات من المعاصي، يعني انّ الدخول في حزب عدوّنا و الانخراط في سلكهم أصل الشر و الضلال في الدين و فروع ذلك فواحش الأعمال و موبقات المعاصي.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 301.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 152

فلا يخفى ما فيه من البعد و التكلّف من وجوه عديدة سيّما بعد ما سمعت من المعاني المستفادة من الأخبار.

تفسير وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ
اشارة

الرزق في اللغة هو الحظّ و النصيب من الخير أو مطلقا، و منه قوله:

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1».

و في الصحاح إنّه ما ينتفع به و مثله في القاموس و غيره، و المصدر بالفتح، قيل: و يكسر أيضا، و خصّص عرفا بتخصيص الشي ء بالحيوان، أو بسوق اللّه الى الحيّ ما يتمكّن من الانتفاع به، لكن الأشهر تفسيره بالمختص و المسوق على أنّه بمعنى المرزوق، نعم خصّه بعضهم بالغذاء أو ما يؤكل، او يؤكل و يستعمل، أو ما يملك، أو ما يقع الانتفاع به.

و في المجمع إنّه العطاء الجاري، و هو نقيض الحرمان، لكنّه لا ينبغي التأمّل في شموله للغذاء و غيره كما يقال: رزقني اللّه ولدا و علما، و المأكول و المبذول لقوله تعالى: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ و للملوك و

غيره كما لو أبيح له الأكل من مال غيره، سواء قلنا بحصول الملك عند النفع او التلف أو لا كما هو الأظهر، و كالمصروف في غذاء البهائم فإنّه أرزاقهم.

و لا ينبغي التأمّل أيضا في اختصاص صفة الرازقيّة باللّه سبحانه، فإنّه تعالى هو الرازق، و لا ينبغي الإصغاء إلى ما يحكى عن بعض المعتزلة من التفصيل في

__________________________________________________

(1) الواقعة: 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 153

ذلك بأنّه إن جعل بكدّ الحيوان و تعبه فهو رازق و لنفسه حقيقة، و اللّه سبحانه غير رازق له، و إن حصل بدون كدّ و تعب فالرازق له هو اللّه سبحانه.

نعم قد يستعمل بمعنى الإطعام و التهليل، و منه قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ «1»، على أنّه قد نصّ في المجمع و غيره على أنّ الرازق هو خالق الرّزق.

الإنفاق لغة و تفسيرا

و الإنفاق إفعال من نفق البيع بفتح الفاء أي راج، أو من نفق الزاد كفرح و نصر بمعنى نفد و فني أو قلّ، و أصله بمعنى الخروج و الذهاب، بل قيل: إنّه الأصل في كلّ ما وافقه في الفاء و العين كنفد، و نفح بالمهملة و المعجمة فيهما، و نفر، و نفض، و نفى، و إن كان لا يخلو عن تكلّف في الكلّ أو البعض.

و الإنفاق يستعمل لازما بمعنى الافتقار، يقال: أنفق الرجل اي افتقر و ذهب ماله، و منه: «إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» «2»، و يستعمل متعديا بنفسه، و بالحروف بمعنى إخراج المال و بذله النفقة.

و هذه صفة ثالثة للمتقين على تقدير الصلة، و الواو تفيد الجمعيّة لاشتراط كلّ من هذه الأعمال على الآخر و احراز الجمع في معنى التقوى.

و حمل

الموصولة على الزكاة المفروضة كما عن بعضهم، أو نفقة الرجل على أهله نظرا إلى نزول الآية قبل وجوب الزكاة كما عن آخر، أو التطوع بالنفقة كما عن ثالث.

__________________________________________________

(1) النساء: 8.

(2) الإسراء: 100.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 154

تخصيص من غير تخصّص، و مجرّد اقترانه بالصلوة الّتي هي شقيقة الزكاة لا يصلح مخصّصا للموصولة بالزكوة، فضلا عن خصوص المفروضة منها.

و أمّا ما

في المعاني، و المجمع، و العيّاشي عن الصادق عليه السّلام من تفسيره بقوله:

«و ممّا علّمناهم يبثّون»

فهو تنبيه على الفرد الأخفى الّذي ينبغي أن يكون الاهتمام به أشدّ و أولى نظرا إلى أنّ الأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات للحيوان، و باطنة للقلوب و الأذهان كالمعارف و العلوم، و حقايق الإيمان.

فالأولى حملها على ما يشمل المال و الجاه و الخلق و قوى الأبدان، و تعليم العلوم و الهداية الى مراتب الإيمان، و لذا

قال الإمام عليه السّلام في تفسيره: يعني وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال، و القوى في الأبدان و الجاه و المقدار يُنْفِقُونَ، و يؤدّون من الأموال الزكاة و يجودون بالصدقات، و يحتملون الكلّ، و يؤدّون الحقوق اللازمات كالنفقة في الجهاد إذا لزم هو و إذا استحبّ، و كسائر النفقات الواجبات على الأهلين، و ذوي الأرحام القريبات و الآباء و الأمّهات، و كالنفقات المستحبّات على من لم يكن فرضا عليهم النفقة من سائر القرابات، و كالمعروف بالاسعاف و القرض، و الأخذ بيد الضعفاء، و يؤدّون من قوى الأبدان المعونات كالرجل يقود ضريرا، او ينجيه من مهلكة، أو يعين مسافرا، أو غير مسافر على حمل متاع على دابّة قد سقط عنها او كدفع عن مظلوم قصده ظالم بالضرب أو بالأذى، و يؤدّون الحقوق من الجاه

بأن يدفعوا به عن عرض من يظلم بالوقيعة فيه، أو يطلبوا حاجة بجاههم لمن قد عجز عنها بمقداره، فكلّ هذا إنفاق ممّا قد رزقه اللّه تعالى.

ثمّ روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبارا كثيرة في فصل الصلاة و الزكاة و اشتراط قبول كل منها بالآخر، و عقوبة تاركهما، و فضل الجهاد و الصدقة و اشتراط قبول الجميع بالولاية ... الى أن قال عليه السّلام: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ثمّ كلّ معروف بعد ذلك و ما وقيتم به أعراضكم و صنتموها من ألسنة كلاب الناس كالشعراء الواقعين في

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 155

الأعراض تكفّونهم فهو محسوب لكم في الصدقات.

و سئل امير المؤمنين عليه السّلام من النفقة في الجهاد إذا لزم او استحبّ؟ فقال عليه السّلام: أمّا إذا لزم الجهاد فهو بأن لا يكون بإزاء الكافرين من ينوب من ساير المسلمين فالنفقة هناك الدرهم بسبعمائة ألف، فأمّا المستحبّ الّذي هو قصد الرجل و قد ناب عنه من يسعه و استغنى عنه فالدرهم بسبعمائة حسنة كل حسنة خير من الدنيا و ما فيها مائة ألف مرّة، و أمّا القرض فقرض درهم كصدقة درهمين سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: هو الصدقة على الأغنياء «1».

و قال امير المؤمنين عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من قاد ضريرا أربعين خطوة على أرض سهلة لا خوف عليه اعطي بكلّ خطوة قصرا في الجنّة مسيرة ألف سنة في ألف سنة لا يفي بقدر إبرة منه طلاع الأرض أي ملؤها ذهبا، فإن كان فيما قاده مهلكة

جوزه وجد ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة أوسع من الدنيا مائة مرّة و رجح بسيئاته كلّها و محقها و أنزله في أعالي الجنان و غرفها.

و ما من رجل رأى ملهوفا في طريق بمركوب له قد سقط و هو يستغيث و لا يغاث فأغاثه و حمله على مركوبه و سوّى له إلّا قال اللّه عزّ و جلّ: كددت نفسك و بذلت جهدك في إغاثة أخيك لأكدّنّ ملائكة هم اكثر عددا من خلائق الإنس كلّهم من أوّل الدهر إلى آخره، و أعظم قوّة، كلّ واحد منهم ممّن يسهل عليه حمل السماوات و الأرضين ليبنوا لك القصور و المساكن، و يرفعوا لك الدرجات فإذا أنت في جناني كأحد ملوكها الفاضلين، و من دفع عن مظلوم قصد بظلم ضررا في ماله أو بدنه خلق اللّه عزّ و جلّ من حروف أقواله و حركات أفعاله و سكونها أملاكا بعدد كلّ حرف منها مائة ألف ملك كلّ ملك منهم يقصدون الشياطين الّذين يأتون لإغوائه فيثخنونهم ضربا

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام العسكري ص 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 156

بالأحجار الدافعة «1»، و أوجب اللّه عزّ و جلّ بكلّ ذرّة ضرر دفع عنه، و بأقلّ قليل جزء ألم الضرر الّذي كفّ عنه مائة ألف من خدّام الجنان و مثلهم من الحور الحسان يدلّونه هناك و يشرّفونه، و يقولون: هذا بدفعك عن فلان ضررا في ماله أو بدنه.

و من حضر مجلسا قد حضره كلب يفترس عرض أخيه أو إخوانه و اتّسع جاهه فاستخفّ به، و ردّ عليه، و ذبّ عن عرض أخيه الغائب قيّض اللّه الملائكة المجتمعين عند البيت المعمور لحجّهم، و هم شطر ملائكة السماوات و ملائكة الكرسي و العرش، و هم

شطر ملائكة الحجب، فأحسن كلّ واحد بين يدي اللّه محضره، يمدحونه و يقرّبونه و يقرّظونه و يسئلون اللّه تعالى له الرفعة و الجلالة، فيقول اللّه تعالى: أمّا أنا فقد أوجبت له بعدد كل واحد من مادحيكم مثل عدد جميعكم من الدرجات و قصور، و جنان، و بساتين و أشجار ممّا شئت ممّا لا يحيط به المخلوقون «2».

ثمّ ساق الكلام في أخبار كثيرة في إنفاق أمير المؤمنين عليه السّلام بماله و بدنه و جاهه في سبيل اللّه ابتغاء مرضاته.

اختصاص الرزق بالحلال

: بقي الكلام في امور: أحدها: أنّه قد طال التشاجر بين المتكلّمين في اختصاص الرّزق بالحلال، أو شموله للحرام أيضا سواء كانت الحرمة عينيّة كالخمر و الخنزير، أو لانتفاء الملك كالغصب، او لشي ء من العوارض كالمريض الّذي يجب عليه الحمية إذا أكل ما يضرّه، فالعدليّة على الأوّل، و الأشاعرة على الثاني، و من هنا

__________________________________________________

(1) في المصدر: فيشجونهم ضربا بالأحجار الدامغة.

(2) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 29- 30 و عنه البحار ج 75 ص 15 و ص 258.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 157

وقع الاختلاف بين الفريقين في تعريف الرزق.

قال المحقّق الطوسي في التجريد: الرزق ما صحّ الانتفاع به و لم يكن لأحد منعه منه.

حقيقة الرزق

و قال العلّامة الحلّي أعلى اللّه مقامه في نهج المسترشدين: الرزق عند العدليّة ما صحّ الانتفاع به و لم يكن لأحد منع المنتفع به منه لأنّه تعالى أمر بالإنفاق و لا يأمر بالحرام، و عند الأشعريّة الرزق ما أكل، فالحرام عندهم رزق.

أقول: و التقييد بقولهم: و لم يكن لأحد منعه لإخراج الطعام المباح للضيف، فإنّه يصحّ الانتفاع به لكنّه لا يسمّى رزقا له حتّى يستهلك، إذ قبله يجوز للمضيف منعه من الأكل، و كذلك البهيمة قبل الأكل لا يسمّى طعامها رزقا لها، إذ لمالكها منعها منه، و الحرام أيضا لا يسمّى رزقا إذ لا يصحّ الانتفاع به شرعا مع أنّ لمالكه منعه منه بل اللّه سبحانه قد منعه منه.

و استدلّوا بهذه الآية و نحوها ممّا وقع فيه المدح على انفاق الرزق او الأمر به الدال على استحقاق الثواب بامتثاله نظرا الى أنّه لو كان الحرام رزقا وجب أن يتحقّق المدح و الامتثال بإنفاقه.

و بقوله تعالى: قُلْ

أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا «1» الدالّ على حلّية الرزق و أنّ تحريمه افتراء على اللّه سبحانه.

و

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسّمها حراما «2».

__________________________________________________

(1) سورة يونس: 59.

(2) الكافي ج 5 ص 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 158

و بأنّه سبحانه هو الرازق و الرزّاق، و قاسم الأرزاق و لا يجعل الشي ء رزقا لمن حرّمه عليه لقبحه و مخالفته للتكليف.

و احتجت الأشاعرة لما ذهبوا إليه بأنّ الرزق في اللّغة الحظّ و النصيب، فمن انتفع بالحرام صار ذلك الحرام حظّا و نصيبا له فوجب أن يكون رزقا له.

و بأنّه تعالى قال: ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «1»، و قد يعيش الرّجل طول عمره لا يأكل إلّا من السرقة و الخيانة و الرشوة و الرباء و غيرها من أنواع الحرام، فوجب أن يقال: إنّه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.

و بما

رووه عن صفوان بن اميّة، قال: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ جاء عمر بن قرّة، فقال: يا رسول اللّه إنّ اللّه كتب عليّ الشقوة فلا أراني ارزق إلّا من دفّي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا آذن لك و لا كرامة و لا نعمة أي عدّو اللّه لقد رزقك اللّه طيّبا فاخترت ما حرّم اللّه عليك من رزقه مكان ما أحل اللّه لك من حلاله، أما إنّك لو قلت بعد هذه المقالة ضربتك ضربا وجيعا «2».

و من طرقنا عن الصادق عليه السّلام عن

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ الروح الأمين جبرئيل أخبرني عن ربّي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا اللّه و أجملوا في الطلب، و اعلموا أنّ الّرزق رزقان: فرزق تطلبونه و رزق يطلبكم، فاطلبوا أرزاقكم من حلال فإنّكم إن طلبتموها من وجوهها أكلتموها حلالا، و إن طلبتموها من غير وجوهها أكلتموها حراما و هي أرزاقكم لا بدّ لكم من أكلها «3».

__________________________________________________

(1) سورة هود: 6.

(2) بحار الأنوار ج 5 ص 150.

(3) بحار الأنوار ج 100 ص 28.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 159

و التحقيق أن يقال: إنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ هذا النزاع بين الفريقين ليس في مجرّد وضع اللفظ و محض اللغة، كيف و المرجع فيها الى أربابها، مع أنّ الخطب في مثله سهل.

و لا في أنّ كثيرا من النّاس بل أكثرهم ينتفعون بالحرام، بل ربما يعينسون به طول أعمارهم.

و لا في أنّ صفة الحرمة الشرعية ثابتة لكلّ من الأخذ، و الأكل، و القنية إذا لم يكن على الوجه المباح المأذون فيه في الشرع.

إنّما الكلام بين الفريقين في أنّ اللّه تعالى هل جعل أرزاق العباد في الأشياء الطيّبة المباحة و إن اختاروا بسوء اختيارهم غيرها، بل و عاشوا بالأشياء الخبيثة المحرّمة طول عمرهم، أو أنّه جعل أرزاقهم في كلّ ما يعيشون به و ينتفعون منه، فالعدليّة لمّا ذهبوا الى التحسين و التقبيح العقليين و استحالوا القبح على اللّه سبحانه اختاروا الأوّل، و الأشاعرة لمّا لم يقولوا بالعدل ذهبوا الى الثاني.

و من هنا يظهر أنّ الأولى تفريع هذه المسألة على ذلك الأصل، و كأنّهم إنّما استدلّوا ببعض هذه الوجوه في المقام تأييدا و تقريبا للأصل.

أقسام الرزق

و الحقّ

أنّ الرزق ينقسم إلى أقسام ثلاثة: أصلي، و بدلي، و فضليّ.

فالأصليّ ما قدرة اللّه تعالى لعبده إذا استقام على مقتضى العبوديّة، و طلب رزقه من الوجه الّذي شرع له.

و البدلي ما طلبه العبد من غير وجهه و أخذه من غير حلّه، و إليهما الإشارة ما

رواه في الكافي و التهذيب عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 160

حجّة الوداع:

ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتقوا اللّه و أجملوا في الطلب و لا يحملنّكم استبطاء شي ء من الرزق أن تطلبوه بمعصية اللّه تعالى، فإنّ اللّه تبارك و تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقى و صبر أتاه اللّه برزقه من حلّه، و من هتك حجاب الستر و عجّل فأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة «1».

و الفضلي ما كان فاضلا له من قدر الحاجة و الضرورة الّتي يشترك فيها جميع الخلق على أحد الوجهين المتقدّمين، و إليه الإشارة ما

في قرب الإسناد عن جعفر ابن محمد، عن أبيه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الرزق ينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر الى كلّ نفس بما قدّر لها و لكن للّه فضول ف سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «2».

و عن ابي جعفر عليه السّلام: ليس من نفس إلّا و قد فرض اللّه لها رزقها حلالا يأتيها في عافية و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإنّ تناولت شيئا من الحرام قاصّها من الحلال

الّذي فرض لها، و عند اللّه سواهما فضل كثير، و هو قوله عزّ و جلّ: وَ سْئَلُوا اللَّهَ ... «3».

و في المقنعة عن الصادق عليه السّلام: الرزق مقسوم على ضربين: أحدهما واصل الى صاحبه و إن لم يطلبه، و الآخر معلّق بطلبه، و الّذي قسم لأحد على كلّ حال آتيه و إن لم يسع له، و الّذي قسم له بالسعي فينبغي أن يلتمسه من وجوهه، و هو ما أحلّه

__________________________________________________

(1) الكافي ج 5 ص 80.

(2) بحار الأنوار ج 5 ص 145.

(3) النساء: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 161

اللّه له دون غيره، فإن طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه رزقه و حوسب به «1».

الى غير ذلك من الأخبار.

الانفاق ببعض الرزق

الأمر الثاني: أنّ في إدخال من التبعيضيّة على الموصولة دلالة على أنّ الإنفاق ممّا رزقه اللّه تعالى من مال، أو حال، أو جاه، أو قوة بدنيّة أو غيرها ينبغي أن يكون بعضها لتحرّي الأعدل الأوسط بين طرفي الإفراط و التفريط كما مدحهم اللّه تعالى بقوله: وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «2»،

و في أخبار كثيرة أنّه تعالى عدّ من الأصناف الّذين يدعون اللّه فلا يستجاب لهم من رزقه اللّه مالا كثيرا فأنفقه، ثم أقبل يدعو يا ربّ ارزقني فيقول اللّه عزّ و جلّ: «ألم أرزقك رزقا واسعا فهلّا اقتصدت فيه كما أمرتك» «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الّتي تسمعها ان شاء اللّه تعالى في تفسير الآية المتقدّمة و في تفسير قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «4».

و ورد في أخبار كثيرة عن مولانا الكاظم

و الرّضا و غيرهما عليهم السّلام: لا تبذل لإخوانك من نفسك ما ضرّه عليك أعظم من منفعته لهم «5».

__________________________________________________

(1) الفصول المهمة في أصول الائمة ج 1 ص 273.

(2) الفرقان: 67.

(3) الكافي ج 5 ص 67.

(4) الإسراء: 29.

(5) الكافي ج 4 ص 33 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 162

الأمر الثالث: أنّه قد مرّ في

خبر العيّاشي و غيره عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية بقوله: و ممّا علّمناهم يبثّون «1».

و في بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه السّلام قال: ممّا علّمناهم من القرآن يبثّون، و في بعض النسخ: يتلون «2».

و في مشارق الأنوار مرسلا قال عليه السّلام: ينفقون معرفة آل محمد عليهم السّلام على فقرائهم المؤمنين.

و لا خفاء فيه بناء على ما سمعت من شمول الموصولة على ما هو قضيّة عمومها للنعم الروحانية الّتي بها الحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة، و من البيّن أنّ العلوم الحقيقيّة و المعارف الإيمانيّة من جملة هذه النعم، بل هي أصلها و أساسها، نعم في المقام إشارة اخرى في التعبير بالضمير المتكلم مع الغير، و هو مع دلالته على التعظيم و التفخيم يؤيّد ما استفاضت به الأخبار من أنّهم القوّامون بأمر اللّه تعالى العاملون بإرادته، و أنّهم الحجّاب و الأبواب، و محالّ مشيّته، و ألسن إرادته.

فالفيوض الصادرة عنهم في التكوين و التشريع لمّا كانت بأمره و إذنه و إرادته و مشيّته فهو منه سبحانه، و هم عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، فافهم المراد، و لا تظننّ الغلوّ و الإلحاد، و لا الحلول و الاتّحاد و اللّه الهادي إلى سبيل الرشاد.

الأمر الرابع: أنّ حذف متعلّق الفعل دليل على شموله

للإنفاق على نفسه و غيره ممّن تجب نفقته و على سائر الأقارب و الأجانب إذا كان الإنفاق لاستحقاق المنفق عليه، أو لكفّ شرّه و دفع ضرره عن عرضه و ماله أو حريمه أو عن غيره من

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 64 ص 18.

(2) تفسير القمي ج 1 ص 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 163

إخوانه المؤمنين، أو غير ذلك من غرض دينيّ أو دنيوي مندوب إليه على ما يساعده الإطلاق، و يعضده ما مرّ عن تفسير مولانا العسكري عليه السّلام.

و من هنا يظهر أنّه ربما يصير الرزق الجسماني روحانيّا حيث إنّه يكتب في بذله المثوبة الاخرويّة، و أنّه يمكن أن يكون شي ء واحد رزقا لأشخاص متعدّدة من جهات شتّى بملاحظة الاعتبارات.

[سورة البقرة(2): آية 4]

اشارة

تفسير الآية (4) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عطف على «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» فيجري فيه الوجوه الثلاثة المتقدمة موصولا، و محلّه الرّفع مفصولا، أو عطف على المتّقين، و المعطوف على الوجهين إمّا نفس المعطوف عليه أو بعضه، أو غيره.

و الأرجح أنّ الحكم معلّق على المتقين، و أنّ هذه كلّها أوصاف لهم، و إن كان بعضها يدخل في بعض دخول الخاصّ تحت العامّ، فإنّ الايمان بما انزل إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما أنزل من قبله تحت الإيمان بالغيب، بل لعلّك تراهما متكافئين من حيث التصادق و الصدق على الأفراد بعد ملاحظة العموم حكمة و وضعا، و إن كان الثاني بعد الأول لتوقّفه على ركني الإسلام، فالنكتة في التكرير و التفصيل تلقين الدليل، و إهداء السبيل إلى الايمان الاجمالي حيث يتعذّر التفصيل.

و احتمال أنّ الجملة الأولى من صفات المتّقين الذين آمنوا من شرك

أو كفر، و الثانية لأهل الكتاب الذين انتقلوا من ايمان الى إيمان، أو أنّ الاولى في الذين لم يشركوا باللّه طرفة عين، و الثانية فيمن تجدّد ايمانهم.

مدفوع بأنّه تخصيص في كلّ من الجملتين على كلّ من الوجهين من غير

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 164

مخصّص.

و توهّم أنّ إيمان غير أهل الكتاب بالمنزل من قبل في ضمن ايمانهم بما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخلافهم، و إفراد هما بالذكر في الآية دليل على انفرادهم به.

ضعيف بأنّ مجرّد الإفراد لا يدلّ على الانفراد، و لذا أمرنا بالإيمان باللّه وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ «1».

على انّ من أهل الكتاب من لم يؤمن بالجميع قبل إيمانه بنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاليهود لم تؤمن بعيسى عليه السّلام.

و ما ذكرناه هو الأرجح على فرض استيناف الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أيضا، و الأصل في العطف و ان كان هو المغايرة فيما توسط العاطف بين الذاتين أو ما يكنّى به من الّذات، لكنّه كثيرا ما يتوسّط بين الوصفين، كقوله:

إلى الملك القرم و ابن الهمام و ليث الكتيبة في المزدحم و قد يكرّر الموصوف الواحد للتنبيه على خصوص الأوصاف، و قد مرّ في المقدّمات معنى الإنزال و التنزيل و الفرق بينهما، و الإشارة الى قسمي النزول و كيفيّته.

و أصل «إِلَيْكَ» إلى الجارّة وصلت بالضمير لكنّ الألف فيها أبدلت ياء، كما في عليك، و لديك، للفصل بين الألف في الإسم المتمكن و بينها في آخر غير المتمكّن الّذي تلزمها الاضافة أو ما في معناها، بل قيل: شبّهت بها كلا إذا أضيفت إلى المضمر، و هو كما ترى، و

أمّا الكلم الثلاث فقلب الألف فيها ياء مع المضمر المخاطب و غيره هو الغالب.

و عن سيبويه أنّه حكى عن قوم من العرب: (لداك و إلاك و علاك) قال قائلهم:

طاروا علاهنّ فطر علاها، لكنّه شاذّ، و إن ضعف التعليل للانقلاب بما مرّ، و بما قيل

__________________________________________________

(1) اشارة الى آية (136) من سورة البقرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 165

من تشبّه الألف فيها بألف (رمى) إذا اتّصل بالمضمر المرفوع نحو رميت دون المنصوب نحو رماك، نظرا إلى أنّ الجارّ مع الضمير المجرور كالكلمة الواحدة، كالرافع مع الضمير المرفوع، بخلاف الناصب مع المنصوب.

إذ فيه ما لا يخفى، بل العمدة فيه هو السماع.

و إيثار الموصولة على غيرها للتكريم و لتفخيم المنزل و إجمال المفصّل.

و إيثار «يُؤْمِنُونَ» على آمنوا للتنبيه على أنّ إيمانهم لم يكمل بعد عرضا لعدم نزول كثير من الأحكام و الشرائع الّتي أجلّها نصب وصيّه مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام الّذي به يكمل الدين و يتمّ النعمة، و طولا لاختلاف مراتب الإيمان و تدرّجه كمالا و شرفا الى أن ينتهي الى أعلى مراتب اليقين.

و قضيّة عموم الموصولة شمولها لجميع ما أنزل إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من القرآن و الشرائع و الأحكام، و التعبير فيه بلفظ الماضي مع ترقّب البعض لنزول الكلّ عليه في عالم آخر سابق على هذا العالم، أو لتغليب المتحقّق على المترقّب، او لتنزيل المتوقع منزلة الواقع على ما هو مقتضى الإيمان كما في قوله:

إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «1» فإنّ الجنّ لم يسمعوا جميعه بل لم ينزل حينئذ كلّه.

و بناء الفعل للمفعول لتعظيم الفاعل، و تكرير الموصولة لاختلاف المنزل إن كان المراد الفروع، و زيادة الاهتمام بالإيمان

به إن أريد الأصول، فإنّ الشرائع كلّها متفقة على الأمر و الإيصاء بها.

و من هنا يظهر أنّ للإيمان بما في الكتب السابقة معنيين: الإيمان بكونه حقّا منزلا من عند اللّه سبحانه، و الإيمان بمقتضياته و ما فيه يكمل بالعمل، لكنّه في المقام

__________________________________________________

(1) الأحقاف: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 166

بمعنى التصديق سيّما مع ما يدّعى من الإجماع على كونه بمعناه إذا عدّي بالباء فيشمل الأمرين وضعا و اقتضاء، و إن كان أهمّها التصديق بما تكرّر الإيصاء به في الكتب السماوية من العقائد الايمانيّة الّتي من جملتها ولاية مولانا أمير المؤمنين و ذرّيته الطيّبين عليه السّلام على ما وقع فيها الإشارة إليها.

بل

قد ورد أن اللّه تعالى قد أخذ ميثاق الأنبياء و أوصيائهم و أممهم عليها، و أنّ من أنكر فضل واحد منهم فضلا عن الجميع فكأنّما أنكر فضل جميع الأنبياء و المرسلين و كذّب بما في الكتب المنزلة على الأنبياء.

و فيه: قال الإمام: ثمّ وصف بعد هؤلاء الذين يُقِيمُونَ الصَّلاةَ فقال: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على الأنبياء الماضين، كالتوراة، و الإنجيل، و الزبور، و صحف ابراهيم، و ساير كتب اللّه تعالى المنزل على أنبيائه بأنّها حقّ و صدق من عند ربّ العالمين العزيز الصادق الحكيم، وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، بالدّار الآخرة بعد هذه الدنيا يوقنون، لا يشكّون فيها أنّها الدار الّتي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل مما عملوه، و عقاب الأعمال السيّئة بمثل ما كسبوا.

ثم قال عليه السّلام: قال الحسن بن علي عليه السّلام: من دفع فضل مولانا امير المؤمنين عليه السّلام على جميع من بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد كذّب

بالتوراة، و الإنجيل، و الزبور، و صحف ابراهيم، و ساير كتب اللّه المنزلة، فإنّه ما نزل شي ء منها إلّا و أهمّ ما فيه بعد الأمر بتوحيد اللّه تعالى و الإقرار بالنبوّة الاعتراف بولاية عليّ عليه السّلام و الطّيّبين من ولده «1».

قال: و قال الحسين بن علي عليه السّلام: إنّ دفع الزاهد العابد لفضل عليّ على الخلق كلّهم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ليصير كشعلة نار في يوم ريح عاصف، و يصير ساير أعمال الدّافع لفضل عليّ عليه السّلام على كلّ الخلفاء و إن امتلأت منه الصحاري اشتعلت فيها تلك

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 68 ص 285، تفسير الامام العسكري: ص 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 167

النار و تغشيها تلك الريح حتى تأتي عليها كلّها فلا تبقي لها باقية.

و لقد حضر رجل عند عليّ بن الحسين عليه السّلام فقال له: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل اللّه تعالى على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما أنزل من قبله، و يؤمن بالآخرة و يصلّي، و يزكّي، و يصل الرّحم، و يعمل الصّالحات، لكنّه مع ذلك يقول: لا أدري الحقّ لعليّ أو لفلان؟

فقال له عليّ بن الحسين عليه السّلام: ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلّها إلّا أنّه يقول: لا أدري أنّ النبيّ محمّد أم مسيلمة، هل ينتفع بشي ء من هذه الأفعال؟

فقال: لا، قال عليه السّلام: و كذلك صاحبك هذا، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب من لا يدري أ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النبي أم مسيلمة الكذّاب، و كذلك كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب أو منتفعا بها من لا يدري أ

عليّ محقّ أم فلان! «1».

تفسير وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
اشارة

الآخرة مؤنّث الآخر بكسر الخاء فاعل من أخر بمعنى تأخّر و إن لم يستعمل، و هي صفة الدّار لقوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ «2» أو النشأة، لقوله تعالى ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ «3» صفة غالبة، كالدنيا، سمّيت لتأخّرها، كما سمّيت الدنيا لدنوّها أو دنائتها.

__________________________________________________

(1) تفسير الامام العسكري: ص 89، بحار الأنوار ج 68 ص 286.

(2) القصص: 83.

(3) العنكبوت: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 168

في العلل عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في جواب اليهودي: إنّما سمّيت الدنيا دنيا لأنّها أدنى من كل شي ء، و سمّيت الآخرة آخرة لأنّ فيها الجزاء و الثواب «1».

و لعلّه إشارة الى تأخّر الجزاء عن العمل و ترتّبها عليه، كما أنّه أخذ الدنيا من الدنوّ.

و فيه أنّ زيد بن سلام سأل النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدنيا: لم سمّيت الدنيا؟

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لأنّ الدنيا دنيّة خلقت من دون الآخرة لم يفق أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة، قال: فأخبرني لم سميت الآخرة آخرة؟ قال: لأنّها متأخّرة تجي ء من بعد الدّنيا، لا توصف سنوها، و لا تحصى أيّامها و لا يموت سكّانها «2».

و يحتمل أن يراد بالدون الخسّة و القلّة أيضا و لذا قيل: إنّ الأدنى و الدنيا يصرفان على وجوه فتارة يعبر بالأدنى عن الأقلّ فيقابل بالأكثر و الأكبر، و تارة اخرى يعبّر به عن الأرذل فيقابل بالأعلى و الأفضل، و ثالثة يعبر به عن الأقرب فيقابل بالأقصى و الأبعد.

ثمّ إنّ الآخرة تطلق على تمام النشأة، و على بعض ما فيها.

معنى اليقين لغة و اصطلاحا

و «اليقين» مصدر ثالث من يقنت الأمر من باب فرح يقنا بسكون القاف و فتحها، و

يقينا، و هو العلم و إزاحة الشكّ بعد الاستدلال و النظر، و لذا لا يوصف به علم البارئ تعالى، و لا العلوم الضروريّة.

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ج 1 ص 2، بحار الأنوار ج 10 ص 13.

(2) علل الشرائع ج 2 ص 470، بحار الأنوار ج 9 ص 305.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 169

و قيل: إنّه العلم بالحقّ مع العلم بأنّه لا يكون غيره، و عليه ينزّل ما يحكى عن المحقّق الطوسي من أنّه مركّب من علمين، و هو كما ترى.

و يطلق بمعنى الصدق، و مطلق العلم، و خصوص ما يوجب سكون النفس من القلق و الاضطراب، و يظهر آثاره العمليّة على الجوارح و الأعضاء.

و معناه في المقام: يعلمون علما يزول معه الشكّ بالدار الآخرة، و ما فيها من الوعد، و الوعيد.

ففيه مع إسناد الفعل إلى «هم» تعريض على أهل الكتاب الذين قالوا: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً»، و أنّ الجنّة لن يدخلها إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ، إلى غير ذلك ممّا اعتقدوا فيه الخلاف، او وقع بينهم فيه الاختلاف.

و لا يخفى أنّ اليقين و إن كان مرغوبا إليه في جميع موارد الإيمان إلّا أنّ تخصيص الآخرة بالذكر في المقام لكونه أساسا لغيره من شرايع الإسلام، فإنّ الإيمان اليقيني بالآخرة و أهوالها يؤدّي الى الّزهد الحقيقي في الدنيا، و لذا ورد الحثّ على الإكثار من ذكر الموت و غيره من شدائدها.

ففي الكافي و تفسير القمي و غيرهما عن مولينا الباقر عليه السّلام يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت فإنّه لم يكثر ذكره إنسان إلّا زهد في الدنيا «1».

و عنه، عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: الموت،

و لا بدّ من الموت ... إلى أن قال: إذا استحقّت ولاية اللّه و السعادة جاء الأجل بين العينين و ذهب الأمل وراء الظهر، و إذا استحقّت ولاية الشيطان و الشقاوة جاء الأمل بين العينين و ذهب الأجل وراء الظهر «2».

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 131 ح 13، و ج 3 ص 255 ح 18.

(2) أمالي الطوسي ص 258 ح 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 170

و في المجالس عن أبي بصير قال: قال لي الصادق عليه السّلام: أما تحزن، أما تهتمّ، أما تألم؟ قلت: بلى و اللّه، قال عليه السّلام: فإذا كان ذلك منك فاذكر الموت و وحدتك في قبرك، و سيلان عينيك على خدّيك، و تقطّع أوصالك، و أكل الدود من لحمك:

و انقطاعك عن الدنيا، فإنّ ذلك يحثّك على العمل، و يردعك عن كثير من الحرص على الدنيا «1».

ثمّ إنّه قد تظافرت الأخبار بل تواترت على الحثّ و الترغيب على اليقين

ففي الكافي عن جابر الجعفي، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا جعف إنّ الإيمان أفضل من الإسلام، و إنّ اليقين أفضل من الإيمان، و ما من شي ء أعزّ من اليقين «2».

مقام اليقين

و عن الوشّاء، عن أبي الحسن عليه السّلام، قال: سمعته يقول: الإيمان فوق الإسلام بدرجة، و التقوى فوق الإيمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة، و ما قسّم في الناس شي ء أقلّ من اليقين «3».

و في خبر أبي بصير عنه عليه السّلام مثله، و زاد: فما أوتي الناس أقلّ من اليقين، و إنّما تمسّكتم بأدنى الإسلام، فإيّاكم أن ينفلت من أيديكم «4».

و مثله في خبر آخر: قال: قلت: فأيّ شي ء اليقين؟ قال: التوكّل على اللّه

__________________________________________________

(1) أمالي الطوسي ص 426 ح 561.

(2) الكافي ج 2 ص 51 ح 1.

(3) الكافي ج 2 ص 51 ح 2.

(4) الكافي ج 2 ص 52 ح 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 171

و التسليم للّه، و الرضاء بقضاء اللّه، و التفويض الى اللّه تعالى «1».

و عن إسحاق بن عمّار، عنه عليه السّلام قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى بالناس الصبح، فنظر الى شابّ في المسجد، و هو يخفق و يهوي برأسه، مصفرّا لونه، قد نحف جسمه، و غارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقنا، فعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله، و قال:

إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فقال: يقيني يا رسول اللّه هو الّذي أحزنني و أسهر ليلي، و أظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا و ما فيها حتّى كأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة و يتعارفون عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ، و كأنّي أنظر إلى أهل النار و هم فيها معذّبون مصطرخون، و كأنّي الآن أسمع زفير النار يدوّي في مسامعي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه: هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان، ثمّ قال له:

الزم ما أنت عليه، فقال الشابّ: ادع اللّه لي يا رسول اللّه أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلم يك أن خرج في بعض غزوات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فاستشهد بعد تسعة نفر، و كان هو

العاشر «2».

و في أخبار أخر مثله، و فيها أنّ الشابّ كان حارثة بن مالك بن نعمان الأنصاري «3».

و عنه عليه السّلام: انّ العمل الدائم على اليقين أفضل عند اللّه تعالى من العمل الكثير على غير يقين.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 52 ح 5.

(2) الكافي ج 2 ص 53 ح 2.

(3) الكافي ج 2 ص 54 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 172

لم يكن ليخطئه و أنّ ما أخطئه لم يكن ليصيبه، و انّ الضارّ النافع هو اللّه عزّ و جل «1».

و عن علي بن أسباط قال: سمعت أبا الحسن الّرضا عليه السّلام يقول: كان في الكنز الّذي قال اللّه عزّ و جلّ: وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما «2»:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، و عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، و عجبت لمن رأى الدنيا و تقلّبها بأهلها كيف يركن إليها «3».

و عن الصادق عليه السّلام أنّ ذلك الكنز لم يكن ذهبا و لا فضّة، و إنّما كان أربع كلمات:

لا إله إلا أنا، من أيقن بالموت لم يضحك سنة، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، و من أيقن بالقدر لم يخش إلّا اللّه «4».

و عن علي بن الحسين عليه السّلام: الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا «5».

و في وصيّة لقمان لابنه: يا بنيّ لا يستطاع العمل إلّا باليقين، و لا يعمل المرء إلّا بقدر يقينه، و لا يقصّر عامل حتى ينقص يقينه

«6».

و في خبر سؤال شمعون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّه سئله عن علامة المؤمن، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ علامة المؤمن ستّة: أيقن أنّ اللّه حقّ فآمن به، و أيقن بأنّ الموت حقّ

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 58 ح 7.

(2) الكهف: 82.

(3) الكافي ج 2 ص 59 ح 9.

(4) الكافي ج 2 ص 58 ح 6.

(5) الدعوات للراوندي: ص 164، الخصال ص 437 ح 26.

(6) الدر المنثور للسيوطي: ج 5 ص 162.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 173

فحذّره، و أيقن بأنّ البعث حقّ فخاف الفضيحة، و أيقن بأنّ الجنّة حقّ فاشتاق إليها، و أيقن بأنّ النّار حقّ فظهر سعيه للنّجاة منها، و أيقن بأنّ الحساب حقّ فحاسب نفسه «1».

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: ما بال أصحاب عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام كانوا يمشون على الماء؟ فقال عليه السّلام: إنّهم لو زادوا يقينا لمشوا على الهواء «2».

و في النبويّ: من أقلّ ما أوتيتم اليقين و عزيمة الصبر، و من أوتي حظّه منهما لم يبال.

و سئل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن رجل حسن اليقين كثير الذنوب، و رجل مجتهد في العبادة قليل اليقين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما آدميّ إلا و له ذنوب و لكن من كان من غريزته العقل و سجيّته اليقين لم تضرّه الذنوب، لأنّه كلّما أذنب ذنبا تاب فاستغفر و ندم فتكفّر ذنوبه، و يبقى له فضل يدخل به الجنّة

، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اليقين الإيمان كلّه «3».

و روي أنّ

أمير المؤمنين عليه السّلام جلس إلى حائط مائل يقضي بين النّاس، فقال بعضهم: لا تقعد تحت هذا الحائط فإنّه معور فقال عليه السّلام: حرس أمره أجله، فلمّا قام سقط الحائط، قال: و كان أمير المؤمنين عليه السّلام ممّا يفعل هذا و أشباهه، و هذا من اليقين «4».

إيقاظ: لعلّك تظنّ أنّ المراد باليقين ما توهّمه كثير من العوامّ من أنّه التصديق الجزميّ بالشي ء سواء كان مستندا الى الإدراك الحسّي أو البرهان العقلي حتّى أنّهم إذا سمعوا فبفضل اليقين. و أنّه أفضل من الإيمان و التقوى، و انّه ما عبد اللّه بشي ء

__________________________________________________

(1) تحف العقول: ص 20.

(2) الكافي ج 5 ص 71 ح 3.

(3) راجع شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 20 ص 40، ينابيع المودة ج 2 ص 88 ح 179.

(4) الكافي ج 2 ص 58 ح 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 174

أفضل منه، و أنّ من نجى فبفضل اليقين، إلى غير ذلك ربّما غرّتهم أنفسهم بنيل تلك المرتبة، حيث إنّهم يجدون من أنفسهم القطع بالتوحيد و الموت و المعاد الى غير ذلك من العقائد و الحقائق الّتي ساقهم إليها الدليل و ان لم يكن لهم الى سكون القلب سبيل، و لو فهموا معنى اليقين لعلموا أنّهم ما تيقّنوا فإنّ المراد باليقين عند أهل الدين، و في آثار المعصومين عليه السّلام هو استيلاء التصديق بالشي ء و غلبته على القلب بحيث لم يبق فيه متسع لغيره، و صار هو الحاكم المتصرّف في نفسه طوعا و اختيارا، بحيث لا يكاد يميل قلبه الى غيره رغبا أو رهبا، و اليقين بهذا المعنى كثيرا ما يحصل للعوامّ في الأمور الحسيّة المتعلّقة بحياتهم الدنيوية في أبدانهم

و أموالهم و أعراضهم، و غيرها من أغراضهم، فإنّ من رأى السمّ و علم أنّه سمّ مهلك بمجرّد التناول يحصل له اليقين بضرره فلا يتناول منه شيئا قطّ، لأنّه يرى هلاكه في شربه و استولى ذلك على قلبه بحيث لم يبق فيه متّسع لغيره، فصار هو الحاكم عليه.

و بالجملة عقول الناس مفطورة على اليقين بهذا المعنى في امور معاشهم، بل البهائم أيضا مجبولة عليه، فإنّ البهيمة إذا رأت نارا قد أضرمت، أو قبرا قد حفرت فلا تدخلها باختيارها و إن قطعت أعضائها بالضرب، بل إذا رأت شكلا مهيبا بغتة، أو سمعت صوتا مفزعا اضطربت و شردت و نفرت كأنّها يكاد أن يقطع قلبها، و هذا كلّه من آثار اليقين حاصل من توهم الضرر لا القطع به، و أمّا الإنسان العاقل فإنّه إذا راجع وجدانه يجد قلبه مصدّقا بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع قطعه و جزمه بأنّه صادق في وعده و وعيده و أنّ المجازات الموعود بها في كلامه ليست من زخرف القول و أباطيل الكلام و مع ذلك فإنّه يغفل أو يتغافل كأنّه لم يسمع من ذلك شيئا، أو سمعه سماع من علم أنّ هؤلاء الأنبياء السّفراء عليه السّلام كلّهم كذّابون مفترون بحيث لا يحتمل صدقهم، إذ لو احتمل صدقهم لحذر من وعيدهم حذر الخائف المحتاط، ألا ترى أنّ من أخبره الطبيب الّذي رأى منه الخبط و الإصابة معا، بأنّك لو شربت الدواء الفلاني

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 175

لهلكت من فورك أو أخبره المنجّم الّذي استمع منه الصدق و الكذب بأنّك لو خرجت هذا اليوم إلى الصحراء لقتلت بالسيف و لم يحصل له من قولهما قطع

و لا ظنّ، بل حصل مجرّد الاحتمال، فلا ريب في أنّ الخوف يغلب على قلبه و يأخذ في هواجسه فلا يقرب من ذلك الدواء و لا الصحراء، و هذا حال أخبار الكذّابين المشتهرين بالكذب في امور متعلّقة بالمال أو البدن أو الرّوح في هذه النشأة الداثرة الفانية، و لعمري إنّه بينه و بين اخبار اللّه تعالى و أنبيائه بون أبعد من بعد المشرقين، و بافتراقهما في أمرين:

الأمر الأوّل القطع بصدقهم، فإن اللّه تعالى لا يكذب، و كذا رسوله و أمينه «ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1»، «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ...» الآية «2» فإخبارهم بشي ء بمنزلة إحساسه في الوجود العيني، بل هو أقوى منه كثيرا، لأنّ الحسّ قد يغلط، إذ البصر و هو أقوى الحواسّ قد يرى الساكن متحركا، و القريب بعيدا، و الصغير كبيرا، و الواحد متعدّدا، و بالعكس في الجميع أو البعض، إلى غير ذلك ممّا دوّنوه في علم الناظر، و غيره، و اللّه سبحانه بري ء من الكذب و كذلك رسوله.

فكن أيّها المسكين أحد رجلين: إمّا مكذّب باللّه و رسوله، كافر بالدين، جاحد لرسالة سيّد المرسلين، و ولاية امير المؤمنين عليه السّلام، و لعمري إنّه لا ينبغي التعمّي بعد البصر و الإغماض بعد النظر، و الضلالة بعد الهدى، و الانحراف عن الطريقة المثلى.

ثمّ هب إنّك أنكرت فكيف تطيب نفسك و أنت ممن قال اللّه تعالى فيهم:

وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

__________________________________________________

(1) النجم: 4.

(2) الحاقة: 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 176

«1».

أم كيف تجيب ربّك إذا خاطبك بقوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا

الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ «2» بل كيف تجحده و تعانده و ناصيتك في يده و قبضته، تصبح و تمسي في نعمته، و تتقلّب في ملكه و هو مطلع عليك، ناظر إليك، حاضر لديك قال اللّه سبحانه: إِنِّي مَعَكُمْ* «3» وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «4»، وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «5» وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ «6».

فإن استطعت أن تخرج من ملكه، و تبعد من حضوره فاعصه، و إلّا فاستحي من اللّه تعالى، لا أقول: حقّ الحياء، بل بعض الحياء.

و إمّا مصدّق باللّه و برسوله قولا و فعلا و حالا، و خطرة، و خيالا، فقد باشر قلبه روح اليقين، و حينئذ لا يمكن أن يستلذّ بشي ء من معصية اللّه، و كيف يستلذّ بأكل مال اليتيم ظلما و هو يسمع اللّه سبحانه يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «7».

فهل رأيت أحدا يستلذّ بأكل النّار، سيّما مع كونها لا تطفأ أبدا، و كذا غيره من وعده و وعيده.

__________________________________________________

(1) النمل: 14.

(2) يس: 60.

(3) المائدة: 12.

(4) الحديد: 4.

(5) ق: 16.

(6) الواقعة: 85.

(7) النساء: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 177

الأمر الثاني أنّه لا نسبة بين العقوبات الإلهيّة و المخاوف الدنيويّة كما لا نسبة بين الأمتعة الفانية الداثرة، و بين النعم الباقية الآخرة، و هذا أمر لا يكاد يريب فيه مستريب، لكنّ الغفلة منه عجيب عجيب، فإنّ المخاوف الدنيويّة راجعة إمّا الى خوف سلب المال، أو الجاه، أو الحياة العاجلة، و لا ريب أنّ مطلوبيّة المال و الجاه إنّما هو للعيش الرغيد، و أمّا الحياة العاجلة

فالغرض الاصليّ منها تحصيل الحياة الباقية الدائمة، وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «1»، فمن بذل الحياة الفانية فاز بالنعمة الدائمة، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «2».

و أنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّه يمكن تعلّق اليقين بكلّ شي ء من الأمور الدنيويّة و الاخرويّة من العقائد الدينيّة و غيرها.

و أمّا ما في الخبر المتقدّم أنّه التوكّل على اللّه و التسليم للّه، فهو تعريف باللّازم باعتبار بعض المتعلّقات المهمّة.

و كذا ما في النبويّ من كون علامة المؤمن ستّة «3»، و ذلك لأنّ المقصود تعريف اليقين فيما هو المهمّ من أمر الدين، و لذا قال بعض المحقّقين: اليقين أن يرى الأشياء كلّها من سبب الأسباب و لا يلتفت إلى الوسائط، بل يرى الوسائط كلّها مسخّرة لا حكم لها، ثم الثقة بضمان اللّه سبحانه للرزق، و أنّ ما قدّر له سيساق إليه،

__________________________________________________

(1) العنكبوت: 64.

(2) التوبة: 111.

(3) تحف العقول: ص 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 178

ثمّ أن يغلب على قلبه أنّ من يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ثمّ المعرفة بأنّ اللّه مطّلع عليه في كلّ حال، و شاهد له و أحسن ضميره و خفايا خواطره فيكون متأدّبا في جميع أحواله و أعماله مع اللّه تعالى، فتكون مبالغته في عمارة باطنه و تطهيره و تزيينه لعين اللّه أشدّ من مبالغته في تزيين ظاهره للناس.

و في «مصباح الشريعة»: قال الصادق

عليه السّلام اليقين يوصل العبد إلى كلّ حال سنيّ و مقام عجيب، كذلك أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن عظم شأن اليقين حين ذكر عنده أنّ أصحاب عيسى بن مريم عليه السّلام كانوا يمشون على الماء، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو زاد يقينهم لمشوا في الهواء.

فالمؤمنون متفاوتون في قوة اليقين و ضعفه، فمن قوّى منهم يقينه فعلامته التبرّي من الحول و القوّة إلّا باللّه و الاستقامة على أمر اللّه و عبادته ظاهرا و باطنا، قد استوت عنده حالتا العدم و الوجود، و الزيادة و النقصان، و المدح و الذم، و العزّ و الذلّ، لأنّه يرى كلّها من عين واحدة.

و من ضعف يقينه تعلّق بالأسباب و رخّص لنفسه بذلك و اتّبع العادات و أقاويل الناس بغير حقيقة، و السعي في أمور الدنيا و جمعها و إمساكها، مقرّا باللسان أنّه لا مانع و لا معطي إلّا اللّه و أنّ العبد لا يصيب الّا ما رزق و قسّم له، و الجهد لا يزيد في الرّزق، و ينكر ذلك بفعله و قلبه، قال اللّه تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ «1».

و إنّما عطف اللّه لعباده حيث أذن لهم في الكسب و الحركات في باب العيش ما لم يتعدّوا حدوده و لا يتركوا من فرائضه و سنن نبيّه في جميع حركاتهم و لا يعدلوا عن محجّة التوكّل و لا يقفوا في ميدان الحرص، و أمّا إذا أبوا ذلك كانوا من الهالكين

__________________________________________________

(1) آل عمران: 167.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 179

الذين ليس لهم إلّا الدعاوى الكاذبة، و كل مكتسب لا يكون متوكلا لا يستجلب

من كسبه الى نفسه إلّا حراما و شبهة.

و أمّا أسباب ضعف اليقين لأكثر الناس بالنسبة الى اكثر الأمور الدينية فتأتي ان شاء اللّه تعالى في تفسير وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1».

ثم انّ المحكيّ عن نافع تخفيف قوله تعالى: بِالْآخِرَةِ بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على اللام فصار «باخرة كما قيل في قوله تعالى: دَابَّةُ الْأَرْضِ «2»: دابّة لرض.

و عن ابي حيّة النميري: «يوقنون» بقلب الواو همزة لضمّ ما قبلها، إجراء لها مجرى المضموم في «وجوه» و «وقّتت» حيث يقال فيهما: أجوه، و أقّتت، فجعل الضمة في الجيم و الواو كأنّها فيه.

و ربما يستشهد بقول جرير على رواية سيبويه

[سورة البقرة(2): آية 5 ]

اشارة

تفسير الآية 5 أُولئِكَ- الموصوفون بالصّفات المتقدّمة، أو بما في الآيتين، أو خصوص الأخيرة، و إن استلزم البعض الكلّ، و المراد المؤمنون على اختلاف درجاتهم و مراتبهم في الإيمان المنطبقة على درجات الهداية و إن اتحدا في الحقيقة- عَلى هُدىً- نور، و رشاد، و دلالة، و بيان،- مِنْ رَبِّهِمْ- أفاضه عليهم، و وهبه إيّاهم، و أوصله إليهم على ما هو مقتضى الربوبيّة المطلقة الكلّية من تربية النفوس بما يقتضي السعادة الأبديّة و الحياة السرمديّة.

و (أولاء) اسم مبهم تعرّفه الإشارة و هو جمع (ذا) من غير لفظه، يمدّ فلا تلحقه اللّام لئلّا يجتمع ثقل الزيادة و ثقل الهمزة، و يقصر فتلحقه، قال الشاعر:

ألا لك قوم لم يكونوا أشابة و هل يعظ الضليل الا لكا __________________________________________________

(1) الحجر: 99.

(2) سبأ: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 180

و نسب الفرّاء في لغات القرآن المدّ إلى الحجازيّين، و عليه نزل الكتاب، لشذوذ القصر في قوله: «هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي»، و القصر إلى أهل نجد من بني

تميم، و قيس، و ربيعة، و أسد.

و تبعيد الإشارة في المقام بالمدّ و كاف الخطاب لعظمة المشير، و تكريم المشار إليه، او لبعد الموصوف لفصل الصفات الكثيرة.

و معنى الاستعلاء في «عَلى هُدىً» مثل لتمكّنهم من الهدى و استعدادهم له و إقبالهم إليه، و استقرارهم عليه و تمسّكهم به في جميع أحوالهم و أمورهم على يسر و سهولة، شبّهت حالهم بحال من اعتلى الشي ء و ركبه، و نحوه قوله تعالى: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ* «1»، و قوله تعالى: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ «2».

و للتفتازاني، و المحقّق الشريف و غيرهما كلمات في المقام قد تعرّض لجملة منها صدر المحقّقين في شرح الصمديّة في بحث (على) الجارّة لا طائل تحت التعرض لها.

و نكّر (هُدىً) للتعظيم و التفخيم، فإنّ الهدى هدى اللّه، و هو الصراط المستقيم المفسّر بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام

فإنّ حبّه عليه السّلام حسنة لا تضرّ معها سيّئة، و بغضه سيّئة لا تنفع معها حسنة، كما ورد من طرق الخاصّة و العامّة

، و قد مرّت الأخبار الدالّة على تفسير الهداية بهم عليه السّلام.

و في تفسير الإمام عليه السّلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ بلالا كان يناظر اليوم فلانا فجعل يلحن في كلامه، و فلان يعرب و يضحك من بلال، فقال امير المؤمنين عليه السّلام: يا عبد اللّه إنّما يراد إعراب الكلام و تقويمه

__________________________________________________

(1) محمد: 14.

(2) الدخان: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 181

لتقويم الأعمال، و تهذيبها، ماذا ينفع فلانا إعرابه و تقويمه لكلامه إذا كانت أفعاله ملحونة أقبح لحن، و ما يضرّ بلال لحنه في كلامه إذا كانت أفعاله مقوّمة

احسن تقويم، مهذّبة أحسن تهذيب، قال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف ذاك؟ قال عليه السّلام:

حسب بلال من التقويم لأفعاله و التهذيب بها أنّه لا يرى نظيرا لمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم لا يرى أحدا بعده نظيرا لعلي بن أبي طالب و يرى أنّ كلّ من عاند عليّا فقد عاند اللّه و رسوله، و من أطاعه فقد أطاع اللّه و رسوله.

و حسب فلان من الاعوجاج و اللحن في أفعاله الّتي لا ينتفع معها بإعرابه لكلامه بالعربيّة و تقويمه للسانه أن يقدّم الأعجاز على الصدور، و الأستاه على الوجوه، و أن يفضّل الخلّ في الحلاوة على العسل، و الحنظل في الطيب و العذوبة على اللّبن، يقدّم على ولي اللّه عدو اللّه الّذي لا يناسبه في شي ء من خصال فضله، هل هو إلّا كمن قدّم مسيلمة على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النبوة و الفضل، ما هو إلّا من الذين قال اللّه تعالى: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «1»، هل هو إلّا من إخوان أهل حرورا «2».

ثم إنّ الجملة في محلّ الرفع على أنّها خبر لقوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»، بناء على ما سمعت من احتمال كونها مفصولة من المتقين، و عطف الموصول الثاني عليه، و ذلك لأنّه لمّا قيل: إنّه هدى للمتقين فخصّ المتّقين بأنّ الكتاب هدى لهم، كأنّه قيل: ما بالهم خصّوا بذلك؟ فأجيب بذكر السبب.

أو للموصول الثاني بعد استتباع الأوّل، تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا

__________________________________________________

(1) الكهف: 103.

(2) تفسير الامام العسكري ص 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 182

برسول اللّه ظانّين أنّهم على

الهدى في العاجل طامعين أنّهم ينالون الفلاح في الآجل.

أو أنّها مستأنفة إن لم يكن شي ء من الموصولين مفصولا، بل جعل الأوّل صفة للمتقين، و الثاني معطوفا عليه.

استينافا نحويّا، فكأنّه فذلكة و نتيجة للأحكام و الصفات المتقدّمة، مع ما فيها من البشارة لهم بنيل الفلاح، بل اختصاصهم به من بين الأنام.

أو استينافا بيانيّا بكونه جوابا عن سؤال مسائل، كأنّه قيل: ما بال الموصوفين اختصّوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين بتلك الصفات هم المستحقّون دون غيرهم للاتّصاف بالهداية و نيل الفلاح.

و هاهنا وجه آخر، و هو أن تكون الجملة إشارة الى ما لهم من الجزاء و الثواب، فالهدى هدى إلى الجنّة و الرضوان في الآجل، كما أنّ الكتاب هدى لهم في العاجل، و لذا قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ «1»، فختم لهم بالهداية لمّا اختاروها أوّلا.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إشارة إلى ما أشير إليه بالأوّل، و التكرير للتشريف، إذ في اشارة اللّه تعالى إليهم تنويه لقدرهم، و إعلاء لشأنهم.

و في تفسير الإمام عليه السّلام: ثم أخبر عن جلالة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات

__________________________________________________

(1) الأعراف: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 183

الشريفة فقال: «أُولئِكَ» أهل هذه الصفات «عَلى هُدىً» و بيان و صواب «مِنْ رَبِّهِمْ» و علم بما أمرهم به «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الناجون ممّا منه يوجلون الفائزون بما يؤمّلون «1».

و قد عرفت معنى الهداية و اختصاصها بأهل الولاية.

و في بشارة المصطفى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ عليّا و حزبه هُمُ الْمُفْلِحُونَ يوم القيامة «2».

و توسيط العاطف بين الإشارتين للتنبيه على استقلال الجزائين، و إختلاف مفهومي الجملتين في المقام، بخلاف قوله

تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «3»، فإنّ مفهوم التشبيه بالأنعام و إثبات الغفلة و إن اختلفا لغة إلّا أنّ كلّا من الكلامين إنّما يساق عرفا لإثبات الغفلة و فرط الغباوة و هو المفهوم منهما عرفا.

مضافا الى ما قيل: من أنّ مفهوم أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بمعونة المقام هو حصر الفلاح في المتقين، و نفيه عمّن ليس بمتّق، و مفهوم أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ اثبات الهداية لهم، فاختلف المفهومان بخلاف الآية الاخرى، إذ لا يراد من إثبات الغفلة حصرها فيهم، لأنّه لم يتعلّق الغرض بنفيها عن غيرهم، فهو بعينه ما يفهم عرفا من أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ.

و «هُمُ» إمّا فصل فصّل به لفصل الخبر عن الصفة، لأنّه إنّما يتوسّط بين المبتدأ و الخبر لتأكيد النسبة بزيادة الربط، و قصر المسند على المسند إليه.

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 43.

(2) ملحقات احقاق الحقّ ج 7 ص 305.

(3) الأعراف: 179.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 184

و أمّا ما يقال: من أنّ هذا الأخير يخالف لما صرّح به المحقّقون من علماء المعاني من أنّه إنّما يفيد القصر إذا لم يكن الخبر معرّفا بلام الجنس، و إلّا فالقصر من تعريف المسند، و هو لمجرّد التأكيد، إلّا أن يجعل اللام في المفلحون عهديّة لا جنسيّة.

ففيه: إنّه مفيد للقصر على كلّ حال، و إن استفيد ذلك من غيره أيضا في بعض الموارد.

نعم لعلّ الفصل بين القصر و التأكيد إنّما هو لاستفادته في الثاني من المسند الّذي هو أحد ركني الكلام أوّلا باعتبار الرتبة، و ان كان الضمير متقدّما بحسب الذكر، فما أفاده من القصر تأكيدا للحاصل و لذا جرى الاصطلاح على الفصل بينهما، و

هو سهل.

و إمّا مبتدأ و المفلحون خبره، و الجملة خبر أُولئِكَ، و إن جعلنا لضمير الفصل محلا من الاعراب فالاحتمالان واحد.

معنى الفلاح

و الفلاح و الفلح لغة هو الفوز و الظفر بالمقصود، و منه قوله: «و لقد أفلح من كان عقل» أي ظفر بحاجته.

و بمعنى البقاء كقوله: «و لكن ليس للدنيا فلاح» أي بقاء، و قول لبيد «1»:

نحلّ بلادا كلّها حلّ قبلنا و نرجو الفلاح بعد عاد و تبّعا __________________________________________________

(1) هو لبيد بن ربيعة العامري الشاعر المشهور توفي سنة (41) عن مائة و خمسين سنة- العبر ج 1 ص 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 185

و بمعنى النجاة، قال في «الصحاح»: حيّ على الفلاح أي أقبل على النجاة، و أصله بالحاء و بالجيم بمعنى الشقّ و القطع، و منه سمّى الأكّاد فلّاحا، و الفلاحة، الحراثة، و في المثل: إنّ الحديد بالحديد يفلح، اي يشقّ و يقطع، و الأفلح: المشقوق الشفة السفلى، و في رجله فلوح أي شقوق، و إطلاقه على السحور في الحديث: حتّى خشينا أن يفوتنا الفلاح «1» لكونه سببا لبقاء الصوم، أو للفوز به.

بل قيل: إنّ ما شاركه في الفاء و العين نحو «فلق» و «فلذ» يدلّ على الشقّ و الفتح، و لكن هذا ليس كليّا، كما لا يخفى على من لا حظ الموادّ الكثيرة المشتملة على الحرفين.

و فلاح المتّقين بالنجاة من النار، و فضيحة العار، و الفوز بلقاء اللّه في دار القرار و جوار الأخيار، و دوام الخلود في الجنّة التي تجري من تحتها الأنهار.

و اللام في «الْمُفْلِحُونَ» للجنس بناء على ارادة حصر الجنس في المسند إليه، كما يقال: زيد هو العالم، كأنّه ليس لغيرهم فلاح، و لا يعتدّ بفلاح غيرهم،

أو دعوى اتحاد طرفي الإسناد، كأنّه قيل: هم هم حقيقة، أو ادّعاء، فلا مصداق، بل لا مفهوم لأحدهما مغايرا للآخر.

أو للعهد إشارة إلى أنّ المتقين هم الذين بلغك أنّهم الفائزون بالبغية في الآخرة المخلّدون في الجنّة، أو أنّهم المخصوصون باللّه، المشرّفون بكراماته، المعروفون بحزب اللّه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2».

ثمّ إنّه ربما يحكى عن الوعيديّة القائلين بخلود أصحاب الكبائر في النار، أو عدم العفو عنهم إن ماتوا بغير توبة كما عن الخوارج و أكثر المعتزلة، الاستدلال بهذه

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة ج 1 ص 421 ح 1327، السنن الكبرى للبيهقي ج 2 ص 494.

(2) المجادلة: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 186

الآية مرّة من جهة الإختصاص المستفاد من الحصر، فوجب نفي الفلاح عمّن أخلّ بشي ء من الصلاة و الزكاة، و اخرى من حيث إشعار ترتّب الحكم على الوصف بالعليّة، فعلّة الفلاح هي مجموع الأمور المتقدّمة الّتي يستلزم انتفاؤها كلّا أو بعضا لانتفاء معلومها ضرورة انتفاء المعلول بانتفاء علّته.

و يضعّف الأوّل بعد الغضّ عن فهم الإختصاص بحيث يكون حجّة بأنّ المختصّ بالمتّقين إنّما هو الفلاح الكامل، و هو لا ينافي حصوله في الجملة لغيرهم على حسب مراتبهم في الإيمان.

و الثاني بعد تسليم فهم العليّة بالمنع من انحصار العلّة فيه، سيّما بعد ما دلّ على العفو و سببيّته للفلاح من الآيات الكثيرة و الأخبار المتواترة حسبما تسمع إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام فيها و في ابطال مذهبهم و ساير أدلّتهم فلي تفسير قوله تعالى: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* «1».

على أنّ فساده لعلّه ضروري من المذهب، و ما يحكى عن الشيخ أبي جعفر الطوسي من الميل إليه لا يخلو من

تأمّل.

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما افتتح كتابه المبين بذكر المتقين و ما يختصّ بهم من الصفات الجميلة، و المثوبات الجزيلة عقّبهم بذكر الكافرين و ما اجترحوه من الخطايا الموجبة لنبو قلوبهم و وقر أسماعهم، تعريفا لأهل السداد، حيث إنّه تعرف الأشياء بأضدادها، و تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خزيا على الكفّار، مع أنّ مدار التبليغ على الوعد و الوعيد فقال عزّ من قائل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كفر جحود مع المعرفة و عدمها بالتوحيد و غيره من اصول الإيمان، فإنّ وجوه الكفر كثيرة على ما

رواه في

__________________________________________________

(1) النساء: 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 187

الكافي «1» عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر اللّه تعالى، و كفر البرائة، و كفر النعم، فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة، و هو قول من يقول: لا ربّ، و لا جنّة، و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة، يقال لهم الدهريّة، و هم الذين يقولون: وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ «2» و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم و لا تحقيق لشي ء ممّا يقولون، قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «3».

[سورة البقرة(2): آية 6 ]

اشارة

تفسير الآية 6 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «4» يعني بتوحيد اللّه.

أقسام الكفر في كتاب اللّه

فهذا أحد وجوه الكفر و امّا للوجه الآخر من الجحود فهو الجحود على معرفة، و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده، و قد قال اللّه عزّ و جلّ: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «5»، و قال اللّه عزّ و جلّ:

__________________________________________________

(1) اصول الكافي ج 2 ص 389 و عنه البحار ج 93 ص 61.

(2) الجاثية: 24.

(3) البقرة: 78.

(4) البقرة: 6.

(5) النمل: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 188

وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «1».

فهذا تفسير وجهي الجحود.

و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، و ذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان:

هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ «2»، و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «3» و قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ «4».

و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه عزّ و جلّ به، و هو قول اللّه عزّ و جلّ:

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما

جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ ... «5».

فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ و جلّ به، و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبل منهم و لم ينفعهم عنده، فقال: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ «6».

__________________________________________________

(1) البقرة: 89.

(2) النمل: 40.

(3) ابراهيم: 7.

(4) البقرة: 152.

(5) البقرة: 84- 85.

(6) البقرة: 85.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 189

و الوجه الخامس من الكفر كفر البرائة، و ذلك قوله عزّ و جلّ يحكي قول ابراهيم على نبيّنا و آله و عليه السّلام: كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» يعني تبرّأنا منكم.

و قال يذكر إبليس و تبرّيه من أوليائه الإنس يوم القيامة: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ «2».

و قال: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «3»، يعني تبرّأ بعض من بعض «4».

ثم إنّ الكفر بالضم و يفتح أيضا يقابل به الايمان و الشكر، و هو في الأصل:

التغطية، و الستر، و الجحود، قال لبيد:

«في ليلة كفر النجوم غمامها»

أي سترها، و الكافر: الليل المظلم، لأنّه ستر بظلمته كلّ شي ء، و يقال للزارع، لأنّه يغطّي البذر بالتراب.

و منه قوله تعالى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «5».

و سمّى الكافر كافرا، لأنّه يستر نعم اللّه عليه، أو يستر ما يجب الإقرار به.

و المراد به شرعا من خرج عن الإسلام باديا أو طاريا بالارتداد قولا أو فعلا، حقيقة أو حكما و لو تبعا، كالذراري، و المجانين، و لقيط

دار الحرب، بلا فرق بين أن لا يكون منتحلا للإسلام أصلا، أو انتحله و لكن جحد ما يعلم من الدين

__________________________________________________

(1) الممتحنة: 4.

(2) ابراهيم: 22.

(3) العنكبوت: 25.

(4) اصول الكافي ج 2 ص 389- 391.

(5) الحديد: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 190

ضرورة كالخوارج، و ساير النواصب و الغلاة، بل و كذا من أنكر شيئا من الأحكام الفرعيّة الضروريّة أو الإجماعيّة، أو الأحكام القطعيّة الّتي حصل له القطع بها و ان لم يعلم بها غيره، ضرورة استلزام كلّ منها لإنكار الدين الموجب للكفر قطعا.

مضافا الى الأخبار الكثيرة الدالّة عليه،

ففي مكاتبة عبد الرّحيم القصير للصادق عليه السّلام المرويّ في الكافي أنّه عليه السّلام قال فيها: لا يخرجه- أي المسلم- إلى الكفر إلّا الجحود و الاستحلال أن يقول للحلال: هذا حرام، و للحرام: هذا حلال، و دان بذلك، فعندها يكون خارجا عن الإسلام و الإيمان، داخلا في الكفر «1».

و عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرتكب الكبيرة فيموت هل يخرجه ذلك عن الإسلام، و إن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدّة و انقطاع؟ فقال عليه السّلام: أمّا من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّه حلال أخرجه ذلك من الإسلام، و عذّب أشدّ العذاب، و إن كان معترفا أنّه أذنب و مات عليها أخرجه من الإيمان، و لم يخرجه من الإسلام، و كان عذابه أهون من عذاب الأول «2».

و في بصائر الدرجات، عن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ رأيت من لم يقرّ بما يأتيكم في ليلة القدر كما ذكر و لم يجحده؟ قال: أمّا إذا قامت عليه الحجّة

ممّن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر، و أمّا من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتّى يسمع «3».

و في تحف العقول عن الصادق عليه السّلام في حديث، قال: و يخرج من الإيمان

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 27.

(2) الكافي ج 2 ص 285 ح 23.

(3) بصائر الدرجات ص 224 و منه البحار ج 97 ص 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 191

بخمس جهات من الفعل كلّها متشابهات معروفات: الكفر، و الشرك، و الضلال، و الفسق، و ركوب الكبائر، فمعنى الكفر كلّ معصية عصي اللّه بها بجهة الجحد و الإنكار و الاستخفاف و التهاون في كلّ ما دقّ و جلّ، و فاعله كافر، و معناه معنى الكفر من أيّ ملّة كان و من أيّ فرقة كان بعد أن تكون منه معصية بهذه الصفات فهو كافر ... إلى أن قال: فان كان هو الّذي مال بهواه الى وجه من وجوه المعصية لجهة الجحود و الاستخفاف و التهاون فقد كفر.

و إن هو ما بهواه الى التديّن لجهة التأويل و التقليد و التسليم و الرضا بقول الآباء و الاسلاف فقد أشرك «1».

و في كتاب سليم بن قيس الهلالي و الكافي عن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام قال:

أدنى ما يكون به العبد كافرا ان يتديّن بشي ء فيزعم أنّ اللّه تعالى أمره به ممّا نهى اللّه عنه «2».

الى غير ذلك من الأخبار.

نعم قد صرّح غير واحد من الأصحاب بأنّ سببيّة انكار الضروري للحكم بالكفر إنّما هو مع ثبوته يقينا، و لذا لم يفرّقوا بينه و بين سائر القطعيّات من المسائل الاجماعيّة و الحلافيّة لأنّ مآل إنكار الجميع الى انكار الدين و الشريعة و تكذيب

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالمدار على حصول العلم و الإنكار و عدمه، لكنّه لمّا كان غالب الحصول في الضروري أنيط علمه الحكم، و أمّا إذا كان الإنكار لشبهة دخلت عليه، أو لبعد دار أو تجدّد إسلام، أو غير ذلك اعتقد معها خلاف الواقع او احتمله مع

__________________________________________________

(1) تحف العقول ص 244.

(2) الكافي ج 2 ص 415 و فيه: ادنى ما يكون به العبد كافرا من زعم انّ شيئا نهى اللّه عنه أنّ اللّه أمر به و نصّبه دينا يتولى عليه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 192

علمنا باستناد الإنكار إليه او الشك فيه فلا يحكم بكفره لعدم الدليل عليه من اجماع و غيره.

و اطلاق حكمهم بكفر منكر الضروري ظاهر في صورة تحقّق الموضوع عنده في اعتقاده، مع أنّه مقيّد بصورة العلم على ما صرّح به غير واحد منهم، مع سكوت الآخرين عنه.

كما أنّ إطلاق بعض الأخبار مقيّد بالتصريح في كثير منها بكون المعصية و الإنكار على جهة الاستخفاف و الجحود و التهاون مضافا الى ظهور الانصراف في الأخبار المطلقة كما لا يخفى.

و من هنا يظهر ضعف المناقشة في ذلك بأنّه مناف لما يظهر من الأصحاب من إناطة الحكم على إنكار الضروري، حتى نقل عن غير واحد منهم ظهور الإجماع عليه من غير اشارة منهم الى الاستلزام المذكور.

بل اقتصر بعضهم في ضابط الكفر على جحود ما يعلم من الدين ضرورة، و آخرون عطفوه على الخروج من الإسلام، مضافا إلى اطلاق النصوص الكثيرة و ترك الاستفصال في كثير منها.

بل وجّهه شيخنا في «الجواهر» مضافا إلى ذلك كلّه: فإنّ إنكار الضروري ممّن لا ينبغي خفاء الضرورة عليه كالمتولّد في بلاد الإسلام حتى شاب

إنكار للشريعة و الدين.

و احتمال الشبهة في حقّه بل و تحققها بحيث علمنا أنّه لم يكن ذلك منه لإنكار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو الصانع، غير مجد، إذ هو في الحقيقة كمن أظهر انكار النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلسانه عنادا، و كان معتقدا بنبوّته بجنانه لأنّ إنكاره ذلك الضروري بمنزلة قوله: إنّ هذا الدين ليس بحقّ فلا يجدي اعتقاده حقّيته و يؤيّده حكمهم بكفر الخوارج و نحوهم ممّن يلحقه أحكام الكفّار، مع العلم اليقيني بأنّ منهم ان لم يكن

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 193

جميعهم من لم يدخله شكّ في ربّه أو نبيّه فضلا عن إنكاره لهما بقلبه.

نعم لو كان المنكر بعيدا من بلاد الإسلام بحيث يمكن في حقّه خفاء الضرورة لم يحكم بكفره بمجرّد ذلك.

و الحاصل أنّه متى كان الحكم المنكر في حدّ ذاته ضروريّا من ضروريّات ثبت الكفر بإنكاره ممّن اطّلع على ضروريته من أهل الدين، سواء كان ذلك الإنكار لسانا خاصّة عنادا، أو لسانا و جنانا.

و منه يظهر الفرق حينئذ بين الضروري و غيره من القطعي كالمجمع عليه و نحوه، فإنّه لا يثبت الكفر بالثاني إلّا مع حصول العلم ثمّ الإنكار، بخلافه في الضروري فيثبت و ان لم يكن إنكاره كذلك «1».

أقول: أما استظهاره من إطلاق الفتاوى و الأخبار فقد سمعت الكلام فيه، و ما ذكروه في الضابط اقتصارا أو عطفا لا شاهد فيه أصلا، مع ظهور الجحود في الإنكار عن علم، سيّما مع تقييد كثير منهم بما سمعت من دون نكير.

ثمّ إنّ تحقيق الشبهة لمنكري الضروري إن كان لشبهة في الدين فالأمر واضح، و إن كان للشكّ في كون الحكم من صاحب

الشريعة، و إن تلقّاه أهل الدين بالقبول و أرسلوه إرسال المسلّمات بل الضروريّة، لكنّه لم يظهر ذلك لصاحب الشبهة و لو من جهة قضاء الضرورة لشبهة عرضت في أصل الاستناد و الصدور، بحيث لو ثبت له بشي ء من الأدلّة كونه من صاحب الدين لأقرّ به و لم يجحده قلبا و لسانا فالحكم بتحقق الكفر بمجرّده مشكل جدّا، و لذا حكم من البعيد الّذي يمكن في حقّه خفاء الضرورة.

و أمّا من اطّلع على ضروريته فلا يتصوّر في حقّه طروّ الشكّ و الشبهة فيه مع

__________________________________________________

(1) الجواهر ج 6 ص 48- 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 194

بقائه على الإقرار بالدين قلبا و لسانا، إلّا أن يكون المراد شيوع القول به بين جملة من أهل الدين يرسلونه عندهم إرسال الضروريات، و إطلاق ضرورة الدين أو اهله على مثله كما ترى.

و من هنا يظهر النظر فيما استحصله في آخر كلامه، و النقض بالخوارج ساقط من أصله، لأنّ الخروج على الامام عليه السّلام بنفسه كفر.

كفر الخوارج و الغلاة

و لذا قال المحقّق الطوسي: و محاربوا عليّ كفرة، و الأخبار كثيرة على

أنّه صلوات اللّه و سلامه عليه قال على ما رواه في «نهج البلاغة» لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه «1».

و لعلّ المراد أنّ هؤلاء الذين قتلتهم من الثاني لعلمهم بضلالتهم و الذين يأتون بعدهم من الأوّل، و لذا نهى عن قتلهم.

أو المراد التعريض بأصحاب معاوية عليه اللعنة، و أنّ تجريد السيف على أهل القبلة ممّا يختصّ به عليه السّلام كما أشار إليه في خبر آخر فتأمّل.

ثم أنّه قد ظهر مما مرّ و ممّا لم نتعرّض له لظهوره الحكم بكفر غير منتحلي الإسلام بلا

فرق بين أهل الكتاب و غيرهم من الوثنيّة و الثنوية و الدهريّة و غيرها.

بقي الكلام في فرق من منتحليه و ربما يقع الإشكال فيهم موضوعا أو حكما، و منهم: الغلاة، و لا ريب في الحكم بكفرهم و نجاستهم، و عليه الإجماع نقلا و تحصيلا.

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 195

بل قال الصدوق في عقائده: اعتقادنا في الغلاة و المفوّضة أنّهم كفّار باللّه جلّ جلاله، و أنّهم شرّ من اليهود، و النصارى، و المجوس، و القدرية، و الحروريّة، و من جميع اهل البدع و الأهواء المضلّة، و أنّه ما صغّر اللّه عزّ و جلّ تصغيرهم شي ء، قال اللّه جلّ جلاله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1».

و قال اللّه عزّ و جلّ: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... «2» الى أخر ما ذكره.

و بالجملة لا اشكال في ذلك، إنّما الكلام في تحقيق الموضوع فالمحكيّ عن كثير من القميّين بل و غيرهم من بعض القدماء أيضا الحكم بالغلوّ و الارتفاع بمجرّد التعدّي عما اعتقدوه في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الائمة عليهم السّلام بحسب اجتهاداتهم فلا يجوّزون التعدّي عنها و يعدّونه غلوّا و يتّهمون به من روى فيهم شيئا من المناقب و خوارق العادات و جهات علومهم، و أحوالهم الغريبة، و جعل الصدوق نقلا عن شيخه ابن الوليد «3» أوّل

درجة الغلوّ نفي السهو عن النبيّ و الأئمّة عليه السّلام.

و قال في العقائد: إنّ علامة المفوّضة و الغلاة و أصنافهم نسبتهم مشايخ قم و علمائهم إلى القول بالتقصير.

لكنّ المتأخّرين رموه بقوس واحدة، و نسبوه كغيره من القميّين الى القصور

__________________________________________________

(1) آل عمران: 79- 80.

(2) النساء: 171.

(3) بحار الأنوار ج 17 ص 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 196

و التقصير في حقّهم عليهم السّلام و هجروا قولهم في معنى الغلوّ، و مدحوا من قدحوا به فيه من رجال الأئمّة عليهم السّلام حتى قيل: إنّه لا يكاد يسلم جليل من قدح ابن الغضائري الى غير ذلك مما لا يخفى على من له انس بالرجال.

و إن اعتذر المحقق البهبهاني و غيره من ذلك بأنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة و مخلوطين و مدلّسين أنفسهم عليهم فبأقلّ شبهة كانوا يتّهمون الرجل بالغلوّ و الارتفاع.

و بأنّه ربما كان المنشأ روايتهم المناكير، او وجدان رواية ظاهرة فيه منهم، أو ادّعاء أرباب ذلك القول كونه منهم.

او أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الاصوليّة فربّما كان شي ء عند بعضهم فاسدا، أو كفرا أو غلوّا، و عند آخرين عدمه، بل ممّا يجب الاعتقاد به.

الى غير ذلك من الاعتذارات الّتي لا يهمّنا البحث عنها، إنّما المهمّ تحقيق معنى الغلوّ و التقصير.

قال شيخنا المفيد في شرح ما قدّمناه عن الصدوق: الغلوّ في اللغة هو تجاوز الحدّ، و الخروج عن القصد، قال اللّه تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... الآية «1».

فنهى عن تجاوز الحدّ في المسيح، و حذّر عن الخروج عن القصد في القول و جعل ما ادّعته النصارى فيه غلوّا، لتعدّيه الحدّ على ما

بيّناه، و الغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام الى الإلهيّة و النبوّة، و وضعوهم من الفضل في الدين و الدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدّ، و خرجوا عن القصد و هم ضلّال كفّار حكم فيهم أمير المؤمنين عليه السّلام بالقتل و التحريق بالنار ... الى

__________________________________________________

(1) النساء: 171.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 197

أن قال: و أمّا نصّه بالغلوّ على من نسب مشايخ القميين و علمائهم الى التقصير فليس نسبة هؤلاء القوم الى التقصير علامة على غلوّ الناس و في جملة المشار إليهم بالشيخوخية و العلم من كان مقصّرا، و إنّما يجب الحكم بالغلوّ على من نسب المحققين الى التقصير سواء كانوا من أهل قم او غيرها من البلاد، و سائر الناس.

و قد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن ابن الوليد «ره» لم نجد لها دافعا في التقصير، و هي ما حكي عنه أنّه قال: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبي و الامام عليهم الصلاة و السّلام، فإن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر مع أنّه من علماء القميّين و مشيختهم، و قد وجدنا جماعة وردت إلينا من قم يقصّرون تقصيرا ظاهرا في الدين ينزلون الائمة عليهم السّلام عن مراتبهم، و يزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيرا من الاحكام الدينيّة حتى ينكت في قلوبهم، و رأينا من يقول إنّهم كانوا يلجئون في حكم الشريعة الى الرأي و الظنون، و يدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء.

و هذا هو التقصير الّذي لا شبهة فيه. و يكفي في علامة الغلوّ نفي القائل به عن الائمة عليهم السّلام سمات الحدوث و حكمه لهم بالإلهيّة و القدم،

أو قالوا ما يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام و اختراع الجواهر، و ما ليس بمقدور العباد من الأعراض.

و قال شيخنا المجلسي «ره» في «البحار»: اعلم أنّ الغلوّ في النبي و الإمام عليهم السّلام إنّما يكون بالقول بالوهيّتهم او بكونهم شركاء للّه تعالى في العبوديّة، أو في الخلق أو في الرزق، او أنّ اللّه تعالى حلّ فيهم او اتّحد بهم، او أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي او إلهام من اللّه تعالى.

او بالقول في الأئمّة عليهم السّلام انّهم كانوا أنبياء او القول بتناسخ أرواح بعضهم الى بعض، او القول بان معرفتهم تغني عن جميع الطاعات و لا تكليف معها بترك المعاصي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 198

و القول بكلّ منها إلحاد و كفر و خروج من الدين كما دلّت علية الأدلّة القطعية و الآيات و الأخبار، و قد ورد أنّ الأئمّة عليهم السّلام تبرأوا منهم، و حكموا بكفرهم، و أمروا بقتلهم.

و إن قرع سمعك شي ء من الأخبار الموهمة لشي ء من ذلك فهي أمّا مؤوّلة.

أو هي من مفتريات الغلاة.

و لكن أفرط بعض المتكلّمين و المحدّثين في الغلوّ لقصورهم عن معرفة الأئمّة عليهم السّلام، و عجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم و عجائب شئونهم فقدحوا في كثير من الرواة الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتى قال بعضهم من الغلوّ نفي السهو عنهم، أو القول بأنّهم يعلمون ما كان و ما يكون، و غير ذلك، مع أنّه

قد ورد في أخبار كثيرة: «لا تقولوا فينا ربّا و قولوا: ما شئتم و لن تبلغوا» «1» و

ورد: انّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب، او نبيّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان» «2».

و

ورد: «لو علم أبو ذر ما

في قلب سلمان لقتله»

، و غير ذلك ممّا مر و سيأتي.

فلا بدّ للمؤمن المتديّن أن لا يبادر بردّ ما ورد من فضائلهم و معجزاتهم و معالي أمورهم إلّا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين، او بالآيات المحكمة، أو بالاخبار المتواترة». انتهى كلامه زيد مقامه.

__________________________________________________

(1) الكافي ج 1 ص 401.

(2) بحار الأنوار ج 25 ص 346.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 199

الغلوّ الموجب للكفر

و الّذي يستفاد من النقل الصحيح و العقل الصريح في معنى الغلوّ الموجب للكفر هو ما

أشار إليه مولانا الرضا عليه السّلام على ما رواه في العيون حيث قال له المأمون: يا أبا الحسن بلغني أنّ قوما يغلون فيكم و يتجاوزون فيكم الحدّ، فقال عليه السّلام:

حدّثني أبي، عن جدّي، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: لا ترفعوني فوق حدّي فإنّ اللّه تبارك و تعالى اتّخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيّا، و قال علي عليه السّلام: يهلك فيّ اثنان و لا ذنب لي: محبّ مفرط، و مبغض مفرّط، و إنّا لنبرء إلى اللّه عزّ و جلّ ممّن يغلو فينا فيرفعنا فوق حدّنا كبرائة عيسى بن مريم على نبيّنا و آله و عليه السّلام من النصارى ... إلى أن قال عليه السّلام: فمن ادّعى للأنبياء ربوبيّة او ادّعى للائمّة ربوبيّة، او نبوّة، او لغير الأئمّة إمامة فنحن منه براء في الدنيا و الآخره.

الخبر «1».

و الحاصل أنّ لكلّ من الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام، بل و لسائر الناس رتبة رتّبهم اللّه تعالى فيها، فمن زعم انخفاضهم منها فهو مقصّر في حقّهم و من زعم ارتفاعهم عنها فهو غال فيهم، و لا شبهة في ذلك.

و إنما الكلام في الرتبة الّتي

رتّبهم اللّه تعالى فيها و منحهم إيّاها و نحن لا نحيط بها علما تفصيليّا لقصورنا عن ذلك. و لكن نعلم إجمالا أنّ الربوبيّة المطلقة و ما يساوقها من وجوب الوجود، و القدم، و التجرّد المطلق، و اتحاد صفات الكمال للذات، و الإبداع و غيرها من سمات الوجوب الذاتي لا يمكن اتّصاف الممكن بها، و القول بثبوت شي ء منها في النبي و الأئمّة عليهم السّلام غلوّ و الحاد.

و كذا القول باستغنائهم عنه سبحانه في شي ء من الفيوض، و استقلالهم منه في شي ء من الأحوال، او استناد شي ء من الفيوض او العلوم إليهم على وجه

__________________________________________________

(1) عيون الاخبار: 324- 325 و عنه البحار ج 25 ص 272.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 200

الاستقلال و الأصالة، فضلا عن القول باستقلالهم أو شركتهم في الخلق او الرزق و غيرهما من الشئون، هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «1»، أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2».

نعم الّذي يستفاد من الآيات و الاخبار أنّه سبحانه و هو الفاعل لما يشاء سبّب الأسباب، و قدّر المقادير، و خلق ببعض مصنوعاته بعضا، و لبعضها بعضا، و من بعضها بعضا، فنسب الحراثة إلينا و إن كان هو الزارع: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ «3».

و نسب الخلق و نفخ الروح الى عيسى عليه السّلام في قوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ «4» و ان كان هو الخالق لكل شي ء، و نسب التوفّي و قبض الأرواح الى ملك الموت و الأعوان في جملة من الآيات مع

أنّه قال اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «5» و جعل ميكائيل موكّلا بالأرزاق و هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ «6».

و قد ورد في الأخبار أنّ للّه سبحانه ملائكة موكّلة بالرزق، و ملائكة خلّاقين، الى غير ذلك مما تقدم إليه الإشارة في تفسير الفاتحة.

و بالجملة المستفاد من الأخبار أن لهم الدرجة القصوى من عالم الإمكان،

__________________________________________________

(1) لقمان: 11.

(2) الرعد: 16.

(3) الواقعة: 63- 64.

(4) آل عمران: 49.

(5) الزمر: 42.

(6) الذاريات: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 201

و الشؤون المتقدّمة إذا كانت جارية باذن اللّه، واقعة بأمره كلّها شئون امكانيّة كغيرها من الكرامات، و خوارق العادات الصادرة منهم كالتصرّف في الملك و الملكوت، و الاحاطة العلميّة و التدبيريّة باذن اللّه سبحانه، و غير ذلك من غرائب أحوالهم الّتي لا يحيط بها أحد غيرهم فلا بأس بالقول بها بعد دلالة قواطع الأدلّة عليها.

التفويض و معناه الصحيح

و من جميع ما مرّ مضافا الى ما سمعت في تفسير الصراط المستقيم يظهر لك وجه الجمع بين الأخبار المختلفة في التفويض إليهم فإنّ التفويض الاستقلالي سواء كان منهم بالذات أو من اللّه سبحانه على وجه التشريك أو الاستبداد كفر و شرك باللّه العظيم، و أمّا على وجه التوسّط في الفيض و الاستفاضة فهو الّذي دلّت عليه الأخبار بعد مساعدة الاعتبار.

نعم ذكر شيخنا المجلسي للتفويض إليهم في الأمور التكوينيّة معنيين:

أحدهما: أنّهم يخلقون و يرزقون و يميتون و يحيون و أنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم و ارادتهم، و هم الفاعلون حقيقة، قال: فهذا كفر صريح دلّت على استحالته الأدلة العقليّة و النقليّة، و لا يستريب عاقل في كفر من قال به.

و ثانيهما أنّ اللّه تعالى يفعل ذلك مقارنا لإرادتهم، كشقّ القمر، و

إحياء الموتى، و قلب العصا حيّة، و غير ذلك من المعجزات، فإنّ جميع ذلك إنما يحصل بقدرته تعالى مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم، فلا يأبى العقل من أن يكون اللّه تعالى خلقهم و اكملهم و ألهمهم ما يصلح في نظام العالم، ثمّ خلق كل شي ء مقارنا لإرادتهم و مشيّتهم.

قال: و هذا و إن كان العقل لا يعارضه كفاحا، لكن الأخبار السالفة تمنع من

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 202

القول به فيما عدى المعجزات ظاهرا بل صراحا، مع أنّ القول به قول بما لا يعلم، إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما تعلم.

و ما ورد من الأخبار الدالّة على ذلك كخطبة البيان و أمثالها فلم يوجد إلّا في كتب الغلاة، و أشباههم، مع أنه يحتمل ان يكون المراد كونهم علة غائية لإيجاد جميع المكونات، و أنه تعالى جعلهم مطاعين في الأرضين و السماوات، و يطيعهم باذن اللّه كل شي ء حتّى الجمادات، و أنّهم إذا شاءوا امرا لا يردّ اللّه مشيّتهم، و لكنّهم لا يشاءون إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ*.

و أمّا ما ورد من الأخبار في نزول الملائكة و الروح لكل أمر إليهم و أنّه لا ينزل ملك من السماء لأمر إلّا بدأ بهم فليس ذلك لمدخليّتهم في ذلك و لا للاستشارة، بل له الخلق و الأمر تعالى شأنه و ليس ذلك إلّا لتشريفهم و إكرامهم و اظهار رفعة مقامهم «1».

التفويض الموجب للكفر

أقول: امّا المعنى الأوّل فهو المتيقّن من التفويض الموجب للكفر لانتهائه الى الغلوّ بل هو الظاهر من اللفظ أيضا كما هو المحكيّ عن المفوّضة على اختلاف أقوالهم في ذلك، فمنهم من قال: إنّ اللّه تعالى خلق محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فوّض

إليه خلق الدنيا، فهو الخلّاق لما فيها، و عن أخر أنّه تعالى فوّض ذلك إلى عليّ عليه السّلام، و عن ثالث تفويضه إليهما، و عن رابع و هم المخمّسة أنّ اللّه فوّض الأمر الى سلمان، و ابي ذر، و المقداد، و عمّار، و عمرو بن أميّة الصيمري، فهم المدبّرون للدنيا الى غير ذلك

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 25 ص 326- 348.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 203

من أقوالهم الفاسدة المشتركة في نسبة الأفعال و الحوادث الى غيره تعالى من غير تجدّد فعل أو تأثير أو إفاضة منه سبحانه، و هو الأوفق بالتفويض المقابل للجبر كما يأتي ان شاء اللّه، و عليه يحمل ما

رواه الصدوق في العقائد عن زرارة أنّه قال: قلت للصادق عليه السّلام: إنّ رجلا من ولد عبد اللّه بن سبأ يقول بالتفويض، فقال عليه السّلام: و ما التفويض؟ قلت: يقول: إن اللّه عزّ و جلّ خلق محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّا عليه السّلام ثم فوّض الأمر إليهما، فخلقا، و رزقا، و أحيا و أماتا.

فقال: كذب عدو اللّه، إذا رجعت إليه فاقرء عليه الآية الّتي في سورة الرعد:

أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «1» فانصرفت الى الرّجل فأخبرته بما قال الصادق عليه السّلام، فكأنّما ألقمته حجرا، أو قال: فكأنّما خرس «2».

و عن الرضا عليه السّلام: اللهمّ من زعم أنّا أرباب فنحن منه براء، و من زعم أنّ إلينا الخلق و علينا الرزق فنحن منه براء كبرائة عيسى بن مريم عليهما السّلام من النصارى «3».

الى غير ذلك مما ينبغي حمله على شي ء من المعاني المتقدّمة جمعا بينها

و بين ما دلّ على ثبوته بالمعنى الّذي أشير اليه في تفسير الفاتحة من التوسط في تلك الفيوض شبيه توسّط المرآة في الشعاع الواقع بتوسطها على الجدار فإنّها تحكي فعل الشمس و تظهره.

و إليه الإشارة بما

في العلوي في جواب الزنديق من أنّ للّه تعالى أولياء تجري أفعالهم و أحكامهم مجرى فعله و هم ولاة الأمر، و هذا الأمر هو الّذي به تنزل

__________________________________________________

(1) الرعد: 16.

(2) الاعتقادات للصدوق ط قم مؤسسة الامام الصادق عليه السّلام ص 100.

(3) بحار الأنوار ج 25 ص 343.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 204

الملائكة في الليلة الّتي فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «1» من خلق، و رزق، و أجل، و عمل، و حيات، و موت، و علم غيب السماوات و الأرض، و المعجزات الّتي لا ينبغي إلّا للّه، و أصفيائه ...

الخبر «2».

و في الخطبة الغديريّة ما مرّ غير مرّة، و في رياض الجنان على ما رواه في البحار عن ابي جعفر عليه السّلام: انّ اللّه لم يزل فردا متفرّدا في الوحدانيّة، ثم خلق محمدا و عليّا و فاطمة عليهم السّلام، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق الأشياء و اشهدهم خلقها، و أجرى عليها طاعتهم، و جعل فيهم ما شاء و فوّض أمر الأشياء إليهم، في الحكم، و التصرف، و الإرشاد، و الأمر و النهي، لأنّهم الولاة فلهم الأمر و الولاية و الهداية، فهم أبوابه و نوّابه و حجّابه، يحلّلون ما شاءوا، و يحرّمون ما شاءوا، و لا يفعلون إلّا ما شاء، عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ... الخبر «3».

و أمّا المعنى الثاني فهو و إن قيل: إنّه بمعزل عن معنى التفويض الظاهر في إنهاء الأمر

و إيصاله إليهم و إذا كان اللّه سبحانه هو الفاعل فأين معنى التفويض.

إلّا أنّه لعل المراد عنه أنّه تعالى جعل إرادتهم بمنزلة إرادته في تحقق المراد معها و عدم تخلّفه منها و تعلّقها على حسب الحكمة و المصلحة، و ذلك لفناء هويّاتهم، و اضمحلال إنّياتهم، فظهرت على قلوبهم ارادة الحقّ سبحانه فهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.

و في الزيارة الجامعة: أنّهم الفاعلون بإرادته.

و في غيبة الشيخ ابي جعفر الطوسي بالإسناد عن الحجّة عجل اللّه تعالى

__________________________________________________

(1) الدخان: 4.

(2) تفسير نور الثقلين ج 4 ص 24.

(3) بحار الأنوار ج 25 ص 339.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 205

فرجه: أنّه قال للكامل بن ابراهيم حيث دخل على أبي محمّد العسكري عليه السّلام للسؤال عن جملة من المسائل ما لفظه عليه السّلام: و جئت تسأله عن مقالة المفوّضة، كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة اللّه، فإذا شاء شئنا، و اللّه يقول: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ* «1» «2».

فنفى عليه ما يفيده ظاهر التفويض من المعنى الأوّل، و أثبت تبعيّة مشيّتهم لمشيّته سبحانه، و لعلّه إليه يرجع المعنى الّذي أشير إليه في ذيل الخبر المرويّ

في الاحتجاج عن ابي الحسن علي بن أحمد الدلّال القمي، قال: اختلف جماعة من الشيعة في اللّه عزّ و جلّ فوّض الى الأئمّة صلوات اللّه عليهم أن يخلقوا و يرزقوا، فقال قوم: هذا محال، لا يجوز على اللّه تعالى، لأنّ الأجسام لا يقدر على خلقها غير اللّه عزّ و جلّ، و قال آخرون: بل اللّه عزّ و جلّ أقدر الأئمّة على ذلك و فوّض إليهم فخلقوا، و رزقوا، و تنازعوا في ذلك تنازعا شديدا، فقال قائل:

ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألونه عن ذلك ليوضح لكم الحقّ فيه فإنّه الطريق الى صاحب الأمر عليه السّلام؟ فرضيت الجماعة بابي جعفر و سلّمت و أجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة و أنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته: إنّ اللّه تعالى هو الّذي خلق الأجسام، و قسّم الأرزاق، لأنّه ليس بجسم، و لا حالّ في جسم، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فأمّا الأئمّة عليهم السّلام فإنّهم يسألون اللّه تعالى فيخلق، و يسألونه فيرزق إيجابا لمسألتهم و إعظاما لحقّهم «3».

أقول: و هذا السؤال سؤال مستمرّ عامّ، مستجاب لهم فيمن سواهم في جميع

__________________________________________________

(1) الدهر: 30.

(2) غيبة الطوسي ص 159- 160.

(3) الاحتجاج ص 264 و عنه البحار ج 25 ص 329.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 206

الفيوض الدنيوية و الاخرويّة و هو الّذي يعبّر عنه في حقّهم بالشفاعة الكلّية و المقام المحمود، و هذا المعنى و إن تأمل فيه شيخنا المجلسي في المقام إلّا أنّه قد صرّح به في رسالته في اعتقاداته حيث قال بعد التصريح بأنّهم المقصودون في إيجاد عالم الوجود و المخصوصون بالشفاعة الكبرى و المقام المحمود: إنّ معنى الشفاعة أنّهم وسائط فيوض اللّه تعالى في هذه النشأة و النشأة الآخرة، إذ هم القابلون للفيوضات الإلهيّة و الرحمات القدسيّة و بتطفّلهم تفيض الرحمة على ساير الموجودات، إلى أن قال: إنّهم وسائط بين ربّهم و بين ساير الموجودات، فكلّ فيض وجود يبتدأ بهم، ثمّ ينقسم على سائر الخلق، و في الصلاة عليهم استجلاب الرحمة إلى معدنها و الفيوض الى مقسّمها ليقسّم على سائر البرايا.

و قد مرّ أيضا تصريحه في أوّل البحار في شرح أخبار

العقل بأنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم الوسائل بين الخلق و بين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات و العلوم و الكمالات على جميع الخلق.

المعصومون عليهم السّلام وسائط بين الخالق و الخلق

و بالجملة فالمستفاد من الأخبار و شواهد الاعتبار أنّهم الوسائط بين الحق و بين الخلق، و أنّه بسؤالهم و بشفاعتهم و بابيّتهم يصل إلى الخلق ما يصل إليهم من الفيوض و الشؤون.

و لذا قيل: إنّ اللّه سبحانه خلقهم على هيئة مشيّته و صورة ارادته، و أودعهم اسمه الأكبر الّذي هو سرّ سلطنته في بريّته، و أخذ على جميع الأشياء الميثاق

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 207

بطاعتهم

كما أشار الحسين عليه السّلام في الخبر المذكور في ترجمة عبد اللّه بن شدّاد «1» حين عاده، و هو مريض فهربت الحمّى عن عبد اللّه، فقال له: قد رضيت بما أوتيتم حقّا حقّا، و الحمّى لتهرب منكم، فقال: و اللّه ما خلق اللّه شيئا إلّا و قد أمره بالطاعة لنا يا كناسه (يا كباسة)، قال: فإذا نحن نسمع الصوت و لا نرى الشخص يقول:

لبّيك، قال: أ ليس أمير المؤمنين عليه السّلام أمرك ألا تقربي إلّا عدوّا أو مذنبا لكي تكون كفّارة لذنوبه فما بال هذا؟ «2» الخبر.

فإنّه لا مانع من القول به بهذا المعنى، سيما بعد دلالة كثير من الأخبار عليه، بل و ثبوته بالنسبة الى الملائكة الذين هم خدّام اهل البيت المخلوقين من أنوارهم، إذ منهم الموكّل بالسحاب، و بالبحار، و تصريف الرياح، و الخلق، و الرزق، و الإحياء و الاماتة، و منهم المدبّرات، كلّ ذلك على وجه لا يلزم منه الغلوّ و التفويض بالنسبة إليهم و الى الملائكة أيضا، و الحاصل أنّ هذا المعنى لم يتضح الحكم بكفر قائله فإن اتّضح لك

من التأمّل في الآيات و الأخبار صحة القول به فالحقّ أحقّ بالاتّباع، و إلّا فعليك التسليم و ردّ العلم إلى أهله و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، و كذا الكلام في ساير المعاني للتفويض إليهم عليهم السّلام كالتفويض إليهم في امر الدين، لا بمعنى أن يفوّض إليهم عموما أن يحلّوا ما شاءوا، و يحرّموا ما شاءوا من غير وحي و إلهام، أو يغيّروا بآرائهم ما اوحي إليهم، فإنّه باطل قطعا، بل بمعنى أنّه تعالى لمّا أكملهم بحيث كانوا لا يختارون من الأمور شيئا إلّا ما يوافق الحقّ و الصواب، و جعل قلوبهم أوعية لمشيّة في كلّ باب فوّض إليهم تعيين بعض الأمور كالزيادة في الصلاة، و تعيين

__________________________________________________

(1) هو عبد اللّه بن شدّاد بن هاد الليثي الكوفي من اصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام بل عدّ من خواصّ أصحابه كما في معجم رجال الحديث ج 10 ص 217 الرقم 6918.

(2) معجم رجال الحديث ج 10 ص 217 الرقم 6918.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 208

النوافل في الصلاة و التطوع في الصوم، و طعمة الجدّ، و غير ذلك، و هذا لا مانع من القول به بعد دلالة الأخبار عليه كما صرّح به جماعة، و التفويض في سياسة الخلق و تكميلهم و تعليمهم وجوب طاعتهم، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1»، و في تبليغ الأحكام إليهم بحسب الواقع او التقيّة، أو بحسب ما يحتمله عقل كل سائل على ما يريهم اللّه من مقتضيات الأزمان و مصالح الأشخاص، و به أخبار كثيرة، و في القضاء و الحكومة بحسب ظاهر الشريعة، أو على ما هو الواقع

كما دلّت عليه الأخبار، أو في العطاء، فإنّ اللّه خلق لهم الأرض و ما فيها، و جعل لهم الأنفال و الخمس و الصفايا، و غيرها، فلهم أن يعطوا من شاءوا، و يمنعوا من شاءوا، كما في اخبار باب الخمس و غيره.

و في البصاير، و الإختصاص عن أبي جعفر عليه السّلام: أنّ الأئمّة منا مفوّض إليهم، فما أحلّوا فهو حلال، و ما حرّموا فهو حرام «2».

و بالجملة للتفويض معان، بعضها معلوم الفساد، و بعضها مقطوع الصحّة، و بعضها مختلف فيه، فلا ينبغي البدار إلى التكفير أو الإنكار أو ردّ الأخبار إذا وقع في أسانيدها من نسب إليه.

و منهم المجبّرة و المفوّضة الواقعة في الطرفين من الأمر بين الأمرين فعن الشيخ في «المبسوط» و بعض من تأخّر عنه هو الحكم بكفرهم و نجاستهم، و علّل بأنّ القول بهما إنكار لما هو الضروري من الأمر بين الأمرين و باستتباعه لإبطال النبوات و التكاليف رأسا، و إبطال كثير ممّا علم من الدين ضرورة، و لقوله تعالى:

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ

__________________________________________________

(1) الحشر: 7.

(2) وسائل الشيعة ج 12 ص 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 209

شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا «1».

و للأخبار الكثيرة،

ففي الخصال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: صنفان من امّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، و القدريّة «2»، و قد فسّرت القدرية بكلّ من الفريقين، و في خبر آخر: الغلاة و القدرية.

و فيه و في «التوحيد»، عن الصادق عليه السّلام: الناس في القدر على ثلاثة أوجه:

رجل زعم أنّ اللّه عزّ و جلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا

قد ظلم اللّه عزّ و جلّ في حكمه، و هو كافر، و رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهّن اللّه في سلطانه فهو كافر، و رجل يقول: إنّ اللّه عزّ و جلّ كلّف العباد ما يطيقون، و لم يكلّفهم مالا يطيقون، فإذا أحسن حمد اللّه و إذا أساء استغفر اللّه، فهذا مسلم بالغ «3».

المجبّرة و المفوضة

و في «العيون» عن الرضا عليه السّلام في حديث: «فالقائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك» «4».

و في رسالة عليّ بن محمد العسكري عليه السّلام إلى أهل الأهواز الطويلة، و فيها:

فمن زعم أنّه مجبور على المعاصي فقد أحال بذنبه على اللّه عزّ و جلّ، و ظلمه في عقوبته له، و من ظلم ربّه فقد كذّب كتابه، و من كذّب كتابه لزمه الكفر «5».

__________________________________________________

(1) الانعام: 148.

(2) بحار الأنوار ج 5 ص 9- 10 ح 14 عن الخصال و التوحيد.

(3) بحار الأنوار ج 5 ص 9- 10 ح 14 عن الخصال و التوحيد.

(4) العيون ص 78 و عنه البحار ج 5 ص 12 ح 18.

(5) الاحتجاج ص 249- 252 و عنه البحار ج 5 ص 20- 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 210

و في العيون و التوحيد عن الرضا عليه السّلام: من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر و مشرك، و نحن منه براء في الدنيا و الآخرة «1».

و في العيون: انّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال للشيخ الّذي أتاه من أهل الشام: مهلا يا شيخ لعلّك تظنّ قضاء حتما، و قدرا لازما، و لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب و الأمر و النهي و الزجر، و لسقط معنى الوعد و الوعيد، و لم تكن على

مسي ء لائمة، و لا لمحسن محمدة، و لكان المحسن أولى باللائمة من المذنب، و المذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، و خصماء الرّحمن، و قدرية هذه الامّة و مجوسها، يا شيخ إنّ اللّه عزّ و جلّ كلّف تخييرا، و نهى تحذيرا، و اعطى على القليل كثيرا، و لم يعص مغلوبا، و لم يطع مكرها، و لم يخلق السماوات وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ «2».

الى غير ذلك من الاخبار الّتي يمكن استفادة ذلك منها، مضافا الى منافاته للعدل، بل للتوحيد، و غيره.

إلّا أنّ المسألة بنفسها ليست من الضروريّات الّتي يوجب إنكارها الكفر، كيف و هي من المسائل المعضلة الّتي طال التشاجر فيها بين الحكماء و المتكلّمين و صنّفوا فيها الكتب و الرسائل، و استدلّ كلّ فريق منهم بجملة من الآيات و الأخبار المتعارضة بظاهرها في هذا الباب، و مجرّد استلزام أحد القولين لإنكار بعض الأصول و الضروريات لا يؤثّر شيئا مع عدم التزام قائله بذلك، و من هنا صرّح بعضهم بأنّ المدار على إنكار الضروريّات صريحا لا لازما.

أمّا الآيات و الأخبار فالظاهر تنزيلها على صورة الالتزام بتلك اللوازم، او

__________________________________________________

(1) العيون ص 81- 82 و التوحيد ص 372- 373 و عنهما البحار ج 5 ص 53.

(2) العيون ص 79 و عنه البحار ج 5 ص 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 211

الالتفات و العلم باللزوم، او إنكار مذهب الحقّ عنادا مع العلم بثبوته من صاحب الشريعة، أو غير ذلك ممّا يئول إلى انكار الدين، أو إنكار ما علم منه ضرورة.

على أنّه ربما يقال: إنّ المراد هو الكفر الباطني بالنسبة إلى الأمور الاخرويّة

كما ورد مثله في حقّ المخالفين و فيمن أنكر واحدا من الأئمّة عليه السّلام.

و أمّا مجرّد القول بالجبر و التفويض سيّما على بعض المعاني الّتي لا يتّضح فسادها فالتكفير به مشكل جدّا، و لذا يحكى عن اكثر الأصحاب القول بطهارتهم و إسلامهم.

بل في كشف الغطاء نسبته الى ظاهر الفقهاء، مستدلّين بالأصل و العمومات، و استمرار السيرة المظنون او المعلوم أنّها في زمن المعصوم على عدم اجتناب سؤر كلّ من الفريقين بل و سؤر المخالفين الذين أكثرهم المجبرة.

بل ربما يحكى هذا القول عن بعض أصحابنا مع عدم القدح في عدالته فضلا عن دينه بذلك، فعن النجاشي و العلّامة في الخلاصة أنّ محمد بن جعفر الأسدي ثقة صحيح الحديث الا أنّه روى عن الضعفاء، و كان يقول بالجبر و التشبيه.

و ما يقال: من أنّ النجاشي إنّما حكم بذلك لما توهّم من كتبه و لذا لم يطعن عليه الشيخ به فعلى فرض قبوله لا يدفع موضع الشهادة، إذ المقصود أنّ النجاشي مع توهّمه ذلك حكم عليه بالوثاقة و الصّحة.

المجسّمة و كفرهم

و منهم المجسّمة الذين أطلق أكثر الأصحاب بكفرهم و نجاستهم.

لأنّ القول بالتجسيم إنكار للّه سبحانه.

و صرّح بعضهم بعدم الفرق بين القول بالتجسيم حقيقة أو تسمية بكونه جسما

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 212

لا كالأجسام.

و قيّده الشهيدان و بعض من تأخّر عنهما بالأوّل، نظرا إلى أنّهم موافقون لأهل الحقّ في العقيدة و إنّما تجوّزوا في التسمية كإطلاق العين و الجنب فيما ورد به الكتاب و السنّة.

و ربما يؤيّد بما يحكى عن هشام بن الحكم من القول به، و إن قيل: إنّه أورده على سبيل المعارضة للمعتزلة، فقال لهم: إذا قلتم: إنّ القديم شي ء لا كالأشياء فقولوا: إنّه جسم لا كالأجسام.

نعم

بعض المتأخرين منع من كفرهم على الوجهين حتى لو استلزم تلك الدعوى الحدوث في نفس الأمر إذا لم يعترفوا بزعمهم، و اختاره في «الجواهر».

و ربما يحكى عن كثير من الفقهاء أيضا حيث أطلقوا القول بطهارتهم.

لكن الأظهر وفاقا للاكثر أنّه كالقول بالتشبيه على وجه الحقيقة لا مجرّد التسمية يوجب الكفر و الشرك لأنّ معبودهم حينئذ غير اللّه سبحانه.

و للأخبار المستفيضة.

ففي «البحار» عن يونس بن ظبيان، قال: دخلت على الصادق عليه السّلام، فقلت:

يا ابن رسول اللّه إنّي دخلت على مالك و أصحابه فسمعت بعضهم يقول: إنّ للّه وجها كالوجوه، بعضهم يقول: له يدان. و احتجّوا لذلك بقول اللّه تبارك: بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ «1»، و بعضهم يقول: هو كالشابّ من أبناء ثلاثين سنة، فما عندك في هذا يا ابن رسول اللّه؟ قال: و كان متّكأ فاستوى جالسا، و قال: اللهمّ عفوك عفوك ثم قال: يا يونس من زعم أنّ للّه وجها كالوجوه فقد أشرك، و من زعم أنّ للّه جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر باللّه، فلا تقبلوا شهادته، و لا تأكلوا ذبيحته، تعالى اللّه

__________________________________________________

(1) سورة ص: 75.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 213

عمّا يصفه المشبّهون له بصفة المخلوقين، فوجه اللّه أنبيائه و أولياؤه، و قوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ «1» اليد القدرة كقوله: وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ «2» الخبر «3».

و في «التوحيد» و «الأمالي» عن عليّ بن محمّد عليه السّلام: من زعم أنّ اللّه جسم فنحن منه براء في الدنيا و الآخرة يا ابن دلف إنّ الجسم محدث و اللّه محدثه و مجسّمه «4».

و فيه اشارة إلى ظهور استلزام القول بكونه جسما للقول بحدوثه، كما أنّ في الخبر الأوّل اشارة الى الفرق بين التشبيه على وجه الحقيقة أو

التسمية المؤوّلة بما ذكره عليه السّلام.

و في «العيون» عن الرضا عليه السّلام قال: من شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك، و من نسب إليه ما نهي عنه فهو كاذب «5».

و قد مرّ منه، و من «التوحيد» من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر مشرك «6».

و في «التوحيد» عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من شبّهه بخلقه فهو مشرك، و من وصفه بالمكان فهو كافر، و من نسب إليه ما نهي عنه فهو كاذب «7».

أقول: و فيه اشارة الى فرق بين مطلق التشبيه و خصوص التوصيف بالمكان، و لعلّ الوجه فيه أنّ المشبّه مقرّ باللّه إلّا أنّ منعوته غير اللّه تعالى فقد أشرك به،

__________________________________________________

(1) سورة ص: 75.

(2) سورة الأنفال: 26.

(3) بحار الأنوار ج 3 ص 287.

(4) البحار ج 3 ص 292.

(5) البحار ج 3 ص 299.

(6) البحار ج 3 ص 294 عن التوحيد و العيون.

(7) البحار ج 3 ص 299 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 214

و القائل بكونه محاطا بالمكان لا يقرّ بغيره فهو كافر، فتأمّل.

و في التوحيد أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام: من قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة، و لا تصلّوا وراءه «1».

الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما أطنب فيه شيخنا النجفي في «الجواهر» حيث اختار القول بالطهارة بلا فرق بين القسمين إذا لم يعترفوا بذلك اللازم لاتّحادهما حينئذ في المقتضي و عدم المانع.

إذ فيه أنّ المانع و هو طروّ الكفر في التجسيم و التشبيه على وجه الحقيقة موجود حسبما سمعت.

التناسخ

و منهم التناسخية بالمعنى الأعمّ الشامل للفسخ بالمعنى الأخص و المسخ و الرسخ، فإنّ القول

بكلّ منها إنكار لضرورة الدين، مع أنّها على بعض الوجوه موجب لإنكار المعاد و حشر الأجساد.

و مثله في سببيّة الكفر إنكار المعاد الجسماني و تأويل الآيات و الأخبار فيه كما ربما يظهر من بعض الحكماء و الفلاسفة، و كذا إنكار شي ء من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، و لو بطريق الاستلزام مع التصريح باللوازم، لا مطلقا.

و الحاصل أنّ للكفر سببين:

أحدهما: ما يوجبه بالذّات كإنكار وجود الصانع، أو وحدته، أو قدمه، او

__________________________________________________

(1) البحار ج 3 ص 303 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 215

إنكار نبيّه، أو المعاد، او الشكّ في شي ء منها، بلا فرق في المنكر باللّسان مع الجنان، او المقرّ بهما مع إظهار العناد، أو المقرّ بأحدهما دون الآخر.

و من هنا يظهر أنّ المعاند المتظاهر بالمشاقّة للّه او لرسوله محكوم عليه بالكفر، و هكذا الهاتك لحرمة الإسلام المستخفّ بالدين و لو بترك المندوب أو فعل المكروه، و يلحق به السابّ للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم او الزهراء او أحد الأئمّة عليه السّلام، بل و كذا السابّ لأحد من الأنبياء السابقين، او الملائكة المقرّبين، فهذا كلّه ممّا يوجب الكفر، و لا يقبل معه العذر.

نعم الأظهر وفاقا للشيخ الأكبر أنّه ربما يعذر الثالث لبعد الدار أو لكونه في محلّ النظر خاليا عن الاستقرار و إن جرى عليهما حكم الكفّار في غير المؤاخذة كالتعذيب بالنار.

ثانيهما: ما يترتب عليه الكفر على وجه الاستلزام مع التصريح باللوازم أو اعتقادها كانكار بعض الضروريات الاسلاميّة و المتواترات عن سيّد البرية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كالقول بالجبر و التفويض، و انكار العدل، و مغايرة الصفات الذاتيّة للذات، و اتحاد الصفات الفعلية لها، و إثبات المعاني

و الأحوال، و الأعيان الثابتة، و التجسيم، و التشبيه بالحقيقة، و وحدة الوجود أو الموجود، و الاتحاد، و ثبوت الزمان و المكان، و الكلام النفسي، و قدم القرآن، و الرؤية البصرية في الدنيا و الآخرة، و انكار الإمامة المستلزم لإنكار النبوة، و البغض لبعض الأئمّة، و إنكار البرزخ و عذابه، و القول بانقطاع عذاب الكفّار، و صيرورة العذاب راحة لهم.

قال في «كشف الغطاء» بعد التصريح ببعض ما سمعت: إنّ هذه إن صرّح فيها باللوازم أو اعتقدها كفر و جرى عليه حكم الارتداد الفطري، و إلّا فإن يكن عن شبهة عرضت له إن احتمل صدقه في دعواها استتيب و قبلت توبته، و لا يجرى عليه حكم الارتداد الفطري، و إن امتنع عزّر ثلاث مرّات، و قتل في الرابعة، و إن لم يمكن

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 216

ذلك و ترتبت على وجوده فتنة العباد، و بعثهم على فساد الإعتقاد اخرج من البلاد، و نادى المنادي بالبرائة منه على رؤوس الأشهاد.

ثم لا يخفى أنّ هذه العقائد و نحوها مختلفة في إيجاب الكفر.

فمنها ما يوجبه عدم العلم بها، فضلا عن العلم بعدمها او الشك فيها كوجود الصانع و توحيده، و علمه، و قدرته، و أزليّته و ابديّته، و نبوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ثبوت المعاد الجسماني.

و منها ما يوجبه العلم بعدمها دون عدم العلم بها كنفي التحيّز و الجسميّة، و اثبات ضغطة القبر و حياته، و الوزن في المحشر و الحساب و الصراط و غيرها ممّا يعدّ من فروع الأصول بعد ثبوتها من الدين في الجملة و إن اختلفوا في كيفيّتها.

و منها ما لا يقتضي شيئا منها كالمسائل و المباحث الخلافيّة المتعلّقة

بفروع الأصول و كيفيّاتها.

ثمّ إنّ البحث عن خصوص المسائل و تشخيص الصغريات له عرض عريض، و لا يهمّنا التعرّض له.

و منهم النواصب، و قد استفاضت الأخبار بل تواترت على الحكم بنجاستهم و كفرهم و أنّهم شرّ خلق اللّه، و لا خلاف بين الأصحاب في الحكم بكفرهم، و إن اختلفوا في تشخيص الموضوع هل هو خصوص الخوارج، أو الفرق الثلاثة و هم أصحاب الجمل و النهروان و صفّين، أو كلّ من أظهر العداوة لأهل البيت عليه السّلام، أو أنكر شيئا من فضائلهم، أو أنكر النصّ على امير المؤمنين عليه السّلام، أو كلّ من قدّم الجبت و الطاغوت إلّا المستضعفين منهم.

بقي الكلام في أمور تتعلّق بالمقام: أحدها: أنّ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 217

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «1» و نحوها ممّا تضمّنت الإخبار بصيغة الماضي نحو إِنَّا أُرْسِلْنا* ممّا احتجّت به القائلون بحدوث القرآن كاصحابنا الإماميّة و المعتزلة، نظرا إلى أنه لو كان كلامه قديما لزم الكذب في أمثال تلك الإطلاقات لعدم سبق وقوع النسبة.

و أجيب بأنّ كلامه تعالى غير متصف في الأزل بالمضيّ و آخريه لعدم الزمان، و إنما يتّصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلّقات و حدوث الأزمنة غاية الأمر حدوث المتعلّق لا المتعلّق كما قيل في علمه سبحانه.

و فيه: أنّهم قد صرّحوا بكون الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي و لا يعقل أن يكون مدلول الماضي إلّا ماضيا، و التأويل بالعلم خارج عن محلّ البحث على ما مرّ تمام الكلام فيه في المقدّمات.

الأمر الثاني: أنّ من غرائب الكلام ما ذكره الرازي في المقام، و هو أنّ الجمع المعرّف باللام اي الَّذِينَ كَفَرُوا بظاهره للاستغراق، و

لا نزاع في أنّه ليس المراد منها هذا الظاهر لأنّ كثيرا من الكفّار أسلموا، فعلمنا أنّ اللّه تعالى قد يتكلّم بالعامّ و يكون مراده الخاصّ.

إمّا لأجل أنّ القرينة الدالّة على أنّ المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحسن ذلك لعدم التلبيس و ظهور المقصود ...

و إمّا لأجل أنّ التكلّم بالعامّ لإرادة الخاصّ جائز و ان لم يكن مقرونا بالبيان عند من يجوّز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب.

و إذا ثبت ذلك ظهر أنّه لا يمكن التمسّك بشي ء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أنّ المراد منها هو الخاصّ، و كانت القرينة الدالّة على ذلك

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 218

ظاهرة في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا جرم حسن ذلك، و أقصى ما في الباب أن يقال: لو وجدت هذه القرينة لعرفناها، و حيث لم نعرفها علمنا أنّها ما وجدت، إلا أنّ هذا الكلام ضعيف لأنّ الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الأمارات المفيدة للظنّ فضلا عن القطع «1».

و عقيب كلامه هذا قال: إذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف، و اللّه اعلم. و هو كما ترى.

شأن نزول الآية

الأمر الثالث: اختلف المفسّرون في شأن نزول الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: إنّها نزلت في قوم من أخبار اليهود ممّن كفر بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنادا و كتم أمره حسدا و بغيا.

و قيل: نزلت في أبي جهل و خمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر.

و قيل: نزلت في مشركي العرب أو قريش.

و

قيل: هي عامّة في جميع الكفّار و أخبر اللّه تعالى بأنّ جميعهم لا يؤمنون، فلا ينافيها إيمان بعضهم، فهو كقول القائل: لا يقدم جميع إخوتك اليوم، فلا ينكر إن يقدم بعضهم.

و هذا الوجه ضعيف جدّا، و التخصيص بشي ء من الوجوه المتقدّمة غير ثابت، و قضيّة العموم شمولها تنزيلا لمن كان على هذه الصفة، غاية الأمر أنّ قوله:

__________________________________________________

(1) مفاتيح الغيب لفخر الرازي ج 2 ص 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 219

تفسير سَواءٌ عَلَيْهِمْ

سَواءٌ عَلَيْهِمْ قرينة على خروج غير المصرّين على كفرهم، فيعمّ جميع المصرّين ممّن كان أو يكون على شي ء من وجوه الكفر المتقدّمة و غيرها حتّى الكفر بولاية أولياء اللّه و امنائه كلّا او بعضا، و كفر النعم و غيرهما، و يقابله الإيمان بكلّ معانيه، و لكلّ من مراتبه و عقوبة، فتشمل الآية جميع الكفّار و العصاة، و المخالفين و المنحرفين عن الصراط المستقيم.

و لذا

قال الإمام عليه السّلام في تفسيره: أنّه لمّا ذكر اللّه تعالى هؤلاء المؤمنين و مدحهم بتوحيد اللّه تعالى و بنبوة محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وصيّه عليّ ولي اللّه عليه السّلام، ذكر الكافرين المخالفين لهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد اللّه تعالى و بنبوّة محمد رسول اللّه و بوصيّه عليّ ولي اللّه و بالأئمّة الطيبين الطاهرين، خيار عباده الميامين القوّامين بمصالح خلق اللّه تعالى «1».

سَواءٌ عَلَيْهِمْ سواء اسم بمعنى الاستواء و هو الاعتدال، و السواء: العدل، و منه قوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ «2» و بمعنى وسط الشي ء كقوله: سَواءِ الْجَحِيمِ* «3» و يوصف به كالمصادر نعتا نحويا، كقوله: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ «4».

__________________________________________________

(1) تفسير الامام عليه السّلام ص

43- 44.

(2) الأنفال: 58.

(3) الصافات: 55.

(4) آل عمران: 64.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 220

و أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً «1» على قراءة الجرّ، أو معنويّا كما في المقام مرفوع.

امّا لكونه خبر إنّ على القول بإعمالها في الجزئين، أو على بقائه على ما كان عليه قبل دخول الحرف على الخلاف في ذلك.

و حيث إنّ سواء اسم للمصدر مؤوّل به بمعنى الفاعل، فقوله: أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع الرفع على الفاعليّة كأنّه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك و عدمه.

و ما يقال: إنّه اسم غير صفة، فالأصل فيه أن لا يعمل، مع أن القصد من الوصف بالمصادر المبالغة في شأن محالّها كأنّها صارت عين ما قام بها فقولك: زيد عدل معناه أنّه عين العدل كأنّه تجسّم منه، و مع التأويل يفوت المقصود، بل و كذا مع الحمل على حذف المضاف.

مدفوع بأنّ الأصل غير دافع للاحتمال، مع إعمال مثله كثيرا، مضافا الى رجحانه على غيره من المحتملات.

و إمّا بأنّه خبر مقدّم، و الفعل مع ما عطف عليه مأوّلين بالمصدر مبتدأ مؤخّر و المعنى إنذارك و عدمه سيّان عليهم، و توحيده حينئذ للمصدريّة كما أنّه على الأوّل لكونه كالفعل المسند إلى فاعله.

نعم قد يورد عليه، بل و على الأول أيضا بأنّ الفعل كيف وقع مسندا إليه فاعلا او مبتدأ، و أنّ تصدير الاستفهام ينافيه، و أنّ الهمزة و أم موضوعتان لأحد الأمرين و ما يسند إليه سواء يجب أن يكون متعدّدا.

و أجيب عن الأوّل بأنّ الفعل إنّما يمتنع الإسناد إليه على جهة الإخبار او الفاعليّة أو الاضافة إذا أريد به تمام ما وضع له من الزمان و الحدث و الانتساب إلى

__________________________________________________

(1) فصّلت:

10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 221

الفاعل، أمّا لو أطلق و أريد به مجرد اللفظ نحو ضرب فعل ماض، و يضرب فعل مضارع، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإخبار عنه، كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، و كقوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ «1»، و قوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا* «2»، أو الإضافة كقوله تعالى: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ «3».

و فيه أنّ ما أريد به مجرّد اللفظ اسم للفعل كما أنّ الأدوات في قولك: الباء للإلصاق، و من للابتداء و في للظرفيّة أسماء للحروف و لذا تدخل اللام على ما بني منها على حرف واحد. و أمّا إرادة المعنى المصدري من الفعل غير سائغ إلّا مع التأويل المغيّر لصيغته و لذا قرأ المشهور تسمع بالمعيدي بفتح العين بتقدير أن الناصبة، و ذكروا في بَدا لَهُمْ: أنّ الفاعل مضمر تفسيره لَيَسْجُنُنَّهُ، و هو بداء، او السجن في الآية الاولى، و كذا القول في الثانية.

فالأولى في المقام إضمار الفاعل بما يفسّره الجملة الفعلية و هو إنذارك و عدمه.

منه يظهر الجواب عن الثاني أيضا، على أنه قد يجاب عنه و عن الثالث بأنّ الهمزة و أم قد انسلخ عنهما في مثل المقام معنى الاستفهام رأسا حتى زال عنهما الدلالة على أحد الأمرين و صارتا لمجرّد معنى الاستواء، فإنّ اللفظ المتضمّن لمعنيين قد يجرّد لأحدهما و يستعمل فيه وحده منسلخا عن الآخر، كما أنّ حرف النداء و إن وضع للاختصاص الندائي إلّا قد يجرّد لمطلق الاختصاص كما نبّه عليه

__________________________________________________

(1) سورة يوسف: 35.

(2) سورة البقرة: 13.

(3) المائدة: 119.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 222

سيبويه

في قولهم: أللهم اغفر لنا ايّتها العصابة، فإذا جرّدتا في مثل المقام لمجرّد الاستواء زالت الصدارة و كونها لأحد الأمرين.

و توهّم من قال: المعنى حينئذ تسوية المستويين، و هو تكرار بلا فائدة، مدفوع بأنّ المراد كون المستويين في صحة الوقوع مستويين في عدم النفع.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما ذكره الطبرسي في «مجمع البيان من إبطال كون سواء خبرا بأنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه، و بأنّ قبل الاستفهام لا يكون في حيّز الاستفهام» «1».

و إمّا بالابتداء و يكون خبره الجملة التالية كما هو المحكي عن أبي علي، و اختاره الطبرسي و جعله أوّل الوجهين، قال: و الجملة في موضع رفع بأنّها خبر إنّ «2»، و لا يخلو من ضعف.

و إمّا بأنّه خبر من مبتداء محذوف تقديره: الأمران سواء، ثمّ بيّن الأمرين بقوله: أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ.

قال نجم الأئمة: و هذا هو الّذي يظهر لي في مثل هذا المقام، و هو وقوع أم بعد همز التسوية الواقعة بعد كلمة سواء، و ما أبالي، و لا أدري، و ليت شعري، و نحوها، كما يقدّر المبتداء في قوله: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ «3» اي الأمران سواء، و سواء لا يثنّى و لا يجمع، فكأنّه في الأصل مصدر.

قال: و حكى أبو حاتم تثنيته و جمعه، و ردّه أبو علي، ثمّ اطنب الكلام في أنّ الفعل بعد تلك الأدوات يتضمن معنى الشرط و الاسميّة السابقة دالّة على جوابه،

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 42.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 42.

(3) سورة الطور: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 223

فقولك: سواء عليّ أقمت أم قعدت معناه ان قمت أو إن قعدت

فالأمران سواء و استشهد له باستهجان الأخفش وقوع الابتدائية بعدهما، و أمّا قوله: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «1».

فلتقدّم الفعليّة، و إلا لم يجز، و باستقباحه وقوع المضارع بعدهما و يدلّ عليه أنّ ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء على مثال الماضي نحو سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «2» و سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «3».

قال: و إنّما أفادت الهمزة فائدة إن الشرطيّة لأنّ إن تستعمل في الأغلب في أمر مفروض مجهول الوقوع و كذلك حرف الاستفهام يستعمل فيما لم يتيقّن حصوله فجاز قيامها مقامها مجردة عن معنى الاستفهام، و كذا أم جرّدت عن معناه و جعلت بمعنى او لأنّها مثلها في إفادة أحد الشيئين او الأشياء، و معنى سواء عليّ أ قمت أم قعدت إن قمت أو قعدت، و الدليل على أنّ سواء سادّ مسدّ جواب الشرط لا خبر مقدّم أنّ معنى سواء عليّ أقمت أم قعدت، و لا أبالي أقمت أم قعدت واحد في الحقيقة، و لا أبالي ليس خبرا للمبتدأ، بل المعنى إن قمت او قعدت فلا أبالي.

و إنّما اختصّ استعمال الهمزة و أم في هذا المعنى بما بعد سواء، و لا أبالي و ما يجري مجراهما لأنّ المراد التسوية في الشرط بين أمرين فاشترط فيما يقع موقع الجزاء أن يشتمل على معنى الاستواء قضاء لحقّ المناسبة، و لهذا وجب تكرير الشرط، و لم يصحّ لا أبالي أقام زيد.

و على هذا فالجملة الشرطيّة خبر إنّ، و المعنى إنّ الذين كفروا إن أنذرتهم أم

__________________________________________________

(1) الأعراف: 193.

(2) ابراهيم: 21.

(3) المنافقون: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 224

لم تنذرهم فهما سواء عليهم.

لا يُؤْمِنُونَ

حال من الضمير المجرور أو المنصوب، مؤكّدة لمضمون الجملة باعتبار كونها في مقام الإخبار عن الكفّار.

أو جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الإستواء.

و يجوز أن يكون بدلا، و أن يكون خبر إنّ.

او جملة معترضة مبيّنة لعلّة الحكم.

الإنذار و حقيقته

و الإنذار هو الإعلام و التخويف، أو لإبلاغ و لا يكون إلّا في التخويف كما في «الصحاح»، أو اكثر ما يستعمل فيه كما في «المصباح» كقوله تعالى: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ «1» أي خوّفهم عذابه، أو الإسلام و التحذير و التخويف في إبلاغه كما في «القاموس»، او إعلام معه تخويف كما في «مجمع البيان»، و لعلّ الاختلاف مبنيّ على المسامحة في التعبير، نعم قد يقال: إنّه تحذير من مخوّف يتّسع زمانه للاحتراز منه، فإن لم يتسع فهو إشعار.

و بالجملة هو إفعال من نذره بالفتح، و نذر به كفرح اي علمه فحذّره و بالهمزة يتعدّى إلى مفعولين كقوله تعالى: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً «2» و قد يتعدّى الى الثاني بالباء، نحو قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ «3».

__________________________________________________

(1) سورة الغافر: 18.

(2) النبأ: 40.

(3) الأنبياء: 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 225

و يظهر من الآيتين و غيرهما جواز اتّصافه تعالى به، و كذا اتصاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به، مضافا الى ما قيل من أنّ الإعلام يجوز و صفه به، و كذا التخويف لقوله تعالى:

ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ «1»، فإذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بما يشتمل عليهما او يتّحد بأحدهما

و في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال: أنا النذير العريان «2».

و هذا المثل كما في «القاموس» قيل لكل منذر محقّ لأنّ الرجل إذا أراد إنذار قومه

تجرّد عن ثيابه و أشار بها.

و لعلّ إطلاقه عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه المنذر بالحق، او أنه المتفرّد بالتجرّد مع الشواغل و العلائق في إعلاء كلمة الإسلام و تبليغ الحلال و الحرام، أو أنّه المتّصف بهذا الوصف في عالم التجرّد و الأنوار قبل خلق الأجسام لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان نبيّا و آدم بين الماء و الطين، و بعثه اللّه تعالى في عالم الأرواح إلى الملائكة و النبيّين، فهو البشير النذير، و السراج المنير، و الاقتصار عليه دون البشارة في المقام لكنه أوقع في القلب و أشدّ تأثيرا في النفس لأنّ دفع الضرر أهم من جلب النفع فحيث لم ينفع الإنذار لم تنفع البشارة بالأولويّة.

و إيثار الفعل على المصدر للدلالة على التجدّد و تكرر الوقوع، و نبو قلوبهم عن الإصغاء إلى ما فيه نجاتهم و حياتهم الأبديّة مع كمال مبالغته فيها و إصراره عليها.

__________________________________________________

(1) الزمر: 16.

(2) و من أمثال العرب في الإنذار: أنا النذير العريان قال ابن منظور في لسان العرب في لفظ نذر:

النذير العريان رجل من خثعم حمل عليه يوم الخلصة عوف بن عامر فقطع يده و يد امرأته ...

إلى ان قال: قال الأزهري: من أمثال العرب في الإنذار: انا النذير العريان، قال ابو طالب: إنّه قالوا له: النذير العريان لأنّ الرجل إذا رأى الغارة قد فجئتهم، و أراد إنذار قومه تجرّد من ثيابه و أشار بها ليعلم أن فجئتهم الغارة، ثم صار مثلا لكل شي ء تخاف مفاجئته.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 226

و حذف المفعول الثاني بواسطة أو بدونها للتنبيه على أنّهم لا يرتدعون عن غيّهم و انهماكهم في الشهوات بالإنذار بشي ء من

العقوبات على شي ء من فعل المعاصي و ترك الطاعات.

و إضافة التسوية إليهم للدالة على أنّها بالنسبة إلى حالهم، و إلّا فهو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد حاز فضل الإصرار، فضلا عن الإبلاغ.

و في صلتها بعلي إشعار باشتراكهم في نوع الضرر و إن افترقوا فيه بحسب الإقرار باعتبار الخصوصيّات.

بقي الكلام في أمور: أحدها أنّ في أَ أَنْذَرْتَهُمْ سبع قراءات:

القراءة

1- تحقيق الهمز كما عن عاصم، و حمزة، و الكسائي إذا حقّق لأنّه الأصل في كلّ همزة الاستفهام و الإفعال، إلّا أنّه قيل: إنّ التخفيف عند اجتماعها أفصح و اكثر «1».

2- و تخفيف الثانية بين بين، اي بين الهمزة و الألف في المقام لفتحها تخفيفا لنبرها، و تسهيلا لأدائها، كما هو المحكي عن نافع، و ابن كثير، و أبي عمرو و الكسائي إذا خفّف، و يقال: إنّه القياس.

3- و قلب الثانية ألفا كما في حكاية أهل مصر عن ورش، و قيل: إنّه لغة لبعض العرب إلحاقا للمتحركة بالساكنة، لكن في الكشّاف: أنّ فيه لحنا و خروجا من كلام العرب لوجهين: أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه، إذ

__________________________________________________

(1) الكشاف ج 1 ص 154.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 227

حدّه أن يكون الأول حرف لين و الثاني حرفا مدغما نحو «وَ لَا الضَّالِّينَ» و خويصّة «1»، و الآخر إخطاء طريق التخفيف لان طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين.

و أمّا القلب ألفا فهو تخفيف للساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس «2».

و قد يعتذر من الأوّل بانّ من يقلبها ألفا يشبع الألف إشباعا زائدا لتقوم مقام الحركة كما قري ء في «مَحْيايَ» «3» بإسكان الياء وصلا.

و من الثاني بقراءة منساته «4»

بقلب المتحركة ألفا، مع وقوعه في شعر حسّان «5»: «سالت هذيل رسول اللّه فاحشة» اي عن فاحشة، و مع ذلك كيف فكيف يكون خارجا عن كلام العرب «6».

4- و توسيط ألف بينهما محقّقين كما عن ابن عامر استثقالا لاجتماع المثلين كما فصل بين النونين في نحو اضربنانّ استثقالا لاجتماع النونات، و منه قول ذي الرمة «7»:

فيا ظبية الوعساء بين جلاجل و بين النقاء ءاأنت امّ سالم «8» 5- و توسيطها بينها و الثانية بين بين تخفيفا لها من جهتي الفصل و التليين، لأنّك إذا ليّنتها فقد أمتّها، و صار اللفظ كأنّه لا استفهام فيه، ففي المدّ توكيد الدلالة على

__________________________________________________

(1) خويصّة الإنسان: الّذي يختصّ بخدمته.

(2) الكشاف ج 1 ص 154- 155.

(3) سورة الانعام: الآية 162.

(4) سورة سبأ: 14.

(5) حسّان بن ثابت الانصاري الشاعر توفّي سنة (54) عن مائة و عشرين سنة.

(6) حاشية الكشّاف للسيّد الشريف الجرجاني ج 1 ص 154.

(7) ذو الرمة: غيلان بن عقبة من فحول شعراء العرب مات بأصبهان سنة (117) ه.

(8) مجمع البيان ج 1 ص 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 228

الاستفهام كما في تحقيق «1».

فهذه وجوه خمسة، و أمّا الأخيرتان المشتركتان في الضعف فالاولى:

الاكتفاء بالثانية إطراحا لهمزة الاستفهام كما قال عمر بن «2» أبي ربيعة:

لعمرك ما أدري و إن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمان و الاخرى: إلقاء حركة الهمزة المحذوفة على الميم لتليين الاولى و تحقيق الثانية، فإنّ العرب إذا ليّنوا الهمزة المتحركة و قبلها ساكن ألقوا حركتها على ما قبلها و قالوا: من بوك، و من مك، و كم بلك «3».

و عن ابي اسامة في شرح الشاطبيّة

أنه حكى عن حمزة في أَ أَنْذَرْتَهُمْ نقل حركة الاولى و تسهيل الثانية على فرض التحقيق في السابقة، فهي ثامنة.

و منه يتّضح سقوط اعتراض شرّاح الكشّاف على عبارته.

جواز التكليف بالمحال و عدمه

الثاني من الأمور أنّ هذه الآية و نحوها ممّا تضمّنت الإخبار عن عدم إيمان أشخاص بأعيانهم كقوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «4»، ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «5» مما استدلّت بها الأشاعرة على جواز التكليف بالمحال و وقوعه على ما هو المشهور عنهم، بل

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 41.

(2) هو ابو الخطّاب عمر بن عبد اللّه بن ربيعة القرشي الشاعر المشهور توفي سنة (93) ه.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 41.

(4) يس: 7.

(5) المدثر: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 229

و على نفي الاختيار، و اثبات الجبر في الأفعال.

و قرّروه مرّة بأنّه سبحانه أخبر عن قوم بأعيانهم بعدم الإيمان مع الإنذار و عدمه، فلو آمنوا لا نقلب هذا الخبر كذبا، و الكذب محال على اللّه تعالى، و المفضي الى المحال محال فكان صدور الايمان عنهم محالا مع أنّه تعالى كان يأمرهم به فكانوا مكلّفين بالمحال.

و اخرى بأنّه تعالى عالم في الأزل بأنّهم لا يؤمنون، و صدور الإيمان منهم يستلزم انقلاب علمه جهلا، و هو محال و ما يستلزم المحال محال و التكليف متحقق فالأمر بالمحال واقع.

و ثالثة بأنّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان، و من جملة ما يؤمن به تصديق اللّه تعالى فيما أخبر عنه بأنّه لا يؤمن فقه صار مكلّفا بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن و هذا تكليف بالجمع بين النقيضين.

و رابعة بأنّ علمه سبحانه بعدم إيمانهم مطابق المعلوم البتة،

و المطابقة إنّما تحصل إذا كان الواقع عدم الإيمان، و ايمانهم يقتضي وجوده فتكليفهم تكليف بالجمع بين وجوده و عدمه.

و خامسة بأنّ القدرة على خلاف ما علمه سبحانه قدرة على قلب علمه جهلا، و هو محال فالقدرة منتفية و الخطاب متعلّق فالتكليف بما لا يطاق ثابت.

و سادسة بأنه تعالى عاب الكفّار على أنهم حاولوا فعل شي ء على خلاف ما أخبر عنه في قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ «1»، و ذلك منهي عنه، و ترك محاولة الإيمان يكون أيضا مخالفة لأمر اللّه فيكون الذم حاصلا على الترك و الفعل.

قال الرازي في تفسيره: هذا الكلام هو الهادم لأصول الاعتزال، و لقد كان

__________________________________________________

(1) الفتح: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 230

السلف و الخلف من المحققين معوّلين عليه في دفع اصول المعتزلة و هدم قواعدهم، و لقد قاموا و قعدوا و احتالوا في دفعه فما أتوا بشي ء مقنع «1».

و قال في «اربعينه» بعد التقرير الثاني: لو أنّ جملة العقلاء اجتمعوا و أرادوا أن يوردوا على هذا الكلام حرفا لما قدروا عليه، إلّا أن يلتزموا مذهب هشام بن الحكم «2» و هو أنّه تعالى لم يعلم الأشياء قبل وجودها لا بالوجود و لا بالعدم، إلّا أنّ اكثر المعتزلة يكفّرون من يقول بهذا القول.

أقول: أمّا استحالة التكليف بما لا يطاق فلعمري إنّه من الضروريّات القطعيّة الّتي قامت عليها دلائل العقل و السمع حسبما حرّره أصحابنا الإماميّة عطّر اللّه مراقدهم في الأصولين، و لعلّك تسمع جملة مقنعة من البحث عنها في تفسير قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «3»، و تشكيك أمثالهم من المشكّكين لا يقدح في العلم بكونها ضرورية بعد بناء أصولهم على إنكار البديهيّات كإنكار

الحسن و القبح و الاختيار، و تجويز الظلم، و القول بالجبر الّذي منشأة هذه الشبهة الى غير ذلك ممّا التزموا به، أو يلزمهم على أصولهم من القول بنفي التكاليف و إنكار النبوّات، و إنكار الثواب و العقاب الى غير ذلك من الفضائح الكثيرة الّتي لا يهمّنا البحث عنها في المقام، بل نقتصر على الجواب من شبهة العلم و الإخبار الّتي بها افتخار الشياطين و تشكيك المشكّكين و ابتغاء الفتنة لهدم أصول الشريعة و قواعد الدين.

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي ج 2 ص 42- 43.

(2) هشام بن الحكم كان من أصحاب الصادق و الكاظم عليه السّلام له أصل و كتب كثيرة و مناظرات مع المخالفين دلّت على جلالته و عظمته و ما نسب إليه الرازي ليس إلا افتراء عليه، كما سيصرّح المصنّف قدّس سرّه بأنه افتراء.

(3) البقرة: 286.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 231

جواب شبهة العلم و الإخبار

فنقول: يمكن الجواب عنها بوجوه:

الأول: معارضتها بالآيات الكثيرة الدالّة على أنّه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «1»، و إِلَّا ما آتاها «2»، و أنّه ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3».

و على أنّه لا مانع لأحد من الإيمان، و أنّهم يستحقّون الذمّ و الإنكار بتركه كقوله تعالى: وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى «4»، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «5» فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «6»، وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ «7»، ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «8».

فلو كانوا ممنوعين من الإيمان غير قادرين عليه لما استحقّوا الذمّ و العقاب ألبتة، و كيف يجوّز من له حظّ من الشعور أن يأمر المولى عبده بالطيران في الهواء

مع علمه بعجزه عن ذلك، أو يكلّفه بالذهاب الى السوق مع حبسه عنه بحيث لا يقدر عليه، ثم يذمّه و يعاقبه على العصيان و المخالفة.

ألا ترى أنّ العقلاء مطبقون حينئذ على ذمّه و توبيخه و الحكم عليه بارتكاب

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 286.

(2) سورة الطلاق: 7.

(3) سورة الحج: 78.

(4) الإسراء: 94- الكهف: 55.

(5) سورة المدثر: 49.

(6) الانشقاق: 20.

(7) سورة النساء: 39.

(8) سورة الأعراف: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 232

القبيح و الظلم، فهل ترى اللّه سبحانه و هو العليم الحكيم الرءوف الرّحيم أن يرتكب ما ينسب فاعله الى السفاحة و سخافة الرأي و الجهالة و الظلم.

و لقد أجاد فيما أفاد الصاحب بن عبّاد «1» حيث قال: كيف يأمر اللّه الكفار بالإيمان و قد منعهم عنه أو ينهاهم عن الكفر و قد حملهم عليه، و كيف يصرفهم عن الايمان ثم يقول: أَنَّى يُصْرَفُونَ «2» و خلق فيهم الإفك ثمّ قال: أَنَّى يُؤْفَكُونَ* «3»، و جعل فيهم الكفر، ثمّ يقول: كَيْفَ تَكْفُرُونَ* «4»، و جبّلهم على الصد، ثمّ يقول: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «5» و حال بينهم و بين الايمان ثم قال:

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ «6» و ذهب بهم عن الرشد ثم قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ «7» و أضلّهم حتّى أعرضوا عن الدين، ثم قال: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «8».

و اعلم أنّ التعبير بالمعارضة إنّما هو مع تسليم ما ذكروه من دلالة الآية على وقوع التكليف بما لا يطاق و لو بمعونة ما ذكروه من المقدّمات، و إلّا فعلى ما هو الحقّ من عدم دلالة الآية أصلا فلا تعارض بينهما على وجه حسبما تسمع.

الجواب الثاني النقض

بعلمه سبحانه بالنسبة إلى أفعاله و تروكه، حيث إنّه يلزم على ما قرّروه أن لا يكون سبحانه قادرا على شي ء من الممكنات الّتي يوجد

__________________________________________________

(1) هو أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد الطالقاني المتوفى (385) ه.

(2) المؤمن: 69.

(3) المائدة: 75.

(4) البقرة: 28.

(5) آل عمران: 99.

(6) النساء: 39.

(7) التكوير: 26.

(8) المدثر: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 233

في ظرف الخارج أولا، فإنّ ما علم وقوعه واجب الوقوع، و الّذي علم عدم وقوعه و لو مع إمكانه الذاتي فهو ممتنع الوقوع، كيف و لو وجد هذا، أو لم يوجد الأوّل لا نقلب علمه جهلا حسبما قرّروه، و قضيّة بطلانه سلب القدرة عنه، و هو كفر صريح على اتفاق منهم.

بل و يلزمهم نفي القدرة من العبيد أيضا فيما ينسب إليهم من الأفعال و التروك، لأنّ ما علم اللّه تعالى وقوعه منهم كان واجب الوقوع و الّذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع، و لا قدرة على الواقع و لا على الممتنع و الضرورة قاضية بإثبات القدرة بالنسبة الى طرفي الفعل، مضافا الى خصوص ما ذكرناه في غير هذا الموضع من اثبات الاختيار.

الثالث ما ينحلّ به أصل الشبهة، و هو أنّ قضيّة العلم انكشاف، الواقع على ما هو عليه لا التأثير في وقوعه أو تغيّره عمّا هو عليه، و لذا لو فرضنا فاعلا يصدر عنه أفعاله باختياره، و فرضنا أن لا علم لأحد بشي ء من أفعاله بوجه كانت أفعاله جارية على ما هو عليه من الاختيار، فلو فرضنا علم عالم بها قبل وقوعها منه فمن البيّن أنّه لا يتغيّر حال ذلك الفاعل المختار في الواقع من جهة علم العالم بها و لو مع فرض

استحالة عدم مطابقة علم ذلك العالم للواقع، لأنّ مرجعها إلى استحالة انكشاف غير ما يقع من الفاعل باختياره له، لا إلى تأثير علمه في وقوع ما يقع منه.

ألا ترى أنّ علمك بحرارة النار، و إضائة الشمس و طلوعها في غد، و قيام الساعة و نحوها من المعلومات الحالية أو الآتية ممّا تقضي به الضرورة القطعيّة بحيث لا تجد مساغا للشكّ فيها و لا لاحتمال مخالفتها للواقع، و مع ذلك فأنت تعلم علما ضروريّا بأنّه لا تأثير لعلمك في شي ء منها و لا مدخليّة له في وقوعها أصلا، و بالجملة لا فرق بين أن يكون متعلّق العلم من الأفعال الإراديّة أو الطبيعيّة أو الإبداعيّة في عدم التأثير فيها بتغيّرها عمّا هي عليها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 234

و من هنا يتّضح الجواب عن أصل الشبهة بوجوهها المقرّرة.

أمّا على التقرير الأوّل فلأنّه سبحانه إنّما أخبر عنهم بعدم الإيمان لكونه هو الواقع منهم باختيارهم، و لو كانوا يختارون الإيمان فكان سبحانه يخبر عنهم بالإيمان، ألا ترى أنّه لو أخبرك مخبر صادق بأنّ زيدا يعطيك درهما بإرادته و اختياره فلا ريب انّه في حال الإعطاء قادر مختار و قد اختار بإرادته الإعطاء، و لو شاء لم يعطك الدرهم، لكنّه لمّا كان يختار الإعطاء تعلّق به علم العالم و إخباره، و هو واضح جدّا.

و لذا ترى كثيرا من الذاهبين الى مذهب الأشعريّة و المعتقدين بأصولهم قد ضعّفوا الاستدلال بالآية، حتى أنّ القاضي «1» قال: و الحقّ أنّ التكليف بالممتنع لذاته و إن جاز عقلا من حيث إنّ الأحكام لا يستدعى غرضا سيّما الامتثال لكنّه غير واقع للاستقراء، و الإخبار بوقوع الشي ء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه، كإخباره تعالى عما

يفعله هو أو العبد باختياره.

و ممّا ذكرناه يظهر الجواب عن الثاني أيضا.

و عن الثالث أنّ أبا لهب كان مكلّفا بالإيمان و لم يؤمن بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لمّا علم سبحانه أنّه لم يؤمن و لا يؤمن بعد ذلك أخبر عمّا يقع منه و لو كان في الواقع ممّن يؤمن لكان خبر الصادق مطابقا له، فهو مكلّف بتصديق الصادق و صدق كفره إنّما لوقوعه في متن الواقع فكان من مصاديق الصدق و إذا لم يكن منه كفر فلا علم و لا إخبار و لا تكليف بالتصديق بعدم الإيمان و إن كان التكليف بالتصديق مستمرّ.

و منه يظهر الجواب عن الرابع أيضا.

__________________________________________________

(1) هو القاضي الباقلاني ابو بكر محمد بن الطيّب البغدادي ناصر طريقة الاشاعرة توفّي سنة (403) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 235

و عن الخامس أنّه و إن لم يكن للعبد قدرة على قلب علمه تعالى إلّا أنّ ذلك لا ينافي القدرة على خلاف ما اختاره، فإنّ الإيمان من كل أحد ممكن في ذاته و القدرة قائمة بالنسبة إليه وجودا و عدما، و لا بدّ أن يكون علمه بالفعل الاختياري على ما هو عليه من وقوعه من فاعله على وجه الإختيار، و حينئذ فيرجع الحاصل إلى أنّه سبحانه عالم بأنّ الفاعل المختار يفعل كذا مختارا حال قدرته على خلاف ما يفعله.

و أمّا استحالة قلب علمه سبحانه جهلا فمرجعها إلى استحالة علمه تعالى بخلاف ما يقع منك بقدرتك إلى استحالة قدرتك على خلاف ما علمه، فأنت قادر في نفسك على خلاف ما علمه، و إن استحال في حقّه سبحانه أن يعلم خلاف ما تعمله.

و عن السّادس أنّه اجنبيّ عن المقام حسبما تسمعه

في تفسير الآية ان شاء اللّه تعالى.

و أمّا ما يقال في الجواب من أصل الشبهة: من أنّ الإيمان في نفسه ممكن، فلو تعلّق علم الواجب بإيجابه كان جهلا، أو بامكانه فلا يكون واجبا، و لو انقلب بالعلم واجبا لكان العلم مؤثّرا في الانقلاب و هو غير معقول.

فمرجعه الى ما سمعت، و إن كان لا يخلو من تسامح في التعبير.

و كذا ما يحكى عن المحقّق الطوسي: من أنّ العلم تابع للمعلوم فلا يكون مقتضيا للوجوب أو الامتناع.

نعم قد يورد عليه بأنّه إنّما يستقيم في العلم الانفعالي لا الفعلي، و فيه تأمّل يظهر بما ستسمعه في معنى علمه المتعالي عن إحاطة البشر به و بكيفيته، فإنّه عين ذاته بلا مغايرة أصلا، نعم نعلم أنّه لا يخفى عليه شي ء كما علّمنا في كتابه.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما سمعت عن الرازي الناشئ عن فرط

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 236

قصوره، و ضعف شعوره حيث تعامى عن الحق فلم يشعر بحسّه و لمسه، و قاس غيره بنفسه.

و أغرب من ذلك ما افتراه على هشام، مع أنّه من أجلّاء أصحابنا في الكلام، و من خواصّ الإمام عليه الصلاة و السّلام، و له إلزامات و تشنيعات على المخالفين حتى اشتهر بذلك بين الفريقين، و لعلّه مضافا الى عدم فهم مقاصده هو العمدة في نسبة أمثال تلك الافتراءات عليه حتى حكى الرازي في تفسيره عنه أنه قال: إنّ اللّه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، أو أنه يجوز البداء على اللّه تعالى، و أنّه قال:

إنّ قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ ... إنّما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة و يجوز أن يظهر له خلاف ما ذكره. و هو

كما ترى فرية بلا مرية.

إعجاز الآية الكريمة

في هذه الآية معجزة من حيث تضمّنها للإخبار من الغيب الّذي هو عدم إيمان هؤلاء الكفّار فيما بعد بناء على نزولها في حقّ أشخاص بأعيانهم على ما

روي عن مولانا الإمام العسكري عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قدم المدينة و ظهرت آثار صدقه و آيات حقّه، و بيّنات نبوّته كادته اليهود أشدّ كيد، و قصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها، و حججه ليبطلوها، فكان ممّن قصده بالردّ عليه و تكذيبه مالك بن الصيف، و كعب بن الأشرف، و حييّ بن الأخطب، و أبو ياسر بن الأخطب، و أبو لبابة بن عبد المنذر فقال مالك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا محمّد تزعم أنّك رسول اللّه؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كذلك قال اللّه خالق الخالق أجمعين، قال: يا محمد لن نؤمن أنّك رسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الّذي تحتنا، و لن نشهد أنّك من اللّه جئتنا حتّى يشهد لك هذا البساط.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 237

و قال أبو لبابة بن عبد المنذر: لن نؤمن لك يا محمّد أنّك رسول اللّه و لا نشهد لك به حتى يؤمن و يشهد لك به هذا السوط الّذي في يدي.

و قال كعب بن الأشرف: لن نؤمن لك أنّك رسول اللّه و لن نصدّق به حتى يؤمن لك هذا الحمار الّذي أركبه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه ليس للعباد الاقتراح على اللّه تعالى، بل عليهم التسليم للّه، و الانقياد لأمره و الاكتفاء بما جعله كافيا، أما كفاكم أن أنطق

التوراة و الإنجيل و الزبور و صحف ابراهيم بنبوتي، و دلّ على صدقي، و بيّن فيها ذكر أخي و وصيّي، و خليفتي في أمّتي، و خير من أتركه على الخلائق من بعدي علي بن أبي طالب، و أنزل عليّ هذا القرآن الباهر للخلق أجمع، المعجز لهم أن يأتوا بمثله و إن تكلّفوا شبهه، و أمّا هذا الّذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربّي عزّ و جل، بل أقول:

إنّ ما أعطانيه ربّي تعالى من دلالته هو حسبي و حسبكم فإن فعل عزّ و جل ما اقترحتموه فذاك زائد في تطوّله علينا و عليكم، و ان منعنا ذلك فلعلمه بأن الّذي فعله كاف فيما أراده منّا.

قال: فلمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كلامه هذا انطق البساط فقال: أشهد أن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا صمدا قيّوما أبدا لم يتّخذ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً و لم يشرك فِي حُكْمِهِ أَحَداً، و أشهد أنّك يا محمّد عبده و رسوله أرسلك بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ*، و أشهد أنّ علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك و وصيّك و خليفتك في امّتك و خير من تركته على الخلائق بعدك، و أنّ من والاه فقد والاك، و من عاداه فقد عاداك، و من أطاعه فقد أطاعك، و من عصاه فقد عصاك، و من أطاعك فقد أطاع اللّه و استحق السعادة برضوانه، و أنّ من عصاك فقد عصى اللّه و استحق أليم العذاب.

قال: فعجب القوم، و قال بعضهم لبعض: ما هذا إلّا سحر مبين، فاضطرب

تفسير الصراط

المستقيم، ج 4، ص: 238

البساط و ارتفع و نكّس مالك بن الضيف و أصحابه عنه حتى وقعوا على رؤوسهم و وجوههم، ثمّ أنطق اللّه تعالى البساط ثانيا، فقال: أنا بساط أنطقني اللّه و اكرمني بالنطق بتوحيده و تمجيده و الشهادة لمحمّد نبيّه بأنّه سيّد أنبيائه و رسله الى خلقه، و القائم بين عباد اللّه بحقّه، و بامامة أخيه و وصيّه، و وزيره، و شقيقه و خليله، و قاضي ديونه، و منجر عداته و ناصر أوليائه، و قامع أعدائه، و الانقياد لمن نصبه إماما و وليّا، و البراءة ممّن اتخذ منابذا و عدوّا، فما ينبغي لكافر أن يطئني و لا أن يجلس عليّ، إنّما يجلس عليّ المؤمنون.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسلمان، و مقداد، و أبي ذرّ، و عمّار: قوموا فاجلسوا عليه.

ثم أنطق اللّه سوط أبي لبابة بن عبد المنذر، فقال: أشهد أن لا اله إلّا اللّه، خالق الخلق، و باسط الرزق، و مدبّر الأمر و القادر على كل شي ء، و أشهد أنّك يا محمّد عبده و رسوله و صفيّه و خليله، و حبيبه، و نجيّه، و جعلك السفير بينه و بين عباده لينجي، بك السعداء، و يهلك بك الأشقياء، و أشهد أنّ علي بن أبي طالب المذكور في الملأ الأعلى بأنّه خير الخلق بعدك، و أنّه المقاتل على تنزيل كتابك ليسوق مخالفيه الى قبوله طائعين و كارهين، ثم المقاتل بعدك على تأويله المنحرفين الذين غلبت أهوائهم عقولهم، فحرّفوا تأويل كتاب اللّه و غيّروه، و السابق الى رضوان اللّه أولياء اللّه بفضل عطيّته، و القاذف في نيران اللّه اعداء اللّه بسيف نقمته، و المؤثرين لمعصيته و مخالفته.

قال: ثم انجذب السوط من يد

أبي لبابة و جذب أبا لبابة فخرّ لوجهه، ثم قام بعد فجذبه السوط فخرّ لوجهه ثمّ لم يزل كذلك مرارا حتى قال أبو لبابة: و يلي ما لي؟ فانطق اللّه عزّ و جلّ السوط، فقال: يا أبا لبابة إنّي سوط قد انطقني اللّه بتوحيده، و اكرمني بتحميده، و شرّفني بتصديق نبوّة محمّد سيّد عبيده، و جعلني ممّن يوالي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 239

خير خلق اللّه بعده، و أفضل أولياء اللّه من الخلق أخيه و المخصوص بابنته سيّدة النسوان، و المشرّف ببيتوتته على فراشه أفضل الجهاد، و المذلّ لأعدائه بسيف الانتقام، و المبيّن لأمّته علوم الحلال و الحرام، و الشرائع و الأحكام، ما ينبغي لكافر مجاهر بالخلاف على محمد أن يبتذلني و يستعملني، لا أزال أجذبك حتّى أثخنك ثمّ أقتلك و أزول عن يدك، أو تظهر الايمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال أبو لبابة: فأشهد بجميع ما شهدت به أيّها السوط و اعتقده و أؤمن به، فنطق السوط: ها أنا ذا قد تقرّرت في يدك لإظهارك الإيمان، و اللّه أعلم بسريرتك، و هو الحاكم لك أو عليك في يوم الوقت المعلوم.

قال عليه السّلام: و لم يحسن إسلامه، و كانت منه هنات، و هنات.

فقام القوم من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجعلت اليهود يسرّ بعضها إلى بعض بأنّ محمّدا لمؤتى له، و مبخوت «1» في أمره، و ليس بنبيّ صادق.

و جاء كعب بن الأشرف يركب حماره فشبّ به الحمار و صرعه على رأسه فأوجعه، ثمّ عاد ليركبه فعاد إليه الحمار بمثل صنيعه، ثم عاد ليركبه فعاد عليه الحمار بمثل صنيعه، فلمّا كان في السابعة أو الثامنة أنطق

اللّه تعالى الحمار فقال: يا عبد اللّه بئس العبد أنت، شاهدت آياتي و كفرت بها.

أنا حمار قد اكرمني اللّه بتوحيده، فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، خالق الأنام ذو الجلال و الإكرام، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، سيّد أهل دار السّلام، مبعوث لإسعاد من سبق علم اللّه له بالسعادة، و إشقاء من سبق الكتاب عليه بالشقاوة و اشهد أنّ علي بن أبي طالب وليّه و وصيّ رسوله، يسعد اللّه من يسعده إذا وفّقه اللّه لقبول موعظته، و التأدب بأدبه، و الايتمار بأوامره و الانزجار بزواجره، و أنّ

__________________________________________________

(1) المبخوت: المحظوظ في أمره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 240

اللّه تعالى بسيوف سطوته وصولات نقمته يكبّت و يخزي أعداء محمّد حتى يسوقهم بسيفه الباتر و دليله الواضح الباهر إلى الايمان به، أو يقذفه اللّه في الهاوية إذا أبي إلّا تماديا في غيّه، و امتدادا في طغيانه و عمهه «1».

ما ينبغي الكافر أن يركبني، بل لا يركبني إلّا مؤمن باللّه مصدّق بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أقواله مصوّب له في جميع أفعاله و في فعل أشرف الطاعات في نصبه أخاه عليّا وصيّا و وليّا، و لعلمه وارثا، و بدينه قيّما، و على امّته مهيمنا، و لديونه قاضيا، و لعداته منجزا، و لأوليائه مواليا، و لأعدائه معاديا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا كعب بن الأشرف حمارك خير منك قد أبي أن تركبه، فلن تركبه أبدا، فبعه من بعض إخواننا المؤمنين.

فقال كعب: لا حاجة لي فيه بعد أن ضرب بسحرك، فناداه حمار: يا عدوّ اللّه كفّ عن تجهّم محمّد رسول اللّه،

و اللّه لولا كراهيّة مخالفته لقتلتك و وطأتك بحوافري، و لقطعت رأسك بأسناني، فخزي و سكت، و اشتدّ جزعه ممّا سمع من الحمار، و مع ذلك غلب عليه الشقاء، و اشترى منه الحمار ثابت بن قيس بمائة دينار، و كان يركبه و يجي ء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو تحته هيّن ليّن ذليل كريم يقيه المتالف، و يرفق به في المسالك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا ثابت هذا لك و أنت مؤمن ترتفق بحمار مؤمن.

فلمّا انصرف القوم من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لم يؤمنوا أنزل اللّه يا محمّد:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ، و وعظتهم و خوّفتهم، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، لا يصدّقون بنبوتك، و هم قد شاهدوا هذه الآيات و كفروا فكيف

__________________________________________________

(1) العمه: التحيّر و التردّد في الضلال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 241

يؤمنون بك عند قولك و دعائك «1».

[سورة البقرة(2): آية 7 ]

اشارة

تفسير الآية (7) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ لمّا أخبر سبحانه بأنّهم لا يختارون الإيمان، و أنّ الإنذار و عدمه عليهم سيّان، أشار في هذه الآية إلى ما هو بمنزلة التعليل لا حكمين، مع ما فيها من التنبيه على ترتبه بين المسببين و الإشارة إلى الأمر بين الأمرين.

و الختم نظير الطبع و هو التأثير في الطين و نحوه، يضرب الخاتم عليه (بالفتح) و الختام: الطين، يختم عليه لكتمه، و من هنا قيل: الختم و الكتم أخوان، و ختمت القرآن: بلغت آخره، و ختم له بالخير: انتهى اليه خاتمته و هي عاقبته و آخرته،

معنى الختم و القلب

و ختم على قلبه: جعله لا يفهم شيئا و لا يخرج منه شي ء من الخير، كأنّه وسم بعلامته، او ضرب عليه ما يمنعه من دخول الخير منع الختام الأواني.

و الصلة في مثله بعلي، و في مثل ختم له بالخير باللام، و لم يسمع استعماله من دون صلة، و إن قيل: لا يمتنع فيه ذلك.

__________________________________________________

(1) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 33- 36 و عنه بحار الأنوار ج 17 ص 302- 307 ح 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 242

معنى القلب و أقسامه

و القلب قلبان:

قلب ظاهري، و هو اللحم الصنوبري الّذي له أذنان و تجويفان يتخلص إليه لطائف الكيموس فتستحيل فيه بخارا يتكون منه الروح الحيواني الّذي هو أصل الأرواح و مادّتها و مركبها.

و قلب باطني، و هو لطيفة ربانيّة يعبّر عنها باللبّ، و العقل، و الفؤاد، و الروح، و النفس، و المشار إليه بأنا، و مقرّ اليقين، و مدرك المعاني، و ملك البدن، و غيرها من الألقاب الّتي إذا اجتمعت افترقت، و إذا افترقت اجتمعت، و هو بالمعنيين المضغة الّتي في بدن ابن آدم إذا صلحت صلح البدن كلّه، و إذا فسدت فسد البدن كلّه.

و سمّي ذلك لتقلّبه في معاني مدركاته، و انقلابه بخواطره، و لذا قيل:

ما سمّي القلب إلّا من تقلّبه و الرأي يعزب و الإنسان أطوار أو لأنّ قلب كل شي ء خالصه و لبّه، أو لأنّه الأوسط من قلب النخلة لشحمتها، او أجود خوصها، أو لأنّه تقلب فيه المعاني أي تفرغ.

أو أنّه قالب الخواطر بفتح اللام على الأكثر لانطباعها فيه على حسب هيئته و شكله، فإنّ القلب الصالح يخطر فيه الأفكار الحسنة، و النيّات الصالحة، و ينبعث منه العزم و القوّة

على الطاعات، و القلب الطالح لا يخطر فيه إلّا الشرور و القبائح و الوساوس الشيطانيّة، و الأوهام الرديّة الحيوانيّة، و ينبعث منه الحيل و الانحرافات، و اتّباع الشهوات.

و في الخبر: القلوب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك، و إن أدركه على إيمانه نجى، و قلب منكوس، و هو قلب المشرك، و قلب مطبوع و هو قلب المنافق، و قلب أزهر أجرد، و هو قلب المؤمن، فيه كهيئة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 243

السراج، إن أعطاه اللّه شكر، و إن ابتلاه صبر «1».

و هذا الأخير هو المشار إليه في الآية الكريمة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ «2»، اي حاضر القلب، فإنّ أصحاب القلوب هم العلماء الربّانيون، و أرباب الأسماع هم المتعلّمون على سبيل النجاة، و الفرقة الثالثة همج رعاع، أتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح، و هم المشار إليهم بالآيات المشتملة على الختم و الطبع، و نحوهما.

و أمّا ما في «الذهبية» الّتي كتبها مولانا الّرضا عليه التحية و الثناء إلى المأمون

حيث قال: فملك الجسد هو القلب، و العمّال هم العروق و الأوصال و الدماغ، و بيت الملك قلبه، و أرضه الجسد ... الخبر «3».

فالمراد بالقلب الأوّل هو الروح، و بالثاني اللحم الصنوبري، أو الأوّلي النفس، و الثاني الروح البخاري.

و بالجملة للقلب إطلاقات كثيرة في الكتاب و السنّة، و ربما يخصّ كلّ من النفس، و الروح، و الصدر، و القلب، و العقل، و الفؤاد، و سرّ الفؤاد بمعنى من المعاني، أو مرتبة من المراتب، و كأنّه اصطلاح حادث فلا مشاحّة فيه، لكنّه لا يحمل عليها المطلقات من تلك الألفاظ،

فإنّها بالنسبة الى تلك الألفاظ شرع سواء، نعم ربما يستفاد من خصوص المقام إرادة البعض.

و يقال كلّ من السمع و البصر للجارحة، و للقوّة، و لفعلها، و بمعنى المفعول، و لإدراك النفس، و هو من مشاعر القلب الباطنة كما أنّ الحاسّتين من مشاعرها

__________________________________________________

(1) منقول بالمعنى عن البحار ج 67 ص 50 عن معاني الاخبار ص 395.

(2) سورة ق: 37.

(3) بحار الأنوار ج 59 ص 309 ط بيروت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 244

الظاهرة، و يقال: البصيرة في مقابلة البصر، و بصرت (بضم الضاد و كسرها) أي علمت بصرا.

علّة وحدة السمع

و إنّما وحّد السمع لاعتبار الأصل فإنّه في الأصل مصدر، و المصادر لا يثنّى و لا يجمع، كقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «1»، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ «2»، وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ «3».

أو للأمن من اللبس كما في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعيشوا.

يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمنوا كقولك: عبدهم، و دارهم و أنت تريد الجمع رفضوه.

أو على تقدير مضاف مثل و على حواسّ سمعهم، و هو كما ترى، مضافا الى اشتراك الكلّ في إفادة صحّة إفراده لا إيثار إفراده من بين أخويه.

و عن سيبويه: أنّه و إن وحّد لفظه إلّا أنّه ذكر مال قبله و ما بعده بلفظ الجمع.

و عن بعضهم: أنّ النكتة في توحيده أنّ مدركاته نوع واحد و هو الصوت، و مدركاتهما أنواع مختلفة.

و ما قيل: من أنّ دلالة وحدته على وحدة متعلّقه لا تعلم من أيّ الدلالات مدفوع بأنّها من الدلالات الالتزاميّة الّتي يكتفى فيها بأيّ لزوم كان، و لو بحسب الاعتقاد في اعتبارات البلغاء.

__________________________________________________

(1) سورة ص: 21.

(2) سورة

الذاريات: 24.

(3) سورة فصّلت: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 245

و لكن مع ذلك كلّه لا يخفى أنّ كلّها تكلّفات و تخرّصات و المتّجه هو الوجه الأوّل.

و توهّم أنّ القلب و البصر مشتركان معه في النقل من المصدريّة مدفوع بأنّه قد غلب عليهما حكم الإسم دون السمع لبقائه على حكم الأصل و لذا وحّد لفظا و لو في سياق الجمع كما ذكر في القرآن كقوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «1»، و أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ «2»، وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ* «3»، وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ «4»، وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً «5».

الآية مع أنّ مرادفه على بعض الوجوه و هو الأذن قد جمعت في مثل هذا السّياق كلّما ذكرت كقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها «6»، أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها «7»، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها «8»، وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ «9».

__________________________________________________

(1) الشعراء: 212.

(2) يونس: 31.

(3) النحل: 78.

(4) المؤمنون: 78.

(5) الأحقاف: 26.

(6) الأعراف: 179.

(7) الحجّ: 46.

(8) الأعراف: 195.

(9) فصّلت: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 246

و من التّأمّل في هذه الآيات و غيرها ممّا مرّ يظهر أنّه لا يجدي جعل السّمع عبارة عن القوّة و الأذن عبارة عن الجارحة او العكس، و لأكون أحدهما من الحواس الظّاهرة و الآخر من

الباطنة، بل الأولى ما سمعت و يؤيّده ما في «القاموس» قال: السّمع حسّ الأذن و الأذن إلى أن قال: و يكون للواحد و الجمع آه.

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه انّ السّمع دلّ على ذلك فلا يقاس عليه غيره حتّى الأذن، نعم إذا كان بمعنى المقابل لما يقال له كان للواحد و الجمع كالسّمع كما أنّه قد دلّ على تأنيث الأذن فلا يقاس عليه السّمع.

و الغشاوة و الغشوة بالتّثليث فيهما هو الغطاء و كذا الغشاء بالكسر.

قال في «المصباح»: هو اسم من غشّيت الشّي ء بالتثقيل إذا غطيته و يقال: إنّ هذا البناء و هو فعالة لما يشتمل على الشي ء كالعصابة و العمامة و القلادة، و كذلك كلّ ما استولى على شي ء فان اسم ما استولى عليه الفعالة كالإمارة و الخلافة إمّا تسمية أسماء الصّناعات بها كالخياطة و النّساجة و القصارة فلما في معنى الصّناعة من الحياطة الحاصلة بالمزاولة و حصول الملكة.

و «عَلى سَمْعِهِمْ» و إن احتمل اتّصاله بما قبله و بما بعده إلّا أنّ الأوّل أولى، فيكون معطوفا على قلوبهم للتخلّص عن مخالفة الأصل من تقديم ما حقّه التّأخير و حذف المبتدا على وجه، و لما يأتي عن الإمام عليه السّلام في تفسيره لمعنى الختم حسبما تسمع، و للوقف عليه اتفاقا على ما قيل، و لقوله: وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «1».

و لأنّ القلب و السّمع لمّا اشتركا في الإدراك من جميع الجهات جعل ما يمنعهما من فعلهما الختم المانع من جميع الجهات بخلاف الأبصار الّتي إدراكها

__________________________________________________

(1) الجاثية: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 247

مختص بجهة المقابلة و المحاذات و لذا جعل المانع لها عن فعلها الغطاء المختصّ بتلك

الجهة.

و توهّم أنّ الغشاوة تابع للمغشيّ إدراكا وضعا فإن كان إدراك المغشيّ من جهة واحدة منعتها منها أو من جميع الجهات فمن الجميع.

مدفوع بانّ المتعارف في الغشاوة الّتي هي السّتارة و الغطاء اختصاص منعها بجهة واحدة و إن مرّ التّصريح عنهم بان زنة فعالة للمشتمل على الشي ء فتأمّل.

علّة تكرار حرف الجر

و في تكرير الجار دلالة على شدّة الختم لدلالة زيادة المبني على زيادة المعنى و دلالة الجار على الاحاطة، و لظهور استقلال كلّ من الرّبطين في الحكم، و لم يقصد إفادة هذه الشّدّة في قوله: وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ و لذا اخّر فيه القلب الّذي هو الأصل في الختم دون المقام الّذي قصد فيه بيان شدّة إصرارهم على الكفر مع الإنذار و عدمه، و تنكير غشاوة للتّعظيم أي غشاوة عظيمة تحجب أبصارهم و بصائرهم بالكلّية فلا تنجح في رفعها و الكشف عنها الآيات و النذر أو لإفادة النوعيّة أي نوع من الأغشية غير ما يتعارفه النّاس و هو التّعامي عن آيات اللّه سبحانه و النّظر إلى الدّنيا لا بها و فيها،

فإنّ من أبصر بها بصّرته و من أبصر إليها أعمته كما عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام «1». و في كلام آخر له عليه السّلام: و إنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر ممّا ورائها شيئا و البصير ينفذها بصرها و يعلم انّ الدّار ورائها فالبصير منها شاخص و الأعمى

__________________________________________________

(1) في البحار ج 75 ص 23: و من نظر إليها أعمته، و من بصر بها بصّرته.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 248

إليها شاخص و البصير منها متزوّد و الأعمى لها متزوّد «1».

تتمّة في أمور مهمّة
وجوه القراءة في الآية

أحدها: انّ في الآية وجوها من القراءة.

منها ما في «الكشاف» و «تفسير الّرازي» عن ابن أبي عبلة «2» و على أسماعهم و كأنّه للقياس بطرفيه و قد مرّ ما فيه.

و منها: اختلافهم في غشاوة من حيث الإعراب و الهيئة و المادّة فالمشهور فيها كسر الغين المعجمة و الرّفع بالابتداء عند سيبويه، و بالظّرف يعني بالفعل الّذي يتعلّق به ذلك

كما عن الأخفش في نظائر الباب.

و في الشّواذ عن عاصم غشاوة بالنّصب بإضمار فعل اي و جعل على أبصارهم غشاوة و إنّما حذف للعلم به كما في قوله: علّفتها تبنا و ماء باردا اي و سقيتها.

و امّا خصوص الفعل فللاية الاخرى وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «3».

أو بنزع الخافض كانّه قال: و ختم على أبصارهم بغشاوة و ضعّف بأنّه فصل بين حرف العطف و المعطوف به و ذلك إنّما يجوز في الشّعر كما أنّ الأوّل و هو حذف النّاصب لا يوجد أيضا في حال الإختيار و فيه تأمّل و الغشاوة يمكن تعلّقها بالفعل المضاف الى الثلاثة فيندفع المحذور إلّا أنّ قضيّة التّوقيف الحكم بتعين المشهور بلا

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة من الخطبة 133.

(2) هو ابراهيم بن ابي عبلة شمر بن يقظان الدمشقي المقرئ توفّي سنة «152» بدمشق عن سنّ عالية.

(3) الجاثية: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 249

فرق بين كون الشّذوذ قيدا لقراءة عاصم، أو للرّواية عند فكأنّهم رفضوها رأسا، و لذا لم يحكها عنه في «التيسير» و «الشّاطبيّة» و «طيبة النّشر» و غيرها من الكتب المعدّة لبيان الخلافيّات.

كما أنّ من الشواذ أيضا ما حكاه في المجمع عن الحسن البصري بضمّ الغين و رفع الآخر، و ما عن بعضهم من الفتح و النّصب، و غشوة بالكسر و الرّفع، و غشوة بالفتح و الرّفع و النّصب، و غشاوة بالعين المهملة و الرفع و هذه كلّها من الشواذ الّتي لا تجزي القراءة بها شرعا و إن اتّحدت أو تقاربت لغة بحسب المعنى، فإنّ الغشاوة و الغشوة بمعنى مع جواز التثليث فيهما، و بالإهمال من العشا بالفتح و القصر كانّهم لا يرون الآيات النّيرة الواضحة في ظلمات

كفرهم و شركهم و جحودهم لما في أعينهم من العشاءة و لولاها لأبصروها، لأنّها لظهورها لا تمنع الظّلمة من رؤيتها إلّا لمن هو أعشى.

و منها أنّه قرأ أبو عمرو، و الكسائي على أبصارهم بالإمالة و الباقون بالتّفخيم.

أقسام حجب القلب
اشارة

ثانيها: انّ الختم من جملة الحجب القلبية المانعة عن سطوع إشراق أنوار العلم و الهداية و المعرفة على قلب العبد، و ذلك أنّ للقلوب حجبا مختلفة في الرّقة و الغلظة يختلف معها مراتب الإيمان و مراتب الكفر و هي سبعة.

أوّلها و أرقّها هو الغين

لغة في الغيم أو هو السّحاب الرقيق الّذي يكاد يضمحل و يتلاشى لرقّته و لطافة أجزائه

ورد في النّبوي، انّه ليغان على قلبي و انّي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 250

لأستغفرن في كلّ يوم سبعين مرّة «1».

و في بعض الأخبار: مائة مرّة.

و هو و عفوه في حقّهم عليه السّلام لتحمّلهم ذنوب أوليائهم و شيعتهم و محبّهم، و لذا بناه للمفعول، و وصله بعلي، فيصيبهم من ذنوب أوليائهم ما يصيب أصل الشّجرة إذا رهقت أوراقها الغبرة و ذلك انّهم أصل الشجرة الطيّبة و شيعتهم أوراقها كما في المقبرة «2».

[ثانيها: الصدء]

و في النهاية: «إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»

هو أن يركبها الرين بمباشرة المعاصي و الآثام، فيذهب بجلائه «3».

فإن الصدأ حجاب رقيق ينجلي بالتصفية، و يزول بنور التجلي لبقاء الايمان معه، و لذا

قال الصادق عليه السّلام: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للقلوب صداء كصداء النحاس فاجلوها بالاستغفار «4».

و في معناه النّزع المشار اليه بقوله تعالى: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ* «5» و كذا المسّ في قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ «6».

__________________________________________________

(1) قال الطريحي في مجمع البحرين في كلمة «غين»: في الخبر: إنه ليغان على قلبي ... إلخ قال ابو عبيدة في معنى الحديث: اي يتغشّى قلبي ما يلبسه، و قد بلغنا عن الأصمعي انه سئل عن الحديث فقال: عن قلب من يروى هذا؟ فقال السائل عن قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: لو كان عن غير النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكنت افسّره لك.

(2) بحار الأنوار ج 9

ص 112.

(3) البحار ج 32 ص 349.

(4) البحار ج 77 ص 174.

(5) الأعراف: 200.

(6) الأعراف: 201.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 251

ثالثها: الزّيغ بمعنى الميل عن الحقّ

و لا يكون إلّا بعد الهداية و ارائة النّجدين:

طريق الهداية و الضّلالة، و هذا الميل مقتضى الطبيعة البشريّة و الظّلمة الهيولانيّة و الشرور الامكانيّة و ازدحام القوى المتخالفة في معترك النفس الإنسانيّة، و لا نجاة منها لأحد إلّا من أدركته من صلة رحم آل محمد عليه السّلام رحمة رحيميّة، يعتصم بها بفاضل عصمتهم عليه السّلام، و يتقوّى بها في سلوك نجد الخير كلّما لاح له النّجدان.

و إلى كلّ ذلك و غيره الإشارة بقوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ «1».

و لذا

قال الصادق عليه السّلام: أكثروا و من ان تقولوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا و لا تؤمنوا الزّيغ «2».

أقول: لأنّه أسرع إلى القلوب من اللّحظة إلى العين و كثيرا ما يخفى في غير القلوب المصفّاة إلى أن يستحكم.

و لذا ورد انّ القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها «3».

رابعها: الطّبع الّذي هو في الأصل الوسخ الشّديد يغشى السيف

ثمّ استعمل فيما يغشى القلب من ظلمة الآثام و درن الأوزار حتّى يكاد أن تكون طبيعة و سجيّة فيقلّ منه الخير جدّا بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا «4» اي منهم، أو ايمانا قليلا، يعني ببعض ما أنزل اللّه تعالى.

و روى العيّاشي عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يدعو أصحابه فمن أراد اللّه بهم خيرا سمع و عرف ما يدعوه إليه، و من أراد به شرّا طبع على قلبه

__________________________________________________

(1) آل عمران: 8.

(2) تفسير العياشي ج 1 ص 164 و عنه الصافي ج 1 ص 247 و البرهان ج 1 ص 272.

(3) تفسير البرهان ج 1

ص 272 عن الكافي.

(4) النساء: 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 252

فلا يسمع و لا يعقل و هو قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «1» «2».

[خامسها: الختم
الوجوه الّتي قيلت في الختم

خامسها: الختم المشار اليه في هذه الآية المفسّر بشدّة الطبع بحيث لا يوصل إلى الشّي ء المختوم عليه او يوسم القلوب بسمة يعرفها من يعرفها من الملائكة و الأنبياء و الأولياء.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام قال: الختم هو الطّبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم «3».

سادسها: الرين الّذي

فسّره مولانا الباقر عليه السّلام بتغطية النكتة السّوداء البيضاء فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير ابدا

كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «4» «5».

سابعها: الإقفال بالكسر و هو سدّ جميع مسامع القلب و منافذه سدّا بليغا ثمّ إقفالها بتيسير سبل الشرّ خزيا و خذلانا و تخلية بين العبد و نفسه.

قال الصّادق عليه السّلام: إنّ لك قلبا و مسامع، و إنّ اللّه إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه و إذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا، و هو قول اللّه

__________________________________________________

(1) النحل: 108.

(2) تفسير العيّاشي ج 2 ص 273.

(3) عيون الاخبار ج 1 ص 123.

(4) المطففين: 14- 15.

(5) راجع تفسير البرهان ج 4 ص 442.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 253

عزّ و جلّ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1» «2».

و هذا مجمل الكلام في الإشارة إلى الحجب القلبيّة على ما يظهر لي من الآيات و الاخبار و المقصود الإشارة إلى نوع الحجب، و إلّا فقد وردت في المقام ألفاظ أخر،

بل المراتب المتقدّمة ربما يطلق على بعضها اسم غيرها، و قد أشرنا إلى الحجب على نمط أخر عند التعرّض لوظائف التّلاوة.

انّ في هذه الآية و الّتي قبلها اشارة لطيفة إلى الأمر بين الأمرين فانّه نسب إليهم الكفر و الإصرار عليه و على ترك الايمان بحيث لا ينجع التّبليغ و الإنذار عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فضلا عن غيره فيهم أصلا و ذمّهم على ذلك حتّى أوعدهم بالعذاب العظيم لكنّه نسب الختم إلى نفسه تعالى تنبيها على أنّ فيضه تعالى غير مقطع عنهم في حال من الأحوال سواء اختاروا الكفر أو الايمان كما قال: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً «3».

فالعطايا الالهيّة و الإمدادات الربّانيّة من القدرة و الاستطاعة و ساير الأدوات و الآلات و غيرها واصلة إلى كلّ أحد في كلّ حال وصولا سيّالا اتّصاليّا بلا فرق بين أن يصرفها في الطّاعة أو في المعصية، فان كان الفعل طاعة فقد أرشده اللّه و أمره و أقدره عليها و أثابه بفعلها، و إن كان معصية فقد بيّن له و نهاه و زجره و اقدره كيلا يكفّ الظّالم من ظلمه قسرا و جبرا.

و إليه

أشار الصّادق عليه السّلام بقوله: شاء اللّه أن أكون مستطيعا لما لم يشأ أن أكون فاعله «4».

__________________________________________________

(1) سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 24.

(2) تفسير البرهان ج 4 ص 186.

(3) الإسراء: 20.

(4) التوحيد ص 353.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 254

و

الرّضا عليه السّلام حيث ذكر عنده الجبر و التفويض فقال لأعطينكم «1» في هذا أصلا لا تختلفون فيه و لا يخاصمكم عليه أحد إلّا

كسرتموه، قلت إن رأيت ذلك، فقال، إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يطع بإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه هو المالك لما ملكهم و القادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه تعالى منها صادا و لا عنها مانعا و إن ائتمرا بمعصيته و شاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و إن لم يحل و فعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه «2»، الخبر.

و منه يظهر جواز استناد الآثار المترتّبة على المعصية من الختم و الزيغ و الرّين و غيرها حسبما سمعت إلى العبد لأنّه الفاعل المختار إلى اللّه تعالى لأنّه الواهب للفيوض و ربما يشعر به قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «3»، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ «4»، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ «5».

و من هنا يظهر الوجه في نسبة الختم إليه سبحانه بناء على ما هو المعلوم من قواعد العدليّة.

و ربما يذكر فيه وجوه أخر منها: أنّ المراد بالختم العلامة و إذا انتهى الكافر في كفره إلى حالة يعلم اللّه تعالى أنّه لا يؤمن فإنّه تعالى يعلم على قلبه علامة يعرفه بها الملائكة و الأنبياء كما أنه تعالى جعل للمؤمنين سمة يعرفهم بها من يعرفهم، فيستغفرون له و يحفظون عليهم، قالوا و الفائدة في تلك العلامة إمّا عائدة إلى الملائكة و الأنبياء و الأوصياء لأنّهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافرا ملعونا عند اللّه صار

__________________________________________________

(1) في البحار ج 5 ص 16: ألا أعطيكم.

(2) بحار الأنوار ج 5 ص 16.

(3) الصف: 5.

(4) المنافقون: 3.

(5) النساء: 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 255

ذلك سببا منفّرا

لهم عنه، او إلى المكلّف، فانّه إذا علم أنّه متى آمن أحبّته الملائكة و استغفروا له و انتشر له الذكر الجميل عندهم و صار ذلك باعثا قويّا له في الميل إلى الطّاعات كما انّه إذا علم أنّه مع كفره يتنفّر منه الملائكة و يبغضونه و يتبرّءون منه و يلعنونه صار ذلك زاجرا له عن الكفر، و هذا الوجه هو المستفاد من كلام الامام عليه السّلام حيث

قال في تفسير الآية بعد ذكرها: أي وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظر إليها بأنّهم الّذين لا يؤمنون، و على سمعهم، كذلك بسمات و على أبصارهم غشاوة و ذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن النّظر فيما كلّفوه و قصّروا فيما أريد منهم جهلوا ما لزمهم الايمان به فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يتعالى عن العبث و الفساد و عن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبة و لا بالمسير إلى ما قد صدّهم بالعجز منه «1».

أقول: و فيه إبطال لمذهب الأشاعرة القائلين بالجبر، حيث ذهبوا إلى أنّ الختم حتم من اللّه سبحانه بالنسبة إلى الكفّار، و انّه لا صنع للعبد فيه أصلا لا إيجادا و لا إبقاء و لا إزالة، و استراحوا عن الوجوه الّتي ذكرها العدليّة في الآية بحملها على كون الفعل منه سبحانه من دون ان يكون للعبد فيه صنع و اختيارا أصلا.

و قد قرّر في الأصول بل علم من ضرورة مذهب آل الرسول أنّ القول به مخالف لما هو المتواتر القطعي من المنقول كما انّه مخالف لضرورة العقول.

ثمّ اعلم أنّ هذا الختم المضروب على قلوبهم و سمعهم و الحجاب المضروب على أبصارهم

ليس من الأمور الاعتباريّة الغير المتأصّلة بل إنّما هي من الأمور الحقيقة المتقرّرة في الملكوت السّفلى و لذا ينكشف على ما هو عليه لمن أراه اللّه تعالى ملكوت الأشياء و إن كان مستورا على المنغمسين في الغواسق الظّلمانيّة كما

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 33- 36 و عنه البحار ج 9 ص 174.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 256

قال سبحانه: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً* «1».

و في تفسير الامام عن الصّادق عليه السّلام انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا دعا هؤلاء النفر المعيّنين في الآية المتقدّمة و هي قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «2» و أظهر لهم تلك الآيات فقابلوها بالكفر أخبر اللّه عزّ و جل عنهم بانّه ختم على قلوبهم و على سمعهم ختما يكون علامة للملائكة المقرّبين القرّاء لما في اللّوح المحفوظ من أخبار هؤلاء المذكورين فيه أحوالهم حتّى إذا نظروا إلى أحوالهم و قلوبهم و أسماعهم و شاهدوا هؤلاء المختومين على جوارحهم يجدون على ما قرءوه من اللّوح المحفوظ و شاهدوه في قلوبهم و أسماعهم و أبصارهم ازدادوا بعلم اللّه عزّ و جلّ بالغائبات يقينا فقالوا: يا رسول اللّه فهل في عباد اللّه من يشاهد هذا الختم كما يشاهده الملائكة؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشاهده باشهاد اللّه تعالى له، و يشاهده من امّته أطوعهم للّه عزّ و جل و أشدّهم

جدّا في طاعة اللّه، و أفضلهم في دين اللّه فقالوا: من هو يا رسول اللّه؟ و كلّ منهم يتمنّى أن يكون هو، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعوه يكن ممّن شاء اللّه، فليس الجلالة في المراتب عند اللّه تعالى بالتّمن و لا بالتظنّي و لا بالاقتراح و لكنّه فضل من اللّه عزّ و جلّ على من يشاء يوفّقه للأعمال الصّالحة يكرمه بها فيبلغه أفضل الدّرجات و أشرف «3» المراتب، انّ اللّه تعالى سيكرم بذلك من يريكموه في غد فجدّوا في الأعمال الصّالحة فمن وفّقه اللّه لما يوجب عظيم كرامته فللّه عليه بذلك الفضل العظيم «4».

__________________________________________________

(1) الإسراء: 45- 46.

(2) البقرة: 6.

(3) في البحار: و أفضل المراتب.

(4) بحار الأنوار ج 42 ص 21- 22 عن تفسير الامام عليه السّلام ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 257

ثمّ ساق الكلام في أعمال صالحة لمولانا امير المؤمنين عليه السّلام، كقضاء دين أخيه المؤمن، و قلب الحجر و المدر ذهبا بدعائه عليه السّلام.

و قتله رجلا غضبا للّه و لرسوله.

و سدّه خلّة رجل بقرصين شعيرين له.

و كشفه لملكوت السّموات و الحجب لرجل من المنافقين حتّى صار مؤمنا.

و انّه عليه السّلام وقى نفس رجل مؤمن بنفسه: في كلام طويل يراجعه من اراده «1».

إلى أن قال:

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذا الأفضل الأكرم محبّة محبّ اللّه و رسوله، و مبغضه مبغض اللّه و رسوله، هم خيار خلق اللّه تعالى من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: انظر فنظر إلى عبد اللّه بن

أبي و إلى سبعة من اليهود فقال عليه السّلام قد شاهدت خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنت يا علي أفضل شهداء اللّه في الأرض بعد محمّد رسول اللّه قال فذلك قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها و يبصرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يبصرها خير خلق اللّه بعده عليّ بن أبي طالب عليه السّلام «2».

أقول: و يدلّ عليه مضافا إليه الاخبار الكثيرة الدّالة على أنّهم المتوسّمون في كتاب اللّه تعالى، و انّه لا يحجب عنهم شي ء في السموات و الأرض و انّهم يعرفون الرجل إذا رأوه بحقيقة الايمان و بحقيقة الكفر أو النفاق إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الّتي سيمرّ عليك شطر منها في مواضعها.

__________________________________________________

(1) راجع البحار ج 42 ص 23- 27.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 58- 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 258

و منها أنّ الآية من قبيل مجاز الكناية فإسناد الختم إليه سبحانه كناية عن شدّة تمكّن الإعراض عن الحقّ و الإصرار على الكفر جحودا و عنادا فيهم و فرط رسوخه في قلوبهم و أسماعهم بحيث كانّه صار كسائر الجبليّات الطبيعية و الصفات الخلقية الصّادره عن اللّه سبحانه من دون صنع و اختيار للعبد فيها فأراد الانتقال إلى الملزوم الّذي هو المقصود بذكر اللّازم الّذي هو الختم كما يقال: فلان مجبول على الشّر و مفطور على الظّلم، من غير أن يراد تخلّقه عليهما حقيقة بل المراد صدورهما عنه كصدورهما عن المتخلّق المفطور بهما تنبيها على شدّة الّرسوخ و

الثّبات و التمكن، و حيث لم يكن إرادة الحقيقة في اسناد الختم إليه سبحانه فهو مجاز متفرّع عن الكناية.

و منها انّ الجملة كما هي بتمامها استعارة تمثيليّة شبّهت حال قلوبهم في النّبو عن الحق و عدم قبوله بحال قلوب مختوم عليها حقيقة كقلوب البهائم أو تقديرا ثمّ استعير ختم اللّه على القلوب بتمامها مبقاة على ظاهرها، فالختم المسند إليه سبحانه ختم حقيقيّ أو تقديريّ باسناد حقيقي، و قد مثّلت بها حال قلوبهم في التّجافي عن الحقّ و الاعراض عن الايمان و عدم الاتّعاظ و التذكر و ذلك كما يقال: سال به الوادي إذا هلك طارت به العنقاء إذا طالت غيبته، و ليس للوادي و لا للعنقاء عمل في هلاكه و لا في طول غيبته، و إنّما هو تمثيل مثّلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، و في طول غيبته بحال من طارت به العنقاء.

و منها انّ ذلك الختم و إن كان حقيقة فعل الكافر أو مترتّبا على فعله صادرا عنه باختياره و إرادته إلّا أنّ صدوره منه لما كان باقدار اللّه سبحانه ايّاه و ابقائه عليه ما أعطاه من المشاعر و الأعضاء و الأدوات و سائر اسباب التمكن من الفعل و الاستطاعة عليه فلذا أسنده إليه اسناد الفعل إلى المسبّب، و مثله شايع في الإطلاقات كما يقال: بنى الأمير المدينة بل قد يسند الفعل إلى ساير الملابسات

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 259

كالمصدر و الزمان و المكان كقولهم: شعر شاعر، و نهاره صائم، و صلّى المقام إلى غير ذلك و هذا الوجه قريب ممّا ذكرنا.

و منها انّ الختم من اللّه تعالى على قلوبهم هو الشّهادة منه عليهم بانّهم لا يؤمنون، و على

قلوبهم بأنّها لا تقبل الحقّ، و على أسماعهم بأنّها لا تصغي اليه، كما يقول الرجل لصاحبة أراك تختم على ما يقوله فلان، أي تصدّقه و تشهد بانّه حقّ، و قولهم: ختمت دليلك بانك لا تفلح، أي شهدت و هذا الوجه و إن ذكره في «المجمع» و غيره لكنّه ضعيف.

و منها انّ الختم عبارة عن ترك القسر و الإلجاء إلى الايمان فيجوز إسناده إلى اللّه تعالى حقيقة فمعنى ختم اللّه على قلوبهم انّه لم يقسرهم على الايمان، حيث إنّ الختم عليها لا يكون إلّا بترك القسر الّذي ليس مقصودا بنفسه، بل ينتقل منه إلى أنّ مقتضى حالهم الإلجاء لولا ابتناء التكليف على الإختيار، حيث لا تغني عنهم الآيات و النذر، و لا تجدي عليهم الألطاف المحصّلة و لا المقرّبة، و ذلك لانهماكهم في الغيّ و الضّلال و تناهيهم في الإصرار على الكفر و الإنكار.

و منها أن يكون ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه لا بعبارتهم كما حكى عنهم: وَ قالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «1».

و الغرض التّهكم و الاستهزاء بهم و بمعتقدهم في إسناد القبائح إليه سبحانه كما تهكّم بهم في قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ «2» اشارة إلى ما كانوا يقولونه قبل البعثة من أنّا لا ننفكّ عن

__________________________________________________

(1) فصّلت: 5.

(2) البيّنة: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 260

ديننا حتّى يبعث اللّه النّبي الموعود المبشّر به في الكتب السّماوية و هو نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ و لذا تهكّم بهم فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى

الْكافِرِينَ «1».

و منها غير ذلك ممّا يقال في المقام أيضا من أنّ الآية إنّما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل اللّه بهم هذا الختم و الطبع في الدنيا عقوبة عليهم في الأجل كما عجّل لكثير من المشركين عقوبات في الدّنيا فلا غرو أن يسقط عنهم التكليف بذلك كما سقط عمّن مسخه اللّه قردة و خنازير و انّه يجوز أن يجعل اللّه على قلوبهم الختم من غير أن يكون ذلك حائلا بينهم و بين الايمان بل يكون ذلك كالبلادة الّتي يجدها الإنسان في قلبه، و القذى في عينيه، و الطنين في اذنه، فيضيق به صدورهم و يكون ذلك نوع عقوبة على بعض أعمالهم و انّه يجوز أن يفعل بهم هذا الختم في الآخرة كما قال سبحانه: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا «2».

و أنت ترى أنّ أنّ كثيرا من هذه الوجوه لا يخلو عن تكلّف مع بعدها عن مساق الآية، و عدم مساعدة القرينة بل الوجه ما نبّهنا عليه أوّلا و كذا الوجه الأوّل المرويّ عن الامام عليه السّلام، حيث إنّه لا تنافي بينهما كما لا يخفى.

و ممّا مرّ يظهر الوجه في نسبة الطبع و الزيغ و الإضلال و غيرها إليه سبحانه من دون نسبة الظلم إليه سبحانه، و الإنكار لعدله، و لا التزام بالقول بالجبر، و إن اضطرّت إليه الأشاعرة فاخطأ و الصّواب، كما أخطأت القدرية في قولهم بالتفويض.

و ما يقال من أنّ كلا الفريقين لم يطلبا إلّا اثبات جلال اللّه و علوّ كبريائه إلّا أنّ

__________________________________________________

(1) البقرة: 89.

(2) الإسراء: 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 261

الأشاعرة عظّموه فنسبوا كلّ شي ء إلى اللّه و قالوا لا مؤثّر

في الوجود إلّا اللّه، و القدريّة نزّهوه عن أفعال العباد، و قالوا: لا يليق بجلال حضرته و علوّ كبريائه هذه القبائح.

ففيه أنّ الإنصاف إصابة كلّ من الفريقين فيما نسب إلى الآخر من الضّلال و الرين، إذ الحقّ المأثور عن الأئمّة المصطفين هو القول بالمنزلة بين المنزلتين، و هو امر أوسع من بين الخافقين، بل هو مقتضى الجمع بين الشّهادتين، و ذلك أنّ إثبات الإله موجب لنسبة الحوادث كلّها إليه، و إثبات الرّسول ملجئ إلى القول بالقدر، إذ لو لم يقدر العبد على الفعل فأيّ فائدة في بعث الرّسل و الوعد و الوعيد و المعاد و غيرها، فالجمع بينهما إنّهما هو بالأمر بين الأمرين حسبما لوّحنا إليه آنفا، و ستسمع إن شاء اللّه تمام الكلام فيه و في الجواب عن شبه الفريقين في موضع أليق.

أفضليّة السمع من البصر

رابعها: قد يستدلّ بهذه الآية و نحوها ممّا قدم فيه السّمع كقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «1» على أفضليّة السّمع من البصر مضافا إلى أنّ السّمع شرط النّبوة دون البصر، و لذا لم يبعث رسولا أصمّ و كان فيهم من ابتلي بالعمى، و انّ به يتوصّل إلى معرفة نتائج العقول و الأفكار، فهو سبب لإدراك المحسوس و المعقول، و لأنّ السّمع يدرك من الجهات كلّها و لو مع الحيلولة، دون البصر الّذي يتوقّف إدراكه على المحاذاة و عدم الحيلولة، و لأنّ النّوم يغلب أوّلا على البصر ثمّ يغلب على السمع و القلب.

و لذا

قال الصّادق عليه السّلام إنّه قد تنام العين و لا ينام القلب و الأذن فإذا نامت العين

__________________________________________________

(1) الإسراء: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 262

و القلب و الأذن وجب الوضوء

«1».

إلى غير ذلك من الوجوه الّتي ربما تعارض بكون آلة القوّة الباصرة أشرف و أجمع لدقائق الحكمة، و أنّ متعلّقها هو النور، و متعلّق القوة السّامعة هو الرّيح، و انّ الآية المتقدّمة من باب التّرقي من الأدنى إلى الأعلى، لتأخّر الفؤاد عنهما فهي حجّة لنا لا علينا، و غير ذلك ممّا لا يخلو كثير منها من قصور، مع أنّ الخطب في البحث عن الأفضليّة هيّن جدّا.

معنى العذاب العظيم

وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ تهديد و وعيد، و العذاب النّكال بناء و معنى من أعذبته عن الأمر إذا منعته عنه كما أنّ النكال اسم لما يصنع به ممّا يحذر و غيره و ينحّيه عمّا قبله.

قال في «الكشاف»: و منه الماء العذب، لأنّه يقمع العطش و يردعه، و يدلّ عليه تسميتهم إيّاه نقّاحا لأنّه ينقّح العطش أي يكسره و فراتا لأنّه يرفته على القلب ثمّ اتّسع فيه فسمّي كلّ الم فادح ثقيل عذابا و ان لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة انتهى.

قوله لأنّه يرفته اي يفتّه كما يفتّ المدر و العظم البالي، و معنى قوله على القلب اي جعل العين موضع الفاء و الفاء موضع العين، فوزن فرات عفال لكنّه لا

__________________________________________________

(1) لم أظفر على مصدره بهذه الألفاظ و لكن معناه يستفاد من حديث مرويّ عن الصادق عليه السّلام في الوسائل ج 1 ح 8 عن الكافي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 263

يخلو عن تأمّل فانّه على ما صرّح به في «القاموس» و غيره مشتقّ من فرت بالفم فروتة بمعنى عذب و الفرات هو الماء العذب و التزام القلب فيه مع مخالفته للأصل و ما فيه في المقام من التّكلف البيّن، لا يقضي به شي ء من

أدلّته، سيّما مع ما صرّحوا به من ندوره جدا في غير المعتلّ و المهموز و انّه اكثر ما يكون في غير الفاء و العين.

و قيل: إنّه استمرار الألم من عذبته تعذيبا و عذابا و منه عذب الماء إذا استمرّ في الحلق و حمار أو فرس عاذب و عذوب إذا استمرّ به العطش فلم يأكل شيئا من شدّة العطش.

و قيل إنّه من التعذيب الّذي هو ازالة العذب كالتقذية لازالة القذى و هو ما يسقط في العين و الشراب، و التّمريض لحسن القيام بما يحتاج إليه المريض فجعل ذلك إزالة للمرض لأنّ له مدخلا تامّا في زواله.

و على كلّ حال فالمراد به حيث يطلق كلّ ألم سواء كان ابتداء أو بعد جناية قصد به الرّدع، أم لا مع الاستحقاق و عدمه فيكون أعمّ مطلقا من النكال و العقاب و القصاص.

و أمّا ما ذكره مميت «1» الدين و خربه من أنّ العذاب نعيم لأهل الشّقاء، و انّهم يستعذبونه و يلتذّون به، فسمّي بذلك لعذوبة طعمه بالنّسبة إليهم، حيث أنّه مشتقّ من العذب حتّى انّه أنشد في ذلك.

فلم يبق إلّا صادق الوعد وحده و ما لوعيد الحقّ عين تعاين فإن دخلوا دار الشّقاء فانّهم على لذّة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد فالامر واحد و بينهما عند التّجلى تباين __________________________________________________

(1) مراده محمد بن علي بن محمد الطائي المعروف بمحيي الدين المتوفى (638).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 264

يسمّى عذابا من عذوبة طعمه و ذاك له كالقشر و القشر صاين فهو مبنيّ على ما خرج به عن زمرة المسلمين، لإنكاره ما هو ضروريّ من الدّين حيث ذهب إلى القول بانقطاع العقوبة عن الكفّار، و انّهم لا

يتألّمون بالنّار و ما فيها من العذاب و النكال ابتداء أو بعد مدّة و انّهم يتلاعبون بها فيها أو يخرجون منها على حسب اختلافهم في ذلك على ما تسمع تمام الكلام فيها و في تزييفها و تزييف الشبهات الّتي ايّدهم بها أخوهم رئيس المشككين في المقام عند تفسير قوله:

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1».

و العظيم ربما يفسّر بالكبير، بل قد يفسّر كلّ منهما بالآخر، و ربما يقابل بالحقير كما أنّ الكبير يقابل بالصّغير، فإذا قيل هذا كبير دفع بانّه صغير، او قيل إنّه عظيم دفع بانّه حقير و لمّا كان الحقير دون الصّغير كان العظيم فوق الكبير و هذا كما يقابل الأخسّ بالأشرف و الخسيس بالشريف.

فلا ينبغي الإصغاء في مثل المقام إلى ما قيل من لزوم كون نقيض الاخصّ اعمّ في مثل المقام، نعم يمكن التأمّل في تحقيق التقابلين، و في كون الأوّل و مقابله في طرفي الآخرين إذ لا تساعده اللّغة و لا العرف على إطلاقه، و على كلّ حال فيستعمل كلّ منهما في المحسوس و غيره، فيقال هو عظيم الجثّة و عظيم القدر و الشأن، و كذا الكبير، و لا يبعد أن يقال إنّ الحقارة تشعر بالهوان و الذّلّة دون الصّغر و العظم يشعر بانقهار النفس بملاحظة من جهة استعظامه في سنخه دون الكبر.

و توصيف العذاب و تنكيره للتّعظيم أو للتّنويع و لو باعتبار تلفيق النوع من مختلفات الأنواع فلا ينافي ذلك ما في تفسير الإمام عليه السّلام من شمول العذاب لما في الآخرة و في الدّنيا بقسميه قال عليه السّلام بعد قوله: وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: يعني في

__________________________________________________

(1) البقرة: 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 265

الآخرة العذاب

المعدّ للكافرين و في الدّنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبّهه لطاعته أو من عذاب الاصطلام ليعيره إلى عدله و حكمته «1».

أقول: عذاب الاستصلاح هو ما يبتلى به العبد ممّا يراد به صلاح حاله و عوده إلى القيام بوظائف العبوديّة أو بما يتعقّبه ذلك كما قال: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ «2» الآية.

و هذا إنّما يكون فيمن يرجى منه الخير ايضا لأنّ الختم ليس من نهايات الحجب كما نبّهنا عليه، و الاصطلام هو الاستيصال بالخسف و المسخ و القتل و ساير اسباب الموت و سائر الابتلاءات الّتي هي العقوبات المعجّلة، و إيثار اللام للتهكّم كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* «3» و لوقوعه موقع النفع الّذي هو ثمرة الأعمال.

[سورة البقرة(2): آية 8 ]

اشارة

تفسير الآية (8) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ شروع في ذكر أحوال المنافقين الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ، وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ بعد الفراغ من شرح أحوال المؤمنين الّذين أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ في آيات إلى أن ختم لهم بالفلاح و الفوز بالنّعيم و عن شرح احوال أضدادهم الّذين هم أهل الكفر و الجحود و العناد في آيتين إلى أن ختم لهم بالعذاب العظيم فثلّثهما بالمذبذبين بينهما

__________________________________________________

(1) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 260 عن الإمام العسكري عليه السّلام.

(2) البقرة: 155.

(3) آل عمران: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 266

تكميلا للتقسيم، و طوّل شرح أحوالهم في ثلاث عشر آية، و بيّن فيها كذبهم في دعوى الإيمان، و نفاقهم و خبثهم و فساد عقائدهم و أعمالهم و سخافة آرائهم و استهزائهم و الاستهزاء بهم و انهماكهم في طغيانهم و عمههم، و ضرب

لهم الأمثال الشنيعة و سجّل عليهم بالرّذائل الفظيعة و ذلك لأنّهم أشدّ الكفّار نكاية على الإسلام و المسلمين و أحرصهم على هدم الشريعة و تخريب الدين و أقواهم على شقّ العصا و إيقاع نائرة الفتنة بين المؤمنين فزادوا إلى رجس كفرهم رجس النّفاق و لم يقصروا في إطفاء نور الهدى كلّما اهتدوا سبيلا إلى إظهار الشقاق، و هؤلاء المنافقون معروفون بأسمائهم و سماتهم، كعبد اللّه بن أبي سلول، و جدّ بن قيس، و معتب بن قشير، و غيرهم من اليهود و مثل أبي الدّواهي و أبي الشّرور، و أبي الملاهي، و أصحاب العقبة، و أصحاب الصحيفة الملعونة و غيرهم من المنافقين الّذين نابذوا أمير المؤمنين و غصبوه حقّه وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ، و لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ.

و الاخبار كثيرة في كون الآية و أمثالها ناعية على هؤلاء و اضرابهم تنزيلا و تأويلا تنبيها على أنّهم أصل الغيّ و الضّلال، و معدن الكفر و النفاق.

روى الامام عليه السّلام في تفسيره عن العالم موسى بن جعفر عليه السّلام انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أوقف عليّ بن ابي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف ثمّ قال يا عباد اللّه انسبوني فقالوا أنت محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ثمّ قال: ايّها الناس أ لست أولى بكم من أنفسكم بأنفسكم قالوا بلى يا رسول اللّه فنظر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السّماء و قال: اللّهم اشهد بقول هؤلاء و هو يقول و يقولون ذلك ثلاثا،

ثمّ قال: فمن كنت مولاه و اولى به فهذا عليّ مولاه و أولى به، اللّهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، ثمّ قال:

قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين فقام فبايع له، ثمّ قال: قم يا عمر فبايع له بإمرة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 267

المؤمنين فقام فبايع له، ثمّ قال بعد ذلك لتمام التّسعة ثمّ لرؤساء المهاجرين و الأنصار، فبايعوه كلّهم، فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطّاب فقال: بخّ بخّ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، ثمّ تفرّقوا عن ذلك، و قد وكدت عليهم العهود و المواثيق، ثمّ إنّ قوما من متمرّديهم و جبابرتهم تواطوا بينهم لئن كانت لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كائنة ليدفعنّ هذا الأمر عن علي و لا يتركونه له، فعرف اللّه ذلك من قبلهم، و كانوا يأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون لقد أقمت علينا أحبّ خلق اللّه إلى اللّه و إليك و إلينا فكفيتنا به مؤنة الظّلمة لنا و الجابرين في سياستنا، و علم اللّه من قلوبهم خلاف ذلك من مواطاة بعضهم لبعض أنّهم على العداوة مقيمون و لدفع الأمر عن مستحقّه موثرون، فأخبر اللّه عزّ و جلّ محمّدا عنهم، فقال: يا محمّد وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الّذي أمرك بنصب عليّ عليه السّلام إماما و سائسا لأمّتك و مدبّرا، وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بذلك و لكنّهم يتواطئون على إهلاكك و إهلاكه، و يوطّئون أنفسهم على التمرّد على عليّ عليه السّلام إن كانت بك كائنة «1».

إلى غير ذلك من الأخبار

الكثيرة الّتي يمرّ عليك في تصاعيف هذا التّفسير نقلا من طريق الفريقين.

ثمّ إنّ الآية و إن نزلت فيهم إلّا أنّها جارية في كلّ من تبعهم في النّفاق و الانحراف عن أهل بيت العصمة و الطّهارة إلى يوم القيمة، و لذا

قال مولانا الصّادق عليه السّلام على ما رواه في البصائر و الكافي: انّ الحكم «2» بن عتيبة ممّن قال اللّه تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فليشرّق

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام ص 54 و عنه كنز الدقائق ج 1 ص 160- 162.

(2) الحكم بن عتيبة الكوفي كان من فقهاء العامّة و كان زيديّا مات سنة (115) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 268

الحكم و ليغرّب أما و اللّه لا يصيب العلم إلّا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه السّلام «1».

(الناس) و اشتقاقه

و الناس أصله أناس بالضمّ من الأنس، خفّف بترك الهمزة و حذفها مع لام التعريف، و ان كان كاللازم إلّا أنّه ليس عوضا عنها كما صرّح به في «الصّحاح» و إلا لاجتمع مع المعوّض عنه في قوله: إنّ المنايا يطّلعن على الأناس الآمنينا، و هو على ما في القاموس جمع إنس.

و في «المصباح»: اسم وضع للجمع كالقوم و الرّهط، و واحده إنسان من غير لفظه، و علّله البيضاوي و غيره بأنّه لم يثبت فعال بالضمّ في أبنية الجمع، و لذا احتمل بعضهم أن يكون أصله بالكسر على أبنية الجموع، ثمّ ضمّ للدّلالة على زيادة قوّة كما في سكارى و غيارى، نظرا إلى أنّها ليست من الثمان الّتي جاءت أبنيتها على فعال بضم الفاء جمعا، و هي المندرجة في هذه

الأبيات:

ما سمعنا كلما غير ثمان هي جمع و هي في الوزن فعال فتوأم «2»، و رباب «3»، و فرار «4»، و عراق «5» و غرام «6»، و رخال «7»، و ظوار «8» __________________________________________________

(1) الكافي ج 1 ص 399 ح 4.

(2) التوام: جمع التوأم: المولود مع غيره من بطن واحد.

(3) الرباب: جمع الربى و هي الشاة إذا ولدت.

(4) فرار: من أولاد المعز، صغر جسمه قال ابو عبيدة: لم يأت على فعال شي ء من الجمع إلّا أحرف هذا أحدها.

(5) العراق: العظام إذا لم يكن عليها شي ء من اللحم.

(6) العرام: هي العظام أيضا مجرّدة عن اللحم.

(7) الرخال: جمع رخل و هي الأنثى من الضأن.

(8) ظوار: اسم جمع واحده ظئر و هي الّتي تعطف على ولد غيرها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 269

و بساط «1» جمع بسط هكذا فيما يقال.

لكن الحصر لا يخلو عن تأمّل لمجي ء رجال جمع راجل.

و فراد، و ثناء، و براء، و غيرها، بل قيل: إنه منتقض بأناس قطعا، و الفرق بأنّها جموع، و أناس اسم جمع محكّم.

و قد يقال: إنّ في قوله: في الأبيات فيما يقال تعريضا بما فيه من الاعتراض.

ثمّ إنّه كغيره ممّا اشتقّ من مادّته كإنس، و إنسان و اناسي يطلق على الرجل و المرأة من دون عليهما التاء، و قول الشاعر: إنسانة فتّانة شاذّ، و في «القاموس»:

كأنّه مولّد «2».

و هو مأخوذ من أنس لاستيناسهم بأمثالهم، أو من أنس بمعنى أبصر، و منه:

آنَسْتُ ناراً* «3» لأنّهم ظاهرون مبصرون، و لذا سمّوا بشرا، كما أنّ الجنّ سمّوا جنّا لاجتنانهم، و قضيّة الاشتقاق و التبادر، و المقابلة في كثير من الإطلاقات، عدم إطلاقه على الجن الأعلى

وجه التجوّز، و لعلّه المراد بما في «المصباح» أنه يكون من الانس و من الجن لقوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ «4»، و لأنّ العرب تقول: رأيت ناسا من الجنّ.

و لكن لا يثبت بهما إلّا مجرّد الاستعمال.

__________________________________________________

(1) البساط: جمع البسط و هي الناقة المخلّاة على أولادها.

(2) و الشعر كما في القاموس:

لقد كستني في الهوى ملابس الصبّ الغزل

إنسانة فستانة بدر الدجى منها خجل

إذا زنت عيني بها فبالدموع تغتسل

(3) طه: 10.

(4) سورة الناس: 5- 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 270

على أنّ النقل غير ثابت، و الآية غير دالّة.

و أما نويس في تصغيره فقيل:

على خلاف مكسّره مثل أنيسيان و رويجل، و أنّ الألف لمّا كانت باينة زائدة أشبهت ألف فاعل فقلبت واوا.

و قيل: إنّه مشتقّ من النوس، و هو الحركة و التذبذب، لتحرّكهم و تردّدهم في امور معاشهم و معادهم.

و لذا قال في «المصباح»: إنّه مشتقّ من ناس ينوس إذا تدلّى و تحرّك.

قيل: و يؤيّده تصغيره على نويس، و وزنه على هذا فعل و على الأول فعال.

و قيل: إنّه من النّسيان كما أنّ الإنسان مشتقّ منه، و أصله إنسيان لأنّ جماعته أناسي، و تصغيره أنيسيان.

و يدلّ عليه ما

في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «1».

و قد أنشدوا:

يا اكثر النّاس إحسانا إلى النّاس يا اكثر النّاس إفضالا على الناس نسيت وعدك و النّسيان مغتفر فاغفر فأوّل ناس أوّل النّاس «2» و لام التعريف فيه إمّا للجنس الشّامل للاستغراق أيضا بناء على

اعتبارهم قسما ثالثا مقابلا للقسمين الأوّلين اللّذين أريد فيهما الجنس على وجه، و لذا يعدّ المنافق ثالثا للمؤمن و الكافر.

__________________________________________________

(1) طه: 115.

(2) قاله أبو الفتح البستي علي بن محمد المتوفى ببخارى حدود سنة (400).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 271

المنافقون من الناس

بل

في كتاب المناقب لأحمد بن مردويه بالإسناد عن أبي ذرّ و المقداد و سلمان رضوان اللّه عليهم قالوا كنّا قعودا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما معنا غيره إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين البدريين فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يفترق أمّتي بعدي ثلاث فرق فرقة أهل حقّ لا يشوبونه بباطل مثلهم كمثل الذّهب كلّما فتنته النّار ازداد طيبا و إمامهم هذا لأحد الثلاثة و هو الّذي ذكر اللّه تعالى في كتابه: إِماماً وَ رَحْمَةً*، و فرقة أهل الباطل لا يشوبونه بحقّ مثلهم كمثل خبث الحديد كلّما فتنته النّار ازداد خبثا و نتنا و امامهم هذا لاحد الثلاثة، و فرقة أهل الضّلال مذبذبين لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ امامهم احد الثّلاثة قال فسألته عن أهل الحقّ و امامهم فقال عليّ بن أبي طالب إمام المتّقين و أمسك عن الإثنين «1».

و امّا للعهد اشارة إلى أنّ الكفّار المصرّين الّذين مرّ ذكرهم بناء على اشتراكهم مع هؤلاء في الكفر و جحود الحقّ و الإصرار على الباطل و شدّة العقوبة و الخلود في النّار كما تواترت به الأخبار و إن اختصّوا من بينهم بالنفاق و تمويه الباطل و منع الحقّ عن أهله و إزالة عمود الدّين عن مقرّه.

و (من) في «مِنَ النَّاسِ» على الوجهين للتّبعيض و فتح نونها عند التقاء السّاكنين للخفّة و

استثقال توالي الكسرتين.

و أمّا (من) فعلى الأوّل موصوفة كانّه قيل: و من النّاس ناس يقولون كذا كقوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ «2» و على الثّاني، موصولة كقوله:

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 28 ص 10 مع تفاوت يسير.

(2) الأحزاب: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 272

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ «1» كذا في «الكشّاف» و تبعه غيره و علّل بأنّ فيه رعاية للمناسبة و الاستعمال.

أمّا المناسبة فلانّ الجنس مبهم لا توقيت فيه مناسب أن يعبّر عن بعضه بما هو نكرة، و العهود معيّن فناسب أن يعبّر من بعضه بمعرفة.

و أمّا في الاستعمال فكما في الآيتين لمّا أريد بالمؤمنين الجنس عبّر عن بعضهم بالنكرة، و أريد بالضّمير جماعة معيّنة من المنافقين عبّر عن بعضهم بالمعرفة.

و الوجهان كما ترى ضعيفان و ظاهر مساق الآية و ما مرّ من الخبر أنّها نزلت في أقوام بأعيانهم و لذا يحكى عنهم خصوص أقوالهم و أفعالهم، و إن جرى حكمها على غيرهم فمن موصولة على الوجهين.

و توهّم أنّه بناء على الجنسيّة لا فائدة في الإخبار بأنّ من يقول و كذا و كذا من الناس، و على العهديّة يكون قوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بمنزلة التكرير عريا من الفائدة.

مدفوع بأنّ الفائدة في الأوّل التّنبيه على أنّ الصفات المذكورة تنافي الانسانيّة فينبغي التّعجب من الجمع بين اسم الإنسان و سمات الشّيطان من الخدع و النكراء و التلوّن بالألوان.

على أنّه من الممكن بل الظّاهر كون مضمون الجار و المجرور مبتداء على معنى و بعض النّاس من اتّصف بما ذكر، و حينئذ يتمّ الفائدة بالمسند من حيث تقييده بالصّلة و يكون في التّعبير عنهم ببعض الناس تحقير لهم.

و بانّ الظّرف قد يقع موقع المبتدأ بتقدير الموصوف

كقوله:

__________________________________________________

(1) التوبة: 61.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 273

وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ «1» أي جمع منّا، لكنّ المشهور عندهم تقدير الموصوف في الظّرف الثّاني على أنّه مبتداء، و الظّرف الأول خبره، و يشهد لهم أنّ المسموع عنهم قولا واحدا انّ من النّاس رجالا كذا و كذا، و لم يسمع الرفع من واحد، و قد مرّ بعض الكلام في سَواءٌ عَلَيْهِمْ و في الثّاني الاشعار بأنّ هذا القول غير مجد لهم فهم باقون على عدم إيمانهم مع أنّه كالتّمهيد لما يتعقّبه ممّا هو بمنزلة التعليل.

ثمّ إنّ الموصولة تقع للمفرد و المثنّى و المجموع، و المراد بهما في المقام الأخير، و ان كان لفظها لفظ المفرد و لذا أفرد ضميرها في يَقُولُ و جمعه في وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ لجواز مراعاة كلّ من اللّفظ و المعنى في ذلك.

و القول مصدر بمعنى التلفّظ بما يفيد فائدة ما و إن كان مفردا لكنّه قد يستعمل بمعنى المقول و المعنى النفسي، و الراي و الفعل، و مقوله في المقام الجملة الفعليّة بصلتيه و المراد إخبار كلّ منهم عن إيمانه، و يجوز أن تكون الجملة مقولة لكلّ منهم، فيجمع بين دعوى الايمان لنفسه و الشهادة به لغيره ممّن جمعهم النفاق.

و الاقتصار على ذكر الايمان باللّه و اليوم الاخر في كلامه سبحانه أو في قولهم لتخصيص ما هو المقصود الأعظم من الايمان بالذكر، سيّما مع ما سمعت من أنّ المنافقين كانوا من كفّار قريش مولعون بعبادة الأوثان للإشعار بانّ قضيّة صدق الايمان بهما الأخذ بجميع عرى الإسلام و شرائعه من حيث العقائد و الأعمال بملاحظة احتساب الأفعال الصادرة و مراقبة اللّه سبحانه و الاستعداد للقائد بأخذ الزّاد إلى المعاد و للاكتفاء

عن الجميع بالطرفين المكتنفتين به أعني الايمان بالمبدإ و المعاد، و للتنبيه على أنّهم منافقون فيما يدّعون فيه الإخلاص فما ظنّك بما يقصدون به النفاق، فانّ ايمانهم باللّه كان على وجه التشبيه و الحلول و الاتّحاد

__________________________________________________

(1) الجنّ: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 274

و التجسّم و التّعدد و اتّخاذ الولد و غير ذلك و باليوم الاخر على غير ما هو عليه لأنّهم قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» و لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «2».

إلى غير ذلك من عقائدهم الفاسدة، فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق و عقيدتهم عقيدتهم فهو كفر الايمان فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين و استهزاء بهم و تشبّها بهم في الايمان الحقيقي كان كفرا إلى كفر، مع أنّهم قد أظهروا الايمان طمعا في أن يردّوا النّاس على أعقابهم القهقرى بالرجوع عن الإسلام بعد إظهاره، و بإظهار البدع الشّنيعة في الدين و الإزراء على الإسلام و المسلمين كما فعلت اليهود كما قال اللّه: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3» و كما فعلت الثلاثة و غيرهم من المنافقين الّذين لم يؤمنوا باللّه طرفة عين ابدا و إنّما أظهروا الايمان خوفا من المسلمين و رغبة في مساهمتهم في المغانم و المناصب، و طمعا في انتهاز الفرصة لإظهار البدع الشّنيعة، و حمل النّاس عليها، و ردّهم على أدبارهم القهقرى، فضلّوا وَ أَضَلُّوا كَثِيراً، وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.

و المراد بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يوم الحساب المقدّر في الآية «4» بخمسين ألف سنة، أو بعده حيث ينقطع الأوقات المحدودة إلى ما لا

ينتهي، و هو يوم الجزاء كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اليوم عمل و لا جزاء و غدا جزاء و لا عمل»

أو ما يشملهما بناء على كون الحاجز هو البرزخ أو ما يشمله أيضا بناء على أنّ الايمان به و بما فيه ممّا جاءت به

__________________________________________________

(1) البقرة: 111.

(2) البقرة: 80.

(3) آل عمران: 72.

(4) سورة العارج: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 275

الشريعة و لو اجمالا من اركان الايمان.

و في تكرير الباء دعوى استقلال الايمان و تأكّده بكلّ منهما، وَ ما هُمْ يعني هؤلاء المنافقين و أتباعهم بِمُؤْمِنِينَ تكذيب لهم و انكار عليهم فيما أخبروا عنه من التّصديق و الإذعان.

و مطابقة الرّد للدّعوى و ان اقتضت أن يقال: و ما آمنوا إلّا أنّه عدل عن ذكر شأن الفعل كما فعلوا إلى ذكر شأن الفاعل لأنّ الركن الأهمّ في الأوّل هو المحكوم به و في الثاني هو المحكوم عليه، فلذا عدل من الفعليّة إلى الاسميّة أيضا و ذلك كقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها «1» مع ما فيه من سلوك طريق الكناية في ردّ دعواهم الباطلة فانّ انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم، و انتفاء اللّازم أبلغ في الدّلالة على انتفاء ملزومه.

و أيضا إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي صفة الايمان عنهم سيّما مع دلالة الأوّل على الدّوام المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا و تقيّد الثاني بالزّمان الماضي ثمّ انّه أكّد النّفي بالباء المتمحّضة لذلك و لذا سمّوها زائدة و فيها تأكيد النفي لا النفي كما أنّ النفي في الجملة الاسميّة المفيدة للاستمرار يرجع إلى استمرار النفي لا نفي الاستمرار،

لأنّ الإثبات و النفي هو الحكم و الاستمرار و عدمه من مقتضيات الاسميّة و الفعلية.

و حذف المتعلّق إمّا للاشعار على العموم بناء على أنّهم ليسوا من الايمان في شي ء و لا كرامة، و إمّا لظهور التقييد فالمنفي إيمانهم بالأمرين معا او بكلّ منهما و إن اتّحدا في الحكم و الاسم ضرورة أنّ التّصديق بشي ء من الأصول الايمانيّة لا يستحقّ اسم الايمان و لا حكمه ما لم ينضمّ إليه التصديق بسائرها، و لذا لم نحكم

__________________________________________________

(1) المائدة: 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 276

بإيمان أهل الكتاب و إن أقرّوا بالتوحيد بل بالمعاد أيضا، و لا بإيمان المخالفين و ان اعترفوا بما سوى الإمامة من الأصول، فانّ انكار شي ء منها كانكار الجميع حيث إنّ الإقرار بكلّ منها مشروط بالإقرار بغيره من حيث القبول، أو من حيث تحقّق الموضوع، و لذا صرّح في الآية بعدم إيمانهم مع نزولها في طائفة من أهل الكتاب، و في منافقي قريش الّذين كانوا يحضرون الجماعات و الجمعات.

ثم إنّ الآية دالّة على كفر المنافقين و أنه لا يغني عنهم مجرّد الإقرار باللسان مع مخالفة قلوبهم.

قال الرازي: انها تدلّ على أنّ من لا يعرف اللّه تعالى و أقرّ به فإنّه لا يكون مؤمنا لقوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ و قالت الكراميّة: يكون مؤمنا.

و تدلّ أيضا على بطلان قول من قال: إنّ المكلفين عارفون باللّه و من لم يكن عارفا لم يكن مكلّفا.

أمّا الأوّل فلانّ هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين باللّه و قد أقرّوا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيمانا لأنّ من عرف اللّه و أقرّ به لا بدّ أن يكون مؤمنا.

و أمّا الثاني فلانّ غير العارف لو كان معذورا لما ذمّ

اللّه هؤلاء على عدم العرفان.

فبطل قول من قال: إنّ من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذورا.

و اعترضه القاضي بانّها تدلّ على أنّ من ادّعى الايمان و خالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا لا أنّ من تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عمّا يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا و الخلاف مع الكراميّة «1» في الثاني فلا ينتهض حجّة عليهم.

أقول: لكنّ الّذي يحكى عنهم في ذلك هو أنّ الايمان مجرّد الإقرار باللّسان

__________________________________________________

(1) هم أتباع محمد بن كرّام بن عواف السجستاني المتوفى (344) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 277

و انّ المنافق مؤمن الظّاهر كافر السّريرة فاخراجهم من عداد المؤمنين دليل على فساده كما نبّه عليه في «المجمع» «1» أيضا و أمّا ما ذكره ثانيا فهو كما ترى.

[سورة البقرة(2): آية 9 ]

اشارة

تفسير الآية (9) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ... يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا «2» تعليل للحكم السابق و تفصيل لفظايع أعمالهم و شنايع أحوالهم، فوصفهم أوّلا بما يكشف عن تمويههم الكفر في إظهار إيمانهم يقال: خدعه كمنعه خدعا بالفتح و الكسر: أوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه على غرّة و غفلة، من قولهم: ضبّ خادع و خدع إذا أمرّ الحارش «3» يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه ثمّ خرج من باب آخر، و أصله الإخفاء و منه المخدع بالتثليث للخزانة، و الأخدعان لعرقين خفيّين في موضع الحجامة، و خدعت الضباب استرت و تغيّبت في حجرتها لأنّهم طلبوها و مالوا عليها للجدب الّذي أصابهم، لكنّه غلب عرفا على صفة فعليّة قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدّمات في الّذهن يتوصّل بها توصّلا مستقبحا إلى استجرار منفعة لنفسه، أو إصابة مكروه بغيره مع خفائهما على الموجّه نحوه القصد،

بحيث لا يتأتّى ذلك النّيل أو الإصابة بدونه، و هي من الصفات الذّميمة الّتي تجرّ بصاحبها إلى النّار.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام لولا أنّ المكر و الخديعة في النّار لكنت أمكر النّاس «4».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 46.

(2) البقرة: 9.

(3) الحارش: الصائد.

(4) الكافي ج 2 ص 336 و عنه البحار ج 75 ص 286.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 278

الخدعة و المكر من صفات المنافقين

و عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس منّا من ماكر مسلما «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، و أمّا

النّبوي المشهور: الحرب خدعة «2» فانّه، و ان أريد منه الحثّ على استعمالها في محاربة أعداء الدّين، لا أنّه من الجائز بل الواقع اختلاف الاحكام بحسب اختلاف الوجوه و المصالح بناء على ما هو المقرّر عند العدليّة.

على أنّه قد يقال إنّه في صورة الخداع، لأنّ من كاشفته بالمحاربة فقد جاهرته باصابة المكروه فلو لا طفت معه في تفصيل الإصابة لم يكن خداعا، و لهذا لو أظهرت ما يدلّ على أمان أو لم يتقدم إنذار لم يحمد.

و كما أنّ الخدع ليست من الصفات المحمودة، فكذا الانخداع الدّال على الغفلة و البلاهة، و قلّة الفطنة، و جمود الطبيعة و نقصان الفطرة.

و توهّم كونه من الصّفات المحمودة

للنّبوي: «المؤمن غرّ كريم و الفاجر خبّ لئيم» «3».

و لوقوع المدح بها في قول عدي بن الرّقاع: و استمطروا من قريش كلّ منخدع.

__________________________________________________

(1) ثواب الأعمال ص 242 و عنه البحار ج 75 ص 285.

(2) في البحار ج 20 ص 228 باب غزوة الأحزاب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ ما

كرته؟ قال:

نعم يا رسول اللّه الحرب خديعة.

(3) بحار الأنوار ج 67 ص 283.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 279

و في قول ذي الرّمة: إنّ الحليم و ذوا الإسلام يختلب.

ضعيف جدّا بعد ما سمعت، و أمّا النّبوي فالمراد به التّخادع لا الانخداع، و المعنى أنّه يتغافل عن بعض الأمور و يترك البحث عنه، و لذا عقّبه بالكرم تنبيها على أنّ ذلك ليس جهلا منه، و لكنّه كرم و حسن خلق، و أمّا قول عدي فما ذكرناه ظاهر منه حيث قال:

لا خير في الخبّ لا يرجى نوافله فاستمطروا من قريش كلّ منخدع تخال فيه إذا خاتلته بلها عن ماله و هو وافي العقل و الورع

المراد بالمخادعة

نعم في بعض النّسخ تمامه: انّ الكريم إذا خادعته انخدعا، و فيه أيضا دلالة لطيفة من حيث التّعليق على الكرم و منه يظهر أيضا سقوط الاخر، و قد ظهر ممّا مرّ انّ المخادعة بظاهرها من حيث المادّة و الهيئة لا يصحّ اضافتها إلى اللّه تعالى فانّ العالم الحكيم لا يخدع و لا يخدع، و لا إلى المؤمنين لأنّهم و إن كانوا يخدعون بمعنى الانخداع أو التّخادع لكنّهم لا يخدعون و لذا ذكروا فيه وجوها: أحدها أنّ المراد مخادعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حذف المضاف، أو لما ثبت له من الخلافة الكبرى و الرياسة العظمى، بحيث كان أمره أمره و نهيه نهيه و طاعته طاعته، و معصيته معصيته.

قال اللّه تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» و وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «2»

__________________________________________________

(1) النساء: 80.

(2) الأنفال: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 280

إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ

اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «1».

و الاخبار به كثيرة سنشير إليها في تفسير الآيات المتضمّنة لنسبة الأسف و الرّضا و الغضب إليه سبحانه.

و في تفسير الامام عليه الصّلوة و السّلام عن موسى بن جعفر عليه السّلام بعد ما مرّ عنه عليه السّلام في الآية المتقدّمة قال لمّا اتّصل ذلك من مواطاتهم و قيلهم في عليّ عليه السّلام و سوء تدبيرهم عليه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدعاهم و عاتبهم فاجتهدوا في الايمان و قال أوّلهم يا رسول اللّه و اللّه ما اعتددت بشي ء كاعتدادي بهذه البيعة و لقد رجوت ان يفسح اللّه بها لي في قصور الجنان، و يجعلني فيها من أفضل النزال و السّكان، و قال ثانيهم بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما وثقت بدخول الجنّة و النّجاة من النّار إلّا بهذه البيعة و اللّه ما يسرّني أن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي ما أعطيت و انّ لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لا لي رطبة و جواهر فاخرة و قال ثالثهم يا رسول اللّه لقد صرت من الفرح بهذه البيعة و الفسح من الآمال في رضوان اللّه ما أيقنت انّه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلّها عليّ لمحصت عنّي بهذه البيعة و حلف على ما قال من ذلك و لعّن من بلغ عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلاف ما حلف عليه، ثمّ تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة و المتمرّدين فقال اللّه عزّ و جل لمحمّد:

يُخادِعُونَ اللَّهَ يعني يخادعون رسول اللّه بأيمانهم خلاف ما في جوانحهم وَ الَّذِينَ آمَنُوا

كذلك أيضا الّذين سيّدهم و فاضلهم عليّ بن ابي طالب عليه السّلام «2».

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الوجه غير حاسم لمادّة الاعتراض إلّا بمعونة شي ء ممّا يأتي و إن استقلّ بدفع بعض الغوائل كما لا يخفى.

__________________________________________________

(1) الفتح: 10.

(2) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 281

ثانيها: أنّ المراد تشبيه صورة صنيعهم مع اللّه و عبوديّتهم له من حيث إظهار الإيمان، و استبطان الكفر و السّعي في إيذاء الرسول و الإصرار في دفع الحقّ عن وصيّه، و شقّ عصا المسلمين، و محادّة النّبي و المؤمنين و صنع اللّه بهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، و هم عنده أخبث الكفّار، و أهل الدّرك الأسفل من النّار، و إبقاء ما منحهم من قوّة و نعمة و عافية، و غيرها من الفيوض التكوينيّة و امتثال الرسول و المؤمنين أمر اللّه تعالى في إخفاء حالهم و إجراء حكم الإسلام عليهم، كلّ ذلك استدراجا لهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*، و إملاء لهم لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ بصورة صنع المخادعين اللّذين يخفي كلّ منهما لصاحبه المكروه حتّى يوقعه فيه.

و يشير إليه

ما رواه العيّاشي عن الصّادق عليه السّلام انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل فيما النّجاة غدا؟ قال: إنّما النّجاة أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم فانّ من يخادع اللّه يخدعه، و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر، قيل له و كيف يخادع اللّه؟ قال: يعمل ما أمره اللّه عزّ و جل ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا الرياء فانّه شرك باللّه تعالى «1».

و في التوحيد و المعاني و العيون و الاحتجاج عن الرّضا عليه السّلام: انّه سئل

عن قول اللّه عزّ و جلّ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ «2» و عن قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «3» و عن قوله:

وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ «4» و عن قوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ «5» فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ لا يسخر، و لا يستهزئ، و لا يمكر، و لا يخادع، و لكنّه عزّ و جلّ يجازيهم جزاء السّخرية، و جزاء الاستهزاء، و جزاء المكر و الخديعة، تعالى اللّه عمّا

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 283 و عنه البحار ج 83 ص 227.

(2) التوبة: 79.

(3) البقرة: 15.

(4) آل عمران: 54.

(5) النساء: 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 282

يقول الظّالمون علوّا كبيرا «1».

ثالثها: أن يكون ذلك مبنيّا على ما يعتقدونه من عدم اتّصافه سبحانه بالصّفات الجماليّة و الجلالية لعدم معرفتهم به و صفاته و بأسمائه الحسنى و صفاته العليا فيزعمون أنّه ممّن يصحّ خداعه و إيصال المكروه إليه من وجه خفيّ لا يعلم به و كانوا إذا تكلّموا فيما بينهم يقولون أسرّوا قولكم لئلّا يسمع اله محمّد فانزل اللّه تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «2» و لذا سيق الكلام على حسب معتقدهم تبكيتا بهم و تهكّما عليهم.

رابعها: انّهم يعملون عمل المخادع الحريص على دفع كيد عدوّه و إيصال الضّرر إليه و المخادعة معه في جلائل الأمور و دقائقها فانّ الزّنة أصلها للمغالبة و المبارات و الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ و احكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب و لا مبار لزيادة قوى الدّاعي إليه و الحرص عليه.

خامسها: انّ فاعل بمعنى فعل كسافرت، و ناولته الشّي ء، و إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ «3» و

عافاه اللّه، و عاقبت اللّصّ، و يؤيّده قراءة من قرأ يخدعون اللّه، و هو أبو حيوة على ما حكاه عنه في «الكشاف» «4» و ان ادّعى في شرح طيبة النّشر و بعض شروح الشّاطبيّة الإجماع على يُخادِعُونَ اللَّهَ، و كانّهم أرادوا اجماع السّبع أو العشر، و على الوجهين فهما بمعنى، و بناء الفعل على المفاعلة و إن دلّ على المبالغة لكنّها لا تبلغ المبالغة في الوجه المتقدّم.

سادسها: أن يكون من قولهم: أعجبني زيد و كرمه، فيكون المعنى: يخادعون

__________________________________________________

(1) العيون ص 71- 72 و عنه البحار ج 6 ص 51.

(2) الملك: 13.

(3) الحج: 38.

(4) الكشاف ج 1 ص 173 ط بيروت دار الفكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 283

الّذين أمنوا باللّه فانّ هذه طريقة يسلكونها إذا أرادوا افادة قوّة الاختصاص، و لما كان المؤمنون الّذين أميرهم أمير المؤمنين بمكان من اللّه تعالى سلك بهم ذلك المسلك كما سلك بنبيّه ذلك في قوله: وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1»، و قوله:

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «2».

و السرّ في افادته قوّة الاختصاص انّك في المثال إذا أسندت الإعجاب إلى زيد و المعجب كرمه فقد أوهمت أنّ كرمه شاع فيه بحيث سرى في جميع أعضائه و قواه و صار شخصه معجبا بإعجاب كرمه، و لذا أسند الاعجاب الّذي هو من كرمه إلى ذاته، و مثل هذا العطف يكون جاريا مجرى التفسير و ازالة الإبهام، و كذا يستفاد من الآية انّ المؤمنين الّذين فيهم أهل العصمة و الطّهارة لشدّة اختصاصهم باللّه و انقطاعهم إليه صاروا من حزبه بل هم القوّامون بأمره العاملون بإرادته النّاطقون بمشيّته و لذا جعل خداعهم خداعه و ثنّى

بهم إيضاحا للمرام و افصاحا عمّا لهم من المقام و لذا عرّفهم بالموصول تعظيما و تكريما و أطلق ايمانهم تنبيها على تعلّقه بكلّ ما ينبغي أن يؤمنوا به.

و جملة يُخادِعُونَ في موضع النّصب لكونها حالا عن الضّمير في قوله: مَنْ يَقُولُ أو وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، أو بيان ل يَقُولُ، أو استيناف لذكر ما هو كالتّعليل لعدم ايمانهم و أمّا الّذي كانوا عنه يخادعون فاغراض شتّى لهم كالاعتصام بظلّ الإسلام في حفظ دمائهم و أموالهم و أعراضهم، و الدّخول في حوزة المسلمين و المشاركة معهم في نيل الحظوظ من المغانم و ساير الفوائد، و الاطّلاع على الأسرار الّتي كانوا حراصا على إذاعتها إلى منابذيهم، و غير ذلك من المقاصد الّتي كان

__________________________________________________

(1) التوبة: 62.

(2) الأحزاب: 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 284

أعظمها و أهمّها نيل المناصب العظيمة و الرّياسات الجليلة كما أخبرت الكهنة بذلك الجبت و الطاغوت و غيرهما من رؤوس المنافقين الّذين نصبوا شبكة الخداع لأهل الدّين و شنّوا الغارة بعد الغارة على الإسلام و المسلمين و غصبوا حقّ مولانا أمير المؤمنين و ذرّيّته المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

تفسير وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ

وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ و لا يئول ضرر خداعهم إلّا إليهم، لانحيازه إليهم بفروعه و أصله وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» فانّ المنخدع هو الخادع لغرّته عن وخامة أمره، و سوء تدبيره و جنايته على نفسه.

و هذه قراءة المشهور، و عن نافع و ابن كثير و أبي عمرو: و ما يخادعون.

و ربما يستدلّ للأولى بأنّها الأنسب مضافا إلى قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ «2».

و للثانية بموافقة الصّدر، مع تنزيل ما يخطر بباله من الخدع بمنزلة أخر

يجازيه ذلك و يعارضه إيّاه، فيكون الفعل كانّه من اثنين كقول الكميت في حمار أراد الورود:

تذكّر من أنّى و من أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبل «3» __________________________________________________

(1) فاطر: 43.

(2) النساء: 142.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 285

و أنت ترى قصور مثل هذه الوجوه، سيّما في ما يجب فيه التوقيف.

نعم يصحّ المعنى على الوجهين كما يصحّ على القراءات الاخر الّتي ليست من العثر حكاها في «الكشاف» مجهولة القائل و لذا لا يجوز القراءة بها، و هي: و ما يخدعون، من خدّع بالتّشديد للفاعل، و يخدعون بفتح الياء بمعنى يختدعون، و يخدعون و يخادعون كلاهما على لفظ ما لم يسمّ فاعله، و يكون نصب أَنْفُسَهُمْ حينئذ على حذف الجار، و يجوز أن يكون حرف المجاوزة أو الابتداء.

و أنفس جمع نفس تحقيرا أو تقليلا، بناء على اعتبار الفرق بين القلّة و الكثرة، و هي في الأصل ذات الشّي ء و حقيقته، و هي المشيّة الجزئيّة، و يطلق على الرّوح بأقسامها الأربعة: و

هي النّامية النباتية، و الحسّية الحيوانيّة، و النّاطقة القدسيّة، و الكلّية الالهيّة كما في العلوي المشتهر «1»

، و على ما يقابل العقل بمراتبها السّبعة، و على ما يقابل الغير، و على الرّوح البخاري، و القلب الصّنوبري، و الدّم، و البدن، و الرّاي، و غيرها.

إلّا أنّ المراد بها في المقام هو الأول و يحتمل ارادة غيره من المعاني على تكلّف في بعضها.

و المراد أنّ الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم و لا يتخطّاهم إلى من سواهم، فانّهم قد هلكوا بنفاقهم فضالا عن خداعهم و إيذائهم و إن نالوا من المؤمنين ما نالوا من المال و

الجاه و الرياسات و غيرها، فانّ جميع ذلك مما يستحقر دون يسير مما اعدّ لهم من الخسارة اللّازمة و العقوبة الدائمة، و الإبقاء عليهم إنّما هو على جهة الإمهال و الاستدراج.

__________________________________________________

(1) في البحار ج 61 ص 85: هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الاخبار المعتبرة المتداولة، و هي شبيهة بأضغاث أحلام الصوفية.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 286

قال الإمام عليه السّلام في قوله: «وَ ما يَخْدَعُونَ» ما يضرّون بتلك الخديعة إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، فانّ اللّه غني عنهم، و عن نصرتهم، و لولا إمهاله لهم لما قدروا على شي ء من فجورهم و طغيانهم «1».

وَ ما يَشْعُرُونَ أنّ الأمر كذلك، و أنّ اللّه تعالى يطلع نبيّه على نفاقهم و كذبهم و كفرهم، و يأمره بلعنهم في لعنة الظّالمين النّاكثين، و ذلك اللّعن لا يفارقهم في الدّنيا و يلعنهم خيار عباد اللّه، و في الآخرة يبتلون بشدائد عقاب اللّه

، إلى هنا كلام الامام عليه السّلام.

و أصل الشعر بالكسر مصدر شعرت من باب قعد شعرا و شعرة بمعنى فطنت، و هو الإحساس بالشي ء من جهة تدقّ، و منه اشتقاق الشّعر لأنّ الشاعر يفطن لما يدقّ من المعنى و الوزن.

قيل: و لا يوصف اللّه سبحانه بانّه يشعر لما فيه من التلطّف و التخيّل، و لعلّ الأولى التعليل بما فيه من استعمال الحاسّة في الإدراك، فانّ الشعور هو الإحساس، و مشاعر الإنسان حواسّه، و ليس إدراكه بمعونة الآلات و الأدوات.

و انّما لم يشعروا لأنّ حواسّهم و إدراكاتهم مقصورة على إدراك ظاهر الحيوة الدّنيا، وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ، و ذلك للختم المضروب على قلوبهم و سمعهم و الغشاوة المغطاة على أبصارهم.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام خطابا للحسنين عليهما

السّلام:

ابنيّ إنّ من الرجال بهيمة في صورة الّرجل السميع المبصر

فطن بكلّ رزيّة في ماله و إذا أصيب بدينه لم يشعر

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام ص 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 287

[سورة البقرة(2): آية 10 ]

اشارة

تفسير الآية (10) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي قُلُوبِهِمْ الّتي هي محلّ النكراء و الشيطنة و الخيالات النفسانيّة و الأفكار الشيطانيّة، أو في ذواتهم المصوغة بصيغة الجهل و المخالفة و الأدبار المنصبغة بصبغة الشيطان.

مَرَضٌ ايّ مرض، أو نوع منه هو رأس جميع الأمراض القلبيّة فضلا عن الأمراض البدنيّة الّتي لا يبالى بها بالنظر إلى ما يوجب الهلاك الأبدي و الموت السّرمدي، و أصله السّقم في البدن، و يقابله الصّحة تقابل التّضاد، أو العدم و الملكة على ما قرّر في محلّه، و كما أنّ المرض في البدن هيئة بدنيّة لا تكون الأفعال كلّها معها لذاتها سليمة، بل يخرج بعضها أو كلّها عن الاعتدال و السلامة بواسطة عروضه، فكذلك المرض القلبي صفة قلبيّة لا يكون معها الأفعال القلبيّة و الأخلاق النفسيّة و الأعمال البدنيّة جارية على الاعتدال و الاستقامة الّتي هي مقتضى العبوديّة، و هي صبغة الإسلام، و فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.

و قيل: إنّ أصل المرض الفتور، فهو في القلب فتوره عن الحقّ، كما أنّه في البدن فتور الأعضاء.

لكل من الجسم و الروح ستّة أحوال

و في التوحيد عن امير المؤمنين عليه السّلام: إنّ للجسم ستّة احوال: الصّحة، و المرض، و الموت، و الحيوة، و النّوم، و اليقظة، و كذلك للرّوح فحياتها علمها،

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 288

و موتها جهلها، و مرضها شكّها، و صحّتها يقينها، و نومها غفلتها، و يقظتها حفظها «1».

المراد بالمرض في قلوب المنافقين

و بالجملة الأمراض القلبية أصعب الأمراض، و أشدّها نكاية، و أسوأها إهلاكا لأنّها تورث الهلاك الأبدي في الدّنيا و الآخرة، و لذا عبّر عنهم بالأموات في كثير من الآيات، و المرض الراسخ في قلوبهم إنّما هو العناد للحقّ، و الحسد لأهله، و حبّ الرّياسات الباطلة الناشية عن النّفاق و الشكّ.

و في التّعبير بالجملة الظرفيّة دلالة على تمكّنه و استقراره في قلوبهم.

فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً لأنّ اللّه سبحانه لفيضه الشامل وجوده الكامل لا يزال يمدّهم بالفيوض الرّحمانية، و ينزّل عليهم من الخزائن الغيبيّة ما يستمرّ به ذواتهم و صفاتهم و قويهم و وجودهم و مشاعرهم و حواسهم و غير ذلك ممّا يصلح صرفه في الطّاعة و في المعصية، فإن اختاروا صرفها في تحصيل الطّاعة و طلب القرب فقد فازوا بها و ازدادوا ايمانا مع ايمانهم، و إن اختاروا صرفها في تحصيل المعصية و طلب البعد عن ساحة قربه و رضوانه، فما كان اللّه ليجبرهم على الطّاعة، أو يقسرهم عن المعصية، أو يسلب عنهم الإختيار أو يحول بينهم و بين الآلات و الأدوات و سائر الأسباب كي يئول أمرهم إلى الاضطرار لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ «2»، و لذا يكون آلاؤه و نعماؤه أسبابا صالحة لكلّ من الطّاعة و المعصية.

و من هنا يتّضح الوجه في ما ورد من أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام نعمة

اللّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 61 ص 40 عن التوحيد ص 219.

(2) البقرة: 256.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 289

على الأبرار، و نقمته على الفجّار «1».

و كذا سائر الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

بل و كذا كلّ جزء و جزئيّ، حقير أو جليل من مواهبه سبحانه، من حيث صلوحه و قابليّته لصرفه في كلّ من النّجدين.

و لذا قال سبحانه بعد قوله: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ*، آه فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «2».

مع أنّ السورة لم تزده على وجه الحقيقة لكنّهم لمّا ازدادوا رجسا عند نزولها، كما كفروا قبل ذلك، أضافه إليها.

و مثله قوله: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً* «3».

و قوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً «4».

و قوله: حكاية عن نوح على نبيّنا و آله و عليه السّلام رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً «5».

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه جواز استناد الشي ء إلى شي ء من أسبابه.

و ممّا مرّ يظهر النظر فيما يقال من أنّ الزيادة من جنس المزيد عليه فلو كان المراد من المرض هنا الجهل أو الكفر، لكان قوله «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» محمولا على الجهل و الكفر، فيلزم أن يكون اللّه سبحانه فاعلا لهذين تعالى اللّه عنه و عمّا يقول

__________________________________________________

(1) مصباح الزائر ص 77- 78 و فيه: السّلام على نعمة اللّه على الأبرار، و نقمته على الفجّار.

(2) التوبة: 124- 125.

. (3) المائدة: 68.

(4) فاطر: 42.

(5) نوح: 5- 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 290

الظّالمون علوّا كبيرا، و بما

ذكرناه يندفع الأشكال برمّته.

مع أنّ في الآية وجوها أخر منها: أن يحمل المرض على الغمّ و الحزن كما يقال: مرض قلبي في أمر كذا، و المعنى أنّ المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا من ثبات أمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و استعلاء شانه يوما فيوما، و ذلك كان يؤثّر في زوال رئاساتهم.

كما قد روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أردف أسامة على حماره يعود سعد بن عبادة قبل وقعة بدر فمرّا على مجلس فيه عبد اللّه بن أبيّ فقال له نحّ حمارك يا محمّد فقد اذاني ريحه، فلمّا دخل على ابن عبادة فقال: يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد ابن أبيّ فقال يا رسول اللّه اعف عنه و اصفح، فو اللّه لقد أعطاك اللّه الّذي قد اعطاك و لقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصّبوه بالعصابة فلمّا رد اللّه ذلك بالحقّ الّذي أعطاكه شرق بذلك.

و كما قد روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بينما هو جالس إذ أقبل أمير المؤمنين عليه السّلام فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم و لولا أن يقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ من المسلمين إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة فغضب الاعرابيّان و المغيرة بن شعبة و عدة من قريش فقالوا: ما رضي أن يضرب لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم فانزل اللّه على نبيّه وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الآيات «1».

قال فغضب حارث بن عمرو الفهري

فقال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قال فلمّا صار الحارث بظهر المدينة أتته جندلة فرضّت هامته فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمن حوله من المنافقين

__________________________________________________

(1) الزخرف: 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 291

انطلقوا الى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به «1»، الى غير ذلك ممّا تسمعها في مواضعه إن شاء اللّه.

و منها أن يحمل المرض على ألم القلب، حيث إنّ الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد و النفاق و نحوهما، و دام به ذلك فربّما صار ذلك سببا لتغيّر مزاج قلبه، و يسري ذلك في بدنه، فإنّ الأبدان سريعة الانفعال من العوارض النفسانيّة، و يكون المراد من قوله تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً سراية المرض من قلوبهم إلى أبدانهم.

أو أنّ المراد به بناء على هذا الوجه و غيره المنع من زيادة الألطاف فيكون بسبب ذلك خاذلا لهم.

و منها أنّ ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «2» فيكون دعاء عليهم بأن يخلّيهم و أنفسهم إملاء و استدراجا كي يزدادوا إثما.

و منها أنّ المراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الضعف و الجبر. حين شاهدوا شوكة المسلمين، و إمداد اللّه تعالى لهم بالملائكة المنزلين و قذف الرعب في قلوب الكافرين، و بزيادة المرض تضعيفه بما زاد لرسوله من النصرة و الغلبة و إعلاء الكلمة.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 4 ص 150- 151 مع تفاوت يسير- و البحار ج 35 ص 324.

(2) التوبة: 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 292

القراءة الشاذّة في مَرَضٌ

و قرأ أبو عمرو «1» في رواية الأصمعي (مرض) و (مرضا) بسكون الراء فيهما، قيل:

و هي ليست من المتواترة.

و عن ابن جني «2»: لا يجوز أن يكون مرض بسكون الراء تخفيف مرض بفتحها، لأنّ المفتوح لا يخفّف إلّا شاذا بخلاف المضموم و المكسور، بل يجب أن يكون لغة اخرى فيه.

و قال الفيومي «3» في «المصباح المنير»: مرض مرضا (بالسكون) لغة، قليل الاستعمال، قال الأصمعي «4»: قرأت على ابي عمرو ابن العلاء: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» فقال لي: «مرض» يا غلام، اي بالسكون، و الفاعل من الأولى مريض، و من الثانية مارض.

و في «القاموس»: مرض كفرح مرضا و مرضا فهو مرض، و مريض، و مارض.

و بالجملة لا ريب في صحّتها لغة، لكن جواز القراءة بها غير ثابت.

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم، و هو الموجع الّذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ، فعيل بمعنى مفعل بالكسر، كالبديع بمعنى المبدع في قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ* «5»، و النذير بمعنى المنذر، و السميع بمعنى المسمع في قول عمرو بن

__________________________________________________

(1) هو أبو عمرو بن العلاء المازني المقري البصري المتوفى «154» ه.

(2) هو ابو الفتح عثمان بن جنيّ الموصلي النحوي الأديب المتوفى (392) ه.

(3) هو احمد بن محمّد المصري الأديب اللغوي المقري، المتوفي نحو «770» ه.

(4) الأصمعى عبد الملك بن قريب البصري اللغوي المتوفى (216) ه.

(5) سورة البقرة: 117.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 293

معدي كرب «1»:

أمن ريحانة الداعي السميع يؤرّقني و أصحابي هجوع و قد صرّح به غير واحد من ائمّة اللغة، فلا يصغى إلى إنكار الزمخشري، و غيره مجي ء فعيل بمعنى مفعل بالكسر، و جعل الآية من المجاز في الإسناد كقوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع، بمعنى المرجع بالفتح على ما قيل، و قولهم: جدّ جدّه، و الألم

في الحقيقة للمتألّم، كما أنّ الجدّ للجادّ، لكنّ العذاب وصف به للمبالغة، كأنّ العذاب لشدّته يتألّم من نفسه، و لا بأس به غير أنّ الأوّل أظهر.

بِما كانُوا يَكْذِبُونَ «2» بسبب كذبهم في قولهم: آمَنَّا و لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، و في قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، و اللّه يشهد بكذبهم، و في إقرارهم و تصديقهم بوصيّه الّذي بايعوا معه يوم الغدير، حتى قال له الثاني ما قال، ثم نكثوا بيعته و نقضوا عهده، و نبذوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.

و في إيثار مادّة الكون، و هيئة الجملة الفعليّة دلالة على استمرارهم على الكذب و إصرارهم و تحقّقهم به قولا و فعلا، حتى كأنّه كانت كينونتهم عليه من باب الفطرة الثانية، و الخلقة المغيّرة الشيطانيّة.

القراءة الشاذة في يَكْذِبُونَ

و التخفيف قراءة حمزة، و عاصم، و الكسائي، و قرأ الباقون يَكْذِبُونَ بالتشديد.

و علّل الأوّل بأنّه أشبه بما قبل الكلمة و ما بعدها، لأنّ قولهم: آمنّا باللّه كذب

__________________________________________________

(1) عمرو بن معدي كرب الزبيدي فارس اليمن وفد على المدينة سنة (9) ه و اسلم، و لما توفّي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ارتدّ عمرو، ثمّ تاب، فشهد القادسية، و توفّي قرب الريّ عطشا سنة (21) ه.

(2) البقرة: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 294

منهم فلهم عذاب أليم بكذبهم، و ما وصلته بمعنى المصدر، و أيضا قولهم فيما بعد لإخوانهم الشياطين: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «1» يدل عليه.

و أمّا الثاني فعلّل بموافقته لما هو المذكور في آيات كثيرة، كقوله تعالى:

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «2»، و قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ «3»، و غيرهما.

و لكنّ الدليلين كما تراهما بمكان

من القصور، كقصور ما عن بعض من كون الثاني أنسب بالمقام لسببيّته للكفر و شدّة العذاب، و دوامه، و عدم الإيمان، و غير ذلك ممّا يستفاد، دون الأوّل الّذي هو بمجرّده من أسباب الفسق لا الكفر.

إذ مع أنّ الأنسب بحال المنافق هو الذّمّ على الكذب، لا ينبغي تعيين القرآن او ترجيح القراءة بمثل هذه الوجوه، سيّما بعد ترخيص الأخذ بكلّ منهما في زمان الغيبة، كشف اللّه عنّا الحيرة بظهور الحجّة عجّل اللّه فرجه.

ثمّ المشدّد إمّا من كذّبه، لأنّهم كانوا يكذّبون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقلوبهم، وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فيما بلّغهم من الشرائع، سيّما خلافة وصيّه، كما قال: وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ «4» فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «5».

أي في ولاية وليّ الأمر.

و إمّا من كذّب الّذي هو المبالغة في اصل الفعل، أو لتكثير الفاعل أو المفعول،

__________________________________________________

(1) البقرة: 14.

(2) آل عمران: 184.

(3) يونس: 39.

(4) الأنعام: 66.

(5) القلم: 8- 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 295

نحو بيّن الشي ء، و موّتت الآبال، وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ «1»، أو من كذّب عن أمر قد أراده، إذا أحجم و لم يقدم، لأنّهم نكثوا البيعة، و نقضوا الصفقة، أو من كذّب الوحشي إذا جرى شوطا فوقف لينظر ما ورائه، لتردّد المنافقين، و تحيّرهم في أمر الدين و في صرف الولاية عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

تعريف الكذب

اعلم أنّ الكذب هو الإخبار عن الشي ء على خلاف ما هو عليه، و هو من جنود الجهل. كما أنّ الصدق الّذي هو مطابقة الخبر للواقع، أو لاعتقاد المخبر، أولهما، من جنود العقل، و تقابل الكذب له تقابل العدم و الملكة، لأنّه

عدم الصدق عمّا من شأنه الصدق، و الكذب قد يكون صادرا لمصلحة دينية أو دنيوية مجوّزة له شرعا و لا بأس به، بل قد لا يسمّى كذبا.

عن الصادق عليه السّلام: الكلام ثلاثة: صدق، و كذب، و إصلاح بين الناس، قال:

تسمع من الرجل كاملا لو بلغه لضاقت نفسه، فتقول: سمعت من الفلان قال فيك الخير كذا و كذا، خلاف ما سمعت منه «2».

و في خبر آخر عنه عليه السّلام: المصلح ليس بكذّاب «3».

و قد يكون صادرا لغير ضرورة مسوّغة، و هو من اسباب الفسق، و قد يكون صادرا عن الملكة و الانطباع عليه، و إليه الإشارة

بالنبوي: إنّ الكذب يهدي إلى الفجور، و الفجور يهدي إلى النار، و انّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا «4».

__________________________________________________

(1) سورة يوسف: 23.

(2) بحار الأنوار ج 72 ص 251 عن الكافي ج 2 ص 341 بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

(3) البحار ج 25 ص 292.

(4) البحار ج 72 ص 259 عن الأمالى للصدوق ص 252 و فيه: ما يزال أحدكم يكذب حتى لا يبقى في قلبه موضع أبرة صدق فيسمّى عند اللّه كذّابا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 296

و قال عبد الرّحمن بن الحجّاج: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الكذّاب هو الّذي يكذب في الشي ء؟ قال: لا ما من أحد إلّا و يكون ذلك منه، و لكنّ المطبوع على الكذب «1».

و لعلّ هذا هو المراد ممّا

ورد من أنّ المؤمن يزني و لا يكذب «2».

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل للشر أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، و الكذب شر من الشراب «3».

و امّا ما

روته العامّة من أنّ

ابراهيم على نبيّنا و آله و عليه السّلام كذب ثلاث كذبات

فهو مفترى عليه، و سيجي ء الإشارة إليه و الى معنى الخبر على فرضة في تفسير قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «4»، و قوله: إِنِّي سَقِيمٌ «5».

[سورة البقرة(2): آية 11 ]

اشارة

تفسير الآية (11) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ «6» عطف على يَقُولُ آمَنَّا أو على يُخادِعُونَ اللَّهَ أو على يَكْذِبُونَ، و ربّما يرجّح الأخير على الأوّلين بقربه، و بافادته سببيّة الفساد

__________________________________________________

(1) البحار ج 72 ص 250 عن الكافي ج 2 ص 340.

(2) البحار ج 72 ص 263 عن دعوات الراوندي بتفاوت يسير.

(3) البحار ج 72 ص 262 و فيه: و أشرّ من الشراب الكذب.

(4) الأنبياء: 63.

(5) الصافّات: 89.

(6) البقرة: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 297

للعذاب، و لسلامته من تخلّل البيان، أو الاستيناف و ما يتعلّق به بين أجزاء الصلة، و الأقرب الأوّل لظهور كون الآيات حينئذ على نمط واحد من تعداد قبائحهم، و إفادتها اتّصافهم بكلّ تلك الأوصاف استقلالا و قصدا، و دلالتها على أنّ لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الّذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم و نفاقهم فما ظنّك بسائرها.

و ربّما يتوهّم أنّ عطفه على الجملة الاسميّة أعني قوله: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا أو في بتأدية هذه المعاني.

و فيه نظر لعدم دلالة على اندراج هذه الصفة و ما بعدها في قصّتهم، بل تكون قصّة في مقابلة الاولى، فلا يحسن عود الضمائر الّتي فيها إليهم، نعم يمكن الاستيناس له بما يأتي روايته عن سلمان، و ستسمع الجواب عنه.

القراءة في قِيلَ

و في (قِيلَ) و نحوه من الفعل الماضي الّذي لم يسمّ فاعله قرأ الكسائي، و رويس، و هشام بالإشمام، بأن ينحى بكسر أوائلها نحو الضمّة و بالياء بعدها نحو الواو، فهي حركة مركّبة من حركتين، لأنّ أوائلها و إن كانت مكسورة فأصلها الضمّ فاشمّت الضمّ دالّة على أنّه أصل ما تستحقّه.

قالوا:

هو لغة للعرب فاشية، و أبقوا شيئا من الكسر تنبيها على ما استحقّته هذه الأفعال من الاعتدال.

و قرأ الباقون من القرّاء بإخلاص الكسر لأجل الياء الساكنة بعده، نحو ميزان، و ميقات، قالوا: و هو اللغة الفاشية المختارة.

و عن نافع، و ابن ذكوان الجمع بين اللغتين، و فيه لغة ثالثة، و هي (قول) بالواو المضموم ما قبلها، و في جواز القراءة بها إشكال، و الأولى الاقتصار على إخلاص

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 298

الكسر.

و إدغام اللام في اللام من الإدغام الكبير الّذي نبّهنا على عدم جوازه.

و (إِذا) ظرف للزمان، و فيها معنى الشرط أضيفت إلى الجملة الفعليّة، و إنّما يعمل فيها جوابها، و هو (قالُوا).

لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ جملة في موضع الرفع بيان للمقول، و الإفساد إحداث الفساد، و هو خروج الشي ء عن حال استقامته و كونه منتفعا به، و يقابله الصلاح و هو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة.

و الأرض مستقرّ الحيوان، و يقال لقوائم الفرس أيضا لاستقراره عليها، و لكلّ ما سفل، و لعلّ منه إطلاقها على القوائم، و لذا قال في «الصحاح»، و «القاموس»: إنّها أسفلها.

و الأظهر أنّها في الأصل هذه الّتي جعلها اللّه تعالى فراشا، و مهادا، و ان كان ربّما يوسّع في معناها من جهة الاستقرار، أو التسفّل، أو الخضرة و النضرة في قولهم: أرض أريضة، أي زكيّة نضرة معجبة للعين، أو التواضع و البركة في قولهم:

رجل أريض، أي متواضع خليق للخير، أو الثقل في قولهم: تأرّض فلان إذا تثاقل الى الأرض، و غير ذلك ممّا ينزّل معها الجامد منزلة المشتقّ.

معنى الفساد في الأرض

و معنى الفساد في الأرض هيج الحروب و الفتن، لأنّ في ذلك فساد حال الإنسان الّذي هو أشرف المواليد، و

يتبعه فساد سائر الحيوانات و النباتات.

قال اللّه تعالى: وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 299

وَ النَّسْلَ ... «1» نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدّمة، و هم الذين عقدوا فيما بينهم أن يمنعوا أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه، و ينازعوه فيما جعله اللّه تعالى له من الرياسة العامّة و الولاية الكلّية.

و يؤيّده

ما روته الخاصّة و العامّة عن سلمان المحمّدي رضي اللّه عنه أنّ أهل هذه الآية لم يأتوا بعد «2» و حمله الطبرسي و البيضاوي و غيرهما من الفريقين على أنّه أراد به أنّ اهله ليس الذين كانوا فقط، بل سيكون بعد من حاله حالهم، قالوا:

لأنّ الآية متّصلة بما قبلها بالضمير فيها.

أقول: و الأظهر أنّ سلمان إنّما أبهم البيان خوفا و تقيّة، و مراده ما

أشار اليه الصادق عليه السّلام على ما رواه في المناقب أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: بها قوتل أهل البصرة «3».

فقول سلمان: لم يأتوا بعد، معناه لم يأتوا. بإفسادهم، و ان كانوا موجودين بأعيانهم، كطلحة، و الزبير، و غيرهما من المنافقين الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه السّلام، فإنّهم بايعوه أوّلا طائعين طامعين في نيل الأموال و المناصب، فلمّا رأوا أنّه عليه السّلام يعدل بالحقّ، و يقضي بالقسط، و يقسّم بالسويّة، و يعدل بين الرعيّة جاء طلحة و الزبير إليه يستأذنانه للعمرة و قد أرادا الغدرة، فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما تجرّ الأمة عند شرائها و أوقدوا نار الحرب الّتي قتل فيها منهم ما يقرب من عشرين ألفا، و قتل من أصحاب امير المؤمنين عليه السّلام نحو ألف رجل و سبعون

فارسا، إلى أن وضعت الحرب أوزارها.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 205.

(2) راجع هامش رقم (1) في تفسير الصافي ج 1 ص 96.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 334 و عنه البحار ج 32 ص 283.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 300

و لا يخفى أنّ نكث هؤلاء بيعتهم الثانية بعد قتل عثمان و إن أوجب الفساد، و سفك الدماء، و تفريق الكلمة، و إثارة فتن الشام و النهروان، إلّا أنّ أساس ذلك كلّه، بل و غيره من الفتن و المفاسد الواقعة بعد رحلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ظهور الحجّة عجل اللّه فرجه إنّما هو نكث البيعة الكبرى الواقعة في يوم الغدير.

و لذا

قال موسى بن جعفر على ما تفسير الامام عليهم السّلام: «إِذا قِيلَ» لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بإظهار نكث البيعة لعباد اللّه المستضعفين فتشوّشون عليهم دينهم، و تحيرونهم في مذاهبهم.

قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ لأنّا لا نعتقد دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا غير دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نحن في الدين متحيّرون، فنحن نرضى في الظاهر محمّدا بإظهار قبول دينه و شريعته، و نقضي في الباطن على شهواتنا فنمتنع و نتركه، و نعتق أنفسنا من رقّ محمّد، و نفكّها من طاعة ابن عمّه عليّ لكي لا نذلّ في الدنيا، كنّا قد توجّهنا، و إن اضمحلّ أمره كنّا قد سلمنا من سبي أعدائه. الخبر «1».

و فيه مبالغة على إنكار الناصح و ردّ قوله، و دعوى تمحّض أفعالهم و أحوالهم عن شرب الفساد، و انحصارها في الصلاح المحض لأنّ كلمة (إنّما) تفيد قصر ما

دخلته على ما بعده، فمعنى إنّما زيد قائم، ما زيد إلّا قائم، و معنى إنّما قائم زيد: ما قائم إلّا زيد، و المراد أنّ ما تسمّونه فسادا هو عندنا صلاح، لما في قلوبهم من الزيغ و المرض، فهم من الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «2»، و ممّن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً «3».

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام ص 57 و عنه البرهان ج 1 ص 61 ج 1.

(2) الكهف: 104.

(3) فاطر: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 301

أو إنكار ما ينسب إليهم من النفاق، و إيلاف الكفّار، و معاندة أهل الحقّ، كما قالوا: آمنّا و لم يؤمنوا.

[سورة البقرة(2): آية 12 ]

تفسير الآية (12) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ أَلا إِنَّهُمْ «1» اعلموا أنّ هؤلاء المنافقين المصرّين على كفرهم الذين يعدّون الفساد صلاحا هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ تكذيب من اللّه لهم و ردّ على ما ادّعوه أبلغ ردّ بحيث لا يرجى نجاتهم، لانهماكهم في غيّهم و ضلالهم و عدم شعورهم بذلك، أو بما يستحقّونه من العذاب الأليم، فإنّهم يحسبونه هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.

و كلمة أَلا حرف استفتاح يبتدأ به الكلام لتوكيد مضمون الجملة، مركّب من همزة الإنكار، و حرف النفي، و الإنكار نفي، و نفي النفي إثبات، ركّبتا لإفادة الإثبات و التحقيق، و نظيره أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «2» إذا لا يجوز للمجيب إلّا الإقرار ببلى، لكنّهما بعد التركيب صارتا كلمة تدخل على ما لا يجوز أن يدخله حرف النفي، كما في الآية، و لا تكاد تذكر إلّا و الجملة بعدها مصدّرة بما يتلقّى

به القسم، كإنّ، و اللام، و حرف النفي.

ففي الآية وجوه من المبالغة كتصدير الجملة بها و بإنّ المقرّرة لمضمونها و الاستيناف، فإنّ العدول اليه من العطف يقصد به تمكّن الحكم في ذهن السامع،

__________________________________________________

(1) البقرة: 12.

(2) سورة القيامة: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 302

و الإستدراك بلا يشعرون الدّال على أنّ كونهم مفسدين، أو استحقاقهم لعظيم العقوبة قد ظهر المحسوس، لكن لا حسّ لهم ليدركوا ذلك، إذ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها.

و تعريف الخبر، و توسيط الفصل على أحد الوجهين يجعل الضمير له و إن قيل: إنّ الأوّل منهما يفيد قصر المسند على المسند إليه، و الثاني يفيد تأكيد هذا الحصر، نحو زيد العالم، إلّا أنّه قد يفيد العكس أيضا بقرينة المقام نحو الكرم التقوى، فيؤكّده الفصل أيضا، مع ما فيه من ردّ قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، تعريضا على المؤمنين.

[سورة البقرة(2): آية 13 ]

اشارة

تفسير الآية (13) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لهؤلاء الناكثين للبيعة، قال لهم خيار المؤمنين كسلمان، و ابي ذرّ، و مقداد: آمِنُوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعلي الّذي أوقفه موقفه، و أقامه مقامه، و أناط مصالح الدين و الدنيا كلّها به، آمنوا بهذا النبي، و سلّموا لهذا الإمام، و سلّموا له في ظاهر الأمر و باطنه.

كَما آمَنَ النَّاسُ المؤمنون كسلمان، و المقداد، و أبي ذرّ، و عمّار، قالُوا في الجواب لمن يفيضون إليهم، لا لهؤلاء المؤمنين، فإنّهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، و لكنّهم يذكرون لمن يفيضون إليه من أهليهم الذين يثقون بهم من المنافقين و من المستضعفين او المؤمنين الذين هم

بالستر عليهم واثقون بهم، يقولون لهم: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يعنون سلمان و أصحابه لما أعطوا عليّا خالص ودّهم، و محض طاعتهم، و كشفوا رؤسهم بموالاة أوليائه و معاداة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 303

أعدائه.

و ما ذكرناه في تفسير الآية أخذناه عن تفسير الامام عليه السّلام «1»

.

و بناء الفعل في هذه الآية و ما قبلها للمفعول لتعظيم القائل، و الاهتمام بذكر المقول، و أنّ القائل به غير منحصر في واحد، بل هو قول اللّه تعالى، و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المؤمنين، و الملائكة الذين يلهمونهم الرشد على سبيل الخطرة و القذف في القلوب إرشادا لهم، و إتماما للحجّة عليهم بدلالتهم الى ركني الايمان الّذين هما التخلّي عن الرذائل المقصود بقوله: لا تُفْسِدُوا و التحلّي بالفضائل المطلوب بقوله:

آمِنُوا.

و الكاف في كَما آمَنَ النَّاسُ في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف، و (ما) مصدريّة، و المعنى آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس.

أو كافّة مثلها في ربّما، و المعنى حقّقوا إيمانكم كما تحقّق إيمانهم، فالتشبيه على الأوّل بين مفردين، و على الثاني بين مضموني الجملتين، و مجرّد حصول الغرض بالأوّل على فرضه غير دافع الثاني.

و اللام في الناس إمّا للجنس، و المراد به الكاملون في الإنسانيّة، المقيمون على وظائف العبوديّة في جميع شئونهم و أطوارهم و مراتب وجودهم قولا و فعلا و إرادة و اعتقادا في جميع الأحوال.

و هذه مرتبة تساوق العصمة، و لذا فسّر الناس في كثير من الأخبار بالأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين،

قالوا: نحن الناس، و شيعتنا شبه الناس، و سائر الناس نسناس «2».

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 58 و عنه البرهان ج 1 ص

62 ح 1.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 94- 95 عن تفسير الفرات ص 8 و الكافي الروضة ص 244- 245.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 304

و في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام: انّ اللّه خلقنا من نور عظمته، ثم صوّر خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش، فأسكن ذلك النور فيه فكنّا نحن خلقا و بشرا نورا نيّرا، لم يجعل لأحد في مثل الّذي خلقنا منه نصيبا، و خلق أرواح شيعتنا من أبداننا، و أبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة، و لم يجعل اللّه لأحد في مثل ذلك الّذي خلقهم منه نصيبا إلّا الأنبياء و المرسلين، فلذا صرنا نحن و هم الناس، و سائر الناس «1» همجا في النار، و إلى النار «2».

فالأمر في الآية بالتشبّه بهم في الايمان أمر بتشيّعهم و موالاتهم كي يندرج الممتثل في القسم الثاني.

و بعد الغضّ عن هذا المعنى الّذي يستفاد من الأخبار، بل و من قوله تعالى:

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «3» على ما يأتي ان شاء اللّه.

و لا ريب أنّ اسم الجنس يطلق مرّة على مطلق مسمّاه، و اخرى على المستجمع للفضائل المحمودة، و المحامد المقصودة في جنسه، و يجمعهما قوله:

ديار بها كنّا و نحن نحبّها إذا الناس ناس و الزمان زمان و المقصود في الآية هو الثاني، مع دعوى أنّ الفاقد لهذه الدرجة من الإيمان لا ينبغي أن يسمّ باسم الإنسان، و المراد به حينئذ سلمان و حزبه من خواصّ شيعتهم، فإنّهم الكاملون في مقام التصديق بهم.

و إمّا للعهد و المراد به أحد المعنيين أيضا.

و اللام في «السُّفَهاءُ» أيضا يحتمل الجنس ادّعاء منهم أنّهم البالغون في

__________________________________________________

(1) الهمج محرّكة: ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم و البعير.

(2) البصائر ص 7 و عنه البحار ج 25 ص 13- 14.

(3) النساء: 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 305

السفاهة، و العهد.

و دعوى أنّ اللام في الموضعين للعهد لا للجنس ضعيفة.

معنى السفاهة في المنافقين

و السفيه من خفّ عقله و سخف رأيه، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان باليا رقيقا، و إليه يئول ما قيل: إنّه الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواقع المنافع و المضارّ، بل و ما عن قطرب «1» من أنّه العجول الظلوم القائل خلاف الحقّ، فإنّ هذا كلّه من آثار الخفّة و السخافة.

و إنّما سفّهوهم لاسترذالهم و تحقير شأنهم و تضعيف أحلامهم، حيث إنّ اكثر المؤمنين كانوا فقراء منهم أصحاب الصفّة، و منهم موال، و نظيره قوله: وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ «2».

أو لأنّ منهم من ترك الحظوظ العاجلة و المناصب الموطئة، و الرياسات العظيمة، و منهم من هاجر الأوطان، و فارق الأهل و الأولاد و الإخوان، و منهم من بذل نفسه في سبيل اللّه، و كلّ ذلك عند هؤلاء المنافقين كان إيثارا للمضارّ على المنافع العاجلة الّتي طمحت إليها آمالهم، و تاقت إليها نفوسهم، و لذا حملوه على خفّة الأحلام و قلّة المعرفة بمواقع المنافع و المضارّ.

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ لا غيرهم، هم المؤثرون للباطل على الحقّ، لأنّ في إقامتهم على غيّهم و ضلالتهم فضلا من شماتتهم بأهل الدين موت قلوبهم، و هلاك نفوسهم، و هدر دمائهم، و نهب أموالهم و سبي ذراريهم، مع ما يستحقّونه من

__________________________________________________

(1) قطرب: ابو علي محمد بن المستنير البصري النحوي اللغوي المتوفى (206) ه.

(2) هود: 27.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 4، ص: 306

الشقوة اللازمة، و العقوبة الدائمة، فأيّ سفاهة أعظم من سفاهتهم؟! وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ حقّ العلم الّذي يقترنه العمل، فإنّ من آثر الباطل على الحقّ و إن كان عالما فإنّه جاهل كما في الخبر و يشهد له قوله: ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ «1»، و قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ «2».

او أنّهم مقصّرون في تحصيل العلم مع تمكّنهم منه و إعراضهم عنه، و لذا حقّت عليهم كلمة العذاب، أو أنّهم لا يعلمون أنّ المدار في النفع و الضرر إنّما هو ملاحظة الأجل لا العاجل، و ذلك لقصور نظرهم على الحظوظ الدنيوية، و لذا حقّروا أهل الحقّ.

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أعظم الكبر غمص الخلق و سفه الحق»، قال الراوي، و هو عبد الأعلى بن أعين: قلت: و ما غمص الخلق و سفه الحق؟ قال: يجهل الحقّ و يطعن على أهله «3» ، و في معناه أخبار أخر.

و في الآية وجوه من المبالغة في الردّ عليهم، و تجهيلهم، و تسفيه آرائهم، و لذا فصّلها بنفي العلم، مع أنّ الوقوف بأمر الدين و البصيرة ممّا يحتاج الى مزيد نظر و تفكّر دون معرفة النفاق و الفساد الحاصلة بأدنى تفطّن، و لذا فصّلت الآية السابقة ب لا يَشْعُرُونَ، و هذه الآية ب لا يَعْلَمُونَ، و هي جارية على كلّ من أنكر شيئا من الحقّ و طعن على أهله، سواء كان متعلقا بأصول العقائد، او بالفروع العملية، و إن اختلفت مراتب السفاهة باختلاف، متعلّق الإنكار، فإنّ اشدّها تعلق الإنكار بشي ء من

__________________________________________________

(1) يوسف: 89.

(2) النساء: 17.

(3) الكافي ج 2 ص 310 و عنه البحار ج 73 ص 218.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 307

الأصول الايمانية الّتي منها ولاية وليّ الأمر بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

بل قد سمعت فيما مرّ نقله ما ظاهره نزول الآية في المنافقين الناكثين لبيعته.

و ربما يقال: إنّ فيها دلالة على أنّ الإقرار إيمان، و إلا لم يفد التقييد بقوله:

«كَما آمَنَ النَّاسُ» للاستغناء عنه بقوله: «آمِنُوا».

و فيه أنّ الإطلاق مبنيّ على الإقرار الظاهر الموجب للحكم به ظاهرا، و أمّا الإيمان الحقيقي فقد مرّ أنّه لا يحصل إلّا بالإخلاص القلبي.

[سورة البقرة(2): آية 14 ]

اشارة

تفسير الآية (14) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَ إِذا لَقُوا يعني هؤلاء المنافقين الجاحدين لنبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم او الناكثين لبيعة وصيّه و خليفته امير المؤمنين عليه السّلام.

الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كأيمانكم بالنبي و الوصيّ، فنحن و أنتم إخوان في الدين أولياء لأمير المؤمنين.

و اللقاء: المصادفة و الاستقبال، تقول: لقيته: إذا صادفته و استقبلته قريبا منه.

و مساق الآية لبيان معاملتهم مع المؤمنين و الكفّار في الظاهر و الباطن.

و أمّا ما صدرت به القصّة فبيان لمذهبهم على ما هم عليه، حيث إنّهم قد ادّعوا حيازة الايمان بقطريه، و ما هم فيه من شي ء، فلا تكرار، مع ما في الثاني من تقييد إطلاق الأول بأنّ تفوههم بالإيمان خداعا إنّما كان عند لقاء المؤمنين الّذي هو مظانّ الحاجة الى التفوّه بالكلمة، و أنّهم ضمّوا الى الخداع الاستهزاء.

بل قد يقال: إنّ الأوّل إخبار عن حدوث نفس الإيمان، و الثاني من حدوث خلوصهم فيه و رسوخه في قلوبهم، و لذا قيل: معنى قالُوا آمَنَّا أخلصنا بقلوبنا.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 308

و في «الحواشي البهائيّة»: لا يبعد أن يحمل قولهم: آمَنَّا في احدى الآيتين على الإنشاء، كما يقول القائل: آمنت باللّه، و في الاخرى على الإخبار، فإن حملت الثانية عليه لم يحتج إلى توجيه إخلائها من التوكيد.

أقول: و لعلّ من فوائد التكرير مضافا الى ما مرّ كونه تمهيدا لما قوبل به ممّا يسجل عليهم نفاقهم و خداعهم و استهزائهم بالمؤمنين.

روى في المناقب عن تفسير الثعلبي، و في كشف الغمّة عن ابن عباس أنّ عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه تمعّكوا مع علي عليه السّلام في الكلام، فقال علي عليه السّلام: يا عبد اللّه اتقّ اللّه و لا تنافق فإنّ المنافق شرّ خلق اللّه، فقال: مهلا يا أبا الحسن و اللّه إنّ أيماننا كايمانكم، ثمّ تفرّقوا، فقال عبد اللّه: كيف رأيتم ما فعلت؟ فأثنوا عليه، فنزلت.

و رواه موفّق بن أحمد، و هو من أكابر العامّة في كتابه، ثمّ قال بعد نقل الخبر:

دلّت الآية على ايمان علي عليه السّلام كرّم اللّه وجهه ظاهرا و باطنا، و على قطعه موالاة المنافقين و إظهار عداوتهم، و المراد بالشياطين رؤساء الكفّار. انتهى «1».

و في تفسير الامام عن الكاظم عليه السّلام أنه قال: وَ إِذا لَقُوا هؤلاء الناكثون البيعة المواطئون على مخالفة علي عليه السّلام و دفع الأمر عنه الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كإيمانكم، إذا لقوا سلمان و المقداد و أبا ذرّ و عمّارا قالوا آمنّا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و سلّمنا له بيعة عليّ عليه السّلام و فضله و أنفذنا لأمره كما آمنتم، إنّ أوّلهم و ثانيهم و ثالثهم الى تاسعهم ربما يلاقون في بعض طرقهم مع سلمان و أصحابه، فإذا لقوهم إشمأزّوا منهم و

قالوا: هؤلاء أصحاب الساحر و الأهوج، و هو الّذي يهيج في الحرب، يعنون محمّدا و عليّا، ثم يقول بعضهم: احترزوا منهم لا يقفون من فلتات كلامكم على كفركم فيكون فيه هلاككم، فيقول أوّلهم: انظروا إليّ كيف أسخر منهم و أكفّ عاديتهم عنكم، فإذا التقوا

__________________________________________________

(1) كشف الغمّة ص 89 و عنه البحار ج 36 ص 122.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 309

قال: مرحبا بسلمان ابن الإسلام الّذي قال فيه محمّد سيّد الأنام: لو كان الدين معلّقا بالثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس، و قال فيه: سلمان منّا أهل البيت، ثمّ يقول للمقداد و عمّار و غيرهما ما قاله فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقبل سلمان و أصحابه ظاهرهم كما أمرهم اللّه، و يجوزون عنهم.

فيقول الأوّل لأصحابه: كيف رأيتم سخريتي بهؤلاء و كفّي عاديتهم عنّي و عنكم، فيقولون: لا تزال بخير ما عشت لنا، فيقول لهم: فهكذا فلتكن معاملتكم لهم إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم، فإنّ اللبيب العاقل من تجرّع على الغصّة حتى ينال الفرصة «1».

وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ، الشياطين الذين من حزبهم و خدنهم و سنخهم من مردة الإنس الذين يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً، أو سادتهم و كبرائهم الذين أضلّوهم السبيلا، و لذا أضافهم إليها.

و في «المجمع» عن مولانا باقر عليه السّلام: أنّهم كهّانهم «2».

و في التفسير عن الكاظم عليه السّلام: انّهم أخدانهم من المنافقين المتمرّدين المشاركين لهم في تكذيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما أتاه إليهم عن اللّه تعالى من ذكر تفضيل امير المؤمنين عليه السّلام، و نصبه إماما على كافّة المكلّفين «3».

و التعبير الأوّل باللقاء، و هنا بالخلاء للتنبيه

على كذبهم و نفاقهم، و أنّه لا حظّ لهم من الايمان إلّا دعواه باللسان، و معتقدهم ما يظهرونه إذا خلوا.

و هي من خلوت به و إليه، و معه خلوّا و خلوة إذ انفردت معه، أو من خلى

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 58- 59.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 51.

(3) التفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام ص 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 310

بمعنى مضى و منه: إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» أي مضى، و خلاك ذمّ أي عداك و مضى عنك، أو من خلوت به إذا سخرت منه، من قولهم: خلا فلان بعرض فلان يعيّب به.

و عدّي بإلى لتضمين معنى الإنهاء، لأنّهم أنهوا السخريّة بالمؤمنين إلى شياطينهم و حدّثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلانا، و أذمّه إليك.

قراءة شاذّة في خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ

حكى الطبرسي في المجمع أنّ قراءة أهل الحجاز في (خَلَوْا إِلى و أمثاله بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على الواو قبلها اي (خلولا).

و أما الشيطان فقد مضى معناه تفصيلا في الاستعاذة و المستعاذ منه «2».

قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ في الدين و الاعتقاد و الاعتضاد لا نفارقكم في قول أو فعل، بل نوافقكم على ما واطئتم عليه من دفع علي عليه السّلام عن هذا الأمر إن كانت لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كائنة: فلا يغرنّكم و لا يهولنّكم ما تسمعونه منّا و ترونه من دعوى الايمان و مداراتهم هي مجرّد قول لا حقيقة له.

إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بهم الاستخفاف بدينهم.

و هو استيناف مشتمل على المبالغة من وجوه كترك العاطف، و كون الجملة اسميّة مفتتحة بما يؤكّد مضمونها، و يفيد قصر أحوالهم في الاستهزاء الّذي هو شرّ وجوه الإنكار، فكأنّ

الشياطين قالوا لهم لمّا قالوا إِنَّا مَعَكُمْ: إن صحّ ذلك فما بالكم

__________________________________________________

(1) فاطر: 24.

(2) الصراط المستقيم ج 3 فاتحة الكتاب ص 57- 87.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 311

توافقون المؤمنين و تدّعون الإيمان؟ فأجابوا بذلك.

و لظهور المجرى للسؤال في المقام و كون الجملتين على وجه الاستيناف مقصودتين، مع ما فيه من البيان و التقرير كان ذلك أولى من جعل الجملة تأكيدا للسابقة نظرا إلى أنّ قوله: إِنَّا مَعَكُمْ معناه الثبات على الكفر، و هذه ردّ للإسلام و دفع له منهم، لأنّ المستخفّ بالشي ء دافع لكونه معتدّا به، و دفع نقيض الشي ء تأكيد لثباته، أو بدلا منها حيث عظّموا كفرهم بتحقير الإسلام و أهله.

بل أفادوا أمرا زائدا على مجرّد المصاحبة و الموافقة، و هو قيامهم مع المؤمنين مقام المستهزئ المستخفّ بهم و بالدين، تنبيها على أنّهم في غيّهم و ضلالهم أرسخ قدما من شياطينهم، و دفعا لما يوهمه ظاهر إقرارهم.

و لذا خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعليّة الدالّة على دعوى حدوث الإيمان و خاطبوا الشياطين بالجملة الاسميّة المؤكّدة بإنّ، تحقيقا لثباتهم و استقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر و النفاق، فهم في الخطاب الأوّل بصدد الإخبار بحدوث الإيمان منهم، و لا باعث لهم على التأكيد.

معنى الاستهزاء

معنى الاستهزاء

و الاستهزاء: السخرية و الاستخفاف من الهزء بالفتح، و هو القتل السريع، و هزأ يهزأ بالفتح فيهما: مات على المكان، و هزأت و استهزأت بمعنى، و رجل هزأة بسكون الزاي اي يهزء به، و بفتح الزاي اي يهزأ بالناس.

و الأكثر على تحقيق الهمزة في مُسْتَهْزِؤُنَ و عن سيبويه تخفيفها بين بين، و هكذا كل همزة مضمومة إذا كان قبلها كسرة، و عن الأخفش قلب الهمزة ياء في المقام

و نحوه لأجل الكسرة الّتي قبلها، و هنا وجه آخر و هو حذف الهمزة و ضمّ ما قبلها، قرأ بها أبو جعفر وقفا و وصلا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 312

[سورة البقرة(2): آية 15 ]

اشارة

تفسير الآية (15) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ استيناف في غاية الجزالة و الفخامة حيث إنّهم بالغوا في استهزائهم أشنع مبالغة و أعظمها على وجه يحرّك السامع أن يقول: هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم و عاقبة حالهم و كيف صنع اللّه تعالى بهم في مجازاتهم؟

فصدّره باسمه المقدّم الجامع تنبيها على أنّه سبحانه هو الّذي يستهزأ بهم الاستهزاء الأبلغ الّذي لا اعتداد معه باستهزائهم، و ذلك لصدوره عمّن تضمحلّ قدرتهم و علمهم في جنب علمه و قدرته، و إيذانا بأنّه سبحانه يكفي مؤنة عباده المؤمنين و ينتقم لهم من أعدائهم في الدين، و لا يحوجهم الى معارضة المنافقين كيلا يفتروا بمكائدتهم عن عبادته.

معنى الاستهزاء بالنسبة الى اللّه سبحانه

و آثر الفعلية على الاسميّة و إن كان فيها المطابقة تنبيها على أنّ استهزاءه تعالى إنّما يحدث حالا فحالا، و يتجدّد وقتا وقت بعد وقت كما جرت به سنّته في سائر عقوباته في الدنيا كما قال: أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ «1»، و في الآخرة أيضا كما قال سبحانه: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «2».

__________________________________________________

(1) التوبة: 126.

(2) النساء: 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 313

ثم إنّ الاستهزاء و إن كان لا يخلو من التلبيس و العبث، بل الجهل.

كما قالوا: أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ «1»، و الكلّ محال عليه سبحانه إلّا أنّه قد شاع تسمية جزاء الشي ء باسمه. كما في قوله تعالى:

وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2».

فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «3»، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً «4»، وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ «5» و

قول النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم: اللهمّ إنّ فلانا هجاني اللهمّ فاهجه «6».

و ذلك إمّا لمقابلة اللفظ باللفظ، أو لكونه مماثلا له في القدر، او أنّ المراد إرجاع استهزائهم إليهم، و ردّ كيدهم في نحورهم، فإنّهم و إن أصرّوا في استهزاء المؤمنين إلّا أنّه يعود و باله إليهم، فيكونون كالمستهزء بهم، أو لأنّه سبحانه ينزل بهم لوازم الاستهزاء من الحقارة و الذلّة و الهوان و غيرها في الدنيا و الآخرة، تسمية لللازم باسم الملزوم، او أنّه يعاملهم معاملة المستهزئ المستخفّ، حسبما مرّ في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ «7».

روى في العيون، و المعاني، و التوحيد، و الاحتجاج عن مولانا الرضا عليه السّلام انه قال: إنّ اللّه عزّ و جل لا يسخر و لا يستهزئ و لا يمكر و لا يخادع، و لكنّه عزّ و جل يجازيهم

__________________________________________________

(1) البقرة: 67.

(2) الشورى: 40.

(3) البقرة: 194.

(4) الطارق: 15- 16.

(5) آل عمران: 54.

(6) البحار ج 33 ص 229 مع تفاوت.

(7) النساء: 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 314

جزاء السخرية و جزاء المكر و الخديعة، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوّا كبيرا «1».

و في تفسير الإمام عليه السّلام: قال العالم، يعني الكاظم عليه السّلام: فأمّا استهزاء اللّه تعالى بهم في الدنيا فهو إجراؤه إيّاهم على ظاهر أحكام المسلمين لإظهارهم السمع و الطاعة، و أمّا استهزاء بهم في الآخرة فهو أنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أقرّهم في دار اللعنة و الهوان و عذّبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب، و أقرّ هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، صفي اللّه الملك الديّان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين بهم

في الدنيا حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن و بدائع النقمات: فيكون لذتهم و سرورهم بشماتتهم كلذّتهم و سرورهم بنعيمهم في جنان ربّهم، فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين المنافقين بأسمائهم و صفاتهم، و الكافرون و المنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في الدنيا يسخرون لما كانوا من موالاة محمّد و علي و آلهما عليه السّلام يعتقدون، فيرونهم في أنواع الكرامة و النعيم، فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين المنافقين: يا فلان، و يا فلان، و يا فلان- حتى ينادوهم بأسمائهم، ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟ هلمّوا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان لتخلصوا من عذابكم، و تلحقوا بنا، فيقولون: يا ويلنا أنّى لنا هذا؟ فيقول المؤمنون: انظروا إلى هذه الأبواب، فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتّحة، يخيّل إليهم أنّها إلى جهنّم التي فيها يعذّبون و يقدّرون أنّهم يتمكّنون من أن يخلصوا إليها فيأخذون في السباحة في بحار حميمها، و عدو من بين أيدي زبانيتها «2»، و هم يلحقونهم يضربونهم بأعمدتهم، و مرزباتهم «3»، و سياطهم، فلا

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ص 319 عن التوحيد و المعاني و العيون.

(2) الزبانية عند العرب: الشرط، سمّوا بعض الملائكة لدفعهم أهل النار إليها.

(3) المرزبة: عصيّة من حديد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 315

يزالون هكذا يسيرون هناك، و هذه الأصناف من العذاب تمسّهم حتى إذا قدروا أن قد بلغوا تلك الأبواب وجدوها مردومة «1» عنهم و تدهدههم «2» الزبانية بأعمدتها فتنكّسهم إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، و يستلقي أولئك المؤمنون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم، مستهزئين بهم، فذلك قول اللّه عزّ و جلّ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ و قوله عزّ و جل: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ «3» «4».

و روى ابن شهراشوب عن الباقر عليه السّلام أنّها نزلت في ثلاثة لمّا قام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالولاية لأمير المؤمنين عليه السّلام أظهروا الإيمان و الرّضا بذلك، فلمّا خلوا بأعداء أمير المؤمنين عليه السّلام قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «5».

و في المناقب عن تفسير الهذيل و مقاتل عن محمد بن الحنفيّة في خبر طويل إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بعلي بن أبي طالب عليه السّلام و أصحابه، فقال اللّه تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يعني يجازيهم في الآخره جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه السّلام.

قال ابن عبّاس: و ذلك أنّه إذا كان يوم القيامة أمر اللّه الخلق بالجواز على الصراط فيجوز المؤمنون إلى الجنّة و يسقط المنافقون في جهنّم، فيقول اللّه: يا مالك استهزأ بالمنافقين في جهنّم، فيفتح مالك بابا في جهنّم الى الجنّة و يناديهم: معشر المنافقين هاهنا هاهنا فيسبح المنافقون في نار جهنّم سبعين خريفا حتى إذا بلغوا ذلك الباب و همّوا بالخروج أغلقه دونهم و فتح لهم بابا الى الجنّة في موضع آخر

__________________________________________________

(1) المردومة: المسدودة.

(2) دهدهه: دحرجه.

(3) المطفّفين: 34.

(4) البحار ج 6 ص 51- 52 و البرهان ج 1 ص 63- 64.

(5) تفسير البرهان ج 1 ص 64 عن المناقب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 316

و يناديهم مثل الأوّل، و هكذا أبدا الآبدين «1».

وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.

المدّ هو الزيادة في الشي ء بما يقيمه و يقوّيه، يقال: مدّ الجيش و أمدّه إذا زاده و ألحق به ما يكثره و يقوّيه، و منه الدواة و الأرض، و المادّة ما يكون مددا لغيره، و مدّ، و أمدّ في الكلّ بمعنى واحد.

و اختصاص (مدّ)

بما يحدث في الشي ء من نفسه، و (أمدّ) بما يحدث فيه من غيره، او من غير سنخه غير ثابت، بل الظاهر لغة و استعمالا خلافه.

و كذا ما قيل من أنّ المدّ في الشرّ كما في الآية: وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «2» و في قوله تعالى: وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا «3» و الإمداد في الخبر كما في قوله تعالى: وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ «4» أو الفرق بأنّ المدّ ما كان بطريق الزيادة كقوله تعالى: وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ «5»، و الإمداد ما كان بطريق التقوية و الإعانة، أو أنّ المدّ إعانة القوم بنفسه، و الإمداد إعانتهم بغيره، ... الى غير ذلك من الفروق الّتي لا شاهد لها، و إن استفيد بعضها تصريحا أو تلويحا من بعض ائمّة اللّغة.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 64 عن المناقب.

(2) سورة البقرة: 15.

(3) سورة مريم: 79.

(4) الإسراء: 6.

(5) لقمان: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 317

القراءة في يَمُدُّهُمْ

و أمّا اشتقاقه في المقام من المدّ في العمر بمعنى الإملاء و الإمهال فقد بالغ الزمخشري في الردّ على من ذكره نظرا إلى قراءة ابن كثير و ابن محيصن: «و يمدّهم» بضمّ الياء، و قراءة نافع: و إخوانهم يمدّونهم «1» بضم الياء، و قول الحسن في تفسيره: في ضلالتهم يتمادون و أنّ هؤلاء من أهل الطبع على أنّ الّذي بمعنى أمهله إنّما هو مدّ له مع اللام ك أُمْلِي لَهُمْ*.

ثمّ ذكر أنّه قد استجرّهم الى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى اللّه ما أسند إلى الشياطين «2»، ثمّ طعن فيهم بما ليس عنه ببعيد.

و الحقّ أنّ اصل المعنى هو ما سمعت،

و منه مدّ في العمر، فإنّ قوام الوجود للإنسان بالحياة الّتي تنقضي شيئا فشيئا، فإذا استمرّ وصول مدد البقاء إليه دام وجوده، و إلّا انصرم عمره، و هذا كقولك: مددت السراج إذا أصلحته بالزيت.

و أمّا القراءتان فليست فيهما شهادة لاشتراك الإمداد للمدّ في معنى الإمهال كما صرّح به في القاموس، و غيره.

و تفسير الحسن على فرض اعتباره إنما هو باعتبار ما يئول اليه أمرهم بعد الإملاء و التمادي في الغيّ، و لذا قرنه بكونهم من أهل الطبع، و تعديته باللام ليس على الدوام، مع أنّه قد يقال: أصله يمدّ لهم، على الحذف و الإيصال، و أمّا المحذور فمندفع على الوجهين، و الطغيان بالضم و الكسر مجاوزة الحدّ في الكفر و العلوّ في العتوّ من قولك: طغى الماء يطغى إذا تجاوز الحدّ و البحر هاجت أمواجه.

__________________________________________________

(1) لقمان: 27.

(2) الكشّاف ج 1 ص 188.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 318

و عن زيد بن علي: قراءته بكسر الطاء، و هما لغتان كلقيان و لقيان، و فيه لغة ثالثة بالواو، بل و رابعة و العمه بالفتحتين: التحيّر في الضلال و التردد في منازعة أو طريق، من عمه كمنع و فرح فهو عمه ككتف و عامه، و الجمع عمّه كركّع، كما في قول رؤبة:

و مهمة أطرافه في مهمة أعمى الهدى بالجاهلين العمّه أي الذين لا معرفة لهم بالطرق، و قد يقال: إنّه مثل العمى إلّا أنّ العمى عامّ في البصر و الرأي، و العمى في الرأي خاصّة و حاصل المعنى أنه سبحانه يعطيهم المدد في طغيانهم حال كونهم متحيّرين في ضلالتهم، فالطرف متعلّق بالفعل، و يعمهون حال من الضمير.

و لا محذور في إسناد الإمداد إليه سبحانه بعد

ما سمعت من أنّ الفيوض الإلهية و الإمدادات الرحمانية كلّها بيده و من عنده يمنح به عباده برّهم و فاجرهم و سعيدهم و شقيّهم، و مطيعهم و عاصيّهم أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «1» غير أن السعيد بحسن توفيقات اللّه له و حسن اختياره و قبوله للأمر التشريعي يصرف تلك النعم فيما خلقت لأجله، فيحصل صورة الطاعة و الانقياد و العبودية فيسمّى شاكرا و يشكر ذلك منه، و اللّه شاكر لأعمالهم، يقبله بأحسن القبول، و يجزيهم بأحسن الجزاء، و الشّقي يصرف نعم اللّه سبحانه من القوّة و الاستطاعة و الآلات و الأدوات البدنيّة و الماليّة و غيرها في خلاف رضاه سبحانه، بسوء إختياره، و ما اعتراه من الخذلان الّذي هو التّخلية بينه و بين نفسه، فالإمدادات الواصلة الى العبد في كلّ من الطّاعة و المعصية قائمة به سبحانه قيام صدور بقيّوميّته المطلقة، و هي كلّها من فيوضه و نعمائه، و آثار رحمته الرّحمانيّة، إلّا أنّها تختلف

__________________________________________________

(1) الرعد: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 319

باختلاف المحلّ، فتصير نعمة لقوم بحسن اختيارهم و قبولهم و شكرهم، و نقمة لآخرين بخذلانهم و إنكارهم و كفرهم، فالمادّة واحدة فالصور مختلفة، و ذلك كالمداد الّذي يصلح و هو في الدّواة للكتابة كلّ من الخير و الشرّ، و مادّة الهواء المستنشق الصالحة لجميع الأضداد، و القطر النازل الموجب لنموّ كلّ من السّكر و الحنظل و لنعم ما قيل:

أرى الإحسان عند الحرّ دينا و عند النذل منقصة و ذمّا كقطر الماء في الأصداف درّ و في جوف الأفاعي صار سمّا و حيث إنّ المدد قائم به قياما صدوريّا يصحّ نسبة الفعل اليد سبحانه مع إضافة الطغيان و

العمه إليهم لانهماكهم فيه و عكوفهم عليه بالإرادة و الإختيار، فارتفع الأشكال من البين، و اتّضح الأمر بين الأمرين.

أو أنّه سبحانه يمدّهم في حال طغيانهم استصلاحا لهم، و هم مع ذلك لا يرعوون عن غيّهم، فهم يعمهون في ضلالتهم.

أو أنّه يمدّهم حال كونهم يعمهون في طغيانهم.

[سورة البقرة(2): آية 16 ]

اشارة

تفسير الآية (16) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أو أنّه يمدّ لهم في أعمارهم استدراجا مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* ... لِيَزْدادُوا إِثْماً أو استصلاحا كي يتنبّهوا و يطيعوا، فما زادوا إلّا طغيانا و عمها، و المعاني متقاربة و ان كان الأخير هو الظاهر من

قول الإمام عليه السّلام حيث قال في تفسيره: يمهلهم و يتأنى بهم برفقه، و يدعوهم إلى التّوبة، و يعدهم إذا أنابوا المغفرة، و هم يعمهون لا يرعوون عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 320

قبيح، و لا يتركون أذى لمحمد و عليّ يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلّغوه «1» أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى غيّروا فطرتهم الأصلية الّتي فطرهم اللّه عليها، من التوحيد و الإسلام، و قبول الحق، و الاستقامة في الأفعال و الأقوال و الإرادات و الخطرات إلى الخلقة المغيّرة الشّيطانية التطبّعية الثّانويّة الّتي تدعو إلى الشرك و الكفر و سائر الاعوجاجات و الانحرافات في مراتب الوجود، فأعطوا ما لهم من الهداية الفطريّة و اعتاضوا عنها الضّلالة، أو اختاروا الضّلالة على الهدى، و الهلاك على النّجاة، و اليم العذاب على حسن الثّواب، بعد التمكّن من الأمرين، و الاهتداء إلى النّجدين، من الإطاعة و العصيان، أو ولاية أولياء الحقّ و ولاية الجبت و الطاغوت و سائر الشياطين، و لذا فسّرت الضّلالة بهم، كما فسّر الهدى بمولانا أمير المؤمنين عليه السّلام على ما مرّ في أوّل السورة.

معنى اشتراء الضلالة

و في تفسير الامام عليه السّلام: باعوا دين اللّه تعالى و اعتاضوا منه الكفر باللّه تعالى «2» و الجملة مقرّرة لقوله: وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أو مستأنفة تعليلا لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ و المدّ في الطغيان.

و اصل الاشتراء قبول انتقال الشي ء من الأعيان إليه بالثّمن المبذول منه،

بلا فرق بين أن يكون أحدهما أو كلاهما من النقود أو لا، فانّ تعيين المشتري إنّما هو بكونه باذلا للثّمن الّذي هو مدخول الباء، أو ما بمنزلته في المعاطاة، ثمّ استعير لاستبدال شي ء بغيره سواء كان أحدهما أو كلاهما من الأعيان أو المعاني، و منه

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 63.

(2) البرهان ج 1 ص 64 عن تفسير الامام عليه السّلام

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 321

قوله: كما اشترى المسلم إذ تنصّرا فيمن استبدال النصرانيّة بالإسلام، ثمّ اتّسع فيه فاستعمل فيما لم يكن مالكا للعوض واجدا له بالفعل كما في المقام على بعض المعاني بناء على تفسيره بالاختيار و نحوه.

و لذا قيل إنّ العرب تقول لمن تمسّك بشي ء و ترك غيره قد اشتراه و ليس ثمّ شراء و لا بيع.

و في كونه حقيقة فيه أو في الاستبدال مطلقا أو على بعض الوجوه وجوه بل أقوال، و لعلّ الأوسط أوسط، و ما ذكرناه أوّلا مبنيّ على الأخير و لو لكونه حقيقة عرفيّة خاصّة شرعيّة أو متشرعة، و لذا أضفنا إليه الاستعارة و الاتّساع.

و على كلّ حال فقد ظهر اندفاع ما ربما يورد من الإشكال من أنّهم لم يكونوا على هدى فكيف اشتروا الضّلالة به مع أنّه قد يقال إنّ الآية نزلت في قوم استبدلوا الكفر بالإيمان الّذي كانوا عليه قبل البعثة، لأنّهم كانوا يبشّرون بمحمّد و يؤمنون به فلمّا بعث كفروا به، فكأنّهم استبدلوا الكفر بالإيمان على أنّ في الآية وجها آخر و هو أن تكون الباء للبدليّة، و المعنى أنّهم اشتروا الضّلالة بدل الهدى و ذلك أنّ اللّه تعالى و هو المالك لما ملكنا قد أحلنا في سبيل العبور إلى الآخرة الّتي

هي دار الباقية في هذه الدّار الفانية الّتي هي متجر أولياء اللّه و مزرع أحبّائه و سوق التجارة بها قائمة و قد أعطانا رأس المال و هو ما منحنا من العمر و المال و القوّة و غيرها، و دلّنا على تجارة رابحة بقوله تعالى فيما أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 322

وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «1» فحقيقة هذه التّجارة هي بذل النّفس و المال و صرف العمر و القوى في طاعة اللّه و تحصيل رضاه، و به يحصل الهداية إلى الصّراط المستقيم الّذي هو مقتضى القيام بحدود الولاية و حقوقها فإذا بذلوها و صرفوها بمقتضى الأهواء بمقتضى الأهواء المردية في تحصيل المشتهيات النّفسانية، و الحظوظ الحيوانيّة، و الانحرافات الشيطانية، فقد اشتروا الضّلالة بدلا عن الهدى الّذي أمروا بتحصيله و اشترائه، و رأس المال في الجميع هو ما سمعت.

و ذلك كمن يعطي عبده دينارا ليشتري به لنفسه غذاء صالحا فيشتري العبد به سمّا مهلكا و يهلك به نفسه، و لعل ما ذكرناه هو الأوفق بالمقام و بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ «2» و قوله: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» و الواو في اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ

مضمومة وصلا، وفاقا لجميع القرّاء للمجانسة بعد التقاء الساكنين بسقوط ألف الوصل، و الفصل بالضمّ بينها و بين واو (أو) و (لو) و في الشّواذ عن يحيى بن يعمر أنّه كسر الواو في المقام، و مثله تشبيها بواو لو في قوله: «لَوِ اسْتَطَعْنا» «4». كما أنّ المحكي عن يحيى بن وثاب «5» أنّه ضمّ واو (لو) تشبيها بواو الجمع الّذي اتفق الجميع على ضمّه نحو: لَتُبْلَوُنَّ «6» و لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «7».

__________________________________________________

(1) سورة الصف: 10- 13.

(2) البقرة: 175.

(3) آل عمران: 177.

(4) التوبة: 42.

(5) يحيى بن وثّاب المقري الكوفي الاسدي مولاهم توفي سنة 103.

(6) آل عمران: 186.

(7) التكاثر: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 323

فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ: فما ربحوا في تجارتهم لأنّهم اشتروا التطبّع بالخلقة المغيرة الشيطانيّة بتضييع الفطرة الأصليّة الايمانيّة، و استبدلوا الكفر بالإيمان، و صرفوا أعمارهم فيما صرفهم عن نيل المثوبات إلى استحقاق المثلات و العقوبات.

لذا

قال الامام عليه السّلام في تفسيره: أي ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة لأنّهم اشتروا النّار و أصناف عذابها بالجنّة الّتي كانت معدّة لهم لو آمنوا «1».

و التجارة في الأصل مصدر ثان لتجر من باب قتل نقلت إلى معنى الحرفة و الصّناعة، و الرّبح الزّيادة على رأس المال، و اسناده إلى التّجارة و هو لأربابها على التجوّز لتلبّسها بالفاعل، أو لمشابهتها إيّاه من جهة سببيتها للرّبح و الخسران، و شاع في إطلاقهم ضلّ سعيه و خسرت صفقته و ربح بيعه.

و لعلّ النكتة في المقام التّنبيه على أنّ هذه التّجارة بنوعها في نفسها خاسرة لا تفارقها الخسران أبدا، و لذا أضافها إليهم، فانّها نشأت من تطبعهم و تعملهم، بخلاف التّجارة الرابحة الّتي علّمهم اللّه

تعالى.

و ذكر الرّبح و التجارة بعد استعارة الاشتراء للاستبدال او الاختيار ترشيحا للمجاز اتباعا له بما يشاكله تحقيقا لحالهم و تمثيلا لخسارهم، كما يقال جاوزته بحرا يتلاطم أمواجه و له اليد الطّولى قال:

و لمّا رأيت النّسر عن ابن دأية «2» و عشش في و كريه جاشت له صدري فشبه الشيب بالنّسر و الشعر الفاحم بالغراب مرشّحة بذكر العشّ و الوكرين و هما الرّأس و اللّحية و للغراب وكران صيفي و شتوي «3».

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 64 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) ابن داية: الغراب.

(3) راجع الكشاف ج 1 ص 193.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 324

وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحقّ و الصّواب كما في تفسير الامام عليه السّلام «1». فلم ينالوا الهداية و ارتكبوا في تيه الضلالة، أو لطرق التجارة فيكون ترشيحا آخر، فإنّ المقصود منها لمن يتعاطيها أمران: سلامة رأس المال، و حصول الرّبح، و هؤلاء قد ضلّوا الطّلبتين، و أضاعوا الأمرين، فانّ رأس مالهم هو الفطرة السليمة و العقل الّذي به يعبد الرّحمن و يكتسب الجنان، أو ساير ما منحهم من العمر و القوى و الآلات، فلمّا جحدوا الحقّ و عاندوه و أنكروا شيئا من التوحيد و النبوّة و الولاية و غيرها من الأصول الايمانيّة بطل استعدادهم، و تغيّرت فطرتهم، و اختل عقلهم، و تمكّن فيهم النكراء و الشّيطنة و صرفوا أعمارهم فيما لا يزيدهم إلّا طغيانا و خسرانا، فخسروا الأصل و الرّبح معا.

و إنّما نفى عن تجارتهم الرّبح مع أنّ خسران الأصل أولى بالذكر و أليق بشرح حالهم، مضافا إلى كونه أخصّ من الأوّل يستغنى بذكره عنه مع اشتماله على فائدة زائدة لأنّ المقصود الاصلي من

التّجارة هو الاسترباح لا الحفظ، و إن كان هو الأهم في بابه فيسيق الكلام على مساق التجارة ثم حصل الترقي إلى خسران الأصل بقوله: «وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ» أو لأنّه استغنى بذكر لفظ الضلالة عن ذلك، حيث إنّه قد دلّ بالاشتراء على بذل رأس المال الّذي هو الهدى، و لذا دخلته الباء كما تدخل الأثمان فلم يبق في أيديهم عوض عنه غير الضلالة الّتي هي محض الخسران، فرتّب عليه انتفاء الرّبح أيضا عطفا بالفاء.

او للاشعار على ربح المؤمنين على ما هو قضية المقابلة، فذكر أنّ الّذين

__________________________________________________

(1) البرهان: ج 1 ص 64 عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 325

اشتروا الضّلالة بالهدى لم يربحوا كما أنّ الّذين اشتروا الهدى بالضّلالة ربحوا.

و أمّا قوله: وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ فمرجعه إلى الترشيح إشارة إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة، على أنّه ربما يقال: إنّ الأولى عطفه على قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ.

و في تفسير الإمام عليه السّلام أنّه لما أنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية حضر عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم فقالوا يا رسول اللّه سبحان الرّزاق ألم تر أنّ فلانا كان يسيّر البضاعة خفيف ذات اليد خرج مع قوم يخدمهم فدفعوا له حقّ خدمته، و حملوه معهم إلى الصّين و عيّنوا له يسيرا من مالهم قسّطوه على أنفسهم له، و جمعوه فاشتروا له بضاعة من هناك فسلمت فربح الواحدة عشرة فهو اليوم من مياسير أهل المدينة، و قال قوم آخرون بحضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه ألم تر فلانا كانت حسنة حاله و كثيرة أمواله جميلة أسبابه وافرة خيراته مجتمعا شمله أبى إلّا طلب

الأموال الجمّة، فحمله الحرص على أن تهوّر فركب البحر في وقت هيجانه، و السفينة غير وثيقة، و الملّاحون غير فارهين إلى أن توسّط البحر حتّى إذا لعبت بسفينة ريح فأزعجتها إلى الشاطئ و فتّتتها في ليل مظلم، و ذهبت أمواله، و سلّم بحشاشته فقيرا و قتيرا، ينظر إلى الدّنيا حسرة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ألا أخبركم بأحسن من الأول حالا و بأسوإ من الثاني حالا؟ قالوا بلى يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أمّا أحسن من الأوّل حالا فرجل اعتقد صدقا لمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدقا في إعظام عليّ أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وليّه، و ثمرة قلبه، و محض طاعته، فشكر له ربّه و نبيّه و وصيّ نبيّه، فجمع اللّه له بذلك خير الدنيا و الآخرة، و رزقه لسانا لآلاء اللّه ذاكرا، و قلبا لنعمائه شاكرا، و بأحكامه راضيا، و على احتمال مكاره أعداء محمّد و آله نفسه موطّنا، لا جرم أنّ اللّه عزّ و جلّ سماه عظيما في ملكوت أرضه و سماواته و حيّاه برضوانه و كراماته، فكانت تجارة هذا أربح،

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 326

و غنيمته أكثر و أعظم.

و أمّا أسوء من الثّاني حالا فرجل أعطى أخا محمّد رسول اللّه بيعته، و أظهر له موافقته، و موالاة أوليائه، و معاداة أعدائه، ثمّ نكث بعد ذلك و خالفه و والى عليه أعدائه، فختم له بسوء أعماله فصار إلى عذاب لا يبيد و لا ينفد، قد خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. ذلك من الدّرجات و المنازل ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و

لا خطر على قلب بشر فيقولون يا ربّنا هل بقي من جنانك شي ء إذا كان هذا كلّه لنا فأين تحلّ ساير عبادك المؤمنين و الأنبياء و الصدّيقين و الشّهداء و الصّالحين و يخيّل إليهم أنّ الجنّة بأسرها قد جعلت لهم فيأتي النّداء من قبل اللّه تعالى يا عباد هذا ثواب نفس من أنفاس عليّ الّذي قد اقترحتموه عليه قد جعله لكم فخذوه و انظروا فيصيرون هم و هذا المؤمن الّذي عوّضهم عليّ عليه السّلام عنه إلى تلك الجنان ثمّ يرون ما يضيفه اللّه تعالى إلى ممالك عليّ في الجنان ما هو أضعاف ما بذله عن وليّه الموالي له ممّا شاء اللّه عزّ و جلّ من الأضعاف الّتي لا يعرفها غيره ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ المعدّة لمخالفي أخي و وصيّي عليّ بن ابي طالب عليه السّلام.

[سورة البقرة(2): آية 17 ]

اشارة

تفسير الآية (17) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً مَثَلُهُمْ قصتهم الغريبة و حالهم العجيبة الّتي لا شأن لا يكاد يقع في الأذهان بمجرّد البيان إلّا بضرب المثل الّذي يرى فيه المتخيّل متحقّقا، و المعقول محسوسا و الغائب حاضرا، فانّ المثل في الأصل بمعنى النّظير يقال: مثل و مثل و مثيل كشبه و شبه و شبيه، و يقال المثال أيضا ثم جعل للقول السّائر الّذي يشبه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 327

مضربه بمورده، و لم يضربوا مثلا إلّا ما فيه غرابة و لو من بعض الوجوه، و من ثمّ يحافظ على لفظه، و لو مع مغايرة المورد كقولهم في الصيف ضيّعت اللّبن، ثمّ اتّسع فيه فاستعمل في كلّ ما يحكي معنى من المعاني المقصودة المضروبة لها، و ان

لم يحم لفظه عن التّغيير و منه قول كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا و ما مواعيده إلّا الأباطيل ثمّ استعير للحال أو الصّفة أو القصّة إذا كانت فيها غرابة و لها شأن، كما في المقام.

و في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ «1» و قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ* «2» يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ «3».

و يطلق على الحكم و المواعظ الّتي لها شأن كما

في العلوي يا كميل هلك خزّان الأموال و العلماء باقون ما بقي الدّهر، أعيانهم مفقودة، و أمثالهم في القلوب موجودة

، أي حكمهم، و الحقائق المأخوذة عنهم محفوظة عند أهلها يعملون بها و يهتدون بمنارها «4» ثمّ أنّه قد شاع في ألسنة الأمم من بني آدم ضرب الأمثال في خطاباتهم و خصوماتهم و مقاصدهم، لأنّ إبرازها في كسوة الأمثال أعون على فهم الجاهلين، و إرشاد المسترشدين، و قمع حجج المعاندين، سيّما مع غموض المطالب و بعدها عن الفهم أو الأذهان، و لذا أكثر اللّه سبحانه فيما نزّله من كتابه التّدويني الكافل للكون التشريعي من الأمثال الواضحة الّتي يعرفها كلّ أحد ممّا يتعلّق بأمور معاشهم كي يعبروا منها إلى الأمور الحقيقية الشرعيّة عبورا من المحسوس إلى

__________________________________________________

(1) الجمعة: 5.

(2) الرعد: 35.

(3) الحج: 73.

(4) نهج البلاغة ح 147.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 328

المعقول، و من الظاهر إلى الباطن، و من الملك إلى الملكوت فقال: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1» وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «2» بل الآيات التكوينيّة المشار إليها بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي

السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ «3» سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ «4».

و غير ذلك كلّها أمثال و دلالات على الأمور الحقيقيّة الثابتة ممّا يتعلّق بالبدء و المعاد و مراتب الايمان و الكفر، و ما يترتّب عليها من الثواب و العقاب، فانّ هذه الأمور كلّها من عالم الغيب و الملكوت، و الناس و هم متغمسون في الشواغل الحسّية و الغواسق البدنيّة محجوبون عن إدراك تلك الحقائق على ما هي عليها في العوالم العالية القادمة أو النّازلة السافلة لأنّهم بعد في نوم الدّنيا كما

قال صلّى اللّه عليه و آله النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «5» فما في هذا العالم كلّها صور و أمثلة لما في عالم الآخرة، فما من صورة و مثال في الدنيا بل في الشّهادة إلّا و له حقيقة في الآخرة بل في الغيب، و ما من معنى حقيقي في الآخرة إلّا و له مثال في الدنيا، فالموجودات الدنيويّة أمثلة لما في الآخرة، كما أنّ المرئيات في النّوم أمثلة لما في هذه الدنيا، فما سيكون في اليقظة يظهر لك في النوم بضرب الأمثال المحوجة إلى التّعبير، و ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبيّن في نوم الدّنيا إلا بكسوة الأمثال لمن أراد أن يعبر منها إلى تلك الحقائق، و لذا ترى القرآن مشحونا بذكر الأمثال، بل قد كثرت أيضا في ألسنة

__________________________________________________

(1) العنكبوت: 43.

(2) الروم: 58.

(3) يوسف: 105.

(4) فصلت: 53.

(5) بحار الأنوار ج 4 ص 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 329

الأنبياء الّذين أمروا أن يكلّموا النّاس على قدر عقولهم، فقدر عقولهم أنّهم في النّوم و النّائم لا يكشف له شي ء إلّا بمثل، فإذا ماتوا

انتبهوا و عرفوا أنّ المثال مطابق للممثل لذا يخاطب الكافر بقوله: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «1».

ثمّ أنّه قد يفرق بين المثل محركة و المثل ساكنة بما لا يرجع إلى محصّل، و ستسمع تمام الكلام في تفسير قوله: وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «2» و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «3» كما أنّه قد يفرق أيضا بين المثل و المثال بأنّ الأوّل المشارك في تمام الحقيقة و لذا نفى عنه تعالى في الآية، و الثّاني المشارك في بعض الأعراض فانّ الإنسان المتنقّش في الجدار مثال للإنسان الطبيعي لمشاركته له في المقدار و الجهة و نحوهما، و ليس مثلا له و هو كما ترى.

مثل المنافقين في أعمالهم

و على كلّ حال فمعنى المثل المضروب للمنافقين في المقام أنّ حالهم و صفتهم الغريبة أو قصّتهم الحاكية عنها كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً الكاف صلة مثلها في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ و ان قيل بالمنع من زيادتها فيه ايضا أو أصليّة، و المراد تشبيه الصّفة أو القصة بمثلها على حدّ قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ «4» على الثّاني و قوله:

__________________________________________________

(1) ق: 22.

(2) النحل: 60.

(3) الشورى: 11.

(4) الجمعة: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 330

يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «1» على الأوّل.

و به يسقط السؤال عن تمثيل الجماعة بالواحد فانّه لم يشبّه ذوات المنافقين بذات المستوقد، بل المضاف إليها من صفة أو قصّة.

و قد يجاب عنه أيضا أنّ المقصود به جنس المستوقد لما في الّذي من معنى الإبهام إذا لم يرد به تعريف واحد بعينه، و بان يقدّر الموصوف لفظا مفردا معناه الجماعة، أي الفوج أو الجمع الّذي

استوقد، و لذا جاز في ضميره متابعة المعنى أيضا بناء على كون الضمير في قوله بِنُورِهِمْ له كما أجيز ذلك في قوله وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «2» و قوله: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «3» و بأنّ الّذي يكون للجمع أيضا في اللّغة الفصيحة كما صرّح به الأخفش و تبعه غيره، و حملوا عليه الآيات بلا فرق بين ما لو قصد به مخصوص أولا، و ان قيّده ابن مالك بالثّاني و لذا حمل على الضرورة- قول أشهب بن زميلة:

و انّ الّذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد و فيه أنّه كان للشاعر فيه المندوحة بأنّ الأولى حانت.

و لذا قال أبو حيّان أنّه لا يعرف أصحابنا هذا التّفصيل بل أنشد و البيت على الجواز في فصيح الكلام لا على الضرورة.

و بأنّ المعنى و مثل كلّ واحد منهم كقوله: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «4» أي يخرج كلّ واحد منكم ذكره الرازي و فيه نظر لأنّ الطفل لكونه مصدرا يستوي فيه الإفراد و الجمع، و الآية على حدّ قوله:

__________________________________________________

(1) محمّد: 20.

(2) التوبة: 69.

(3) الزمر: 33.

(4) غافر: 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 331

أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ «1» و بأنّ الّذي وضع موضع الّذين بطريق الحذف و التّخفيف، و إنّما جاز ذلك فيه و لم يجز وضع الصفات المفردة موضع جموعها بحذف علاماتها كوضع القائم موضع القائمين في نحو: رأيت الرّجال القائمين، و لو مع كون اللام فيها موصولة لأنّه غير مقصود بالوصف، بل الجملة الّتي هي صلة، و انّما هي وصلة إلى وصف المعرفة بها.

و ربّما يعلّل أيضا بكونه مستطالا بصلته فاستحق

التّخفيف، و لذا نهكوه بتخفيفه من وجوه كثيرة، فحذف ياؤه ثمّ كسرته ثمّ اقتصر على اللّام في أسماء الفاعلين و المفعولين، فجرى في جمعه أيضا هذا النّوع من التخفيف و بأنّ الياء و النّون في الّذين ليست كالياء و النون في جموع السلامة في قوّة الدّلالة على الجمعيّة حتى يمتنع حذفها، و لذا لم يختلف في حالات الاعراب، بل إنّما ذاك علامة زيدت للدّلالة على زيادة المعنى مع انّ الّذي حقّه أن لا يجمع كما لم يجمع أخواتها ممّا يستوي فيه الواحد و الجمع كمن و ما وال.

و فيهما نظر أمّا في الأوّل فلانّ كون اللام الّتي تعدّ من الموصلات هي تلك الّتي في الّذي لكونه تخفيفا منه مجرّد دعوى من الزّمخشري، لا شاهد له عليها، و إن تبعه فيها من تبعه، بل قد صرّح المحقّقون منهم بأنّ الأصل في الموصول لذ على وزن عم، و انّ اللّام زائدة، و انّما الزموها لئلا يوهم كونها للتّعريف، و به صرّح في الصّحاح و غيره، مع أنّ تجويز نوع من التخفيف في كلمة ليس دليلا على غيره في غيرها، و منه يظهر ضعف الثاني أيضا.

و ممّا يضعف به أصل طريقة التخفيف في مثل المقام ممّا أفرد فيه الضّمير أنّ اللازم على فرضه أن يجمع حينئذ لأنّه جمع مخفّف، و الجواب بكونه مفردا في

__________________________________________________

(1) النور: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 332

الصورة ضعيف في الغاية لضرورة الفرق بين ما هو جمع لفظا و معنى أو معنى خاصّة، بل لم يجوّز و مررت بالرجال القائم بإرجاع الضمير إلى اللّام الّتي هي في صورة المفرد، نعم ما روعي فيه ذلك احتمل التخفيف كما في كَالَّذِي خاضُوا «1» و

لذا قال في «الصحاح» أنّ في جمع الّذي لغتين الّذين و الّذي بحذف النّون و استشهد بالبيت «2» المتقدم.

و قد يؤيّد أيضا بحذف النون في قوله:

ابني كليب إنّ عمّي اللّذا قتلا الملوك و فكّكا الاغلالا. و من جميع ما مرّ ينقدح الأشكال في احتمال التخفيف في مثل المقام ممّا لم يجمع فيه الصّلة.

و الاستيقاد طلب الوقود و السّعي في تحصيله و هو بالضمّ اشتعال النّار و سطوعها و ارتفاع لهبها، و قيل: أنّه بمعنى الإيقاد كالاستجابة و الإيجاب، و النّار جوهر لطيف مضي ء حارّ محرق، و أصله من نار ينوّر نورا إذا نفر لأنّ فيها حركة و اضطرابا و النور مشتق منها يقال: نار و أنار و استنار بمعنى، فَلَمَّا أَضاءَتْ النّار بالنّور المكتسب الّذي نالته من الانغماس في بحار الرحمة حين أمرت بالكون في هذا العالم لانتفاع النّاس، و استصلاح أمورهم في معايشهم، و إلّا فليس لها في ذاتها نور و ضياء أصلا، و إنّما هي أصل الظّلمة و مظهرها، و الإضائة فرط الإنارة و استدلّ بقوله:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً «3» و بأنّهم قالوا أضوء من الشمس و أنور من البدر، و قيل: إنّهما مترادفان لغة، و قيل: إنّ الضّوء ما كان من ذات الشّي ء

__________________________________________________

(1) التوبة: 69.

(2) لأشهب بن زميلة النهشلي.

(3) يونس: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 333

المضي ء، و النور ما كان مستفادا من غيره نظرا إلى الآية، و قيل غير ذلك، و لكن التّرادف بحسب اللّغة لا ينافي الابلغيّة في غلبة الاستعمال.

و يستعمل لازما و متعدّيا يقال: أضاء الشّي ء بنفسه و أضاءه غيره، و هي في الآية متعدّية بوقوعها على ما حوله أي حول

المستوقد، و يحتمل كون الفعل لازما مسندا الى ما حوله، و التأنيث باعتبار المعنى، أي صارت الأشياء و الأماكن الّتي حوله مضيئة بالنار، و اعتضد بقرائة ابن أبي عبلة «1» (ضاءت) أو إلى ضمير النّار، مع كون كلمة ما مزيدة و حوله ظرفا لغوا لأضاءت، أو موصولة وقعت عبارة عن الأمكنة فتكون مع صلتها مفعولا فيه للفعل.

و توهّم أنّ النّار يلزم أن توجد حينئذ حول المستوقد كي يتصوّر إضاءتها و إشراقها فيه.

مدفوع بانّه جعل إشراق ضوء النّار بمنزلة اشراق النّار نفسها فيه فاسند إليها اسناد الفعل إلى السّبب كما في بني الأمير، و تأليف الحول للدّوران و الإطافة و منه الحول للعلم لأنّه يدور، و أحوال الدّهر لصروفه، و حال الإنسان، و التّحويل و الاستحالة يقال هو حوله و حواليه و حواله و أحواله بفتح اللام في الجميع بمعنى، و لمّا ظرف أو حرف تدلّ على تحقق شي ء لتحقّق غيره، و لذا قيل: أداة وجود لوجود، و وجوب لوجوب، و ان كان الاولى الاقتصار على الأوّل أو على الطّرفين مقلوبا، و معناها التّوقيت أو مجرّد الارتباط و العامل فيه جوابه و هو قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و الضّمير للّذي، و جمعه باعتبار المعنى، كما أنّ توحيده في اسْتَوْقَدَ، و حَوْلَهُ باعتبار اللّفظ، و وجوب سببيّة شرط لمّا لجوابها مطلقا ممنوع، و لذا قد تستعمل لمجرّد الظّرفية كما في قوله:

__________________________________________________

(1) هو ابراهيم بن أبي عبلة أبو إسحاق العقيلي الشامي المتوفى (151 ه) أو بعدها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 334

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فلمّا رأوها أقشعت و تجلّت و حمل النّار على نار لا يرضاها اللّه تعالى كي تتمّ السببيّة تكلّف مستغنى عنه،

و إيثار نورهم على نارهم لكونه المراد من إيقادها أو الجواب محذوف و الضمير للمنافقين.

و كان حقّ النظم أن يكون اللّفظ؛ فلمّا أضاءت ما حوله أطفأ اللّه ناره، أو طفئت ناره حين أضاءت، لمشاكلة الجواب للشرط، و لكن لمّا كان إطفاء النّار مثلا لإذهاب نورهم أقيم مقامه و حذف الجواب ايجازا أو اختصارا مع أمن اللّبس، كما حذف في قوله: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ «1» و عليه فالجملة مستأنفة جوابا عمّا ربما يسئل ما بالهم، شبهت حالهم بحال المستوقد انطفت ناره، أو بدل من جملة التمثيل على وجه البيان و الإيضاح لا الاسقاط، و لكنّه قد يرجّح كونها جوابا بأنّ الأفصح الذكر مع عدم استطالة الكلام، و انّ زيادة المبالغة في المشبه به تلزمها المبالغة في المشبه ضمنا، مع أنّ ظهور وجه الشّبه يضعّف الاستيناف، و فوات المعنى الّذي حذف جواب لمّا لأجله يوهن البدليّة، لدلالتها على أنّ المذكور لفظا أوفى بتأدية الغرض ممّا حذف لقصور العبارة عنه.

و هذه الوجوه و إن تطرّق إليها بعض المناقشة إلّا أن مقتضى الأصل و ظاهر السياق مؤيّدا بما سمعت بعد ضعف المناقشة هو الأول، فتكون الجملة من تتمّة المثل مضافا إلى أنّه الظّاهر

من كلام الكاظم على ما في تفسير الامام عليه السّلام قال: مثل هؤلاء المنافقين كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً كي يبصر بما حوله فلمّا أبصر ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بريح أرسلها عليها فاطفأها أو مطر «2» إلى آخر ما يأتي.

__________________________________________________

(1) يوسف: 15.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 64.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 335

و منه يظهر أيضا أنّ اسناد الفعل إلى اللّه تعالى إنّما هو لحصول الإطفاء بأمر سماوي من ريح أو مطر، كما صرّح بهما أو

غيرهما من الأسباب الجليّة و الخفيّة إن كان ذكرهما على وجه المثال.

و يمكن التّعليل أيضا بكون الكلّ منه على ما مرّ في خَتَمَ اللَّهُ فيتّجه على مذهب العدليّة و غيرهم بناء على الوجهين.

و بانّ الاسناد مجازيّ من قبيل الاسناد إلى المسبّب و فائدته المبالغة في إذهاب النّور.

و بأنّ النّار ممّا لا يرضاها اللّه لمستوقدها و لذا أطفأها، سواء أريد بها نار حقيقيّة أوقدها بعض الغواة ليهتدوا بها إلى طرف الضلالة و يستضيئوا بها في التوصل إلى بعض المعاصي فخيّب اللّه آمالهم بإطفاءها، أو نار مجازيّة كنار الحرب و الفتنة و العداوة للإسلام، و هي الّتي تكفّل اللّه تعالى لأهل هذا الدّين بإطفاءها كما قال نارهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «1».

و توصيفها حينئذ بإضائة ما حول المستوقد ترشيح للمجاز، و تعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من الدّلالة على الاستصحاب و الاستمساك، فانّ معنى أذهبه ازاله و جعله ذاهبا، و معنى ذهب به استصحبه و مضى معه، قال اللّه تعالى فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ «2» أي مضوا معه، و ذهب السلطان بماله أخذه، و المعنى أخذ اللّه نورهم، و أمسكه وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ «3» كذا ذكره الزمخشري و غيره بناء على الفرق بين التّعديتين بما يرجع إلى اعتبار الإمساك و العدم، و ان كان

__________________________________________________

(1) المائدة: 64.

(2) يوسف: 15.

(3) فاطر: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 336

ظاهره كتصريح غيره كون المرجع اعتبار الاستصحاب و العدم، و لذا ذكر ابن هشام انّه مردود بالآية لتعذّر اتّصافه تعالى بالذهاب، اللّهم إلّا أن يقال إنّه على الوجه الأوّل معنى آخر للثاني لا محذور في نسبته إليه سبحانه.

لكنّ الأظهر أنّ

الفرق المذكور في نفسه غير ظاهر إلّا باعتبار كون الباء للإلصاق أو للمصاحبة.

و من الشّواذ قراءة اليماني «1»: أذهب اللّه نورهم و إيثار النور على الضّوء للتّنبيه على إزالة النور عنهم بالكلّية كما هو المقصود، و لو قيل ذهب اللّه بضوئهم لأوهم إذهاب الكمال و بقاء ما يسمّى نورا و هو مبنيّ على الفرق بينهما بالضعف و الغلبة، كما يدّعى عليه الغلبة على ما مرّ لكنّه قد يقال: التحقيق أنّ الضّوء فرع النور، يقع على الشعاع المنبسط، و لذا يطلق النور على الذّوات الجوهريّة بخلاف الضّوء، و الإبصار بالفعل لما كان بمدخليّة الضّوء جاء المبالغة من هذا الوجه، و لهذا كان جعل الشّمس سراجا أبلغ من جعل القمر نورا لأنّ الإبصار من ضوء السّراج أتمّ من ضوء القمر، و على هذا فالنكتة في الإيثار التّنبيه على ذهاب الأصل برمّته فضلا عن الضّياء الّذي هو الشّعاع.

وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ من تتمّة المثل على ما مرّ، و فيه تقرير و تأكيد للجملة السّابقة و إن لم يمحّض لذلك، و لذا آثر العطف على الفصل، فإنّ تركهم في الظّلمات المتراكمة المبهمة العمياء الّتي لا يتراءى فيها شي ء أصلا، سيّما مع تعدّدها و احاطة بعضها ببعض كأنّه أمر مغاير لمجرّد إذهاب النور، و من هنا يظهر أنّه لا داعي إلى التكلّف بجعل الواو للحال بتقدير قد.

و ترك إذا علّق بواحد كان بمعنى طرح و خلّى، و إذا علّق بشيئين كان متضمّنا

__________________________________________________

(1) هو طاوس بن كيسان اليماني التابعي المتوفى (106) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 337

معنى صيّر، فيجري مجرى أفعال القلوب، كما في قول الشاعر «1»:

فتركته جزر السباع ينشنه «2»

و منه ما في المقام،

لأنّه في الأصل هم في ظلمات فعلق بهما ترك مع احتمال تعلّقه بالأوّل على أن يكون بمعنى خلّى و يكون فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالين مترادفين أو متداخلين و أمّا على الأوّل فقوله: لا يُبْصِرُونَ بيان لقوله فِي ظُلُماتٍ و يجوز أن يكون حالا و الظلمة عدم النور و زيادة عمّا في شأنه النور لا يساعدها اللّغة و لا العرف و ان اصطلحوا عليها في عرف خاص و هي مأخوذة من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك و شغلك لأنّها تسدّ البصر، و تمنع الرؤية، أو من ظلمه حقّه إذا نقصه، و منه قوله تعالى: وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص، و قول الشاعر:

و من يشابه أبه فما ظلم

أي ما انقص حق الشبه.

و من الشواذ قراءة الحسن: في ظلمات بسكون اللام، و اليماني في ظلمة على التوحيد، و أمّا جمعها فباعتبار شدّتها و تراكمها كانّها ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، أو باعتبار جمعيّة المفعول لاختلاف مراتبهم في النفاق و الشقوة الموجب لاختلافهم في مقادير الظلمة، أو المراد ظلمة إنكار التوحيد و إنكار النبوة و انكار الولاية، أو ظلمة الضلال، و ظلمة سخط اللّه و ظلمة العقاب السرمد، أو ظلمة الكفر،

__________________________________________________

(1) هو عنترة بن شداد من الشعراء الفرسان في الجاهلية قتل (22) قبل الهجرة.

(2) و آخر البيت: يقضمن حسن بنانه و المعصم.

جزر السباع: اللحم الّذي تأكله، و ينشنه من النوش أي التناول السهل، و القضم: الأكل بمقدّم الأسنان، و المعصم: موضع السوار من الساعد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 338

و ظلمة النفاق، و ظلمة يوم القيامة يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ «1»

أو الظلمات الحاصلة بترك الطّاعات و فعل المعاصي فانّ كل فعل أو ترك منها سبب لظلمة حاصلة في القلب، متجوهرة محيطة به يوم القيامة.

و لذا ورد الظلم ظلمات يوم القيامة «2».

و فسّرها الامام عليه السّلام بظلمات أحكام الآخرة و جعل مرجعه إلى الأخير «3».

ثمّ إنّ هذه الوجوه مختصّة بالممثل و أما الأول فيجري فيه و في المثل، و المفعول الساقط من لا يُبْصِرُونَ متروك مطرّح لم يقصد إلى اخطاره بالبال أصلا فضلا عن تقديره و إضماره، حتّى كان الفعل معه غير متعدّ، و يمكن أن يقدّر منكّرا عاما أي لا يبصرون شيئا، و أن يكون المراد أنّهم لا يفعلون الإبصار إذ فرق بيّن بين فقد الإبصار و فقد البصر أو المبصر.

ثمّ أنّه ربما يتوهّم أنّ الآية مثل ضربه اللّه لمن أتاه ضرب من الهدى فاضاعه و لم يتوصّل إلى نعيم الأبد فبقي متحيّرا و متحسّرا تقريرا و توضيحا لما تضمّنته الآية الاولى، و يدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون و من آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة أو ارتد عن دينه بعد ما آمن و من صحّ له أحوال الارادة فادّعى أحوال المحبّة فاذهب اللّه عنه ما أشرق عليه من نور الارادة.

و فيه أنّه لا عموم في الآية بل ظاهرها كون المثل للمنافقين الّذين سيقت الآيات المتقدّمة للكشف عن حالهم و شرح غيّهم و ضلالتهم، نعم لا بأس في شمول

__________________________________________________

(1) الحديد: 13.

(2) الكافي ج 2 ص 332.

(3) البرهان ج 1 ص 65.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 339

اسم النفاق أو غيره ممّا جعل موضوعا للآيات للفرق المتقدّمة و غيرها، و أعظمهم في باب النفاق و أشدّهم نكاية على الإسلام و المسلمين،

و أحرصهم على تخريب الدّين هم الّذين نافقوا في ولاية مولانا أمير المؤمنين حيث أظهروا الإسلام و البيعة و ابطنوا النفاق و المخالفة، فلمّا أمكنوا الفرصة رجعوا على أعقابهم القهقرى، و ارتدّوا عن الدّين و صدّوا عن سبيل اللّه الّذي هو أمير المؤمنين عليه السّلام.

ففي الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث إلى أن قال: و قال اللّه عزّ و جل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ «1» قال ألو أنّي أمرت أن أعلمكم الّذي أخفيتم في صدوركم من استعجالكم بموتي لتظلموا أهل بيتي من بعدي، فكان مثلكم كما قال اللّه كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ «2» يقول: أضاءت الأرض بنور محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما تضي ء الشّمس، فضرب اللّه مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله الشمس و مثل الوصي القمر، و هو قوله تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً «3». و قوله ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «4» الآية يعني قبض محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فظهرت الظلمة فلم يبصروا فضل أهل بيته و هو قوله: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ «5» «6».

قال شيخنا المجلسي طاب ثراه في شرح الخبر إنّه عليه السّلام لم يفسّر الجزاء لظهوره أي لقضي الأمر بيني و بينكم لظهور كفركم و نفاقكم و وجوب قتلكم.

__________________________________________________

(1) الانعام: 58.

(2) البقرة: 17.

(3) يونس: 5.

(4) البقرة: 18.

(5) الأعراف: 198 و فيها: إِنْ تَدْعُوهُمْ.

(6) الكافي ج 8 ص 380.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 340

و قوله عليه السّلام: فكان

مثلكم، لبيان ما يترتّب على ذهابه صلّى اللّه عليه و آله من بينهم من ضلالتهم و غوايتهم، و به إشعار الى تأويله لآية أخرى، و تشبيه تام كامل فيها و هي ما ذكره اللّه تعالى في وصف المنافقين حيث قال فمثلكم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ فالمراد استضاءة الأرض بنور محمّد صلّى اللّه عليه و آله من العلم و الهداية، و استدلّ عليه السّلام على أنّ المراد بالضّوء هاهنا نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله بأنّ اللّه تعالى مثّل في جميع القرآن الرسول بالشمس و نسب إليها الضّياء، و الوصيّ بالقمر و نسب إليه النور، فالضّوء للرّسالة و النور للامامة، و هو قوله عزّ و جل: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً و ربما يستأنس لذلك بما ذكروه، من أنّ الضّياء يطلق على ضوء النيّر بالذات و النور على نور المضي ء بالنيّر، و لذا ينسب النور إلى القمر لأنّه يستفيد النور من الشّمس و لما كان نور الأولياء مقتبسا من نور الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و علمهم عليهم السّلام من علمه عبّر عن علمهم و كمالهم بالنور و عن علم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالضّياء، و أشار به إلى تأويل آية أخرى و هي قوله عزّ و جل: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» فهي إشارة إلى ذهاب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و غروب شمس الرّسالة، فالنّاس مظلمون إلّا أن يستضيئوا بنور القمر و هو الوصي عليه السّلام ثمّ ذكر عليه السّلام تتمّة الآية السّابقة بعد بيان أنّ المراد بالإضائة إضاءة شمس الرّسالة فقال المراد باذهاب اللّه بنورهم هو قبض النّبي صلّى اللّه

عليه و آله فظهرت الظّلمة فلم يبصروا فضل أهل بيته عليه السّلام.

الى آخر ما ذكره طاب ثراه.

و في تفسير الامام عليه السّلام عن الكاظم بعد ما مرّ عنه آنفا: كذلك مثل هؤلاء المنافقين الناكثين لمّا أخذ اللّه تعالى عليهم من البيعة لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام اعطوا ظاهرا شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ

__________________________________________________

(1) يس: 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 341

عليّا وليّه و وصيّه و وارثه و خليفته في أمّته و قاضي ديونه و منجز عداته و القائم بسياسته عباد اللّه مقامه، فورث مواريث المسلمين بها، و نكح في المسلمين بها، و والوه من أجلها و أحسنوا عنه الدّفع بسببها و اتّخذوه أخا يصونونه ممّا يصونون عنه أنفسهم بسماعهم منه لها، فلمّا جاءه الموت وقع في حكم ربّ العالمين العالم بالأسرار الّذي لا تخفى عليه خافية فاخذهم العذاب بباطن كفرهم، فذلك حين ذهب نورهم، و صاروا في ظلمات أحكام الآخرة، و لا يرون منها خروجا و لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً «1».

و ظاهره كما ترى تشبيه الإقرار بظاهر الشهادة بالاستيقاد، و إجراء أحكام الظاهرة من حقن الدّماء و الأموال و مشاركة المسلمين في الاستغنام و غيره من الأحكام بالإضاءة، و الموت بإذهاب النور للردّ إلى أحكام الآخرة، و لذا

عقبه عليه السّلام بقوله: ثمّ قال: صُمٌّ يعني يصمّون في الآخرة في عذابها إلى آخر ما يأتي.

و ربما يقال: إنّ الإذهاب بالنّور مثل لاطّلاع اللّه سبحانه عن حالهم و كشفه عن سريرتهم و افتضاحهم بين المسلمين، و اجراء أحكام الكفر عليهم من القتل و السّبي و سائر العقوبات أو للطّبع الحاصل لقلوبهم

بعد الاستمرار على النفاق.

و الاولى الحمل على العموم، فيعمّ جميع ذلك و غيرها، و اختصاص العذاب الاخروي بالذكر في كلام الامام عليه السّلام لكونه أَشَدُّ وَ أَبْقى و أعمّ و أوفى لجميع الأفراد بخلاف غيره من العقوبات الّتي يختصّ بها في الدّنيا بعضهم دون بعض.

و من جميع ما مر يظهر دفع ما ربما يتوهم من أنّ المنافقين ليس لهم نور فضلا من أن ينتفعوا به فكيف شبّهوا بالمستوقد الّذي انتفع بضوء ناره قليلا، مع أنّه ربما يقال في الآية: وجوه أخر مثل ما قيل: من أنّها نزلت في قوم أسلموا عند

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 63- 65.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 342

وصوله صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، ثمّ أنّهم نافقوا فالتّشبيه حينئذ في محلّه لأنّهم أولا اكتسبوا نورا ثمّ بنفاقهم أبطلوه، فوقعوا في حيرة عظيمة و حسرة دائمة، و أنّها نزلت في اليهود و انتظارهم لخروجه صلّى اللّه عليه و آله و استبشارهم بقرب بعثه و الوصيّة بالإيمان به فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» و ذلك أنّ قريظة و النّضير و بني قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوّة من بني إسرائيل و أفضت إلى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمّد بالنبوّة و انّ أمته خير الأمم، و كان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد اللّه بن هيبان، قبل أن يوحى إلى النّبي كلّ سنة فيحضّهم على طاعة اللّه تعالى و إقامة التّورية و الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يقول إذا خرج فلا تفرّقوا عليه و انصروه، و قد كنت أطمع أن أدركه، ثمّ مات قبل خروج النّبي صلّى اللّه عليه و

آله فقبلوا منه ثمّ لمّا خرج النّبي صلّى اللّه عليه و آله كفروا به، فضرب اللّه لهم بهذا المثل، و أنّه ليس المراد التّشبيه في تمام المثل كي يستلزم نورا للمنافق بل الوجه في تشبيهه بهذا المستوقد أنّه لما زال النور عنه تحيّر و وقع في ظلمة شديدة لأنّ التحيّر و ظهور الظلمة لمن كان في نور ثمّ زال عنه أشدّ من تحيّر سالك الطريق على ظلمة مستمرّة، فذكر النّور لتصوير هذه الظلمة الشديدة و التّمثيل بها.

و أنت خبير بأنّ شيئا من التنزيلين على فرضه فيها لا يدفع جريانها في النفاق في الإمامة على ما في الخبر، بل و لا في غيرها أيضا، و أمّا جعل التشبيه مفردا فلا داعي إليه بعد الدّلالة على شدّة الظلمة على الوجهين، و تحقّق وجه المشابهة في الجزئين.

و إمّا إسناد الترك في المثل على أحد الوجهين إليه سبحانه مع انتفاء المماثلة من هذه الجهة حيث أنّ ما حصل للمنافق من الحيرة و الخيبة فانّما أتى به من قبل

__________________________________________________

(1) البقرة: 89

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 343

نفسه، فالخطب فيه سهل بعد ما ظهر ممّا مر من الخبر المفسّر للظلمات بالعقوبة الأخروية، مع أنّ الفعل منه سبحانه و ان كان مترتّبا على وجه الجزاء على أعمالهم السّيئة، أو أنّه على منع الألطاف و العنايات و التّخلية بينهم و بين نفوسهم الشريرة.

و لذا

قال مولانا الرّضا عليه السّلام على ما رواه في العيون، أنّ اللّه لا يوصف بالترك كما يوصف به خلقه و لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر و الضّلال منعهم المعاونة و اللّطف و خلّى بينهم و بين اختيارهم «1».

التمثيل في هذه الآية المباركة

ثمّ انّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ

التّمثيل في الآية و الّتي بعدها يحتمل كونها من التّمثيلات المؤلّفة و التشبيهات المركّبة الّتي تشبه فيها كيفيّة حاصلة من ملاحظة مجموع أشياء قد لوحظت بانفرادها قصدا و انضمّ بعضها إلى بعض بحيث وقع على مجموعها ملاحظة واحدة فصارت بذلك شيئا واحدا بكيفيّة أخرى منتزعة من مثلها، و هو فنّ من البيان جزل بليغ قد جرت عليه طريقة أهل اللسان ورد به القرآن و منه قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «2» و قوله:

و قد لاح في الصبح الثّريا لمن يرى كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا «3». كما أنّه يحتمل أيضا كونه من التشبيه المفرد الّذي يؤخذ فيه أشياء فرادى فتشبّه بأمثالها و إن قيل إنّ الأوّل اولى بالمقام لما في ذكر المثل من الإنباء عن التركيب

__________________________________________________

(1) عيون الاخبار ج 1 ص 123.

(2) الجمعة: 5.

(3) العنقود من العنب ما تراكم من حبّه، و ملّاحية: عنب أبيض في حبه طول، و نوّر: تفتّح نوره (بفتح النون) اي الزهر أو الأبيض منه- و البيت لأبي قيس بن الأسلت على قول.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 344

و كونه أقوى في الغرابة و التعجّب و حذرا عن التكلّف الظاهر في تشبيه المفردات و اعتبار التّرتيب لكنّه لا يخلو من نظر، بل الاولى ملاحظة الجهتين الاولى بعد الثّانية فقد شبّه ذوات المنافقين بالمستوقدين و اظهارهم الإيمان باستيقاد النّار، إذ به يستكشف الحقائق و يتعرف طرق الحقّ و الباطل و يتوصل الخلائق إلى معرفة الخالق و نيل مرضاته، كما أنّ النّار بضوئها كذلك بالنّسبة إلى الطّرق المحسوسة و هداية السّابلة و غيرها في ظلمة اللّيل، و لذا وقع كثيرا في

القرآن و غيره تشبيه الإيمان و الكفر و ما ينتمي إليهما بالنّور و الظلمة كقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ «1» و قوله أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ إلى قوله: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «2» و قوله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها «3» و في التعبير في المقام بالنّار دون النّور إشارة إلى أنّهم لم يصلوا بعد إلى حقيقة الإيمان، و إنّما أظهروه لحقن دمائهم و سلامة أموالهم و أولادهم، و لذا شبّه ذلك بإضافة النّار ما حول المستوقدين كما شبّه زواله منهم على القرب في حياة النّبي صلّى اللّه عليه و آله أو بعد وفاته بارتدادهم عن الدّين و اتّباع الجبت و الطاغوت، و اظهار ما في قلوبهم من الكفر و النفاق و البغض لأمير المؤمنين و استحقاقهم بذلك الشّقوة الدّائمة و الخسارة اللّازمة بإطفاء نارهم و الذّهاب بنورهم و تركهم فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ.

روى القمي في تفسيره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام بعد

__________________________________________________

(1) البقرة: 257.

(2) النور: 40.

(3) الأنعام: 123.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 345

وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد و الناس مجتمعون بصوت عال: الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «1» فقال له ابن عباس يا أبا الحسن لم قلت ما قلت؟ قال: قرأت شيئا من القرآن، قال: لقد قلته لأمر قال: نعم إنّ اللّه يقول في كتابه:

ما آتاكُمُ

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2» أ فتشهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه استخلف أبا بكر؟ قال ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوصى إلّا إليك قال: فهلّا بايعتني؟ قال: اجتمع الناس على أبي بكر فكنت منهم، فقال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه كما اجتمع أهل العجل على العجل هاهنا فتنتم، و مثلكم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3».

[سورة البقرة(2): آية 18 ]

اشارة

تفسير الآية (18) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ من تمام المثل فالمبتدأ ضمير عائد إلى المستوقدين، و ذلك أنّه لمّا وصفهم بكونهم متروكين فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ أراد أن ينبّه أنّ ذلك ليس لفقد البصر، و لا لمجرد الظلمة الطّارية، بل لمّا أذهب اللّه بنورهم تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ هائلة مدهشة موحشة بحيث اختلّت حواسهم و سلبت قواهم، فاتّصفوا بالصفات الثلاثة على وجه الحقيقة، و انتفت عنهم الإدراكات لفقد الآلة أو بيان لحال

__________________________________________________

(1) سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله: 1.

(2) الحشر: 7.

(3) تفسير القمي ج 2 ص 301 و عنه نور الثقلين ج 5 ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 346

الممثّل له كما هو الأظهر و هو المستفاد من تفسير الإمام عليه السّلام على ما مرّ بل هو المتعيّن على أحد الوجهين من استيناف قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، و المراد ثبوتها لهم في الدنيا حيث سدّوا مسامعهم عن الإصغاء إلى الحقّ، و أبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، و أعرضوا عن النظر في الآيات و التّدبّر فيها و الاتّعاظ بها إلى أن ختم على

قلوبهم و سمعهم و غشّي على أبصارهم، فانتفت عنهم المشاعر الإيمانية، و إن قويت فيهم المشاعر الجسمانيّة كما قال وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «2» لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها «3» و في الآخرة حيث يردّون إلى ظلمات أحكام الآخرة على ما في تفسير الامام عليه السّلام.

صمم المنافقين و وجه التشبيه

قال: صُمٌّ يعني يصمّون في الآخرة و في عذابها، بُكْمٌ يبكمون هناك بين أطباق نيرانها، عُمْيٌ يعمون هناك قال: و ذلك نظير قوله عزّ و جل وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً «4».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في رسالته إلى أصحابه الّتي أمرهم بمدارستها و النظر فيها و تعاهدها و العمل بها و فيها: و كفّوا ألسنتكم إلّا من خير، و إيّاكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزّور و البهتان و الإثم و العدوان، فإنّكم إن كففتم ألسنتكم عمّا يكره اللّه ممّا نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربّكم من أن تذلقوا ألسنتكم به فان ذلق اللّسان

__________________________________________________

(1) الأعراف: 198.

(2) الحجّ: 46.

(3) الأعراف: 179.

(4) الإسراء: 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 347

فيما يكره اللّه و ما نهى عن مرادة للعبد عند اللّه و مقت من اللّه، و صمم و بكم و عمي يورثه إيّاه يوم القيامة تصيروا كما قال اللّه تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، يعني لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «1».

ثمّ أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ إطلاقها في المقام

باعتبار الحواس القلبيّة الايمانية كما هو الظاهر من الخبرين أيضا، و ربما يجعل باعتبار المشاعر الظّاهرة تشبيها لهم بمن ايفت مشاعرهم و انتفت قويهم كقوله:

أصمّ عن الشي ء الّذي لا أريده و أسمع خلق اللّه حين أريد و قوله:

و أصممت عمروا و أعميته عن الجود و الفخر يوم الفخار و قوله:

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به و إن ذكرت بسوء عندهم أذنوا و على هذا فالكلام على طريقة التمثيل لا الاستعارة إذ من شرطها ان يطوى ذكر المستعار له و يجعل الكلام خلوا عنه، صالحا لحمله على المستعار منه لولا فحوى الكلام و قرينة المقام، و لذا يرشّحون الاستعارات كي يضربوا صفحا عن توهّم التشبيه كقول زهير:

لدى أسد شاك السلاح مقذّف له لبد أظفاره لم تقلّم و لأبي تمّام:

و يصعد حتّى لظنّ الجهول بأنّ له حاجة في السّماء و للآخر:

لا تحسبوا أنّ في سرباله رجلا ففيه غيث و ليث مسبل «2» مشبل «3». __________________________________________________

(1) الكافي: ج 8 ص 406.

(2) المسبل: الهطّال.

(3) المشبل: أي و الشبل و هو الولد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 348

و المستعار له في المقام و إن كان محذوفا و هو المبتدأ لكنّه في حكم المنطوق به نظيره قول من يخاطب الحجّاج

أسد عليّ و في الحروب نعامة «1» فتخاء «2» تنفر من صفير الصّافر. و الصّمم أصله السدّ، و منه: صممت القارورة أي سددتها و صمامها سدادها، و قناة صمّاء صلبة مكّنزة الجوف لسدّ جوفها بامتلائها سمّي به فقدان حاسة السّمع لانسداد باطن الصّماخ معه بحيث لا ينفذ إلى الصّماخ شي ء من الهواء المتموّج بالصّوت، و لذا فرقوا بين الطرش و الوقر

و الصّمم بأنّ الأول نقصان السّمع، و الثاني بطلانه، و الثالث فقدان تجويف الصّماخ، و اصل البكم الاعتقال في اللّسان، يقال:

رجل أبكم أي أخرس بيّن البكم من ولد كذلك، كما أنّ الأخرس من ولد على الصّفة، و العمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يبصر.

وجه تقديم الصمّ على البكم و تأخير العمى في الآية

و قدّم الصّمم على البكم لأنّ التكلّم مترتّب على السّماع و لذا يكون الأصم ابكم فروعي هذا التّرتيب في ضدّهما أو لأنّ الشرع يدعوا إلى سماع الحقّ ثمّ التكلّم به، فذكر أنّهم لا يسمعونه ثمّ أنّهم لا يتكلّمون به.

و أمّا تأخير العمى فقد يعلّل بأنّ السّماع أعظم مدخلا في درك الشّرائع من البصر، فتأخّر ضد الأخير عن ضدّ الأوّل و عمّا هو لصيقه و قرينه، و بأنّ العمى شامل لعمى الفؤاد، و هي آفة تمنع من الفهم و لعمى العين، بل قد يقال بكونه حقيقة فيهما

__________________________________________________

(1) النعامة: حيوان له عنق كالجمل و ريش كالطائر و يقال له بالفارسية شتر مرغ.

(2) الفتخاء: أسد عريض الكف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 349

فيفرق بينهما في الاستعمال يقال: ما أعماه من عمى القلب، و لا يقال ذلك في العين و إنّما يقال ما أشدّ عماه، و هو بالمعنى الأوّل معقول صرف فاستحقّ التأخير لذلك، و دعوى الحقيقة فيهما و إن كانت ممنوعة إلّا أنّ الثلاثة تستعمل لفقد كلّ من المشاعر الجسمانيّة و الايمانيّة و ان كانت على الوجهين من قوى النفس، إلّا أنّها على الأوّل للحسية الحيوانية و على الثاني للناطقة القدسية.

ثمّ أن الثلاثة قرأت بالنصب على الحال من مفعول تَرَكَهُمْ ... فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، فان الرجوع إلى الشّي ء هو الانصراف

إليه بعد الذهاب عنه، و عنه هو الانصراف عنه بعد الذهاب إليه، و ذلك في الدّنيا لاستحكام الطبع على قلوبهم، فكأنّهم مسخوا بهائم كما قال: وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ «1» أي لا يستطيعون مضيّا إلى الدّرجات الرفيعة الإيمانية و لا رجوعا إلى فطرتهم الأصلية كي يجدّدوا العمل في مهل الأجل، و في الآخرة بامتناع العود الى الدنيا، و إن التمسه القائل منهم بقوله: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ «2» نعم قد يقال لهم: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «3» سخريّة بهم حيث يقولون لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ «4».

و ربما يحتمل إرادة كونهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يرجعون، و لا يدرون أ يتقدمون أم يتأخرون.

قيل: و هذا يناسب عود الضمير للمستوقدين و العطف بالفاء للاشعار على

__________________________________________________

(1) يس: 68.

(2) مؤمنون: 99- 100.

(3) الحديد: 13.

(4) الحديد: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 350

التّرتّب و السببيّة.

[سورة البقرة(2): آية 19 ]

اشارة

تفسير الآية (19) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «1» تمثيل آخر لزيادة الكشف و الإيضاح عن حالهم و سوء مالهم، و وخامة عاقبتهم، و عدم انتفاعهم بالآيات و النذر.

و تكرير الأمثال سيّما مع تعلّقها بجهات الكشف و وجوه البيان ممّا بالغت فيه البلغاء، خصوصا عند مزيد الاهتمام بالإفهام و غموض المرام عن الأفهام، و إذا اكثر اللّه منه في التنزيل بل نبّه عليه بقوله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و قوله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا «2».

وجه ذلك التمثيل

و أو لأحد الأمرين مطلقا، و هو الأصل في معناها في موارد إطلاقاتها من الإخبار و الإنشاء، و امّا الشّك و الإبهام و التّخيير و الإباحة و غيرها فليس شي ء منها داخلا في مفهومها لغة، و إنّما تستفاد منها بحسب خصوص الموارد كقصد المتكلّم و حال المخاطب، و امتناع الجمع بين المتعاطفين و غيرها، و ذلك للتبادر و أصالة الحقيقة، و من هنا يضعّف ما قيل: من كونها مجازا في غير ذلك بل و في غير الخبر مطلقا نظرا إلى أنّها في أصلها للتساوي في الشكّ، و لذا اشتهرت أنّها كلمة شك

__________________________________________________

(1) الإسراء: 89.

(2) الإسراء: 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 351

فتكون مخصوصة بالخبر ثمّ استعيرت للتّساوي في غير الشك فاستعملت في غير الخبر.

و معناها في المقام أن القصتين سواء في صحّة التمثيل و تشبيه حال المنافقين بهما فإن شئت مثّلت بهما أو بواحد منهما أيّهما شئت، و هذا هو المعبّر عندهم بالإباحة كما في قولهم: جالس الفقهاء أو المحدّثين.

و (الصيّب) المطر الّذي يصوب أي ينزل من عل، و أصله صيوب، من الصوب أيضا، بمعنى

نزول المطر و الإنصباب، و يقال: الصيّب للسحاب ذي الصوب أيضا، بل اقتصر عليه في معناه بعضهم، و انشدوا:

عفا آيه نسج الجنوب مع الصبا و أسحم دان صادق الوعد صيّب «1» و في الآية يحتملهما، و إن كان الأكثر، فسّروه بالأول.

و تنكيره إمّا للتعظيم، تنبيها على بلوغه مبلغا لا يمكن أن يصرف، أو للنوعيّة، لأنّه أريد به نوع من المطر، ممتاز من بين الأنواع في الشدّة و الوحشة هذا مضافا إلى ما فيه من المبالغة من جهة المادّة و الهيئة على ما قيل لتألّفه من الصاد المستعلية، و الياء المشدّدة، و الباء الشديدة، و كونه صفة مشبّهة دالّة على الثبوت، و هو على حذف مضاف تقديره أو كمثل أصحاب صيّب، لقوله: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ مع أنّ عطف غير العاقل على ذوي العقول غير معقول.

و السماء كلّ ما علاك فأظلّك، و منه قيل لسقف البيت سماء، و هي اسم جنس يقع على الواحد و المتعدد، و قيل: جمع سماة- كتمر و تمرة، و الواحدة بالتاء، و شاع إطلاقها على هذا المعروف، و إن كانت تطلق أيضا على السحاب و المطر، و ظهر

__________________________________________________

(1) أي محا آثار المنزل هبوبهما، و أسحم أي سحاب أسود، دان: قريب من الأرض، صادق الوعد غير خلف، و الصيّب: الهطّال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 352

الفرس، و السقف، و غيرها، فإن فسّر الصيّب بالمطر فالسماء السحاب، أو جهة العلو، أو هذا المعروف، أو بالسحاب فأحد الأخيرين، و على الوجهين ففائدة الوصف بكونه من السماء مع أنهما لا يكونان إلّا منه الإشعار، بذكره على زيادة تصوير المراد لتطبيق أجزاء الممثّل له عليه على ما يأتي، و بتعريفه الإشعار على كون الغمام مطبقا أخذا

بجميع الآفاق مصيبا مطره جميع وجه الأرض ذهابا الى السماء المطلقة المعروفة، و لو نكّرها لكان يذهب الوهم إلى قطعة منها فإنّ بعض السماء قد يسمّى سماء قال:

فأوه بذكراها إذا ما ذكرتها و من بعد أرض بيننا و سماء فإنّ البعد بينهما قطعة من الأرض و ناحية من السماء.

و أمّا ما يقال: من أنّ في التوصيف دلالة على بطلان ما توهّموه من انعقاد المطر و تقاطره من الأبخرة المرتفعة الى الكرة الزمهريريّة المتكاثفة هناك لشدّة البرد ففيه ما لا يخفى بعد ما سمعت من معاني السماء.

فِيهِ ظُلُماتٌ متراكمة بعضها فوق بعض، تعبير عن بلوغ الغاية في الشدّة باجتماع الأمثال لازدحام الأسباب، أو المراد ظلمة تكاثف السحاب و سواده و تتابع القطر المشبّه بظلمة البحر و ظلمة الليل فصحّ الجمع بناء على تفسير المرجح بكل من السحاب و المطر، و احتمل رجوعه إلى السماء أيضا فإنّه قد يذكر، و الجملة في موضع الجرّ بانّها صفة صيّب، و لذا كان ارتفاع ظلمات بالظرف وفاقا، و إن اختلفوا فيما لم يعتمد على موصوف بأنّه على الفاعليّة، كما عن الأخفش، أو على الابتداء كما عن سيبويه لاشتراطه الاعتماد في إعماله.

و القرّاء أجمعوا على ضمّ اللام اتّباعا، و روي في الشواذ عن الحسن و أبي السماك بسكون اللام، و عن بعضهم بفتحها، و علّلوه بكراهة اجتماع الضمتين، فتارة عدلوا الى الفتح و أخرى الى السكون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 353

قال في «المجمع»: و كلا الأمرين حسن في اللغة قلت: لكنّ القراءة مبنيّة على التوقيف.

وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ تأخيرهما لزيادة التهويل مع أنّه روعي في الترتيب الذكري الترتيب الوجودي بينهما على ما هما عليه، و إن لم يساعده حواسّنا

الظاهرة، فإنّ البرق يرى قبل سماع الرعد، و ذلك لأنّ الصوت لا بدّ له من حركة الهواء أو تموّجه، و لا حركة دفعيّة فيحتاج إلى زمان، و لا كذلك في الرؤية على ما قرّر في محلّه، و البرق ما يلمع من السحاب من برقت السماء بروقا إذا لمعت، و للبحث عن حقيقتهما موضع آخر.

و جعل المطر ظرفا لهما على الاتّساع فانّهما في أعلاه و مصبّه، فإنّ الظرفية متعذّرة و التلبّس حاصل في السحاب في المطر الّذي لم ينفصل بعد عنه، بل مطلقا، و قد شاع الاتّساع في الظروف، كقولك: فلان في البلد، و فيه العلم و التقى.

يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ استيناف، لأنّه لمّا ذكر الظلمات و الرعد و البرق على ما يؤذن الشدّة و الهول فكأن قائلا قال له: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، و ذكر الصواعق لا تنافي المطابقة، بل تؤكّد تهويل الوعد المسئول عنه.

و يحتمل كون الجملة حالا من ذوي صيّب، أو نعتا له، و على الأحوال و الضمير لهم مع كون اللفظ محذوفا قائما مقامه، صيّب لبقاء المعنى فيه، كبقائه في قوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ بعد ذكر القرية و إرجاع الضمير إليها حيث قال: «وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» «1» و في قول حسّان «2»:

__________________________________________________

(1) الأعراف: 4.

(2) حسّان بن ثابت المنذر الخزرجي الانصاري شاعر النبي صلّى اللّه عليه و آله توفي سنة (54 ه) بالمدينة عن (120) سنة كأبيه و جدّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 354

يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفّق بالرحيق السلسل. حيث ذكر يصفّق إبقاء لمعنى المضاف المحذوف، و المعنى ماء بردى، و

هي بالفتحتين: نهر بدمشق، و البريص شعبة منه.

و الأصابع جمع الإصبع مثلّثة الهمزة و الباء، ففيها تسع لغات عاشرها: أصبوع بالضّم، و أطلقت في الآية على موضع الأنامل اتساعا، مع ما فيه من الاشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فرارا من شدّة الصوت، كما أنّ به الإشعار أيضا في ذكر الإسم العامّ دون السبّابة الّتي تسدّ بها الأذن مع أنّها فعّالة من السبّ، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، و لذا تراهم يكنّون عنها بالمسبّحة و المهلّلة، و السبّاحة، و الدعّاءة، و غيرها من الألقاب الّتي لا يناسب شيئا منها خصوص القصّة.

مِنَ الصَّواعِقِ متعلّق بيجعلون، و (من) في أمثال المقام للابتداء على سبيل العليّة، فيكون ما بعدها أمرا باعثا على الفعل الّذي قبلها، فيقال: قعد من الجبن، و لذا قد يصرّح معها بما يدلّ على التعليل كقولك: ضربه من أجل التأديب.

و الصاعقة في الأصل مصدر كالعافية و الباقية، كما جزم به في «القاموس» و احتمله غيره، أو صفة لقصفة الرعد، أو الصيحة او الرعدة الهائلة، أو الرعد، و التاء للمبالغة كالراوية لكثير الرواية، أو للنقل من الوصفيّة الى الاسميّة كالحقيقة.

من الصعق و هو شدّة الصوت، و منه حمار صعق اي شديد الصوت.

و الغشوة يقال: صعق الرجل صعقة أي غشي عليه، قال اللّه تعالى: وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً «1».

و الموت، و منه قوله تعالى:

__________________________________________________

(1) الأعراف: 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 355

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «1».

و يظهر من الأكثر كونه حقيقة فيه، فإطلاقه على غيره لعلاقة المشابهة و السببية و المشارفة و غيرها.

و تطلق الصاعقة أيضا على صيحة العذاب، و كل عذاب مهلك، و النار الّتي تسقط من السماء في رعد شديد، يقال:

صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت.

و من غرائبها أنّها ربما تصير لطيفة بحيث تنفذ في المتخلخل و لا تحرقه و تذيب المندمج، فتحرق الذهب في الكيس دونه إلا ما احترق من الذائب.

قال صدر المتألّهين: أخبر أهل التواتر بأنّ الصاعقة وقعت في بلدة ولادتنا شيراز على قبّة الشيخ الكبير عبد اللّه بن حفيف فأذاب قنديلا فيها و لم يحرق شيئا منها.

قالوا: و ربّما كان كثيفا غليظا جدّا فيحرق كلّ شي ء أصابه، و كثيرا ما يقع على الجبل فيدكّه دكّا.

و يحكى أنّها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثمّ طفئت.

و قرأ الحسن: من الصواقع، قال في «الكشّاف»: و ليس بقلب للصواعق لأنّ كلا البنائين سواء في التصرّف، و إذا استويا كان كلّ واحد بناء على حياله ألا تراك تقول: صقعه على رأسه و صقع «2» رأسه، و صقع «3» الديك، و خطيب مصقع مجهر و نظيره جبذ في جبذ ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف «4».

__________________________________________________

(1) الزمر: 68.

(2) أي ضرب صوقعته و هو موضع البياض في وسط الرأس.

(3) أي صاح الديك.

(4) الكشّاف ج 1 ص 217- 218.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 356

و عن الراغب «1»: أنّ اللفظين متقاربان في المعنى و هو الهوّة الكبيرة، إلّا أنّ الصقع في الأجسام الأرضية، و الصعق في الأجسام العلويّة.

أقول: لا يخفى أنّ الصقع بمعانيها المعروفة غير شديد المناسبة بالمقام، و لا بعد في القلب في المستعمل منه بمعنى الصعق لا مطلقا كي يردّ بكثرة التصرّف.

و لذا قال الجوهري: و صقعته الصاعقة لغة في صعقته الصاعقة، مع تنبيهه على معاني الصقع الّتي هي أجنبية عن المقام.

حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول على العلّة لقوله تعالى: يَجْعَلُونَ و تعريفه غير

منكر، خلافا لمن أوجب تنكيره، و يردّه الآية، و قول حاتم «2»:

و أغفر عوراء الكريم ادّخاره و أعرض عن شتم اللئيم تكرّما فلا داعي إلى التكلّف بالتأويل في الآية بحاذرين الموت لتكون الإضافة لفظيّة.

و الموت فساد بنية الحيوان، أو مفارقة الروح عن البدن، و الأظهر أنّه أمر وجوديّ يضادّ الحياة، لقوله تعالى: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» «3»، و ما ورد من أنّهما خلقان من خلق اللّه فإذا جاء الموت فدخل في الإنسان لم يدخل في شي ء إلّا و قد خرجت منه الحيوة، و غير ذلك ممّا يأتي في مورده، فإطلاقه إنما هو باعتبار حالة الإفتراق، لا مجرّد عدم التركيب و الاجتماع.

و قرأ ابن ابي ليلى: حذار الموت.

وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ إحاطة بحسب العلم، فيعلم أسرارهم و يعلم نبيّه على ضمائرهم، و القدرة فلا يستطيعون الخروج عن قدرته، و لا يفوتونه كما لا

__________________________________________________

(1) ابو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصبهاني اللغوي الماهر توفّي سنة (565) ه

(2) هو حاتم الطائي عبد اللّه بن سعد القحطاني شاعر جواد فارس مات سنة (46) قبل الهجرة.

(3) الملك: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 357

يفوت المحاط به المحيط، قال الشاعر:

أحطنا بهم حتى إذا ما تيقّنوا بما قد رأوا مالوا جميعا الى السلم أي قدرنا عليهم. أو أنّ اللّه مهلكهم جزاء بما كسبت أيديهم لا تخلّصهم الخداع و الحيل، من قولك: أحيط بفلان فهو محاط به إذا هلك أو دنى هلاكه، و منه قوله تعالى: وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ «1» أي أصابه ما أهلكه، و قوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «2» أي أن تهلكوا جميعا.

أو جامعهم يوم القيامة، يقال: أحاط بكذا، إذا لم يشذ منه شي ء، و منه:

أَحاطَ

بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً «3» أي لا يشذّ عن علمه شي ء و الجملة معترضة للتنبيه على أنّه لا ينفعهم الحذر عن الموت، و ما بعده من العقبات و العقوبات.

و فائدة وضع الكافرين موضع الضمير التنبيه على كفرهم و استحقاقهم شدّة الأمر عليهم كقوله: «أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»، و قد تجعل من أحوال المشبّه فالمراد بهم المنافقون وسّطت تنبيها على فرط الاهتمام بشأن المشبّه و دلالة على شدة الاتصال بينه و بين المشبّه به.

و في إيثار الإسم الجامع المقدّم و الاخبار عنه بالجملة الاسميّة و تنكير المفرد و تعريف الجمع ما لا يخفى من الجزالة و الفخامة.

__________________________________________________

(1) الكهف: 42.

(2) يوسف: 64.

(3) الطلاق: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 358

[سورة البقرة(2): آية 20 ]

اشارة

تفسير الآية (20) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استيناف ثان كأنّه أجيب به عمّا ربما يسئل عنه من حالهم مع ذلك البرق أو تلك الصواعق، و كاد في الأصل فعل من كدت يكاد كيدا و مكادة مثل هبت يهاب، و عن الأصمعي: كودا بالواو، فيكون نحو خفت يخاف خوفا و مخافة، و ربّما يحكى مجي ء يكود كيقول أيضا وضعت كمرادفاتها لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببية الغير التام بفقد شرط أو شطر أو طروّ مانع، و ليست فيها شائبة الإنشاء، و لذا جاءت متصرفة كسائر الأفعال بخلاف عسى الموضوعة لإنشاء الرجاء، و لذا لم تأت إلّا ماضيا و شرط خبرها أن يكون فعلا مضارعا و التجريد عن أن الدالّة على الاستقبال فيها أكثر ليوكّد القرب بالدلالة على الحال.

و الخطف: الأخذ بسرعة، يقال: خطف يخطف من باب سمع و ضرب، و إن كان الأوّل أكثر و أفصح، بل في «المجمع» «1»: أنّ

عليه القراءة، لكن في «الكشّاف» «2» عن مجاهد بكسر الطاء و الفتح افصح و أعلى، و عن ابن مسعود: يختطف، و عن الحسن: يخطف بفتح الياء و الخاء، و أصله يختطف فنقلت فتحة التاء الى الخاء ثمّ أدغمت في الطاء، و عنه أيضا: يخطّف بكسرهما على إتباع الياء الخاء المكسورة لالتقاء الساكنين حيث سكنت الطاء للادغام، و عن زيد بن علي: يخطّف من خطّف، و عن أبيّ: يتخطف من قوله: وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «3».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 58.

(2) الكشاف ج 1: ص 219.

(3) العنكبوت: 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 359

كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ استيناف ثالث أجيب به عمّا ربّما يسئل عنه من حالهم: كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق و خفيته، و كلّما، أصله كلّ أضيف إلى ما و هو في الأصل لجميع أجزاء الشي ء كالبعض لطائفة منه و إن استعمل كلّ في موضع الآخر، و لذا عدّتا من الأضداد و يلزمهما الاضافة لفظا او تقديرا، و لا تدخلهما اللام عند الأصمعي و غيره، بل يعزى الى الأكثر، و لذا نسب أبو حاتم «1» و غيره سيبويه و الأخفش الى قلّة المعرفة حيث استعملاهما بها في كتابيهما، و ذكر أنه قال للأصمعي «2»: رأيت في كلام ابن المقفع «3»: «العلم كثير و لكن أخذ البعض خير من ترك الكلّ» فأنكره أشدّ الإنكار و قال: كلّ و بعض معرفة فلا يدخل عليهما الألف و اللام لأنهما في نيّة الإضافة.

و هو بمعزل عن التحقيق، بل الحقّ أنّهما قد يعرّفان بها.

و لفظ كلّ واحد و معناه جمع و لذا يجوز كلّ القوم حضر- و حضروا.

و في «المصباح» إنّه يفيد

التكرار بدخول ما عليه نحو كلّما أتاك زيد فأكرمه، دون غيره من أدوات الشرط، و هو منصوب على الظرفيّة لقوله: أَضاءَ و محلّه الجزم بالشرط، و مَشَوْا فِيهِ في موضع الجزاء، و المشي جنس الحركة المعهودة، و إن كان أغلب في الأوسط، فإذا اشتدّ فهو سعيّ، فإذا إزداد فعدو، و أَضاءَ يستعمل متعديا و لازما، يقال: أضاء اللّه الصبح فأضاء، و المعنى على الأوّل: كلّما نوّر لهم ممشى و مسلكا مشوا فيه فالمفعول محذوف، و على الثاني: كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره.

__________________________________________________

(1) ابو حاتم السجستاني سهل بن محمد النحوي اللغوي نزيل البصرة توفي سنة (248) ه

(2) الأصمعي: عبد الملك بن قريب البصري اللغوي المتوفى حدود (216) ه

(3) ابن المقفّع: عبد اللّه الفارسي الماهر في صنعة الإنشاء المقتول بأمر المنصور الدوانيقي سنة (143).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 360

و أيّده في «الكشاف» بقراءة ابن أبي عبلة: كلّما أضاء لهم، و الفاعل على الحالين البرق، كما أظلم أيضا يستعمل على الوجهين، و يحتملهما قوله وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا و إن كان الأظهر الأشيع كونه لازما، نعم قد يقال: إنّه جاء متعدّيا منقولا من ظلم الليل مستشهدا له بقراءة يزيد بن قطيب «1»: أظلم على ما لم يسمّ فاعله، و بقول أبي تمّام «2» حبيب بن أويس الموثوق بإنشاده لإتقانه و إن كان من المحدثين «3»:

هما «4» أظلما حاليّ ثمّت أجليا «5» ظلاميهما «6» عن وجه أمرد «7» أشيب «8» يقول الشاعر خطابا لعاذلته:

أ حاولت إرشادي فعقلي مرشدي أم استمت تأديبي فدهري مؤدّبي __________________________________________________

(1) يزيد بن قطيب السكوني الشامي روى القراءة عن أبي بحريّة عبد اللّه بن قيس السكوني

الحمصي المتوفى بعد الثمانين- غاية النهاية ج 2 ص 382.

(2) ابو تمّام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المتوفى (231).

(3) الشعراء على أربع طبقات: الجاهليّون كإمرئ القيس، و طرفة و زهير، و المخضرمون الذين أدركوا الجاهلية و الإسلام، كحسّان و لبيد، و المتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق و جرير و ذي الرّمة و هؤلاء كلهم يستشهد بكلامهم في اللغة، و المحدثون من أهل الإسلام كابي تمام و البحتري و أبي الطيّب لا يستشهدون باشعارهم و لكن يجعلون أقوالهم بمنزلة ما يروون و يحدّثون.

(4) هما راجع الى الفعل و الدهر، و المراد بحاليه ما يتواتر من المتقابلين كالخير و الشرّ و الغنى و الفقر، و الصحّة و المرض، و العسر و اليسر و نحوها.

(5) أجليا: كشفا ظلاميهما.

(6) الظلامة بضم الظاء: ما احتملته من الظلم و ما أخذ منك ظلما.

(7) الأمرد: الشابّ طرّ شاربه و لم تنبت لحيته.

(8) الأشيب: المبيّض الرّأس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 361

أي ما كان ينبغي أن تتجشّمي في الإرشاد و العذل و التأديب فإنّ في العقل و الدهر كفاية فهما شيّباني بعد ما كنت شابا و صيّراني شيخا قبل أوانه.

و اعترض على الأوّل بجواز كونه لازما مسندا الى الظرف، و على الثاني بأنّ عمل الراوي ليس بحجّة في مثله، فإنّ إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية سيّما في الشعر الّذي هو محلّ الضرورات.

و يضعّف الأوّل بأنّ بناء المجهول من المتعدي بنفسه أكثر و أولى، و بأنّ عليهم تقابل لهم كما هو ظاهر المساق فان جعلا مستقرّين لم يصلح لذلك أصلا، أو صلتين لفعلين على تضمين معنى النفع و الضرّ، فكذلك مع وضوح كون الضمير في الفعلين

للبرق.

و الثاني بأنّ إتقان الرواية كان في مثله مع كونه عالما مقدّما في هذه الصناعة، على أنّه لا معنى لإظلام البرق في نفسه على الحقيقة، بل المراد ستره الطريق عليهم، مضافا الى ما عن الأزهري «1»: أنّ أظلم و أضاء يكونان لازمين و متعديين، و ما عن الليث: تقول: أظلم فلان علينا البيت إذا أسمعك ما تكره، لما قيل: من أنّ ثبوته في مجازه يدلّ عليه.

و معنى قامُوا وقفوا من قام الماء جمد، و السوق نفقت، و الدابّة وقفت، و تغيير الأسلوب باللام و على لما فيهما من الدلالة على النفع و الضرّ مع تقديم الأجدر، و بكلّما و إذا للتنبيه على شدّة حرصهم على المشي دوما الى سرعة التخلّص و قلّة التربّص لما هم فيه من الأهوال الفضيعة و الشدائد المدهشة و إيثار المشي على الإسراع و العدو مع ما فيهما من مناسبة أحوالهم و حكاية أهوالهم للاشعار على انتهاك قواهم بحيث لا يقدرون مع ما هم عليه من الشدّة على غير المشي لما فجئهم

__________________________________________________

(1) الأزهري: أبو منصور محمد بن أحمد الهروي الشافعي اللغوي المتوفّى (370) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 362

من الافزاع و ان كانوا هم الحراص عليه.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ عطف على كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ، و ربما يحتمل عطفها على يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ، و هو بعيد، و كونها معترضة، و هو مبنيّ على جواز وقوعها في آخر الكلام.

و لو وضعت في الأصل للدلالة على انتفاء الثاني لانتفاء الأوّل من جهة ترتّبه عليه و ان كان للثاني أسباب آخر، و قد أغرب من عكس نظرا إلى أنّ المسبّب قد يكون أعمّ من السبب.

و أوهن منه الاستدلال بانتفاء

الملزوم عند انتفاء لازمه، فإنّ الظاهر من قولك:

لو جئتني لأكرمتك الإشعار بسببية عدم المجي ء لانتفاء الإكرام و استناده إليه، و لذا ذهب الجمهور الى ما ذكرناه.

نعم قد تجرّد لمجرّد الربط بين الجملتين، و للدلالة على لزوم الجزاء للشرط، فتفيد أنّ العلم بانتفاء الثاني علّة للعلم بانتفاء الأوّل.

و يستعملها ارباب العلوم في استدلالاتهم و لذا يسمّى لو الاستدلاليّة، و إرادتها في المقام بعيدة جدا بل الأولى ارادة الأولى للتنبيه على أنّه لم يبق ممّا له مدخليّة في ذهاب حواسّهم و بطلان قواهم إلّا و قد حصل عدى المشيّة الإلهيّة و ذلك لأنّ مشقّتهم بسبب الرعد و البرق قد وصلت غايتها، أو للاشعار على كمال قدرته و شدّة إحاطته عليهم بحيث إنّه يؤثّر في ذهاب أعزّ ما عندهم من الحواسّ و القوى بمجرّد المشيّة من دون ترقّب شرط أو تزاحم مانع، و لذا عقّبه بما يفصح عن عموم المقدرة.

و لقد شاع حذف المفعول في شاء و أراد، و ما يتصرّف منهما إذا وقعت في حيّز الشرط لدلالة الجواب عليه معنى و وقوعه في محلّه لفظا مع أنّ فيه ضربا من التفسير بعد الإبهام.

نعم ربما لا يكتفون بها في الشي ء المستغرب اعتناء بتعينه و دفعا لذهاب

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 363

الوهم الى غيره كقوله:

و لو شئت أن أبكي دما لبكيته عليه و لكن ساحة الصبر أوسع و قوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا «1» و لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «2».

و المعنى و لو شاء اللّه أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد و أبصارهم بوميض البرق لذهب بهما، و يحتمل كونه و عيدا لهم بعد إتمام المثل، أي و لو شاء اللّه

لدمّر على المنافقين و اذهبهما منهم عقوبة على نفاقهم كما ختم مثله في الآية الاولى.

بل ربما يؤيّده ما في تفسير الامام عليه السّلام على ما يأتي، حيث قال: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ حتى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت و أصحابك المؤمنون، و توجب قتلهم.

و الباء للتعدية و فيها معنى الاستمساك و المصاحبة على ما مرّت اليه الإشارة من الفرق بين التعديتين في قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و في قراءة ابن أبي عبلة:

لأذهب بأسماعهم، فتكون زائدة بناء على عدم الجمع بين أداتي تعدية و اختصاص الزيادة بالباء حينئذ لسبق الهمزة و شيوع التعدية بها، مع احتمال عدم الزيادة للمنع من عدم الجمع مع أن للهمزة معان أخر.

التشاجر في (القدير)

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إشارة إلى عموم قدرته و نفوذ أمره التكويني في كل شي ء بما شاء متى شاء و كيف شاء، و الشي ء في الأصل بمعنى أراد مصدر

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 17.

(2) الزمر: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 364

بمعنى الفاعل أو المفعول غلب على كلّ ما يصحّ أن يعلم و يخبر عنه، و لذا قيل: إنّه أوّل الأسماء و أعمّها و أبهمها و قد طال التشاجر في اختصاصه بالقديم أو بالحادث أو بغير المعدوم أو بالجسم، فذهب إلى اختصاصه بكلّ فريق.

و يضعّف الأوّلان بقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ «1» و قول لبيد:

ألا كل شي ء ما خلا اللّه باطل

و الأخير بقوله تعالى: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً «2».

و أمّا ما يحكى عن جهم «3» من الاستدلال بهذه الآية على انّه تعالى ليس بشي ء نظرا إلى أنّها تدل على

أنّ كلّ شي ء مقدور للّه و هو تعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئا فهو ضعيف جدا.

و أضعف منه الاستدلال بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ، حيث أنّه تعالى لو كان شيئا و هو مثل نفسه لم يصحّ قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ فوجب أن لا يكون شيئا و هو كما ترى «4».

و أما اختصاصه بالوجود فقد يستدلّ له بأنّه قد يطلق تارة بمعنى الفاعل فيتناول الباري تعالى كما في الآية الأولى، و اخرى بمعنى المفعول أي مشيي وجوده و ما شاء اللّه وجوده فهو موجود في الجملة، و عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ «5» خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ* «6»، فهما على عمومهما بلا استثناء.

__________________________________________________

(1) الانعام: 19.

(2) الكهف: 23.

(3) هو جهم بن صفوان السمرقندي رأس الجهميّة المقتول بمرو سنة (128) ه

(4) حكاه عن الجهم في «مفاتيح الغيب» ج 1 ص 81.

(5) البقرة: 20.

(6) غافر: 62.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 365

و لا يخفى ضعفه لأنّ المفهوم منه عرفا معنى عام شامل للواجب و الممكن من دون أن يكون واسطة الانتقال إليه كون شائيا أو مشيئا مع أنّه بالمعنى الأوّل لا يشمل الجمادات و الأعراض و نحوها ممّا لا يتّصف بالإرادة و المشيّة و بالمعنى الثّاني لا يشمل الواجب، و قضيته تبادر الجميع منه بالطلاق واحد فسادهما معا.

مضافا الى أنّه لا يصحّ سلبه عن شي ء من الموجودات، و مثله في الضّعف ما ربما يستدل به لما يعزى إلى المحقّقين من المتكلّمين بل قد يحكى عن تصريح بعض اللّغويين كسيبويه و غيره من إطلاقه على الموجود و المعدوم من أنّه تعالى أثبت القدرة على الشي ء في هذه الآية

و الموجود لا قدرة عليه لإستحالة إيجاد الموجود، فالّذي عليه القدرة معدوم، و هو شي ء فالمعدوم شي ء.

لأنّه لو صحّ هذا الكلام لزم أن لا يكون ما لا يقدر اللّه عليه شيئا، فالموجود حيث لا يقدر عليه لا يكون شيئا، و للمنع من أنّ الموجود لا قدرة عليه فانّه مقدور عليه و لو بالتغيير او الإعدام، و المنفي إنّما هو القدرة على إيجاده ثانيا عن عدم أصلي كالاوّل، لفوات المحلّ، و هو أخصّ مما ادّعوه، و لأنّ إثبات القدرة على الشي ء أعمّ من نفيها عن غيره.

و من هنا يظهر ضعف ما ذكره شيخنا الطبرسي بعد اختيار القول المتقدم بل قال إنّ على هذه المسألة يدور أكثر مسائل التّوحيد «1».

و الحقّ وفاقا لأكثر المحقّقين أنّ الشّيئيّة تساوق الوجود، نعم الوجود يكون كونيّا و إمكانيّا، و الأوّل يشمل جميع المجرّدات و الماديّات من الجواهر و الاعراض، و الثاني يشمل كلّ ما دخل في صقع الإمكان و ان لم يوجد بعد أو لن يوجد أبدا وجودا عينيّا، فيشمل جميع الحقائق و المفاهيم و المدركات الكليّة و الجزئيّة.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 366

و من هنا يظهر أنه يمكن إرجاع النّزاع في إطلاق الشي ء على المعدوم و عدمه إلى القول بثبوت الأعيان أو جعلها في الإمكان و عدمه، فليس البحث لغويّا محضا فيه، و لا في جواز إطلاقه عليه سبحانه، فانّ قوما لم يجوّزوا إطلاق الشي ء عليه ذهابا إلى مجرّد التعطيل نظرا إلى أنّه تعالى لو كان شيئا لشارك الأشياء في مفهوم الشيئيّة، و لذا منعوا أيضا من إطلاق الوجود و الموجود و ذي الحقيقة و الهويّة و نحوها في حقّه سبحانه.

و فيه

أنّ هذه من المفاهيم العامة الّتي لا عين لها في الخارج، و لذا ترى أنّ الموجود في الأعيان لا يكون إلّا امرا مخصوصا كالإنسان و الشّجر و الحجر، فيمتنع أن يوجد ما هو شي ء فقط.

بل قد يقال: إنّه لو وجد معنى الشّيئيّة في الخارج للزم من وجود الشّي ء وجود أشياء غير متناهية إذ كلّ ما يتحقّق في الخارج فهو شي ء، و له شيئيّة، و لشيئيّته أيضا شيئيّة أخرى، و هكذا إلى ما لا يتناهى.

و فيه نظر واضح فانّه نظير الشّبهة المعروفة في اتّصاف الوجود بالموجوديّة، و الّذي ينبغي أن يقال إنك قد سمعت أنّ الشيئيّة تساوق الوجود، فكما أنّه سبحانه موجود بحقيقة الوجود الّذي لا يمكن كونه عن عدم و لا طروّ العدم عليه، و غيره من الموجودات كلّها مفاضة منه منتسبة إليه، من دون أن يجمعهما حقيقة واحدة كذلك يتّصف هو سبحانه بأنّه شي ء بحقيقة الشّيئيّة و شي ء لا كالأشياء، كما ورد التّصريح بهما في الأخبار.

ففي خبر هشام عن الصادق عليه السّلام في جواب الزّنديق حين سئله ما هو فقال عليه السّلام هو شي ء بخلاف الأشياء ارجع بقولي إلى إثبات معنى و أنّه شي ء بحقيقة الشّيئيّة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 367

غير انّه لا جسم و لا صورة و لا يحسّ و لا يمسّ «1» و لا يدرك بالحواسّ الخمس «2».

و عن ابن سعيد قال سئل أبو جعفر الثّاني عليه السّلام يجوز أن يقال اللّه تعالى شي ء قال نعم تخرجه عن الحدّين حدّ التعطيل و حدّ التّشبيه «3».

أقول و معنى إخراجه عن حدّ التعطيل أنّه لو لم يكن اللّه شيئا لكان لا شيئا محضا و هو يوجب التعطيل عن الدّعاء و العبادة و التوسّل

و عن حد التشبيه أنّه لا يقاس بشي ء من مخلوقه بل لا يحدّ و لا يعدّ و لا يخطر ببال أحد.

و القدير فعيل بمعنى القادر و هو الّذي إن شاء فعل و إن شاء لم يفعل، أو أنّه الفعّال لما يشاء كيف يشاء، و لذا قلّ ما يتّصف به غيره سبحانه، مشتق من القدر بالتحريك بمعنى الحكم، و مبلغ الشي ء، أو بالسكون بمعنى القوّة كالقدرة و المقدرة بتثليث الدّال، ثمّ إنّ للقدرة عندهم تعريفين مشهورين، ففسّرها المتكلمون بصحّة الفعل و الترك، و الفلاسفة بكون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل، و الظّاهر تلازم المعنيين بحسب المفهوم و التّحقق و ان من أثبت المعنى الثّاني يلزمه إثبات الأوّل قطعا، و ذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل كان لا محالة من حيث ذاته مع عزل النظر عن المشيّة و اللّامشيّة يصحّ منه الفعل و الترك، و ان كان يجب منه الفعل إذا وجدت المشيّة و الترك إذا وجدت اللّامشيّة فدوام الفعل و وجوبه من جهة دوام المشيّة و وجوبها لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللّامشية.

و من هنا يظهر ضعف ما قيل: من أنّ هذا التعريف هو منشأ الخلاف بين

__________________________________________________

(1) في البحار: لا يجسّ بالجيم.

(2) بحار الأنوار ج 3 ص 258 ح 2 عن الاحتجاج و ص 26 عن التوحيد و معاني الاخبار.

(3) البحار ج 3 ص 260.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 368

الفريقين حيث إن المتكلّمين يجوّزون عدم صدور العالم عنه تعالى و إفنائه بعد وجوده بالكليّة و يمنعه الحكماء.

هل القدرة من صفات الذات أو من صفات الفعل

و أمّا ما ذكره

الدّوّاني «1» من أنّ التعريف ليس مثار الخلاف، بل مثاره قول الحكماء بوجوب تحقّق مقدم الشرطيّة الأولى و امتناع مقدم الشرطيّة الثّانية، و قول المتكلمين بامكانهما، و ذلك ليس خلافا في معنى القدرة و الإختيار فإنّ الفريقين بعد أن يتّفقا على أحد التعريفين يمكنهم هذا الخلاف، ففيه أنّهما متّفقان أيضا في الوجوب الغيري و الإمكان الذّاتي للعالم، فالمراد بالوجوب و الامتناع في المقدّمتين من قول الحكماء هو الوجوب و الامتناع الغيريان، و لا ينافيه الإمكان الذاتي الّذي يقول به المتكلّمون، و أمّا الوجوب و الامتناع الذّاتيان فلا أعرف أحدا من الفريقين يقول بثبوتهما.

و أمّا ما يقال من أنّ عدم العالم ممكن بالنظر الى ذاته لامتناع زوال الإمكان الذّاتي عنه لكن عدم مشيّته تعالى له ممتنع بالذّات عندهم، و لا منافاة بين إمكانه الذّاتي و امتناع عدم صدوره عنه بالنظر إلى مشيّته، فعدمه ممكن بالذّات لكن عدم مشيّته تعالى له ممتنع بالذّات، فصحّ أنّ عدم صدوره عنه ممتنع بالذات و إن كان هو في نفسه ممكن العدم، و المتكلّمون ينكرون ذلك و يقولون بجواز عدم مشيّته تعالى له، ففيه أنّ ظاهر التعريفين غير مساعد عليه، و لعلّ قولهم بامتناع عدم مشيّته تعالى

__________________________________________________

(1) هو جلال الدين محمد بن سعد الدواني المنتهي نسبه الى محمد بن ابي بكر الحكيم الفاضل الشاعر المتوفى حدود سنة (907) أو بعدها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 369

على فرض صدق النّسبة إليهم مبنيّ على توهم كون الإرادة و المشيّة من صفات الذات و كون القدرة مغايرة للذّات الأحديّة إلّا أنّ هذا كلّه بمعزل عمّا هو التحقيق بل المعلوم من مذهب أهل البيت عليه السّلام هو كون الإرادة و المشيّة من صفات

الفعل، و إنّهما على فرض التّعدد أو الاتّحاد حادثتان بحدوث الفعل، و انّ القدرة و العلم من الصّفات الذاتيّة الّتي لا تغاير الذّات الحقّة البسيطة بوجه من الوجوه، بل ذاته قدرته، و قدرته ذاته، بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة أو مفهوميّة أو مصداقيّة، و لذا ورد الأمر بتنزيهه عن الصفات الزائدة و ان كمال التوحيد نفي الصفات، و أنّ من وصف اللّه فقد عدّه، و من عدّه فقد حدّه «1».

و ذلك انّ القائلين بالصّفات الزائدة إن قالوا بقدمها لزمهم القول بتعدّد القدماء و إن قالوا بحدوثها لزم النقص عليه في أزله، و لذا التجأ الاشاعرة إلى القول بإثبات قدماء ثمانية مع المبدء الاول تعالى اللّه عمّا يقولون علوّا كبيرا.

نعم يستفاد من تعريف الحكماء أنّ القدرة من الصّفات الذاتيّة و إنما اشتهر عنهم القول بالإيجاب و الفاعليّة بالعليّة و نفي الاختيار و غيرها ممّا دلّت القواطع من العقل و النقل على فساده، و تمام الكلام في مقام آخر.

ثمّ إنّ هذا التّمثيل كالأول على ما مرّ يحتمل كونه من التشبيه المركّب و المفرد، فالفرض على الاول تشبيه حال عامّة المنافقين و لا سيّما الّذين تعاقدوا و تحالفوا على صرف الولاية عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فيما لهم أو ينالهم من الحيرة أو مقاساة الشدّة و الشّقوة اللّازمة و الخسارة الدّائمة بما يكابد من أخذته السّماء و أحاطت عليه بالسّحاب و المطر في ليلة متكاسفة الأنوار متراكمة الظّلمات فيها رعد قاصف، و برق خاطف، و خوف من الصواعق، و الاقتحام من المزالق

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة الاولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 370

و المزاهق، و على الثّاني تشبيه أنفسهم باصحاب الصّيب و ايمانهم الظاهري اللساني المخالط

للكفر و النّفاق و الشرك الباطني يصيب فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ من حيث أنّه و ان كان نافعا في نفسه لكنّه لما وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرّا و خيره شرّا و إبطانهم الكفر و خبث السريرة حذرا من نكايات المؤمنين و ما يتطرّقون به من سواهم من عبدة الأوثان و جحدة الإسلام و الإيمان من القتل و النّهب و الأسر بجعل الأصابع في الآذان مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ من حيث إنّه لا يدفع عنهم شيئا من المضارّ بل لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ* و لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ، و ما هم فيه من الوحشة و الحيرة و جهلهم بأمور الدّين و احكام المسلمين و عجزهم عن جواب السائلين مع مسارعتهم إلى التقدّم في الرياسات و أخذ الغنائم و غصب المناصب بأنّهم كلّما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف شديد من افتضاحهم بالكشف عن خبث سرائرهم و فساد نيّاتهم و بظهور جهل رؤسائهم بالاحكام كما روي أنّه قال قائل منهم: أيّ سماء تظلّني و أيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب اللّه بما لا أعلم «1».

و كان يقول: أقيلوني و لست بخيركم و عليّ فيكم «2».

فوا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطرا ضرعيها «3».

و كان الثّاني منهم يقرّ بعجزه و ضعفه كلّما ارتطم و اقتحم حتّى قال أزيد من سبعين مرّة لو لا عليّ لهلك عمر «4».

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي ج 1 ص 29- الكشّاف للزمخشري ج 3 ص 253.

(2) دلائل الصدق ج 1 ص 25.

(3) نهج البلاغة خ 3 المشهورة بالخطبة الشقشقية.

(4) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص

442- ربيع الأبرار للزمخشري.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 371

و كان يقول شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي «1» و حيث منع عن المغالات في الأمهار اعترضته امرأة فقال: كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في الحجال «2» إلى غير ذلك ممّا شاع نقله في كتب الفريقين.

قال الإمام عليه السّلام في تفسير الآية: ثمّ ضرب اللّه مثلا آخر للمنافقين فقال مثل ما خوطبوا به من هذا القرآن الّذي أنزلنا عليك يا محمّد مشتملا على بيان توحيدي و إيضاح حجّة نبوّتك و الدليل الباهر على استحقاق أخيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام للموقف الّذي وقفته و المحلّ الّذي أحللته و الرتبة الّتي رفعته إليها و السّياسة الّتي قلّدته إيّاها فهي كصيّب فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ.

قال: يا محمّد كما انّ في هذا المطر هذه الأشياء و من ابتلي به خاف فكذلك هؤلاء في ردّهم لبيعة عليّ عليه السّلام، و خوفهم أن تعثر أنت يا محمّد على نفاقهم كمن هو في مثل هذا المطر و الرعد و البرق يخاف أن يخلع الرّعد فؤاده أو ينزل البرق و الصاعقة عليه، فكذلك هؤلاء يخافون أن تعثر على كفرهم فتوجب قتلهم و استيصالهم يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يخلع قلوبهم مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ كما يجعل هؤلاء المبتلون بهذا الرعد أصابعهم في آذانهم إذا سمعوا لعنك لمن نكث البيعة و وعيدك لهم إذا علمت أحوالهم يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ لئلّا يسمعوا لعنك و وعيدك فتغيّر ألوانهم و يستدلّ أصحابك أنّهم هم المعنيون باللّعن و الوعيد لما قد ظهر من التغيّر و الاضطراب عليهم فتقوى التّهمة عليهم فلا يأمنون هلاكهم بذلك على

يدك و في حكمك ثمّ قال وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ مقتدر عليهم لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم و أبدى لك أسرارهم و أمرك

__________________________________________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 493 و عنه البحار ج 40 ص 227- 228.

(2) الغدير ج 6 ص 97- 99 و عن أربعين الرازي ص 467 و فيه: حتّى المخدرات في البيوت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 372

بقتلهم.

ثمّ قال يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، و هذا مثل قوم ابتلوا ببرق فلم يغضّوا عنه أبصارهم و لم يستروا منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلؤلؤه و لا ينظرون إلى الطّريق الّذي يريدون أنّ يتخلّصوا فيه بضوء البرق، و لكنهم نظروا إلى نفس البرق يكاد يخطف أبصارهم فكذلك هؤلاء المنافقون يكاد ما يشاهدونه في القرآن من الآيات المحكمة الدّالة على نبوّتك الموضحة عن صدقك في نصب أخيك عليّ إماما، و يكاد ما يشاهدونه منك يا محمّد و من أخيك عليّ من المعجزات الدّالات على أنّ أمرك و أمره هو الحقّ الّذي لا ريب فيه، ثمّ هم مع ذلك لا ينظرون في دلائل ما يشاهدونه من آيات القران و آياتك و آيات أخيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يكاد ذهابهم عن الحقّ في حججك يبطل عليهم ساير ما قد عملوه من الأشياء الّتي يعرفونها لأنّ من جحد حقّا واحدا ادّاه ذلك الجحود إلى أن يجحد كلّ حقّ فصار جاحده في بطلان ساير الحقوق عليه كالنّاظر الى جرم الشّمس في ذهاب نور بصره.

ثمّ قال: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ إذا ظهر ما قد اعتقدوا أنّه هو الحجّة مشوا فيه ثبتوا عليه و هؤلاء إذا نتجت خيولهم الإناث و نساؤهم الذكور، و

حملت نخيلهم و ذكت زروعهم و ربحت تجاراتهم و كثرت الألبان في ضروعهم قالوا يوشك أن يكون هذا ببركة بيعتنا لعليّ عليه السّلام انّه مبخوت «1» مدال «2» فبذلك ينبغي أن نعطيه ظاهر الطاعة لنعيش في دولته وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي إذا نتجت خيولهم الذكور و نساؤهم الإناث و لم يربحوا في تجاراتهم و لا حملت نخيلهم و لا ذكت

__________________________________________________

(1) المبخوت: صاحب بخت.

(2) المدال (بكسر الميم و الدال المهملة): الرجل الحفي و بالفتح: الخسيس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 373

زروعهم وقفوا و قالوا هذا بشوم هذه البيعة الّتي بايعناها عليّا و التصديق الّذي صدّقنا محمّدا و هو نظير ما قال اللّه تعالى يا محمّد إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قال اللّه تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» بحكمه النّافذ و قضائه ليس ذلك لشؤم و لا ليمن.

ثمّ قال اللّه عزّ و جل وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ حتّى لا يتهيّأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت و أصحابك المؤمنون و توجب قتلهم.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و لا يعجزه شي ء «2».

و في المجمع، عن ابن مسعود «3» و جماعة من الصّحابة إنّ رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأصابهم المطر الّذي ذكره اللّه تعالى فيه رعد شديد و صواعق و برق فكلّما أضاء لهم الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما و إذا لمع البرق مشيا في ضوئه و إذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان ليتنا

قد أصبحنا فنأتي محمّدا فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه و أسلما و حسن إسلامهما فضرب اللّه شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة و انّهم إذا حضروا النّبي صلّى اللّه عليه و آله جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النّبي صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل فيهم شي ء كما كان ذلك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يعني إذا كثرت أموالهم و أصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه و قالوا دين محمّد صحيح، وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يعني إذا هلكت أموالهم و أصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله فارتدّوا كما قام

__________________________________________________

(1) النساء: 78.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 66 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(3) هو عبد اللّه بن مسعود الهذلي المتوفى (32) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 374

ذلك الرّجلان إذا اظلم البرق عليهما «1».

ثمّ أنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ الثاني من التمثيلين أبلغ لأنّه أدلّ على فرط الحيرة و شدّة الأمر و لذا استحقّ التأخير، فانّهم يتدرّجون في مثل ذلك من الأهون إلى الأغلظ، بلا فرق بين أن يكون المثلان للصّنفين من المنافقين بان يشبّه بعضهم بأصحاب النار و بعضهم باصحاب المطر على حدّ أو في قوله: قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «2» أو لحالتي الضعف و الشدّة لكلّ منهم، و للترقّي من الأضعف إلى الأشدّ على أن يكون أو بمعنى بل كقوله: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «3» أو لمجرّد التسمية على ما مرّت إليه الإشارة.

[سورة البقرة(2): آية 21 ]

اشارة

تفسير الآية (21) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ افتتاح لتوجيه الخطاب على

وجه الالتفات إلى عامّة المكلّفين سعيدهم و شقيّهم، بعد عدّ أصنافهم و تقسيمهم الى اهل الإيمان و الكفر و النّفاق و الكشف عن حقيقة أحوالهم و مراتبهم و درجاتهم و ما يئول إليه أمرهم.

و ذلك للاهتمام بأمر العبادة و سببيّتها لنيل السّعادة، و فخامة شأنها و علوّ قدرها.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 57- 58.

(2) البقرة: 135.

(3) الصافات: 147.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 375

مع أنّ في هذا الضرب من الالتفات تنشيطا للسّامع، و هزّا له إلى الاستماع، و استدعاء منه زيادة الإصغاء و الإقبال و جبرا لكلفة العبادة بلذّة المخاطبة.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه شيخنا الطبرسي عند آية الصّيام لذّة ما في النّداء أزال تعب العبادة و العناء «1».

فالآيات المتقدّمة لمّا كانت حكاية أحوال لم تحتج الى مزيد عناية.

و أمّا هذه الآية فلما فيها من التكليف المشتمل على الكلفة و المشقة روعي فهيا الانتقال من الغيبة إلى الحضور، على جهة الخطاب المشتمل على صنوف من الألطاف المقرّبة للعباد الموجبة للزلفى لديه في المبدء و المعاد.

و (يا) حرف تدل على النداء طبعا في أصله على ما قيل من أنّه في أصله كان صوتا تصدر عنهم طبعا إلى القصد إلى النّداء كلفظة آخ عند التّوجّع، و وضعا مترتّبا على ذلك للأعمّ من القريب و البعيد على ما هو الأظهر لأصالة الحقيقة، و عدم تبادر الخصوصيّة مع شيوع الاستعمال فيما يعمّهما.

و قيل: إنّه لنداء البعيد حقيقة أو حكما بتنزيل القريب منزلته، إمّا لعظمة المنادى و علوّه او مع استقصار الدّاعي لنفسه و استبعاده لها عن التأهّل لمقام المخاطبة كقوله: يا اللّه يا رحمن يا رحيم و غيرها من الأسماء الحسنى،

مع أنّه أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ و هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ، و إمّا لسوء فهم المخاطب و بعده عن إدراك المطلب، أو لغفلته و اشتغال قلبه بغير ذلك، أو لزيادة الاعتناء بالمدعوّ له و كثرة الاهتمام بالحثّ عليه، و الفرق بينه و بين السابق واضح حيث انّه لحالة راجعة إلى المخاطب، و هنا لمجرّد التنبيه على غموض المطلب.

و (أي) اسم مبهم توصّلوا به إلى نداء المعرّف باللام، لاستكراههم دخول (يا)

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 271.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 376

عليه حذرا من اجتماع حرفي التّعريف، فتوصّلوا إليه باسم مبهم يحتاج الى ما يزيل إبهامه، فجعلوه منادى في الصورة، و أجروا عليه وضعا موضحا له ما هو المقصود بالنّداء أعني المعرّف باللّام الّذي يزيل إبهامه، و يمتاز به ذات المنادى، و التزموا رفعه، مع جواز كون الصّفة المفردة تابعة للفظ المبني، و محلّه للتنبيه على أنّه المقصود بالنّداء، بل قد التزموا رفع، توابع المعرّف مفردة كانت أو مضافة لوجوب رفع متبوعه، و لان المعتبر في المعرب تبعيّة اللّفظ، و أقحمت بين الصّفة و موصوفها كلمة التنبيه، تأكيدا لما في حرف النّداء من الإيقاظ للمنادى، و الإعلام بأنّه هو المدعوّ فيقويه حرف التنبيه، و يعضده فضل اعتضاد، و تعويضا بها عمّا يستحقّه أي من المضاف إليه أو التنوين الّذي يقوم مقامه في الدّلالة عليه و للقصد إلى الإبهام لا مجال لشي ء منهما في المقام، و في لزوم تقديم حرف التنبيه دلالة أخرى على أنّ المعرّف هو المقصود بالنداء، و إن تضمّن تأخيره، في المقام وجوها من التأكيد المستفاد من تكرار الذكر و التدرّج من الإبهام إلى التّوضيح.

و اختيار لفظ البعيد على وجه

و تأكيد معناه بحرف التنبيه الّذي فيه إيقاظ بعد ايقاظ، بل في هذا الخطاب اشارة، أيضا إلى تكريم المخاطب و تشريفه كما يستفاد من يا أَيُّهَا النَّبِيُّ*، و يا أَيُّهَا الرَّسُولُ* و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* بل يا أَيُّهَا النَّاسُ، و إن اختلفت مراتب التشريف و درجات التكريم فيها باختلاف الوصف المعرّف كما هو واضح في النبوّة و الرّسالة و الايمان و أمّا الانسانيّة في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ فلدلالتها على التشريف الفطري و التكريم الجبلّي المشار اليه بقوله: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «1» الآية حيث إنّهم لو بقوا على مقتضى فطرتهم الأصليّة الّتي هي التّوحيد و الاستقامة في طريق العبوديّة لنالوا كلّ شرف و كرامة.

__________________________________________________

(1) الإسراء: 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 377

و لعلّ في تخصيص النّاس المشتقّ من النّسيان على ما في الخبر «1»، بالخطاب تذكيرا لهم بما نسوه في العهد المأخوذ عليهم في الميثاق فكأنّه قال: يا أيّها الناسون لعهود ربّكم تذكّروا و أرقدوا من نومة الغفلة، و أوفوا له بتلك العهود الّتي منها العبادة و التّقوى، أو أنّها هي بناء على اشتمالها على سائره.

و إن أخذت الناس من الأنس فالمراد المستأنسون بعبادة ربّهم بحسب الفطرة الاصليّة، فيعمّ، أو بحسب الفعليّة العمليّة فيخصّ الّذين أنسوا بعبادة ربّهم فباشروا روح اليقين، و استلانوا ما استوعره المترفون، و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون، و صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، و قد مرّ أنّ القرآن له وجوه و ظهور و بطون لا تمانع بينها في الإرادة، و لما سمعت من اشتمال مثل هذا الخطاب مع بلاغته على وجوه التنبيه و التأكيد و التكريم كثر النّداء في الكتاب العزيز به ما لم

يكثر في غيره و بغيره، فانّ ما نادى اللّه سبحانه به عباده من حيث انّها أمور عظام ينبغي للمكلّفين أن يصغوا لها و يقبلوا بقلوبهم عليها حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ كي يفيد مزيد التّرغيب و الحثّ على الطّاعة و لذا قال تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ* «2» أيّ في القلوب و الأبدان، بل فيه خطاب لجميع مراتب وجود الإنسان كما

روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام على ما رواه المحقّق الدّواني و غيره أنّه قال يا نداء للرّوح و أيّ نداء للقلب و هاء نداء للنفس

، و هو محمول إمّا على ما سمعت، من أنّه حيث يعتنى بكمال توجّه المخاطب بيا أيّها المشتملة على وجوه المبالغة طلبا لإقباله بكلّية قلبه و قالبه و ظاهره و باطنه و إمّا على ظاهره من حيث

__________________________________________________

(1) في العلل عن الصادق عليه السّلام: سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى قال اللّه: لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ تفسير الصافي في ذيل آية (115) من سورة طه.

(2) البقرة: 66.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 378

الدّلالة المأخوذة في البطون على الوجه المقرّر في محلّه، فالخطاب النازل من سرادق قدس العظمة و الرّبوبيّة يتوجّه أوّلا إلى ما هو الألطف الأشرف الأصفى الأعلى من مراتب الوجود لبطلان الطّفرة و تبعيّة الأسفل للأعلى على وجه المظهريّة ثمّ المراد بالرّوح هو مقام الفؤاد المعبّر عنه بالخطاب الفهواني و رتبة المكافحة و حضرت المشيّة الجزئيّة و النهر المنشعب من البحر الأبيض، و اختصاصه باداة النداء لقيامه به قياما وجوديّا في الخطاب التكويني كما أنّ اختصاص القلب بأيّ لسرعة انقلابه الّذي ناسب الإبهام الكلّي، و النفس بحرف التنبيه المجانس لضمير الغائب لكمال

بعدها عن ساحة القرب و الحضور و دنوّها من عالم الغفلة و الغرور.

و النّاس من أسماء الجموع المحلّاة باللّام الشاملة بعمومها لمن دخل تحت هذا النّوع بلا فرق بين الذكر و الأنثى و الحرّ و العبد و الصّغير و الكبير و العاقل و المجنون و السعيد و الشقي، إلا أنّه قد خرج عن شموله من ارتفع عنه التكليف بالدّليل العقلي و السمعي فيبقى الباقي بلا فرق بين المؤمن و الكافر.

و أمّا

ما تظافر نقله عن ابن عباس و الحسن «1» و علقمة «2»

من أنّ ما في القرآن من يا أَيُّهَا النَّاسُ فانّه نزل بمكّة و ما فيه من يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* فانّه نزل بالمدينة

فلم يثبت عندنا فيه شي ء، و على فرضه فلا دلالة فيه على اختصاص الخطاب على الأوّل بمشركي مكّة، و على الثاني بالمؤمنين لأنّه تخصيص من غير دليل مضافا إلى كثرة المسلمين بمكّة و الكفّار بالمدينة، على أنّهم قد صرّحوا بأنّ كثيرا من السور المشتملة على الخطاب الأوّل مدنيّة كسورة البقرة و النّساء و الحجرات و غيرها و كذا العكس، و التكلّف بكون المراد بالمكّي في هذا المحكي ما كان خطابا لمشركي مكّة

__________________________________________________

(1) هو الحسن بن يسار البصري التابعي المتوفى بالبصرة سنة (110) ه

(2) هو علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي المتوفى (120) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 379

و ان نزل بالمدينة لا المشهور و هو ما نزل قبل مهاجرته صلّى اللّه عليه و آله من مكّة، أو بالتفكيك بين الآية و السّورة بأنّ كون إحداهما مكيّة لا ينافي كون الأخرى مدنيّة ممّا لا داعي إلى التزام بشي ء منهما.

و كأنّ الّذي دعاهم إلى ذلك ما قيل من توهّم أنّ هذا

الخطاب لا يجوز أن يتوجّه إلى المؤمنين بالانفراد أو بمشاركة الكفّار و ذلك لأنّ أمرهم حينئذ بالعبادة يكون طلبا لتحصيل الحاصل و هو محال، و ضعفه واضح لصحة طلبها منهم باعتبار الأنواع و الأفراد المتكثرة المتجدّدة و تحصيل الزيادة و الثبات و المواظبة و التوجّه إليها بالكليّة و هذه المعاني مشتركة في صدق العبادة عليها حقيقة.

و دعوى كونها مجازا في بعضها غير مسموعة بعد التبادر و عدم صحّة السلب و غيرها من أمارات الحقيقة، بل الأظهر عدم اختصاصها بأفعال الجوارح فتشمل العبادات القلبيّة من الإيمان و المعرفة و مجاهدة النفس لتحصيل الأخلاق الفاضلة.

و من هنا يضعف ما ربّما يقال من أنّ القول بشمول الخطاب الكفّار و غيرهم يقتضي استعمال لفظ العبادة في حقيقتها و مجازها إذ المراد بالنّسبة إلى الكفّار إحداثها و الشروع فيها و إلى المسلمين الزيادة و المواظبة عليها.

و أضعف من ذلك ما قيل من امتناع طلبها من الكفّار الفاقدين لما هو شرط في صحّتها قطعا و هو الإيمان فطلبها منهم حال انتفاء شرطها تكليف بالمستحيل، و هو ممتنع عقلا و شرعا.

إذ فيه بعد وضوح مقدورية الشّرط أنّ التكليف انّما هو حال انتفاء الشرط لا بشرط انتفائه، و بين المعنيين فرق بيّن ألا ترى أنّ الصلاة المشروطة بالطّهارة مقدورة للمكلّف فيصحّ تعلّق التكليف بها حال عدم الطّهارة لا بشرط العدم.

و كأنّ هذه الشبهة و نحوها من الأوهام هي الّتي ألجأت أبا حنيفة إلى القول بعدم كون الكفّار مكلّفين بالفروع، بل ربما سرى الوهم في ذلك إلى بعض المحدّثين

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 380

من أصحابنا المتأخرين كالمحدّث الكاشاني «1» و الشيخ يوسف البحراني «2» بل قد يستظهر القول به من المحدّث الأمين

«3» الأسترابادي حيث ذكر في موضع كتابه «الفوائد المدنيّة» أنّ حكمته اقتضت أن يكون تعلّق التكاليف بالنّاس على التّدريج بأن يكلّفوا أوّلا بالإقرار بالشهادتين، ثمّ بعد صدور الإقرار منهم مكلّفون بسائر ما جاء به النّبي صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال بعد ذكر جملة من الأخبار الآتية و اخبار الميثاق و الفطرة أنّه يستفاد منها أن ما زعمه الأشاعرة من أنّ مجرد تصوّر الخطاب من غير سبق معرفة إلهاميّة بخالق العالم، و انّ له رضى و سخطا، و انّه لا بدّ من معلم من جهته تعالى ليعلّم الناس ما يصلحهم و ما يفسدهم كاف في تعلّق التكليف بهم، ليس بصحيح.

و على كلّ حال فقد استدلّ البحراني و غيره على ذلك بأصالة البرائة بعد انتفاء الدّليل الّذي هو دليل العدم، و بأنّ التكليف بالأحكام موقوف على معرفة المكلف بها و المبلّغ لها و التّصديق بهما إذ متى كان جاهلا بهما و لم يعرفهما و لم يصدّق بهما كيف يجب عليه العمل بشي ء لا يعرف الآمر به و لا المبلّغ له، و بتطابق العقل و النقل على معذورية الجاهل بالحكم الشرعي جهلا ساذجا و من البيّن أنّ الكفّار جاهلون به، نعم هم مكلّفون بالبحث و النظر كغيرهم من سائر الجهّال إذا علموا وجوبهما بالعقل و الشرع.

و بجملة من الأخبار

كصحيح زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام، أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق فقال إنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إلى النّاس أجمعين رسولا و حجّة للّه على خلقه في أرضه فمن أمن باللّه و بمحمّد رسول

__________________________________________________

(1) الشيخ الأجلّ المحدث العارف المفسّر محمد بن المرتضى الكاشاني المتوفى (1091)

ه

(2) هو الشيخ يوسف بن احمد بن ابراهيم البحراني صاحب الحدائق المتوفى (1186).

(3) هو محمد أمين بن محمد شريف الأخباري الاسترابادي المتوفى بمكة المكرّمة سنة (1033).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 381

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اتبعه و صدّقه فانّ معرفة الامام منّا واجبة عليه، و من لم يؤمن باللّه و رسوله و لم يتبصّر لم يصدّقه و لم يعرف حقّهما فكيف يجب عليه معرفة الامام و هو لا يؤمن باللّه و رسوله و لم يعرف حقّهما «1» ، الخبر.

و التقريب أنّه متى لم تجب معرفة الامام الّذي يؤخذ منه الاحكام فكذا معرفة سائر الفروع بالفحوى و الأولويّة القطعيّة.

و ما رواه القمي في تفسيره عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ «2» قال: يا أبان أ ترى أنّ اللّه تعالى طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به، حيث يقول: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الآية. قال أبان: قلت له: كيف ذلك جعلت فداك فسّره لي فقال: ويل للمشركين الذين بالإمام الأوّل، يا أبان إنما دعى اللّه العباد للايمان به فإذا آمنوا باللّه و رسوله افترض عليهم الفرض «3».

و ما رواه شيخنا الطبرسي في الاحتجاج في حديث الزنديق الّذي جاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام مستدلا بآي من القرآن على تناقضه و اختلافه حيث قال عليه السّلام فكان أوّل ما قيدهم به: الإقرار بالوحدانيّة و الربوبيّة و الشهادة بأن لا اله إلّا اللّه فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالإقرار لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنبوّة و الشهادة بالرسالة فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ

،

الخبر «4».

__________________________________________________

(1) اصول الكافي ج 1 ص 180- 181 ح 3 كتاب الحجّة.

(2) فصلت: 6- 7.

(3) تفسير القمي ج 2 ص 262.

(4) الإحتجاج ج 1 ص 379.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 382

هذا مضافا إلى الأخبار الدّالة على وجوب طلب العلم «1» على المسلم، حيث علق الحكم عليه دون مطلق المكلّف أو البالغ العاقل، مع أنّه لم يعهد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه أمر واحدا ممّن دخل في الإسلام في زمانه بالغسل من الجنابة مع أنّه قلّ ما ينفكّ أحدهم في تلك الازمنة المتطاولة منها، و لو أنّه أمر واحدا فضلا عن عامّة المكلّفين بذلك لشاع و ذاع، و أمّا ما

رواه العلّامة في «المنتهى» عن قيس «2» بن عاصم و أسيد «3» بن حضير ممّا يدلّ على أمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله بالغسل لمن أراد أن يدخل في الإسلام

فليس في كتب أخبارنا، و الظاهر أنّه عامي فلا ينهض حجّة، و يدلّ عليه أيضا اختصاص الآيات القرآنيّة ب الَّذِينَ آمَنُوا*.

و أمّا ما ورد من قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ* فهو مع قلّته محمول على المؤمنين حمل المطلق على المقيّد، و العام على الخاص، كما هو القاعدة المتّفق عليها بينهم هذا غاية ما استدلّوا به في المقام.

و الجواب عن الأوّل أنّ الأصل منقطع بالأدلّة الدّالة على عموم التكليف في زمن الخطاب كما في الآية و في قوله: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «4»، و قوله:

أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ «5» بل و قوله: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ* «6» و نحوها تدلّ.

على اشتراك الجميع في التكليف، فإنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج

1 ص 171 ج 24 عن أمالي الشيخ.

(2) قيس بن عاصم بن سنان المنقري التميمي المتوفى نحو سنة (20) ه

(3) أسيد بن حضير بن سماك الانصاري المتوفى سنة (20) او بعدها.

(4) آل عمران: 97.

(5) الحج: 27.

(6) البقرة: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 383

و حرامه حرام إلى يوم القيامة و غير ذلك من أدلة الاشتراك.

و عن الثّاني أنّه لا دليل على توقّف التكليف على معرفة الأمر أو المبلّغ و قضيّة الأصل عدمه، مع أنّ المعرفة غير التصديق، فربّما يعرف اللّه و النّبي و لا يصدق بهما كما هو المعلوم من حال كثير ممّن أصرّوا على تكذيب النّبي صلّى اللّه عليه و آله وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1»، و أمّا من حيث الأوّل إلى الجهل بوجوب الطّاعة الموجب للجهل بالحكم فهو على فرضه مانع آخر غير الكفر.

و منه يظهر الجواب عن الثّالث أيضا فانّ الجهل الساذج غير ملازم للكفر وجودا و عدما، بل كلّ منهما أعمّ من الاخر من وجه، فمانعيّة أحدهما لا يستلزم مانعيّة الآخر.

و أمّا الأخبار فدلالتها ضعيفة، أمّا صحيح زرارة فلانّ القدر المعلوم منه عدم وجوب معرفة الإمام على وجه الانفراد و إن وجبت بعد معرفة التوحيد و النبوّة نظير ما ورد من الأخبار من وجوب الظهرين في الوقت المشترك إلّا أنّ هذه قبل هذه، فالمعارف الثلاثة مشتركة في الوجوب على المكلّفين إلّا أنّ بعضها أقدم من حيث النقدين، و توقّف اللّاحق على السابق إنّما هو من حيث الوجود و الصحّة لا من حيث الوجوب و التكليف.

و منه يظهر الجواب عن خبر القمي أيضا و يؤيّده كون جملة «و هم يشركون به» حالية

في الخبر كجملة «و هو لا يؤمن باللّه و رسوله» في الخبر السّابق.

و أمّا خبر الإحتجاج فالاحتجاج به أجنبيّ عن المقام لوضوح أنّ المقصود الإشارة إلى ترتيب النزول و التبليغ في بدو الشريعة، حيث إنّ المصلحة قد اقتضت

__________________________________________________

(1) النمل: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 384

التدرّج في تبليغ الأحكام و إعلام المكلّفين بها، و أين هذا ممّا هو المقصود بالبحث في المقام.

و أمّا وجوب طلب العلم على المسلم فلا يقضي بعدم وجوبه على غيره إلّا باعتبار مفهوم اللقب أو الوصف الّذي لا عبرة به في المقام، بعد ظهور أنّ فائدة التّعليق كون الطّلب من لوازم الإسلام، مع أنّ معرفة التوحيد و النبوة من أعظم العلوم قدرا و أسناها رتبة، و وجوبها على الكفّار بديهيّ جدّا.

و امّا عدم وجوب الغسل على من أسلم فغير واضح، و لعلّ المعلوم في تلك الأزمنة خلافه و يعضد العامّي المتقدّم بل الإجماع بقسميه على وجوبه على الكافر إذا أسلم، لأنّه من قبيل الأسباب الثّابتة في غير المكلّفين ايضا كالصّبي و المجنون، نعم وقع الإشكال في صحّته من المخالف مطلقا أو بشرط تعقّب الإستبصار أو موافقته لمعتقده أو للمذهب الحقّ أيضا و هو مقام آخر، و على فرض التّسليم فهو من الأحكام الوضعيّة المرتفعة بالإسلام، فانّه يجبّ ما قبله، و لذا لا يجب عليه بعده شي ء من العبادات المفترضة مع قيام الإجماع على استقرارها عليه قبل ذلك، بل في تلك الاخبار الدّالة على الجبّ دلالة واضحة على المطلوب أيضا فلا تغفل.

و أمّا ما ذكره من حمل المطلق على المقيّد أو المقام على الخاصّ في قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ»* و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»* فغريب جدّا، و كانّه أجنبيّ من

العلم رأسا كما لا يخفى على المطلع بمورد القاعدة حسبما قرّرت في الأصول.

و بالجملة فقضية القواعد المقرّرة و أدلّة الاشتراك المذكورة في محلّها، و عموم الخطابات من الآيات و الأخبار إنّما هو عموم التكليف مضافا إلى قوله وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «1» الآية حيث دلّت على الذّم و استحقاق العقاب

__________________________________________________

(1) فصّلت: 6- 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 385

بترك الزكاة و قوله: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ «1» و قوله: فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى «2» و قوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «3» فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «4»، الآيتين إلى غير ذلك من العمومات و الإطلاقات.

بل من البيّن أنّه لو لم يكونوا مكلّفين بالفروع للزم اتصاف مثل الزنا و اللّواط و شرب الخمر و سفك الدّماء و قتل الأنبياء و نهب الأموال و غيرها من المحارم في حقّهم بالإباحة فلا يجوز الاعتراض عليهم في شي ء من ذلك و هذا كما ترى ممّا يستنكف من الالتزام به الملاحدة و الزنادقة و الدّهريّة فضلا عن الموحّدين و ارباب الشرائع.

و ايضا لو كان حصول الشرط الشرعي شرط التكليف لم تجب الصلاة على المحدث و لا شي ء من الأمور المرتبة قبل سابقه حتّى أكبر قبل اللّه و اللّام قبل الهمزة، و ذلك معلوم البطلان بالإجماع، على ما ادعى عليه الفاضل «5» و غيره، بل ذكر أنّه يلزم أن لا يعصي أحد، و لا يفسق، لأنّ التكليف، مشروط بالإرادة، و الفاسق و العاصي لا يريدان الطاعة، و لا يكونان مكلّفين بها، فينتفي الفسق و العصيان و هو باطل بالإجماع.

بل لا ريب في انعقاد الإجماع في أصل المسألة أيضا حسبما ادعاه غير واحد من الأجلّة من دون أن يقدح

فيه ما سمعت.

__________________________________________________

(1) المدثر: 43.

(2) القيامة: 31.

(3) المطففين: 1.

(4) الزلزال: 7- 8.

(5) هو العلامة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهّر المولود (648) و المتوفى (726) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 386

و أما ما ذكره الفضل بن روزبهان «1» من أنّ المراد من تكليف الكفار بالفروع أنّهم يعذّبون في الآخرة بترك فروع الأعمال كما انّهم يعذّبون بترك أصولها لا أنّ الشّارع يدعوهم إلى الشرائع و يأمرهم بالفروع قبل أن يصدر منهم الإيمان، فانّ ذلك يؤدّي إلى التكليف بتحصيل الشروط قبل حصول الشّرط و هو باطل.

ففيه أنّه و هم واضح و غفلة بيّنة فإنّ قضيّة ما سمعت إثبات التكليف لا مجرّد التّعذيب بل هو المصرّح به في كلمات الفريقين عند تحرير محلّ النزاع و بيان الأدلة مع اشتمال قوله فانّ ذلك على مغالطة بيّنة فانّ قوله قبل حصول الشرط إن كان ظرفا للتّكليف فلا بأس به و نمنع بطلانه، أو للتّحصيل فنمنع الملازمة كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ شموله عموم النّاس لعامّة المكلّفين، و أمّا شموله لغير بني آدم من الملائكة و الجنّ و ساير الحيوانات و النباتات و غيرها من الماديّات و المجرّدات فلا ينبغي القول به و لا الإصغاء إلى قائله، و ان قلنا بكون الجميع مكلّفين مشتغلين بالعبادة و التّسبيح و غيره، حسبما يستفاد من الآيات الكثيرة و الأخبار المتواترة، لأنّ اللّفظ بحسب الوضع اللّغوي و العرفي موضوع للنوع الخاص فلا يعمّ غيره و ان صحّ اتّصافه بالطاعة و العبادة، و إنّما المقصود في المقام الإشارة إلى أنّ الكفار كلهم منقادون مطيعون في مقام امتثال الأمر التكوينيّ و ان كانوا عاصين باعتبار الأمر التّشريعي و

لعلّ الآية يشملهما ظهرا و بطنا و تعليقها على اسم الرّب دون غيره من أسمائه الحسنى للتنبيه على أنّ العبادة التكوينيّة من تجلّيات تربيته التّامة العامة في أصل الخلقة و الإيصال إلى الكمال الوجودي بمقتضى الرحمة الرّحمانيّة المتّحدة بالنّسبة إلى السعداء و الأشقياء و انّ العبادة

__________________________________________________

(1) هو فضل بن روزبهان الخنجي الشيرازي الاصفهاني ثم القاساني الشافعي كان حيّا في سنة (909).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 387

التشريعيّة واجبة عليكم بما منّ عليكم من فضله الجميل و إحسانه الجزيل و رحمته الواسعة و نعمته الجامعة شكرا للمنعم الوهّاب، و عبوديّة لربّ الأرباب.

ففي تعليق الحكم على الرّب و إضافته إلى ضمير الخطاب وجوه من اللّطف و التقريب و الدّعاء إلى رضوانه، و ازاحة العلّة في عبادته و الإشارة إلى كونها جزءا لنعمته.

و في تفسير الامام عليه السّلام قال قال عليّ بن الحسين عليهم السّلام في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني سائر الناس المكلّفين من ولد آدم اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أي أطيعوا ربّكم من حيث أمركم من أن تعتقدوا أن لا إله إلّا هو وحده لا شريك له و لا شبيه و لا مثل، عدل لا يجور، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل حكيم لا يخطل، و أنّ محمّدا عبده و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و انّ آل محمّد أفضل آل النبيّين و انّ عليّا أفضل آل محمّد و انّ أصحاب محمّد المؤمنين منهم أفضل صحابة المرسلين و انّ أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل أمم المرسلين «1» الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة للربّ جرت عليه للتّعظيم و التنبيه على الاستحقاق من الطرفين، و التعليل للأمر بذكر الصغرى للكبرى المقرّرة في العقول من وجوب شكر

المنعم، و هو شروع في الاستدلال على الرّبوبيّة المطلقة الجامعة بين التوحيد و الصّانعيّة، و وجوب العبادة بذكر الآيات الدّالة عليها كما قال سبحانه:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «2» فقدّم الأنفسية على الآفاقية و المتعلّقة بأصل الخلقة لكلّ أحد على خلقة غيره لمراعاة الترتيب في كل ذلك.

و احتمال اختصاص الخطاب بالمشركين المعتقدين أو المظهرين لربوبيّتين

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 66.

(2) فصّلت: 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 388

ربوبيّة اللّه و ربوبيّة آلهتهم، فيكون المراد بالربّ اسما يشترك فيه ربّ السموات و الأرض و الآلهة الّتي كانوا يسمّونها أربابا، و تكون الصّفة حينئذ موضحة مميّزة بعيد جدّا إذ مع أنّه تخصيص في الخطاب من دون مخصّص، لا ينبغي حمل الربّ مطلقا و مضافا على آلهتهم سيّما في مثل المقام، و قد أنشد بعضهم طعنا على بعض ما سمّوه أربابا.

أ ربّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب و الخلق في الأصل التقدير يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرت له و خلق النعل إذا قدّرها و سوّاها بالمقياس و خلقت الأديم إذا قدّرته قبل القطع، و منه ما قيل:

ما خلقت إلّا فريت و لا وعدت إلّا وفيت، و المراد به إيجاد الشي ء على تقدير و استواء.

قال الأزهري «1»: لا يجوز اطلاق هذه الصّفة بالألف و اللّام لغير اللّه سبحانه، و الخلق إذا اطلق مصدرا أو فعلا يعمّ المشيّة، و الإرادة، و القدر، و القضاء، و الإمضاء، و غيرها و هي الأمور الخمسة أو السّتة أو السّبعة الّتي لا يكون شي ء في الأرض و لا في السّماء إلّا بها كما في الأخبار المعتبرة «2»

و كلّها من مراتب المشيّة، و يراد بالخلق عند الإطلاق جميعها و لذا

قال الامام عليه السّلام في تفسيره: أ عبدوه بتعظيم محمّد و عليّ ابن ابي طالب الَّذِي خَلَقَكُمْ نسما و سوّاكم من بعد ذلك و صوّركم أحسن صورة «3».

و إذا قوبل بالأمر فالمراد به عالم المعقول الّذي هو الوجود المقيّد و بالأمر الفعل الّذي هو الوجود المطلق، أو هو الماديات و الأمر المجرّدات، أو هو إيجاد

__________________________________________________

(1) الازهري: ابو منصور و محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي الشافعي المتوفى (370).

(2) اصول الكافي ج 1 كتاب التوحيد ص 149 ج 1.

(3) تفسير البرهان ج 1 ص 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 389

العين و الأمر إيجاد الكون على ما تسمع تمام الكلام في تفسير قوله لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ «1» و قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «2».

و إذا قوبل بالتقدير و التّصوير و نحوهما فالمراد به بعض مراتب المشيّة كما في قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «3»، و قوله: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «4»، و إطلاقه في المقام باعتبار شموله لاختراع الكون و ابتداع العين بجميع مراتبها المفصّلة المتعلّقة بالرّوح و العقل و النّفس و الطبيعة و المزاج و المثال و الجسم الفلكي و العنصري و غيرها من متعلّقاتها و أجزائها المؤتلفة في الوجود الانساني المسمّى بهيكل التوحيد في جميع مراتبه الكونيّة و العينيّة و من هنا يصحّ بناء على التأويل توجيه الخطاب الجمعي إلى جميع الذرّات الوجوديّة الشاعرة المدركة المجتمعة في هويّة كلّ فرد من افراد هذا النوع لتعلّق الخلق و التّربية بكلّ ذرّة منها فضلا من تعلّقاتها و اضافاتها و ارتباطاتها و ايتلافها و نسبها

و غير ذلك من متعلّقاتها.

وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، معطوف على الضمير المنصوب في خلقكم، و المراد بالموصولة الدّالة على العموم جميع ما خلقه اللّه تعالى قبل المخاطبين أو قبل كلّ مخاطب من المجرّدات و الماديات الفلكيّة و العنصريّة و المواليد الّتي منها الحيوانات و بنو آدم، و فائدة العطف التّنبيه على العظمة و عموم القدرة و سعة الرّحمة و غيرها ممّا يدلّ على استحقاقه للعبادة بمعنى المفعول، و استحقاقهم لها بمعنى الفاعل، مع ما تقدّم في خلق الّذين من قبلهم من إتمام النّعمة عليهم نظرا إلى الارتباطات المرعية

__________________________________________________

(1) الأعراف: 54.

(2) الإسراء: 85.

(3) الحشر: 24.

(4) الأعلى: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 390

بين أجزاء العالم و اشخاص بني آدم بحيث يرتبط وجود كلّ جزء أو شخص منها بسائر الاجزاء و الأشخاص على ما يستفاد من بعض الأخبار شواهد الاعتبار، و الجملتان صلتان للموصولتين، و اعتبار تقرّرها في ذهن المخاطب كالصفة غير واضح مع أنّ الخطاب للكافة فيسوّغه التغليب للأشرف، و لذا أخرجتا مخرج المقرّر عندهم أو للتنبيه على وضوحهما بالنظر الى الاعتبارات العقليّة و الآيات الآفاقيّة و الأنفسية الّتي منها ما تعرض لها في الآية و الّتي تليها لمجرّد التذكار او لاعتراف الكافة بهما اعترافا فطريّا جبلّيا كما قال: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* «2» أو لتمكّنهم من العلم بهما بأدنى نظر.

و قرأ ابن السّميفع «3»: و خلق من قبلكم.

و قرأ زيد بن علي «4»: و الّذين من قبلكم بالموصولتين، و استشكل بأنّ الموصول الثّاني مع صلته مفرد، فلا يصلح أن يكون صلة للأوّل، و الحمل على التأكيد متعذّر،

لوجوب كونه بإعادة اللّفظ الأوّل في اللفظي و بألفاظ مخصوصة في المعنوي، و غاية ما يتكلّف له أنّه تأكيد لفظي إلّا أنّه قد يعدل فيه عن اللّفظ الاول إلى ما هو بمعناه استبشاعا للتكرار كما هو مذهب الأخفش «5» فيما إن زيد قائم، و أحد

__________________________________________________

(1) الزخرف: 87.

(2) لقمان: 25.

(3) هو محمد بن عبد الرّحمن بن السّميفع بفتح السين ابو عبد اللّه اليماني قرأ على ابن كثير المتوفى (120) ه

(4) زيد بن علي بن الحسين عليهم السّلام الشهيد بالكوفة سنة (121) ه

(5) هو ابو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط البصري المتوفى (215) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 391

الوجهين في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «1» و قوله: فصيّروا مثل كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، و إن كان المشهور في أمثال ذلك الحكم بالزّيادة دون التأكيد، و من ثمّ قيل: الأولى أن يجعل كلمة من زائدة على مذهب الكسائي على ما يحكى عنه، أو موصوفة فالظّرف فيه خبر المبتدأ محذوف هو صدر الصّلة أيّ و الّذين هم الناس أتوا قبلكم، و فيه تأكيد و إبهام و تنبيه على أنّ خلق من قبلهم أدخل في القدرة لما فيه من تفحيمهم أو موصولة و حذف صدر الصلة كثير الدّور في كلامهم أي و الّذين هم الّذين من قبلكم، و على كلّ حال فالخطب فيه سهل بعد عدم ثبوت صحّة النقل، و عدم حجيّة قول المنقول عنه، و عدم كونها من السّبع أو العشر، و عدم شموله قوله عليه السّلام «اقرأ كما يقرأ الناس» «2» لمثله بعد ظهور شذوذه نقلا و عملا.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: قال الامام عليه السّلام لها و جهان أحدهما خلقكم و خلق الّذين من

قبلكم لعلكم كلّكم تتّقون، أيّ لتتّقوا كما قال اللّه تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «3» و الوجه الآخر اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أي اعبدوه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ النّار «و لعلّ» من اللّه واجب لأنّه أكرم من أن يعنّي عبده بلا منفعة و يطعمه من فضله ثمّ يخيّبه، ألا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل اخدمني لعلّك تنتفع بي و بخدمتي و لعليّ أنفعك بها فيخدمه ثم يخيّبه و لا ينفعه فاللّه عزّ و جل أكرم في أفعاله و أبعد من القبيح في أعماله من عباده «4».

أقول الوجهان مبنيّان على كون «لعل» للتّعليل، و هو و إن أنكره جماعة من

__________________________________________________

(1) الشورى: 11.

(2) الكافي ج 2 ص 633 ح 23.

(3) الذاريات: 56.

(4) تفسير البرهان: ج 1 ص 67 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 392

أهل العربيّة نظرا إلى أنّه لم يثبت في اللّغة إلّا أنّ المحققين منهم كالكسائي «1» و الأخفش و ابن الأنباري «2» و غيرهم على إثباته، و عن قطرب «3» و أبي علي «4»: أنّ لعلّ الواقعة في كلامه تعالى محمولة عليه، و ذلك كما يقول القائل اقبل قولي لعلك ترشد، و ليس من ذلك على شكّ بل إنّما أراد اقبل قولي كي ترشد، و انّما سلك هذا الأسلوب ترقيقا للفظه و تقريبا له من قلب من ينصح له و مثله قوله:

و قلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا نكفّ و وثّقتم لنا كلّ موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمح سراب في الملا متألّق فانّ المعنى كفّوا لنكفّ، و لو كان شاكّا لما قال:

و وثّقتم لنا كلّ موثق.

و بالجملة فالشواهد على كونها للتعليل كثيرة، بل المنكرون له كالزمخشري «5» و غيره ربما أثبتوه في كثير من الموارد كقوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «6»، و قوله: وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «7» و قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* «8»، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* «9» و غير ذلك، و التعليل بالحكم و المصالح و وجوه محاسن الفعل غير عزيز في الشرعيّات، و نفي الغرض إنّما هو فيما يوجب الاستكمال بالأفعال فيكون التّقوى الّذي هو

__________________________________________________

(1) ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي المقرئ النحوي المتوفى (189) ه

(2) ابن الأنباري: محمد بن القاسم البغدادي المتوفى (328) ه

(3) قطرب ابو علي محمد بن المستنير اللغوي النحوي المتوفى (206) ه

(4) هو أبو علي الحسن بن أحمد الفسوي اللغوي المتوفى (377) ه

(5) ابو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري المعتزلي المتوفى (538) ه

(6) طه: 44.

(7) السجدة: 21.

(8) البقرة: 189.

(9) البقرة: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 393

الغاية بمعنى العبادة، و قد شاع منهم التّعليل بالغاية، أو انّ المراد به أعزّ أفرادها و أقصى مراتبها و يكون المراد التنبيه على أنّ المقصود الغائي هو ذلك، فإن لم يتيسر منكم و لو بتقصير أو تفريط أفسدتم به استعدادكم الذّاتي و غيّرتم به فطرتكم الأصليّة فلا أقل من التوسّل و التّعبد بسائر العبادات.

هذا كلّه بناء على الوجه الأوّل، و أمّا على الثّاني فلا بدّ من اعتبار التّغاير كما أشير إليه في الوجه الثّاني من الأوّل إن أريد به نيل درجة التقوى، و أمّا إن أريد به النّجاة من النّار كما في الخبر «1» فالخطب سهل،

و يحتمل كون لعلّ بمعناه الحقيقي الّذي هو إنشاء توقّع مرجوّ أو مخوف راجع إلى المتكلّم أو المخاطب أو غيرهما.

و على هذا تكون الجملة حالا من الضّمير في «اعْبُدُوا» كأنّه قال: اعبدوا ربّكم راجين أن تفوزوا بالتقوى الّذي هو أقصى درجات السالكين، و قرّة عيون المهتدين، أو مشفقين من عذابه سبحانه، فانّ الرّجاء و الخوف، جناحان للطالب السالك يصل بهما إلى ما ساعدته العناية الربّانيّة و الهداية الامتنانيّة السبحانيّة.

و فيه على أحد الوجهين دلالة على جواز كون المقصود من العبادة الفوز بالثواب أو النّجاة من العقاب كما هو المذهب المشهور المنصور المستفاد من الآيات كقوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً «2»، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً «3» يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ «4» أو من مفعول خلقكم و المعطوف عليه و إن غلب المخاطبين على الغائبين أو على ذوي العقول منهم، و المعنى انّه خلقكم و من

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 67.

(2) السجدة: 16.

(3) الأعراف: 55.

(4) الإسراء: 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 394

قبلكم في صورة من يرجى منه الفوز بالتقوى لتردّد أمرهم باختيارهم بين الهدى و الضّلالة بعد أن نصب لهم و راعى التّقوى و الألطاف المقتضية للطّاعة من الأمر و النّهي و الوعد و الوعيد مضافا إلى الآيات الدّالة على التّوحيد، بحيث لم يبق للمكلّف عذر و صار حاله في رجحان اختياره للطّاعة مع تمكّنه من المعصية كحال المرتجى منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه مع تمكنه من خلافه، و لذا استعيرت كلمة الترجّي للدّلالة على الحالة المخصوصة، و أمّا الترجّي بالمعنى الحقيقي فلا يليق بالعالم بالعواقب، نعم ربما جاءت لعلّ على سبيل الإطماع في مواضع

من القرآن تنزيلا لإطماعه و هو المبتدئ بالنّعم قبل استحقاقها منزلة وعده المحتوم و فاؤه به تنبيها على أنّه الجواد الّذي يعطي لا لغرض و لا عوض، بل لمجرد الاستعداد و قابليّة المحلّ، فكيف مع سبق الاطّلاع و تعلّق الرّجاء، و اشعارا على عظمة جلاله و كبريائه، حيث أنّ من ديدن الملوك و العظماء أن يقتصروا في مواعيدهم الّتي يوطّنون أنفسهم على إنجازها أن يقولوا عسى و لعلّ و غيرهما من الكلمات المشعرة بالنّجاح، فإذا ظفر الطّالب بشي ء منها فقد تحقّق عنده الفوز بالمطلوب و هذا المعنى من الإطماع هو الّذي عناه الإمام عليه السّلام

بقوله: «و لعلّ» من اللّه واجب

، لأنّه أكرم من أن يعنّي عبدا بلا منفعة، و يطمعه من فضله، ثمّ يخيّبه إلى آخر ما مرّ «1».

و هذا بناء على أنّ المراد بالتقوى الحذر من النّار على ما فسّره به، و أمّا إن أريد به نيل الدّرجة فهو غير مناسب للمقام لكون التّقوى من فعل العبيد إلّا باعتبار توفيقه سبحانه، نعم يناسبه الإطماع بمعنى آخر و هو ما يقابل التحقيق حذرا عن

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 67 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 395

إتّكال العبد على علمه و الأمن من يأسه سبحانه كما في قوله تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «1» و ذلك للاشارة إلى شرف مقام التقوى، و انّ العبد لا يناله بمجرّد العبادة، بل لا بدّ أن يكون مع اجتهاده فيها و المداومة، عليها واجبا لنيل البغية على وجل من أن يجيبه بالخيبة.

يستدل بهذه الآية على أمور مهمّة

ثمّ أنّه ربما يستدلّ بالآية على أمور:

منها ما مرّت الإشارة إليه من دخول الكفّار

تحت عموم التكاليف كالمؤمنين.

و منها أنّ الطّريق اللّائق بأحوال عامّة المكلّفين إلى معرفة اللّه سبحانه و العلم بوحدانيّته و ربوبيته و استحقاقه للعبادة هو النّظر في صنعه و الاستدلال بأفعاله المحكمة و آياته العجيبة في الأنفس و الآفاق.

و منها أنّه لو ثبت مطلوبيّة شي ء في الشّريعة و كونه عبادة مقرّبا إلى اللّه سبحانه إلّا أنّه قد شكّ في وجوبه و استحبابه فمن البيّن أنّ المقرّر عندهم هو الحكم بالاستحباب لأصالة عدم التكليف و عدم المنع من الترك، و ظواهر أدلّة البرائة و غيرها ممّا لا يهمّنا البحث عنه في المقام، إنّما الكلام في أنّه هل يمكن الحكم بوجوبه بمجرّد ذلك لظاهر الآية فيكون دليلا حاكما على الأصل المتقدّم؟ و جهان من أنّ الأمر ظاهر أو حقيقة في الوجوب، و قضيّة صدق العبادة على فعل اتّصافه بالوجب إلّا ما خرج بدليل.

مضافا إلى ما قيل: من أنّ الأمر بالعبادة لا بدّ أن يكون لأجل كونها عبادة، لأنّ ترتّب الحكم على الوصف مشعر بعلّية الوصف، سيّما إذا كان الوصف مناسبا

__________________________________________________

(1) التحريم: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 396

للحكم كما في المقام الّذي يناسب العبادة، و هي الخضوع و الانقياد و شكر المنعم لإيجابها و الأمر بها، و إذا ثبت أنّ كونه عبادة علّة للأمر بها وجب في كلّ عبادة أن يكون مأمورا بها، لدوران حصول الحكم مدار تحقّق العلّة.

و من أنّ ظاهر الخطاب أنّ المقصود من الأمر وجوب إدخال هذه الماهيّة في الوجود، فلا عبرة بالإطلاق بعد ظهور وروده لبيان حكم آخر، مضافا إلى أنّ الظّاهر من العبادة و الإطاعة و الامتثال و نحوها هو الإتيان بالمأمور به على وجه الأمر إن واجبا فعلى وجه الوجوب أو

مندوبا فكذلك، و لذا فسر السجّاد عليه السّلام فيما حكاه الإمام في تفسيره العبادة بالاطاعة من حيث أمرهم «1» سيّما مع تفسيره بالأصول و فروع الأصول، و أين هذا من وجوب كلّ عبادة على كلّ احد، و من هنا يظهر أن الثّاني أظهر فالأصل الأوّل بحاله.

و منها: انّ الاشاعرة استدلّوا بها على أنّ العبد لا يستحقّ بفعله الثّواب لدلالتها على أنّ سبب وجوب العبادة ما بيّنه من خلقه لنا و الإنعام علينا، فحينئذ يكون الاشتغال بالعبادة أداء لحقّه الواجب، و الإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئا فوجب أن لا يستحقّ العبد على العبادة ثوبا على اللّه تعالى «2».

و ضعفه واضح إذ لعلّ السّبب هو المصلحة المقتضية، و فائدة التعليق الحثّ على الامتثال، سلّمنا لكنّ الوجوب لا ينفي الاستحقاق ضرورة عدم التّنافي بينهما عقلا و شرعا، بل المعلوم من الشرع خلافه كما نطقت به الآيات و الأخبار.

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 66.

(2) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 87.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 397

[سورة البقرة(2): آية 22 ]

اشارة

تفسير الآية (22) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً لمّا أمر اللّه سبحانه كافّة النّاس بالعبادة، و أمرهم بالطّاعة، و كان فيهم المقرّ المعتقد، و الجاحد المعاند، قرن أمره بجملة من الدّلائل الأنفسيّة و الآفاقيّة إتماما للحجّة، و ازاحة للعلّة، و لطفا عليهم بما يضطرّهم النظر فيها إلى الإذعان و إن أصرّ الكافر على جحوده لمجرّد العدوان، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، فعدّد في المقام عليهم خمسة دلائل: إثنين من الأنفس، و هما خلقهم و خلق أصولهم، و ثلاثة من الآفاق، و هي جعل الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً، و خلق الأمور الحاصلة من

مجموعها الّتي هي بمنزلة النتاج و المواعيد من الفواعل الفلكيّة و القوابل العنصريّة، كلّ ذلك بمشيّته سبحانه.

و السبب في هذا التّرتيب واضح فإنّ أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، ثمّ ما منه أصله و منشأه من الأصلاب و الأرحام المستودعة لنطفته المعدّة لإتمام خلقته، ثمّ الأرض الّتي هي مكانه و مستقره يقعدون عليها و يتقلّبون فيها كما يتقلّب أحدكم على فراشه، ثمّ السّماء الّتي هي كالقبّة المضروبة و الخيمة المبنية على هذا القرار ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلّة و المظلة من إنزال الماء الّذي منه مواد الثمرات و أصول النطف و إخراج الحيوانات و النّباتات و الثّمرات رزقا للعباد، و بلغة لمصالحهم في أمر المعاش و المعاد.

هذا مضافا إلى توقّف الانتفاع بالأرض و السّماء على حصول الخلق و الحياة و القدرة و الشهوة و العقل و كلّها موجودة في الإنسان، مع أنّ فيه ما فيهما و زيادة ممّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 398

ذكر، و لذا ربما يعبّر عنه بالكون الكبير.

و الغرض من ذكر الآيات أن يعتبروا و يتفكّروا في خلق أنفسهم و فيما فوقهم و ما تحتهم و في جميع جهاتهم من الأرض و السّماء، و يعلموا أنّ شيئا منها لا يقدر على خلق شي ء بل كلّها مسخّرات بأمر الخالق القادر الّذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ.

و الموصول وصلته في محلّ النّصب على أن يكون صفة ثانية للرّبّ، أو مقطوعا على المدح بتقدير أعني و أمدح و أخصّ و نحوها، أو على أنّه مفعول لقوله تَتَّقُونَ أو في محلّ الرفع على انّه خبر لمحذوف بناء على قطع الصّفة، فتبقى دالة على المدح، أو على الابتداء و خبره قوله فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً و لو

بالتأويل على معنى المقول فيه على ما يأتي، و دخول الفاء على الخبر لتوهّم الشّرط و أمّا الإخبار عنه بقوله: رِزْقاً لَكُمْ على تقدير الفعل فبعيد في الغاية، و تكرير الموصول للفصل بين نوعي الآية و حصول الفاصل بذكر الغاية، و قضيّة وصف المعارف بالجمل على ما مرّ علمهم بوجود شي ء يستند إليه تلك الآثار، بل يحصل منه الاضطرار إلى الإقرار بالواحد القهّار.

و جعل يستعمل بمعنى طفق للدّلالة على الشروع، فتكون لازمة كقوله:

و قد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فانهض نهض الشارب الثمل. و بمعنى أوجد فيتعدّى لواحد كقوله:

وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ «1» و الغالب استعماله حينئذ في إيجاد خصوص الآثار و لذا قابله بالخلق في الآية، و إن كان قد يستعمل بمعناه بل ربما لا يفرق بينهما أصلا و بمعنى التّصيير و التّغيير، فيتعدّى إلى مفعولين سواء كان في الذّات أو

__________________________________________________

(1) الانعام: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 399

في الصّفات أو في اللوازم و الآثار و سواء كان فعلا أو قولا أو اعتقادا، نعم الغالب استعماله في الصفات و الآثار كقوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً «1» بناء على أنّ صنع الشّي ء في نفسه غير مستلزم لصنع لوازمه و آثاره و لذا

قال الحجّة عجّل اللّه فرجه في دعاء السمات: و خلقت بها الظّلمة و جعلتها ليلا و جعلت اللّيل سكنا و خلقت بها النّور و جعلته نهارا و جعلت النّهار نشورا مبصرا و خلقت بها الكواكب و جعلتها نجوما و بروجا و مصابيح و زينة و رجوما «2».

و أمّا ما يحكى عن شيخ الإشراق «3» من أنّه سئل عن مثل تلك المسألة و كان بين يديه مشمش

فقال: إنّ اللّه سبحانه ما جعل المشمش مشمشا و إنّما جعل المشمش فله وجهان: أحدهما أنّ الجعل إنّما تعلّق بالذّرات الّتي من مقتضياتها الذّاتيّة تلك الآثار من غير حاجة إلى تعلّق الجعل بها، و الآخر انّه ليس المراد به الجعل بمعنى التّصيير بل بمعنى الخلق و لذا عدّاه إلى مفعول واحد و هذا وجه، صحيح و أمّا الأوّل ففاسد على ما تقرّر في محلّه من ابطال القول بالأعيان و اللوازم الذّاتيّة الغير المخلوقة.

و الفراش اسم لما يفرش كالبساط لما يبسط، و تقديم الظرف على المفعول لإفادة الحصر، مضافا إلى الاختصاص، و معنى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ما

رواه الامام عليه السّلام في تفسيره عن الحسن بن علي عليهم السّلام قال جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم لم يجعلها شديدة الحرّ و الحرارة لتحرقكم، و لا شديدة البرد و البرودة فتجمدكم، و لا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم، و لا شديدة النتن فتعطبكم و لا

__________________________________________________

(1) يونس: 5.

(2) دعاء السمات.

(3) شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي المقتول بحلب سنة (587) و عمره نحو (36) سنة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 400

شديدة اللين كالماء فتغرقكم، و لا شديدة الصّلابة فتمنع عليكم في حروثكم و أبنيتكم و دفن موتاكم، و لكنّه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به و تتماسكون و يتماسك عليها أبدانكم و بنيانكم، و جعل فيها من اللّين ما تنقاد به لحروثكم و قبوركم و كثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم «1» و رواه في الاحتجاج و غيره مثله.

و في خبر توحيد المفضّل عن الصّادق عليه السّلام فكّر يا مفضّل فيما خلق اللّه عزّ و جل عليه هذه الجواهر الأربعة ليتّسع ما يحتاج إليه

منها فمن ذلك سعة هذه الأرض و امتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتّسع لمساكن النّاس و مزارعهم و مراعيهم و منابت أخشابهم و أحطابهم، و العقاقير العظيمة و المعادن الجسيمة غناؤها، و لعلّ من ينكر منه الفلوات الخالية «2» و القفار الموحشة يقول: ما المنفعة فيها، فهي مأوى هذه الوحوش و محالّها و مرعاها ثمّ فيها بعد متنفس و مضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم و كم بيداء و كم فدفد «3» حالت قصورا و جنانا بانتقال النّاس إليها و حلولهم فيها، و لو لا سعة الأرض و فسحتها لكان النّاس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا حزنه أمر يضطرّ إلى الانتقال عنه، ثمّ فكّر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة فتكون وطنا مستقرّا للأشياء، فيتمكّن النّاس من السّعي عليها في مآربهم، و الجلوس عليها لراحتهم و النوم لهدوءهم، و الإتقان لاعمالهم، فانّها لو كانت رجراجة «4» متكفّئة «5» لم يكونوا

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 67 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) في البحار: الخاوية.

(3) الفدفد (بفتح الفائين): الفلاة.

(4) رجراجة: متزلزلة.

(5) المتكفّئة: المنقلبة و المتمايلة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 401

يستطيعون أن يتقنوا البناء و التّجارة و الصّناعة و ما أشبه ذلك، بل كانوا لا يتهنّئون بالعيش و الأرض ترتجّ من تحتهم، و اعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلّة مكثها حتّى يصيروا إلى ترك منازلهم و الهرب عنها «1».

ثمّ ذكر العلّة في الزلزلة و غيرها على ما يأتي في محلّه، قال بعض المحقّقين ممّا منّ اللّه تعالى على عباده في الأرض أن لم تجعل

في غاية الصّلابة كالحجر، و لا في غاية البرد و الانغمار كالماء ليسهل النّوم و المشي عليها و أمكنت الزّراعة و اتّخاذ الأبنية منها و يتأتى حفر الآبار و اجراء الأنهار.

و منها أن لم تخلق في غاية اللّطافة و الشّفيف لتستقرّ الأنوار عليها و تتّسخن منها فيمكن جوارها و المعاش فيها، و منها أن جعلت بارزة بعضها من الماء مع أنّ طبعها الغوص فيه لتصلح التّعيش الحيوانات البرّية عليها و سبب انكشاف ما برز منها و هو قريب من ربعها ان لم تخلق صحيحة الاستدارة بل خلقت هي و الماء بمنزلة كرة واحدة، يدل على ذلك فيما بين الخافقين تقدم طلوع الكواكب و غروبها للمشرقين على طلوعها و غروبها للمغربين، و فيما بين الشمال و الجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظّاهر، و انحطاط الخفيّ للواغلين في الشمال و بالعكس للواغلين في الجنوب و تركب- الاختلافين لمن يسير على سمت بين السّمتين إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة يستوي في ذلك راكب البرّ و راكب البحر، و هذه الجبال و ان شمخت لا تخرجها عن أصل الاستدارة لأنّها بمنزلة الخشونة القادحة في ملامسة الكرة لا في استدارتها.

و منها الأشياء المتولّدة فيها من المعادن و النّباتات و الحيوانات و الآثار العلويّة و السّفليّة و لا يعلم تفاصيلها إلّا موجدها، و منها إختلاف بقاعها في الرّخاوة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ص 121.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 402

و الصّلابة و الدّماثة و الوعورة بحسب اختلاف الحاجات و الأغراض وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ «1».

و منها: اختلاف ألوانها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ «2».

و منها: انصداعها بالنباتات وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ

«3».

و منها: جذبها للماء المنزل من السّماء وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ «4».

و منها: العيون و الأنهار العظام الّتي فيها وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ «5».

و منها: امتدادها طولا و عرضا بحيث تسع النّاس على كثرتهم وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها* «6».

و منها: انّ لها طبع الكرم و السّماحة تأخذ واحدة و ترد سبعمائة كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «7».

و منها: حياتها و موتها وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها «8».

و منها: الدّواب المختلفة وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ* «9».

__________________________________________________

(1) الرعد: 4.

(2) فاطر: 27

(3) الطارق: 12.

(4) المؤمنون: 18.

(5) يس: 34.

(6) الحجر: 19.

(7) البقرة: 261.

(8) يس: 33.

(9) البقرة: 164.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 403

و منها: النّباتات المتنوّعة وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «1»، فاختلاف ألوانها دلالة و اختلاف طعومها دلالة و اختلاف روائحها دلالة.

فمنها قوت البشر و منها قوت البهائم كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ «2».

و منها: الطعام، و منها الإدام، و منها الدّواء، و منها الفواكه، و منها كسوة البشر نباتيّة كالقطن و الكتان و حيوانيّة كالشعر و الصّوف و الإبريسم و الجلود.

و منها الأحجار المختلفة بعضها للزّينة و بعضها للأبنية فانظر إلى الحجر الّذي تستخرج منه النّار مع كثرته، و انظر إلى الياقوت الأحمر مع عزّته، و انظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير و قلّة النفع بهذا الخطير.

و منها: ما أودع اللّه تعالى فيها من المعادن الشّريفة كالذّهب و الفضّة.

ثمّ تأمّل أنّ البشر استنبطوا الحرف الدّقيقة و الصّنائع الجليلة و استخرجوا الدّرّ من قعر البحر.

و استنزلوا الطير من أوج الهواء، و عجزوا من اتّخاذ الذّهب

و الفضّة و السّبب فيه ان معظم فائدتهما ترجع إلى الثمينة و هذه الفائدة لا تحصل إلّا عند العزّة و القدرة على اتّخاذهما تبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب اللّه دونهما بابا مسدودا و من هاهنا اشتهر في الألسنة من طلب المال بالكيمياء أفلس.

و منها: ما يوجد على الجبال و الأراضي من الأشجار الصّالحة للبناء و السّقف و الحطب و ما اشتدّ إليه الحاجة في الخبز و الطّبخ، و لعلّ ما تركناه من المنافع أكثر مما عددناه فإذا تأمّل العاقل في هذه الغرائب و العجائب اعترف بمدبّر حكيم و خالق عليم ان كان ممّا يسمع و يبصر و يعتبر.

__________________________________________________

(1) ق: 7.

(2) طه: 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 404

الاستدلال بالآية على تسطّح الأرض و سكونها ليس صحيحا

ربما يستدلّ بهذه الآية مرّة على أنّ الأرض ليست كرة بل هي مسطّحة إذ الظاهر من كونها فراشا انبساطها و أما الجسم الكروي فليس له هذا الإنبساط لعدم استواء سطحه، و اخرى على كونها ساكنة إذ لو كانت متحرّكة لم تكن فراشا و قرارا و مهادا قال اللّه سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً «1»، أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً «2».

و الحقّ أنّه لا دلالة فيها على أحد الأمرين إذ لا خلاف في أنّ الأرض ليست كرة حقيقيّة، و انّما البحث في الكروية الحسيّة و من البين أنّ كرويّة الأرض بجملتها لا ينافي امتنانه سبحانه بجعلها فراشا للنّاس و مهادا لهم فانّها لعظم سطحها و اتّساع محيطها لا يكاد يظهر أثر الاحديداب على سطحها، و لذا ربما ينكر كرويّتها في بادي النظر و التأمل أكثر العوام، بل و بعض الخواص بل قد يقال: إنّ القول بكرويتها منسوب إلى المنجّمين و لا

يوافقهم عليه الفقهاء و ساير أهل الشرع بل ينكرونها، و انّ ما ذكروه في إثبات كرويتها لا يثمر ظنّا بذلك نقلا عن القطع، إلّا أن الاعتبار القبيح قاض بعدم التامّل في كرويتها لما استدلّوا به من طلوع الكواكب و غروبها في البلاد الشرقيّة قبل طلوعها و غروبها في الغربيّة بقدر ما تقتضيه أبعاد تلك البقاع من الجهتين على ما علم من أرصاد كسوفات و خسوفات بعينها في بقاع مختلفة الأطوال متّفقة العروض، فانّ ذلك ليس في ساعات متساوية البعد من نصف النّهار،

__________________________________________________

(1) النمل: 61.

(2) النبأ: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 405

و كون الإختلاف متقدّرا بقدر الابعاد دليل، على الاستدارة المتشابهة الحسيّة لها فيما بين الخافقين، و لو كانت مستوية لكان الطلوع على الجميع أو الغروب عنهم دفعة واحدة كما أنّ ازدياد ارتفاع القطب الشمالي و الكواكب الشّماليّة للراغبين في الجنوب و ازدياد انحطاط القطب الجنوبي و الكواكب الجنوبية للواغلين في الشّمال بحيث يزداد درجات الارتفاع و الانحطاط بازدياد درجات الوغول بحسب الدّرجات الأرضيّة دليل على استدارة الأرض في العرض.

و تركّب الاختلافين للسائرين على سمت بين السّمتين من السموات الأربعة الحاصلة من امتداد الخافقين و الجنوبين دليل على الاستدارة في جميع الامتدادات، و يدلّ عليه أيضا استدارة ظلّ الأرض الواقع على وجه القمر في الخسوفات المتكرّرة الّتي شوهد فيها استدارة أطراف ظلّها.

و هذان الوجهان يدلّان أيضا على صيرورتها مع الماء ككرة واحدة مضافا إلى ظهور الجبال الشّامخة أعمدة على الأفق في البراري و البحار شيئا فشيئا بالتّدريج للمتقارب إليها و استتار أسافلها أولا بسطوح الأراضي و المياه الحاجبة لها فيظهر من أعاليها شيئا فشيئا هذا مضافا إلى أنّ طائفة من الأندلس و غيرهم

من السيّاحين قد قطعوا الدّوائر الارضية الموازية لخطّ الاستواء و غيره في مرّات كثيرة بحيث قد رجعوا إلى الموضع الّذي فارقوه أولا و استعملوا قدر العظيمة الأرضيّة بالآلات الصناعيّة الّتي يقدّر بها الأميال و الفراسخ في البراري و البحار و بالجملة فكروية الأرض بحسب التقريب الّذي لا يقدح فيه الجبال و الوهاد الّتي هي كالتضاريس عن الأمور المعلومة و عليها شواهد قطعيّة رياضيّة، و لذا اتفق عليه الرياضيّون و الطّبيعيون بل صرّح به كثير من الفقهاء أيضا.

قال الشيخ المفيد طاب ثراه في كتاب المقالات: إنّ المتحرّك من الفلك انّما يتحرّك حركة دوريّة كما يتحرّك الدّائر على الكرة، قال: و هذا مذهب ابي القاسم

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 406

عبد اللّه أحمد بن محمود البلخي «1» و جماعة من أهل التوحيد، و الأرض على هيئة الكرة في وسط الفلك، و هي ساكنة لا تتحرّك و علّة سكونها أنّها في المركز و هو مذهب ابي القاسم و اكثر القدماء و المنجّمين، و قد خالف فيه الجبائي «2» و ابنه «3» و جماعة غيرهما من أهل الآراء و المذاهب من المقلّدة و المتكلمين.

أقول و لعلّهم إنّما خالفوا في سكونها فكونها على هيئة الكرة في الوسط إجماع من الجميع أو في ذلك لكنّه نسبه إلى اكثر القدماء، و هو الظّاهر من السيّد المرتضى رضى اللّه عنه، أيضا حيث أبطل استدلال الجبائي بهذه الآية على عدم الكروية، فقال: إنّه يكفي في النّعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط و مواضع مفروشة و مسطوحة يمكن التصرف عليها، و ليس يجب أن يكون جميعها كذلك و معلوم ضرورة أنّ جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا و ان كان مواضع التصرّف فيها بهذه

الصّفة و المنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرّف فيها و يستقرّ عليها، و انّما يذهبون إلى أنّ جملتها كريّة الشكل، قال: و ليس له أن يقول قوله: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، يقتضي الإشارة إلى جميع الأرض و جملتها لا إلى مواضع منها لأنّ ذلك يدفعه الضّرورة من حيث أنّا نعلم بالمشاهدة أنّ فيها ما ليس ببسائط و لا فراش إلى آخر ما ذكره «4» طاب ثراه.

بل يظهر أيضا من الشيخ أبي جعفر الطوسي في «المبسوط» حيث قال في مسألة رؤية الهلال في بعض البلاد: إنّ البلاد إن كانت متقاربة لا تختلف في المطالع كبغداد و البصرة كان حكمها واحدا و إن تباعدت كبغداد و مصر كان لكلّ بلد حكم نفسه «5».

__________________________________________________

(1) البلخي ابو القاسم كان من متكلمي المعتزلة توفي ببلخ سنة (319) ه

(2) الجبائي ابو علي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي توفي سنة (303) ه

(3) ابو هاشم بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي المتوفى سنة (321) ه

(4) الأمالي للسيد المرتضى ج 4 ص 96- 97.

(5) المبسوط ج 1 ص 268 كتاب الصوم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 407

الأدلّة على كروية الأرض

و الفرق على ما صرّح به غير واحد منهم مبنيّ على القول بكروية الأرض و من هنا يصحّ نسبته إلى كلّ من قال بالتفصيل و هم المعظم لو لم نقل إنّ عليه الإجماع، و قال العلّامة في «التذكرة» إنّ الأرض كرة فجاز أن يظهر الهلال في بلد و لا يظهر في آخر لأنّ حدبة الأرض مانعة لرؤيته، و قد رصد ذلك أهل المعرفة و شوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب الغربيّة لمن جدّ في السّير نحو المشرق و بالعكس.

و قال

ولده فخر المحقّقين في الإيضاح مبنى هذه المسألة على أنّ الأرض هل هي كرويّة أو مسطّحه و الأقرب الأوّل ثمّ استدلّ بدلالة إرصاد الكسوفات على الإختلاف في الطلوع و الغروب باختلاف الأبعاد و غير ذلك «1» على ما مرّ.

و تبعهم على ذلك اكثر المتأخّرين و لذا فصّلوا في المسألة المتقدّمة بين البلاد المتقاربة و غيرها بل جلّ القائلين بنفي الفصل أو كلّهم قائلون بالكرويّة ايضا، و انّما لم يقولوا بالتفصيل لما أشار اليه العلّامة في «المنتهى» و تبعه غيره من أنّ المعمور من الأرض قدر يسير و هو الربع و لا امتداد به عند السّماء.

و من الغريب بعد ذلك كلّه ما في الحدائق حيث أنكر الكروية قال: و ممّا يبطل القول بها أنّهم جعلوا من فروع ذلك أن يكون يوم واحد خميسا عند قوم و جمعة عند آخرين و سبتا عند قوم، و هكذا ممّا تردّه الاخبار المستفيضة.

__________________________________________________

(1) إيضاح الفوائد ج 1 ص 254.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 408

في جملة من المواضع، فإنّ المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب و الشك أن كلّ يوم من أيّام الأسبوع و كلّ شهر من شهور السّنة أزمنة معيّنة معلومة نفس أمرية كالأخبار الدّالة على فضل يوم الجمعة و ما يعمل فيه و احترامه و أنّه سيّد الأيّام و سيّد الأعياد، و انّ من مات فيه كان شهيدا و نحو ذلك «1»، ما ورد في أيام الأعياد من الأعمال و الفضل، و ما ورد في يوم الغدير و نحوه من الأيّام الشّريفة، و ما ورد في شهر رمضان من الفضل و الأعمال و الاحترام «2»، فإنّ ذلك كلّه ظاهر في كونها عبارة عن أزمان معيّنة في

الواقع و اللازم على ما ادّعوه من الكرويّة إنّها اعتباريّة باعتبار قوم دون آخرين، و مثل الأخبار الواردة في زوال الشّمس و ما يعمل بالشمس في وصولها إلى دائرة نصف النّهار، و ما ورد في ذلك من الأعمال «3» فانّه بمقتضى الكروية يكون ذلك من طلوع الشّمس إلى غروبها من دون اختصاص له بزمان معيّن، لأنّ دائرة نصف النّهار بالنّسبة إلى كلّ قوم غيرها بالنّسبة إلى آخرين، ثمّ قال و بالجملة فبطلان هذا القول بالنّظر إلى الأدلة السمعيّة و الاخبار النبويّة أظهر من أن يخفى و عسى ساعد التوفيق أن أكتب رسالة شافية مشتملة على الأخبار الصّحيحة الصّريحة في دفع هذا القول إن شاء اللّه «4».

__________________________________________________

(1) الوسائل الباب 6 الى 16 من الأغسال المسنونة و الباب: 30 الى 57 من صلاة الجمعة و آدابها.

(2) تجد كل ذلك في الوسائل في أبواب الأغسال المسنونة و أبواب نافلة شهر رمضان.

(3) الوسائل الباب 12 من مواقيت الصلاة.

(4) الحدائق ج 13 ص 266- 267 و لا يخفى أن كرويّة الأرض أصبحت في عصرنا هذا من الأمور الواضحة و ليس في الآيات و الأخبار ما ينافيها بل فيها ما يدلّ على ذلك راجع البيان ج 1 لآية اللّه الخوئي قدس سره ص 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 409

أقول أمّا ما نسب إليهم من تفريع كون يوم واحد خميسا عند قوم و جمعة عند آخرين و سبتا عند ثالث فلم يذكر ذلك بإطلاقه أحد منهم، و ليس يلزمهم ذلك أيضا من جهة مجرّد الكروية بل من جهة قطع محيط الكرة في جهتين مختلفتين، بيان ذلك أنّه إذا تفرق ثلاثة أشخاص في موضع فسار أحدهم نحو المغرب

و الثّاني نحو المشرق و أقام الثالث حتّى دار السّائران دورا تامّا و رجع السائر إلى الغرب إليه من المشرق و إلى الشرق إليه من الغرب فمن البيّن أنّ المقيم كغيره من أهل الآفاق في عدد الأيّام لكنّه ينقص للمغربي يوم واحد و يزيد للمشرقي يوم واحد فلو كانت الأيام للمقيم عشرة كانت للمغربي تسعة و للمشرقي أحد عشر و ذلك لأنّ المغربي سيره موافق لحركة الشّمس فيزيد ساعات أيّامه و لياليه من أربعة و عشرين ساعة بساعتين و نصف تقريبا كما أنّ المشرقي سيره موافق لحركتها فينقص ساعات أيّامه و لياليه بهذا القدر و يتلفّق من كل ذلك يوم ينقص عن ايّام الأوّل و يزيد على أيّام الثّاني كما هو واضح فالسّبب المؤثّر في الاختلافات حقيقة هو السّير الموافق أو المخالف لحركة الشمس في تمام الدّورة، و هذا لا ينافي كون أيّام الأسابيع أسماء لمعانيها الواقعيّة الّتي هي أزمنة معيّنة.

فان قلت إنّه على القول بالكروية يختلف الطلوع و الغروب و زوال النّهار و نصف اللّيل و الفجر و غيرها بحسب إختلاف الآفاق و ذلك لاختلاف أزمنة المحاذاة و غيرها من الأوضاع.

قلت: مع الغضّ عن لزوم ذلك على فرض كونها مسطّحة ايضا لا بأس بالتزام ذلك بل هو المتعيّن ضرورة اختلاف المحاذاة باختلاف الأمكنة فيتبعه اختلاف الازمنة ايضا و هو واضح يقتضي به الوجدان بعد التأمّل الصّحيح، و يشهد له ما مرّ من مشاهدة الخسوفات القمريّة الجزئيّة في أزمنة مختلفة اضافيّة فيشاهده أهل

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 410

الأوساط مثلا عند انتصاف اللّيل و أهل المشرق بعده و أهل المغرب قبله.

و أمّا الاخبار المتضمّنة لخصوص الأزمنة و ما فيها من الأعمال فلا بدّ من

اعتبارها بحسب الآفاق و الأمكنة فكلّ دورة تامّة للشّمس فهي يوم من الأيّام بليلة في جميع الآفاق غاية الأمر أنّ الشّمس في كلّ جزء من الدّورة تكون مسامتة لجزء من الأرض مقاطرة لما يقابله مشرّقة و مغرّبة لمنتصف الجزئين من الطّرفين فيتحقّق في كلّ آن من الآنات الزوال و نصف اللّيل و الطلوع و الغروب و كذا ما بينها من الأحوال و الأوضاع و ان كان أكثر تلك الأماكن غير عامرة بل غامرة.

و بالجملة لا ريب في كون الأوضاع المذكورة إضافيّة مختلفة باختلاف الآفاق لا حقيقيّة محضة، و لذا أوردوا على أخبار ركود الشمس عند الزّوال في غير يوم الجمعة بأنّها في كلّ آن في نصف النّهار لقوم فيلزم سكون الشمس دائما ثمّ لم يجيبوا عنه بالمنع من ذلك بل أجاب المجلسي و غيره من ذلك باحتمال أن يكون المراد نصف نهار موضع خاصّ كمكة أو المدينة أو قبّة الأرض.

و بالجملة فكروية الأرض عند أهل الصّناعة بيّنة واضحة، و الشواهد الرياضيّة الحسيّة عليها متكاثرة متظافرة، و منشأ الإشكال فيها إنّما هو الجهل بها أو الغفلة عنها هذا هو الكلام في استدارتها.

سكون الأرض و حركتها

و أمّا سكونها في الوسط فالاستدلال عليه بالآية و إن كان ضعيفا في الغاية على ما مرّت إليه الإشارة إلّا أنّ الأدلّة السمعية بل الرياضيّة عليه كثيرة و كانّ عليه إطباق الأمم إلّا أنّه قد حدث بين حكماء الأندلس و غيرهم من أهل الإفرنج القول بحركتها و سكون السّموات بل نفيها و سكون الأجرام المنيرة من الشمس و القمر و غيرهما من السيّارات و الثوابت إمّا بالنّسبة إلى الحركة الدّورية الأرضيّة كما في

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 411

الجميع أو مطلقا كما في

الشمس و لنا معهم مباحثات و مناظرات في ذلك و سنقصّها عليك عند تفسير قوله تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً، و السَّماءَ بِناءً «1» هو في الأصل مصدر سمّي به المبنيّ من حجر أو مدر أو شعر أو وبر، أو أديم أو غيرها و إن خصّ كلّ منها باسم كالبيت و القبة و الخباء و الطّراف و نحوها.

و عن الزجّاج «2»: كلّ ما علا الأرض فهو بناء، و أبنية العرب أخبيتهم، و منه:

بنى على امرأته، لأنّهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا، و لذا يعدّى «بعلى»، و قد يضمّن معنى أعرس فيعدّى بالباء.

قال ابن دريد «3» و غيره: بنى عليها و بنى بها، و الأوّل أفصح.

و المعنى على ما في تفسير الامام عليه السّلام أنّه جعلها سقفا محفوظا يدير فيها شمسها و قمرها و كواكبها مسخّرة لمنافعكم «4».

المراد بالسماء و منافعها للإنسان

و يظهر منه مضافا إلى ما يقتضيه مساق الآية من الامتنان و إقامة للبرهان إرادتها بجملتها من الأفلاك الكلّية و الجزئيّة من الحوامل و خوارج المراكز و المديرات و غيرها على فرض إثباتها مع ما فيها من السيّارات و الثوابت الّتي لا يعلم أحصائها فضلا عن منافعها و خواصّها و مجاريها و مقادير أجرامها و حركاتها إلّا مبدعها و باريها و من أشهدهم خلقها و أحصى فيهم علمها، فانّ فيه آيات كثيرة

__________________________________________________

(1) النمل: 61.

(2) الزّجاج: ابو إسحاق ابراهيم بن محمّد النحوي الحنبلي المتوفى (310) ه

(3) ابن دريد: محمد بن الحسن بن دريد البصري الأديب اللغوي المتوفى (321).

(4) تفسير البرهان ج 1 ص 67 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 412

و منافع للنّاس غير يسيرة تعجز العقول عن الإحاطة

بها حيث جعلها اللّه تعالى سقفا محفوظا كما قال: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً «1»، و قبّة مضروبة كما ورد: إنّ هذه قبّة أبينا آدم و للّه قباب كثيرة «2».

و زيّنها بمصابيح نجوما و رجوما، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «3» وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً «4» وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «5» و ذكر أنّ خلقتها مشتملة على حكم بليغة و غايات صحيحة كما قال: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا «6»، وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «7».

و جعلها مصعد الأعمال و مهبط الأنوار و قبلة الدّعاء فالأيدي ترفع إليها، و الوجوه تتوجّه نحوها، و هي محل الضّياء و الصّفاء و جعل لونها الزّرقة، و هي اشدّ الألوان موافقة للبصر، و تقوية له حتّى أنّ الأطبّاء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزّرقة، و هي الحافظة للقوّة الباصرة و لذا جعل اللّه سبحانه أديم السّماء ملونا بهذا اللون الأزرق لينتفع بها الأبصار الناظرة إليها فجعل سبحانه لونها أنفع الألوان و هو المستنير و شكلها أفضل الأشكال و هو المستدير.

و لذا قال: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 32.

(2) بحار الأنوار: ج 57 ص 335 ح 21- 22.

(3) الصافات: 6- 7.

(4) النبأ: 12.

(5) نوح: 16.

(6) آل عمران: 191.

(7) ص: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 413

«1»، وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ «2» فانّ أوسع الأشكال هو الشكل المستدير، و جعل فيها النجوم و الأنوار

ليهتدى بها في البراري و البحار وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ «3» و جعل شمسها كشمتة القلادة في وسط السيّارة متحركة بحركة أبسط من حركات الباقية مرتبطة حركات غيرها بحركتها كمقارنة العلوية في الذرى و مقابلتها في الحضيضات الدّالة على انّ حركتي التّدوير و الخارج في كلّ منها مثل وسط الشّمس و مقارنة السّفليين في الذّروة و الحضيض الدّال على كون وسطها كوسطها، و جعل لها حركتين حركة يوميّة بها طلوعها ليسهل معه التقلّب لقضاء الأوطار في الأقطار طول النّهار، و غروبها ليصلح معه الهدء و القرار في الأكناف لتحصيل الرّاحة و انبعاث القوّة الهاضمة، و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء.

و ايضا لولا الطلوع لانجمدت المياه و غلبت البرودة و الكثافة و أفضت إلى خمود الحرارة من العالم، و جمود الرّطوبات في النباتات و الحيوانات فضلا عن بني آدم، بل يستولي الانجماد على البحار كما هو المشاهد في البحر المنجمد و غيره ممّا يقرب من عرض تسعين و لولا الغروب لحميت الأرض حتّى يحترق كلّ من عليها من حيوان و نبات فهي بمنزلة السراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم، ثمّ يرفع عنهم ليستقرّوا و يستريحوا، فصار النور و الظلمة مع تضادّهما متناوبين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و معاش بني آدم.

و حركة أخرى في دورة البروج يكون بها ارتفاعها و انحطاطها في الآفاق

__________________________________________________

(1) ق: 6.

(2) الذاريات: 47.

(3) الانعام: 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 414

لإقامة الفصول الأربعة في الآفاق الحمائليّة المائلة و الثمانية في أفق الاستواء، ففي الشتاء تفور الحرارة في الشجر و النبات، فيتولّد منها مواد الثّمار و يستكثف الهواء فيكثر السّحاب

و المطر و تقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزيّة في البواطن، و تأخذ الأرض مادّتها من الرّطوبات الّتي تستمدّ منها العيون و الآبار و عروة الأشجار، و في الرّبيع تتحرّك الطبائع، و تظهر المواد المتولّدة في الشّتاء، و يثور الشّجر و يهيج الحيوان للسفاد، و يظهر حمل الثّمار في الأشجار فتكثر فيها الأنوار و الأزهار و في الصّيف تحتدم «1» الهواء فتنضج الثمار، و تتحلّل فضول الأبدان، و يجفّ وجه الأرض، و يتهيّأ للعمارة و الزّراعة، و في الخريف يظهر البرد و اليبس فتدرك الثمار و تستعدّ الأبدان قليلا قليلا للشّتاء، فانّه ان وقع الانتقال دفعة واحدة لهلكت الأبدان و فسدت.

منافع حركة الشمس

ثمّ تأمل في منافع حركتها فانّها لو كانت واقفة على موضع واحد لاشتدّت السّخونة في ذلك الموضع و اشتدّ البرد في سائر المواضع لكنّها تطلع في أوّل النّهار من المشرق فيقع شعاعها على ما يحاذيها من جهة المغرب ثمّ لا تزال تدور حتّى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقيّة فلا يبقى موضع مكشوف إلّا و يأخذ خطا من شعاعها.

ثمّ انظر إلى ما يعرض لها من الميل الشّمالي و الجنوبي حيث إنّها لو لم يكن لها ميل لكان التأثير مخصوصا في بقعة واحدة و لكانت الأحوال فيها متشابهة و لكان تغلب الجمود على بعض البلاد و الاحتراق على بعضها و لخلت عامّة البلاد

__________________________________________________

(1) تحتدم الهواء: تشتد حرارتها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 415

عمّا أشرنا إليه من فوائد الفصول، و لذا جعل لها ميلا شماليّا يكون معه صيف الشّماليّين و شتاء الجنوبيّين، و جنوبيّا يكون معه صيف الجنوبيّين و شتاء الشّماليّين إلى غير ذلك من المنافع العجيبة و الآثار الغريبة الّتي سطروا فيها

الأساطير و ملئوا منها الطّوامير و مع ذلك فلم يطلعوا إلّا على قليل من كثير و اللّه هو العليم الخبير.

منافع القمر

و أمّا القمر ففيه آيات و منافع للنّاس في تشكّلاته البدرية و الهلاليّة و زيادته و نقصانه و محاقه و اختلاف مقاديره و مواقيت طلوعه و غروبه و له تأثير غريب في تربية النامية و في ازدياد الرطوبات في أبدان الحيوانات و في النباتات، و به يعلم عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ* و الآجال و المواقيت العرفيّة و الشرعيّة.

و كان من دعاء السجّاد عليه السّلام إذا نظر الى الهلال: أيّها الخلق المطيع الدّائب السّريع المتردّد في منازل التقدير، المتصرّف في فلك التّدبير، آمنت بمن نوّر بك الظّلم، و أوضح بك البهم، و جعلك آية من آيات ملكه، و علامة من علامات سلطانه، و امتهنك بالزّيادة و النقصان، و الطلوع و الأفول، و الإنارة و الكسوف، في كلّ ذلك أنت له مطيع، و إلى ارادته سريع، سبحانه ما أعجب ما دبّر في أمرك، و ألطف ما صنع في شأنك، جعلك مفتاح شهر حادث لأمر حادث «1» الدّعاء.

و أمّا غيرهما من السيّارة و الثّوابت فخالقها هو الّذي يحصي منافعها و أعدادها و أقدارها و قد ذكر المحصّلون من أرباب الارصاد جملة ممّا استنبطوه من مقادير أجرامها و ابعادها عن مركز العالم و حركاتها طولا و عرضا إلى غير ذلك ممّا أفردوه بالتّصنيف.

__________________________________________________

(1) الصحيفة السجادية الدعاء: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 416

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً عطف على جَعَلَ، و هي إشارة إلى نعمة خامسة، و المراد بالسّماء السحاب أو جهة العلو أو الفلك.

و الماء أصله موه، و همزته منقلبة عن هاء، و يقال: الماء و المائة، و

سمع اسقني ما بالقصر، و الدليل على الأصل قولهم: أمواه، و مياه، في الجمع، و مويه، و مويهة في التصغير و الفعل ماهت الركية تماه و تموه و تميه، و من ابتدائية أمّا على الوجهين الأوّلين في السّماء فواضح و أمّا على الثالث فلأنّ المطر يبتدأ من سماء إلى سماء ثمّ إلى السّحاب، و منه إلى الأرض أو من اسباب سماويّة و أقدار إلهيّة، حيث سخّر الشمس لتصعيد الأبخرة الأرضيّة المتكوّنة بامره التسخيري التكويني في ظاهر الأرض و باطنها و سطوح البحار و أعماقها، فإذا تصاعدت بحرارة لطيفة عرضية و أجزاء مائيّة رتبيّة حتّى وصلت الكرة الزمهريريّة تكاثفت أحيانا و انعقدت سحابا و تقاطر منه المطر النّازل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز كلّ ذلك بمشيته و إرادته و حسن قضائه و إمضائه و هندسته لمقادير ذرات الأعيان و الأكوان في أرضه و سمائه قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «1».

اشكال و دفع

و أمّا ما يقال: من أنّ هذه طريقة الفلاسفة الدّهرية المنكرين للصّانع أو القدرة و الاختيار و إنّما التجائوا إلى اختيار هذا القول لاعتقادهم قدم الأجسام الفلكيّة و العنصريّة و إذا كان الأمر كذلك على معتقدهم امتنع دخول الزّيادة و النّقصان فيها

__________________________________________________

(1) الروم: 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 417

و حينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلّا اتّصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى، فلهذا السّبب احتالوا في تكوين كلّ شي ء من مادّة معيّنة، و أمّا المسلمون فلمّا اعتقدوا أنّ الأجسام محدثة، و انّ خالق العالم

فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء واراد، فعند هذا لا حاجة لهم إلى استخراج هذه التكلّفات بعد دلالة ظاهر القرآن على أنّ الماء إنّما ينزل من السّماء كما في هذه الآية و في آيات كثيرة.

مضافا إلى أنّه قد يستدلّ على فساد تلك الطّريقة بانّ البخارات دائمة الارتفاع و التصاعد فلو كان تولّد المطر من صعودها لوجب استدامة نزولها و تقاطرها، و بانّها إذا ارتفعت و تفرّقت فكيف تتولّد منها قطرات الماء مع أنّها رشحات منبثّة قد تفرقت و بان البرد قد يوجب في وقت الحرّ في صميم الصّيف مع أنّ تولّده لا يكون على ما ذكروه إلّا من برودة قوية، و كذا نجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد، و ذلك يبطل قولهم.

ففيه أنّ القول بالقادر المختار لا يوجب رفض الأسباب الّتي قدّرها الواحد القهّار، مع أنّه جعل لكلّ شي ء سببا و ابى اللّه أن يجري الأمور إلّا بأسبابها، و الأسباب لا بدّ من اتّصالها بمسبّباتها، و لعمري هل ينكر أحد منهم استحالة الماء أبخرة متصاعدة باستيلاء الحرارة، أو اجتماع القطرات و نزولها من تلك الأبخرة في سقوف الحمامات و أدمغة الإنسان بل في الآلة المسمّاة بالقرع و الأنبيق و نحوها ممّا أعدّ للتّصعيد و استخراج الأجزاء اللّطيفة.

و أمّا دلالة ظاهر القران، فممنوعة جدّا بعد ما سمعت من الوجوه المذكورة في معنى السّماء فضلا عن ابتداء نزول الماء منها، بل يستفاد ذلك أيضا من ظاهر

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 418

قوله تعالى: يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً «1» الآية و قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ «2».

و لذا

قال علي بن

ابراهيم «3» القمّي في تفسير قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً: أي يثيره من الأرض ثمّ يؤلّف بينه فإذا غلظ بعث اللّه رياحا فتعصره فينزل منه الماء و هو قوله: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ* أي المطر «4».

و هو ظاهر بل صريح فيما ذكرناه و كيف يمكن إنكار ذلك مع أنّه مشاهد محسوس فإنّ الإنسان ربما يكون واقفا على قلّة جبل عال و يرى الغيم أسفل فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطرا عليهم.

و أمّا الوجوه الثلاثة فضعيفة في الغاية و ان اعتمد عليها الجبائي و الرّازي و غيرهما، لأنّ تلك البخارات قد تتحلّل و قد تتفرّق قبل الاجتماع و التكاثف ثمّ إنّ الرشحات تتلاحق و تتلاصق فتنزل قطرات ثمّ للحرارة و البرودة العارضة للجوّ و خصوصا للكرة الزمهريريّة أسبابا لا يحصيها غير خالقها و منشيها.

الحديث الدال على نزول الماء من الفلك

نعم ربما يستدلّ على نزوله من السّماء بمعنى الفلك بجملة من الأخبار منها

المروي في الكافي و تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة و في «العلل» و «قرب الاسناد» عن هارون بن مسلم عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال كان عليّ عليه السّلام يقوم في المطر

__________________________________________________

(1) الروم: 48.

(2) النور: 43.

(3) علي بن ابراهيم بن هاشم القمي كان حيّا في سنة (307) و ثقه النجاشي.

(4) تفسير القمي ج 2 ص 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 419

أوّل ما يمطر حتّى يبتّل رأسه و لحيته و ثيابه، فقيل له يا أمير المؤمنين الكنّ الكنّ، فقال عليه السّلام: إنّ هذا ماء قريب العهد بالعرش.

ثمّ أنشأ يحدث فقال: إنّ تحت العرش بحرا فيه ماء ينبت أرزاق الحيوانات، فإذا أراد اللّه عزّ ذكره أن ينبت به

ما يشاء لهم رحمة منه لهم أوحى اللّه إليه فمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتّى يصير إلى سماء الدّنيا فيما أظنّ فيلقيه إلى السّحاب، و السحاب بمنزلة الغربال، ثم يوحي اللّه عزّ و جل إلى الرّيح أن اطحنيه و أذيبيه ذوبان الماء ثمّ انطلقي به إلى موضع كذا و كذا فأمطري عليهم فيكون كذا و كذا عبابا أو غير عباب فتقطر عليهم على النّحو الّذي يأمرها به فليس من قطرة تقطر إلّا و معها ملك حتّى تضعها موضعها و لم ينزل من السّماء قطرة من مطر إلّا بعدد معدود و وزن معلوم إلّا ما كان من يوم الطوفان على عهد نوح على نبيّنا و آله و عليه السّلام فانّه نزل من ماء منهمر بلا وزن و لا عدد «1».

و فيه مع احتمال كون المراد أمر اللّه الفعلي الجزئي النّازل من عرش عظمة فعل اللّه الإمكاني و التكويني تنزّلا على التدريج من علوّ إلى سفل و من عالم الأمر إلى عالم الخلق إلى أن يتعلّق أمره التسخيري بالسحاب، أنّه لا بدّ من طرحه أو حمله على القضيّة الجزئيّة أو تأويله بما لا يخالف الحسّ و غيره على ما سمعت.

بل

في «الخصال» عن أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما أنزلت السّماء قطرة من ماء منذ حبسه اللّه تعالى، و لو قد قام قائمنا أنزلت السّماء قطرها و لأخرجت من الأرض نباتها «2».

و لعلّ المراد بالماء المحبوس اثر من اثار رحمته الرحيميّة الّذي يحيي اللّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 56 ط بيروت ص 372 ح 2 عن العلل ج 2 ص 141.

(2)

بحار الأنوار ج 10 ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 420

تعالى به ميت البلاد، و يصلح به أحوال العباد في الدّولة الحقّة الولويّة و الدّورة المستقيمة الكبروية عند قيام قائمنا عجّل اللّه فرجه.

و

في الكافي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن السّحاب أين تكون، قال تكون على شجر كثيب على شاطئ البحر يأوي اليه فإذا أراد اللّه عزّ و جل أن يرسله أرسل ريحا فأثارته، و وكّل به ملائكة يضربونه بالمخاريق و هو البرق فيرتفع ثمّ قرأ هذه الآية، وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً «1»، الآية «2».

قال المجلسي رحمه اللّه قوله على شجر يحتمل أن يكون نوع من السّحاب كذلك أو يكون كناية عن انبعاثه عن البحر و ما قرب منه، و قيل على شجر أي على انواع منها ما يكون على الكثيب و هو اسم موضع على ساحل بحر اليمن يأتي السّحاب إلى مكّة منها «3».

بل في بعض الأخبار و تقييد المطر الّذي ينزل من السّماء بالّذي منه الأرزاق كما

في «نوادر الرّاوندي» عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال قال علي عليه السّلام المطر الّذي منه أرزاق الحيوان من بحر تحت العرش، فمن ثمّ كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستمطر أول مطر، و يقوم حتّى يبتلّ رأسه و لحيته، ثمّ يقول: إنّ هذا قريب عهد بالعرش و إذا أراد اللّه تعالى أن يمطر أنزله من ذلك إلى سماء بعد سماء حتّى يقع على الأرض، و يقال: المزن ذلك البحر، و تهبّ ريح من تحت ساق عرش اللّه تعالى تلقح السّحاب،

__________________________________________________

(1) فاطر: 9.

(2) البحار ج 56 ص 382 عن روضة الكافي ص 218.

(3) البحار ج 56 ص 383.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 421

ثمّ ينزل من المزن الماء و مع كلّ قطرة ملك حتّى تقع على الأرض في موضعها «1».

و لذا قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه انّ ما يشاهد من انعقاد السحب في قلل الجبال و تقاطرها مع أنّ الواقف على قلّة الجبل لا يرى سحابا و لا مطرا و لا ماء و الّذين تحت السّحاب ينزل عليهم المطر لا ينافي الظواهر الدّالة على أنّ المطر من السّماء بوجهين: أحدهما أنّه يمكن أن ينزل المطر من السّماء إلى السّحاب رشحا ضعيفا لا يحسّ به أو قبل انعقاد السحاب على الموضع الّذي يرتفع منه، و ثانيهما أن نقول بحصول الوجهين معا و انقسام المطر إلى القسمين فمنه ما ينزل من السّماء و منه ما يرتفع من بخار البحار و الأراضي النديّة و يؤيّده ما

رواه شيخنا البهائي رحمه اللّه في «مفتاح الفلاح» حيث قال نقل الخاص و العام انّ المأمون ركب يوما للصيد فمرّ ببعض أزقة بغداد على جماعة من الأطفال فخافوا و هربوا و تفرّقوا و بقي واحد منهم في مكانه فتقدّم إليه المأمون فقال له كيف لم تهرب كما هرب أصحابك، فقال لأنّ الطّريق ليس ضيّقا فيتّسع بذهابي و لا بي عندك ذنب فاخافك لأجله، فلأي شي ء أهرب؟ فأعجب كلامه المأمون فلمّا خرج إلى خارج بغداد أرسل صقره فارتفع في الهواء و لم يسقط على وجه الأرض حتّى رجع و في منقاره سمكة صغيرة فتعجّب المأمون من ذلك فلمّا رجع تفرّق الأطفال و هربوا إلّا ذلك الطّفل، فانّه بقي في مكانه كما في المرّة الاولى فتقدّم إليه المأمون و ضام كفّه على السّمكة و قال له قل

أيّ شي ء في يدي فقال عليه السّلام انّ الغيم حين أخذ من ماء البحر تداخله سمك صغار

__________________________________________________

(1) مستدرك سفينة البحار ج 9 ص 382.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 422

فتسقط منه فيصطادها الملوك فيمتحنون بها سلالة النّبوة فأدهش ذلك المأمون فقال له من أنت قال أنا محمّد بن عليّ الرضا عليهما السّلام، و كان ذلك بعد واقعة الرّضا عليه السّلام و كان عمره عليه السّلام في ذلك الوقت احدى عشر سنة و قيل: عشرا فنزل المأمون عن فرسه و قبّل رأسه و تذلل له ثمّ زوّجه ابنته «1».

السماء جهة العلو

أقول و هذا الخبر كما ترى صريح فيما ذكرناه، سيّما مع شهادة المشاهدة به حسبما سمعت، و لذا صرّح كثير من المحقّقين بأنّ المراد بالسّماء في مثل المقام هو جهة العلوّ و فسّرها شيخنا الطبرسي و غيره في المقام بالسحاب و قال عند قوله:

وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ* «2» أي من نحو السّماء عند جميع المفسّرين و فسّرها في كثير من المواضع بالسّحاب قال لأنّ كلّ ما علا مطبقا فهو سماء.

بل و هو الظّاهر من كلام الامام عليه السّلام في تفسير الآية قال وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم و تلالكم و هضابكم «3» و أوهادكم ثمّ فرّقه رذاذا «4» و هطلا و طلّا لتسقي أرضكم، و لم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضكم و أشجاركم و زروعكم و ثماركم «5».

و في «المتهجّد» في دعاء للحاجة: و أسألك باسمك الّذي خلقت به في الهواء

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 56 ص 397- 398.

(2) الجاثية: 5.

(3) الهضاب: جمع الهضب و هو الجبل المنبسط على وجه

الأرض.

(4) الرذاذ: المطر الضعيف، و الوابل: المطر الشديد- و الهطل: تتابع المطر

(5) تفسير البرهان ج 1 ص 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 423

بحرا معلّقا ثجّاجا مغطمطا «1» فحبسته في الهواء على صميم تيّار اليمّ الزّاخر في مستفحلات عظيم تيّار أمواجه على ضحضاح «2» صفاء الماء فعزلج «3» الموج فسبّح ما فيه لعظمتك فلا اله إلّا أنت «4».

ثمّ انّ ما ذكره المجلسي رحمه اللّه في الوجه الأوّل يمكن أن يراد به أنّ هذا الماء النّازل بجوهره و صورته النوعيّة قد نزل من السّماء و إن لم يكن أوّلا على سبيل التقاطر بل الرشح و الاجزاء المتصغّرة إلّا أنّها تجتمع و تتركّب منها القطرات إذا وصلت إلى السّحاب، أو إذا حملها السّحاب و لو بعد انبثاثها في رطوبات العالم و تفرّقها في الأجزاء الهوائيّة الجوّية، و أن يراد به أنّه قد يكون للشّي ء الواحد أكوان مختلفة و نشاءات متعدّدة بعضها أعلى و أرفع عن بعض فمنشأ إنشاء السّحاب و تكوين الأمطار إنّما هو من عالم السّماء بأمر اللّه و حكمته بتسخير الملائكة العلويّة السّماويّة و السّفليّة الأرضيّة من المدبّرات و السّابقات و الزّاجرات الّتي لا يعلم تفاصيلها إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.

ثمّ انّه لا ينبغي الإصغاء إلى ما ربما يتوهّم من أنّ السّمك و ان كانت صغارا إلّا أنّها أجسام ثقيلة فكيف تتصاعد مع الأبخرة و تداخل الماء المأخوذ من البحر، إذ فيه بعد تسليم الأصول الظاهرة و الطبائع المقرّرة بحكمته و مشيّته سبحانه أنه يمكن أن يكون ذلك بنوع من القسر و ان لم يحط علومنا بوجوهه و أسبابه و مقتضياته على التفصيل.

__________________________________________________

(1) المغطمط: المضطرب.

(2) الضحضاح: ما رق من الماء،

أو الكثير.

(3) عزلج: التطم.

(4) بحار الأنوار ج 87 ص 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 424

نعم صرّح غير واحد ممّن صنّف في غرائب البحر و سمعت ذلك ايضا ممّن ركبه أنّه شاهد غير مرّة أنّه قد يتصاعد من موضع من البحر أبخرة قويّة مجتمعة متراكمة متّصلة بحيث يحصل من مشاهدة اتّصال تصاعدها شبه العمود القائم على سطح الماء و قد يكون قطره نحو ميل متواصل إلى عمق الماء بحيث قد انفلق البحر بقوّة خروج الأجزاء البخاريّة المتكوّنة في عمقه بأسباب لا تحصى، و ذكروا أنّه ربما تقع فيها السّفن فتغرق، و لذا توصل أرباب السّفن و جهابذة البحر في إزالتها عن طرق السّفن بحيل لا يقتضي المقام ايرادها، و بالجملة يمكن أن يتعرض لذلك البخار شي ء من السّمك الصّغار فترتفع معها بقوّتها الصّعوديّة الخارقة للماء حتّى إذا أزالت عنها الحركة العرضيّة و القسريّة سقطت و لعلّه هو المراد

بقوله عليه السّلام: إنّ الغيم حين أخذ من ماء البحر تداخله سمك صغار فتسقط منه

فلا تغفل.

الجمع بين قول الطبيعيين و الأخبار

ثمّ أنّه قد سئل الشّيخ الأحسائي رحمه اللّه عن التوفيق بين قول الطّبيعيين حسبما مرّ و بين ما ذكره الإمام عليه السّلام في الخبر المتقدّم فأجاب بانّ البخار المتصاعد من البحار و الأنهار و الاراضي الرّطبة بحرارة أشعّة الشمس تتصاعد بجذب الأشعة متفرّقة فقبل أن تصل إلى الطبقة الزمهريريّة و هي البحر المكفوف بين السّماء و الأرض و بحكمة الحكيم تتكوّن فيه حيتان صغار بمقتضى قابليّة الماء المجتمع بتقدير العزيز العليم و السّحاب يغترف الماء تارة من هذا البحر البخاري و تارة من البحر الأجاج الّذي على وجه الأرض المعلوم، فالمطر الّذي من البحر المكفوف بين السّماء و الأرض

يكون ملقحا ينبت به النّبات و الكماة و المعادن و اللؤلؤ و الصّدف

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 425

و ما أشبه ذلك و المطر الّذي من البحر المالح عقيم لا ينبت به شي ء فالتوفيق بنحو ما سمعت هذه عبارته رحمه اللّه.

و قد ظهر منه وجه آخر في تنويع المطر الّا أنّ ما ذكره من تكوّن الحيتان الصّغار في كرة البخار لا يخلو من تأمّل، و ليس في الخبر دلالة عليه أصلا بل هو كالصّريح في خلافه فلاحظ، و ينبغي التأمل أيضا فيما ذكره من نسبة التلقيح إلى الأول و العقم إلى الثاني.

الثمرات من الماء

فَأَخْرَجَ بِهِ بالماء النازل بأمره التكويني و ان كان ذلك شرعة له في تسبيحه و عبادته مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ استنتاج لما سخّر له القوى الفاعليّة العلويّة و المواد القابلة السّفليّة إتماما لنعمته و نشرا لآثار رحمته، و لذا عطف الجملة بالفاء الدّالة على الترتيب الاتصالي مع ما فيها من الإشعار على أنّه ليس لترتب الآثار على ما جعلها أسبابا تامّة حالة منتظرة و خروج الثّمار و ان كان بقدرته و مشيّته سبحانه إلّا أنّه تعالى جعل لكلّ شي ء سببا أبى اللّه أن يجري الأمور إلّا بأسبابها و الأسباب لا بدّ من اتّصالها بمسبّباتها فجعل فيما سخّره لمصالح عباده من السموات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و غيرها قوى فاعلة و قابلة يتولّد من اجتماعهما و نزول الماء الّذي هو كالنطفة للحيوان أو كالغذاء للبذور الملقاة في أرض القابليّة أنواع الثّمار في جميع الأقطار من النجوم و الأشجار يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، و يفضّل بعضها على بعض في الاكل لاختلاف قابليّاتها و استعداداتها المجعولة و مقادير قواها و المشخّصات المنضمّة

إليها بما أودع اللّه فيها من الطبائع و المنافع و غير ذلك من الودائع و ان كان سبحانه قادرا على أن يوجد الأشياء كلّها بلا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 426

أسباب و مواد و لا سبق قابليّة و استعداد، كما أفاض على الأصول الاوليّة من المجرّدات و الماديات بابداعها و خلقها لا من شي ء إذ كان اللّه و لم يكن معه شي ء، لكنّ الحكيم قد قضت حكمته بإبداع الأكوان و إنشاء الأعيان من الأشرف فالأشرف فأبدع أوّلا أنوارا قدسيّة و أرواحا مطهّرة إنسيّة تجلّى لها ربّها فأشرقت و طالعها فتلألأت و ألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله فخلق من اشراق أشعّة تلك الأنوار جميع الملائكة و الروحانيّين و الأنبياء و المرسلين و السّموات و الأرضين و ساير الخلق أجمعين و أخذ عليهم الميثاق و رتّبهم في مراتبهم من الخلاف و الوفاق، و أعطى كلّ شي ء خلقه، و ساق إلى كلّ مخلوق رزقه، و سخّرهم بما أعطاهم من القابليّات و أفاض عليهم بما منحهم من العطيّات، و جعل فواعلها مختلفة في الحركات و قوابلها مختلفة في قبول أضواء النيّرات المعدّة لنشوء الكائنات فأدار البعض على البعض و استبحّ عنها المواليد في سلسلتي الطول و العرض.

أنظر الى العرش على مائه سفينة تجري بأسمائه و اعجب له من مركب دائر قد أودع الخلق بأحشائه يسبح في لجّ بلا ساحل، في جندل الغيب و ظلمائه و موجه احوال عشّاقه و ريحه أنفاس أحبابه و لو تراه بالورى سائرا من ألف الخطّ إلى بائه و يرجع العود على بدئه و لا نهايات لإبدائه يكوّر الصبح على ليله و صبحه يغني بإمسائه لا يدري أحد من أين إلى أين

إلّا مدبّرها و محصيها بعلمه و قدرته، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 427

ردّ قول الأشاعرة

و أمّا ما ذكره بعض المفرّطين في جنب اللّه المحجوبين عن مشاهدة أنوار قدرته و حكمته من أنّه سبحانه أجرى عادته بإفاضة صور الثمرات و كيفيّاتها على المادّة الممتزجة من الماء و التّراب من غير أن يكون قد أودع في شي ء من ذلك قوّة التأثير و التأثّر كما هو مذهب الاشاعرة القائلين بشنائع لم يلتزم بها أحد من الملاحدة فناش عن الضّلالة و فساد الطّريقة و انهماكهم في التّقصير و القصور، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.

و قد ظهر ممّا مرّ أنّ «الباء» سببيّة و ان كانت جعليّة «و من» إمّا للتّبعيض أو للتّبيين، و قد يعتضد الأوّل بقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «1» أي بعض كلّها و قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ «2» لتبادر التبعيض من التنكير سيّما في جموع القلّة، و بأنّ المنكّرين أعني ماء و رزقا يكنّفانها و قد قصد بتنكيرهما معنى البعضيّة كانّه قيل: و أنزلنا من السّماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، و بأنّ هذا هو المطابق لصحة المعنى في الواقع لأنّه لم ينزل من السّماء الماء كلّه، و لا أخرج بالمطر جميع الثمرات، و لا جعل الرّزق كلّه في الثمرات.

و عندي في الكلّ نظر فالتّبيين أظهر بناء على كون التنوين في المكتنفين للتفخيم و التعظيم بل و كذا في الآية الثانية و هو أنسب بمقام الامتنان حيث جعل رزق الإنسان مصاصة لطائف الفلكيات و العنصريات، و خلاصة نتائج الازدواجات، فيكون كقولك: أنفقت من الدّراهم ألفا أي أنفقت

ألفا هو الدّراهم، و ان احتمل التبعيض في المثال أيضا، نعم قد يقال: إذا قلت أكلت من هذا الخبز كان للتّبعيض لا

__________________________________________________

(1) الأعراف: 57.

(2) فاطر: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 428

غير، و إذا قلت أكلت من هذا الخبز الجيّد المطبوخ كان من بيانيّا و الجيّد المطبوخ مفعولا.

ثمّ ان كانت «مِنَ» للبيان فالرزق بمعنى المرزوق على أنّه مفعول لأخرج، و «لَكُمُ» في موضع الصّفة و مِنَ الثَّمَراتِ حال عنه مقدّم عليه، و يحتمل بعيدا جدّا كون المفعول الضمير المجرور بالباء على أن تكون للتعدية لا السببيّة، و من الثمرات حالا عن الضمير و رزقا مفعولا لأجله، لكنّه ضعيف لفظا و معنى من وجوه لا تخفى، و ان كانت للتبعيض فرزقا منصوب على التعليل، أي لان يرزقكم أو على المصدر بتقدير الفعل، و يحتمل الحال بناء على كونه بمعنى المفعول، و على كلّ حال فقوله مِنَ الثَّمَراتِ في موضع المفعول به، اي بعض الثمرات و أمّا ما توهّمه الطيبي «1» و السيوطي من أنّه إذا قدرت من مفعولا كانت اسما ففساده واضح جدّا، فانّ المراد كون الجار و المجرور في موضع المفعول بالواسطة.

الثمرة و إطلاقاتها

و الثمرات جمع ثمرة بالتّاء، قال الفيّومي «2»: الثمر بفتحتين و الثمرة مثله فالأوّل مذكر و يجمع على ثمار مثل جبل و جبال، ثمّ يجمع الثمار على ثمر مثل كتاب و كتب، ثمّ يجمع الثمر على أثمار مثل عنق و أعناق، و الثّاني مؤنث و الجمع ثمرات، مثل قصبة و قصبات، و الثمر هو الحمل الّذي تخرجه الشّجرة سواء أكل أم لا.

__________________________________________________

(1) الطيبي: الحسن بن محمد بن عبد اللّه المفسّر له شرح على كتاب «الكشاف»، توفّي سنة (743).

(2) الفيّومي:

ابو العباس احمد بن محمد بن أبي الحسن اللغوي المقرئ صاحب مصباح المنير توفي بعد سنة (770) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 429

أقول: و يطلق على الشجرة و كلّ ما تنبته الأرض و الذّهب و الفضّة و أنواع المال و النسل و الولد كما في «القاموس» و غيره و لعلّ الاولى الحمل على الجميع و لو بعموم المجاز أو غلبته فيما له نفع، و منه قولهم فيما لا نفع له: ليس له ثمر كما في «المصباح» و غيره و قضيّة اللّام الاستغراق و على هذا فيسقط السّؤال عن إيثار الثمرات على الثّمار مع كون الأولى للقلّة و الأولى بالمقام الكثرة فإنّ المعرّف بلام الاستغراق يفيد العموم الجمعي، مع أنّ كثيرا من علماء الأدب و المعتنين بحفظ لغات العرب قد أنكروا القاعدة على أنّ بين الفارقين في خصوص الجمع بالألف و التّاء اختلافات كثيرة و الجمهور على الاشتراك و على الوجهين ورد في القرآن ففي آية الصّيام أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ* «1» و في غيرها وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ «2» مع أنّه قد يجاب أيضا بأنّ المراد بها جماعة الثمرة الّتي في قولك: فلان أدركت ثمرة بستانه تريد ثماره، و يعضده قراءة محمد بن السّميفع من الثمرة على التوحيد، و بأن الجموع تتعاود بعضها موقع بعض لالتقائهما في الجمعيّة كما وقعت القلّة موضع الكثرة في قوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ «3» و الكثرة موضع القلّة في قوله:

ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «4»، و بأنّ المقصود التنبيه على قلّة ثمار الدّنيا اشعارا بتعظيم أمر الآخرة.

فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً متعلّق بقوله: اعْبُدُوا بان يكون نهيا متفرّعا على

__________________________________________________

(1) البقرة: 184.

(2) البقرة: 203.

(3) الدخان: 25.

(4) البقرة: 228.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 430

مضمون ذلك الأمر كانّه قيل إذا كنتم عبدا له و استحقّ ربّكم الّذي خلقكم و خلق أصولكم و أرزاقكم منكم العبادة و كنتم مأمورين بها فلا تشركوا أحدا في الطّاعة و العبادة كما أنّه ليس له شريك في الخلق و الإفاضة فكونوا مخلصين في عبادته متوجّهين إليه في مقاصدكم غير مشركين به في شي ء من مراتب التوحيد الأربعة:

أعني توحيد الذّات و الصفات و الأفعال و العبادة، و قيل هي نهي معطوف على الأمر، و ردّ بأنّ الأولى حينئذ العطف بالواو كقوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «1».

و التّحقيق انّ قضيّة العطف بالفاء هو التّرتب على السابق فيرجع هذا الوجه إلى الأوّل، و من هنا يظهر سقوط الإيراد و قد يجعل نفيا منصوبا بإضمار أن على جواب الأمر كما في زرني فأكرمك، و ردّ بأنّ الشرط في ذلك كون الأول سببا للثّاني و العبادة لا تكون سببا للتوحيد الّذي هو مبناها مع انّ الأوّل أقرب لفظا لعدم الإضمار و معنى لأنّ التصريح بالنّهي أبلغ و اردع مع وحدة المستفاد على الأحوال أو بقوله: لَعَلَّكُمْ فنصب الفعل نصب فاطلع في قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ «2»، و قوله: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى «3»، أمّا على تشبيه «لعل» بليت و لو لكونهم في صورة المرجوّ منهم مع التنبيه على تقصيرهم، و الإشعار بأنّ المراد الراجح صار مستبعدا منهم كالمتمنّي فالمعنى خلقكم في صورة من يرجى منه الاتقاء أي الخوف من العقاب ليتسبب عن ذلك أن

__________________________________________________

(1) النساء: 36.

(2) غافر: 36- 37.

(3) عبس: 3- 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 431

لا تشركوا، فلا

يرد أنّ ذلك إنّما يجوز إذا كان في الترجّي شائبة من التمنّي أبعد المرجوّ من الوقوع مع أنّ لعلّ مستعارة للإرادة الّتي فيها ترجيح طرف الوجود، و ذلك لما سمعت و نظيره في اعتبار الصورة و رعاية التّنبيه قولك لمن همّك همّه:

ليتك تحدّثني تتفرج عنّي بالنّصب فانّه ليس تمنيا حقيقة لكن أجري عليه حكمه و نبّه به على تقصيره في التّحديث، و أمّا على اشتراك «لعلّ» مع أشياء السّتة في كونها غير مثبّتة حيث إنّ المطلوب بها غير موجود عند ذكرها ففيها حظر الوجود و العدم فأشبهت الشرط و لذا استحقّت الفاء و يحمل التقوى حينئذ على الاتقاء عن العذاب كيلا يأبى جعل عدم الأنداد نتيجة لها محصولة قبلها مع أنّه يمكن ارادة نفي الأنداد في الطاعة أو بقوله الّذي جعل باعتبار الابتداء بالموصولة و اخبر عنه بالنّهي على تأويل مقول فيه لا تجعلوا، و أدخلت الفاء على الجملة لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط كقولك الّذي ياتيني فله درهم، و لعلّ الأولى على فرض تعلّقها بالموصول رفعه مدحا على أنّه خبر لمحذوف على ما مرّ، فيكون نهيا مترتّبا على ما تضمّنته تلك الجملة و المعنى هو الّذي خلقكم و خلق أصولكم و أرزاقكم فلا تعبدوا غيره و لا تشركوا به شيئا.

في تفسير كلمة الأنداد

و الندّ المثل و العدل قال حسّان «1»:

أ تهجوه و لست له بندّ فشرّكما لخيركما الفداء __________________________________________________

(1) حسّان بن ثابت الشاعر المتوفى سنة (54) عن مائة و عشرين سنة كأبيه و جدّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 432

و قال جرير «1»:

أ تيما تجعلون إليّ ندّا و ما تيم لذي حسب نديد من ندّ يندّ ندّا و ندودا و ندادا بمعنى شرد و

نفر و منه التّناد بمعنى التفرّق و التخالف، و ناددته خالفته كأنّ كلّا من الندّين ينادّ الآخر أي يقابله و يخالفه، و من هنا يقال: إنّه بمعنى الضدّ أو أنّه لا يقال إلّا للمثل المخالف المعادي بل هو المراد بما في «المصباح» بعد تفسيره بالمثل، و لا يكون الندّ إلّا الضدّ.

و عن الهمداني في «كتاب الألفاظ» الأنداد و الأضداد و الأكفاء و النظراء و الأشباه و الأقران و الأمثال و الأشكال نظائر.

و الحقّ أنّها متقاربة تفترق إذا اجتمعت، و تجتمع إذا افترقت و في «مجمع البحرين» و غيره عن الرّاغب في الفرق بينها: أنّ الندّ يقال فيما يشارك في الجوهريّة فقط، و الشكل يقال فيما يشارك في القدر و المسافة، و الشبه يقال فيما يشارك في الكيفيّة فقط، و المساوي فيما يشارك في الكميّة فقط، و المثل عامّ في الألفاظ كلّها.

ثمّ انّه سبحانه و إن لم يكن له ضدّ و لا ندّ لصمدانيّته و فردانيّته و وحدته الحقّة المطلقة، إلّا أنّ المشركين لمّا اتّخذوا من دونه آلهة سمّوها شركاء له أو شفعاء لهم ليقرّبوهم إليه زلفى، و إن لم يعتقدوا مساواتها له في الذّات و الصفات، و لا مخالفتها له في الأفعال، و لم يأمرهم اللّه سبحانه بعبادتها و لا التقرّب بها، و لم يأتوا البيوت من أبوابها شابهت حالهم حال من جعلها شركاء له في الذّات و الصّفات و وجوب الطّاعة و العبادة و صدور الأفعال و الشؤون الالهيّة مع أنّها مخلوقة مربوبة فانية داثرة مفتقرة

__________________________________________________

(1) هو جرير بن عطيّة بن حذيفة اليربوعي الشاعر توفي سنة (110) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 433

إليه سبحانه في وجودها و بقائها و سائر شؤونها و

صفاتها.

بل في الآية وجوه من التشنيع و التهكّم عليهم حيث عبّر بالجعل الدّال على الاختلاق و الافتراء كقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1».

و آثر من بين أسمائه سبحانه الإسم المقدّم الجامع الدّال على الذّات المستجمع لجميع صفات الجلال و الجمال الّتي من جملتها نفي الأضداد و الأنداد لغاية الكمال و عبّر عمّا اختلفوه إفكا بصيغة الجمع الدّال على أنّ التّعدد دليل الحدوث و الفناء بل عجز كلّ منها عن دفع غيره مع ضرورة الاختلاف و التفرق كما أشار إليه العبد الصّالح يوسف بن يعقوب على نبيّنا و آله و عليه السّلام: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2» و قال موحّد الجاهلية زيد بن عمر بن نفيل «3»:

أ ربّا واحدا أم ألف ربّ أدين إذا تقسّمت الأمور تركت اللّات و العزّى جميعا كذلك يفعل الرّجل البصير ففي قوله أَنْداداً استفظاع لشأنهم مرّة من جهة المادّة، و أخرى من حيث إنّهم جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصحّ أن يكون له ندّ قط، مع ما في إيثار الجمع من الإشارة أيضا إلى أنّ هؤلاء الشفعاء لو استحقّوا العبادة لاستحقتها غيرها ممّا لا تحصى لاشتراك الجميع في العجز و نفي الاستحقاق.

__________________________________________________

(1) الزخرف: 19.

(2) يوسف: 39.

(3) زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى القرشي العدوي أحد الحكماء و نصير المرأة في الجاهلية مات قبل الهجرة سنة (17).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 434

و قرأ محمّد بن السّميفع «1» فلا تجعلوا للّه ندّا.

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حاليّة من ضمير لا تجعلوا، و فائدتها زيادة التّوبيخ و التثريب على شركهم لا تقييد الحكم و قصره، لوضوح أنّ

العالم و الجاهل المتمكّن من العلم سواء في التكليف و استحقاق العقاب بالمخالفة، و المعنى أنّ حالكم و صفتكم أنّكم من أهل العلم و النّظر و إصابة الرّأي و صحّة المعرفة و التّمييز بين الصّحيح و الفاسد، و الحقّ و الباطل، لا يكاد يشتبه عليكم شي ء من خفيّات الأمور و غوامض الأحوال، فكيف بهذا الأمر الواضح الجليّ الّذي هو التّوحيد و خلع الأنداد، حيث إنّه قد ملأ الأنفس و الآفاق من الآيات البيّنات و الحجج الباهرات فلو تأمّلتم أدنى تأمّل لاضطرّت عقولكم إلى اثبات موجد للممكنات متفرّد بوجوب الذّات، متعال عن مشابهة المخلوقات.

و على هذا فمفعول تَعْلَمُونَ متروك، نزّل منزلة اللازم، قصدا إلى اثبات حقيقة للفاعل في مقام المبالغة، و يجوز أن يقدّر بناء على وجود القرائن المقالية أو الحاليّة، و المعنى أنّكم تعلمون أنّ الأصنام الّتي تعبدونها من دون اللّه لم تنعم عليكم بهذه النّعم الجليلة الّتي عدّدناها، و لا بشي ء منها أو من أمثالها كقوله تعالى هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «2» أو أنّ هذه النّعم كلّها من اللّه سبحانه و انّ تلك الأصنام لا تضرّ و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع كقوله هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ «3» و يؤيّده ما ذكره الإمام عليه السّلام قال:

__________________________________________________

(1) هو محمد بن عبد الرّحمن بن السميفع (بفتح السين) أبو عبد اللّه اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذّ فيه، قرأ على طاوس بن كيسان اليماني المتوفى سنة (106)- له ترجمة في غاية النهاية ج 2 ص 161- 162.

(2) سورة الروم: 40.

(3) الشعراء: 72- 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 435

فَلا تَجْعَلُوا

لِلَّهِ أَنْداداً، و أشباها و أمثالا من الأصنام الّتي لا تعقل و لا تسمع و لا تبصر و لا تقدّر على شي ء وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّها لا تقدر على شي ء من هذه النعم الجليلة الّتي أنعمها عليكم ربّكم «1».

أو أنكم تعلمون أنّ اللّه هو الحقّ المبين، و انّه لا ضدّ له و لا ندّ، و ان أصررتم على جحودكم و إنكاركم باللّسان كقوله: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «2».

و قد ظهر ممّا مرّ انّه لا تنافي بين وصفهم بالعلم في هذه الآية و بالجهل في قوله: قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ «3» لاختلاف المتعلّق فيهما.

و عن بعض المفسّرين أنّ الخطاب لأهل الكتاب كما قال الطبرسي في المجمع عن مجاهد و غيره، و المراد أنّكم تعلمون ذلك على ما قرأتم في الكتاب كقوله: وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «4» و هؤلاء و إن لم يتّخذوا أصناما آلهة من دون اللّه إلّا أنّهم لمّا اتبعوا أهوائهم في مشاقة الحقّ و منادّة الرسول و كتمان ما أوتوا من العلم و المعرفة عوتبوا عتاب المشركين، مع أنّهم منهم في الحقيقة لقوله: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ و قوله «أبغض إله عبد على وجه الأرض الهوى» و أمّا إيمانهم باللّه فلا ينفعهم شيئا إذ مع الغضّ عن قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «5» و إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «6» و غيره من مقالاتهم الفاسدة،

__________________________________________________

(1) تفسير الامام عليه السّلام ص 143 و عنه البحار ج 3 ص 35 ح 10.

(2) النمل: 14.

(3) الزمر: 64.

(4) البقرة: 42.

(5) التوبة: 30.

(6) المائدة: 73.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 4، ص: 436

لم يكن ذلك على وجهه و من بابه الّذي هو تصديق الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و من هنا يظهر أنّ الآية ناعية على أهل السّنة أيضا حيث لم يكن إيمانهم على الوجه الّذي أمروا به من ولاية أولياء الأمر الّذين جعلهم اللّه أبوابه و حجّابه، بل هم الأعراف الّذين لا يعرف اللّه تعالى إلّا بسبيل محبّتهم و ولايتهم و طاعتهم كما في الأخبار الكثيرة المتواترة من الطّريقين، فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ في علي أمير المؤمنين ثمّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ من ولايته و خلافته و وصايته وَ يُسَلِّمُوا له الأمر تَسْلِيماً «1» «2».

و لعل في الآية إشارة إلى ذلك، فانّه سبحانه جعل أرض العبادات البدنيّة و ظاهر الطّاعات القلبيّة و القالبيّة فراشا للمؤمنين يتقلبون فيها و يستقرّون في إقامة مراسم دينهم عليها، و جعل سماء الإعتقادات الحقّة الأصوليّة من التوحيد و النّبوة و ما جاء به النّبي صلّى اللّه عليه و آله قبّة مضروبة عليهم و هي قبّة الإسلام و فسطاط الإيمان و أنزل من سماء الايمان و التّصديق باللّه و رسوله ماء الرّحمة الرّحيميّة و معين الولاية العلويّة، فانّ شيعتهم خلقوا من فاضل طينتهم و عجنوا بماء ولايتهم، وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ طريقة ولاية أمير المؤمنين و ذرّيّته المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «3»، و هو ما أشرنا إليه من أنّه من آثار رحمة اللّه الرّحيميّة يحيي به أراضي النفوس، فضلا عن شؤونها من الطّاعات و العبادات بعد موتها، فأخرج به من ثمرات الطاعات و العبادات الصالحة المقبولة و العلوم و المعارف الحقيقية النّورانيّة رزقا لهم

يعيشون بها في الدّنيا و الآخرة.

__________________________________________________

(1) النساء: 65.

(2) مرآة العقول ج 4 ص 283 في شرح ح (7) من الكافي ج 1 ص 391.

(3) سورة الجنّ: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 437

و لذا أمرهم بأن لا يجعلوا له أندادا في العبادة و في الطاعة بموالاة الجبت و الطاغوت و سائر الشياطين الغاصبين لحقوق محمّد و آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

ثمّ أنّه سبحانه جعل لنا أرض النفوس الإنسانية المتعلّقة بالأبدان العنصريّة فراشا نتقلّب فيها و نستقرّ عليها في هذا العالم، و إلّا فلا هبوط لورقاء الروح و عنقاء الفؤاد في هذه النشأة الجسمانيّة لولا النفوس الإنسانيّة المتصرّفة في الأبدان العنصريّة، و جعل سماء العقل الانساني و النّور الشعشعاني سمكا مرفوعا عليكم و أنزل من سماء العقل إلى أرض النفس ماء العلوم الحقيقيّة و المعارف الايمانيّة، فأخرج به بواسطة استعمال العقل و استخدامه للقوى النّفسية من الشهويّة و الغضبيّة و غيرها بعد تعليمها ما علّمه اللّه و تأديبه بآداب المطيعين و صيرورتها آمنة مطمئنة أو راضية مرضيّة من ثمرات العقائد الحقّة و الأخلاق الفاضلة و المحاسن الكاملة و الأعمال الصّالحة المرضيّة على حدود التعبّد و شروط الانقياد رزقا لكم تعيشون به من حيث إنكم إنسان لا من حيث إنكم حيوان، فتنخرطون بها في سلك المتّقين و أوليائه المقرّبين.

و تلك العلوم و المعارف هي المشار إليها بالحبّ و العنب و غيرهما في قوله:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ «1» و لذا فسّر الامام عليه السّلام

الطعام بالعلم «2»، و ستسمع تمام الكلام في موضعه إنشاء اللّه، و قد

__________________________________________________

(1) عبس: 24- 32.

(2) الاختصاص للمفيد ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 438

فسرت الأرض في قوله: أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها* «1» بنفوس العلماء «2».

و لذا رتّب بعض المحقّقين الأرض على درجات، و مراتب أعلاها النفوس الانسانية، ثمّ أنّه سبحانه جعل لإيجادكم و إيجاد معايشكم و مصالحكم أرض الإمكان و القابليّة بإنشاء المشيّة الإمكانية، و جعل سماء المشيّة التكوينيّة مبنيّة عليها مفاضة منه بنفسها لنفسها، و أنزل منها إلى أرض الإمكان ماء الوجود العيني و التّعين الكوني فاخرج به من ثمرات عالم الإمكان أنواعا من الرّزق تستمدّ منها عقولكم و أفئدتكم و أرواحكم و نفوسكم و مثلكم و أبدانكم في كينوناتها و بقائها.

[سورة البقرة(2): آية 23 ]

اشارة

تفسير الآية (23) وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا لما كان المقصود الأعظم من خلق بني آدم هو العبوديّة لخالق العالم كما أشير إليه فيما تقدّم، و كانت العبادة متوقّفة على المعرفة، بل هي ركنها الأقوى و غايتها القصوى، و كانت المعرفة تدور على الأركان الثلاثة الّتي هي التّصديق بالتّوحيد و بنبوّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ولاية أوصيائه الطّيبين صلّى اللّه عليهم أجمعين، و قد قرّر الأوّل في الآيتين المتقدّمتين، و بيّن الطّرق الموصلة إلى تحصيل العلم و التّصديق به عقّبه بذكر ما يدل على الثّاني و هو الإتيان بالمعجزة الباقية على مرّ الدّهور الدّال على الثالث أيضا من جهة ورود النّص قبله، و دلالة الآيات الّتي تحدّى بها عليه أيضا.

__________________________________________________

(1) الرعد: 41.

(2) الكافي ج 1 ص 38 كتاب فضل العلم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص:

439

و لذا

ورد عن الصادق عليه السّلام على ما رواه في كتاب الكافي و الفضائل قال: نزل جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية هكذا: و إن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا في عليّ «1» انتهى.

و في تفسير الإمام عليه السّلام قال لمّا ضرب اللّه الأمثال للكافرين المجاهرين الدّافعين لنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الناصبين المنافقين لرسول اللّه الدّافعين ما قاله محمّد صلّى اللّه عليه و آله في أخيه عليّ عليه السّلام و الدّافعين أن يكون ما قاله من اللّه تعالى و هي آيات محمّد صلّى اللّه عليه و آله و معجزاته مضافا إلى آياته الّتي بيّنها لعليّ عليه السّلام بمكّة و المدينة و لم يزدادوا إلّا عتوّا و طغيانا قال اللّه تعالى لمردة أهل مكّة و عتاة أهل المدينة: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا حتّى تجحدوا أن يكون محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أن يكون هذا المنزل عليه كلامي مع اظهاري عليه بمكّة الباهرات من الآيات كالغمامة الّتي كانت تظلّه بها في أسفاره، و الجمادات الّتي كانت تسلّم عليه من الجبال و الصخور و الأحجار، و كدفاعه قاصديه بالقتل عنه و قتله إيّاهم، و كالشجرتين المتباعدتين اللّتين تلاصقتا فقعد خلفهما لحاجة ثمّ تراجعتا إلى مكانهما كما كانتا، و كدعائه الشّجرة فجاءته خاضعة ذليلة، ثمّ أمره لها بالرّجوع فرجعت سامعة مطيعة، فاتوا يا معشر قريش و اليهود، و يا معشر النواصب المنتحلين بالإسلام الّذين هم منه براء و يا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي الألسن بسورة من مثله، من مثل محمّد، من مثل رجل منكم لا يقرأ و لا يكتب و لم يدرس كتابا و

لا اختلف إلى عالم و لا تعلّم من أحد، و أنتم تعرفونه في أسفاره و حضره، بقي كذلك أربعين سنة، ثمّ أوتي جوامع العلم حتى علم علم الأوّلين و الآخرين، فإن كنتم في ريب من هذه الآيات فأتوا من

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 70 عن الكافي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 440

مثل هذا الرّجل بمثل هذا الكلام، ليبين أنّه كاذب كما تزعمون، لأنّ كلّ ما كان من عند غيره سبحانه فسيوجد له نظير في ساير خلق اللّه، و ان كنتم معاشر قرّاء الكتب من اليهود و النصارى في شكّ ممّا جاءكم به محمّد صلّى اللّه عليه و آله من شرايعه و من نصبه أخاه سيّد الوصيّين وصيّا بعد أن أظهركم معجزاته الّتي منها أن كلّمته الذراع المسمومة، و ناطقه ذئب، و حنّ إليه العود و هو على المنبر، و دفع اللّه عنه السّم الّذي دسّته اليهوديّة في طعامهم، و غلب عليهم البلاء و أهلكهم به، و كثّر القليل من الطعام فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعني من مثل القرآن من التّوراة و الإنجيل و الزّبور و صحف ابراهيم و الكتب المائة و الأربعة «1» عشر فإنكم لا تجدون في سائر كتب اللّه سورة كسورة من هذا القرآن

انتهى «2» على ما يأتي.

و فيه دلالة على تعميم الخطاب بالنّسبة إلى الكفار و المشركين و المنافقين، و إن كان بعضهم منكرين للنبوّة و آخرون للولاية بناء على أنّ انكار شي ء ممّا تضمّنته الآيات و لو من الاحكام الفرعيّة فضلا عن الأصلية على وجه العناد و المشاقّة إنكار للآيات و لنبوّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله بل جحود للرّبوبيّة أيضا، و لذا ترى الفقهاء يحكمون

بارتداد كلّ من أنكر حكما معلوما من الدّين إذا عاد إلى انكار صاحب الدّين.

و في الآية وجه آخر و هو مبنيّ على اعتبار قوله في الآية المتقدّمة وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ على وجه التّقييد و المعنى انكم إن كنتم عالمين بربوبيّته سبحانه

__________________________________________________

(1) في البحار ج 11 ص 32 ج 24: المائة و الأربعة عشر و لعله تصحيف لان الصدوق قدّس سره روى الحديث باسناده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و فيه: انزل اللّه تعالى مائة كتاب و أربعة كتب.

(2) بحار الأنوار ج 9 ص 175- 176 عن تفسير الإمام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 441

و وحدانيّته فلا ينبغي لكم أن تشركوا به شيئا في العبادة و الطاعة، و إلّا يكن لكم به علم بل كنتم في ريب و شبهة ممّا أنزلنا على عبدنا من الأمر بالتوحيد و خلع الأنداد و إخلاص العبادة و ملازمة الانقياد و الطاعة حتّى في سائر الاحكام فانظروا في دلائل النبوّة من اعجاز القرآن و غيره كي يظهر لكم صحّة قوله و لزوم طاعته و يضطرّ عقولكم إلى وجوب تصديقه فيما أتاه من التوحيد و غيره، فانّه كان مبعوثا ليخرج الناس من ظلمات الكفر و الشرك و الفسق إلى نور الإيمان و العبادة و الطاعة، و لذا كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه «1».

ثمّ المراد بالريب الشك مع تهمة، و إنّما أضافه إلى التّنزيل دون الإنزال، إذ كان من أسباب ارتيابهم و طعنهم فيه نزوله منجّما مفرّقا مدرّجا على قانون الخطابة و الشعر من وجود ما يوجد منها شيئا فشيئا حينا فحينا بحسب ظهور

المقتضيات المتجدّدة و عروض الحاجات المختلفة إذ كانوا يقولون إنّه لو كان من عند اللّه سبحانه لأنزله جملة واحدة لعدم الحاجة حينئذ إلى سبق التروّي و انتظار المصالح و تتبع المقتضيات، و لذا حكى اللّه تعالى عنهم وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «2» فقيل لهم، إن ارتبتم في هذا الّذي نزل تدريجا كما يعطيه التكثير المستفاد من التفضيل فهاتوا أنتم بنجم من نجومه و سورة من سوره فانّه أيسر عليكم من أن ينزل الجملة دفعة واحدة يتحدّى بمجموعه فقد جعل ما اتّخذوه رتبة قادحة في اعجازه وسيلة إلى كونه حقا لا يحوم حوله شك و ريبة تقوية للتحدّي و دفعا لما في صدورهم من الشبهة، و هذه غاية الإلزام و التبكيت.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 37 ص 113 عن تفسير القمي.

(2) الفرقان: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 442

و أضاف العبد إلى نفسه تكريما و تشريفا له و تنويها بذكره، و تنبيها على شدّة اختصاصه صلّى اللّه عليه و آله به سبحانه، و إن ما ظهر منه من الدّعوة و الرّسالة و سائر الشؤون فإنّما هو بأمره و إيجابه فمن أطاعه فقد أطاع اللّه، و من عصاه فقد عصى اللّه.

و قرء عبادنا يريد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و اوصيائه المعصومين الّذين هم مهابط الوحي، و خزّان العلم، و حملة الكتاب، و هم المخصوصون بعلمه و معرفة ظاهره و باطنه، و تنزيله و تأويله، و حقائقه و أسراره.

و لذا أضيف إليهم مع ما قرّر في محلّه من اتّحادهم له صلّى اللّه عليه و آله في عالم الأنوار قبل النّشأة البشريّة و الكسوة العنصريّة إلّا أنّه صاحب التّنزيل

و عليّ صاحب التأويل.

و أمّا ما يقال «1»: من أنّه أراد محمّدا و أمّته فإنّما هو ناش من العمى و القصور فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ... وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «2».

العبد و شرافته

و أمّا حقيقة العبوديّة فقد مرّ الكلام فيها في تفسير الفاتحة، و هذا الإسم من أشرف أسمائه الشريفة، و أخصّ ألقابه المنيفة، و لذا قدّمه في تشهد الصلاة على الرّسالة.

و يضاف في إطلاقه عليه مرّة إلى الاسم المقدّم الجامع و هو اللّه كقوله:

__________________________________________________

(1) الكشّاف للزمخشري ج 1 ص 97.

(2) سورة النور: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 443

وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «1» و أخرى الى ضمير المتكلّم و الغائب كما في المقام، و خبر المعراج، و التشهّد، و ذلك لعبوديّته المطلقة و وساطته الكليّة التّامّة العامّة في جميع الشؤون الالهيّة و الفيوض الرّبانيّة من التكوينيّة و التشريعيّة، بحيث قد ألقى في هويّته مثاله فأظهر عنه أفعاله كما في العلوي «2».

و لذا قال الصادق عليه السّلام على ما في مصباح الشريعة: العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة فما فقد من العبوديّة وجد في الربوبيّة و ما خفي عن الربوبيّة أصيب في العبودية

قال اللّه عزّ و جل سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ «3» أي موجود في غيبتك و في حضرتك و تفسير العبوديّة بذل الكليّة، و سبب ذلك منع النفس عمّا تهوى، و حملها على ما تكره، و مفتاح ذلك ترك الرّاحة و حبّ العزلة، و طريقة الافتقار إلى اللّه عزّ و

جل،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أعبد اللّه كانّك تراه، فان لم تكن تراه فانّه يراك.

و حروف العبد ثلاثة: (ع ب د) فالعين علمه باللّه تعالى، و الباء بونه عمّن سواه، و الدّال دنوّه من اللّه تعالى بلا كيف و لا حجاب.

ثمّ قال عليه السّلام: و أصول المعاملات تنقسم على أربعة أوجه: معاملة اللّه، و معاملة النفس، و معاملة الخلق، و معاملة الدنيا، و كلّ وجه منها ينقسم إلى سبعة أركان أمّا أصول معاملة اللّه فسبعة أشياء: أداء حقّه، و حفظ حدّه، و شكر عطائه، و الرضاء بقضائه، و الصبر على بلائه، و تعظيم حرمته، و الشّوق إليه، و أصول معاملة النّفس سبعة، الخوف، و الجهد، و حمل الأذى، و الرياضة، و طلب الصدق، و الإخلاص،

__________________________________________________

(1) الجنّ: 19.

(2) بحار الأنوار ج 40 ص 165.

(3) فصّلت: 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 444

و إخراجها عن محبوبها، و ربطها في الفقر، و أصول معاملة الخلق سبعة، الحلم، و العفو، و التّواضع، و السّخاء، و الشّفقة، و النّصح، و العدل و الإنصاف، و أصول معاملة الدنيا سبعة: الرّضا بالدّون، و الإيثار بالموجود، و ترك طلب المفقود، و بغض الكثرة، و اختيار الزّهد، و معرفة آفاتها، و رفض شهواتها مع رفض الرياسة، فإذا حصل هذه الخصال بحقها في النفس فهو من خاصّة اللّه و عباده المقرّبين و أوليائه «1».

و في البحار قال وجدت بخطّ شيخنا البهائي قدّس اللّه روحه ما هذا لفظه قال الشيخ شمس الدّين محمّد بن مكّي نقلت من خطّ الشيخ أحمد الفراهاني رحمه اللّه عن عنوان البصري، و كان شيخا كبيرا قد أتى عليه أربع و تسعون سنة قال: كنت أختلف

إلى مالك بن أنس سنين، فلمّا قدم جعفر الصادق عليه السّلام المدينة اختلفت إليه و أحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك فقال لي يوما إنّي رجل مطلوب، و مع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء اللّيل و النّهار فلا تشغلني عن ذكري، و خذ من مالك و اختلف إليه كما كنت تختلف إليه، فاغتممت من ذلك و خرجت من عنده، و قلت في نفسي لو تفرّس فيّ خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه و الأخذ عنه، فدخلت مسجد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّمت عليه ثمّ رجعت من الغد إلى الروضة، و صلّيت فيها ركعتين، و قلت أسألك يا اللّه يا اللّه أن تعطف عليّ قلب جعفر و ترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم، و رجعت إلى داري مغتمّا، و لم اختلف إلى مالك ابن أنس لما شرب قلبي من حبّ جعفر، فما خرجت من داري إلّا إلى الصّلوة المكتوبة حتّى عيل صبري، فلمّا ضاق صدري تنعّلت و تردّيت و قصدت جعفرا، و كان بعد ما صلّيت العصر، فلمّا حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال حاجتك؟ فقلت: السّلام على الشريف، فقال: هو قائم في مصلّاه، فجلست

__________________________________________________

(1) مصباح الشريعة الباب 100.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 445

بحذاء بابه، فما لبثت إلّا يسيرا إذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة اللّه، فدخلت و سلّمت عليه فردّ السّلام و قال: اجلس غفر اللّه لك، فجلست فأطرق مليّا ثمّ رفع رأسه و قال: أبو من؟ قلت: أبو عبد اللّه قال: ثبّت اللّه كنيتك و وفّقك يا أبا عبد اللّه ما مسألتك؟ فقلت: سألت اللّه أن

يعطف قلبك عليّ و يرزقني من علمك و أرجو أنّ اللّه تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبد اللّه ليس العلم بالتّعلم إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة و اطلب العلم باستعماله و استفهم اللّه يفهمك، قلت: يا شريف فقال: قل: يا أبا عبد اللّه فقلت: يا أبا عبد اللّه ما حقيقة العبوديّة؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله اللّه تعالى ملكا، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال اللّه، يضعونه حيث أمرهم اللّه تعالى به، و لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا، و جملة اشتغاله فيما أمره اللّه تعالى به و نهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله اللّه تعالى ملكا هان عليه الانفاق فيما أمره اللّه تعالى أن ينفق فيه، و إذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هان عليه الدّنيا و إبليس و الخلق، و لا يطلب الدّنيا تكاثرا و تفاخرا، و لا يطلب ما عند النّاس عزّا و علوّا، و لا يدع أيّامه باطلا، فهذا أوّل درجة التّقى، قال اللّه تبارك و تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «1» قلت: يا أبا عبد اللّه أوصني، قال:

أوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى اللّه تعالى و اللّه أسأل أن يوفقك لاستعماله: ثلاثة منها في رياضة النفس، و ثلاثة منها في الحلم، و ثلاثة منها في العلم، فاحفظها و إيّاك و التّهاون بها قال عنوان: ففرغت قلبي له، فقال: أمّا اللّواتي في الرياضة فإياك

أن تأكل ما لا تشتهيه، فانّه يورث الحماقة و البله، و لا تأكل إلّا

__________________________________________________

(1) القصص: 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 446

عند الجوع، و إذا أكلت فكل حلالا و سمّ اللّه، و اذكر حديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله: ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطنه، فإن كان و لا بدّ فثلث لطعامه، و ثلث لشرابه، و ثلث لنفسه، و أمّا اللّواتي في الحلم فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشرا فقل: إن قلت عشرا لم تسمع واحدة، و من شتمك فقل له: إن كنت صادقا فيما تقول فاسأل اللّه أن يغفر لي، و إن كنت كاذبا فيما تقول فاللّه أسأل أن يغفر لك، و من وعدك بالخناء فعده، بالنصيحة و الدّعاء، و أمّا اللّواتي في العلم فاسأل العلماء ما جهلت و إيّاك أن تسألهم تعنّتا و تجربة، و إيّاك أن تعمل برأيك شيئا، و خذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، و لا تجعل رقبتك للنّاس جسرا، قم عنّي يا أبا عبد اللّه فقد نصحت لك و لا تفسد عليّ وردي، فإنّي امرء ضنين بنفسي وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «1».

قوله: إيّاك أن تأكل ما تشتهيه في بعض النّسخ: ما لا تشتهيه و لكلّ وجه، و قد تقدّم شطر من الخبر عند تفسير قوله: إيّاك نعبد مع بعض الكلام في شرحه و في هذين الخبرين الشّريفين كفاية و بلاغ لِقَوْمٍ عابِدِينَ.

تفسير فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ

أمر للتعجيز يظهر به عجزهم عن آخرهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه، مع شدّة حرصهم و غاية أنفتهم و حميّتهم، و توفّر دواعيهم على المعارضة و المناقضة، و هم العرب

الغرباء و مصاقع الخطباء، فأفحموا حتّى كأنّهم أبكموا، و قد سمعت في المقدّمة العاشرة تمام البيان في وجوه إعجاز القرآن كما أنّه قد مرّ في غيرها الكلام في اشتقاق السّورة و معناها.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 1 ص 224- 226.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 447

وقوع التحدّي بكلّ سورة منه دليل على إعجاز كلّ منها و لذا نكّرها.

و مِنْ مِثْلِهِ إمّا متعلّق بمحذوف على أن يكون صفة للسورة أي بسورة كائنة من مثله، و الضمير لما نزلنا أو لعبدنا، فعلى الأوّل يحتمل أن يكون من بيانيّة على معنى تعلّق الأمر التعجيزي بسورة هي مثل المنزل في حسن النظم و غرابة البيان فالمماثلة حينئذ في خصوص الكيفيّة، و ان تكون تبعيضيّة أي بسورة هي بعض مثل المنزل.

و ربّما يقال: إنّ الأوّل أبلغ لإبهام الثاني بانّ للمنزل مثلا محقّقا عجزوا عن الإتيان ببعضه، مع أنّ المماثلة المصرّح بها ليست من تتمّة المعجوز عنه حتّى يفهم أنّها منشأ العجز.

و فيه نظر لوقوع التحدّي حينئذ ببعض المماثل لإظهار عجزهم عنه فضلا عن الكلّ مع حمل الموصولة على ما هي ظاهرة فيه من العموم، و من هنا يظهر أنّ الثّاني أبلغ و أنسب، و أن تكون زائدة كما عن الأخفش أي بسورة مماثلة له و يؤيّده قوله في موضع آخر فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «1» و على الثّاني «2» تكون ابتدائيّة لأنّ السّورة تكون مبتدئة ناشئة من مثل العبد.

و أمّا متعلّق بقوله: فَأْتُوا فالضّمير للعبد، و يجوز أن يكون للمنزل على ما يأتي بيانه، لكنّه في «الكشّاف» «3» قد اقتصر على الأوّل عاطفا له على الأولين، و لذا استشكلوا فيه حتّى صار معركة للآراء و مطرحا لأنظار الفضلاء، سيّما بعد ما

استعمله العضدي عن علماء عصره بطريق الاستفتاء و هذه عبارته: يا أدلاء الهدى

__________________________________________________

(1) يونس: 38.

(2) تفسير البيضاوي ج 1 ص 35.

(3) الكشّاف ج 1 ص 98.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 448

و مصابيح الدّجى حيّاكم اللّه و بيّاكم و ألهمنا بتحقيقه و إياكم ها أنا من نوركم مقتبس و بضوء ناركم ملتبس، ممتهن بالقصور لا ممتحن ذا غرور ينشد بأطلق لسان و أرقّ جنان:

ألا قل لسكّان وادي الحمى هنيئا لكم في الجنان الخلود أفيضوا علينا من الماء فيضا فنحن عطاش و أنتم ورود قد استبهم صاحب الكشّاف مِنْ مِثْلِهِ متعلّق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله و الضّمير لما نزّلنا أو لعبدنا، و يجوز أن يتعلّق بقوله: فَأْتُوا و الضّمير للعبد حيث جوّز في الوجه الأوّل كون الضّمير لما نزّلنا تصريحا و حصره في الوجه الثّاني تلويحا فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزّلنا، و فأتوا من مثل ما نزّلنا بسورة، و هل ثمّة حكمة خفيّة أو نكتة معنويّة أو هو تحكّم بحت، بل هذا مستبعد من مثله، فإنّ رأيتم- كشف الرّيبة و إماطة الشبهة و الإنعام بالجواب أثبتم أجزل الأجر و الثواب، فأجاب عنه غير واحد ممّن عاصره أو تأخّر عنه كلّ منهم بشي ء لا يخلو من شي ء.

منها ما ذكره شيخنا البهائي طاب ثراه في رسالة صنّفها في هذا الباب و هو أنّ الآية الكريمة ما نزلت إلّا للتّحدي الّذي هو طلب المثل عمّن لا يقدر على الإتيان به، فإذا قال المتحدّي فأتوا بسورة بدون قوله من مثله، يفهم منه كلّ أحد أنّه يطلب سورة من مثل القرآن، و إذا قال فاتوا

من مثله، فالظّاهر منه أنّه يطلب ما يصدق عليه أنّه مثل القرآن أيّ قدر كان سورة أو أقلّ منها أو أكثر، و إذا أراد المتحدّي الجمع بين قوله بِسُورَةٍ و بين قوله مِنْ مِثْلِهِ فحقّ الكلام أن يقدّم من مثله و يؤخّر بسورة، و يقول: فأتوا من مثله بسورة حتّى يتعلّق الأمر بالإتيان من المثل أوّلا بطريق العموم، و كان بحيث لو اكتفى به لكان المقصود حاصلا و الكلام مفيدا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 449

لكن تبرّع ببيان القدر المأتي به فقال بسورة فيكون من قبيل التّخصيص بعد التعميم في الكلام و التّعيين بعد الإبهام و هذا الأسلوب ممّا يعتني به البلغاء.

و أمّا إذا قال فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، على أن يكون من مثله متعلّقا بفأتوا يكون في الكلام حشوا، و ذلك لأنّه لما قال: بسورة عرف أنّ المثل هو المأتي منه فذكر من مثله على أن يكون متعلّقا بفأتوا يكون في الكلام حشوا، و كلام اللّه تعالى منزّه عن هذا، فلهذا حكم بأنّه وصف للسورة قال: و تلخيص الكلام أنّ التّحدي بمثل هذه العبارة يقع على أربعة أساليب: الأوّل تعيين المأتي فقط، الثّاني تعيين المأتي منه، الثالث الجمع بينهما على أن يكون المأتي منه مقدّما و المأتي به مؤخّرا، و الرّابع العكس، و لا يخفى أنّ أساليب الثلاث الأوّل مقبولة عند البلغاء و الأخير مردود.

أقول: و فيه أنّ اعجاز القرآن لمّا كان من جهة بلاغته الغريبة الّتي فاق بها على كلّ كلام كان التّصريح على المثلية بعد ذكر السورة لزيادة التّنبيه على بلاغته و ايقاظ المخاطب لزيادة التّامّل في وجوه إعجازه، و هذه فائدة بليغة في المقام و أين هذا من الحشو في الكلام

سيّما في مقام التّحدي و زيادة الاهتمام في رعاية المماثلة الّتي هي باعتبار الكيفيّة فلا يستغنى عنه بذكر السورة المنساقة للتنبيه على الكمّية، هذا مضافا إلى ورود النقض عليه على فرض جعله وصفا للسورة، و هو رحمه اللّه قد تنبّه لذلك في أثناء كلامه ثمّ ذكر أنّ له فائدة جليلة و هي التّصريح بمنشإ التّعجيز فإنّه ليس إلّا وصف المماثلة و عند ملاحظة منشأ التّعجيز أعني مثليته يحصل الانتقال إلى أنّ القرآن معجز و أنت خبير بحصول الفائدة على فرض التعلّق بفأتوا أيضا بناء على كون من مثله في موضع المفعول و بصورة بدلا عنه حسبما يأتي بيانه.

و منها ما ذكره التفتازاني و هو أنّ هذا أمر تعجيز باعتبار المأتي به، و الذّوق شاهد بأنّ تعلّق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل و رجوع العجز إلى أن يؤتى

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 450

منه بشي ء و مثل النّبي صلّى اللّه عليه و آله في البشرية و العربية موجود بخلاف مثل القرآن في البلاغة و الفصاحة و أمّا إذا كان صفة السّورة فالمعجوز عنه هو الإتيان بالسورة الموصوفة و لا يقتضي وجود المثل بل ربما يقتضي انتفاؤه حيث يتعلّق به أمر التّعجيز، و حاصله أنّ قولنا آت من مثل الحماسة ببيت يقتضي وجود المثل بخلاف آت ببيت من مثل الحماسة.

و ردّه شيخنا البهائي رحمه اللّه بأنّه مبنيّ على كون القرآن كلّا له أجزاء و كون التّعجيز راجعا إلى الإتيان بجزء منه، و امّا إذا جعلناه كليّا يصدق على كلّه و بعضه، و على كلّ كلام يكون في لطيفة البلاغة القرآنيّة فلا نسلّم أنّ الذّوق يشهد بوجود المثل و رجوع العجز إلى أن يؤتى بشي ء منه،

بل الذّوق يقتضي أن لا يكون لهذا الكلّي فرد يتحقّق و الأمر راجع إلى الإتيان بفرد من هذا الكلّي على سبيل التّعجيز.

و في كلّ من الجواب و الرّد نظر أما في الأوّل فلانّ دلالته على تحقّق ثبوت المثل غير واضحة بل هو ظاهر الدّلالة على فقده و تعذّره بعد حصول العجز عن الإتيان من مثله بسورة حيث أنّ من الواضح كون العجز ناشيا عن إيجاد المثل و اختلاقه لا عن مجرّد الإتيان به مع تسليم الحمل على ظاهره و أمّا في الحقيقة فالإتيان بمثله ليس إلّا على وجه الرّسالة و نزول الوحي، و من البيّن أنّه متعذّر بالنّسبة إليهم و حيث إنّهم عاجزون عن الإتيان فالتّعجيز حاصل بالأمر بالإتيان، و ليس المراد أنّ المماثلة لا تتحقّق إلّا بصفة كونه و حيا بل الإتيان بمثل هذا الكلام لا يمكن إلّا بالوحي.

و أمّا في الثّاني فلانّ القرآن على فرض كونه كلّيا يصدق على الكلّ و على البعض الّذي يحصل به الاعجاز لكنّه لا يصدق على كلّ كلام يكون طبقة البلاغة القرآنية كما توهّمه على أنّه غير مذكور في الآية رأسا بل الضمير للموصولة الظاهرة بعمومه في الجميع و كونها كناية عن هذا المنزل الّذي له أسماء باعتبارات شتّى لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 451

يوجب اعتباره من حيث كونه مسمّى للقرآن كما هو ظاهر.

و منها ما ذكره صاحب الكشف «1» في حاشية الكشّاف قال: إذا تعلّق بسورة صفة له فالضمير للمنزل أو العبد و من بيانيّة أو تبعيضيّة على الأول لأنّ السورة المفروضة مثل المنزل على معنى سورة هي مثل المنزل في حسن النظم أو لأنّ السورة المفروضة بعض المثل المفروض و الأوّل أبلغ و لا يحمل

على الابتداء على غير البعضيّة أو البيان فإنّهما أيضا يرجعان إليه على ما اختاره الرّازي و ابتدائية على الثّاني، و أمّا إذا تعلّق بالأمر فهي ابتدائية و الضمير للعبد إلّا أنّه لا يبين إذ لا مبهم قبله و تقديره رجوع إلى الأوّل و لأنّ البيانيّة أبدا مستقرّ فلا يمكن تعلّقها بالأمر و لا تبعيض إذ الفعل حينئذ يكون واقعا عليه كما في قولك: أخذت من المال و إتيان البعض لا معنى له بل الإتيان بالبعض فتعيّن الابتداء و مثل السورة و السورة نفسها ان جعل مقحما لا يصلحان مبدأ للإتيان بوجه فتعين أن يرجع الضّمير إلى العبد و ذلك لأنّ المعتبر في مبدئية الفعل المبدء الفاعلي أو المادي أو الغائي أو جهة يتلبّس بها و لا يصحّ واحد منها انتهى.

و حاصله أنّه بطريق السبر و التقّسيم حكم بتعيين كون من للابتداء ثمّ بيّن أنّ مبدئية الفعل لا يصلح إلّا للعبد فتعيّن أن يكون الضّمير راجعا إليه و اعترضه شيخنا البهائي رحمه اللّه باحتمال كونه للتّبعيض إذ وقوع الفعل عليه لا يلزم أن يكون بطريق الأصالة بل يجوز أن يكون بطريق التبعيّة مثل أن يكون بدلا فكما يجوز أن يكون من الدّراهم مفعولا صريحا في المعنى على معنى بعض الدّراهم فكذا يجوز أن يكون بدلا عن المفعول فكأنّه قال بسورة بعض ما نزّلنا فتكون بِسُورَةٍ مفعولا

__________________________________________________

(1) الكشف عن مشكلات الكشّاف لعمر بن عبد الرّحمن الفارسي القزويني المتوفى سنة (745) ه- كشف الظنون ج 2 ص 1480.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 452

بواسطة الباء و تكون البعضيّة المستفادة من من ملحوظة على وجه البدليّة و يكون الفعل واقعا عليه بالتّبع فيكون في حيّز الباء و إن

لم يكن تقدير الباء عليه إذ قد يحتمل في التّابعيّة ما لا يحتمل في المتبوعيّة كما في قولهم ربّ شاة و سخلتها، هذا مضافا إلى جواز كونها للابتداء أيضا بناء على كون القرآن مبدأ ماديّا للسورة من جهة التّلبس و لا بأس به على ما نبّه عليه في كلامه فانّ جهات التّلبس أكثر من أن تحصى من جهة الكميّة و لا تنتهي إلى حدّ من الحدود من جهة الكيفيّة و كون مثل هذا القرآن مبدأ مادّيا للسّورة من حيث التّلبس أمر يقبله الذّهن السّليم و الطّبع المستقيم، على أنك لو حقّقت معنى الابتدائيّة يظهر لك أن ليس معناه إلّا أن يتعلّق به على وجه اعتبار المبدئيّة الأمر الّذي اعتبر له ابتداء حقيقة أو توهّما بل عن التفتازاني أنّ كون مثل القرآن مبدأ مادّيا للإتيان بالسورة ليس أبعد من كون مثل العبد مبدأ فاعليّا و إن قيل إنّه أبعد منه بكثير فانّ الأوّل على وجه المجاز من جهة التّلبس و الثّاني على وجه الحقيقة إذ لو فرض وقوعه لا يكون العبد إلّا مؤلفا لتلك السّورة مخترعا لها فيكون مبدأ فاعليّا لها حقيقة و أين هذا من مجرّد التّلبس المصحّح للسببيّة لكنّ الخطب سهل بعد اشتراكهما في صحّة الإطلاق.

و منها ما هو المحكي عن حواشي الكشاف للقطب «1» رحمه اللّه من أنّه إذا تعلّق بقوله فَأْتُوا فالضمير للعبد لأنّ من لا يجوز أن يكون للتبيين، لأنّ من البيانيّة تستدعي مبهما تبيّنه فتكون صفة له فتكون ظرفا مستقرّا أو لغوا و أنّه محال، و لا يجوز أن تكون للتّبعيض و إلّا لكان مفعول فَأْتُوا لكن مفعول فَأْتُوا لا يكون إلّا بالباء، فلو كان مثل مفعول فأتوا الزم دخول

الباء في من و هو غير جائز فتعيّن أن تكون من للابتداء فيكون الضّمير راجعا إلى العبد لأنّ مثل العبد هو مبدأ الإتيان لا

__________________________________________________

(1) هو قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي المتوفى سنة (710) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 453

مثل القرآن و هو قريب ممّا ذكره صاحب «الكشف» و قد سمعت الجواب عنه كما أنّه قد ظهر لك من تضاعيف ما مرّ فساد ما ربما يذكر في المقام أيضا من الوجوه الّتي لا طائل تحت الاطناب بذكرها في المقام سيّما بعد ما ظهر لك صحّة كون الضّمير للمنزل مع فرض التعلّق بالفعل كما لعلّه ظاهر القول المحكي في «المجمع» و هو و إن لم يكن على حدّ غيره من الوجوه الثلاثة المتقدّمة في الظّهور إلّا أن ذلك لا يقضي عليه بالفساد و لا يوجب ترك التّعرض لذكره في عداد المحتملات و لذا ترى صاحب الكشّاف و غيره يتصدّون لذكر الوجوه و المحتملات في الآيات من دون اقتصار منهم على خصوص الرّاجح منها في كلّ مقام، و من هنا يظهر أنّه لا وجه لترك التّعرض لما مرّ من الاحتمال و إنّ شيئا ممّا سمعت لا يصلح عذرا لذلك.

نعم قد يقال إنّ ردّ الضمير إلى المنزل أوجه، و ذلك لأوجه:

أحدها: المطابقة مع نظائره كقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «1» و قوله فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ «2» و قوله: عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «3».

ثانيها: أن البحث إنّما وقع في المنزّل لأنّه قال: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا فوجب صرف الضّمير إليه فيفهم منه ضمنا إثبات نبوّة المنزل عليه، و لو سيق الكلام للعكس لكان الأولى بالنظم أن يقال: و إن

كنتم في ريب في أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله.

ثالثها: أن الضّمير لو كان عايدا إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو تفرّدوا و سواء كانوا أمّيين أو كانوا عالمين محصّلين

__________________________________________________

(1) يونس: 38.

(2) هود: 13.

(3) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 454

أمّا لو كان عايدا إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله فذلك لا يقتضي إلّا كون آحادهم من الأمّيين عاجزين عنه لأنّه لا يكون مثل محمد صلّى اللّه عليه و آله عندهم و في أنظارهم إلّا الشّخص الواحد الامي فلو اجتمعوا و كان كلهم أو بعضهم قارئين لم يكونوا مثله إذ الجماعة لا تماثل الواحد و القاري لا يكون مثل الامي و من البيّن أن التحدي على الوجه الأوّل أقوى.

رابعها: أنّه مع عوده الى العبد لا دلالة فيه على كون السورة ينبغي أن يكون مثل ما أتى به محمد صلّى اللّه عليه و آله في البلاغة و الفخامة و حسن النظم و الأسلوب و قضيّة التحدّي التّنبيه عليه.

خامسها: إنّ عوده إلى العبد يوهم إمكان صدوره ممّن لم يكن على صفته بأن كان ممارسا لدراسة العلوم و تتبّع الكتب.

سادسها: أن عوده إلى المنزّل هو الملائم لقوله: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ و حرّره بعضهم بأنّ المعنى في قوله: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ إن كان، و ادعوا من حضركم إلّا اللّه فلا معنى للاستعانة بالكلّ على تقدير رجوعه إلى المنزل عليه، لأنّ المراد فأتوا بسورة من واحد أخر عربي مثله في الفصاحة و تركيب الكلام، و هذا ممّا لا حاجة فيه إلى الاستعانة سيّما بجميع من سوى اللّه و ان كان المعنى و

ادعوا الهتكم و استظهروا بهم في المعارضة فلا يبقى للتّهكم معنى لأنّ التّهكم نشأ من طلب الأصنام للإتيان بمثل المنزل و إذا كان من يطلب منه المثل واحدا عربيّا و لا ندخل لغيره في الإتيان به فلا يكون في دعوة الأصنام تهكّم بل لا يكون لدعوتها للمعارضة معنى مناسب فيتنافر النظم أيضا و ان كان المعنى و ادعوا زعمائكم الّذين هم أمراء الكلام ليشهدوا انكم أتيتم بالمثل ففيه إيهام أنّ المأمور بالإتيان واحد من غيرهم فلا يتم الاعجاز بخلاف عوده إلى المنزل لعموم الخطاب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 455

هذا غاية ما وجّه به الترجيح و كثير منه لا يخلو عن تكلّف ثمّ أنّه على فرضه لا يأبى عن الحمل على الوجه الاخر ايضا و لو على وجه التأويل بعد وروده في تفسير الامام عليه السّلام فانّه قد فسّره على الوجهين معا على ما مرّت عبارته عليه السّلام.

و قال عليه السّلام مضافا إلى ما مرّ و إن كنتم يا أيّها المشركون و اليهود و ساير النواصب المكذّبين لمحمّد في القرآن و في تفضيله أخاه عليّا المبرّز على الفاضلين الفاضل على المجاهدين الّذي لا نظير له في نصرة المتقين و قمع الفاسقين و إهلاك الكافرين و بثّه دين اللّه في العالمين، إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا في ابطال عبادة الأوثان من دون اللّه و في النهي من موالاة اعداء اللّه و معادات أولياء اللّه، و في الحثّ على الانقياد لأخي رسول اللّه و اتّخاذه إماما و اعتقاده، فاضلا راجحا لا يقبل اللّه ايمانا و لا طاعة إلّا بموالاة و تظنّون أنّ محمّدا تقوّله من عنده و ينسبه إلى ربّه، فان كان كما تظنّون

فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله أمّي لم يختلف قطّ إلى أصحاب كتب و علم و لا تلمذ لأحد و لا تعلّم منه، و هو من قد عرفتموه في حضره و سفره، لم يفارقكم قطّ إلى بلد ليس معه منكم جماعة يراعون أحواله و يعرفون أخباره، ثمّ جاءكم بهذا الكتاب المشتمل على هذه العجائب، فان كان متقوّلا كما تظنّون فأنتم الفصحاء و البلغاء و الشعراء و الأدباء الّذين لا نظير لكم في سائر الأديان و من سائر الأمم، فان كان كاذبا فاللّغة لغتكم و جنسه جنسكم، و طبعه طبعكم، و سيتفق لجماعتكم أو لبعضكم معارضة كلامه هذا بأفضل منه أو مثله، لأنّ ما كان من قبل البشر لا عن اللّه فلا يجوز أن لا يكون في البشر من يمكن من مثله، فأتوا بذلك لتعرضوه و سائر النظّار إليكم في أحوالكم انّه مبطل كاذب على اللّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 456

تفسير وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ

يشهدون بزعمكم أنكم محقون، و أنّ ما تجيئون به نظير لما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و شهداءكم الّذين تزعمون أنّهم شهداؤكم عند ربّ العالمين لعبادتكم لها و تشفع لكم إليه، انتهت عبارته عليه السّلام في هذا المقام «1».

و قال عليه السّلام متّصلا بما مرّت حكايته آنفا ما عبارته: ثمّ قال لجماعتهم وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ أدعوا أصنامكم الّتي تعبدونها يا أيّها المشركون، و ادعوا شياطينكم يا أيّها النصارى و اليهود، و ادعوا قرناءكم من الملحدين يا منافقي المسلمين من النصّاب لآل محمّد و سائر أعوانكم على ارادتكم إن كنتم صادقين بأنّ محمّدا تقوّل هذا القرآن من تلقاء نفسه لم ينزله اللّه عزّ و جل

عليه، و إنّ ما ذكره من فضل عليّ عليه السّلام على جميع أمّته و قلّده سياستهم ليس بأمر أحكم الحاكمين «2» و الشهداء جمع شهيد، و يكسر شينه على ما في القاموس، و يطلق بمعنى الحاضر، و القائم بالشهادة، و الأمين في شهادة، و الّذي لا يغيب عن علمه شي ء، و القتيل في سبيل اللّه، لأنّ ملائكة الرحمة تشهده، أو لأنّ اللّه تعالى و ملائكته شهود له بالجنّة، أو لأنّه ممّن يستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية، أو لسقوطه على الشاهدة و هي الأرض، أو لأنّه حيّ عند ربّه حاضر، أو لأنّه يشهد ملكوت اللّه تعالى و ملكه على ما أشار إليها في «القاموس» و المعاني بجملتها كما ترى تدور على معنى الحضور، قال اللّه تعالى:

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ «3»

و في الخبر فليبلغ الشاهد الغائب.

و معنى دون أدنى مكان من الشي ء و أصله التّفاوت في الأمكنة، يقال لمن هو

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام عليه السّلام ص 200- 201.

(2) تفسير الإمام عليه السّلام ص 154.

(3) البقرة: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 457

أنزل مكانا من الأخر: هو دون ذلك، فهو ظرف مكان مثل «عند» إلّا أنّه ينبئ عن دنوّ أكثر و انحطاط قليل، و منه تدوين الكتب لجمعه، فانّه إدناء البعض إلى البعض، و الشّي ء الدّون للدّني الحقير، و دونك هذا أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك، و يقال: هذا دون ذاك إذا كان أحطّ منه قليلا حطّا محسوسا ثمّ استعير للتفاوت في الأحوال و الرّتب حتّى صار استعماله فيه أكثر من الأصل فيقال: زيد دون عمرو في الشرف و العلم، و منه قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام حيث أثنى عليه

بعض المنافقين: أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك «1».

ثمّ اتّسع في هذا المستعار فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ و إن لم يكن بينهما تفاوت قريب، و هو بهذا المعنى قريب معناه من معنى الغير، بل قيل: إنّه بمعناه و لذا فسّره به شيخنا الطبرسي في المقام «2» و في «القاموس» دون بالضمّ نقيض فوق، و يكون ظرفا و بمعنى أمام و وراء و فوق ضدّ، و بمعنى غير قيل: و منه ليس فيما دون خمس أواق صدقة «3» أي في غير خمس أواق، و بمعنى سوى قيل، و منه الحديث:

أجاز الخلع دون عقاص رأسها أي بما سوى عقاص رأسها «4»، و معنى الشريف و الخسيس ضد، و بمعنى الأمر و الوعيد.

ثمّ أنّه في الآية يمكن أن يكون بمعنى التّجاوز و هو الّذي يقال إنّها أداة

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 17 ص 46 طبع مصر سنة 1378.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 136.

(3) في لسان العرب: في حديث مرفوع: ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة. قال أبو منصور: خمس أواق: مأتا درهم.

(4) في لسان العرب: الخلع تطليقة بائنة و هو ما دون عقاص الرأس يريد أنّ المختلعة إذا افتدت نفسها من زوجها بجميع ما تملكه كان له أن يأخذ ما دون شعرها من جميع ملكها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 458

استثناء، و يكون بمعنى غير كما في قوله:

يا نفس ما لك دون اللّه من واق و ما للسع بنات الدّهر من راق «1». و على هذا فالشهيد بمعنى القائم بالشهادة، فان كان الظرف مستقرا على أن يكون حالا و أريد بالشهداء

الأصنام فالمعنى أدعوا من اتّخذتموهم آلهة متجاوزين المعبود الحقّ في دعواكم ألوهيّتها و زعمكم أنّها شهداؤكم و شفعاؤكم يوم القيامة، كأنّه قيل أدعوهم ليعينوكم في معارضة القرآن المعجز.

و فيه تهكّم بهم من جهة الاستظهار بالجماد، و تنبيه لهم بأنّها من اللّه بمكان، و مبالغة في التهكّم من حيث إنّهم يدّعون أنّهم شهداء عند اللّه ثمّ يجعلونه شركاءه، و ترشيح له للدّلاله على انّهم معروفون بنصرتهم و شهادتهم، و لذا أمرهم بالاستظهار بهم.

و ان أريد به الشهود على الحقيقة فالمعنى أدعوا أشرافكم و رؤسائكم الّذين هم أمراء الكلام و فرسان المقاولة ليشهدوا أنّكم أتيتم بمثل القرآن متجاوزين اولياء اللّه الذين لا شهادة عندهم بذلك، يعني أنّ اشرافكم أيضا لا يشهدون بذلك حيث تأبى عليهم الطباع و تجمح بهم الأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحّة الفاسد البيّن عندهم فساده، فالكلام على إضمار مضاف أي من دون اولياء اللّه، فانّ شهداءهم أولياءهم، و على هذا فالدّعاء لإقامة الشهادة بانّ ما أتوا به مثل، و فيه دلالة على أنّ عجزهم بمكان و أنّ أولياءهم و هم أصحاب المعارضة بالحقيقة معترفون بأنّه لا مثل

__________________________________________________

(1) أميّة بن أبي الصلت الشاعر الجاهلي الحكيم لم يوفق للإسلام و مات سنة (5) ه و المراد ببنات الدهر: الحوادث استعارة، و كلمة (من) في الموضعين زائدة لتوكيد الاستغراق، أي لا حافظا لك إلّا اللّه، و لا جابر لك إلّا هو.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 459

له، و إنّما سمّاهم شهداء لأنّهم القائمون لهم بالشهادة، أو لأنّهم يشاهدونهم عند المعاونة، و الشهيد بمعنى المشاهد كالجليس و الأكيل، و يمكن أن يكون الدّعاء للاستظهار و الاستعانة، و للأعم من أمرين بناء على عموم المجاز في

الشهادة أيضا، أو على أن يكون صفة لكنّه على ما قيل حكاية لمعتقدهم الباطل لزيادة التّهكم لا ابتداء خطاب منه تعالى، فانّ الدّعاء غير متعلّق حينئذ بقوله من دون اللّه أصلا، مع أنّ الشرط في إطلاق «دون» التقابل أو التداخل، و من البيّن أنّ قيام الأصنام بالشّهادة أنّهم يشهدون لهم يوم القيامة و القيام بالشهادة في حقّه تعالى أن يقولوا اللّه شاهد على ما نقول، و لا تقابل بينهما حتّى يمنع أحدهما و يثبت الاخر بل الجمع بينهما أظهر بالنّسبة إلى مقاصدهم و لا إخراج إذ لا دخول، لكنّه قد يمنع الشرط المذكور و كذا معنى القيام بها في حقّه، و ان كان الظرف لغوا متعلّقا بأدعوا فالمعنى أدعوا أوليائكم و لا تدعوا أولياءه، بناء على ما سمعت من الإظمار، و يرجّحه أصل التّعلق بالفعل و صراحة إخراجهم من تعلّق الدّعاء بهم، و هو لإقامة الشهادة فيفيد التهكم، و لو قيل لا تستظهروا باللّه فانّه القادر عليه لفات معنى التهكم إلى الأمر بالامتحان لتبيّن العجز مع أنّه لا يصحّ استثناء الباري حينئذ لعدم دخوله في الشهيد بالمعنى المتقدّم، أو أنّ المعنى أدعوا شهداء من البشر، و لا تستشهدوا باللّه و لا تقولوا اللّه يشهد أنّ ما ندّعيه حقّ كما يقوله المبهوت العاجز عن اقامة الحجّة على صحّة دعواه، و فيه تعجيز و تبكيت لهم و بيان لدحوض حجّتهم و انقطاع كلمتهم، و أنّه لم يبق لهم متشبّث غير قولهم: اللّه يشهد إنّا صادقون، و إن كان الشهيد بمعنى الحاضر فالظّرف إمّا متعلّق بالفعل و المعنى أدعوا من يحضركم من دون اللّه أي إلّا اللّه فإنّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 460

أيضا حاضر، و الحاصل

استعينوا بغير اللّه و لا تستعينوا به، و انّا متعلّق بشهدائكم أي حاضرين كائنين من دون اللّه، و يمكن أن يكون دون بمعنى قدّام حيث انّها جهة دانية من الشي ء كما في قول الأعشى «1»:

تريك القذى من دونها و هي دونه

أي تريك القذى قدّامها و هي قدّام القذى.

فالشهيد بالمعنى الأوّل و دون ظرف له لغو، و المعنى: أدعوا الّذين يشهدون لكم بين يدي اللّه للاستظهار بهم في المعارضة لا في أداء الشهادة بين يدي اللّه تعالى، و فيه تهكّم و ترشيح، و من محمولة على التبعيض، لأنّ الشهادة كالجلوس و نحوه يقع في بعض تلك الجملة، أو لأنّ صاحبها في بعضها.

و هذه الوجوه العشرة و إن ذكرت على وجه الاحتمال إلّا أنّ بعضها بمكان من الضّعف و لعلّه لا مانع من الحمل على الجلّ بل الكل بناء على عموم المجاز أو جواز الاستعمال في الجميع مطلقا على ما مرّ غير مرّة أو في خصوص الآيات القرآنية.

تفسير إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

و قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، و المعنى إن كنتم صادقين، أنّه من كلام البشر و أنّ محمّدا تقوّله من تلقاء نفسه إلى آخر ما مرّ عن التفسير أو أنّكم مرتابون في التنزيل أو في المنزل فأتوا بسورة.

و «إن» دخلت هاهنا لغير شك لأنّ اللّه تعالى علم أنّهم مرتابون، و لكنّ اللّه خاطبهم على عادتهم في الخطاب فيستعمل مع العلم بكلّ من الطرفين كما في

__________________________________________________

(1) الأعشى: عامر بن الحارث بن رباح الباهلي شاعر جاهلي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 461

طرفي الآية.

و كما

في قول الصادق عليه السّلام لابن أبي العوجاء: إن كان الأمر كما تقول و هو كما نقول نجونا

و هلكتم و إن كان الأمر كما تقولون و هو ليس كما تقولون كنّا و إيّاكم شرعا سواء و لا يضرّنا ما صلينا و صمنا و زكّينا و أقررنا «1».

و الصدق هو الإخبار المطابق، و قيل: منع اعتقاد المخبر أنّه كذلك، و ستسمع إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في سورة المنافقين.

و الآية دليل على صحة نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و انّ اللّه تعالى تحدّى بالقرآن و ببعضه على ما مرّ التقريب في المقدّمات في باب وجوه اعجاز القرآن.

[سورة البقرة(2): آية 24 ]

اشارة

تفسير الآية (24) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ تقريع و تبكيت و تهكّم و تعجيز و عظة و وعيد و إعجاز بعد إعجاز بوجوه من الإيجاز و ذلك انّه سبحانه لما أرشدهم إلى ما هو قضيّة عقولهم من الجهة الّتي يتعرّفون بها أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به حتّى يعثروا على حقيّته و صدقه و يضطرّهم عقولهم إلى تصديقه بعد النّظر في معجزته و عجزهم من الإتيان بمثلها و لو مع الاستظهار بمن شاء من الانس و الجنّ قال لهم، فإذا لم تعارضوه و ظهر عجزكم جميعا عن الإتيان بشي ء ممّا يساويه أو يدانيه فقد صرّح لكم الحق عن محضه و استدار الصّدق على قطبه و اضطرّكم عقولكم إلى وجوب التصديق به، فاتركوا العصبيّة و جانبوا الحميّة الجاهليّة و آمنوا به و خافوا العذاب المعدّ لمن كذّب فكانّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ص 35 عن الاحتجاج.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 462

سبحانه مرتّب على ذلك الإرشاد تكميلا له شرطيّنين: أحدهما محذوفة الجزاء و الاخرى محذوفة الشرط، و المعنى فإذا لم تعارضوه فقد ظهر

لكم صدقه، و إذا ظهر لكم صدقه فآمنوا به و اتّقوا النّار حيث إنّ الايمان به حينئذ واجب يعاقب تاركه و يثاب فاعله.

لكنّ الأظهر كما قيل إنّ هذا باعتبار تقرير المعنى و بيان الملازمة من دون أن يكون هناك شرط محذوف و ذلك لأنّ كون سبب السبب سببا يكفي في ارتباط المسبّب به بكلمة الشرط من غير إضمار أو حذف، و ليس كلّما كانت الملازمة محتاجة إلى وسط يقدر هنالك حذف، و لذا لم يلتزموا به في قولك كلّما كانت الشّمس طالعة كانت الأرض مستضيئة، بل و كذا لو لم يكن اللازم بيّن التفرع بل كان محتاجا إلى البيان كقولك كلّما كان محدّد الجهات موجودا لزم أن يكون كرويّا.

و عبّر عن الإتيان و ما يتعلّق به بالفعل الّذي ينزل في الأفعال منزلة الضمير في الأسماء إذ مبنى كلّ منهما على الاختصار و دفع التكرار، و هذا فنّ من البلاغة يسمّونه إيجاز القصر حيث وقع الفعل وحده موقع الإتيان بسورة من مثله مع الاستعانة بمن شاءوا و هو أبلغ من حذف متعلّق الإتيان، و أمّا جعله مطلقا كناية عنه مقيّد بما تعلّق به فلا يدفع عنه و صمة التكرار.

ثمّ انّ الفعل لا يقدّر له مفعول أصلا لجعله كناية و عموم معناه لسائر الأفعال و كونه من باب يعطى و يمنع حيث إنّ المراد بهما الغرائز أو مجرّد صدور الفعل كما أنّه قد سيق الخطاب في المقام للاخبار عن نفي القدر و صدّر الشرطيّة «بان» الّذي للشك دون «إذا» الّذي للوجوب مع أنّ المقام يقتضيه نظرا إلى أنّه سبحانه لم يكن شاكّا في عجزهم و لذا اعترض بين الشرط و الجزاء بما يدلّ على تأبيد نفي إتيانهم

بمثله لسوق الكلام معهم على حسب حسبانهم حيث قالوا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا فكانوا على طمعهم في التمكّن من المعارضة متّكئين على ما كانوا عليه من

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 463

الفصاحة و اقتدارهم على أفانين الكلام، و ذلك قبل التأمّل منهم من دون أن ينقطع عن قلوبهم عرق العصبيّة أو تنقشع عن أبصارهم عشوة الجهالة، و للتهكم بهم كما يقول الموثوق بالقوّة الواثق من نفسه بالغلبة إن غلبتك لم أبق عليك، و هو يعلم أنّه غالبه تهكّما به.

و «تَفْعَلُوا» مجزوم بلم لأنّها واجبة الإعمال مختصّة بالمضارع متّصلة بالمعمول، دون حرف الشّرط و لأنّها لمّا دخلت على المضارع صيّرته ماضيا منفيّا فصارت كالجزء منه، و مدخول الشرط هو المنفيّ المعمول فكأنّه قال فان تركتهم الفعل، و لذا ساغ اجتماعهما.

و «لا» و «لن» أختان في نفي المستقبل إلّا أنّ «لن» أبلغ و أدلّ على تأبيد النفي و تأكيده توكيده، و الأقرب أنّه حرف مقتضب للدّلالة على النّفي و الاستقبال، و زعم الفرّاء «1» أن أصله و أصل لم لا فأبدلت الألف ميما في أحدهما و نونا في الأخر، و الخليل «2» في إحدى الروايتين و الكسائي «3» أن أصله لا أن فحذفت الهمزة تخفيفا و الألف للسكون، و للفريقين وجوه ضعيفة، و الأظهر الأشهر ما مرّ، نعم قد أنكر نجم الأئمّة «4» و ابن هشام «5» و صاحب «القاموس» كونه للتّأبيد و التأكيد لفقد الدّليل و لأنّه لو كان للتأبيد لم يقيّد منفيه باليوم في قوله:

__________________________________________________

(1) الفرّاء: يحيى بن زياد بن عبد اللّه بن منظور الديلمي ابو زكرياء النحوي الكوفي ولد سنة (144) ه و مات سنة (207) ه

(2) خليل بن أحمد

الفراهيدي الأديب اللغوي المولود (100) و المتوفى (170).

(3) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد اللّه الكوفي المقرء النحوي اللغوي المتوفي (189) ه

(4) نجم الأئمة محمد بن الحسن الاسترابادي المعروف بالشارح الرضي المتوفى (686) ه

(5) ابن هشام: عبد اللّه بن يوسف المصري النحوي المتوفى (761) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 464

فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا «1»، و لكان ذكر الأبد في قوله وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً «2» تكرارا و الأصل عدمه.

و في الكلّ نظر أما فقد الدّليل فلتصريح جملة من اللّغويين و كثير من المفسّرين كشيخنا الطبرسي في مواضع من مجمعه، و الزمخشري، و الرازي، و البيضاوي، و غيرهم ممّن يعتبر قولهم في تعيين الأوضاع على ذلك و شهادة الإثبات مقدّمة، و لعلّ في التبادر شهادة أخرى أيضا و يدلّ عليه أيضا ما في تفسير الامام عليه السّلام حيث صرّح بالتّأبيد في تفسيره على ما يأتي «3».

و أمّا الآية الأولى فاليوم قرينة على نفي التأبيد، و ان أفاد التأكيد أيضا، و نظيره في الإثبات زيد قائم و انّ زيدا قائم.

و أمّا الثانية فمن البيّن أنّه ليس تكرارا بلفظه و لا بمرادفه بل دلّ بالمطابقة على ما يفهم بغيرها دفعا لاستبعاد نفي تمنّي الموت على جهة التأبيد.

فان قلت: إنّ حاصل الشرطيّة تعليق الأمر بالاتّقاء و إيجابه على العجز عن الفعل الّذي هو الإتيان بسورة من مثله فيما مضى و فيما يأتي و انّى لهم العلم بذلك حتّى يتنجّز عليهم وجوب الإيمان بل لا يكفي مجرّد العلم لمغايرته لأبديّة نفي الفعل الّذي هو الشرط.

قلت من البيّن أنّ قوله: لَنْ تَفْعَلُوا معترضة بين الشرط و الجزاء فالجملة الأولى هي الشرط، و هو كاف في الحجّة عليهم

مضافا إلى ما ظهر عنهم من أنّه ليس في قوّة البشر الإتيان بشي ء من مثله أبد الدّهر، فكانت الجملة الثانية تعبير عن

__________________________________________________

(1) مريم: 26.

(2) البقرة: 95.

(3) تفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السّلام ص 154.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 465

انتفاء القدرة الّتي هي الأصل في الفعليّة، و لذا كان يتحداهم بقوله: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1».

و وضع الأمر بالاتقاء موضع الأمر بالإيمان و ترك العناد بعد ما صحّ عندهم صدق النّبي صلّى اللّه عليه و آله يتبيّن عجزهم عن المعارضة ايجازا و تهويلا لشأن العناد و تصريحا بالوعيد الّذي هو أنسب بالمقام و انجازا له حيث طوى ذكر الوسائط بين ترك الفعل و اتّقاء العذاب تنبيها على أنّهم من أهله و مستحقّوه.

و تعريف النّار للاشارة إلى الحقيقة الّتي تجمع الأوصاف المعهودة المعلومة فضلا عن المذكورة في المقام.

و أمّا ما يقال: من أنّه نزلت بمكة الآية الّتي في سورة التحريم و فيها ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ «2» فعرفوا فيها نارا موصوفة بهذه الصفة ثمّ نزلت هذه بالمدينة مشارا بها إلى ما عرفوه أولا «3».

ففيه مع الغضّ من كون ما في التحريم خطابا للمؤمنين و هذه للكفّار أنّ سورة التحريم مدنيّة اتفاقا، و خروج الآية عنها بعيد جدّا، و ما صحّحوه عن ابن عباس و غيره يقتضي عكس ما ذكروه في المقام.

قال الإمام عليه السّلام في تفسير الآية فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هذا الّذي تحدّيتكم به وَ لَنْ تَفْعَلُوا أي و لا يكون ذلك منكم و لا تقدرون عليه، فاعلموا أنّكم مبطلون، و أنّ محمّدا صلّى اللّه

عليه و آله الصّادق الأمين المخصوص برسالة ربّ العالمين، المؤيّد بالروح

__________________________________________________

(1) الإسراء: 88.

(2) التحريم: 6.

(3) قاله الزمخشري في الكشّاف ج 1 ص 102.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 466

الأمين، و بأخيه أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين، فصدّقوه فيما يخبركم به عن اللّه تعالى من أوامره و نواهيه و فيما يذكره من فضل عليّ عليه السّلام وصيّه و أخيه فَاتَّقُوا بذلك عذاب النّار الَّتِي وَقُودُهَا و حطبها النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ حجارة الكبريت أشدّ الأشياء حرّا أُعِدَّتْ تلك النّار «لِلْكافِرِينَ» بمحمّد و الشاكّين في نبوّته و الدّافعين لحقّ أخيه عليّ و الجاحدين لإمامته «1».

و توصيف النّار بأنّ وقودها الناس و الحجارة للمبالغة في الزّجر و التخويف بتهويل صفتها و تفظيع أمرها و تفاقم لهبها.

و قال عليه السّلام في موضع آخر فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي إن لم تأتوا يا أيّها المقرّعون بحجّة ربّ العالمين وَ لَنْ تَفْعَلُوا أي و لا يكون ذلك منكم أبدا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ توقد فتكون عذابا على أهلها أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ المكذّبين بكلامه و بنبيّه، النّاصبين العداوة لوليّه و وصيّه، قال فاعلموا بعجزكم عن ذلك أنّه من قبل اللّه و لو كان من قبل خلق اللّه لقدرتم على معارضته فلمّا عجزوا بعد التّقريع و التحدّي قال اللّه قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «2» «3».

و ما يقال من أنّ صلة الموصول أو خصوص الّذي و الّتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب، و هؤلاء المكذّبون للنّبي بل المنكرون للمعاد كيف علموا أنّ نار الآخرة توقد بالنّاس و الحجارة.

ففيه أنّه قد مرّ المنع

عن ذلك مع أنّهم كانوا ممّن تمّت عليهم الحجّة و حقّت

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام عليه السّلام ص 201- 202.

(2) الإسراء: 88.

(3) تفسير الامام عليه السّلام ص 154 و عنه البحار ج 8 ص 299 ح 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 467

عليهم الكلمة وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1» فإذا سمعوا بمثل هذه الآية تتلى عليهم حصل لهم العلم بما تضمّنته من الوعيد الشّديد و التهويل الفظيع مثل ما يحصل من تذكار من كان له علم سابق بذلك بل و أعظم و أفظع.

مضافا إلى ما قد يجاب من أنّه لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب أو سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو سمعوا قبل هذه الآية قوله في سورة التّحريم ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ «2» و الوقود بالفتح ما يوقد به النّار من حطب و غيره كالوضوء بالفتح لما يتوضأ به، و قد يجي ء مصدرا لكن الأغلب فيه على ما صرح به سيبويه و غيره الضم و قرأ به عيسى بن عمر الهمداني «3» على ما في «الكشاف» «4»، و غيره بل في «القاموس» بعد تفسير الوقد محرّكة و ساكنة و الوقود بالضم و الفتح بالنار و اتقادها: أنّ الوقود كصبور: الحطب كالوقاد و الوقيد و قرء بهنّ.

لكنه لا يخفى أن الثلاثة من الشواذ مضافا الى ضعف الراوي و المروي عنه، و عموم قوله عليه السّلام «اقرءوا كما يقرأ الناس» «5» منصرف عن مثله، فلا حاجة إلى التكلّف لتصحيحه باستعماله بمعنى المفعول مجازا لغويّا بأن يراد به ما يتوقد به كما يراد بفخر قومه ما يفتخرون به، و بزين

بلده ما يتزيّن به بلده، أو بالتزام التجوّز في الإسناد كما في قولك: حياة المصباح السليط، أي الزيت الجيّد، أو بحذف مضاف

__________________________________________________

(1) النمل: 14.

(2) التحريم: 6.

(3) هو عيسى بن عمر ابو عمر الهمداني الكوفي القارئ الأعمى المتوفى (156)- غاية النهاية ج 1 ص 612.

(4) الكشاف ج 1 ص 250 قال: و قرأ عيسى بن عمر الهمداني بالضم (أي بضم الواو) تسمية بالمصدر كما يقال: فلان فخر قومه و زين بلده.

(5) وسائل الشيعة ج 6 ص 163 ح 7630 و فيه: «اقرأ كما يقرأها الناس حتى يقوم القائم».

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 468

أي وقودها احتراق الناس و الحجارة.

نعم على القراءة المشهورة يحتمل المصدريّة على أحد الوجهين لكنّه مدفوع بالمرجوحيّة و بنص الإمام عليه السّلام في تفسيره على ما مرّ «1».

و الحجارة جمع حجر، و هي الصخرة و الذهب، و الفضة، و الرمل، و تجمع على أحجار، و أحجر، و حجارة، و حجار، و لعلّ هذه المادة مأخوذ فيها الامتناع و التصلب، فالحجر بالكسر، العقل المانع عن ارتكاب القبائح، و المحجور عليه هو الممنوع عن التصرف، و هو في حجره: في كنفه و حمايته و منعته، بل المناسبة أيضا ظاهرة في اطلاق الحجر على القرابة، و الحرام، و الحجرة على البيت، و الحجر على الصخرة و استحجار الطين على تصلّبه.

و المراد بها في المقام على ما مرّ في كلام الإمام عليه السّلام «2» حجارة الكبريت.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام لقد مررنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بجبل و إذا الدّموع تسيل من بعضه، فقال له ما يبكيك يا جبل فقال يا رسول اللّه كان

المسيح مرّ بي و هو يخوّف الناس بنار وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ فأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة قال صلّى اللّه عليه و آله لا تخف تلك حجارة الكبريت فقرّ الجبل و سكن و هدأ «3».

و في «البصائر» بالإسناد عن ابراهيم بن عبد الكريم الانصاري «4»

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل هو و سهل بن حنيف و خالد بن أيّوب الانصاري حائطا من حيطان

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام عن علي بن الحسين عليه السّلام ص 202.

(2) تفسير الإمام عليه السّلام ص 202.

(3) البحار ج 10 ص 40 عن الاحتجاج ص 111- 120.

(4) في البحار: عبد الأكرم الانصاري.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 469

بني النّجار، فلمّا دخل ناداه حجر على رأس بئر لهم عليها السواني «1» يصيح عليك السّلام يا محمّد اشفع إلى ربّك أن لا يجعلني من حجارة جهنّم الّتي يعذّب بها الكفرة، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و رفع يديه: اللّهم لا تجعل هذا الحجر من أحجار جهنّم ثمّ ناداه الرمل، السّلام عليك يا محمّد و رحمة اللّه و بركاته، أدع اللّه ربّك أن لا يجعلني من كبريت جهنّم فرفع النّبي صلّى اللّه عليه و آله يده و قال اللّهم لا تجعل هذا الرّمل من كبريت جهنم «2» الخبر.

و في الخرائج من معجزاته صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا غزا تبوك كان معه من المسلمين خمسة و عشرون ألفا سوى خدمهم فمرّ صلّى اللّه عليه و آله في مسيره بجبل يرشح من أعلاه إلى أسفله من غير سيلان قالوا ما أعجب رشح هذا الجبل فقال صلّى اللّه عليه و آله أنّه يبكي قالوا

و الجبل يبكي؟ قال صلّى اللّه عليه و آله أ تحبون أن تعلموا ذلك؟ قالوا: نعم، قال عليها السّلام: أيّها الجبل ممّ بكاؤك فأجابه الجبل و قد سمعه الجماعة بلسان فصيح يا رسول اللّه مرّ بي عيسى بن مريم و هو يتلو نار وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ، فانّي أبكي منذ ذلك اليوم خوفا من أن أكون من تلك الحجارة، فقال صلّى اللّه عليه و آله اسكن مكانك فلست منها، إنّما تلك الحجارة في حجارة الكبريت فجفّ ذلك الرّشح من الجبل في الوقت حتّى لم ير شي ء من ذلك الرّشح و من تلك الرّطوبة الّتي كانت «3».

و هذا التفسير حكاه شيخنا الطبرسي عن ابن مسعود و ابن عباس «4» و أمّا ما ذكره الزمخشري و تبعه الرّازي و القاضي من أنّه تخصيص بغير دليل و ذهاب عمّا هو

__________________________________________________

(1) السواني جمع السانية: الساقية أو الناعورة.

(2) بحار الأنوار ج 17 ص 374 عن البصائر ص 148.

(3) البحار ج 8 ص 297 ح 5 عن الخرائج ص 16.

(4) مجمع البيان ج 1 ص 138.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 470

المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل «1» بل علّل الأخير كونه إبطالا للمقصود بأنّ الغرض تهويل شأنها و تفاقم لهبها بحيث تتّقد بما لا يتّقد به غيرها، و الكبريت تتّقد به كلّ نار و إن ضعفت فإن صحّ هذا عن ابن عباس فلعلّه عنى به أنّ الأحجار كلّها لتلك النّار كحجارة الكبريت لسائر النّيران «2».

ففيه أنّ ضعف الوجهين واضح، أمّا الأوّل فلصحّة النقل من طرقنا بل و من طريق من خالفنا فإنّهم حكوه في تفسير الآية عن ابن مسعود كما رواه عنه الطبراني و الحاكم

و البيهقي و غيرهم و عن ابن عباس كما رواه ابن جرير «3» و غيره.

و أمّا الثاني فلأنّ حجارة الكبريت أشدّ حرّا و ضرّا و أسرع وقودا و أبطأ خمودا و أكثر التهابا و أفظع ايلاما، و تزيد على غيرها من الأحجار بشدّة نتن الرّيح و السيلان على الأبدان و الالتصاق بها و الإحاطة عليها بحرارتها المنضمّة إلى حرارة النّار فهي نار جامدة إذا مسّتها النّار ذابت نارا، ألا ترى أنّ الرّيح إذا هبّت على بعض الجبال الكبريتيّة عادت سموما كالحميم، ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ «4».

على أنّ ما استفادوه من الحصر و الاختصاص ممنوع بل هو على فرضه ملحوظ باعتبار آخر، و هو صيرورة الأحجار كبريتا في جهنّم كما يومئ إليه «خبر البصائر» في دعائه صلّى اللّه عليه و آله للرّمل أن لا يجعله اللّه من كبريت جهنم «5»، و لذا نقول إنّها تشمل الأصنام المتّخذة من الحجارة، بل المتّخذ من المعادن و الفلزات و غيرها بناء

__________________________________________________

(1) الكشاف ج 1 ص 252.

(2) تفسير البيضاوي ج 1 ص 58.

(3) تفسير الطبري ج 1 ص 193- 194.

(4) الذاريات: 42.

(5) البصائر: 148.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 471

على أنّها لا تسمع و لا تبصر و لا تنفع و لا تضرّ فهي كالأحجار.

و إنّما قرن الناس بالحجارة و معهم وقودا لأنّهم قرنوا بها أنفسهم في الدّنيا حيث نحتوها أصناما و جعلوها للّه أندادا، و عبدوها من دونه، و جعلوها شفعاء له و شهداء عليهم، استجلبوا بها المسار، و استدفعوا بها المضار فقرنها اللّه معهم في عذاب النّار كما قال: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1»

فكان هذه الآية مفسّرة لما نحن فيه على بعض الوجوه فقوله: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في معنى الناس و الحجارة و حَصَبُ جَهَنَّمَ في معنى وقودها فعذّبوا بما هو منشأ جرمهم إبلاغا في إيلامهم و إغراقا في تحسيرهم حيث عاد نفعها عليهم ضرّا و خيرها عليهم شرّا كما عذّب الكافرون بما كنزوه من الذّهب و الفضّة الّتي شحّوا بها، و منعوها عن حقوقها و جعلوها عدّة و ذخيرة ليوم فاقتهم، فعادت عليهم، و بالا و نكالا يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «2».

و من هنا يظهر الوجه فيما يقال من تفسير الحجارة في المقام بالجوهرين اللذين قد سمعت اطلاق الحجر عليهما كما صرّح به في «القاموس» و غيره.

فهذه أقوال ثلاثة لا تمانع من إرادتها جميعا.

و أمّا ما يقال من أنّ المراد أنّ أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة الّتي توقد بها النّار بتبقية اللّه إيّاها، و ربّما يؤيّد بقوله: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ «3» الآية،

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 98.

(2) التوبة:، 35.

(3) النساء: 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 472

أو أنّهم يعذّبون بالحجارة المحماة بالنّار، أو أنّ المراد بذكر الحجارة الإشعار على عظم تلك النّار، لأنّها لا تأكل الحجارة إلّا و هي في غاية الفظاعة و الهول، أو أنّ المراد بالنّاس حدود الإنسانيّة و بالحجارة حدود الجسمانيّة، فالمعنى أنّ ما بين الحدّين داخل في وقودها، لانحطاطهم عمّا خلقوا لأجله، و تردّدهم بين الحدّين، فالخطب فيها هيّن بعد رجوع بعضها إلى ما مرّ و مخالفة غيره لظاهر القرآن و الخبر، نعم يمكن أن يقال بعد النّظر إلى ما مرّ

من الكلام في مادّة الحجر أنّ المراد بالحجارة في تفسير الباطن هي القلوب القاسية الّتي هي للمنافقين و الكفار و المشركين فإنّ قلوبهم في الحقيقة حجارة جامدة من نار تصلّبت بطبخ حرارة النّار، و رطوبة الحميم في جحيم العناد و العصيان، و إليه الإشارة بقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «1» و لذا قيل إنّ المشبّه عين المشبّه به في القرآن على ما ستسمع عليه البرهان في موضع آخر، فمعنى الآية فهي الحجارة بل أشدّ قسوة منها،

و قد روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان قاعدا مع أصحابه في المسجد فسمعوا هدّة عظيمة فارتاعوا فقال صلّى اللّه عليه و آله أ تعرفون ما هذه الهدّة؟ قالوا اللّه و رسوله أعلم قال صلّى اللّه عليه و آله: حجر ألقي في أعلى جهنّم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها، و سقوطه فيها هذه الهدّة، فما فرغ من كلامه إلّا و الصّراخ في دار منافق من المنافقين قد مات و كان عمره سبعين سنة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اللّه اكبر، فعلمت الصّحابة أنّ هذا الحجر هو ذلك و أنّه منذ خلقه اللّه تعالى يهوي في جهنّم فلمّا مات حصل في قعرها قال اللّه تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «2».

و روي أيضا ما معناه أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله كان يرعى الغنم قبل النّبوة فسمع هدّة

__________________________________________________

(1) البقرة: 74.

(2) النساء: 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 473

عظيمة و جفلت الغنم، و لمّا نزل عليه جبرئيل عليه السّلام بعد النبوة سأله عن تلك الهدّة فقال: هذه صوت وقع صخرة ألقيتها

في جهنّم منذ سبعين سنة، و الآن وصلت إلى قعر جهنّم و أخبر عليه السّلام أنّه يهوديّ مات و عمره سبعون سنة «1».

و في «العيون» في حديث المعراج انّه صلّى اللّه عليه و آله قال ثمّ سمعت صوتا أفزعني فقال لي جبرئيل أ تسمع يا محمّد؟ قلت نعم: قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنّم منذ سبعين عاما، فهذا حين استقرّت، قالوا: فما ضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى قبض «2».

قال بعض المحقّقين: إنّما كان لسقوط ذلك المنافق تلك الهدّة لسرعة ذلك الهويّ بسبب قوّة ميل إنيّته و طبيعته إلى معاصي اللّه الكبائر الّتي هي ثمرات النّار و سخط الجبّار بما هي عليه من العذاب، و إنّما كان سريع الهويّ لثقل إنيّته، و إنّما ثقلت إنيّته لخلوصها في إرادة المعاصي و تبذخه بها و عدم التفات نفسه إلى اللّه و إلى جهة طاعته فلهذا كان بغفلته و انهما كه في معاصيه حجرا ثقيلا لاجتماع مشاعره في جهات المعاصي، فيميل بماله من درجات الثّقل التّطبعي الى مركزه من السّجين ثمّ قال اشارة إلى الأخبار الثلاثة المتقدّمة، فهذه ثلاثة أحاديث وردت في ثلاثة أوقات متباينة ظاهرا و في نفس الأمر كلّها حكاية عن واقعة واحدة سمعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وقت واحد قبل البعثة و بعد البعثة و في ليلة المعراج قبل أن يصل السّماء الدّنيا، فانظر إلى هذا الفعل الرّبوبي كيف شهد كلّ شي ء ممّا كان و ممّا يكون منذ خلق اللّه القلم الّذي هو عقل الكلّ إلى ما لا نهاية له فيما يكون كلّ شي ء في وقته بل و ما قبل العقل بما لا يكاد يتناهى لأنّه حين

كان في مقام قاب قوسين في عروجه أشهده

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 291 عن تفسير القمي ص 369.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 291 عن تفسير القمي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 474

العقل حين خلقه اللّه و انهى إليه علمه ثمّ كان حين كان في مقام أو أدنى أي بل أدنى أشهده خلق نفسه و عرّفه إيّاها فهنالك عرف ربّه و بالجملة أشهده تعالى ليلة المعراج كلّ شي ء في أوّل وقت كونه إلى آخر انتهائه و انهى إليه علمه من جميع ما كانت و ما يكون ممّا هو محتوم الكون من الدّنيا و الآخرة إلّا أنّه في جريتين كما أشار صلّى اللّه عليه و آله في حديث العيون المذكور في المعراج قال في شأن البراق حين سار عليها ليلة المعراج فلو أن اللّه تعالى اذن لها لجالت الدّنيا و الآخرة في جرية واحدة فلمّا لم يأذن لها إلّا في جريتين جالت الدنيا في جرية و الآخرة في جرية فافهم الإشارة.

و قوله: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ صلة بعد صلة بلا عاطف على قياس ما يقع في الأخبار و الصّفات، و فيه تسجيل على كفرهم، و تنبيه على أنّ النّار الممتازة عن غيرها بأنّها تتّقد و تشتدّ لهبها بالنّاس و الحجارة معدّة لهم، فانّها جعلت عدّة لعذابهم.

أو استيناف و لو بمعونة أن عطف عليه (و بشّر) مبنيّا للمفعول على قراءة زيد، أو حال لازمة بإضمار (قد) من النّار، لا من ضمير وَقُودُهَا، و لو على المصدريّة لحصول الفصل بين الحال و صاحبها بالأجنبي، الّذي هو الخبر، بخلاف الفاصل بينهما على الأوّل لأنّه صفة لصاحب الحال، و الأجود الأوّل.

و قرئ أعتدت بالبناء للمفعول من العتاد بمعنى

العدّة قال «في القاموس» العتيد الحاضر المهيّأ، و المعتد كمكرم المعدّ و قد عتد ككرم عتادة و عتادا.

في أنّ نار جهنّم مخلوقة

و في الآية دلالة على أنّ النّار مخلوقة معدّة لهم حين نزول القرآن كما عليه جمهور المسلمين إلّا شرذمة من المعتزلة فانّهم يقولون سيخلقان في القيامة، و لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 475

ينبغي الالتفات إليه بعد ظهور إجماع الاماميّة على ما سمعت، بل لا يبعد دعوى كونه ضروريّا عندهم و نسبة الخلاف إلى السيّد الرّضي رضى اللّه عنه غير ثابتة مضافا إلى ظواهر الآيات الكثيرة كقوله في حقّ الجنّة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ «1» أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ «2» وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «3» وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* «4» و في حق النار أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ «5» وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ «6».

و حملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحقّقه مثل وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ «7» وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «8» خلاف الظاهر الّذي هو الحجّة حتى في فروع الأصول، فلا يصار إليه إلّا بالقرينة.

و أمّا قصة آدم و حوّاء و إسكانهما الجنّة ثمّ إخراجهما عنها بأكل الشجرة و كونهما يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ* على ما نطق به الكتاب و السّنة فلا دلالة فيها عليه بعد استفاضة الاخبار بأنّ تلك الجنة كانت من جنان الدّنيا و أنّها من الجنّتين المدهامّتين، و أنّ من دخل جنّة الخلد لا يخرج منها أبدا، و لذا وسوس إليه

__________________________________________________

(1) آل عمران: 133.

(2) الحديد: 21.

(3) النجم: 13.

(4) الشعراء: 90.

(5) البقرة: 24 و آل عمران: 131.

(6) الشعراء: 91.

(7) يس: 51.

(8) الأعراف: 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 476

الشيطان بقوله: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى «1» نعم قد تكاثرت الأخبار بل تواترت على ما ذكرناه من سبق خلقهما

كالأخبار الكثيرة الدالّة على أنّه لمّا أسري به إلى السّماء دخل الجنة فرأى كذا و كذا من الحور و القصور و الولدان و الغلمان و انّه رأى على بابها مكتوبا بالذّهب: لا إلّا اللّه، محمّد حبيب اللّه، عليّ وليّ اللّه فاطمة أمة اللّه، الحسن و الحسين صفوة اللّه، على مبغضيهم لعنة اللّه «2».

و في تفسير النعماني و القمّي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: و أمّا الرّد على من أنكر خلق الجنّة و النّار فقوله تعالى: عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «3» أي عند سدرة المنتهى «4» و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخلت الجنّة فرأيت فيها قصرا من ياقوت أحمر يرى داخله من خارجه و خارجه من داخله من نوره فقلت يا جبرئيل لمن هذا القصر قال لمن أطاب الكلام و ادام القيام و أطعم الصّيام، و تهجّد باللّيل و الناس نيام «5».

و قال لمّا أسري بي إلى السّماء دخلت الجنّة فرأيت فيها قيعانا «6» و رأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب و لبنة من فضة، و ربما أمسكوا، فقلت لهم: ما بالكم قد أمسكتم، فقالوا: حتى تجيئنا النفقة فقلت: و ما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن: سبحان

__________________________________________________

(1) طه: 120.

(2) الخصال ج 1 ص 157 و عنه البحار ج 8 ص 191 ح 167.

(3) النجم: 15.

(4) تفسير القمي ص 652 و عنه البحار ج 8 ص 133.

(5) امالي الطوسي ص 293 مع تفاوت يسير

و عنه البحار ج 8 ص 190 ح 164 ح و عن تفسير النعماني في ص 176 ح 129.

(6) القيعان: جمع القاع: أرض سهلة مطمئنّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 477

اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإذا أمسك أمسكنا «1».

و قال صلّى اللّه عليه و آله لمّا أسرى بي ربي إلى سبع سماواته أخذ جبرئيل بيدي و أدخلني الجنّة و اجلسني على درنوك من درانيك الجنّة و ناولني سفر جلة، فانفلقت نصفين و خرجت منها حوراء فقامت بين يديّ و قالت: السّلام عليك يا أحمد السّلام عليك يا رسول اللّه فقلت: و عليك السّلام من أنت فقالت: أنا الرّاضية المرضيّة خلقني الجبار من ثلاثة أنواع: أعلاي من الكافور، و وسطي من العنبر، و اسفلي من المسك، و عجنت بماء الحيوان، قال لي ربّي: كوني فكنت لأخيك و وصيّك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ثمّ قال عليه السّلام و هذا و مثله دليل على خلق الجنّة و بالعكس من ذلك الكلام في النّار «2».

و في «التوحيد» و «الأمالي» و «العيون» عن الهروي قال: قلت للرّضا عليه السّلام:

أخبرني عن الجنّة و النّار أ هما اليوم مخلوقتان، فقال: نعم، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد دخل الجنّة و رأى النّار لمّا عرج به إلى السّماء، قال: فقلت له: فإنّ قوما يقولون:

إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين، فقال عليه السّلام: ما أولئك منّا «3» و لا نحن منهم، من أنكر خلق الجنّة و النّار فقد كذّب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و كذّبنا، و ليس من ولايتنا على شي ء و خلّد في نار جهنّم، قال اللّه عزّ

و جل: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «4» «5».

أقول و الأخبار بمثله كثيرة جدّا، و في أخبار كثيرة أنّه صلّى اللّه عليه و آله رأى ليلة أسري به

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 177 عن تفسير النعماني.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 177 و فيه: قالت: السّلام عليك يا محمّد، السّلام عليك يا أحمد، السّلام عليك يا رسول اللّه.

(3) لا هم منّا.

(4) الرّحمن: 43- 44.

(5) بحار الأنوار ج 8 ص 119 عن التوحيد و الأمالي و العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 478

إلى السّماء نساء معذّبات في النّار من شأنهنّ كذا و كذا «1».

و حملها على ارتفاع الزمان عنده لدخوله حينئذ في صقع الملكوت، فكان الزمان بطرفيه من الماضي و المستقبل حالا بالنّسبة إليه، و لذا ورد أنّه رأى كذا و كذا و إن لم يقع إلّا بعد انقضاء الزّمان و حشر الأبدان، مخالف لصريح ما يستفاد من تلك الأخبار بل هو جرأة على ردّ النصوص و الإنكار على أهل الخصوص، و ما المانع عن التّصديق به بعد دلالة قواطع الأدلّة عليه.

بل

قد ورد أنّ هذه النّار الدّنيويّة من نار جهنّم، و ذلك أنّ آدم على نبيّنا و آله و عليه السّلام لمّا هبط من الجنّة إلى الأرض هو و حوّاء احتاجا الى نار لينتفعا بها في عمل طعامهم و غيره فنزل جبرئيل و أخذ من نار جهنّم جذوة فغسلها في نهر الكوثر سبعين مرّة. و في رواية وضعها في الكوثر سبعين سنة و لو لا ذلك لأحرقت الأرض و من عليها.

و لذا قال الصادق عليه السّلام فيما رواه القمي و غيره

أنّ ناركم هذه جزء من نار جهنّم و قد اطفأت سبعين مرّة بالماء ثمّ التهبت و لو لا ذلك ما استطاع آدميّ أن يطفأها و أنّها ليؤتى بها يوم القيامة حتى توضع في النّار فتصرخ صرخة لا يبقى ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلا جثى على ركبتيه فزعا من صرختها «2».

ثمّ أعلم أنّ التحدّي بالقرآن قد جاء فيه على وجوه متدرّجة إلى الأدنى كقوله: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى «3» و قوله: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «4» و قوله:

__________________________________________________

(1) راجع البحار ج 8 ص 309 فيه حديث مفصّل عن العيون ص 184- 185.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 288 عن تفسير القمي.

(3) القصص: 49.

(4) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 479

قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «1»، و قوله: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «2».

و نظير هذا من يتحدّى صاحبه بتصنيفه فيقول: ائتني بخير منه، ائتني بمثله، أو بعشرة، أو بمسألة منه، و هذا هو الغاية في التحدّي و ازاحة العلّة، سواء كان ذلك من جهة الفصاحة أو الصّرفة أو الأعم من الوجهين، أو غيرهما من الوجوه الّتي مرّت إليها الإشارة في المقدّمات.

دليل اعجاز القرآن

ثمّ أنّه قد يقرّر الدّلالة في هاتين الآيتين على الإعجاز من وجوه:- أحدها: أن العرب مع ما كانوا عليه من الحميّة و الانفة و العداوة الشديدة لرسول صلّى اللّه عليه و آله و الجهد الأكيد و الحرص الشّديد في إبطال أمره و اطفاء نوره قد حداهم بالتّقريع و التّهديد و تعليق الوعيد على العجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، فعجزوا عن آخرهم مع كثرتهم

و فصاحتهم عن الإتيان به حتى التجأوا إلى مفارقة الأوطان و بذل المهج و سبي الذراري و النّساء و لم يأتوا بشي ء من مثله.

ثانيها: أنّه يتضمّن الأخبار عن الغيب على ما هو به فانّهم لو عارضوه بشي ء في عصر من الأعصار لامتنع خفاؤها عادة مع توفّر الدّواعي و اجتماع الهمم و تصلّب أهل الباطل في النّقض عليه في كلّ عصر.

ثالثها: أنّه عليه السّلام لو لم يكن قاطعا بصحّة نبوّته لما قطع في الإخبار بأنّهم لا يأتون بمثله مخافة أن يعارض و لو في عصر من الأعصار المتأخّرة فتصبح حجّته

__________________________________________________

(1) هود: 13.

(2) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 480

داحضة.

رابعها: أنه صلّى اللّه عليه و آله و إن كان متّهما عندهم فيما يتعلّق بالنّبوة فلقد كان معروفا عندهم بالأمانة و حصافة العقل و سداد الرأي و حسن النظر في العواقب فلو تطرقت التّهمة إلى ما ادّعاه من النّبوة لمّا استجاز أن يتحداهم و يبلغ في التحدّي إلى نهايته، بل كان خائفا و جلا من و خامة العاقبة فيظهر منه أنّه كان عالما بعجزهم عن ذلك إلى غابر الدّهر و لذا حملهم على المعارضة بأبلغ الطّرق و الأخيران كما ترى ثمّ أنّه قد يستدلّ بهذه الآية و نحوها على بطلان القول بالجبر و فساده في نفسه أظهر من أن يستدلّ عليه بالظّواهر.

[سورة البقرة(2): آية 25 ]

اشارة

تفسير الآية (25) وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جرت عادته سبحانه و هو اللّطيف الرّحيم في كتابه الكريم أن يلطف بعباده و يدعوهم الى ما يقربهم إليه و الناس و إن كانوا في ايمانهم على درجات شتى و مراتب لا تحصى، فمنهم من يعبده حياء أو شكرا أو تأهّلا أو

ترقّيا أو استلذاذا أو غير ذلك إلّا أنّ العامة لو لم نقل الكافّة يجمعهم الخوف و الرّجاء، و لذا تراه سبحانه شفّع التّرهيب بالتّرغيب و ذكر الإنذار مع الإبشار، و لمّا ساق الكلام في التّهديد و الوعيد على تاركي العبادة و منكري التّوحيد و النبوّة و الولاية و أنذرهم بالعقوبة الفظيعة على الأعمال الشّنيعة عقّبه ببشارة من كان من أهل البشرى، و هم الّذين يتقرّبون إليه زلفى، بالعلم النّافع و العمل الصّالح كما قال: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «1» و المأمور بقوله: بشّر هو النّبي صلّى اللّه عليه و آله فإنّه هو

__________________________________________________

(1) الزمر: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 481

المتحمل لأعباء الرسالة المخاطب بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً «1» ثمّ أوصياؤه المعصومون الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا فإنّهم الدعاة إلى اللّه، و الأدلّاء على مرضاة اللّه و المظهرين لأمر اللّه و نهيه، و عباده المكرمين الّذين لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، ثمّ خلفاؤهم و نوّابهم الذين هم مستودع علمهم و مشكاة أنوارهم في سائر القرون و الأعصار و هم القرى الظّاهرة الذين جعلهم اللّه تعالى وسائط بين الناس و بين القرى المباركة صلوات اللّه عليهم أجمعين ثمّ سائر المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

و شمول الخطاب للجميع باعتبار الأصالة و التبعيّة لظهور عموم نبوته، و توقّف التبليغ إلى الكلّ على تلك الوسائط و غيرها، فهو المبلّغ في الحقيقة و المبشّر المنذر بجميع الخليفة فإذا قال أحد لغيره: بشّر المشّائين إلى المساجد في ظلم اللّيالي بالنّور الساطع

يوم القيامة فكأنّه هو المبشّر لكلّ من بلغه هذا الخطاب كما أنّه هو المبلغ لسائر الأحكام بعد قوله: فليبلغ الشاهد الغائب.

و أمّا ما يقال من أنّ توجيه الخطاب إلى كلّ أحد أحسن و أجزل لأنّه يؤذن بأنّ الأمر لعظمه و فخامة شأنه محقوق بأن يبشّر به كلّ من قدر على البشارة به «2».

ففيه أنّه يكفي في فخامة الأمر كونه ممّا صدع لتبليغه خاتم النّبيين و سيّد المرسلين من وحي ربّ العالمين.

و لعلّ النكتة في توجيه الخطاب بالإبشار إليه دون الإنذار المتقدّم مع أنّه البشير النّذير أنّ هؤلاء إنّما بشّروا بما بشّروا به لإيمانهم بالنّبي صلّى اللّه عليه و آله و تصديقهم له

__________________________________________________

(1) سبأ: 28.

(2) قال الزمخشري في الكشّاف ج 1 ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 482

في نبوّته و فيما جاء به من اللّه سبحانه، فلمّا جعلوه واسطة في إيصال الفيوض الإلهيّة و تبليغ الشّرائع الدّينيّة بشّروا من جهة توسّلهم به و انقطاعهم إلى تصديقه، و أمّا من لم يصدّقه في حياطته و وساطته فالأنسب بحاله أن يجاهر بالتوبيخ و التّهديد و الوعيد الشّديد من دون أن يجعل ذلك من جهة وساطته، و لذا عطف القصّة على القصّة من جهة تناسبها في جهة الإبشار و الإنذار المتعلّقين بطرفي مطلوب واحد من دون اعتبار آحاد الجمل الواقعة فيها إذ المعتبر في عطف الجمل المسوقة لغرض على الجمل المسوقة لأخر إنّما هو التناسب بين القصّتين لا بين جمل القصّتين، و ذلك نظير ما يقال في عطف المفرد في مثل قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ «1» أنّ الواو الوسطى، لعطف مجموع الصّفتين الأخريين على مجموع الأولين، فلو اعتبرت عطف كلّ

مفرد بالاستقلال لانتفى التناسب بينهما.

و من هنا يظهر أنّه ليس عطفا على خصوص قوله «فَاتَّقُوا» حتّى يقال، إنّه جواب للشرط فمع العطف يكون التّقدير فإن لم تفعلوا فبشّر الذين آمنوا و لا ارتباط بينهما، و إن عطف الأمر لمخاطب على الأمر لمخاطب آخر انّما يحسن إذا صرح بالنداء و أما بدون التصريح به فقد منعه النحاة نعم قد يقال: الربط حاصل و المخاطب متّحد، و ذلك لأنّ المعنى فاتّقوا النّار و اتّقوا ما يغيظكم من غبطة أعدائكم و هم المؤمنون، فأقيم وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «2» ليدلّ على أنّه مقصود لذاته أيضا لا لمجرّد غيظهم.

و فيه أنّ المنساق من الآية مقابلة الإنذار بالإبشار لا الإشعار على ما يغيظ

__________________________________________________

(1) الحديد: 3.

(2) الحديد: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 483

الكفّار، بل لعلّ الاولى ما سمعت أنّه من عطف القصّة على الأخرى، فلا داعي أيضا إلى التكلّف بتضمين الخبر معنى الإنشاء أو العكس، أو تقدير «قل» قبل «يا أَيُّهَا النَّاسُ» أي قل كذا و كذا و بشّر المؤمنين على ما هو المحكي عن صاحب «المفتاح» «1» أو تقدير جملة بعد «أُعِدَّتْ» أي فأنذر الّذين كفروا بتلك النّار، «وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا» و هو المحكي عن «صاحب الإيضاح» «2» و استحسنه صاحب «الكشف» «3» قال و هو نظير ما اختاره الزمخشري في قوله: وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا «4» و في قراءة زيد بن علي عليه السّلام و بشّر على لفظ المبني للمفعول عطفا على أُعِدَّتْ بناء على احتمال كونه استينافا فيكون استينافا إذ لا يستقيم على غيره من الوجوه.

و البشارة الخبر السارّ لما يظهر من أثر السرور على البشرة الّتي هي ظاهر جلد الإنسان، و أصل المادّة للظّهور،

و منه البشر في مقابل الجنّ المستتر، و بشرة الأرض ما ظهر من نباتها، و تباشير الصّبح ما ظهر من أوائل ضوئه إلّا أنّه غلبت البشارة بالكسر و الضمّ على الإخبار الاول بالشي ء السار، و لذا ذكر الفقهاء أنّه لو حلف ليعطينّ من بشّره بكذا فهو لمن يخبره به أوّلا به، إلّا أن يكون المخبر متعدّدا بأن نطقوا جميعا دفعة واحدة فيشتركون فيه، بخلاف ما لو قال: من أخبرني فانّ الثاني مخبر كالأوّل.

و أمّا إطلاقه على غير السّار كقوله:

__________________________________________________

(1) هو أبو يعقوب السكاكي المتوفى (636) ه حكي تقدير (قل) قبل يا أَيُّهَا النَّاسُ عن السكاكي في الإيضاح ج 1 ص 262.

(2) هو الخطيب القزويني المتوفى (739) ه

(3) هو ابو زرعة احمد بن الحافظ عبد الرّحيم العراقي المتوفى (826) ه و الكشف حاشيته على الكشاف.

(4) سورة مريم: 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 484

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» فعلى عموم المجاز، أو استعارة أحد الضّدّين للآخر تهكّما و استهزاء للقصد إلى زيادة غيظ المستهزء به و تألّم قلبه، و على طريقة قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع، من حيث أنّه غير سارّ و ان لم يكن فيه تهكم.

و كنّى عن المبشّرين بالرسول تكريما لهم و تنويها بذكرهم و تفخيما لشأنهم، و للاشارة إلى السبب الّذي استحقوا به تلك البشارة و هو جمعهم بين الايمان الّذي هو التصديق القلبي و العمل الصّالح الّذي هو من فعل الجوارح مع مراعاة التّرتيب بينهما على ما هو عليه.

و الصالحات جمع صالحة و هي من الصفات الغالبة تجري مجرى الأسماء حيث تستعمل بلا قصد إلى موصوف كالحسنة و السيئة.

و هي من الأعمال ما حسّنه الشرع و أمر به سواء

كان ذلك بلسان العقل الّذي هو الحجّة الباطنة أو بلسان الشرع الظّاهر الّذي صدع به الأنبياء و الأوصياء و نوّابهم الخاصّة و العامة، و تأنيثها بتأويل الفعلة أو الخصلة أو الخلّة أو ما ضاهاها، و ليست اللام فيها لاستغراق الأفراد أو الجمع أو المجموع و إن قلنا بظهور الجمع المحلّى فيه، و لا للعهد، بل لجنس الجمع لأنّ البشارة ليست مقصورة على ما حازها بأجمعها بحيث لا يشذّ عند شي ء منها، بل يشترك فيها كلّ من آمن بالأصول المقرّرة الّتي هي التوحيد و النبوّة و الإمامة و المعاد إذا قرن الايمان بفعل جملة من الطاعات، نعم للجزاء المبشّر به مراتب و درجات كثيرة منطبقة على مراتب الإيمان و الأعمال الصّالحة، فأعلاها و أرفعها لمن فاز بالإيمان الكامل و وفّق للإتيان بجميع الأعمال الحسنة بحيث لا يشذّ عنه شي ء منها، حسبما يقتضيه وضع الجمع المحلّى أو ظاهره، فالمثوبة العظمى و الجزاء الأوفى مختصّة بهم، لأنّهم الذين تسنّموا الذّروة

__________________________________________________

(1) آل عمران ك 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 485

العلياء من الإيمان و فازوا منه بأوفر النّصيب من المعلى و الرّقيب، و أمّا من دونه من أصحاب الدرجات النازلة فإنّما ينالون من تلك البشارة و المثوبة على قدر مراقبهم في الايمان.

و لذا

ورد أنّه ما ورد آية في حق المؤمنين إلّا و عليّ أميرها و شريفها و سابقها و رأسها «1» لأنّه أوّل المؤمنين ايمانا و أسبقهم تصديقا و أعظمهم يقينا و أعملهم بأنواع الطاعات و القربات، و لذا سمّي أمير المؤمنين، و إنّما ينال من ينال شيئا منها بوساطتهم و شفاعتهم، بل قد ورد أنّ نزول هذه الآية أيضا فيهم و في شيعتهم.

ففي تفسير فرات عن الباقر

عليه السّلام في قوله: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال عليه السّلام: هو عليّ بن أبي طالب و الأوصياء من بعده و شيعتهم «2».

و فيه عن ابن عباس في هذه الآية قال: نزلت في عليّ و حمزة و جعفر و عبيدة بن الحرث.

و روى الجبري و هو من أعيان علماء العامّة عن ابن عباس قال فيما نزل في القرآن من خاصة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و أهل بيته دون الناس من سورة البقرة:

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا الآية نزلت في عليّ و حمزة و جعفر و عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب «3».

و في تفسير الامام عليه السّلام: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و صدّقوك في نبوّتك فاتّخذوك نبيّا و صدّقوك في أقوالك و صوّبوك في أفعالك و اتخذوا أخاك عليّا بعدك و لك وصيا مرضيّا و انقادوا لما يأمرهم به و صاروا إلى ما أصارهم إليه، و رأوا له ما يرون لك إلّا النّبوة الّتي أفردت بها و أنّ الجنان لا تصير لهم إلّا بموالاته و موالاة من

__________________________________________________

(1) تفسير فرات ص 3 و 4 و عنه البحار ج 36 ص 128- 129.

(2) تفسير فرات ص 4- 5 و عنه البحار ج 36 ص 149.

(3) رواه تفسير الكنز ج 1 ص 283 عن تفسير الفرات ص 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 486

ينصّ لهم عليه من ذرّيّته و موالاة سائر أهل ولايته و معاداة أهل مخالفته و عداوته، و أنّ النيران لا تهدأ عنهم و لا تعدل بهم عن عذابها إلّا بتنكّبهم عن موالاة مخالفيهم و موازرة شانئيهم وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من أداء الفرائض و

اجتناب المحارم و لم يكونوا كهؤلاء الكافرين بك أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت أشجارها و مساكنها «1».

و أَنَّ لَهُمْ منصوب المحلّ بنزع الخافض، و إفضاء الفعل إليه كما هو مذهب الخليل و غيره، أو مجرور بتقدير الجار كما قوّاه سيبويه قال: و له نظائر نحو لاه أبوك اللّه لأفعلنّ.

الجنّات و نعيمها

و الجنّات جمع الجنّة و هي البستان من النّخل و الشجر الملتفّ المظلّل بالتفاف أغصانه من جنّه إذا ستره، و مدار التركيب و الترتيب على الستر، و منه الجنّ لتستّرها عن عيون الناس، و الجنون لأنّه يستر العقل، و الجنّة لأنّه يستر البدن، و الجنين لتستره بالرّحم، و جننت الميّت، و أجننته و أريته، و أجننت الشي ء في صدري أكننته، و الجنن بالفتح القبر لأنّه يستر، و الجنان بالفتح القلب لأنّ الصدر يستره، و هيئة الجنّة المرّة من الستر، كأنّها سترة واحدة لفرط التفافها.

و في «الصحاح» أنّ العرب تسمي النّخيل جنّة، و في «المصباح» انّها الحديقة ذات الشجر و قيل ذات النخل، و في «القاموس»: انّها الحديقة ذات النخل و الشّجر و الجمع ككتاب، ثمّ انّها غلبت على دار كرامة اللّه و محلّ رضوانه و مقرّ أوليائه بما فيها من الحور و القصور و الولدان و الغلمان و الأشجار و الأنهار فإنّها مستورة عن عقول أهل الدّنيا و ادراكاتهم

__________________________________________________

(1) كنز الدقائق ج 1 ص 281- 283 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 487

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1».

و في القدسيّات: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر

«2».

و في «العلل» سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله لم سمّيت الجنّة جنّة، قال: لأنّها جنينة خيّرة نقيّة و عند اللّه تعالى ذكره مرضيّة «3».

أبواب الجنّة

و تنكيرها لتفخيم شأنها و تعظيم أمرها، و جمعها باعتبار تعدّدها في نفسها فإنّها ثمانية على ما ذكره بعض المحقّقين الأولى: جنّة الفردوس، الثانية الجنّة العالية، الثالثة جنّة النّعيم، الرّابعة جنّة عدن، الخامسة جنّة دار السّلام، السادسة جنّة دار الخلد، السابعة جنّة المأوى، الثامنة جنّة دار المقام.

قال و جنان الحظائر سبع كلّ حظيرة ظلّ لجنّة من جنان الأصل و أمّا جنّة عدن فلا ظلّ لها ففي الآخرة خمسة عشر جنّة ثمان هي الأصول المعروفة كلّ سماء فوقها جنّة و الثامنة فوق الكرسي و سبع جنان الحظائر و هي تحت الثّمان و أقل منها.

و في الحديث: أنّ جنان الحظائر يسكنها ثلاث طوائف من الخلائق مؤمنوا الجنّ، و أولاد الزّنا من المؤمنين، و أولاد أولادهم إلى سبعة أبطن و المجانين الذين لم يجر عليهم التكليف الظاهر و لم يكن لهم من أقربائهم شفعاء ليلحقوا بهم و أسماء جنان الحظائر أسماء الأصل مثل الشّمس الّتي في السّماء الرابعة فان اسمها الشّمس

__________________________________________________

(1) السجدة: 17.

(2) الخصال ج 1 ص 79 و عنه البحار ج 8 ص 191 ح 167.

(3) علل الشرائع ص 161 و عنه البحار ج 8 ص 188 ح 157.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 488

و إشراقها في الأرض اسمه الشّمس.

أقول أمّا الأسماء المذكورة فلم أظفر بها في شي ء من الأخبار على ما مرّ من التّفصيل و التّرتيب و نسبه في موضع أخر إلى القيل ثمّ قال في الجنّة الرّابعة و هي الّتي لا حظيرة على ما يومي

إليه إشارات بعض الأخبار.

نعم

في «الخصال» عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون و الصدّيقون، و باب يدخل منه الشّهداء و الصّالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا فلا أزال واقفا على الصّراط أدعو و أقول: ربّ سلم شيعتي و محبّي و أنصاري و أوليائي و من تولاني في دار الدّنيا: فإذا النّداء من بطنان العرش: قد أجيب دعوتك و شفّعت في شيعتك و يشفع كلّ رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا اللّه و لم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت «1».

و فيه عن الباقر عليه السّلام: أحسنوا الظّن باللّه و اعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب عرض كلّ باب منها مسيرة أربعين سنة «2».

و في «الفضائل» و «الروضة» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال لمّا أسرى بي قال لي جبرئيل قد أمرت الجنّة و النّار أن تعرض عليك قال صلّى اللّه عليه و آله فرأيت الجنة فيها ثمانية أبواب «3» ، الخبر على ما يأتي ان شاء اللّه في تفسير قوله: وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها «4».

و في «الأمالي» في خبر عثمان بن مظعون عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ للجنّة ثمانية

__________________________________________________

(1) الخصال ج 2 ص 407- 408 ح 6.

(2) الخصال ج 2 ص 408 ح 7.

(3) بحار الأنوار ج 8 ص 144 عن الفضائل.

(4) الزمر: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص:

489

أبواب و للنّار سبعة أبواب «1» إلى غير ذلك ممّا يدل على جملة العدد.

و الظاهر أنّ المراد بالأبواب في هذه الأخبار ما يعبّر عنه بالجنان، فما

روته العامّة عن ابن عباس من أنّها سبع جنّة الفردوس و جنّة عدن و جنّة نعيم و دار الخلد و جنّة المأوى و دار السّلام «2» و عليّون

ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، نعم ربّما يستفاد من بعض الأخبار زيادة الأبواب على ذلك.

ففي الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: أمّا الجنان المذكورة في القرآن فانّهنّ جنّة عدن، و جنّة الفردوس، و جنّة النّعيم و جنّة المأوى قال: و إنّ للّه عزّ و جل جنانا محفوفة بهذه الجنان، و انّ المؤمن ليكون له من الجنان ما أحبّ و اشتهى يتنعّم فيهنّ كيف شاء «3».

و في المناقب عن أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ للجنّة إحدى و سبعين بابا يدخل من سبعين منها شيعتي و أهل بيتي، و من باب واحد سائر النّاس «4».

و في بعض الأخبار أنّ للجنّة بابا يقال له الرّيان لا تفتح إلّا يوم القيامة للصّائمين و الصائمات و انّ من الجنان جنّة الجلال «5».

و في الإكمال عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في أجوبته عن مسائل اليهودي:

أنّ منزل محمّد صلّى اللّه عليه و آله من الجنّة في جنّة عدن، و هي وسط الجنان و أقربها من عرش الرّحمن جلّ جلاله، و الّذين يسكنون معه في الجنّة هؤلاء الاثني عشر صلّى اللّه عليه و آله «6».

__________________________________________________

(1) الأمالي ص 40 و عنه البحار ج 8 ص 170 ح 112.

(2) تاج العروس ج 9 ص 166.

(3) الكافي الروضة ص 100 و عنه البحار ج 8 ص 161 ج 98.

(4) بحار الأنوار ج 8 ص 139 ح 55 عن المناقب.

(5) معاني الأخبار ص 116 و عنه البحار ج 8 ص 194 ح 175.

(6) إكمال الدين ص 172- 173 و عنه البحار ج 8 ص 189 ح 161.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 490

و لعلّ كون هذه الجنّة وسطا باعتبار كونها خيرا من الكلّ كقوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1» مع كونها مركز الجميع بمعنى كونها مقدّما على الجميع في الخلقة و منشأ لتعلّق الفيوضات و الأنوار منها إلى الجميع كما أنّ محمّدا و آل محمّد صلّى اللّه عليهم أجمعين أوّل المخلوقات و أفضل الموجودات و كلّ ما في الكون يستمدّون منهم في التكوين و التشريع، فإنّ عالم الكون قد خلق من فاضل أشعة أنوار وجودهم حتّى السّموات و الأرض و العرش و الكرسي و الجنّة و غيرها كما استفاضت به الأخبار.

ففي كتاب «الأنوار» لأبي الحسن البكري استاد الشهيد الثّاني عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّه قال: كان اللّه و لا شي ء معه فأوّل ما خلق نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل خلق الماء و العرش و الكرسي و السماوات و الأرض و اللّوح و القلم و الجنّة و النّار و الملائكة و آدم و حوّاء باربعة و عشرين و أربعمائة ألف عام (ثمّ ساق الخبر بطوله الى أن قال): ثمّ خلق اللّه من نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله الجنّة و زيّنها بأربعة أشياء: التعظيم و الجلالة و السخاء و الأمانة: و جعلها لأوليائه و أهل طاعته «2» : الخبر.

و في مصباح الأنوار «3» للشيخ الطوسي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه خلقني و

خلق عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين قبل أن يخلق آدم حين لا سماء مبنيّة و لا أرض مدحيّة و لا ظلمة و لا نور و لا شمس و لا قمر و لا جنّة و لا نار فقال العبّاس:

__________________________________________________

(1) البقرة: 143.

(2) بحار الأنوار ج 15 ص 27- 30 ح 48 عن ابن الحسن البكري و لا يخفى أن نسبة كتاب الأنوار الى ابي الحسن البكري أستاذ الشهيد الثاني لا تصحّ راجع في ذيل البحار ج 15 ص 26.

(3) نسبته في الكتاب الى الشيخ الطوسي أيضا لا تصح بل هو للشيخ هاشم بن محمد- راجع البحار ج 15 هامش ص 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 491

فكيف كان بدو خلقكم يا رسول اللّه فقال يا عمّ لما أراد اللّه أن يخلقنا تكلّم بكلمة خلق منها نورا ثمّ تكلّم بكلمة أخرى فخلق منها روحا ثمّ خلط «1» النور بالروح، فخلقني و خلق عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين، فكنّا نسبّحه حين لا تسبيح، و نقدّسه حين لا تقديس، فلمّا أراد اللّه أن ينشأ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش فالعرش من نوري، و نوري من نور اللّه، و نوري أفضل من العرش، ثمّ فتق نور أخي عليّ فخلق منه الملائكة، فالملائكة من نور عليّ، و نور عليّ من نور اللّه، و عليّ أفضل من الملائكة، ثمّ فتق نور ابنتي فخلق منه السماوات و الأرض، فالسماوات و الأرض من نور ابنتي فاطمة، و نور ابنتي فاطمة من نور اللّه، و ابنتي فاطمة أفضل من السماوات و الأرض، ثمّ فتق نور ولدي الحسن و خلق منه الشمس و القمر، فالشمس و القمر من نور

ولدي الحسن، و نور الحسن من نور اللّه، و الحسن أفضل من الشّمس و القمر، ثمّ فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنّة و الحور العين، فالجنّة و الحور العين من نور ولدي الحسين، و نور ولدي الحسين من نور اللّه، و ولدي الحسين أفضل من الجنّة و الحور العين «2» الخبر.

فانظر كيف جعل الجنّة في الخبر الأوّل من نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و في الثّاني من نور الحسين صلّى اللّه عليه و آله تنبيها على أنّها في الأصل واحد و إن كان هذا من ذاك، ثمّ كيف عبّر في كلّ موضع من الخبر بمن الّتي للابتداء لا التّبعيض للاشعار على أنّه لا يساوق أصله في السنخ و الجوهريّة بل إنّما نشأ منه بطريق الشّعاع و الفرعيّة، ثمّ كيف صرّح في كلّ منها بالوسائط من حيث كونها وسائط مع حفظ حدود التوحيد و اظهار المراتب.

و أمّا اختلاف الاخبار المتقدّمة في عدد الأبواب فلعلّ المراد أنّ الثّمانية عدد

__________________________________________________

(1) في البحار: ثم مزج النور.

(2) تأويل الآيات ج 1 ص 138.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 492

الأبواب الجنان الكلّية الّتي نتميّز حقائقها لأربابها بالنوع، و أمّا غيرها من الأعداد فهو باعتبار البساتين و الجنان الجزئيّة الّتي يمكن تعددها لمؤمن واحد كما مرّت الإشارة إليه في الاخبار المتقدّمة.

و قوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ في موضع النصب صلة للجنّات، و المعنى من تحت أشجارها و مساكنها كما مرّ في عبارة الامام عليه السّلام، و النّهر بالفتحتين و سكون الهاء لغتان، و الأوّل أفصح على الأصحّ، و لذا قيل: إنّه قد كثر استعماله في كلام البلغاء، و قال الزمخشري: إنّه اللغة العالية، و هو المجرى الواسع

فوق الجدول و دون البحر، يقال للنيل نهر مصر، و للفرات نهر الكوفة، من النهر محركة بمعنى السّعة و منه نهر نهر ككتف أي واسع، أو من نهر الماء إذا جرى في الأرض، و لذا قال في «الصّحاح»: إنّ كل كثير جرى فقد نهر و استنهر، و منه النّاهور للسحاب، و الأنهران للهواء و السماك لكثرة مائها و انتهار البطن لاستطلاقه، و التّسمية على الأوّل باعتبار المحلّ و على الثّاني باعتبار الحال، و نسبة الجريان إليها على وجه الإضمار أي ماؤها أو المجاز اللّغوي تسمية للماء باسم مجراه، أو العقلي بارادة المجاري أنفسها، و اللام للاشارة إلى الجنس من دون النظر إلى استغراقه و عدمه كما في قولهم: أهلك النّاس الدّرهم و الدّينار: أي هذان الحجران أو إلى ما عرف عظم خطره أي الأنهار الّتي عرفت أنّها النّعمة العظمى و اللّذة الكبرى، أو إلى العهد الخارجي و المعهود هو المعلوم من أخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو من قوله: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «1» الآية على تقدير سبق نزولها و الجموع الثلاثة و هي أمنوا و جنّات و الأنهار لم يلحظ فيها الطباق المطلق بل الأعم من ذلك و من مجرّد الاشتراك، و من انفراد كلّ مفرد من السابق بافراد من اللاحق على ما هو الظّاهر من الوضع الهيئي للجملة.

__________________________________________________

(1) محمّد: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 493

و أمّا ما يقال من أنّ العرب إذا قابلت جمعا بجمع حملت كلّ مفرد من هذا على مفرد من ذاك كما في قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «1»، وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ «2» و لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ «3»،

ففيه أنّه إنّما يكون كذلك مع قيام القرينة الخارجة و لو من جهة اتّحاد المتعلّق و أمّا بمجرد المقابلة فلا، و لذا لا يستفاد ذلك من قوله: لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ «4»، لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «5».

و قوله: قلّموا أظافركم، أدّبوا أولادكم إلى غير ذلك، و من هنا يجوز أن يكون أنهار كثيرة في جنّة و جنان كثيرة لمؤمن.

بل

ورد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه ليس من مؤمن في الجنّة إلّا و له جنان كثيرة مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ و أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ و أنهار من ماء وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ و أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ «6».

و هذا بناء على ارادة الجنان الجزئيّة و أمّا مع الحمل على الكليّة فالأمر واضح، و يحتمل أن يكون الضمير في تحتها في الآية للمفرد المدخول عليه بالجمع، و إنّما خصّ الأنهار بالذكر من بين جميع ما في الجنان من النعم العظيمة و اللذائذ الجسمية لأنّها كالأصل لجميع ذلك، و القطب الّذي يدور عليه ما هنالك، فانّ الماء مظهر الرحمة الكليّة و العناية الربانيّة و أصل الأشياء وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ

__________________________________________________

(1) المائدة: 6.

(2) النساء: 22.

(3) النساء: 102.

(4) النور: 33.

(5) النور: 58.

(6) بحار الأنوار ج 8 ص 160 ح 98 عن روضة الكافي ص 95- 100.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 494

«1» و هو مادّة البقاء و طعمه طعم الحياة، و كما الأعمال الصّالحة الصادرة من المؤمنين كانت مقترنة بصدق النية و حسن الإعتقاد و خلوص السر و صفاء الضمير و كانت صحة تلك الأعمال الظاهرة من الصلاة و الصوم و الحج و غيرها مشروطة بالنيّة

الّتي هي روح العبادة و حياتها و هم قد جمعوا في عبادتهم بين قوالب تلك العبادات الّتي هي كالاجساد و بين أرواحها و هي النية المقترنة بها فكذلك يجمع اللّه سبحانه في جزائهم بين الجنّات المشتملة على الأشجار و الرياحين و الفواكه و غيرها و بين الأنهار الّتي هي كالأصل المقوّم لها و بها حياتها.

ثمّ إنّ انهار الجنّة ليست على حدّ غيرها من أنهار الدّنيا

ففي «الاختصاص» عن الباقر عليه السّلام.

قال: إنّ أنهار الجنّة تجري في غير أخدود أشدّ بياضا من الثّلج، و أحلى من العسل، و ألين من الزّبد، طين النهر مسك أذفر، و حصباه الدّر و الياقوت، تجري في عيونه و أنهاره حيث يشتهي و يريد في جنانه وليّ اللّه، فلو أضاف من في الدّنيا من الجنّ و الانس لأوسعهم طعاما و شرابا و حللا و حليّا لا ينقصه من ذلك شي ء «2».

و في جامع الأخبار سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله عن أنهار الجنّة كم عرض كل نهر منها فقال عليه السّلام عرض كل نهر مسيرة مائة عام «3» يدور تحت القصور و الحجب تتغنى أمواجه و تسيح و تطرب في الجنّة كما يطرب الناس في الدنيا «4».

رزقنا اللّه تعالى من هذا الماء المعين و حشرنا مع نبيّه محمّد و آله الطّيبين الطاهرين.

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 30.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 219 ح 211 عن الاختصاص.

(3) في المصدر: خمسمائة عام- و في البحار: خمسين مائة عام.

(4) جامع الأخبار ص 126 و عنه البحار ج 8 ص 146 ج 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 495

كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ «1».

استيناف حيث إنّه

لما وقع الإبشار بالجنّات و الأنهار، و كان الغرض المهم منها الأخبار فلربما يقع في خلد السّامع أنّ ثمارها هل تشابه أو تشاكل ثمار جنّات الدّنيا أو لا تجانسها، فيكون وعدا بغير معلوم و لا معهود فقيل إنّ ثمارها تشابه أو تشاكل ثمار جنّات الدّنيا و تجانسها و ان تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلّا خالقها.

أو صفة بعد صفة الجنّات فمحل الجملة على الأوّل الرفع، و على الثاني النصب.

و كُلَّما منصوب على الظرفية للفعل الّذي بعده، و قد سمعت أن ضمّ كل إلى ما الجزاء يجعله من أدوات التكرار.

و أمّا احتمال كونه خبرا عن محذوف بتقدير شأنها كلّما رزقوا فمع ما فيه من التكلف في جعل ظرف الزمان خبرا عن جنة مدفوع، بعود الكلام حينئذ في تلك الجملة على أحد الوجهين بعد الالتزام بحذف أقوى ركني الكلام.

و لم يبن الفعل للفاعل اتكالا على وضوح أنّ الرّزاق في الحقيقة هو اللّه سبحانه، أو لأنّ الجملة إنّما سيقت لإفادة وصول الرزق إليهم من دون قصد إلى تعيين من هو منه، أو لأنّ الوسائط لا يعرفها بأعدادها و مراتبها فضلا عن أشخاصها أحد إلّا هو أو لأنّهم يرون أثمارها متدلية دانية منهم بحيث إنّهم إذا اشتهوا شيئا وجدوه حاضرا عندهم فأخذوه بأيديهم و أفراحهم من دون طلب منهم و لا انتظار أصلا.

ثمّ أنّهم ذكروا في بيان معنى حرفي الجر و تعيين متعلقهما وجوها:

__________________________________________________

(1) البقرة: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 496

منها: أنّهما لابتداء الغاية و الظرفان إمّا لغوان متعلّقان برزقوا على وجه إبدال الثاني عن الأول و تعلق الحرفين بمعنى واحد بفعل واحد سائغ على قصد التبعية، و يمكن اعتبار الاختلاف في المتعلق بالفتح أيضا بأن تكون

من الاولى متعلقة بالرزق مطلقا، و الثانية متعلقة به مقيدا بكونه من الجنّات، فيجعل الفعل المطلق و هو رُزِقُوا مبتدأ من الجنات و بعد تقييده بالابتداء منها جعل مبتدأ من الثمرة، هذا فيجوز كونهما لغوين لا على البدليّة، و ان كان الأوّل أظهر.

و أمّا مستقرّان واقعان موقع الحال، و صاحب الحال الأولى رزقا و صاحب الحال الثانية ضميره المستكن فيما تعلق به الظرف، و يكون التقييد بحاله من دون تجوّز أو الأوّل لغو و الثاني حال أو الأوّل حال و الثاني بدل.

ثمّ أنّ يمكن أن يكون رِزْقاً مفعولا ثانيا ل رُزِقُوا على أن يكون بمعنى المرزوق، و يجوز أن يكون بمعنى الحدث فينصب على أنّه مفعول مطلق.

فهذه وجوه عشرة أضعفها الأخير و أوجهها الأوّل، و الحرفان على الوجوه للابتداء، فلا يجوز أن يراد بالثمرة الواحدة من أفراد نوع نوع لأنّها نفس المرزوق حينئذ فالرزق لم يبتدأ منهما، بل إنّما هو هي ألا ترى أنك إذا قلت أكلت من هذا الطعام و أشرت إلى شخص تعين من للتبعيض كقولك: أخذت من الدراهم و إذا أشرت إلى جنسه كان صالحا له و للابتداء و منها أن يكون مِنْ ثَمَرَةٍ بيانا من باب التّجريد على حدّ قولك رأيت منك أسدا أي أنت أسد بأن ينتزع من ذي صفة أخر مثله إيهاما لكمالها فيه كأنك جردت من المخاطب شيئا يشبه الأسد و هو نفسه و كذا هنا جرّد من ثمرة رزق و هو هي، فيكون رزقا أخصّ من ثمرة باعتبار انتزاع وصف المرزوقيّة منها بكمال هذا المعنى فيه، فعلى الأوّل يكون الرّزق عاما خصّص بالجنّات ثمّ بالثّمرة و على الثاني الثمرة عام خصص الرزق بها بانتزاعه منها، و على

هذا يصح أن يراد بالثمرة النّوع

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 497

و الفرد، فالرزق حينئذ بمعنى المرزوق، و مِنْ ثَمَرَةٍ حال مقدم و مِنْها ظرف لغو، ثمّ أن ذلك مبني على كون من التجريدية للتبيين، و الأشبه وفاقا لبعض المحققين كونها للابتداء ففي قولهم: رأيت منك أسدا كأنّه قيل: رأيت أسدا كائنا منك تصويرا لشجاعته بصورة أسد منتزع منه فقد انتزعت من صفته ذاتا و صفة، و فيه من المبالغة ما لا يخفى بخلاف الأوّل الّذي قيل إنّه ليس بأبلغ من نحو أنت أسد، نظرا إلى أنّ الإجمال و التفسير لا مدخل له في المبالغة و التشبيه.

ثمّ انّه قد يحتمل أن يكون من الثانية للتبعيض، لأنّ الرزق بعض الثمرة أي نوعها و هم يرزقون بعضها في كلّ وقت، و أن يكون مزيدة كما هو ظاهر شيخنا الطبرسي رحمه اللّه، و قوله مِنْ قَبْلُ مبني منصوب المحلّ على الظرفية للفعل الّذي وليه، أي من قبل هذا في الدنيا كما صرّح به الإمام عليه السّلام في تفسيره.

قال عليه السّلام كُلَّما رُزِقُوا مِنْها من تلك الجنان مِنْ ثَمَرَةٍ من ثمارها رِزْقاً و طعاما يؤتون به قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدّنيا فأسماؤه كأسماء ما في الدّنيا من تفاح و سفرجل و رمان، و كذا و كذا، و إن كان ما هناك مخالفا لما في الدّنيا، فإنّه في غاية الطيب، و أنه لا يستحيل إلى ما يستحيل اليه ثمار الدنيا من عذرة و سائر المكروهات من صفراء و سوداء و دم و بلغم، بل لا يتولد من مأكولهم إلّا العرق الّذي يجري من اعراضهم أطيب من رائحة المسك «1».

و يظهر منه أنّ المشابهة و الاتحاد إنّما

هو من جهة الشكل و المثال و مجرّد التعبير بالاسم لتميل النفوس إليها أوّل ما رأتها لأنسها بالمألوف و ليظهر لها بالنظر إلى ما في الدنيا قدر النّعمة و كمال المزيّة لا أنّها باعتبار شي ء من مراتب الكمال فضلا من أن يكون من جميع الجهات.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 69.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 498

و أمّا ما يقال من احتمال أن يكون المراد من قبل في الجنّة حيث إنّ ثمارها إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الّذي رزقنا من قبل هذا و انّ المعنى كالذي رزقنا و هم يعلمون أنّه غيره، و لكنهم شبهوه به في طعمه و لونه و ريحه و طيبه و جودته.

فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه بعد ما سمعت من تصريح من هو من خزنة العلم و أهل بيت الوحي، سيّما مع رجحان الأوّل عليهما لسلامته عن التخصيص في كُلَّما رُزِقُوا بغير المرة الأولى فإنّه يدلّ على ترديدهم كلّ مرة رزقوا حتى الاولى و لبقاء مِنْ قَبْلُ على إطلاقه، و للزوم قبليات متحددة متجددة على الأخيرين مع عدم إشعار اللّفظ بها ظاهرا، و أمّا قبليّة الدنيا فقبلية واحدة مطلقة، و لأنّه يتعيّن على الأخيرين أن لا يكون استينافا لعدم سبق الدّاعي إلى السؤال عليهما دون الأوّل المتضمن لفرائد الاستيناف، مع ما فيه من فخامة المعنى من حيث ارادة الغبطة العظيمة و الابتهاج البالغ و ان التشابه في الحقائق و الاختلاف بالصّفات أتمّ في باب التشابه و أدعى للتّعجب و القرآن يحمل على أحسن الوجوه و ان كان ذلولا ذا وجوه وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً استيناف أخر كأنّه قيل: إنّ ثمار الدّنيا مشتملة على الجيّد

و الرّدي مختلفة في صفات الكمال جدّا فهل ثمار الآخرة أيضا كذلك؟ كما يوهمه الحمل المتقدم فأجيبوا بذلك و على هذا فالضمير للرزق.

و لذا قال الإمام عليه السّلام: و أتوا به بذلك الرّزق من الثّمار من تلك البساتين متشابها يشبه بعضها بعضا بأنّها كلّها خيار لا رذل فيها، و بأنّ كل صنف منها في غاية الطيب و اللذة ليس كثمار الدنيا بعضها نيّئ «1» و بعضها متجاوز لحدّ النضج و الإدراك إلى حد الفساد من حموضة و مرارة، و سائر ضروب المكاره، و متشابها أيضا متفقات الألوان

__________________________________________________

(1) الني ء (بكسر النون) ما لم ينضج من اللحم و غيره و بالفارسية: خام و نارس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 499

مختلفات الطعوم «1».

و على هذا فالتشابه في الآخرة بين ضروب الثمرات و أنواعها أو أفراد النوع الواحد في صفات الكمال و اللّذة و الجودة من حيث مرافقتها للدار الآخرة.

و قد سأل مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه في الاحتجاج من أين قالوا إنّ أهل الجنّة يأتي الرجل منهم الى ثمرة يتناولها فإذا أكلها عادت كهيئتها فقال عليه السّلام:

نعم ذلك على قياس السّراج يأتي القابس فيقتبس منه فلا ينقص من ضوئه شيئا و قد امتلأت الدنيا منه سرجا «2».

و ربما يحتمل كون الضّمير للجنس المرزوق في الدّنيا و الآخرة جميعا كأنّه قيل أتوا به متشابها نوعاه، أي النوع الّذي في الآخرة و النوع الّذي في الدنيا، و ذلك لأنّ قوله: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ «3» أي مثله يدلّ على المشترك بين المثلين، و اعترض بأنّ المرزوق فيها جميعا غير المأتي به في الآخرة و أجيب بأن المراد بقوله الى المرزوق في الدنيا و الآخرة جميعا

إلى الجنس الصالح لتناول كلّ منهما لا المقيّد بهما، فانّه حينئذ يكون أخصّ من كلّ منهما، و لا يدفع سؤال التشابه و الإتيان بالجنس حاصل في ضمن الإتيان بأيّ نوع كل الاستحالة انفكاك النوع من الجنس.

و لا يخفى عليك ما فيه من التكلّف على أنّه يكون حينئذ تقريرا و تأكيدا للجملة السابقة، هذا مضافا إلى أن التشابه هو التماثل في الصفة و هو مفقود بين ثمرات الدنيا و الآخرة و لذا قيل ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلّا الأسماء و تنزيله على مجرّد التماثل في الهيئة و اللون على فرضه ليس بذلك، نعم يحتمل على وجه

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1، ص 69 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 136 ح 48 عن الاحتجاج ص 192.

(3) البقرة: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 500

التأويل مضافا إلى ما مرّ من التنزيل أن يراد التماثل بين ثمار الجنّة محسوسها و معقولها و بين ما منحوه في الدنيا من العلوم و المعارف و الفضائل النفسانية و الأخلاق الروحانية و الملكات القدسيّة و العبادات القلبية و الأعمال الصالحة البدنية سيّما على ما ذهب إليه جمع من المحققين من القول بتجسم الأعمال في القيامة و يشهد له جملة من الاخبار فالمعنى كلّما رزقوا من ثمرات الجنة رزقا من المطاعم و الملابس و رفع الدرجات و ظهور التجليات قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا فان الدنيا مزرعة الآخرة و الأعمال الدنيوية بذر للمثوبة الاخرويّة و أعطوا رزقهم في الجنّة متشابها لما وفقوا له في الدنيا من الايمان و الأعمال الصالحة.

بسط في المقال لتحقيق مسألة تجسّم الأعمال
اشارة

و فيه بحثان:

الأوّل اعلم أنّ المتشبّثين بذيل الإسلام قد اختلفوا في أنّ النعيم و الجحيم الموعودين في الدار الآخرة هل هما جسمانيان أو روحانيان أو هما معا

لكلّ أحد كل على حسب درجته و رتبته في الوجود الشّرعي أو الأوّل للبعض و الاخر للآخرين على أقوال لا جدوى للتّعرض لها و لا للقائلين بها في المقام لكن الّذي ينبغي القطع به بل لا ريب في قيام ضرورة المذهب بل الدّين عليه ثبوت الجسمانيين في الجملة الى ما ورد التّصريح به في الآيات الكثيرة و الاخبار المتواترة و أمّا ما اشتهر نقله عن بعض الحكماء من انكار الجنّة و النّار المحسوستين نظرا إلى إنكار المعاد الجسماني و أنّ العالم عالمان عالم الأجسام المادّية و عالم العقول المجردة و أنّ النفوس الناقصة الهيولانيّة منفسخة بعد الموت و نفوس الصلحاء و الزهاد تتعلق بجرم بخاري أو سماوي لتحصل لهم فيها سعادة وهميّة كما

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 501

تحصل لنفوس الأشقياء عقوبات خياليّة من نيران و حيّات تلسع و عقارب تلدغ إلى غير ذلك من المزخرفات فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه و لا يعد قائله من زمرة المسلمين بعد قيام ضرورة الدين على ثبوت المعاد الجسماني و الجنّة و النّار الجسمانيّتين.

و أمّا ما ذكره الصدوق في اعتقاداته حيث قال طاب ثراه اعتقادنا في الجنّة و النار أنها دار البقاء و دار السلامة لا موت فيها و لا هرم و لا سقم و لا مرض و لا آفة و لا زمانة و لا غمّ و لا هم و لا حاجة و لا فقر و أنّها دار الغناء و السعادة و دار المقامة و الكرامة لا يمسّ أهلها فيها نصب و لا لغوب لهم فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين و هم فيها خالدون و أنّها دار أهلها جيران اللّه و أولياءه و

أحباؤه و أهل كرامته و هم أنواع على مراتب منهم المتنعّمون بتقديس اللّه و تسبيحه و تكبيره في جملة ملائكته و منهم المتنعمون بأنواع المآكل و المشارب و الفواكه و الأرائك و حور العين و استخدام الولدان و الجلوس على النّمارق و الزرابي و لباس السندس و الحرير كلّ منهم إنّما يتلذّذ بما يشتهي و يريد حسبما تعلّقت عليه همته و يعطي ما عبد اللّه من أجله.

و قال الصادق عليه السّلام: أنّ النّاس يعبدون اللّه على ثلاثة أصناف صنف منهم يعبدونه رجاء ثوابه فتلك عبادة الأجراء، و صنف منهم يعبدونه خوفا من عقابه فتلك عبادة الخدّام، و صنف منهم يعبدونه حبّا له فتلك عبادة الكرام

انتهى «1» فلا دلالة فيه على إنكار الجنة المحسوسة و لو للمتنعّمين بالتقديس و التسبيح، بل ظاهره إثبات الجنّة المحسوسة المشتملة على أنواع النعم للجميع.

و لذا قال بعد ما سمعت حكايته، و اعتقادنا في الجنّة و النار أنهما مخلوقتان

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 200 عن عقائد الصدوق ص 89- 92.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 502

و انّه لا يخرج أحد من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنّة أو من النار «1».

و بالجملة ثبوت الجنّة أو النار المحسوستين لكل أحد من الضروريات الّتي لا ينبغي إنكاره، نعم منهم المشاركون للملائكة في التنعم بالتقديس و التسبيح و إن كان لهم الجنّة المحسوسة إلّا أنّه لا التفاف لهم إلى التنعّم بها بل عمدة تنعّمهم و قرّة أعينهم هو السّرور و الابتهاج بمناجاته و عبادته و الاستشمام من نسائم رياض أنسه و محبّته.

كما يستفاد ذلك من

حديث الإسراء: يا أحمد أن في الجنّة قصرا من لؤلؤة فوق لؤلؤة و درّة، ليس

فيها قصم و لا فصل، فيها الخواص، أنظر إليهم في كلّ يوم سبعين مرة، و أكلّمهم كلما نظرت إليهم ازداد ملكهم سبعين ضعفا، و إذا تلذذ أهل الجنة بالطعام و الشراب تلذذوا أولئك بذكري و بكلامي و حديثي «2».

و في كتاب الاختصاص في خبر طويل عن الصّادق عليه السّلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و فيه بعد ذكر كثير من مطاعم أهل الجنّة و مشاربهم و مناكحهم و تنعّمهم بها أنّه.

قال: فبينا هم كذلك إذ يسمعون صوتا من تحت العرش: يا أهل الجنّة كيف ترون منقلبكم فيقولون: خير المنقلب منقلبنا و خير الثّواب ثوابنا، قد سمعنا الصوت و اشتهينا النظر إلى أنوار جلالك و هو أعظم ثوابنا و قد وعدته و لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ، فيأمر اللّه الحجب فيقوم سبعون ألف حجاب فيركبون على النّوق و البراذين و عليهم الحلّي و الحلل فيسيرون في ظلّ الشجر، حتى ينتهي إلى دار السّلام و هي دار اللّه دار البهاء و النّور و السرور و الكرامة، فيسمعون الصوت فيقولون: يا سيّدنا سمعنا لذاذة منطقك فأرنا نور وجهك فيتجلّى لهم سبحانه و تعالى حتّى ينظرون إلى نور وجهه

__________________________________________________

(1) البحار ج 8 ص 200 عن عقائد الصدوق ص 89- 92.

(2) بحار الأنوار ج 77 ص 23 ح 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 503

تبارك و تعالى المكنون من عين كلّ ناظر، فلا يتمالكون حتى يخروا على وجوههم سجّدا فيقولون: سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك يا عظيم.

قال: فيقول: عبادي ارفعوا رؤسكم ليست هذا بدار عمل إنّما هي دار كرامة و مسألة و نعيم، قد ذهبت عنكم اللغوب و النصب، فإذا رفعوها و قد أشرقت وجوههم من نور

وجهه سبعين ضعفا، ثمّ يقول تبارك و تعالى: يا ملائكتي أطعموهم و اسقوهم فيأتون بأنواع الأطعمة إلى أن قال عليه السّلام: فيقولون يا سيّدنا حسبنا لذاذة منطقك و النظر إلى نور وجهك لا نريد به بدلا و لا نبتغي عنه حولا «1» الخبر.

و المراد حصول غاية المعرفة المعبر عنها بالرؤية كما في العلوي المشهور، أو مشاهدة أنوار النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين المعبّر عنهم بالمثل الأعلى و وجه اللّه تبارك و تعالى على ما يستفاد من الآيات و الاخبار، أو نور من أنوار شيعتهم من الكروبيّين و الملائكة العالين و غيرهم كما يستفاد من الخبر المتضمن لتجليهم لموسى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على نبيّنا و آله و عليه السّلام.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال اللّه تبارك و تعالى يا عبادي الصديقين تنعّموا بعبادتي في الدّنيا فإنكم تتنعمون بها في الآخرة «2».

أي بنفس العبادة لا على وجه الكلفة و المشقّة بل على وجه التنعّم و اللذّة إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة و من هنا يظهر أنّه لا يرد على الصّدوق ما أورده عليه المفيد في شرح الكلام المتقدّم حيث قال و ثواب أهل الجنّة الابتذال بالمآكل و المشارب و المناظر و المناكح و ما تدركه حواسهم ممّا يطبعون على الميل إليه و يدركون مرادهم بالظّفر به و ليس في الجنّة من البشر من يلتذّ بالتّسبيح و التقديس

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 215 ح 205 عن الاختصاص.

(2) الكافي ج 2 ص 83 و عنه البحار ج 70 ص 253 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 504

من دون الاكل و

الشّرب و القول بذلك شاذّ عن دين الإسلام و هو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أنّ المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لا يطعمون و لا يشربون و لا ينكحون و قد أكذب اللّه تعالى هذا القول في كتابه بما رغب العالمين فيه من الاكل و الشرب و النكاح فقال تعالى: أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا «1» و قال تعالى أيضا: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «2» الآية و قال:

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ «3» قال: وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ* «4»، و قال: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ «5» و قال: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ «6».

فكيف استجاز من أثبت في الجنّة طائفة من البشر لا يأكلون و لا يشربون و يتنعّمون ممّا به الخلق من الأعمال و يتألمون، و كتاب اللّه شاهد بضدّ ذلك، و الإجماع على خلافه لو لا أن قلّد في ذلك من لا يجوز تقليده، أو عمل على حديث موضوع «7» انتهى.

إذ بما سمعت يرتفع التنافي بين الكلامين، و الحاصل انّه لا نزاع بين المسلمين في ثبوت الجنّة المحسوسة لكلّ واحد من المؤمنين، بل لكل فرد من أفراد البشر و إن ورثها غيره مع عدم قابليته لها، و عبارة الصدوق ظاهرة في ذلك أيضا بل صريحة على ما سمعت، و استدلاله بالخبر المتضمن لأصناف العباد لا دلالة فيه

__________________________________________________

(1) الرعد: 35.

(2) محمد: 15.

(3) الرّحمن: 72.

(4) الدخان: 54.

(5) يس: 55- 56.

(6) البقرة: 25.

(7) بحار الأنوار ج 8 ص 201- 202 عن مقالات المفيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 505

على

عدم التذاذ المحبين بنعيم الآخرة و لذّاتها الحسّية.

و توهّم أنّ الاكل و الشّرب و اللبس و غيرها من المشتهيات النفسانيّة و النعم الجسمانية كلها دفع الألم فانّ الأكل مثلا إنّما هو لسدّ الجوع و بعده لا لذة فيه أصلا، و كذا البواقي و حيث إنّه لا شي ء من الآلام في الجنّة فلا يمكن التنعّم بتلك النّعم.

مدفوع بعد الغضّ عمّا فيه بأنّه لا يقاس النّعم الاخرويّة بشي ء من النّعم الدّنيويّة الّتي يراد أكلها و شربها لدفع ألم الجوع و العطش و لباسها للتوقي عن الحر و البرد و نكاحها للتوالد و حفظ النوع، و ذلك لأنّ بينهما بونا بيّنا فانّ للنعم الأخروية من النّور و السّرور و الصفاء و البهاء ما لا يدركه عقول أهل الدنيا بل لا شركة بينهما إلّا في الاسم على وجه الاستعارة و التمثيل لا الحقيقة، على أنّ ذلك يفضي إلى سدّ باب الجنّة الحسيّة مطلقا و لا ينبغي لمن آمن باللّه و برسوله و باليوم الآخر أن يسدّها على نفسه، هذا مضافا إلى أن الجنّة المعقولة كما تتصور في ثمرات العلوم و المعارف و الابتهاج بالأنوار القدسيّة و غيرها من النّعم الروحانيّة الّتي لوّح عليها بقوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1»، و

بقوله في الوحي القديم أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر «2» كذلك يمكن حصولها في ضمن التنعم بالمستلذات الجسمانية سيّما مع ما هو المعلوم من قوّة مشاعرهم و زيادة قواهم و صفاء حواسهم بحيث لا يكاد يشغلهم تنعم عن تنعم و لا توجه عن توجه و لا ادراك عن ادراك على ما هو المقرّر

في محل آخر.

و لذا قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه أن للتّلذذ بالمستلذات الجسمانية أيضا مراتب و درجات بحسب اختلاف أحوال أهل الجنّة، فمنهم من يتلذذ بها كالبهائم يرتعون في رياضها و يتمتعون بنعيمها كما كانوا في الدّنيا من غير استلذاذ بقرب

__________________________________________________

(1) السجدة: 17.

(2) بحار الأنوار: ج 8 ص 191 ج 168.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 506

و وصال أو ادراك لمحبة و كمال، و منهم من يتمتع بنعيمها من حيث إنّها دار كرامة اللّه الّتي اختارها لأوليائه و أكرمهم بها و انّها محلّ رضوان اللّه تعالى و قربه، فمن كلّ ريحانة يستنشقون نسيم لطفه، و من كلّ فاكهة يذوقون طعم رحمته، و لا يستلذون بالحور إلّا لأنّه أكرمهم بها الرب الغفور، و لا يسكنون في القصور إلا لأنّه رضيها لهم المالك الشكور، فالجنّة جنتان، روحانية و جسمانية، و الجنّة الجسمانية قالب للجنة الروحانية، فمن كان في الدنيا يقنع من العبادات و الطاعات بجسد بلا روح و لا يعطيها حقها من المحبّة و الإخلاص و سائر مكملات الأعمال ففي الآخرة أيضا لا ينتفع إلا بالجنّة الجسمانيّة، و من فهم في الدّنيا روح العبادة و آنس بها و استلذ منها و أعطاها حقها فهو في الجنّة الجسمانية لا يستلذ إلّا بالنعم الروحانية، و لنضرب لك في ذلك مثلا لمزيد الإيضاح فنقول: ربّما يجلس بعض سلاطين الزمان على سريره، و يطلب عامّة رعاياه و وزرائه و أمرائه و مقربي حضرته، و يعطيهم شيئا من الحلاوات فكل صنف من أصناف الخلق ينتفع بما يأخذه من ذلك نوعا من الانتفاع و يلتذ نوعا من الالتذاذ على حسب معرفة لعظمة السلطان و رتبة انعامه، فمنهم جاهل لا ينتفع

بذلك.

إلّا لأنّه حلو ترغب الذائقة فيه فلا فرق في ذلك عنده بين أن يأخذه من بايعه في السّوق أو من يد السلطان، و منهم من يعرف شيئا من عظمة السلطان و يريد بذلك الفخر على بعض أمثاله أو من هو تحت يده أن السلطان أكرمني بذلك، و هكذا حتى ينتهي الأمر إلى من هو مقرّبي حضرة السلطان و من طالبي لطفه و إكرامه فهو لا يلتذ بذلك إلا لأنّه خرج من يد السلطان، و انّه علامة لطفه و إكرامه، فهو يضنّ بذلك و يخفيه، و يفتخر بذلك و يبديه، مع أنّ في بيته أضعاف مبذولة لخدمه و عبيده، فهو لا يجد من حلاوته إلّا طعم القرب و الإكرام، و لو جعل السلطان علامة إكرامه في بذل أمرّ الأشياء و أبشعها لكان عنده أحلى من جميع الحلاوات، و لذا ترى في عشق

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 507

المجاز إذا ضرب المعشوق محبّه ضربا وجيعا على جهة الإكرام فهو أشهى عنده من كلّ ما يستلذ منه سائر الأنام، فإذا كان مثل ذلك في المجاز ففي الحقيقة أولى و أحرى، فإذا فهمت ذلك عرفت أن أولياء اللّه تعالى في الدنيا أيضا في الجنّة و النعيم إذ هم في عبادة ربّهم متلذّذون بقربه و وصاله، و في التنعّم بنعيم الدّنيا إنّما يتلذّذون لكونه ممّا خلقه لهم و بهم و محبوبهم و حباهم بذلك و رزقهم و أعطاهم، و في البلايا و المصائب أيضا يلتذون بمثل ذلك لأنّهم يعلمون أنّ محبّهم و محبوبهم اختار لهم ذلك و علم فيه صلاحهم، فبذلك امتحنهم فهم بذلك راضون شاكرون، فتنعمهم بالبلايا كتنعمهم بالنعم و الهدايا إذ جهة الاستلذاذ فيهما واحدة عندهم، فهم

في الدنيا و الآخرة بلطفه و قربه و حبّه يتنعمون، و فيهما لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ، فإذا فازوا بهذه الدّرجة القصوى و وصلوا إلى تلك المرتبة الفضلى لا يعبدونه تعالى خوفا من ناره و انّها محرقة بل لأنّها دار الخذلان و الحرمان، و محل أهل الكفر و العصيان و من سخط عليه الرحمان، و لا طمعا في جنّته من حيث كونها محل المشتهيات النفسانيّة و الملاذ الجسمانية، بل من حيث إنّها محل رضوان اللّه و أهل كرامته و قربه و لطفه، فلو كانت النّار محلّ أهل كرامة اللّه لاختاروها كما اختاروا في الدنيا محنها و مشاقها لعلمهم بأنّ رضى اللّه فيها، و لو كانت الجنّة محلّ من غضب اللّه عليه لتركوها و فرّوا منها كما تركوا ملاذ الدّنيا لما علموا أنّ محبوبهم لا يرتضيها، و إذا دريت ذلك حقّ درايته سهل عليك الجمع بين ما ورد من عدم كون العبادة للجنّة و النّار و المبالغة في طلب الجنّة و الاستعاذة من النّار و ما ورد في بعض الروايات و الدعوات من التصريح بكون العبادة لابتغاء الدار الآخرة فانّ من طلب الآخرة لقربه و وصاله لم يطلب إلّا وجهه، و من طلبها لاستلذاذه و تمتعه الجسماني لم يعبد

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 508

إلّا نفسه «1».

أقول و هو جيّد وجيه غير أنّ هناك جنان أخرى معقولة نسبتها إليه كنسبة المعقول الى المحسوس، و قد مرّ التلويح إليه في الاخبار المتقدّمة و نظيره في هذا العالم اللّذة الحاصلة للعارف الموحّد من النظر في العلوم الحقيقية و المعارف الإلهية و المكاشفات الواقعية و المشاهدات اليقينيّة و التجليات الجلالية و الجمالية و غيرها ممّا لم يخطر

على قلب بشر فانّ اللذات الحسية و لو على الوجه الّذي بسط في شرحها ليس لها قدر بالنسبة إلى هذه الأمور فضلا عن غيرها ممّا لم تصل إليه عقولنا و

ممّا اشتهر نقله عن مولانا أمير المؤمنين و رواه الشيخ ابن جمهور الاحسائي في «المحلى» عنه عليه السّلام أنّه قال: إنّ للّه تعالى شرابا لأوليائه إذا شربوا سكروا و إذا سكروا طربوا و إذا طربوا طابوا و إذا طابوا ذابوا و إذا ذابوا خلصوا و إذا خلصوا طلبوا و إذا طلبوا وجدوا و إذا وجدوا وصلوا و إذا وصلوا اتّصلوا و إذا اتّصلوا لا فرق بينهم و بين حبيبهم «2».

و لعلّ هذا الشراب هو المشار إليه بقوله: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «3».

و ما ذكرناه من التجليات و غيرها هو المعبّر عنه بالرؤية من المعتبرة على وجه لا تأبى عنه ضرورة المذهب.

ففي «التوحيد» للصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له:

أخبرنى عن اللّه عزّ و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة، قال: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 202- 205.

(2) عدّ من الاخبار الضعيفة الّتي تمسك بها الصوفية كما في كتاب الخبراتيّة في إبطال طريقتهم ج 2 ص 335.

(3) الإنسان: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 509

فقلت: متى قال حين قال لهم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1»، ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: و إنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة الست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فأحدّث بهذا عنك؟ قال: لا فإنك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدر أنّ

ذلك تشبيه و كفر و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون و الملحدون «2».

البحث الثاني أنّ القائلين بالجنّة و النّار المحسوستين و لو في الجملة

اختلفوا في أنّ الثّواب و العقاب هل هما جزاءان على الأعمال مغايران لها أم هما الأعمال الحسنة و السّيئة قد ظهرتا بصورة أخرى مناسبة للدّار الآخرة باعتبار مجرّد إختلاف أحكام الدّار و سنخ العالم كظهور شي ء واحد في عوالم مختلفة بصور متخالفة كما أنك ترى زيدا مرّة بصورته الحسيّة بالبصر و أخرى بصورته الملكوتيّة بتصوره إذا غاب عنك أو باعتبار عروض طوارئ النّمو و التّربية عليها كظهور النّواة شجرة ذات أوراق و أغصان و اثمار بعد سنين و ظهور النطفة إنسانا عالما آمرا ناهيا بعد حين.

فذهب كثير من المسلمين إلى الأوّل نظرا إلى أنّ الأعمال أعراض قائمة بمحالها، فهي فانية بانقضاء أزمنتها و محالّها من غير أن يكون لها بقاء أو عود أصلا مضافا إلى الآيات و الأخبار الدّالة بظواهرها على كون الثواب و العقاب جزاء على الأعمال و مقابلة لها بمثلها، مع ما دلّ على أنّ الجنّة و النار بما فيهما ممّا يثاب به أو يعاقب كانت مخلوقة قبل خلق بني آدم، و لو كانت مخلوقة من أعمالهم لتأخر خلقها عن خلقهم المتدرج إلى يوم القيامة، إلى غير ذلك ممّا يدل عليه من ظواهر

__________________________________________________

(1) الأعراف: 172.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 44 ح 24 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 510

الآيات و الأخبار و غيرها، حتى أنّه ذهب المفيد «1» و جماعة إلى إنكار وزن الأعمال بظاهره نظرا إلى أنّها أعراض و معاني لا يتعقّل تجسّمها و لا وزنها، بل المراد من الميزان التعديل بين الأعمال و الجزاء عليها لا على وجه الإحباط

على ما يأتي، و إلّا فلا وزن و لا ميزان على الحقيقة و قال الآخرون منهم أن الميزان بظاهرة حق إلّا أنّ اللّه تعالى يخلق بإزاء الأعمال و مناسباتها صورا حسنة أو قبيحة و تكون هي الموزونة في الميزان الحقيقي.

و ذهب ثالث إلى أنّ الموزون صحايف الأعمال لا نفسها لظواهر بعض الاخبار الّتي ستسمعها عند التّعرض للمسألة في تفسير الآيات المتعلّقة بها إنشاء اللّه تعالى.

و ذهب جمع من المحققين إلى الثاني و هم بين من أثبت تجسّم الأعمال و تجوهر الأعراض على وجه القضيّة الجزئية، بمعنى إثباتها للبعض أو للكلّ، و الكل بعض ما في الجنّات من الحور و القصور و غيرها، و بين من أثبته على الكليّة، فليس عندهم لها وجود و لا ظهور إلّا بموادّ الأعمال و صورها، قال الملا صدرا «2» بعد كلام طويناه، فتحقّق و تبيّن أنّ الجنّة الجسمانيّة عبارة عن الصور الإدراكية القائمة

__________________________________________________

(1) ابو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السّلام البغدادي شيخ المشايخ الجلّة و رئيس رؤساء الملّة و محيي الشريعة توفي ليلة الثالث من شهر رمضان سنة (413) ه قال السيّد الجليل السيد حسين البروجردي في نخبة المقال:

و شيخنا المفيد بن محمّد عدل له التوقيع هاد مهتد

استاذه صدوق السعيد و بعد عزّ (77) رحم المفيد (413)- هدية الأحباب ص 244-

(2) هو صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازي الحكيم المتأله فارس حكماء فارس، صاحب الأسفار و شرح أصول الكافي توفي بالبصرة حال توجهه الى الحج سنة (1050) ه و قد أشار اليه السيّد المؤلف البروجردي في نخبة المقال بقوله:

«ثم ابن ابراهيم صدر الأجلّ في سفر الحج (مريض 1050) ارتحل

قدوة

أهل العلم و الصفاء و يروي عن الداماد و البهائي

. تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 511

بالنفس الخيالية مما تشتهيها النفس و تستلذّها و لا مادة و لا مظهر لها إلّا النفس، فكذا فاعلها و موجدها القريب و هو هي لا غيره و انّ النفس الواحدة من النفوس الانسانية مع ما تتصور و تدركه من الصور بمنزلة عالم عظيم نفساني أعظم من هذا العالم الجسماني بما فيه، و ان كلّ ما يوجد فيها من الأشجار و الأنهار و الأبنية و الغرفات كلّها حيّة بحياة ذاتية، و حياتها كلها حياة واحدة، و هي حياة النفس الّتي تدركها و توجدها و انّ ادراكها للصور هو بعينه إيجادها لها، لا أنّها أدركتها فاوجدتها أو أوجدتها فادركتها كما في أفعال المختارين منّا في هذا العالم، حيث إنّا نتخيّل شيئا ملائما كالحركة أو الكتابة أوّلا فنفعله ثانيا ثمّ نتخيّله بعد ما فعلناه، بل أدركتها موجودة و أوجدتها مدركة بلا تقدّم و تأخر و لا مغايرة إذ الفعل و الإدراك هنا شي ء واحد «1».

أقول و التحقيق أنّ إنكار الجنّة و النّار الاخرويّتين الموجودتين في نفسهما مع قطع النظر عن طاعة المطيعين و معصية العاصين ممّا يخالف ما هو المعلوم بالضرورة من الدّين، و تأويل الآيات و الأخبار بتنزيلها على الصور النفسانية أو الحاصلة منها أو من النفس الإنسانية ملعبة بشريعة سيّد المرسلين، و الّذي يستفاد من الاخبار الكثيرة أنّهما خلقتا قبل خلق آدم و حوّاء على نبيّنا و آله و عليهما السّلام، و انّ الجنّة مظهر الرحمة الكليّة و الولاية الحقيقية خلقت من أشعّة أنوارهم عليه السّلام، و انّ طينة المؤمنين مأخوذة من الجنّة، و أنّ فيها شجرة تسمّى المزن

فإذا أراد اللّه أن يخلق مؤمنا قطر منها قطرة فلا تصيب بقلة و لا ثمرة أكلها مؤمن أو كافر إلّا أخرج اللّه تعالى من صلبه مؤمنا، إلى غير ذلك ممّا يدل على سبقها على أهلها خلقا و انّها

__________________________________________________

(1) الاسفار ج 9 ص 342 ط بيروت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 512

أعدّت لهم و أنّهم وعدوها و يجزون بها، و أنه كما قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» و أنّهم يدخلونها و يخلدون فيها، و انّ التفضل بها على الكلّ أو الجل ليس بالاستحقاق و مقابلة العمل فضلا عن تكوّنها منه بل مجرد الفضل و الرحمة كما يستفاد من قوله: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ «2» وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «3» إلى غير ذلك ممّا يغنى ضرورة المذهب بل الدّين عن الإطناب فيه، نعم ربما يستفاد ذلك بالنّسبة إلى بعض الأعمال الدنيوية أو بعض المثوبات و العقوبات الاخروية من ظواهر بعض الآيات كقوله: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* «4» يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «5» يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ «6» كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ «7»، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «8»، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً «9»، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها

__________________________________________________

(1) السجدة: 17.

(2) الانعام: 16.

(3) النور: 21.

(4)

التحريم: 7.

(5) العنكبوت: 54.

(6) الانفطار: 15- 16.

(7) التكاثر: 5- 7.

(8) الزلزال: 6- 8.

(9) آل عمران: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 513

«1»، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ «2»، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3»، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً «4»، وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ «5»، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ «6»، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً «7»، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* «8».

بل يستفاد من كثير من الأخبار أيضا

فعن عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال قلت: يا أمير المؤمنين أخبرني عن حوض النّبي صلّى اللّه عليه و آله في الدّنيا أم في الآخرة قال:

بل في الدنيا قلت فمن الذّائد عنه؟ قال: انا بيدي و لأوردنّه أوليائي و لأصرفنّ عنه أعدائي «9».

و في النّبوي: إنّ الّذي يشرب في آنية الذهب إنّما يجرجر في بطنه نار جهنم «10».

و روى القميّ في تفسيره عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لما أسري بي إلى السّماء دخلت الجنّة فرأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب و لبنة من فضة،

__________________________________________________

(1) الكهف: 29.

(2) القمر: 47.

(3) القمر: 54.

(4) النساء: 10.

(5) الحجرات: 12.

(6) الدخان: 51- 52.

(7) الإنسان: 6.

(8) الانفطار: 13.

(9) مختصر بصائر الدرجات ص: 40، بحار الأنوار ج 53 ص 68 ح 66.

(10) في البحار ج 66 ص 531 عن المجازات النبوية: للشارب في آنية الذهب و الفضة.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 514

و ربما أمسكوا فقلت لهم، ما بالكم ربما بنيتم و ربما أمسكتم؟ فقالوا: حتى تجيئنا النّفقة؟ فقلت لهم و ما نفقتكم؟ فقالوا: قول المؤمن في الدّنيا: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإذا قال بنينا و إذا أمسك أمسكنا «1».

و قد روي في النبوي أيضا أنّ في الجنّة قيعانا و انّ غراسها قول سبحان اللّه و الحمد للّه «2».

و عن أبي أيّوب الانصاري عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمّا أسرى بي مرّ بي ابراهيم عليه السّلام فقال مر أمّتك أن يكثروا من غرس الجنّة فانّ أرضها واسعة و تربتها طيبة قلت و ما غرس الجنّة قال: لا حول و لا قوّة إلّا باللّه «3».

و في تفسير الامام عليه السّلام أنّ اللّه عزّ و جل إذا كان أوّل يوم من شعبان أمر بأبواب الجنّة فتفتح، و يأمر شجرة طوبى فتطلع أغصانها على هذه الدّنيا ثمّ ينادي منادي ربّنا عزّ و جل:

يا عباد اللّه هذه أغصان شجرة طوبى فتعلّقوا بها تؤديكم الى الجنان، و هذه أغصان شجرة الزقوم فإيّاكم و ايّاها لا تؤديكم إلى الجحيم، ثمّ قال: فو الّذي بعثني بالحق نبيّا أنّ من تعاطى بابا من الخير في هذا اليوم فقد تعلّق بغصن من أغصان شجرة طوبى فهو مؤديه إلى الجنان.

ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن تطوّع للّه بصلاة في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغصن، و من تصدق في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغصن ثم ذكر انواع كثيرة من أنواع المعروف و ان فعلها هو التعلق بغصن من أغصانها و انّ من تعاطى بابا من أبواب الشّر فقد

تعلّق بغصن من أغصان الزقوم «4».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 18 ص 419 ج 120 عن تفسير القمي ص 20.

(2) في البحار ج 7 ص 229: و إنّ غراسها: سبحان اللّه و بحمده.

(3) مسند أحمد ج 5 ص 418، مجمع الزوائد ج 10 ص 97، البحار ج 18 ص 353 ح 36

(4) بحار الأنوار ج 8 ص 166- 167 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 515

و في الأمالي عن الصّادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قال سبحان اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة و من قال الحمد للّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة، و من قال لا إله إلّا اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة، و من قال اللّه أكبر غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة، فقال رجل من قريش: يا رسول اللّه إنّ شجرنا في الجنّة لكثير قال: نعم و لكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، و ذلك لأنّ اللّه عزّ و جل يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ «1» «2».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام انّ اللّه تعالى يقول ما من شي ء إلّا وقد وكّلت به من يقبضه غيره إلّا الصدقة، فإنّي أتلقفها بيدي تلقفا حتى أن الرجل ليتصدق أو المرأة لتتصدق بالتمرة أو بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل فلوه و فصيله يتأتى يوم القيامة و هو مثل أحد و أعظم من أحد «3».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في خبر طويل قال: إذا بعث اللّه المؤمن من قبره

خرج معه مثال يقدمه أمامه، كلّما رأى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع و لا تحزن و أبشر بالسرور و الكرامة من اللّه عزّ و جل، حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جل، فيحاسبه حِساباً يَسِيراً و يأمر به إلى الجنّة، و المثال أمامه فيقول له المؤمن:

يرحمك اللّه نعم الخارج خرجت معي من قبري، و ما زلت تبشّرني بالسرور و الكرامة من اللّه عزّ و جل حتى رأيت ذلك، فمن أنت فيقول أنا السرور الّذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدّنيا خلقني اللّه عزّ و جل منه «4».

و فيه عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: انّ ابن أدم إذا كان في آخر يوم من أيّام

__________________________________________________

(1) محمد: 33.

(2) الأمالي للصدوق ص 362 و عنه البحار ج 8 ص 186- 187 ح 154.

(3) الكافي ج 4 ص 47 ح 6.

(4) الكافي ج 2 ص 190 و عنه البحار ج 74 ص 290- 291.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 516

الدّنيا إلى- أن قال- فان كان وليّا للّه أتاه أطيب النّاس ريحا و أحبّهم منظرا و أحسنهم رياشا فقال أبشر بروح و ريحان و جنّة نعيم و مقدمك خير مقدم فيقول له أنا عملك الصالح «1».

و في خبر آخر عن الصادق عليه السّلام فيقول أنا رأيك الحسن الّذي كنت عليه و عملك الصّالح الّذي كنت تعمله «2» الخبر.

و هو كما ترى صريح في تجسّم كلّ من الأعمال و الاعتقادات، و تحقيق ذلك أنّ الحقائق و الماهيّات لها تقرّر في نفس الأمر و لها وجود في إدراك العقل، و في المشاعر الباطنة و الظاهرة المتنزلة عن الإدراك العقلي

المغاير لوجودها بحسب الواقع، و الحاصل أنّها تنصبغ بأحكام العوالم الّتي هي مظاهر الوجود و محال الظهور، و لذا ترى الحقيقة الانسانية مثلا تظهر في البصر بالصورة المعينة المكتنفة بالعوارض الماديّة ملازمة لوضع معين من قرب و بعد و غير ذلك، و هي بعينها تظهر في الحس المشترك بصورة تشابهها من غير تلك الشرائط و هي في الحالين تقبل التكثر بحسب الأشخاص كصورة زيد و بكر، ثمّ تظهر تلك الحقيقة في العقل بحيث لا تقبل الكثرة و تصير الإفراد المتكثرة في الصورة المبصرة و المتخيّلة متّحدة في الصورة العقلية، فظهر من ذلك أن الحقيقة الواحدة مع وحدتها الذاتية قد تظهر في صور كثيرة متخالفة الحكم في نفسها مع مغايرتها للجميع، و من هذا الكلام ينفتح لك باب تعبير المنام فإن الأشياء قد يظهر لك في الرؤيا بصورة جوهرية مع كونها أعراضا في الخارج كظهور العلم فيها بصورة اللبن، و تعليم الحكمة غير أهلها بتعليق الدّر في أعناق الخنازير، و أذان المؤذن في شهر رمضان قبل الفجر بالختم على أفواه الرجال

__________________________________________________

(1) البحار ج 6 ص 225 عن تفسير القمي.

(2) البحار ج 6 ص 267 ح 114 عن الكافي ج 1 ص 66.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 517

و فروج النساء، و يظهر فيها العدو بصورة الكلب و الحية و نحوهما، و السرور، بصورة الماء الصافي و الحمى بصورة الحمام، و الغم و الحزن بصورة شي ء من الحلويات و غير ذلك مما لا يحصى، فإذا ألقي الى المعبر تصرف فيها من جهة المناسبة المعتبرة بينهما فيخبر بالشي ء قبل وقوعه.

و من هنا

قد ورد أنّ الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «1».

ففي هذا العالم ينظرون إلى الأشياء

و لا يعرفونها بحقائقها الّتي هي عليها و انّما يتوهمون في الطاعات و التقيد بحدود الشرعة مرارة و كلفة و ثقلا و مشية، و في مخالفة الأوامر و غصب الأموال و أكلها بالباطل و هتك الحرمات حلاوة و سرورا و نشاطا، و لا يعلمون أنّ حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، و مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، و الأنبياء و الأوصياء و خلفاؤهم هم المعبرون من الحق بالحق لرؤيا الخلق، و إن اتفقت كلمة الطغاة لجفاة العصاة على تكذيبهم و الرد عليهم و لم يصدقهم إلّا أقل قليل، إمّا لمشاهدة الحقائق على ما هي عليها كما يرون الدّنيا جيفة و طالبها كلابا، و إمّا لتصديق- الرسل و الأنبياء إيمانا بالغيب أو لغير ذلك، بخلاف غيرهم ممّن هو من شقوة لازمة و غفلة دائمة فلا يتنبهون إلّا بنفخة الصور فإذا انتقلوا عن هذه الدار و استيقظوا من رقدتهم و تنبهوا من غفلتهم فيقال للكافر الجاحد: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «2»، فيظهر سوء الخلق بصورة ضغطة القبر كما

قال صلّى اللّه عليه و آله في سعد بن معاذ «3» أنّه قد أصابته ضمّة إنّه كان في خلقه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 4 و ج 6 ص 277.

(2) ق: 22.

(3) هو سعد بن معاذ بن النعمان الانصاري الاشهلي سيد الأوس الشهيد في غزوة الأحزاب سنة (5) ه- التقريب ج 1 ص 346 و العبر ج 1 ص 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 518

مع أهله سوء «1» و يحشر المتكبّر على صور الذّر تطأهم أقدام الناس في المحشر، و تحشر من النساء من تؤذي زوجها معلقة بلسانها، و من

كانت تخرج من بيتها بغير اذن زوجها معلقة برجليها و من كانت لا تغطي شعرها من الرجال معلقة بشعرها، و من كانت تزين بدنها للناس تضرب فتأكل لحم جسدها، إلى غير ذلك ممّا استفاضت به الاخبار و قد مر شطر منها و من الآيات الظاهرة في ظهور الأعمال و تجسمها بالصورة المناسبة لعالم الآخرة ككون أكل مال اليتيم ظلما أكلا للنّار ملأ بطنه، و المغتاب آكلا للحم أخيه ميتا، و عود التمرة الّتي تصدق بها صاحبه بعد تربيته سبحانه كجبل أحد و أعظم، و تجسّم الخلق الحسن و الأعمال الصالحة بالصور الحسنة المليحة و غير ذلك ممّا مرّ.

و قد ظهر من جميع ذلك أنّه لا مانع من التّجسم عقلا باعتبار تربية نفس هذه الأعمال في صقع الملكوت بإيصال الإمدادات و الفيوض الغيبية على ما هو مقتضى التربية الإلهية، كما أنّه لا شبهة في وقوعه و صحته في الجملة حسبما هو المقطوع به من الأدلة المتقدمة.

و امّا أنّ حقيقة الجنّة و النّار لكلّ أحد هو ما كان عليه من الإيمان و الكفر و جميع ما فيهما من أنواع النعيم و ألوان العذاب هو نفس الأعمال و العقائد فلم يظهر عليه دليل من العقل و النقل، و ظواهر الكتاب و السنة كون ذلك على وجه الجزاء و المقابلة و التفضل، بل التأمل في الكتاب و السنة يقضي على ذلك القول بنفي الكليّة، و ان ظهر منهما صحته في الجملة و لو من جهة الاتحاد في الحقيقة أو اعتبار المماثلة في الجزاء كما قال سبحانه وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2»، و نحن إنّما كلّفنا

__________________________________________________

(1) سفينة البحار ج 1 ص 424.

(2) الشورى: 40.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 519

بالإيمان بالغيب لا الرّجم بالغيب، و اللّه العالم بالحقائق، و حججه هداة الخلائق.

وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ «1» الأزواج جمع زوج، و هو يقع على الرجل و المرأة، و إن أطلقت عليها الزوجة أيضا و زوج كل شي ء شكله و نظيره و ضده من سنخه، كالرطب و اليابس و الحلو و المرّ، و لذا قال تعالى: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «2»، و قال: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «3»، أي ضدّين متوافقين في السنخ،

و قال عليه السّلام: «بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له» «4» ، و قالوا: كل ممكن زوج تركيبي أي مركب من الوجود و الماهيّة، و الطهارة هي النظافة و النزاهة من الأقذار و الأدناس و يقال: النساء فعلت و النساء فعلن، و هنّ فاعلة و فواعل، و هما لغتان فصيحتان، و المفرد بتأويل الجماعة في الإسناد و التوصيف و غيرهما، فالمعنى في المقام جماعة أزواج مطهّرة، و قرأ زيد بن عليّ مطهرات و عبيد بن عمير «5» مطهرة بالتشديدين، بمعنى متطهرة لكن في صيغة التفعيل من المبالغة في توصيفهنّ و الفخامة لصفتهن ما ليس في غيرها.

و في تقديم المسند على المسند اليه و على الظرف مع اللام المفيدة للاختصاص و التشريف، و تنكير المسند إليه على صيغة الجمع وجوه من الجزالة و الفخامة و التخصيص بالكرامة، سيّما مع التوصيف بالتطهير الدّال على الكينونة لا التصيير كما في آية التطهير، و المراد طهارتهنّ ممّا يختص بالنساء من الحيض

__________________________________________________

(1) البقرة: 25.

(2) النجم: 45.

(3) الذاريات: 49.

(4) الأمالي للسيد المرتضى ج 1 ص 103، الاحتجاج ج 1 ص 298.

(5) هو عبيد بن عمير بن

قتادة ابو عاصم الليثي المكي، ولد في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و توفي سنة (74) ه. و له ترجمة في غاية النهاية للجزري ج 1 ص 496 رقم 3064.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 520

و النفاس و الاستحاضة و الولادة و ممّا لا يختص بهنّ من دنس الطباع و سوء الأخلاق و إضمار الشقاق و النفاق و غير ذلك من أعراض هذه الدّار و مكارهها لأنّها على

ما رواه في «الإحتجاج» عن الصّادق عليه السّلام: خلقت من الطيب لا تعتريها عاهة، و لا تخالط جسمها آفة، و لا يجري في ثقبها شي ء، و لا يدنّسها حيض و الرحم ملتزقة و كلما أتاها زوجها وجدها عذراء و هي تلبس سبعين حلّة، و يرى زوجها مخّ ساقها من وراء حللها و بدنها كما يرى أحدكم الدراهم إذا ألقيت في ماء صاف قدره قيد رمح «1».

و في البحار عن كتاب الحسين بن سعيد «2» بالإسناد عن النّبي عليه السّلام: أن أدنى أهل الجنّة منزلة من الشهداء من له اثنى عشر ألف زوجة من الحور العين، و أربعة آلاف بكر، و اثنى عشر ألف ثيّب تخدم كل زوجة منهن سبعون ألف خادم، غير أن الحور العين يضعف لهنّ يطوف على جماعتهن في كل أسبوع، فإذا جاء يوم إحداهن أو ساعتها اجتمعن إليها يصوتن بأصوات لا أصوات أحلى منها و لا أحسن، حتى ما يبقى شي ء إلّا اهتز لحسن أصواتهن يقلن:

ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ، و نحن النّاعمات فلا نبؤس أبدا

. و في الكافي عنه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لكلّ مؤمن سبعين زوجة حوراء و أربع نسوة من الآدميين، و المؤمن

ساعة مع الحوراء، و ساعة مع الآدمية، و ساعة يخلو بنفسه على الأراك متكئا ينظر بعض المؤمنين إلى بعض، و انّ المؤمن ليغشاه شعاع نور و هو على أريكته فيقول لخدّامه، ما هذا الشعاع اللامع لعل الجبار لحظني؟ فيقول له

__________________________________________________

(1) البحار ج 8 ص 136 ح 48 عن الاحتجاج ص 192.

(2) هو الحسين بن سعيد بن حماد بن سعيد بن مهران الكوفي الاهوازي توفي بقم و له ثلاثون كتابا و هو ثقة جليل القدر، روى عن ابي الحسن الرضا و أبي جعفر الجواد و ابي الحسن الثالث عليهم السّلام- سفينة البحار ج 1 ص 273.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 521

خدّامه قدوس قدوس جل جلاله، بل هذه حوراء من نساءك، فمن لم تدخل بها بعد أشرفت عليك من خيمتها شوقا إليك، و قد تعرضت لك و أحبّت لقائك، فلما أن رأتك متكئا على سريرك تبسّمت نحوك شوقا إليك، و الشعاع الّذي رأيت و النور الّذي غشيك هو من بياض ثغرها و صفائه و نقائه و رقته، فيقول ولي اللّه: ائذنوا لها فتنزل إلي فيبتدر إليها ألف وصيف و ألف وصيفة يبشرونها بذلك، فتنزل إليه من خيمتها و عليها سبعون حلّة منسوجة بالذهب و الفضة مكلّلة بالدّر و الياقوت و الزبرجد صبغهنّ المسك و العنبر بألوان مختلفة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة طولها سبعون ذراعا و عرض ما بين منكبيها عشرة أذرع، فإذا دنت من وليّ اللّه أقبل الخدّام بصحاف الذهب و الفضة فيها الدر و الياقوت و الزبرجد، فينشرونها عليها ثم يعانقها و تعانقه فلا تمل و لا يمل «1».

و في تفسير الامام عليه السّلام: وَ لَهُمْ فِيها في تلك

الجنان أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من أنواع الأقذار و المكاره، و مطهرات من الحيض و النفاس، لا ولّاجات و لا خرّاجات و لا دخالات و لا ختّالات و لا متغايرات، و لا لأزواجهن فركات و لا صخّابات، و لا عيّابات، و لا فحاشات، و من كل المكاره و العيوب بريّات، وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون في تلك البساتين و الجنّات «2».

أقول الولّاجة الخراجة هي الكثيرة الدخول و الخروج و في القاموس رجل خراج ولّاج كثير الظرف و الاحتيال و الدّخالات الغاشات المفسدات أو كثيرة الدخول في الأمور الّتي لا ينبغي لها الدخول فيها و ربما يضبط الولاجات بالحاء المهملة مفسّرة بالحمّالة زوجها بما لا يطيق، و على هذا فتكون الخراجة الدّخالة بمعنى كثيرة الخروج و الدخول و الختّالات الخدّاعات و المتغايرات من الغيرة على

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 160 ح 98 عن الكافي الروضة ص 95- 100.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 140 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 522

أزواجهن و فركات مبغضات و الصّخابات بالصاد المهملة ثمّ الخاء المعجمة كثيرة الصياح و الكلام و في بعض النسخ بدلها و لا متخابات و هي المتخادعات و العيابات من العيب و في بعض النّسخ العتابات من العتب و الفحّاشات من الفحش و في الصافي بدلها النّخاسات و فسّرها بالدّافعات و لم أجدها في شي ء من النّسخ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون في النعمة و السرور و الحبور، لا ينغص عيشهم بخوف الزوال، و لا يتطرق إليهم خوف الفناء و الانتقال، بل هم متنعمون فيما أعدّ لهم من النّعم فيما لا يزال فان الخلود دوام البقاء من وقت مبتدأ على ما

صرّح به في «مجمع البيان» و «الصحاح» و «القاموس» و غيرها و في «الكشاف» أنّه الثبات الدائم و البقاء اللازم الّذي لا ينقطع قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1».

و في الصحيفة السجادية: اللهم يا ذا الملك المتأبد بالخلود «2».

و قال امرئ القيس:

ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي و هل ينعمن من كان في العصر الخالي و هل ينعمنّ إلّا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال «3». و من هنا يظهر أنّ ما ربّما يحكى في بعض الحواشي عن الزمخشري من أن الخلد من الأسماء الغالبة للمعنى كالدابة للعين فانّه في الأصل في الدّوام الّذي ينقطع ثمّ غلب استعماله في الدّوام الّذي لا ينقطع ممّا لا أصل له كما نبّه عليه في الكشف و غيره.

و أمّا ما ذكره القاضي تبعا للرازي ناسبا له إلى أصحابه و هم الأشاعرة من أنّ

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 34.

(2) الدعاء: 32.

(3) الكشّاف ج 1 ص 262 ط بيروت دار الفكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 523

الخلد و الخلود في الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم، و لذلك قيل للأثافي و الأحجار خوالد، و للجزء الّذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيّا خلد، و لو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله: خالِدِينَ فِيها أَبَداً* «1» لغوا و استعماله حيث لا دوام كقولهم، وقف مخلد يوجب اشتراكا أو مجازا و الأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للاعمّ منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار كاطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ «2»، الآية.

ففيه أنّ الثابت من التبادر و غيره

من أمارات الوضع بل و من تصريح أئمة اللغة و غيرهم وضعه لدوام البقاء لا من حيث كونه فردا للثبات المديد بل من حيث الخصوصيّة فيكون مجازا في غيره حتّى في الجامع، مع أنّ اطلاق الآية دليل على كونه حقيقة فيما ذكرناه، كيف و قد اتفق من البشر من كان طوال الأعمار كخضر و الياس بل و كذا مثل نوح و غيره.

و أمّا اطلاق الخوالد على الأثافي و الصّخور فبالاضافة على ضرب من المجاز.

و لذا قال في «الصحاح» إنّه قيل لأثافي الصخور خوالد لبقائها بعد دروس الاطلال.

و امّا ما يقال من أنّه لو كان التأبيد داخلا في مفهوم الخلد لكان ذلك تكرارا ففيه أنّه تأكيد لجزء معناه لا أنّه تكرار لتمامه كما ننبّه عليه في موضعه إن شاء اللّه.

و انّما قيّدناه بوقت مبتدأ لعدم إطلاقه على من لم يزل و لا يزال، و لذا لا يوصف اللّه سبحانه بأنّه خالد.

__________________________________________________

(1) الأحزاب: 65.

(2) الأنبياء: 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 524

ثمّ انّ مذهب الاماميّة خلود أهل الجنّة فيها دائما أبدا و وافقهم فيه أكثر المخالفين كالمعتزلة و بعض الاشاعرة بل ادّعى كثير من المحققين عليه إجماع المسلمين، و ربما يعزى إلى بعضهم للقول بالانقطاع، و الظاهر أنّ هذا القول كان منسوبا إليهم أيضا في عصر الأئمة عليه السّلام.

روى الكشي في رجاله عن يحيى بن أبي بكر قال: قال النظّام «1» لهشام بن الحكم «2» أن أهل الجنّة لا يبقون في الجنّة بقاء الأبد فكيف يكون بقاؤهم كبقاء اللّه و محال يبقون كذلك فقال هشام إنّ أهل الجنّة يبقون بمبق لهم و اللّه يبقى و ليس هو كذلك فقال: محال أن يبقوا للأبد، قال: فالى

ما يصيرون؟ قال يدركهم الخمود، قال: فبلغك أن في الجنة ما تشتهي الأنفس؟ قال: نعم، قال: فان اشتهوا و سألوا ربّهم بقاء الأبد؟ قال: إنّ اللّه تعالى لا يلهمهم ذلك، قال فلو أنّ رجلا من أهل الجنّة نظر إلى ثمرة على شجرة فمد يده ليأخذها فتدلت إليه الشجرة و الثمار، ثم كانت منه بغتة فنظر إلى ثمرة أخرى أحسن منها فمدّ يده اليسرى ليأخذها فأدركه الخمود و يداه متعلقتان بشجرتين فارتفعت الأشجار و بقي هو مصلوبا فبلغك أنّ في الجنّة مصلوبين، قال: هذا محال، قال فالذي أتيت به أمحل منه، أن يكون قوم قد خلقوا و عاشوا فأدخلوا الجنان يموتهم فيها يا جاهل «3».

و بالجملة دوام البقاء و التّنعم ممّا يدل عليه صراح الآيات و صحاح الروايات المتضمنة للخلود و للدوام و لذبح الموت بين الجنة و النار.

__________________________________________________

(1) هو ابراهيم بن سيّار بن هاني البصري المتكلم المعتزلي مات سنة (231) ه، سير أعلام النبلاء ج 7 ص 259.

(2) هشام بن الحكم أبو محمد الكوفي المناظر المتكلّم الجليل توفي نحو سنة (190) ه

(3) رجال الكشي ص 274 رقم 493.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 525

فعن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا أدخل اللّه أهل الجنّة الجنّة و أهل النّار النّار جي ء بالموت في صورة كبش حتّى يوقف بين الجنّة و النّار، قال: ثمّ ينادي مناد يسمع أهل الدارين جميعا: يا أهل الجنة يا أهل النّار، فإذا سمعوا الصوت أقبلوا فيقال لهم:

أ تدرون ما هذا؟ هذا هو الموت الّذي كنتم تخافون منه في الدّنيا، قال: فيقول أهل الجنّة اللهم لا تدخل الموت علينا، قال: و يقول أهل النّار: اللّهم أدخل الموت علينا قال: ثمّ

يذبح كما تذبح الشّاة قال: ثمّ ينادي مناد: لا موت أبدا أيقنوا بالخلود، قال:

فيفرح أهل الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ يموت من فرح لماتوا، و يشهق أهل الجنّة شهقة لو كان أحد يموت من شهيق لماتوا «1».

و من هنا يظهر أنّ العلم ببقائهم و تنعّمهم سرمد الأبد بموت الموت و حياة الحياة من أعظم النعم عليهم، فختم به الآية لانتهائه الى اللانهاية.

و أمّا الإتيان بالموت في صورة الكبش أو خصوص الأملح فللتنبيه على نهاية ذلّته و حقارته في عبوديته و أطاعته، و قد يعلل كونه أملح بأنّ هذا اللّون مركّب من بياض و سواد ممتزجين فهو في حقّ المؤمن نور، و في حقّ المنافق ظلمة، و لما كان ذلك كذلك و لم يكن في احدى جهتيه مستمرّا اقتضى امتزاج طبعية اختلاط لونيه فكان أملح.

و في كلام بعض المحققين كون الذبح بشفرة يحيى على نبيّنا و آله و عليه السّلام و هو صورة الحياة و لعله أخذ من المروي من طرق العامة أن يحيى عليه السّلام هو الّذي يضجعه و يذبحه بشفرة تكون في يده و النّاس ينظرون إليه.

و الخطب سهل فيه و فيما سمعت من دوام النّعيم على ما دلّ عليه النقل بل ربّما يؤيد ذلك أو يستدلّ عليه بأنّ دوام الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 345 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 526

يبعث على فعل الطاعة و ترك المعصية فيكون لطفا واجبا عليه سبحانه و بأنّ المدح على فعل الطّاعة و الذّم على المعصية دائمان إذ لا وقت إلّا و يحسن فيه مدح المطيع و ذم العاصي و هما معلولا الطاعة و المعصية فيجب

دوام الثواب و العقاب لقضية العليّة، و بأنّ الثواب لو كان منقطعا يحصل لصاحبه الألم و العقاب و العقاب لو كان منقطعا يحصل لصاحبه السرور بالانقطاع فيكون نقضا للغرض.

و ستسمع ان شاء اللّه تمام الكلام فيها و في دفع شبهات المنكرين و بيان سبب الخلود من النيّة و غيرها عند التعرّض لخلود أصحاب النّار فيها نستجير باللّه تعالى منها.

[سورة البقرة(2): آية 26 ]

اشارة

تفسير الآية (26) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً لما افتتح بذكر الكتاب و أصناف النّاس في الانتفاع به و عدمه، و أردفه بما عليه أساس الكتاب بالإرشاد إلى دلائل التوحيد و اثبات حقيقة الكتاب و نبوّة من أتى به لئلا يكون الكلام خطابيّا مجرّدا، و رتّب عليه وعيد المنكر و وعد المقر، أشار إلى الجواب عن بعض شبه المنكرين من الجهلة و السفهاء و المعاندين من أهل المراء و مقلدة الأهواء، و ساقه مساق أمر واضح البطلان غير خاف فساده على من لاحظ العيان و راجع الوجدان تنبيها على أنّ الشقوة لازمة بهم و حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، مع ما فيه من التنبيه على أنّه لم تبق لهم شبهة فضلا عن حجّة حتّى تعلّقوا بما هو واضح الفساد و الإشارة إلى تقرير ما قدّمه من اختصاص المتقين بكونه هدى لهم دون غيرهم.

و منه يظهر أنّ هذا الكلام حقيق بالذكر في المقام سيّما مع ما فيه من إزاحة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 527

الشّبهة عن ضرب الأمثال الّذي فيه معظم الانتفاع بالكتاب مضافا إلى ما قيل في سبب النزول أن اللّه لما ضرب المثلين للمنافقين قبل هذه الآية في قوله:

مَثَلُهُمْ «1» قال المنافقون: اللّه أعلى و أجلّ من أن يضرب هذه الأمثال فنزلت،

أو أنّه لمّا ضرب المثل بالذّباب و العنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين و عابوا ذكره فنزلت.

بل قد روى سببيتهما معا لذلك كما

في تفسير الإمام عليه السّلام عن الباقر عليه السّلام قال لمّا قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ و ذكر الذباب في قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً «2»، و لما قال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «3»، و ضرب المثل في هذه السورة بالذي اسْتَوْقَدَ ناراً و بالصيب مِنَ السَّماءِ قالت الكفار و النواصب: ما هذا من الأمثال فتضرب و يريدون به الطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال اللّه: يا محمّد إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي لا يترك حياء أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا للحق و يوضحه به عند عباده المؤمنين ما بَعُوضَةً أي ما هو بعوضة المثل إذا علم أنّ فيه صلاح عباده و نفعهم «4».

و ذلك أنّ الناس لفي غفلة و غمرة عن إدراك المعقولات لتوغلهم و استغراقهم في الإقبال على المحسوسات فاستعين على تقريب المعاني الى الأذهان و رفع الحجاب عنها بابرازها في كسوة المحسوس المأنوس كي يساعد فيها الوهم العقل

__________________________________________________

(1) البقرة: 17.

(2) الحج: 73.

(3) العنكبوت: 41.

(4) تفسير البرهان ج 1 ص 70 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 528

و لا ينازعه فيما لا يستقل بادراكه، و يكون ادراك المحسوس لسهولته عليهم نحو السلم للارتقاء إلى فهم المعاني المقصودة، و الوسيلة لنيل المقاصد المفقودة، و لذا اشاعت الأمثال في الكتب الإلهية و الحكم النبوية، و استعانت بها الحكماء في

إشاراتهم و البلغاء في عباراتهم، و استعملته جميع الأمم من أهل العالم على اختلاف ألسنتهم و أديانهم و أفهامهم و لم تزل الطريقة فاشية فيهم في جميع الأعصار، باقية على مرّ الدّهور و الأدوار فالشبهة الناشئة لهم و ان أمكن تقريرها على وجوه ثلاثة:

أحدها أن التمثيل بالأمور المحسوسة لا ينبغي كونه وحيا من اللّه سبحانه فانّها مبتذلة عند العامة و الوحي ينبغي أن يكون من المعاني البديعة و احكام الشريعة، ثانيها أنّه قد جاء في القرآن ذكر النحل و النمل و الذباب و العنكبوت و نحوها من الأشياء الحقيرة الّتي لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلا عن اعجازه، ثالثها أن هذه الأمثال ليس من الأمثال السائرة الدائرة الّتي ربما يستعين بها الحكماء أو يستعملها البلغاء بل لم يشتمل على شي ء من أمثال العرب المعروفة فالشبهة الاولى مطويّة للاستغناء عن جوابها بالجواب عن الثانية الظاهرة و الثالثة مستفادة من قوله عليه السّلام في الخبر المتقدم و ما هذا من الأمثال فتضرب آه إلا أنّها بوجوهها واضحة الاندفاع.

أمّا الاولى فلما سمعت من الحكمة المقتضية لكونه لطفا يتمّ به التبليغ و الإرشاد و يستعد به القلوب القاسية الجافية لفهم المقاصد المتعلّقة بالمبدأ و المعاد و ذلك لأنّ الأمثال بمنزلة القشور و الأبدان و المعاني المقصودة بمنزلة اللبوب و الأرواح و إنّما جعلت الأمثال المشيرة إلى تلك المقاصد جسرا للعبور إليها على الوجه الموافق الملائم للعامة حسبما سمعت.

و أمّا الثانية فلان هذه الأشياء المستحقرة كلها مظاهر للقدرة الإلهية مجال

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 529

لغرائب صنع الربوبيّة إذ لا فرق في ذلك بين البعوضة و الفيلة بل بينها و بين السموات و

الأرضين، لأنّ الصنع الظاهر في كلّ منهما متساوقان بل هما كفرسي رهان و رضيعي لبان في الدلالة على الصانع الحكيم المبدع للوجود و الأعيان.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له رواها في نهج البلاغة: و لو فكروا في عظيم القدرة و جسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكن القلوب عليلة، و الأبصار «1» مدخولة أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه و أتقن تركيبه و فلق له السمع و البصر، و سوّى له العظم و البشر، انظروا إلى النّملة في صغر جثتها و لطافة هيئتها لا تكاد، تنال بلحظ البصر، و لا مستدرك الفكر كيف دبّت على أرضها، و ضنّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها و تعدّها في مستقرها، تجمع في حرّها لبردها و في ورودها «2» لصدرها، مكفولة برزقها، مزروعة برفقها، لا يغطها المنان، و لا يحرمها الديان و لو في الصفا اليابس و الحجر الجامس، و لو فكّرت في مجاري أكلها و في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف بطنها، و ما في الرأس من عينها و اذنها لقضيت من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا فتعالى الّذي أقامها على قوائمها، و بناها على دعائمها لم يشرك في فطرتها فاطر، و لم يعنه في خلقها قادر، و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلّتك الدلالة إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شي ء، و غامض إختلاف كل حي، و ما الجليل و اللطيف و الثقيل و الخفيف و القوي و الضعيف في خلقه إلّا سواء، و كذلك السماء و الهواء، و الرياح و الماء،

فانظر إلى الشمس و القمر، و النبات و الشجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا الليل و النهار، و تفجر هذه الأنهار، و كثرة

__________________________________________________

(1) في نسخة: و البصائر.

(2) في نسخة: و في وردها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 530

هذه الجبال و طول هذه القلال، و تفرق هذه اللغات و الألسن المختلفات

الخطبة بطولها «1».

هذا مع أن التمثيل بالأشياء الحقيرة شايع جدّا عند العرب و غيرهم فقالوا في التمثيل: أضعف من بعوضة، و أعزّ، من مخ البعوضة فيما لا يوجد أصلا و كلفني مخ البعوضة في التكليف بما لا يطاق، و ألح من الذباب، و أطيش من الذباب، و أشبه بالذباب من الذباب، و أضعف من فراشة، و أجهل من فراشة، و أطير من جرادة، و أعظم من جرادة، و أفسد من جرادة و أسمع من قراد إلى غير ذلك ممّا لا تحصى.

و في الإنجيل: لا تشرّدوا الزنابير فتلدغكم، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم.

و فيه: لا تكونوا كالنخل يخرج منه الدقيق الطيب و يمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم و تبقون الغلّ في صدوركم.

و فيه: قلوبكم كالحصاة الّتي لا تنضجها النّار و لا يلينها الماء و لا ينسفها الرياح

، و غير ذلك من الأمثال الكثيرة مع أنّه لا يخفى أنّ المقصود من التمثيل زيادة الإيضاح و البيان للمعنى الممثّل له فهو تابع له في العظم و الصغر و الشرف و الخسّة دون الممثل بالكسر فربما تقتضي الحال التمثيل بالأضعف الأعجز تنبيها على نهاية ضعف آلهتهم و عجزها كما في قوله: وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ «2».

فالذباب الّذي هو من أضعف الحيوانات يزاحمهم و لا يقدرون على دفعه

إلى غير ذلك من الدّواعي الجزئيّة و الموارد الخاصة.

و أمّا الثالثة فواضحة الدّفع و الاستحياء استفعال من الحياء ممدودا، و هو

__________________________________________________

(1) الخطبة 185 من نهج البلاغة.

(2) الحج: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 531

الانقباض عن الشي ء و الامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، و هو الوسط بين الوقاحة الّتي هي الجرأة على القبائح و عدم المبالاة بها، و الخجل الّذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا فهو العدل المحمود بين طرفي الإفراط و التفريط يقال حيي الرجل منه من باب علم و استحيى منه، و عنه و استحياه يتعدّى بنفسه و بكلّ من الحرفين.

قال في «الكشاف»: و في اشتقاقه من الحياة يقال حيي الرجل كما يقال نسي و خشي و شطي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعتريه من الانكسار و التغير منتكس القوّة منتقص الحياة كما قالوا فلان هلك حياء من كذا و مات حياء و رأيت الهلاك في وجهه من شدّة الحياء، و ذاب حياء «1» أقول و كان الاستحياء استبقاء الحياة الانسانية المقتضية لجملة من الأفعال و التروك بترك ما يوجب فتورا و انكسارا فيهما، و لذا فسّر في «الصحاح» و «القاموس» لا يستحي في الآية أي لا يستبقي نظير قوله: وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ* «2» و ان اختلفا في اعتبار المادّة فإن أحدهما باعتبار الحياة الإنسانية و الآخر باعتبار الروح الحيواني.

و قرأ عبد اللّه بن كثير يستحي بياء واحدة، و علل حذف الأولى بالتقاء الساكنين بعد حذف حركتها استثقالا للكسرة عليها، و عن الأخفش: استحيا بياء واحدة لغة تميم و بيائين لغة أهل الحجاز، قال: و هو الأصل لأنّ ما كان موضع لامه معتلا لم يعلّوا عينه ألا

ترى أنّهم قالوا أحييت و حويت و يقولون قلت و بعث فيعلّون العين حيث لم تعتل اللام، بل إنّما حذفوا الياء لكثرة استعمالهم لهذه الكلمة كما

__________________________________________________

(1) الكشاف ج 1 ص 263.

(2) البقرة: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 532

قالوا: لا أدر في لا أدري، و حيث قد سمعت أنّ الحياء من الأعراض القائمة بالنفس و لذا لا يصحّ اتصافه تعالى به اثباتا و نفيا فلا بد من تأويله في حقّه بالحمل على نهايات الأعراض لا بدايات الاعراض، فالمبدأ و هو التغيّر النفساني و الجسماني و ان لم يكن ثابتا في حقّه إلّا أنّه يفعل فعل المستحي و يترك تركه كما هو الحال فيما يتّصف به من الغضب و المكر و النسيان و غيرها حسبما مرت الإشارة إليه، و إلى وجوه أخر عند التعرض لنسبة المخادعة و الاستهزاء إليه سبحانه، نعم قد يحتمل في المقام وجوه أخر مثل أن تكون هذه العبارة قد وقعت في كلام الكفرة فقالوا ما يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذّباب و العنكبوت فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال، أو أن المعنى أنّه تعالى لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها، أو أنّه لا يمتنع منه حيث أنّ أحدنا إذا استحيى عن شي ء تركه و امتنع منه بناء على نوع من التجريد فيهما، أو أنّ المراد أنّ الّذي يستحيي منه هو ما يكون قبيحا في نفسه و يكون لفاعله عيب في فعله، فأخبر اللّه سبحانه أنّ ضرب المثل ليس بقبيح و لا عيب فيه حتى يستحي منه، أو أنّه تعالى لا يعرضه الحياء و غيره من العوارض النّفسانيّة و

لذا نفاه عنه كما نفى عنه الولد و النوم و غيرهما في قوله: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ «1»، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ «2»، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ «3».

و هو كما ترى فإنّ مساق هذه الآيات و نحوها بيان استحالة الاتصاف لا الإخبار عن انتفاء الأوصاف و ظاهر الآية أنّه ليس بمقام الاستحياء لا أنّه يستحيل اتّصافه بالحياء، و ضرب المثل اعتماله و اعتماده من ضرب اللبن و الخاتم، و أصله الاعتماد المولم أو وقع شي ء على آخر يقال ضربته مثلا فيتعدّى لمفعولين، و يدخل

__________________________________________________

(1) التوحيد: 3.

(2) البقرة: 255.

(3) المؤمنون: 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 533

على المبتدأ و الخبر لما فيه من معنى الجعل كما يقال جعلته مثلا و منه قوله:

وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ «1»، و ربما يحتمل أخذه من ضربك أي مثلك على معنى أن يمثل لهم مثلا و قد يرجح الاول لما فيه من الإشارة إلى اتّحاد المضرب و المورد، و انّه ضربه ابتداء لا أنّه شبّه المضرب بالمورد و إنّ بصلتها مخفوض المحل بإضمار من كما هو المطرّد أو منصوب بافضاء الفعل إليه بعد حذف الجار، أو بافضائه إليه بنفسه لما سمعت من أن يستحي يتعدّى بنفسه.

وَ ما هذِهِ إمّا إبهاميّة تقترن بالنكرة فتزيدها إبهاما و شياعا و عموما كقوله: أَيًّا ما تَدْعُوا «2»، و أَيْنَما تَكُونُوا «3»، بل قد تفيد مضافا إلى الإبهام الحقارة كما في المقام فتكون صفة لمثلا أو بدلا منه و بَعُوضَةً عطف بيان علي ما و أمّا مزيدة للتوكيد كما في قوله: فَبِما رَحْمَةٍ «4»، فَبِما نَقْضِهِمْ* «5» و ربما يؤيّد بسقوطها

في قراءة ابن مسعود، و الجملة الّتي تؤكدها إمّا ضرب المثل فمعناه أنّه يضرب المثل حقّا أو نفي الاستحياء و المراد أنّه لا يستحيي البتّة.

و أمّا ما يحكى عن أبي مسلم «6»: معاذ اللّه أن يكون في القرآن زيادة و لغو و تبعه الرازي معللا بأنّ اللّه تعالى وصف القرآن بكونه هدى و بيانا و اشتماله لغوا ينافي ذلك، و وافقهما بعض السادة من مشايخنا المعاصرين.

مدفوع بأنّ المقصود من زيادتها أن لا يراد منها معنى خاصّ بل إنّما تذكّر مع

__________________________________________________

(1) الزخرف: 59.

(2) الإسراء: 110.

(3) النساء: 78.

(4) آل عمران: 159.

(5) النساء: 155.

(6) هو ابو مسلم الكاتب محمد بن احمد بن علي البغدادي نزيل مصر ولد سنة (305) ه و روى القراءات عن جمع من المقرئين مثل ابن الجارود، و ابن بزيع و روى عنه القراءة الحافظ ابو عمرو الداني، توفي سنة (399) ه- غاية النهاية ج 2 ص 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 534

غيرها لإفادة الوثاقة و التوكيد في المعنى المقصود، و أين هذا من اللّغو الضائع الّذي لا يترتّب عليه شي ء من الفوائد: كيف و زيادة الحروف و لو لفائدة لفظيّة أو معنويّة كثيرة في كلمات الفصحاء، شائعة في خطب مصاقع البلغاء، و قد ورد بها التّنزيل، و من تكلّف فيما ورد منها بالحمل على غيرهما فقد ركب صعبا و رام شططا.

و فيها وجه ثالث محكي عن الفرّاء و الكسائي و قد يعزى إلى الكوفيين أيضا و هو أنّ المعنى ما بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقال: مطرنا ما زبالة إلى الثعلبية، و له عشرون ما ناقة فجملا، و هو أحسن النّاس ما قرنا فقد ما

يعنون ما بين في جميع ذلك على إسقاط الجار.

و بَعُوضَةً إمّا عطف بيان للمثل، و ضعّف بالمنع منه في النكرات، أو بدل أو صفة ل ما إذا جعلناها بدلا من مَثَلًا، أو مفعول يَضْرِبَ و مَثَلًا حال منها تقدّمت لأنها نكرة، أو هما مفعولاه الأوّل الأوّل و الثاني الثاني، أو العكس لما مر من تضمّن الضرب لمعنى الجعل، و المنع عن تعدّيه إليهما غير مسموع، و لذا أجيز في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً «1» انتصابها به و يؤيّده أيضا قوله: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ «2» بناء على أنّه بمنزلة قولك: ظننت زيدا كعمرو بدليل قوله: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ «3»، و تنكيرهما في المقام غير قادح، لأنّ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها مأوّل إلى صغير أو أصغر، أو صغيرا أو كبيرا على ما يأتي، و من الشواذ قراءة رؤبة بن العجاج «4» بالرّفع على أنّ يكون خبرا لما على أن تكون استفهامية، و إن قيل: إنّ فيه غرابة و بعدا عن معنى الاستفهام، أو لمحذوف هو هو، فتكون ما زائدة أو موصولة حذف صدر صلتها مع عدم طولها كما في قوله:

__________________________________________________

(1) ابراهيم: 24.

(2) الكهف: 45.

(3) يونس: 24.

(4) رؤبة بن العجاج التميمي السعدي توفي سنة (145) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 535

على الّذي أحسن «1» على قراءة الرفع.

على أنّه قد يقال: إنّ فَما فَوْقَها حينئذ من جملة الصلة: فلا شذوذ مطلقا، و ان كان لا يخلو عن نظر، بل قد يفرق في جوازه بين ما و الّذي، أو موصوفة بجملة حذف صدرها على ما مرّ، و عليهما محلّها النّصب على البدليّة، أو نكرة مبهمة و الجملة وقعت

جوابا كأنّه ممّا قيل: إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب مثلا ما قيل: ما هو؟ فقيل: هو بعوضة كما تقول مررت برجل زيد أي هو زيد.

ثمّ انّه قد مرّ

عن تفسير الإمام عليه السّلام في قوله: ما بَعُوضَةً قال: أي ما هو بعوضة المثل «2» ، لكن في «الصافي» حكاه على غير وجهه ففسّر «ما» بقوله: ما هو المثل، ثمّ قال: يعني أيّ مثل كان فإنّ «ما» لزيادة الإبهام و الشيوع في النّكرة.

و هو كما ترى مخالف للموجود في النسخ الصحيحة بل و لما حكاه شيخنا المجلسي طاب ثراه في «البحار» الموافق لما مرّ آنفا، و هو غير ظاهر في كون ما إبهاميّة و لذا قال المجلسي رحمه اللّه بعد نقل الخبر: ظاهر أنّه عليه السّلام قرأ بالرفع كما قرئ به في الشواذ فكلمة «ما» إمّا موصولة حذفت صدر صلتها، أو موصوفة كذلك و محلّها النّصب بالبدليّة أو استفهاميّة هي المبتدأ قال: و الأظهر في الخبر هو الوجهان الأوّلان.

أقول و لعلّ الظاهر منه هو الثالث على أن يكون ما هو مبتدأ و خبرا في معرض السؤال و بعوضة المثل مبتدأ و خبرا في معرض الجواب، و يحتمل على بعد أن يكون المثل خبرا عن ما و اعترض بينهما بقوله هو بعوضة و أن يكون قوله المثل على أحد الأولين بيانا للموصولة أو الموصوفة فيتم الكلام بدونه من دون حاجة إلى التقدير إلّا بالنسبة إلى الضّمير، و هذا و ان أوجب توجيههما على الآخرين إلّا

__________________________________________________

(1) الانعام: 154.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 70 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 536

أنّه مخالف لظاهر الخبر، بل الأوفق به هو الأوّل و إن خالف

ظاهر الآية لكثرة الحذف، و من هنا ينقدح تقريب ما استحسنه الزمخشري بناء على الرفع و هو أن تكون «ما» استفهاميّة و حيث إنّهم استنكفوا من تمثيل اللّه لأصنامهم بالمحقّرات قال: إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقّرة مثلا بله البعوضة فما فوقها كما يقال: فلان ما يبالي بما وهب ما دينار و ديناران إلى أن قال:

و هذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج «1» و هو أمضغ العرب للشيح و القيصوم المشهود له بالفصاحة و ما أظنّه ذهب في هذه القراءة الّا إلى هذا الوجه و هو المطابق لفصاحته «2».

و البعوضة واحدة البعوض و هو صغار البق فعول من البعض، كأنه بعض البق قطع منه، فان التركيب و لو على الترتيب للقطع كالبضع و العضب، و قد شاع التمثيل بها و بأبعاضها في القلّة و الحقارة.

ففي النبوي لو كانت الدنيا تعدل جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء «3».

و في اخبار البكاء على مولانا سيّد الشهداء عليه السّلام من ذرفت عيناه على مصاب الحسين عليه السّلام و لو كان مثل جناح البعوضة غفر اللّه له ذنوبه و لو كانت مثل زبد البحر «4».

و في أخبار كثيرة مثل جناح البق

قال أمير المؤمنين عليه السّلام أيّها الناس إنّ

__________________________________________________

(1) هو رؤبة بن عبد اللّه العجاج بن رؤبة التميمي من مشاهير الفصحاء مات في البادية سنة (145) الأعلام ج 3 ص 34.

(2) الكشّاف: ج 1 ص 264.

(3) بحار الأنوار ج 9 ص 172 و فيه: لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء

(4) البحار ج 44 ص 293 ح 38 و فيه: و لو مثل جناح

البعوضة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 537

الأشعث لا يزن عند اللّه جناح بعوضة و إنّه أقلّ في دين اللّه من عفطة عنز «1» ، عفطة عنز ضرطته.

و أنشد بعضهم:

لا تحقرن صغيرا في عداوته إنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد و يحكى أن الزّمخشري أوصى أن يكتب هذه الأبيات على قبره:

يا من يرى مدّ البعوض جناحه في ظلمة الليل البهيم الأليل و يرى نياط عروقها في نحرها و المخّ في تلك العظام النّحل امنن عليّ بتوبة أمحو بها ما كان منّي في الزمان الأوّل «2». و في «مجمع البيان» عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: إنّما ضرب اللّه المثل بالبعوضة لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق اللّه فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره و زيادة عضوين آخرين فأراد اللّه تعالى أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلفه و عجيب صنعه «3».

و يقال «4»: إنّه تعالى إنّما ضرب بها المثل لأنّها تحيي ما جاعت فإذا سمنت ماتت فكذلك من ضرب لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريّا أخذهم اللّه تعالى

__________________________________________________

(1) سفينة البحار ج 4 ص 443 و الأشعث هو ابن قيس الكندي هو الّذي ارتد عن الدين و أسر و عفى عنه ابو بكر و زوّجه أخته.

(2) الكنى و الألقاب ج 3 ص 269، و فيه كما في الكشاف: اغفر لعبد تاب من فرطاته، و في الكشاف أيضا: و أنشدت بعضهم يا من يرى ... إلخ.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 67.

(4) القائل به: هو الربيع أنس كما في المجمع- قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: الربيع بن أنس بن زياد البكري الخراساني المروزي بصريّ، كان عالم مرو

في زمانه توفي سنة (139) ه سير الأعلام ج 6 ص 169- 170.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 538

عند ذلك كما قال سبحانه: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «1».

قال الدّميري «2» في «حياة الحيوان» البعوض دويبة قال الجوهري: إنّه البقّ، الواحدة بعوضة و هو وهم و الحق أنّه صنفان صنف كالقراء لكن له أرجل خفيفة و رطوبة طاهرة يسمّى بالعراق و الشّام الجرجس قال الجوهري، و هو لغة في القرقس و هو البعوض الصغار، ثمّ قال: و البعوض على خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر أعضاء منه فانّ للفيل أربعة أرجل و خرطوما و ذنبا و للبعوض مع هذه الأعضاء رجلان زائدتان و أربعة أجنحة و خرطوم الفيل مصمت، و خرطومه مجوّف نافذ الجوف فإذا طعن به جسد الإنسان استقى الدّم و قذف به إلى جوفه، فهو له كالبلعوم و الحلقوم فلذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ، و ممّا ألهمه اللّه تعالى انّه إذا جلس على عضو من الأعضاء. لا يزال يتوخّى بخرطومه المسام الّتي يخرج منها العرق لأنّها أرق بشرة من جلد الإنسان فإذا وجدها وضع خرطومه فيها، و فيه من الشره انّه يمصّ الدم إلى أن ينشق و يموت أو إلى أن يعجز من الطيران فيكون ذلك سبب هلاكه و من ظريف أمره أنّه ربّما قتل البعير و غيره من ذوات الأربع فيبقى طريحا في الصحراء فيجتمع حوله السباع و الطير الّتي تأكل الجيف فمن أكل منها شيئا مات لوقته، و كان بعض الجبابرة من الملوك بالعراق يعذّب بالبعوض فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجردا إلى بعض الآجام الّتي بالبطائح و يتركه فيها مكتوفا فيقتل في أسرع وقت «3».

و

روي أنّه أرسل اللّه البعوض على نمرود و اجتمع منه في عسكره مالا

__________________________________________________

(1) الانعام: 44.

(2) الدميري محمد بن موسى المصري الشافعي المتوفى (808).

(3) حياة الحيوان ج 1 ص 179- 180.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 539

يحصى عددا، فلمّا عاين نمرود ذلك انفرد من جيشه و دخل بيته و اغلق الباب و ارخى الستور و نام على قفاه مفكّرا فدخلت البعوضة في أنفه فصعدت إلى دماغه، فتعذّب بها أربعين يوما إلى أن كان يضرب برأسه الأرض، و كان أعزّ الناس عنده من يضرب رأسه ثمّ سقط منه كالفرخ و هو يقول كذلك يسلط اللّه رسله على من يشاء من عباده ثم هلك «1».

ثمّ أنّ البعوضة على صغر جرمها قد أودع اللّه تعالى في دماغه قوّة الخيال و الفكر و الحفظ و الذكر و لعلّها موزّعة فيها كغيرها على أجزاء دماغه الثلاثة المقدّم و المؤخّر و الوسط و خلق لها حاسّة البصر و السّمع و اللمس و الشّم و خلق لها منفذا للغذاء و مخرجا للفضلة و خلق لها جوفا و معاء و عروقا و عظاما فسبحان من قَدَّرَ فَهَدى و لم يترك شيئا من المخلوقات سدى «2».

فَما فَوْقَها ما موصولة، أو موصوفة و معطوفة على ما الاولى إن كانت اسما و الّا فعلى بعوضة و إن رفع بعوضة فالأولى موصولة و الثانية معطوفة عليها، و ان كانت الاولى استفهامية فالثانية كذلك، و تكون من عطف الجمل، و المراد ما زاد عليها في الجثة كالذباب و العنكبوت لما قيل من أنّه لما ذكرهما اللّه في كتابه و ضرب بهما المثل ضحكت اليهود و قالوا ما يشبه هذا كلام اللّه فنزلت ردّا عليهم في استنكارهم

و المعنى انّه لا يستحي ضرب المثل بالبعوض فضلا عمّا هو أكبر منه أو ما نقص عنه في الجثّة لأنّ فيه زيادة في المعنى الّذي جعلت فيه مثلا و هو الصغر و الحقارة، حيث أن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان كلما كان المشبّه به أشدّ حقارة كان المقصود اكثر حصولا فالمراد بالموصولة ما هو الأصغر منها كجناحها و سائر اجزائها

__________________________________________________

(1) حياة الحيوان: ج 1 ص 152.

(2) نفس المصدر: ج 1 ص 182.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 540

و كالجرجس و الولع.

ففي الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال: ما خلق اللّه عزّ و جل خلقا أصغر من البعوض و الجرجس أصغر من البعوض و الّذي نسمّيه نحن الولع أصغر من الجرجس و ما في الفيل شي ء إلّا و فيه مثله و فضل على الفيل بالجناحين

، قال في «الصّحاح» الجرجس لغة في القرقس و هو البعوض الصغار، و في القاموس انّه بالكسر البعوض الصغار و لعله نوع منه أصغر من سائر أنواعه و الحصر في الأول اضافي أو يعمّ الاسم كلّ ما كان أصغر منه، و قد مرّ في تفسير «1» الامام عليه السّلام، و يأتي ما يدلّ على الأوّل من الاحتمالين في فوقها حيث فسّره بالذّباب و لا بأس بارادة الثّاني أيضا لما سمعت مع كون الأصغر أوّل على كمال القدرة و ظهور العظمة، قال في القاموس، و بَعُوضَةً فَما فَوْقَها اي في الصغر، و قيل: في الكبر، و يقال: إنّ في خلقه سبحانه، دويبة لا يكاد يجلّيها للبصر الحاد الا تحرّكها فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها و تجنّبت مضرّتها.

قلت: و أصغر منها دويبات لا تدرك بحركة

و لا سكون أصلا إلّا بواسطة بعض الآلات الصناعية كمرآة الذرة الّتي يقال لها بالفارسية ذره بين و نحوها و مثلها يرى كثيرا في الماء الصافي الّذي لا يكاد يدرك فيه البصر غير الصفاء و لكلّ منها مدخل و مخرج و غذاء و نمو و قلب و قالب و أخلاط و عروق و أعضاء و حواس و قوى و إرادة و حياة و روح و نفس سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ «2».

و في تفسير الامام عليه السّلام انّه قيل للباقر عليه السّلام: إنّ بعض من ينتحل موالاتكم يزعم

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ص 70 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) يس: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 541

أنّ البعوضة عليّ و أنّ ما فوقها و هو الذباب محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال الباقر عليه السّلام سمع هؤلاء شيئا لم يضعوه على وجهه إنّما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قاعدا ذات يوم هو و عليّ عليه السّلام إذ سمع قائلا يقول ما شاء اللّه و شاء محمّد و سمع آخر يقول ما شاء اللّه و شاء عليّ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تقرنوا محمّدا و عليّا باللّه عزّ و جل و لكن قولوا ما شاء محمّد ما شاء اللّه ثمّ شاء عليّ على أنّ مشيّة اللّه هي القاهرة الّتي لا تساوى و لا تكافى و لا تدانى و ما محمّد رسول اللّه في اللّه و في قدرته إلا كذبابة تطير في هذه الممالك «1» الواسعة و عليّ في اللّه و في قدرته إلّا كبعوضة في

جملة هذه الممالك «2» مع أنّ فضل اللّه على محمّد و عليّ هو الفضل الّذي لا يفي ء به فضله على جميع خلقه من أوّل الدهر الى آخره هذا ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذكر الذباب و البعوضة في هذا المكان فلا يدخل في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ «3» انتهى.

و في تفسير القمي بالإسناد عن الصّادق عليه السّلام إنّ هذا المثل ضربه اللّه تعالى لأمير المؤمنين عليه السّلام و ما فوقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال و الدليل على ذلك قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام كما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم له «4».

إلى آخر ما يأتي من كون الميثاق في حقّه و كون الوصل بصلته أقول و النّهي من الاقتران في خبر الإمام عليه السّلام لما يوهمه من المقابلة و التغاير و الاستقلال المستفاد من العطف و لذا أمرهم عليه السّلام أن يقولوا ما شاء محمّد ما شاء اللّه أي المشيّة الالهيّة هي الّتي تعلّقت به مشيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ قلبه وعاء لمشيته سبحانه و نبّه على ذلك

__________________________________________________

(1) في البرهان: المسالك.

(2) في البرهان: المسالك.

(3) تفسير البرهان ج 1 ص 71- 72 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(4) تفسير القمي ج 1 ص 34- 35.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 542

بالحمل الظاهر فيه و أمّا المنافاة بين الخبرين على فرض صحّتهما فلعلّ الأوّل باعتبار التّنزيل و الاخر باعتبار التأويل.

و ذكر شيخنا المجلسي طاب ثراه أنّه يحتمل أن يكون إشارة إلى ما مثل اللّه بهم

لذاته تعالى من قوله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1»، و أمثاله لئلّا يتوهم متوهم أنّ لهم عليه السّلام في جنب عظمته تعالى قدرا أولهم مشاركة له تعالى في كنه ذاته و صفاته، أو الحلول أو الاتّحاد، تعالى اللّه عن جميع ذلك، فنبّه اللّه تعالى بذلك على أنّهم و إن كانوا أعظم المخلوقات و أشرفها فهم في جنب عظمته تعالى كالبعوضة و أشباهها، و اللّه تعالى يعلم حقايق كلامه و حججه عليه السّلام، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ «2»، لكنّه لم يرد بها التنزيل وضعت للدلالة على التفصيل لمجمل مذكور كقولك: أكرم العلماء أمّا الفقهاء فكذا، و أمّا الحكماء فكذا، و إن كان قد لا يذكر معه قسيمه اكتفاء بما يقوم مقامه و اشعارا بزيادة الاهتمام بالتّنبيه على حكم ما سيق له الكلام كما في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ «3» حسبما تسمع، أو لمتعدد في الذهن مع سبق ما يدلّ عليه في الجملة كما في المقام، حيث استفيد من قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي تصنيف الناس إلى من يداخله شبهه أولا، أو عدم سبقه في الذكر كقوله: أمّا بعد في صدور الكتب و الرسائل و على التوكيد المستفاد من اختيار التفصيل بعد الإجمال المطوي أو المنوي، و لذا قال سيبويه، إنّ معنى أمّا زيد فذاهب: مهما يكن من شي ء فزيد ذاهب، أي إنّه ذاهب لا محالة و انّه منه عزيمة و على الشرط المدلول عليه بلزوم الفاء بعدها كما في الآية و غيرها و لذا

__________________________________________________

(1) النور: 35.

(2) البقرة: 26.

(3) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 543

قيل: إنّ الأصل أمّا زيد فمنطلق إن أردت معرفة حال

زيد فزيد منطلق، فأقيم أمّا مقام الأداة و فعل الشرط بعد حذفهما، و قضيّة دخول الفاء على الجملة الجزائية، إلّا أنّهم قدموا جزءا ممّا في حيّز تعويضا عن المحذوف و فرارا من توهم معطوف بلا بالمعطوف عليه و تنبيها على أنّه النوع تفضيل جنسه لكنّهم وسعوا في المقتطع منها بالنّسبة إلى الموضوع كما في المقام أو غيره كما في غيره، فالموصولة مبتدأ خبرها مدخول الفاء، و كذا في الجملة التالية.

في تصديرها بالدّال على الأمور الثلاثة تكريم المؤمنين و تنويه لقدرهم و تحسين لصنعهم و اعتداد بعلمهم سيّما مع الإسناد إلى الموصولة، و تعريفهم بأحسن سماتهم، و اضافة العلم الحقيقي بثبوت ذلك إليهم و انّه مبتدأ من عند ربّهم الّذي يربيهم به على حسب ما يرى فيه صلاحهم كما هو المحقق عندهم، بخلاف الجملة التالية فانّها ناعية على الكافرين لعنادهم و تكذيبهم للحقّ و إصرارهم على الباطل بما يستفاد من التّصدير و التكفير و العدول عن الرّب، و رميهم بالكلمة الحمقاء، و الضّمير للضرب أو للمثل.

و الحقّ هو الثّابت الّذي لا يسوغ إنكاره من حق الأمر يحق بالكسر إذا ثبت و وجب، يقال أحققت الشي ء أي أوجبته، و تحقّق عندنا الخبر أي صحّ، و حققت قوله و ظنّه تحقيقا أي صدقت، فيعم مصاديق الصدق و غيره و لذا يطلق في الأعيان الثابتة و الأفعال الصائبة و الأقوال الصادقة.

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا عدل عن نفي العلم أو اثبات الجهل الّذي يقضي به المطابقة و المقابلة إلى حكاية القول المترتب عليه ليكون كالبرهان على ذلك لما فيه من الدلالة على كمال جهلهم و غوايتهم و نبوا أفهامهم عن إدراك الحق و

وقر أسماعهم عن الإصغاء إليه، و للتنبيه على شمول الكفر

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 544

للناشي عن مجرد الجحود و العناد، و إن اقترنه مطابقة الإعتقاد كما قال: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1»، و ما ذا كلمتان ف «ما» استفهامية مرفوع المحل بالابتداء، و «ذا» بمعنى الّذي و ما بعده صلته، و موضعه الرفع على أنّه خبر المبتدأ أو كلمة واحدة بمعنى أيّ شي ء منصوب المحل بأنّه مفعول «أَرادَ»* فهي في حكم ما وحده، و الصّواب في الجواب الرفع على الأوّل كما في قوله: ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «2» و النصب على الثاني كما في قوله: ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً «3» لمطابقة الجواب للسؤال فيهما، و قد يحتمل عكس ذاك و ان لم يكن الأصوب كما تقول في جواب من قال: ماذا رأيت: خيّر أي المرئي خير، و في جواب ماذا الّذي رأيت؟: خيرا أي رأيت خيرا، و لذا قرأ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «4» بالرفع و النصب على التقديرين و مَثَلًا منصوب على الحال كقوله:

هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً* «5» أو على التمييز كقولك لمن يطلب تجارة خاسرة: كيف تنتفع بها تجارة أو على القطع بتقدير أعني و نحوه، و المراد بالاستفهام في المقام ليس على حقيقته، بل إنّما قصدوا الاسترذال و الاستحقار.

حقيقة الإرادة و الكراهة

و الارادة ضد الكراهة، و هي فينا كيفيّة نفسانية تحدث عقيب تصوّر الشي ء

__________________________________________________

(1) النحل: 14.

(2) النحل: 24.

(3) النحل: 30.

(4) البقرة: 219.

(5) الأعراف: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 545

الملائم يعبر عنه بنزوع النفس و ميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه سواء كان مع شوق

حيواني كالشهوة و الغضب أم لا، و يطلق أيضا على القوة الّتي هي مبدأه.

و أمّا ارادته سبحانه فقد طال التشاجر بينهم في معناها، فقيل: إنّها قديمة عين الذات، و قيل: قائمة به، و قيل: نفس العلم، و قيل: إنّ له إرادتين، قديمة هي عين ذاته، و حادثة هي متجدّدة متكثرة واردة على ذاته، و على الوجهين صفة زائدة على العلم، أو متّحدة معها إلى غير ذلك من الأقوال السخيفة الناشئة عن اختلال التوحيد، بل أنكرها بعضهم مطلقا كأوساخ الدهرية و الطباعية و كبعض الحكماء القائلين بالاتّفاق.

و ذكر العلامة الحلي رحمه اللّه في «أنوار الملكوت» أنّ ارادته سبحانه صفة حادثة موجودة بإيجاده لا في محلّ قال: و هو مذهب السيد المرتضى و أكثر أصحابنا.

أقول و الّذي استقرّ عليه المذهب و استفاض به الخبر أن ارادته سبحانه حادثة بإحداثه، و هي من صفات الفعل.

ففي «الكافي» و «التوحيد» عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام:

أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق «1» فقال عليه السّلام: الارادة من الخلق «2» الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يروّي «3» و لا يهمّ و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون، بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّه و لا تفكر،

__________________________________________________

(1) في نسخة: و من المخلوق.

(2) في البحار: من المخلوق.

(3) روّى يروّي: نظر و فكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 546

و لا كيف لذلك كما لا كيف «1» له «2».

و عن عاصم بن حميد

عن الصادق عليه السّلام قال قلت له: لم يزل اللّه مريدا؟ قال:

إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه بل لم يزل اللّه عالما قادرا ثم أراد «3».

و في التوحيد عن الرّضا عليه السّلام قال المشيّة من صفات الأفعال فمن زعم أن اللّه لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد «4».

و سأله بكير بن أعين علم اللّه و مشيّته هما مختلفان أم متفقان، فقال: العلم ليس هو المشيّة ألا ترى أنك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا تقول سأفعل كذا إن علم اللّه، فقولك إن شاء اللّه دليل على أنّه لم يشأ فإذا شاء كان الّذي شاء كما شاء، و علم اللّه سابق للمشية «5».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدّالة على مغايرة إرادته لعلمه و ساير صفاته الكمالية و نعوته الجمالية و الجلالية.

و أمّا ما يظهر من بعض الأذكياء كالسّيد الداماد و الصدر الأجل الشيرازي و غيرهما من الفضلاء من أنّ ارادته تعالى قديمة و أنّها كون ذاته بحيث تصدر عنه الأشياء و أنّها راجعة إلى علمه بالنّظام الأتم الأصلح التابع لعلمه بذاته فإرادته الأشياء علمه بها لا غير و انّ علمه بغيره التابع لعلمه بذاته سبب تام لوجود الأشياء في الخارج لأجل ذاته لأنّها من توابع ذاته لا لغرض زائد و جلب منفعة و طلب محمدة و التخلّص من مذمّة و غير ذلك من الغايات.

__________________________________________________

(1) في البحار: كما أنّه بلا كيف.

(2) البحار ج 4 ص 137 عن التوحيد و العيون.

(3) البحار ج 4 ص 144 ح 16 عن التوحيد.

(4) البحار ج 4 ص 145 ح 18.

(5) بحار الأنوار ج 4 ص 144 ح 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4،

ص: 547

ففيه أنّه ردّ لتلك النصوص و جرأة على أهل الخصوص الذين هم خزنة الوحي و معادن العلم و هم أعلم الخلق باللّه تعالى و صفاته الذّاتية و الفعليّة و قد صرّحوا في أخبار لا يبعد تواترها على كون الإرادة من الصفات الفعلية و مغايرتها للعلم و للذات.

و أمّا ما ذكره الثاني تبعا للاوّل من أنّه لما كان فهم الجمهور لا يصل إلى الإرادة بالمعنى الرّاجع إلى علمه بذاته المقتضي لوجود الأشياء بنفسه بل إلى النحو الّذي في الحيوان و ضدّه الكراهة فتكون حادثة عند حدوث المراد فلذا جعلها عليه السّلام من صفات الأفعال و من الصفات الاضافية المتجدّدة كخالقيته و رازقيته حذرا عن كونه تعالى محلّا للحوادث لو كان الارادة الحادثة من صفات الذات فهي كالعلم الحادث الّذي هو إضافة عالميّته تعالى بالحوادث الكونيّة و هي أخيرة مراتب علمه تعالى فلإرادته أيضا مراتب أخيرتها ما في الخبر و أولها نفس علمه بذاته.

ففيه أنّ سبيلها حينئذ سبيل العلم الّذي هو عين الذّات و أمّا الارادة فقد أطبقوا على حدوثها و أنّها من صفات الفعل و انّ اللّه تعالى خلق الخلق لا بارادة قديمة بل بارادة حادثة بنفسها و لذا قالوا خلق اللّه المشيّة بنفسها و خلق الأشياء بالمشيّة، و كان فيه اشارة إلى الجواب عمّا استدلّوا به على قدمها من أنّها لو كانت حادثة لكانت محدثة بارادة غيرها و تلك الارادة إن كانت حادثة افتقرت إلى ارادة اخرى إلى أن يتسلسل و الّا ثبت المطلوب فأجاب عليه السّلام بأنّه سبحانه خلقها و أبدعها بنفسها لا بإرادة غيرها و أنشأ بها الأشياء كما تشاهد مثل ذلك في إرادة نفسك و نيّتك فإنك تنشأها بنفسها و تنشئ

بها غيرها من الأفعال.

و أمّا ما يقال: من أنّ الإرادة صفة و الصّفة لا تقوم بنفسها و لا بغير موصوفها فلو كانت حادثة لكان سبحانه محلّا للحوادث فتجب أن تكون قديمة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 548

ففيه مع الغضّ عن النقض بالصّفات الفعليّة أنّه مبني على قياس إرادته بارادتنا في كونها من الكيفيّات النفسانية القائمة بنا و قد مرّ

في الخبر أن الإرادة فينا هو الضّمير و فيه إحداثه لا غير «1».

و إرجاعها إلى العلم أو غيره تصرّف في معاني صفاته بما لم يرد الإذن به عنهم عليهم السّلام بل في خبر احتجاج الرّضا عليه السّلام «2» على سليمان المروزي بطوله ما يدلّ على الإنكار الصّريح على كونها صفة قديمة، و أنّها مغايرة للعلم و القدرة و انّها ليست مثلهما و لا مثل السمع و البصر في اتصاف الذات بها، و انّها ليست نفس الأشياء كما توهّمه ضرار و أصحابه من أن كلّ ما خلق اللّه تعالى في سماء أو أرض أو برّ أو بحر او غير ذلك كلّها ارادة بل الارادة صفة محدثة و هي فعله سبحانه لا غير بل في الخبر إلزامات شنيعة و حجج قويّة أوردها عليه السّلام على سليمان لم نذكره لطوله فارجع إليه إن شئت و هو مذكور في العيون و الاحتجاج «3» و البحار و غيرها

و في آخر الخبر فلم يزل سليمان يردّد المسألة ينقطع فيها و يستأنف و ينكر ما كان أقرّ به و يقرّ بما أنكر، و ينتقل من شي ء إلى شي ء و الرضا عليه السّلام ينقض عليه ذلك حتّى طال الكلام بينهما و ظهر لكلّ أحد انقطاعه مرّات كثيرة فآل الأمر إلى أن قال سليمان إنّ الإرادة

هي القدرة قال عليه السّلام: و هو عزّ و جل يقدر على أن لا يريد أبدا، لا بدّ من ذلك لأنّه قال: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «4» فلو كانت الإرادة هي القدرة لكان قد أراد أن يذهب به لقدرته فقطع سليمان.

__________________________________________________

(1) البحار ج 4 ص 144.

(2) التوحيد ص 457- 470 عيون الاخبار ص 100- 106 و عنهما البحار ج 10 ص 329- 338 ح 2.

(3) الاحتجاج ص 218- 220.

(4) الإسراء: 86.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 549

ثمّ إنّ الأخبار المتقدمة قد اشتملت على الاستدلال بحدوث الإرادة و عدم قدمها مرّة بأنّها لو كانت قديمة لكان المراد معها، و يلزم من ذلك قدم الأشياء كلها فتتعدد القدماء و هو هدم للتوحيد، و لذا قال: من زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريدا شأنيّا فليس بموحّد و قال إنّ المريد لا يكون إلّا و المراد معه.

و توهّم أنّه تعالى كان في الأزل مريدا للأشياء في أزمنة حدوثها فلا يلزم قدمها مدفوع بأنّ الزمان أيضا من جملة الحوادث فيلزم قدمه، مع أنّ أزمنة حدوثها حادثة بإرادته فإمّا أن تكون تلك الارادة المتعلقة بإيجادها قديمة لزم قدمها أو حادثة فهو المطلوب، و أخرى بأنّه يصحّ التعليق بمشيّة اللّه تعالى دون علمه فتقول:

أفعل كذا ان شاء اللّه و أراد، و لا تقول أن علم اللّه فاتّضح به المغايرة بينهما، بل قد يلوح من كلامه عليه السّلام وجه آخر و هو انّه تعالى يعلم كلّ شي ء و لا يريد كلّ شي ء إذ لا يريد كفرا و ظلما و لا شيئا من القبائح وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ «1» يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ

لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2»، فعلمه متعلّق بكلّ شي ء أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ*، و لا كذلك إرادته، فعلمه غير ارادته، و علمه عين ذاته تعالى، فإرادته صفة زائدة على ذاته.

و من الغريب بعد ذلك كله أن الملا صدرا قد شمّر عن ساق الجد للجواب عنهما و عن غيرهما ممّا يستدلّ به على حدوث الإرادة حتّى أنّه قد عقد لذلك فصلا في كتابه المسمّى بالمبدأ و المعاد فأجاب عن الأوّل بأنّه تعالى أراد بإرادته القديمة إيجاد نفس الوقت المعين بعد العدم لا أنّه أراد بإيجاده في وقت معيّن حتّى يلزم التسلسل، و بالجملة أنّه تعالى أراد بالإرادة القديمة إيجاد كلّ العالم و اجزائه

__________________________________________________

(1) غافر: 31.

(2) البقرة: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 550

و جزئيات اجزائه في أماكنها و أوقاتها المخصوصة و أراد إيجاد الأوقات بهويّاتها المخصوصة لا في أوقات اخرى و كذا أراد إيجاد الأماكن بهويّاتها المخصوصة لا في اماكن اخرى، و ذلك لأنّ تخصيص الحادث بوقت خاص يفتقر إلى ذلك الوقت و لا يفتقر ذلك الوقت في تخصيصه الى شي ء آخر غير الارادة القديمة لأنّ التخصص الحدوثي فيه عين ذاته و هويّته و الذّاتي للشي ء غير معلّل بأمر و لا يفتقر إلى الجاعل له جعلا بسيطا و هكذا حكم الأمكنة في تخصصاتها المكانيّة، و عن الثاني بأنّ فيضه تعالى يتعلّق بكلّ ما يعلمه خيرا في نظام الوجود فليس في العالم الامكاني شي ء مناف لذاته و لا لعلمه الّذي هو عين ذاته و لا أمر غير مرضي به فذاته بذاته كما أنّه علم تامّ بكلّ خير موجود فهو أيضا إرادة و رضا لكلّ خير إلّا أن أصناف الخيرات متفاوتة و جميعها مرادة

له تعالى مرضيّ بها له فضرب منها خيرات محضة لا يشوبها شرّيّة واقعيّة إلّا ما بحسب إمكاناتها الاعتباريّة المختفية تحت سطوع النّور الإلهي الوجوبي على تفاوت مراتبها في شدّة النوريّة الوجوديّة و ضعفها، و ضرب منها خيرات يلزمها شرّية واقعية لكن الخير فيها غالب مستول و الشرّ مغلوب مقهور، و هذا القسم أيضا مراد لا محالة واجب الصدور عن الجواد المحض و المختار لكل ما هو خير لأنّ في تركه شرّا كثيرا، و الحكيم لا يترك الخير الكثير لأجل الشّر القليل، و أمّا الشّر المحض و الشّر المستولي و الشّر المكافئ للخير فلا حصول لأحد من هذه الثلاثة في هذا العالم فلم يرد اللّه شيئا منها: و لم يأذن له في قول كن للدّخول في حرم الكون و الوجود، فالخيرات كلّها مرادة بالذّات، و الشرور القليلة اللازمة للخيرات الكثيرة أيضا إنّما يريدها لا بما هي شرور فالشّرور اللّطيفة النادرة داخلة في قضاء اللّه تعالى بالعرض و هي مرضي بها كذلك

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 551

فقوله تعالى: وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «1»، و لا يجري مجراه من الآيات معناها أنّ الكفر و غيره من القبائح غير مرضي بها له تعالى في أنفسها و بما هي شرور، و لا تنافي في ذلك كونها مرضيّا بها بالتعبيّة و الاستجرار، أو نقول: من سبيل آخر: إنّ وزان الإرادة بالقياس إلى العلم و زان السمع و البصر بالقياس إليه، و كوزان الكلام بالنسبة إلى القدرة فالعلم المتعلّق بالخيرات إرادة كما أنّ المتعلق منه بالمسموعات سمع، و بالمبصرات بصر، و كما أنّ القدرة المتعلّقة بالأصوات و الحروف على وجه تكلّم، و هذا لا ينافي كون الإرادة عين العالم

فذاته تعالى علمه بكلّ شي ء ممكن، و ارادة لكلّ خير ممكن كما انّه سمع لكلّ مسموع و بصر بالنسبة إلى كل مبصر.

أقول لا يخفى عليك ما فيه من الضعف و القصور أمّا أوّلا فلانّ إبداء هذه الوجوه السّخيفة في مقابلة النصوص المتقدّمة مجاهرة بالردّ على الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين، بل كأنّه استخفاف و ملعبة بشريعة سيّد المرسلين بعد ما نطق به الكتاب و السّنة من حدوث الإرادة و مغايرتها للذات و للصفات الذّاتيّة الّتي منها العلم و لذا قال في شرحه «للكافي» في ذيل خبر عاصم بن حميد هذا الحديث يدل بظاهره على أن أرادته تعالى حادثة كما رآه قوم الى أن قال: و التحقيق أنّ الإرادة تطلق بالاشتراك الصّناعي على معنيين:

أحدهما: ما يفهمه الجمهور و هو الّذي ضدّه الكراهة و لا يجوز على اللّه بل ارادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الخير، و كراهته عدم صدور الفعل و القبيح عنه لعلمه بقبحه.

و ثانيهما: كون ذاته بحيث تصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها

__________________________________________________

(1) الزمر: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 552

التّابع لعلمه بذاته «1».

و فيه: أنّ اتصافه بالإرادة بالمعنى الاول قد سمعناه و فهمناه و قرّره لنا أئمّتنا الهداة المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين و أمّا بالمعنى الثّاني الرّاجع إلى العلم الّذي هو عين ذاته فلم نجد في شي ء من الكتاب و السنّة إطلاقه عليه و لا ارادته منها بل أنكروه على قائله اشدّ الإنكار و قابلوه بنفي التوحيد عنه، فأين الاشتراك، و من الواضع، و متى كان هذا الوضع؟ و كيف لم يسوّغ معه الإطلاق؟ نعم هذا القول هو المعروف بين الفلاسفة الذين لم يعرفوا

اللّه بتعريف ولاة أمره وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ*.

و أمّا ثانيا فلانّ ما ذكره من أنّه تعالى أراد بإرادته القديمة آه.

فيه أنّ الارادة إذا كانت قديمة فكيف تتعلّق بإيجاد الشي ء بعد العدم إلا على جهة الإخطار بالبال.

و العلم الرّاجع إليه، و إلّا فالارادة بما هي إرادة لا يمكن تحققها إلّا و المراد معها، نعم لو كان هناك عجز حاضر و لو لشرط فاقد لم تكن الإرادة حينئذ على حقيقتها، و بالجملة علمه بالنظام الأصلح الّذي هو نفس الارادة القديمة عنده و عند الفلاسفة إن كان سببا تامّا لوجود العالم لزم قدمه و امتنع عدمه.

و توهّم أنّه سبب لوجوده و وجود أجزائه و جزئيّات أجزائه في أماكنها و أوقاتها المخصوصة مدفوع بأنّه لم يكن في القدم تعيّن و تخصّص لشي ء من الأزمنة و الأمكنة و المفروض أنّ السبب التّام لم يزل متحققا بوجود الذّات لا على وجه الترتب كي يثبت به الحدوث الذّاتي بل على وجه العينيّة و الاتحاد، فيلزم منه القول بقدم العالم الّذي برى ء منه المنتحلون من الأمم، مع أنّه حينئذ يكون فاعليته

__________________________________________________

(1) شرح اصول الكافي ص 278 ط طهران مكتبة المحمودي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 553

بالعناية المفسّرة عندهم يكون فعله تابعا لعلمه بوجه الخير بذلك الفعل في نفس الأمر فيفعل عن ذلك العلم من غير قصد زائد عليه، و حينئذ يلزمه القول بالعليّة و الإيجاب و نفي الاختيار لأنّ الموجب هو الّذي لا يتخلّف عنه مفعوله، فإذا كان العلم الّذي هو الذات هو العلة التّامة لا غيره لم يكن فاعلا بالاختيار بل بسببيّة الذات، و ان كان علمه بذلك سببا ناقصا لوجود العالم فالجزء المتمم له ان كان قديما

عاد المحذور فيه أو حادثا و هو المطلوب، و السؤال عن سبب تخصيص الحوادث بخصوص الأوقات منقطع على القول بكونه فاعلا مختارا لأنّه حينئذ يَفْعَلُ ما يَشاءُ* و يَحْكُمُ ما يُرِيدُ و انّما يفعل بإرادته الحادثة بعد العدم إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1».

و أمّا ثالثا فلأنّ ما أجاب به عن الثّاني تقرير لما مهّدوه في موضع آخر من عدم دخول الشّر في القضاء الالهي و إنّ كلّ ما دخل في صقع الوجود فهو إمّا خير محض أو خير غالب مشوب بشرّ مغلوب و هذه المسألة إذا تأمّلها المتأمّل في كلامهم يجدها غريبة مبنيّة على القول بنفي الاختيار في حقّه و في حقّ عباده، بل كانّها مخالفة لما تقضي به الضرورة القطعيّة من شيوع الكفر و الظلم و الفساد بين أغلب العباد في أكثر البلاد حتّى سفكوا الدماء و قتلوا الأنبياء و غصبوا حقوق الأوصياء و قهروا الأولياء و سبوا النّساء و اختفى الحقّ ببهجته و استدار رحى الباطل على قطبه إلى غير ذلك من الشّرور الغالبة في الأمور التّشريعيّة، مضافا إلى ما وقع منها في التكوينيّات من نقصان الاستعدادات و بطلان القابليّات و طروّا الطّواري من الآلام و الأسقام و الأمراض و الأعراض و الفقر و سائر الشّدائد و المحن و قد قال اللّه تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً «2» و كأنّ المسألة كانت في الأصل مذكورة في

__________________________________________________

(1) يس: 82.

(2) الأنبياء: 35.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 554

كلام القائلين بقدم العالم و فاعليّته بالإيجاب، و ثبوت الرّبط بين الحادث و القديم فتبعهم غيرهم على غرة و غفلة على أنّه قد يشمّ منها أيضا رائحة

القول بالإجبار و نفي الاختيار، فانّهم لو نسبوا أفعال العبيد إليهم لم يبق مجال لما يوجب الاعتذار، هذا مضافا إلى أنّ هذا الجواب على فرض تسليمه لا يدفع السّؤال الوارد من حيث التفصيل بين الإرادة و المشيّة و بين العلم بجواز التعليق بالشرط في الأوّلين دون الثالث حسبما استدلّ به الامام عليه السّلام.

و أمّا رابعا فلانّ ما ذكره في قوله: أو نقول من سبيل اخرى ضعيف جدّا لا يساعده شي ء من العرف و الشرع و اللغة و كأنّه اصطلاح عنه خاص في الإطلاق هذا مضافا إلى ما فيه من إرجاع الكلام إلى القدرة و الالتزام بكونه من الصّفات الذاتية، و بكونه غير الخيرات المحضة مجرّدة عن إرادته سبحانه.

يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً متّصل بسابقه المحكي عن الكفار و اطلاق الضّلال و الهداية إمّا على وجه التهكّم أو التعكيس أو مجرّد المقابلة على فرض الموافقة، سيّما مع كون القائل من المنافقين الذين أظهروا الايمان و أبطنوا الكفر، و الجملة حال من اللّه فيكون قوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ منقطعا عن سابقه، او ابتداء كلام منه سبحانه فتكون جواب ماذا أي إضلال كثير و إهداء كثير، على النّصب أو الرّفع، و العدول من المصدر إلى الفعل لقصد الإشعار بالتّجدد و الحدوث أو جار مجرى الاعتراض تفسيرا و بيانا للجملتين المصدّرتين «بأمّا» تنبيها على أنّ العلم بوجه المثل و كونه حقّا أو التّصديق به إجمالا هدى و بيان، و انّ الجهل بوجه إيراده و التّعامي عن حسن وروده ضلال و فسوق، و ظاهر العلوي المروي عن تفسير النعماني على ما يأتي «1» و كذا ظاهر تفسير الامام عليه السّلام بل صريحهما هو الأوّل

__________________________________________________

(1) عن البحار ج 93 ص 13- 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 555

قال عليه السّلام: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا اللّه و بولاية محمّد و عليّ و آلهما الطيّبين و سلّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و للأئمّة عليه السّلام أحكامهم و أخبارهم و أحوالهم، و لم يقابلهم في أمورهم و لم يتعاط الدّخول في أسرارهم، و لم يفش شيئا ممّا يقف عليه منها إلّا باذنهم فَيَعْلَمُونَ: يعلم هؤلاء المؤمنون الّذين هذه صفتهم أَنَّهُ أي المثل المضروب الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أراد به الحقّ و إبانته و الكشف عنه و إيضاحه وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بمحمّد بمعارضتهم في عليّ عليه السّلام بكمّ و كيف و تركهم الانقياد له في سائر ما أمر به فَيَقُولُونَ: ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً أي يقول الذين كفروا إنّ اللّه يضلّ بهذا المثل كثيرا و يهدي به كثيرا، فلا معنى للمثل لأنّه و إن نفع به من يهديه فهو يضرّ به من يضلّه به، فردّ اللّه تعالى عليهم قيلهم فقال وَ ما يُضِلُّ بِهِ يعني ما يضلّ اللّه بالمثل إِلَّا الْفاسِقِينَ الجانين على أنفسهم بترك تأمّله و بوصفه على خلاف ما أمر اللّه تعالى بوصفه «1» عليه.

و كثرة كلّ من الفريقين إمّا بالنظر إلى أنفسهم من دون إضافة إلى الآخر، و إن كان المهتدون قليلين بالإضافة كما قال: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ «2» و قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «3».

و في أخبار كثيرة، أنّ المؤمن قليل «4» و قال أمير المؤمنين: أيّها النّاس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله «5» ، و إمّا بالاعتبارين فإنّ كثرة الظّالمين الفسّاق من حيث العدد كما

قال: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ «6»، و في آيات

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 70- 71 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) ص: 24.

(3) سبأ: 13.

(4) راجع البحار ج 67 ص 157.

(5) نهج البلاغة: الخطبة (201).

(6) المائدة: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 556

كثيرة: أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* «1» و لا يَشْكُرُونَ* «2» و لا يَعْقِلُونَ* «3» و كثرة المهتدين باعتبار الفضل و الشّرف و قوّة العزيمة في الدّين و كثرة البركة كما قيل: قليل إذا عدوّا كثير إذا شدّوا، و قيل أيضا: إنّ الكرام كثير في البلاد و إنّ قلّوا كما غيرهم قلّ و ان كثروا.

و قرأ زيد بن عليّ عليه السّلام يضلّ به كثيرا و ما يضلّ بالبناء للمفعول في الفعلين و الفاسقون بالرفع.

و الفاسق هو الخارج عن بعض حدود الايمان أو جميعها، و منه قوله تعالى في حق إبليس: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «4» و قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «5»: و أصله الخروج عن القصد أو عن الطّاعة من قولهم:

فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، و الفويسقة الفارة لخروجها من جحرها أو لخبثها و أذاها

حقّرها النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سمّاها بها و قال: إنّها توهي السّقاء و تضرم البيت على أهله و هي من الخمس الفواسق الّتي يقتلن في الحلّ و الحرم «6».

و الفاسق و إن لم يسمع قطّ في كلام الجاهليّة و لا في شعرهم على ما شهد به ابن الاعرابي «7» إلّا أنّه عربيّ على ما صرّح به هو و غيره قالوا و هذا عجيب، و حيث قد سمعت فيما مرّ أنّ الايمان له

حدود و درجات و مراتب فبالخروج من كلّ منها

__________________________________________________

(1) الأعراف: 187.

(2) غافر: 61.

(3) الحجرات: 4.

(4) الكهف: 50.

(5) التوبة: 67.

(6) حياة الحيوان للدميري ج 2 ص 37- 38.

(7) ابن الاعرابي محمد بن زياد الكوفي اللغوي توفّي سنة (331).

الكنى و الألقاب ج 1 ص 215.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 557

يحصل الفسق بلا فرق بين كونه من الأصول الاعتقادية أو النوع العمليّة بترك الطّاعة أو فعل المعصية كما يشهد بجميع ذلك الإطلاقات الواردة في الكتاب و السّنة إلّا أنّه قد غلب إطلاقه عند الفقهاء في مقابلة العدالة فيحصل بفعل شي ء من الكبائر أو الإصرار على الصغائر، و إن بقي معه اسم الايمان حسبما هو المقرّر عندنا خلافا للخوارج حيث قالوا إنّ أصحاب الكبائر من أهل القبلة كفّار مشركون، و للمعتزلة القائلين بأنّهم في منزلة بين الإيمان و الكفر لا يستحقون اسم الايمان و لا الكفر، و به سمّيت المعتزلة لاعتزالهم فئتي الضلالة عندهم أهل السّنة القائلين بايمانهم، و الخوارج القائلين بكفرهم، أو سماهم به الحسن البصري «1» لمّا اعتزله واصل بن عطاء «2» و كان من تلامذته و اجتمع هو و أصحابه إلى اسطوانة من أسطوانات المسجد و شرع يقرّر للقول بالمنزلة بين المنزلتين و انّ صاحب الكبيرة لا مؤمن و لا كافر بل بين المنزلتين فقال الحسن اعتزل عنّا واصل، و لأنّ عمرو بن عبيد كان من أصحاب الحسن و تلاميذه، فجمع الحسن بينه و بين واصل ليناظره في ذلك فلمّا ناظره و غلب عليه واصل قال له عمرو بن عبيد «3» ما بين و بين الحق عداوة و القول قولك فليشهد عليّ من حضرني أنّي قد اعتزلت مذهب

الحسن في هذا الباب قائل بقول واصل.

و كيفيّة مناظرتهما مذكورة في «الغرر و الدرر» «4» للسيّد المرتضى رضى اللّه عنه و للسيّد

__________________________________________________

(1) الحسن بن ابي الحسن البصري أبو سعيد توفي سنة (110) ه- العبر ج 1 ص 136.

(2) واصل بن عطاء المبلغ الأفوه ابو حذيفة المخزومي البصري توفي سنة (131) ه و كان رأسا للمعتزلة.

سير أعلام النبلاء ج 5 ص 464.

(3) عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري المعتزلي توفي سنة (143) ه أو قبلها.

التقريب ج 1 ص 740.

(4) الغرر و الدرر المشهور بالأمالي ج 1 ص 113 المجلس 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 558

اعتراض عليه في حجّته فليراجع من أراد، و قد مرّ بعض الكلام في ذلك عند تفسير قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «1».

معنى الإظلال المنسوب إلى اللّه سبحانه

ثمّ أنّ الإضلال المنسوب إليه سبحانه ليس بمعنى دعائه إلى ترك الدّين كما هو المضاف إلى الشيطان و فرعون و السامريّ و أئمّة الضلالة في قوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً «2» و أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ «3» و أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «4» و لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي «5».

و ذلك لما قضت به ضرورة المذهب بل الدّين من أنّه تعالى لا يدعو النّاس من الهدى إلى الضلالة و من العلم إلى الجهالة و انّه لا يجوز عليه الظلم و الإيقاع في الفساد و الإجبار على المعاصي و تشكيك الناس و صرفهم عن الحقّ الى الباطل، و من هنا يظهر فساد ما حملها عليه أهل الجبر من أنّه تعالى خلق فيهم الضّلال و الكفر و صدّهم عن الايمان و حال بينهم و بينه، بل ربما استدلّ بعضهم عليه بهذه الآية و نحوها ممّا

هو كثير في القرآن نظرا إلى الإضلال عبارة عن جعل الشي ء ضالا و إيجاد الضّلالة فيه، و ضعفه واضح بعد ما هو المقرّر في أصل المذهب او الدّين من عدله سبحانه و نفي القول بالجبر بقواطع العقل و النّقل، و أمّا أمثال هذه

__________________________________________________

(1) البقرة: 3.

(2) يس: 62.

(3) طه: 79.

(4) طه: 85.

(5) الفرقان: 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 559

الآيات فعلى فرض تشابهها يجب حملها على ما يساعد عليه الأصول المقرّرة فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه، و لذا يجب الرجوع فيها إلى أهل البيت الذين هم حملة الوحي و خزنة تأويله و تنزيله فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ «1».

مع أنّ لها وجوها أخر منطبقة على المذهب حسبما أشير إليها في الاخبار المأثورة منهم عليه السّلام.

ففي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: الضّلال على وجوه فمنه ما هو محمود، و منه ما هو مذموم، و منه ما ليس بمحمود و لا مذموم، و منه ضلال النّسيان فامّا الضلال المحمود فهو المنسوب إلى اللّه كقوله يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ «2» و هو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم، و المذموم هو قوله تعالى: وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «3» وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى «4» و مثل ذلك كثير.

و أمّا الضّلال المنسوب إلى الأصنام فقوله تعالى في قصّة ابراهيم: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ و الأصنام لا يضللن أحدا على الحقيقة انّما ضلّ النّاس بها و كفروا حين عبدوها من دون اللّه عزّ و جل و أمّا الضلال الّذي هو

النّسيان فهو قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى و قد ذكر اللّه تعالى الضّلال في مواضع من كتابه فمنه ما نسبه إلى نبيّه على

__________________________________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) المدثر: 31.

(3) طه: 85.

(4) طه: 79.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 560

ظاهر اللّفظ كقوله سبحانه: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1» معناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوّتك فهديناهم بك، و أمّا الضلال المنسوب إلى اللّه تعالى الّذي هو ضد الهدى و الهدى هو البيان و هو معنى قوله سبحانه: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ «2» معناه أو لم أبيّن لهم مثل قوله سبحانه: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «3» أي بيّنا لهم وجه آخر و هو قوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ «4».

و أمّا معنى الهدى فقوله عزّ و جلّ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «5» و معنى الهادي المبيّن لما جاء به المنذر عند اللّه، و قد احتجّ قوم من المنافقين على اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها و ذلك أنّ اللّه تعالى لما أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «6» قال طائفة من المنافقين: ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً؟ فأجابهم اللّه تعالى بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها- الى قوله- يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ: فهذا معنى الضّلال المنسوب إليه تعالى، لأنّه أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به المنذر، فخالفوه و صرفوا عنه، بعد أن

أقرّوا بفرض طاعته، و لمّا بيّن لهم ما يأخذون و ما يذرون، فخالفوه ضلّوا، هذا مع علمهم بما قاله النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو قوله: لا تصلّوا عليّ صلاة مبتورة إذا صلّيتم عليّ بل صلوا على أهل بيتي و لا

__________________________________________________

(1) الضحى: 7.

(2) السجدة: 26.

(3) فصلت: 17.

(4) التوبة: 115.

(5) الرعد: 7.

(6) الرعد: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 561

تقطعوهم مني، فإنّ كلّ نسب و سبب منقطع يوم القيامة إلّا سببي و نسبي، و لمّا خالفوا اللّه تعالى ضلّوا و أضلّوا فحذّر اللّه تعالى الأمة من اتّباعهم فقال سبحانه: وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ «1»، و السّبيل هنا الوصي، و قال سبحانه: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ «2» الآية فخالفوا ما وصاهم اللّه تعالى به، وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ* فحرّفوا دين اللّه جلّت عظمته و شرائعه و بدّلوا فرائضه و أحكامه و جميع ما أمروا به كما عدلوا عمّن أمروا بطاعته و أخذ عليهم العهد بموالاته، و اضطرّهم ذلك إلى استعمال الرأي و القياس فزادهم ذلك حيرة و التباسا و أمّا قوله سبحانه وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ «3» فكان تركهم اتّباع الدّليل الّذي أقام لهم ضلالة لهم، فصار ذلك كأنه منسوب إليه تعالى لمّا خالفوا أمره في اتّباع الإمام ثمّ افترقوا و اختلفوا، و لعن بعضهم بعضا و استحلّ بعضهم دماء بعض فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ «4» «5».

«تحف العقول» و «الاحتجاج»

عن ابي الحسن علي بن محمد العسكري عليهما السّلام في رسالته الطويلة إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض قال عليه السّلام في آخر الرسالة: فان قالوا ما الحجّة في قول اللّه تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ* «6» و ما أشبه ذلك؟ قلنا فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين أحدهما: أنّه

__________________________________________________

(1) المائدة: 77.

(2) الانعام: 153.

(3) المدثر: 31.

(4) يونس: 32.

(5) بحار الأنوار ج 93 ص 13- 15 من تفسير النعماني.

(6) النحل: 93.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 562

اخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء و ضلالة من يشاء و لو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب و لا عليهم عقاب على ما شرحناه و المعنى الآخر أنّ الهداية منه التعريف كقوله: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1» و ليس كلّ آية مشبهة في القرآن كانت حجّة على محكم الآيات الّتي أمر بالأخذ بها و تقليدها و هي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ «2»، الآية و قال: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ «3» «4».

و في «التوحيد» و «المعاني» بالإسناد عن الهاشمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جل مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً «5» فقال: إنّ اللّه تعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته و يهدي أهل الايمان

و العمل الصّالح إلى جنّته كما قال عزّ و جلّ: وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ «6» «7».

__________________________________________________

(1) حم- السجدة: 17.

(2) آل عمران: 7.

(3) الزمر: 18.

(4) الاحتجاج ج 2 ص 257.

(5) الكهف: 17.

(6) ابراهيم: 27.

(7) معاني الاخبار ص 21 باب الهدى و الضلال ج 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 563

إلى غير ذلك من الاخبار الّتي يظهر من التأمّل فيها و في مجاري إطلاقات لفظ الإضلال في العرب و اللغة وجوه من المعاني أحدها أن يكون المراد الإضلال عن طريق الجنّة و عن القرب و الكرامة و الثواب على وجه العقوبة و هذا في الحقيقة ليس بمجاز بل هو بيان لمتعلّق المعنى الحقيقي بعد الحمل عليه و دلالة حذف المتعلّق على العموم إنّما هي على فرضها فيما لم يكن هناك ظهور في شي ء منها و يؤيّده ما سمعت من الخبر المرويّ في تفسير النّعماني و التوحيد و المعاني، مضافا إلى أنّه قد يستظهر من قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ «1» و لو بقرينة مقابلة الهداية و من قوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ في خصوص المقام نظرا إلى أنّه لو أراد به التّخيير و التشكيك فقد ذكر أنّه لا يفعل ذلك إلّا بالمتحيّر الشاك الفاسق فيجب أن لا يكون الضلالة الحاصلة بالفسق الّتي صاروا بها فسّاقا من فعله إلّا إذا وجدت قبلها أيضا ضلالة فلا بدّ أن تترتب هناك ضلالات غير متناهية أو ينتهي إلى ضلالة لبست من إضلال و لا مسبوقا به و هو المطلوب.

و أمّا ما يقال في تضعيفه من أنّه تعالى قال:

يُضِلُّ بِهِ أي بسبب استماع هذه الآيات و الإضلال عن طريق الجنّة ليس بسبب سماع هذه الآيات بل بسبب اقدامه على القبائح فكيف يجوز حمله عليه.

ففيه أنّ السماع لمّا كان هو السبب الأوّل لهداية قوم و ضلالة آخرين صحّ استنادهما إليه و إن كانت الواسطة في كلّ منهما غير الواسطة في الاخر ضرورة أنّه

__________________________________________________

(1) الحج: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 564

لا يمكن سببيّة لهما معا من جهة واحدة.

و توهّم أنّه بعد حصول التولي و الفسق يجوز اسناد الإضلال إليه تعالى على وجه الحقيقية باعتبار ترتّب فعله تعالى على حصول مسمّى الأمرين من العبد فلا ضرورة إلى الحمل على الإضلال عن طريق الجنّة، مدفوع بمخالفته الظاهر و لو بمعونة الاخبار المتقدّمة مع وضوح دلالة الآيتين على صدور التولي و الفسق قبل إضلاله تعالى و هو دليل على كون الفعل من العبد و ترتّب إضلاله تعالى عليه بالنّسبة إليه.

ثانيها: أنّه تعالى بيّن الحقائق و أرشد الأنام و ضرب الأمثال و نبّه على الآيات و النّذر للتّمحيص و التخليص و الامتحان فنجى بها قوم و هلك بها آخرون وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ «1»، و كثيرا ما يقال للشي ء أنّه أضلّ الرجل و ان ضلّ باختياره لمجرّد حصول الضلالة له عند حضوره كما أشير إليه في الخبر المتقدم مستشهدا له بقوله: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «2» أي ضلّوا بهنّ و منه قوله: وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً

«3» أي ضلّ كثير من النّاس بهم و قوله:

وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ...

__________________________________________________

(1) التوبة: 124- 125.

(2) ابراهيم: 36.

(3) نوح: 23- 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 565

وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» فانّها دلّت على أنّ ذكره تعالى لعدة خزنة النّار امتحان منه لعباده ليتميّز به المخلص من المرتاب فآل الأمر إلى أن صلح به قوم و فسد آخرون ثمّ أشار أخيرا إلى أنّه بمثل ذلك يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «2» يعني أن ذلك هو المراد من إضلاله و هدايته، و ذلك أنّ هذه كلّها محن و فتن لاختبار العباد و ابتلائهم فيقال لمن ضلّ عند الفتنة: أضلّته الفتنة و أضلّه اللّه بها كما يقال للفضّة إذا أدخلتها النّار فظهر فسادها: أفسدتها و أفسدتها النّار، و الحال أنك لم تجعل فيها الفساد و لم تشعر النار بفسادها و يقال لمن اعطى غيره مالا جزيلا فظهر فيه الغرور و الطغيان: إنك أطغيت فلانا بالمال و أطغاه المال، و مثل هذا الإطلاق كثير جدّا في العرف و اللغة لاكتفائهم في باب الاضافة و النّسبة بأدنى الملابسة.

و أمّا ما ذكره بعض المشككين تضعيفا لهذا المعنى و ذهابا إلى مذهب المجبرة من أنّ إنزال هذه المتشابهات إن لم يكن له أثر في اقدامهم على ترجيح جانب الضّلالة على جانب الاهتداء كانت نسبتها إلى ضلالتهم كنسبة صرير الباب و نعيق الغراب فكما أنّ ضلالهم لا ينسب إلى شي ء من هذه الأمور الاجنبيّة

فكذلك يجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما و إن كان له اثر في تحريك الدّواعي إلى الضلالة وجب أن يوجبه لما قرّر في محلّه من أنّه متى حصل الرّجحان فلا بدّ أن يحصل الوجوب لنفي الواسطة بين الاستواء و بين الوجوب المانع من النقيض فإذا أثر في ترجيح الضلالة فقد أوجبها و هو الجبر المطلوب سلّمنا أنّه لا ينتهى إلى حدّ

__________________________________________________

(1) المدثر: 30.

(2) المدثر: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 566

الوجوب إلّا أن لهذه المتشابهات أثرا في ترجيح جانب الضلالة بحيث يصير عذرا للمكلّف في ترك الاقدام على الطاعة فوجب أن يقبح ذلك من اللّه تعالى.

ففيه أنّه قد قرّر في محلّه أنّ الغرض من جعل الاحكام و تكليف الأنام بل المقصود الأصلي من الخلقة الناسوتيّة و النشأة العنصريّة الّتي هي عالم القضاء و مزدحم اسباب الفتن و الفساد إنّما هو الامتحان و الاختبار مضافا إلى ارشاد العباد إلى ما هو الأصلح لهم في المعاش و المعاد و لذا قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1»، وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ «2»، و الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3» وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً «4» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، و حينئذ فان أريد بالآثار ما يعمّ الاختيار عند الاختبار مع فرض كمال الاقتدار من دون أن يكون هناك شوب من الإجبار فالمختار إثبات الآثار، و لا ضير فيه بعد وضوح عدم منافاته للقول بالاختيار، لأنّ السبب في الحقيقة هو اختيار المكلّف، و إن تجدّد الدّاعي إليه عند عروض الفعل له أو عرض شي ء له، و إن أريد بها

السببيّة المحضة و العليّة التّامة و لو من جهة المقتضي فتطرق المنع إليه واضح جليّ.

ثالثها: أن يحمل الإضلال على الإهلاك و الابطال كقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «5» أي أهلكها و أبطلها مأخوذ من قولهم:

__________________________________________________

(1) الذاريات: 56.

(2) آل عمران: 141.

(3) الملك: 2.

(4) الأنبياء: 35.

(5) محمّد: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 567

ضلّ الماء في اللبن إذا صار مستهلكا فيه و أضللته فيه إذا فعلت ذلك و صيّرته كالمعدوم و يقال أضلّ القوم ميّتهم إذا واروه في القبر و قالوا أَ إِذا ضَلَلْنا «1» أي هلكنا وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ «2» أي لن يبطل، فيكون المعنى على هذا يهلك اللّه تعالى به كثيرا و يعذّبهم به حيث انّهم استحقّوا النكال بالإعراض عن آياته و الاستخفاف بها.

و أمّا ما يقال: من أنّه غير مناسب للمقام سيّما بقرينة مقابلة الهداية ففيه ضعف واضح.

رابعها: أن يكون المراد بالإضلال هو التخلية و ترك المنع بالقهر و الجبر إذا كان على وجه العقوبة و المنع عن الألطاف الفاضلة الّتي تفعل بالمؤمنين كما يقال:

فلان أفسد ابنه و لم يعلّمه و لم يؤدّبه، و يقال لمن ترك سيفه في الأرض حتى فسد و صدأ أفسدت سيفك و اصدأته فعلى هذا الوجه يصحّ أيضا إطلاق الإضلال.

نعم قد يقال إنّه انّما يصحّ لو كان الأولى و الأحسن المنع و ترك التخلية لرجاء النفع و ترتب الثمرة و أمّا مع اليأس إلّا على وجه القهر و الإجبار فلا.

و فيه نظير سيّما إذا كان المقصود مجرّد مقابلة الهداية كما في المقام،

و قد ورد في القدسيّات أنّه تعالى قال: يا عبادي كلّكم ضالّ

إلّا من هديته، و كلكم فقير إلّا من أغنيته، و كلّكم مذنب إلّا من عصمته «3».

خامسها: أن يكون المراد بالإضلال الانتساب أو الضلال و الحكم به فيقال أضلّه إذا نسبه إلى الضلال، و أكفره إذا نسبه إلى الكفر و سمّاه باسم الكافر قال

__________________________________________________

(1) السجدة: 10.

(2) محمّد: 4.

(3) بحار الأنوار ج 5 ص 198 ح 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 568

الكميت «1»:

فطائفة قد أكفروني بحبّكم و طائفة قالوا مسي ء و مذنب و قال طرفة «2»:

و ما زال شربي الراح حتّى أضلني صديقي و حتى ساء في بعض ذلكا و توهّم أنّ الأنسب حينئذ صيغة التفضيل فيقال: ضلّلته كما يقال: فسّقته و فجّرته إذا سمّيته ضالا فاسقا فاجرا مدفوع بنصّ قطرب «3» و غيره على جوازه مع أنّه قد يقال: إنّه متى صيّره في نفسه ضالا لزمه أن يصير محكوما عليه بالضلال:

فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير فإذا قال الرجل لغيره: فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالا و يكون المعنى لم سمّيته بذلك و لم حكمت به عليه.

فان قلت: إنّه و ان كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باق لأنّه يقال إذا سمّاه اللّه بذلك و حكم عليه بأنّه لو لم يأت المكلّف بما يوجب الضلال لانقلب خبر اللّه الصدق كذبا و علمه جهلا و كل ذلك محال فكذلك المفضى إليه فيكون عدم إتيان المكلّف به محللا و إتيانه به واجبا، فيلزمكم الجبر أيضا.

قلت قد تقرّر في موضعه عدم سببيّة العلم القديم لشي ء من الأفعال و الحوادث و تعلّقه على فرضه إنّما هو على الكشف و الحكاية لا السببيّة و العليّة فإذا

__________________________________________________

(1) كميت بن زيد

بن خنيس الأسدي شاعر الهاشميين كان من أهل الكوفة و كان عالما بآداب العرب، و لغاتها و اخبارها و أنسابها توفي سنة (126) ه

(2) هو طرفة بن العبد بن سفيان الوائلي بن عمر جاهلي من الطبقة الأولى مات سنة (60) قبل الهجرة.

(3) قطرب ابو علي محمد بن المستنير البصري النحوي صاحب سيبويه توفي سنة (206) العبر: ج 1 ص 350.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 569

تغيّرت الحال انكشف تعلّق العلم بالمتغيّر أيضا و أين هذا من تغيّر العلم مع أنّ من هذه الشبهة المشهورة الّتي هي افتخار الشياطين أجوبة أخرى مذكورة في محلها و قد مرّت الإشارة إلى شي ء منها.

سادسها: أن يراد من الضلال و الإضلال العذاب و التّعذيب لقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ «1» أي في عذاب و توقّد نار على ما فسّر به فيه و في قوله: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ- إلى قوله- كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ «2» و إن كان لا يخلو عن تأمّل لعدم تعيّن إرادته فيهما نعم قال المفيد رحمه اللّه في شرح العقائد إنّ الضلال في الآية الاولى هو الضلال لا غير و صرّح به غيره أيضا.

سابعها: أن المراد على ما مرّ في خبر «تحف العقول» «3» و الاحتجاج أنّه إخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء و ضلالة من يشاء و لو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب و لا عليهم عقاب «4».

و لعله عليه السّلام إنّما ذكره مع بعده و مخالفته للظاهر باعتبار أنّه إن كان و لا بد من حمله على ما ادّعت المجبرة أنّه الظاهر فلا بد من سوقه

على الفرض و التقدير لا الفعلية.

ثامنها: أنّ الهمزة ليست للتعدي بل لمجرد الوجدان كما يقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة، و عن عمرو بن معديكرب أنّه قال لبني سليم

__________________________________________________

(1) القمر: 47.

(2) غافر: 71- 74.

(3) عن ابي الحسن علي بن محمّد العسكري عليهما السّلام في رسالته الطويلة الى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض.

(4) تحف العقول: ص 355.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 570

قاتلناكم فما اجبنّاكم و هاجيناكم، فما أفحمناكم، و سالناكم فما أبخلناكم، أي ما وجدتكم جبنا و لا مفحمين و لا بخلاء و قال:

تمنّى حصين أن تسود خزاعة فأمسى حصين أن أذلّ و أقهرا أي وجد ذليلا مقهورا فالمعنى في المقام أنّه يجد الفريقين على الوصفين.

و إنكار هذا المعنى للهمزة رأسا ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه و تأويل الإطلاقات المتقدمة تكلف بحت، و دعوى ظهورها في غيره بعد تسليمها مدفوعة بأنّه يجب المصير إليه بعد قيام قواطع الأدلّة على وجوب الحمل عليه أو على شي ء من الوجوه المتقدّمة و لو على فرض مخالفتها للظاهر مع أنك قد سمعت ظهور البعض جدا.

تاسعها: أنّ قوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً من تمام قول الكفّار فكأنّهم قالوا: ماذا أراد اللّه بهذا المثل الّذي لا يظهر وجه الفائدة فيه، ثمّ قالوا على وجه التّهكم: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً فأجابهم اللّه تعالى بقوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ على ما مرّ «1» عن الامام الصادق عليه السّلام مقتصرا عليه في تفسير الآية لكن يعود الكلام في قوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ «2» إلّا أنّ يقال إنّه أيضا من تتمّة كلامهم على

وجه التهكّم مع دلالته على نسبة الفسق إليهم، فيظهر منه فساد قول المجبرة على ما سمعت.

عاشرها: انّ المراد حجج اللّه و خيرته و الدّعاة إليه من صفوته حيث يدعون الناس إليه سبحانه فيسعد بهم قوم و يشقى بهم آخرون، و هذا المعمى و إن كان

__________________________________________________

(1) تفسير علي بن ابراهيم القمي ج 1 ص 34.

(2) البقرة: 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 571

راجحا إلى بعض الوجوه المتقدّمة إلّا أنا قد نبّهنا عليه بالخصوص لما ورد في تفسيره من الخبر الّذي رواه

في البحار عن تفسير فرات عن الباقر عليه السّلام في قوله:

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» قال: هو علي بن أبي طالب و الأوصياء من بعده و شيعتهم، و أمّا قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً قال: هو أمير المؤمنين «2» يضلّ به من عاداه و يهدي به من والاه وَ ما يُضِلُّ بِهِ يعني عليّا إِلَّا الْفاسِقِينَ يعني من خرج من ولايته فهو فاسق «3».

في الهداية و أقسامها

بقي الكلام في المراد بالهداية في أمثال المقام و ان مرّ فيها فيما تقدّم بعض الكلام و قد استعمل على وجوه:

منها الدلالة و البيان و الإرشاد إلى الخير كقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ «4» إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً «5» وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «6»، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الظّاهرة في ارادة مجرّد البيان و اراءة الطريق منها أخذ بها أم لا.

و منها: الدّعاء إلى الخير أو مطلقا كقوله:

__________________________________________________

(1) البقرة: 25.

(2) في البحار: قال: فهو علي بن أبي طالب عليه السّلام

(3) بحار الأنوار ج 36 ص

129- 130.

(4) البقرة: 38.

(5) الإنسان: 3.

(6) فصلت: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 572

وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1»، وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «2».

و يفترق عن الأوّل بانّ الدّعاء صفة زائدة على الإراءة المحضة و إن قيل باتّحادهما لاشتمال الأوّل عليه ايضا و لو ببعض وجوه الدلالة.

و منها: الهداية إلى طريق الجنّة كما في قوله: وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ «3»، و من البيّن أنّ الهداية بعد القتل لا تكون إلّا إلى الجنّة و منه أيضا قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ «4»، و قد مرّ في بعض الاخبار المتقدّمة تفسير الآية في خصوص المقام بها، و منها: الدّعاء إلى الخير و النّجاة إذا اقترن بالقبول و الانتفاع بها كما مرّ في خبر النّعماني تفسير الآية بها.

و منها: زيادة الألطاف المشروطة بالإيمان كقوله: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «5»، كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ «6»، وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ «7»، و منها: الحكم بالهداية عليه و تسميته مهتديا كقوله:

__________________________________________________

(1) الشورى: 52.

(2) الرعد: 7.

(3) محمّد: 5.

(4) يونس: 9.

(5) محمد: 17.

(6) آل عمران: 86.

(7) التغابن: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 573

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ «1».

و هذه الوجوه و غيرها ممّا يقرب منها لا بأس بإرادتها في المقام، و أمّا خلق الهداية في قلوبهم من غير صنع لهم و اختيار منهم فلا يجوز ارادته في المقام بعد دلالة

قواطع الأدلّة على نفي الجبر الّذي في القول به هدم الدّين و تخريب شريعة سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله أجمعين.

[سورة البقرة(2): آية 27 ]

تفسير الآية (27) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ توصيف للفاسقين بما هو الأعظم من أسباب فسقهم و خروجهم عن الطّاعة فهو في موضع النّصب على الوصف أو القطع بتقدير أعني و أدمّ، أو الرّفع بناء عليه بتقدير المبتدأ أو على الابتداء، و خبره أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تعريضا عليهم بأنّهم الجامعون بين تلك الصّفات و تنبيها على أنّ إضلاله إيّاهم ليس بقهرهم و إجبارهم بل هو ناش عن سوء اختيارهم و إنّ خروجهم عن طاعته عاد و بالا عليهم و خسارا في تجارتهم و النقض نقيض الإبرام و أصله الفسخ و فكّ التركيب و منه قوله: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً «2» و النقاضة ما نقض من حبل الشعر و استعمل في ابطال العهد لتسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين و لذا قد يطلق مع لفظ الحبل ترشيحا للمجاز و منه قول ابن التّيهان «3» في بيعة العقبة يا رسول اللّه انّ بيننا و بين القوم حبالا و نحن

__________________________________________________

(1) الإسراء: 97.

(2) النحل: 92.

(3) هو مالك بن التيهان ابو الهيثم الانصاري الصحابي توفي سنة (20) ه.

سير أعلام النبلاء ج 1 ص 189- 190.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 574

ناقضوها و في بعض النسخ قاطعوها فنخشى إن اللّه أعزّك و أظهرك أن ترجع إلى قومك «1» و العهد الموثق الّذي من شأنه أن يراعى و يتعهد و يتعدّى بإلى للوصية يقال:

عهدت إليه في كذا أي أوصيته و منه:

أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ «2» و اشتقوا منه العهد الّذي يكتب للولاة، و لعلّ الأوّل هو الأصل في معانيه، و إليه يرجع غيره كالوصيّة، و الأمان، و الحفاظ، و رعاية الحرمة، و اليمين، و النقّاء، و المعرفة، و الضمان، و الوفاء، و التوحيد، و غيرها ممّا استعمل فيه أو أريد منه في خصوص الموارد و لو بمعونة القرائن و الضمائم، و من لابتداء الغاية فان ابتداء النقض بعد الميثاق، و قيل مزيدة تفيد التوكيد، و فيه ضعف، و الميثاق مصدر بمعنى الوثاقة كالميعاد و الميلاد بمعنى الوعد و الولادة، أو اسم لما وقع التوثيق به كالميقات لما وقع التّوقيت به و في «الصحاح» و «المصباح» و «القاموس» و غيرها أنّ الميثاق هو العهد من وثق وثيقا إذا ثبت و استحكم و منه قوله: وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ «3» أي عهده الّذي عاهدكم، و الأظهر ما ذكرناه فلا يكون تكريرا بل تأكيدا للوثاقة المأخوذة في العهد، و الضمير له أو للّه، فالاضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول و عهده المأخوذ على عباده ايمانا أو عيانا هو ما عاهدهم عليه حين فطرهم و أنشأهم و فتق بهم رتق العدم فدعاهم بالخطاب الفهواني الكفاحي ايتوني عبيدا طائعين أو كارهين فقالوا أتينا طائعين عبيدا أذلاء منقادين و ما عاهدهم عليه في الذّرّ الأوّل حيث خلقهم اللّه تعالى على صورة الذّر و ركب فيهم العقول فكلّفهم و خاطبهم بألسنة مشيّته و أخذ عليهم العهد و الميثاق بربوبيّته و بنبوّة محمّد و ولاية عليّ و الأئمّة الطاهرين صلّى اللّه عليهم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 26.

(2) يس: 60.

(3) المائدة: 7.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 575

أجمعين فأخذوا يدبون يمينا و شمالا إلى الجنّة و إلى النّار.

و تضعيفه بأنّه لا يجوز أن يحتجّ على عباده بعهد لا يذكرونه و لا يعرفونه و لا يكون عليه دليل «1».

ضعيف جدّا بعد شهادة اللّه تعالى و نبيّه و حججه المعصومين على ذلك، و أضعف منه إنكاره من أصله لمجرّد الاستبعاد من أنّ اللّه تعالى كيف يكلّم الذّر مع أنّه لو كان هذا المشهد متحققا لكنا متذكرين بوقوعه، و ستسمع الجواب عن الجميع و أنّه لا مجال للشّبهة فيه بعد دلالة قواطع النقل و شواهد العقل عليه فالإيمان بوقوعه من جملة الايمان بالغيب الّذي فاز به المتّقون و ما ركب اللّه في عقولهم من أدلّة التوحيد و العدل و سائر الصفات الجمالية و الجلالية و النعوت الكمالية و تصديق الرسل و الحجج المعصومين و ما احتجّ به لهم من المعجزات و الكرامات و النصوص الدّالة على صدقهم و ما عهده إلى خلقه بألسنة أنبيائه و حججه من الالتزام بطاعته و الاجتناب عن معصيته و التدين بشرائع أحكامه و تخليص العبادة له دون غيره كما أشير إليه و إلى بعض ما تقدّم في قوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ «2»، و ما أخذه عليهم في الكتب السّماوية و الزّبر الالهيّة من تعريف محمّد و أوصيائه عليهم السّلام و لزوم متابعتهم و التصديق لأقوالهم و التسليم لأفعالهم و شؤونهم و مراتبهم، فإنّ الأنبياء قد عهدوا إلى أممهم في جميع ذلك على ما يستفاد من أخبار كثيرة مرويّة من طرق الفريقين.

ففي البصائر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: ولاية عليّ

مكتوبة في جميع صحف

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 70.

(2) يس: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 576

الأنبياء و لن يبعث اللّه نبيّا إلّا بنبوّة محمّد و ولاية وصيّه عليّ عليهما السّلام «1».

و في أمالي الشيخ بالإسناد عن الصادق عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما قبض اللّه نبيّا حتّى أمره اللّه أن يوصي لأفضل عشيرته من عصبته و أمرني أن أوصي فقلت إلى من يا ربّ فقال أوصي يا محمّد إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة و كتبت فيها أنّه وصيّك و على ذلك أخذت ميثاق الخلائق و مواثيق أنبيائي و رسلي أخذت مواثيقهم لي بالربوبيّة و لك يا محمّد بالنّبوة و لعليّ بن أبي طالب بالولاية «2».

و من طريق العامّة عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لما عرج بي إلى السّماء انتهى بي المسير مع جبرائيل إلى السّماء الرابعة فرأيت بيتا من ياقوت أحمر، فقال لي جبرائيل يا محمّد هذا البيت المعمور خلقه اللّه تعالى قبل خلق السموات و الأرض بخمسين ألف عام قم يا محمّد فصلّ إليه قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و جمع اللّه النبيين فصفهم جبرائيل ورائي صفا فصلّيت بهم فلمّا سلمت أتاني آت من عند ربي فقال لي يا محمّد ربك يقرؤك السّلام و يقول لك سال الرّسل على ماذا أرسلتم من قبلي فقلت معاشر الرسل على ماذا بعثكم ربي قبلي فقالت الرسل على ولايتك و ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام «3».

ثم أنّ المراد بنقض العهد إبطاله و فسخه في كلّ مرتبة

من المراتب و اضافة العهد إليه للتّشريف و للتنبيه على أنّه ممّا لا ينبغي نقضه بل يلزم مراعاته و حفظه و الوفاء به، مع انتهاء جميع تلك العهود إليه حقيقة و إن كان تبليغها و أخذها بتوسّط

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 26 ص 280 ح 24 عن بصائر الدرجات ص 21.

(2) بحار الأنوار ج 15 ص 18 ح 27 عن أمالي ابن الشيخ ص 63- 64.

(3) بحار الأنوار ج 26 ص 307 ح 69 عن إيضاح دفائن النواصب ص 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 577

رسله و حججه و السنة صدقه، و المصدر المضاف يفيد العموم فيشمل الجميع و إن كان البعض مأخوذا على البعض كقوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «1» وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ- إلى قوله- مِيثاقاً غَلِيظاً «2»، وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ «3» و الآيات مشتملة على وجوه التوثيق و التوكيد في عهده عليهم مع ما عاضده به من آياته التّدوينيّة و التكوينيّة في خلق الأنفس و الأفاق.

وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ صفة ثانية للذم عطفا على ما تقدّم، و الموصول بعمومه يشمل في المقام كلّ قطيعة لا يرضاها اللّه سبحانه كتكذيب الأنبياء و التفريق بينهم أو بين كتبهم في التّصديق، و ترك ولاية من أمر اللّه بولايته و محبته و طاعته، و ترك القيام بمقتضى الحقوق الاماميّة للمؤمنين، و ترك صلة

الأرحام و القرابات، و غير ذلك ممّا يساعد عليه عموم اللّفظ فالتخصيص بالبعض تخصيص من غير مخصّص و قطعها بجميع معانيها من الكبائر الموبقة سمّاها النّبي حالقة الدّين.

و في الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث: ألا إنّ في التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشّعر و لكن حالقة الدّين «4».

__________________________________________________

(1) آل عمران: 81.

(2) الأحزاب: 7.

(3) آل عمران: 187.

(4) البحار ج 74 ص 132 ح 101 عن الكافي ج 2 ص 346.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 578

و عن الصّادق عليه السّلام: اتّقوا الحالقة فانّها تميت الرّجال قيل: و ما الحالقة، قال:

قطيعة الرحم «1».

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: في كتاب عليّ عليه السّلام ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبدا حتّى يرى وبالهنّ البغي، و قطيعة الرّحم، و اليمين الكاذبة يبارز اللّه بها و إنّ أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرّحم، و إنّ القوم ليكونون فجّارا فيتواصلون فتنمى أموالهم و يثرون، و إنّ اليمين الكاذبة و قطيعة الرّحم لتذران الدّيار بلاقع من أهلها، و تنقل الرحم و إن نقل الرحم انقطاع النّسل «2».

و في العلوي: إنّ القطيعة من الذّنوب الّتي تعجّل الفناء، إنّ أهل البيت ليجتمعون و يتواسون و هم فجرة فيرزقهم اللّه، و إنّ أهل البيت ليتفرقون و يقطع بعضهم بعضا فيحرمهم اللّه تعالى و هم أتقياء «3».

و عنه عليه السّلام: إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار «4».

و عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: قال عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين: يا بنيّ أنظر خمسة فلا تصاحبهم و لا تحادثهم و لا ترافقهم في طريق فقلت

يا أبت من هم عرّفنيهم؟ قال: إيّاك و مصاحبة الكذّاب، فإنّه بمنزلة السراب يقرّب لك البعيد و يبعّد لك القريب، و إيّاك و مصاحبة الفاسق، فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ من ذلك، و إيّاك و مصاحبة البخيل، فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، و إيّاك و مصاحبة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، و إيّاك و مصاحبة القاطع لرحمه، فإنّي وجدته ملعونا في كتاب اللّه عزّ و جلّ في ثلاثة مواضع قال اللّه عزّ و جل فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ __________________________________________________

(1) البحار ج 74 ص 133 ح 102 عن الكافي ج 2 ص 346.

(2) البحار ج 74 ص 134 ح 104 عن الكافي ج 2 ص 347.

(3) دعوات الراوندي ص 61 و عنه البحار ج 73 ص 376- 377 مع تفاوت يسير.

(4) البحار ج 73 ص 372 عن أمالي الصدوق ص 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 579

«1» و قال عزّ و جل: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ «2» و قال في البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «3» «4».

و الأمر يطلق على القول المخصوص الدّال على طلب الفعل من العالي أو المستعلي، أو أنّه الطلب المخصوص بأيّ لفظ في أيّ لغة.

و الحقّ أنّه بمادّته و هيئته حقيقة في الطلب الإيجابي و إن لم يترتّب

عليه الوجوب فيمن لا تجب طاعته، حسبما حرّرناه مع ما يتعلّق به من المباحث في أصول الفقه.

و على الفعل العجيب كقوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا* «5»، و الشي ء كما تقول رأيت اليوم أمرا عجيبا، و الحادثة كما في «القاموس» و غيره، و الشأن كما تقول: أمر فلان مستقيم، و الغرض كما تقول: جاء فلان لأمر.

لكن الظاهر كما ترى رجوع بعض تلك المعاني إلى بعض، بل قد يقال برجوع غير الأول إلى الشأن، و ذكر بعض المحقّقين أنّه أيضا راجع إلى الأوّل، نظرا إلى تشبيه الدّاعي الّذي يدعو إليه من يتولّاه بأمر يأمره به فقيل له أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كانّه مأمور به، كما يطلق عليه الشأن الّذي هو الطلب و القصد من قولك: شأنت شأنه إذا قصدت قصده.

و أَنْ يُوصَلَ بتأويل المصدر بدل من الضّمير المجرور أي ما أمر اللّه

__________________________________________________

(1) محمّد: 22.

(2) الرعد: 25.

(3) البقرة: 27.

(4) الكافي ج 2 ص 376 و عنه البحار ج 74 ص 208 ح 44.

(5) هود: 66 و 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 580

بوصله، فهو في موضع الخفض، و يحتمل النّصب على أنّه بدل من «ما» و هو ضعيف.

وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالصّدّ عن الإيمان باللّه و طاعة الرسول و موالاة أمير المؤمنين و الأئمّة المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين، و بالدّعاء إلى ولاية الجبت و الطاغوت و سائر الشياطين و حزبهم الظالمين لآل محمّد، و باشاعة الظلم و الجور و غصب الحقوق و سفك الدّماء و نهب الأموال.

أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسرت صفقتهم و هلكت أنفسهم باستبدال الكفر بالإيمان، و الضّلالة بالهداية، و ولاية الشياطين بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و

النقض بالوفاء، و القطع بالصّلة، و الفساد بالصلاح، و السّيئة بالحسنة، و النّار بالجنّة.

و الآية بعمومها لعموم الموضوع فيها و ان كانت عامّة شاملة لكلّ من نقض عهدا، أو قطع صلة أو فعل فسادا إلّا أنّ زيادة الخسران و شدّة العقوبة فيها تتفاوت فيها بتفاوت المراتب و ملاحظة العقوق و درجات الحقوق، و هي ناعية على الذين ظلموا آل محمد حقوقهم، و ارتدّوا عن الإسلام على أدبارهم و نقضوا بيعة النّبي صلّى اللّه عليه و آله في وصيّه و خليفته و نبذوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ، و ذلك بأنّهم نقضوا البيعة و ركبوا الشنعة، و قطعوا رحم آل محمّد، و خرجوا عن ولاية اللّه إلى ولاية الجبت و الطاغوت، و أفسدوا في الأرض بالبغي و الظّلم و العدوان على آل محمّد عليهم السّلام، فلم يمتثلوا أمر الرّسول في الهادين بعد الهادين، و الأطيبين بعد الأطيبين، و الأمّة مصرّة على مقته، مجتمعة على قطيعة رحمه، و إقصاء ولده إلّا القليل ممّن وفى لرعاية الحقّ فيهم، فقتل من قتل و سبي من سبي، و أقصي من أقصي، و جرى القضاء لهم بما يرجى به حسن المثوبة، إذ كانت الأرض لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «1»، نسأل اللّه تعجيل الفرج و سهولة المخرج.

__________________________________________________

(1) دعاء الندبة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 581

و في تفسير الإمام عليه السّلام بعد ذكر ما مرّ عنه في الآية المتقدّمة، ثمّ وصف هؤلاء الفاسقين الخارجين عن دين اللّه و طاعته منهم فقال عزّ و جل: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ المأخوذ عليهم للّه بالربوبيّة و لمحمّد بالنبوّة و لعليّ بالإمامة و لشيعتهما بالجنّة و

الكراهة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ و إحكامه و تغليظه وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام و القرابات أن يتعاهدوهم و يقضوا حقوقهم و أفضل رحم و أوجبه حقا رحم محمّد فإنّ حقهم بمحمد كما أن حقّ قرابات الإنسان بأبيه و أمّه و محمّد أعظم حقّا من أبويه و كذلك حقّ رحمه أعظم و قطيعته أفظع و أفضح وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالبراءة ممّن فرض اللّه إمامته و اعتقاد امامة من قد فرض اللّه مخالفته أُولئِكَ أهل هذه الصفة هُمُ الْخاسِرُونَ خسروا أنفسهم لما صاروا إلى النيران و حرموا الجنان، فيا لها من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد و حرمتهم نعيم الأبد.

و قال الباقر عليه السّلام: ألا و من سلّم لنا ما لا يدريه ثقة بأنّا محقون عالمون لا نقف به إلّا على أوضح المحجّات سلّم اللّه إليه من قصور الجنّة أيضا ما لا يقادر هو و لا يقادر قدرها إلّا خالقها و واهبها، ألا و من ترك المراء و الجدال و اقتصر على التّسليم لنا و ترك الأذى حبسه اللّه على الصراط فجاءته الملائكة تجادله على أعماله و تواقفه على ذنوبه، فإذا النّداء من قبل اللّه عزّ و جل يا ملائكتي عبدي هذا لم يجادل و سلّم الأمر لأئمّته فلا تجادلوه و سلّموه في جنانه إلى أئمّته يكون متبجحا فيها بقربهم كما كان مسلّما في الدّنيا لهم، و أما من عارض بلم و كيف، و نقض الجملة بالتفصيل قالت الملائكة على الصراط: واقفنا يا عبد اللّه و جادلنا على أعمالك كما جادلت أنت في الدنيا الحاكين لك عن أئمتك فيأتيهم النداء صدقتم بما عامل فعاملوه ألا فواقفوه، فيواقف فيطول حسابه و يشتدّ في

ذلك الحساب عذابه فما أعظم هناك ندامته و اشدّ حسراته لا ينجيه هناك إلّا رحمة اللّه إن لم يكن فارق في الدّنيا حملة دينه و إلّا فهو في النّار أبد الآباد قال عليه السّلام: و يقال للموفي بعهوده في الدّنيا في نذوره و إيمانه و مواعيده، يا أيتها الملائكة وفى هذا العبد في الدّنيا بعهوده فأوفوا له هناك بما

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 582

و عدنا و سامحوه و لا تناقشوه فحينئذ تصيّره الملائكة إلى الجنان، و أمّا من قطع رحمه فإن كان وصل رحم محمّد و قد قطع رحم نفسه شفّع أرحام محمّد إلى رحمه و قالوا لك من حسناتنا و طاعاتنا ما شئت فاعف عنه، فيعطونه منها ما يشاء فيعفوا عنه و يعوض اللّه المعطين و لا ينقصهم، و إن كان وصل أرحام نفسه و قطع أرحام محمّد بأن جحد حقوقهم و دفعهم عن واجبهم، و سمّى غيرهم بأسمائهم، و لقّب غيرهم بألقابهم، و نبذ بالألقاب القبيحة مخالفيه من أهل ولايتهم، قيل له: يا عبد اللّه اكتسبت عداوة آل محمّد لصداقة هؤلاء فاستعن بهم الآن ليعينوك، فلا يجد معينا و لا مغيثا و يصير إلى العذاب الأليم المهين قال عليه السّلام: و من سمّانا بأسمائنا و لقّبنا بألقابنا و لم يسمّ أضدادنا بأسمائنا و لم يلقبهم بألقابنا إلّا عند الضّرورة الّتي عند مثلها نسمّي نحن و نلقب أعداءنا بأسمائنا و ألقابنا فانّ اللّه عزّ و جل يقول لنا يوم القيامة اقترحوا لأوليائكم هؤلاء ما تعينونهم به فنقترح لهم على اللّه عزّ و جل ما يكون قدر الدّنيا كلّها فيه إلّا كقدر خردلة في السّموات و الأرض فيعطيهم اللّه إيّاه و يضاعف لهم أضعافا

مضاعفات «1».

تم و بحمد اللّه الجزء الرابع من تفسير الصراط المستقيم و سيأتي بعون اللّه الجزء الخامس منه طبع على نفقة السيّدة الحاجة المحسنة مريم بنت الحاج علي اللاري

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 206- 209.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 583

فهرس الموضوعات

وجه التسمية 5 فضل السورة 6 نزول السورة 11 عدد الآيات 12 البحث الأول: العوالم الإلهية 15 عالم الحروف 15 مراتب الحروف 16 الحروف الأصليّة 16 الحروف الحقيقية المعنويّة 18 الحروف الشبحية الظلّية 18 الحروف المتنزّلة الفكرية 19 الحروف العدديّة 19

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 584

الحروف اللفظية 20 الحروف الكتبيّة 22 عدد الحروف العربية 24 منازل القمر 27 البحث الثالث: انقسام الحروف 33 الحروف العليّة 33 الحروف القمرية و الشمسية 33 الحروف الناطقة و الصامتة 33 الحروف النورانية و الظلمانية 33 البحث الرابع: اشتمال الحروف على علوم جمّة 36 الحروف المقطّعة في القرآن 41 البحث الخامس 47 دلالة الحروف قبل التركيب 47 البحث السادس 54 دلالة الحروف و الألفاظ على مدلولاتها هل هو بالوضع أو ذاتي 54 تفسير الحروف المقطعة في القرآن 56 الوجوه الستة المستفادة من الأحاديث 57

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 585

الوجه السابع أنّها أسماء للسور 66 الوجه الثامن أنّها أسماء القرآن 71 الوجه التاسع أنّها أبعاض أسماء اللّه عزّ و جل 72 وجوه آخر 72 البحث السابع: احكام الحروف و عوارضها 76 تفسير الآية (2) 92 ما هو المراد بالكتاب 95 الكتاب بحسب اللغة 97 تفسير لا رَيْبَ فِيهِ 99 تفسير فِيهِ هُدىً 105 أقسام الهداية 105 وجه اختصاص الهدى بالمتقين 107 درجات التقوى 109 المتقون شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام 112 وجوه

إعراب الآية 114 تفسير الآية (3) 117 حقيقة الايمان 118

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 586

إطلاقات الايمان 121 الإيمان بالغيب 130 البداء و دفع الإشكال 132 تفسير وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ 136 الصلاة بحسب اللغة 140 تأويل الصلاة بالولاية 145 تفسير وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ 152 الإنفاق لغة و تفسيرا 153 حقيقة الرزق 157 أقسام الرزق 159 الانفاق ببعض الرزق 161 تفسير الآية (4) 163 تفسير وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 167 معنى اليقين لغة و اصطلاحا 168 مقام اليقين 170 تفسير الآية (5) 182 معنى الفلاح 184

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 587

تفسير الآية (6) 187 أقسام الكفر في كتاب اللّه 187 كفر الخوارج و الغلاة 194 الغلوّ الموجب للكفر 199 التفويض و معناه الصحيح 201 التفويض الموجب للكفر 202 المعصومون عليهم السّلام: وسائط بين الخالق و الخلق 206 المجبّرة و المفوضة 209 المجسّمة و كفرهم 211 التناسخ 214 شأن نزول الآية 218 تفسير سَواءٌ عَلَيْهِمْ 219 الإنذار و حقيقته 224 القراءة 226 جواز التكليف بالمحال و عدمه 228 جواب شبهة العلم و الإخبار 231 إعجاز الآية الكريمة 236

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 588

تفسير الآية (7) 241 معنى الختم و القلب 241 معنى القلب و أقسامه 242 علّة وحدة السمع 244 علّة تكرار حرف الجر 247 تتمّة في أمور مهمّة 248 وجوه القراءة في الآية 248 اقسام حجب القلب 249 الوجوه الّتي قيلت في الختم 252 أفضليّة السمع من البصر 261 معنى العذاب العظيم 262 تفسير الآية (8) 265 (الناس) و اشتقاقه 268 المنافقون من الناس 271 تفسير الآية (9) 277 الخدعة و المكر من صفات المنافقين 278 المراد بالمخادعة 279

تفسير الصراط المستقيم، ج 4،

ص: 589

تفسير وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ 284 تفسير الآية (10) 287 لكل من الجسم و الروح ستّة أحوال 287 المراد بالمرض في قلوب المنافقين 288 القراءة الشاذّة في مَرَضٌ 292 القراءة الشاذة في يَكْذِبُونَ 293 تعريف الكذب 295 تفسير الآية (11) 296 القراءة في قِيلَ 297 معنى الفساد في الأرض 298 تفسير الآية (12) 301 تفسير الآية (13) 302 معنى السفاهة في المنافقين 305 تفسير الآية (14) 307 قراءة شاذّة في خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ 310 معنى الاستهزاء 311 تفسير الآية (15) 312

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 590

معنى الاستهزاء بالنسبة الى اللّه سبحانه 312 القراءة في يَمُدُّهُمْ 317 تفسير الآية (16) 319 معنى اشتراء الضلالة 320 تفسير الآية (17) 326 مثل المنافقين في أعمالهم 329 التمثيل في هذه الآية المباركة 343 تفسير الآية (18) 345 صمم المنافقين و وجه التشبيه 346 وجه تقديم الصمّ على البكم و تأخير العمى في الآية 348 تفسير الآية (19) 350 وجه ذلك التمثيل 350 تفسير الآية (20) 358 التشاجر في (القدير) 363 هل القدرة من صفات الذات أو من صفات الفعل 368 تفسير الآية (21) 374 يستدلّ بهذه الآية على أمور مهمّة 395

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 591

تفسير الآية (22) 397 الاستدلال بالآية على تسطّح الأرض و سكونها ليس صحيحا 404 الأدلّة على كروية الأرض 407 سكون الأرض و حركتها 410 المراد بالسماء و منافعها للإنسان 411 منافع حركة الشمس 414 منافع القمر 415 اشكال و دفع 416 الحديث الدال على نزول الماء من الفلك 418 السماء جهة العلو 422 الجمع بين قول الطبيعيين و الأخبار 424 الثمرات من الماء 425 ردّ قول الأشاعرة 427 الثمرة و

إطلاقاتها 428 في تفسير كلمة الأنداد 431 تفسير الآية (23) 438 العبد و شرافته 442

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 592

تفسير فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ 446 تفسير وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ 456 تفسير إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 460 تفسير الآية (24) 461 في أنّ نار جهنّم مخلوقة 474 دليل اعجاز القرآن 479 تفسير الآية (25) 480 الجنّات و نعيمها 486 أبواب الجنّة 487 بسط في المقال لتحقيق مسألة تجسّم الأعمال 500 البحث الثاني 509 تفسير الآية (26) 526 حقيقة الإرادة و الكراهة 544 معنى الإظلال المنسوب إلى اللّه سبحانه 558 في الهداية و أقسامها 571 تفسير الآية (27) 573

تفسير الصراط المستقيم، ج 5

الجزء الخامس

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تتمة سورة البقرة

تفسير الآية 28

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ استفهام فيه إنكار و تعجب، و توبيخ لهم على كفرهم، و الخطاب لهم على سبيل الالتفات تسجيلا لكفرهم بما قدّمت لهم أنفسهم.

(و كيف) اسم وضع للسؤال عن الحال الّتي يكون عليها الشّي ء، و اشتقّوا منه الكيفيّة كما اشتقّوا الكميّة من الكم على وجه الانتساب، و إنكار الحال يدلّ على إنكار ذي الحال على وجه أبلغ، و حيث إنّه حقيقة أو ظاهر و لو بمعونة المقام في السّؤال عن جميع الأحوال فالمعنى أنّه لا يصحّ و لا ينبغي أن يوجد حال ما لكفركم و قد علمتم ذلك بضرورة عقولكم فأخبروني على أيّ حالّ تكفرون و الحال أنّكم كنتم أمواتا؟

وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً أعداما محضة لا حظّ لها من التقرير و الثبوت بحسب الماهيّة و الوجود في شي ء من العوالم الكونيّة و الإمكانيّة، كما قال: أَ وَ لا يَذْكُرُ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 6

الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً «1» أو فاقدين للوجودات الكونيّة و إن كنتم متميّزين باعتبار التقريرات الإمكانية بناء على أنّها أمور اعتبارية كما قيل، أو باعتبار كونها مجعولة بالمشيّة الإمكانية على وجه ليس لها حدّ و نهاية كما هو الحقّ أو أجساما لا حياة لها قطرات مزنية أو سجينيّة، و رشحات سحابيّة، و بسائط عنصريّة، و اغذية حيوانيّة، و اخلاطا بدنيّة و نطفا أمشاجيّة، و مضغا مخلّقة و غير مخلّقة، و عظاما باللّحم مكسوّة، أو فاقدين للعلم و الشعور و الإدراك الذي به الحياة الانسانية كما قال: وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ «2» أو للايمان و التصديق الذي به

الحياة الحقيقيّة الابديّة كما قال: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ «3»، إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «4»، أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «5»، أو خاملي الذكر، بناء على ما قيل: من أنّ العرب تسمّي كلّ أمر خامل ميّتا و كلّ أمر مشهور حيّا قال:

فأحييت عن ذكري و ما كان خاملا و لكن بعض الذكر أنبه من بعض فَأَحْياكُمْ خلقكم بالمشيّة الإمكانية ثمّ بالمشيّة الكونيّة ثمّ فطر عقولكم و أبدع نفوسكم و ركب أرواحكم و أنشأ أبدانكم خلقا من بعد خلق إلى أن أنشأكم خلقا آخر على ما جرى به القدر، و جعل لكم السمع و الأبصار و القدرة و الاختيار، و علّمكم بعد الجهالة الجهلاء و نجّاكم من الضلالة الظّلماء، و هداكم إلى المحجّة البيضاء، و كنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها و نشر ذكركم و رفع قدركم بعد

__________________________________________________

(1) مريم: 67.

(2) النّحل: 78.

(3) يس: 70.

(4) النمل: 80.

(5) الانعام: 122.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 7

أن كنتم مستضعفين في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس فآواكم و أيّدكم بنصره.

ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم الطّبيعيّة و الاختراميّة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للسؤال في القبور و للبعث و النشور يوم ينفخ في الصور ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، بالنشور للحساب أو بالمصير إلى الجزاء من الثواب أو العقاب.

و إنّما عطف الأوّل بالفاء الدّالة على الاتّصال و الباقي بثمّ الدّالة على التّراخي، لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقّب الموت الّذي طرى عليه الحياة بشي ء من الوجوه المتقدّمة بغير تراخ لاعتبار المقابلة في معنييهما على ما سمعت، فانّ الإحياء قد ترتّب على كونهم أمواتا الصّادق على ما قبل الإحياء و إن كان له أزمنة

غير متناهية متحققة أو موهومة من جهة المبدء، و أمّا الموت فقد تراخى عن الإحياء كما أنّ الإحياء الثّاني في القبر أو الحشر متراخ عن الموت، و كذا الرّجوع على الوجهين.

و الموت عدم الحياة مطلقا او عدم الحياة عمّا من شأنه الحياة، و يتقابلان بالمعاني المتقدّمة، و الحقّ أنّهما مخلوقان لقوله: خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ «1» و لما ورد من ذبح الموت بين الجنّة و النّار «2»، نعم الموت بالمعنى الأوّل و هو العدم الأزلي المطلق المستمرّ غير مخلوق و لا مجعول.

و الكفر في الآية يشمل كفر الجحود و العناد و الاعتقاد و العصيان، فيكون الخطاب للمؤمنين و المنافقين و الكفّار، و يحتمل الإختصاص بالأخيرين على ما مرّ، و بعضهم و إن أنكر حياة القبر و البعث في الحشر و انّه إليه يرجع الأمر، إلّا أن تمكّنهم عن تحصيل العلم بها بعد نصب الدّلائل و إخبار الرسل و تظافر الحجج و شهادة العقول نزّلها عندهم منزلة الأمور المعلومة الّتي لا يحوم حولها شبهة و ريبة، مع أنّ

__________________________________________________

(1) الملك: 2.

(2) بحار الأنوار ج 60 ص 261.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 8

في الآية دلالة لطيفة على ما يرشدهم إلى صحّتها و التصديق بها، و هو أنّه تعالى لمّا قدر أن أحياهم أوّلا و هم حيارى في فيافي العدم قدر أن يحييهم ثانيا، فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته بل الإعادة أهون عليه.

و يحتمل الحمل على ما يشمل كفر النعمة حيث عدّد عليهم أصول النّعم، و هي الوجود و البقاء و الحياة الحقيقيّة الابديّة و الرّجوع إليه سبحانه و إن فصّلنا عن الحياة الدّنيوية بالموت،؟ و لذا؟ أعدّه أيضا من جملة النّعم

مع أنّه استراحة لقوم إذ به يحصل الفراغ عن الكدورات الحسّية و العوائق البدنيّة، و قد سمعت أنّ الآية تشمل المؤمنين أيضا بل قد يحتمل اختصاص الخطاب بهم لتقرير المنّة عليهم و تبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر منكم و أنتم عالمون باستناد جميع الشؤون إليه متوقعون لنيل جميع الخيرات من لديه.

و الواو في وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً، للحال و المعنى قد كنتم بإضمار «قد» فيه كما في قوله: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «1» فانّ الماضي لما كان بعيدا عن الحال توصلوا إلى تقريبه بدخول «قد» و إضماره ليصلّح لها، أو أنّ المعنى كيف تكفرون باللّه، و قصّتكم هذه و حالكم أنّكم كنتم أمواتا فأحياكم فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم و زوال الغدر عنكم.

و قرء يعقوب «2» ترجعون بفتح التّاء في جميع القرآن.

و الآية تدلّ على فساد القول بالجبر و نفي الاختيار و انّ الكفر بأقسامه من قبل العباد لأنّه لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز توبيخهم عليه مع إسناد الفعل

__________________________________________________

(1) النساء: 90.

(2) هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد اللّه أبو محمد الحضرمي البصري أحد القراء العشرة مات سنة (205) ه و له (88) سنة.

غاية النهاية ج 2 ص 386.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 9

إليهم في قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ كما أنّه لا يجوز إسناد الفعل إليهم و لا ذمّهم في الأفعال الخلقية كالطول و القصر و الملاحة و القباحة فلا يقال كيف تكونون طوالا و قصارا، ضرورة أنّه يقبح من الحكيم أن يخلق فيهم الكفر و يقول لهم: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، و يمنعهم عن الايمان و يقول لهم: وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا* «1»، فَما

لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «2»، و يخلق فيهم الإعراض و الإفك فيقول فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «3»، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* «4» إلى غير ذلك من التقريعات الغريبة و التوبيخات الشديدة على أنّ النّعمة التي منّ بها عليهم في الآية لا تكون نعمة لهم حقيقة بل نقمة عليهم حيث أنّه أوجب عليهم بما خلق فيهم و أجبرهم عليه العذاب الدّائم و الخسار اللازم مثل من قدم إلى غيره طعاما مسموما له حلاوة ظاهرة و أجبره على أكله فانّه لا يعدّ نعمة منه، و هذا ظاهر جدّا.

و أمّا ما يقال: من أنّ الاستدلال بهذه الوجوه و نظائرها يرجع إلى التمسك بطريقة المدح و الذّم و الأمر و النهي و الثّواب و العقاب، و نحن أيضا نقابلها بشبهة العلم الأزلي المتعلّق بكفرهم فلو لم يقع لا نقلب علمه جهلا و هو محال و مستلزم المحال محال، و بأنّ القدرة على الكفر كانت صالحة للإيمان و امتنع كونها مصدرا لشي ء منهما إلّا لمرجّح راجع إلى العبد و هو محال على ما قرّروه أو إلى اللّه تعالى و هو المطلوب.

ففيه أنّه و إن افتخر بعض المشككين من أحزاب الشياطين حتّى قال إمامهم الرّازي: «إنّ المعتزلي إذا طوّل كلامه و فرّع وجوهه في المدح و الذّم فعليك بمقابلتها

__________________________________________________

(1) الإسراء: 94.

(2) الانشقاق: 20.

(3) المدثر: 49.

(4) الانعام: 95.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 10

بهذين الوجهين فانّهما يهدمان جميع كلماته و يشوّشان كلّ شبهاته» «1».

إلّا أنّ الجواب عنهما واضح مشهور و في أصول الاماميّة مسطور و قد أشرنا إليه فيما تقدّم عند تفسير آية الختم و غيرها، و أمّا الاستدلال بها على التجسّم بظهور الرّجوع إليه في التّحيز، و على بطلان

عذاب القبر بحمل قوله ثُمَّ يُحْيِيكُمْ على الحياة الاخروية، كما هو أحد الوجهين فضعيف جدّا للمنع عن الظهور إذ المراد الرجوع إلى أمره و حكمه و لذا يسمّى الحشر رجوعا إليه تعالى كما قال: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ «2» و ذلك لأنّه رجوع إلى حيث لا يتوّلى الأمر و الحكم غيره تعالى و لذا قال: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ «3»، وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ «4»، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «5»، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «6».

و أمّا نفي عذاب القبر فليس فيها إشعار عليه بشي ء من الدّلالات إلّا من جهة عدم التعرض الذي هو أعمّ منه.

مع أنّ فيه دلالة على الحياة البرزخيّة كما هو الوجه الأظهر فيها، مضافا إلى أنّه هو المصرّح به في تفسير الامام عليه السّلام للآية حيث قال عليه السّلام: أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكفّار قريش، و اليهود كيف تكفرون باللّه الّذي دلّكم على طرق الهدى و جنّبكم إن أطعتموه سبل الردى وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً في أصلاب آبائكم و أرحام أمّهاتكم

__________________________________________________

(1) تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 151.

(2) الانعام: 62.

(3) الغاشية: 25.

(4) ق: 43.

(5) الشورى: 53.

(6) الانفطار: 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 11

فَأَحْياكُمْ أخرجكم أحياء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ في هذه الدّنيا و يقبركم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في القبور، و ينعم فيها المؤمنون «1» بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ولاية عليّ عليه السّلام، و يعذّب فيها الكافرون «2» بهما، ثمّ إليه ترجعون في الآخرة بأن تموتوا في القبور بعد ثمّ تجيئوا «3» للبعث يوم القيامة، ترجعون

إلى ما وعدكم من الثّواب على الطاعات إن كنتم فاعليها، و من العقاب على المعاصي إن كنتم مقارفيها «4».

فقيل له: يا رسول اللّه ففي القبر «5» نعيم و عذاب؟ قال: أي و الّذي بعث محمّدا بالحق نبيّا و جعله زكيّا هاديا مهديّا و جعل أخاه عليّا بالعهد وفيّا، و بالحق مليّا و لدى اللّه مرضيّا، و إلى الجهاد سابقا و للّه في أحواله موافقا، و للمكارم حائزا، و بنصر اللّه على أعدائه فائزا، و للعلوم حاويا و لأوليائه مواليا و لأعدائه معاديا «6» و بالخيرات ناهضا «7»، و للقبائح رافضا و للشيطان مخزيا، و للفسقة المردة مقصيا «8» و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله نفسا، و بين يديه لدى المكاره جنّة و ترسا، آمنت به أنا و أخي علي بن أبي طالب عبد ربّ الأرباب، المفضّل على أولي الألباب، الحاوي لعلوم الكتاب، زين من يوافي يوم القيامة في عرصات الحساب بعد محمّد صفي الكريم العزيز الوهاب، إنّ في القبر نعيما يوفّر اللّه به حظوظ أوليائه، و إنّ في القبر عذابا يشدّد اللّه به على أشقياء أعدائه، إن المؤمن الموالي لمحمّد و آله الطيبين المتّخذ لعلي بعد محمّد إمامه

__________________________________________________

(1) في تفسير البرهان: المؤمنين.

(2) في تفسير البرهان: الكافرين.

(3) في تفسير البرهان: تحيوا.

(4) البرهان ج 1 ص 72.

(5) في البحار: ففي القبور.

(6) في البحار: مناويا.

(7) في البحار: ناويا.

(8) في تفسير العسكري المطبوع: مغضبا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 12

الّذي يحتذي مثاله، و سيّده الذي يصدّق أقواله، و يصوّب أفعاله، و يطيعه بطاعة من يندبه من أطائب ذريته لأمور الدين و سياسته إذا حضره من أمر اللّه ما لا

يردّ، و نزل به من قضاء اللّه ما لا يصدّ، و حضره ملك الموت و أعوانه وجد عند رأسه محمّدا رسول اللّه من جانب، و من جانب آخر عليّا سيّد الوصيّين، و عند رجليه من جانب الحسن سبط سيّد النّبيّين، و من جانب آخر الحسين سيّد الشّهداء أجمعين، و حواليه بعدهم خيار خواصّهم و محبّيهم الذين هم سادة هذه الأمّة بعد ساداتهم، من آل محمّد، ينظر إليهم العليل المؤمن فيخاطبهم بحيث يحجب اللّه صوته عن آذان حاضريه كما يحجب رؤيتنا أهل البيت و رؤية خواصّنا عن عيونهم، ليكون ايمانهم بذلك أعظم ثوابا لشدّة المحنة عليهم فيه فيقول المؤمن: بأبي أنت و أمّي يا رسول ربّ العزّة، بابي أنت و أمّي يا وصيّ رسول الرحمة، بأبي أنتما و أمّي يا شبلي محمّد و ضرغاميه، و يا ولديه و سبطيه، و يا سيّديّ شباب أهل الجنّة المقربين من الرحمة و الرّضوان، مرحبا بكم معاشر خيار أصحاب محمّد و عليّ و ولديهما، ما كان أعظم شوقي إليكم، و ما أشدّ سروري الأن بلقائكم، يا رسول اللّه هذا ملك الموت قد حضرني و لا أشكّ في جلالتي في صدري لمكانك و مكان أخيك منّي، فيقول:

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا ملك الموت استوص بوصيّة اللّه في الإحسان إلى مولانا و خادمنا و مؤثرنا، فيقول ملك الموت: يا رسول اللّه مره أن ينظر إلى ما قد أعدّ له في الجنان، فيقول له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنظر فينظر إلى العلو و ينظر إلى ما لا يحيط به الألباب و لا يأتي عليه العدد و الحساب، فيقول ملك الموت: كيف لا أرفق بمن ذلك ثوابه هذا

محمّد و عترته زوّاره يا رسول اللّه لو لا أنّ اللّه تعالى جعل الموت عقبة لا يصل إلى تلك الجنان إلّا من قطعها لما تناولت روحه، و لكن لخادمك هذا و محبّك أسوة بك و بسائر أنبياء اللّه و رسله و أوليائه الذين أذيقوا الموت بحكم اللّه تعالى.

ثمّ يقول محمّد صلّى اللّه عليه و آله: يا ملك الموت هاك أخاه قد سلّمناه إليك فاستوص به

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 13

خيرا ثمّ يرتفع هو و من معه إلى روض الجنان و قد كشف عن الغطاء و الحجاب لعين ذلك المؤمن العليل، فيراهم المؤمن هناك بعد ما كانوا حول فراشه فيقول يا ملك الموت الوحا «1» تناول روحي و لا تلبثني هاهنا فلا صبر لي عن محمّد و عترته و الحقني بهم فعند ذلك يتناول ملك الموت روحه فيسلّها كما يسلّ الشعرة من الدقيق، و ان كنتم ترون أنّه في شدّة فليس في شدّة بل هو في رخاء و لذّة، فإذا أدخل قبره وجد جماعتنا هناك، و إذا جاء منكر و نكير قال أحدهما للآخر: هذا محمّد و عليّ و الحسن و الحسين و خيار أصحابهم بحضرة صاحبنا فلنتّضع «2» لهم «3» فيأتيان و يسلّمان على محمّد سلاما تامّا منفردا ثمّ يسلّمان على عليّ عليه السّلام سلاما تامّا منفردا «4» ثمّ يسلّمان على ساير من معنا من أصحابنا ثمّ يقولان قد علمنا يا رسول اللّه زيارتك في خاصّتك لخادمك و مولاك و لو لا أنّ اللّه يريد اظهار فضله لمن بهذه الحضرة من أملاكه و من يسمعنا من ملائكته بعدهم لما ساءلناه و لكن أمر اللّه لا بدّ من امتثاله، ثمّ يسألانه فيقولان: من ربّك

و ما دينك و من نبيّك و من إمامك و ما قبلتك «5» و من إخوانك؟ فيقول: اللّه ربّي، و محمّد نبيّي و عليّ وصيّي محمد إمامي، و الكعبة قبلتي، و المؤمنون الموالون لمحمّد و عليّ و اوليائهما و المعادون لأعدائهما إخواني، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله و انّ أخاه عليّا وليّ اللّه، و أنّ من نصبهم للامامة من أطائب عترته و خيار ذرّيته و خلفاء الامّة و ولاة الحقّ و القوّامون بالعدل «6» فيقولان: على هذا حييت و على هذا

__________________________________________________

(1) كلمة تقال في الاستعجال و معناه: البدار البدار.

(2) أي فلنتذلل و لنخشع.

(3) في البحار: لهما.

(4) في البحار: ثم يسلّمان على الحسين سلاما يجمعانهما.

(5) في البحار: و من شيعتك و من إخوانك؟

(6) في البحار: بالصدق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 14

متّ و على هذا تبعث ان شاء اللّه و تكون مع من تتولّاه في دار كرامة اللّه و مستقرّ رحمته.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن كان لأوليائنا معاديا و لأعدائنا مواليا و لأضدادنا بألقابنا ملقّبا فإذا جاءه ملك الموت لنزع روحه مثّل اللّه لذلك الفاجر سادته الّذين اتّخذهم أربابا من دون اللّه عليهم من أنواع العقاب ما يكاد نظره إليهم يهلكه، لا يزال يصل إليه من حرّ عذابهم ما لا طاقة له به، فيقول له ملك الموت: أيّها الفاجر الكافر تركت أولياء اللّه إلى أعدائه فاليوم لا يغنون عنك شيئا، و لا تجد إلى مناص سبيلا، فيرد عليه من العذاب ما لو قسّم أدناه على أهل الدنيا لأهلكهم، ثمّ إذا أدنى في قبره

رأى بابا من الجنّة مفتوحا إلى قبره، فيرى منه خيراتها فيقول منكر و نكير، انظر إلى ما حرمته من الخيرات، ثمّ يفتح له في قبره باب من النّار و يدخل عليه منه عذابها، فيقول: يا رب لا تقم السّاعة يا ربّ لا تقم الساعة «1».

و في كتاب الكافئة للمفيد رحمه اللّه أنّه لما قدم عليّ الكوفة و جلس إليه الناس فسأل عن رجل من الصحابة كان ينزله الكوفة فقال قائل استأثر اللّه به، فقال عليه السّلام: أنّ اللّه لا يستأثر بأحد من خلقه إنّما أراد اللّه جلّ ذكره بالموت إعزاز نفسه و إذلال خلقه ثمّ قرء عليه السّلام وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «2».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 6 ص 236 و ص 176 عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام ص 210- 215.

(2) بحار الأنوار ج 32 ص 355.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 15

تفسير الآية 29

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً لمّا ذكر في الآية السابقة إنعامه علينا بخلق ذواتنا و الإفاضة علينا بنور الوجود و نفخ الأرواح و التّنقل إلى الأطوار البرزخيّة و الاخرويّة عقّبها ببيان نعمة أخرى لعامّة الخلق مترتبة عليها، و هي خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم و به يتمّ معاشهم من البسيطة الغبراء و المحيطة الخضراء، و ما بينهما من الأجسام البسيطة و المركبة، و ما يتعلّق بها من القوى و الأرواح و الكيفيات و غيرها من الاعراض التي خلقت لأجل انتفاع الناس بها في دنياهم بان يتمتّعوا منها بفنون المطاعم و المشارب و المناكح و الملابس و المراكب و المساكن و المناظر و غيرها ممّا ينتفعون بها في مصالح أبدانهم و

دفع المضارّ عنها و تقويها على الطاعة و حفظ المقاصد المطلوبة و في دينهم بالنظر فيها و الاستدلال بها و بما تتضمّنه من عجائب الصّنع و غرائب البدع على الصانع الحكيم و القادر العليم.

و لذا روى الامام عليه السّلام في هذه الآية عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه خلق لكم لتعتبروا به و تتوصلوا به إلى رضوانه و تتوقوا من عذاب نيرانه «1».

و الاقتصار عليه في كلامه لكونه الأهم الاعمّ من الانتفاعين، و إلّا فالآية بعمومها و إطلاقها تدلّ على جواز انتفاعهم بكلّ ما فيها من المنافع الخالية عن المضرّة، و لذا استدلّوا بها على أصالة الاباحة الشرعيّة حسبما قرّر في الأصول من تطابق العقل و الشرع على ذلك و فساد القول بأصالة الحظر فيها قبل ورود الشرع أو بعد بيانه عقلا أو شرعا و فساد القول بالتوقف أيضا، و بالجملة فالأشياء كلّها من الأفعال و المطاعم و غيرها على الإباحة الاصليّة بل الشرعيّة إلّا ما ورد النص فيه بالحرمة بالخصوص أو بالعموم و لو لكونه من الخبائث كما في الآية أو ممّا يضرّ في

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 72 عن تفسير الامام عليه السّلام ص 215.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 16

البدن.

كما في خبر المفضل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ قال عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرّم عليهم، و لا زهد فيما أحلّ لهم، و لكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحل لهم و أباحه تفضّلا

منه عليهم به لمصلحتهم و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم ثمّ اباحه للمضطر و أحلّه في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به فأمره أن يتناول منه بقدر البلغة لا غير ذلك «1» الخبر على ما يأتي في تحريم الخمر و أخواتها.

و ممّا يدل على الأصل المتقدم مضافا إلى الآية و آيات كثيرة تأتي الإشارة إليها قوله عليه السّلام: كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي «2» إلى غير ذلك ممّا حررناه في الأصول فلا يقدح في الأصل المزبور إمكان تطرق المناقشة في الآية بأنّ الحمل على العموم في المطلقات مشروط بعدم كون المقام مقام الإجمال و الإهمال، بل مقام البيان و ليس المقام منه إذ المقصود بيان أنّ في خلق الأشياء منفعة لكم لا بيان أنّها أي شي ء و في أي شي ء و بان «ما» و إن كان من ألفاظ العموم إلّا أنّ وجوه الانتفاع المستفادة من اللام إمّا مجمل أو مطلق فلا وجه للحمل على العموم بالنسبة إليها أيضا سيّما بعد ما مرّ في كلام الإمام عليه السّلام من تفسيره بالانتفاع في الأمور الدينية و بأنّ غاية ما تدل عليه أنّه خلق الكل للكل لا أنّه خلق كلّ شي ء ممّا في الأرض لكل فرد من أفراد الإنسان، فإذا احتمل اختصاص شي ء من المنافع بغيره و لو لأسباب طارئة لم يجز استعماله لعدم الدّليل سيّما مع ما ذكروه في مقابلة الجمع

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 65 ص 134 عن المحاسن.

(2) بحار الأنوار ج 2 ص 274.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 17

بالجمع إلى غير ذلك من المناقشات التي لا ينبغي الإصغاء إليها بعد اعتضاد الأصل المتقدم بالعقل و النقل

بل الإجماع نقلا و تحصيلا فيما يتعلق بالأعيان و غيرها مع عدم المخصص بأحد الوجهين.

هذا مضافا إلى أنّه يمكن الجواب عن الوجوه المتقدّمة بظهور ورود الآية في مقام الامتنان الذي هو أعلى مراتب البيان و لذا قالوا بافادة المفرد المنكر في مثله للعموم كما في قوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً «1» و «اللام» و ان كان مطلقا من حيث جهات الانتفاع إلّا أنّ الإطلاق كاف سيّما في مقام الامتنان، و مجرّد الاقتصار في تفسير الآية على ذكر البعض غير صالح لشي ء من التقييد و التخصيص، و أمّا مقابلة الكل بالكل فلا دلالة فيها على اختصاص البعض بالبعض و إن علم ذلك من أدلّة أخرى، و لذا لزم أن يرجع في الإختصاص إلى سائر الأسباب، و به يضعف استدلال أهل الإباحة بالآية على نفي الإختصاص و رفض اسباب الملكيّة و جواز انتفاع كلّ أحد بما يجده من المطاعم و الملابس و المناكح و غيرها.

نعم يستفاد منها أنّ لكلّ شي ء ممّا في الأرض فائدة و نفعا و ان لم نعلمها بالخصوص.

و ما يقال من أنّ ما لا نفع فيه كأنواع السموم و الحيوانات الموذية من الحيّات و الأفاعي و العقارب و نحوها خارج عن ذلك ففيه أنّه ناش عن التصور و الجهالة، بما أودع اللّه فيها من الخواص الجليلة و المنافع العظيمة التي لم يزل الناس من أهل الملل و المذاهب يطّلعون عليها شيئا فشيئا على مر الدهور و الأعصار، و ناهيك في ذلك الاطلاع على جملة ممّا استنبطه أطباء الافرنج و الأندلس و حكماؤهم من الخواص الغريبة و الآثار العجيبة من تلك العقاقير و النباتات التي ربما يتوهم الجاهل

__________________________________________________

(1) الفرقان: 48.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 5، ص: 18

خلوها عن المنافع حتى من مثل السموم القاتلة و نحوها و منافع لحوم الأفاعي مفردة و مركبة مع الترياق و غيره غير خفية.

ثمّ إنّها و إن دلت على جواز الانتفاع بجميع ما في الأرض نظرا إلى وضع الموصول سيّما مع كون جَمِيعاً حالا عنه في المقام، بل و مع كونه توكيدا أيضا و ان كان احتماله في غاية البعد لقلّة التوكيد به و لخلوه عن الضّمير إذ لو كان كذا لقيل جميعه.

و بالجملة ففيها دلالة على إباحة الانتفاع بما في الأرض إلّا أنّه تختلف كيفيّة الانتفاع به باختلاف الأشياء، فقد يكون في بعضها بالأكل و في بعضها بالشرب، و في بعضها باللبس، و في بعضها بالسكون، و الزراعة و الحراثة و نحوها، فإذا كان للشي ء منفعة واحده أو كانت واحدة منها ظاهرة فلا ريب في جواز الانتفاع بها، و أمّا المنافع الغير الظاهرة و التي لم يتداول الانتفاع بها عند الناس أو ما لم يطّلعوا عليها قبل ذلك فهل يجوز الانتفاع بشي ء منها بعد الإطلاع و حصول الانتفاع وجهان بل قولان: يظهر من البعض العدم لإجمال الآية بالنسبة إلى هذه الصورة نظرا إلى بعض الوجوه المتقدّمة، و قد عرفت ضعفها، و منه يظهر أنّ الأظهر الأوّل و لذا لا ينبغي التأمّل في جواز استعمال العقاقير المختلفة في وجوه الانتفاعات التي تطّلع عليها الحكماء و غيرهم يوما فيوما على مرّ الدهور و الأعصار ممّا لم تكن متداولة في القرون السابقة و الأزمنة المتقدّمة.

و منه يظهر أيضا ضعف ما ربما يستدل بالآية على حرمة أكل الطين نظرا إلى أنّ أكله من المنافع الغير المتداولة مع أنّها أنما دلّت على إباحة ما في الأرض

لا هي نفسها إذ فيه أنّ أكل الطين و ان كان حراما في الشرع لكن الحرمة غير مستفادة من الآية لا منطوقا كما لا يخفى و لا مفهوما لعدم شي ء من المفاهيم المعتبرة و إن كان مراد القائل عدم الدّلالة على الإباحة لا اثبات الدّلالة على الحرمة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 19

و أمّا ما يقال: من أنّ المراد بالأرض جهة السفل كما أنّ المراد بالسماء جهة العلو فالمعنى خلق لكم ما في هذه الجهة المقابلة للعلو فيشمل الأرض، و انّ من جملة الأرض ما يطلق عليه أنّه في الأرض فيكون جامعا للوصفين.

ففيه مع الغض عمّا فيهما من التكلف انّه لا منفعة في أكل الطين بل المضرّة فيه واضحة جدّا كما صرّح به الأطباء و غيرهم.

بل في الخبر المحكي عن «العلل» و «المحاسن» و «الكافي» عن ابي جعفر عليه السّلام إنّ أكثر مصائد الشيطان أكل الطين إنّ أكل الطين يوجب السقم في الجسد و يهيج الداء و من أكل الطين فضعفت قوته التي كانت قبل أن يأكله و ضعف عن عمله الذي كان يعمله حوسب على ما بين ضعفه و قوته و عذب عليه «1».

و عن الصادق عليه السّلام: من أنهمك في أكل الطين فقد شرك في دم نفسه «2».

و عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه «3»، إلى غير ذلك ممّا يدل على أنّه يوقع الحكة في الجسد و يورث البواسير و يهيج السوداء و يذهب بالقوة من الساقين و القدمين و غيرها، بل الظاهر من كثير منها و المصرح به في كلام جملة من الأصحاب عدم الفرق في الحرمة بين التراب الخالص و الممزوج

بالماء.

و من الغرائب ما في «الجواهر» من اختصاص الحكم بالطين الذي هو الممزوج بالماء، و أمّا التراب الخالص فلا دليل على حرمته، بل مقتضى الأصول عدمها ضرورة خروجه عن مسمّى الطين إلى آخر «4» ما ذكره هناك حيث تفرد القول

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 60 ص 153 ح 1 عن العلل و فيه: إنّ أكل الطيب يورث السقم.

(2) العلل ص 533 و عنه البحار ج 60 ص 152 ح 8.

(3) المحاسن للبرقي ح 975 و عنه البحار ج 60 ص 154.

(4) الجواهر ج 36 ص 355- 356.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 20

بحلّية أكله مستدلا له بما لا دلالة فيه أصلا فلاحظ و تأمّل إذ من البيّن أنّه و إن كان الحكم في الاخبار معلّقا على الطين الذي هو ظاهر في المخلوط بالماء لكن المستفاد من الاخبار في المقام إرادة مطلق التراب عنه كما انّه المراد أيضا في استثناء طين قبر الحسين عليه السّلام بل و كذا في طين الأرمني الذي وقع التصريح بجواز أكله في الأخبار و في كلمات الأصحاب بل الأطباء ذكروا في باب الأدوية المفردة الطين المطلق و الطين الأرمني و المختوم و غيرها و لم يذكروا التراب أصلا بل ربّما يحصل القطع بارادة العموم من التأمل في فحاوي الأخبار الناهية عن أكله سيّما بعد ملاحظة العلل المنصوصة المشتركة بينه و بين التراب و الرّمل بل و مطلق وجه الأرض و ان من يأكل ذلك فالغالب أنّه يأكل اليابس دون المبلول بالماء.

مضافا إلى ما في «الخصال» عن أبي الحسن الأوّل قال أربعة من الوسواس:

أكل الطين، وفت الطين «1» إلخ الظاهر في إرادة اليابس منهما و لو بقرينة الفت

الذي هو الكسر.

و ما في مرفوع البرقي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن أكل المدر «2»، بل هو الظاهر أيضا من الاستثناء الوارد في المعتبرة المشتملة على حرمة أكل الطين كلّه إلّا طين القبر و طين الحائر الظاهر فيما يؤخذ من الموضع الشريف، كما هو بل لعله الظاهر أيضا ممّا دل على النهي عن بيعه، و الاستخفاف به، و التعبير في بعض الاخبار و الادعية بأنّ الشفاء في تربته «3»، و في بعضها التعبير بطين قبره، بحيث يمكن تحصيل القطع باتحاد المراد منهما الى غير ذلك من الشواهد التي يطول بذكرها

__________________________________________________

(1) الخصال ص 221 ح 46 و عنه البحار ج 6 ص 151 ح 3.

(2) البحار ج 60 ص 158 ح 28 عن معاني الاخبار ص 262.

(3) الوسائل الباب 67 من أبواب المزار ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 21

الكلام و انما أشرنا إلى شطر منها في المقام لما في القول المذكور من الغرابة.

بقي الكلام في شي ء و هو أنّه قد اختلف أهل العلم في معنى اللام في المقام و في قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» و قوله وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ «2» و غيرها مما يضاهيها.

فاصحابنا الإمامية و أكثر المعتزلة حملوها على ظاهرها من الدلالة على الغاية و الفائدة و لو باعتبار عودها إلى خلقه لا إلى ذاته الذي هو غني عن فعله فضلا عن غيره.

و أمّا الاشاعرة فقالوا أنّه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشي ء لأجل الغرض لا جرم أطلق عليه ما يدل على الغرض بقرينة المشابهة

المسوغة للتجوز، و استدلوا على نفي الغرض بأن من فعل فعلا لغرض كان مستكملا بفعل ذلك الشي ء و المستكمل بغيره ناقص لذاته.

و توهم ان فعله تعالى معلل بغرض غير عايد إليه بل إلى غيره مدفوع بأنّ عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير هل هو أولى للّه تعالى من لا عود ذلك الغرض أو ليس أولى، فان كان الاول فهو قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور، و ان كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض للغير غرضا للّه تعالى فلا يكون مؤثرا في فعله و بان من فعل فعلا لغرض كان عاجزا عن تحصيل ذلك إلا بواسطة ذلك الفعل و العجز محال عليه سبحانه.

و بأنّه تعالى لو فعل فعلا لغرض فذلك الغرض ان كان قديما لزم قدم الفعل، و إن كان حادثا كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر و لزم التسلسل و هو محال.

__________________________________________________

(1) الذاريات: 56.

(2) هود: 119.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 22

و بأنّه تعالى لو كان لفعله غرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين و لو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم لكنه قد فعل ذلك كلّف من علم أنّه لا يؤمن.

فهذه هي الوجوه التي استدلت بها الأشاعرة على نفي الغرض على ما حكاه الرازي و غيره، و قد سمعت الجواب عن الاول في تفسير الفاتحة عند البحث عن حقيقة الاستعانة مع الإشارة إلى ما ينفعك في تحقيق أصل المسألة.

و الجواب عن الثاني انّه لا دلالة فيه على العجز فانّ الحكمة قد تقتضي ترتب الغايات على المبادئ التي هي الأفعال، و ان أمكن تعلق المشيّة بنفس الغايات على أنّه ربما ينشأ عدم القبول فضلا عن

عدم الحكمة و المصلحة من خصوص المحل كما أشير إليه في الخبر المتضمن لخلق الدنيا في البيضة عن دون أن تصغر الدنيا و لا تكبر البيضة «1».

و عن الثالث أنّ الفعل لغرض غير حاصل لكنّه لا يجب أن يكون لذلك الغرض غرض آخر مغاير له و لا أن يكون الغرض لنفس الفعل بل قد يكون نفسه كما في المشيّة على ما حقق في محله.

و السؤال عن سبب تخصيص بعض الازمنة دون غيره بخلقها ساقط عندنا بعد ظهور كون الازمنة من متعلقات المشية و كذا الأمكنة و غيرها من متعلقات الفعل فلا أين و لا متى و لا كيف في صقع انوجاد المشية فضلا عن إيجادها.

و عن الرابع ان التكليف في نفسه لطف و مصلحة لعامة المكلفين على ما قرر في الكتب الكلاميّة.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 140 ح 7 عن توحيد الصدوق ص 122 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 23

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «1» قصد إليها بعلمه و مشيّته و ارادته قصدا تقتضيه الحكمة البالغة و القدرة الشاملة من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا من غير أن يلوي على شي ء أو أقبل إليها آخذا في خلقها و إتقانها كما يظهر من تفسير الإمام «2» عليه السّلام، و يؤيده ما عن أحمد «3» بن يحيى بن ثعلب من أنّ الاستواء في صفة اللّه هو الإقبال على الشي ء يقال كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى عليّ و إليّ يكلمني على معنى أقبل عليّ و إليّ أو استوى و علا أمره الفعلي إلى ناحية السماء لإيجادها و تسويتها او استولى و قهر و ملك كما ذكروه في قوله: ثُمَّ اسْتَوى

عَلَى الْعَرْشِ* «4» و منه قوله:

فلما علونا و استوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر و كاسر و قال آخر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مهراق «5» و المعنى استيلاؤه ملكا و تدبيرا و علما و قدرة عليها كغيرها من سائر خلقه.

و قيل: انّ المراد تفرده بملكها و انّه لم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه و هو ضعيف في المقام كضعف إرادته منه و لو في غيره سيّما مع التعدي «بإلى» دون «على» و مرجع الوسطين إلى الأوّل فلا تغفل، و أمّا الاستواء بمعنى الانتصاب و الاعتدال الذي ضدّه الاعوجاج فلا يتصف سبحانه به لأنّه من صفات الأجسام.

و المراد بالسماء جهة العلو أو الاجرام العلوية أو خصوص الأفلاك السبعة

__________________________________________________

(1) البقرة: 29.

(2) تفسير الامام العسكري عليه السّلام ص 215.

(3) احمد بن يحيى بن زيد بن سيّار النحوي اللغوي الأديب المعروف بثعلب المتوفى س (291).

(4) الأعراف: 54، يونس: 3.

(5) مجمع البيان ج 1 ص 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 24

الكليّة أو مع جزئياتها على فرضها، و هي اسم جنس يطلق على القليل و الكثير، و قيل: أنّها جمع سماوة أو سماءة.

ثم إنّ ظاهر هذه الآية و كذا قوله في سورة السجدة: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «1»، إلى قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «2»، أنّ خلق الأرض كان قبل خلق السّماء مع أنّ مقتضى قوله في سورة و النازعات: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها، وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «3».

أن التدحية التي هي البسط كانت بعد خلق السماء و لذا

أورد بعض الملاحدة تناقضا بين هذه الآيات و أجيب عنه في المشهور بانّ خلق الأرض كان قبل السماء كما هو ظاهر الآيتين الّا أنّ دحوها بعد خلق السماء كما هو صريح الثالثة.

و يدل عليه ما رواه في «الكافي» بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام في خبر طويل و فيه انه قال: إنّ اللّه سبحانه خلق الشي ء الذي جميع الأشياء منه، و هو الماء الذي خلق الأشياء منه، و خلق الريح من الماء، ثم سلط الريح على الماء، فشققت الريح متن الماء حتى صار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور، فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و لا نقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجرة ثمّ طواها فوضعها فوق الماء، ثمّ خلق اللّه النّار فشققت النّار متن الماء حتى صار من الماء دخان على قدر ما شاء اللّه أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و ذلك قوله: أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها،

__________________________________________________

(1) فصلت: 9.

(2) فصلت: 11.

(3) النازعات: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 25

وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها، و قال: و لا شمس و لا قمر و لا نجوم و لا سحاب ثمّ طواها فوضعها فوق الأرض ثمّ نسب الخليقتين فرفع السماء قبل الأرض فذلك قوله: عزّ ذكره وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقول بسطها الخبر «1».

و المراد بقوله ثم نسب الخليقتين أنّه رتبهما في الوضع و جعل أحدهما فوق الاخرى، أو أنّه بيّن بنسبة خلقهما في كتابه بقوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «2» فبيّن أنّ دحو الأرض

بعد رفع السماء، أو أنه رفع الأشرف الألطف ثمّ بسط الأوضع الأخس تحقيقا لرتبتهما كذا قيل في معنى النسبة لكن الأظهر الاول كما لا يخفى.

و في «الإحتجاج» عن هشام بن الحكم عن الصادق عليه السّلام أنّه سأله الزنديق عن النهار خلق قبل الليل: قال عليه السّلام نعم خلق النهار قبل الليل و الشمس قبل القمر و الأرض قبل السماء «3» الى غير ذلك من الاخبار التي ستسمع شطرا منها في تفسير الآيات الآتية.

و يؤيده ما رواه في «الدر المنثور» عن ابن عباس أنّ رجلا قال له: آيتان في كتاب اللّه تخالف إحداهما الاخرى، فقال: أنّما أتيت من قبل رأيك، اقرء قال:

أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «4»، حتى بلغ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «5»، و قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «6» قال خلق اللّه الأرض قبل أن يخلق السماء ثمّ خلق السماء ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء و انما قوله

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 57 ص 97 ح 81 عن الكافي الروضة ص 94 ح 67.

(2) النازعات: 30.

(3) الاحتجاج ص 193 و عنه البحار ج 60 ص 78 ح 1.

(4) فصلت: 9.

(5) فصلت: 11.

(6) النازعات: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 26

دحاها يعني بسطها «1».

و يؤيده في الجملة ما رواه في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام انّ اللّه تعالى خلق الخير يوم الأحد و ما كان ليخلق الشر قبل خلق الخير، و في يوم الأحد و الاثنين خلق الأرضين، و خلق أقواتها في يوم الثلاثاء، و خلق السّموات يوم الأربعاء، و يوم الخميس و خلق أقواتها يوم الجمعة و ذلك قوله عزّ و جل:

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ* «2» آه «3»، حيث أنها تدل على تقدم خلق الأرضين.

نعم فيها إشكال من وجوه سنشير إليها و إلى الجواب عنها في سورة السجدة.

و في «العلل» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أنّ اللّه تعالى خلق البيت قبل الأرض ثمّ خلق الأرض من بعده فدحاها من تحته «4».

و في «التوحيد» و «مجالس» الصدوق و «الاحتجاج» و غيرها في مناظرة الصادق عليه السّلام لابن أبي العوجاء، قال عليه السّلام: هذا بيت استعبد اللّه به خلقه- إلى قوله- خلقه اللّه تعالى قبل دحو الأرض بألفي عام «5».

و أمّا ما رواه القمي عن الصادق عليه السّلام: من أنّه تعالى كان عرشه على الماء و الماء على الهواء و الهواء لا يحدّ، و لم يكن يومئذ خلق غيرهما، و الماء يومئذ عذب فرات، فلمّا أراد أن يخلق الأرض أمر الرّياح، فضربت الماء حتى صار موجا، ثم أزبد فصار زبدا واحدا، فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلا من زبد، ثم دحى

__________________________________________________

(1) الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 313.

(2) الفرقان: 59.

(3) روضة الكافي ص 145 و عنه البحار ج 57 ص 58- 59 ح 30.

(4) العلل ج 2 ص 85 و عنه البحار ج 57 ص 65 و فيه: إنّ خلق البيت قبل الأرض.

(5) بحار الأنوار ج 10 ص 210 ح 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 27

الأرض من تحته فقال اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً «1» ثمّ مكث الرب تبارك و تعالى ما شاء فلما أراد أن يخلق السماء أمر الرياح فضربت البحور حتى زبدتها «2»، فخرج من ذلك

الموج و الزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار، فخلق منه السماء فجعل فيها النجوم و البروج و منازل الشمس و القمر «3»، الخبر.

فهو و إن كان بظاهره يدل على تقدم الدحو على خلق السماء أيضا إلا أنّه لمخالفته لظاهر الآية بل صريحه يجب تأويله بعدم ترتب قوله: فلما أراد أن يخلق السماء على سابقه الذي هو الدحو، بل على ما تقدم من خلق الأرض أو أن الفاء لمجرد الارتباط دون الترتب، فانه لم يلحظ فيه.

كما أنّه لم يلحظ فيما ذكره الإمام عليه السّلام في تفسيره قال: إنّ اللّه تعالى لما خلق الماء فجعل عرشه عليه قبل أن يخلق السماوات و الأرض، فأرسل الرياح على الماء فتفجر «4» الماء من أمواجه، و ارتفع عنه الدخان و علا فوقه الزبد، فخلق من دخانه السماوات السبع و خلق من زبده الأرضين، فبسط الأرض على الماء، و جعل الماء على الصفا، و الصفا على الحوت و الحوت على الثور، و الثور على الصخرة إلى أنّ قال: فلما خلق اللّه الأرض دحاها من تحت الكعبة ثم بسطها على الماء فأحاطت بكل شي ء «5» آه.

و فيما ذكر الباقر عليه السّلام لمحمد بن مسلم على ما رواه في «الكافي» قال عليه السّلام:

كان كلّ شي ء ماء و كان عرشه على الماء فأمر اللّه عزّ و جلّ الماء فاضطرم نارا، ثم أمر النار

__________________________________________________

(1) آل عمران: 96.

(2) في المصدر: أزبد بها.

(3) تفسير القمي ج 2 ص 69- 70 و عنه البحار ج 57 ص 72 و في المصدر: فبخّر الماء.

(4) و في المصدر: فبخّر الماء.

(5) تفسير الامام عليه السّلام ص 144- 145 و عنه البحار ج 57 ص

87.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 28

فخمدت، فارتفع من خمودها دخان، فخلق اللّه السماوات من ذلك الدخان، و خلق الأرض من الرماد، آه «1».

و ربما يستشكل هذا الوجه مرة بأنّ الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية، فإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء، كان خلقها أيضا متأخرا عن خلق السماء، و أخرى بأنّ الآية في المقام دلت على أنّ خلق الأرض و خلق كلّ ما فيها متقدم على خلق السماء، و خلق الأشياء في الأرض لا يكون إلّا بعد ما كانت مدحوّة فدلت على تقدم كونها مدحوة فالتناقض بحاله.

و يضعف الاول بوضوح عدم امتناع انفكاك خلقها عن التدحية سيما بعد ما دلت عليه الاخبار الكثيرة حسب ما سمعت شطرا منها.

و المناقشة في اطلاق خلق الأرض على إيجادها غير مدحوّة لا ينبغي الإصغاء إليها بعد ما سمعت من الآية و الرواية.

و الثاني بأن تقدم خلق ما في الأرض لا يستلزم تقدم دحوها ضرورة أنّه ليس المراد بالموصولة خصوص ما يتجدد فيها من أفراد النبات و الثمار و الحيوان و ضروب الانتفاعات الجزئية، فإنها متأخرة عن الجميع كائنة فاسدة بمر الدهور و الازمنة، بل المراد بها أصول أسبابها القابلة الاستعدادية التي كانت قائمة بسنخ الأرض و نوعها بل بالأرض التي كانت كالطينة و الخميرة للأرض المدحية، و لذا عبر بالدّحو الذي هو مجرد البسط و السعة، و بالجملة فالجواب المذكور بمكان من الصحة و القبول.

نعم ربما يجاب عن أصل الإشكال بوجوه أخر أيضا: منها أنّ كلمة «ثم» في آيتي البقرة و السجدة لتفاوت ما بين الخلقين و فضل خلق السماء على خلق الأرض

__________________________________________________

(1) روضة الكافي ص 95 ح 68 و عنه البحار ج

57 ص 98 ح 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 29

كما يقول الرجل لصاحبه: أليس قد أعطيتك ثم رفعت منزلتك ثم بعد هذا كله فعلت كذا و كذا، و مثله قوله: فَكُّ رَقَبَةٍ «1» إلى قوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «2»، أي و كان فعلى هذا يكون خلق الأرض بما فيها من الأقوات و غيرها متأخرا عن خلق السماء، و هذا الوجه ذكره شيخنا الطبرسي و تبعه الرازي و القاضي و غيرهما.

و منها: أنّ معنى قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «3» أي مع ما ذكر من خلقها و جعلها مهادا كما في قوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «4» أي مع ذلك، و هو المحكي عن مجاهد و السدي «5».

و منها ما يرجع إلى سابقه و هو أن تكون كلمة بعد لمجرد الإذكار و تعداد النعم لا للتأخر الزماني و الرتبي حيث لا يتعلق لغرض بالاخبار عن الأوقات و الازمنة كما تقول: أليس قد أعطيتك كذا و كذا و بعد ذلك أحسنت إليك في كذا «6».

و أما كون الظرف للاخبار بعد الاخبار لا المخبر عنه فلا يخلو عن تكلف.

و منها أنّه فرق بين التسوية المطلقة للسماء المذكورة في آيتي السجدة و النازعات و بين تسويتها سبع سماوات المذكورة في المقام، فتسويتها مطلقا متقدّمة على دحو الأرض و المقيدة متأخرة عنه، و أمّا قوله في آية السجدة: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «7» فمترتبة على قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ

__________________________________________________

(1) البلد: 12.

(2) البلد: 17.

(3) النازعات: 30.

(4) القلم: 13.

(5) مجمع البيان ج 5 ص 434.

(6) مجمع البيان ج 1 ص 72.

(7) فصلت: 12.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 5، ص: 30

دُخانٌ «1»، إلّا أنها مبينة لها و يدل عليه ما رواه في «الدر المنثور» كما تقدم.

و منها: أن كلمتي «بعد» و «ثم» على ظاهرهما من التأخر و التراخي إلّا أنّ المراد بالخلق هو التقدير لا الإيجاد في العين و إطلاقه عليه شايع كثير، و لذا يقيد الخلق في الاخبار مرة بالتكوين و أخرى بالتقدير و يؤيّده قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى «2» و قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «3» و في الخبر عن الرضا عليه السّلام: أفعال العباد مخلوقة للّه خلق تقدير لا خلق تكوين «4».

و على هذا فخلق الأرض و ما فيها متأخر عن خلق السماء كتأخر دحوها عنه إلّا أن تقديرها و هندستها متقدم على خلق السماء، و يؤيده أنّه سبحانه ذكر في سورة السجدة خلق الأرض و أقواتها ثم قال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «5».

و من البيّن أن المراد الإتيان من العدم إلى الوجود تعبيرا للخلقة العينية و تصويرا للقدرة الكاملة، و لذا ذهب بعضهم إلى تقدم خلق السماء على الأرض و ما فيها.

و ما رواه الكيدري في شرح النهج، قال ورد في الخبر: أنّ اللّه تعالى لما أراد خلق السماء و الأرض خلق جوهرا أخضر ثمّ، ذوّبه فصار ماء مضطربا ثم أخرج منه بخارا كالدخان و خلق منه السماء كما قال ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «6»، ثم فتق تلك السماء فجعلها سبعا ثم جعل من ذلك الماء زبدا فخلق منه

__________________________________________________

(1) فصلت: 11.

(2) الأعلى: 2.

(3) آل عمران: 59.

(4) بحار الأنوار ج 5 ص 30 ح 38 عن العيون.

(5) فصلت: 11.

(6) فصلت: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 31

أرض مكة، ثم بسط الأرض كلها من تحت الكعبة، و لذلك تسمى مكة أم القرى، لأنّها أصل جميع الأرض، ثمّ شق من تلك الأرض سبع أرضين و جعل بين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام، و كذلك بين كلّ أرض و أرض، و كذلك بين هذه السماء و هذه الأرض «1»، الخبر.

و في «الدر المنثور» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «2»، قال: إنّ اللّه تعالى كان عرشه على الماء و لم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد و الاثنين، فجعل الأرض على الحوت و هو الذي ذكره في قوله: ن وَ الْقَلَمِ و الحوت في الماء على صفاة، و الصفاة على ملك، و الملك على صخرة، و الصخرة على الريح و هي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء و لا في الأرض، فتحرك الحوت، فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فذلك قوله: وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ «3» و خلق الجبال فيها و أقوات أهلها و شجرها و ما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء و الأربعاء و ذلك قوله: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «4» إلى قوله: وَ بارَكَ فِيها يقول أنبت فيها شجرها و

قدر فيها أقواتها

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 57 ص 29 ح 4 عن شرح نهج للكيدري.

(2) البقرة: 29.

(3) الأنبياء: 31.

(4) فصلت: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 32

يقول أقواتها و أهلها في أربعة أيام سواء للسائلين يقول من سال فهكذا الأمر ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «1» فكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين في الخميس و الجمعة و انما سمي يوم الجمعة لأنّه جمع فيه خلق السموات و الأرض «2» الخبر و هذا الخبر ظاهر في الوجه المتقدم و ان خلق السماء كان أولا على وجه الدخانية ثم بعد خلق الأرض و أقواتها جعلها سماء واحدة ثم جعلها سبع سموات.

و منها: أن لا يكون معنى دحيها مجرد البسط بل يكون المراد أنّه بسطها بسط مهيأ لنبات الأقوات و يؤيده قوله مبينا للدحو المذكور أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها «3»، و ذلك لان الاستعداد لا يحصل للأرض إلّا بعد وجود السماء فان الأرض كالام و السماء كالأب، و ما لم يحصلا لم تتولد المواليد التي هي المعادن و النباتات و الحيوانات.

و منها: أن الأرض مقدمة في الخلقة و يدفع المنافات المذكورة باعتبار الآية الثالثة بان الفاء في قوله: فَسَوَّاها بمعنى ثم أو لمطلق الترتب و المشار إليه بذلك في قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «4» و هو بناء السماء و خلقها لا مجموع ما ذكر قبله حتى تسويتها، فيجوز معه تأخر التسوية عن التدحية.

و منها: أنّ قوله وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقتضي تقدم خلق السماء على دحو الأرض و لا يقتضي تقدم تسوية السماء على دحو الأرض

فجاز تأخر التسوية عن الدحو فيكون خلق الأرض قبل خلق السماء و خلق السماء قبل الدحو و الدحو

__________________________________________________

(1) فصلت: 11.

(2) الدر المنثور ج 1 ص 43 و عنه البحار ج 57 ص 204- 205 ح 152.

(3) النازعات: 31.

(4) النازعات: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 33

قبل تسوية السماء.

و فيه نظر واضح لدلالة آية الدحو على تأخره عن تسوية السماء إلّا أن يرفع التنافي بشي ء من الوجوه المتقدمة أو الآتية فيرجع إليه.

و منها: ما يحكى عن مقاتل أنه قال: خلق اللّه السماء قبل الأرض و قبل دحوها و خلق أرزاقها و أمّا قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فمعناه ثم كان قد استوى و هي دخان قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان كما في قوله تعالى قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «1»، معناه أن يكن سرق.

و منها: أن تكون دحيها جملة مستأنفة و تنصب الأرض بفعل مقدر دل عليه أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً «2» مثل تعرف الأرض و اذكرها و تدبر أمرها بعد ذلك و هو كما ترى.

و منها: أن يضمر الفعل على شريطة التفسير كما هو الظاهر و يكون ذلك إشارة إلى المذكور سابقا فالمشار إليه ذكر خلق السماء لا خلقها نفسه للدلالة على أنّه قاصر في الدلالة عن الاول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت و كيت و مثله شايع في الاستعمال.

و منها: ما ذكره الشيخ الأمجد الاحسائي طاب ثراه حيث سئل عن ذلك فأجاب بأنّه تعالى لما رمق الماء بعين الهيبة فذاب و زبد و ارتفع دخانه و كان الزبد و الدخان فصعد الدخان و كان الدخان قد أخذ في الصعود

لطيفة قبل بدء الزبد و ارتفع أخره عند انتهاء الزبد خلق الأرض و أقواتها من الزبد في أربعة أيام ثم توجه وجه المشية إلى الدخان به الصاعد فخلق من وسطه فلك الشمس و ذلك لاستوائه في اللطافة و الغلظ و خلق فلك القمر و فلك زحل و فلك عطارد و فلك المشتري

__________________________________________________

(1) يوسف: 77.

(2) الصافات: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 34

و فلك الزهرة و فلك المريخ فصار الاستواء إلى السماء بعد الأرض و السماء دخان موجودة و هو قوله تعالى: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «1» إلى قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «2» فكان كون السماء قبل كون الأرض و كان عين الأرض قبل عين السماء فكلما لطف و علا تأخرت صورة الجسمانية و لذا قلنا فلك القمر و فلك زحل و المراد بالاستواء الالتفات أي توجه وجه المشية و القدر.

و هذا الوجه يساعده في الجملة ظاهر آية السجدة لكن الأظهر في دفع التنافي ما ذكرناه أولا، و امّا سائر الوجوه فبعضها و إن لم يكن به بأس على وجه الاحتمال إلّا أنّ كثيرا منها لا يخلو من ضعف أو اختلال.

فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ التسوية هو التعديل و جعل الشيئين أو الأشياء على حد سواء، و المعنى خلقهن مصونة من العوج و الأمت و الفطور و التفاوت على أعدل ما يمكن و أقومه و أحسنه و أتقنه، و الضمير للسماء بناء على كونها جمعا أو جنسا على ما مر و إن نوقش فيهما بعدم ثبوت الأوّل و عدم كفاية الثاني، و لذا قيل:

إن الاولى كونه مبهما يفسره ما بعده كقولهم: ربه رجلا مع أنّ فيه حينئذ

من التفخيم و التشويق و الإبهام و التفسير و التمكن في النفس و نحو ذلك ما لا يخفى، و يمكن كونه للسماء باعتبار نواحيها و جهاتها فتكون الواحدة جماعة كما في قولهم: ثوب اخلاق و امهال أو باعتبار أن السماوات كانت سماء فوق سماء فتكون الجملة واحدة من حيث الاطباق و الاحتواء، أو باعتبار أن المراد بالسماء هو الجوهر الدخاني الذي خلق منه السموات فالافراد باعتبار الوحدة و عدم التميز و التعدد

__________________________________________________

(1) فصلت: 9.

(2) فصلت: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 35

يومئذ و التعدد باعتبار الاول و المشارفة هذا مضافا إلى ما قد يقال من جواز اجراء اسماء الأجناس في الإضمار و التوصيف على الوجهين كما يقال: أهلك الناس الدراهم البيض و الدنانير الصفر، و السبع للمؤنث كالسبعة للمذكر و اشتقوا منه السبع بضم الباء و سكونها لأنّه مضاعف القوى كأنه ضوعف سبع مرات أو لأنه كامل القوى، فانّ السبعة عدد كامل مركب من زوج الفرد و فرد الزوج أو زوج الزوج و فرد الفرد، و نصبه على البدل أو التفسير و السموات هي الأفلاك.

و أما ما يحكى عن علي بن عيسى من التغاير و انّ الأفلاك تتحرك و تدور و السموات لا تتحرك و لا تدور لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «1» أي تتحركا فضعيف جدا و معنى الآية نفي زوالها عن مراكزها التي تدور عليها أو نفي رجوعها إلى العدم الاصلي الذي مر مقتضي امكاناتها لأنّ كل ممكن سيّال الوجود دائم الحركة إلى العدم الاصلي، و أمّا بقاؤه فانّما هو بالإضافات السيّالة المتجددة الدائمة حسبما هو مقتضى قيوميّة الفعلية، و بالجملة فالقول المذكور شاذ لا يعرف به

قائل غيره.

نعم قد يحكى ذلك أيضا عن الشيخ الكراجكي في كتابه كنز الفوائد، حيث قال: اعلم أن الأرض على هيئة الكرة و الهواء يحيط بها من كل جهة، و الأفلاك يحيط بالجميع احاطة استدارة، و هي طبقات بعضها يحيط ببعض، فمنها سبعة يختص بالنيّرين و الكواكب الخمسة التي تسمى بالمتحيرة، و لكل منها فلك يختص به ثم عدّ الأفلاك السبعة على ما هو المشهور عند الجمهور إلى أنّ قال: و يحيط بهذه الأفلاك السبعة فلك الكواكب الثابتة و هي جميع ما يرى في السماء غير ما ذكرنا ثم الفلك المحيط الأعظم المحرّك لجميع هذه الأفلاك، ثمّ السموات السبع تحيط

__________________________________________________

(1) فاطر: 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 36

بالأفلاك و هي مساكن الأفلاك، و من رفعه اللّه تعالى الى سمائه من أنبيائه و حججه عليهم السّلام انتهى «1».

و هو مع شذوذه مردود بالاخبار الكثيرة كالخطبة العلوية المذكورة في «النهج» و فيها: ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها و أدام مربّها و اعصف مجراها و أبعد منشأها فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار و آثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء، تردّ أوّله على آخره و ساجيه على مائرة، حتى عبّ عبابه و رمى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق، و جوّ منفهق، فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا، و علياهن سقفا محفوظا و سمكا مرفوعا بغير عمد يدعمها، و لا دسار ينظمها، ثمّ زينتها بزينة الكواكب، و ضياء الثواقب، فأجرى فيها سراجا مستطيرا و قمرا منيرا في فلك دائر، و سقف سائر، و رقيم مائر، ثم فتق ما بين السماوات العلى فملأهن أطوارا من ملائكته منهم سجود لا يركعون، و ركوع لا

ينتصبون، و صافون لا يتزايلون «2»، الخطبة.

حيث دلت على أن السماوات هي المجاري للكواكب و المساكن للملائكة و الاخبار بهذا المعنى كثيرة جدا، و ورد أنّ زحل مطلعه في السماء السابعة، و أنّه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا «3» و انّ الشمس في السماء الرابعة إلى غير ذلك ممّا يدل على ما ذكرناه فلا اشكال فيه و ان اختلفوا في أنّ المراد بالفلك هل هو نفس السماء؟ أو المجرى أو المنطقة أو غيرها ممّا لا يهمنا البحث عنه في المقام إنّما الكلام فيما ذكره الرياضيون من الترتيب بين الأفلاك الكليّة و اثبات أفلاك

__________________________________________________

(1) كنز الفوائد ج 2 ص 101- 102.

(2) نهج البلاغة الخطبة الاولى ص 1.

(3) البحار ج 58 ص 220.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 37

جزئية للحركات السبع المشهورة و اثبات فلكين اخرين مضافا إليها فانّها عندهم تسع، سبع منها للسبعة السيّارة على الترتيب المشهور، و ثامنها فلك الثوابت و تاسعها فلك الأفلاك المحرك لجميعها حركة يوميّة سريعة شرقيّة و استندوا في ذلك إلى جملة من المشاهدات و الحدسيات و الأصول الطبيعية التي لم يقم على كثير منها برهان، و بالجملة فإنّهم لم يأتوا بدليل متين أو بسلطان مبين فيما اتفقوا عليه و اختلفوا فيه من اعداد الأفلاك قلة و كثرة، نعم دلّ صريح الكتاب و هو الحجة بأنّها سبعة فجعلوها للكواكب السبعة التي أحسوا باختلاف حركتها طولا في الجميع و عرضا في غير الشمس، فانّ لها الميل و هي النيّران و الخمسة المتحيرة التي فسر بها قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ «1» في العلوي «2» المروي في «المجمع» و غيره و جعلوا أدناها للقمر و أعلاها لزحل

و البواقي على الترتيب المشهور و في بعض الأخبار دلالة على بعضها مثل ما روي عن الصادق عليه السّلام من أنّ زحل مطلعه في السماء السابعة و أنّه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا فمن ثم سماه اللّه النجم الثاقب «3» و العلوي المتضمن للخمسة المتحيرة على الترتيب الذكري الدال على كونها كذلك حيث قال عليه السّلام: أنّ الخنّس خمسة أنجم زحل و المشتري و المريخ و الزهرة و عطارد «4»، إلّا أنّهم استندوا فيما ذكروه من الترتيب إلى وجهين:

الأوّل الكسف فإنّ الكوكب الأسفل يكسف الأعلى في المقارنة المرئية بحسب عين الناظر و إن لم تكن باعتبار المركز و يعرف الكاسف بلونه الغالب ككمودة زحل و دريّة المشتري و حمرة المريخ و بياض الزهرة و صفرة عطارد ثمّ

__________________________________________________

(1) التكوير: 15.

(2) مجمع البيان ج 5 ص 446.

(3) البحار ج 58 ص 220.

(4) بحار الأنوار ج 58 ص 220.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 38

أنّهم وجدوا القمر يكسف الكواكب و عطارد يكسف الزهرة، و هكذا في الجميع إلّا أنّه بقي الشك في أمر الشمس فالأكثر على أنّها في وسط الأفلاك السبعة فوق الزهرة و عطارد لاقتضاء النظام الطبيعي أن يكون ما هو أبطأ حركة من الكواكب أكثر بعدا و أعظم مدارا و أن تكون الشمس واسطة في النظم و الترتيب بمنزلة شمسة القلادة بين ما يبعد عنها الابعاد الاربعة و هي المقابلة و أخواتها و بين ما لا يبعد منها أقلّ البعد و هو التسديس و لما يحكى عن جماعة أنّهم رأوا الزهرة كشامة على صفحتها، و عن آخر أنّه رأي شامتين و حسبهما الزهرة.

و هذه الوجوه كلها ضعيفة بل قيل:

إنّه في وجه الشمس نقطة سوداء فوق مركزها بقليل كالمحو في وجه القمر و لعلها الشامة المرئية، و لذا ذهب بعض القدماء إلى أنها تحتهما و بعض المتأخرين إلى أنّه فوق عطارد و تحت الزهرة بل جزم به صاحب التحفة لدليل لاح له في الابعاد و الاجرام.

و الثاني اختلاف المنظر لكنّه غير جار في الجميع لانتفائه في العلوية محسوسا و محسوبا و كونه في الشمس في غاية القلة بل عن أبي الريحان و غيره أنّ اختلاف المنظر لا يحس إلّا في القمر فإنهم صرحوا بانّه في الشمس غير محسوس بالآلات الرصدية أصلا و ان اقتضاه حسابهم بحسبانهم و أمّا السفليتان فلتعذر الوقوف على مواضعهما الحقيقية في الطول و العرض.

ثمّ أنّ هذا كلّه على ما حققه الحكماء السابقون و أمّا المتأخرون من حكماء الأندلس و الافرنج فقد ذهبوا إلى نفي الأفلاك رأسا، و انّ كرة الشمس ساكنة في مركز العالم و أنّ كرة الأرض من جملة السيارة التي تدور حول جرم الشمس و تكتسب منها النور و الحرارة، و انّ كلّا من الثوابت المرصودة و غيرها ممّا لا يعلم عددها أحد إلّا اللّه مركز لعالم كلي كالشمس في عالمها و لكلّ منها أقمار و سيارات مشتملة على عوالم كثيرة و أصناف من المخلوقات كالمواليد و غيرها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 39

و هذا كله رجم بالغيب و مخالفة للنواميس و القواعد الحكميّة على ما أشرنا إليه آنفا نعم قدر ورد في بعض الاخبار تعدد «1» القباب و العوالم و الشموس بل في البصائر عن ابي الحسن عليه السّلام قال: إنّ للّه تعالى خلف هذا النطاق زبرجدة خضراء فمن خضرتها اخضرت السماء قيل و ما النطاق؟ قال

عليه السّلام: الحجاب و للّه وراء ذلك سبعون ألف عالم أكثر من عدد الانس و الجن و كلهم يلعن فلانا و فلانا «2»، و عن الصادق عليه السّلام:

إنّ من وراء شمسكم هذه أربعين عين شمس فيها خلق كثير، و انّ من وراء قمركم أربعين قمرا فيها خلق كثير لا يدرون أنّ اللّه خلق أدم أم لم يخلقه ألهموا إلهاما لعنة فلان و فلان «3».

و أمّا اسماء السماوات و ألوانها فقد روي في «العلل» و «العيون» و «الخصال» في خبر الشامي أنّه سأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن ذلك فقال عليه السّلام: اسم السماء الدنيا رفيع و هي من ماء و دخان و اسم السماء الثانية قيدوم و هي على لون النحاس و السماء الثالثة اسمها الماروم، و هي على لون الشبه، و السماء الرابعة اسمها أرفلون و هي على لون الفضة، و السماء الخامسة اسمها هيفون و هي على لون الذهب و السماء السادسة اسمها عروس، و هي ياقوتة خضراء و السماء السابعة اسمها عجماء و هي درة بيضاء «4»، الخبر.

و روي عن أبن جعفر عليه السّلام: السجين: الأرض السابعة و عليون: السماء السابعة «5».

و في حديث ابن سلام أنّه سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال اخبرني ما بال السماء الدنيا

__________________________________________________

(1) البحار: ج 47 ص 159.

(2) البصائر ص 492 ح 7 و عنه البحار ج 57 ص 330 ح 15.

(3) البحار ج 27 ص 45.

(4) البحار ج 10 ص 76.

(5) البحار ج 58 ص 51 ح 4 عن المحاسن ص 334 ح 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 40

خضراء؟ قال عليه السّلام: اخضرت من جبل قاف قال صدقت

فاخبرني ممّا خلق؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: من موج مكفوف قال: و ما الموج المكفوف؟ قال: يا ابن سلام ماء قائم لا اضطراب لها و كانت في الأصل دخانا، قال: صدقت يا محمّد، إلى أن قال: فاخبرني عن السماء الثانية ممّ خلقت؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: من الغمام قال: صدقت فاخبرني عن السماء الثالثة ممّ خلقت؟ قال: من زبرجد خضراء قال: فالرابعة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: من ذهب احمر قال: فالخامسة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: من ياقوتة حمراء، قال: فالسادسة؟ قال: من فضّة بيضاء؟

قال: فالسابعة؟ قال: من ذهب قال صدقت، الخبر «1».

و بعض النّاس قد تكلم في أمثال هذا الخبر بالتأويل و التوجيه و التطبيق على قواعد الفلاسفة و ترهات الصوفية و الأكاذيب الاحكامية من اثبات الطبائع و المنسوبات للأفلاك و الكواكب و الحمل على ظاهرها و السكوت عن التأويل أولى فان كان و لا بد فلعلها كانت مشتهرة عندهم كذلك أو كانت رموزا موروثة عن الأنبياء عليهم السّلام.

بقي الكلام فيما قد طال التشاجر بينهم فيه و هو أنّ السماوات و ما فيها من الكواكب هل هي حيّة مدركة أم لا؟ فجمهور الحكماء على الاول و اكثر أهل الشرع على الثاني و في الآيات و الاخبار إشارات إلى القولين و لذا قال شيخنا البهائي طاب ثراه في الحديقة الهلاليّة بعد قوله: أيّها الخلق المطيع الدائب السريع المتردد في منازل التقدير المتصرف في ذلك التدبير بعد جملة كلام له: أنّه لا يبعد أن يراد بفلك التدبير الفلك الذي يدبره القمر نفسه نظرا إلى ما ذهب اليه طائفة من أنّ كلّ واحد من السيارات السبع مدبر لفلكه كالقلب في

بدن الحيوان.

قال سلطان المحققين في شرح الإشارات: ذهب فريق إلى أنّ كلّ كوكب منها

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 60 ص 247- 248.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 41

ينزل مع أفلاكه منزلة حيوان واحد ذي نفس واحدة تتعلق بالكوكب أوّل تعلقها و بأفلاكه بواسطة الكوكب كما تتعلق نفس الحيوان بقلبه أوّلا و بأعضائه الباقية بعد ذلك، فالقوة المحركة منبعثة عن الكوكب الذي هو كالقلب في أفلاكه التي هي كالجوارح و الأعضاء الباقية انتهى كلامه زيد إكرامه إلى أن قال: إنّ خطابه للقمر و نداؤه له وصفه بالطاعة و الجد و التعب و التردد في المنازل و التصرف في الفلك ربما يعطي بظاهره كونه ذا حياة و إدراك و لا استبعاد في ذلك نظرا إلى قدرة اللّه تعالى إلّا انّه لم يثبت بدليل عقلي قاطع يشفي العليل او نقلي ساطع لا يقبل التأويل، نعم أمثال هذه الظواهر ربما تشعر به و قد يستند في ذلك بظاهر قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ* «1» فانّ الواو و النون لا يستعملان حقيقة في غير العقلاء، و قد أطبق الطبيعيون على أنّ الأفلاك بأجمعها حيّة ناطقة عاشقة مطيعة لمبدعها و خالقها و أكثرهم على أنّ غرضها من حركاتها نيل التشبه بجنابه و التقريب إليه جلّ شأنه، و بعضهم على أنّ حركاتها لورود الشوارق القدسيّة عليها آنا فآنا فهي من قبيل هزة الطرب و الرقص الحاصل من شدّة السرور و الفرح، و ذهب جم غفير منهم إلى أنّه لا ميت في شي ء من الكواكب ايضا حتى اثبتوا لكلّ واحد منها نفسا على حدة تحركه حركة مستديرة على نفسه، و ابن سينا في «الشّفاء» مال إلى هذا القول و رجّحه و حكم

به في النمط الخامس من (الإشارات) و لو قال به قائل لم يكن مجازفا و كلام ابن سينا و أمثاله و إن لم يكن حجّة يركن إليها الديانيون في أمثال هذه المطالب إلا أنّه يصلح للتأييد و لم يرد في الشريعة المطهرة على الصادع بها أفضل الصلوات و أكمل التسليمات ما ينافي هذا القول، و لا قام دليل عقلي على بطلانه و إذا جاز أن يكون لمثل البعوضة و النّملة و ما دونهما حياة فايّ مانع من أن يكون لتلك الاجرام

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 42

الشريفة أيضا ذلك، و قد ذهب جماعة إلى أن لجميع الأشياء نفوسا مجردة و نطقا و جعلوا قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» محمولا على ظاهره، و ليس غرضنا من هذا الكلام ترجيح القول بحياة الأفلاك بل كسر سورة استبعاد المصرّين على إنكاره و ردّه و تسكين صولة المشنعين على من قال به و جوّزه «2» انتهى كلامه زيد مقامه، و اعترضه شيخنا المجلسي طاب ثراه بانّ هذا الترجيح الذي أبداه في لباس الاحتمال و التجويز مناف لسياق اكثر الآيات و الأخبار الواردة في أحوال الكواكب و الأفلاك و مسيرها و حركاتها و الإشارات التي تمسك بها ظاهر من سياقها انّها من قبيل المجازات و الاستعارات الشائعة في كلام البلغاء بل في اكثر المحاورات فانّهم يخاطبون الجمادات بخطاب العقلاء و غرضهم تفهيم غيرها كما في هذا الخطاب و خطاب شهر رمضان و وداعه و خطاب البيت و المخاطب فيها حقيقة هو اللّه تعالى و الغرض إظهار نعمه تعالى و شكره عليها و لم أر أحدا من المتكلمين من فرق المسلمين قال

بذلك إلّا بعض المتأخرين الذين يقلّدون الفلاسفة في عقائدهم و يوافقون المسلمين فيما لا يضرّ بمقاصدهم، ثمّ حكى عن السيّد المرتضى أنّه قال في كتاب «الغرر و الدرر»: قد دلت الدلالة الصحيحة الواضحة على أنّ الفلك و ما فيه من شمس و قمر و نجوم غير متحرك لنفسه و لا طبعه على ما يهذي به القوم و انّ اللّه تعالى هو المحرك له و المتصرف باختياره فيه و قال رحمه اللّه في موضع آخر: لا خلاف بين المسلمين في ارتفاع الحياة من الفلك و ما يشتمل عليه من الكواكب فانّها مسخرة مدبرة متصرفة و ذلك معلوم من دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضرورة.

__________________________________________________

(1) الإسراء: 44.

(2) بحار الأنوار: ج 55 ص 185- 186.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 43

أقول: لا يخفى أنّه لو قلنا بأنّ الأشياء من الجمادات و غيرها كلّها مدركة شاعرة حيّة مسبحة للّه سبحانه حسبما تسمع تمام الكلام فيه عند تفسير قوله:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1»، فلا ريب في القول بذلك في الأفلاك و الكواكب أيضا سيّما مع التصريح بالسماوات و ما فيها كما في أوّل الآية و في المسبّحات و غيرها من الآيات و ان حملنا ذلك على التسبيح التكويني و قلنا أن الأجسام على قسمين: منها حيّة مدركة كالإنسان و منها فاقدة للإدراك و الشعور كالجمادات فمن البيّن أنّه لم يدل دليل على الحاق الأفلاك و الكواكب بالثاني دون الأوّل بعد ظهور إمكان كلّ من الوجهين فيها فلا ينبغي الجزم بأحد الوجهين من دون حجّة و لذا قال شيخنا الشهيد الأوّل في قواعده كلّ من اعتقد في الكواكب

أنّها مدبرة لهذا العالم و موجدة فيه فلا ريب أنّه كافر و ان اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه سبحانه هو المؤثر الأعظم كما يقوله أهل العدل فهو مخطئ إذ لا حياة لهذه الكواكب ثابتة بدليل عقلي و لا نقلي «2» آه.

و مراده كما ترى عدم الثبوت لا ثبوت العدم، و من هنا يظهر ضعف ما ذكره الشيخ الأكبر «3» في شرح القواعد «4» مازجا عبارته بعبارة العلّامة قائلا: و عمل التّنجيم حرام، و كذا تعلّم علم النّجوم و الفلكيّات، و تعليمه، و علمه بالنظر من غير تعليم مع اعتقاد قدمها لذاتها، و هو كفر الإنكار و الإشراك، أو لقدم علّتها، و حدوثها متّصفة بالعلوم و الإدراكات و صفة الاختيار لها مع الصفات، و هذان من كفر إنكار الضّروريّات انتهى.

__________________________________________________

(1) الإسراء: 44.

(2) القواعد للشهيد: ج 2 ص 35.

(3) هو الشيخ جعفر بن خضر الجناجي النجفي المتوفى سنة (1227) ه

(4) هو شرح مبسوط لطهارة «قواعد العلّامة» مستقصى فيه كلام الفقهاء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 44

إذ فيه أنّ ضروريّة الأخير غير واضحة، اللّهم إلّا أن يكون مراده كغيره ممّن يدّعي الإجماع عليه، نفي الحياة و الشعور و الارادة الموجبة للتّصرف في السّفليات بإيجاد الآثار على وجه الاستقلال أو التشريك أو التفويض أو غيرها، و هذا لا شبهة في قيام الإجماع بل الضرورة على فساده على اكثر الوجوه، و لعلّ هذا هو المنساق منهم في نفي الحياة و الاختيار، حيث أنّ كلامهم مع الفلاسفة و المنجّمين القائلين باستناد الحوادث بأسرها إليها على وجه الاختيار أو الإيجاب، و لذا قال العلامة «1» أعلى اللّه مقامه في «أنوار الملكوت في شرح الياقوت» «2»:

اختلف قول المنجّمين على قسمين: أحدهما قول من قال: انّ الكواكب السّبعة حيّة مختارة، و الثاني قول من قال: انّها موجبة، و القولان باطلان، أمّا الأوّل فلانّها أجسام محدثة فلا تكون، آلهة، و لأنّها محتاجة إلى محدث غير جسم، فلا بّد من القول بالصّانع إلى آخر ما ذكره.

فانظر كيف أبطل قولهم بنفي إلاهيّتها و إثبات الصّانع المحدث لها، و أين هذا من القول بأنّها مصنوعة محدثة حيّة مختارة في عبادة ربّها، مع عدم استناد شي ء من الحوادث إليها بوجه، أو مع القول بإثبات نوع ارتباط لها إليها على وجه لا يمنع من القول به شي ء من العقل و النقل.

و لذا قال شيخنا المدقّق الورع التستري «3» دام ظله العالي بعد نقل عبارة الشهيد المتقدّمة ما لفظه: و ظاهره «4» أنّ عدم القول بذلك لعدم المقتضي له و هو

__________________________________________________

(1) آية اللّه العلّامة الحلي المتوفى (726) ه

(2) الياقوت: في علم الكلام لأبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كان من أعلام الشيعة في عصر الامام الرضا عليه السّلام.

(3) هو الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الانصاري المولود (1214) ه و المتوفى (1281).

(4) أي و ظاهر كلام الشهيد الأول في قوله: و إن اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها، و اللّه تعالى هو المؤثر الأعظم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 45

الدّليل، لا لوجود المانع منه، و هو انعقاد الضرورة على خلافه، فهو ممكن غير معلوم الوقوع، و لعلّ وجهه أنّ الضّروري، عدم نسبة تلك الأفعال إلى فاعل مختار باختيار مستقل مغاير لاختيار اللّه تعالى، كما هو ظاهر قول المفوّضة.

أمّا استنادها إلى الفاعل بارادة اللّه المختار بعين مشيّته و اختياره حتّى يكون كالآلة بزيادة الشعور

و قيام الاختيار به بحيث يصدّق عليه أنّه فعله و فعل اللّه تعالى، فلا مانع عنه إذ المخالف للضرورة انكار نسبة الفعل إلى اللّه على وجه الحقيقة لا إثباته لغيره أيضا بحيث يصدق أنّه فعله.

نعم ما ذكر الشهيد طاب ثراه من عدم الدّليل عليه حقّ، فالقول به تخرّص، و نسبة لفعل اللّه إلى غيره بلا دليل و هو قبيح ثمّ قال سلمه اللّه: و ما ذكره قدّس سرّه كأنّ مأخذه ما في «الاحتجاج» عن هشام «1» بن الحكم قال سأل الزّنديق أبا عبد اللّه عليه السّلام، فقال: ما تقول فيمن يزعم أنّ هذا التدبير الّذي يظهر في هذا العالم تدبير النّجوم السّبعة؟ «2» قال عليه السّلام: يحتاجون إلى دليل أنّ هذا العالم الأكبر و العالم الأصغر من تدبير النّجوم الّتي تسبح في الفلك «3» و تدور حيث دارت متبعة، لا تفتر «4» و سائرة لا تقف، ثمّ قال: عليه السّلام: و انّ كلّ نجم منها موكّل مدبّر فهي بمنزلة العبيد

__________________________________________________

(1) هشام بن الحكم الكوفي الواسطي البغدادي المتوفى سنة (179) ه

(2) و هي الشمس و القمر، و زحل و المرّيخ و المشتري، و عطارد و الزهرة، بناء على رأي القدماء.

(3) الفلك (بضم الفاء و سكون اللام): جمع فلك (بفتح الفاء و اللام) و هي المدارات حول الشمس.

(4) تفتر: فعل مضارع على وزان يقعد و يجلس أي لا تضعف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 46

المأمورين المنهيّين، فلو كانت قديمة ازليّة لم يتغيّر من حال إلى حال «1» الخبر.

و الظّاهر أنّ قوله بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين يعني في حركاتهم لا أنّهم مأمورون بتدبير العالم بحركاتهم، فهي مدبّرة باختيارها المنبعث عن أمر اللّه.

ثمّ حكى عن

المحدّث «2» الكاشاني. أنّه قال في «الوافي» في توجيه البداء كلاما ربما يظهر منه مخالفته للمشهور حيث قال: اعلم أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهي تلك الأمور، بل إنّما تنقش فيها الحوادث شيئا فشيئا، فإنّ ما يحدث في عالم الكون و الفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك و نتائج بركاتها، فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا انتهى ما حكاه عن الكاشاني «3».

ثمّ قال: و ظاهره «4» أنّها فاعلة بالاختيار لملزومات الحوادث، و بالجملة فكفر المعتقد بالرّبط على هذا الوجه الثاني لم يظهر من الأخبار، و مخالفتها لضرورة الدّين لم يثبت أيضا، إذ ليس المراد العليّة التّامة كيف و قد حاول المحدّث الكاشاني بهذه المقدّمات اثبات البداء «5»، أقول: و هو جيّد وجيه فيما ذكره من المنع عن قيام الإجماع و الضرورة على نفي الحياة و القول بالتأثير في الجملة، و إن كان لا يخلو من نظر فيما ذكره في معنى الخبر حسبما سنشير إليه و الى ما يرد على المحدّث الكاشاني في تفسير الآيات

__________________________________________________

(1) الاحتجاج ط النجف الأشرف ج 2 ص 72.

(2) هو العالم الفاضل الكامل الحكيم المتأله محمد بن المرتضى المدعوّ بالمولى محسن القاشاني توفي سنة (1091) ه

(3) الوافي: ج 1 ص 112.

(4) أي و ظاهر كلام المحقّق الكاشاني.

(5) المكاسب ج 2 بتعليق الكلانتر ص 331- 344.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 47

المتعلّقة بها.

ثمّ أنّ قوله عليه السّلام في الخبر المتقدّم بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين ظاهر فيما ذكرناه من الحياة و الإختيار على كلا الوجهين في معنى الخبر فلا تغفل، فقد ظهر ممّا مرّ أنّه ليس

لهم الاستناد في نفي الحياة إلى الإجماع و الضّرورة و أمّا الوجوه الّتي ربما يحكى عن المتكلّمين فهي بمكان من الضّعف و القصور، و لذا قال السيّد المرتضى «1» في أجوبة «2» المسائل السلارية أنّه قد سطر المتكلّمون طرقا كثيرة في أنّ النجوم ليست بحيّة و لا قادرة، أكثرها معترض، و أشفّ ما قيل في ذلك أنّ الحياة معلوم أنّ الحرارة الشّديدة كحرارة النّار تفنيها و لا تثبت معها، و معلوم أنّ حرارة الشّمس أشدّ و أقوى من حرارة النّار بكثير، لأنّ الّذي يصل إلينا على بعد المسافة من حرارة الشّمس بشعاعها يماثل أو يزيد على حرارة النّار و لما كان بهذه الصّفة من الحرارة يستحيل كونه حيّا.

أقول: و هو كما ترى، ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا المجلسي طاب ثراه قد صرّح في موضع آخر بأنّ للأشياء كلّها شعورا و اختيارا و تسبيحا إراديّا حملا للآيات و الاخبار النّاطقة بذلك على ظاهرها، و قد مرّت حكاية عبارته، فاعتراضه في المقام على شيخنا البهائي طاب ثراه لا يخلو من غرابة، سيّما مع ما ربّما يوهمه كلامه من التعريض عليه أو على غيره.

__________________________________________________

(1) هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم الامام موسى الكاظم عليه السّلام توفى لخمس بقين من ربيع الاول سنة (436) ه

(2) كتاب في المسائل التي سألها عن السيّد المرتضى تلميذه حمزة بن عبد العزيز الديلمي أبو يعلى سلّار المتوفى (463) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 48

ثمّ أنّ ما ذكره شيخنا التّستري دام علاه في تحقيق الفاعليّة بقسميه و المنع من أحدهما دون الآخر لعلّه ينفعك في تقريب ما مرّت الإشارة إليه من معنى وساطة النّبي و

آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين للفيوض الإلهية و بابيّتهم و شفاعتهم و انّه غير التفويض الّذي نقول بكفر معتقده حسبما مر غير مرّة.

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لمّا وصف نفسه بكمال القدرة و الاستيلاء قرن ذلك بكمال العلم ليعلم وقوع الفعل منه على النمط الأتقن و الوجه الأحسن، فانّ القادر العالم بوجوه الصّنع و هندسة المقادير لا يختار في فعله بالحكمة البالغة إلّا الأكمل الأجمل، و هذا من الاستدلال بالعلّة على المعلول، و يحتمل العكس تنبيها على أنّ من كان فعله على هذا النظم العجيب و النّسق البديع مع اتّصال الإمداد و سيلان الفيض منه عليه الموجب لبقائه بقيّوميّته المطلقة فهو متّصف بكمال العلم بجميع ما في الإمكان و الأكوان، فانّ إتقان الأفعال و إحكامها و اختيار الوجه الأحسن الأتقن فيها أدلّ دليل على العلم و الحكمة.

و فيه تهديد شديد على من قابل الإحسان بالكفران حيث ختم به الامتنان عليهم بخلق أنفسهم و التفضل عليهم بما فيه حياتهم في العاجل و الآجل بعد توبيخهم على كفرهم في صدر الآية السابقة فكأنّه هدّدهم بأنّ عاقبتهم السّؤى لعلمه بقبح فعالهم و سوء مقالهم و نظيره قوله: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ «1».

__________________________________________________

(1) التوبة: 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 49

و من هنا ينقدح أنّ فيها إشارة إلى دفع الشبهة المختلجة في صدورهم الجارية على ألسنتهم من أنّ الأبدان بعد ما تفتّتت و تفرّقت أجزاؤها و تمزّقت كلّ ممزّق و اتّصلت أجزاؤها البسيطة بما يشاكلها في مراكزها و عادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة، فكيف يجمع أجزاء كلّ بدن مرّة

ثانية بحيث لا يشذ منها شي ء و لا ينضمّ إليها غيرها، فأجاب بأنّه سهل يسير لمن له القدرة الكليّة و الإحاطة العلميّة كما في قوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «1»، و قوله: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ «2» و ذلك بعد ما أشار في الآية السّابقة إلى أنّ مواد الأبدان قابلة للجمع و التفريق و الحياة بعد الموت، و أنّ القادر على انشائها أوّل مرّة قادر على احيائها في الآخرة، فصحّ دلالة الآيتين على صحّة الحشر.

و قد ظهر ممّا مرّ وجه التعبير بصيغة الفعيل دون الفاعل، و لذا قال سيبويه «3»:

إذا أرادوا المبالغة عدلوا إلى فعيل نحو عليم و حكيم، و قد سكّن نافع «4» من طريق قالون «5»، و أبو عمرو «6»، و الكسائي «7» الهاء في نحو (فهو) و (و هو) تشبيها له بعضد،

__________________________________________________

(1) يس: 79.

(2) لقمان: 16.

(3) هو عمرو بن عثمان الفارسي البيضاوي الفارسي النحوي المتوفى (180) ه.

(4) نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو رويم المدني المتوفى (169) أحد القرّاء السبعة.

(5) هو عيسى بن مينا بن وردان الملقب بقالون قارئ المدينة توفي سنة (220) ه

(6) هو زبان بن العلاء بن عمار ابو عمرو البصري المتوفى (154) أحد القراء السبعة.

(7) هو ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي المقرئ النحوي (المتوفى (179) أحد القراء السبعة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 50

و في نحو (فهي) و (هي) تشبيها له بكتف، تنزيلا للأوائل منزلة الأواسط، حيث جعلوا الواو و الفاء

كانّهما من نفس الكلمة، و هي لغة فصيحة.

تفسير الآية (30)

اشارة

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً شروع في ذكر بدء خلق آدم و كيفية تكريم اللّه تعالى له قبل ظهوره في هذا العالم، حيث بشّر به ملائكته و نوّه باسمه و أهّله للخلافة الكليّة، و أودعه علمه و حكمته، و النور الذي هو السبب الكلّي لإيجاده و تكريمه و أمره بسجود ملائكته له، و غير ذلك ممّا يأتي، و ذلك النور هو نور نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين، فالآية إشارة إلى مننه التي لا تحصى و لا تستقصى عليه و على ذريّته الطيّبين صلوات اللّه عليهم أجمعين، حيث إنّه سبحانه آتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، ثمّ على خصوص هذه الأمّة المرحومة الذين هم شيعتهم و محبّوهم حيث خلقهم اللّه تعالى من فاضل طينتهم، و عجنهم بماء ولايتهم، ثم على عموم بني آدم حيث خصّهم بهذه النّعمة العظمى من بين أهل العالم، فانّه من أدلّ الدلائل على عناية الباري سبحانه بشأن هذا النوع.

و إِذْ في الأصل ظرف للزمن الماضي، و استعماله للاستقبال في نحو يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها «1» قليل، أو مؤوّل، و تلزمه الإضافة إلى الجمل، فأشبه الحروف بافتقاره الأصلي، ثمّ أنّه قد يخرج عن الظرفيّة المحضة لكثرة دوره في

__________________________________________________

(1) الزلزال: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 51

الكلام، فيستعمل للتّعليل للمناسبة بينه و بين الظرف، و قد يحذف عامله نحو وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ «1» أي و إذ لم يهتدوا ظهر عنادهم، ثمّ توسّعوا فيه باستعماله بمعنى الوقت مطلقا، فنصبوه على المفعول به بتقدير اذكر، كما في الآية و في

كثير من أوائل القصص، أو على البداية كقوله اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ «2» و خفضوه بإضافة الأزمنة خاصّة إليه، في نحو حينئذ و يومئذ، و بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا «3».

و أمّا رفعه بالفاعليّة و نحوها فالجمهور على عدم جوازه، حسبما يحكى عنهم لكن الأظهر وفاقا لكثير ممّن تأخّر جوازه، و لذا وجّه الزّمخشري «4» قراءة بعضهم لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا «5» بكونه في محلّ الرّفع على الابتداء حملا له على إذا في قولهم: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما «6» للتّسوية بين المبتدأ و الخبر، و لا غرابة في ذلك بعد مساعدة القليل، و هو اتّفاقهم على التّصرف و الخروج عن الظّرفيّة، و من هنا يظهر أنّه لا يحتاج إلى سماع خاصّ، فلا يقدح فيه عدم التصريح به، و لعلّ فيما يأتي من عبارة الإمام عليه السّلام دلالة على ما اخترناه فلاحظ، و التزام ظرفيّته دائما حتّى في مثل المقام تكلف جدّا، بل قيل: إنّه و هم فاحش، لاقتضائه حينئذ الأمر بالذكر في الوقت الذي قد مضى مع أنّ امتثال الأمر في الحال أو الاستقبال، بل من البيّن أنّ المراد في مثل المقام ذكر الوقت نفسه

__________________________________________________

(1) الأحقاف: 11.

(2) المائدة: 20.

(3) آل عمران: 8.

(4) هو ابو القاسم محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي المعتزلي المتوفى (538) ه.

(5) آل عمران: 164.

(6) الكشاف ج 1 ص 477 ط بيروت دار الفكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 52

لا الذكر في الوقت.

و جعله ظرفا للحادث المحذوف، كما توهمه البيضاوي «1» بأن يكون التقدير و اذكر الحادث، إذ قال ربّك، مع كونه خلاف المنساق عن

السّياق و اشتماله على التكلّف الظّاهر مردود بأولويّة المجاز من الإضمار.

و أوهن من الجميع القول بكونه زائدا في مثل المقام كما عن أبي عبيدة «2» و غيره.

و عامله في الآية اذكر على أن يكون مفعولا به له، لا على ما قيل من التأويل، و تكون الجملة عطفا على قوله: وَ بَشِّرِ «3» من عطف القصّة على القصّة، من غير التفات إلى ما فيها من الجمل إنشاء و إخبارا، و المتخلل من تمام القصّة، أو جار مجرى الاعتراض، و عطفا على فتدبّر، و نحوه مقدرا بعد قوله: و هو بكلّ شي ء عليم، كأنّه قال بعد تعداد النعم و الاستدلال بالعلّة على المعلول، أو العكس على ما تقدم فتدبر ذلك و اذكر.

و يحتمل أن يكون الفاعل فيه قوله في هذه الآية: قالُوا، فيكون على حقيقة الظرفيّة، و المعنى قالت الملائكة إذ قال ربّك لهم إنّي جاعل في الأرض خليفة: أ تجعل، و إن يكون ظرفا لمضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل: و بدأ خلقكم.

__________________________________________________

(1) هو القاضي ناصر الدين عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي الفارسي الاشعري الشافعي توفي بتبريز سنة (685) ه- الكنى و الألقاب ج 2 ص 100.

(2) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري النحوي اللغوي المتوفى (309) أو 211.

(3) سورة البقرة: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 53

لكن في تفسير الإمام عليه السّلام ما يستفاد منه كونه ظرفا لقوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ حيث قال عليه السّلام: لمّا قيل لهم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» قالوا: متى كان هذا؟ قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إبداعي هذا الخلق: لَكُمْ

ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً حين قال ربّك «2».

بناء على أحد الوجهين فيه، و الوجه الآخر خروجه عن الظّرفية بكونه خبرا عن قوله ابداعي، و لذا عبّر عنه بلفظ حين و جعله مسندا، و لعلّ المراد أنّهم لما سألوا عن الوقت أجيبوا بانّه حيث لم يكن لكم وجود، و لا قوّة اعانة له في خلق معايشكم، و لا لسان سؤال منه بل كان حين التفضل عليكم بالإخبار من إرادة خلق أبيكم و تكريمه بكذا و كذا، فالظّرف هو الزمان الممتد قبل خلق آدم، و إن كان خلق ما في الأرض في طرف منه، و القول في آخر تنبيها على أنّه هو المبتدء بالنعم قبل الاستحقاق و قبل وجود المستحق.

و القول موضوع لحكاية لفظ أو فعل أو حال باللّفظ الدّال عليه، و قد يعمّ في الحكاية كالمحكي بناء على التوسعة فيه عمّا وضع له في اصل اللغة، و يقال: قال بيده أي أشار، و هو منه تعالى بما يفيد الإفهام من وحي أو إلهام أو خلق صوت و كلام، أو نصب دليل على المرام.

و قد مرّت الإشارة إلى معاني الرّب في الفاتحة و الأنسب منها في المقام هو المربّي بإيصال الفيوض و المتفضل بالإمدادات الظاهرة و الباطنة مع دفع العوائق إلى أن يصل إلى الكمال اللائق، و أضافته إلى ضمير الخطاب المكنى به عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله للاشارة إلى أنه هو المقصود الاصلي و السبب الكلّي في خلق آدم و انّ ذلك من تمام

__________________________________________________

(1) البقرة: 29.

(2) تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام، نقل عنه تفسير البرهان ج 1 ص 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 54

تربيته و ارادة ظهوره في

هذا العالم، فانّه كالثمرة المقصودة من هذه الشجرة، و التنبيه على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان مقيما على حدّ العبوديّة متمكنا في مقام الشهود الدائم، و لذا شافهه كفاحا.

و الملائكة جمع ملك، و أصله ملأك، بل قيل: أنّه لا خلاف في ذلك و قد جاء الأصل في نحو.

و لست لإنسيّ و لكن لملأك تنزل من جوّ السّماء يصوب و انّما اختلفوا في ملأك فعن الكسائي و ابن السكيت «1» و اللّيث «2» أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك، و هي الرسالة، ثمّ قلبت بتقديم اللام، ثمّ تركت همزته لكثرة الاستعمال، فلما جمعوه ردّوها إليه فقالوا ملائكة و ملائك أيضا، و عن أبي عبيدة أنّه فعل من لاك إذا أرسل، قال في القاموس: الملأك و الملأكة الرسالة و ألكني إلى فلان أبلغه عني، أصله الئكني، حذفت الهمزة و ألقيت حركتها على ما قبلها، و الملأك الملك، لأنّه يبلغ عن اللّه تعالى و وزنه مفعل و العين محذوفة، و ألزمت التخفيف إلّا شاذا، و هذا لسلامته من القلب سيّما مع شيوع استعماله أجود من الأوّل، و توهم ضعفه مدفوع بثبوت النقل و الاستعمال، مع أنّه المحكي عن ابن الأنباري «3» و ابن

__________________________________________________

(1) ابن السكيت (بكسر السين و تشديد الكاف): أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الاهوازي النحوي اللغوي المقتول بأمر المتوكل سنة (244) ه الكنى و الألقاب: ج 1 ص 314.

(2) الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي المقرئ من جلّة أصحاب الكسائي توفي سنة (240) ه غاية النهاية: ج 2 ص 34.

(3) هو ابو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار اللغوي النحوي الأديب المستوفى (304) أو 305.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 5، ص: 55

الهيثم «1» و غيرهما، فلا ينبغي التّأمل في ثبوته لعدم نصّ الجوهري «2» و غيره و عن ابن كيسان «3» أنّه من ملك لدوران المادّة مع القوّة و الشدّة يقال: ملكت العجين أي شددت عجنه، و ملّك النبعة، و هي اسم شجرة صلّبها و ذلك إذا يبّسها في الشمس مع قشرها، و ملكت بالطعنة كفى أي شددت، و معنى القوة ظاهر في المالك و الملك و ما تصرّف منهما، و منه ملك الدابة بضمّ الميم و اللام لقوائمها، و ملك الطريق بالتثليث لمعظمه، بل قد يرجح هذا على الأوّلين بأنّ معنى الشدّة و القوّة يعمّ جميع الملائكة، و ناهيك في ذلك قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «4»، و أيّ قوّة أعظم من ذلك و أنّه سبحانه جعلهم وسائط جلّ أو كلّ ما يظهره في هذا العالم ببديع حكمته و باهر قدرته من الفيوض التكوينيّة و الاحكام التشريعية.

و أمّا الرسالة فلقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ «5».

و أمّا قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «6» فمخصص جمعا بل و ضرورة إلّا مع التجوّز في معنى الرسالة، و يشكل حينئذ بجمعه هذا الجمع إلّا باعتبار أصله الذي هو ملأك على أن الهمزة مزيدة فيجمع على ملائك كشمأل و شمائل، و أمّا الحاق التاء فقيل: إنّه لتأكيد تأنيث الجماعة، و أوسط الأقوال أوسطها لسلامته من القلب

__________________________________________________

(1) هو داود بن الهيثم بن إسحاق ابو سعيد التنوخي الأنباري اللغوي النحوي المتوفى (316).

(2) الجوهري: ابو نصر إسماعيل بن حمّاد الفارابي: المتوفى سنة (393) ه على الأشهر.

(3) هو ابو الحسن محمد بن احمد بن ابراهيم بن كيسان البغدادي النحوي

المتوفى (299) ه

(4) الأنبياء: 20.

(5) الحجّ: 75.

(6) فاطر: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 56

و قلّة البناء على فعأل فلا يرتكب مثله إلّا لظهور الاشتقاق كما في شمأل، مضافا إلى ظهور المناسبة، و عدم اطّرادها على فرضه غير قادح.

و المراد بهم هذا الخلق المعروف الذين هم أجسام نورانية على ما تأتي إليها الإشارة، و الجعل إمّا بمعنى الخلق أو بمعنى الصيرورة، فله مفعولان دخل على المبتدأ و الخبر، «في الأرض خليفة» عمل جاعل فيهما لكونه بمعنى الاستقبال معتمدا على المسند اليه، و هو ضمير المتكلم في أنّي، و «الخليفة» فعيلة من استخلف في الأمر مكان من قبله فكانّه خلف غيره و قام مقامه، كما أن الامام مأخوذ من الأمّ الذي هو القصد، أو من الامام لتقدمه فهو المتقدّم الذي يقتدى به، و زيدت الهاء للمبالغة.

و المراد به خصوص آدم لأنه كان خليفة اللّه في أرضه في عمارة الأرض و نشر الشرائع و الأحكام و تكميل الأنام و سياستهم و تنفيذ أمره فيهم.

أو لأنه خليفة من سكن الأرض قبله من الملائكة حيث كانوا يعبدون اللّه في الأرض فلما قال لهم: إنّي جاعل في الأرض خليفة بدلا منكم و رافعكم منها اشتدّ ذلك عليهم لأنّ العبادة عند رجوعهم الى السماء تكون أثقل عليهم، كما في تفسير الإمام عليه السّلام «1».

أو من بني الجان و النسناس و غيرهم ممّن سكن الأرض و اشتغل بالسفك و الإفساد فأكلوا رزقه و عبدوا غيره.

و أنّ المراد به هو الخاتم لاختصاصه بالخلافة الكليّة المحمّدية و لذا نكره تعظيما له و تفخيما لشأنه.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 73 عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5،

ص: 57

أو كلّ نبيّ أو الحجّة بعد الحجّة في كلّ زمان حيث إنّ الأرض لا تخلوا في كلّ زمان من حجة معصوم أو آدم و ذريّته، و ستسمع تفصيل الكلام فيه، و إفراد اللفظ على بعض الوجوه ظاهر للوحدة الشخصيّة أو الوجوديّة في كلّ عصر و على غيره فعلى تأويل من يخلف أو خلقا يخلف، أو للاستغناء بذكر الأب الجسماني أو الروحاني عن ذكر نبيّه، كما استغنى بذكر أبي القبيلة في قولهم: هاشم، و لؤيّ، و مضر، على أنّه قد يقال بمعنى فاعلة اسم يصلح للواحد و الجمع و المذكر و المؤنث.

و قرأ خليقة بالقاف و هو في الأصل مصدر يطلق على الخلائق يقال هم خليقة اللّه و هم خلق اللّه و على الطبيعة لاختصاص هذا النوع بطبيعة لا يشاركه فيها شي ء من الخلق و إن شارك الكلّ في طبائعهم في الجملة، و التّاء ... باعتبار تعدد الموصوف أو تأنيثه، فانّه قد استعمل بمعنى المفعول.

و المراد بالأرض تمام البسيط من البراري و البحار، فانّ للإنسان الخلافة في الجميع هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ «1» و كذا تمام الجهات الأربعة من الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب لظاهر الآية و تحقق الدّحو قبل الخطاب.

و أما ما روي من طرق العامة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: دحيت الأرض من مكّة و كانت الملائكة تطوف بالبيت و هي أوّل من طاف بها، و هي الأرض التي قال اللّه تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2» فضعيف سندا، و لو صحّ فلعلّ تخصيص أرض مكّة بالذكر لتبعيّة غيرها لها خلقا و شرفا، فلعلّه اشارة إلى أن المقصود من

__________________________________________________

(1) يونس: 22.

(2) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 165 رواه عن عبد الرحمن بن سابط، عن النبي و عبد الرحمن توفي سنة (118) فخبره مرسل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 58

تلك الخلافة بل من خلق آدم و غيره هو الخلافة الكليّة الثابتة لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، حيث إنّه بعث في الأمّيّين لينذر أمّ القرى و من حولها، فكما أنّ الأرض دحيت من مكة، فكذلك أعلام العلم و الهداية تشرّف منها، و لعلّ هذا هو السرّ في إعلام الملائكة بخلق آدم الذي هو طليعة ظهور الخاتم الذي هو علّة وجود العالم، لأنّه المخاطب بقوله: «لولاك لما خلقت الأفلاك» «1» ففي الإبشار بوجوده قبل خلقه و استحقاقه الخلافة الالهيّة و جامعيّة المطلقة، سيّما مع إزاحة ما ربما يختلج في صدورهم من الشك في فضله أو التّرديد في سببه إشارات إلى تعظيمه و تكريمه و اظهار لفضله الرّاجح على ما فيه من المفاسد، سيّما مع كونه مستودعا للأنوار الالهيّة و الأشباح القدسيّة التي هي أنوار الأئمة عليهم السّلام.

بقي الكلام في أمور: أحدها أنّه لا خلاف بين الملّيّين القائلين بحدوث العالم في تأخر خلقة آدم عن هذا العالم الجسماني، و اختلفوا في قدر تأخّره، كما أنّهم قد اختلفوا في قدر بقائه فالاحكاميون منهم بنوا ذلك على ما اصطلحوا عليه من حساب الأدوار، و ذلك انّهم أجمعوا على أن الكواكب السّبع السيّارة كانت في بدو خلق العالم مجتمعة مقترنة في أوّل نقطة برج الحمل و انّ أوجاتها و جوزهريّتها كانت مقترنة معها في أوّل دقيقة من الحمل، بل و كذا الثوابت على رأي المتأخرين الذين ذهبوا إلى أنّ لها حركة بطيئة، و تنقسم الأدوار عندهم إلى أدوار الألوف و

أدوار الفصول، و للأول أقسام أربعة: أعظم و اكبر و أوسط و أصغر، و لكلّ منها تيسير و انتهاء، و لهم في ذلك كلام طويل لا طائل تحت التعرض له، و زعموا أن مقدار عمر

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 16 ص 406 عن المناقب لابن شهر آشوب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 59

الدّنيا هو ما بين القران الكلي للسّبع في دقيقة أوّل الحمل إلى قران آخر مثله، فاعتمدوا في معظم الحوادث على القرانات الكليّة، سيّما التي بين العلويين إلى غير ذلك من هذياناتهم التي لا ينبغي الإصغاء إليها، و ذكر بعضهم في تاريخ صنّفه في سنة تسعمائة و احدى و أربعين من الهجرة النّبوية انّه قد انقضى من حركة الأفلاك و الكواكب ثمان مائة و ستّ عشر ألف سنة و ثلاثمائة و اثنان و ثمانون سنة، و من أوّل أيّام العالم الذي هو عبارة عن اجتماع السبع السيّارة في أوّل نقطة من الحمل و هو المسمّى عندهم بالقران السباعي مائة و أربع و ثمانون ألف سنة و ستمائة و اثنان و سبعون سنة، و من خلقة الجنّ و الشياطين ستّ و ستون ألف سنة و تسعمائة و أربع و عشرون سنة، و من كتابة الصخرة أربعون ألف سنة و اربع و ثلاثون سنة، و من بناء هرمان بمصر ثلاثة عشر ألف سنة و ستّمائة و ثلاث و أربعون ألف سنة، و من هبوط آدم على نبيّنا و آله و عليه السلام سبعة آلاف سنة و مائة و اربع سنين، إلى آخر ما ذكره.

و ليت شعري من أين قدّر هذه الأوقات، ثمّ إنّ المشهور أنّ بناء الهرمين كان بعد الهبوط و ان بانيه كان من بني

أبينا آدم أبي البشر، و إن اختلفوا في بانيها على أقوال قال في القاموس: الهرمان بالتحريك بناء آن أوّليان بناهما إدريس عليه السّلام لحفظ العلوم فيهما عن الطّوفان، أو بناء سنان بن المشلشل أو بناء الأوائل لمّا علموا بالطوفان من جهة النجوم، و فيهما كلّ طبّ و طلسم و هنالك أهرام صغار كثيرة انتهى.

و لعلّ توهّم تقدّمه على الهبوط مبنيّ على ما اشتهر في الألسنة أو وجد مكتوبا هناك، أو في موضع آخر من أنّه بنى الهرمين و النّسر طائر في السرطان،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 60

و عدّه في «تحفة العالم» حديثا و هو وهم.

و بالجملة فأقوالهم في ذلك على اختلافها لا عبرة بشي ء منها لفقد الحجّة عليها، و أمّا الأخبار فهي مختلفة أيضا ففي «المشارق» و غيره أنّه سئل مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عن عمر الدنيا فقال عليه السّلام يقال سبعة آلاف ثمّ لا تحديد «1».

و لعلّ المراد أنّ تلك المدّة المذكورة كانت من آدم إلى الخاتم، كما لعلّه يومئ اليه خبر أبي لبيد «2» المتقدّم في تفسير «ألم» و أمّا نفي التحديد فمن مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى قيام السّاعة.

و في «جامع الاخبار» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ موسى عليه السّلام سأل ربّه عز و جل أن يعرفه بدء الدّنيا منذ كم خلقت؟ فأوحى اللّه تعالى إلى موسى تسألني عن غوامض علمي؟

فقال: يا ربّ أحبّ أن أعلم ذلك، فقال: يا موسى خلقت الدّنيا منذ مائة ألف ألف عام عشر مرّات «3»، الخبر على ما مرّ مع اخبار أخر في تفسير قوله رَبِّ الْعالَمِينَ.

و روى العياشي عن عيسى بن أبي حمزة قال: قال رجل لأبي عبد

اللّه عليه السّلام جعلت فداك إنّ الناس يزعمون أنّ الدنيا عمرها عشرة آلاف سنة فقال ليس كما يقولون، إنّ اللّه خلق لها خمسين ألف عام فتركها قاعا قفرا، خاوية عشرة آلاف، ثمّ بدا للّه بداء فخلق فيها خلقا ليس من الجنّ و لا من الملائكة و لا من الانس، و قدّر لهم عشرة آلاف عام فلمّا قربت آجالهم أفسدوا فيها فدمّر اللّه عليهم تدميرا ثمّ تركها

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 10 ص 127 عن ارشاد القلوب ج 2 ص 186- 187.

(2) البحار ج 52 ص 106 و ابو لبيد هو البحراني الهجري المخزومي من أصحاب الباقر عليه السّلام.

(3) البحار: ج 57 ص 331 عن جامع الاخبار.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 61

خاوية عشرة آلاف عام ثمّ خلق فيها و قدّر لهم عشرة آلاف عام فلمّا قربت أفسدوا فيها و سفكوا الدّماء و هو قول الملائكة: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ كما سفكت بنو الجان، فاهلكهم اللّه تعالى ثمّ بدا للّه فخلق آدم و قدّر له عشرة آلاف، و قد مضى من ذلك سبعة، آلاف عام و مائتان و أنتم في آخر الزمان «1».

و في «الخصال» و «المعاني» عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يخلق السّموات و الأرض و العرش و الكرسي و اللّوح و القلم و الجنّة و النّار و قبل أنّ يخلق آدم و نوحا و ابراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و موسى و عيسى و داود و سليمان و قبل أن يخلق الأنبياء كلّهم باربعمائة ألف سنة و أربع و

عشرين ألف سنة «2».

و في الاختصاص عنهم عليهم السّلام: أنّ اللّه خلقنا قبل الخلق بألفي ألف عام فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا «3»، الخبر.

و في البحار: عن أبي الحسن البكري «4» استاد الشهيد الثاني في كتاب الأنوار عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال كان اللّه و لا شي ء معه، فأوّل ما خلق نور حبيبه محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل خلق الماء و العرش و الكرسي و السماوات و الأرض و اللّوح و القلم و الجنّة و النّار و الملائكة و آدم و حوّاء باربعة و عشرين و اربعمائة ألف عام، فلمّا خلق اللّه تعالى نور نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله بقي ألف عام بين يدي اللّه عزّ و جلّ واقفا يسبّحه و يحمده،

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 31 و عنه تفسير البرهان ج 1 ص 57.

(2) بحار الأنوار: ج 57 ص 175.

(3) بحار الأنوار: ج 25 ص 1 ح 2 عن الاختصاص.

(4) هو الشيخ الجليل أحمد بن عبد اللّه بن محمد البكري صاحب كتاب الأنوار في مولد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و كتب أخر، توفي سنة (953) ه بمصر و دفن جنب قبر الشافعي و بنوا عليه قبّة عظيمة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 62

و الحق تبارك و تعالى ينظر اليه و يقول: يا عبدي أنت المراد و المريد، و أنت خيرتي من خلقي، و عزتي و جلالي لولاك ما خلقت الأفلاك، من أحبّك أحببته و من أبغضك أبغضته، فتلألأ نوره و ارتفع شعاعه فخلق اللّه تعالى منه اثني عشر حجابا أوّلها حجاب القدرة، ثمّ حجاب العظمة، ثمّ حجاب العزّة، ثمّ

حجاب الهيبة، ثمّ حجاب الجبروت، ثمّ حجاب الرّحمة، ثمّ حجاب النبوة، ثمّ حجاب الكبرياء، و في بعض النّسخ الكرامة، ثمّ حجاب المنزلة، ثمّ حجاب الرفعة، ثمّ حجاب السعادة، ثمّ حجاب الشفاعة، ثمّ إنّ اللّه تعالى أمر نور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يدخل في حجاب القدرة فدخل و هو يقول سبحان العليّ الأعلى، و بقي على ذلك اثني عشر ألف عام، ثمّ أمره أن يدخل في حجاب العظمة فدخل و هو يقول: سبحان عالم السرّ و أخفى أحد عشر ألف عام، ثمّ دخل في حجاب العزّة و هو يقول: سبحان الملك المنّان عشرة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الهيبة و هو يقول: سبحان من هو غنيّ لا يفتقر تسعة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الجبروت و هو يقول: سبحان الكريم الأكرم ثمانية آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الرّحمة و هو يقول: سبحان ربّ العرش العظيم سبعة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب النبوّة و هو يقول: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ستة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الكبرياء و هو يقول:

سبحان العظيم الأعظم خمسة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب المنزلة و هو يقول:

سبحان العليم الكريم، أربعة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الرفعة و هو يقول:

سبحان ذي الملك و الملكوت ثلاثة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب السّعادة و هو يقول: سبحان من يزيل الأشياء و لا يزول ألفي عام، ثمّ دخل في حجاب الشفاعة و هو يقول سبحان اللّه و بحمده سبحان اللّه العظيم ألف عام، قال الامام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: ثمّ انّ اللّه تعالى خلق من نور محمّد صلّى اللّه عليه

و آله عشرين بحرا من نور، في كلّ بحر علوم لا يعلمها إلّا اللّه تعالى، ثمّ قال لنور محمّد صلّى اللّه عليه و آله: أنزل في بحر العزّ فنزل،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 63

ثمّ في بحر الصبر، ثمّ في بحر الخشوع، ثمّ في بحر التواضع، ثمّ في بحر الرضا، ثمّ في بحر الوفاء، ثمّ في بحر العلم، ثمّ في بحر التّقى، ثمّ في بحر الخشية، ثمّ في بحر الإنابة، ثمّ في بحر العمل، ثمّ في بحر المزيد، ثمّ في بحر الهدى، ثمّ في بحر الصّيانة، ثمّ في بحر الحياء، حتّى تقلب في عشرين بحرا، فلمّا خرج من آخر الأبحر قال اللّه تعالى: يا حبيبي و سيّد رسلي و يا أوّل مخلوقاتي و يا آخر رسلي أنت الشّفيع يوم المحشر، فخرّ النور ساجدا ثمّ قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة ألف و أربعة و عشرين ألف قطرة، فخلق اللّه تعالى من كلّ قطرة من نوره نبيّا من الأنبياء، فلمّا تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما تطوف الحجّاج حول بيت اللّه الحرام، و هم يسبّحون اللّه و يحمدونه و يقولون: سبحان من هو عالم لا يجهل، سبحان من هو حليم لا يعجل، سبحان من هو غنيّ لا يفتقر، فناداهم اللّه تعالى:

تعرفون من أنا؟ فسبق نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل الأنوار و نادى: أنت اللّه لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، ربّ الأرباب و ملك الملوك، فإذا بالنداء من قبل الحق أنت صفيّي و أنت حبيبي و خير خلقي، أمّتك خير أمّة أخرجت للنّاس ثمّ خلق من نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله

جوهرة، و قسّمها قسمين: فنظر الى القسم الأوّل بعين الهيبة فصار ماء عذبا، و نظر إلى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منه العرش فاستوى على وجه الماء، فخلق الكرسي من نور العرش، و خلق من نور الكرسي اللّوح، و خلق من نور اللوح القلم الى آخر الخبر «1».

و بالجملة فالأخبار الدالّة على بدو العالم و مقدار كينونته مختلفة جدّا بحيث لا يمكن الجمع بينها إلّا بالتأويلات البعيدة الّتي لا داعي إلى ارتكابها في المقام، بل الأولى ردّ علمه إلى أهله.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 57 ص 198- 200.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 64

ثمّ أنّ لغير الملّيّين أيضا مقالات في ذلك و أكثرهم على القدم بل على إنكار آدم أبي البشر، حيث زعموا أنّه لا أوّل لنوع البشر بل و لا لغيرهم من الأنواع المتوالدة كما هو المحكي عن الفلاسفة، و أمّا الهنود و البراهمة فأكثرهم على نفي الأفلاك و استقلال الكواكب سيّما السيّارة و خصوصا الشمس في الآثار الواقعة و إيجاد الكينونات الحادثة و زعموا أنّه تعالى خلقها و فوّض إليها تدبير العالم و اختفى هو في الملأ الأعلى و ربّما يظهر لبعض المصالح في صور بعض الحيوانات و اكثر ما يظهر في صورة البقر، و لذا يبالغون في تكريمه و إعظامه، و لهم غلوّ في القول بالحلول و التّناسخ و إنكار المعاد، و قالوا: إنّ العالم ليس له أوّل و لا آخر، و لا يزال يدور بين أدوار أربعة فالامتداد للدّور الأوّل ألف ألف سنة و سبعمائة ألف سنة و عشرون ألف سنة، و للدّور الثّاني ألف ألف سنة و مائتا ألف سنة و تسعون ألف سنة، و للدّور الثالث ثمانمائة ألف سنة

و أربعة و ستّون ألف سنة، و للرّابع أربعمائة ألف سنة و اثنان و ثلاثون ألف سنة، و زعموا أنّه قد مضى من الدّورة الرابعة ما يقرب من خمسة آلاف سنة، و انّه إذا انقضت الأدوار فلا بدّ أن ينقلب العالم و يفنى أهله، ثمّ يبتدأ من الدّور الأوّل أيضا من دون فصل، و زعموا أنّه قد كانت الأعمار الطّبيعيّة لنوع البشر في الدّورة الأولى مائة ألف سنة، و في الثانية عشرة آلاف سنة، و في الثالثة ألف سنة، و أنّه كان آدم و نوح في أواخر تلك الدّورة، و في الرابعة مائة و عشرين سنة.

و حكى شيخنا المجلسي عن الهنود: أن من كان منهم على رأي الفلاسفة فهو يوافقهم في القول بالقدم، و من لم يكن منهم على رأي الفلاسفة و قال بحدوث العالم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 65

لم يثبت آدم، و يقول: إنّ اللّه تعالى خلق الأفلاك و خلق فيها طباعا محركة لها بذاتها، فلمّا تحرّكت و حشوها أجسام، لاستحالة الخلأ، و كانت الأجسام على طبيعة واحدة، فاختلفت طبايعها بالحركة الفلكية، و كان القريب من الفلك أسخن و ألطف، و البعيد أبرد و أكثف، ثم اختلطت العناصر و تكوّنت منها المركّبات، و ممّا تكوّن منه نوع البشر، كما يتكوّن الدّود في الفاكهة و اللحم و البق في البطايح و المواضع الغضّة، ثمّ تكوّن البشر بعضه من بعض بالتّوالد، و نسي التخليق الأوّل الذي كان بالتولّد، و من الممكن أن يقول: يتكوّن بعض البشر في بعض الأراضي القاصية بالتولد و انّما انقطع التولّد لأن الطبيعة إذا وجدت للكون طريقا استغنت عن طريق ثان.

قال: و أمّا المجوس فلا يعرفون آدم و لا نوحا

و لا ساما و لا حاما و لا يافث و أوّل متكون من البشر عندهم كيومرث، و لقبه كوهشاه أي ملك الجبل، و قد كان كيومرث في الجبال و منهم من يسمّيه گلشاه أي ملك الطين، لأنّه لم يكن يومئذ بشر يملكهم، و قيل: تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا و قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلّا وله و أغمي عليه، و يزعمون أنّ مبدء تكوّنه و حدوثه أنّ يزدان و هو الصانع الأوّل عندهم فكّر في أمر «أهرمن» و هو الشيطان عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق و رمى به، فصارت منه كيومرث، و لهم خبط عظيم في كيفيّة تكوّن أهرمن عن فكرة يزدان، او من إعجابه بنفسه، أو من توحّشه، ثمّ إنّهم قالوا بعد هذيانات غريبة، أنّه قطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منها ريباستان في جبل باصطخر، ثمّ ظهرت على تينك الرّيباستين الأعضاء البشرية في أوّل الشهر التاسع و تمّت أجزائه فتصوّر منها بشران ذكر و أنثى، و هما ميشا و ميشانه،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 66

و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليّين و يسمّيهما مجوس خوارزم: مرد و مردانه، و زعموا أنّهما مكثوا خمسين سنة مستغنين عن الطّعام و الشراب منعّمين غير متأذّيين بشي ء، حتى ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على تناول فواكه الأشجار و أكل منها و هما يبصرانه شيخا فعاد شابّا، فأكلا منها حينئذ، فوقعا في البلايا و ظهر فيهما الحرص حتّى تزاوجا و ولد لهما ولد، فأكلاه حرصا ثمّ القى اللّه تعالى في قلوبهما رأفة فولد بعد ذلك ستّة أبطن، كلّ بطن ذكر و

أنثى و أسماؤهم في كتاب زردشت معروفة «1».

الى غير ذلك من خرافاتهم التي لا تليق بالذكر، و أمّا اليهود و النصارى فالمحكي عنهم الاتفاق على ما أجمع عليه المسلمون لكن المحكي عن كثير من نصارى الفرانسة و الأرض الجديدة الميل إلى مذاهب الدّهريّة و التناسخ، و انكار المعاد و غير ذلك من الإلحاد.

ثانيها: في الإشارة إلى ما خلقه اللّه تعالى في هذه الأرض من النّسناس و بني الجان و غيرهما.

روى الرّاوندي في «قصصه» في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام قال سئل أمير المؤمنين عليه السّلام هل كان في الأرض خلق من خلق اللّه تعالى يعبدون اللّه قبل آدم عليه السّلام و ذرّيته؟ فقال: نعم قد كان في السموات و الأرض خلق من خلق اللّه تعالى يقدّسون اللّه و يسبّحونه و يعظمّونه بالليل و النّهار لا يفترون فانّ اللّه عزّ و جلّ لمّا خلق الأرضين خلقها قبل السموات، ثمّ خلق الملائكة روحانيّين لهم أجنحة يطيرون بها حيث

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 57 ص 266- 268.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 67

يشاء اللّه، فأسكنهم فيما بين أطباق السّماوات يقدسونه باللّيل و النّهار و اصطفى منهم اسرافيل و ميكائيل و جبرئيل، ثمّ خلق عزّ و جلّ في الأرض الجنّ روحانيّين لهم أجنحة فخلقهم دون خلق الملائكة، و خفضهم أن يبلغوا مبلغ الملائكة في الطّيران و غير ذلك، فأسكنهم فيما بين أطباق الأرضين السّبع و فوقهنّ يقدّسون اللّه اللّيل و النّهار لا يفترون ثمّ خلق خلقا دونهم لهم أبدان و أرواح بغير أجنحة يأكلون و يشربون، نسناس اشباه خلقهم و ليسوا بإنس، و أسكنهم أوساط الأرض على ظهر الأرض مع الجنّ يقدّسون اللّه اللّيل و النّهار لا

يفترون، قال عليه السّلام و كان الجنّ تطير في السماء فتلقى الملائكة في السماوات فيسلّمون عليهم و يزورونهم و يستريحون إليهم و يتعلّمون منهم الخبر، ثمّ إنّ طائفة من الجنّ و النسناس الذين خلقهم اللّه و أسكنهم أوساط الأرض مع الجنّ تمرّدوا و عتوا عن أمر اللّه تعالى فمرحوا و بغوا في الأرض بغير الحق و علا بعضهم على بعض في العتوّ على اللّه تعالى حتى سفكوا الدماء فيما بينهم، و أظهروا الفساد و جحدوا ربوبيّة اللّه.

قال: و أقامت الطائفة المطيعون من الجنّ على رضوان اللّه و طاعته، و باينوا الطائفتين من الجنّ و النّسناس الذين عتوا عن أمر اللّه تعالى، قال: فحط اللّه تعالى أجنحة طائفة من الجنّ الذين عتوا عن أمر اللّه و تمرّدوا و كانوا لا يقدرون على الطيران إلى السّماء و إلى ملاقاة الملائكة لمّا ارتكبوا من الذّنوب و المعاصي.

قال: و كانت الطائفة المطيعة لأمر اللّه من الجنّ تطير إلى السماء اللّيل و النّهار على ما كانت عليه، و كان إبليس و اسمه الحارث يظهر للملائكة أنّه من الطائفة المطيعة ثمّ خلق اللّه خلقا على خلاف خلق الملائكة، و على خلاف خلق الجنّ،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 68

و على خلاف خلق النّسناس يدبّون كما يدبّ الهوام في الأرض يأكلون و يشربون كما تأكل الأنعام من مراعي الأرض كلّهم ذكران ليس فيهم إناث، لم يجعل اللّه فيهم شهوة النّساء و لا حبّ الأولاد و لا الحرث و لا طول الأمل و لا لذة عيش و لا يلبسهم الليل و لا يغشاهم النّهار ليسوا ببهائم و لا هوام لباسهم ورق الشجر و شربهم من العيون الغزار و الأودية الكبار، ثمّ أراد اللّه

أن يفرقهم فرقتين فجعل فرقة خلف مطلع الشمس من وراء البحر، فكوّن لهم مدينة أنشأها تسمّى «جابلقا» طولها اثنى عشر ألف فرسخ في اثنى عشر ألف فرسخ، و كوّن عليها سورا من حديد يقطع الأرض إلى السّماء ثم أسكنهم فيها، و أسكن الفرقة الاخرى خلف مغرب الشمس من وراء البحر و كوّن لهم مدينة أنشأها تسمّى «جابلقا» طولها اثنى عشر ألف فرسخ في اثنى عشر ألف فرسخ و كوّن لهم سورا من حديد يقطع الى السّماء فاسكن الفرقة الاخرى فيها، لا يعلم أهل جابرسا بموضع أهل جابلقا، و لا يعلم أهل جابلقا بموضع أهل جابرسا، و لا يعلم بهم أهل أوساط الأرض من الجنّ و النّسناس، فكانت الشمس تطلع على أهل اوساط الأرضين من الجنّ و النّسناس فينتفعون بحرّها و يستضيئون بنورها، ثمّ تغرب في عين حمئة فلا يعلم بها أهل جابلقا إذا غربت، و لا يعلم أهل جابرسا إذا طلعت، لأنّها تطلع من دون جابرسا و تغرب من دون جابلقا.

فقيل: يا أمير المؤمنين فكيف يبصرون و يحيون و كيف يأكلون و يشربون و ليس تطلع الشمس عليهم؟ فقال عليه السّلام: إنّهم يستضيئون بنور اللّه فهم في أشدّ ضوء من نور الشمس، و لا يرون أنّ اللّه تعالى خلق شمسا و لا قمرا و لا نجوما و لا كواكب لا يعرفون شيئا غيره، فقيل: يا أمير المؤمنين فأين إبليس عنهم؟ قال لا يعرفون

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 69

إبليس و لا سمعوا بذكره، لا يعرفون إلّا اللّه وحده لا شريك له لم يكتسب احد منهم قطّ خطيئة و لم يقترف إثما، لا يسقمون و لا يهرمون و لا يموتون إلى يوم القيامة يعبدون اللّه

لا يفترون، اللّيل و النّهار عندهم سواء، قال عليه السّلام: ثمّ إنّ اللّه تعالى أحبّ أن يخلق خلقا و ذلك بعد ما مضى للجنّ و النّسناس سبعة آلاف سنة فلمّا كان من شأن اللّه أن يخلق آدم للّذي أراد من التدبير و التقدير فيما هو مكوّنه في السماوات و الأرضين كشط «1» عن أطباق السّماوات ثمّ قال للملائكة: انظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجنّ و النسناس هل ترضون أعمالهم و طاعتهم لي، فلمّا اطّلعوا و رأوا ما يعملون فيها من المعاصي و سفك الدّماء و الفساد في الأرض بغير الحق أعظموا ذلك و غضبوا للّه و أسفوا على أهل الأرض و لم يملكوا غضبهم و قالوا يا ربّنا أنت العزيز الجبار القاهر العظيم الشأن، و هؤلاء كلّهم خلقك الضعيف الذليل في أرضك، كلّهم يتقلّبون في قبضتك و يعيشون برزقك، و يتمتّعون بعافيتك و هم يعصونك بمثل هذه الذّنوب العظام لا تغضب و لا تنتقم منهم لنفسك بما تسمع منهم و ترى، و قد عظم ذلك علينا و أكبرناه فيك، قال: فلمّا سمع اللّه تعالى مقالة الملائكة قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فيكون حجّتي على خلقي في أرضي فقالت الملائكة:

سبحانك ربّنا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ فقال اللّه تعالى: يا ملائكتي إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أنّي أخلق خلقا بيدي و اجعل من ذريّته أنبياء و مرسلين و عبادا صالحين و ائمّة مهتدين، و اجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي ينهونهم عن معصيتي، و ينذرونهم من

__________________________________________________

(1) كشط: أي كشف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 70

عذابي، و يهدونهم إلى طاعتي، و

يسلكون بهم طريق سبيلي، أجعلهم حجّة لي عذرا و نذرا و أنفي الشياطين من أرضي و اطهّرها منهم، فأسكنهم في الهواء و أقطار الأرض و في الفيافي، فلا يراهم خلقي و لا يرون شخصهم، و لا يجالسونهم و لا يخالطونهم و لا يواكلونهم و لا يشاربونهم و انفرّ مردة الجنّ العصاة من نسل بريّتي و خلقي و خيرتي فلا يجاورون خلقي، و اجعل بين خلقي و بين الجان حجابا فلا يرى نسل خلقي شخص الجنّ و لا يجالسونهم و لا يشاربونهم و لا يتهجمون تهجمهم، و من عصاني من نسل خلقي الذي عظّمته و اصطفيته لغيبي أسكنهم مساكن العصاة و أوردهم موردهم و لا أبالي، فقالت الملائكة: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

فقال للملائكة: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «1»، قال و كان ذلك من اللّه تقدمة للملائكة قبل أن يخلقه احتجاجا منه عليهم، و ما كان اللّه ليغيّر ما بقوم إلّا بعد الحجّة عذرا أو نذرا فأمر تبارك و تعالى ملكا من الملائكة فاغترف غرفة بيمينه فصلصلها في كفّه فجمدت فقال اللّه عزّ و جلّ منك أخلق «2». الخبر على ما يأتي ان شاء اللّه.

و في «الخصال» و تفسير «العياشي» و غيرهما عن محمّد بن مسلم قال:

سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لقد خلق اللّه عزّ و جلّ في الأرض منذ خلقها سبعة عوالم ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه، ثمّ

__________________________________________________

(1) الحجر: 28- 29.

(2) بحار الأنوار: ج 57 ص 322- 325 ح 5 عن

قصص الراوندي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 71

خلق اللّه عزّ و جلّ آدم أبا البشر و خلق ذريّته منه، و لا و اللّه ما خلت الجنّة من أرواح المؤمنين منذ خلقها و لا خلت النّار من أرواح الكفّار و العصاة منذ خلقها عزّ و جلّ، لعلّكم ترون انّه إذا كان يوم القيامة و صيّر اللّه أبدان أهل الجنّة مع أرواحهم في الجنّة و صيّر أبدان أهل النّار مع أرواحهم في النّار انّ اللّه تبارك و تعالى لا يعبد في بلاده و لا يخلق خلقا يعبدونه و يوحّدونه؟ بلى و اللّه ليخلقنّ اللّه خلقا من غير فحولة و أناث يعبدونه و يوحّدونه «1». الخبر و في العلل عن الصّادق عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ اللّه تعالى لمّا أحبّ أن يخلق خلقا بيده، و ذلك بعد ما مضى من الجنّ و النسناس سبعة آلاف سنة ... الى أن قال عليه السّلام: فاغترف تبارك و تعالى غرفة من الماء العذب الفرات، فصلصلها فجمدت، ثم قال لها: منك أخلق النّبيّين و المرسلين و عبادي الصالحين و الأئمّة المهتدين الدّعاة إلى الجنّة و اتباعهم إلى يوم القيامة، و لا أبالي و لا أسأل عمّا أفعل و هم يسألون، يعني بذلك خلقه أنّه سيسألهم، ثمّ اغترف غرفة من الماء المالح الأجاج فصلصلها فجمدت، ثمّ قال لها: منّك أخلق الجبارين و الفراعنة و العتاة اخوان الشّياطين و الدّعاة إلى النّار يوم القيامة و اتباعهم و لا أبالي و لا أسأل عمّا افعل و هم يسألون.

قال: و شرط في ذلك البداء و لم يشترط في أصحاب اليمين البداء ثم خلط المائين فصلصلهما ثمّ ألقاهما قدام عرشه، و هما ثلّة

من طين ثمّ أمر لملائكة الجهات الأربع: الشمال و الدبور و الصبا و الجنوب، أن حوّلوا على هذا السلالة الطين و أبرئوها و أنشئوها ثمّ جزوها و فصلوها و اجروا فيها الطبائع الأربعة الريح و المرة

__________________________________________________

(1) الخصال: ج 2 ص 358- 359.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 72

و الدّم و البلغم قال: فجالت الملائكة عليها و هي الشمال و الصباء و الجنوب و الدبّور فأجروا فيها الطبائع الاربعة قال و الرّيح في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الشمال قال و البلغم في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الصبا قال و المرة في الطبائع في البدن من ناحية الدّبور قال و الدّم في الطبائع الاربعة في البدن من ناحية الجنوب قال فاستقلت النّسمة و كمل البدن قال فلزمه من ناحية الرّيح حبّ الحياة و طول الأمل و الحرص و لزمه من ناحية البلغم حبّ الطعام و الشراب و اللين و الرفق و لزمه من ناحية المرة الغضب و السفه و الشيطنة و التجبر و التمرّد و الفجلة و لزمه من ناحية الدّم حبّ النّساء و اللّذات و ركوب المحارم و الشهوات قال عمرو بن أبي المقدام أخبرني جابر أن أبا جعفر عليه السّلام قال: وجدناه في كتاب من كتب عليّ عليه السّلام «1».

أقول و رواه القمي بأدنى تغيير مع اشتماله على زيادة و نقصان «2» و لعلّنا نورده بعبارته ان شاء في سورة الحجر.

في حقيقة الملائكة

ثالثها: في الإشارة الى حقيقة الملائكة و أصنافها و وجودها في الجملة من ضروريّ الدّين عند جميع المسلمين بل كثير من الملّيّين، فيجب الايمان بها و التّصديق بوجودها.

قال اللّه سبحانه: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ «3»

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 104- 106 و عمرو بن أبي المقدام هو عمرو بن ثابت بن هرمز، يروي الكثير عن الإمامين الهمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام توفي سنة (172) ه

(2) تفسير القمي: ج 1 ص 36.

(3) البقرة: 285.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 73

و قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله حين سئل عن الايمان أن تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله «1».

و أمّا البحث عن أنّها روحانيّة محضة أو جسمانيّة محضة، أو مركّبة من القسمين، و بتقدير كونها جسمانيّة فكثيفة أو لطيفة نورانيّة أو هوائيّة أو على الاختلاف كما ذهب إلى كلّ طائفة، فقد يقال: إنّه ليس بواجب لأنّ مدار الإيمان بهم ليس خصوصيّات ذواتهم في أنفسهم، بل هو اضافتهم إليه تعالى من حيث أنّهم عباد مكرمون من شأنهم التّوسط بينه تعالى و بين الرّسل بانزال الكتب و إلقاء الوحي.

و فيه نظر إذ قد علم من الأخبار المتواترة كونها قادرة على التّجسد و التشكل بالاشكال المختلفة و لذا كان جبرئيل قد يرى بصورة دحية الكلبي «2»، بحيث ربما كان يراه بعض النّاس أو كلّ من كان حاضرا عند النّبي صلّى اللّه عليه و آله و قال اللّه سبحانه: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ «3».

و هذا كلّه ينافي كونها روحانيّة محضة من قبيل العقول و النفوس، و لذا ادّعى شيخنا المجلسي طاب ثراه إجماع الاماميّة بل جميع المسلمين على وجودها و أنّهم أجسام لطيفة نورانيّة أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع و أكثر، قادرون على التشكّل بالأشكال المختلفة، و انّه سبحانه يورد عليهم

بقدرته ما شاء من الأشكال و الصّور

__________________________________________________

(1) تاريخ ابن خلدون: ج 1 ص 462، سبل الهدى و الرشاد: ج 11 ص 486.

(2) هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي الصحابي نزل المزّة و مات في خلافة معاوية.

التقريب: ج 1 ص 284.

(3) الانعام: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 74

على حسب الحكم و المصالح، و لهم حركات صعودا و هبوطا و كان يراهم الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام.

قال: و القول بتجرّدهم و تأويلهم بالعقول و النفوس الفلكيّة و القوى و الطبائع، و تأويل الآيات المتظافرة و الأخبار المتواترة، تعويلا على شبهات واهية و استبعادات وهميّة زيغ عن سبيل الهدى و اتباع لأهل الغواية و العمى.

أقول و يمكن أن يقال: إنّ روحانيّتهم لا تنافي تجسّمهم متى شاءوا باذن اللّه سبحانه، إلّا أنّ الظّاهر من الأخبار كونهم أجساما متحيّزة مثل ما ورد عن الصادق عليه السّلام من أنّه ليس في السّماء موضع قدم إلّا و فيها ملك يسبّحه و يقدّسه، و لا في الأرض شجر و لا مدر إلّا و فيها ملك موكّل بها يأتي اللّه كلّ يوم بعملها و اللّه أعلم بها، و ما منهم أحد إلّا و يتقرّب كلّ يوم إلى اللّه تعالى بولايتنا أهل البيت و يستغفر لمحبّينا و يلعن أعدائنا «1».

و في «التوحيد» و «الخصال» أنّه سئل مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عن قدرة اللّه جلّت عظمته فقام خطيبا فحمد اللّه و اثنى عليه ثمّ قال: إنّ للّه تبارك و تعالى ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظم خلقه و كثرة أجنحته و منهم من لو كلّفت الجنّ و الانس أن يصفوه ما وصفوه لبعد

ما بين مفاصله و حسن تركيب صورته و كيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه و شحمة أذنيه، و منهم من يسدّ الأفق بجناح من أجنحته دون عظم يديه، و منهم من السماوات إلى

__________________________________________________

(1) بصائر الدرجات: ص 89 بحار الأنوار: ج 24 ص 210 ح 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 75

حجزته و منهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل و الأرضون إلى ركبتيه و منهم من لو ألقى في نقرة إبهامه جميع المياه لوسّعتها، و منهم من لو ألقيت السّفن في دموع عينيه لجرت دهر الدّاهرين، فتبارك اللّه فتبارك اللّه أحسن الخالقين «1».

و في الخطبة الشريفة العلوّية المذكورة في النّهج: ثمّ خلق سبحانه لإسكان سماواته و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته، و ملأ بهم فروج فجاجها، و حشا بهم فتوق أجوائها، و بين فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم في حظائر القدس، و سترات الحجب، و سرادقات المجد، و وراء ذلك الرّجيح الذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة على حدودها، أنشأهم على صور مختلفات، و أقدار متفاوتات ... إلى قوله عليه السّلام: و منهم من هو في خلق الغمام الدّلح، و في عظم الجبال الشّمخ، و في فترة الظلام الأبهم، و منهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى، فهي كرايات بيض، قد نفذت في مخارق الهواء، و تحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية .. إلى أن قال: و ليس في أطباق السّماوات موضع أصاب إلّا و عليه ملك ساجد أو ساع حافد «2».

و في التوحيد عن النّبي صلّى اللّه عليه و

آله: إنّ في السماوات السبع لبحارا عمق أحدها مسيرة خمسمائة عام، فيها ملائكة قيام منذ خلقهم اللّه عزّ و جل و الماء إلى ركبهم، ليس منهم ملك إلّا و له ألف و أربعمائة جناح، في كل جناح أربعة وجوه في كلّ وجه

__________________________________________________

(1) الخصال: ص 36 و التوحيد ص 201 و عنهما البحار ج 59 ص 178.

(2) نهج البلاغة شرح ابن أبي الحديد: ج 6 ص 423 خ 90 المعروفة بخطبة الأشباح.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 76

أربعة ألسن ليس فيها جناح و لا وجه و لا لسان و لا فم إلّا و هو يسبّح اللّه تعالى تسبيح لا يشبهه نوع منه صاحبه «1».

و في الخرائج و غيره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: نحن الذين تختلف الملائكة إلينا فمنّا من يسمع الصوت و لا يرى الصّورة، و انّ الملائكة لتزاحمنا على تكأتنا و إنّا لنأخذ من زغبهم فنجعله سخبا لأولادنا «2».

و روى القمي عن الصادق عليه السّلام قال: خلق اللّه الملائكة مختلفة و قد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جبرئيل و له ستّمائة جناح على ساقه الدّر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السماء و الأرض «3».

و قال عليه السّلام: إذا أمر اللّه تعالى ميكائيل بالهبوط إلى الدّنيا صارت رجله اليمنى في السّماء السّابعة و الأخرى في الأرض السّابعة، و أنّ للّه تعالى ملائكة أنصافهم من برد و أنصافهم من نار، يقولون: يا مؤلّفا بين البرد و النّار ثبّت قلوبنا على طاعتك، و انّ اللّه تعالى ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينيه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطّير «4».

و قصّة دردائيل و صورته كغيره من الملائكة

مشهورة «5».

و في النبويّ المشتهر أطت السّماء حقّ لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلّا و فيه

__________________________________________________

(1) البحار: ج 58 ص 182.

(2) البحار: جج 59 ص 185.

(3) البحار: ج 4 ص 43.

(4) البحار ج 59 ص 174.

(5) البحار: ج 59 ص 199.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 77

ملك ساجدا أو راكع «1».

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التي يمكن تحصيل القطع منها بأنّها أجسام نورانيّة و ان كانت غير مرئيّة إلّا بأسباب خاصّة و انّ لها أمكنة و أحيازا و أعضاء و جوارح و قوّة و نشاطا و قوتا من التّسبيح و التهليل و حركة و سكونا و اجتماعا و افتراقا و قياما و قعودا و ركوعا و سجودا و أصواتا و كلاما و عظما و أقدارا و غير ذلك من أحكام الأجسام و خواصها.

و حمل ذلك كلّه على الاستعارة و التّشبيه و انّه لو تجسّم بمقدار قوّته لكان كذا و كذا خروج عن الظّواهر المتظافرة التي هي الحجة من غير حجّة، و المؤمن الموحّد لا يتجاسر على أدنى من ذلك، فكيف بما هنالك، و لو ساغ في الشريعة فتح باب أمثال هذه التأويلات و الاحتمالات المشتملة على ما لا يخفى من التكلّف و التحمّل لما اخضرّ للدّين عود، و ما قام للإسلام عمود، لكنّهم قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه و لذا تراهم يتلاعبون بأحكام الشريعة و يستخفون باهلها، و يتصرّفون بعقولهم القاصرة و فطرتهم المغيّرة و أحلامهم الناقصة في أحكامها الظّاهرة بلا برهان و لا دليل، فأضلوا كثيرا و ضلّوا عن سواء السبيل.

و بالجملة يجب التصديق و الإذعان بما صحّ عنهم فيما لا تصل إليه

عقولنا، و قد سمعت أنّ الظّاهر من الكتاب و السّنة كونهم أجساما لطيفة نورانيّة كما عليه أكثر المسلمين، نعم لا نأبى من القول بأن يكون هناك أصناف أخر من الملائكة غير جسمانيّة، و لا متعلقة بالأجسام، بل يكون فوق عالم الأجسام كملائكة العالين

__________________________________________________

(1) البحار: ج 59 ص 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 78

و الكروبيّين، و الرّوح الذي هو من أمره سبحانه دون الذي على ملائكة الحجب.

الملائكة عند الفلاسفة

بقي الكلام في سائر الأقوال التي ذكروها في حقيقتها و هي عديدة منها: ما يحكى عن الفلاسفة و هي أنّها جوهرة قائمة بنفسها ليست بمتحيّزة البتّة، و انّها بالمهيّة مخالفة لأنواع النفوس النّاطقة البشريّة، و انّها أكمل قوّة منها و اكثر علما و أنّها للنفوس البشريّة جارية مجرى الشمس بالنّسبة إلى الأضواء، ثمّ أنّ هذه الجواهر على قسمين: منها ما هي بالنّسبة إلى اجرام الأفلاك و الكواكب كالنفوس الناطقة بالنّسبة إلى أبداننا، و منها ما هي أعلا شأنا من تدبير أجرام الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة اللّه مشتغلة بطاعته و هذا القسم هم الملائكة المقرّبون، و نسبتهم إلى الملائكة الّذين يدبّرون السّماوات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة فهذان القسمان قد اتفق الفلاسفة على إثباتها، و منهم من أثبت نوعا آخر من الملائكة و هي الملائكة الأرضية المدبّرة لأحوال هذا العالم السفلي، ثمّ أنّ مدبّرات هذا العالم و إن كان خيّرة فهم الملائكة، و إن كانت شريرة فهم الشياطين، و هذا القول ربما مال إليه بعض الإسلاميّين كالسّيد الدّاماد و الصدر الأجل الشيرازي و غيرهما.

قال السيّد: إنّ القول بتجسم الملائكة إنّما هو ممشى الخارجين عن دائرة التحصيل، و أمّا ما هو صريح الحقّ و عليه

الحكماء الإلهيّون و المحصّلون من أهل الإسلام فهو أنّ الملائكة على قبائل: سفليّة و علويّة أرضية و سماويّة، جسمانيّة و قدسانيّة، و في القبائل شعور و طبقات كالقوى المنطبقة و الطبائع الجوهرية و أرباب

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 79

الأنواع و النفوس المفارقة السماوية، و الجواهر العقليّة القادسة بطبقات أنواعها و أنوارها، و منها روح القدس النّازل بالوحي النّافث في أرواح أولى القوّة القدسيّة باذن اللّه سبحانه.

و قال الصّدر الأجل بعد الإشارة إلى دعاء الصحيفة المشتمل على اصناف الملائكة و قبائلها: إنّ قوله «اللهم و حملة عرشك» إشارة إلى الملائكة المقرّبين و الجواهر المقدّسين الواقعين في سلسلة العقول المفارقة، و قوله: «و الرّوح الذي هو على ملائكة الحجب و الرّوح الّذي هو من أمرك» إشارة إلى الأرواح المهيمنة الذين يستغرقون في شهود جمال الأزلية و ليس لهم رسالة من اللّه إلى خلقه، و لذا سمّاهم بالرّوح و لم يطلق عليهم اسم الملك لأنّه مشتقّ من الألوكة بمعنى الرّسالة و كلّ روح مفارق لا رسالة له فهو ليس بملك و انّما هو روح فقط، و قوله: «على الملائكة الّذين من دونهم» إشارة إلى الملائكة الموكّلين بالاجرام السّماوية و النفوس المدبرة للجواهر الفلكيّة و الكوكبيّة، قوله: «و على الروحانيين من ملائكتك» اشارة إلى الملائكة العقليّة الواسطة في سلسلة اسباب الوجود بينه و بين ملائكة السّماء و لهذا قال في الدّعاء: «و أسكنتهم بطون أطباق سماواتك» فانّ بطون أطباق السماوات هي نفوسها المحركة لها إذ لكلّ نفس فلكي جوهر عقلي مفارق مسكنه قلب ذلك الفلك و نفسه الناطقة كما أنّ قلب المؤمن بيت اللّه اي نفسه الناطقة مكان معرفة اللّه سبحانه و قوله: «و خزّان المطر» آه

إشارة إلى ملائكة الأرضين و هم مبادئ الصّور النّوعيّة للأنواع الطّبيعية العنصريّة، فكلّ ملك من جنس ما يدبّره و يحرّكه باذن اللّه تعالى و أمره: فملك الرّياح من باب الرّياح، و ملك الأمطار من باب الأمطار، و ملك الجبال

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 80

من باب الجبال، و كذا ملك النّار من باب النّار، و ملك الماء و ملك الأرض كلّ هؤلاء من نوع ضمّه و مسمّى باسمه فملك الأرض أرض لعالم الغيب و الملكوت و ملك الماء ماؤه و ملك الهواء هوائه و ملك النّار ناره بل ما من موجود في هذا العالم إلّا و له صورة طبيعيّة محركة و نفس تدركه و عقل يسخّره و اسم إلا هي يبدعه و إذا ترقيت بذهنك إلى عالم الملكوت الأعلى شاهدت الماء هناك و هو حياة كلّ شي ء و الهواء عشق كلّ ذي روح و شوقه و النّار قدر كلّ حي و قهره و الأرض قوّة تمسكه لكلّ جوهر و مديله انتهى.

و أنت ترى أن هذا كلّه رجم بالغيب و ما كلّفنا بالتّصديق بأمثال هذه التخريجات الظّنّيّة و الاعتبارات الوهميّة إن هم إلّا يظنّون و إن هم إلّا يخرصون.

الملائكة عند النصارى و المجوس

و منها ما يحكى عن النصارى و هو أنّ الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة بذاتها المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء و الخيريّة، و ذلك لأنّ هذه النّفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة، و إن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.

و منها: قول معظم المجوس و الثّنوية و هو أنّ هذا العالم مركّب من أصلين أزليّين، و هما النّور و الظلمة، و هما في الحقيقة جوهران شفّافان حسّاسان مختاران قادران، متضادّا النفس و الصورة، مختلفا

الفعل و التدبير، فجوهر النّور فاضل خيّر، تقيّ طيّب الرّيح كريم النفس، يسرّ و لا يضر، و ينفع و لا يمنع، و يحيي و لا يبلي،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 81

و جوهر الظّلمة على ضدّ ذلك، ثمّ إنّ جوهر النور لم يزل يولّد الأولياء و هم الملائكة لا على سبيل التناكح، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم، و الضّوء من المضي ء و جوهر الظّلمة لم يزل يولد الأعداء و هم الشياطين على سبيل تولّد السّفه من السّفيه.

الملائكة عند أرباب الهياكل

و منها: أرباب الهياكل و عبدة الأصنام، فانّهم قالوا: إنّ الملائكة في الحقيقة هي هذه الكواكب المتصرّفة في هذا العالم بصورها و أشكالها و تشكّلاتها و أرواحها المحرّكة لها المدبرة للعالم السفلي، لا على وجه القصد و الالتفات، فانّ العالي لا يلتفت إلى السّافل، بل على وجه الإشراق و التجلّي، و لذا زعموا أنّ لها أرواحا عالية قاهرة قوية، و هي مختلفة بجواهرها و مهيّاتها، و كما أنّ لكلّ روح من الأرواح البشريّة بدنا معيّنا، فكذلك لكلّ روح من الأرواح الفلكيّة بدن و هو ذلك الفلك، و له قلب و هو الكواكب المركوز فيه، فتتعلّق الروح الفلكيّة أوّلا بقلبه، ثمّ ينبعث من جرم الكوكب خطوط شعاعيّة تتّصل بها قوّة ذلك الكوكب و نوره إلى أجزاء العالم، و كما أنّ بواسطة الأرواح الفائضة من القلب و الدّماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كلّ جزء منها قوى مختلفة كالقوى الحيوانيّة من السّامعة و الباصرة و الشّامة و الذائقة و اللامسة، و كالقوى الطبيعيّة، كالجاذبية و الدّافعة و الغاذية و غيرها، فتكون هذه القوى كالنتائج و الأولاد لجوهر النّفس المدبّرة لكلية البدن، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعيّة المنبثة من الكوكب

الواصلة إلى أجزاء هذا العالم يحصل في تلك الأجزاء

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 82

على حسب التأثيرات الجزئيّة و خصوصيّات القوابل و الفواعل نفوس جزئيّة مخصوصة مثلا نفس زيد و نفس عمرو و نحوهما، و هذه النفوس كالنتائج و الأولاد لتلك النفوس الفلكيّة، و لما اختلفت النفوس الفلكيّة اختلافا نوعيّا من حيث جواهرها و مهيّاتها فكذلك النفوس المتولّدة من نفس فلك زحل مثلا صنف من النّاس متجانسة متشاكلة في افرادها و جزئيّاتها، إلّا أنّها متخالفة اختلافا ضيّقا للنّفوس المنتسبة إلى روح المشتري مثلا ثمّ نسبوا إلى كلّ من الكواكب شيئا من أصناف النّاس و سائر الحيوانات و الأقاليم و الأزمنة و السّاعات و الأيّام و اللّيالي و الألوان و الطّعوم و الأثمار و النّباتات و الرّوائح و غير ذلك ممّا ملئت منه كتب الأحكاميّين.

ثمّ أنّهم قالوا إنّ تلك الأرواح الفلكيّة كالأب المشفق و السّلطان المربّي لمواليدها و منسوباتها، و لذا سمّوها بالآباء العلويّة فتعيّن أولادها على صلاحها و نجاحها، و لذا سوّلت لهم نفوسهم أن بنوا لكلّ منها بصورها المتوهّمة لها هياكل و اشكالا و صورا عظّموها و استشفعوا بها و تقرّبوا إليها بالسجود إليها و غيره من أنواع التّعظيم و التكريم، حتّى آل أمرهم إلى عبادتها، و هذا الأصل الّذي سمعت هو الذي بنوا عليه علم أحكام النّجوم، فسحقا لهم بما سوّلت لهم أنفسهم ان سخط اللّه عليهم و في العذاب هم خالدون.

قول المشركين في الملائكة

و منها: ما تقوّله بعض المشركين ككفّار قريش و أحزابهم، حيث قالوا: إنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 83

الملائكة بنات اللّه، و جعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرحمن إناثا، و جعلوا له من عباده جزء فرد اللّه عليهم في محكم

كتابه، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا جدوى للتّعرض لها و لا لإبطالها بعد قيام ضرورة الدّين و اجماع المسلمين على ما سمعت الدّال على وجودهم أيضا في الجملة، و لذا كنّا في غنى عن التكلّف لإثباتها بما تجشّمه بعض النّاس من الأدلّة الاقناعيّة التي استدلّ بها الرازي و غيره من انّه يبعد في العقل أن يحصل الحياة و العقل و النّطق في هذا العالم الكدر الظّلماني و لا يحصل في ذلك العالم الذي هو عالم الأضواء و الأنوار و انّه أشرف أنواع الحي فهو أولى بالوجود من الأوسط الذي هو الحيوان النّاطق و الأحسن الذي هي البهائم و نسى أصحاب المشاهدات و المكاشفات و المجاهدات شاهدوها في مشاهدهم النّورانية و أصحاب الحاجات و الضرورات أثبتوها من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النّادرة الغريبة و الاختراعات البديعة العجيبة و تركيبات المعجونات و استخراج صفة التّرياقات و غيرها من الآثار و الأسرار، لكنّها كما ترى قاصرة عن افادة المطلوب، و انّما المعتمد ما سمعت، و أمّا مواد وجوداتهم و كينوناتهم فالأصل فيها هو الرحمة الكليّة و الكلمة الالهيّة و المراد بها نور نبيّنا محمّد و آله الطاهرين صلّى اللّه عليهم، و لذا ورد في الاخبار الكثيرة التي مرّت إلى جملة منها الإشارة إلى أنّ الملائكة و الأنبياء خلقوا جميعا من أشعّة أنوارهم و من فاضل طينتهم، و انّ الملائكة العالين الذين هم أفضل أصناف الملائكة قوم من شيعتهم من الخلق الأوّل، بل ورد أنّ سبب قربهم سبقهم و مبادرتهم إلى الإقرار بالولاية.

و قال الصادق عليه السّلام: إنّ اللّه سبحانه و تعالى عرض ولايتنا على الملائكة فمن

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 84

بادر إليها

و عقد قلبه عليها صار من المقرّبين.

و في «مصباح الأنوار» عن النّبي عليه السّلام أنّ العرش خلق من نور النّبي عليه السّلام و انّ الملائكة خلقوا من نور عليّ عليه السّلام.

و عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه خلق اللّه الملائكة و أسكنهم السّماء ثمّ ترائى لهم اللّه تعالى ثمّ أخذ عليهم الميثاق له بالرّبوبيّة و لمحمّد بالنّبوة و لعليّ بالولاية فاضطربت فرائض الملائكة فسخط اللّه عليهم و احتجب عنهم فلاذوا بالعرش سبع سنين يستجيرون اللّه من سخطه و يقرّون بما أخذ عليهم و يسألونه الرضا فرضي عنهم بعد ما أقرّوا بذلك و أسكنهم بذلك الإقرار السّماء و اختصهم لنفسه و اختارهم لعبادته، ثم أمر اللّه تعالى أنوارنا أن تسبّح فسبّحت فسبّحوا بتسبيحنا، و لو لا تسبيح أنوارنا ما دروا كيف يسبّحون اللّه و لا كيف يقدّسونه، الخبر.

ثمّ أنّ هاهنا موادّا أخر لوجودهم و لذا ورد في كثير من الأعمال الحسنة و الطّاعات المقبولة أنّ اللّه تعالى يخلق منها الملائكة فيسبّحون لصاحبها.

ففي خبر وضوء مولانا أمير المؤمنين أنّه قال لمحمّد بن حنفيّة يا محمّد من توضأ مثل وضوئي و قال مثل قولي خلق اللّه له من كلّ قطرة ماء ملكا يقدّسه و يسبّحه و يكبّره فيكتب اللّه له ثواب ذلك إلى يوم القيامة «1».

و في تفسير الامام عليه السّلام أنّ من قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة سبحانك اللّهم و بحمدك ... الدّعاء تحاتت عنه ذنوبه كما تتحات أوراق الشّجر و خلق اللّه بعدد كلّ قطرت من قطرات وضوئه او غسله ملكا يسبّح اللّه و يقدّسه و يهلّله

__________________________________________________

(1) المحاسن: ص 45- عن البحار ج 80 ص 318.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص:

85

و يكبّره و يصلّي على محمد و آله الطيّبين و ثواب ذلك لهذا المتوضئ «1».

بل قد روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله على ما رواه في «الأنوار» عن ابن عباس أنّه لما أسري به الى السّماء انتهى به جبرئيل الى نهر يقال له النّور و هو قول اللّه عزّ و جلّ و خلق الظّلمات و النّور فلمّا انتهى به إلى ذلك النهر فقال له جبرئيل اعبر يا محمّد على بركة اللّه فقد نوّر اللّه لك بصرك و مدّ لك ملكك فانّ هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل غير أنّ لي في كلّ يوم اغتماسة فيه ثمّ اخرج منه فانفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلّا خلق اللّه تبارك و تعالى منها ملكا مقرّبا له عشرون ألف وجه و أربعون ألف لسان في كلّ لسان يلفظ بلغة لا يفهمها اللّسان الاخر فعبّر رسول اللّه عليه السّلام حتّى انتهى إلى الحجب و الحجب خمسمائة حجاب من حجاب إلى حجاب مسيرة خمسمائة عام «2»، الخبر بطوله.

و فيه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ في السّماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخل فيه جبرئيل كلّ يوم طلعت فيه الشمس فإذا خرج انتفض انتفاضة جرف عنه سبعون ألف قطرة فيخلق اللّه من كلّ قطرة ملكا فيؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون فيه ثمّ لا يعودون فيه أبدا «3».

و لا يخفى أنّ الملائكة المخلوقة من أفعال العباد و غيرها من الموادّ أيضا مخلوقة من أشعة أنوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين و لو بواسطة أو وسائط بحسب القرب من المبدء و البعد عنه،

و أمّا استقصاء الكلام في ذكر

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام، ص 239 و عنه البحار ج 80 ص 316.

(2) أمالي الصدوق: ص 213- و عنه البحار ج 18 ص 338.

(3) بحار الأنوار: ج 55 ص 55 عن تفسير الطبرسي ج 9 ص 166.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 86

أصناف الملائكة و مراتبهم و أوصافهم و شؤونهم و عصمتهم و غير ذلك من أحوالهم فسيأتي كلّ في موضعه من الآيات المتعلّقة بها.

بقي الكلام في أنّ المراد بالملائكة في الآية هل هو الكل نظرا إلى دلالة الجمع المحلّى على العموم الاستغراقي فيشمل جميع الأفراد أو البعض المطلق لكون اللام اشارة إلى الماهيّة الجنسيّة الصّادقة على الكلّ و البعض، و المراد أنّه خاطب هذا الجنس من أجناس العالم، أو خصوص من حارب منهم بني الجان و أسروا إبليس، فيكون اللّام للعهد بأحد الوجهين و أن لم يجر له ذكر في خصوص ظواهر الآيات وجوه بل أقوال.

و قد مرّ في العلوي المروي عن القصص أنّه سبحانه كشط عن أطباق السماوات ثمّ قال للملائكة أنظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجنّ و النّسناس هل ترضون أعمالهم و طاعتهم لي فلمّا اطلعوا و رأوا ما يعملون فيها من المعاصي و سفك الدّماء و الفساد في الأرض بغير الحقّ أعظموا ذلك و غضبوا للّه «1» إلى آخر ما مرّ الظّاهر في كون الخطاب متوجّها إلى الجميع و العمدة عموم الكتاب الذي لم يظهر له مخصّص مضافا إلى ما ستسمع من كون المأمور بالسجود هو الجميع.

و لا يقدح فيه ما ورد عن أنّ أهل المدينتين اللّتين بالمشرق و المغرب لم يطّلعوا على خلق آدم «2» لاستغراقهم في عبادته سبحانه و لعدم

كونهم من الملائكة.

و كذا لا ينافيه ما روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: مررنا ليلة المعراج بملائكة من

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 57 ص 324 عن قصص الراوندي.

(2) بحار الأنوار: ج 57 ص 329.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 87

ملائكة اللّه عزّ و جلّ خلقهم اللّه تعالى كيف شاء، و وضع وجوههم كيف شاء، و ليس شي ء من أطباق وجوههم إلّا و هو يسبّح اللّه و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة، أصواتهم مرتفعة بالتسبيح و البكاء من خشية اللّه تعالى، فسألت جبرائيل عنهم فقال:

كما ترى خلقوا أنّ الملائكة منهم إلى جنب صاحبه ما كلمه قطّ، و لا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقهم، و لا خفضوا رؤوسهم إلى ما تحتهم، خوفا من اللّه تعالى و خشوعا، فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برءوسهم و لا ينظرون إليّ من الخشوع، فقال لهم جبرئيل عليه السّلام: هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله اللّه إلى العباد رسولا و نبيّا و هو خاتم الأنبياء و سيّدهم أفلا تكلمونه، قال: فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام و بشّروني و أكرموني بالخير لي و لأمتي «1».

و أمّا ما رواه العامّة عن ابن عباس من أنّه سبحانه إنّما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس لأنّ اللّه تعالى لمّا أسكن الجنّ الأرض فأفسدوا فيها و سفكوا الدّماء و قتل بعضهم بعضا فبعث اللّه إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض و الحقوهم بجزائر البحر فقال تعالى لهم إنّي جاعل في الأرض خليفة «2».

ففيه أنك ستسمع فيما يأتي أنّ إبليس لم يكن من الملائكة، و أنّه لم يقاتل الجنّ بل قوتل

بالملائكة فقتل حزبه و أسروا نفسه، و أمّا كون المخاطبين خصوص المحاربين فهو غير واضح ايضا، سيّما بعد ما سمعت من الكشط عن أطباق

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 324.

(2) تفسير الفخر الرازي: ج 2 ص 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 88

السّماوات «1» الظّاهر في إرادة الجميع.

نعم في تفسير الامام عليه السّلام أنّه قال ذلك للملائكة الذين كانوا في الأرض مع إبليس و قد طردوا عنها الجنّ بني الجان «2» الخبر على ما يأتي، و في بعض الاخبار الآتية ما يدلّ عليه ايضا، لكنّها لا تقاوم الأخبار الدّالة على العموم المؤيّدة بظاهر الكتاب و بوقوع الاستدلال في كثير من الأخبار على فضل البشر على الملائكة بسجودهم لآدم.

بل في العيون عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلني على جميع النّبيّين و المرسلين، و الفضل بعدي لك يا عليّ و للأئمّة من بعدك إلى أن قال صلّى اللّه عليه و آله: ثمّ أنّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم فأودعنا صلبه، و أمر الملائكة بالسّجود له تعظيما لنا و إكراما، و كان سجودهم للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم إكراما و طاعة، لكوننا في صلبه فكيف لا تكون أفضل من الملائكة و قد سجدوا لآدم كلّهم أجمعون «3».

و هو كما ترى صريح في العموم مع زيادة التأكيد لكن لا دلالة فيه على كون المقول لهم أو القائلين هم جميع المأمورين بالسجود بل في «العلل» عن الصّادق عليه السّلام فيما يأتي في حجج الحشويّة أنّه تعالى لمّا أراد خلق آدم قال للملائكة:

إنّي جاعل في الأرض خليفة فقال ملكان من الملائكة أ تجعل فيها

من يفسد فيها

__________________________________________________

(1) البّحار: ج 57 ص 324.

(2) البحار: ج 11 ص 127 عن تفسير الإمام عليه السّلام

(3) عيون الاخبار: ص 145 و عنه البحار ج 11 ص 140.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 89

و يسفك الدّماء فوقع الحجب بينهما و بين اللّه عزّ و جلّ الخبر «1» على ما يأتي.

رابعها: في الإشارة إلى معاني الخلافة التي تختلف باختلاف مراتب الاستخلاف و هي عديدة منها: مجرّد إذهاب قوم بالإهلاك أو الإجلاء أو غيرهما و اقامة غيرهم مقامهم في مساكنهم و أماكنهم و مكاناتهم كما في قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ «2» عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ «3» و الخلافة بهذا المعنى تطلق مع القيام بمقتضاها من الايمان و العبوديّة و عدمه، و لذا أطلق على الكافر في قوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ «4» و قوله: وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ «5» وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ «6» إلى غير ذلك من الإطلاقات الكثيرة الواردة في القرآن و غيره و في الدّعاء: «و يهلك ملوكا و يستخلف آخرين»، و بمثل هذه الإطلاقات أطلقت على الخلفاء الثلاثة و خلفاء بني أميّة و بني العبّاس و غيرهم من المنافقين المتخلّفين، و عليه يحمل ما وضعوه و افتروه على النّبي صلّى اللّه عليه و آله من أنّه قال:

الخلافة بعدي ثلاثون سنة، و الّا فهم يزعمون أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يستخلف أحدا بعد وفاته،

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 140 و عنه البحار

ج 11 ص 109 ح 23.

(2) الانعام: 133.

(3) الأعراف: 129.

(4) الانعام: 165.

(5) الأعراف: 69.

(6) الأعراف: 74.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 90

و لذا اعترض عليهم المأمون لعنه اللّه في مجلس عقده للمناظرة معهم بمحضر الرّضا عليه السّلام فقال لهم و هم زهاء أربعين رجلا من علمائهم من أصحاب الحديث و أهل الكلام: أليس قد روت الأمّة بإجماع منها أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار «1» قالوا: بلى قال و رووا عنه عليه السّلام أنّه قال من عصى اللّه بمعصية صغرت أو كبرت ثمّ اتّخذها دينا و مضى مصرّا عليها فهو مخلّد بين أطباق الجحيم، قالوا: بلى: فخبّروني عن رجل تختاره الأمّة فتنصبه خليفة هل يجوز أن يقال له خليفة رسول اللّه عليه السّلام و من قبل اللّه عزّ و جلّ و لم يستخلفه الرّسول؟ فإن قلتم نعم كابرتم، و إن قلتم لا وجب انّ أبا بكر لم يكن خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا كان من قبل اللّه عزّ و جلّ و انكم تكذبون على نبيّ اللّه، و انّكم متعرّضون لأن تكونوا ممّن وسمه النّبي صلّى اللّه عليه و آله بدخول النّار، و خبّروني في أيّ قوليكم صدقتم أفي قولكم مضى عليه السّلام و لم يستخلف أو في قولكم في أبي بكر يا خليفة رسول اللّه، فإن صدقتم في قولين فهذا ممّا لا يمكن كونه إذ كانا متناقضين، و إن صدقتم في أحدهما بطل الآخر.

إلى أن قال: خبّروني عن النّبي عليهما السّلام هل استخلف حين مضى أم لا؟ فقالوا:

لم يستخلف، قال: فتركه ذلك هدى أم ضلال؟

فقالوا هدى، قال: فعلى النّاس أن يتّبعوا الهدى و يتنكبوا الضّلال، قالوا: قد فعلوا ذلك، قال و لم استخلف الناس بعده و قد تركه هو و ترك فعله ضلال و محال أن يكون خلاف الهدى، و إذا كان ترك الاستخلاف هدى فلم استخلف ابو بكر و لم يفعله النّبي صلّى اللّه عليه و آله و لمّا جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه؟ و زعمتم أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله لم يستخلف

__________________________________________________

(1) هذا الحديث مرويّ عن الفريقين في كتبهم منها: كنز العمّال ج 3 ص 355.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 91

و انّ أبا بكر استخلف و عمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النّبي صلّى اللّه عليه و آله بزعمكم و لم يستخلف كما فعل أبو بكر و جاء بمعنى ثالث فخبّروني أيّ ذلك ترونه صوابا؟ فإن رأيتم فعل النّبي صلّى اللّه عليه و آله صوابا فقد خطأتم أبا بكر، و كذلك القول في بقيّة الأقاويل، و خبّروني أيّهما أفضل ما فعله النّبي بزعمكم من ترك الاستخلاف أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟ و خبّروني هل يجوز أن يكون تركه من النّبي صلّى اللّه عليه و آله هدى و فعله من غيره هدى فيكون هدى ضدّ هدى فأين الضلال حينئذ؟ و خبّروني هل وليّ أحد بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله باختيار الصّحابة منذ قبض النّبي صلّى اللّه عليه و آله إلى اليوم فإن قلتم لا فقد أوجبتم أنّ النّاس كلّهم على ضلالة بعد النّبي و إن قلتم نعم كذبتم الامّة و أبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع إلى آخر ما ذكره على ما رواه في العيون

«1».

ثمّ أنّ الخلافة بهذا المعنى ثابتة لنوع البشر لأنّ كلّ قرن منهم خلف أو خلف لسلف، و لآدم و ذرّيته ايضا لأنّ اللّه تعالى قد استخلفهم في الأرض بعد إهلاك النّسناس و بني الجان و غيرهم على ما مضى و يأتي، و هذا المعنى هو الظاهر من بعض اخبار الباب.

و منها: الولاية من اللّه تعالى بلا واسطة أو معها في تبليغ الاحكام و نشر الشرائع و القضاء بين الناس بشرط كون الولاية خاصة ناصّة من اللّه سبحانه و لو بلسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع اقترانها بالعلم و الفضيلة و العصمة فيكون الولي بهذا المعنى حجّة على غيره ممّن استخلف عليه، و هذا المعنى هو الظّاهر من الآية على ما يستفاد من بعض الأخبار كالخبر المرويّ في «الكافي» و «العلل» و «تفسير القمي» و غيرها و فيه: أنّه قال جلّ جلاله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً تكون حجّة لي

__________________________________________________

(1) العيون للصدوق: ج 2 ص 197- 198.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 92

في أرضي على خلقي و لذا قالت الملائكة أ تجعل فيها من يفسد فيها كما أفسد هؤلاء المردة من الجنّ و النّسناس الذين كانوا في الأرض و يسفك الدّماء كما فعل هؤلاء و يتحاسدون و يتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منّا فانّا لا نتحاسد و لا نتباغض و لا نسفك الدّماء و نحن نسبّح بحمدك و نقدّس لك قال تبارك و تعالى إنّي أعلم ما لا تعلمون إنّي أريد أن أخلق خلقا بيدي و اجعل في ذريّته الأنبياء و المرسلين و عباد اللّه الصّالحين و أئمّة مهديّين و اجعلهم خلفاء على خلقي في ارضي يهدونهم إلى طاعتي و ينهونهم عن معصيتي

و اجعلهم حجّة لي عليهم عذرا و نذرا الخبر «1» على ما يأتي إن شاء اللّه، حيث أنّ الظاهر منه ارادة الخلافة على الوجه المذكور و هو المراد ايضا في قوله: وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «2»، و قوله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ «3».

و لذا ورد أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام رابع الخلفاء، ففي «العيون» و غيره عن مولانا ابي الحسن الرّضا عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين قال بينا أنا أمشي مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله في بعض طرقات المدينة إذ لقينا شيخ طوال كثّ اللحية طويل ما بين المنكبين فسلّم على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و رحّب به ثمّ التفت إليّ و قال السلام عليك يا رابع الخلفاء و رحمة اللّه و بركاته أ ليس هو كذلك يا رسول اللّه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بلى ثمّ مضى فقلت: يا رسول اللّه ما هذا الذي قال لي هذا الشيخ و تصديقك له قال صلّى اللّه عليه و آله:

__________________________________________________

(1) كنز الدقائق: ج 1 ص 330- 331 عن تفسير علي بن ابراهيم.

(2) الأعراف: 142.

(3) ص: 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 93

أنت كذلك و الحمد للّه إنّ اللّه عزّ و جلّ قال في كتابه: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» و الخليفة المجعول فيها آدم عليه السّلام و قال عزّ و جلّ يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ «2» فهو الثّاني و قال عزّ و جلّ حكاية عن

موسى قال لهارون اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ «3» فهو هارون إذا استخلفه موسى عليه السّلام في قومه و هو الثّالث و قال عزّ و جلّ: وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ «4» و كنت أنت المبلغ عن اللّه عزّ و جلّ و عن رسوله و أنت وصيّي و وزيري و قاضي ديني و المؤدي عنّي و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي فأنت رابع الخلفاء كما سلّم عليك الشيخ أ و لا تدري من هو؟ قلت: لا قال: هو أخوك الخضر عليه السّلام «5».

و الخلافة بهذا المعنى ثابتة للأئمّة الطاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين سيّما قائمهم و خاتمهم عجّل اللّه فرجه فانّه المضطر الذي يجاب إذا دعى، و يكشف السّوء و يجعله خليفته في أرضه و اليه الإشارة بقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ «6» و هو الموعود بالخلافة و التمكين في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

(2) ص: 26.

(3) الأعراف: 142.

(4) التوبة: 3.

(5) عيون الاخبار: ج 2 ص 9- 10.

(6) النمل: 62.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 94

خَوْفِهِمْ أَمْناً «1»، الآية.

و في الكافي عن ابي الحسن عليه السّلام قال الأئمّة خلفاء عزّ و جلّ في أرضه «2» و فيه عن محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام الا تدلّني إلى من آخذ عنه ديني. فقال: هذا ابني عليّ إنّ أبي أخذ

بيدي فادخلني إلى قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال يا بنيّ انّ اللّه عزّ و جلّ قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و انّ اللّه عزّ و جلّ إذا قال قولا وفى به «3».

و فيه دلالة على أنّ المراد بالخلافة هي الخلافة المتّصلة في كلّ عصر كما أشير إليها بقوله: وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «4».

و من فروع هذه الخلافة ما ثبت للنّائب العام في زمن غيبة الإمام عليه السّلام في نشر الاحكام و بيان الحلال و الحرام و القضاء بالحقّ بين الأنام و اقامة الحدود و ولاية الأيتام.

و لذا ورد في النبوي على ما رواه في «العيون» و «المعاني» من الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهم ارحم خلفائي ثلاث مرات فقيل: يا رسول اللّه و من خلفاؤك؟ قال: الّذين يأتون من بعدي و يروون عنّي أحاديثي و سنّتي فيعلّمونها النّاس من بعدي، و مثله في «الفقيه» و «المجالس» عن امير المؤمنين عنه صلّى اللّه عليه و آله.

__________________________________________________

(1) النور: 55.

(2) اصول الكافي: ج 1 ص 312 ح 4.

(3) اصول الكافي: ج 1 ص 312 ح 4.

(4) القصص: 51.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 95

و منها الولاية في الأمور التكوينيّة و في شؤون الرّبوبيّة إذ مربوب باذن اللّه سبحانه، و هذه الخلافة ثابتة فيما شاء اللّه سبحانه لمن شاء من عباده كالملائكة الذّاريات و المقسّمات و المعقّبات و النّازعات و الزّاجرات و غيرهم من الملائكة الموكّلين بمصالح العالم و حفظ بني آدم، و هذه الخلافة ثابتة ايضا للنّبي محمّد و آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين فيما أشهدهم على خلقه

و اتّخذهم أعضادا على ما يستفاد من فحوى الآية و صريح قول الحجّة عجّل اللّه فرجه في دعاء رجب بأعضاد و أشهاد «1»، و غير ذلك من الأخبار الّتي مرّت إلى جملة منها الإشارة في تفسير الفاتحة.

و أمّا الخلافة الكليّة المحمّدية الثابتة له و لأوصيائه الطيّبين فهي إشارة إلى ذلك مضافا إلى المعنى السّابق من وساطتهم في التّبليغ إلى جميع الأكوان في جميع العوالم و لذا ورد عنهم: انّ للّه تعالى ألف ألف عالم و ألف ألف آدم و نحن الحجج على جميع تلك العوالم و هؤلاء الآدميّين.

و في الكافي: عن أبي جعفر الثّاني: أنّ اللّه لم يزل متفرّدا بوحدانيّته ثمّ خلق محمّدا و عليّا و فاطمة فمكثوا ألف ألف دهر ثمّ خلق جميع الأشياء فاشهدهم خلقها و اجرى طاعتهم عليها و فوّض أمورها إليهم فهم يحلّون ما يشاءون و يحرّمون ما يشاءون و لن يشاءوا إلّا أن يشاء اللّه تبارك و تعالى «2».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 98 ص 393.

(2) بحار الأنوار: ج 25 ص 25 بتفاوت يسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 96

و في «الاختصاص» في خبر المفضّل عن الصادق صلّى اللّه عليه و آله على ما رواه في البحار عنه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تبارك و تعالى توحّد بملكه، فعرّف عباده نفسه، ثمّ فوّض إليهم أمره، و أباح لهم جنّته، فمن أراد اللّه أن يطهّر قلبه من الجنّ و الانس عرّفه ولايتنا، و من أراد اللّه أن يطمس على قلبه أمسك عنه معرفتنا، ثمّ قال يا مفضّل و اللّه ما استوجب أدم أن يخلقه اللّه بيده و ينفخ فيه من روحه إلّا بولاية عليّ عليه السّلام و ما

كلّم اللّه موسى تكليما إلّا بولاية علي عليه السّلام و لا أقام عيسى بن مريم آية للعالمين إلّا بالخضوع لعليّ عليه السّلام، ثمّ قال عليه السّلام: أجمل الأمر ما استأهل خلق من اللّه النّظر إليه إلّا بالعبودية لنا «1».

و هذه الخلافة هي المعبّر عنها بالقيام في سائر العوالم في الأداء مقامه في الخطبة العلوية الغديريّة على ما رواه شيخ الطائفة في «المتهجّد» على ما مرّت لكنّها هو المسك ما كرّرته يتضوّع، و فيها: و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله استخلصه في القدم على سائر الأمم، على علم منه به انفرد عن التّشاكل و التّماثل من أبناء الجنس، و انتجبه «2» آمرا و ناهيا عنه، أقامه في سائر عالمه في الأداء مقامه.

إلى أن قال عليه السّلام: و انّ اللّه تعالى اختصّ لنفسه من بعد نبيّه عليه السّلام من بريّته خاصّة علّاهم بتعليته، و سما بهم إلى رتبته، و جعلهم الدّعاة بالحقّ إليه، و الأدلّاء بالإرشاد عليه، قرن قرن و زمن زمن.

أنشأهم في القدم قبل كلّ مذروء و مبروء أنوارا أنطقها بتحميده، و ألهمها

__________________________________________________

(1) البحار ج 26 ص 294 ح 56 عن الإختصاص ص 250.

(2) في البحار: و ائتمنه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 97

شكره و تمجيده، و جعلها الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبيّة و سلطان العبوديّة، و استنطق بها الخرسان بأنواع اللّغات بخوعا له بأنّه فاطر الأرضين و السّماوات، و اشهدهم خلق خلقه، و ولّاهم ما شاء من أمره، و جعلهم تراجم مشيّته، و السن إرادته عبيدا لا يسبقونه بالقول: و هم بامره يعملون «1» آه.

و منها: جامعيته للنشئات الكونيّة و مظهريّته للأسماء الالهيّة و الصّفات الفعليّة على ما تأتي إليه

الإشارة في قوله: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «2» و إن كان مرجعه إلى سابقه في ركنه الأعظم الّذي هو العمدة في معنى الخلافة قالوا: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ استفهام على وجه الاستعلام عن وجه الحكمة و المصلحة في استخلاف أهل المعصية مكان أهل الطّاعة ليعلموا الحكمة في ذلك مفصّلا بعد ما علموه مجملا من علمه و حكمته، أو تعجّب عن السّر النّاهض و الحكمة التي أوجبت استخلاف من يفسد في الأرض لغرض عمارتها و إصلاحها، مع أنّ الإفساد و السفك على طرف الضّد من المطلوب على أنّ ما هو المقصود الاصلي من الخلق و هو العبادة إنّما يتأتّى منّا لا منهم و لذا قالوا: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ أرادوا أنّهم معصومون عن معصيته، مداومون على طاعته، لا يستكبرون عن عبادته، و لا يستحسرون، يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون، فاستكشفوا عن الحكمة العجيبة التي غلبت تلك المفاسد و الغتها و ترجّحت على مصلحة استخلافهم على ما هم عليه من دوام الطاعة حتى أهملتها، و كان مقصودهم

__________________________________________________

(1) البحار: ج 97 ص 131- 114 ح 8.

(2) البقرة: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 98

في ذلك هو الاستفسار و الاستخبار، لا الافتخار و الاستحقار.

و السفك: الصبّ و الإهراق و انّ اختصّ بحسب الإطلاق في الدّم و الدّمع، فيطلق فيهما كما يطلق السبك في الجواهر المذابة، و السفح في الصبّ من أعلى، و الشنّ في الصبّ من فم القربة، و كذلك السنّ بالمهملة، فالجميع مشترك في جنس و الخصوصيّة مستندة إلى الوضع أو الإطلاق و الآتي منه يسفك بالكسر، و قرئ يسفك بالضّم، و يسفك من أسفك

و يسفّك من سفّك و يسفك على البناء للمفعول، فيكون الراجح إلى من سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا أي يسفك الدّماء فيهم.

و الدّم أصله دمو بالتحريك من دمى يدمى كرضى يرضى، و لذا ابدلوا الواو ياء، و قيل: إنّ أصله الياء و جاء تثنيته على دميان و دموان، و عليهما فجمعه على الدّماء مخالف لنظائره.

و قال سيبويه: أصله دمى بالتّسكين لأنّه يجمع على دماء و دمى مثل ظبى و ظباء و ظبى، و دلو و دلاء و دلى.

و المراد بالإفساد أن كان هيّج الحروب و الفتن حيث انّ فيه فساد حال الإنسان الذي هو أشرف المواليد و يتبعه فساد الآخرين و لذا قال: وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ «1»، فالعطف للبيان أو مطلق إحداث الفساد الذي هو ضد الصلاح فمن تعقيب العام بالخاص الذي هو اظهر افراده، و أشدّها في بابه، و أقبحها فعلا، و أهمّها تركا، و ربما يفسّر بالشرك فيغاير السفك.

__________________________________________________

(1) البقرة: 205.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 99

و التسبيح التنزيه و أصله تبعيد اللّه عن السوء من سبح في الأرض إذا ذهب فيها و ابعد، و منه السباحة للقوم، و فرس سابح كثير الجري، و لذا قيل: إنّ السّبح في الأصل سرعة الذهاب في الماء، ثمّ استعير لجرى النجوم في الفلك، و لجرى الفرس، ثمّ لسرعة التّسبيح و الطّاعة.

و الواو في قوله: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ للحال، و الجملة حالية مقرّرة للاشكال على ما مرّ، و العامل فيها أَ تَجْعَلُ كأنّه قال أ تجعل فيها من يفسد فيها و هذه حالنا و بِحَمْدِكَ في موضع الحال أي متلبّسين بحمدك على ما ألهمتنا من

معرفتك و وفّقتنا لتسبيحك، أو بحمدك بمعنى و الحمد لك، نظير ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» أي و النعمة له، و لعلّ مرجعه إلى الأوّل، و المراد تدارك ما أوهمه اسناد التّسبيح إلى أنفسهم و تنجيز الشكر على التوفيق للعبادة، أو نسبّحه لما هو عليه من المحامد ذاتا و فعلا، و المراد كونه محمودا أو نسبّحه بالتكلّم بالحمد له، فإنّ النّطق بالحمد للّه تسبيح له كما قيل في قوله: وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ و التّسبيحات الأربع يطلق عليها التسبيح، و إن كان بعضها تحميد او تهليلا و تكبيرا و على هذا فيكون بيانا للتّسبيح متعلقا به.

و هذا كلّه مع إرادة التنزيه من التسبيح، و يمكن ان يراد به الصلاة و رفع الصوت و التكلّم كما قيل، اي نصلّي لك كما في قوله: فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ «2» أي من المصلّين او نرفع أصواتنا بذكرك، و منه قول جرير «3»:

__________________________________________________

(1) القلم: 2.

(2) الصافات: 143.

(3) جرير بن عطيّة بن حذيفة اليربوعي الشاعر المتوفى (110) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 100

قبح الإله وجوه تغلب كلّما سبح الحجيج و كبّروا إهلالا أو نتكلّم بحمدك و ننطق به لكن في تفسير الامام عليه السّلام: ننزّهك عمّا لا يليق بك من الصّفات و نقدّس لك نطهّر أرضك ممّن يعصيك «1».

و هو من قدس في الأرض إذا ذهب فيها و أبعد، و منه القدس بالسكون و بالضّم للطّهر فإنّ الطّاهر بعيد عن الأقذار، و المطهّر مبعده عنها، و المراد به ما مرّ في كلام الإمام عليه السّلام.

و قيل: ننزّهك عمّا لا يليق بك من صفات النقص و لا نضيف إليك القبائح، فاللام زائدة

اي نقدسك، و قيل: نصلّي لأجلك، و قيل: نطهّر أنفسنا من الخطايا و المعاصي، كأنّهم قابلوا الفساد المفسّر بالشرك على ما مرّ بالتسبيح كما قابلوا سفك الدّماء الذي هو أعظم قبائح الأفعال بتطهير النفس عن الذنوب الذي هو أساس محامد الخصال، أو أنّهم جعلوا سفك الدّماء نهاية الإفساد بمعناه العام و قابلوه بالتقديس الذي قيل إنّه ابلغ في التنزيه من التسبيح، حيث إنّ النظر في التّسبيح إلى أنّ العارف أنّى استطاع في التنزيه على حسب معرفته و في التّقديس إلى أنّ الذّات الكاملة الّتي لا يمكن في الوجود و التّصور ممّا يدانيها في شي ء من الكمال لها الطّهارة عن كلّ سوء أطلق عليه لفظ دالّ أم لم يطلق، فقد لوحظ في الأوّل العارف و في الثّاني المعروف.

و يمكن أن يكون الفعلان اشارة إلى ركني الكمال من صفات الجمال و الجلال فانّ التسبيح بالحمد إشارة إلى تمجيده بمحامده الكثيرة الذّاتية و العقليّة في المراتب

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 73 عن تفسير الإمام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 101

الأربع المشار إليها في الدّعاء بقوله: و الحمد للّه كلّما حمد اللّه شي ء و كما يحبّ اللّه أن يحمد، و كما هو أهله، و كما ينبغي لكرم وجهه و عزّ جلاله «1» إلخ على ما مرّت إليه الإشارة في تفسير الحمد، و التقديس اشارة إلى تنزيهه عمّا لا يليق به من صفات الإمكان و الأكوان.

و لا يخفى انّ قضيّة الإطلاق هو الحمل على ما مرّ و غيره يمكن حمل اللّفظ عليه، فلا وجه لتخصيص البعض بالحمل عليه، و في إضافة هذه الأفعال إلى أنفسهم و تمدحهم بها و صدقهم في تنزيهه و تقديسه و

اضافة الإفساد و السفك إلى المجعول فيها على وجه يشعر بالذّم. و الحوالة في الجواب عن مقالهم إجمالا إلى علمه و تفصيلا إلى علم المستخلف دون أن يقول إنّي أفعل ما أشاء لانتفاء الحسن و القبح و انتساب الكلّ إلى وجوه من الدّلالة على ما هو المختار من العدل و الاختيار، و فساد القول بالإجبار و الاضطرار، و المناقضة بمسألة الدّاعي و العلم مدفوعة بما مرّ مرارا، و أمّا إخبار الملائكة عن الإفساد و السفك فلعلّه مستند إلى مطالعة اللّوح المحفوظ أو الألواح الجزئيّة السّماوية حيث إنّه قد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، و ذلك لا يوجب سقوط سؤالهم رأسا مع علمهم بجواز البداء او كون السؤال للاستفسار عن وجه الحكمة على ما مرّ، أو إلى إخبار اللّه سبحانه حيث إنّه أعلمهم أنّه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها و سفكوا الدّماء أو أخبرهم به بالخصوص لما يروى عن ابن مسعود و غيره أنّه تعالى لمّا قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا: ربّنا و يكون الخليفة؟، قالوا تكون له ذرّيّة يفسدون في

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 86 ص 44 ح 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 102

الأرض و يتحاسدون و يقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا: ربّنا أ تجعل فيها، أو أنّهم علموا أنّ العصمة من خواص نوعهم لا نوع آخر و أن اتّصف بها منه أفراد كثيرة أو أنّهم قاسوا أحد الثقلين بالآخر لما رأوا من حال الجن الذين كانوا قبل آدم في الأرض كما يحكى عن ابن عباس و الكليني قيل و يؤيّده ما في تفسير الامام عليه السّلام:

فقالوا ربّنا أ تجعل فيها من يفسد

فيها و يسفك الدّماء كما فعلت الجنّ بنوا الجان الذين قد طردناهم عن هذه الأرض «1» آه و هو كما ترى إذ غايته التنظير و اين هو من القياس الذي لم يجعل طريقا لاحد من الخلق إلى معرفة شي ء سيّما مع ما تضمّن القدح و التّعييب و غيره بل من المشهور المستفيض انّ أوّل من قاس إبليس فكيف استعملته الملائكة قبله.

و أمّا ما يحكى عن تفسير العيّاشي عن الصادق عليه السّلام قال: و ما علم الملائكة بقولهم أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدّماء لو لا أنّهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها و يسفك الدّماء «2» فالظّاهر أنّ المراد أنّهم رأوا ذلك مكتوبا في الألواح السّماوية، أو أنّهم علموا ذلك و لو بطرق أخر من رأى بمعنى علم، أو أنّهم رأوا ذلك رأي العين بناء على تجرّدهم و إحاطتهم بالأزمنة و ما فيها، بلا فرق بين الماضي و الحال و الاستقبال، أو لأنّ معنى الخلافة هو النيابة عن اللّه تعالى في الحكم و القضاء و انّما يكون الاحتياج إليه عند التنازع و التظالم، فالاخبار عن وجود الخليفة كأنّه إخبار عن وقوع الشرّ و الفساد بطريق الالتزام، أو أنّه لمّا خلق اللّه النّار خافت الملائكة

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 73.

(2) البرهان ج 1 ص 74 عن العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 103

خوفا شديدا فقالوا: ربّنا و سيّدنا لمن خلقت هذه النار؟ قال: لمن عصاني من خلقي و لم يكن يومئذ للّه خلق إلّا الملائكة، فلمّا قال: إنّي جاعل في الأرض خليفة عرفوا أنّ المعصية منهم، أو لأنّهم علموا أنّ المجعول خليفة يكون له ثلاث قوى عليها مدار أمره: شهويّة

و غضبيّة تؤديان به إلى الفساد و سفك الدّماء، و عقليّة تدعوه إلى المعرفة و الطاعة و استخدام الأوليين بعد تسخيرهما و تعليمهما ما علّمها اللّه تعالى في مقاصدها، لكن قضيّة التركيب هو التغالب و التقاهر فكلّ منها بين قاهر غالب أو مقهور مغلوب، و لذا نظروا إليها كما هي مردّدة بين الحالين و قالوا: ما الحكمة في استخلافه، و هو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه و امّا باعتبار القوّة العقليّة ففي استخلافنا ما يترتّب عليه تلك المقاصد سليمة عن معارضة تلك المفاسد، و لذا قال اللّه سبحانه في جوابهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» من أنّ الملائكة و ان منحوا بالجنبة الرّوحانيّة و لوازمها من الإشراقات و اللّذات العقليّة إلّا أنّه ليس لهم جنبة جسمانيّة و لا استعدادات كلّية لدرجات متفاضلة، و لا إحاطة فطريّة او كسبيّة لإدراك النشآت المختلفة، و أمّا الإنسان فانّه محيط بجميع المراتب المختلفة محتو على ما في العوالم المترتّبة سائر في الأطوار المتباينة من الجماديّة و النباتيّة و الحيوانيّة و الملكيّة مستفيدا بصورته التركيبيّة التي استعدّت بها للمنح الالهيّة و الفيوض الربانيّة لما تقصر عنه الآحاد كالاحاطة بالجزئيّات و استنباط الصناعات و استخراج منافع الكائنات من القوّة إلى الفعل و قوّة التّصرف فيها بالتّسخير و التّدبير و التدمير و له التّرقي عن جميع تلك المراتب بان

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 104

يتحقّق له في مرتبة الجمعيّة الكليّة و الجامعيّة الربانيّة و الكليّة الالهيّة بحيث لا يشغله شأن عن شأن و لا يحجبه ناسوت عن ملكوت فيتجاوز حينئذ عن أفق الملائكة، فهو النسخة الجامعة لحقائق الملك و الملكوت، و المظهر

الكلّي لحضرة الرحموت، و المعجون المركب من القبضات المأخوذة من عالم الملكوت في صقع النّاسوت.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ اللّه تعالى ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل و ركّب في بني آدم كلتيهما فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة و من غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم» «1».

و في تفسير الإمام عليه السّلام: إنّي أعلم من الصلاح الكائن فيمن أجعله بدلا منكم ما لا تعلمون، و أعلم ايضا أنّ فيكم من هو كافر في باطنه لا تعلمونه و هو إبليس لعنه اللّه «2».

بسط في المقام للاشارة إلى عصمة الملائكة عليهم السّلام دفعا لبعض الأوهام

اعلم أنّ المشهور الذي عليه الجمهور هو عصمة الملائكة من صغائر الذّنوب و كبائرها بلا فرق بين الملائكة الأرضيّة و السّماويّة، بل ادّعى كثير من الفرقة المحقّة عليه الإجماع و وافقهم عليه أكثر المخالفين، و استدلوا عليه بأنّ المعصية في الحقيقة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 60 ص 399- عن علل الشرائع ج 1 ص 5.

(2) تفسير البرهان: ج 1 ص 73 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 105

عبارة عن مخالفة القوّة السافلة للقوّة العالية فيما لها أن يفعل الغرض الأعلى عند تخالف الأغراض و الدّواعي، و مع بساطة القوّة و فقد التركيب من الأجزاء المختلفة لا يتصوّر التّنازع و التّمانع، و بالإجماع القطعي من الفرقة المحقّة عليه و لذا لم ينسبوا الخلاف إلّا إلى الحشوية، و بظاهر الآيات الكثيرة كقوله: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «1» بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «2» إلى قوله: وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ «3» يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ

ما يُؤْمَرُونَ «4» لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ «5» يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «6» و غيرها من الآيات التي لا تخفى وجوه الدّلالة فيها بملاحظة الإطلاق و العموم على ما هو المطلوب بل في هذه الآية ايضا دلالة عليه ايضا حيث إنّهم طعنوا باليسير من المعصية و لو كانوا من العصاة لما حس منهم ذلك الطعن، سيّما عند من لا تخفى عليه خافية هذا مضافا إلى جملة من الاخبار الدّالة على عصمتهم و دوام طاعتهم كما في الخطبة العلويّة المرويّة في النّهج و فيها انشائهم على صور مختلفات، و أقدار متفاوتات، جعلهم اللّه فيما هنالك أهل الامانة على وحيه، و حملهم إلى المرسلين ودائع أمره و نهيه، و عصمهم من ريب

__________________________________________________

(1) التحريم: 6.

(2) الأنبياء: 27.

(3) الأنبياء: 28.

(4) النحل: 50.

(5) الأنبياء: 19.

(6) الأنبياء: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 106

الشبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته «1».

و في تفسير فرات معنعنا عن الحسن بن علي عليهما السّلام في خبر طويل و فيه أنّه سبحانه جعل في كلّ سماء ساكنا من الملائكة خلقهم معصومين من نور من بحور عذبة و هو بحر الرّحمة و جعل طعامهم التّسبيح و التهليل و التّقديس، الخبر «2». و في «العيون» عن الرضا عليه السّلام: إنّ الملائكة معصومون محفوظون من الكفر و القبائح بألطاف اللّه تعالى قال اللّه فيهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «3» و قال عزّ و جلّ وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ- يعني الملائكة- لا يَسْتَكْبِرُونَ «4» الآية «5» و لا يخفى إنّ استدلاله بظاهر الآيتين ممّا يؤكّد دلالتهما

على ذلك إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة و قال الامام عليه السّلام في تفسيره ردّا على العامة فيما ذكروه من قصّة هاروت و ماروت ما لفظه: معاذ اللّه من ذلك أنّ ملائكة اللّه تعالى معصومون عن الخطأ محفوظون من الكفر و القبائح بألطاف اللّه تعالى فقال اللّه عزّ و جلّ فيهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ «6»، الآية «7» إلى آخر ما يأتي الإشارة اليه في تلك القصّة و غيرها.

و احتجّت الحشوية مضافا إلى ما يأتي من توهّم أنّ إبليس كان منهم و قد كفر

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: خ 90- المعروفة بخطبة الأشباح.

(2) البحار: ج 57 ص 92 عن تفسير الفرات.

(3) التحريم: 6.

(4) الأنبياء: 19.

(5) البحار: ج 59 ص 272.

(6) التحريم: 6.

(7) بحار الأنوار: ج 59 ص 321.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 107

و من قصّة هاروت و ماروت على ما اشتهر بهذه الآية حيث اشتملت على وجوه من الدّلالة، حتّى أنهاها بعضهم إلى ثمانية عشرة خصلة ذميمة كانت كامنة فيهم، و قد ظهرت بالاختيار الذي هو الاخبار عن خلق الخلفاء و الأخيار و ذلك لا يتمّ اعترضوا على اللّه الحكيم في فعله، و ذلك من أعظم الذنوب، و طعنوا في بني آدم بالإفساد و سفك الدّماء و هي الغيبة الّتي هي من الكبائر، و تمدحوا بخلوّ أنفسهم عنهما، و باشتغالهم بالتحميد و التقديس، بل و بانحصار ذلك بهم، حتّى كانّهم نفوا كون غيرهم كذلك و هو يشبه العجب و الغيبة اللذين هما من المهلكات و الكبائر، مع ما يظهر منه من التزكية و سوء الظّن، و التّفحص عن معائب الغير، و حسدهم على فضيلته و صلاحيّته للخلافة، و حرصهم

عليها، و اضافتهم العبادة إلى أنفسهم لا إلى حول ربّهم و قوّته و توفيقه و عصمته، و اعتمادهم على القياس و الاستنباط، و القول بغير علم سيّما في القدح على الغير، و في الاعتراض على الحكيم و ذلك لأنّ علمهم بذلك لو كان مستندا إلى الوحي لم يكن لإعادة ذلك الكلام فائدة مع انّ قوله:

أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» يدلّ على أنّهم كانوا كاذبين فيما قالوا و أنّ قوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «2» يدلّ على أنّهم ما كانوا عالمين بذلك قبل هذه الواقعة، و أنّهم كانوا شاكين في كونه تعالى عالما بكلّ المعلومات، و إنّ قولهم: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا «3» يشبه الاعتذار و لو لا تقدم الذنب لما اشتغلوا بالعذر، هذا مضافا

__________________________________________________

(1) البقرة: 31.

(2) البقرة: 33.

(3) البقرة: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 108

إلى الاخبار الكثيرة الدّالة على ذلك من طرق الفريقين في تفسير الآية.

ففي العلل عن أحدهما عليهما السّلام أنّه سئل عن ابتداء الطّواف فقال: انّ اللّه تبارك و تعالى لمّا أراد خلق آدم قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فقال ملكان من الملائكة: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدّماء فوقعت الحجب فيما بينهما و بين اللّه عزّ و جلّ و كان اللّه تبارك و تعالى نوره ظاهرا للملائكة فلمّا وقعت الحجب بينه و بينهما علما أنّه سخط قولهما فقالا للملائكة: ما حيلتنا و ما وجه توبتنا فقالوا ما نعرف لكما من التوبة إلّا أنّ تلوذا بالعرش قال فلاذا بالعرش حتّى انزل اللّه عزّ و جلّ

توبتهما، و رفعت الحجب فيما بينه و بينهما و أحبّ اللّه تبارك و تعالى أن يعبد بتلك العبادة فخلق اللّه البيت في الأرض و جعل على العباد الطّواف حوله و خلق البيت المعمور في السّماء يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة «1».

و فيه بالإسناد عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام في سبب كون الطّواف سبعة أشواط قال: لأنّ اللّه تبارك و تعالى قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فردوا على اللّه تبارك و تعالى و قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، قال اللّه إنّي أعلم ما لا تعلمون: و كان لا يحجبهم عن نوره فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة فرحمهم و تاب عليهم و جعل لهم البيت المعمور الّذي في السّماء الرابعة فجعله مثابة و أمنا و وضع البيت الحرام تحت البيت المعمور فجعله مثابة للنّاس و أمنا فصار الطّواف سبعة أشواط واجبا على العباد لكلّ ألف سنة شوطا

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 110 عن العلل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 109

واحدا «1» فيه، و في العيون في علل محمّد بن سنان قال: كتب الرضا عليه السّلام إليه علّة الطّواف بالبيت أنّ اللّه تبارك و تعالى قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيه و يسفك الدّماء فردّوا على اللّه تبارك و تعالى هذا الجواب فعلموا أنّهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش و استغفروا، الخبر قريبا ممّا مرّ و في «الكافي» عن ابي جعفر عليه السّلام في خبر طويل قال عليه السّلام: أمّا بدء هذا البيت فإنّ اللّه تبارك و تعالى

قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فردّت الملائكة على اللّه تعالى فقالت: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدّماء فاعرض عنها فرأت أنّ ذلك من سخطه فلاذت بعرشه فأمر اللّه تعالى ملكا من الملائكة أن يجعل له بيتا في السّماء السّادسة يسمّى الضّراح بإزاء عرشه «2».

الخبر و فيه عنه عليه السّلام انّهم لمّا ردّوا عليه بقولهم: أ تجعل فيها .. إلخ قال اللّه تبارك و تعالى: انّي أعلم ما لا تعلمون فغضب عليهم ثمّ سألوه التّوبة فأمرهم أن يطوفوا بالضّراح و هو البيت المعمور و مكثوا يطوفون سبع سنين يستغفرون اللّه عزّ و جلّ ممّا قالوا ثمّ تاب اللّه عليهم من بعد ذلك و رضى عنهم، فهذا كان أصل الطواف ثمّ جعل اللّه البيت الحرام حذو الضراح توبة لمن أذنب من بني آدم و طهورا لهم «3».

و في المجمع عن الصادق عليه السّلام: انّ الملائكة سألت اللّه تعالى أن يجعل الخليفة منهم و قالوا نحن نقدّسك و نطيعك و لا نعصيك كغيرنا قال فلمّا أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنّهم تجاوزوا ما لهم فلاذوا بالعرش استغفارا فأمر اللّه تعالى آدم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 110- 111 عن العلل ص 141.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 110 عن العلل و العيون.

(3) البحار: ج 99 ص 205.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 110

بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقرّبون فقال اللّه للملائكة إنّي أعرف بالمصلحة منكم و هو معنى قوله: أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. «1» و روت العامة عن ابن عباس انّه قال سبحانه للملائكة الذين كانوا جندا لإبليس

في محاربة بني الجان إنّي جاعل في الأرض خليفة فقالت الملائكة محبّين له سبحانه: أ تجعل فيها من يفسد فيها ثمّ علموا غضب اللّه عليهم فقالوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا «2».

و في بعض رواياتهم أنّهم لما قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها أرسل اللّه عليهم نارا فأحرقتهم.

بل يمكن الاستدلال أيضا بما في «الإكمال» و غيره عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ للّه تبارك و تعالى ملكا يقال له دردائيل كان له ستّة عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح هواء و الهواء كما بين السّماء و الأرض فجعل يوما يقول في نفسه أفوق ربّنا جلّ جلاله شي ء فعلم اللّه تبارك و تعالى ما قال فزاده اجنحة مثلها فصار له اثنان و ثلاثون ألف جناح ثمّ أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه أن طر فطار مقدار خمسمائة عام فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش فلمّا علم اللّه عزّ و جلّ اتعابه اوحى إليه أيّها الملك عدّ إلى مكانك فانا عظيم فوق كلّ عظيم و ليس فوقي شي ء و لا اوصف بمكان فسلبه اللّه أجنحته و مقامه من صفوف الملائكة فلما ولد الحسين عليه السّلام هبط جبرئيل عليه السّلام في

__________________________________________________

(1) البحار: ج 99 ص 206.

(2) البقرة: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 111

ألف قبيل من الملائكة لتهنئة النّبي صلّى اللّه عليه و آله فمرّ بدردائيل فقال له سل النّبي صلّى اللّه عليه و آله بحقّ مولوده أن يشفع لي عند ربّه فدعا له النّبي صلّى اللّه عليه و آله بحقّ الحسين فاستجاب اللّه دعائه و ردّ عليه أجنحته و ردّه إلى مكانه «1».

و في البصائر عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام: قال إنّ اللّه تعالى عرض ولاية امير المؤمنين عليه السّلام فقبلها الملائكة و اباها ملك يقال له فطرس فكسر اللّه جناحه فلمّا ولد الحسين بن عليّ عليه السّلام بعث اللّه جبرئيل في سبعين ألف ملك إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله يهنّيهم بولادته فمرّ بفطرس فقال له فطرس يا جبرئيل إلى أين تذهب قال بعثني اللّه تعالى الى محمّد صلّى اللّه عليه و آله اهنّيهم بمولود ولد في هذه الليلة فقال له فطرس احملني معك و سل محمّدا يدعو لي فقال له جبرئيل اركب جناحي فركب جناحه فاتى محمّدا فدخل عليه و هنّأه فقال له يا رسول اللّه أن فطرس بيني و بينه أخوة سألني أن أسألك أن تدعو اللّه له أن يرد عليه جناحه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لفطرس أتقبل؟ قال نعم فعرض عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام فقبلها فقال رسول اللّه شأنك بالمهد فتمسح به و تمرغ فيه قال فمضى فطرس إلى مهد الحسين بن علي عليهما السّلام و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدعو له قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فنظرت إلى ريشه و أنّه ليطلع و يجري منه الدّم و يطول حتّى لحق جناحه الاخر و عرج مع جبرئيل إلى السّماء و صار إلى موضعه «2».

و الجواب أمّا عن قصّة إبليس و الملائكة فسيأتي، و امّا عن الآية فبالمنع من

__________________________________________________

(1) البحار: ج 43 ص 349.

(2) البحار: ج 26 ص 331.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 112

دلالتها على المقصود بشي ء من الوجوه المتقدّمة، ضرورة انّ سؤالهم لم يكن

للإنكار و لا لتنبيه اللّه عزّ و جلّ على شي ء لا يعلمه و لا للاعتراض عليه في فعله، بل إنّما المقصود من ذلك أمور منها ما مرّت اليه الإشارة من السّؤال عن وجه الحكمة فانّ إبداء الأشكال طلبا للجواب غير محذور فكانّهم قالوا ربّنا أنت الحكيم الذي لا تفعل السفه البتّة و تمكين الظّلم من الظلم و الفساد قبيح من الحكيم فضلا عن خلقه فما الحكمة في ذلك فأجابهم اللّه تعالى بقول: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجلّ الشرور القليلة.

و منها: أنّ ذلك مسألة منهم ان يجعل الأرض أو بعضا لهم ان كان ذلك صلاحا نحو قول موسى: أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا «2» اي لا تهلكنا فأجابهم اللّه عزّ و جلّ بانّي أعلم من صلاحكم و صلاح هؤلاء ما لا تعلمون و انّ الأصلح لكم السّماء و لهم الأرض، و قد مرّ في الأخبار المتقدّمة أنّهم سألوه أن يجعل الخليفة منهم فأجيبوا بذلك «3».

و منها: أنّه تعالى أخبر الملائكة بانّه سيكون من ذريّة هذا الخليفة من يعصي و يسفك الدّماء على ما يحكى عن ابن مسعود و غيره، و الغرض في اعلامه ايّاهم أن يزيدهم ايمانا و يقينا بعلمه بالغيب، أو ليعلموا أنّ آدم انّما خلق للأرض لا للجنّة فقالت الملائكة أ تجعل فيها من يفعل كذا و كذا على وجه التعرف لما فيه من الحكمة و لعلّه يرجع إلى الأوّل إلّا أنّه يقتضي أن يكون حذف في أوّل الكلام و يكون التقدير

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

(2) الأعراف: 155.

(3) البحار ج 99 ص 206.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 113

إنّي جاعل في الأرض

خليفة و إنّي عالم بانّه سيكون في ذرّيّته من يفسد فيها و يسفك الدّماء فحذف اختصارا للقرينة.

و منها ما قيل ايضا في تأويلها و إن لم يخلو من ضعف مثل أنّ سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام اللّه تعالى حيث أنّ العبد المخلص لشدّة حبّه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه و إنّ هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير: «ألستم خير من ركب المطايا» اي أنتم كذلك، و إلّا لم يكن مدحا فكانّهم قالوا: إنّك تفعل ذلك و نحن مع هذا نسبّح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنّك لا تفعل إلّا الحكمة و الصواب فقال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من الاحاطة بظاهرهم و باطنهم و ما يؤول اليه أمرهم و أمّا أنتم فانّما علمتم ظاهرهم و هو الفساد و القتل أو من الاحاطة و العلم بجميع افراد هذا النّوع حيث أنّ فيهم من هو المقصود الأعظم من خلق الملائكة و سائر العالم، و أمّا أنتم فانّما نظرتم إلى بعض الإفراد الموجودة بالتّبعيّة لمصالح أخر، و أمّا القدح فيهم بالغيبة فالامر فيه واضح ضرورة أنّ المقصود صدور الفعل من بعضهم و مثله لا يعدّ غيبة سيّما بالنّسبة إلى من لم يوجد بعد سلمنا لكنّه غيبة للفساق و هي جائزة، هذا مضافا إلى عدم تسليم حرمة ذكر مثله لعلّام الغيوب لا سيّما من الملائكة الذين جملة منهم موكّلون بتفتيش اعمال الخلائق و إثباتها في الصّحف و الشهادة عليها مع أنّ إيراد السؤال يوجب التّعرض لمحلّ الأشكال و أمّا التّمدح فلعلّه لإظهار النّعمة و شكرها و لتتمّة تقرير الشبهة، و أمّا العجب و هو سوء ظن بهم، و أمّا سوء الظّن فقد مرّ

الكلام في مستند أخبارهم، و أمّا التزكية و الفحص و الحسد و الحرص و غير ذلك ممّا مرّ فتطرق المنع إلى استفادتها

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 114

من الآية واضح، و قد مرّ أنّ في قوله نسبّح بحمدك دلالة على تحميدهم له بالتوفيق على ذلك مضافا إلى ما فيه من اظهار الاختيار و تنزيهه عن الإجبار و قوله: «ان كنتم صادقين» أي في زعمكم الأحقيّة بالخلافة و قوله: «أ لم أقل لكم» لظهور فضيلة آدم بعد الإعلام به مجملا، و الاعتذار غير ظاهر و على فرضه فلا يستلزم الذّنب، بل لعلّه اظهار للنّعمة و إقرارا على أنفسهم بالعجز و العبوديّة فان كان و لا بّد فاستناده إلى ترك الأوّلى اولى جمعا بينه و بين ما دلّ على العصمة و ردّا للمتشابه إلى الآيات المحكمة، و أمّا الاخبار ففيها مع التضمّن عن ضعف سند الأكثر انّها قاصرة الدلالة لأنّ اطلاق الاحتجاب و التوبة و الاستغفار لا دلالة في شي ء منها على صدور المعصية و ارتكاب الخطيئة سيّما في شأن المقرّبين الذين يتحرّجون و يردأون على أنفسهم بأقلّ من ذلك، إذ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين مع أنّهم ربما يجبرون بمثل ذلك ما يستشعرون من أنفسهم من القصور دون التّقصير، و سيأتي الإشارة إلى جميع ذلك، على أنّه قد ورد أنّهم ظنّوا الاحتجاب كما في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: انّ اللّه عزّ و جلّ لما قال للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ضجت الملائكة من ذلك و قالوا يا ربّ ان كنت لا بدّ جاعلا في أرضك خليفة فاجعله منّا من يعمل في بطاعتك فردّ عليهم إنّي أعلم ما لا تعلمون فظنّت الملائكة أنّ ذلك سخط

من اللّه عزّ و جلّ عليهم فلاذوا بالعرش يطوفون به فأمر اللّه عزّ و جلّ له ببيت من مرمر سقفه ياقوتة حمراء و أساطينه الزبرجد يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يدخلونه بعد ذلك إلى يوم الوقت المعلوم «1»، الخبر.

__________________________________________________

(1) البحار: ج 99 ص 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 115

إلّا أنّ ظاهرة صدق ظنهم فلا يبعد حمله على العلم سيّما بعد ملاحظة الاخبار المتقدّمة و عصمتهم عن الخطأ في الاعتقاد لكن الخطب في ذلك كلّه سهل بعد قيام الإجماع لو لم ندّع الضرورة على عصمتهم و تظافر الآيات و الاخبار على ذلك فلا بدّ من تأويل هذه الاخبار على فرض صحّتها و تماميّة دلالتها أو طرحها، كما أنّه المتعيّن ايضا في الاخبار بل الآيات الدّالة على الطّعن في الأنبياء و تخطئتهم و نفي العصمة عنهم سيّما مع مخالفة الاخبار المتقدمة للآيات الدّالة على عصمتهم و براءة ساحتهم عن اقتراف الذّنوب و المعاصي على ما مرّت الإشارة إليها.

و قد استفاض عنهم وجوب العرض على كتاب اللّه سبحانه، فقالوا إنّ ما وافق الكتاب فخذوه و ما خالف الكتاب فذروه فدعوه فاضربوه على الحائط «1».

فان قلت أنّ الاخبار الدّالة على نفي عصمتهم ايضا توافق ظاهر الكتاب كهذه الآية و المتضمّنة لقصّة الملكين و إبليس و غير ذلك، قلت قد سمعت أنّه لا ظهور في الآية أصلا و انّه من الآيات المتشابهة التي يجب ردّها إلى المحكمات و لو بقرينة الإجماع و غيره على عدم ابقائها على ظواهرها.

و من هنا يظهر الجواب عمّا يمكن إيراده في المقام من أن قضيّة تخصيص العام بالخاصّ حمل الآيات الدّالة على العصمة على غير مورد هذه الآية الخاصّة بحسب المورد

و الزّمان و المعصية و غيرها من الخصوصيّات إذ فيه أنّ التخصيص بعد احراز حجّية الخاص و ظهور دلالته و هو في المقام أوّل الكلام.

و توهّم اعتضاد دلالتها بظواهر الاخبار المتقدّمة المتضمّنة لتفسيرها سيّما مع

__________________________________________________

(1) البحار: ج 2 ص 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 116

تكرّرها في أصول الإماميّة و اشتمالها على الإبناء عن بدو بناء البيت حسبما هو المشهور بين الطائفة المحقة، مدفوع بانّ المحكمات حاكمة عليها فلا ينفعها الاعتضاد بالاخبار التي سبيلها سبيل الاخبار الواردة في تفسير الآيات المتضمّنة للخبر و التشبيه و غيرها ممّا يلزم فيه رفع اليد عن الظواهر كما في المقام و لو للإجماع و غيره، فان قلت إنّ الإجماع ممنوع في المقام فانّ المحكي منه غير معلوم الحجّية سيّما في مثل المسألة التي هي من فروع الأصول دون الفروع التي يجري فيها دليل الانسداد و غيره و المحقق منه غير معلوم التحقق لو لم نقل إنّ المحقّق انتفاؤه فانّ هذه الاخبار المتعلّقة بهذه القصّة أو المتضمّنة لتوبة دردائيل و أخويه قد تعرض لنقلها العصابة من دون اشارة إلى ردّها أو طرحها أو التأويل فيها بما لا ينافي العصمة على أنّ الشيخ أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه قد اختار في تبيانه كون إبليس مع تمرّده و عصيانه من جملة الملائكة و استدلّ على ذلك بما يأتي و أيضا يظهر ممّا يحكى عن محمّد بن بحر الشّيباني الدّهني و هو من أجلّة الاماميّة في كلامه المحكي في «العلل» و غيره في تفضيل الأنبياء على الملائكة اتّفاق جميع المفسّرين من الأمّة على كون إبليس و هاروت و ماروت من الملائكة و لم يحك الخلاف في ذلك عن أحد من الاماميّة

بل العامة ايضا إلّا عن الحسن البصري و نسبه إلى الشّذوذ عن أقوال سائر المفسّرين و لعلّه يستفاد من كلامه دعوى الإجماع على نفي العصمة فكيف يمكن دعوى الإجماع عليها قلت لم نرد بالإجماع مجرّد الاتّفاق الذي يقدح فيه أمثال هذه الأقوال الشّاذة بل المراد به ما هو الحجّة عند الامامية لكونه كاشفا عن قول المعصوم و رضاه و هو محقق في المقام بحيث لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 117

يصغى معه إلى أمثال هذه الاخبار و الأقوال الشاذة التي لم تكن معروفة و لا مذكورة عند الاماميّة و لذا ادّعى المفيد الإجماع على عدم كون إبليس من الملائكة، و لعمري أنّه من الوضوح بمكان يمكن دعوى ضرورة المذهب عليه على ما ستعرف بل و لعلّه كذلك بالنّسبة إلى الملكين و لذا قال ايضا الصّدوق بعد حكاية كلام الدّهني في «العلل» ما لفظه إنّما أردت أن تكون هذه الحكاية في هذا الكتاب و ليس قولي في إبليس؛ أنّه كان من الملائكة، بل كان من الجنّ، إلّا أنّه كان يعبد اللّه بين الملائكة و هاروت و ماروت ملكان، و ليس قولي فيهما قول أهل الحشو بل كانا عندي معصومين إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه «1».

عصمة الملائكة و حقيقتها

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في أصل العصمة و عدم صدور المعصية بعد قيام الإجماع و إنّما الكلام في انّهم قادرون على الشرور و المعاصي أولا فالمحكي عن جمهور الفلاسفة و كثير من الجبريّة أنّهم خيرات محض لا قدرة لهم على شي ء من ذلك بل الظاهر منهم أنّ أفعالهم كالأفعال الطّبيعية الصّادرة عن فاعلها من دون كلفة و مشقّة، بل قد يحكى عنهم: أنّهم جعلوها نفس الطّبايع الّتي تصدر عنها

الأفعال من دون شعور و اختيار، و لقد فرغنا عن الكلام في إبطاله على ما مرّ و ظاهر المتكلّمين و الفقهاء بل صريح بعضهم انّهم قادرون على كلّ من الطّاعة و المعصية، إلّا أنّهم باختيارهم و ارادتهم بل و استلذاذهم و ميلهم يختارون الطّاعة على المعصية كما يستفاد من هذه القصّة المتضمّنة لترك الأولى و من قوله: وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 118

إِلهٌ «1»، الظّاهر في قدرتهم على ذلك، بل هو الظّاهر ايضا من التمدّح بالتّسبيح و التقديس في هذه الآية، و من قوله: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «2»، و قوله: وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «3»، إلى غير ذلك من الآيات الظّاهرة في ذلك.

بل قد يستدلّ أيضا بانّهم لو لم يكونوا قادرين على ترك الخيرات لما كانوا ممدوحين بفعلها لأنّ الملجأ إلى الشي ء و من لا يقدر على ترك الشي ء لا يكون ممدوحا بفعل الشي ء.

قال الرازي: و لقد استدلّ بهذا بعض المعتزلة فقلت له: أ ليس أنّ الثّواب و العوض واجبان على اللّه تعالى، و معنى كونه واجبا عليه أنّه لو تركه للزم من تركه إمّا الجهل و إمّا الحاجة و هما محالان، و المفضي إلى المحال محال، فيكون ذلك التّرك محالا من اللّه، و حينئذ فيكون الفعل واجبا منه، فكون اللّه تعالى فاعلا للثّواب و العوض واجب و تركه محال مع انّه تعالى ممدوح على فعل ذلك، فثبت أنّ امتناع التّرك لا يقدح في حصول المدح، قال فانقطع و ما قدر على الجواب «4».

و الجواب عنه واضح ضرورة ظهور الفرق بين

كون الترك مستندا إلى الاختيار، بحيث لا يختار الفعل أصلا أبدا و لو للحكمة او العصمة، و كونه مستندا على العجز و انتفاء القدرة و انتفاء المدح إنّما هو في الثاني دون الأوّل الّذي يثبت معه

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 29.

(2) التحريم: 6.

(3) الأنبياء: 29.

(4) تفسير مفاتيح الغيب ج 1 ص 171.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 119

القدرة و الاختيار على مذهب العدليّة، إلا أنّ الرجل ليس منهم بل من الّذين يظنّون باللّه ظنّ السّوء عليهم دائرة السّوء.

تفسير الآية (31)

اشارة

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها شروع في بيان الجواب عن سؤال الملائكة على وجه التّفصيل بعد ما أجمل الجواب عنهم، و تمهيد للاستدلال على أفضليّة آدم عليهم بما خصّه من العلم.

و التعليم فعل يترتّب عليه العلم غالبا، و هو في حقّه تعالى يكون بالتكوين و بالوحي و الإلهام، أو بمطلق الإعلام، و إطلاق المعلّم عليه غير سائغ لتوقيفية الأسماء، و غلبة إطلاقه فيما يكون بأدوات و لهوات، و إن أطلق عليه ما اشتقّ منه كما في المقام، و في قوله: وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ «1»، عَلَّمَ الْقُرْآنَ «2»، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «3».

وجه تسمية آدم

و «آدم» إمّا اسم أعجميّ بل في «الكشّاف»: و ما آدم إلّا اسم أعجمي و اقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر، و عازر، و عابر، و شالخ، و فالغ، و أشباه ذلك.

و إمّا عربي مشتقّ من أديم الأرض، بمعنى وجهها لما روي من أنّه تعالى لما

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 80.

(2) الرحمن: 2.

(3) العلق: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 120

أراد أن يخلقه أمر أن يقبض قبضة من جميع الأرض سهلها و جبلها فخلق منها آدم، فلذلك ياتي بنوه أخيافا اي مختلفين من قولهم: النّاس أخياف، و يقال لإخوة الأمّ أخياف، لاختلافهم في نسب الآباء.

و في خبر ابن سلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه سأله عن آدم لم سمّي آدم؟ قال: لأنّه خلق من طين الأرض و أديمها، قال: فآدم خلق من الطّين كلّه او من طين واحد؟

قال: بل من الطّين كلّه، و لو خلق من طين واحد لما عرف الناس بعضهم بعضا، و كانوا على صورة واحدة قال: فلهم في الدّنيا مثل؟ قال: التّراب فيه أبيض،

و فيه اخضر، و فيه أشقر و فيه اغبر، و فيه احمر، و فيه أزرق و فيه عذب و فيه ملح و فيه خشن و فيه لين و فيه أصهب فلذلك صار النّاس فيهم ليّن و فيهم خشن، و فيهم أبيض، و فيهم اصفر، و احمر و أصهب و أسود على ألوان التّراب «1».

و في «الاختصاص» عن الصادق عليه السّلام انّه خلق آدم من صفحة الطّين «2».

أو بمعنى باطنها من الأدمة بالتحريك لباطن الجلد، و باطن الأرض كما في «القاموس»، أو خصوص الأرض الرّابعة كما قال الصّدوق في «العلل» بعد قول الّصادق عليه السّلام: إنّما سمّي آدم آدم لأنّه خلق من أديم الأرض: إنّ اسم ارض الرّابعة أديم و خلق آدم منها فلذلك قيل: خلق من أديم الأرض «3».

و ان قيل إنّه لم يوجد له أثر في كتب اللّغة و لعلّه وصل إليه بذلك خبر، لكن في «قصص الأنبياء» بعد نقل خبر يأتي ذكره ما لفظه: و قيل: أديم الأرض أدنى

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 161 و عنه البحار ج 11 ص 101.

(2) البحار ج 11 ص 102 عن الاختصاص.

(3) علل الشرائع ج 1 ص 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 121

الأرض الرّابعة إلى اعتدال، لأنّه خلق وسط بين الملائكة و البهائم، و ستسمع ما فيه من الإشارة.

و في «الاحتجاج» عن أبي بصير قال: سأل طاوس اليماني أبا جعفر عليه السّلام لم سمّي آدم آدم؟ قال: لأنّه رفعت طينته من أديم الأرض السّفلى «1».

و هذا الخبر يحتمل كلّا من الوجوه الثلاثة و غيرها.

أو من الأدمة بمعنى الألفة و الاتّفاق يقال: أدم اللّه بينهما اي أصلح و ألّف و كذلك آدم اللّه بينهما

فعل و أفعل بمعنى، و منه الخبر: فانّه أحرى أن يؤدم بينكما «2» يعني أن يكون بينكما المحبّة و الاتّفاق و لعلّه الأنسب بما في «العلل» قال: اتى أمير المؤمنين عليه السّلام يهوديّ فقال: لم سمّي آدم آدم؟ قال عليه السّلام: لأنّه خلق من أديم الأرض، و ذلك انّ اللّه تبارك و تعالى بعث جبرئيل و أمره أن يأتيه من أديم الأرض أربع طينات: طينة بيضاء، و طينة حمراء، و طينة غبراء، و طينة سوداء، و ذلك من سهلها و حزنها ثمّ أمره أن يأتيه بأربع مياه: ماء عذب، و ماء ملح و ماء قر و ماء منتن، ثمّ أمره أن يفرغ الماء في الطّين و آدمه اللّه بيده فلم يفضل شي ء من الطّين يحتاج إلى الماء و لا من الماء شي ء يحتاج إلى الطّين و جعل الماء العذب في حلقه، و جعل الماء المالح في عينيه، و جعل الماء المرّ في أذنيه، و جعل الماء المنتن في انفه «3». الخبر.

__________________________________________________

(1) الاحتجاج ص 179 و عنه البحار ج 11 ص 100.

(2) في لسان العرب ج 12 ص 8: في الحديث عن النبيّ صلى اللّه عليه (و آله) و سلم أنه قال للمغيرة بن شعبة و خطب امرأة: لو نظرت إليها فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما قال الكسائي: يودم بينكما يعني ان تكون بينهما المحبة و الاتفاق.

(3) علل الشرائع ص 2 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 122

و صدره و ان وافق الأخبار المتقدّمة إلّا أن قوله: ادمه اللّه يومئ إلى ما سمعت، و كذا قوله في الخبر الآتي عن تفسير فرات فخلقه من أديم الأرض لأنّه لمّا عجن بالماء استأدم «1»،

و ان كان محتملا لغيره من الوجوه، بل صدره ظاهر فيما تقدّم، و لعلّ فيه اشارة إلى سببين للتسمية.

و ربما يقال بكونه مشتقّا من الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة و هي القدوة لأنّه يقتدي به ذرّيته أو الملائكة و يعرف به افراد هذا النوع، قال في «القاموس»: و هو آدم اهله و ادمتهم و يحرّك و أدامهم: أسوتهم الّذي به يعرفون، و قد أدمهم كنصر صار كذلك انتهى.

أو من الأدمة بالضّم بمعنى السمرة لأنّه عليه السّلام كان أسمر اللّون على ما قيل، و أورد عليه بأنّه لا يناسب ما ورد من براعة جماله و انّ يوسف عليه السّلام كان جماله على الثلث منه.

و فيه ضعف واضح فإنّ الادمة لا ينافي البراعة في الحسن، أو بمعنى القرابة و الوسيلة يجعلها في ذرّيته بالتّوالد إلى غير ذلك ممّا لا يأبى عنه اللّغة و الاستعمال و ان كان ظاهر النّصوص هو ما سمعت.

و امّا المناقشة في أصل الاشتقاق نظرا إلى اختصاصه بلغات العرب، ثمّ في عربيّته و قد روى من أنّه عليه السّلام كان يتكلّم بالسرّيانيّة مضافا إلى وضوح حدوث اللّغات العربيّة.

__________________________________________________

(1) تفسير فرات: 65 و عنه البحار ج 57 ص 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 123

فمدفوعة بالمنع من الاختصاص و قد روى انّه عليه السّلام كان يتكلّم بكلّ لسان و إن كان الغالب هو البعض، و حدوث اللّغة العربيّة بعد إسماعيل غير مسلّم، و قد روى انّ الكتب السّماوية كلّها باللّغة العربيّة و ان وقعت في الأسماع بلغات أخر، و الظّاهر انّ التّسمية بآدم كانت من اللّه سبحانه.

و بالجملة لا ينبغي التأمّل في عربيّته سيّما بعد ما سمعت من الأخبار و لذا قال الجواليقي «1»: اسماء

الأنبياء كلّها أعجميّة إلّا اربعة: آدم، و صالح، و شعيب، و محمد عليهم السّلام.

بل في الخبر: أوّل من تكلّم بالعربيّة آدم عليه السّلام «2».

و أمّا ما رواه في المعاني و الخصال عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: انّ أربعة من الأنبياء سريانيّون آدم و شيث و إدريس و نوح «3» فمحمول على غلبة تلك اللّغة على لسانه، و الّا فقد ورد انّ اللّه تعالى انزل عليه ألف ألف لسان لا يفهم فيه اهل لسان من أهل لسان حرفا واحدا بغير تعليم «4».

بل في «الاختصاص» مثل ما سمعت عن «المعاني» و «الخصال» ثمّ قال

__________________________________________________

(1) هو ابو محمد إسماعيل بن ابي منصور موهوب بن احمد البغدادي، كان بعد أبيه امام اهل الأدب بالعراق، توفى سنة «539» ه.

(2) قال السيوطي: عن ابن العباس: أوّل من تكلّم بالعربيّة المحضة هو إسماعيل عليه السّلام و أراد به عربيّة قريش التي نزل بها القرآن، و اما عربيّة قحطان و حمير فكانت قبل إسماعيل- المزهر للسيوطي ج 1 ص 27.

(3) الخصال: ج 2 ص 524.

(4) بحار الأنوار ج 11 ص 257 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 124

و كان لسان آدم العربيّة و هو لسان أهل الجنّة فلمّا عصى ربّه أبدله بالجنّة و نعيمها الأرض و الحرث و بلسان العربية السّريانية «1».

إلى غير ذلك ممّا تأتي إلى بعضها الإشارة.

و من جميع ما مرّ قد ظهر ضعف ما ذكره الزّمخشري من القطع بعجمته، و ان استدلّ عليه غيره بما لا يخلو من ضعف واضح، ثمّ إنّهم صرّحوا بانّ أصله بهمزتين، لأنّه أفعل لكنّهم ليّنوا الثانية، و إذا حرّكت جعلت واوا فيجمع على أوادم، لأنّه ليس لها

أصل في الياء معروف فجعلت الغالب عليها.

و في «المجمع» انّه ان أخذ من أديم الأرض صرف بالتنكير، أو من ادمه اللّون و الصّفة فإذا سمّيت به في هذا الوجه ثم نكرته لم تصرف «2» و الوجه واضح.

ثمّ انّه عليه السّلام يكنّى أبا البشر، و روى أبا محمّد ايضا ففي «البحار» عن نوادر الراوندي بالإسناد عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أهل الجنّة ليست لهم كنى إلّا آدم عليه السّلام فانّه يكنّى بأبي محمد توقيرا و تعظيما «3».

و المراد بالاسم ما يدلّ على الشي ء في مرتبة الذّات و الكينونة أو في مرتبة الفعل و الطّبيعة و الخواص، او في مرتبة الألفاظ الموضوعة المؤلّفة من الحروف، و لذا ينقسم إلى اقسام ثلاثة بل اربعة حسبما مرّت إليها الإشارة في تفسير البسملة.

«و الكلّ» لفظ يدلّ على الاستيعاب و الاحاطة بالأجزاء، و يؤكّد به مثل أجمعون إلّا أنّه يبدأ في الذّكر بكلّ كما في قوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ*

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 56 عن الاختصاص.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 76.

(3) بحار الأنوار ج 21 ص 107 عن نوار الراوندي ص 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 125

أَجْمَعُونَ* «1»، لأنّ الكلّ قد يلي العوامل، و أجمعون لا يكون إلّا تابعا و التأكيد بالاستيعاب إمّا باعتبار أنواع الإسم حسبما سمعت، أو افراد كلّ نوع، و الأولى اعتبار العموم من الجهتين، سيّما مع تأكيد الجمع المحلّى، أو أنّ المراد بالأسماء مسمّياتها بتقدير المضاف اليه، فتشمل جميع الأكوان، و أفعالها، و خواصّها و آثارها، و اصول العلوم و الصناعات، و انواع المدركات من المعقولات و المحسوسات،

و غيرها ممّا علّمها اللّه تعالى آدم تعليما إلهاميّا مترتّبا على كمال الاستعداد الحاصل من التعليم التكويني، فانّه جعل وجوده و كينونته نسخة مختصرة مشتملة على كليّات ما في العوالم الملكوتيّة و النّاسوتيّة، و لذا ورد انّه قد أخذ من جميع القبضات المأخوذة من السموات و الأرضين.

ففي «الكافي» عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ لما أراد ان يخلق آدم عليه السّلام بعث جبرئيل في أوّل ساعة من يوم الجمعة، فقبض بيمينه قبضة، فبلغت قبضته من السماء السّابعة إلى السّماء الدنيا، و أخذ من كلّ سماء تربة، و قبض قبضة اخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى، فأمر اللّه عزّ و جلّ كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه، و القبضة الاخرى بشماله، ففلق الطّين فلقتين، فذرا من الأرض ذروا و من السموات ذروا، فقال للّذي بيمينه: منك الرّسل و الأنبياء و الأوصياء و الصّديقون و المؤمنون و السعداء و من أريد كرامته، فوجب لهم ما قال كما قال، و قال للّذي بشماله: منك الجبّارون و المشركون و الكافرون و الطّواغيت و من أريد هوانه و شقوته، فوجب لهم ما قال كما قال ثمّ انّ الطّينتين خلقتا

__________________________________________________

(1) الحجر: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 126

جميعا «1»، الخبر على ما يأتي.

فانّ المراد بيوم الجمعة يوم اجتمع فيه خلق العالم، و تمّ فيه مراتب الوجود الكليّة من العلويّة و السّفليّة على ما أشير إليه في الأخبار المتضمّنة لبيان خلق السموات و الأرض في ستّة ايّام.

و أمّا ما يقال في بيان تفصيل القبضات الّتي يستفاد من بعض الأخبار كونها عشرا من أنّها في المؤمن قبضة من محدّد الجهات خلق منها قلبه و قبضة من

الكرسي خلق منها صدره، و قبضة من فلك زحل خلق منها عقله، و قبضة من فلك المشتري خلق منها علمه، و قبضة من فلك المريخ خلق منها وهمه، و قبضة من فلك الشمس خلق منها وجوده، الثّاني، و قبضة من فلك الزّهرة خلق منها خياله، و قبضة من فلك عطارد خلق منها فكره، و قبضة من فلك القمر خلق منها حياته، و قبضة من أرض الدّنيا خلق منها جسده، و في الكافر قبضة من الحوت الّذي على البحر تحت الأرضين فخلق منها قلبه، و قبضة من الثور فخلق منها صدره، و قبضة من الأرض السّابعة القصوى أرض الشقاوة فخلق منها دماغه، و قبضة من الأرض السادسة خلق منها علمه، و هي ارض الإلحاد و قبضة من الأرض الخامسة أرض الطغيان خلق منها وهمه، و قبضة من الأرض الرابعة أرض الشهرة خلق منها وجوده الثّاني، و قبضة من الأرض الثالثة أرض الطبع خلق منها خياله، و قبضة من الأرض الثّانية أرض العادة خلق منها فكره، و قبضة من الأرض الاولى أرض النفوس خلق منها جسده، و قبضة من سماء الدنيا خلق منها حياته.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 64 ص 87 عن الكافي ج 2 ص 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 127

فهو مبنيّ على مقدّمات و اصول لا يخلو بعضها عن ضرب من الحدس و التخمين على ما أشرنا إليه سابقا.

لكن القدر المعلوم من ملاحظة أخبار الباب كقول الصادق عليه السّلام: انّ الصّورة الانسانيّة هي مجموع صور العالمين و هي المختصر من العلوم في اللّوح المحفوظ «1» و قول العالم عليه السّلام: خلق اللّه عالمين فعالم علوي و عالم سفلي و ركّب العالمين جميعا في ابن

آدم «2» و الشعر المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام:

أ تزعم انك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر إلى غير ذلك ممّا مرّت إليه الإشارة في تفسير الفاتحة «3».

هو انّ الإنسان جامع بجمعيّته الكونيّة لجميع النشئات الكليّة، محتو على روحانيات العوالم الملكيّة و الملكوتيّة، مطرح لاشعّة نجوم الدّراري العلوية و قوى الأجسام السّفليّة، و لذا استعدّ بكينونتها لإدراك ما فيها و التخلق باخلاقها.

قال مولانا أمير المؤمنين في الخطبة المذكورة في النّهج: ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها، و عذبها و سبخها تربة سنّها بالماء حتّى خلصت، و لاطها بالبلّة حتّى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء و وصول، و أعضاء و فصول، أجمدها حتّى استمسكت، و أصلدها حتّى صلصلت، لوقت معدود و أجل معلوم، ثمّ نفخ فيها من روحه، فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها، و فكر يتصرّف بها، و جوارح يختدمها، و أدوات يقلّبها، و معرفة يفرق بها بين الحقّ و الباطل، و الأذواق و المشامّ

__________________________________________________

(1) شرح الأسماء الحسنى ج 1 ص 12.

(2) الاختصاص ص 142.

(3) تفسير الصراط المستقيم ج 3 ص 412.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 128

و الألوان و الأجناس، معجونا بطينته الألوان المختلفة، و الأشباه المؤتلفة، و الاضداد المتعادية، و الأخلاط المتباينة، من الحرّ و البرد، و البلة و الجمود، و المسائة و السرور، الخطبة «1».

و في تفسير فرات عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: انّه سبحانه لمّا خلق السموات و الأرض و اللّيل و النّهار و النجوم و الفلك و جعل الأرضين على ظهر حوت أثقلها فاضطربت فأثبتها بالجبال فلمّا استكمل خلق ما في السموات و الأرض يومئذ خالية ليس فيها أحد

قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ، فبعث اللّه جبرئيل عليه السّلام فأخذ من أديم الأرض قبضة، فعجنه بالماء العذب و المالح، و ركّب فيه الطبائع، قبل أن ينفخ فيه الروح، فخلقه من أديم الأرض فلذلك سمّي آدم، لأنّه لما عجن بالماء استأدم فطرحه في الجبل، كالجبل العظيم، و كان إبليس يومئذ خازنا على السّماء الخامسة، يدخل في منخر آدم ثمّ يخرج من دبره، ثمّ يضرب بيده على بطنه فيقول لايّ أمر خلقت؟ لإن جعلت فوقي لا أطعتك، و ان جعلت أسفل منّي لا أعينك، فمكث في الجنّة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح، فخلقه من ماء و طين، و نور و ظلمة، و ريح و نور من نور اللّه تعالى، فامّا النّور فتورثه الإيمان، و امّا الظلمة فتورثه الكفر و الضّلالة، و أمّا الطّين فيورثه الرعدة و الضّعف و الاقشعرار عند اصابة الماء، فينبعث به على اربع

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة الاولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 129

طبائع: على الدّم، و البلغم، و المرار، و الرّيح «1»، الخبر.

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه كونه مخلوقا من الطّبايع السّفلية و الأرواح العلوية الفلكيّة و النّاطقة القدسيّة و الكليّة الالهيّة حسبما تسمع الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي* «2».

الأسماء الّتي علّمها اللّه سبحانه آدم

و هذا التّعليم تعليم تكوينيّ للأسماء الّتي هي كليّات العوالم و جزئيّاتها، و هي مظاهر للأسماء الالهيّة الّتي هي النعوت الكماليّة و الصّفات الجماليّة و الجلاليّة باعتبار غلبة ظهور الصّفة الّتي اشتمل

عليها ذلك الاسم فيه، و هي الّتي تسمّى كليّاتها بالمهيّات و الحقائق، و جزئيّاتها بالهويات عند قوم، و تسمّى عند آخرين بالفيض الّذي ينقسم عندهم إلى الفيض الأقدس و الفيض المقدّس، و بالأوّل يحصل إمكانات الأعيان و استعداداتها بالمشيّة الامكانيّة، و بالثّاني يحصل تلك الأعيان في عالم الأكوان، مع لوازمها و توابعها و آثارها و ارتباطاتها بالمشيّة الكونيّة، و لهذا كلّما كانت أفراد هذا النّوع أكمل كان مظهريّتها للأسماء الالهيّة أظهر، و نبيّنا محمّد و آله الطاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين أفضل الموجودات و أكمل البريّات.

و لذا ورد في الأخبار الكثيرة أنّهم أسماء اللّه الحسنى الّتي لا يقبل اللّه من احد إلّا بولايتهم و معرفتهم و كرامتهم لأنّ اللّه تعالى جعلهم أبوابه و حجّابه و دلائل معرفته

__________________________________________________

(1) تفسير فرات ص 65 و عنه البحار ج 57 ص 94.

(2) الحجر: آيه 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 130

و وسائل فيضه و كرامته، فهم الأعراف الّذين لا يعرف اللّه تعالى إلّا بسبيل معرفتهم، و هم الأسماء الّذين علّمهم اللّه تعالى آدم و شرّفه بهم، و أكرمه بإسجاد الملائكة تعظيما لهؤلاء الأنوار، و تكريما لآدم و عبوديّته للّه سبحانه.

ففي «الإكمال» و غيره عن الصادق عليه السّلام قال اللّه تبارك و تعالى علّم آدم اسماء حجج اللّه كلّها ثمّ عرضهم و هم أرواح على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين انكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم و تقديسكم من آدم قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال اللّه تبارك و تعالى:

يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وقفوا على عظيم منزلتهم عند اللّه تعالى ذكره، فعلموا أنهم أحقّ

بأن يكونوا خلفاء اللّه في ارضه و حججه على بريّته ثمّ غيّبهم عن أبصارهم و استعبدهم بولايتهم و محبّتهم و قال لهم أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ «1»، الآية.

و في تفسير الامام عليه السّلام: و علّم آدم الأسماء، كلّها أسماء أنبياء اللّه و اسماء محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطّيّبين عن آلهما و اسماء خيار شيعتهم و عتاة أعدائهم «2».

و فيه عن سيّد الشهداء قال: إنّ اللّه تعالى لمّا خلق آدم و سوّاه و علّمه اسماء كلّ شي ء و عرضهم على الملائكة جعل محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 26 ص 283 ح 38 عن إكمال الدين.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 73 عن تفسير الإمام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 131

و الحسين عليهم السّلام أشباحا خمسة في ظهر آدم «1»، إلى آخر ما يأتي في الأمر بالسجود له.

و في «المجمع» عن الصّادق عليه السّلام أنّه سأل عن هذه الآية فقال: الأرضين و الجبال و الشعاب و الأودية ثمّ نظر إلى بساط تحته فقال و هذا البساط ممّا علّمه اللّه «2».

و رواه العيّاشي في تفسيره و فيه أنّه سئل الصّادق عليه السّلام عن الأسماء في قوله:

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ما هي؟ فقال عليه السّلام: أسماء الأودية و النبات و الشّجر و الجبال من الأرض «3».

و فيه عن داود بن سرحان العطار قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدعا بالخوان فتغذّينا، ثمّ جاءوا بالطّست و الدست شويه «4» فقلت: جعلت فداك و علم آدم الأسماء كلّها الطست و الدست شويه منه؟ فقال: الفجاج و الأودية و أهوى بيده كذا و كذا «5».

و

في تفسير القمي قال: اسماء الجبال و البحار و الأودية و النّبات و الحيوان.

و قد ظهر لك ممّا لوّحنا إليه الجمع بين اخبار الباب، بل بينها و بين ما قيل:

من أنّ المراد بالأسماء هي الأسماء الالهيّة أو الحقائق الكونيّة الّتي هي لها مظاهر كلّية، و ذلك لأنّه قد تواتر عنهم انّه تعالى خلق أوّل ما خلق أنوار محمد و آل محمّد و أرواحهم عليهم السّلام، ثمّ خلق من أشعّة أنوارهم سائر الحقائق الكليّة من المجرّد و المادّية العلويّة و السّفلية، على حسب درجاتها و مراتبها و قربها من ينبوع الرّحمة الكلّية

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 150 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 76.

(3) البحار ج 11 ص 147 عن تفسير العيّاشي.

(4) الدست شويه: كلمة فارسيّة اي الإناء الذي يغسل فيه الايدي.

(5) البحار ج 11 ص 147.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 132

و بعدها عنه، كما أشير اليه فيما مرّ نقله من كتاب «الأنوار» و غيره، و قد علّمها اللّه تعالى آدم بأن جعل تكوينه من القبضات المأخوذة من جميع العوالم الكليّة، و جعل طينة مستعدّة لظهور الحجج و الأنبياء سيّما محمّد و آله الطّيبيّن صلوات اللّه عليهم أجمعين. منها في هذه النشأة الدّنيوية، فعلّمه الأسماء الكلّية و الحقائق الكونيّة تعليما تكوينيّا، و جعلها مستعدّة لإدراك كلّ حقيقة من الحقائق بما فيه من القبضة المأخوذة من تلك النشأة و التّجلي الحاصل من ذلك الاسم، فكان أنموذجا و خلاصة مأخوذة من جميع العوالم، فخلق في عالم النّاسوت بعد خلق جميع اجزائه الكونيّة، لأنّ ما هو متقدّم في الخلقة الملكوتيّة متأخّر في الظّهور النّاسوتي فيتعاكس التقدّم الدّهري و الزّماني،

فلمّا دارت الأدوار و تمّت الأكوار ظهر الإنسان، محيطا على جميع الشؤون و النّشآت، مجمعا لجميع الاقتضاءات و الاستعدادات، قابلا للتّرقيّات من جميع الجهات، فهو ثمرة شجرة الوجود، و القابل لإشراق أشعّة أنوار الشّهود، فكما أنّ الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلّها حتّى تظهر على أعلى الشجرة بعد تمامها، كذلك عبّر آدم على جميع أجزاء شجرة الوجود حتّى ظهر في هذه النشأة الدّانية السافلة في كسوة الناسوت.

و أمّا الملائكة فكلّ منهم له مقام معلوم لا يتعدّاه، و لا يدرك ما سواه، و لا يعبد اللّه سبحانه إلّا بلسان واحد، و لا يدعوه إلّا باسم واحد، و أمّا سائر الأسماء الالهيّة فمحجوبة عنهم لا يدركونها أصلا نعم ربما كان الاسم الّذي يدعوه به واحد منهم مغايرا لما يدعوه به الآخر لكنّها متّفقة في نوع الاتّحاد بخلاف الإنسان، فانّه يدعوه بأسمائه الحسنى و أمثاله العليا و نعمه الّتي لا تحصى المفسّرة في الأخبار

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 133

الكثيرة بالنّبي و الأئمّة عليهم الصلاة و السلام.

و من هنا يتّضح تفسير الأسماء بالأنبياء و الحجج و بتلك الحقائق الكلّية و الأعيان الموجودة الخارجيّة الّتي عبّر عنها بالأرضين و الجبال و النّبات و الحيوان و غيرها ممّا هي تعيّنات لتلك الحقائق البسيطة و المركّبة.

و قري ء: و علّم آدم الأسماء على البناء للمفعول.

ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ عرض هؤلاء الأسماء الفعليّة الذين هم نفس الحقائق الكونيّة المشتملة على ذوات العقول الذين هم الأصول لها و لو باعتبار الشرف و سبق الخلقة و وساطة الفيض تكوينا و تشريعا على النّحو المقرّر، أو مسمّيات الأسماء اللّفظيّة المدلول عليها ضمنا باعتبار حذف المضاف إليه في قوله: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ» لدلالة المضاف عليه، و

تعويض اللام عنه كما في قوله: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1»، فينتظم حينئذ قوله: عَرَضَهُمْ و قوله: بِأَسْماءِ هؤُلاءِ و لم يجعل المحذوف مضافا اي مسمّيات الأسماء لينتظم تعليق الإنباء على الأسماء فيما ذكر بعد التعليم و على الوجهين فالمراد أشباح المخلوقات و حقائقها فردا فردا في عالم الملكوت، فانّ السؤال عن أسماء المعروضات، فلا يكون المعروض نفس الأسماء سواء أريد بها الألفاظ او الآثار و اللّوازم و الفوائد.

و تذكير الضّمير إمّا لأنّ لكلّ منها عقلا و شعورا في عالمه، و لذا نسب إليهم

__________________________________________________

(1) مريم: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 134

التّسبيح و ذكّرهم في قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1»، و إمّا لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء لما مرّ كما في قوله: وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ «2»، و إمّا لكون الضّمير للنّبي و الأئمّة الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

و لذا قال الامام عليه السّلام في تفسيره: عرض محمّدا و عليّا و الأئمّة عليهم السّلام على الملائكة اي عرض أشباحهم و هم أنوار في الأظلّة «3».

و في الخبر المتقدّم: علّم آدم أسماء حجج اللّه كلّها ثمّ عرضهم و هم أرواح على الملائكة «4».

و قراءة أبي «5» «ثمّ عرضها»، و عن ابن مسعود: ثمّ عرضهنّ، و يظهر الوجه فيهما ما مرّ.

و العرض مصدر من قولهم: عرضت المتاع على البيع، و عرضت الجند عليه، و عرضت البعير على الحوض، و إن كان هذا من المقلوب، و أصله في اللّغة النّاحية من نواحي الشي ء، و منه العرض

بالفتح خلاف الطّول، و بالكسر يقابل به المال، فإنّه

__________________________________________________

(1) الإسراء: 44.

(2) النور: 45.

(3) تفسير البرهان ج 1 ص 73 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(4) البحار ج 26 ص 283 عن إكمال الدين.

(5) هو أبيّ بن كعب ابو المنذر الأنصاري سيّد القراء، توفي سنة (19) ه العبر للذهبي ج 1 ص 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 135

ناحيته الّتي يصونها عن المكروه، ثمّ أطلق على الإظهار الّذي يعرف به جهة الشي ء و ناحيته، ثمّ على مجرّد الإظهار.

نعم قد يقال: إنّه يختصّ بالمحسوسات بالعين يقال: عرضت الجند، عرض العين إذا أمررتهم عليك و نظرت ما حالهم، كما عن الجوهري، و هذا ممّا يؤيّد كون المعروض نفس المسمّيات لا الأسماء الّتي هي المسموعات او ما في حكمها، و المعنى أظهرهم على الملائكة بكشف الحجب عن الأرواح و اراءة الأشباح و هم في أصقاع الملكوت و سرادقات الجبروت متوجّهين إلى الحيّ الّذي لا يموت فقال اللّه سبحانه لملائكته تعجيزا و تبكيتا لهم، و تنبيها على قصورهم عن أمر الخلافة او تكليفا مطلقا أو مشروطا:

أَنْبِئُونِي أخبروني على وجه الإحاطة العلميّة الّتي لا تتأتّى إلّا بالاحاطة الكونيّة أو أنّ المراد مجرّد الإخبار، فإنّ الإنباء إخبار فيه إعلام و لذا يجري مجرى كلّ منهما بِأَسْماءِ هؤُلاءِ الحجج الّذين لولاهم لم يخلقكم اللّه تعالى، و لا أرضا و لا سماء، و لا شيئا من الأكوان المجرّدة و المادية، و ذلك لأنّهم هم العلل الغائية و المقاصد الاصليّة من خلق العالم و آدم، و هم المختصون بالخلافة الكليّة و الوسائط الأوّليّة للفيوض الالهيّة أو بأسماء اللّه الّتي بما خلقت هذه الأشباح، فانّها بتمامها كانت محجوبة عن الملائكة إلّا

نوعا واحدا لكلّ صنف منهم او بخواص تلك المسمّيات و آثارها و وجوه استنباط منافعها و افعالها و غير ذلك ممّا يتوقّف عمارة الأرض و الانتفاع بما فيها عليها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنكم أ حقّا بالخلافة من ذرّيّته لعصمتكم أو اشتغالكم بالتّسبيح و التّقديس على ما يستفاد من

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 136

خبر «الإكمال» المتقدّم «1».

أو أنّ جميعكم مطيعون منقادون و ليس فيكم من يعصي اللّه و ان لم يكن منكم لشمول الخطاب للجميع، و لذا قال الامام عليه السّلام في تفسير: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ جميعكم تسبّحون و تقدّسون، و ان ترككم هنا أصلح من إيراد من بعدكم، اي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم فالحريّ أن لا تعرفوا الغيب الّذي لم يكن كما لا تعرفون اسماء أشخاص ترونها.

أو في زعمكم انّه لن يخلق اللّه تعالى خلقا إلّا و أنتم اعلم منه و أفضل في سائر انواع العلوم فقيل: إن كنتم صادقين في هذا الظنّ فأخبروا.

او انّ المراد. إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من اسمائهم فأخبروا بها و معناه هو التّعليق بالعلم على أحد الوجهين اللّذين تأتي إليهما الإشارة.

أو في أنّ خلقهم و استخلافهم مع أنّ من شأنهم الإفساد و القتل لا يليق بالحكيم و على هذا فقولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ و إن كان إنشاء إلّا أنّ التّصديق لم يتعلّق به من هذه الجهة، بل باعتبار ما يلزم مدلوله من الإخبار.

ثمّ الأمر في قوله: أَنْبِئُونِي يحتمل كونه توطينا امتحانيا محضا بمعنى انّه لم يتعلّق الغرض بطلب فعل المأمور به أصلا و لو على وجه الاشتراط، فالأمر و ان كان أمرا في الصّورة إلّا أنّ المراد به

هو البعث على التّصديق و الإذعان بحكمته تعالى و علمه بالغيوب او بفضل آدم عليهم على ما يأتي على حدّ سائر الأوامر الامتحانيّة الّتي ليس هناك في الحقيقة طلب أصلا.

__________________________________________________

(1) تقدّم عن البحار ج 26 ص 283 عن الإكمال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 137

و يقرب من ذلك ما قيل: من كونه للتبكيت تنبيها على عجزهم عن اقامة رسم الخلافة، فإنّ التّصرف و التّدبير و القضاء بالقسط متوقّف على تحقّق المعرفة و الوقوف على مراتب الاستعدادات و قدر الحقوق.

و يحتمل كونه أمرا حقيقيّا مشروطا بصدقهم أي بعلمهم على ما مرّ و يأتي أو بغيره ممّا لم يتحقّق بعد كي يتنجز الأمر بالنّسبة إليهم، او حقيقيّا مطلقا في الحقيقة و إن كان مشروطا في الظّاهر، و ذلك لتّحقق الشّرط الّذي علّق عليه الأمر و هو صدقهم فيما أخبروا عنه من عبادتهم، او كون ذرّيّة آدم ممّن يفسد فيها و يسفك الدّماء، و الامتثال على هذا الوجه و ان لم يكن مقدورا لهم بالذّات لجهلهم بتلك الأسماء إلّا انّهم مقدور لهم بواسطة رجوعهم إلى آدم و تعليمهم منه، و لذا أمر اللّه تعالى آدم بتعليمهم إزاحة للعلّة و تنبيها على فضل آدم عليهم و عدم استغنائهم عنه في عبوديّتهم و طاعتهم للّه سبحانه و هذا الوجه و إن لم أجد من تعرّض له من المفسّرين إلّا أنّه لا بأس به بعد المحافظة على استقامة الكلام و احراز الفائدة.

نعم قال شيخنا الطّبرسي بعد تأويل الاشتراط بالصدق إلى ارادة العلم بالخبر على ما مرّ و الإشارة إلى أنّ معنى الأمر هو التّنبيه او انّه يكون امرا مشروطا ما لفظه: و لا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لأنّه لو

كان تكليفا لم يكن تبيينا لهم ان آدم يعرف اسماء هذه الأشياء بتعريف اللّه ايّاه و تخصيصه من ذلك بما لا يعرفونه فلمّا أراد تعريفهم ما خصّ به آدم من ذلك علمنا أنّه ليس بتكليف انتهى «1» كلامه زبد مقامه.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 77.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 138

و فيه انّ ارادة تعريفهم ما خصّ به آدم من ذلك ليس مانعا عن كونه تكليفا لهم، بل لعلّه يؤكّده من حيث إنّهم لما أمروا بالإنباء و لم يقدروا عليه إلّا من جهة التّعلّم من آدم ثمّ أنبأهم آدم بها بامره سبحانه علموا أنّ له الفضل و الشرف بالعلم و زيادة حقّ التعليم لهم فيما توقّف عليه طاعتهم و تقرّبهم إليه سبحانه، فهذا تنبيه على شرفه و فضله عليهم على وجه ابلغ كما لا يخفى.

و ممّا يومئ إلى ما ذكرنا انّ كلّا من الاشتراط و التّوطين خلاف الظّاهر من الأمر، و من البيّن انّ المتعيّن هو الحمل على الظّاهر الّذي هو الإطلاق إلّا أن يمنع عنه مانع، و الأصل بل الظّاهر ايضا عدمه مضافا إلى أنّ اعتذارهم بعدم العلم دليل على عدم فهم الاشتراط من الخطاب بل كانّهم فهموا الطّلب على وجه الإطلاق فاعتذروا بعدم العلم فازاح اللّه عذرهم بانّ امر آدم بتعليمهم و انبائهم.

تفسير الآية (32)

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا تنزيه منهم له سبحانه عن أن يكون فعله على غير وجه الحكمة او أن يعلم الغيب أحد سواه و اعتذار عن الاستفسار مع الإشعار بأنّه لم يكن للاعتذار بل لمجرّد الاستخبار و اعتراف بالعجز و القصور عن الاحاطة بوجوه الحكمة في أفعاله، و انّه قد ظهر له ما خفي عليهم

من علم الإنسان و فضله و الحكمة في خلقه و مراعاة للأدب حيث مجدّوه اوّلا بالتنّزيه الّذي هو ابلغ من اثبات الكمال، إذ ربّما لا يخلو عن شوب التّوهم و التشبيه، و لذا قال سبحانه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 139

يَصِفُونَ «1»، ثمّ نفوا العلم بجنسه المستوعب بجميع أفراده عنهم و نسبوه إليه، ثمّ أظهروا شكر نعمته بما منحهم به منه، و لذا أضافوا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إلى قولهم: لا عِلْمَ لَنا مع الاكتفاء به في الجواب، فانّهم أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم له و الاعتراف بانعامه عليهم بالتّعليم و ان جميع ما يعلمونه إنّما يعلمونه من جهته، و انّ هذا ليس من جملة ذلك، ثمّ حقّقوا الاعتراف بعلمه و حكمته و أكّدوه بقولهم: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بكلّ شي ء علما ذاتيّا لم يعرض و لا يزول الْحَكِيمُ المصيب في كلّ فعل من أفعاله، المحكم لمبدعاته على أتمّ الوجوه و أتقنها.

و من هنا يظهر أنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم، فلا تكرار، و انّ في الفعيل من المبالغة ما ليس في الفاعل، و انّ تقديم الأوّل علي الثّاني طبيعيّ.

و (سبحان) مصدر كغفران، أو اسم للتّسبيح يقوم مقامه، و لا يكاد يستعمل إلّا مضافا منصوبا بفعل مضمر كمعاذ اللّه، و هو هنا مضاف إلى المفعول، دون الفاعل، و يضاف إلى الضّمائر الثلاثة و إلى الظّاهر، و يستعمل مقطوعا للتّعجّب، تقول العرب: سبحان من كذا إذا تعجّبوا منه، و منه قول الأعشى «2»:

أقول لمّا جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر قال الجوهري: و انّما لم ينوّن لأنّه معرفة عندهم و فيه شبه التأنيث «3».

و المراد به في المقام الاشعار بتنزيهه

تعالى على ما مرّ أو اظهارهم التّعجب

__________________________________________________

(1) الصافّات: 180.

(2) هو عامر بن الحارث الباهلي، شاعر جاهلي و أشهر شعره «رأيته في رثاء أخيه لأمّه: المنتشر ابن وهب أوردها البغدادي برمّتها في خزانة الأدب ج 1 ص 9.

(3) الصحاح ج 1 ص 372 في سبّح.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 140

عن سؤالهم عمّا لا يعلمونه، او معناه السّرعة إليه و الخفة في طاعته على ما صرّح به في «القاموس» أخذا له من السباحة للقوم، و منه السابحات للسفن، أو أرواح المؤمنين أو النجوم.

و «لا» لنفي الجنس تفيد بنفيه نفي جميع الإفراد، و الظّرف بمتعلّقه في موضع الرّفع على الخبريّة، و الموصول بدل من اسم «لا» و العائد محذوف، و «أنت» فصل فلا موضع له من الاعراب، أو مبتدأ خبره «العليم الحكيم» و الجملة خبر إنّ أو تأكيد للكاف كما في قولهم: مررت بك أنت.

تفسير الآية (33)

اشارة

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أخبرهم بالحقائق الكلّية الّتي لم تزل محجوبة عنهم، و المعارف اليقينيّة الّتي لم تنكشف لهم ممّا لديهم من العلوم الخاصّة بهم، و الطرق الموصلة لهم إلى معرفته كي يعرفوا جامعيّتك بين الصفات المختلفة و الأسماء المتباينة و قابليّتك للخلافة الكلّية و الموهبة الرّبّانيّة و ظهور أنوار الأنبياء و الأولياء سيّما نبيّنا خاتم النّبيّين و آله الطيّبين صلّى اللّه عليهم أجمعين من صلبك في هذا العالم الجسماني الّذي هو مجمع التّضاد و مطرح الاشعّة.

و قري ء بقلب الهمزة ياء و بحذفها، و الهاء فيهما مكسورة، و هما من الشواذ، بل و كذا ما يحكى عن ابن عامر «1» من تفرّده بكسر الهاء مع الهمزة كما عن بعض

__________________________________________________

(1) هو عبد اللّه بن عامر أبو

عمران الدمشقي أحد القرّاء السبعة، ولي قضاء دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك، مات سنة (118) ه الأعلام ج 4 ص 228.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 141

العرب، و قرأ الباقون بضمّ الماء معها بناء على أنّ الأصل في هاء الضمير أن تكون مضمومة، و انّما تكسر إذا وليها كسرة او ياء نحو بهم، و عليهم، و في خبر أسؤلة عبد اللّه بن سلام «1» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال: يا محمّد أخبرني كم خلق اللّه نبيّا من بني آدم؟ قال: يا بن سلام خلق اللّه مائة ألف نبي و اربعة و عشرين ألف نبيّ، قال:

صدقت يا محمّد أخبرني آدم كان نبيّا مرسلا؟ قال: نعم أ فما قرأت في التوراة قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، الآية قال صدقت يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله «2».

الأقوال في نبوّة آدم حين تعلّم الأسماء

أقول و ظاهر هذا الخبر انّه صلّى اللّه عليه و آله كان يومئذ نبيّا مرسلا، و هو أحد الأقوال في المسألة، و به قالت المعتزلة نظرا إلى أنّ ما ظهر من آدم من علمه معجزة دالّة على نبوّته لكونه خارقا للعادة، و إذا ثبت كونه معجزا ثبت كونه رسولا في ذلك الوقت، و أجيب بانّا لا نسلّم كونه خارقا لأنّ حصول العلم باللّغة لمن علّمه اللّه و عدم حصوله لمن لا يعلّمه اللّه ليس بخارق للعادة و الاولى أن يقال بعد تسليم ذلك انّ اظهار الخارق إنّما يكون دليلا على النبوّة مع اقترانه بالدّعوى و التحدّي و هو غير واضح في المقام.

و ثاني الأقوال كونه مرسلا إلى حوّاء خاصة يومئذ ثمّ على ولده بعد خروجه

__________________________________________________

(1) هو عبد اللّه بن سلام بن الحارث

الاسرايلي أبو يوسف- صحابي أسلم عند قدوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة و كان اسمه الحصين، فسمّاه النبي صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه مات سنة (43) ه. الأعلام ج 4 ص 223.

(2) البحار ج 57 ص 242.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 142

من الجنّة و تجددهم، و ذلك لكونهم من أفراد نوعه و لأنّهم هم المحتاجون في معاشهم و عبادتهم إلى تبليغه، و امّا اشتراك حواء معه في الخطاب بقوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ «1» حيث يدلّ على تلقّيها الوحي لا بواسطته فلا يقدح في رسالته إليها لأنّ ذلك من قبيل اشتراك النّبي مع المؤمنين في الخطابات العامة كقوله:

أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ*.

و فيه بعد الغضّ عمّا في الجواب من المناقشة انّه يبقى اصل القول دعوى بلا دليل، و النّبوي المتقدّم مع ضعفه معارض بأقوى منه سندا و عددا و دلالة على ما يأتي، و اطلاق ما دلّ على نبوّته عليه السّلام لا ينهض حجّه على إثباتها يومئذ للانصراف.

و ثالثها: القطع بأنّه عليه السّلام لم يكن في ذلك الوقت نبيّا لقوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ «2» الدّال على أنّه تعالى إنّما اجتباه بعد الزّلة فقبل الزّلة لم يكن مجتبى فلم يكن رسولا لأنّ الاجتباء و الرّسالة متلازمان، فإنّ الاجتباء هو التّخصيص بأنواع التشريعات و كلّ من جعله اللّه رسولا فقد خصّه بذلك لقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «3» و لأنّه لو كان نبيّا في ذلك الزمان لكانت قد صدرت المعصية بعد النبوة، و ذلك غير جايز فوجب أن لا يكون نبيّا في ذلك الزمان، و الملازمة بيّنة بعد القول بكون تلك الزّلة من الكبائر، و لأنّه لو كان رسولا

لكان إمّا مبعوثا إلى حوّاء و هو باطل، لأنّها عرفت التكليف لا بواسطته أو إلى غيرها من الجنّ و الملائكة، و من البيّن أنّه ما كان في السّماء أحد من الجنّ، و أمّا الملائكة فهم أفضل من البشر و لا

__________________________________________________

(1) البقرة: 35.

(2) طه: 122.

(3) الانعام: 124.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 143

يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف.

و هذه الوجوه بمكان من الضّعف و القصور، و أمّا حكاية الاجتباء فلانّ المراد به على ما ذكره المفسّرون هو الحمل على التّوبة و التّوفيق له، كما في قوله في صاحب الحوت فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ «1» و الاجتباء يكون قبل النبوّة كما في غير الأنبياء و بعدها كما في قوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ «2».

و أمّا الثّاني فهو واضح الفساد بناء على ما أجمعنا عليه من عدم صدور المعصية من الأنبياء قبل النبوة و بعدها.

و امّا الثالث فقد سمعت الجواب عنه مضافا إلى أنّ البشر عندنا أفضل من الملائكة، نعم يمكن الاستدلال لهذا القول بما رواه في «الأمالي» عن الرّضا عليه السّلام حيث سئل عن زلّة آدم و منافاتها لعصمته عليه السّلام فقال عليه السّلام: إنّ اللّه خلق آدم حجّة في ارضه و خليفة في بلاده و لم يخلقه للجنّة و كانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتم مقادير أمر اللّه تعالى فلمّا أهبط إلى الأرض و جعل حجّة و خليفة عصم بقوله عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «3». «4» و في العيون عنه عليه السّلام في خبر يأتي في كيفيّة وسوسة إبليس و صدور

الزّلة منه

__________________________________________________

(1) القلم: 50.

(2) آل عمران: 179.

(3) آل عمران: 33.

(4) بحار الأنوار: ج 11 ص 72.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 144

قال عليه السّلام: و كان ذلك من آدم قبل النبوّة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النّار و انّما كان من الصغائر الموهوبة الّتي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلمّا اجتباه اللّه و جعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة قال اللّه عزّ و جلّ: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «1» و قال عزّ و جلّ:

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ الآية «2».

أقول: و يظهر من الخبرين صحّة الاستدلال بالآيتين ايضا إلّا أنّ الظاهر ورودهما مورد التقيّة لاشتمالهما على ما علم فساده من ضرورة مذهب الاماميّة من جواز ارتكاب الذّنب قبل النبوّة، اللّهمّ إلّا أن يؤوّل بترك الأولى، أو يقال: إنّ رفع اليد عن بعض الخبر لتقيّة او غيرها لا يوجب رفع اليد عن غيره، و لذا قال الاصوليون: انّه كالعام المخصّص حجّة فيما بقي منه بعد التخصيص.

و احتمال أنّ المراد بما في الخبرين كونه حجّة في الأرض بعد التوبة فلا ينافي كونه حجّة في السّماء أو على الملائكة قبل الهبوط، مدفوع، لمخالفته لظاهر الخبرين سيّما الثّاني.

و في تفسير الامام عليه السّلام قال اللّه عزّ و جلّ: يا آدم أنبئ هؤلاء الملائكة بأسمائهم اسماء الأنبياء و الأئمّة قال عليه السّلام: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فعرفوها أخذ عليهم لهم العهد و الميثاق بالإيمان بهم و التفضيل لهم على أنفسهم قال اللّه تبارك و تعالى عند ذلك: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، سرّهما وَ

أَعْلَمُ ما

__________________________________________________

(1) طه: 121- 122.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 78 عن العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 145

تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ و ما كان يعتقده إبليس من الإباء على آدم إن أمر بطاعته و إهلاكه إن سلّط عليه، و من اعتقادكم انّه لا احد ياتي بعدكم إلّا و أنتم أفضل منه، بل محمّد و آله الطيّبون أفضل منكم الّذين انبأكم آدم بأسمائهم «1».

و فيه تفصيل و استحضار لقوله: أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ و تنبيه على انّه هو العالم بأسرار الملك و الملكوت ممّا خفي عليهم من غيوب السموات و الأرض او ظهر لهم من أحوالهم الظّاهرة و الباطنة، و قيل: ما تبدون من نسبة الإفساد و السّفك و ما تكتمون من استبطانكم انكم الاحقّاء بالخلافة أو ما تبدون من الطّاعة و ما تكتمون من اسرار إبليس المعصية، و لا يقدح فيه اختصاص الخطاب بالملائكة الّذين ليس منهم إبليس لأنّه لما عمّهم التكليف جاز أن يذكر في جملتهم مع انّه كان يرى للملائكة انّه منهم، و كان ذلك معتقد كثير من الملائكة على ما يأتي.

قال في «المجمع»: و قد رويت روايات تدلّ عليه «2» و الاولى الحمل على العموم الشامل لجميع ما مرّ و غيره حتّى ما قيل: من انّ اللّه تعالى لما خلق أدم مرّت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الرّوح و لم تكن رأت مثله فقالوا لن يخلق اللّه تعالى خلقا إلّا كنّا أكرم منه و أفضل.

و روى العيّاشي عن الصادق عليه السّلام قال: لمّا أن خلق اللّه آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنّا نظنّ انّ اللّه تعالى خلق خلقا أكرم عليه منّا

فنحن جيرانه، و نحن أقرب خلقه إليه فقال اللّه الم أقل لكم إنّي أعلم ما

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 73.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 146

تبدون و ما تكتمون فيما أبدوا من أمر بني الجان و كتموا ما في أنفسهم فلاذت الملائكة الّذين قالوا ما قالوا بالعرش «1».

و في خبر آخر عنه عليه السّلام انّ الملائكة منّوا على اللّه بعبادتهم ايّاه فأعرض عنهم و انّهم قالوا في سجودهم في أنفسهم ما كنّا نظنّ أن يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منّا نحن خزّان اللّه و جيرانه و أقرب الخلق إليه فلمّا رفعوا رؤوسهم قال اللّه: و أعلم ما تبدون من ردّكم عليّ و ما كنتم تكتمون من ظنكم انّي لا اخلق خلقا أكرم عليّ منكم فلما علمت الملائكة انّها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش و انّما كانت عصابة من الملائكة و لم تكن جميعهم «2».

أسئلة و أجوبة

ثمّ انّه ربما يورد في المقام وجوه من السؤال منها: أنّ آدم على نبيّنا و آله و عليه السّلام انّما علّم الأسماء بتعليم اللّه سبحانه، و الملائكة ايضا كانوا قائلين لذلك، و لذلك أنبأهم آدم بما جهلوه من تلك الأسماء، فهلّا علّمهم اللّه تعالى اوّلا ثمّ أمرهم بتعليم آدم عليه السّلام، و الرّد إلى حكمته البالغة و ان خفيت المصلحة علينا مشترك بينه و بين ما أخبرهم به أولا من خلق آدم و اختصاصه بالخلافة فلم يظهر من هذا التّفصيل مصلحة اخرى غير الرّد إلى الحكمة الّذي يقتضيه الايمان بالغيب.

و توهّم ان الملائكة لم يكونوا مستعدّين لأخذ تلك العلوم بلا واسطة بل إنّما

__________________________________________________

(1) البحار: ج 11 ص 148 عن تفسير العياشي.

(2) بحار الأنوار: ج 99 ص 205 ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 147

علموها بواسطة آدم عليه السّلام و هو المراد بالفضيلة مدفوع بأنّ الملائكة هم الرسل إلى الأنبياء و هم الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا فهم الوسائط في العلوم الإلهية الواصلة إلى البشر.

و الجواب انّه قد مرّت الإشارة إلى أنّ هذا التعليم كان تكوينيّا مختصا بآدم دون الملائكة الّذين ليس في طبيعتهم و جبلّتهم خلط و تركيب بل هم وحدانيّة الصّفة فردانيّة القوّة لا يفعل كلّ صنف منهم إلّا فعلا واحدا و ما منهم إلّا لهم مقام معلوم، فإنّى لهم الاحاطة بجميع العوالم و العلوم، فإنّ مثالهم مثال القوى البسيطة كالحواس حيث انّ البصر لا يزاحم السمع في مدركاته و هي الأصوات و لا السمع البصر في المرئيّات و لا هما يزاحمان الشّم و لا الذّوق و لا شي ء منهما يزاحم شيئا من الأوّلين و أمّا آدم فكان صفوة العالم و قد خلقه اللّه تعالى من أجزاء مختلفة و قوى متباينة حتّى استعدّ بذلك لإدراك انواع المدركات من المحسوسات و المعقولات و التمييز بينها و الحكم عليها بما يليق بها و التوسط في الفيوض الواصلة إليها و العبور عنها جميعا إلى مركزه الاصلي و عالمه الكلّي فصلح بذلك لتحمّل أعباء الخلافة في جميع النشآت و العوالم فجعله اللّه مستودعا لأنوار علمه و حكمته و معرفته و أودع فيه أنوار النّبي محمد و اهل بيته الطّاهرين و غيرهم من الأنبياء و المرسلين صلى اللّه عليهم أجمعين، و لذا كان آدم مخصوصا بمعرفة الأسماء كلّها و الملائكة لا علم لهم إلّا بما علّمهم ربّهم من خصوصيّات جهات كينوناتهم، ثمّ ان اللّه سبحانه قد نبّه على

ما أراد التنبيه عليه من شرف آدم و فضله عليهم بان علّمه اوّلا بلا واسطة احد منهم ثمّ أمرهم بالرّجوع إليه في اقتباس العلوم و اقتناص المعارف فله الفضل عليهم من

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 148

حيث التقدّم في المعرفة و تعليمه لهم و كون علمه الّذي هو أشرف الفيوض الالهيّة و المنح الرّبانيّة مفاضا عليهم بلا واسطة أصلا و علومهم متأخّرا مع الواسطة، فنبّه بذلك على عدم تأهّلهم لأخذ تلك العلوم إلّا بواسطته عليه السّلام، ثمّ انّه يمكن أن يكون المراد هو التّنبيه على تفرّده بعلم الغيوب و احاطته بجهات المصالح و الحكم و ذلك انّه أمرهم بالاخبار عن الأسماء الّتي لا يعرفونها كي يعترفوا بالعجز و يقرّوا بقصورهم عن نيل معرفتها فينبّههم على انّهم إذا لم يعرفوا ذلك و لم يعلموا باطن ما شاهدوا فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد، و من أن يحيطوا علما بمصالح جعل الخليقة و اسرار الخليقة أعجز.

و على هذا فمعظم المقصود هو التنبيه على تفرّده بعلم المصالح، و انّه يجب على كافّة العبيد الإذعان و التسليم لأمره، و ان استفيد منه ايضا و لو على جهة الاستتباع شرافة آدم و فضله عليهم.

و منها: انّه تعالى كيف أمر الملائكة أن يخبروا بما لا يعلمون مع انّ من شرايط التكليف القدرة على الامتثال و من البيّن انتفاؤها في المقام.

فان قلت: إنّ الممتنع هو التكليف المنجّز لاستحالة الطلب حينئذ و قبح التكليف بما لا يطاق، و أمّا المشروط فلا بأس به ما لم يتنجّز التكليف، و انّما القدرة شرط التّنجيز، و هو في المقام مشروط بكونهم صادقين فيما ادّعوه، و حيث لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق المشروط.

قلت:

لم يظهر وجه لارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط الّذي هو صدقهم، و ما المراد بهذا الصدق المنتفي في حقّهم؟ و ما الّذي ادّعت الملائكة حتّى خوطبوا بهذا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 149

الخطاب؟

و الجواب انّ الشرط هو علمهم بما سئلوا عنه فالمراد بالصدق صدقهم فيما ادّعوه من العلم بالصّراحة او بالالتزام حسبما مرّ أو صدقهم في الخبر الّذي كلّفوا بالاخبار عنه و ذلك بعلمهم بالصدق، و لا يكون إلّا بالعلم بالمخبر عنه فكأنّه قال لهم: أخبروا بذلك إن علمتموه و متى رجعوا إلى نفوسهم فلم يعلموا فلا تكليف عليهم، و هذا كما يقول القائل لغيره: أخبرني بذلك ان كنت تعلمه، أو ان كنت تعلم انّك صادق فيما تخبر به عنه، و بالجملة فالامر مشروط بالعلم المنتفي في حقّهم فلا تكليف، و بهذا قد ظهر المراد بالصدق و ارتباط الأمر بالانباء به.

و أمّا فائدة الأمر حينئذ على وجه الاشتراط مع علمه سبحانه بانّهم لا يتمكّنون من ذلك لفقد علمهم به فالوجه فيها هو أن يكشف بإقرارهم على أنفسهم بالجهل و اعترافهم بعدم تمكنهم من الاخبار بالأسماء ما أراد اللّه سبحانه بيانه من استتاره بعلم الغيب و انفراده بالاطّلاع على وجوه المصالح في الدّين.

و قد أجاب السيّد المرتضى رضى اللّه عنه عن اصل الأشكال بوجه أخر و هو انّ الأمر و ان كان أمرا بصورته و ظاهره إلّا أنّه ليس بأمر في الحقيقة بل المراد به التقرير و التنبيه على مكان الحجّة قال: و تلخيصه انّ اللّه تعالى لمّا قال للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ فقال لهم: إِنِّي أَعْلَمُ

ما لا تَعْلَمُونَ أي انّي مطلع من مصالحكم و ما هو انفع لكم في دينكم على ما لا تطّلعون عليه، ثمّ أراد التّنبيه على أنّه لا يمتنع ان يكون غير الملائكة مع انّها تسبّح و تقدّس و تطيع و لا تعصي أولى

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 150

بالاستخلاف في الأرض، و ان كان في ذرّيته من يفسد فيها و يسفك الدّماء، فعلّم آدم عليه السّلام اسماء جميع الأجناس أو أكثرها و قيل: اسماء النّبي محمّد و الأئمّة من ولده صلى اللّه عليهم أجمعين و فيه أحاديث مرويّة، ثمّ قال للملائكة: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مقرّرا لهم و منبّها على ما ذكرناه و دالا على اختصاص آدم بما لم يخصّوا به، فلمّا أجابوه بالاعتراف و التسليم إليه علم الغيب الّذي لا يعلمونه فقال تعالى لهم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ منبّها على أنّه تعالى هو المنفرد بعلم المصالح في الدّين، و انّ الواجب على كلّ مكلّف أن يسلّم لأمره، و يعلم أنّه لا يختار لعباده إلّا ما هو الأصلح لهم في دينهم علموا وجه ذلك أم جهلوه، قال: و على هذا الجواب يكون قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ محمولا على كونهم صادقين في العلم بوجه المصلحة في نصب الخليفة أو في ظنّهم انّهم يقومون بما يقوم به هذا الخليفة و يكلون له فلو لا أنّ الأمر على ما ذكرناه و أن القول لا يقتضي التكليف لم يكن لقوله تعالى بعد اعترافهم و إقرارهم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

معنى لأنّ التكليف الأوّل لا يتغيّر عن حاله بان يخبرهم آدم عليه السّلام بالأسماء و لا يكون قوله: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إلى آخر الآية إلّا مطابقا لما ذكرناه من المعنى دون معنى التكليف فكأنّه قال إذا كنتم لا تعلمون هذه الأسماء فأنتم عن علم الغيب أعجز و بأن تسلّموا الأمر لمن يعلمه و يدبّر أمركم بحسبه اولى «1».

__________________________________________________

(1) الأمالى للسيّد المرتضى: ج 2 ص 69- 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 151

أقول: و مرجعه إلى كون الأمر امتحانيا محضا غير مشتمل على التكليف أصلا و لو في صورة الاشتراط، و الفرق واضح بينه و بين الأمر المشروط و لو مع علم الآمر و المأمور بانتفاء الشرط و ذلك لأن مطلوبيّة الفعل و محبوبيّته حاصل في الأمر المشروط على فرض حصول الشرط، و ان كان عالما بانتفائه بخلاف الأمر التوطيني الّذي هو بمجرّد الامتحان او غيره من المصالح الخارجة الّتي لا تعلّق لها بالمأمور به، بل المقصود حاصل بنفس الأمر.

فان قلت: إنّه لا سبيل في المقام إلى شي ء من الوجهين لعلم كلّ من الآمر و المأمور بانتفاء الشرط بالنّسبة إلى جميع المكلّفين في جميع أزمنة الامتثال فيلغوا الاشتراط و ينتفي فائدة الامتحان و الابتلاء على أنّ السيّد رضى اللّه عنه و ان جوّز الوجهين في المقام إلّا أنّ مذهبه في الأصول على خلاف ذلك فانّه قد صرّح بانّ الشروط إنّما يحسن فيمن لا يعلم العواقب و لا طريق له إلى علمها، فأمّا العالم بالعواقب و بأحوال المكلّف فلا يجوز أن يأمره بشرط إلى أخر ما ذكره رحمه اللّه فكيف التوفيق.

قلت: التّحقيق على ما قرّر في محلّه هو جواز الأمر المشروط مع علم

الآمر و المأمور بانتفاء الشرط إذا كان هناك فائدة للتّعليق، و لا وجه للقول بعدم الجواز حينئذ، إذ قصارى ما يستدلّ به لذلك بعد وضوح عدم كونه تكليفا بالمحال لقضيّة الاشتراط و انتفاء الموضوع أنّ فعله عبث قبيح فيستحيل صدوره من الحكيم، إذ المفروض اتّحاد الأحوال و عدم حصول القدرة على الشرط و علم المأمور بذلك فلا يتأتّى منه التّوطين و العزم على الفعل مضافا إلى أنّ الأمر المشروط لا بدّ فيه من اعتبار الطّلب و تعلّقه بالفعل و لو معلّقا على الشرط و هو محال على الحكيم العالم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 152

بالحال، ضرورة انّ طلب المحال محال و الجواب:

أنّ مدار الجواز على حصول الفائدة الّتي بها يخرج الفعل عن العبث، و من البيّن انّ الفائدة غير منحصرة في التوطين، بل ربما يكون المقصود اقرار المخاطب بالعجز و القصور كما في المقام، و هو غرض صحيح يتعلّق به أمور مقصودة، و من هنا يتّجه ان يقال إنّه و ان نسب إلى أصحابنا القول بعدم جواز التعليق من العالم بالنسبة إلى العالم إلّا أنّ كلامهم مقصور على ما انتفت فيه الفائدة كما ينادى به دليلهم، و امّا مع تحقّقها فمذهبهم فيه هو الجواز، فالنّزاع معهم صغروي في وجود الفائدة و عدمها لا كبروي في الجواز على فرضها، و عليه ينزل كلام السيّد أيضا في المسألة الأصوليّة فيرتفع التنافي بين الكلامين على أنّ كلامه في المقام لبيان الجواب عن الأشكال و لو على مذاق غيره، و قد ظهر ممّا قرّرناه جواز تعلّق الأمر على كلّ من الوجهين بلا فرق بين تعلّق القصد على وجه التّعليق و عدمه، بل قد سمعت فيما مرّ انّه يحتمل

أن يكون الأمر مطلقا بسبب تحقّق الشّرط و هو صدقهم فيما نسبوه إلى ذرّيّة آدم أو أضافوه إلى أنفسهم على ما مرّت الإشارة إليها.

و نزيد في المقام وجها ثالثا و هو: أن يكون الشرط صدقهم في الخبر اي علمهم بما يخبرون عنه على ما حقّقناه سابقا فيكون الحاصل تنجّز التكليف بالاخبار بشرط القدرة الّتي إليها مرجع العلم أيضا، و من البيّن انّه مقدور لهم بواسطة التّعلّم من آدم و الرّجوع إليه، و لذا أمر سبحانه آدم بتعليمهم تحقيقا للاستطاعة و ازاحة للعلّة و ابانة للفضيلة، و هذا جواب أخر عن اصل الأشكال و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 153

و منها ما أورده السيّد رضى اللّه قال: و لم نجد أحدا ممّن تكلّم في تفسير القرآن و لا في متشابهه و مشكله تعرّض له و هو من مهم ما يسأل عنه، و ذلك أن يقال من اين علمت الملائكة لما خبّرها آدم عليه السّلام بتلك الأسماء صحة قوله و مطابقة الأسماء للمسمّيات، و هي لم تكن عالمة بذلك من قبل، إذ لو كانت الملائكة عالمة بالأسماء لأخبرت بالأسماء و لم تعترف بفقد العلم، و الكلام يقتضي انّهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحّتها و مطابقتها للمسمّيات و لو لا ذلك لم يكن لقوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ معنى و لا كانوا مستفيدين بذلك نبوته و تميزه و اختصاصه بما ليس لهم إذ كلّ ذلك إنّما يتمّ مع العلم دون غيره ثمّ أجاب عنه: بأنّه غير ممتنع من أن تكون الملائكة في الأوّل غير عارفين بتلك الأسماء فلمّا أنبأهم آدم عليه السّلام بها فعل اللّه تعالى لهم

في الحال العلم الضّروري بصحّتها و مطابقتها للمسمّيات إمّا عن طريق أو ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك تميزه و اختصاصه و ليس لأحد أن يقول: انّ ذلك يؤدّي إلى أنّهم علموا نبوّته اضطرارا، و في هذا منافاة طريقة التكليف و ذلك انّه ليس في علمهم بصحّة ما أخبر به ضرورة ممّا يقتضي العلم بالنّبوة ضرورة، بل بعده درجات و مراتب لا بّد من الاستدلال عليها، و يجري هذا مجرى ان يخبر أحدنا نبي، بما فعل على سبيل التفصيل على وجه يخرق العادة، و هو و ان كان عالما بصدق خبره ضرورة لا بدّ له من الاستدلال فيما بعد على نبوّته، لأنّ علمه بصدق خبره ليس هو العلم بنبوّته لكنّه طريق يوصل إليها على ترتيب.

و وجه آخر و هو انّه لا يمتنع أن تكون للملائكة لغات مختلفة فكلّ قبيل منهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 154

يعرف اسماء الأجناس في لغة دون لغة غيره، الّا انّه يكون احاطة عالم واحد لأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة، فلمّا أراد اللّه تعالى التنبيه على نبوّة آدم عليه السّلام علّمه جميع تلك الأسماء فلمّا أخبرهم بها علم كلّ فريق مطابقة ما خبر به من الأسماء للغته، و هذا لا يحتاج فيه إلى الرّجوع إلى غيره و علم مطابقة ذلك لباقي اللّغات لخبر كلّ قبيل إذا كانوا كثيرة و خبروا بشي ء يجري هذا المجرى علم بخبرهم، فإذا أخبر كلّ قبيل صاحبه علم من ذلك في لغة غيره ما علمه في لغته.

و هذا الجواب يقتضي أن يكون قوله انبئوني بأسماء هؤلاء اي ليخبرني كلّ قبيل منكم بجميع هذه الأسماء.

و هذان الجوابان جميعا مبنيّان على أنّ آدم عليه السّلام لم يتقدّم

لهم العلم بنبوّته و انّ اخباره بالأسماء كان افتتاح معجزاته، لأنّه لو كان نبيّا قبل ذلك و كانوا قد علموا تقدّم ظهور معجزات على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين لأنّهم يعلمون إذا كانت الحال هذه مطابقة الأسماء للمسمّيات بعد أن يعلموا ذلك بقوله الّذي قد أمنوا به فيه غير الصّدق «1».

أقول و لعلّ الأولى من جميع ذلك هو العلم بصدقه بتصديق اللّه سبحانه له فيما أخبر به حيث قرّر ذلك بقوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.

و منها أنّه ما الفائدة في سبق الأعلام بخلق أدم و تسميته خليفة؟

و الجواب انّه نوع إبتلاء للملائكة و تمهيد لتمييز إبليس من جملتهم، ليتبين

__________________________________________________

(1) أمالي السيّد المرتضى ج 2 ص 75- 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 155

بذلك من يقصد الطاعة كالملائكة ممّن يضمر العداوة له و المخالفة لأمره سبحانه، كإبليس على ما يأتي تمام الكلام فيه نقلا عن الصدوق «1».

مضافا إلى ما فيه من إظهار شرف آدم و التّمهيد لبيان فضله على الملائكة، حيث إنّه تعالى نوّه باسمه و بشّر ملائكته بخلافته قبل أن يخلقه بسبعمائة عام على ما رواه الصّدوق في «الإكمال» و فيه أيضا صيانة للملائكة عن اعتراض الشبهة عليهم في وقت استخلاف آدم و الحجج من ذرّيته عليهم.

و أمّا ما يقال من انّ الغرض تعليم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها فهو بمكان من الوهن و السقوط، و كأنّهم أرادوا أن يستأنسوا بمثله لما وقع من الثّاني من الشورى في أمر الخلافة و هو كما ترى.

بقي الكلام في امور يستفاد من الآيات المتقدّمة ينبغي التنبيه عليها في فصول:

فضل الأنبياء على الملائكة

الفصل الأوّل: يستفاد من هذه الآيات و

غيرها تفضيل الأنبياء على الملائكة و قد طال التشاجر في هذه المسألة بين المسلمين، فالّذي عليه الإماميّة هو أنّ الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام أفضل من جميع الملائكة العلويّة و السّفلية، و وافقهم عليه اكثر الاشاعرة و اصحاب الحديث، و ربما يقال إنّ الخلاف في فضلهم على الملائكة العلويّة، و أمّا السّفلية فالأنبياء أفضل منهم بالاتّفاق كما أنّ عامة البشر من المؤمنين

__________________________________________________

(1) إكمال الدين: ج 1 ص 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 156

أيضا أفضل من عامة الملائكة عندهم، و المحكي عن المعتزلة و الفلاسفة و بعض الاشاعرة تفضيل الملائكة، ثمّ انّهم ربما عنونوا البحث بتفضيل البشر على الملائكة أو العكس، و ليس المراد بتفضيل كلّ فرد من أحدهما على جميع افراد الاخر، و لا التّطبيق بين افراد النوعين بتفضيل كلّ فرد على ما يقابله، بل المراد تفضيل الأنبياء و الأئمّة على الملائكة او تفضيل المعصومين من البشر، فيدخل فاطمة عليها السّلام و سائر الأوصياء أيضا على جميع الملائكة، و ان كانوا كلّهم معصومين من الصّغائر و الكبائر على ما أشرنا إليه، او تفضيل الجنس و لو باعتبار النوع الأشرف على الجنس، فلا ينافي ذلك تفضيل بعض الملائكة او كلّهم على بعض المؤمنين بل على الفسّاق و الكفّار، ثمّ المراد بالأفضل الأكثر ثوابا و الأرفع درجة، و الأقرب إلى اللّه تعالى منزلة الأكمل باعتبار العلم و العمل و سائر الكمالات.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحقّ ما ذهب إليه الاماميّة لوجوه، الأوّل: الإجماع القطعي الكاشف عن قول الإمام عليه السّلام و رضاه حيث انّ الطّائفة المحقّة كانوا قديما و حديثا متّفقين على تفضيل الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام على الملائكة من دون نكير منهم

في ذلك، حتّى انّهم كانوا معروفين بهذا المذهب يعرفه منهم المخالفون لهم في المذهب كما يعرفون منهم القول بحلّية المتعة، و وجوب المسح على الرّجلين و نفي العول و التّعصيب، فلا يبعد دعوى ضرورة المذهب عليه بل هو كذلك.

و لذا قال شيخنا الصدوق في «العقائد»: اعتقادنا في الأنبياء و الحجج و الرّسل عليهم السّلام أنّهم أفضل من الملائكة «1» و قال المفيد: اتّفقت الاماميّة على أنّ أنبياء

__________________________________________________

(1) البحار ج 57 ص 286.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 157

اللّه و رسله من البشر أفضل من الملائكة و وافقهم على ذلك اصحاب الحديث و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، و زعم الجمهور منهم انّ الملائكة أفضل من الأنبياء و الرسل و قال نفر منهم سوى من ذكرناه بالوقف في تفضيل أحد الفريقين على الاخر «1» إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه.

و قال السيّد المرتضى رضى اللّه عنه: المعتمد في القطع على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة على اجماع الشيعة الاماميّة على ذلك لأنّهم لا يختلفون في هذا بل يزيدون عليه و يذهبون إلى أنّ الأئمّة أفضل من الملائكة أجمعين و إجماعهم حجّة لأنّ المعصوم في جملتهم و قد بيّنا في مواضع من كتبنا كيفيّة الاستدلال بهذه الطّريقة و رتّبناه و أجبنا عن كلّ سؤال يسأل عنه فيها و بيّنا كيف الطريق مع غيبة الامام إلى العلم بمذاهبه و أقواله و شرحنا ذلك فلا معنى للتّشاغل به هاهنا «2».

و ممّن ادّعى عليه اتّفاق الاماميّة العلّامة الحليّ في «أنوار الملكوت» «3» و العلامة المجلسي في مواضع من البحار و الرازي «4» و الدّواني و غيرهم من علماء الفريقين فلا ينبغي التّامل في تحقّق الإجماع عليه.

الثّاني: الآيات الكثيرة الدّالة

عليه بظواهرها الّتي هي الحجّة حتّى في غير الفروع العلميّة الّذي لا يجري فيه دليل الانسداد على بعض الوجوه، و ذلك لما حقّقناه في المقدّمات من حجّية ظواهر الكتاب و هي كثيرة.

__________________________________________________

(1) البحار ج 57 ص 285 عن عقائد الصدوق.

(2) البحار: ج 57 ص 287- عن الغرر و الدرر للسيّد المرتضى ج 2 ص 333.

(3) البحار ج 57 ص 286 عن أنوار الملكوت.

(4) مفاتيح الغيب للرازى ج 2 ص 215.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 158

منها: قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، القصّة بتمامها الدّالة عليه بوجوه من الدّلالة حيث انّه سبحانه جعل آدم خليفة له، و المراد منه خلافة الولاية في التبليغ او في التكوين، او في وجوب الطاعة و الانقياد كما يومي إليه قصّة داود و هارون و غيرهما، و من البيّن أنّ أعظم النّاس منصبا عند الملك من كان قائما مقامه، في كلّ من التبليغ و الولاية و التصرف و وجوب الطّاعة حتّى سمّاه خليفة له، ثمّ انّه تعالى نبّه على فضله و شرفه بتعليمه الأسماء و تخصيصه بعلمها دونهم، و جعله معلّما للملائكة فكان عنده من العلوم الفاضلة ما لم يكن عندهم و قد قال اللّه سبحانه: وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «1»، و هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «2»، ثمّ انّه تعالى أمرهم بالسجود لآدم تكريما و تعظيما له، و من البيّن انّ السجود نهاية التّواضع و تكليف الأشرف الأفضل بنهاية التّواضع للأدون مستقبح عقلا.

فان قلت: إنّ قضيّة خلافته كونه أشرف من كلّ من في الأرض، و أين هذا من الّدلالة على فضله على جميع الملائكة حتّى

من في السموات؟

و أمّا علمه بالأسماء فهو و ان كان عالما بها و هم لم يعلموها لكن لعلّهم كانوا عالمين بعلوم اخرى لم يكن آدم عالما بها.

و امّا الأمر بالسجود فلعلّ آدم قبلة لهم في عبادتهم له سبحانه على أنّ الحكمة قد تقتضي تواضع الأشرف للشريف لبعض المصالح الّتي من جملتها

__________________________________________________

(1) المجادلة: 11.

(2) الزمر: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 159

الامتحان و كسر سورة العجب و الأنانيّة، و اظهار نهاية الطّاعة و غيرها.

قلت: قضية عموم الجمع المحلّى شمول الملائكة للجميع و ظاهر اطلاق الخلافة كونها بالنّسبة إليهم جميعا، و لو بمعونة ما مرّت إليه الإشارة و تأتي الأخبار الدّالة عليه من أنّ المقصود من خلق آدم ظهور أنوار محمّد، و آله الطيّبين الّذين لهم الخلافة الكليّة على جميع ملائكة الأرضين و السموات و الحجب و السّرادقات و حملة العرش و غيرهم، و امّا التشكيك في أعلميّته باحتمال انّ لهم علوما آخر فغريب جدّا فكيف يندفع المحقّق بالمحتمل بل لعلّه كالرّد عليه سبحانه حيث انّه سبحانه و تعالى جعل تعليمه لآدم و جعله معلّما لهم في معرفة الأسماء الالهيّة الّتي هي أشرف العلوم دليلا على فضله عليهم، و تنبيها لهم على وجوب رجوعهم إليه، و تحقيقا لحسن ما اختاره من إيثاره عليهم.

و اغرب من الجميع أنّ الرازي بعد ما أجاب عن الحجّة بما سمعت فساده قال: و الّذي يحقّق هذا أنا توافقنا أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله أفضل من آدم عليه السّلام مع أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله لم يكن عالما بهذه اللّغات بأسرها، و أيضا فانّ إبليس كان عالما بان قرب الشجرة ممّا يوجب خروج آدم عن الجنّة و

آدم لم يكن كذلك، و لم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم، و الهدهد قال لسليمان أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ «1»، و لم يلزم ان يكون أفضل من سليمان «2».

و هو على ما ترى من الضعف و القصور، و لكن من لم يجعل اللّه له نورا فماله

__________________________________________________

(1) النمل: 22.

(2) مفاتيح الغيب للرازي: ج 2 ص 235.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 160

من نور، و أمّا احتمال كون السجود له على وجه القبلة و الجهة او مجرّد الامتحان من دون التكريم و التعظيم أصلا فيدفعه انّه لو كان كذلك لم يجز أنفة إبليس من ذلك بل قوله: أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ «1» و قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* «2» و غير ذلك من مساق ما ورد في بيان هذه القصّة يدلّ على أنّ امتناع إبليس عن السجود انّما هو لاعتقاد التّفضيل به و التكرمة له، فلو لم يكن الأمر على ذلك لوجب على اللّه إعلامه بانّه ما أمره بالسجود على وجه تعظيمه له و لا تفضيله عليه، بل على الوجه الأخر الّذي لا حظّ للتفضيل فيه، و قضيّة اللّطف عدم جواز إغفاله مع كونه سبب معصية إبليس و ضلالته.

هذا مضافا إلى الاخبار الكثيرة الدّالة على كونه على وجه التعظيم و التكريم لآدم حسبما تأتي إلى جملة منها الإشارة، ثمّ انّه بعد ما ثبت تفضيل آدم على جميع الملائكة بمقتضى ما تضمّنته هذه القصّة يثبت أيضا تفضيل سائر الأنبياء و المرسلين و الأئمّة الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين عليهم أيضا لإطلاق الخليفة عليهم على بعض الوجوه و لأفضليّة بعضهم كاولي العزم و غيرهم ايضا

على آدم، و لعدم القول بالفصل بين آدم و غيره من الأنبياء.

و لذا قال السيّد رضى اللّه عنه في الغرر و الدّرر انّه كلّ من قال إنّ آدم عليه السّلام أفضل من الملائكة ذهب إلى أنّ جميع الأنبياء أفضل من جميع الملائكة و لا أحد من الأمّة فصّل بين الأمرين «3».

__________________________________________________

(1) الإسراء: 62.

(2) الأعراف: 12.

(3) الغرر و الدرر: ج 2 ص 333.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 161

قلت و أمّا الأئمّة عليهم السّلام فاصحابنا مجمعون على تفضيلهم على كثير من الأنبياء، بل الحقّ المستفاد من الاخبار و غيرها انّهم أفضل من جميع الأنبياء سوى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله.

و منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «1»، و المراد بال ابراهيم و آل عمران إمّا الأنبياء منهم او المعصومون أو غيرهم بناء على اجرائه على إطلاقه او عمومه، و الثالث باطل بالإجماع لأنّ فيهم الفسّاق و الكفّار، فيتعيّن أحد الأوّلين و العالم يطلق على ما سوى اللّه تعالى و الجمع المحلى باللام يفيد العموم، فدلّت الآية على أفضليّة هؤلاء المذكورين على جميع العالمين و فيهم الملائكة و غيرهم، و تخصيص العالمين على فرضه في قوله خطابا لبني إسرائيل و انّي فضّلتكم على العالمين مع شموله لنبيّنا و آله و سائر اولي العزم صلى اللّه عليهم أجمعين، و في قوله خطابا لمريم و اصطفاك على نساء العالمين مع شمولها لفاطمة عليها السّلام ليس دليلا على التزامه في المقام أيضا بعد فقد الدّليل عليه مع انّه قد يفسّر العالمين فيهما على عالمي ذلك العصر و الزّمان فيندفع الأشكال عنهما و إن كان هذا

أيضا بنوع من التّخصيص، و امّا آية الاصطفاء فهي على عمومها للأصل، سلّمنا لكنّ الملائكة كانوا موجودين في اعصاره هؤلاء الأنبياء و في زمان نزول الآية.

و منها قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2»، و قضيّة العموم

__________________________________________________

(1) آل عمران: 33.

(2) الأنبياء: 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 162

كونه صلّى اللّه عليه و آله رحمة لجميع ما سوى اللّه من الملائكة، و هو كذلك حسبما دلّت عليه الأخبار الصّحيحة، و قضت به ضرورة المذهب من أنّه صلّى اللّه عليه و آله و أوصياؤه المعصومين هم الوسائط الكليّة لوصول الفيوض الالهيّة إلى أهل العالم، بل كينونات الملائكة إنّما كانت من أشعّة أنوارهم، فوجوده صلّى اللّه عليه و آله مظهر الرّحمة و تمام النعمة و مساق الآية كما ترى على حدّ ما ورد من في القدسيّات: «لولاك لما خلقت الأفلاك» «1». و اما ما يقال من ان كونه رحمة لهم لا يستلزم كونه أفضل منهم كما في قوله: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها «2»، و انّه لا يمتنع ان يكون هو صلّى اللّه عليه و اله رحمة لهم من وجه، و هم يكونون رحمة له من وجه.

ففيه انّ ظاهر الآية وساطته للرّحمة الكليّة، بل كونه نفس الرّحمة الالهيّة حسبما قرّرناه في تفسير البسملة و كون الأمطار من آثارها غير قادح بعد ظهور انّ لها مظاهر و آثار، و كونه صلّى اللّه عليه و آله رحمة لهم و لغيرهم معلوم من الآية و غيرها و أمّا عكسه فغير واضح.

و منها قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ إلى قوله: وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «3»، بناء على

كون الظرف صفة للكثير لا صلة له، و لو بمعونة الأخبار المفسّرة لها بأنّ المراد تفضيل بني آدم على سائر الخلق بلا فرق بين تفسير السائر بالباقي او بالجميع.

و منها قوله تعالى: وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 28.

(2) الروم: 50.

(3) الإسراء: 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 163

وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ «1».

و التّقريب فيه على ما مرّ، و التّخصيص بعالمي أعصارهم غير قادح في الدّلالة، و دعوى الظّهور أو الانصراف إلى العالمين من نوع البشر دون سائر الأنواع ممنوعة جدّا سيّما في العمومات الّتي من أقواها دلالة الجمع المحلّى.

الثالث: الاخبار الكثيرة الّتي لا يبعد دعوى تواترها الدّالة على المطلوب ففي «العيون» و «العلل» و «الإكمال» عن الرضا عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما خلق اللّه عزّ و جلّ خلقا أفضل منّي و لا أكرم عليه منّي قال عليّ عليه السّلام فقلت يا رسول اللّه فأنت أفضل أو جبرئيل؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله يا عليّ انّ اللّه تبارك و تعالى فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلني على جميع النّبيّين و المرسلين و الفضل بعدي لك يا عليّ و للائمّة من بعدك، و انّ الملائكة لخدّامنا و خدّام محبّينا الّذين يحملون العرش و من حوله يسبّحون بحمد ربّهم و يستغفرون للّذين أمنوا بولايتنا، يا علي

لو لا نحن ما خلق اللّه آدم و لا حوّاء و لا الجنّة و لا النّار و لا السّماء و لا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سبقناهم إلى معرفة ربّنا و تسبيحه و تهليله و تقديسه لأنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ و جلّ خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده و تحميده ثمّ خلق الملائكة فلمّا شاهدوا ما أنعم اللّه به علينا و أوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا: الحمد للّه لتعلم الملائكة ما يحق للّه تعالى ذكره علينا من الحمد

__________________________________________________

(1) الانعام: 84- 86.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 164

على نعمه، فقالت الملائكة: الحمد للّه، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد اللّه و تسبيحه و تحميده و تهليله و تمجيده، ثمّ انّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم فأودعنا صلبه و أمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا و إكراما، و كان سجودهم للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم إكراما و طاعة لكوننا في صلبه فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سجدوا لآدم كلّهم أجمعون، و انّه لما عرج بي إلى السّماء أذن جبرئيل مثنى مثنى و اقام مثنى مثنى، ثمّ قال لي: تقدّم يا محمد، فقلت له: يا جبرئيل أتقدّم عليك؟ فقال: نعم لأنّ اللّه تبارك فضّل أنبيائه على ملائكته أجمعين، و فضّلك خاصّة، فتقدّمت و صلّيت بهم و لا فخر «1»، الخبر بطوله.

و في «الإكمال» بالإسناد عن الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انا سيّد من خلق اللّه، و انا خير من جبرئيل و اسرافيل و حملة العرش و جميع الملائكة المقرّبين و أنبياء اللّه المرسلين «2».

و في ارشاد القلوب للدّيلمي عن أبي

ذرّ الغفاري قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول افتخر اسرافيل على جبرائيل فقال انا خير منك لأنّي صاحب الثمانية حملة العرش، و انا صاحب النفخة في الصّور و انا أقرب الملائكة إلى اللّه تعالى، قال جبرئيل: انا خير منك لأنّي أمين اللّه على وحيه و انا رسوله إلى الأنبياء و المرسلين و أنا صاحب الخسوف و القذوف و ما أهلك أمّة من الأمم إلّا على يديّ فاختصما إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه إليهما اسكتا فو عزّتي و جلالي لقد خلقت من هو خير منكما

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 139 عن العيون ص 145.

(2) إكمال الدين: ص 151 و عنه البحار ج 26 ص 342.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 165

قالا يا ربّ او تخلق خيرا منّا و نحن خلقنا من نور؟ قال اللّه تعالى: نعم و اوحى إلى حجب القدرة انكشفي فانكشفت فإذا على ساق العرش الأيمن مكتوب لا اله إلا اللّه محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين خير خلق اللّه فقال جبرئيل: يا ربّ فانّي أسألك بحقّهم إلّا جعلتني خادمهم قال اللّه تعالى قد جعلت فجبرائيل من اهل البيت و انّه لخادمنا «1».

و في البصائر و تفسير القمي عن الصّادق عليه السّلام: انّه ما من احد من الملائكة إلّا و يتقرّب كلّ يوم إلى اللّه تعالى بولايتنا أهل البيت «2»، الخبر.

و روى عن الصّفار و الكليني عن ابي جعفر عليه السّلام قال و اللّه انّ في السّماء لسبعين صنفا من الملائكة لو اجتمع أهل الأرض كلّهم على أن يحصوا عدد صنف منهم ما أحصوهم و انّهم ليدينون بولايتنا «3».

و في البحار نقلا عن كتاب

تفضيل أمير المؤمنين عليه السّلام بالإسناد عن ابن عباس قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لمّا أسري بي إلى السّماء ما مررت بملاء من الملائكة الّا سألتني عن عليّ بن ابي طالب حتّى ظننت انّ اسم علي بن ابي طالب في السموات أشهر من اسمي، فلمّا بلغت السّماء الرّابعة و نظرت إلى ملك الموت قال لي: يا محمد ما خلق اللّه خلقا إلّا و انا اقبض روحه إلّا أنت و عليّ، فانّ اللّه جلّ جلاله يقبض أرواحكما بقدرته و جزت تحت العرش فإذا أنا بعليّ بن ابي طالب عليه السّلام واقفا تحت العرش، فقلت: يا عليّ سبقتني؟ فقال جبرئيل: من هذا الّذي تكلّمه يا

__________________________________________________

(1) ارشاد القلوب: ص 214 و عنه البحار ج 26 ص 344.

(2) البصائر: ص 21 و تفسير القمي ص 583.

(3) بصائر الدرجات: ص 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 166

محمّد؟ فقلت هذا عليّ بن ابي طالب عليه السّلام فقال: يا محمّد ليس هذا عليّ بن ابي طالب، و لكنّه ملك من الملائكة خلقه اللّه تعالى على صورة عليّ بن ابي طالب عليه السّلام، فنحن الملائكة المقرّبون كلّما اشتقنا إلى وجه عليّ بن ابي طالب زرنا هذا الملك لكرامة عليّ بن ابي طالب عليه السّلام على اللّه سبحانه «1».

و فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله عليّ أفضل خلق اللّه غيري «2». الخبر.

و فيه انّه نظر النّبي صلّى اللّه عليه و آله إلى عليّ بن ابي طالب عليه السّلام فقال: خير الأوّلين و الآخرين من أهل السّموات و الأرضين هذا سيّد الصّديقين و سيّد الوصيّين «3».

الخبر و في القصص بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و

آله قال: لمّا خلق اللّه آدم و نفخ فيه من روحه التفت آدم يمنة العرش فإذا خمسة أشباح فقال يا ربّ: هل خلقت قبلي من البشر أحدا؟ قال: لا قال: فمن هؤلاء الّذين أرى اسمائهم؟ فقال: هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك، و لا خلقت الجنّة و لا النّار، و لا العرش و لا الكرسي، و لا السّماء و لا الأرض، و لا الملائكة و لا الجنّ و لا الانس، هؤلاء خمسة من شققت لهم اسما من أسمائي فأنا المحمود و هذا محمّد، و انا الأعلى و هذا عليّ، و انا الفاطر و هذه فاطمة و انا ذو الإحسان، و هذا الحسن، و انا المحسن و هذا الحسين، آليت بعزّتي انّه لا ياتيني أحد و في قلبه مثقال حبّة من خردل من بغض أحدهم إلّا أدخلته ناري، يا آدم هؤلاء صفوتي من خلقي بهم أنجي من أنجي، و بهم أهلك من

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 57 ص 303.

(2) البحار ج 57 ص 302.

(3) البحار: ج 57 ص 302.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 167

أهلك «1».

و في البحار نقلا عن كتاب تفضيل الأئمّة على الأنبياء للحسن بن سليمان قال ذكر السيّد حسن بن كبش في كتابه باسناده مرفوعا إلى عدّة من اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهم جابر بن عبد اللّه الانصاري و أبو سعيد الخدري و عبد الصّمد بن امية و عمرو بن أبي سلمة و غيرهم، قالوا: لما فتح النّبي صلّى اللّه عليه و آله مكّة أرسل رسله إلى كسرى و قيصر، يدعوهما إلى الإسلام أو الجزية و الّا آذنا بالحرب، و كتب ايضا إلى نصارى نجران

بمثل ذلك.

فلمّا أتتهم رسله صلّى اللّه عليه و آله فزعوا إلى بيعتهم «2» العظمى و كان قد حضرهم ابو حارثة أسقفهم الأوّل، و قد بلغ يومئذ مائة و عشرين سنة و كان يؤمن بالنّبي و المسيح عليهما السّلام و يكتم ذلك عن كفرة قومه، فقام على عصاه و خطبهم و وعظهم و الجائهم بعد مشاجرات كثيرة إلى إحضار الجامعة الكبرى الّتي ورثها شيث ففتح طرفها.

إلى أن قال: ثمّ أمرهم أبو حارثة أن يصيروا إلى صحيفة شيث الكبرى الّتي انتهى ميراثها إلى إدريس على نبيّنا و آله السّلام و كان كتابتها بالقلم السّرياني القديم، و هو الّذي كتب به من بعد نوح عليه السّلام ملوك الهياطلة المتماردة فافتضّ القوم الصّحيفة فأفضوا منها إلى هذا الرّسم، قالوا: أجتمع إلى إدريس عليه السّلام قومه و صحابته

__________________________________________________

(1) البحار: ج 27 ص 5 ح 10- عن القصص في ذيل الصفحة: هذا يعارض الروايات التي تدلّ على أنّ اللّه خلق قبل أبينا آدم أيضا آدم، و حمله على أوّل آدم خلق اللّه في الأرض بعيد، و الحديث كما ترى من ضروريات العامّة.

(2) البيعة: معبد النصارى و اليهود.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 168

و هم يومئذ في بيت عبادته من أرض كوفان فخبرهم بما اقتصّ عليهم قال: إنّ بني أبيكم آدم عليه السّلام لصلبه و بني بنيه و ذرّيته اجتمعوا فيما بينهم و قالوا اي الخلق عندكم أكرم على اللّه تعالى و ارفع لديه مكانا و اقرب منه منزلة فقال بعضهم: أبوكم آدم خلقه اللّه عزّ و جلّ بيده و أسجد له ملائكته و جعله الخليفة في ارضه و سخّر له جميع خلقه، و قال آخرون بل الملائكة الّذين

لم يعصوا اللّه عزّ و جل، و قال بعضهم: لا بل الأمين جبرئيل فانطلقوا إلى آدم عليه السّلام، فذكروا الّذي له قالوا و اختلفوا فيه، فقال: يا بنيّ انّي أخبركم بأكرم الخلق عند اللّه عزّ و جلّ جميعا ثمّ قال: إنّه و اللّه ما عدا أن نفخ فيّ الروح حتّى استويت جالسا، فبرق لي العرش العظيم فنظرت فإذا فيه: لا اله إلّا اللّه محمّد خيرة اللّه عزّ و جلّ ثمّ ذكر عدّة اسماء مقرونة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله.

قال آدم: ثمّ لم أر في السّماء موضع أديم او قال: صفيح منها إلّا و فيه مكتوب: لا اله إلّا اللّه، و ما من موضع مكتوب فيه لا اله إلّا اللّه إلّا و فيه مكتوب خلقا لا خطا محمّد رسول اللّه، و ما من موضع فيه مكتوب محمّد رسول اللّه إلّا و فيه مكتوب: عليّ خيرة اللّه، الحسن صفوة اللّه، و الحسين أمين اللّه عزّ و جل، و ذكر الأئمّة من اهل بيته عليهم السّلام واحدا بعد واحد إلى القائم بأمر اللّه عجّل اللّه فرجه.

قال آدم: فمحمّد صلّى اللّه عليه و آله من خطّ من أسماء اهل بيته أكرم الخلائق على اللّه قال فلمّا انتهى القوم إلى آخر ما في صحيفة إدريس قرءوا صحيفة ابراهيم عليه السّلام و فيها معنى ما تقدّم بعينه و انفضّوا «1».

و في القصص بالإسناد عن الصادق عليه السّلام قال: اجتمع ولد آدم عليه السّلام في بيت

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 310- 315.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 169

فتشاجروا فقال بعضهم: خير خلق اللّه أبونا آدم فقال بعضهم: الملائكة المقرّبون فقال بعضهم: حملة العرش إذ دخل عليهم هبة اللّه

فقال بعضهم: لقد جاءكم من يفرّج عنكم فسلّم ثمّ جلس فقال: في أيّ شي ء كنتم؟ قالوا كنّا نتفكّر في خير خلق اللّه فأخبروه فقال اصبروا قليلا حتّى ارجع إليكم، فاتى أباه فقال يا أبت إنّي دخلت على اخوتي و هم يتشاجرون في خير خلق اللّه فسألوني فلم يكن عندي ما أخبرهم، فقلت: اصبروا حتّى ارجع إليكم فقال آدم على نبيّنا و آله السّلام: يا بنيّ وقفت بين يدي اللّه عزّ و جلّ فنظرت إلى سطر على وجه العرش مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم محمّد و آل محمّد خير من برأه اللّه «1».

و في جامع الاخبار بالإسناد عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ اللّه خلقني و خلق عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة عليهم السّلام من نور فعصر ذلك النّور عصرة فخرج منه شيعتنا فسبّحنا فسبّحوا، و قدّسنا فقدّسوا، و هللنا فهلّلوا، و مجّدنا فمجّدوا، و وحّدنا فوحّدوا ثم خلق اللّه السموات و الأرضين و خلق الملائكة فمكثت الملائكة مائة عام لا تعرف تسبيحا و لا تقديسا و لا تمجيدا، فسبّحنا و سبّحت شيعتنا فسبّحت الملائكة لتسبيحنا، و قدّسنا فقدّست شيعتنا فقدّست الملائكة لتقديسنا، و مجدّنا فمجّدت شيعتنا فمجّدت الملائكة لتمجيدنا، و وحّدنا فوحّدت شيعتنا فوحّدت الملائكة لتوحيدنا، و كانت الملائكة لا تعرف تسبيحا و لا تقديسا من قبل تسبيحنا و تسبيح شيعتنا، فنحن الموحّدون حين لا موحّد غيرنا و حقيق على اللّه تعالى كما اختصّنا و اختصّ

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 282 ح 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 170

شيعتنا أن ينزلنا أعلى عليين، إنّ اللّه سبحانه و

تعالى اصطفانا و اصطفى شيعتنا من قبل أن تكون أجساما، فدعانا و أجبنا، فغفر لنا و لشيعتنا من قبل أن نستغفر اللّه تعالى «1».

و فيه دلالة على تفضيل شيعتهم على الملائكة من حيث سبق الخلقة و وساطة التعليم، و غير ذلك.

و عن كتاب المحتضر للحسن بن سليمان بالإسناد عن أمير المؤمنين قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي أنا سيّد الأنبياء، و أنت سيّد الأوصياء، و أنا و أنت من شجرة واحدة، و لولانا لم يخلق اللّه الجنّة و لا النّار، و لا الأنبياء و لا الملائكة، قال:

قلت: يا رسول اللّه فنحن أفضل أم الملائكة؟ فقال: يا عليّ نحن أفضل، و نحن خير خليقة اللّه على بسيط الأرض و خيرة اللّه على ملائكته المقرّبين، و كيف لا نكون خيرا منهم و قد سبقناهم إلى معرفة اللّه و توحيده، فبنا عرفوا اللّه، و بنا عبدوا اللّه، و بنا اهتدوا السّبيل إلى معرفة اللّه «2».

و فيه عن المفضّل قال: قلت لمولانا الصادق عليه السّلام ما كنتم قبل أن يخلق اللّه السماوات و الأرض؟ قال: كنّا أنوارا نسبّح اللّه تعالى و نقدّسه حتّى خلق اللّه الملائكة فقال لهم اللّه عزّ و جلّ سبّحوا، فقالت اي ربّنا لا علم لنا، فقال لنا: سبّحوا فسبّحنا، فسبحّت الملائكة بتسبيحنا ألا إنّا خلقنا أنوارا و خلقت شيعتنا من شعاع ذلك النّور، فلذلك سمّيت شيعة، فإذا كان يوم القيمة التحقت السفلى بالعليا، ثمّ

__________________________________________________

(1) جامع الأخبار: ص 9 و عنه البحار ج 26 ص 242- 244.

(2) بحار الأنوار: ج 26 ص 349- 350.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 171

قرّب ما بين إصبعيه «1».

و في الاحتجاج عن موسى بن

جعفر عن آبائه عليهم السّلام انّ يهوديّا سأل أمير المؤمنين عن معجزة النّبي صلّى اللّه عليه و آله في مقابلة معجزات الأنبياء فقال: هذا آدم أسجد اللّه له ملائكته فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال عليّ عليه السّلام لقد كان ذلك، و لكن اسجد اللّه لآدم ملائكته فان سجودهم لم يكن سجود طاعة، انّهم عبدوا آدم من دون اللّه عزّ و جل، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة، و رحمة من اللّه له و محمّد عليه السّلام أعطي ما هو أفضل من هذا إنّ اللّه جلّ و علا صلّى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها، و تعبّد المؤمنون بالصلوة عليه، فهذه زيادة له يا يهودي «2».

و في تفسير العيّاشي و غيره عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام قال لمّا أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حضرت الصلاة فاذّن و اقام جبرئيل فقال يا محمّد تقدّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تقدّم يا جبرئيل فقال له إنّا لا نتقدّم الآدميّين مذ أمرنا بالسجود لآدم «3».

و في العلل عن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يقبّل فاطمة، فقالت له: أ تحبها يا رسول اللّه؟ قال: أما و اللّه لو علمت حبّي لها لازددت لها حبّا إنّه لما عرج بي إلى السماء الرابعة أذّن جبرئيل و أقام ميكائيل ثمّ قيل لي: أدن يا محمّد فقلت أتقدّم و أنت بحضرتي يا جبرئيل؟ قال: نعم انّ اللّه عزّ و جلّ فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلك أنت خاصّة، فدنوت فصلّيت بأهل السماء الرابعة ثمّ التفت عن يميني فإذا أنا بإبراهيم عليه السّلام

في روضة من رياض الجنّة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 350.

(2) البحار: ج 10 ص 29.

(3) البحار: ج 18 ص 404 عن تفسير العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 172

و قد اكتنفها جماعة من الملائكة «1»، الخبر.

الرابع: انّ عبادة البشر أشقّ و أصعب فوجب أن يكون أفضل، امّا الصغرى فلانّ للبشر شواغل عن الطاعات العلميّة و العمليّة، من الشهوات النفسانيّة، و الدّواعي الجسمانيّة، و القوى البهيميّة و السبعيّة الدّاعية إلى ثوران الشّهوة و الغضب، و الاشتغال بالأمور الحسيّة و العوارض الجسميّة، و غير ذلك من الحاجات و الخيالات الشّاغلة و الموانع الدّاخلة و الخارجة، سيّما مع تعاضد الهوى و وسوسة الشيطان بجنوده في صدورهم، و خفاء الحقّ و قلّة أهله، و شيوع الباطل و كثرة جنده، مضافا إلى ما يقاسون من الأمراض البدنيّة و الاعراض النفسانيّة و العاهات الجسمانيّة.

و الملائكة ليس لهم شي ء من ذلك فلا يعارض دواعي طاعاتهم شي ء من الإرادات المضادّة و الموانع الطّارية بل عباداتهم كالأقوات الممدّة لأرواحهم يلتذّون بها، و أمّا الكبرى فلانّ إيثار رضا اللّه تعالى مع صعوبته و مشقّته على النفس دليل على كمال العبوديّة و الانقياد أ لا ترى أنّ الشّيخ الّذي له ميل إلى النّساء إذا امتنع عن النساء فليست فضيلة كفضيلة من يمتنع عنهنّ مع شدّة الشبق و الشهوة الهائجة.

هذا مضافا إلى النبوي المشتهر أفضل العبادات أحمزها «2» أي اشقّها على النفس.

و توهّم أنّ للملائكة ايضا شهوة داعية إلى المعصية، و هي حبّ الرّياسة كما

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 72 و عنه البحار ج 18 ص 350 ح 61.

(2) البحار: ج 70 ص 191 و ص 237.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص:

173

يومئ إليه مقالتهم في أمر الخلافة و امتحانهم بالسجود، بل و قوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «1».

مدفوع بعد الغضّ عمّا فيه بأنّهم إنّما يطلبون الرياسة الحقّة الّتي توجب مزيد القرب، و الكرامة، و أين هذا من طلب الرياسات الباطلة الّتي هي من مقتضيات النفس الأمّارة و جنود الجهل.

و على فرض التسليم فللبشر مضافا إلى ذلك أنواع كثيرة اخرى من الشهوات، و من البيّن أنّ المبتلى بأنواع كثيرة منها تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة.

و امّا ما يقال في دفع هذه الحجّة من أنّ العبادة مع كثرة البواعث و الشواغل إنّما تكون أشقّ و أفضل من الاخرى إذا استويا في المقدار و باقي الصفات، و عبادة الملائكة أكثر و أدوم، فإنّهم يسبّحون اللّيل و النّهار و لا يفترون، و الإخلاص الّذي به القوام و النظام و اليقين الّذي هو الأساس و التّقوى الّذي هو الثمرة فيهم أقوى و أقوم، لأنّ طريقهم العيان لا البيان.

و ايضا ينتقض ذلك بما أنّا نرى الواحد من الصّوفية يتحمّل في طريق المجاهدة من المشاقّ و المتاعب ما نقطع بأنه عليه السّلام لم يتحمّل مثلها، مع أنا نعلم أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله أفضل من الكلّ، و ما ذاك إلّا أنّ كثرة الثّواب تترتّب على كثرة الإخلاص، فربما يكون الفعل أسهل على فاعله و يكون الثواب اكثر لكثرة إخلاصه.

ففيه أنّ مبنى الاستدلال إنّما هو على التفاضل من حيث تحمّل كثرة المشقّة

__________________________________________________

(1) النساء: 172.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 174

و الألم في الطّاعة و الانقياد، و قضيّة تفضيل الأنبياء و هو المطلوب، و أمّا معارضة سائر الصّفات الموجبة للتعكيس فلم يظهر

دليل عليها، و مجرّد الجواز لا يدلّ على الوقوع، و دعوى أنّ الإخلاص و اليقين و التقوى فيهم أشدّ و أقوى في حيّز المنع كيف و هو أوّل الكلام، بل التّحقيق أنّ ظهور هذه الصفات في الأنبياء أقوى منه في غيرهم حتّى الملائكة، لأن أخشى الخلق أعلمهم باللّه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «1» و قد نصّت الآية و غيرها على كون أدم أعلم و انّه هو المستأهل للخلافة العلميّة و منصب التعليم، فإذا اقترنه العمل من جميع الجهات كما هو مقتضى العصمة فقد تمّت له الفضيلة بشطريها، و أذعنت له الرياسة الكبرى بقرنيها، و امّا دوام العبادة و عدم الفتور فلا تظنّن اختصاصه بالملائكة ضرورة انّ أرواح الأنبياء سبقهم في عالم الأنوار و الأرواح بالاجابة، و عبدوه قبل خلقة الملائكة و كانوا مستمرّين على عبادتهم إلى أن أمروا بالظّهور في هذا العالم الجسماني لمصالح قضت بها العناية الكليّة و المصلحة الرّبانيّة، فصحبوا أهل هذا العالم بأبدان أرواحها معلّقة بالملكوت الأعلى فكانّهم و هم في جلابيب من أبدانهم العنصريّة قد نضّوها و تجرّدوا عنها إلى عالم القدس و حضرة الأنس، و أمّا إذا فارقوا هذا العالم فلا تظنّن انّهم إذا ماتوا فاتوا، بل هم أحياء عند ربّهم يرزقون، باستنشاق نفحات قدسه و استضاءة تجلّيات وجهه.

و بالجملة فالظّاهر سلامة الدّليل المذكور عن وصمة الأشكال سيّما بعد ما أشير اليه في الخبر المروي في «العلل» عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه

__________________________________________________

(1) فاطر: 28.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 175

جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام فقلت، الملائكة أفضل أم بنوا آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه السّلام،

انّ اللّه عزّ و جل ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة، و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل، و ركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، و من غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم «1».

و في المروي في تفسير الامام و الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام في خبر طويل يذكر فيه أمر العقبة انّ المنافقين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أخبرنا عن عليّ اهو أفضل أم ملائكة اللّه المقرّبون؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و هل شرّفت ملائكة اللّه إلّا بحبّها لمحمّد و عليّ، و قبولها لولايتهما أنّه لا أحد من محبّي عليّ عليه السّلام و قد نظف قلبه من قذر الغشّ و الدّغل و الغلّ و نجاسة الذّنوب إلّا لكان أطهر و أفضل من الملائكة، و هل أمر اللّه الملائكة بالسّجود لآدم إلّا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم انّه لا يصير في الدّنيا خلق بعدهم إذا رفعوا عنها إلّا و هم يعنون أنفسهم أفضل منهم في الدّين فضلا، و أعلم باللّه و بدينه علما، فأراد اللّه تعالى أن يعرّفهم انّهم قد أخطئوا في ظنونهم و اعتقاداتهم، فخلق آدم و علّمه الأسماء كلّها ثمّ عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها، فأمر آدم أن ينبئهم بها و عرّفهم فضله في العلم عليهم.

ثمّ أخرج من صلب آدم ذرّيّة منهم الأنبياء و الرسل و الخيار من عباد اللّه، أفضلهم محمّد ثمّ آل محمّد صلّى اللّه عليهم أجمعين، و من الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمّد و خيار أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و عرّف الملائكة بذلك انّهم أفضل من الملائكة إذا احتملوا

ما حملوه من الأثقال و قاسوا ما هم فيه من تعرّض أعوان

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 60 ص 299 عن العلل ج 1 ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 176

الشياطين و مجاهدة النفوس، و احتمال أذى ثقل العيال و الاجتهاد في طلب الحلال، و معاناة مخاطرة الخوف من الأعداء، من لصوص مخوّفين، و من سلاطين جورة قاهرين، و صعوبة المسالك في المضايق و المخاوف و الاجزاع و الجبال و التّلال لتحصيل أقوات الأنفس و العيال من الطّيب الحلال، عرّفهم اللّه عزّ و جلّ أنّ خيار المؤمنين يحتملون هذه البلايا، و يتخلّصون منها، و يتحاربون الشياطين و يهزمونهم «1» و يجاهدون أنفسهم بدفعها عن شهواتها و يغلبونها مع ما ركّبت فيهم من شهوة الفحولة، و حبّ اللباس و الطعام و العزّ و الرّياسة و الفخر و الخيلاء، و مقاساة العناء و البلاء من إبليس لعنه اللّه و عفاريته و خواطرهم و أعوانهم و استهوائهم و دفع ما يكيدونه من ألم الصّبر على سماع الطّعن من أعداء اللّه و سماع الملاهي و الشّتم لأولياء اللّه، و مع ما يقاسونه في أسفارهم لطلب أقواتهم، و الهرب من أعداء دينهم، و الطلب لمن يأملون «2» معاملته من مخالفيهم في دينهم.

قال اللّه عزّ و جل: يا ملائكتي: و أنتم من جميع ذلك بمعزل لا شهوات الفحولة تزعجكم، و لا شهوة الطعام تخفركم، و لا الخوف من اعداء دينكم و دنياكم ينخب «3» في قلوبكم، و لا لإبليس في ملكوت سمواتي و ارضي سبيل على إغواء ملائكتي الّذين قد عصمتهم منهم، يا ملائكتي فمن أطاعني منهم و سلم دينه من هذه الآفات

__________________________________________________

(1) في النسخة المخطوطة: و يحزمونهم

(بالحاء المهملة) و لعلّه (لو لم يكن مصّحفا) من حزم الفوس: شدّ حزامه- و الحزام: ما يشدّ به وسط الدابّة.

(2) في البحار: او الطلب لما يألمون معاملته.

(3) النخب: النزع، و رجل نخب (بكسر الخاء): جبان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 177

و النكبات فقد احتمل في جنب محبّتي ما لم تحتملوا و اكتسب من القربات إليّ ما لم تكتسبوا، فلما عرّف اللّه ملائكته فضل خيار أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و شيعة عليّ عليه السّلام، و خلفائه عليهم السّلام عليهم، و احتمالهم في جنب محبّة ربّهم ما لا تحتمله الملائكة أبان انّ بني آدم الخيار المتّقين بالفضل عليهم فلذلك.

ثمّ قال فاسجدوا لآدم لما كان مشتملا على أنوار هذه الخلايق الأفضلين، و لم يكن سجودهم لآدم، إنّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه للّه عزّ و جل، و كان بذلك معظما له مبجّلا، و لا ينبغي لاحد أن يسجد لأحد من دون اللّه تعالى يخضع له خضوعة للّه و يعظّمه بالسجود له، كتعظيمه للّه، و لو أمرت أحدا أن يسجد هكذا لغير اللّه لأمرت ضعفاء شيعتنا و سائر المكلّفين من شيعتنا أن يسجدوا لمن توسط في علوم علي وصّي رسول اللّه و محّض وداد خير خلق اللّه عليّ بعد محمّد رسول اللّه و احتمل المكاره و البلايا في التصريح بإظهار حقوق اللّه فلم ينكر عليّ حقّا ارقبه عليه و قد كان جهله او اغفله «1». الخبر و هو كما ترى صريح في تقرير الحجّة المذكورة بأتمّ بيان و أحسنه، بل فيه دلالة ظاهرة على تفضيل الفاضلين من شيعتهم على الملائكة، و يظهر ذلك أيضا من بعض الاخبار المتقدّمة الدّالة على أنّ الملائكة لخدامهم

و خدّام محبّيهم، و من العلوي المروي عن «العلل» «2» من فضل بني آدم على الملائكة معلّلا بما مرّ.

بل عن صحيفة الرضا بالإسناد عنه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: مثل

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 136- 138 عن تفسير الامام عليه السّلام و الاحتجاج.

(2) البحار: ج 60 ص 299 عن العلل ج 1 ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 178

المؤمن عند اللّه كمثل ملك مقرّب، و إنّ المؤمن عند اللّه عزّ و جلّ أعظم من الملك، و ليس شي ء أحبّ إلى اللّه من مؤمن تائب او مؤمنة تائبة «1».

و عنه بالإسناد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ المؤمن ليعرف في السّماء كما يعرف الرجل أهله و ولده، و انّه أكرم عند اللّه عزّ و جلّ من ملك مقرّب «2». إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه فضل المؤمن على الملائكة، أو الملك المقرّب، و ان لم أجد في ذلك كلاما محرّرا لأحد من الأصحاب، نعم قال المجلسي رحمه اللّه: لا خلاف بين الاماميّة في أنّ الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام أفضل من جميع الملائكة، و الأخبار في ذلك مستفيضة، و امّا سائر المؤمنين ففي فضل كلّهم أو بعضهم على جميع الملائكة او بعضهم فلا يظهر من الآيات و الاخبار ظهورا بيّنا يمكن الحكم بأحد الجانبين، فنحن فيه من المتوقفين «3».

و فيه انّه لا ينبغي التّأمّل في فضل بعض المؤمنين على كثير من الملائكة، لو لم نقل كلّهم بعد دلالة الاخبار المتقدّمة، مع انّه قد روي عن الصادق عليه السّلام انّه قال: إنّ في الملائكة من باقة بقل خير منه

«4»، و لا في فضل بعض الملائكة كحملة العرش و العالين و روح القدس و غيرهم على كثير من المؤمنين لو لم نقطع بفضلهم على غير المعصومين عليهم السّلام و إنّما الكلام في المتوسّطين عن الفريقين، و ردّ العلم في ذلك إلى أهله أوفق بالاحتياط و أقرب إلى النّجاة.

__________________________________________________

(1) صحيفة الامام الرضا عليه السّلام: ح 27 و عنه البحار ج 60 ص 299 ح 6.

(2) الصحيفة: ح 36 و عنه البحار ج 60 ص 299 ح 7.

(3) بحار الأنوار: ج 57 ص 285.

(4) البحار: ج 57 ص 313.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 179

بقي الكلام في انّ المستفاد من الوجه المتقدّم بل و بعض الاخبار المتقدّمة خصوصا المروي عن «1» العسكري عليه السّلام انّه ليس للملائكة شهوة الحيوان، و لا ميل إلى أنواع اللّذات الدّنيوية، و لذا استشكل بعضهم بانّه إذا كان اللّه تعالى قد خلقهم على هذا المنوال فما لهم من الفضل في أنفسهم حتّى يفضّلوا غيرهم من صلحاء المؤمنين، قال في الأنوار النعمانيّة: و هذا المعنى قد أشكل على جماعة من الأصحاب حتّى أنّ شيخنا المعاصر أدام اللّه ايّامه يعني به المجلسي عطر اللّه مرقده ذهب إلى أنّ الملائكة لهم نوع من الميل إلى اللّذات الحسيّة، لكنّهم يجاهدون أنفسهم و يمنعونها عن الإرادات البشريّة، حتّى يكون لهم جزيل من الثواب، و يستحقّوا محامد الثّناء و التّفضيل قال رحمه اللّه: و الجواب التحقيقي عند هذا القاصر غير هذا، و حاصله: أنّ اللّه سبحانه قد أقدر الملائكة على أنواع العبادات كما أقدر البشر عليها، و إن كان قوّة الملائكة على العبادات أشدّ و أكثر، و البشر مع قدرتهم على اكثر أنواع

العبادات من الواجبات و السنن قد فتروا عنها و اقبلوا على تركها، و أمّا الملائكة فقد أقبلوا على فعلها و الإتيان بما وصلت إليه قدرتهم، و مع هذا قد صارت العبادات مستلذّة عندهم، كاستلذاذ الاكل و الشرب عندنا فهم يأتون بكلّ ما يقدرون عليه من أنواع العبادات على وجه الاستلذاذ، و نحن إنّما نأتي ببعض ما نقدر على وجه التكليف و المشقّة و الخوف من العقاب، فهم فضّلونا بإتيانهم بأفعال يمكنهم تركها فلم يتركوها، و من ثمّ قد وقع من بعضهم الترك حتّى عوقب عليه، فاحترقت أجنحته و سقط عن مقامه كما وقع للملك الّذي وقع من السماء في زمن إدريس على

__________________________________________________

(1) البحار ج 11 ص 136 تقدّم ذكره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 180

نبيّنا و آله و عليه السّلام حتّى لجأ إلى إدريس، فدعى له فرجع إلى مقامه و كما وقع للملك الّذي فتر عن العبادة في عصر النّبي صلّى اللّه عليه و آله فسقط أيضا من عالم الملكوت و لجأ إلى الحسين عليه السّلام فتمسّح به و رجع ببركة الحسين عليه السّلام إلى مقامه، و أمّا الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام فهم قد فعلوا أفعال الملائكة مع اتّصافهم بالقوى الحيوانيّة فهم أفضل من الملائكة كما انعقد عليه إجماعنا، و من ثمّ كان العامل منا بما يطيق من انواع العبادات أفضل من الملائكة كما ذهب إليه بعض الأصحاب و دلّت عليه بعض الاخبار «1».

أقول: و هذا الكلام لا بأس به غير انّ نسبة ترك العبادة و استحقاق العقوبة إلى الملائكة الّذين قامت ضرورة المذهب على عصمتهم، ليس ممّا ينبغي، و أمثال تلك الأخبار على فرض صحتها لها وجه آخر سنشير اليه في

قصّة هاروت و ماروت إنشاء اللّه تعالى.

نقض و إبرام على دفع حجج مفضّلي الملائكة على الأنبياء عليهم السّلام

استدلّوا بوجوه من المنقول و المعقول نستقصي الكلام بذكرها و الجواب عنها و ان كنّا في غنية عن ذلك كلّه، بعد دلالة الإجماع بل ضرورة المذهب فضلا عمّا سمعت من الآيات و الأخبار على ما مرّت الإشارة إليه من تفضيل الأنبياء و الائمة عليهم السّلام عليهم.

__________________________________________________

(1) الأنوار النعمانية: ج 1 ص 214- 215.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 181

أمّا الوجوه النقليّة فمنها قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «1» حيث إنّ ظاهر العطف في أمثال المقام التّرقي من الأدنى إلى الأعلى سيّما مع تخصيص الملائكة بالمقرّبين منهم لكونهم أفضل كما يقال أفضل كما يقال: هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير و لا الملك المقتدر، و هذا الحجر لا يقدر على حمله العشرة و لا المائة أولو القوّة إذ من البيّن انّه لا يقال:

في الأوّل و لا الجندي، و لا في الثاني و لا الواحد، فضلا من أن يوصفا بالحاجة و الضّعف او يوصف بهما الأوّلان.

و الجواب انّ الكلام إنّما سيق لردّ مقالة النصارى في المسيح حيث ادّعوا فيه مع النّبوة البنوة بل الألوهيّة و التّرفع عن العبوديّة، ثمّ استطرد الكلام في ردّ من زعم انّ الملائكة بنات اللّه كما قال: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2» و قال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ «3» و تقديم الأوّل لسبق الخطاب مع أهل الكتاب في أمره في الآيات المتقدّمة.

و قد يجاب أيضا بانّ الواو لمطلق الجمع، فتدلّ على أنّ المسيح لا يستنكف و الملائكة لا يستنكفون، و امّا الترقّي و التّفضيل فغير مستفاد أصلا كما

في قوله:

وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «4» و قوله: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ

__________________________________________________

(1) النساء: 172.

(2) الزخرف: 19.

(3) الزخرف: 16.

(4) المائدة: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 182

بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ «1»، و كذا قولك: ما أعانني على هذا الأمر زيد و لا عمرو، و ما اقترضت من زيد و لا من عمرو.

نعم ربما يستفاد التّرقي إذا علم كون المعطوف أقوى في المعنى المراد، و أمّا إذا لم يعلم ذلك فإثباته بمجرّد العطف لا يخلو عن دور.

و بانّ النّصارى إنّما توهّموا فيه البنوة بل الألوهيّة لكونه روح اللّه ولد من غير أب، و لما ظهر فيه من صفات الرّوحانيّين من إخبار بما يأكلون و ما يدّخرون، و إحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص و الأعمى، و لا يبعد أن يكون الملائكة المقرّبون الموكّلون بتلك الشؤون أرفع في هذا المعنى و أقدر على تلك الشؤون و المعنى لا يترفع عيسى عن العبوديّة و لا من هو فوقه في هذا المعنى، و هم الملائكة الّذين لا أب و لا أمّ و يقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى، و اين هذا من سائر الكمالات العلميّة و العمليّة الموجبة لمزيد القرب و كثرة الثواب.

و بانّه يجوز أن يكون الخطاب متوجّها إلى قوم اعتقدوا أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء فاخرج الكلام على حسب اعتقادهم، كما يقول أحد منّا: لن يستنكف أبي أن يفعل كذا و لا أبوك، و ان كان القائل يعتقد أنّ أباه أفضل، و إنّما أخرج الكلام على حسب إعتقاد المخاطب و هو ضعيف.

و بانّه مع تقارب المراتب و تداني الدّرجات يحسن أن

يؤخّر ذكر الأفضل الّذي ليس بينه و بين غيره فضل تفاوت كما يقال: لن يستنكف من خدمتي هذا الخادم و لا هذا الخادم، و لا ذلك و ان كان بينهم ضرب من التّفاضل من بعض

__________________________________________________

(1) المائدة: 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 183

الجهات الّذي لم يساق الكلام للتنبيه عليها.

و بانّه إنّما اخّر ذكر الملائكة عن ذكر المسيح لأنّ جميع الملائكة اكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا و هذا لا يدلّ على تفضيل كلّ منهم على المسيح، و هو كما ترى.

و أمّا ما يجاب به أيضا من تسليم فضل الملائكة على المسيح و ان كان نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله مفضّلا عليهم كلّهم نظرا إلى أنّ المقصود اثبات القضيّة الجزئيّة فضعيف جدّا.

و منها قوله تعالى: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «1» حيث خصّهم بالذكر بعد التّعميم الشامل للأنبياء و غيرهم، و وصفهم بالاستكانة و التّواضع و دوام الامتثال و الخوف و ترك المخالفة على وجه الإطلاق، و فيه اشارة إلى أنّ غيرهم ليس كذلك، و انّ اسباب التكبر و التّعظم حاصلة لهم.

على انّه يستفاد منه الاحتجاج بعدم استكبارهم على أنّ غيرهم وجب أن لا يستكبر، و لو كان البشر أفضل منهم لما تمّ هذا الاحتجاج ألا ترى أنّ السلطان إذا أراد أن يقرّر على رعيّته وجوب طاعتهم له يقول: الملوك لا يستكبرون عن طاعتي و لا يحسن منه ان يحتج عليهم بطاعة الضّعفاء و المساكين له.

و الجواب أنّ الآية إنّما تدلّ على الفضيلة لا الأفضليّة، و فائدة التخصيص بعد التعميم التنبيه

على حالهم تمهيدا لردّ من زعم من مشركي مكّة انّهم بنات اللّه، و لذا

__________________________________________________

(1) النحل: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 184

قال بعد هذه الآية بفصل قليل: وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ «1»، الآيات.

على أنّه قد يقال: لا نزاع في انّ الملائكة أشدّ قوّة و قدرة من البشر، و لو في زعم المخاطبين و اعتقادهم، فكانّه يقول إنّ الملائكة مع شدّة قوّتهم و طول أعمارهم لا يتركون العبوديّة لحظة واحدة فالبشر مع ضعفهم و عروض الفتور و الهرم و المرض بالنّسبة إليهم أولى بأن لا يتركوا العبادة، و هذا القدر كاف في صحّة الاستدلال، و أين هذا من الدّلالة على الأفضليّة بمعنى كثرة الثواب و الاقربيّة؟

ثمّ انّه يحتمل في الآية أن يكون مِنْ دابَّةٍ بيانا للموصولة وَ الْمَلائِكَةُ عطفا عليها لظهور الدّبيب في حركة الأجسام، فيكون المراد استيعاب الماديات و المجرّدات بناء على القول بتجرّد الملائكة و لذا استدلّ بها عليه على ما يأتي.

و منها قوله تعالى: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «2».

و التقريب قريب ممّا مرّ من جهة التخصيص بعد التعميم للتشريف و التكريم و التوصيف بدوام التّسبيح و نفي الاستكبار و الاستحسار و الفتور، على أنّ المراد بالعنديّة عنديّة القرب و الشرف لا عنديّة المكان و الجهة.

و الجواب ظاهر بعد ما سمعت، و العنديّة حاصلة للمؤمنين ايضا: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3»، و في القدسيات: أنا عند المنكسرة قلوبهم «4».

__________________________________________________

(1) النحل: 57.

(2) الأنبياء: 19- 20.

(3) القمر: 55.

(4) في البحار: ج 73 ص 157: قيل

لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اين اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: عند المنكسرة قلوبهم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 185

و منها: قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «5»، حيث إنّ ظاهره و لو بمعونة غيره من الآيات و الأخبار كونهم رسلا إلى الأنبياء، و الّرسول أفضل من المرسل إليه، سلّمنا كونهم رسلا إلى الملائكة، لكنّ الرسول الّذي كلّ أمته رسل معصومون أفضل ممّن ليس كذلك، و هو يتمّ على الوجه الاول ايضا.

و الجواب انّ الرسالة قد تكون على وجه الحكومة و الولاية على النفس و المال و غيرهما و هذا يدلّ على الفضيلة، و قد تكون على وجه الإخبار و الإعلام و مجرّد التبليغ، و لا دلالة فيه على الأفضليّة كما يرسل السّلطان إلى وزيره واحدا من غلمانه لإعلامه ببعض مقاصده، و لو مع اطّلاع الوزير قبل ذلك بما أخبره به لإقامة بعض الرسوم و دفع لجاج الخصوم، فمجرّد الوساطة في التبليغ لا يدلّ على الأفضليّة.

و منها قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «6»، فلو لم يكن حال الملائكة أفضل من حال النّبي لم يحسن منه مثل هذا الكلام.

و الجواب أنّ الغرض من سوق الكلام إنّما هو نفي ما لم يكن عليه لا التّفضيل لذلك على ما هو عليه، و لذا عطف عليه في الآية الاخرى وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً «7» و هذه منزلة خسيسة ينبغي تنزيه النّبي

__________________________________________________

(5) فاطر: 1.

(6) الانعام: 50.

(7) هود: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 186

عنها على انّه انّما قال ذلك حين استعجلته قريش العذاب

الّذي أوعدوا به بقوله:

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «1»، و المعنى انّي لست بملك موكّل بالعذاب حتّى أنزله عليكم باذن اللّه كما كان ذلك بجبرئيل و غيره من الملائكة، او انّهم سألوه الأمور العظيمة اقتراحا كصعود السماء و اسقاطها كسفا و تفجير العيون من الأرض و غيرها فأجاب بانّي بشر عليّ إقامة الحجّة و الهداية على الطّريقة السّوية، و لست بملك موكّل بهذه الأمور كما حكى عنهم في قوله:

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «2».

و منها قوله تعالى في بني آدم: وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «3»، بناء على أنّ المكلّفين من مخلوقاته سبحانه أفضل من غيرهم، و جملة المكلّفين اربعة انواع: الملائكة، و بنو آدم، و الجنّ، و الشياطين، و لا ريب انّ بني آدم أفضل من الأخيرين، فلو كانوا أفضل من الاول ايضا لكانوا أفضل من جميع ما خلقه فلا يستقيم التّفضيل على الأكثر المشعر بعدم التفضيل على القليل سيّما في مقام الامتنان بالتّشريف و التكريم.

__________________________________________________

(1) الانعام: 49.

(2) الإسراء: 90- 93.

(3) الإسراء: 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 187

و الجواب انّك قد سمعت أنّ الآية دليل لنا لا علينا، و لو بمعونة الأخبار المفسّرة لها حسبما مرّ شطر منها، و لعلّ المعنى على ما قيل إنّا فضّلناهم

على من خلقناه و هم كثير من دون أن يريد التّبعيض فيجري مجرى قوله: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا «1»، اي كلّ ثمن أخذ عنها فهو قليل من دون ان يريد التّخصيص بان يمنع عن الثمن القليل خاصّة و مثله قول الشاعر:

من أناس ليس من أخلاقهم عاجل الفحش و لا سوء الجزع و انّما أراد نفي الفحش و الجزع على إطلاقهما و ان وصفهما على صورة التقييد، مع أنّه يمكن أن يكون المراد هو التّفضيل في وجوه الكرامة المذكورة في الآية من رزق الطّيبات و حملهم في البرّ و البحر و أين هذا من الأفضليّة بالأقربيّة و اكثريّة الثّواب، سلّمنا لكنّه لا حجيّة في دليل الخطاب في مثل المقام على ما قرّر في الأصول من عدم حجيّة مفهوم العدد و اللّقب و نحوهما، سلّمنا لكنّه باعتبار مقابلة المجموع بالمجموع.

و منها قوله تعالى: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ «2»، اي إلّا كراهة أن تكونا ملكين فرغّبهما في التناول من الشجرة في منزلة الملائكة حتّى دلّاهما بغرور، و ذاقا منها فبدت لهما سوءاتهما، و من البيّن أنّ التّغرير إنّما يحصل بالتّرغيب على منزلة هي فوق منزلته حتّى يحمله ذلك

__________________________________________________

(1) المائدة: 44.

(2) الأعراف: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 188

على مخالفة اللّه و معصيته طمعا في الارتقاء إلى منزلة الملائكة، و هو دليل على فضلهم عليهما.

و الجواب انّه من المحتمل قويّا أن يكون المراد اختصاص النّهي بهذين الفريقين اعني الملائكة و الخالدين فكان غرض إبليس إيقاع الشبهة لهما بأنّه إنّما تعلّق النّهي بهما و انّ عدم الاكل مختصّ بمن كان ملكا او مخلّدا فيها،

و هذا كما تقول لواحد من فقراء السادات: ما حرّم اللّه عليك أخذ الخمس إلّا أن تكون غنيّا او من غير بني هاشم اي بكونك كذا و كذا، و هذا كما ترى لا يدلّ على كونهما أفضل منه، سلّمنا أنّ الصّورة الملكيّة و الخلود كانا مرغوبين لهما لكنّه لا يدلّ على زيادة الفضل و كثرة الثواب و القرب بحصول شي ء منهما، و لعلّه إنّما رغّبهما في أن يكونا مساويين لهم في التجرّد و الانسلاخ عن عوارض التركيب و ان اختصا عنهم بمزيد الأجر و الثواب كما أنّه رغّبهما في الخلود الّذي لا يقتضي مزيّة في الثواب، و انّما هو نفع عاجل، بل من البيّن انّ كلّا من الخلود و الملكيّة ينافي زيادة الاستحقاق و رفع الدّرجة.

و امّا ما يجاب عنه ايضا من أنّ هذا قول إبليس فلا يكون حجّة، و آدم و ان اعتقد صحّة ذلك إلّا أنّه لم يكن نبيّا في ذلك الوقت، و ايضا لعلّه كان مخطئا في ذلك الاعتقاد لجواز الزلّة على الأنبياء، سلّمنا كونه حجّة لكن آدم عليه السّلام لم يكن قبل الزّلة نبيّا فلم يلزم من فضل الملك عليه حينئذ فضله عليه بعد نبوّته، فلا يتم شي ء منهما على الأصول المقرّرة عندنا كما لا يخفى، و لعلّه إنّما ذكره من ذكره منّا على وجه الفرض و التّقدير، كما أنّه يمكن أن يقال: سلّمنا دلالتها على فضله على آدم لكنّها لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 189

تدلّ على فضله على أولي العزم الذين هم أفضل من آدم، و ايضا لا تدلّ على فضل الملك على نبيّنا و آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين الّذين هم أفضل من جميع الأنبياء و المرسلين.

و

منها قوله تعالى حكاية عن النسوة على وجه التقرير في تفاوت الدّرجة لا النّفي ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «1» بناء على أنّه ليس المراد وقوع التشبيه في الصورة بل في السيرة حيث انّه شبّهه بالملك الكريم، و الملك إنّما يكون كريما بسيرته المرضيّة الّتي هي نفي دواعي البشريّة من الشهوة و الغضب و الحرص على طلب المشتهى و اثبات أضدادها من العصمة و غضّ البصر و قمع موادّ الشهوات و الميل إلى المحرّمات، فدلّ على أنّ جنس الملك أفضل من جنس البشر حتّى بالنّسبة إلى نوع الأنبياء كما هو قضيّة المورد.

و الجواب أنّ هؤلاء النسوة اوّل ما رأين من يوسف إنّما هو حسن الصورة و كمال الجمال بحيث لم يرين مثله أحدا من الرجال و لذا نفين عنه البشريّة و ظهر لهن عذر امرأة العزيز في شدّة عشقها له و عند ذلك قالت فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ «2» و لذا قيل إنّه كالصّريح في أنّ المراد إنّما هو حسن الصّورة لا كمال السّيرة، سلّمنا انّ المراد هو التشبيه في الاعراض عن المشتهيات إلّا أنّه قد ظهر ممّا مرّ انّ قليل الاعراض من البشر يوجب كثير الثواب و كثير الاعراض من الملك يوجب قليل الثواب لمعارضة القوى المتضادّة في البشر دون الملك.

__________________________________________________

(1) يوسف: 31.

(2) يوسف: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 190

و منها قوله تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ «1»، الشامل بعمومه لجميع المكلّفين حتّى الأنبياء و المرسلين فيدلّ على أفضليّة الملائكة لحفظهم و كتابتهم المقصودة للشهادة لهم و عليهم بأعمالهم.

و ضعفه واضح فإنّ شيئا من الحفظ و الشهادة غير مستلزم للافضليّة أو المفضوليّة، و لذا يصحّ استنادهما

إلى اللّه و إلى رسوله و إلى من دون المكلّف من الجمادات و النّباتات و سائر أجزاء العالم، و لذا ورد انّه خير حافظا و انّه تعالى يستشهد على الأمم برسولها و على الرّسل بنبيّنا و آله صلّى اللّه عليهم و انّه يستشهد على ابن آدم بالساعات و الشهور و البقاع و الأرضين و غيرها.

و منها قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ «2»، و قوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ «3»، فانّ أولي العلم في الاولى يشمل الرسل و التقدّم الذكري فيهما سيّما بملاحظة الابتداء به سبحانه و وقوعه في كلام الحكيم على الإطلاق يدلّ على التقدّم بحسب الرتبة و الشرف.

و يضعّف بانّ الواو لمطلق الجمع و استفادة الاشرفيّة من مجرّد التّرتيب ضعيفة جدّا سيّما بعد ما سمعت من الآيات و الصّحاح الصّراح و يؤيّده تقديم الكتب على الرسل في المقام.

و منها قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «4»، فانّه يدلّ على أنّ جبرئيل و هو

__________________________________________________

(1) الانفطار: 11.

(2) آل عمران: 18.

(3) البقرة: 285.

(4) النجم: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 191

واحد من الملائكة علّم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و هو خاتم النّبيين و أفضل المرسلين و لا ريب أنّ المعلّم أفضل من المتعلّم و إذا ثبت فضله عليه ثبت فضله على الجميع، و ايضا وصفه في الآية بشدّة القوى و غيرها من الأوصاف المذكورة في الآيات التّالية.

و قد يقرّر اعلميّة جبرئيل بانّ العلوم قسمان: أحدهما العلم بالمبدإ الحقّ و صفاته و أسمائه و هما مشتركان في معرفته، و الاخر العلم بأفعاله و احوال مخلوقاته من الدّرة إلى

الذّرة، و لا شكّ أنّ جبرئيل عليه السّلام أعرف بها لأنّه أطول عمرا و اكثر مشاهدة لها فكان علمه بها اكثر و اتمّ هذا في العلوم الكونيّة و امّا العلوم الشرعيّة الّتي لا يتوصل إليها إلّا بالوحي فهي لم تحصل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و لا لاحد من الأنبياء إلّا بواسطة جبرئيل الّذي هو أمين الوحي و لذا كان واسطة بينه تعالى و بين جميع الأنبياء فكان عالما بجميع الشّرائع و الأحكام مع علمه بشرائع الملائكة ايضا و لم يحصل هذه العلوم لواحد من الأنبياء، و قد قال سبحانه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «1».

و الجواب أنّ الأعلميّة ممنوعة جدّا كيف و قد تواترت الأخبار بأنّ النّبي و الأئمّة صلّى اللّه عليهم كانوا معلّمين لجبرئيل و غيره من الملائكة المقرّبين، و انّ الملائكة لخدّامهم و خدّام محبّيهم، و انّ جبرئيل إذا أتى النّبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقعد بين يديه قعدة العبد، و كان لا يدخل حتّى يستأذنه و انّه ما شرّفت الملائكة إلّا بحبّها لمحمّد و علي عليهما السّلام و قبولها لولايتهما، و انّ الملائكة إنّما خلقوا بعد شيعيتهم و سبّحوا بعد تسبيحهم معلّما منهم و الا فقد مكثوا مائة عام لا يعرفون تسبيحا و لا تهليلا إلى غير

__________________________________________________

(1) الزمر: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 192

ذلك ممّا مرّت إليه الإشارة في الاخبار المتقدّمة.

و أمّا الآية فالمراد بها التعليم الظّاهري في هذا العالم اقامة لرسم التبليغ و وظيفة الرسالة حسبما نشير اليه في تفسيرها، مع أنّ فيها وجها آخر و هو نسبة التّعليم إليه سبحانه كما يظهر من تفسير القمي و غيره هذا مضافا إلى ما

دلّت عليه الآية من كون آدم معلّما لهم بأمر اللّه تعالى إرشاده و انّه علّمهم الأسماء كلّها بعد ما لم يعلموها، و أمّا التقسيم المقرّر لبيان أعلميّة جبرئيل ففيه وجوه من الاختلال، و ذلك للمنع عن الاشتراك في قدر المعرفة و ان سلّمناه في أصلها، و ذلك لأنّ المعرفة على حسب الاستعداد و الرّتبة و القرب و العبوديّة و قد سمعت تأخّر رتبة جبرئيل عنهم بل عن بعض شيعتهم كالعالين و الكروبيّين و غيرهم، و امّا العلم بالأمور الكونيّة فالاعلم بها من أشهدهم اللّه تعالى و جعلهم الأشهاد و الأعضاد في تكوينها، و امّا الاحكام الشرعيّة فقد ورد في كثير من الاخبار تفويضها إليهم كما أشير إليه في قوله تعالى: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1» بحسب التأويل «2» و تّذكر في ذلك كلّه قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «3»، و قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «4».

و منها ما رواه في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام قال: قال اللّه عزّ و جلّ يا بن آدم اذكرني

__________________________________________________

(1) ص: 39.

(2) راجع تفسير الصافي: ج 4 ص 301 ط دار المرتضى بمشهد.

(3) طه: 114.

(4) القيامة: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 193

في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملأك «1».

و فيه مرفوعا قال: قال اللّه عزّ و جلّ لعيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، و اذكرني في ملأك أذكرك في ملأ خير من ملأ الآدميّين «2».

و في بعض الأخبار: بملإ «3» من الملائكة خير من ملأ الآدميّين.

و الجواب ان خيرية ملأ نوع من الملائكة

من ملأ كثير من افراد البشر باعتبار قربهم او ملأ جنس الملائكة من جنس بني آدم باعتبار عصمتهم لا ينافي افضليّة الأنبياء و الأوصياء عليهم، سيّما مع ما قيل من اشتمال ملائهم على أرواح النّبيين و المرسلين.

ثمّ انّه قد يحكى اتّفاق الفلاسفة على انّ الأرواح السّماوية المسماة عندهم بالملائكة أفضل من الأرواح النّاطقة البشريّة و استدلّوا عليه ببساطتها و برائتها من شوب التركيب و لوازم الكثرة الدّاعية إلى الاختلال و الفساد، و أمّا البشر فهو مركّب من النفس و البدن، و النفس مركّبة من القوى الكثيرة و البدن مركّب من العناصر المتضادّة، و من البيّن أنّ البسيط أشرف من المركب، و الملائكة و ان لم نقل ببساطتها المطلقة نظرا إلى أنّ كلّ ممكن زوج تركيبي و انّها مركّبة من وجود و مهيّة لكنّها أبسط بالإضافة إلى الإنسان من وجوه كثيرة أوجبت شرافتها، و لذا كان البسيط على الإطلاق و هو مبدأ الكلّ أعلى من الكلّ.

__________________________________________________

(1) الكافي: ج 2 ص 498.

(2) الكافي: ج 2 ص 502.

(3) البحار ج 60 ص 300.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 194

و بانّ الروحانيّات لها كمالات فعليّة حاضرة و لذا قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و قد سئل عن الملأ الأعلى صور عارية عن المواد خالية عن القوّة و الاستعداد تجلّى لها ربّها فأشرقت، و طالعها فتلألأت، و ألقى في هويّتها مثاله فأظهر عنها أفعاله و خلق الإنسان ذا نفس ناطقة، إن زكاها بالعلم و العمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، و إذا اعتدل مزاجها و فارقت الاضداد فقد شارك بها السّبع الشداد «1».

و أمّا البشر فكمالاتهم و استعداداتهم بالقوّة لا بالفعل، و لا يخفى أنّ ما

بالفعل التّام أشرف ممّا بالقوّة مع أنّ في الخبر وجوها أخر من الدّلالة أيضا كالتّجرد و قبول التجلّيات الاوليّة و توسطها بالاشراق على ما دونها و المظهريّة الكلّيّة و كون النفوس الانسانيّة بعد التزكية التامّة مشابهة لها، مع دلالة التّشبيه على قوّة المشبّه به و كون تلك الجواهر هي العلل الاوليّة لها و غير ذلك ممّا يستفاد منه.

و بانّ الروحانيّات أشرف من الجسمانيّات في العلم و العمل فتكون أشرف مطلقا امّا شرفهم في العلم فلإحاطتها على المغيّبات و على الأمور المستقبلة و العلوم الكليّة و الكمالات الفعليّة، و امّا في العمل فلانّهم مواظبون على العبوديّة المحضة لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون، يسبّحون الليل و النهار لا يفترون، لا يلحقهم نوم العيون و لا يليهم سهو العقول، طعامهم التّسبيح، و شرابهم التقديس، متجرّدون عن العلائق البدنيّة غير محجوبين بشي ء من القوى الحيوانيّة، و امّا الثّاني فواضح ضرورة رجوع اسباب الشرف و الفضل إلى أحد الأمرين.

و بانّ الروحانيات نورانيّات علوية لطيفة فعالة منها العقول الكلّية و النفوس

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 40 ص 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 195

الفلكيّة و الجسمانيّات ظلمانيات سفلية كثيفة منفعلة مشتملة على الحجب الظلمانيّة و الغواسق الهيولانيّة.

و بانّ التقسيم العقلي دلّ على ذلك فانّ الموجود الحيّ أشرف من الميّت ثمّ الحيّ امّا خير محض، او شرير محض، او خيّر من وجه شرير من وجه، فالاوّل هو الملك و الثّاني هو الشيطان و الثالث هو الإنسان.

و بانّ النّفوس النّاطقة و قواها و استعدادتها كلّها فائضة من المبادي العالية الّتي هي المتصرفة فيها المفضية عليها.

إلى غير ذلك من الوجوه الضعيفة المبنية على أصولهم الفاسدة المخالفة للشريعة المصطفويّة على صادعها و

آله آلاف الثناء و التحيّة من اثبات العقول المجرّدة و النفوس الفلكيّة و استناد الحوادث إلى التشكلات و الانظار الفلكيّة و غيرها ممّا تقوّله الفلاسفة و ارباب الهياكل و غيرهم.

هذا مضافا إلى انكارهم الأصول الشرعيّة الحقّة المستفادة من الشريعة من تقدّم خلق الأرواح على الأبدان و انّ أرواح النّبي و الأئمّة عليهم السّلام متقدّمة في الخلقة على غيرهم، و انّ جميع من سواهم من المجرّدات و الماديات و العلويّات و السفليّات و أرواح الأنبياء و الملائكة و السماوات و الأرضين و الكواكب و الجنّة و جميع ما في العوالم الكونيّة كلّها مخلوقة من أشعّة أنوارهم كائنة من رشحات قطرات بحارهم، فإذا أحرزت هذه الأصول و أتقنت ما أشرنا إليه في تضاعيف المباحث السابقة ظهر لك الجواب عن هذه الوجوه و غيرها ممّا أوردوه في المقام، فلا داعي إلى اطناب الكلام في الجواب عنها بوجوه النّقض و الإبرام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 196

دلالة الآيات الى المذهب الحق

اعلم أنّ هذه الآيات تدلّ بوجوه من الإشارة على حقّية مذهب الإماميّة القائلين بوجوب النصّ و العصمة و الأعلميّة و عدم خلوّ العصر عن الحجّة و غيرها من الأصول الحقّة، و ذلك من وجوه.

أحدها: انّ الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليقة، و ذلك انّه لما تعلّقت المشيّة الالهيّة و الحكمة الربانيّة بعمارة الأرض و إيجاد من يعبده و يوحّده فيها بدأ بالخليفة قبل الخليقة تقديما للأهم على ما هو الأعم، و ذلك لأنّ وجود الخليفة عندنا ليس على وجه التبعية المحضة و الغيريّة الصّرفة كما توهّمه من خالفنا في الإمامة حيث جوّزوا مساواته لسائر افراد الرعيّة في قلّة العلم و الفضيلة، و عدم لزوم العصمة، بل الخليفة عندنا هو المقصود

بالذّات و لا بدّ أن يكون وجوده أشرف من وجود رعيّته و الاهتمام بخلقه اكثر من الاهتمام بخلق غيره فيكون هو الواسطة في إيصال الفيوض الالهيّة إلى رعيّته، لا لقصور في فيضه أو عجز منه في إيصاله إلى خلقه، او لحاجة به إلى من ينوبه عنه فيه، بل لقصور عامّة الخلق عن قبول فيضه و تلقّي امره، فالخليفة في العالم كالقلب في البدن، و كما انّ القلب أوّل الأعضاء خلقة و هو معدن الحرارة الغريزيّة، فيتكوّن فيه الأرواح الحيوانيّة الّتي هي الأصل للأرواح الطبيعيّة و النّاطقة و غيرهما، ثمّ يسري منها إلى الكبد و الدّماغ و سائر الأعضاء و الجوارح بواسطة العروق و الشرائين، كذلك الخليفة اوّل الخلق خلقة في عالم الملكوت او الناسوت، و هو الواسطة في إيصال الفيوض الالهيّة إلى

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 197

سائر الخليقة بتوسّط نوابهم و أمنائهم و حملة علومهم و أحكامهم.

و لذا قال الصادق عليه السّلام: إنّ الحجّة قبل الخلق و مع الخلق و بعد الخلق «1».

و انّه ما كانت الأرض الّا و للّه منها عالم و انّه لو لم يكن في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجّة «2» و لو ذهب أحدهما بقي الحجّة، و انّه ما ترك اللّه الأرض منذ قبض اللّه آدم إلّا و فيها امام يهتدى به إلى اللّه و هو حجّة اللّه على عباده «3».

و في العلوي المستفيض: اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحججه امّا ظاهرا مشهورا، او خائفا مغمورا لئلّا تبطل حجج اللّه و بيناته و كم ذا و أين أولئك؟

أولئك و اللّه الأقلّون عددا، و الأعظمون قدرا، بهم يحفظ اللّه حججه و بيّناته، حتّى يودّعوها نظرائهم، و

يزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، و باشروا روح اليقين، و استلانوا ما استوعره المترفون، و انسوا بما استوحش منه الجاهلون، و صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، يا كميل أولئك خلفاء اللّه في ارضه، و الدّعاة إلى دينه «4»، آه.

و الاخبار في هذا المعنى كثيرة مذكورة في كتب الفريقين، ثمّ انّه يستفاد منه تعظيم أمر الخلافة حيث نوّه بذكر الخليفة قبل خلقه و أرشد الملائكة إلى كسب العلوم و المعارف منه و أوجب عليهم السجود له، ثمّ لمّا امتنع إبليس عن السجود له أخرجه من فسيح ملكوت قربه، و طرده عن باب رحمته، و أوجب له الذلّ و الصغار

__________________________________________________

(1) الكافي ج 1 ص 177 ح 4 باب الحجة لا تقوم إلا بالإمام.

(2) الكافي: ج 1 ص 180.

(3) الكافي: ج 1 ص 179 ح 8.

(4) البحار: ج 23 ص 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 198

و الخلود في دار البوار، و لعنه في جميع كتبه و على ألسنة جميع أنبيائه و أوليائه، و ذلك لمخالفته في امر الخلافة الّذي هو الكاشف الأخير عن توحيده سبحانه، فانّ انكار خلافة الأنبياء و أوصيائهم بمنزلة جحود ربوبيّته سبحانه في الكفر و الإلحاد على ما تظافرت به الاخبار.

الخلافة من اللّه سبحانه

ثانيها: انّ الخلافة لا بدّ أن تكون بتعيين اللّه سبحانه و نصّه و نصبه، فانّه منصب جليل، و له خطب عظيم، و القلوب مجبولة على حبّ أنفسها، و اختيار الخير لها، و حيث أنّ الخلق لا يحيطون علما على جميع الحكم و المصالح، و لا يطلعون على جميع الأسباب و المقتضيات و الموانع، فلذا جعل تعيين الخليفة إلى نفسه تعالى و قال:

إِنِّي جاعِلٌ فاحتجّ به على عامة خلقه انّه ليس لهم سبيل إلى اختيار الخليفة، كما لم يكن للملائكة إليه سبيل مع عصمتهم و قدمتهم و صفائهم و وفائهم و دوام عبادتهم و خلوّ فطرتهم عن مقتضيات الدّواعي الشهويّة و الغضبيّة و الانحرافات البشريّة، و إذا كان حال الملائكة ذلك على ما يستفاد من الآية فما ظنك بعامّة البشر، الّذين هم معادن القصور و التقصير مع ما ترى فيهم من خفاء الحقّ و غلبة الباطل، و استيلاء الجهّال، و دولة أهل الضّلال، ثمّ لا يخلو أمرهم امّا أن يكونوا مريدين في زعمهم لاختيار الباطل و متابعة الهواء و الايتمام بأئمّة الضلال، فاللّه سبحانه أعزّ و اجلّ من أن يدعهم و أهوائهم و لو اتّبع الحقّ أهوائهم لفسدت السموات و الأرض و من فيهنّ، و إمّا أن يكونوا مريدين لاختيار من يقوم بالحقّ فيهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 199

و يقيم كلمة الصدق فيما بينهم، فإنّي لهم السبيل إلى معرفة من هو كذلك، و كيف اطمأنّوا انّه لم يقع اختيارهم على من هو الأفسد في الدّين و الدّنيا، و إليه أشير بما في «الاحتجاج» عن سعد بن عبد اللّه القمي قال: سألت القائم عليه السّلام في حجر أبيه عليه السّلام فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلّة الّتي تمنع القوم من اختيار امام لأنفسهم قال عليه السّلام:

مصلح او مفسد؟ قلت: مصلح قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح او فساد؟ قلت: بلى قال: فهي العلّة ايّدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك، قلت: نعم قال: أخبرني عن الرّسل الّذين اصطفاهم اللّه و أنزل عليهم الكتب و

ايّدهم بالوحي و العصمة إذ هم أعلام الأمم و أهدى إلى ثبت الاختيار، و منهم موسى و عيسى عليهما السّلام هل يجوز مع وفور عقلهما و كمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق، و هما يظنّان انّه مؤمن قلت: لا قال: فهذا موسى كليم اللّه مع وفور عقله و كمال علمه و نزول الوحي عليه اختار من اعيان قومه و وجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلا ممّن لم يشكّ في ايمانهم و إخلاصهم فوقعت خيرته على المنافقين قال اللّه عزّ و جلّ: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا «1»، فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه للنبوّة واقعا على الأفسد دون الأصلح و هو يظنّ انّه الأصلح دون الأفسد، علمنا انّه لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور و ما تكنّ الضمائر و تنصرف عليه السرائر، و ان لا خطر لاختيار المهاجرين و الأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما

__________________________________________________

(1) الأعراف: 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 200

أرادوا أهل الصّلاح «1».

أقول و لعلّ اختيار عيسى عليه السّلام اشارة إلى ما اختاره من الحواريّين الاثني عشر حيث ضلّ كثير منهم و اضلّوا قومه حتّى أنّ واحدا منهم و هو يهودا الاسكر يوطى دلّ الكفّار على أخذه و صلبه لجعل يسير و عدوه به على ما وقع التلويح عليه في أخبارنا و التّصريح به في انجيلهم، و يدلّ على ذلك ايضا من طرق العامّة و الخاصة اخبار كثيرة نورد شطرا منها في تفسير قوله تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «2».

ثمّ انّ المدار في التكاليف على الامتحان و الابتلاء بما لا يعرف حقيقته

و يستحقر ظاهره، و لما كان إبليس في الملائكة و لم يكن منهم و كانت الملائكة تظنّ أنّه منهم بل من خيارهم و أراد اللّه تعالى أن يظهر نفاق المنافق و اخلاص المخلص لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «3» فأمرهم بالسجود لآدم فأظهرت الملائكة الانقياد و الطّاعة و اظهر إبليس الاستكبار و المعصية، و لم تزل سنّة اللّه جارية في بني آدم بمثل هذا الامتحان في الايمان ببعث الأنبياء و نصب الأوصياء، ففيهما ضلّ من ضلّ و هلك من هلك، و أمّا الإقرار به سبحانه فلعلك ترى الأمم كلّها متّفقة على ذلك، فالخلافة الّتي هي الولاية العامّة من قبله سبحانه لا بدّ أن تكون جارية مستمرّة في بني آدم بتعيينه سبحانه إلى انقراض العالم، إقامة للنظم الأتمّ و هداية للعباد إلى ما هو احسن و أقوم.

__________________________________________________

(1) الاحتجاج: ص 259 و 260 و عنه البحار ج 23 ص 68- 69.

(2) القصص: 68.

(3) الأنفال: 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 201

ثمّ انك قد سمعت انّ المراد بالجعل في قوله: إِنِّي جاعِلٌ هو الجعل التكويني فينزل هذا الكلام منه سبحانه منزلة قوله: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ «1»، فمن ادّعى انّ له أن يختار الخليفة فكأنّه قد ادّعى انّ له أن يخلق بشرا من طين، و لما بطل أحد المعنيين بطل الأخر، إذ هما في حيّز واحد بل قد يقال إنّه يستفاد من الآية انّ طريق معرفة الخليفة هو السماع بالإشارة و النصّ، و ذلك لأنّ الخلافة الموعودة ان كانت خصوص خلافة آدم فتحقّق النّص و الإشارة واضح بالنّسبة إليه، و ان كانت هي الخلافة الثّابتة لجميع الحجج من

الأنبياء و الأوصياء، فظاهر الآية أنّه عرضها عليهم، و علّمهم أسمائها، فصحّ انّ الطريق هو الإشارة و النّص من جهة السّمع و التّوقيف.

ثمّ إنّه يستفاد من الآية بعد ملاحظة اعتراض الملائكة و الجواب عنهم أنّه لا يصحّ نصب الخليفة و جعلها إلّا لمن كان عالما بغيب السماوات و الأرض، و بما تبديها النفوس و تكتمها، و بأسرار الخليفة و استعداداتهم و ما يؤول اليه أمرهم، و بهذا تمّت حجّته سبحانه على الملائكة، و هي حجّة على غيرهم ايضا إن أرادوا تعيين الخليفة و نصبه من غير دليل و نصّ عليه بالخصوص من اللّه تعالى او حججه الّذين هم خزنة الوحي و التّنزيل.

ثالثها: أنّ الأعلم هو الأحقّ الأليق بالخلافة، و ذلك لأنّ الملائكة قد عرّضوا أنفسهم لهذا المطلب الجليل و استدعوه منه سبحانه، و ظنّوا انّهم أحقّ به من آدم فأبان اللّه سبحانه عن قصورهم و عدم استحقاقهم لهذه الدّرجة و تفضيل آدم عليهم

__________________________________________________

(1) ص: 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 202

بأن علّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضها عليهم، فعجزوا عن أخرهم عن معرفتها، حتّى أنبأهم بها آدم بأمره سبحانه فاستحقّ بذلك الرّياسة العظمى و الخلافة الكبرى، و لو ساغت الخلافة للمفضول مع وجود الأفضل لم تتمّ الحجّة على الملائكة، و لما كان مساغ لقوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» و قوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «2» فقد دلّت الآية على أنّه لا يجوز خلافة المفضول مع وجود الأفضل.

و هذه قضيّة كلّية كبرويّة، و أمّا الصغرى الّتي يثبت معها مذهب الاماميّة فهي أنّ عليّا عليه السّلام كان أفضل الصّحابة و أعلمهم، و قد أشار إليه سبحانه في

قوله: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «3»، وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «4»، هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «5»، و غيرها من الآيات المفسّرة بذلك من طرق الفريقين بل الاخبار النبويّة و غيرها به متواترة فمن طريق العامة «6».

عن موفق بن أحمد بالإسناد عن سلمان رضى اللّه عنه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال أعلم أمّتي من بعدي عليّ بن أبي طالب «7».

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

(2) البقرة: 33.

(3) الرعد: 43.

(4) يس: 12.

(5) الزمر: 9.

(6) هو موفّق بن احمد الخوارزمي المعروف بأخطب خوارزم المتوفى (468) ه.

(7) المناقب للخوارزمي: ص 49 ط تبريز.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 203

و في خبر آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: أقضى أمّتي عليّ بن أبي طالب «1».

و عن كتاب فضائل الصّحابة للسمعاني «2» بالإسناد عن ابن عباس قال: قال قال رسول اللّه (ص) علي اقضى أمّتي فمن احبني فليحبّه فان العبد لا ينال ولايتي إلّا بحبّ عليّ عليه السّلام «3».

و عنه بالإسناد عن عمر بن الخطّاب انّه قال: عليّ أقضانا «4».

و روى ابن أبي الحديد في «شرح النّهج» عن أبي نعيم الحافظ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أخصمك يا علي بالنّبوة فلا نبوّة بعدي و تخصم بسبع لا يجاحد فيها أحد من قريش أنت أوّلهم ايمانا و أوفاهم بعهد اللّه و أقومهم بأمر اللّه و أقسمهم بالسّوية و أعدلهم في الرعيّة و أبصرهم بالقضيّة و أعظمهم عند اللّه مزيّة «5».

و روى الفقيه ابن المغازلي الشّافعي في مناقبه بالإسناد عن ابن عباس قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل

بدرنوك من الجنّة فجلست عليه، فلمّا صرت بين يدي ربّي كلّمني و ناجاني فما علّمت شيئا إلّا علّمته عليّا فهو باب مدينة علمي، ثمّ دعاه إليه فقال: يا عليّ سلمك سلمي و حربك حربي و أنت العلم فيها بيني و بين أمّتي بعدي «6».

__________________________________________________

(1) المناقب: ص 48 ط تبريز.

(2) هو ابو المظفر منصور بن محمد السمعاني النيسابوري المتوفى (489) ه.

(3) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 336 ط مصر.

(4) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 336 ط مصر.

(5) حلية الأولياء لأبي نعيم: ج 1 ص 65 ط السعادة بمصر.

(6) احقاق الحق: ج 4 ص 258 عن المناقب لابن المغازلي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 204

و عن موفق بن أحمد بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، و إلى نوح في فهمه، و إلى يحيى في زهده، و إلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب «1».

و عنه بالإسناد عن الحارث الأعور صاحب راية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال:

بلغنا انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله كان في جمع من أصحابه فقال صلّى اللّه عليه و آله: أريكم آدم في علمه، و نوحا في فهمه، و إبراهيم في حكمته؟ فلم يكن بأسرع من أن طلع عليّ فقال أبو بكر يا رسول اللّه أقست رجلا بثلاثة من الرّسل بخّ بخّ بهذا الّرجل من هو يا رسول اللّه؟

قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: أو لا تعرفه؟ قال: اللّه و رسوله أعلم قال صلّى اللّه عليه و آله: أبو الحسن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال أبو

بكر: بخّ بخّ لك يا أبا الحسن و أين مثلك يا أبا الحسن «2».

و عن عمر أنّه قال: العلم ستّة اسداس لعليّ من ذلك خمسة اسداس و للنّاس سدس و لقد شاركنا في السدس، حتّى لهو أعلم به منّا «3».

و عنه عن ابن المغازلي الشّافعي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال: قسّمت الحكمة على عشرة أجزاء فاعطي عليّ تسعة و الناس جزءا واحدا «4».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق العامة فضلا عن المأثورة من طرق الخاصّة و قد تواتر من طرق الفريقين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها «5».

__________________________________________________

(1) الاحقاق: ج 15 ص 620- عن المناقب للحيدرآبادي ص 49.

(2) أرجح المطالب للأمر تسري: ص 454 ط لاهور.

(3) بحار الأنوار: ج 40 ص 147 عن الأربعين للخطيب.

(4) الاحقاق ج 5 عن المناقب لابن المغازلي ص 517 و حليه الأولياء ج 1 ص 64.

(5) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 2 ص 276.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 205

و في أخبار كثيرة: انا مدينة الحكمة و عليّ بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها «1».

و انّ أقضاكم عليّ «2».

و من البيّن أنّ القضاء يحتاج إلى سائر العلوم.

ثمّ إنّه قد قال عليه السّلام: سلوني قبل أن تفقدوني، و لم يجسر أحد أن يقول ذلك غيره «3».

روى موفّق بن احمد بالإسناد عن سعيد بن المسيّب قال ما كان في أصحاب النّبي صلّى اللّه عليه و آله أحد يقول: سلوني غير عليّ بن أبي طالب عليه السّلام «4».

و عنه عن الحمويني العاميين بالإسناد عن ابي سعيد البختري قال: رأيت

عليّا كرم اللّه وجهه و قد صعد المنبر بالكوفة و عليه مدرعة كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متجلّدا «5» بسيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متعمّما بعمامة رسول اللّه و في إصبعه خاتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقعد على المنبر فكشف عن بطنه و قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فانّما بين الجوانح منّي علم جمّ هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول اللّه هذا ما زقّني رسول

__________________________________________________

(1) امالي الطوسي: ص 308.

(2) بحار الأنوار: ج 40 ص 150.

(3) المناقب لأخطب خوارزم: ص 54 ط تبريز.

(4) المناقب لا خطب خوارزم: ص 54 ط تبريز.

(5) في المصدر: متقلّدا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 206

اللّه صلّى اللّه عليه و آله زقّا من غير وحي أوحي إليّ، فو اللّه لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم، و لأهل الإنجيل بإنجيلهم حتّى ينطق اللّه التوراة و الإنجيل فيقولان: صدق عليّ قد افتاكم بما انزل فينا و أنتم تتلون الكتاب أ فلا تعقلون «1».

و روى الصدوق في أماليه ما يقرب منه و فيه سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين و الآخرين.

و قال ابن ابي الحديد في شرح النّهج أجمع الناس كلّهم على انّه لم يقل أحد من الصّحابة و لا أحد من العلماء: سلوني غير عليّ بن أبي طالب عليه السّلام «2».

ثمّ انّه عليه السّلام قد ادّعى على ما تواتر عنه من طرق الفريقين انّه أعلم الأمّة و انّه عالم بجميع ما كان و ما يكون إلى يوم القيمة و انّ في صدره لعلما جمّا لا يصيب حمله و هو عليه السّلام صادق في دعواه.

بل قد تواترت

الاخبار رجوع ابي بكر و عمر و عثمان فضلا عن غيرهم إليه عليه السّلام في العلوم و القضايا و الاحكام بعد ظهور عجزهم و انقطاعهم حتّى قال عمر أزيد من سبعين مرّة لو لا عليّ لهلك عمر «3».

و عن مسند أحمد بن حنبل بالإسناد عن يحيى بن سعيد بن المسيّب كان عمر يتعوّذ باللّه عن معضلة ليس لها أبو الحسن «4».

__________________________________________________

(1) المناقب للخوارزمي: ص 55 ط تبريز و الحمويني في فرائد السمطين.

(2) شرح النهج: ج 2 ص 175 ط مصر.

(3) ملحقات الاحقاق: ج 8 ص 182- 192.

(4) ملحقات الاحقاق: ج 8 ص 193- 200.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 207

و روى موفّق بن أحمد انّ عمر أمر برجم حامل فزجره عليّ عليه السّلام فقال عمر:

عجزت النّساء أن يلدن مثل عليّ بن أبي طالب لو لا عليّ لهلك عمر «1».

و رووا عنه انّه قال: اللّهم لا تبقني لمعضلة ليس لها أبو الحسن «2».

و في خبر آخر عليّ بن ابي طالب عليه السّلام و انّه قال: أعوذ باللّه من معضلة لا عليّ لها «3».

روى الحكم بن مروان: انّ عمر نزلت به نازلة فقام لها و قعد ارتجّ و تفطّر فقال لمن عنده معاشر الحاضرين: ما تقولون في هذا الأمر؟ فقالوا يا أمير المؤمنين أنت المفزع و الأمر بيدك، فغضب و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً «4» ثمّ قال: اما و اللّه إنّي و إيّاكم لنعلم أين نجدها و الخبير بها قالوا: كانّك أردت ابن أبي طالب عليه السّلام؟ قال: و أنّى يعدل به عنه، و هل طفحت حرّة بمثله؟ قالوا:

فلو دعوت به يا أمير المؤمنين قال: هيهات

إنّ هناك شمخا من هاشم و اثرة عن علم، و لحمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يؤتى و لا يأتي فامضوا بنا إليه فاقصدوا نحوه و افضوا إليه، فألفوه في حائط له، عليه تبّان «5» و هو يتركل على مسحاة و يقرأ: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً «6» إلى آخر السّورة، و دموعه تهمى على خدّيه، فادهش

__________________________________________________

(1) المناقب للخوارزمي: ص 48 ط تبريز.

(2) المناقب للخوارزمي: ص 58 ط تبريز.

(3) الفصول المهمّة لابن الصباغ المالكي ص 17.

(4) الأحزاب: 70.

(5) التبّان: سروال قصير الى ما فوق الركبة.

(6) القيامة: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 208

النّاس لبكائه فبكوا ثمّ سكت، فسكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها فقال عمر: أما و اللّه لقد أرادك الحقّ و لكن أبى قومك، فقال: يا أبا حفص اخفض عليك من هنا و من هنا إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً «1» فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى و طرق إلى الأرض كانّما ينظر في رماد «2».

و قال ابن أبي الحديد: و أمّا عمر فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه يعني عليّا عليه السّلام في كثير من المسائل الّتي أشكلت عليه و على غيره من الصّحابة، و قوله غير مرّة لو لا عليّ لهلك عمر، و قوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو حسن، و قوله: لا يفتين أحد في المسجد و عليّ حاضر.

إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المتواترة من طرق الفريقين الّتي قد أفردوها بالتّصنيف، بل حكاية أفضليّته عليه السّلام مسلّمة عند كثير من العامّة أيضا و حكاها الرازي في «أربعينه» عن اكثر متأخّري المعتزلة و حكى عن الشيعة الاستدلال

لها بوجوه أنهاها إلى عشرين قال في جملة ما ذكره:

الحجّة الثالثة أنّ عليّا أعلم الصحابة، و الأعلم أفضل، إنّما قلنا: إنّ عليّا أعلم للاجمال و التفصيل، أمّا الإجمال فهو انّه لا نزاع أنّ عليّا كان في اصل الخلقة في غاية الذّكاء و الفطنة و الاستعداد للعلم، و كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل الفضلاء و أعلم العلماء، و كان عليّ عليه السّلام في غاية الحرص في طلب العلم، و كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله في غاية الحرص في تربية عليّ عليه السّلام، و إرشاده إلى اكتساب الفضائل، ثمّ انّ عليّا عليه السّلام كان من

__________________________________________________

(1) النبأ: 17.

(2) في البحار: ج 40 ص 122- 143 مع تفاوت يسير في العبارات، و في آخرها: فوضع عمر إحدى يديه على الآخر و خرج مربد اللون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 209

أوّل صغره في حجر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و في كبره صار ختنا له، و يدخل عليه في كلّ الأوقات، و من المعلوم أنّ التّلميذ إذا كان في غاية الذكاء و الحرص على التعلّم، و كان الأستاذ في غاية الفضل و الحرص على التعليم ثمّ اتّفق لمثل هذا التّلميذ أن اتّصل بخدمة هذا الأستاذ في زمان الصّغر كان ذلك الاتّصال بخدمته حاصلا في كلّ الأوقات، فانّه يبلغ ذلك التّلميذ في العلم مبلغا عظيما، و هذا بيان اجمالي في أنّ عليّا كان أعلم الصحابة، أمّا أبو بكر فانّه و إن اتّصل بخدمته صلّى اللّه عليه و آله في زمان الكبر و لكن ما كان يصل إلى خدمته في اليوم و اللّيلة إلّا زمانا يسيرا، أمّا عليّ عليه السّلام فانّه اتّصل بخدمته

عليه السّلام في زمان صغره، و قد قيل: العلم في الصغر كالنّقش في الحجر، و العلم في الكبر كالنقش في المدر، فثبت بما ذكرناه أنّ عليّا كان أعلم من أبي بكر، و يكفي في ذلك قوله: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها» «1» و قال عليّ عليه السّلام: علّمني ألف باب ينفتح من كلّ باب ألف باب «2».

و أمّا التّفصيل فيدلّ عليه وجوه:

الأوّل: اكثر المفسّرين سلّموا انّ قوله تعالى: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «3» نزل في حقّ عليّ عليه السّلام و تخصيصه بزيادة الفهم يدلّ على اختصاصه بمزيد العلم «4».

الثّاني: قوله صلّى اللّه عليه و آله: أقضاكم عليّ عليه السّلام «5» و القضاء يحتاج إلى جميع أنواع

__________________________________________________

(1) شرح النهج: ج 2 ص 276.

(2) بحار الأنوار: ج 40 ص 128.

(3) الحاقة: 12.

(4) بحار الأنوار: ج 35 ص 326.

(5) الإستيعاب ج 3 ص 38 هامش الإصابة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 210

العلوم، فلمّا رجّحه على الكلّ في القضاء لزم أرجحيّته عليهم في كلّ العلوم، و أمّا سائر الصّحابة فقد رجّح كلّ واحد منهم على غيره في علم واحد كقوله صلّى اللّه عليه و آله:

أفرضكم زيد و أقرأكم أبيّ «1».

الثّالث: دعوى انّ عمر أمر برجم امرأة ولدت لستّة أشهر فنبّهه عليّ عليه السّلام بقوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «2» مع قوله: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «3»، على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر فقال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر «4».

و روي أنّ امرأة أقرّت بالزّنا و كانت حاملا فأمر عمر برجمها فقال عليّ عليه السّلام إن كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها

فترك عمر رجمها فقال: لو لا عليّ لهلك عمر «5».

فان قيل: لعلّ عمر أمر برجمها من غير تفحّص عن حالها فظنّت أنّها ليست بحامل فلمّا نبّهه عليّ عليه السّلام ترك رجمها.

قلت: هذا يقتضي انّ عمر ما كان يحتاط في سفك الدّماء و هذا أشرّ من الأوّل.

و رووا أيضا انّ عمر قال يوما على المنبر ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فمن

__________________________________________________

(1) غاية النهاية: ج 1 ص 31.

(2) الأحقاف: 15.

(3) البقرة: 233.

(4) الاستيعاب المطبوع بذيل الإصابة: ج 3 ص 39 ط مصر.

(5) مطالب السؤل: ص 13 ط طهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 211

غالى في مهر امرأته جعلته في بيت المال فقامت عجوز فقالت يا عمر ا تمنع منّا ما جعل اللّه لنا قال اللّه تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «1»، فقال عمر كلّكم افقه من عمر حتّى المخدّرات في البيوت «2».

فهذه الوقائع وقعت لغير عليّ عليه السّلام و لم يتّفق مثلها لعليّ عليه السّلام.

الرّابع: نقل عن عليّ عليه السّلام انّه قال: و اللّه لو كسرت لي الوسادة ثمّ جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم و بين أهل الزّبور بزبورهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم و اللّه ما من آية نزلت في بحر و لا في برّ و لا في سهل و لا في جبل و لا في سماء و لا في أرض و لا في ليل و لا في نهار إلّا و انا اعلم فيمن نزلت و ايّ شي ء نزلت «3».

طعن أبو هاشم «4» في هذا فقال: التوراة منسوخة فكيف يجوز الحكم

بها؟

و الجواب عن وجوه:

الأوّل: لعلّ المراد شرح كمال علمه بتلك الأحكام المنسوخة على التفصيل بالاحكام النّاسخة لها الواردة في القرآن.

الثّاني: لعلّ المراد لو أنّ قضاة اليهود و النّصارى تمكّنوا من الحكم و القضاء على وفق أديانهم بعد بذل الجهد أو كان المراد انّه لو جاز للمسلم ذلك لكان هو

__________________________________________________

(1) النساء: 20.

(2) تفسير ابن كثير: ج 1 ص 478.

(3) احقاق الحق: ج 7 ص 589- 591، و ج 14 ص 312- 314.

(4) هو ابو هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي المعتزلي المتوفى ببغداد سنة (321) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 212

قادرا عليه.

الثالث: لعلّ المراد أن يستخرج من التوراة و الإنجيل نصوصا دالّة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كان ذلك قويّا في التمسّك بها.

الرابع: من تفحّص عن أحوال العلوم علم أنّ أعظمها علم الأصول و قد جاء في خطب أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام من أسرار التوحيد و العدل و النبوّة و القضاء و القدر و أحوال المعاد ما لم يأت في كلام سائر الصّحابة.

و أيضا فجميع فرق المتكلّمين ينتهي أخر نسبتهم في هذا العلم إليه عليه السّلام، أمّا المعتزلة فانّهم ينسبون أنفسهم اليه، و أمّا الأشعريّة فكلّهم ينسبون إلى الأشعري «1»، و هو كان تلميذا لأبي علي الجبّائي «2» المعتزلي، و هو منتسب إلى عليّ عليه السّلام، و أمّا الشّيعة فانتسابهم إليه ظاهر.

و أمّا الخوارج فهم مع غاية بعدهم عنه كلّهم ينتسبون إلى أكابرهم، و أولئك الأكابر كانوا كلّهم تلامذة عليّ عليه السّلام.

فثبت أنّ جمهور المتكلّمين من فرق الإسلام كلّهم تلامذة عليّ عليه السّلام، و أفضل فرق الأمّة الأصوليون، و كان هذا منصبا عظيما في الفضل.

و منها

علم التفسير و ابن عباس رئيس المفسّرين و هو كان تلميذ عليّ عليه السّلام.

و منها علم الفقه و كان فيه في الدّرجة العالية، و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله: أقضاكم عليّ «3».

__________________________________________________

(1) هو ابو الحسن علي بن إسماعيل الاشعري المتوفى «324» ه.

(2) هو ابو على محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المتوفى «303» ه.

(3) الاستيعاب هامش الإصابة ج 3 ص 38 و شرح النهج ج 2 ص 235.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 213

و قال عليه السّلام: لو كسرت لي الوسادة و جلست عليها لحكمت بين أهل التّوراة بتوراتهم «1»، الخبر.

و منها علم الفصاحة و معلوم أن أحدا من الفصحاء الّذين بعده لم يدركوا درجته و لا القليل من درجته.

و منها علم النّحو و معلوم انّه انّما ظهر منه و هو الّذي ارشد أبا الأسود «2» الدّؤلي إليه.

و منها علم تصفية الباطن و معلوم انّ نسب جميع الصوفيّة ينتهي إليه كما ذكر أنّ رئيسهم أبا يزيد «3» البسطامي كان سقّاء بباب جعفر الصّادق عليه السّلام، و انّ معروف «4» الكرخي الّذي هو أحد رؤسائهم كان بوّاب عليّ بن موسى عليها السّلام.

و منها علم الشجاعة و ممارسة المصلحة و معلوم انّ نسبة هذا العلم ينتهي إليه، فثبت بما ذكرناه انّه عليه السّلام كان أستاذ العالمين بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله في جميع الخصال المرضيّة و المقامات الشريفة، و إذا ثبت انّه كان أعلم الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجب أن يكون أفضل لقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «5»، و قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «6».

__________________________________________________

(1) ينابيع المودة: ص 70 و ص 220 ط اسلامبول.

(2) جواهر الفقه للقاضي ابن البراج ص 11، شرح أصول الكافي للمازندراني ج 2 ص 298.

(3) هو ابو يزيد طيفور بن عيسى الصوفي البسطامي المتوفى سنة «261» ه.

(4) هو ابو محفوظ المعروف بمعروف الكرخي توفي ببغداد سنة «200» ه.

(5) الزمر: 9.

(6) المجادلة: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 214

و بالجملة معلوم بالعقل و النقل كتابا و سنّة و اجماعا عدم مساواة العالم و غيره، و انّ العالم يقدّم في كلّ شي ء، و يدلّ عليه تفضيل آدم على الملائكة بعلم أسماء الأشياء، و ترجيح ملكيّة طالوت على غيره ممّن له شرف و فخر بأنّه من أولاد النّبي و أولاد الملوك، مع أنّه كان دبّاغا فانّ اللّه تعالى اخبر بأنّه الأحقّ لأنّه زاده بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ «1» اي القوّة و الشّجاعة ثمّ ساق الكلام في الوجوه الدّالة على أفضليّة مولانا أمير المؤمنين و أنهاها إلى عشرين ثمّ ساق الكلام في الجواب عنها بزعمه و زعم أصحابه إلى أن قال:

و أمّا الحجّة الثالثة و هي أنّ عليّا عليه السّلام كان أعلم، قلنا لم لا يجوز أن حصلت هذه الكثرة بعد ابي بكر و ذلك لأنّه عاش بعده زمانا طويلا فلعلّه حصّلها في هذه المدّة فلم قلتم انّه في زمان حياة ابي بكر كان أعلم منه هذا كلامه.

و هذا الجواب كما ترى بمكان من الضّعف و القصور، و ذلك لأنّه مقتضى ما ذكره من الأدلّة فضلا عمّا لم يذكره أنّه عليه السّلام كان أعلم الصحابة بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله، بل و في زمان حياته ايضا، كما يدلّ

عليه ما ذكره من الدّليل الاجمالي بل و كثير من ادلّته التفصليّة كنزول قوله: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «2» في حقّه، و النّبوي: أقضاكم عليّ «3»، و الآخر: انا مدينة العلم و عليّ بابها «4»، و ما رواه عنه عليه السّلام من قوله: علّمني رسول اللّه ألف باب «5»، آه و غير ذلك ممّا ينادي بأفضليّته على كلّ الأمّة و لو في

__________________________________________________

(1) البقرة: 247.

(2) الحاقة: 12.

(3) الاستيعاب: ج 3 ص 38.

(4) الجامع الصغير للسيوطي: ج 1 ص 374.

(5) البحار: ج 40 باب 93.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 215

زمان النّبي.

ثمّ على فرض تسليم تحصيل تلك العلوم بعد أبي بكر فلا شكّ انّه عليه السّلام كان في زمن عمر و عثمان أفضل منهما كما يومئ إليه ما حكاه من وقائع عمر و خطائه و إقراره على نفسه بالجهل و قوله: لو لا عليّ لهلك عمر «1» في مواقع كثيرة فكيف يقدّمان عليه باعتقاده، و لعمري إنّ صدور مثل هذا الجواب بعد ما مرّ عنه من بيان الأعلميّة من أطرف الغرائب، و لو لا أنّه كان معلوما منه بقاؤه على عماه و انحرافه عن الحقّ و إيمانه بالجبت و الطاغوت لكان يقوي الظّن بأنّ مثل هذا الكلام لا يصدر إلّا عن محقّ تلبّس بلباس أهل الباطل خوفا و تقيّة، ثمّ قرّر الحقّ على وجهه من غير أن يأتي عنه بجواب مشبع تشييدا للحن و اهله و تزييفا للباطل و حزبه، و لكنّهم جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «2» و هو أنّه سبحانه قد أجرى الحقّ على ألسنتهم و أقلامهم حجّة عليهم و ردعا لغيرهم من متابعتهم بعد أن

هداهم اللّه سبحانه فاستحبّوا العمى على الهدى، فجرت على منهاجهم اتباعهم أولئك الّذين لعنهم اللّه فأضلّهم و أعمى أبصارهم.

رابعها: انّه لا بدّ من عصمة الخليفة و طهارته عن لوث المعاصي و براءته عن اقتراف الذّنوب لما قيل: من أنّه يستدلّ بالخليفة على المستخلف كما جرت به العادة في العامّة و الخاصة لقضاء العرف بأنّه متى استخلف ملك خليفة فان كان

__________________________________________________

(1) مطالب السؤل: ص 13 ط طهران.

(2) النمل: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 216

الخليفة ظالما استدلّ بظلمه على ظلم مستخلفه، و إذا كان عادلا استدلّ بعدله على عدل مستخلفه، سيّما مع علم المستخلف و اطّلاعه بما يصدر عن خليفته من الأفعال و الآثار و علمه بعواقب أموره و قدرته عليه في جميع الأحوال.

و من هنا يظهر انّ خلافة اللّه سبحانه توجب العصمة فلا يكون الخليفة إلّا معصوما سيّما مع جعله علما بين الناس و أمرهم بالاقتداء و التأسّي به في جميع الأفعال و الأقوال، فإذا صدر عنه بعض المعاصي و لو خطأ فإمّا أن تكون الخلافة الكلّيّة الّتي جعلها اللّه له باقية بالنّسبة إلى تلك المعصية ايضا أو لا، فعلى الأوّل يلزم الأمر بالمنكر و نقض الغرض و الإغراء على المعاصي، و غير ذلك من المفاسد المخالفة للطفه سبحانه، و على الثّاني يلزم انتفاء الخلافة له بالنسبة إلى ذلك من دون إعلام و بيان من الآمر الحكيم و فيه مع مخالفته للّلطف انّه إغراء بالجهل و تأخير للبيان عن وقت الحاجة مع طريان الاحتمال في كلّ واحد من الأقوال و الأفعال الموجب للقدح في اطلاق وجوب الطّاعة فيكون إطلاق الأمر باطاعته جاريا مجرى العمومات المخصّصة بالمجملات في عدم الحجيّة رأسا.

ثمّ انّ هذا

الوجه و ان لم يستفد من الآية على وجه الإلزام و الحجّيّة إلّا أنّه يستفاد منها على وجه الإشارة على بعض الوجوه المقرّرة في الآية باعتبار معنى الخلافة و غيرها لكنّه لا بأس به بعد استفادته من تسميته هدى في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «1» على أحد الوجوه، و من قوله: لا يَنالُ عَهْدِي

__________________________________________________

(1) البقرة: 38.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 217

الظَّالِمِينَ «1» على ما يأتي، و من القواطع العقليّة الّتي ستسمع الكلام في بعضها إنشاء اللّه.

خامسها: ما ذكره الصّدوق بعد الإشارة إلى بعض ما مرّ من أنّ في قوله عزّ و جلّ: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2» حجّة قوية على غيبة الامام عليه السّلام، و ذلك أنّه عزّ و جلّ لما قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أوجب بهذا اللفظ معنى، و هو أن يعتقدوا طاعته، فاعتقد عدو اللّه إبليس بهذه الكلمة نفاقا و أضمره حتّى صار به منافقا، و ذلك انّه أضمر أن يخالفه متى أستعبد بالطاعة له، فكان نفاقه أنكر النّفاق، لأنّه نفاق بظهر الغيب، و لهذا صار أخزى المنافقين كلّهم، و لمّا عرّف اللّه عزّ و جلّ لملائكته ذلك أضمروا الطاعة له، و اشتاقوا إليه، و أضمروا نقيض ما أضمره الشيطان، فصار لهم من الرتبة عشرة أضعاف ما استحقّ عدوّ اللّه من الخزي و الخسارة، و الطاعة و الموالاة بظهر الغيب ابلغ في الثواب و المدح لأنّه أبعد من الشبهة و المغالطة.

و لذا روي عن الصادق عليه السّلام: من دعا لأخيه بظهر الغيب و كلّ اللّه به ملكا يقول:

و لك مثلاه «3».

و انّ اللّه تبارك و تعالى أكّد دينه بالإيمان بالغيب، فقال:

هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «4» الآية، فالإيمان بالغيب أعظم مثوبة لصاحبه، لأنّه خلو من كلّ

__________________________________________________

(1) البقرة: 124.

(2) البقرة: 30.

(3) الاختصاص: ص 84.

(4) البقرة: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 218

عيب و ريب، لأنّ بيعة الخليفة وقت المشاهدة قد يتوهّم على المبايع أنّه انّما يطيع رغبة في خير أو مال أو رهبة من قتل او غير ذلك، ممّا هو عادات أبناء الدنيا في طاعة ملوكهم، و ايمان الغيب مأمون من ذلك كلّه، و محروس من معايبه بأصله.

و يدلّ على ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1»، فلما حصل للتعبّد ما حصل من الايمان لم يحرم اللّه عزّ و جلّ ذلك لملائكته، فقد جاء في الخبر انّ اللّه سبحانه قال هذه المقالة للملائكة قبل خلق آدم بسبعمائة عام، و كان يحصل في هذه المدّة الطاعة لملائكة اللّه على قدرها.

و لو أنكر منكر هذا الخبر و الوقت و الأعوام لم يجد بدّا من القول بالغيبة و لو ساعة واحدة، و الساعة الواحدة لا تتعرّى من حكمة مّا، و ما حصل من الحكمة في الساعة حصل في الساعتين حكمتان، و في الساعات حكم و ما زاد في الوقت إلّا زاد في المثوبة، و ما زاد في المثوبة إلّا كشف اللّه عن الرحمة، و دل على الجلالة فصح الخبر ان فيه تأييد الحكمة و تبليغ الحجّة.

ثمّ انّ الغيبة قبل الوجود أبلغ الغيبات كلّها، و ذلك انّ الملائكة ما شهدوا قبل ذلك خليفة قطّ، و امّا نحن فقد شاهدنا خلفاء كثيرين غير واحد، و قد

نطق به القرآن، و تواترت به الأخبار حتّى صارت كالمشاهدة، و الملائكة لم يعهدوا واحدا منهم فكانت تلك الغيبة ابلغ، و ايضا انّها كانت غيبة من اللّه عزّ و جلّ لملائكته، و هذه الغيبة الّتي للإمام عليه السّلام هي من اعداء اللّه، فإذا كان في الغيبة الّتي هي من اللّه عزّ و جلّ عبادة

__________________________________________________

(1) المؤمن: 84.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 219

لملائكته، فما الظّن بالغيبة الّتي هي من أعداء اللّه، و في غيبة الامام صلوات اللّه عليه عبادة ملخصة لم تكن في تلك الغيبة، و ذلك أنّ الامام الغائب صلوات اللّه عليه مقموع مقهور مزاحم في حقّه قد غلب قهرا و جرى على شيعته قسرا من أعداء اللّه ما جرى من سفك الدّماء و نهب الأموال، و إبطال الاحكام، و الجور على الأيتام، و تبديل الصّدقات، و غير ذلك ممّا لا خفاء به، و من اعتقد موالاته شاركه في اجره و جهاده، و تبرّأ من أعدائه و كان له في براءة مواليه من أعدائه اجر، و في ولاية أوليائه اجر يربو على أجر ملائكة اللّه عزّ و جلّ على الايمان بالإمام المغيب في العدم، و إنّما قصّ اللّه نبأه قبل وجوده (توقيرا) و تعظيما ليستعدّ له الملائكة و يتشمّروا لطاعته.

و إنّما مثال ذلك تقديم الملك فيما بيننا بكتاب أو رسول إلى أوليائه أنّه قادم عليهم حتّى يتهيّئوا لاستقباله و ارتياد الهدايا له ما يقطع به، و معه عذرهم في تقصير إن قصّروا في خدمته، كذلك بدأ اللّه عزّ و جلّ بذكر نبأه إبانة عن جلالته و رتبته، و كذلك قضيته في السلف و الخلف ما قبض اللّه خليفة إلّا عرّف خلقه الخليفة الّذي يتلوه،

و تصديق ذلك قوله عزّ و جل أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ «1» الآية، فالّذي على بيّنة من ربّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الشاهد الّذي يتلوه عليّ بن ابي طالب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، و يدلّ عليه قوله عزّ و جلّ: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً* «2»، و الكلمة من كتاب موسى المحاذية لهذا المعنى حدو النعل بالنعل

__________________________________________________

(1) هود: 17.

(2) هود: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 220

و القذّة بالقذّة قوله: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «1»، و استعبد اللّه عزّ و جلّ الملائكة بالسجود لآدم تعظيما له لما غيّبه عن أبصارهم، و ذلك انّه عزّ و جلّ إنّما أمرهم بالسجود لآدم لما أودع صلبه من أرواح حجج اللّه تعالى ذكره، فكان ذلك السجود للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم طاعة، و لما في صلبه تعظيما، فأبى إبليس أن يسجد لآدم حسدا له، إذ جعل صلبه مستودع أرواح حجج اللّه دون صلبه، فكفر بحسده و تأبّيه، و فسق عن امر ربّه، و طرد عن جواره، و لعن و سمّي رجيما لأجل إنكاره للغيبة لأنّه احتجّ في امتناعه من السجود لآدم بان قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* «2» فجحد ما غيّب عن بصره، و لم يوقع التصديق به، و احتجّ بالظاهر الّذي شاهده و هو جسد آدم عليه السّلام، و أنكر أن يكون يعلم لما في صلبه وجودا، و لم

يؤمن بان آدم عليه السّلام إنّما جعل قبلة للملائكة و أمر بالسجود له لتعظيم ما في صلبه.

فمثل من آمن بالقائم صلوات اللّه عليه في غيبته مثل الملائكة الّذين اطاعوا اللّه عزّ و جلّ في السجود لآدم و مثل من أنكر القائم صلوات اللّه عليه في غيبته مثل إبليس في امتناعه عن السجود لآدم كذلك.

روى عن الصادق جعفر بن محمّد صلوات اللّه عليهما.

و عنه عليه السّلام قال: انّ اللّه تبارك و تعالى علّم آدم عليه السّلام، اسماء حجج اللّه كلّها ثمّ

__________________________________________________

(1) الأعراف: 142.

(2) الأعراف: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 221

عرضهم- و هم أرواح- على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم و تقديسكم من آدم عليه السّلام قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال اللّه تبارك و تعالى يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وقفوا على عظيم منزلتهم عند اللّه تعالى ذكره فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء اللّه في ارضه و حججه على بريّته، ثمّ غيّبهم عن أبصارهم و استعبدهم بولايتهم و محبّتهم و قال لهم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «1».

و هذا استعباد اللّه عزّ و جلّ للملائكة بالغيبة، و الآية أوّلها في قصّة الخليفة، و إذا كان اخرها مثلها كان للكلام و في النظم حجّة، و منه يوجد وجه الإجماع لأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أوّلهم و آخرهم، و ذلك انّه سبحانه إذا علّم آدم الأسماء كلّها على ما قاله المخالفون، فلا محالة انّ اسماء الأئمّة صلوات اللّه عليهم داخلة

في تلك الجملة، فصار ما قلناه في ذلك بإجماع الأمّة، و من أصحّ الدّليل عليه انّه لا محالة لمّا دلّ الملائكة على السجود لآدم فانّه حصل لهم عبادة، و لمّا حصل لهم عبادة أوجب باب الحكمة ان يحصل لهم ما هو في حيّزه، سواء كان في وقت او في غير وقت، فانّ الأوقات ما تغيّر الحكمة و لا تبدل الحجّة، اوّلها كآخرها و اخرها كأوّلها، لا يجوز في حكمة اللّه ان يحرمهم معنى من معاني المثوبة، و لا أن يبخل بفضل من فضائل الأئمّة لأنّهم كلّهم شرع واحد، دليل ذلك أنّ الرسل متى آمن مؤمن بواحد منهم او بجماعة و أنكر واحدا منهم لم يقبل منه إيمانه، كذلك القضيّة في الأئمّة صلوات اللّه عليهم اوّلهم

__________________________________________________

(1) كمال الدين: ص 9- 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 222

و آخرهم واحد.

قال الصادق عليه السّلام: المنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، و قد قال صلوات اللّه عليه:

من أنكر واحدا من الأحياء فقد أنكر الأموات «1».

فصحّ أن قوله عزّ و جلّ: عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أراد به اسماء الأئمّة صلوات اللّه عليهم و للأسماء معان كثيرة ليس أحد معانيها بأولى من الآخر، و الأسماء أوصاف، و ليس أحد الأوصاف بأولى من الاخر، فمعنى الأسماء انّه سبحانه علّم آدم عليه السّلام أوصاف الأئمّة كلّها أوّلها و أخرها، و من اوصافهم العلم و الحلم و التقوى و الفتوة و الشجاعة و العصمة و السخاء و الوفاء، و قد نطق بمثله كتاب اللّه عزّ و جلّ في أسماء الأنبياء عليهم السّلام كقوله عزّ و جلّ: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا «2»، و اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ

الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا «3»، وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «4»، وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا «5»، الآيات فوصف الرسل عليهم السّلام، و حمدهم بما كان فيهم من الشيم المرضيّة و الأخلاق الزكية، و كان ذلك اوصافهم و أسماؤهم كذلك علّم اللّه عزّ و جلّ آدم الأسماء كلّها.

__________________________________________________

(1) كمال الدين: ج 2 ص 228.

(2) مريم: 41.

(3) مريم: 54- 55.

(4) مريم: 56- 57.

(5) مريم: 51.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 223

و الحكمة في ذلك أنّه لا وصول إلى الأسماء و وجوه الاستعبادات الّا من طريق السماع، و العقل غير متوجّه إلى ذلك، لأنّه لو أبصر عاقل شخصا من بعيد او قريب لما توصّل إلى استخراج اسمه، و لا سبيل إليه إلّا من طريق السّماع، فجعل اللّه عزّ و جلّ العمدة في باب الخليفة السّماع، و لمّا كان كذلك أبطل به باب الاختيار، إذ الاختيار من طريق الآراء، و قضية الخليفة موضوعة على الأسماء و الأسماء موضوعة على السّماع، فصحّ به، و معه مذهبنا من أنّ الامامة لا تكون إلّا بالنّص و الإشارة، فأمّا باب الإشارة فمضمر في قوله عزّ و جلّ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فباب العرض مبنيّ على الشخص و الإشارة، و باب الاسم مبنيّ على السمع، فصح معنى الإشارة و النصّ جميعا، و للعرض الذي قال اللّه تعالى ثمّ عرضهم على الملائكة معنيان: أحدهما عرض اشخاصهم و هيئاتهم كما روينا في أخبار أخذ الميثاق و الذّر، و الوجه الاخر أن يكون

عزّ و جلّ عرضهم على الملائكة من طريق الصفة و النّسبة، كما يقوله قوم من مخالفينا فمن كلا المعنيين يحصل استعباد اللّه عزّ و جلّ الملائكة بالإيمان بالغيبة «1» انتهى كلامه زيد مقامه.

الثالث: انّه يستفاد من قوله سبحانه: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها انّ واضع اللّغات هو اللّه سبحانه كما استدلّ به عليه و ذلك لأنّ المراد بالأسماء امّا بالألفاظ الدّالة على المسمّيات، أو الأشياء الّدالة مطلقا أو البعض من أحدهما او كليهما، و الأخيران مدفوعان بظهور الجمع المحلّى في العموم، سيّما مع تأكيده بلفظ الكلّ الصّريح في افادة العموم، مضافا إلى عدم القول بالفصل بين البعض و الكلّ، و على

__________________________________________________

(1) كمال الدين: ج 1 ص 11- 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 224

الأولين يثبت المطلوب، و المراد بتعليمها على ما هو ظاهر اللفظ إلقاؤها على المتعلّم مبيّنا له معانيها، كما هو ظاهر تعليم الاسم على صفة الاسميّة، و لا يصدق ذلك إلّا مع سبق وضعها لمعانيها، فإمّا أن يكون صادرا منه سبحانه و هو المطلوب، او من الخلق الّذين كانوا قبل آدم، و هو منفي بالأصل.

و توهّم أنّ المراد بالأسماء ما يقابل الأفعال و الحروف مدفوع، مع الغضّ عن عدم القول بالفصل كما صرّح به جماعة، و عن توقّف الإفادة و الاستفادة منها على معرفة معانيها ايضا على ما قيل: بانّه اصطلاح خاصّ حادث لا يحمل عموم الخطابات الشرعيّة عليه، بل المراد به إمّا المعنى اللغوي، و هو مطلق العلامة الشامل للافعال و الحروف ايضا لكونها علامات على معانيها، او المعنى العرفي العام و هو مطلق اللفظ الموضوع على ما قيل.

فان قلت: إنّ المراد بالأسماء الصفات و العلامات، مثل كون الفرس صالحا

للرّكوب، و الثور للحرث و الجمل للحمل، إذ كلّ ما يميز الشي ء فهو اسم، و حينئذ يمكن أن يكون تعريفها بخلق علم ضروري من غير توسّط الألفاظ، و أمّا تخصيص الاسم بخصوص الألفاظ فإنّما هو اصطلاح طار، سلّمنا لكنّ المراد بالتعليم الإلهام و بعث العزم و الإقدار على الوضع بخلق الأدوات و المشاعر و الإرادات و العلوم المحتاج إليها، و انّما نسب التعليم إليه سبحانه لأنّه الهادي إليه، فهو تعليم تكويني الهامي كما في قوله: وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ «1» اي الهمناه.

قلت: تخصيصه بالصفات ممّا لا وجه له بعد دلالة اللفظ على العموم و فقد

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 225

المخصّص، مع أنّ الصفات متشابهة، و لا يكاد يحصل التّمييز التّام بمجرّدها، مع أنّ التعبير عنها أيضا لا يكون إلّا بالأسماء اللفظيّة.

و احتمال كون تعريفها بخلق علم ضروري مع مخالفته للظّاهر مدفوع بأنّ المعلوم حينئذ إمّا الذّوات أو ما يدلّ عليها من صور الصفات او الألفاظ او كلّ منها و الأوّل مدفوع بظاهر قوله: بأسماء هؤلاء و قوله: بأسمائهم و الثاني تخصيص من غير مخصّص، و الأخيران يثبت معهما المطلوب و ارتسام صور الألفاظ عن الذّهن و ان لم يتوقّف على الألفاظ الفعلية المسموعيّة لكنّه دليل على سبق الوضع.

و امّا حمل التعليم على بعث العزم و الإقدار على التعليم فمخالف للظاهر الذي هو الحجّة، مضافا إلى مخالفته للاخبار المفسّرة للآية على ما مرّ كما أنّ الظاهر أيضا هو الدّافع لاحتمال ما يقال من أنّه كشف عليه ما يحدثه ذرّيته من اللّغات المختلفة و الأوضاع الطارية من دون أن يكون هناك لفظ أو صوت أو وضع سابق.

و امّا ما يقال من أنّ

الآية لا تشمل اللّغة العربيّة لما اشتهر من انتسابها إلى يعرب بن قحطان و لذا قيل: إنّه اوّل من تكلّم بالعربيّة «1» أو إلى إسماعيل الذّبيح على نبيّنا و آله و عليه السّلام «2» و لذا قيل: إنّ العرب من ولده.

ففيه أنّه مع فرض تحقّق الشهرة على أحد الوجهين لا عبرة بها أصلا، بل هو من المشهور الّذي لا أصل له، و لذا قيل إنّ الحميريين و العمالقة و جرهم و قوم ثمود و عاد كلّهم كانوا من العرب، و قد كانوا قبل إسماعيل بمدّة متطاوله.

__________________________________________________

(1) البحار: ج 51 ص 290.

(2) المزهّر للسيوطي: ص 28- و مجمع البيان ج 1 ص 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 226

و روى شيخنا الطبرسي في المجمع عن الصادق عليه السّلام قال: كان هود و صالح و شعيب و إسماعيل و نبيّنا يتكلّمون بالعربيّة «1».

بل قد ورد في الأخبار أيضا انّ اوّل من تكلّم بالعربيّة آدم عليه السّلام.

و في العلل عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: ما أنزل اللّه تبارك و تعالى كتابا و لا وحيا إلّا بالعربيّة، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم، و كان يقع في مسامع نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله بالعربيّة، فإذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربيّة فيقع في مسامعهم بلسانهم، و كان أحد لا يخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايّ لسان خاطبه إلّا وقع في مسامعه بالعربيّة، كلّ ذلك يترجم جبرئيل عنه صلّى اللّه عليه و آله «2».

و فيه دلالة واضحة على سبق الوضع بل و كونه منه تعالى و في «العيون» و «الاحتجاج» عن الّرضا عليه السّلام في خبر عمران الصّابي انّه قال:

و اعلم أنّ الإبداع و المشيّة و الارادة معناها واحد و اسماؤها ثلاثة، و كان أوّل ابداعه و ارادته و مشيّته الحروف الّتي جعلها أصلا لكلّ شي ء، و دليلا على كلّ مدرك، و فاصلا لكلّ مشكل، و بتلك الحروف تفريق كلّ شي ء من اسم حق أو باطل، او فعل أو مفعول، او معنى او غير معنى، و عليها اجتمعت الأمور كلّها، و لم يجعل للحروف في ابداعه لها معنى غير أنفسها يتناها، و النّور في هذا الموضع اوّل فعل اللّه تعالى الّذي هو نور السموات و الأرض، و الحروف هو المفعول بذلك الفعل، و هو الحروف الّتي عليها الكلام، و العبارات كلّها من اللّه عزّ و جلّ علّمها خلقه، و هي ثلاثة و ثلاثون حرفا، فمنها ثمانية

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10 ص 80 و ج 11 ص 36.

(2) علل الشرائع: ص 53 و عنه البحار ج 16 ص 134.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 227

و عشرون حرفا تدلّ على لغات العربيّة، و من الثمانية و عشرين اثنان و عشرون تدلّ على لغات العبرانيّة و السّريانيّة «1»، الخبر بطوله.

فصرّح أوّلا بأنّ الحروف كلّها من إبداعه، بل ذكر انّه أوّل ابداعه، ثمّ قال: إنّ العبارات كلّها من اللّه عزّ و جلّ علّمها خلقه، و هو ظاهر في المطلوب، بناء على أنّ المقصود منها هي الكلمات المؤلّفة من الحروف المعبّرة بها عن المقاصد، و لذا عبّر عنها بالعبارات، هذا مضافا إلى الأخبار الكثيرة المتقدّمة في تفسير الآية الدّالة على أنّ المراد بالأسماء اسماء الجبال و البحار و الأودية و النبات و الحيوان و البساط و غيرها بل في بعضها انّه علّمه اسماء كلّ شي ء.

و في حديث

الشفاعة: فيأتون آدم عليه السّلام فيقولون أنت أب الناس، خلقك اللّه بيده و أسجد لك ملائكته و علّمك أسماء كلّ شي ء «2».

و في القصص عن أبي جعفر عليه السّلام: انّ آدم لما هبط عليه ملك الموت قال: قال أشهد أن لا اله إلّا اللّه إلى قوله: و اسجد لي ملائكته، و علّمني الأسماء كلّها. «3» الخبر قيل و يشهد له ما اشتهر من أنّ اللّه تعالى أنزل على آدم عليه السّلام حروف المعجم في احدى و عشرين صحيفة و هو اوّل كتاب انزل إلى الدّنيا و فيه ألف لغة و انّه تعالى علّمه جميع تلك اللّغات «4».

و ما ذكره المفسّرون من أنّه علّمه اسم كلّ شي ء حتّى القصعة و القصيعة بجميع

__________________________________________________

(1) عيون الأخبار: ص 87- 100 و عنه البحار ج 10 ص 314.

(2) بحار الأنوار: ج 8 ص 45.

(3) البحار: ج 11 ص 265.

(4) سيأتي عن سعد السعود ص 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 228

اللّغات الّتي تكلّم بها ولده.

و لعلّ السبب في اختلاف ذريّته فيها بعد علمه عليه السّلام باللّغات كلّها انّه عليه السّلام علّم كلّ واحد من ولده لغة واحدة ثمّ بقيت تلك اللّغة في أعقابه او انّه علّم ولده باللّغات فكانوا يتكلّمون بها مدّة حياته حين كانوا مجتمعين فلمّا قبض تفرّقوا في نواحي الأرض و تكلّم كلّ منهم بلغة اختارها من بين اللّغات على حسب الطبع و الميل و الإقليم كما لا يخفى المناسبة بين اللّغات و أهلها، على أنّ التكلّم بلغة واحدة أسهل من التكلّم بلغات مختلفة، فغلبت على أولاده تلك اللّغة حتّى إذا انقرض القرن الأوّل منهم نسوا سائر اللغات، فصار كلّ فريق منهم يتكلّم

باللسان الغالب على أبيه.

و عن السيّد في سعد السعود قال: وجدت في صحف إدريس النّبي عليه السّلام عند ذكر احوال آدم ما هذا لفظه: حتّى إذا كان الثلث الأخير من اللّيل ليلة الجمعة لسبع و عشرين خلت من شهر رمضان انزل اللّه عليه كتابا بالسّريانيّة و قطع الحروف في احدى و عشرين ورقة و هو أوّل كتاب أنزل اللّه في الدّنيا أنزل اللّه عليه الألسن كلّها فكان فيه ألف ألف لسان لا يفهم فيه أهل لسان عن أهل لسان حرفا واحدا بغير تعليم فيه دلائل اللّه و فروضه و أحكامه و شرايعه و سننه و حدوده «1».

و في محاضرة الأوائل عن مزهّر اللّغة للسيوطي: انّ اللسان الأوّل الّذي نزل به آدم من الجنّة عربي إلى أن بعد و طال العهد حرّف و صار سريانيّا، و هو منسوب إلى أرض سورى «2» و هي ارض الجزيرة كان بها نوح عليه السّلام و قومه قبل الغرق، و كان

__________________________________________________

(1) سعد السعود للسيد ابن طاوس ص 37.

(2) سورى كطوبى: موضع بالعراق و هو من بلد السريانيّين كما في القاموس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 229

يشاكل اللسان العربي، إلّا أنّه محرّف، و كان لسان جميع من في سفينة نوح عليه السّلام، إلّا رجلا واحدا يقال له جرهم، فكان لسانه لسان العربي الأوّل، فلمّا خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته فمنهم انتشر اللسان العربي الاول في ولده:

عوص أبي عاد، و عبيل و جائر أبي ثمود و جديس و سمّيت عاد باسم جرهم لأنه كان جدهم من الأم، و بقي اللّسان السّرياني في ولد ارفخشذ بن سام، إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذرّيّته،

و كان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلّم منهم بنو قحطان اللسان العربي.

و قال ابن دحية: العرب اقسام الأول عاربة و عرباء، و هم الخلّص من العرب و هم تسع قبائل، من ولد إرم بن سام بن نوح عليه السّلام، و هي عاد و ثمود و عميم و عبيل، و طسيم، و جديس، و عمليق و وبار، و جرهم الّتي نشأ إسماعيل فيهم و تزوج منهم حين نزلوا عليه بمكّة شرفها اللّه تعالى ظاعنين من اليمن إلى الشام.

و القسم الثّاني من العرب المتعرّبة و هم الّذين ليسوا بخلّص و هم بنو قحطان.

و القسم الثالث المستعربة و هم الّذين ليسوا بخلّص أيضا، و هم بنو إسماعيل، و هم ولد معدّ بن عدنان بن أدد.

ثمّ حكى عن ابن دريد «1» في «الجمهرة»: انّ العرب العاربة سبع قبائل: عاد، و ثمود، و عمليق، و طسيم، و جديس، و أميم و جاسم، و قد انقرض أكثرهم إلّا بقايا متفرّقين في القبائل «2».

__________________________________________________

(1) ابن دريد: محمد بن الحسن البصري الأديب اللغوي المتوفى (321) ه.

(2) المزهر: ج 1 ص 30- 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 230

و عن السيوطي: انّه لا خلاف بين الأمّة انّ لسان عاد و ثمود و نوح و صالح و شعيب و مدين عربي.

ثمّ انّه قد يستدلّ على ذلك ايضا بقوله تعالى: وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ «1»، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «2»، و عَلَّمَهُ الْبَيانَ «3»، و إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ «4»، و ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «5»، تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «6».

و بعدم إمكان ذلك للقوى البشريّة فانّ هذا الإبداع البديع الغير المسبوق إلى مثال مع غاية

الإتقان و الإحكام، و عدم اشتماله على تناقض و نقصان، و احاطته على جميع المعاني و البيانات على أحسن وجه و ابلغ نظام و على فنون لا تحصى عجائبها و لا يحيطها علم أحد و لو بمرور الدّهور و الأعوام، خارج عن طور أفعال البشر بحيث يقطع المتأمّل فيها و في وضعها بحيث تصلح لبيانات المقاصد الغير المتناهية و العلوم الّتي لم يحط الأفكار، و لم يصل إليها الأنظار، إنّ اللّه سبحانه هو الّذي وضعها و رتّبها و بيّنها، و علّمها خلقه، و منّ بها عليهم كما يستفاد من الأخبار

__________________________________________________

(1) الروم: 22.

(2) العلق: 5.

(3) الرحمن: 4.

(4) النجم: 23.

(5) الانعام: 38.

(6) النحل: 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 231

المفسّرة للآيات المتقدّمة بل و منها أيضا.

و بأنّها لو لم تكن توقيفيّة لكانت اصطلاحيّا و التّالي باطل لافتقار تعريف الاصطلاح إلى مثله فامّا أن يرجع في تعريف كلّ منها إلى الاخر لزم الدور أولا فالتّسلسل.

و بأنّها لو كانت اصطلاحيّة لجاز تغيير ذلك الاصطلاح الأوّل و تبديله، فيجوز أن يراد بالصّلاة و غيرها من الموضوعات المستنبطة في هذا الزمان غير ما يراد منها في الزمن الشارع فيرتفع الوثوق عن الاخبار الشرعيّة و يسقط الاستدلال بها رأسا.

و بقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ «1»، و غيرها من الآيات المتناولة بعمومها ما نحن فيه، خرج منه ما علم بالدّليل استناده إلى العباد من أفعالهم و صنايعهم و أعمالهم بحمل الخلق فيها على خلق الأسباب و الآلات الظّاهرة و القوى الباطنة و الإلهامات و الارشادات و أمثال ذلك ممّا قام الدّليل الشّرعي و العقلي و الوجداني على إخراجه من ظاهر ذلك العموم، و بقي الباقي

مقهورا تحت سلطنة الواحد القهّار.

و في الكلّ نظر لضعف الاستدلال بالآيات بما ستسمعها عند التّعرض لتفسيرها تقريبا و ردّا، و ضعف الثاني بأنّه يمكن أن يكون البشر قد وضعوها و عيّنوها بقوّة إلهيّة و الهامات ربّانيّة بعد تعليمه سبحانه أصول الكلمات، و هي الحروف الّتي عليها المدار في جميع اللّغات.

كما روى أبو ذر عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله إنّ الكتاب الّذي انزل اللّه على آدم هو كتاب

__________________________________________________

(1) الرعد: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 232

المعجم و هو ا ب ث، الخبر على ما مرّ في تفسير آلم.

و ليس ذلك ببدع منهم بعد تلقين العلوم و إفاضة القوى كما أنّهم قد استنبطوا فنون العلوم و خواص الأجسام و الصنائع الغريبة و الآثار العجيبة بافكارهم و قواهم المفاضة لهم من اللّه سبحانه بعد إعطاء الأصول و افاضة القوى و التمكين من الأسباب.

و الثالث: بجواز أن يكون الإفهام في بدو الاصطلاح بالإشارة و الترديد بالقرائن و غيرهما كما يتعلّم الأطفال اللّغات في مبادي شعورهم و ادراكاتهم بالنظر إلى استعمال المستعملين.

و توهّم الفرق بأنّ الأطفال إنّما يتعلّمون اللّغات لكون التخاطب بلغة مستقرّة معروفة بينهم فيتجاوبون فيما بينهم بما يعرفون و الاستعمالات المتكررة موجبة لحصول العلم للأطفال، و امّا صاحب الاصطلاح فلا يعرف غيره خطابه و لا جوابه و لا مراده و ليس معه إلّا الإشارة و هي لا تنهض باسرار العبادة اللّهم إلّا أن يكون ذلك من القادر على خلق علم ضروري فيمن يخاطبه بحيث يعرف به معنى خطابه من عبادته و هو المطلوب.

مدفوع بأن إمكان التفهيم و لو بالإشارة في المدد الطويلة حاصل بعد إعطاء الأصول و افاضة الفهم و الشعور فكيف يحصل القطع

بالعدم و مجرّد الاستبعاد غير مثبت للمراد.

و الرّابع: بانّ الجواز ليس دليلا على الوقوع و مع الشك يحكم باتّحاد العرف عرفا و شرعا و لو لاعتبار الأصول العلمية مضافا إلى مسيس الحاجة و توفّر

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 233

الدّواعي إلى حفظ اللّغات و المعاني العرفيّة سيّما ما له ارتباط باستنباط الاحكام الشرعيّة.

و امّا ما يقال من أنّ المراد الجواز العقلي ثمّ بعد وقوع اصطلاح أخر إمّا ان يراعى الشرع الاول خاصّة و هو مع كونه ترجيح من غير مرجّح تضييع للآخرين او الثاني فيلزم تضييع الأوّلين مع عدم كونه مرسلا بلسان قومه او كليهما و يرتفع الامان و يختلّ الاحكام، فضعيف جدّا.

و الخامس: بأنّ المراد بالخلق هو التقدير أو جعل الإمكان فالعموم بحاله و لو في افعال العباد لأنّها مخلوقة له خلق تقدير لا تكوين كما في الخبر، و كذا لو أريد به خلق الأسباب و الآلات و المقتضيات و لعلّ هو الأظهر من ملاحظة مساق الآية سيّما مع سلامتها عن التّخصيص و امّا ارادة الخلق التكويني الفعلى فبعيدة عن السياق و الأصل عدم التخصيص و دعوى كونه حقيقة في هذا خاصّة دون ما مرّ غير مسموعة و عموم الاشتراك اولى من المجاز سلمنا الحمل على الأخير لكن القطع حاصل بخروج افعال العباد الّتي يمكن كون الوضع منها فيكون كالمخصّص بالمجمل للشكّ في مصاديقها و التمسك بالأصل في مثله لا يخلو من تأمّل فتأمل جيّدا. فانّه يمكن دعوى صحّة الدّلالة بظهور المعنى الأخير الموجب للحمل عليه و لو للانصراف او لكونه من جملة المدلول ثمّ البناء في تخصيص مثله بالحكم على خروج ما يقطع بخروجه، و امّا المشكوك فالبناء على دخوله تحت حكم العام

للقطع بالشمول و الشك في الإخراج و ليس هناك لفظ مجمل كي يلحق بالمخصّص بالمجمل و دعوى انصراف مثل هذا العموم الشمولي من الأوضاع الشّخصيّة غير

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 234

مسموعة فيتمّ الاستدلال بها كالآية المتقدّمة الّتي قد سمعت التقريب فيها و لو بمعونة الاخبار المتقدّمة الظاهرة في استناد الوضع إليه سبحانه فلا يرد ان غاية ما تدلّ عليه بعد تسليم دلالتها انّ الوضع غير ناش من ذرّية أبينا آدم.

و امّا استناده اليه سبحانه او الى خلق آخر كبني الجان و غيرهم فغير واضح سيّما بعد ما ورد في الاخبار من انّه كان في الأرض خلق أخر قبل أبينا آدم.

بل في الخبر: انّ اللّه تعالى خلق ألف ألف عالم و ألف ألف آدم و أنتم في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميّين «1».

إذ فيه ان الظّاهر منها و لو بمعونة الاخبار المتقدّمة و ملاحظة شرافة علم الأسماء حتّى فضّل اللّه به آدم على غيره من الملائكة إنّما هو استناده إليه سبحانه مضافا إلى أنّه لو كان متداولا بين خلق سابق على آدم في الأرض أو في السّماء لتسامع بها بعض الملائكة ان لم يعرفها كلّهم مع أنّ قضيّة الأصل هو تأخّر الحادث الّذي هو الوضع من زمن وجود الخلق السابق إلّا أنّه حينئذ بالنّسبة إلى تعيين الواضع مثبت فلا تغفل.

نعم يمكن أن يقال إنّ الفريقين مجمعون على عدم استناده إلى خلق آخر بل هم بين من يقول باستناده إلى اللّه تعالى و من يقول باستناده إلى أبي البشر و ذرّيته فالقول باستناده إلى خلق آخر من بني الجان او غيرهم خرق لهذا الإجماع. و لا بأس به على فرض تحقّقه.

ثمّ انّ في المسألة اقوالا

أخر كالقول باصطلاحيّة جميع اللّغات و انّ الواضع

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 54 ص 321.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 235

فيها هو البشر كما عن جماعة من المتكلّمين و التفصيل بان ما يحتاج إليه في التفهيم و التّفهم بان هذا موضوع لذلك يكون بتوقيف اللّه سبحانه و الباقي من البشر باصطلاح منهم و توقف العلامة و بعض الأصوليّين و تمام الكلام في ادلّة الأقوال موكول إلى الأصول، و كذا الكلام في أنّه ليس للنّزاع ثمرة علميّة و انّ محلّه هو الحقيقة اللغوية الاصليّة لا مطلق الحقيقة ضرورة انّ الواضع في الأعلام الشخصيّة و الحقائق العرفيّة العامة و الخاصة منقولة كانت او مرتجلة هو البشر، و لذا قيل إنّه يلزم من ذلك تخصيص العموم في قوله: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، بالحقائق اللّغوية او بالحقائق المبتدئة فانّ تعليم الأسماء لا يستلزم تعليم جميع معانيها بل يصدق بتعليم البعض ايضا.

بقي الكلام في أنّ الاختلاف في المقام مبني على ما هو المشهور بين العلماء الأعلام من أنّ دلالة اللّفظ على المعنى بواسطة الوضع له، و امّا على القول الاخر المحكي عن عباد «1» بن سليمان الصّيمري و جمع من المعتزلة و اهل التكسير من أنّ دلالته طبيعيّة ناشية عن ذات اللّفظ من دون توسّط الوضع و النزاع ساقط من أصله، إلّا أنّ هذا القول في أصله بمحلّ من السقوط ضرورة انّه لو كانت الدّلالة ذاتيّة لامتنع اختلافها باختلاف الأمم و الأصقاع و الأزمان، مع انا نرى اللفظ الواحد حقيقة في معنى عند قوم او في زمان و في معنى آخر عند غيرهم، او في زمان أخر بسبب طروّ الوضع و غلبة الاستعمال و ايضا كان يلزم ان

يحصل العلم بالمعاني بملاحظة الألفاظ في جميع اللّغات و لم يعهد حصوله لاحد و لو ممّن يدّعي ذلك

__________________________________________________

(1) هو ابو سهل عباد بن سلمان البصري المعتزلي. سير اعلام النبلاء ج 10 ص 552.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 236

فضلا عن العامة و ايضا نرى الأعلام الشّخصيّة و الحقائق العرفيّة الّتي نعلم بالضرورة استناد الدّلالة فيها إلى الوضع غير دالّة على تلك المعاني قبل حدوث الوضع و لو كانت ذاتيّة لم يؤثر الوضع فيها شيئا و لم ينفك عنها الأثر الطبيعي هذا مضافا إلى دوران الدلالة مع الاعتقاد بالوضع عدما و وجودا علما و ظنّا و وهما و شكّا و ضرورة الوضع للنقيضين و الضدين و غير ذلك ممّا لا داعي للتعرض له بعد ظهور التوقيف في جميع الأعصار و الأمصار بالنسبة إلى جميع اللغات على طرق اثبات الوضع سيّما مع ضعف تمسّك المدّعين للدّلالة الذاتيّة من انّها لو انتفت لزم الترجيح او التّرجح من غير مرجّح و فيه ما لا يخفى.

التناسب بين اللفظ و المعنى

و لذا قيل: إنّ مراد القائلين بها دعوى التناسب الذّاتي بين اللفظ و المعنى، و إنّ ذلك التناسب هو علّة الوضع، أو المرجّح لخصوص الطرفين باعتبار ملاحظة الصفات الّتي للحروف من الهمس و الجهر و الشدّة و الرخاوة و غيرها من الصفات الّتي عنت بضبطها أئمّة الاشتقاق و التصريف، مضافا إلى ما لها من المنسوبات و الطبائع الّتي ذكرها علماء الجفر و الأعداد و الحروف و الأوفاق من إثبات الطبائع و الخواص الغريبة للحروف باعتبار تمزيجاتها و تركيباتها و نسبتها إلى خصوص الكواكب و الأزمنة و العناصر و المواليد و الجهات و الأفعال و الأخلاق و غيرها، و لذا قالوا: إنّ قضيّة

تلك الخواصّ أن العالم بها إذا أراد تعيين شي ء مركّب منها لمعنى أن لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحقّ الحكمة فوضع الفصم بالفاء للكسر بسهولة لما

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 237

بين الفاء الّتي هي حرف مهموس رخو و بينه من المناسبة، و القصم بالقاف للكسر بشدّة لمناسبة للقاف الّتي هي حرف جهر و شدّة و قلقلة، و وضع الفعلان بالتحريك لما يقتضي التقلّب و الحركة كالطيران و الجولان و الغليان، و هو ايضا كما ترى لانتفاء المناسبة الجزئيّة في كثير من المقامات، و لذا وضعوا للضّدين و المتخالفين و نحوهما.

نعم ذكر الشيخ أحمد الأحسائي: أنّ هذا الحمل صلح منهم بغير رضى الخصمين، ثمّ ذكر انّ الأصحّ ما ذهب إليه أهل المناسبة لما قرّره هو في معنى دلالة اللفظ حيث قال: كلّ اسم فله مادّة مخصوصة بينها و بين ما تراد له مناسبة نوعيّة بينه و بين ما تراد له مناسبة شخصيّة، فإذا أراد وضع لفظ بإزاء معنى أخذ له من الحروف ما يناسبه و جعلها مادّة لاسم ذلك المعنى و ركّب تلك الحروف على هيئة من التركيب في الحركات و السكنات و التقديم و التأخير تناسب ذلك المعنى كذلك، و تلك الهيئة هي صورة ذلك الاسم فوضعه بإزاء ذلك المعنى فكان الاسم بتلك المادّة المخصوصة و الهيئة المخصوصة دالّا للسامع العالم بالوضع على مسمّاه كما انك إذا اومأت إلى زيد بأن يأتي إليك أومأت اليه بهيئة الإقبال بأن تقبض أصابعك في الجملة مشيرا بها إليك فيضمّ بالمادة و هي حركة اليد و الصورة و هي الإشارة له بيدك إليك كالجاذب له إرادة الإقبال، و لو أردت انصرافه أومأت بيدك إليه بهيئة الدفع فيفهم بالحركة

و الهيئة إرادة الانصراف، لأنّ هذه الهيئة في المادّة المخصوصة تدلّ المشار اليه على ما يراد منه، فكذلك الإسم بالمادة و الهيئة المخصوصتين يدلّ السّامع على معناه، فحقيقة الدّلالة إرشاد اللفظ بمناسبة مادّته و صورته لفهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 238

المخاطب إلى المعنى الموضوع له كما مثّلنا في الإشارة.

ثمّ قال: فان قلت: لو كان ذلك كذلك لم يجهل أحد شيئا من المعاني و الواقع خلافه.

قلت: انّما احتيج للعلم بالوضع هنا لشدّة خفاء المناسبة لأنّها مناسبات حرفية من عالم الغيب على ما حقّق في محلّه.

فان قلت: إذا كانت مناسبات حرفيّة من عالم الغيب فما الفائدة في ملاحظتها و اعتبارها إذا لم يطلع عليها جميع المخاطبين؟

قلت: الفائدة شيئان: أحدهما اقتضاء حكمة الحكيم ان لا يخصّص شيئا بشي ء بغير مناسبة يقتضي التخصيص مع قدرته على ذلك، و ثانيهما: أنّ ذلك أسكن لقلب المخاطب لو تنبّه في بعض الأحوال لبعض المناسبات، كما ذكر في الفرق بين الفصم و القصم، و في زنة فعلان محركا و في دلالة الوضع للأصوات بما يناسبها كما قيل في صوت الغراب غاق، و في صوت شفتي الناقة عند شربها شبب، إذ لو وضع غاق لصوت شفتي الناقة عند الشرب و شبب لصوت الغراب ثمّ تنبه المخاطب للمناسبة لنفرت نفسه من ذلك لما بين اللفظ و بين معناه من المنافرة.

و ذكر في موضع أخر: أنّ المناسبة لا يزيد منها خصوص المناسبة الشخصيّة، بل قد تكون مناسبة نوعيّة كمناسبة الإنسان لزيد و عمرو، أو جنسيّة كمناسبة الحيوان لزيد و الفرس، بل لا نريد منها إلّا مطلق الصلوح الذّاتي للمسمّى في المادة و الهيئة، إلّا أنّه يعبّر في صلوح هيئة اللفظ لهيئة المعنى مشخصيّة الارتباط

بينهما.

ثمّ أطنب الكلام في بيان المناسبة بين موادّ الحروف و هيئات الترتيب

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 239

و الإعراب و بين الأجسام و الأشكال الخارجة، و في دعوى المناسبة حتّى في الأعلام الشخصيّة و في الألفاظ المشتركة حتّى الموضوعة للضّدين و النقيضين كالقرء و الجون، و عسعس، و في دعوى المناسبة بين الألفاظ و الأزمنة و بين الأعلام المشتركة و معانيها إلى غير ذلك ممّا لا يعود إلى حاصل و لعلك، لو تدبّرت كلامه بتمامه عرفت انّه كان قد دعاه إلى ذلك ملاحظة بعض المناسبات الجزئيّة الّتي هي كالنكات الاتّفاقية بعد الوقوع بالنسبة إلى بعض الألفاظ، مع التخلف في الأكثر.

و من الغريب استدلاله في مواضع من كلامه بأسماء الأصوات الّتي ذكروا انّها حكاية صوت مسموع من الحيوان و غيره كغاق، فانّه حكاية صوت الغراب، و طق حكاية صوت وقع الحجارة بعضها على بعض، او انّها ممّا يخاطب به ما لا يعقل كقولهم في دعاء الضأن: حاحا و في دعاء المعز: عاعا غير مهموزين، فانّ القسم الاول من هذه الأسماء مجرّد حكاية صوت شبيه بالواقع و الثاني بمنزلة النعيق، و لذا استشكلوا صدق حدّ الكلمة عليها، و ان لم يكن الأشكال في محلّه.

و بالجملة إبداء أمثال تلك المناسبات الجزئيّة بين بعض الألفاظ و معانيها لا موقع لها بالنسبة إلى تلك اللغات المتّسعة الكثيرة في الألسنة المختلفة المنتشرة بين أهل العالم لإفهام المعاني الدّقيقة و النكات الخفيّة، مع انّه يستفاد من تضاعيف كلامه الطويل الّذي لم نتعرّض لحكايته أنّ مراده مجرّد إعمال المناسبات في الوضع لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 240

انكار أصله، و يؤيّده تصريحه في موضع آخر بأنّ الواضع هو اللّه سبحانه و ان

كان ينافيه ما ذكره اوّلا من ردّ كلام المؤوّلين، و تصحيح مقال اصحاب المناسبة، و ما ذكره من تعريف الدلالة لكنّه رحمه اللّه أدرى بفحوى ما أفاد و إنّي مقرّ على نفسي بالقصور عن نيل المراد و اللّه يهدي من يشاء إلى سبيل الرّشاد.

تفسير الآية (34)

اشارة

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ تذكير لنعمة رابعة عامّة عليهم لما فيها من تشريف أبيهم و تكريمه بجعله مسجودا للملائكة النورانيّين الّذين هم عباد مكرمون كما أنّ قوله:

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، تذكيره لنعمة ثالثة حسب ما مرّ، و إن توهّم بعضهم أنّ هذه رابعة للثلاثة الّتي تضمّنتها هي من تخصيص آدم بالخلافة ثمّ بالعلم ثمّ بلوغه فيه إلى أن عجزت الملائكة عن نيله، فانّه لا يخلو عن تكلّف، و لكن الخطب سهل.

و الوجوه المتقدّمة في متعلّق الظرف جارية في المقام، و لكن في «تفسير الامام عليه السّلام»: قال اللّه تعالى: كأنّ خلق اللّه لكم ما في الأرض جميعا إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أي في ذلك الوقت خلق لكم «1».

و قد بيّنا سابقا أنّ الظرف هو الزمان الممتدّ قبل خلق آدم و إن كان كلّ من

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 149 عن التفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 241

خلق ما في الأرض و القول في طرف منه، فإنّ الأمر بالسجود كان قبل خلقه على وجه التعليق كما يستفاد من قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ* «1».

و قوله: لهم إمّا بالإلهام إلى كلّ منهم، أو بالخطاب العامّ الشامل لجميعهم و لو بخلق الأصوات، أو بالتبليغ إليهم بتوسّط بعضهم، او بواسطة أنوار محمّد و آله الطّيبين صلّى اللّه

عليهم أجمعين كما وقع التلويح إليه في بعض الأخبار.

وقت الأمر بالسجود

و الآية و ان كانت ظاهرة في كون الأمر بالسجود بعد وجود آدم و نفخ الرّوح فيه سيّما بملاحظة فسجدوا الظاهر في اتّصال الفعل بالأمر إلّا أنّ المستفاد من قوله تعالى في سورة الحجر: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «2»، وقوع الأمر مقترنا بالبشارة بالخلق و قد مرّ مرسلا في عبارة الصدوق: انّ اللّه سبحانه قال هذه المقالة للملائكة قبل خلق آدم بسبعمائة عام «3».

و في تفسير القمي و غيره في تفسير قوله: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ انّه كان ذلك

__________________________________________________

(1) الحجر: 29.

(2) الحجر: 29.

(3) كمال الدين: ج 1 ص 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 242

تقدّمه من اللّه في آدم قبل أن يخلقه و احتجاجا منه عليهم «1».

لكنّه لا منافاة بينهما لاحتمال التعدّد تنبيها على مزيد الاهتمام و التأكيد، بل كانّه المتعيّن و به يجمع بين ما مرّ و بين ما في الأعراف: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ «2»، نعم سيأتي في تفسير قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «3»، عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله من طرق العامة: أنّه لما اقترف الخطيئة و نظر الى أشباح النبي و الأئمّة حول العرش و أخبره اللّه تعالى انّهم من ذرّيته، قال صلّى اللّه عليه و آله: فسجد آدم شكرا للّه أن جعل ذلك في ذريّته، فعوضه اللّه عن ذلك السجود أن أسجد له ملائكته.

و ظاهره كما ترى كون الإسجاد بعد الاقتراف، و لعلّه مخالف لظاهر الكتاب و صريح الاخبار.

في معنى السجود

و السجود في اللّغة هو الخضوع و التذلّل، و كلّ

شي ء ذلّ فقد سجد، و سجد البعير خفض رأسه عند ركوبه، و منه قوله: «و قلن له أسجد لليلى فأسجدا»، يعني البعير أي طأطأ لها لتركبه من قولهم: أسجد الرجل إذا طأطأ رأسه و انحنى، قال حميد بن ثور يصف نساء.

فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها __________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 104 عن تفسير علي بن ابراهيم.

(2) الأعراف: 11.

(3) البقرة: 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 243

يقول: لمّا ارتحلن و لوين فضول أزمّة أجمالهنّ على معاصمهنّ أسجدت لهنّ.

و بالجملة فالظاهر إطلاقه لغة على كلّ من الخضوع و الانحناء و تطأطأ الّرأس، و أصل الأصل في معناه هو الأوّل، و إطلاقه على الأخيرين باعتبار تحقّقه فيهما كما يطلق على غيرهما من الأفعال الصّادرة عن خضوع، او الموضوعة لها بحسب العادة، و منها وضع الجبهة على الأرض أو ما أنبت ممّا لا يؤكل و لا يلبس، فانّ الظاهر عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعة فيه بل هو باق على معناه اللغوي و إن اعتبر للشارع في صحّته جزء للصّلاة أمورا خارجة عن مسمّاها لغة كما أشار إليه بعض مشايخنا معترضا به على من قبله، لكنّه لا يخلو عن تأمّل نظرا إلى تبادر الهيئة الخاصّة منه عرفا بحيث لا ينبغي معه التّامل في صيرورته حقيقة فيها عند الشارع او المتشرعة، و تمام الكلام في مقام آخر.

و ممّا مرّ يظهر النظر فيما قوله الرازي: من أنّ السجود في عرف المتشرّعة عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في اصل اللغة كذلك لأنّ الأصل عدم التغيير «1».

إذ فيه انّ اللغة ثابتة لتنصيص و غيره، و أمّا ما يأتي في خبر «القصص» فعلى فرض

صحّته محمول على بيان النوع و الكيفيّة فتأمّل.

و اللام في قوله: «لآدم» متعلّق باسجدوا أي اخضعوا له طاعة للّه سبحانه، أو انّه بمعنى «إلى» و المتعلّق محذوف اي اسجدوا مقبلين إلى آدم على حدّ قول

__________________________________________________

(1) مفاتيح الغيب للرازي: ج 2 ص 213.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 244

حسّان «1»:

ما كنت احسب هذا الأمر منصرفا من هاشم ثمّ منها عن أبي الحسن أ ليس اوّل من صلّى لقبلتكم و أعرف النّاس بالقرآن و السنن لكنّه بعيد لتظافر الأخبار على كون السجود لآدم تكريما له و ان كان ربما يتحقّق معه ايضا، و أبعد منه ما قيل من احتمال كونه للتّوقيت أو بمعنى بعد كما احتمل الوجهان في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ «2»، بل ينبغي القطع بعدمه، فانّ تعلّق السجود بآدم ليس على وجه مجرّد التّوقيت بخلقه و التوجه إليه، بل كان تكريما له و تعظيما للأنوار المستودعة في صلبه المخصوصة بمقام الخلافة الكلّيّة و الفيوض الربانيّة، و لذا كان تعظيمهم تعظيم اللّه تعالى شأنه كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «3».

فلسفة سجود الملائكة لآدم

و روى الصدوق و غيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: انّ اللّه فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين و فضّلني على جميع النبيّين و المرسلين و الفضل بعدي لك يا علي و للائمّة من بعدك، و ساق الخبر على ما مرّ إلى أن قال: ثمّ إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم فأودعنا صلبه و أمر الملائكة

__________________________________________________

(1) حسّان بن ثابت الانصاري الشاعر توفّي سنة (54) ه عن مائة و عشرين سنة مناصفة

في الجاهلية و الإسلام- شذرات الذهب ج 1 ص 60.

(2) الإسراء: 78.

(3) الفتح: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 245

بالسجود له تعظيما لنا و إكراما و كان السجود للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم إكراما و طاعة لكوننا في صلبه «1».

و في «القصص» بالإسناد عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام سجدت الملائكة لآدم و وضعوا جباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من اللّه سبحانه «2».

و في «الاحتجاج» في جواب مسائل الزنديق عن الصادق عليه السّلام انّه سئل:

أ يصلح السجود لغير اللّه تعالى؟ قال: لا، قال: فكيف أمر اللّه بالسجود لآدم؟ فقال:

إنّ من سجد بأمر اللّه فقد سجد للّه فكان سجوده للّه إذ كان عن أمر اللّه «3».

و عن «الاحتجاج» و التفسير في خبر مرّ صدره إلى أن قال عليه السّلام: فلذلك قال اللّه: فاسجدوا لآدم لمّا كان مشتملا على أنوار هذه الخلايق الأفضلين و لم يكن سجودهم لآدم انّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه للّه عزّ و جلّ و كان بذلك معظما له مبجلا «4».

و في «تحف العقول» عن أبي الحسن الثالث عليه السّلام قال: إنّ السجود من الملائكة لآدم لم يكن لآدم و انّما كان ذلك طاعة للّه و محبّة منهم لآدم «5».

و في «الاحتجاج» عن الكاظم عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: انّ يهوديّا سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن معجزة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مقابلة معجزات الأنبياء عليهم السّلام فقال: هذا

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 139- 140 عن العيون ص 145.

(2) البحار: ج 11 ص 139.

(3) الاحتجاج: ص 31.

(4) البحار: ج 11 ص 138

عن تفسير الإمام عليه السّلام.

(5) تحف العقول: ص 478.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 246

آدم عليه السّلام أسجد اللّه له ملائكته فهل فعل بمحمّد شيئا من هذا؟ فقال عليّ عليه السّلام: لقد كان ذلك، و لكن اسجد اللّه لآدم ملائكته، و سجودهم لم يكن سجود طاعة و أنّهم عبدوا آدم من دون اللّه، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة و رحمة من اللّه له، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أعطي ما هو أفضل من هذا انّ اللّه جلّ و علا صلّى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها «1»، الخبر.

و في تفسير الامام عليه السّلام قال: و لمّا امتحن الحسين عليه السّلام و من معه بالعسكر الّذي قتلوه و حملوا رأسه، قال لعسكره: أنتم في حلّ من بيعتي فالحقوا بعشائركم و مواليكم، و قال لأهل بيته: قد جعلتكم في حلّ من مفارقتي فإنكم لا تطيقونهم لتضاعف أعدادهم و قواهم، و ما المقصود غيري فدعوني و القوم فانّ اللّه عزّ و جلّ يعينني و لا يخلّيني من حسن نظره كعاداته في أسلافنا الطيّبين، فامّا عسكره ففارقوه، و امّا أهله الأدنون من أقربائه فأبوا و قالوا: لا نفارقك و يحزننا ما يحزنك، و يصيبنا ما يصيبك، و إنّا أقرب ما نكون إلى اللّه إذا كنّا معك، فقال لهم: فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم على ما وطّنت نفسي عليه، فاعلموا أنّ اللّه إنّما يهب المنازل الشريفة لعباده باحتمال المكاره، و انّ اللّه و ان كان خصّني مع من مضى من اهلي الّذين أنا آخرهم بقاء في الدنيا من الكرامات بما يسهل عليّ معها احتمال المكروهات، فانّ لكم شطر ذلك من كرامات اللّه تعالى، و اعلموا

أنّ الدنيا حلوها و مرّها حلم، و الانتباه في الآخرة، و الفائز من فاز فيها، و الشقي من شقي فيها، أولا أحدّثكم باوّل أمرنا و أمركم معاشر أوليائنا و محبّينا و المتعصّبين لنا ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له

__________________________________________________

(1) الاحتجاج: ص 111.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 247

مقرون معرّضون؟ قالوا: بلى يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّ اللّه تعالى لمّا خلق آدم و سوّاه و علّمه أسماء كلّ شي ء، و عرضهم على الملائكة جعل محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام أشباحا خمسة في ظهر آدم، و كانت أنوارهم تضي ء في الآفاق من السموات و الحجب و الجنان و الكرسي و العرش، فأمر اللّه الملائكة بالسّجدة لآدم تعظيما له، إنّه قد فضّله بأن جعله وعاء لتلك الأشباح الّتي قد عمّ أنوارها في الآفاق، فسجدوا إلّا إبليس أبى أن يتواضع لجلال عظمة اللّه، و أن يتواضع لأنوارنا أهل البيت عليهم السّلام و قد تواضعت لها الملائكة كلّها، فاستكبر و ترفّع و كان بإبائه ذلك و تكبّره من الكافرين.

ثمّ قال: قال عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما: حدّثني أبي عن أبيه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال: يا عباد اللّه إنّ آدم لمّا رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان اللّه قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره، رأى النّور و لم يتبين الأشباح، فقال يا ربّ ما هذه الأنوار؟ قال اللّه عزّ و جلّ: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، و لذا أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح فقال يا ربّ لو

بيّنتها لي؟ فقال اللّه تعالى: أنظر يا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم عليه السّلام و وقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصّافية، فرأى أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح يا ربّ؟

فقال اللّه: يا آدم هذه الأشباح أفضل خلائقي و بريّاتي: هذا محمّد و أنا الحميد المحمود في أفعالي، شققت له اسما من اسمي، و هذا عليّ و أنا العليّ العظيم شققت له اسما من اسمي، و هذه فاطمة و أنا فاطر السموات و الأرضين، فاطم أعدائي عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 248

رحمتي يوم فصل قضائي، و فاطم أوليائي عمّا يعتريهم و يشينهم، فشققت لها اسما من اسمي، و هذا الحسن و هذا الحسين، و انا المحسن المجمل شققت لهما اسما من اسمي، هؤلاء خيار خليقتي و كرام بريّتي، بهم آخذ، و بهم أعطي، و بهم أعاقب و بهم أثيب فتوسّل إليّ بهم يا آدم، و إذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعائك، فانّي آليت على نفسي قسما حتما «1» لا أخيّب بهم آملا و لا أردّ بهم سائلا، فلذلك حين زلّت منه الخطيئة و دعا اللّه عزّ و جلّ بهم فتاب عليه و غفر له «2».

و قد ظهر من جميع ما مرّ ان سجود آدم كان تكريما له و تعظيما للأنوار المستودعة في صلبه، و عبوديّة له سبحانه حيث كان ذلك امتثالا لأمره، و لو لم يكن هناك أمر لم يكن لاحد من الملائكة و لا غيرهم احياء و أمواتا إلّا بصدور الأمر الخاص بالنسبة إليه.

و يدلّ عليه مضافا إلى ما مرّ ما رواه الصفار في البصائر بالإسناد عن الصّادق

عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما قاعدا في أصحابه إذ مرّ به بعير فجاء حتّى ضرب بجرانه «3» الأرض و رغا «4» فقال رجل: يا رسول اللّه أسجد لك هذا البعير فنحن احقّ أن نفعل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا بل اسجدوا اللّه ثمّ قال: لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها «5».

__________________________________________________

(1) في البحار: حقا.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 149- 151 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(3) الجران بكسر الجيم و تخفيف الرّاء: مقدّم عنق البعير أو الفرس.

(4) رغا: أي صوّت.

(5) البحار: ج 27 ص 265 عن البصائر ص 102.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 249

و في خبر آخر بعد قوله: بل اسجدوا للّه قال صلّى اللّه عليه و آله انّ هذا الجمل يشكو أربابه ثمّ ذكر قصّة الجمل الخبر.

و في الخرائج: إنّ اعرابيّا جاء إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله فقال هل من آية فيما تدعوا إليه؟ فقال: نعم ايت هذه الشجرة فقل لها: يدعوك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: فمالت عن يمينها و شمالها و بين يديها فقطعت عروقها، ثمّ جاءت تخدّ الأرض حتّى وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: فمرها فلترجع إلى منبتها، فقال الأعرابي: ائذن لي أن أسجد لك، فقال عليه السّلام: لو أمرت أحدا أن يسجد لاحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، قال: فائذن لي أن أقبّل بين يديك فأذن له «1».

و فيه و في «المناقب» عن انس أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله دخل حائطا للأنصار و

فيه غنم فسجدت له، فقال أبو بكر: نحن أحقّ لك بالسجود من هذا الغنم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: انّه لا ينبغي أن يسجد أحد لاحد، و لو جاز ذلك لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها «2».

و قد مرّ في خبر العسكري انّه لا ينبغي لاحد أن يسجد لاحد من دون اللّه يخضع له كخضوعه للّه و يعظمه بالسجود كتعظيمه للّه تعالى و لو أمرت أحدا أن يسجد هكذا لغير اللّه لأمرت ضعفاء شيعتنا و سائر المكلفين من متبعينا أن يسجدوا لمن توسط في علوم عليّ وصيّ رسول اللّه و محض وداد خير خلق اللّه عليّ بعد محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «3».

و في «الاحتجاج» عن تفسير الامام عليه السّلام في خبر احتجاج النّبي صلّى اللّه عليه و آله على أهل

__________________________________________________

(1) الخرائج: ص 185 و عنه البحار ج 17 ص 377.

(2) مناقب آل ابي طالب: ج 1 ص 86.

(3) تفسير البرهان: ج 1 ص 81 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 250

الأديان قال: ثمّ أقبل يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على مشركي العرب و قال: و أنتم فلم عبدتم الأصنام من دون اللّه؟ فقالوا: نتقرّب بذلك إلى اللّه تعالى فقال لهم: أهي سامعة مطيعة لربّها عابدة له حتّى تتقرّبوا بتعظيمها إلى اللّه تعالى؟ قالوا: لا قال:

فأنتم الذي نحتّموها بأيديكم؟ قالوا: نعم، قال: فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم و عواقبكم و الحكيم فيها يكلفّكم، قال: فلما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا اختلفوا،

فقال بعضهم: انّ اللّه قد حلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصّورة فصورّنا هذه الصور نعظّمها لتعظيمنا تلك الصّور الّتي حلّ فيها ربنا.

و قال آخرون منهم: إنّ هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين للّه قبلنا فمثّلنا صورهم و عبدناهم تعظيما للّه.

و قال آخرون: إنّ اللّه لما خلق آدم و أمر الملائكة بالسجود للّه كنا نحن أحقّ بالسجود لآدم من الملائكة ففاتنا ذلك، فصورّنا صورته فسجدنا لها تقرّبا إلى اللّه كما تقرّبت الملائكة بالسجود لآدم إلى اللّه، و كما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكّة ففعلتم ثمّ نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها و قصدتم الكعبة لا محاريبكم، و قصدكم في الكعبة إلى اللّه تعالى لا إليها.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أخطأتم الطريق و ضللتم امّا أنتم- و هو صلّى اللّه عليه و آله يخاطب الّذين قالوا: إنّ اللّه يحلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصور الّتي حل فيها ربنا- فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات! أو يحلّ ربكم في شي ء حتّى يحيط به ذلك الشي ء؟ فايّ فرق بينه و بين سائر ما يحلّ فيه من لونه و طعمه و رائحته و لينه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 251

و خشونته و ثقله و خفته، و لم صار هذا المحلول فيه محدثا و ذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا و هذا قديما؟! و كيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال، و هو عزّ و جلّ كان لم يزل، و إذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال.

إلى أن قال: ثمّ اقبل صلّى اللّه عليه و آله على الفريق الثّاني فقال: أخبرونا عنكم إذا

عبدتم صور من كان يعبد اللّه فسجدتم لها و صلّيتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الّذي أبقيتم لربّ العالمين؟! أما علمتم أنّ من حقّ من يجب تعظيمه و عبادته أن لا يساوي به عبده؟

أ رايتم ملكا عظيما إذا سوّيتموه بعبده في التعظيم و الخشوع و الخضوع أ فيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا: نعم.

قال: أ فلا تعلمون أنكم من حيث تعظّمون اللّه بتعظيم صور عباده المطيعين تزرون على ربّ العالمين؟! قال: فسكت القوم بعد أن قالوا: سننظر في أمرنا.

ثمّ قال رسول اللّه للفريق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلا و شبّهتمونا بأنفسكم و لا سواء، ذلك أنّا عباد اللّه مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا، و ننزجر فيما زجرنا، و نعبده من حيث يريد منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه، و لم نتعدّ إلى غيره ممّا لم يأمرنا و لم يأذن لنا، لأنّا لا ندري لعلّه أراد منا الأوّل فهو يكره الثاني، و قد نهانا أن نتقدّم بين يديه فلمّا أمرنا بالتّوجه إلى الكعبة أطعناه ثمّ أمرنا بعبادته بالتّوجه نحوها في سائر البلدان الّتي نكون بها فأطعناه، فلم نخرج في شي ء من ذلك من اتّباع أمره، و اللّه عزّ و جلّ حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته الّتي

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 252

هي غيره فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه لأنكم لا تدرون لعلّه يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.

ثمّ قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أ رأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه الكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير امره، او لكم أن تدخلوا

دارا أخرى مثلها بغير امره؟ أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه او عبدا من عبيده او دابّة من دوابه الكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فإن لم تأخذوه أ لكم أخذ آخر مثله؟ قالوا لا لأنّه لم يأذن لنا في الثاني كما اذن في الأوّل، قال صلّى اللّه عليه و آله: فاخبروني آللّه تعالى اولى بان لا يتقدّم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا بل اللّه أولى بان لا يتصرّف في ملكه بغير اذنه، قال: فلم فعلتم و متى أمركم أن تسجدوا لهذه الصّور؟ قال: فقال القوم سننظر في أمرنا ثمّ سكتوا «1»، الخبر.

الوجوه المحتملة في «خلق اللّه آدم على صورته»

أقول: و لعلّ من مثل هذه الأوهام الّتي سمعتها من المشركين سرى الوهم و الزيغ إلى قلوب المشبّهين فأوّلوا النبوي المشهور بين الفريقين «انّ اللّه تعالى خلق آدم على صورته» «2».

على ما يوافق مرامهم و يطابق كلامهم، بل قد تمسّك بظاهره فرق من أصحاب الأخدود كالحلوليّة و الاتّحادية و القائلين بوحدة الوجود مع انّ المروي من

__________________________________________________

(1) الاحتجاج: ص 26- 28.

(2) عوالي اللئالي: ج 1 ص 53 رقم الحديث 78.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 253

طرق الفريقين في تتمّة الخبر ما يسقط معه الاستدلال على مثل هذه الأوهام.

ففي «التوحيد» و «الاحتجاج» و «العيون» عن الحسين بن خالد قال: قلت:

للرّضا عليه السّلام: يا ابن رسول اللّه انّ النّاس يروون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه خلق آدم على صورته فقال: قاتلهم اللّه لقد حذفوا أوّل الحديث إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبح اللّه وجهك و وجه من شبيهك فقال عليه السّلام:

يا

عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك، فانّ اللّه عزّ و جل خلق آدم على صورته «1».

و روته العامّة عن الزهري عن الحسن «2»، مع انّه قد يقال إنّ في الخبر وجوها أخر أيضا مثل ما قيل: من انّ الضمير راجع إلى آدم عليه السّلام دون اللّه تعالى فيكون المعنى انّه خلقه على الصورة الّتي قبض عليها، فانّ حاله لم يتغيّر في الصورة بلا زيادة و لا نقصان، او إلى اللّه سبحانه و يكون المعنى انّه خلقه على الصورة الّتي اختارها و اجتباها، لأنّ الشي ء قد يضاف على هذا الوجه إلى مختاره و مصطفاه أو انّ المراد بالصورة الصفة من كونه سميعا بصيرا متكلّما قابلا للاتّصاف بصفاته الجماليّة و الجلاليّة، او انّ المعنى أنّه سبحانه أنشأه على هذه الصورة الّتي شوهد عليها على سبيل الابتداع و الاختراع و انّه لم ينقل إليها من صورة اخرى كما جرت العادة في البشر من كونه نطفة و علقة و مضغة و غيرها من الأطوار الطّارئة عليه خلقا من بعد خلق، او انّه خلق آدم و خلق صورته لينتفي بذلك الشك في أنّ تأليفه من فعل غيره لأنّ التأليف من جنس مقدور البشر و انّ خلق الجواهر هو الذي ينفرد

__________________________________________________

(1) الاحتجاج ص 410.

(2) البحار ج 4 ص 14 عن تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 254

القديم تعالى بالقدرة عليه فكأنّه عليه السّلام اخبر عن هذه الفائدة الجليلة و هو ان جوهر آدم و تأليفه كلّها من فعله سبحانه، إلى غير ذلك من الوجوه الّتي لا ينبغي حمل الخبر عليها بعد استفاضة الاخبار من طرق الفريقين على خروجه على سبب خاص مذكور كما سمعت.

نعم قد روى

الصدوق رحمه اللّه بالإسناد إلى محمّد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عمّا يروون انّ اللّه تعالى خلق آدم على صورته فقال عليه السّلام: هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها اللّه و اختارها على سائر الصفة المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه و قال: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «1»، و فيه دلالة على تشريف هذه الصورة «2».

و ربما يقال: إنّه قد روى إنّ ملائكة التصوير إذا أرادوا تصوير النطفة ذكرا او أنثى فيقولون: يا ربّ على أيّ صورة نصوّره، فان كان ذكرا قال سبحانه: أحضروا صور آبائه إلى آدم و صوّروه مثل واحدة منها، و إن كان أنثى قال أحضروا صور أمّهاتها إلى حوّاء و صوّروها على مثل صورة واحدة منها، و من ثمّ قال عليه السّلام: لا ينبغي لاحد أن يطعن في نسب ولده لأجل انّه لا يشبهه في الصورة فلعلّه إنّما صوّر مثل واحد من آبائه و هذا في غير أبينا آدم، و امّا هو فليس فيه آباء و لا أمّهات حتّى يصوّر مثل واحدة منها بل خلق على تلك الصورة الّتي خلق عليها، فقد تحصّل من جميع ما مرّ وجوه ثمانية في الخبر.

__________________________________________________

(1) الحجر: 29 و ص: 72.

(2) بحار الأنوار: ج 4 ص 13 ح 15 عن التوحيد للصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 255

و اعلم أنّه قد استفيد من تضاعيف الأخبار المتقدّمة و غيرها أنّ السجود من العبادات المختصة به سبحانه لا ينبغي إشراك غيره معه فيه، فما يفعله بعض الزائرين للنّبي صلّى اللّه عليه و آله او الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ينبغي منعهم و الإنكار عليهم، لأنّ اللّه تعالى يحبّ أن

يعبد من حيث شاء و أراد و أمر، و لم يرد الأمر بهذا النحو من التعظيم لغيره سبحانه و لو للأنبياء و الأولياء.

و اما ما يتخيّل من انّ السجود لهم عليهم السّلام على أبوابهم و أعقابهم زيادة في تعظيم اللّه و عبادته، باعتبار انّ وقوعه منه إليه إنّما هو لقدره و شرفه و رتبته عند اللّه تعالى، فالسجود له حينئذ زيادة في تعظيم اللّه و تعظيم شعائره ففيه أنّه استحسان وهمي لا ينبغي الاعتماد عليه في الأمور التوقيفيّة الشرعيّة، و قد استدلّ بمثله المشركون و أجاب عنهم النّبي صلّى اللّه عليه و آله بما لا مزيد عليه في خبر الاحتجاج و التفسير مضافا إلى ورود النّهي عنه في غير واحد من الأخبار الّتي مرّ شطر منها بل و عليه يحمل النهى في الصحيح المروي في العلل عن ابي جعفر عليه السّلام قال صلّ بين خلال القبور، و لا تتّخذ شيئا منها قبلة فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ذلك و قال: لا تتخذوا قبري قبلة و لا مسجدا فانّ اللّه عزّ و جلّ لعن الّذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد «1».

ثمّ انّ ظاهر الجمع المحلى في المقام كون المأمورين جميع الملائكة العلويّة و السفليّة حتّى جبرئيل و ميكائيل و غيرهما من المقرّبين، و يؤيّده قوله في موضع آخر فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «2» بل في فضائل الشيعة للصّدوق عن

__________________________________________________

(1) الفقيه: ج 1 ص 124.

(2) سورة ص: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 256

النّبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ «1» انا و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين كنّا في سرادق العرش

نسبّح اللّه و تسبّح الملائكة بتسبيحنا قبل أن خلق اللّه آدم بألفي عام، فلمّا خلق اللّه عزّ و جلّ آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، و لم يأمرنا بالسجود، فسجدت الملائكة كلّهم إلّا إبليس فانّه أبى أن يسجد، فقال اللّه تبارك و تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ اي من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش «2».

فان فيه زيادة تأكيد في ارادة جميع الإفراد و في خبر المعراج المرويّ في التفسير و الاحتجاج: انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل: تقدّم يا جبرئيل فقال له: إنّا لا نتقدّم على الأدميّين منذ أمرنا بالسجود لآدم عليه السّلام «3».

إلى غير ذلك من ظواهر الاخبار الكثيرة الّتي هي الحجّة، و مع ذلك كلّه فلا ينبغي الإصغاء إلى ما ينسب إلى الحكماء من حمل الملائكة في الآية على القوى الجسمانيّة البشريّة المطيعة للنفس الناطقة نظرا إلى أنّه يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة، إذ هو كما ترى مبنيّ على ما استحسنوه بالأوهام الضعيفة و الخيالات الواهية.

ثمّ انّ المشهور كسر التّاء في قوله لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا، و عن أبي جعفر «4»

__________________________________________________

(1) ص: 75.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 142 ح 9 عن فضائل الشيعة.

(3) علل الشرائع: ص 14 و عنه البحار ج 26 ص 338 ح 3.

(4) المراد به ابو جعفر القاري يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة كان من التابعين و إمام اهل المدينة في القراءة توفي سنة (132) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 257

وحده ضمّها حيث وقع، إمّا لاتباع ضمّة الجيم، أو لنقل ضمّة الهمزة إليها كانّها لم تسقط، و هما ضعيفان كأصل القراءة فَسَجَدُوا جميعا لآدم انقيادا لأمره

سبحانه بمطلق الخضوع و التذلّل، أو بالانحناء و وضع الجبهة كما ربما يظهر من بعض الأخبار المتقدّمة، سيّما خبر «القصص» او على اختلاف أنحاء تذلّلاتهم الّتي لا يمثل واحد منها بالآخر لاختلاف درجاتهم و طبقاتهم و لذا قالوا: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1»، و كان سجودهم في الأرض على ظهر الكوفة كما في تفسير العياشي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: اوّل بقعة عبد اللّه عليها ظهر الكوفة لما أمر اللّه الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة «2».

إِلَّا إِبْلِيسَ المبلس اي الآيس من رحمته سبحانه، و لذا سمّي به، و الّا فكان مسمّى بالحارث و يكنّى أبا مرّة كما في المعتبرة ففي «المعاني» عن الرضا عليه السّلام:

كان اسمه الحارث سمّي إبليس لأنّه ابلس من رحمة اللّه «3».

و في «البحار» عن كتاب «غور الأمور» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّ اسمه الحارث و كنيته أبو مرّة، و انّما سمّاه اللّه إبليس لأنّه ابلس من الخير كلّه يوم آدم عليه السّلام «4».

و في «العيون» و «العلل» بالإسناد انّه سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن اسم إبليس ما كان في السّماء؟ فقال: كان اسمه الحارث «5».

__________________________________________________

(1) الصافات: 164.

(2) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 34 و عنه البحار ج 5 ص 40.

(3) معاني الاخبار: ص 137.

(4) بحار الأنوار: ج 60 ص 226.

(5) العيون: ص 134 و العلل ج 2 ص 281.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 258

و عن ابن عباس كان اسم إبليس حين كان مع الملائكة عزازيل ثمّ صار إبليس «1»، و يقال: إنّ اسمه كان نابل فلمّا سخط اللّه عليه سمّي شيطانا، و

عن بعضهم انّه كان كنية إبليس أبا كدوس.

ثمّ انّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ إبليس عربي مشتق من الإبلاس، قال في الصحاح:

أبلس من رحمة اللّه أي يئس، و منه سمّي إبليس، و كان اسمه عزازيل، و الإبلاس ايضا الانكسار و الحزن يقال: أبلس فلان إذا سكت غمّا.

قال الراجز «2»:

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه و أبلسا و جعله الفيروزآبادي و الراغب و غيرهما أحد الوجهين، و الوجه الآخر الّذي قد يقال بتعيّنه كونه أعجميّا سبيله سبيل إنجيل في كونه معرّبا غير مشتق، و استدلّوا بأنّه لا ينصرف في المعرفة للتعريف و العجمة.

و أجيب بأنّه إنّما لم يصرف استثقالا له من حيث انّه اسم لا نظير له في اسماء العرب فشبّهته العرب بأسماء العجم الّتي لا تنصرف كإسحاق و أيّوب و إدريس، و نحوها ممّا لا تنصرف مع اشتقاقها من أسحقه اللّه إسحاقا و آب و يؤوب، و من الدّرس.

قال شيخنا الطبرسي و غلطوا في جميع ذلك لأنّ هذه الألفاظ معربة وافقت الألفاظ العربيّة، و كان أبو بكر السراج «3» يمثّل ذلك على وجه التبعيد بمن زعم أنّ

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 83.

(2) هو العجّاج عبد اللّه بن رؤبة الشاعر المتوفي سنة (90).

(3) هو محمد بن جعفر بن احمد بن الحسين ابو بكر السراج المتوفى سنة (500).

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 259

الطير ولد الحوت.

قال رحمه اللّه: و غلطوا أيضا في أنّه لا نظير له في اسماء العرب لأنّهم يقولون: إزميل للشفرة، و إعزيض للطّلع، و إحريض لصبغ احمر، و يقال هو العصفر، و سيف إصليت ما من كثير الماء، و ثوب إضريح مشبع الصبغ، و قالوا:

هو من الصفرة خاصّة، و مثل هذا كثير «1».

و في المصباح: انّه لو كان عربيّا لانصرف كما تنصرف نظائره نحو: إجفيل و إخريط.

أقول: و لو تمّ ما ذكروه لتعيّن حمل الأخبار على الاشتقاق المعنوي، و الخطب سهل بعد القطع بعدم انصرافه، و استفادة الإبلاس من لفظه.

ثمّ إنّ الاستثناء منقطع لما ستعرف من عدم كونه من الملائكة، أو متّصل باعتبار كونه جنيّا واحدا في ألوف من الملائكة مغمورا بهم معدودا في عدادهم، حتّى ظنّ بعض الملائكة انّه منهم فغلّبوا عليه في الخطاب حين خوطبوا و في حكاية القصّة لنا او في الثاني خاصّة، و امّا الخطاب التكليفي فلعلّه قد وقع على نحو آخر من دون لفظ و أصوات و لا عبارات و كلمات و انّما ألهمهم ذلك بإلهامات غيبيّة و طرق قطعيّة.

ثمّ انّ ظاهر الآية بل الآيات و الاخبار المشتملة لذكر القصّة كون المتمرّد العاصي هو إبليس خاصّة لكن في النهج في خطبة يذكر فيها خلقة آدم عليه السّلام إلى أن قال: فسجدوا إلّا إبليس و قبيله اعترتهم الحميّة، و غلبت عليهم الشقوة، و تعزّزوا

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 81.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 260

بخلقة النّار، و استوهنوا خلق الصلصال فأعطاه اللّه النظرة استحقاقا للسخطة و استتماما للبلية و انجازا للعدة فقال: انك من المنظرين «1» الخطبة.

حيث انّ الظاهر منها تعدّد المتمرّدين فانّ القبيل في الأصل الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتّى، فان كانوا من أب واحد فقبيله، و لعلّ المراد بقبيله و ذرّيته الّذين رضوا بفعله، و لذا قال عليه السّلام: إنّما يجمع الناس السخط و الّرضا «2».

و يؤيّده قوله بعد صيغ الجمع فأعطاه اللّه النظرة، و ربما يحتمل ايضا

أن يكون المراد به أشباهه من الجنّ في الأرض بأن يكونوا مأمورين بالسجود ايضا و عدم ذكرهم في الآية و الاخبار للاكتفاء بذكر رئيسهم، أو المراد به طائفة خلقها اللّه في السماء غير الملائكة، و فيهما تكلّف، و الأوّل أولى و قال تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ «3» فتأمّل.

أَبى امتنع أن يتواضع لجلال عظمة اللّه و أن يتواضع لأنوار أهل البيت و قد تواضعت له الملائكة كلّها.

وَ اسْتَكْبَرَ و ترفّع استنكافا عن عبوديّته سبحانه و استصغارا لمن رفعه اللّه و شرّفه و خصّه دونهم بالعلم و الخلافة، فلم يخضع له و لم يتخذه وسيلة إلى التقرّب إليه سبحانه، و الإباء ترك الطاعة باختيار، قيل: و ليس الإباء بمعنى الكراهة لأنّ العرب تتمدح بانّها تأبى الضيم و لا مدح في كراهة الضّيم و انّما المدح في الامتناع

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 1 ص 97 ط مصر.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 379 و فيه: إنّما يجمع الناس الرضى و السخط.

(3) الأعراف: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 261

عنه كقوله: وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ «1».

و الاستكبار طلب الكبر كالتكبر، و هو أن يرى نفسه اكبر من غيره، و يترفّع إلى منزلة لا يستحقّها.

القمي عن الصادق عليه السّلام: الاستكبار هو اوّل معصية عصي اللّه بها قال عليه السّلام فقال إبليس: يا ربّ اعفني من السجود لآدم و انا أعبدك عبادة لا يعبدكها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل فقال جلّ جلاله لا حاجة لي إلى عبادتك إنّما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد «2».

وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ اي صار منهم كما في «القاموس» و غيره،

و صرّح به بعض المفسّرين كما في قوله: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ «3» و يؤيّده ما في تفسير الإمام عليه السّلام و كان بإبائه ذلك و تكبّره من الكافرين، و لعلّه المستفاد من بعض ظواهر الاخبار ايضا.

و روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه السّلام: قال: إنّ أوّل كفر كفر باللّه حيث خلق اللّه آدم كفر إبليس حيث ردّ على اللّه أمره «4».

و يظهر منه و من غيره من الأخبار بل و من الآيات انّه لم يكن سبب كفره مجرّد المخالفة بل الرّد عليه سبحانه في أمره و تجهيل الحكيم في حكمته على ما يستفاد من قياسه الفاسد و الاستخفاف بنبيّ اللّه آدم عليه السّلام، على أنّ مرجع استكباره

__________________________________________________

(1) التوبة: 32.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 141 عن تفسير القمي ص 34- 35.

(3) هود: 43.

(4) تفسير العياشي عنه البحار: ج 11 ص 149.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 262

إنّما هو الاستكبار من عبوديته سبحانه، و كفى به كفرا و إلحادا.

او كان كافرا في علمه سبحانه قبل ذلك حيث أضمر في قلبه ترك السجود لآدم و الرّد عليه سبحانه لو أمره بذلك، او كان كذلك في أصل الكينونة و بدو الخلقة، و إن اظهر العبادة مدّة مديدة.

ففي «الخصال» و «تفسير الفرات» بالإسناد عن الحسن عليه السّلام فيما سأله كعب الأحبار عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: لما أراد اللّه خلق آدم بعث جبرئيل فأخذ من أديم الأرض قبضة فعجنه بالماء العذب و المالح، و ركّب فيه الطبائع قبل أن ينفخ فيه الّروح، فخلقه من أديم الأرض، فطرحه كالجبل العظيم، و كان إبليس يومئذ خازنا على السماء الخامسة، يدخل في منخر آدم ثمّ

يخرج من دبره ثمّ يضرب بيده على بطنه فيقول: لأيّ امر خلقت؟ لإن جعلت فوقي لا أطعتك، و لئن جعلت أسفل منّي لا أعينك، فمكث في الجنّة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح «1».

و في «تفسير القمي»: خلق اللّه آدم فبقى أربعين سنة مصوّرا و كان يمرّ به إبليس اللعين فيقول لأمر ما خلقت؟ قال العالم عليه السّلام فقال إبليس لئن أمرني اللّه بالسجود لهذا لعصيته «2».

و في «الاحتجاج» في أسئولة الزنديق المدعيّ للتناقض عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: الايمان بالقلب هو التسليم للرب، و من سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن امره، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، و استكبر اكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 54 ص 94 عن تفسير الفرات ص 65.

(2) تفسير القمي: ص 24 و عنه البحار ج 11 ص 141.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 263

فلم ينفعهم التّوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل فانّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام، لم يرد بها غير زخرف الدّنيا و التمكين من النظرة «1». الخبر.

و في الخطبة القاصعة العلويّة المذكورة في النهج: الحمد للّه الّذي لبس العزّ و الكبرياء و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى و حرما على غيره، و اصطفاهما لجلاله، و جعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثمّ اختبر بذلك ملائكة المقرّبين، ليميّز المتواضعين منهم عن المستكبرين، فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب، و محجوبات الغيوب: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ، اعترضته، الحميّة، فافتخر على آدم بخلقه، و

تعصّب عليه لأصله، فعدو اللّه امام المتعصّبين، و سلف المستكبرين الّذي وضع أساس العصبيّة، و نازع اللّه رداء الجبريّة، و أدرع لباس التّعزز، و خلع قناع التذلّل، إلى قوله عليه السّلام: فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، و جهده الجهيد، و كان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدّينا أم من سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّه تعالى بمثل معصية؟ كلّا ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إنّ حكمه في أهل السّماء و اهل الأرض لواحد، و ما بين اللّه و بين أحد من خلقه هوادة في اباحة حمى حرّمه على العالمين «2»، الخطبة.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 27 ص 175 عن الاحتجاج ص 130.

(2) الخطبة: 192 من نهج البلاغة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 264

إبليس كان من الجنّ

ثمّ انّ ظاهر قوله: أخرج به منها ملكا بل لعلّ صريحه كون إبليس ملكا من الملائكة بل ظاهر قوله في صدر الخطبة: ثمّ اختبر بذلك الملائكة المقرّبين كونه من مقرّبيهم، سيّما مع ظهور تقسيمهم إلى المتواضعين و المستكبرين في ذلك، و هذا المذهب هو المحكيّ عن بعض المتكلّمين و اكثر فقهاء العامّة، و حكاه في «المجمع» عن ابن عباس و ابن مسعود و قتادة، و اختاره من أصحابنا شيخ الطائفة في «التبيان» قال: و هو المروي عن أبي عبد اللّه و الظاهر في تفاسيرنا، ثمّ حكى عن القائلين بأنّه كان منهم فقيل: إنّه كان خازنا على الجنان، و قيل كان له سلطان سماء الدنيا و سلطان الأرض، و قيل: إنّه كان يسوس ما بين السّماء و

الأرض «1».

و غاية ما يستدلّ لهم على ذلك وجوه.

أحدها: أنّه لو لم يكن منهم لما تناوله الخطاب المتوجّه إلى الملائكة في صريح الآية، و حينئذ فلم يكن مأمورا بالسجود فلا تكليف فلا مخالفة، فيجب أن لا ينسب إليه الإباء و الاستكبار و لا يستحقّ الذّم و العقاب.

ثانيها: انّ الاستثناء ظاهر او حقيقة في المتّصل، و قضيّة دخول المستثنى في المستثنى منه لأنّه إخراج ما لولاه لدخل في الحكم لدخوله في الموضوع، فيجب أن يكون داخلا في عداد الملائكة لأنّ اللّه تعالى قد استثناه منهم في آيات كثيرة.

ثالثها: الخطبة المتقدّمة حسبما سمعت من التقريب مضافا إلى ما أرسله في

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 265

«التبيان» من انّه المرويّ عن الصادق عليه السّلام معتضدا بما ادّعاه الشيخ من استظهاره في تفاسيرنا.

و الجواب عن هذه الوجوه أنّها مع تسليم دلالتها و الغضّ عمّا فيها على ما تسمع كلّها ظواهر يجب الخروج عنها بمقتضى ما دلّ على عدم كونه من الملائكة من الأدلّة القطعيّة الّتي منها الإجماع القطعي الدّال على عصمتهم عن الصغائر و الكبائر، مضافا إلى الآيات و الاخبار الدّالّة عليها حسبما مرّت إليه الإشارة، و منها الإجماع المنعقد في خصوص المقام ايضا، فانا لا نعرف أحدا من الاماميّة ذهب إلى كونه من الملائكة عدى الشيخ الذي لا يقدح خروجه في انعقاده لكونه معلوم النسب، و لكون قوله هذا مخالفا لما هو المقطوع من مذهب الإماميّة من ذهابهم إلى عصمة جميع الملائكة فكان قوله هذا مع شذوذه و انفراده به و مخالفته لما استقرّ عليه مذهب الاماميّة و تواترت به اخبارهم على ما تسمع مسبوقا بالإجماع على خلافه ملحوقا

به و احتمال نسبته إلى مفسّرينا كما استظهره منهم في تبيانه موهون جدّا سيّما مع عدم الحكاية من غيره رأسا في كتب التفسير و غيرها، بل المحكي عن شيخه و هو المفيد رحمه اللّه في كتاب «المقالات» انّه قال: إنّ إبليس من الجنّ خاصة، و انّه ليس من الملائكة و لا كان منها قال اللّه تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ «1»، و جاءت الاخبار متواترة عن ائمّة الهدى من آل محمّد عليهم السّلام بذلك و هو مذهب الاماميّة «2» كلّها و كثير من المعتزلة و اصحاب الحديث، و منها الاخبار الكثيرة

__________________________________________________

(1) الكهف: 50.

(2) مجمع البيان: ج 1 ص 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 266

الّتي لا يبعد دعوى تواترها بل هي متواترة معنى كما صرّح به المفيد و غيره فلا علينا أن نتعرّض لشطر منها في المقام و ان طال بها زمام الكلام.

ففي «تفسير القمي» في الصحيح عن جميل بن درّاج قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عما ندب اللّه الخلق إليه أدخل فيه الضلال قال: نعم و الكافرون دخلوا فيه، لأنّ اللّه تبارك و تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم فدخل في أمره الملائكة و إبليس، و انّ إبليس كان مع الملائكة في السّماء يعبد اللّه، و كانت الملائكة تظنّ أنّه منهم و لم يكن منهم، فلمّا أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلمت الملائكة عند ذلك أنّ إبليس لم يكن منهم، فقيل له عليه السّلام:

فكيف وقع الأمر على إبليس و إنّما أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم فقال: فكان إبليس منهم بالولاء و لم يكن من جنس الملائكة، و ذلك انّ اللّه تعالى خلق

خلقا قبل آدم، و كان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا و أفسدوا و سفكوا الدّماء فبعث اللّه الملائكة فقتلوهم و أسروا إبليس و رفعوه إلى السماء فكان مع الملائكة يعبد اللّه إلى أن خلق اللّه تبارك و تعالى آدم «1» آه.

أقول: قوله في صدر الخبر: انّه كان مع الملائكة اي بالولاء كما بيّنه في ذيله، و فيه وجوه من الدّلالة على أنّه لم يكن من جنسهم، بل و يدلّ أيضا على عصمة الملائكة و لو من الحسد.

في تفسير العياشي عن جميل بن درّاج عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن إبليس أ كان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من امر السّماء و كان من الجنّ؟

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 60، ص 273، رقم 160 عن تفسير القمي ص 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 267

فقال عليه السّلام: كان مع الملائكة و كانت الملائكة ترى انّه منها و كان اللّه يعلم انّه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الّذي كان «1».

و رواه شيخنا الصدوق في كتاب النبوّة بالإسناد عنه عليه السّلام و فيه عنه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن إبليس أ كان من الملائكة او كان يلي شيئا من امر السماء؟

فقال عليه السّلام لم يكن من الملائكة و كانت الملائكة ترى انّه منها و كان اللّه يعلم انّه ليس منها و لم يكن يلي شيئا من أمر السّماء و لا كرامة قال جميل: فأتيت الطّيار فأخبرته بما سمعت فأنكر و قال: كيف لا يكون من الملائكة و اللّه يقول للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ: فدخل عليه الطيار «2» فسأله و انا عنده فقال له: جعلت فداك

قول اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أ يدخل في هذه المنافقون؟ قال: نعم يدخل في هذه المنافقون و الضّلال و كلّ من أقرّ بالدّعوة الظّاهرة «3».

و في تفسير الامام عليه السّلام انّه قيل له عليه السّلام فعلى هذا لم يكن إبليس ايضا ملكا فقال لا بل كان من الجنّ أما تسمعون اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ «4» و هو الّذي قال اللّه عزّ و جلّ: وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ «5»، إلى آخر ما يأتي في قصّة هاروت و ماروت ممّا يدلّ على

__________________________________________________

(1) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 34 ح 16.

(2) المشهور بهذا اللقب محمد بن عبد اللّه الكوفي من اصحاب الصادق عليه السّلام.

(3) بحار الأنوار: ج 11 ص 148 عن العياشي.

(4) الكهف: 50.

(5) الحجر: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 268

عصمة الملائكة و عظم شأنهم.

و روى الصدوق في «العلل» و «المجالس» عن سلمان الفارسي قال: مر إبليس بنفر يتناولون أمير المؤمنين عليه السّلام، فوقف أمامهم، فقال القوم: من الّذي وقف أمامنا؟ فقال: أنا أبو مرّة؟ فقال: يا أبا مرّة أما تسمع كلامنا؟ فقال سوأة لكم تسبّون مولاكم عليّ بن ابي طالب؟ قالوا له: من أين علمت أنّه مولانا؟ قال: من قول:

نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، فقالوا له: فأنت من مواليه و شيعته؟ فقال: ما أنا من مواليه و لا من شيعته، و

لكنّي أحبّه و ما يبغضه احد إلّا شاركته في المال و الولد، فقالوا له: يا أبا مرّة فتقول في عليّ شيئا؟ فقال لهم: اسمعوا منّي معاشر الناكثين و القاسطين و المارقين عبدت اللّه عزّ و جلّ في الجانّ اثنى عشر ألف سنة، فلمّا أهلك اللّه الجان شكوت إلى اللّه عزّ و جلّ الوحدة فعرج بي إلى السّماء الدّنيا، فعبدت اللّه تعالى في السّماء الدّنيا اثنى عشر ألف سنة اخرى في جملة الملائكة فبينا نحن كذلك نسبّح اللّه عزّ و جلّ و نقدّسه إذ مرّ بنا نور شعشعاني، فخرّت الملائكة لذلك النور سجّدا فقالوا:

سبّوح قدّوس هذا نور ملك مقرّب او نبيّ مرسل، فإذا بالنّداء من قبل اللّه عزّ و جلّ ما هذا نور ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، هذا نور طينة عليّ بن ابي طالب «1». إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الّتي يظهر منها استقرار مذهب الأئمّة عليهم السّلام على عدم كونه من الملائكة، و ان كان قد سرى الوهم إلى الطيّار و غيره من ظاهر الخطاب، و لذا أجاب الإمام عليه السّلام بما حاصله أنّ الخطاب يتعلّق بمن أقرّ بالدّعوة الظاهرة و إن لم

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 143- 144 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 269

يشاركهم في الحقيقة و في الايمان الحقيقي.

و بالتأمّل في فحاويها يظهر الجواب عن الأدلّة المتقدّمة لضعف الأوّل بأنّه لمّا نشأ معهم و طالت خلطته بهم تناوله الخطاب المتوجه إليهم مضافا إلى ما مرّت الإشارة إليه من كون التغليب في الحكاية لا الخطاب، و انّما كان الافهام بالإلهام او بخصوص خلق الكلام و يؤيّده قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «1».

و الثّاني: بكون الاستثناء منقطعا

او مبنيّا على التغليب في المستثنى منه و لو بمعونة الأخبار المتقدّمة و غيرها ممّا يفيد القطع بالمطلوب فلا يقدح مخالفتهما للظّاهر سيّما مع اقترانه بقوله كانَ مِنَ الْجِنِّ الّذي هو كالقرنية المتّصلة على ما ستسمع.

الثالث: بانّ اطلاق الملك عليه في الخطبة مبنيّ على كونه معهم في العبادة و منهم بحسب الولاء و في زعمهم على ما أشير اليه في الاخبار المتقدّمة، و أمّا ما أرسله في «التبيان» فلم نجد منه أثرا في الأخبار، و على فرضه يجب تأويله كما يؤوّل الضعيف العامي المرويّ في البحار عن كتاب «غور الأمور» للترمذي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله في خبر ظهور إبليس ليحيى النبي على نبيّنا و آله و عليه السّلام و فيه انّه قال له يحيى عليه السّلام ما بال خلقك و صورتك على ما ارى من القبح و التقليب و الإنكار؟ قال: يا نبيّ اللّه هذا بسبب أبيك آدم إنّي كنت من الملائكة المكرمين و انّي لم ارفع رأسي من سجدة واحدة اربعمائة ألف سنة و عصيت ربّي في امر سجودي لآدم أبيك فغضب اللّه عليّ و لعنني، فحوّلت من صورة الملائكة إلى صورة الشياطين و لم يكن في

__________________________________________________

(1) الأعراف: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 270

الملائكة أحسن صورة منّي فصرت ممسوخا منكوسا مقبوحا هائلا كريها كما ترى «1». الخبر بكونه في جملتهم بحسب الظاهر في أجمل زيّ و أحسن صورة حتّى ظهرت منه المخالفة الكامنة ما تقلّبت صورته إلى ما اقتضته سيرته، مع أنّه لا عبرة بقوله المحكي عنه، و على كلّ حال فيتعيّن تأويل أمثال هذه الاخبار أو طرحها بعد استقرار المذهب على عدم كونه منهم، بل و دلالة

قواطع الأدلّة عليه حسبما سمعت، بل قد يستدلّ عليه ايضا بقوله: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «2»، فانّ المراد به حيث يطلق الجنس المعروف الّذي يقابل بالإنس.

و توهّم أن «كان» بمعنى صار كما في قوله: وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ سيّما مع نصّ الأخفش و غيره عليه، مدفوع بانّه خلاف الظّاهر فلا يصار عليه إلّا بدليل فضلا عن قيامه، على خلافه.

و أمّا ما يقال من أنّ الجنّ مشتقّ من الاجتنان و هو السّر و منه الجنين و الجنّة و الجنون، و الملائكة لمّا كانوا مستترين عن العيون صحّ إطلاق الجنّ «3» سلّمنا لكنّ المراد به طائفة من الملائكة معروفون بهذا الإسم كما روته العامّة عن بعض اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رواه بعضهم عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ خلقوا من نار السموم من بين الملائكة و كان خازنا من خزّان الجنّة، قال: و خلقت الملائكة كلّهم من نور غير هذا الحيّ قال و خلقت

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 63 ص 229.

(2) الكهف: 50.

(3) مفاتيح الغيب للرازي: ج 2 ص 213.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 271

الجنّ الّذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، و هو لسان النّار الّذي يكون في طرفها إذا لهبت «1» و خلق الإنسان من طين فأوّل من سكن الأرض الجنّ فأفسدوا فيها و سفكوا الدّماء و قتلوا بعضهم بعضا فبعث اللّه إبليس في جند من الملائكة و هم هذا الحيّ الّذي يقال لهم الجنّ فقتلهم إبليس و من معه حتّى الحقوهم بجزائر البحور و أطراف الجبال فلمّا فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه

و قال قد صنعت شيئا لم يصنع احد قال فاطلع اللّه على ذلك من قلبه و لم يطلع عليه الملائكة الّذين كانوا معه.

و في رواية اخرى عنه: انّ من الملائكة قبيلة يسمّون الجنّ و كان إبليس منها و كان يسوس ما بين السّماء و الأرض «2».

بل قد يؤيّد ايضا بقوله تعالى: وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «3» حيث أن قريشا قالت الملائكة بنات اللّه.

ففيه انّ هذا كلّه مخالف للظّاهر الّذي هو الحجّة بل كانّه ردّ على النصوص المتقدّمة المصرّحة بأنّه كان من الجنّ لا من الملائكة و انّه كان معهم و الملائكة كانوا يحسبون انّه منهم و لم يكن منهم إلى أن كان منه الّذي كان و انّه كان من بني الجان، و قد سمعت انّه قد وقع السؤال في كثير منها من اشتمال الخطاب له مع عدم كونه منهم، و احتمال معارضة مثل هذه النصوص المأثورة عن أئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين بالمرويّ عن ابن عباس و غيره من طرق العامة ممّا لا ينبغي الإصغاء اليه على أنّ ظاهر الآية تعليل تركه السجود بأنّه كان من الجنّ، و لذا فرع

__________________________________________________

(1) جامع البيان للطبري ج 1 ص 178.

(2) جامع البيان للطبري: ج 1 ص 178.

(3) الصافات: 158.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 272

عليه بالفاء قوله: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «1» و من البيّن انّه لا يصحّ تعليل ترك السجود باختفائه عن العيون و لا بكونه خازنا عن الجنة و لا تفريع التمرّد و العصيان على شي ء منهما، و لفظ الجنّ و إن جاز إطلاقه على الملك بحسب اللّغة على ما قيل، إلّا انّه صار بحسب العرف مختصّا بالجنس

المقابل للانس و الملك، فلا يحمل على المعنى اللّغوي الّذي هو مجاز عرفي إلّا لدليل، و لذا قوبل به في قوله وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ «2».

نعم روي في «تفسير الفرات» عن محمّد بن علي عن آبائه عليهم السّلام قال: هبط جبرئيل عليه السّلام على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو في منزل امّ سلمة، فقال يا محمّد انّ ملأ من ملائكة السّماء الرابعة يجادلون في شي ء، حتّى كثر بينهم الجدال فيهم، و هم من الجنّ من قوم إبليس الّذين قال اللّه في كتابه: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «3» فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة قد كثر جدالكم فتراضوا بحكم من الآدميّين يحكم بينكم، قالوا: قد تراضينا بحكم من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فأوحى اللّه إليهم بمن ترضون من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله؟ قالوا: رضينا بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام فأهبط اللّه ملكا من ملائكة السّماء الدنيا ببساط و أريكتين فهبط إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بالّذي جاء فيه، فدعا النّبي صلّى اللّه عليه و آله بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام و أقعده على البساط و وسّده بالأريكتين، ثمّ تفل في فيه، ثمّ قال يا علي ثبّت اللّه قلبك و نوّر حجّتك بين عينيك، ثمّ عرج به

__________________________________________________

(1) الكهف: 50.

(2) سبأ: 41.

(3) الكهف: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 273

إلى السّماء فلمّا نزل قال: يا محمّد إنّ اللّه يقرؤك السلام و يقول لك: نرفع درجات

من نشاء، و فوق كلّ ذي علم عليم «1».

لكنّه قاصر عن معارضة ما سمعت بعد ظهور ضعف سنده و دلالته.

و أمّا الاستدلال للمختار بأنّ إبليس له نسل و ذريّة لقوله: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ «2».

و الملائكة لا ذرّيّة لهم، لأنّه ليس فيهم أنثى لقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «3» و الذّرية انّما تحصل بالذكر و الأنثى، و انّ الملائكة رسل اللّه لقوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «4»، و رسل اللّه معصومون لقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «5»، و أنّ الملائكة روحانيّون مخلوقون من الأنوار، و الجانّ مخلوق من مارج من نار، و أنّ الملائكة لا يطعمون و لا يشربون، بل طعامهم التّسبيح و شرابهم التّهليل، و أمّا الجنّ فقد ورد في الأخبار: النّهي عن التمسّح بالعظم و الّروث معلّلا بكونهما طعاما لهم «6» فلا بأس بها تأييدا لما سمعت، و إن كان بعضها لا يخلو عن قصور، و لعلّ من أمعن النظر في أخبار الباب و الأصول المقرّرة بين الأصحاب يقطع بأنّ مذهب اهل البيت عليهم السّلام هو ما سمعت من غير ارتياب.

__________________________________________________

(1) تفسير فرات: ص 70- 71 و عنه البحار ج 39 ص 161.

(2) الكهف: 50.

(3) الزخرف: 19.

(4) فاطر: 1.

(5) الأنعام: 124.

(6) بحار الأنوار: ج 63 ص 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 274

ثمّ إنّ من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما قد يقال دلالة الآية على كون إبليس من الملائكة، و انّ من الملائكة من ليس بمعصوم، كما لا يخفى ضعف دلالتها على حصول الكفر بأفعال الجوارح مجرّدة عن الأمور القلبية على ما قيل، لما ستعرف

من أنّ سبب كفره هو الاستخفاف بأمر اللّه و الرّد عليه.

ما يستفاد من الآية الكريمة

نعم تدلّ على تفضيل آدم على كلّ الملائكة، لتعلّق الخطاب عليهم جميعا على ما مرّ، و على حرمة الاستكبار، و أنّه قد يفضي بصاحبه إلى أن يعدّ من الكفّار و يستحقّ النّار، و على الحثّ على الايتمار لأمر اللّه تعالى و ترك الخوض في سرّه، و على بطلان القول بالجبر لنسبة السجود إلى الملائكة، و الإباء و الاستكبار و الكفر إلى إبليس، و لو لم يكن لهم قدرة و اختيار لما صحّ شي ء من ذلك و على كون صفة افعل للوجوب، و إن كان ذلك لا يخلو عن خفاء، لا لاحتمال القرينة في الخطابات الشفاهيّة، و الأصل و إن كان دافعا للمقالية إلّا أنّه لا يدفع الحاليّة إذ الشك في الحادث لا الحدوث، و لا لوروده عقيب الحظر أو توهّمه لحرمة السجود لغيره سبحانه فأفاد الإباحة و فهم الوجوب لقرينة فلا دلالة، و لا لاحتمال الاختلاف بين عرفنا و عرف الملائكة و التزام اتّحاد الوضع و اللغة منظور فيه و ظهور الحكاية في الموافقة ممنوع بعد إفهام المرام، و ذلك لأنّه يمكن دفع ذلك كلّه بالأصل، و الظهور الّذي هو الحجّة مضافا إلى تطرّق وجوه المناقشة إليها كما يمكن دفع كثير من الاعتراضات الّتي ربما يورد عليها، بل لأنّ الذّم و التكفير على الاستكبار الّذي

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 275

لا ريب في حرمته سواء كان استكباره على آدم أو على اللّه سبحانه في امتثال أوامره الواجبة أو المندوبة، فإنّ ترك المندوب عتوّا و علوّا و استكبارا عليه سبحانه حرام قطعا، بل هو من أسباب الارتداد و الكفر، و الّا فالذمّ و الإنكار

في هذه الآية و غيرها من الآيات المشتملة على هذه القصّة غير مترتّب على مجرّد ترك الامتثال الّذي لم يعلم كونه سببا للكفر، و لو في حقّ إبليس أو جنود الملائكة المقرّبين.

و من هنا يتّجه أن يقال إنّ هاهنا أمورا ثلاثة: إباء للسجود، و استكبار على آدم، و إنكار لرجحان السجود المأمور به من اللّه تعالى، بل دعوى قبحه لاشتماله على تفضيل المفضول، و لا ريب في سببيّته للكفر لكونه تسفيها للحكيم و تجهيلا للخالق العليم، و إلى هذه الأمور الثلاثة المترتّبة أشير بقوله أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ يعني باعتراضه عليه سبحانه بقوله: أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ «1» و قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* «2».

ثمّ انّه ربّما يستدلّ بالآية ايضا على صحّة القول بالموافاة، و المراد به أنّ الّذي علم اللّه من حاله انّه يتوفّى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم، و ان كان بحكم الحال مؤمنا كما يحكى عن أبي الأشعري، و بناه في «المجمع» على أحد الوجوه «لكان» قال: و امّا قوله: كانَ مِنَ الْكافِرِينَ قيل:

معناه كان كافرا في الأصل، و هذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة، و قيل: أراد كان في علم اللّه من الكافرين «3» إلى آخر ما ذكره.

__________________________________________________

(1) الإسراء: 62.

(2) ص: 76.

(3) مجمع البيان: ج 1 ص 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 276

و المحكيّ عن «الملل و النحل» تفسير الموافاة بانّ الايمان هو الّذي يوافي الموت فمن أطاع اللّه جميع عمره، و قد علم اللّه انّه يأتي بما يحبط عمله، و لو بكبيرة لم يكن مستحقّا للوعد، و لا مؤمنا و كذلك

على العكس، و قد يقرّر بأنّ الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم، و الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، و الجمع بين الاستحقاقين محال، فإذا صدر الايمان من المكلّف ثمّ صدر عنه و العياذ باللّه بعد ذلك كفر، فإمّا أن يبقى له الاستحقاقان معا و هو محال، او يكون الطّاري مزيلا للسابق و هو ايضا محال، لأنّ القول بالإحباط باطل فلم يبق إلّا أن يقال إنّ هذا الفرض محال، و شرط حصول الايمان في وقت أن لا يصدر الكفر عنه قطّ، فإذا كان الخاتمة على الكفر علمنا أنّ الّذي صدر عنه اوّلا ما كان ايمانا، و حيث انّه كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنّه ما كان مؤمنا قطّ.

أقول: امّا إبليس فالظّاهر من كثير من الأخبار انّه لم يرد بعبادته التقرب إلى اللّه سبحانه و نيل ما لديه من المثوبة الاخرويّة و الزلفى و الكرامة و إنّما كان مقصوده نيل الحظوظ العاجلة و الرّياسة الباطلة، و امّا الآية فقد سمعت أنّ فيها وجوها كثيرة، و من البيّن انّه يضعف دلالتها على المذهب المتقدّم، بناء على اكثر الوجوه فيها بل جميعها بعد ملاحظة أنّ ايمان إبليس كان من اوّل الأمر كلا إيمان، حسبما سمعت على أنّ القول بالموافاة بمعنى المتقدّم مخالف لما دلّت عليه ظواهر الأدلّة من الكتاب و السنّة، فان صحّة الإيمان في زمان غير مشروطة بعدم طروّ الكفر عليه، و لو بعد سنين من الأزمنة بعد كونه عند تحقّقه مستجمعا للتّصديق بالجنان و العمل بالأركان و الإقرار باللّسان، فانّ هذه الثلاثة و هي أركان الايمان بحيث إذا تحقّقت

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 277

تحقّق قطعا، و ان كان ربما يصدق بتحقّق البعض ايضا، نعم لو

كان التّصديق اللّساني مقترنا بالعزم القلبي على إنشاء الكفر و إظهاره فيما بعد لم يبعد القول بعدم تحقّق الإيمان رأسا، و لعلّ الأولى تنزيل القول بالموافاة على ذلك، سيّما ما نسبه في «المجمع» إلى مذهبنا الظّاهر في نسبته إلى الاماميّة المشعرة بدعوى الإجماع عليه، إلا أنّ مساق كلماتهم يأبى عن ذلك، بل الظاهر منها أنّه مع خلوص إيمانه و اقترانه بكلّ ما يعتبر اقترانه به لو اتّفق منه الكفر في آخر عمره بحيث قد مات عليه فلا يعد إيمانه ايمانا أصلا، لظهور الكاشف عن عدم كونه إيمانا في الحقيقة، و هو كما ترى مخالف لظواهر الأدلّة، بل ربما يمكن تحصيل القطع على خلافه و أين هذا مما أدعى الإجماع على صحته و يمكن أن يكون المراد أنّ من ختم له بالكفر فحكمه في الخلود و سائر الأحكام حكم الكفّار، و إن كان في اكثر عمره مقيما على وظائف الإيمان، كما أنّ من ختم له بالإيمان فهو محشور في زمرة المؤمنين مبشّر بخلود الجنان، و ان انقضى عمره في الكفر و الطّغيان، و هذا ايضا لا بأس به، بل هو المستفاد من ظاهر الآيات و الاخبار، كما أنّ المستفاد منها كونه في حال الايمان مؤمنا على الحقيقة، و في حال الكفر كافرا على الحقيقة، نعم الختم بالكفر يوجب حبط الأعمال الصالحة و بطلانها، أو كون المجازات بها في هذه الدّار الفانية، و لذا يخاطبون في الآخرة بقوله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ «1»، كما أنّ الختم بالإيمان يوجب تكفير السّيئات، فإنّ الإسلام يجبّ ما

__________________________________________________

(1) الأحقاف: 20.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 5، ص: 278

قبله، و التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له، و الحبط و التكفير بهذا المعنى ممّا يدلّ عليه المنقول، و لم يقم على فساده شي ء من أدلّة العقول، بل هو المختار عند الإماميّة على ما صرّح به بعض الفحول، و أمّا الحبط و التكفير بالمعنى الّذي قال به بعض المعتزلة، و قام النّص و الإجماع على بطلانه عند الاماميّة فهو إذهاب كلّ من الحسنة و السيّئة على قدر ما لها من المرتبة ضعفا و قوّة للأخرى مع ذهابها على قدر إذهابها، و اين هذا ممّا أشرنا اليه من المعنى المتقدّم، و من هنا يظهر ضعف ما ربما يستدلّ به للقول بالموافاة بالمعنى المتقدّم من انّ الايمان يوجب استحقاق الثواب الدّائم إلى آخر ما مرّ تقريره.

تفسير الآية (35)

اشارة

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ لما أنعم اللّه تعالى على أدم على نبيّنا و آله و عليه السلام بصنوف الأنعام و اختصّه من العلوم و المعارف و تعليم الملائكة بما أوجب له به مزيد الإعظام، و أسجد له الملائكة الكرام خاطبه خاطبا فهوانيّا بلا وسط على وجه الإلهام، او خلق الكلام، أو معه على وجه الإيصال و الإعلام بألسنة تراجمة الوحي عليهم الصلاة و السلام، كما يومئ إليه بعض الأخبار.

فالنون في قوله: «و قلنا» نون الكبرياء و العظمة، او نون الوساطة و الكرامة، و ناداه باسمه تكريما و تقريبا و إن آثر كلمة «يا» من بين حروف النّداء تنبيها على صدور الخطاب عن سرادق العظمة و الجلال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 279

و قوله: «اسكن» أمر من السكنى بمعنى اتّخاذ المسكن، لا من السكون بمعنى ترك الحركة، و منه السكن بالفتح للمنزل،

و بالسكون لأهله، و أصل السكنى أن يعدّى بفي كما يقال: قرّ فيه، و لبث فيه، إلّا أنّهم لمّا نقلوه إلى سكون خاص تصرّفوا فيه، فقالوا: سكن الدار.

و «أنت» تأكيد للمستكن في اسكن ليصحّ العطف عليه، و لم يقدروا و لتسكن زوجك للتنبيه على أنّه هو المقصود بالحكم، و المعطوف عليه تبع له، و لولاه لم تكن مأمورة به، بل لم تكن أصلا بخلاف ما لو قيل: اسكنا، و الرجل زوج المرأة، و هي زوجه، و زوجته، و الجمع فيهما أزواج، و حكى في «المصباح المنير» أنّ أهل نجد يقولون في المرأة زوجة بالهاء، و أهل الحرم يتكلّمون بها مجازا، و عكّس ابن السكّيت فقال: و اهل الحجاز يقولون للمرأة زوج بغير هاء و سائر العرب زوجة بالهاء و جمعها زوجات، قال: و الفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها للإيضاح و خوف لبس الذكر بالأنثى، إذ لو قيل: تركة فيها زوج و ابن لم يعلم ذكر او أنثى.

أقول و الأشهر الأوفق للعرف و اللّغة ما ذكرناه أوّلا، و المراد بها حواء خلقها اللّه تعالى من فاضل طينة آدم ليسكن إليها حين استوحش من الانفراد كما قال:

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً «1».

قيل إنّه لما أخرج إبليس من الجنّة و لعن، و بقي آدم وحده استوحش إذ ليس معه من يسكن إليه، فخلقت حوّاء ليسكن إليها.

__________________________________________________

(1) الروم: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 280

و في المجمع مرسلا أنّ اللّه تعالى ألقى على آدم النوم، و أخذ منه ضلعا فخلق منه حوّاء فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فسألها من أنت؟ قالت امرأة، قال لم خلقت؟

قالت لتسكن إليّ، فقالت الملائكة: ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء، قالت و لم سمّيت حوّاء؟ قال: لأنّها خلقت من حيّ، فعندها قال اللّه تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ «1».

و ستسمع ان شاء اللّه تعالى الكلام في وجه تسميتها و معنى كونها مخلوقة من ضلع آدم الأيسر في أوّل سورة النّساء.

و حيث إنّ نعمة السكنى لا تتمّ بدون التسكّن لأنّه مسكّن القلب، و هي مسكن البدن قدّمه عليها في هذه الآية تقديم الرفيق على الطريق و الجار على الدّار.

و الأقوال كظواهر الأخبار مختلفة في كون حوّاء مخلوقة في الجنّة أو قبل دخولها، فربّما يستفاد منها الأوّل و قيل: إنّها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنّة، ثمّ ادخلا معا الجنّة، و هو الظّاهر من تفسير الامام عليه السّلام على ما يأتي «2».

و الأمر بسكنى الجنّة للإباحة لا التّعبد، إذ لا تكليف في السكنى في المواضع النزهة الطّيبة، كما أنّ الأمر في «كلا» للإباحة، و احتمال أن يكون مأمورا بالكون فيها باعتبار ترك أكل الشجرة مبنيّ على كون النّهي للتّحريم، و ضرورة المذهب تنفيه، على ما تسمع، و قد مرّ الكلام في اشتقاق الجنّة.

نعم قد اختلفوا في أنّ الجنّة الّتي أسكنها اللّه تعالى آدم هل هي من جنان

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 85 رواها مرسلا عن ابن عبّاس و ابن مسعود.

(2) تفسير الامام العسكري (ع): ص 221.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 281

الآخرة أو من جنان الدنيا؟

و على الأوّل هل هي جنّة الخلد او جنّة المأوى أو شي ء من الجنان الثمانية المعدّة لثواب الآخرة؟

و على الثاني هل هي في السماء أو في الأرض عند صخرة بيت المقدس، او بأرض فلسطين، او على

ظهر الكوفة او بين فارس و كرمان؟ على اقوال.

و احتجّ الأوّلون بأنّ ظاهر الالف و اللام للعهد و المعهود المعلوم بين المسلمين هي جنّات الآخرة المعدّة للثواب و بأنّها هي المتبادر منها حتّى صار الإسم كالعلم لها فوجب الحمل عليها.

و الآخرون بأنّ دار الخلد لا يفنى نعيمها و لا يدخلها الشيطان بعد طرده و لعنه، و بانّها لو كانت دار الخلد لما خرج آدم منها كما يقتضيه التّسمية و لقوله:

وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «1»، و بانّ الشيطان وسوس لآدم عليه السّلام بقوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى «2»، و معلوم انّها لو كانت جنّة الخلد لما تمكّن من وسوسة بذلك.

ثمّ منهم من حمل الإهباط على كونه من السماء إلى الأرض كانّه الظاهر، و لقوله: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ «3»، الظّاهر في كون الهبوط من غيرها، و لما روي عن أمير المؤمنين حيث سئل عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال عليه السّلام: واد

__________________________________________________

(1) الحجر: 48.

(2) طه: 120.

(3) البقرة: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 282

يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء «1».

و منهم من حمله على مجرّد الانتقال من أرض إلى أرض سيّما مع انحطاط الرتبة كما في قوله: اهْبِطُوا مِصْراً «2».

على أنّ ذكر الهبوط لا يدلّ على كون النّزول من السماء قال اللّه تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ «3» و انّما كان في السفينة حين استقرّت على الجودي و قال: إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «4»، قالوا و لا مانع بل هو الواقع انّ الجنّة الّتي أسكنها آدم كانت مرتفعة على سائر بقاع الأرض ذات أشجار و ثمار

و ظلال و نعيم و نضرة و سرور كما قال اللّه سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى «5» اي لا يذل باطنك بالجوع و لا ظاهرك بالعرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «6» اي لا يمس باطنك حرّ الظمأ و لا ظاهرك حرّ الشمس، هذا مع أنّ آدم خلق من الأرض، و لم ينقل انّه رفع إلى السّماء، بل خلق ليكون في الأرض، و بهذا أعلم اللّه سبحانه الملائكة حيث قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «7».

و الّذي يستفاد من اخبار أهل البيت عليهم السّلام انّها لم تكن جنّة الخلد و لا من جنان الآخرة و لا كانت في السّماء بل كانت من جنان الدّنيا.

__________________________________________________

(1) عيون الأخبار: ج 1 ص 244.

(2) البقرة: 61.

(3) هود: 48.

(4) البقرة: 74.

(5) طه: 118.

(6) طه: 119.

(7) البقرة: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 283

ففي العلل في الموثّق عن الحسن بن بشار عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن جنّة آدم؟ فقال: جنّة من جنان الدّنيا يطلع عليها الشمس و القمر و لو كانت من جنان الخلد ما خرج منها ابدا «1»، و في بعض النسخ: يطلع فيها الشمس و القمر و رواه في «الكافي» بالإسناد عنه عليه السّلام.

و في «تفسير القمي» مرفوعا قال سئل الصّادق عليه السّلام عن جنّة آدم أمن جنان الدّنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر و لو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها ابدا «2». الخبر.

نعم ربما يستظهر من بعض الأخبار ما يخالف ذلك كما رواه العياشي عن عبد اللّه بن

سنان قال: سئل ابو عبد اللّه عليه السّلام و انا حاضركم لبث آدم و زوجه في الجنّة حتّى أخرجهما منها خطيئتهما؟ فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثمّ برأ زوجته من أسفل أضلاعه، ثمّ أسجد له ملائكة و اسكنه جنّته من يومه ذلك فو اللّه ما استقرّ فيها إلّا ستّ ساعات في يومه ذلك حتّى عصى اللّه فأخرجهما اللّه منها بعد غروب الشمس، و ما باتا فيها و صيّرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا فبدت لهما سوءاتهما و ناداهما ربّهما الم أنهكما عن تلكما الشجرة فاستحيا آدم من ربّه و خضع و قال ربّنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا قال اللّه لهما: اهبطا من سماواتي إلى الأرض فانّه لا يجاورني في جنتي عاص و لا في سماواتي «3».

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 600 ح 55.

(2) تفسير القمي: ص 35 و عنه البحار ج 11 ص 161 ح 5.

(3) بحار الأنوار: ج 11 ص 188- 189 عن تفسير العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 284

و في «العلل» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّ آدم لمّا عصى ربّه عزّ و جلّ ناداه مناد من لدن العرش يا آدم اخرج من جواري فانّه لا يجاورني احد عصاني فبكى و بكت الملائكة فبعث اللّه عزّ و جلّ اليه جبرئيل فاهبطه إلى الأرض مسودّا «1» آه.

و في «المعاني» و «العيون» و «القصص» عن الرّضا عليه السّلام في الخبر الآتي في شجر الجنّة انّها تحمل أنواعا فكانت شجرة الحنطة و فيها عنب، و ليست كشجر الدنيا، و انّ آدم لمّا أكرمه اللّه تعالى باسجاد ملائكة له

و بإدخاله الجنة ... إلى أن قال:

فأخرجهما اللّه تعالى عن جنّته و أهبطهما عن جواره إلى الأرض «2».

و في النّهج عن بعض خطب امير المؤمنين عليه السّلام ثمّ اسكن سبحانه آدم دارا ارغد فيها عيشته، و آمن فيها محلّته، و حذّره إبليس و عداوته، فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام و مرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكّه و العزيمة بوهنه و استبدل بالجذل، و جلا، و بالاغترار ندما، ثمّ بسط اللّه سبحانه له في توبته، و لقّاه كلمة رحمته، و وعده المردّ إلى جنّته، فأهبطه إلى دار البليّة و تناسل الذّرية، الخطبة «3».

فانّ الظاهر من دار المقام انّها دار الخلد، سيّما مع ما سبقه من الأوصاف و ما لحقه من قوله: و وعده المردّ إلى جنّته.

و مثله ما في «المعاني» عن الصادق عليه السّلام في خبر قال: و لقد قام آدم على باب الكعبة ثيابه جلود الإبل و البقر فقال: اللّهم أقلني عثرتي و اغفر لي ذنبي و اعدني إلى الدّار الّتي اخرجتني منها فقال اللّه عزّ و جلّ: قد أقلتك عثرتك، و غفرت لك ذنبك،

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 133 و عنه البحار ج 11 ص 171.

(2) معاني الأخبار: ص 42 و العيون ص 170 و عنهما البحار ج 11 ص 165.

(3) نهج البلاغة الخطبة الأولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 285

و سأعيدك إلى الدّار الّتي أخرجتك منها «1».

و ما في القصص من انّ آدم لما كثر ولده و ولد ولده كانوا يتحدّثون عنده و هو ساكت فقالوا يا ابه ما لك لا تتكلّم فقال يا بنيّ إنّ اللّه جلّ جلاله لما أخرجني من جواره عهد إليّ و قال اقلّ كلامك ترجع إلى

جواري «2».

بل و هو الظّاهر ايضا ممّا رواه العياشي عن الصادق عليه السّلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ موسى سأل ربّه أن يجمع بينه و بين أبيه آدم حيث عرج إلى السّماء في امر الصّلاة، ففعل فقال له موسى: يا آدم أنت الّذي خلقك اللّه بيده، و نفخ فيك من روحه، و اسجد لك ملائكته، و أباح لك جنّته، و أسكنك جواره، و كلّمك قبلا، ثم نهاك عن شجرة واحدة فلم تصبر عنها، حتّى أهبطت إلى الأرض بسببها، فلم تستطع أن تضبط نفسك عنها حتّى أغراك إبليس فأطعته، فأنت الّذي أخرجتنا من الجنّة بمعصيتك.

فقال له آدم: ارفق بأبيك أي بنيّ فيما لقي من امر هذه الشّجرة، يا بنيّ انّ عدوّي أتاني من وجه المكر و الخديعة فحلف باللّه أنّه في مشورته عليّ لمن النّاصحين، و ذلك انّه قال لي منتصحا: إنّي لشأنك يا آدم لمغموم، قلت: و كيف؟

قال: قد كنت انست بك و بقربك منّي و أنت تخرج ممّا أنت فيه إلى ما ستكرهه، فقلت له: و ما الحيلة؟ فقال: إنّ الحيلة هو ذا هو معك، أفلا أدلّك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى؟ فكلا منها أنت و زوجك فتصيرا معي في الجنّة ابدا من الخالدين،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 176 عن معاني الأخبار.

(2) البحار: ج 11 ص 180 عن القصص.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 286

و حلف لي باللّه كاذبا إنّه لمن النّاصحين «1» الخبر.

و ممّا رواه في «المعاني» في خبر المفضّل عن الصادق عليه السّلام: انّه لمّا أسكن اللّه آدم و زوجته الجنّة، نظرا إلى منزلة محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و

الأئمّة بعدهم، فوجداها أشرف منازل أهل الجنّة، فقالا: يا ربّنا لمن هذه المنزلة؟ قال اللّه جلّ جلاله: ارفعا رؤسكما إلى ساق عرشي، فرفعا رؤسهما فوجدا أسماء محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة صلوات اللّه عليهم مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الجبّار جلّ جلاله، فقالا: يا ربّنا ما أكرم أهل هذه المنزلة عليك! و ما أحبّهم إليك! و ما أشرفهم لديك؟! فقال اللّه جلّ جلاله: لولاهم ما خلقتكما «2». الخبر بطوله على ما يأتي في سورة الأعراف إنشاء اللّه.

و هو الظاهر ايضا ممّا ذكره الامام عليه السّلام في تفسيره «3»، و بالجملة فالأخبار لا تخلو عن إختلاف ما في بادئ الأمر و لعلّه لذا قال المجلسي رحمه اللّه في البحار:

انّ الجزم بأحد المذاهب لا يخلو من اشكال كما انّ شيخنا الطبرسي و غيره لم يرجّحوا شيئا من الأقوال و الذي يخطر بالبال وفاقا لبعض المحقّقين و نبّه عليه المجلسي أيضا في موضعين من البحار و به يجمع بين ما سمعت من الأخبار أنّ الجنّة كانت من جنان الدنيا الّتي تأوي إليها أرواح المؤمنين في عالم البرزخ بعد خروجها عن أبدانهم كما ورد في تفسير قوله تعالى: وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 188 عن تفسير العياشي.

(2) معاني الاخبار: ص 108 و عنه البحار ج 11 ص 183.

(3) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 90- 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 287

وَ عَشِيًّا «1»، انّ البكرة و العشيّ لا تكونان في الآخرة في جنان الخلد، و إنّما يكون الغدوّ و العشيّ في جنان الدّنيا الّتي تنقل إليها أرواح المؤمنين و تطلع

فيها الشمس و القمر.

و في «الكافي» في الصحيح عن ضريس الكناسي قال سألت أبا جعفر عليه السّلام:

انّ النّاس يذكرون انّ فراتنا يخرج من الجنّة، فكيف هو و هو يقبل من المغرب، و تصبّ فيه العيون و الأودية؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ للّه جنّة خلقها في المغرب، و ماء فراتكم هذه يخرج منها، و إليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كلّ مساء، فتسقط على ثمارها و تأكل منها، و تتنعّم فيها و تتلاقى و تتعارف، فإذا طلع الفجر هاجت من الجنّة، فكانت في الهواء فيما بين السماء و الأرض ... ثمّ ذكر انّ للّه تعالى نارا في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفّار، إلى أن قال في المسلمين الّذين ليسوا من أهل المعرفة و لا من أهل العناد: إنّه من كان منهم له عمل صالح و لم تظهر منه عداوة فانّه يخدّ له خدّا إلى الجنّة الّتي خلقها اللّه في المغرب، فيدخل عليه منها الروح في حفرته إلى يوم القيمة. «2» الخبر.

و الاخبار في هذا المعنى كثيرة جدّا و بالتأمّل فيها يمكن التوفيق بين الأخبار المتقدّمة لكونها حينئذ من جنان الدنيا تطلع فيها الشّمس و القمر، و امّا اطلاق الهبوط او الهبوط من السموات أو عن جواره سبحانه او غير ذلك مما ذكر في الأخبار المتقدّمة و غيرها، فلانّ هذه الجنان و إن كانت في المغرب إلّا أنّ أسفلها

__________________________________________________

(1) مريم: 62.

(2) الكافي: ج 1 ص 68 و عنه البحار ج 6 ص 290.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 288

بحسب المرتبة فوق محدّب محدد الجهات، و قد يعبّر عنها بعالم المثال و الخيال المنفصل، و الهور قليا و الإقليم الثامن، و قد

قيل: إنّ الأنهار الأربعة و هي الفرات و النيل و سيحان و جيحان تنزل من ذلك العالم إلى فلك المحدّد الجهات، ثمّ إلى الملائكة، ثمّ إلى السحاب، ثمّ إلى الأنهار الأربعة ماء كلّ نهر من نظيرة هناك، و في بعض الأخبار تلويح إليه.

و امّا اشتمالها على وعد عوده إليها مطلقا أو بالشرط ممّا يؤكّد ما سمعت لتحقّق ذلك في عالم البرزخ قبل يوم القيمة و كان ما ذكرناه هو الّذي أشار إليه الملّا صدرا في رسالته «العرشيّة» بقوله: يجب أن نعلم أنّ الجنّة الّتي خرج عنها أبونا آدم و زوجته عليهما السّلام لأجل خطيئتهما غير الجنّة الّتي وعد المتّقون لأنّ هذه لا تكون الّا بعد خراب الدّنيا و بوار السموات و الأرض و انتهاء مدّة عالم الحركات و ان كانتا متّفقتين في الحقيقة و الرتبة و الشرف لكونهما جميعا دار الحياة الذّاتية، و دار البقاء غير متجدّدة و لا متبدّلة، و لا داثرة و لا فانية و لا زائلة، و بيان ذلك أنّ الغايات كالمبادئ متحاذية متقابلة، و انّ الموت الطبيعي ابتداء حركة الرجوع إلى اللّه كما أنّ الحياة الطبيعيّة ابتداء حركة النزول من عنده فكلّ درجة من درجات القوس الصعوديّة بإزاء مقابلتها من درجات القوس النزوليّة، و قد شبّهت الحكماء و العرفاء هاتين السّلسلتين بالقوسين من الدّائرتين إشعارا بانّ الحركة الثانية الرجوعيّة انعطافيّة لا استقامية.

أقول: و لعلّ قوله: لأنّ هذه لا تكون، معناه لا يكون ظهورها و دخول المؤمنين فيها، و إلّا فقد سمعت انّ ضرورة المذهب قاضية بوجودها الآن و هو قد

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 289

صرّح بذلك في مواضع من كتبه، و من هنا يسقط ما اعترضه به الشّيخ الأجل الأمجد

في شرحه، نعم ذكر بعد ذلك أنّ الّذي ثبت عندي ما فهمته من الكتاب و السنّة على سبيل القطع بحيث لا أرتاب فيه و لا مرية عندي تعتريه انّ الجنّة الآخرة خلقت قبل سائر الخلق و أنّ المؤمنين خلقوا منها و إليها يعودون و انّ جنّة الدنيا خلقت بعد خلق الأجسام خلقت من تنزل جنّة الآخرة كما خلقت الأجسام من تنزل النفوس و الأرواح و العقول، و انّ الجنّة الدّنيا هي بعينها بعد التصفية جنّة الآخرة كما أنّ أجسام النّاس الآن هي بعينها أجسام الدنيا و هي بعينها بعد تصفيتها أجسام الآخرة، و القرآن ناطق بذلك لمن كان له قلب قال سبحانه في حقّ الجنّة: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً* جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا* لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا* تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا فقوله: و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيّا يعني جنّة الدّنيا لأنّ الآخرة ليس فيها بكرة و عشيّ و قوله:

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا «1» يعني جنّة الآخرة، و هذا صريح في أنّ جنّة الدنيا هي بعينها جنّة الآخرة و قال سبحانه، في شأن النّار:

وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ «2» فقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا يعني نار الدّنيا لأنّ الآخرة ليس فيها غدوّ و عشيّ، و قوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يعني بالنّار

__________________________________________________

(1) مريم: 60- 63.

(2) غافر: 45- 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 290

المعروض عليها يوم تقوم الساعة نار الآخرة،

و قد اتّفق القرّاء على الوقف على تقوم الساعة، و يلزم منه اتّحاد النّار المعروض عليها، و هذا ظاهر فانّ جنّة الدنيا تنزّل جنّة الآخرة، و نار الدّنيا تنزل نار الآخرة كما أنّ أجسام الدّنيا تنزّل أجسام الآخرة فتصفى أجسام الدّنيا و تكون بعينها أجسام الآخرة كذلك تصفى جنة الدنيا و تكون بعينها جنّة الآخرة و تصفى نار الدنيا الّتي عند مطلع الشّمس و تكون بعينها نار الآخرة لأنّ اللّه سبحانه قد تبيّن لنا آية ذلك، بل آية كلّ شي ء في أنفسنا فقال:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «1» و ايضا قال اللّه تعالى: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «2»، إلى قوله: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «3»، و المعنى و من دون جنّتي الآخرة أي من قبلهما و من دونهما اي من أنزل منهما جنّتان في الدنيا إذا ماتوا تأوي إليهما أرواحهم و هما الآن في المغرب في الإقليم الثّامن، و الفرات و النيل و سيحان و جيحان تجرى من الجنتين اللّتين في المغرب و هما المدهامّتان.

و في حديث أمير المؤمنين عليه السّلام ما يدلّ على أنّهما في الدّنيا و هو قوله عليه السّلام في الرجعة: و عند ذلك تظهر الجنّتان المدهامّتان عند مسجد الكوفة و ما وراء ذلك بما شاء اللّه تعالى «4».

و الرجعة من الدّنيا و ظهورهما في الدنيا دليل على انّهما اي المدهامّتان من

__________________________________________________

(1) فصّلت: 53.

(2) الرحمن: 46.

(3) الرحمن: 62- 63.

(4) بحار الأنوار: ج 53 ص 43 ح 12 عن الاختصاص.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 291

جنان الدنيا و جنّة آدم عليه السّلام هي من جنان الدنيا فيها البكرة و

العشيّ، و هي المدهامّتان، فقد ظهر لمن نظر أنّ جنّة آدم الّتي أخرج منها هو و زوجته حواء هي من جنان الدنيا و هي الجنتان المدهامّتان، و انّها موجودة الآن، و انّها هي بعينها جنّة الآخرة إلّا أنّها تصفّى بمعنى انّها تطهر من أعراض البرزخيّة سبعين مرّة فتكون هي بعد التّطهير جنّة الخلد، كما أنّ أجساد المؤمنين تطهر في الدّنيا للبرزخ، و في البرزخ للاخرة، لأنّها تطهر من أعراض الدّنيا سبعين مرّة فتكون أخرويّة، فما بين الدنيا و الآخرة في كلّ ما في الدنيا من الأحوال و النعيم و العذاب أربعة آلاف رتبة و تسعمائة رتبة إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه.

و هو و إن أجاد فيما أفاد إلّا أنّه يتوجّه على كلامه وجوه من الإيراد: مثل ما ذكره من أنّ جنّة الدّنيا خلقت بعد خلق الأجسام فإنّ مقتضى قواعدهم بل فحاوي بعض الأخبار ايضا كونها مخلوقة قبل خلق الأجسام، و أنّ جنّة الدنيا هي بعينها جنّة الآخرة بل صرّح فيما بعد بانّ جنّة الدّنيا أعني جنّة آدم عليه السّلام لا يبقى إلى يوم القيمة بل تفنى عند نفخة الصور، و فيه أنّ الدليل عليه غير واضح، بل قضيّة ترتّب العوالم و كون النقلة منها و إليها بقاؤها على ما عليها سيّما بعد ملاحظة ما ورد من أنّه تعالى ينشئ خلقا آخر بعد فناء هذا الخلق، و انّه تعالى قد خلق ألف ألف آدم و نحن في أواخرهم، و الاستدلال بالآية الأولى لا بأس به على بعض الوجوه، و امّا الاستدلال بالثانية فغريب جدّا، و أغرب منه دعوى الاتفاق على الوقف على «تقوم الساعة»، فانّ ظاهر المفسّرين بل صريح بعضهم أنّ قوله: «يوم تقوم» ظرف

للفعل المتأخر، و هو «ادخلوا» و لذا فسّره في «الكشاف» بقوله: فإذا قامت الساعة قيل

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 292

لهم: أدخلوا آل فرعون اشدّ عذاب جهنّم، أو يقال لخزنة جهنّم أدخلوهم، بناء على الإختلاف في كون الهمزة للوصل أو للقطع، بل ذلك هو المستفاد ايضا من الأخبار الكثيرة المفسّرة للآية مثل قول الصادق عليه السّلام على ما رواه القمي و غيره انّما هذا يعني عرض النّار غدوّا و عشيّا في الدّنيا، فانّ ما في نار الخلد فهو قوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «1». «2» و ظاهره كما ترى كونه ظرفا للفعل المتأخّر، لا عطفا على الظرف المتقدّم، و امّا الجنّتان المدهامّتان فالأخبار فيهما مختلفة ففي العلوي المتقدّم ما سمعت «3» و في «الاختصاص» عن الباقر عليه السّلام انّهما لأصحاب اليمين كما أنّ المذكورتين في قوله: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «4» للسابقين المقرّبين «5».

و ظاهر الخبر بل صريحه على ما يأتي كون الأربع دار الجزاء للفريقين، و في كتاب الحسين بن سعيد ما يدلّ على كونهما من الخطاء و يمكن الجمع باعتبار الاتحاد و الاضافة و ان لا يخلو عن بعد و بالحمل على البطون، و لعلّه الأقرب، و تمام الكلام عند تفسير الآية ان شاء اللّه و ما رواه عن امير المؤمنين الظّاهر انّه هو المرويّ في الاختصاص عن الصادق عليه السّلام في ذكر رجعة امير المؤمنين قال: و يملك امير المؤمنين عليه السّلام أربعا و أربعين ألف سنة حتّى يلد الرجل من شيعة عليّ عليه السّلام ألف ولد

__________________________________________________

(1) غافر: 45- 46.

(2) تفسير القمي: ج 2 ص 258.

(3) البحار: ج 53 ص 43.

(4) الرحمن: 46.

(5) الاختصاص: ص 356.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 293

من صلبه ذكرا في كلّ سنة ذكرا و عند ذلك تظهر الجنّتان المدهامتان عند مسجد الكوفة و ما حوله بما شاء اللّه تعالى «1».

وَ كُلا مِنْها رَغَداً منصوب على انّه صفة لمصدر محذوف، أي اكلا رغدا يعني واسعا رافها، أي مصدر وضع موضع الحال، اي متنعّمين متوسعين في العيش من قولهم: عيشة رغد و رغد بالسكون و الفتح اي واسعة طيّبة ليس فيها عناء و لا تعب و لا نصب، و منه قوله «2»:

بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد ربما يقال تضعيفا للأوّل بأنّ مذهب سيبويه و المحقّقين خلاف ذلك و انّ المنصوب في المقام و في قوله: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً «3»، حال من ضمير مصدر الفعل، و الأصل فكلا الأكل و اذكر الذكر، قالوا: و دليل ذلك قولهم: سير عليه طويلا، و لا يقولون طويل، و لو كان نعتا للمصدر جاز، و لأنّه لا يحذف الموصوف إلا و الصفة خاصة بجنسه، تقول رأيت كاتبا و لا تقول رأيت طويلا لأنّ الكتابة خاصّة لجنس الإنسان بخلاف الطول.

و أجيب عن الأوّل بجواز أن يكون المانع كراهة اجتماع مجازين: حذف الموصوف، و تصيير الصّفة مفعولا على الصفة، و لذا يقولون: دخلت الدّار بحذف في توسّعا، و منعوا دخلت الأمر، لأنّ تعليق الدّخول بالمعاني مجاز و إسقاط الخافض

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 53 ص 43 ح 12 عن الاختصاص.

(2) القائل: امرئ القيس.

(3) آل عمران: 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 294

مجاز، و يوضحه أنّهم يفعلون ذلك في صفة الأحيان فيقولون سير عليه زمن طويل، فإذا حذفوا الزمان قالوا

طويلا لما مرّ.

و عن الثّاني بأنّ حذف الموصوف إنّما يتوقّف على وجدان الدّليل لا على الإختصاص لقوله: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ «1» اي دروعا سابغات، ثمّ إنّ العاطف للفعليّة على الفعليّة في المقام هو الواو، و في الأعراف هو الفاء.

قال الّرازي: و الحكمة فيه أنّ كلّ فعل عطف عليه شي ء و كان الفعل بمنزلة الشرط، و ذلك الشي ء بمنزلة الجزء، عطف الثّاني على الأوّل بالفاء كقوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً «2»، حيث إنّه كان وجود الأكل متعلّقا بدخولها فكانّه قال: إن دخلتموها أكلتم منها.

ثمّ إنّ اسْكُنْ يقال لمن دخل مكانا فيقال الزم المكان الّذي دخلته و لا تنتقل منه، و يقال أيضا لمن لم يدخله اسكن هذا البيت يعني ادخله و اسكنه، ففي هذه السورة إنّما ورد الأمر بعد أن كان آدم في الجنّة، فكان المراد منه اللّبث و الاستقرار، و الأكل لا يختصّ وجوده بوجوده، لأنّ من يدخل بستانا قد يأكل منه و ان كان مجتازا، و لذا ورد بلفظ الواو و في الأعراف ورد هذا الأمر إنّما ورد قبل أن يدخل الجنّة، فكان المراد منه دخول الجنّة فالدّخول موصل إلى الأكل و الأكل متعلّق وجوده بوجوده.

أقول: و هو بطوله لا يرجع إلى طائل، و ليس في الآيتين دلالة على تعدّد الخطابين فضلا عن تأخّر الأوّل و تقدّم الثاني، بل التأمّل في مساق الآيتين في

__________________________________________________

(1) سبأ: 11.

(2) البقرة: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 295

السورتين لعلّه يقضي بالعكس، فلا تغفل و يؤيّده ما يأتي عن الامام العسكري عليه السّلام في تفسيره فلاحظ.

حَيْثُ شِئْتُما متعلّق بكلا، لا باسكن، لأنّه أقرب لفظا و أنسب معنى من حيث

تعلّق السعة بثمارها و ألوان نعمها، توطئة للنّهي الّذي هو في معنى الاستثناء تنبيها على ازاحة العلّة و قطع المعذرة في التناول عن الشّجرة المنهي عنها من بين أشجارها الّتي لا تكاد تحصى فضلا عن غيرها من النعم، و يحتمل الثّاني نظرا إلى وضع الكلمة الدّالة على المكان سيّما مع تعلّق النّهي بالقرب من الشجرة و لو على وجه المبالغة إلّا انّه يتمّ ذلك على الأوّل أيضا.

وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ نهي للإرشاد، أو التّنزيه لا التحريم على ما يأتي، و المعنى لا تقرباها بالأكل او لا تأكلا كما أرسله في المجمع عن الباقر عليه السّلام قال و يدلّ عليه انّ المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنوّ منها و لذا قال فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما «1».

و ضمير التثنية لآدم و حوّاء و لم يخصّ آدم بالخطاب كما خصّه في قوله: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ للتنبيه على مزيد الاعتناء و الاهتمام في امتثال النهي و استقلال الطلب من كلّ منهما.

و انّما علّق النهي بالقرب الّذي هو من مقدّمات الغير السببيّة للتناول مبالغة في النهي عن الاكل، و تنبيها على أنّ القرب من الشّي ء ربما يورث داعية و ميلا يأخذ بمجامع القلب، و يوقعه فيما وطّن نفسه على اجتنابه.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 85.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 296

و فيه اشارة إلى أنّ المطيع ينبغي أن لا يحوم حول ما حرّم عليه، و لذا قيل من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

و فيه مع ما مرّ من تعميم الخطاب و تخصيص النهي عنه بالإشارة الحاسمة لاحتمال التشكيك و الإجمال و تعقيب النهي بالفاء المفيدة لسببيّة

مخالفته لانخراطهما في سلك الظالمين وجوه من المبالغة.

و مدخول الفاء إمّا مجزوم عطفا على النهي، فيكون من عطف الجملة على الجملة، أو منصوب جوابا للنّهي بإضمار أن المؤول مع فعله بالمصدر عطفا على مصدر الفعل المتقدّم، و على الوجهين يستفاد منه سببيّة الثّاني للاوّل كما مرّ.

في معنى الشجر لغة

و الشّجرة في الأصل ما قام على ساق، و لذا قوبل بها النّجم في قوله:

وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ «1»، مأخوذ من تشاجر القوم إذا اختلفوا، و ذلك لاشتباك أغصانه و تداخلها، و يطلق على غير ذلك ايضا كقوله: وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ.

و عن المبرّد انّه قال: احسب ان كلّما تفرّعت له اغصان و ميدان فالعرب تسميه شجرة في وقت تشعبه، و لعلّ معناه الحقيقي هو الأوّل و لذا قال في «المصباح» و غيره: الشجر ما له ساق صلب، بل في قول المبرّد دلالة عليه ايضا، و امّا الثّانية فلعلّ إطلاقها للتنبيه على ارتفاع أوراقها عن وجه الأرض كي يسهل

__________________________________________________

(1) الرحمن: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 297

الاستظلال بظلّها على ما يأتي إنشاء اللّه.

القراءة

و قرأ الشجرة بكسر الشين و الشيرة بتبديل الجيم ياء، و عن أبي عمرو انّه كرهها و قال: يقرأ بها برابر مكة و سودانها، و لعلّهما لغتان فيها، و لذا قال في القاموس: الشّجر و الشجر و الشجراء كجبل و عنب و صحراء و شير بالياء كعنب من النبات: ما قام على ساق أو ما سما بنفسه، دقّ أو جلّ قاوم الشتاء أو عجز عنه، الواحدة بهاء و بالجملة فالقراءتان شاذتان كقراءة تقربا بكسر التّاء و هذي بالياء.

المراد بالشجرة المنهيّة

و هل المراد بها شجرة الحنطة، او خصوص السنبلة، او الكرمة، او التينة، او شجرة الكافور، او شجرة الحسد، أو العلم علم الخير و الشرّ، او شجرة الخلد الّتي كانت الملائكة تأكل منها، او شجرة من أكل منها أحدث، او شجرة علم محمّد و آل محمّد، أو غير ذلك فيه أقوال معروفة و الاخبار ايضا مختلفة ففي «المجمع» مرسلا عن امير المؤمنين عليه السّلام: انّها شجرة الكافور «1»، و في كثير من الاخبار انّها السنبلة، بل في أسؤلة ابن سلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله كم أكل آدم من حبّات الشجرة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: حبّتين، قال: و كم أكلت حواء؟ قال: حبّتين، قال: كم للشجرة من غصن و كم طول السنبلة؟

قال: يا بن سلام كان لها ثلاثة أغصان، و كان طول كلّ سنبلة ثلاثة أشبار، قال فكم

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 85.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 298

سنبلة فرك منها آدم؟ قال: سنبلة واحدة، قال: فكم كان في السنبلة من حبّة؟ قال:

كان فيها خمس حبّات، و كانت الحبّة بمنزلة البيض الكبار، فأكلا أربع حبّات، و بقيت حبّة واحدة أنزلت

معه من الجنّة، فزرع آدم تلك الحبة فتناسل منها الحبّ في الأرض و بورك فيها «1».

و في «العلل» بالإسناد عن الصادق عليه السّلام: إنّ الحبّات الّتي أكلها آدم و حوّاء في الجنّة كانت ثمانية عشر، أكل آدم منها اثني عشر حبّة، و أكلت حواء ستّا، فلذلك صار الميراث للذكر مثل حظّ الأنثيين «2».

و فيه و في «العيون» سأل الشّامي امير المؤمنين عليه السّلام لم صار الميراث للذكر مثل حظّ الأنثيين؟ قال عليه السّلام: من قبل السنبلة، كان عليها ثلاث حبات فبادرت إليها حوّاء فأكلت منها حبّة، و أطعمت آدم حبّتين، فمن أجل ذلك ورث الذكر مثل حظّ الأنثيين «3».

أقول و ربما يدفع المنافاة بين الخبرين الأخيرين بحمل الأوّل على أوّل سنبلة أخذاه، ثمّ أخذا كذلك حتّى صارت ثمانية عشر، او انّها كانت على كلّ شعبة منها ثلاث حبّات، و كانت الشعب ستّة و لعلّ جوابه عن ابن سلام مبنيّ على ما هو المشهور بين اهل الكتاب كما يظهر ذلك من التأمّل في خبره الطويل المشتمل على السؤال عن امور كثيرة.

و في تفسير العيّاشي عن الهادي عليه السّلام: انّ الشجرة الّتي نهى اللّه تعالى عنها آدم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 60 ص 245.

(2) علل الشرائع ج 2 ص 571.

(3) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 219، علل الشرائع ج 2 ص 571.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 299

و زوجته ان يأكلا منها شجرة الحسد و عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضّله اللّه تعالى على خلقه بعين الحسد فنسي و نظر بعين الحسد و لم يجد له عزما.

و المراد بالحسد هو الغبطة و تمنّي المنزلة، كما انّه هو المراد ايضا منه في

الخبر المروي في «المعاني» و «العيون» بالإسناد عن الهروي قال: قلت للرّضا عليه السّلام يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبرني عن الشجرة الّتي أكل منها آدم و حوّاء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي انّها الحنطة، و منهم من يروى انّها العنب، و منهم من يروى انّها شجرة الحسد، فقال عليه السّلام: كلّ ذلك حقّ، قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال عليه السّلام: يا أبا الصلت إنّ شجر الجنّة تحمل أنواعا فكانت شجرة الحنطة و فيها عنب و ليست كشجرة الدنيا، و انّ آدم عليه السّلام لما أكرمه اللّه تعالى بإسجاد ملائكته له، و بإدخال الجنّة قال في نفسه هل خلق اللّه بشرا أفضل منّي فعلم اللّه عزّ و جلّ ما وقع في نفسه، فناداه ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا اله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين و زوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، فقال آدم عليه السّلام: يا ربّ من هؤلاء؟ فقال عزّ و جلّ: من ذرّيتك، و هم خير منك و من جميع خلقي، و لو لا هم ما خلقتك و لا خلقت الجنّة و النّار و لا السماء و الأرض، فايّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد و تمنّي منزلتهم، فتسلّط الشيطان عليه حتّى أكل من الشجرة الّتي نهي عنها و تسلّط على حوّاء فنظرت إلى فاطمة عليها السّلام بعين الحسد حتّى أكلت من الشجرة كما

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص:

300

أكل آدم فأخرجهما اللّه عزّ و جلّ عن جنّته و أهبطهما عن جواره إلى الأرض «1».

و في تفسير الامام عليه السّلام انّ اللّه عزّ و جلّ لما لعن إبليس بإبائه، و أكرم الملائكة بسجودها لآدم و طاعتهم للّه عزّ و جلّ أمر بآدم و حواء إلى الجنّة، و قال يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنّة و كلا من الجنّة رغدا واسعا بلا تعب حيث شئتما، و لا تقربا هذه الشجرة شجرة العلم شجرة علم محمّد و آل محمّد الّذين أثرهم اللّه تعالى به دون سائر خلقه، فقال اللّه: و لا تقربا هذه الشجرة شجرة العلم فانّها لمحمّد و آله خاصّة دون غيرهم، لا يتناول منها بأمر اللّه إلّا هم، و منها ما كان يتناوله النّبي صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين بعد إطعامهم المسكين و اليتيم و الأسير حتّى لم يحسّوا بعد بجوع و لا عطش و لا تعب و لا نصب، و هي شجرة تميّزت من بين أشجار الجنّة، إنّ سائر أشجار الجنّة كان كلّ نوع منها يحمل نوعا من الثمار و المأكول و كانت هذه الشجرة و جنسها تحمل البرّ و العنب و التين و العنّاب و سائر انواع الثمار و الفواكه و الأطعمة، فلذلك اختلف الحاكون بذكر الشجرة فقال بعضهم: هي برّة، و قال آخرون: هي عنبة، و قال آخرون: هي تينه، و قال آخرون:

هي عنابة و قال اللّه: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ تلتمسان بذلك درجة محمّد و آل محمّد في فضلهم فانّ اللّه عزّ و جلّ خصّهم بهذه الدرجة دون غيرهم، و هي الشجرة الّتي من تناول منها

باذن اللّه ألهم علم الأولين و الآخرين من غير تعلّم، و من تناول منها بغير إذن اللّه خاب من مراده و عصى ربّه فتكونا من الظالمين بمعصيتكما أو

__________________________________________________

(1) معاني الاخبار: ص 124 و عيون الاخبار ج 1 ص 306 ح 67 و عنهما البحار ج 11 ص 164.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 301

التماسكما درجة قد أوثر بها غيركما إذا رمتما تغيّر حكم اللّه إلى آخر ما يأتي «1».

و في الأنوار النعمانيّة انّه قد ورد في حديث معتبر: انّ هذه الشجرة شجرة غرسها اللّه تعالى بيد قدرته لما خلق الجنّة و جعلها لعليّ بن أبي طالب و شيعته بأن لا يأكل احد قبله منها «2».

تفسير الآية (36)

اشارة

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها حملهما على الزلّة بسبب وسوسته في الأكل من الشجرة بناء على كون الضمير لهما و «عن» للسببيّة نظير قوله: وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي و يحتمل أن يكون الضمير للجنّة، بل لعلّه المتعيّن، حذرا من صرف الظرف عن ظاهره.

و توهّم انّه يكون الإخراج حينئذ قبل الإزلال أو معه فلا يصحّ العطف بالفاء، مدفوع بأنّ المراد التنبيه على جملة ما فات عنهما من النعمة و الكرامة المقصودة بالموصولة بسبب زلّتهما بالخطيئة من الجنّة على وجه الترتيب، و ان لم يلحظ فيه الترتيب، مع انّه هو المصرّح به في تفسير الامام عليه السّلام حيث قال: فازلّهما الشيطان عنها عن الجنّة بوسوسته و خديعته و إيهامه و غروره بأن بدء بآدم فقال: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلّا أن تكونا ملكين، إن تناولتما منها تعلمان الغيب، و تقدران على ما يقدر عليه من خصّه اللّه تعالى بالقدرة، او تكونا من الخالدين لا

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام عليه

السّلام ص 221- 222.

(2) الأنوار النعمانية: ج 1 ص 242.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 302

تموتان ابدا، و وَ قاسَمَهُما «1» حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «2» و كان إبليس بين لحيي الحيّة، أدخلته الجنّة و كان آدم يظنّ انّ الحيّة هي الّتي تخاطبه، و لم يعلم أنّ إبليس قد اختبأ بين لحييها، فردّ آدم على الحيّة، ايّتها الحيّة: هذا من غرور إبليس كيف يخوننا ربّنا أم كيف تعظمين اللّه بالقسم به و أنت تنسبينه إلى الخيانة و سوء النظر و هو أكرم الأكرمين؟ أم كيف أروم التوصل إلى ما منعني منه ربّي و أتعاطاه بغير حكمه؟ فلمّا ايس إبليس من قبول آدم منه عاد ثانية بين لحيي الحيّة، فخاطب حواء من حيث يوهمها انّ الحيّة هي الّتي تخاطبها، و قال: يا حواء أ رأيت هذه الشجرة الّتي كان اللّه عزّ و جلّ حرّمها عليكما، قد احلّهما لكما بعد تحريمها لما عرف من حسن طاعتكما له و توقيركما ايّاه، و ذلك انّ الملائكة الموكّلين بالشجرة الّتي معها الحراب يدفعون عنها سائر حيوانات الجنّة لا يدفعوك عنها ان رمتها فاعلمي بذلك انّه قد احلّ لك، و ابشري بانك ان تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلّطة عليه الآمرة النّاهية فوقه، فقالت حوّاء سوف أجرّب هذا، فرامت الشجرة فأرادت الملائكة أن يدفعوها عنها بحرابها، فأوحى اللّه إليها انّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له بزجره، و امّا من جعلته ممكنا مميّزا مختارا فكلوه إلى عقله الّذي جعلته حجّة عليه، فإن أطاع استحقّ ثوابي و ان عصى و خالف أمري استحقّ عقابي و جزائي، فتركوها و لم يتعرّضوا لها بعد ما همّوا بمنعها بحرابهم، فظنّت أنّ اللّه

نهاهم عن منعها لأنّه قد احلّها بعد ما حرّمها، فقالت صدقت الحيّة، و ظنّت انّ المخاطب لها

__________________________________________________

(1) الكهف: 82.

(2) الأعراف: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 303

هي الحيّة فتناولت منها و لم تنكر من نفسها شيئا، فقالت لآدم: الم تعلم أنّ الشجرة المحرّمة علينا قد ابيحت لنا؟ تناولت منها فلم تمنعني أملاكها و لم انكّر شيئا من حالي، فلذلك اغترّ آدم و غلط فتناول، فأصابهما ما قال اللّه تعالى في كتابه:

«فازلّهما الشيطان عنها فأخرجهما بوسوسته و غروره» «1».

و فيه دلالة على ترجيح قراءة المشهور و ردّ قراءة حمزة حيث قرأ فأزالهما نظرا إلى أنّ قوله: اسكن أنت و زوجك الجنّة معناه أثبتا فثبتا فأزلّهما الشيطان فقابل الثبات بالزوال الّذي هو خلافه.

و فيه ان البناء في مثله ليس على التعليل بل على الترخيص الّذي ورد معه الإذن بالقراءة كما يقرءون.

كيفيّة دخول إبليس الجنّة

و امّا كيفيّة دخول إبليس الجنّة بعد لعنه و طرده و خروجه منها فاختلفوا فيها و في كيفيّة وصوله إليهما و وسوسته لهما، فقيل إنّ آدم كان يخرج إلى باب الجنّة و إبليس لم يكن ممنوعا من الدنوّ و كان يكلمه، و كان هذا قبل أن يهبط إلى الأرض و بعد أن اخرج من الجنّة، و قيل: إنّه كان يحرم عليه دخول الجنّة بارزا و امّا مختفيا و لو في فم الحيّة فلا كما يومئ كلام الامام عليه السّلام، و قيل: إنّه منع من الدّخول على وجه التكرمة كما كان يدخل قبل ذلك مع الملائكة، و امّا الدخول للوسوسة و ابتلاء آدم و حواء فلم يمنع منه، و امّا الدّخول في فم الحيّة فانّما كان لاشتداد البليّة و التمكّن

__________________________________________________

(1) تفسير الامام

العسكري: ج 4 ص 223- 224.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 304

من الوسوسة لا للتوصل إلى الدخول، و قيل: تمثل بصورة دابّة اخرى غير الحيّة و لم تعرفه الخزنة، و قيل: إنّه وسوسهما لا على وجه المشافهة بل في صدورهما، و قيل:

إنّه كلّمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه، و قيل: إنّه راسلهما بالخطاب.

و ظاهر الخبر المتقدّم انّ وسوسته كانت على وجه المشافهة كما هو المستفاد من ظواهر الآيات ايضا، و انّ دخوله كان بواسطة الحيّة.

و في «الأنوار النعمانيّة» انّ ذلك كان بأسباب إلاهية كما في بعض الروايات قال و ذلك انّ الشيطان لما أخرج من الجنّة لم يقدر على الدّخول إليها فاتى إلى جدار الجنّة، و رأى الحيّة على أعلى الجدار، فقال لها: أدخلني الجنّة و أعلّمك الاسم الأعظم فقالت له: انّ الملائكة تحرس الجنّة فيرونك، فقال لها أدخل في فمك و اطبقي عليّ حتّى ادخل ففعلت، و من ثمّ صار السمّ في أنيابها و فمها لما كان جلوس الشيطان فيه، فلمّا أدخلته قالت له اين الإسم الأعظم؟ فقال لها لو كنت اعلمه لما احتجت إليك في دخولي فاتى إلى آدم عليه السّلام فوسوس له فاقسم له بالنّصيحة فلم يطعه، فاتى إلى حوّاء فقال هذه شجرة الخلد و اقسم لها و لم يعهد قبل أن أحدا يقدر على أن يقسم باللّه كاذبا فأتت حواء إلى آدم فصارت عونا للشيطان عليه فقام آدم معها إلى الاكل من الشجرة فكانت اوّل قدم مشت إلى الخطيئة فلمّا مدّا يديهما إليها تطاير ما عليهما من الحلي و الحلل و بقيا عريانين فأخذا من ورق التّين فوضعاه على عورتيهما فتطاير الورق فوضع آدم عليه السّلام يده على عورته

و الاخر على رأسه كما هو شأن العراة و من ثمّ امر بالوضوء على هذه الهيئة «1».

__________________________________________________

(1) الأنوار النعمانية: ج 1 ص 245.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 305

و روى الصدوق طاب ثراه: انّه جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عن مسائل فكان فيما سألوه أخبرنا يا محمّد لايّ علّة توضئ هذه الجوارح الأربع و هي أنظف الجوارح في الجسد فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: لمّا أن وسوس الشيطان إلى آدم عليه السّلام و دنى آدم من الشجرة فنظر إليها فذهب ماء وجهه، ثمّ قام و مشى إليها، و هي اوّل قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ما عليها فأكل، فطار الحلي و الحلل عن جسده، فوضع آدم يده على أمّ رأسه، و بكى فلمّا تاب اللّه عزّ و جلّ عليه فرض عليه و على ذرّيته تطهير هذه الجوارح الأربع، فأمر اللّه عزّ و جلّ بغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة، و أمره بغسل اليدين إلى المرفقين لما تناول بهما، و أمره بمسح الّرأس لما وضع يده على امّ رأسه، و أمره بمسح القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة «1» آه.

أقول: و في تفسير العياشي عن الصّادق عليه السّلام: إنّ آدم لمّا أكل من الشجرة ذكر ما نهاه اللّه عنها فندم فذهب ليتنحى من الشجرة فأخذت الشجرة برأسه فجرته إليها و قالت له أ فلا كان فرارك من قبل أن تأكل منّي «2».

و في تفسير القمي عن الصادق عليه السّلام قال لما اخرج آدم نزل جبرئيل عليه، فقال: يا آدم أ ليس اللّه خلقك بيده، و نفح فيك من روحه، و أسجد لك

ملائكته، و زوّجك حواء أمته، و أسكنك الجنّة و أباحها لك، و نهاك مشافهة ان لا تأكل من هذه الشجرة، فأكلت منها، و عصيت اللّه؟ فقال آدم عليه السّلام: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي باللّه أنّه لي ناصح فما ظننت أنّ أحدا من خلق اللّه يحلف باللّه كاذبا «3».

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 280 ح 1.

(2) تفسير العياشي: ج 2 ص 10 ح 11.

(3) تفسير القمي: ج 1 ص 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 306

أقول: و سيأتي تفسير قوله: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «1».

عن «مصباح الشريعة»، و غيرها ما يدلّ عليه، و بيان السرّ في ذلك.

و روت العامّة أنّ إبليس أراد ان يدخل عليهما الجنّة فمنعته الخزنة فأتى الحيّة و هي دابّة لها أربع قوائم كأنّها البعير، و هي كأحسن الدوابّ فكلّمها أن يدخل في فيها حتى يدخل الى آدم فأدخلته في فمها فمرّت الحيّة على الخزنة فدخلت و هم لا يعلمون لما أراد اللّه من الأمر: فكلّمه من فمها.

و في خبر آخر: انّ عدو اللّه إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض انّها تحمله و تدخل به الجنّة حتّى يكلّم آدم و زوجته، فكل الدوابّ أبى ذلك عليه حتّى كلّم الحيّة، فقال لها: انا أمنعك من بني آدم فأنت في ذمّتي إذا ادخلتني الجنّة، فجعلته بين نابين من أنيابها ثمّ دخلت به، فكلّمهما من فيها، و كانت كاسية تمشي على اربع قوائم، فأعراها اللّه تعالى و جعلها تمشي على بطنها «2».

و روي أنّ أول ما ابتداهما به من كيده ايّاهما انّه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا له ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفترقان، أو قال:

فتفارق ما

أنتما عليه من النّعمة و الكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما ثمّ أتاهما فوسوس إليهما فقال: يا آدم هل ادلّك على شجرة الخلد «3» فَأَخْرَجَهُما بوسوسته و غروره ممّا مِمَّا كانا فِيهِ من النعمة و الدّعة و ممّا كانا قد خوطبا قبل ذلك بقوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا

__________________________________________________

(1) الأعراف: 21.

(2) جامع البيان للطبري ج 1 ص 188.

(3) جامع البيان ج 1 ص 188.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 307

فِيها وَ لا تَضْحى «1» او من الجنّة حتّى أهبطا، او من عظم القرب و المنزلة و الطّاعة إلى ما قد سماه اللّه سبحانه معصيته.

و إضافة الإخراج إليه على حدّ اضافة الإذلال باعتبار السببيّة.

وَ قُلْنَا اهْبِطُوا خطاب لآدم و حوّاء لقوله: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً «2» إطلاقا للجمع على الإثنين حقيقة او مجازا كقوله: وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «3»، فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «4»، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ «5» أو لهما و لذّريتهما و لو على التّغليب ليصحّ تعلّقه بالمعدوم، أو توجيه الخطاب إلى الأرواح الّتي دلّت القواطع على تقدّم خلقها على الأبدان، أو لهما و لإبليس، و إن كان قد أخرج قبل ذلك، بدليل قوله في الحجر فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ «6» إلى قوله: و يا آدم اسكن إلّا انّه جمعه معهما لدخوله ثانيا على وجه الاختفاء و المسارقة للوسوسة، او لقربه من باب الجنّة، أو لاجتماعهم حينئذ في الهبوط، و ان كانت أوقاتهم متفرقة فيه، أو لهما و للحيّة و استبعده في «المجمع» «7» بانّ خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن، و بانّه لم يتقدّم للحيّة ذكر، و الكناية عن غير

مذكور لا تحسن، إلّا مع الأمن من اللّبس.

و يضعف الأوّل بالمنع عن عدم فهمه الخطاب سيّما مع ما قرّر في محلّه من

__________________________________________________

(1) طه: 117- 118- 119.

(2) طه: 123.

(3) الأنبياء: 78.

(4) النساء: 11.

(5) الشعراء: 15.

(6) الحجر: 34 و ص: 77.

(7) مجمع البيان: ج 1 ص 78.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 308

مساوقة الشعور للوجود، و انّ الجماد فضلا عن الحيوان يشارك الإنسان في الإدراك و الشّعور و العبوديّة، و صحّة تعلّق الخطاب و ان اختلفت في مراتب الجمود و السيلان، سيّما بعد ما سمعت عن الأنوار النعمانيّة من مكالمتها مع الشيطان، و الثّاني بانّ الخطب في مثله سهل بعد ملاحظة وجوه دلالات القرآن و محامله، و أولى من الجميع ما في «تفسير الامام» من الجمع بين الأربعة حيث قال: و قلنا يا آدم و يا حوّاء و يا ايّتها الحيّة و يا إبليس اهبطوا.

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ آدم و حوّاء و ولدهما عدوّ للحيّة، و إبليس و الحيّة و أولادهما أعداؤكم «1».

و على الأولين فالمعاداة بين الذّريّة و لو باعتبار التجوّز، أو تقدير المضاف في الأوّل، و الجملة حالية استغنى فيها عن الواو بالضّمير، و المعنى متعادين يبغي بعضكم على بعض بإضلاله و تغريره، و ليس من متعلّق الأمر، و يحتمل أن يكون استينافا للّه سبحانه فائدته التحذير عن الاغترار بوساوس هذا العدوّ كما في قوله: لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ «2» و قوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ «3».

و عداوة إبليس لآدم و حوّاء ظاهرة حتّى قد روي انّه أغرى عليهما السّباع بعد هبوطهما كما في «العلل»

عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: انّه سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله ممّا خلق اللّه عزّ و جلّ الكلب؟ قال: خلقه من بزاق إبليس، قال: و كيف ذلك يا رسول اللّه قال: لمّا

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام: ص 224 و عنه البحار ج 11 ص 190.

(2) الأعراف: 27.

(3) فاطر: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 309

أهبط اللّه آدم و حوّاء إلى الأرض أهبطهما كالفرخين المرتعشين، فعدا إبليس الملعون إلى السباع، و كانوا قبل آدم في الأرض، فقال لهم: إنّ طيرين قد وقعا من السّماء لم ير الرّاؤون أعظم منهما تعالوا فكلوهما، فتعاوت السباع معه و جعل إبليس يحثّهم و يصيح و يعدهم بقرب المسافة، فوقع من فيه من عجلة كلامه بزاق فخلق اللّه عزّ و جلّ من ذلك البزاق كلبين أحدهما ذكر و الآخر أنثى، فقاما حول آدم و حوّاء، الكلبة بجدّة، و الكلب بالهند، فلم يتركوا السباع أن يقربوهما، و من ذلك اليوم الكلب عدوّ السّبع، و السّبع عدوّ الكلب «1».

و فيه عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ حين أمر آدم أن يهبط هبط آدم و زوجته، و هبط إبليس و لا زوجة له، و هبطت الحيّة و لا زوج لها فكان أوّل من يلوط بنفسه إبليس، فكانت ذرّيّته من نفسه، و كذلك الحيّة و كانت ذرّية آدم من زوجته فأخبرهما انّهما عدّوان لهما «2».

وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ منزل و مقرّ للمعاش بأن جعلها قرارا و معاشا لكم، و يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار، و أن يكون اسم مفعول و هو ما استقرّ منكم عليه،

و جاز تصرّفكم فيه.

وَ مَتاعٌ استمتاع و انتفاع إِلى حِينٍ حين الموت كما في «تفسير الامام عليه السّلام» أو إلى يوم القيمة كما في رواية «القمي» و جمع بينهما بانّ الموت هو القيمة الصغرى للأكثرين و الكبرى للآخرين و لذا ورد «من مات فقد قامت قيامته».

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 496 ح 1 و عنه البحار ج 11 ص 207 ح 10.

(2) علل الشرائع: ص 547 ح 2 و عنه البحار ج 11 ص 237 ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 310

أقول: و هو مبنيّ على كون الغاية هو الموت بناء على انتقال الرّوح بعدها إلى جنان الدّنيا أو نيرانها، فانّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار، و قد سمعت كون الهبوط من جنان الدّنيا لا من جنّة الخلد، و من هنا يبعد الحمل على القيامة الكبرى و ان كان في القبر ايضا تمتّع و استقرار.

و لا ينافي شيئا من الوجهين قوله في سورة الأعراف بعد مثل هذه الآية قال:

فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ «1» إذ يمكن أن يكون تفصيلا لوجوه الاستقرار، و أن يكون زيادة عليه، و الظّرف غاية للأمرين، و تنكير الثلاثة للتّحقير، فانّ الآخرة هي دار القرار، و إن طلب الناس القرار في الدّنيا، و لذا آثر المستقر على المقرّ، و ليس في الدنيا إلّا عيش يسير و متاع قليل، و لذا قال سبحانه: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ «2» و وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ* «3».

مدّة مكث آدم في الجنة

ثمّ انّهم قد اختلفوا في مدّة مكثه عليه السّلام في الجنّة و زمان هبوطه و مكانه على أقوال لا طائل

تحت التّعرض لها، لاستناد جملة منها إلى بعض الاعتبارات و إلى اقوال اهل الكتاب.

نعم روى الصدوق في «العلل» و «الأمالي» عن الحسن بن عليّ بن ابي طالب عليهما السّلام قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عن مسائل، فكان

__________________________________________________

(1) الأعراف: 25.

(2) الرعد: 26.

(3) آل عمران: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 311

فيما سألوه أخبرني عن اللّه لأيّ شي ء وقّت هذه الصلوات الخمس في خمس مواقيت على أمّتك في ساعات اللّيل و النّهار؟ فأجاب صلّى اللّه عليه و آله إلى أن قال: و امّا صلاة العصر فهي الساعة الّتي أكل فيها آدم من الشّجرة فأخرجه اللّه عن الجنّة، فأمر اللّه ذرّيته بهذه الصلاة إلى يوم القيامة، و اختارها لأمّتي فهي من أحبّ الصلاة إلى اللّه تعالى عزّ و جلّ، و أوصاني ان احفظها من بين الصّلوات، و امّا صلاة المغرب فهي الساعة الّتي تاب اللّه فيها على آدم، و كان بين ما أكل من الشجرة و بين ما تاب اللّه عليه ثلاثمائة سنة من ايّام الدّنيا، و في ايّام الآخرة يوم كألف سنة من وقت صلاة العصر إلى العشاء: فصلّى آدم ثلاث ركعات: ركعة لخطيئته، و ركعة لخطيئة حوّاء، و ركعة لتوبته، فافترض اللّه عزّ و جلّ هذه الركعات الثلاث على أمّتي «1».

و في «الخصال» بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّما كان لبث آدم و حواء في الجنّة حتّى أخرجا منها سبع ساعات من أيّام الدّنيا حتّى أهبطهما اللّه تعالى من يومهما ذلك «2».

أقول: و لعلّ المعنى من أيّام جنان الدنيا، على تقدير المضاف، فينطبق على الخبر الأوّل.

تعدّد الأيّام و تغايرها

روى السيّد في

«الدروع الواقية» عن الصادق عليه السّلام: أن اليوم الأوّل من الشهر

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 337 و الأمالي ص 159 و عنهما البحار ج 11 ص 160.

(2) الخصال: ج 2 ص 397 ح 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 312

خلق فيه آدم و هو يوم مبارك لطلب الحوائج، و في اليوم الثاني خلقت حوّاء من آدم، يصلح للتزويج و بناء المنازل، و اليوم الثالث يوم نحس مستمرّ، نزع عن آدم و حواء لباسهما و أخرجا من الجنّة «1».

و هي تدلّ على تعدّد الأيّام و تغايرها، و قضيّة بعض الأخبار المتقدّمة وقوع تلك الشؤون جميعا في ساعات من يوم واحد، و يمكن الجمع بحمل تلك الأخبار على الأيّام الدّهرية الملكوتيّة، و هذه على الزّمانية النّاسوتية، و يدلّ عليه ما مرّ عن «العلل» و «الأمالي» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: و امّا صلاة المغرب «2»، آه.

مكان هبوط آدم و حوّاء

و أمّا مهبطهما فظاهر كثير من الأخبار أنّه الصّفا و المروة ففي «تفسير القمي» و غيره عن الصادق عليه السّلام قال: فهبط آدم على الصّفا، و إنّما سمّيت الصّفاء لأنّ صفوة اللّه نزل عليها و نزلت حوّاء على المروة، و إنّما سمّيت المروة لأنّ المرأة نزلت عليها فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنّة فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال يا آدم ألم يخلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و اسجد لك ملائكته؟ قال: بلى قال:

و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فلم عصيته؟ قال: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي باللّه انّه لي ناصح و ما ظننت انّ خلقا يحلف باللّه كاذبا «3».

و في «تفسير العيّاشي» عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انّما كان

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 59 ص 56- 57- 58 عن الدروع الواقية.

(2) علل الشرائع: ص 337.

(3) تفسير القمي: ج 1 ص 44 و عنه البحار ج 11 ص 163 ح 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 313

لبث آدم و حوّاء في الجنّة حتّى خرجا عنها سبع ساعات من ايّام الدّنيا حتّى اكلا من الشجرة فأهبطهما اللّه إلى الأرض من يومهما ذلك، قال فحاجّ آدم ربّه فقال يا ربّ أ رايتك قبل أن تخلقني كنت قدّرت عليّ هذا الذّنب و كل ما صرت و انا صائر إليه، أو هذا شي ء فعلته انا من قبل نفسي لم تقدّره عليّ غلبت عليّ شقوتي، فكان ذلك منّي و فعلي لا منك و لا من فعلك؟ قال له: يا آدم أنا خلقتك و علّمتك أنّي أسكنك و زوجتك الجنّة، و بنعمتي، و ما جعلت فيك من قوّتي قويت بجوارحك على معصيتي، و لم تغب عن عيني، و لم يخل علمي من فعلك، و لا ممّا أنت فاعله.

قال آدم: يا ربّ الحجّة لك عليّ يا ربّ، فحين خلقتني و صوّرتني و نفخت فيّ من روحك، قال: يا آدم أسجدت لك ملائكتي و نوّهت باسمك في سماواتي، و ابتدأتك بكرامتي، و أسكنتك جنّتي، و لم أفعل ذلك إلّا بنعمة منّي عليك، أبلوك بذلك من غير أن تكون عملت لي عملا تستوجب به عندي ما فعلت بك.

قال آدم: يا ربّ الخير منك و الشرّ منّي، قال اللّه: يا آدم انا اللّه الكريم، خلقت الخير قبل الشرّ، و خلقت رحمتي قبل غضبي، و قدّمت بكرامتي قبل هواني، و قدّمت باحتجاجي قبل

عذابي.

يا آدم ألم أنهك عن الشجرة و أخبرتك انّ الشيطان عدوّ لك و لزوجك؟

و أحذركما قبل أن تصيرا إلى الجنّة؟ و أعلمكما أنّكما إن أكلتما من الشجرة كنتما ظالمين لأنفسكما عاصين لي؟ يا آدم لا يجاورني في جنّتي ظالم عاص بي قال:

فقال: بلى يا ربّ الحجّة لك علينا؟ ظلمنا أنفسنا و عصينا و إلّا تغفر لنا و ترحمنا نكن من الخاسرين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 314

قال فلما أقرّا لربّهما بذنبهما و أنّ الحجّة من اللّه لهما تداركهما رحمة الرحمن الرحيم، فتاب عليهما ربّهما إنّه هو التّواب الرحيم، قال اللّه: يا آدم اهبط أنت و زوجك إلى الأرض، فإذا أصلحتما أصلحتكما و إن عملتما لي قويتكما، و إن تعرّضتما لرضاي تسارعت إلى رضاكما، و إن خفتما منّي آمنتكما من سخطي.

قال: فبكيا عند ذلك و قالا: ربّنا فأعنّا على صلاح أنفسنا و على العمل لما يرضيك عنّا، قال اللّه لهما: إذا عملتما سوء فتوبا إلى اللّه أتب عليكما، و أنا اللّه التّواب الرحيم.

قالا: فأهبطنا برحمتك إلى أحبّ البقاع إليك، قال: فأوحى اللّه إلى جبرئيل ان أهبطهما إلى البلدة المباركة مكّة، قال: فهبط بهما جبرئيل فألقى آدم على الصّفا، و ألقى حوّاء على المروة، قال: فلما ألقيا قاما على أرجلهما و رفعا رؤسهما إلى السّماء و ضجّا بأصواتهما بالبكاء إلى اللّه تعالى و خضعا بأعناقهما، قال: فهتف اللّه تعالى بهما ما يبكيكما بعد رضاي عنكما؟ قال: فقالا: ربّنا أبكتنا خطيئتنا و هي أخرجتنا من جوار ربّنا، و قد خفي عنّا تقديس ملائكتك لك ربّنا و بدت لنا عوراتنا، و اضطرنا ذنبنا إلى حرث الدنيا و مطعمها و مشربها، و دخلتنا وحشة شديدة لتفريقك بيننا قال: فرحمهما الرحمن

الرحيم عند ذلك، و أوحى إلى جبرئيل: أنا اللّه الرحمن الرحيم، و أنّي قد رحمت آدم و حوّاء لمّا شكيا إليّ، فأهبط إليهما بخيمة من خيام الجنّة، و عزّهما عنّي بفراق الجنّة، و اجمع بينهما في الخيمة فانّي قد رحمتهما لبكائهما و وحشتهما و وحدتهما، و انصب لهما الخيمة على الترعة الّتي بين جبال مكّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 315

و قال: و الترعة مكان البيت و قواعده التي رفعتها الملائكة قبل ذلك فنصبها.

قال: و انزل جبرئيل آدم من الصّفا، و انزل حوّاء من المروة، و جمع بينهما في الخيمة.

قال: و كان عمود الخيمة قضيب ياقوت أحمر، فأضاء نوره و ضوئه جبال مكّة و ما حولها.

قال: و امتدّ ضوء العمود فجعله اللّه حرما لحرمة الخيمة و العمود لأنّهما من الجنّة، قال: و لذلك جعل اللّه الحسنات في الحرم مضاعفة و السّيئات فيه مضاعفة.

قال: و مدّت أطناب الخيمة حولها لمنتهى أوتادها ما حول المسجد الحرام.

قال: و كانت أوتادها من غصون الجنّة و أطنابها من ظفائر الأرجوان «1».

قال: فأوحى اللّه إلى جبرئيل عليه السّلام: أهبط على الخيمة سبعين ألف ملك يحرسونها من مردة الجنّ و يونسون آدم و حوّاء، و يطوفون حول الخيمة تعظيما للبيت و الخيمة، قال: فهبطت الملائكة فكانوا بحضرة الخيمة يحرسونها من مردة الشياطين و العتاة، و يطوفون حول أركان البيت و الخيمة كلّ يوم و ليلة، كما كانوا يطوفون في السّماء حول البيت المعمور.

قال: و أركان البيت الحرام في الأرض حيال البيت المعمور الّذي في السماء.

قال: ثمّ إنّ اللّه تعالى أوحى إلى جبرئيل بعد ذلك: أن اهبط إلى آدم و حوّاء فنحّهما عن مواضع قواعد بيتي فانّي أريد أن اهبط «2» في ظلال

من ملائكتي إلى

__________________________________________________

(1) الأرجوان: شجر من الفصيلة القرنية له زهر شديد الحمرة، حسن المنظر، و ليست له رائحة.

(2) قال المجلسي قدس سرّه في بيانه: هبوطه تعالى كناية عن توجّه أمره بصدور ذلك الأمر كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ (البقرة: 210).

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 316

ارضي، فارفع أركان بيتي لملائكتي و لخلقي من ولد آدم.

قال: فهبط جبرئيل على آدم و حوّاء فأخرجهما من الخيمة و نحاّهما عن ترعة البيت الحرام، و نحّى الخيمة عن موضع الترعة.

قال: و وضع آدم على الصفاء و وضع حوّاء على المروة، و رفع الخيمة إلى السّماء، فقال آدم و حوّاء: أ بسخط من اللّه حوّلتنا و فرّقت بيننا أم برضا تقديرا من اللّه علينا؟ فقال لهما: لم يكن ذلك سخطا من اللّه عليكما، و لكنّ اللّه لا يسأل عمّا يفعل، يا آدم إنّ سبعين ألف ملك الّذين أنزلهم اللّه إلى الأرض ليؤنسوك و يطوفون حول أركان البيت و الخيمة سألوا اللّه أن يبني لهم مكان الخيمة بيتا على موضع الترعة المباركة حيال البيت المعمور، فيطوفون حوله كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور، فأوحى اللّه إليّ أن أنحّيك و حوّاء، و ارفع الخيمة إلى السّماء، فقال آدم عليه السّلام: رضينا بتقدير اللّه و نافذ أمره فينا، فكان آدم على الصفا و حوّاء على المروة.

قال: فدخل آدم لفراق حوّاء وحشة شديدة و حزن، قال: فهبط من الصفا يريد المروة شوقا إلى حوّاء، و ليسلّم عليها و كان فيما بين الصفا و المروة واد، و كان آدم يرى المروة من فوق الصّفا فلمّا انتهى إلى موضع الوادي، غابت

عنه المروة فسعى في الوادي حذرا لما لم ير المروة مخافة أن يكون قد ضلّ عن طريقه فلمّا أن جاز الوادي و ارتفع عنه نظر إلى المروة، فمشى حتّى انتهى إلى المروة فصعد عليها فسلّم على حوّاء، ثمّ أقبلا بوجههما نحو موضع التّرعة ينظران هل رفع قواعد البيت و يسألان اللّه أن يردّهما إلى مكانهما حتّى هبط من المروة فرجع إلى الصّفا فقام

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 317

عليه، و أقبل بوجهه نحو موضع التّرعة، فدعا اللّه ثمّ إنّه اشتاق إلى حوّاء فهبط من الصّفا يريد المروة، ففعل مثل ما فعله في المرّة الاولى، ثمّ إنّه رجع إلى الصّفا ففعل عليه مثل ما فعل في المرّة الاولى، ثمّ انّه هبط من الصفاء إلى المروة ففعل مثل ما فعل في المرّتين الأوليين، ثمّ رجع إلى الصفا فقام عليه و دعا اللّه أن يجمع بينه و بين زوجته حوّاء.

قال: فكان ذهاب آدم من الصفاء إلى المروة ثلاث مرّات و رجوعه ثلث مرّات فذلك ستّة أشواط فلمّا أن دعيا اللّه و بكيا إليه و سألاه أن يجمع بينهما استجاب اللّه لهما من ساعتهما من يومهما ذلك مع زوال الشّمس، فأتاه جبرئيل و هو على الصّفا واقف يدعوا اللّه مقبلا بوجهه نحو التّرعة فقال له جبرئيل: انزل يا آدم من الصفا فالحق بحوّاء، فنزل آدم من الصفاء إلى المروة ففعل مثل ما فعل في الثلاث المرّات حتّى انتهى إلى المروة، فصعد عليها و أخبر حوّاء بما أخبره جبرئيل، ففرحا بذلك فرحا شديدا، و حمد اللّه و شكراه، فلذلك جرت السّنة بالسعي بين الصفا و المروة و لذلك قال اللّه تعالى: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ

حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «1».

قال: ثمّ إنّ جبرئيل أتاهما فأنزلهما من المروة، و أخبرهما أنّ الجبّار تبارك و تعالى قد هبط إلى الأرض فرفع قواعد البيت الحرام بحجر من الصّفا و حجر من المروة و حجر من طور سيناء و حجر من جبل السلم و هو ظهر الكوفة، فأوحى اللّه إلى جبرئيل أن ابنه و أتمّه قال: فاقتلع جبرئيل الأحجار الأربعة بأمر اللّه من

__________________________________________________

(1) البقرة: 158.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 318

مواضعهنّ بجناحيه فوضعها حيث أمره اللّه في أركان البيت على قواعده الّتي قدّرها الجبّار، و نصب أعلامها، ثمّ أوحى اللّه إلى جبرئيل ان ابنه و أتممه بحجارة من أبي قبيس، و اجعل له بابين باب شرقيّ و باب غربي قال: فأتمّه جبرئيل فلمّا أن فرغ منه طافت الملائكة حوله.

فلمّا نظر آدم و حوّاء إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا بالبيت سبعة أشواط ثمّ خرجا يطلبان ما يأكلان و ذلك من يومهما الّذي هبط بهما فيه «1».

أقول و هذا الخبر كما ترى سقط شي ء من اوائله، و كانّه سقط ذلك من أوائل لاتّفاق النّسخ الموجودة، بل قد نبّه المجلسي على ذلك أيضا.

و في بعض الأخبار أنّ مهبطه كان بالهند، ففي «القصص» بالإسناد عن ابي جعفر عليه السّلام قال: انّ آدم عليه السّلام نزل بالهند، فبنى اللّه تعالى له البيت، و أمره أن يأتيه فيطوف به أسبوعا، فيأتي منى و عرفات و يقضي مناسكه، كما امر اللّه، ثمّ خطا «2» من الهند فكان موضع قدميه حيث خطا عمران، و ما بين القدم و القدم صحارى ليس فيها شي ء، ثمّ جاء إلى البيت فطاف به اسبوعا و قضى

مناسكه فقضاها كما أمره اللّه، فقبل اللّه منه توبته و غفر له، فقال آدم صلوات اللّه يا ربّ و لذريتي من بعدي، فقال نعم من آمن بي و برسلي «3».

و عن السيّد في كتاب «سعد السعود»: انّه رأى في صحف إدريس عليه السّلام أمر اللّه

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1 ص 121- 127 ط قم مؤسّسة الاسلاميّة و عنه البحار ج 11 ص 182- 189.

(2) خطا يخطو خطوا: فتح ما بين قدميه و مشى.

(3) بحار الأنوار: ج 11 ص 180 عن القصص.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 319

الملائكة فحملت آدم و زوجته حوّاء على كرسيّ من نور، و أدخلوهما الجنّة فوضعا في وسط الفردوس من ناحية المشرق ثمّ ذكر حديث إقامة آدم عليه السّلام خمس ساعات من نهار ذلك اليوم في الجنّة و اكله من الشجرة و ذكر حديث إخراجه من الجنّة و هبوطه بأرض الهند على جبل اسمه باسم، على واد اسمه نهيل بين الدّهنج و المندل بلدي الهند، و هبطت حوّاء بجدة إلى آخر ما ذكره «1».

و فيه انّه كان شهر نيسان المبارك فأمره اللّه تعالى بصوم ثلاثة ايّام منه «2».

و سيأتي عن «تفسير القمي»: انّه كان اوّل يوم من ذي القعدة «3».

و في «الخصال» انّه: اهبط اللّه تعالى آدم يوم الجمعة «4».

و فيه و في «العيون»: سأل الشّامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال له: واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السّماء «5».

و في «القصص» بالإسناد إلى وهب قال: كان مهبط آدم عليه السّلام على جبل في شرقي أرض الهند يقال له باسم: ثمّ أمره أن يسير إلى مكّة، فطوى له الأرض

فصار على كل مفازة يمرّ به خطوة، و لم يضع قدمه في شي ء من الأرض إلّا صار عمرانا، و بكى على الجنّة مأتي سنة، فعزاه اللّه بخيمة من خيام الجنّة، فوضعها له بمكّة في موضع الكعبة «6».

__________________________________________________

(1) البحار: ج 11 ص 196 عن سعد السعود.

(2) البحار: ج 11 ص 196.

(3) تفسير القمي: ج 1 ص 44.

(4) الخصال: ص 316 و عنه البحار ج 11 ص 204.

(5) العلل: ص 595 و العيون ج 1 ص 244.

(6) قصص الأنبياء: ص 70 و عنه البحار ج 11 ص 211.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 320

و فيه عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ آدم لما هبط هبط بالهند، ثمّ رمي اليه بالحجر الأسود، و كان ياقوتة حمراء بفناء العرش، فلما رأى عرفه فاكبّ عليه و قبّله، ثمّ أقبل به فحمله إلى مكّة، فربما أعيى عن ثقله فحمله جبرئيل عنه، و كان إذا لم يأته جبرئيل عليه السّلام اغتمّ و حزن، فشكى ذلك إلى جبرئيل فقال: إذا وجدت شيئا من الحزن فقل لا حول و لا قوّة إلّا باللّه «1».

و هذه الأخبار و ان كانت ظاهرة في كون أوّل هبوطه بالهند أو في خصوص سرانديب أو جبل باسم، لكنّها محمولة على التقيّة لمخالفتها للأخبار الكثيرة الدّالة على كون مهبطهما مكّة.

بل في «العلل» و «العيون» عن البزنطي عن الرّضا عليه السّلام قال: قلت: كيف كان أوّل الطيب؟ فقال لي: ما يقول من قبلكم فيه؟ قلت: يقولون إنّ آدم لما هبط بأرض الهند فبكى على الجنّة سالت دموعه فصارت عروقا في الأرض، فصارت طيبا، فقال عليه السّلام: ليس كما يقولون، آه «2».

و فيهما بالإسناد عن صفوان

قال: سئل ابو الحسن عليه السّلام عن الحرم و أعلامه؟

فقال إنّ آدم لمّا هبط من الجنّة هبط على أبي قبيس و الناس يقولون بالهند فشكى إلى ربّه عزّ و جلّ الوحشة و انّه لا يسمع ما كان يسمع في الجنّة، فاهبط اللّه عزّ و جلّ عليه ياقوتة حمراء فوضعت في موضع البيت فكان يطوف بها آدم و كان يبلغ ضوؤها

__________________________________________________

(1) قصص الأنبياء: ص 49 ح 18 و عنه البحار ج 11 ص 210.

(2) علل الشرائع: ص 492 ح 2، و العيون ج 1 ص 287 ح 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 321

الأعلام فعلمت الأعلام على ضوئها فجعله اللّه عزّ و جلّ حرما «1».

و يمكن ايضا أن يكون أوّل هبوطه بمكة ثمّ بالهند أو بالعكس كقوله: اهْبِطُوا مِصْراً «2»، لكن ما ذكرناه أظهر، و يؤيّده ما ذكره الرازي من انّه روى في الأخبار أنّ آدم عليه السّلام أهبط بالهند، و حوّاء بجدّة و إبليس بموضع من البصرة على أميال، و الحية بإصفهان «3».

حيث إنّ ظاهر اقتصاره عليه انّ اخبارهم تدلّ على هبوطه بالهند، و هذا ممّا يؤيّد الحمل على التقيّة، و لا ينافيه ما ورد من أنّ رائحة ما كان معهما من الورقة او المشط عبقت بالهند، إذ قد يكون ذلك بواسطة عصف الّرياح.

و لعلّه يومئ اليه ما ورد في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا أهبط آدم عليه السّلام طفق يخصف من ورق الجنّة، و طار عنه لباسه الّذي كان عليه من حلل الجنّة، فالتقط ورقة فستر بها عورته، فلما هبط عبقت رائحة تلك الورقة بالهند بالنبت فصار في الأرض من سبب تلك الورقة الّتي عبقت

بها رائحة الجنّة، فمن هناك الطيب بالهند لأنّ الورقة هبّت عليها ريح الجنوب فأدّت رائحتها إلى المغرب، لأنّها احتملت رائحة الورقة في الجو، فلمّا ركدت الرّيح بالهند علق.

و في بعض النسخ: عبق بأشجارهم و نبتهم، فكان اوّل بهيمة ارتعت من تلك

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 422 ح 4 و العيون ج 1 ص 85.

(2) البقرة: 61.

(3) تفسير الرازي: ج 3 ص 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 322

الورقة ظبي المسك، فمن هناك صار المسك في سرّة الظبي، لأنّه جرى رائحة النبت في جسده و في دمه حتّى اجتمعت في سرّة الظّبي «1».

بل في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: أهبط آدم من الجنّة عن الصّفا، و حوّاء على المروة، و قد كانت امتشطت في الجنّة، فلمّا صارت في الأرض قالت: ما أرجو من المشط و انا مسخوط عليّ فحلّت مشطتها، فانتشر عن مشطتها العطر الّذي كانت امتشطت به في الجنّة، فطارت به الرّيح، فألقت اثره في الهند فلذلك صار العطر بالهند.

قال: و في حديث آخر انها حلّت عقيصتها فأرسل اللّه عزّ و جلّ على ما كان فيها من ذلك الطّيب ريحا فهبت به في المشرق و المغرب «2».

و ممّا ذكرناه يظهر الوجه أيضا فيما رواه في كتاب أخبار الملاحم و الفتن عن الصّادق عليه السّلام قال: لمّا خلق اللّه آدم و أخرجه من الفردوس كتب له عنده في العلم السابق ألف سنة فلمّا هبط من السّماء و أخرج من الفردوس، هبط على جبل بأرض الهند كان أعلاه قريبا من السّماء، و كان آدم عليه السّلام يسمع كلام ملائكة سماء الدنيا، و يجد ريح الفردوس فلبث بذلك حينا، فاشتدّ جوعه فشكى إلى الأرض،

فقال يا أرض اطعميني فانا آدم صفيّ اللّه، فأوحى اللّه تبارك و تعالى إلى الأرض:

اجيبي عبدي.

فقالت: يا آدم لسنا نطعم اليوم من عصى اللّه، فبكى آدم عليه السّلام أربعين صباحا على ساحل البحر، تقطر دموعه في البحر، فيزعمون انّ الصدفة كانت ترتفع فوق

__________________________________________________

(1) فروع الكافي: ج 6 ص 514 ح 3.

(2) علل الشرائع: ص 491 و 492 ح 1 و عنه البحار ج 11 ص 207.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 323

الماء، فإذا قطرت دموع آدم في الصدفة اغتمس في الماء فيقولون: انّ الدّر من دموع آدم، و نبت الزعفران من دموع آدم، و نبت اللبان من دموع داود عليه السّلام.

فلما اشتدّ جوعه رفع رأسه إلى السّماء، فقال يا سماء أطعميني فأنا آدم صفيّ اللّه، فأوحى اللّه تعالى إلى السماء: أن اجيبي عبدي، فقالت: يا آدم لسنا نطعم اليوم من عصى اللّه تبارك و تعالى، فبكى آدم أربعين صباحا، فلمّا اشتدّ جوعه رفع رأسه إلى السّماء فقال أسألك يا ربّ بحقّ النّبي الأميّ الّذي تريد أن تخرجه من صلبي الّا تبت عليّ و اطعمتني، فأوحى اللّه إليه: يا آدم و من أين عرفت النّبي الأميّ و لم أخلقه بعد؟

فقال آدم: إنّي رأيت على الفردوس مكتوب: لا اله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، فعلمت أنّ ذلك من صلبي، فبحقّ ذلك النّبي إلّا اطعمتني، فأوحى اللّه تبارك و تعالى إلى جبرئيل: اهبط إلى عبدي، فهبط عليه جبرئيل، و معه تسع حبّات من حنطة، فوضعها على يدي آدم.

قال: فكان وزن الحبة منها الفا و ثمان مائة درهم.

قال آدم: يا جبرئيل ما هذا؟ فقال جبرئيل: يا آدم هذا أخرجك من الجنّة.

قال: فما أصنع به؟ قال ابذره

في الأرض، ففعل، فأنبته اللّه من ساعته، فحدثت سنّة في ولده البذر في الأرض.

ثمّ أمره بحصاده، فجعل يأخذ القبضة بعد القبضة.

ثمّ أمره بجمعه و فركه بيده، فلذلك ولده يفركون بأيديهم.

ثمّ أمره بتذريته في الرّيح، فلذلك صارت الحنطة تذرّى في الرّيح.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 324

ثمّ امره بحجرين فوضع أحدهما على الآخر فدقّه، فلذلك وضعت الرحا اليوم.

ثمّ أمره بعجنه فلذلك صار ولده يعجنون الدقيق اليوم.

ثمّ أمره أن يختبزه ملّة «1».

فجمع له جبرئيل الحجر و الحديد، فقدحه فخرجت النار، فلذلك ولده يقدحون النّار اليوم، فهم أوّل من اختبز الملّة.

ثمّ أمره أن يأكله، فعند ذلك قال لجبرئيل: لا أريد! فقال له جبرئيل عليه السّلام:

شكوت إلى ربّك الجوع، فلمّا أطعمك قلت: لا أريد؟ قال: لأنّي قد أعييت ممّا عالجت.

فقال له جبرئيل: هذا عملك و عمل ذرّيّتك إلى أن تقوم السّاعة.

فبكى آدم أربعين صباحا حتّى نبتت لحيته من الغمّ و الحزن على الجنّة.

فلمّا أكل وجد في بطنه ثقلا و وجعا، و لم يكن قبل ذلك له مخاط و لا بزاق، فشكى إلى جبرئيل.

فقال جبرئيل: تنحّ فتنحّى، فبعّر مثل بعر الشّاة، وجد له ريحا شديدا، فشكى ذلك إلى جبرئيل.

فقال له جبرئيل: أ تدري ما ذلك؟ قال: لا فقال له جبرئيل عليه السّلام: انّ اللّه تبارك و تعالى حين خلقك من طين أجوف، فجاء إبليس فضرب على بطنك، فسمع له

__________________________________________________

(1) الملّة: الرماد و الجمر، يقال: مللت الخبزة في الملّة و أمللتها إذا عملتها في الملة- لسان العرب ج 13 ص 187.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 325

دويّا كدويّ الخابية، فقال للملائكة لا يهمنّكم إن كان ملكا فهو منكم، و ان يكن من غيركم فأنا أكفيكموه، و ذلك قول اللّه

عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1» فكان ممّن اتّبعه هاروت و ماروت.

ثمّ دخل في جوفك فخرج من دبرك، فكلّما أصاب الطعام من نتن فهو من ذلك، لأنّ ممرّ إبليس لعنه اللّه كان بطنك فيعز من ذلك، و لم يكن آدم يعرف قبل ذلك بزاقا، و لا مخاطا، و لا شيئا من الأذى حتّى أكل الطعام.

فلمّا لبث آدم عليه السّلام في الأرض مأتي سنة ولد عوج بن عنق من بنت آدم، و هو الّذي كان ولد في دار آدم، و قتله موسى من بعد آدم، فعاش في الأرض ثلاثة آلاف سنة.

فلمّا استكمل ايّامه أوحى اللّه إليه أن يا آدم قد استكملت أيّامك، فانظر الاسم الأكبر و ميراث علم النبوّة فادفعه إلى ابنك شيث، فانّي لم أكن اترك الأرض الّا و فيها عالم يدلّ على طاعتي و ينهى عن معصيتي.

فدفع آدم الوصيّة إلى ابنه شيث «2».

أقول: و هذا الخبر و ان كان من طرق المخالفين إلّا أنّه لما كان مرويّا عنه عليه السّلام مشتملا على كثير ممّا في أخبارنا و على اتّصال الوصيّة و عدم خلوّ الأرض عن الحجّة أوردناه في المقام، و أمّا ما فيه من الاشتكاء إلى الأرض و السّماء فلعلّه كناية عن جوعه و حاجته و انسداد أبواب الرزق عليه من السّماء و الأرض، و امّا ما فيه من

__________________________________________________

(1) سبأ: 20.

(2) الملاحم: ص 34 الى ص 38 و هو تأليف الحافظ احمد بن جعفر بن محمد المعروف بابن المنادي المتوفى (336).

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 326

متابعة هاروت و ماروت فمن مزخرفات العامّة.

و في كتاب محاضرة الأوائل «1»: إنّ اوّل موضع أهبط

اللّه فيه آدم جبل يسمّى الراهون في جزيرة من جزائر الهند في مملكة سرانديب بمكان يقال الدّهنا و عليه اثر قدمه عليه السّلام و على القدم نور لمّاع يخطف البصر لا يمكن لأحد أن ينظر إليه طول قدمه في الصّخر سبعون شبرا و على الجبل ضوء كالبرق و لا بدّ لكلّ يوم فيه من المطر فيغسل أثر قدمه و ان آدم خطأ من هذا الجبل إلى ساحل البحر خطوة واحدة و هو مسيرة يومين فلما أهبط خرّ ساجدا على صخرة بيت المقدّس و كان يمسح رأسه الشريف السّماء و كان يشرب من السّحاب و كان طوله خمسمائة ذراع و اللّه أعلم بايّ ذراع ثمّ تضلع ستّين ذراعا.

أقول: و ستسمع الكلام في الاخبار الدالّة على طول قامته عليه السّلام فيما يأتي.

و في «العلل» و «العيون» و «الخصال»: انّه سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن اوّل من قال الشعر فقال: آدم عليه السّلام قال: و ما كان شعره؟ قال لما أنزل إلى الأرض من السماء فرأى تربتها وسعتها و هواها و قتل قابيل هابيل فقال آدم:

تغيّرت البلاد و من عليها فوجه الأرض مغبّر قبيح تغيّر كلّ ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه المليح و زاد في «مروج الّذهب» «2» و غيره:

و بدّل أهلها أثلا و خمطا بجنّات من الفردوس فيح __________________________________________________

(1) قال حاجي خليفة في كشف الظنون ج 2 ص 1610: محاضرة الأوائل: مختصر للشيخ علي دده ... فرغ منه في شهر رجب سنة (998) ه.

(2) مروج الذهب: ج 1 ص 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 327

و جاورنا عدوّا ليس ينسى لعين ما يموت فنستريح و يقتل قاين

هابيل ظلما فوا أسفا على الوجه المليح فمالي لا أجود بسكب دمعي و هابيل تضمّنه الضريح ارى طول الحياة عليّ غمّا و ما انا من حياتي مستريح فأجابه إبليس لعنه اللّه

تنحّ عن البلاد و ساكنيها ففي الفردوس ضاق بك الفسيح و كنت بها و زوجك في قرار و قلبك من أذى الدنيا مريح فلم تنفكّ من كيدي و مكري إلى أن فاتك الثّمن الربيح فلو لا رحمة الجبّار أضحت بكفّك من جنان الخلد ريح «1» قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه قوله: قيح إمّا بالقاف جمع القاحة بمعنى الساحة أو بالفاء من الفيح بمعنى السّعة، و قاين بالياء: أحد ما قيل في اسم الولد القاتل، قال: و في اكثر نسخ التفاسير و التّواريخ بالباء الموحّدة «2».

و في مروج الذّهب بالمثنّاة من تحت و قيل قابين بالموحّدة ثمّ المثناة و المشهور قابيل باللام.

و في «الفقيه» و «العلل» و «المحاسن» عن الصّادق عليه السّلام قال لمّا هبط آدم من الجنّة ظهرت به شامة «3» سوداء من قرنه إلى قدمه، فطال حزنه و بكاؤه على ما ظهر

__________________________________________________

(1) البحار ج 11 ص 233- 234 عن العلل ص 594 و عن العيون ج 1 ص 242 و الخصال ص 209.

(2) البحار: ج 11 ص 234.

(3) الشامة: الخال اي بثرة سوداء و في البدن حولها شعر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 328

به، فأتاه جبرئيل عليه السّلام فقال ما يبكيك يا آدم؟ فقال: من هذه الشامة الّتي ظهرت بي، قال: قم يا آدم فصلّ فهذا وقت الصلاة الاولى فقام و صلّى، فانحطت الشامة إلى عنقه، فجاءه في الصّلاة الثانية، فقال: قم فصلّ يا آدم فهذا وقت الصلاة الثانية،

فقام و صلّى فانحطت الشامة إلى سرّته، فجاءه في الصلاة الثالثة، فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلاة الثالثة، فقام فصلّى فانحطت الشامة إلى ركبتيه، فجاءه في الصلاة الرابعة، فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلاة الرابعة، فقام فصلّى فانحطت الشامة إلى قدميه فجاءه في الصلاة الخامسة، فقال: قم يا آدم فصلّ فهذا وقت الصلاة الخامسة، فقام صلّى فخرج منها، فحمد اللّه و اثنى عليه، فقال جبرئيل: يا آدم مثل ولدك في هذه الصلاة كمثلك في هذه الشّامة، من صلّى من ولدك في كلّ يوم و ليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشّامة «1».

و في تفسير القمّي قال: فلمّا اسكنه اللّه الجنّة و اتى جهالة إلى الشجرة لأنّه خلق خلقة لا تبقى إلّا بالأمر و النّهي و الغذاء و اللّباس و الإكنان و النكاح و لا تدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلّا بالأمر و النّهي و التّوفيق، فجاءه إبليس و قال إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة الّتي نهاكما اللّه عنها صرتما ملكين و بقيتما في الجنّة أبدا و ان لم تأكلا منها أخرجكما اللّه من الجنّة، و حلف لهما أنّه لهما ناصح، كما قال اللّه تعالى حكاية عنه: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ «2» وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «3» فقبل آدم قوله، فأكلا من

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 338 ح 2 و عنه البحار ج 11 ص 166.

(2) الأعراف: 20.

(3) الأعراف: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 329

الشجرة فكان كما حكى اللّه بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما* «1» و سقط عنهما ما ألبسهما اللّه تعالى من

لباس الجنّة، و أقبلا يستتران بورق الجنّة وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ «2» فقالا كما حكى اللّه عنهما: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» فقال اللّه لهما اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ «4»، قال: إلى يوم القيمة قال: فأهبط آدم على الصّفا، و إنّما سمّيت الصّفا لأنّ صفوة اللّه نزل عليها، و نزلت حوّاء على المروة، و انّما سمّيت المروة لأنّ المرأة نزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا يبكي على الجنّة، فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا آدم ألم يخلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و اسجد لك ملائكته؟ قال:

بلى قال: و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فلم عصيته؟ قال: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي باللّه أنّه لي ناصح و ما ظننت ان خلقا يخلقه اللّه أن يحلف باللّه كاذبا «5».

تفسير الآية (37)

توبة آدم بواسطة الكلمات

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ استقبلها بالتوصل و الاستشفاع و قبول الولاية

__________________________________________________

(1) الأعراف: 22.

(2) الأعراف: 22.

(3) الأعراف: 23.

(4) الأعراف: 24.

(5) تفسير القمي: ج 1 ص 43 و عنه البحار ج 11 ص 162.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 330

و بالأخذ و القبول و العمل بناء على ما هو الأظهر من شمول الكلمات للكونيّة الحقيقيّة و اللّفظيّة، و هو مأخوذ من قولهم: تلقّيت منه اي أخذت و قبلت، و يقال:

تلقّيت الرجل و تلقّاني أي استقبلته و استقبلني، و منه تلقّي الركبان، و هو في الأصل التّعرض للقاء، أطلق على القبول و الاستقبال، لأنّه من التعرّض، و ربما

يحتمل أن يكون أصله التلقّن كالتظنّي في التظنن و هو ضعيف.

القراءة

و اكثر القرّاء على رفع آدم و نصب كلمات، و عن ابن كثير العكس، و استدلّ له بأنّه في المعنى كالقراءة الأخرى، فانّ الأفعال المتعدّية على ثلاثة أضرب: ما يجوز ان يكون الفاعل له مفعولا به و العكس، نحو: ضرب زيد عمروا و ما لا يجوز ذلك فيه نحو: أكلت الخبز، و ما يكون إسناده إلى الفاعل في معنى اسناده إلى المفعول به، نحو: نلت و أصبت و تلقيت تقول: نالني خير، و نلت خيرا، و اصابني شي ء، و أصبت شيئا، و تلقّاني زيد و تلقّيته، و مثله في جواز الوجهين بل و قراءة قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «1» على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى، و هو كما ترى توجيه للمعنى لا تصحيح للقراءة، بل هو من وجه آخر على ما مرّ على أنّ المعنى على الأوّل ما سمعت، و على الثّاني انّ الكلمات تداركته بالنّجاة و ستسمع في الأخبار المرويّة عن «الخصال» و «المعاني» و «الفضائل» و غيرها ما يدلّ على الأوّل.

و «من» للابتداء، و إضافة الكلمات إلى اسم الرّب مضافا إلى ضميره، مع انّه

__________________________________________________

(1) البقرة: 124.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 331

ربّ كلّ شي ء، للإشعار على كون التّلقي و التوسل من وظائف عبوديّة آدم، و قبوله من شؤون ربوبيّته المطلقة، مضافا إلى كونه من متمّمات تربيته و مكمّلات وجوده.

الكلمات و إطلاقاتها

و «كلمات» جمع كلمة، و فيها لغات، و الحقّ أنّها اسم جنس يطلق على القليل و الكثير فيقال للكلام و البيت و الخطبة و القصيدة كما في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها «1»، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: أصدق كلمة قالتها العرب كلمة لبيد «2»:

الا كلّ شي ء ما خلا اللّه باطل و كلّ نعيم لا محالة زائل «3» و قولهم: قال قسّ في كلمته، يعنون في خطبته، و قال إمرؤا القيس في كلمته، يعنون في قصيدته.

ثمّ انّ هذه الإطلاقات كلّها إنّما هي باعتبار الكلمة التّدوينيّة، و امّا الكلمة التكوينيّة فالمراد بها الوجودات الجامعة المشتملة على الحروف الكونيّة و لذا يطلق على الأنبياء و الحجج عليهم السّلام و كذا أطلقت على عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ «4» و أطلقت الكلمات او الموصوفة بالتّامات على النّبي و الأئمّة عليهم السّلام كما في هذه الآية

__________________________________________________

(1) المؤمنون: 100.

(2) لبيد بن ربيعة العامري كان من أشراف شعراء المخضرمين و الفرسان المعمّرين عمّر (140) سنة او أزيد و أدرك الإسلام و أسلم مات في أواخر خلافة معاوية.

(3) سفينة البحار: ج 2 ص 503.

(4) النساء: 171.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 332

و في قوله: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ «1»، و قوله: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي «2»، و قوله: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «3»، وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ* «4»، وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً «5»، حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ «6»، وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «7» و غيرها من الآيات الكثيرة على ما تسمع إنشاء اللّه تعالى.

و المراد بها في المقام ما يشمل الأمرين أعني التّوسل بذواتهم الشريفة الّذين هم الأسماء الحسنى، و الأمثال العليا، و أسماؤهم الّتي هي أسماء الأسماء إمّا باعتبار عموم الاشتراك، أو المجاز، او على ما قرّر في محلّه من جواز استعمال اللّفظ المشترك في المعنيين و المتّحد

المعنى في المعنى الحقيقي و المجازي، مع أنّ التلقي هو التوسّل التّام الّذي لا يتم إلّا بالأمرين معا و لذا ترى أخبار الباب المرويّة من طرق الفريقين مشتملة على الأمرين.

ففي «تفسير العياشي» عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه قال: يا ربّ اسألك بحقّ محمّد لمّا تبت عليّ، قال: و ما علمك بمحمّد؟

قال: رأيته في سرادقك الأعظم مكتوبا و انا في الجنّة «8».

__________________________________________________

(1) البقرة: 134.

(2) الكهف: 109.

(3) لقمان: 27.

(4) الانعام: 115.

(5) الزخرف: 28.

(6) يونس: 96.

(7) الفتح: 26.

(8) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 41 ح 8 و عنه البحار ج 11 ص 186 ح 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 333

و فيه عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى عرض على آدم في الميثاق ذريّته، فمرّ به النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو متكئ على عليّ و فاطمة صلوات اللّه عليهما تتلوهما، و الحسن و الحسين عليهما السّلام يتلوان فاطمة، فقال اللّه: يا آدم إياك أن تنظر إليهم بحسد أهبطك من جواري، فلمّا أسكنه اللّه الجنّة مثّل له النّبي و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم، فنظر إليهم بحسد، ثمّ عرضت عليه الولاية:

فأنكرها فرمته الجنّة بأوراقها، فلمّا تاب إلى اللّه من حسده و أقرّ بالولاية و دعا اللّه بحقّ الخمسة محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلّى اللّه عليهم غفر اللّه له و ذلك قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «1».

و في «تفسير القمي» عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ آدم بقي على الصفا أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنّة و

على خروجه من جوار اللّه عزّ و جلّ، فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا آدم مالك تبكي؟ قال: يا جبرئيل مالي لا ابكي و قد أخرجني اللّه من جواره، و أهبطني إلى الدّنيا، قال: يا آدم تب إليه، قال: و كيف أتوب؟ فانزل اللّه عليه قبّة من نور في موضع البيت، فسطع نورها في جبال مكّة فهو الحرم، فأمر اللّه جبرئيل أن يضع عليه الأعلام، قال: قم يا آدم فخرج به يوم التّروية، و امره أن يغتسل و يحرم و أخرج من الجنّة اوّل يوم من ذي القعدة، فلمّا كان يوم الثامن من ذي الحجّة أخرجه جبرئيل إلى منى، فبات فيها فلمّا أصبح أخرجه إلى عرفات، و قد كان علّمه حين أخرجه من مكّة الإحرام و أمره بالتلبية، فلمّا زالت الشمس يوم عرفه قطع التّلبية، و أمره أن يغتسل، فلمّا صلّى العصر وقّفه. بعرفات، و علّمه

__________________________________________________

(1) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 41 ح 27 و عنه البحار ج 11 ص 187.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 334

الكلمات الّتي تلقّى بها ربّه، و هو «سبحانك اللّهم و بحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي، و اعترفت بذنبي، فاغفر لي إنك الغفور الرحيم» هكذا ثلاث مرّات إلّا أنّه في الثانية انّك أنت خير الغافرين و في الثالثة: انك أنت التّواب الرحيم، فبقى إلى أن غابت الشمس رافعا يديه إلى السماء يتضرّع و يبكي إلى اللّه، فلمّا غابت الشمس ردّه إلى المشعر، فبات بها فلمّا أصبح قام على المشعر الحرام، فدعا اللّه تعالى بكلمات و تاب عليه «1». الخبر أقول: و لعلّ المراد بهذه الكلمات الأخيرة ما مرّت الإشارة إليها في ما

مرّ من الأخبار من التوسل بالنّبي و الأئمّة عليهم السّلام، و امّا مع الحمل على الدّعاء المذكور في هذا الخبر فلا ينافي ذلك لأنّه من مقتضيات ولايتهم و من آثارها.

و عليه يحمل أيضا ما رواه العيّاشي في تفسيره عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

الكلمات الّتي تلقّاهنّ آدم من ربّه فتاب عليه و هدى قال: سبحانك اللّهم و بحمدك، إلى آخر ما مرّ «2».

قال و قال الحسن بن راشد: إذا استيقظت من منامك فقل الكلمات الّتي تلقّى بها آدم من ربّه: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الروح، سبقت رحمتك غضبك، لا اله إلّا أنت انّي ظلمت نفسي فاغفر لي و ارحمني، انك أنت التّواب الرحيم «3».

و في «كشف اليقين» عن مجاهد عن ابن عباس قال: لمّا خلق اللّه آدم و نفخ فيه من روحه عطس فألهمه اللّه: الحمد للّه ربّ العالمين، فقال له ربّه: يرحمك ربّك،

__________________________________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 44- 45 و عنه البحار ج 11 ص 178- 179.

(2) تفسير العياشي: ج 1 ص 41 ح 25.

(3) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 41 ح 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 335

فلمّا أسجد له الملائكة تداخله العجب، فقال: يا ربّ خلقت خلقا أحبّ إليك منّي؟

فلم يجب ثمّ قال الثانية فلم يجب، ثمّ قال الثالثة فلم يجب، ثمّ قال اللّه عزّ و جلّ له: نعم و لولاهم ما خلقتك، فقال يا ربّ فأرنيهم، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى ملائكة الحجب: أن ارفعوا الحجب، فلما رفعت إذا آدم بخمسة أشباح قدام العرش، فقال: يا ربّ من هؤلاء؟ قال: يا آدم هذا محمّد نبيي، و هذا عليّ أمير المؤمنين ابن عمّ نبيي و وصيّه،

و هذه فاطمة ابنة نبيي، و هذان الحسن و الحسين ابنا عليّ و ولدا نبيي، ثمّ قال: يا آدم هم ولدك ففرح بذلك، فلمّا اقترف الخطيئة قال: يا ربّ أسألك بمحمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين لمّا غفرت لي، فغفر اللّه له بهذا فهذا الّذي قال اللّه عزّ و جلّ:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ «1»، فلمّا هبط إلى الأرض صاغ خاتما فنقش عليه: «محمّد رسول اللّه و عليّ أمير المؤمنين» و يكنّى آدم بابي محمّد عليه السّلام «2».

و في «المعاني» فيما رواه المفضّل عن الصادق عليه السّلام بطوله إلى أن قال عليه السّلام: فلمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يتوب عليهما جاءهما جبرئيل فقال لهما: إنكما إنّما ظلمتما أنفسكما بتمنّي منزلة من فضّل عليكما فجزاؤكما ما قد عوقبتما به من الهبوط من جوار اللّه عزّ و جلّ إلى أرضه، فاسألا ربّكما بحقّ الأسماء الّتي رأيتموها على ساق العرش حتّى يتوب عليكما، فقالا: اللّهم إنّا نسألك بحقّ الأكرمين عليك: محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة عليهم السّلام إلّا تبت علينا و رحمتنا، فتاب اللّه عليهما انّه هو التّواب الرحيم، فلم تزل أنبياء اللّه بعد ذلك يحفظون هذه الأمانة، و يخبرون

__________________________________________________

(1) البقرة: 37.

(2) اليقين في إمرة امير المؤمنين عليه السّلام ص 30- 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 336

بها أوصيائهم و المخلصين من أممهم، فيأبون حملها و يشفقون من ادّعائها و حملها الإنسان الّذي قد عرف، فأصل كلّ ظلم منه إلى يوم القيامة، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1»، الآية «2».

الكلمات التي تلقّيها آدم (ع)

و في «الأمالي»

و «الاحتجاج» و «جامع الاخبار» عن الصادق عليه السّلام قال: أتى يهوديّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا يهودي ما حاجتك؟

قال: أنت أفضل أم موسى ابن عمران الّذي كلّمه اللّه، و أنزل عليه التوراة و العصا، و فلق له البحر و اظلّه بالغمام؟ فقال له النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّه يكره للعبد أن يزكّي نفسه و لكنّي أقول: إنّ آدم لمّا أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال اللّهم إنّي اسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا غفرت لي فغفرها اللّه له، و انّ نوحا لمّا ركب السفينة و خاف الغرق قال: اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا نجّيتني و أهلي من الغرق، فنجّاه اللّه تعالى و من معه في السفينة من الغرق، و إنّ ابراهيم لمّا ألقي في النّار قال:

اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا أنجيتني منها، فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما، و إنّ موسى لمّا ألقى عصاه و أوجس في نفسه خيفة قال: اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لما آمنتني، فقال اللّه جلّ جلاله: لا تخف إنك أنت الأعلى، يا يهودي إنّ موسى لو أدركني ثمّ لم يؤمن بي و بنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئا

__________________________________________________

(1) الأحزاب: 72.

(2) معاني الاخبار: ص 108 و عنه البحار ج 11 ص 174 ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 337

و لا نفعته النبوّة «1».

و في «المعاني» عن الصّادق عليه السّلام في قوله: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ «2»، ما هذه الكلمات؟ قال: هي الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب

عليه، و هو انّه قال: أسألك بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلّا تبت عليّ فتاب اللّه عليه انّه هو التّوّاب الرحيم. «3» الخبر و في «الكافي» عن أحدهما عليهما السّلام: إنّ الكلمات لا اله إلّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فتب عليّ و اغفر لي و أنت خير الغافرين، لا اله إلّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك عملت، سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و ارحمني انك، أنت ارحم الراحمين، لا اله الا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فتب عليّ انك أنت التوّاب الرحيم.

و في رواية: بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين.

و في رواية اخرى: بحقّ محمّد و آل محمّد عليهم السّلام صلّى اللّه عليهم أجمعين «4».

«الخصال» و «المعاني» و «الفضائل» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: سأله بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلّا تبت عليّ فتاب اللّه عليه.

و في «فضائل الأئمّة» عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خلق اللّه

__________________________________________________

(1) جامع الاخبار: ص 8- 9 و الأمالي ص 131- 132، و عنهما البحار ج 16 ص 366.

(2) البقرة: 124.

(3) معاني الاخبار ص 42 و عنه البحار ج 11 ص 177 ح 24.

(4) معاني الاخبار ص 42 و الخصال ج 1 ص 146 و عنهما البحار ج 11 ص 176.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 338

آدم فسأل ربّه أن يريه ذريّته

من الأنبياء و الأوصياء المقرّبين إلى اللّه عزّ و جلّ فأنزل اللّه عليه صحيفة فقرأها كما علّمه اللّه تعالى إلى أن انتهى إلى محمّد النّبي العربيّ عليه أفضل الصّلاة و السلام فوجد عند اسمه اسم عليّ بن ابي طالب عليه السّلام فقال آدم هذا نبي بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله فهتف به هاتف يسمع صوته و لا يرى شخصه يقول هذا وارث علمه و زوج ابنته و ابو ذرّيته عليه السّلام فلمّا وقع آدم في الخطيئة جعل يتوسّل إلى اللّه تعالى بهم عليهم السّلام فتاب اللّه عليهم «1».

و في تفسير فرات بن ابراهيم بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: لمّا نزلت الخطيئة بآدم و اخرج من الجنّة أتاه جبرئيل عليه السّلام فقال يا آدم أدع ربّك قال يا حبيبي جبرئيل ما أدعو؟ قال: قل: يا ربّ اسألك بحقّ الخمسة الّذين تخرجهم من صلبي آخر الزّمان ألّا تبت عليّ و رحمتني فقال له آدم يا جبرئيل سمّهم لي قال: اللّهم بحقّ محمّد نبيّك، و بحقّ عليّ وصي نبيّك، و بحقّ فاطمة بنت نبيّك، و بحقّ الحسن و الحسين سبطي نبيّك إلّا تبت عليّ و رحمتني، فدعا بهنّ آدم فتاب اللّه عليه، و ذلك قول اللّه تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ، و ما من عبد مكروب يخلّص النيّة و يدعو بهنّ إلّا استجاب اللّه له «2».

و في «الفضائل» بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أبي آدم لمّا رأى اسمي و اسم عليّ و ابنتي فاطمة و الحسن و الحسين و اسماء أولادهم مكتوبة على ساق العرش بالنّور، قال: الهي و سيّدي هل خلقت خلقا هو أكرم عليك

منّي؟ فقال اللّه: يا آدم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 331 ح 13 عن الفضائل.

(2) تفسير فرات: ص 13 و عنه البحار ج 26 ص 333 ح 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 339

لو لا هذه الأسماء لما خلقت سماء مبنيّة و لا أرضا مدحيّة و لا ملكا مقرّبا و لا نبيّا مرسلا، و لا خلقتك يا آدم قال: فلمّا عصى آدم ربّه سأله بحقّنا أن يقبل توبته و يغفر خطيئته فأجابه، و كنّا الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه عزّ و جلّ فتاب عليه و غفر له، فقال له: يا آدم ابشر فانّ هذه الأسماء من ذرّيتك و ولدك، فحمد آدم ربّه عزّ و جلّ و افتخر على الملائكة بنا و انّ هذا من فضلنا و فضل اللّه علينا «1».

و في كتاب المحتضر للحسن بن سليمان عن الباقر عليه السّلام قال: نحن الأسماء الحسنى الّتي لا يقبل اللّه عن العباد عملا إلّا بمعرفتنا و نحن و اللّه الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه «2».

و في تفسير الامام عليه السّلام قال: فلمّا زلّت من آدم الخطيئة و اعتذر إلى ربّه عزّ و جلّ قال: يا ربّ تب عليّ، و اقبل معذرتي، و أعدني إلى مرتبتي، و ارفع لديك درجتي، فلقد تبيّن نقص الخطيئة و ذلّها بأعضائي و سائر بدني، قال اللّه تعالى يا آدم: أما تذكر أمري ايّاك بأن تدعوني بمحمّد و آله الطّيبين عند شدائدك و دواهيك و في النوازل الّتي تبهظك «3» قال آدم: يا ربّ بلى قال اللّه عزّ و جلّ له: فتوسل بمحمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم خصوصا فادعني

أجبك إلى ملتمسك و أزدك فوق مرادك، فقال آدم: يا ربّ و قد بلغ عندك من محلّهم إنّك بالتّوسل بهم تقبل توبتي و تغفر خطيئتي، و انا الّذي أسجدت له ملائكتك و الجنّة جنّتك و زوّجته حوّاء أمتك، و أخدمته كرام ملائكتك؟

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 35 ص 23 ح 15 عن الفضائل.

(2) بحار الأنوار: ج 25 ص 5 ح 7.

(3) تبهظك: تثقلك و تعجزك، مشتق من بهظ بمعنى أثقل و أعجز.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 340

قال اللّه تبارك و تعالى: يا آدم إنّما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود إذ كنت وعاء لهذه الأنوار، و لو كنت سألتني بهم قبل خطيئك أن أعصمك منها، و ان أفطنك لدواعي عدوّك إبليس حتّى تحترز منه لكنت قد جعلت ذلك، و لكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي، فالآن فبهم فادعني لأجيبك.

فعند ذلك قال آدم: اللّهمّ بجاه محمّد و آله الطّيبين، بجاه محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطّيبين من آلهم لمّا تفضّلت بقبول توبتي، و غفران زلّتي، و إعادتي من كراماتك إلى مرتبتي.

فقال اللّه عزّ و جلّ قد قبلت توبتك و أقبلت برضواني عليك، و صرفت آلائي و نعمائي إليك، و أعدتك إلى مرتبتك من كراماتي، و وفّرت نصيبك من رحماتي، فذلك قوله عزّ و جلّ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «1».

ثمّ قال عزّ و جلّ للّذين أهبطهم من آدم و حوّاء و إبليس و الحيّة: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ فيها تعيشون، و تحثّكم لياليها و أيّامها إلى السعي للاخرة، فطوبى لمن تزوّد منها لدار البقاء وَ مَتاعٌ إِلى

حِينٍ لكم في الأرض منفعة إلى حين موتكم، لأنّ اللّه منها يحرج زروعكم و ثماركم، و بها ينزلكم «2»، و ينعمكم، و فيها ايضا بالبلاء يمتحنكم، و يلذّذكم بنعيم الدنيا تارة لتذكروا نعيم الآخرة الخالص ممّا ينقّص نعيم الدّنيا و يبطله، و يزهّد فيه و يصغّره و يحقّره، و يمتحنكم تارة ببلايا الدّنيا الّتي تكون في خلالها الزّحمات و في تضاعيفها النقمات

__________________________________________________

(1) البقرة: 37.

(2) في البحار: ينزهّكم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 341

المجحفة، يدفع عن المبتلى بها مكاره ليحذّركم بذلك عذاب الأبد الّذي لا تشوبه عافية، و لا تقع في تضاعيفها راحة و لا رحمة «1».

و في موضع آخر من التفسير قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لليهود معاشر اليهود تعاندون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تأبون الاعتراف بأنّكم كنتم بذنوبكم من الجاهلين بانّ اللّه لا يعذّب بها اي بالتوبة و الاعتراف أحدا، و لا يزيل عن فاعل العناد عذابه ابدا إنّ آدم عليه السّلام لم يقترح على ربّه المغفرة لذنبه إلّا بالتّوبة، فكيف تقترحونها أنتم مع عنادكم؟ قيل: و كيف كان ذلك يا رسول اللّه؟ صلّى اللّه عليه و آله فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا وقعت الخطيئة من آدم عليه السّلام و خرج من الجنّة و عوتب و وبّخ قال: يا ربّ إن تبت و أصلحت أ تردّني إلى الجنّة؟ قال: بلى قال آدم: فكيف اصنع يا ربّ حتّى أكون تائبا تقبّل توبتي؟ فقال اللّه تعالى: تسبحني بما أنا أهله، و تعترف بخطيئتك كما أنت أهله، و تتوسّل إليّ بالفاضلين الّذين علّمتك أسماءهم، و فضّلتك بهم على ملائكتي، و هم محمّد

و آله الطّيبون و أصحابه الخيّرون.

فوفقه اللّه تعالى، فقال: يا ربّ لا إله إلّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك، عملت سوء، و ظلمت نفسي، فارحمني إنك أنت ارحم الرّاحمين بحقّ محمّد و آله الطّيبين، و خيار أصحابه المنتجبين، سبحانك و بحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي، فتب عليّ انك أنت التّواب الرحيم، بحقّ محمد و آله الطّيبين و خيار أصحابه المنتجبين.

فقال اللّه تعالى: لقد قبلت توبتك و آية ذلك أن أنقّي بشرتك فقد تغيّرت، و كان

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب إلى الامام عليه السّلام: ص 90- 91 و عنه البحار ج 11 ص 192- 193.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 342

ذلك لثلاث عشر من شهر رمضان فصم هذه الثلاثة الأيّام الّتي تستقبلك، فهي ايّام البيض ينقّي اللّه في كلّ يوم بعض بشرتك، فصامها فنقي في كلّ يوم منها ثلث بشرته، فعند ذلك قال آدم: يا ربّ ما أعظم شأن محمّد و آله و خيار أصحابه؟

فأوحى اللّه إليه: يا آدم انّك لو عرفت كنه جلال محمّد عبدي و آله و خيار أصحابه لأحببته حبّا يكون أفضل أعمالك، قال: يا ربّ عرّفني لأعرف، قال اللّه تعالى: يا آدم إنّ محمّدا لو وزن به جميع الخلق من النبيّين و المرسلين و الملائكة المقرّبين، و سائر عبادي الصّالحين، من أوّل الدّهر إلى آخره، و من الثرى إلى العرش لرجّح بهم، و انّ رجلا من خيار آل محمّد لو وزن به جميع آل النبيّين لرجّح بهم، و انّ رجلا من خيار أصحاب محمّد لو وزن به جميع أصحاب المرسلين لرجّح بهم، يا آدم لو أحبّ رجل من الكفّار أو جميعهم رجلا من آل محمد و أصحابه

الخيّرين لكافاه اللّه عن ذلك بان يختم له بالتّوبة و الايمان، ثمّ يدخله اللّه الجنّة إنّ اللّه ليفيض على كلّ واحد من محبّي محمد و آل محمد و أصحابه من الرّحمة ما لو قسمت على عدد كعدد ما خلق اللّه تعالى من أوّل الدّهر إلى آخره، و كانوا كفّارا لكفاهم، و لأدّاهم إلى عاقبة محمودة و هو الايمان باللّه حتّى يستحقوا به الجنّة، و لو أنّ رجلا كان ممّن يبغض آل محمّد و أصحابه الخيّرين أو واحدا منهم لعذّبه اللّه عذابا لو قسّم على عدد ما خلق اللّه لأهلكهم اللّه أجمعين «1».

و في كتاب المحتضر للحسن بن سليمان ممّا رواه من كتاب منهج التّحقيق

__________________________________________________

(1) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 157 و عنه البحار ج 26 ص 330- 331 ح 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 343

عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ اللّه تعالى خلق أربعة عشر نورا من نور عظمته قبل خلق آدم باربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا فقيل له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نورا؟ فقال: محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و تسعة من ولد الحسين، و تاسعهم قائمهم ثمّ عدّهم بأسمائهم ثمّ قال: و اللّه نحن الأوصياء الخلفاء من بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نحن المثاني الّذي أعطاها اللّه نبيّنا، و نحن شجرة النّبوّة، و منبت الرّحمة، و معدن الحكمة، و مصابيح العلم، و موضع الرّسالة، و مختلف الملائكة، و موضع سرّ اللّه، و وديعة اللّه جلّ اسمه في عباده، و حرم اللّه الأكبر و عهده

المسؤول عنه، فمن و في بعهدنا فقد و في بعهد اللّه و من خفره «1» فقد خفر ذمّة اللّه و عهده، عرفنا من عرفنا و جهلنا من نحن الأسماء الحسنى الّتي لا يقبل اللّه من العباد عملا إلّا بمعرفتنا، و نحن و اللّه الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، انّ اللّه تعالى خلقنا فأحسن خلقنا، و صوّرنا فأحسن صورنا، و جعلنا عينه على عباده، و لسانه النّاطق في خلقه، و يده المبسوطة عليهم بالرّأفة و الرّحمة، و وجهه الّذي يؤتى منه، و بابه الّذي يدلّ عليه، و خزّان علمه، و تراجمة وحيه، و أعلام دينه، و العروة الوثقى و الدّليل الواضح لمن اهتدى، و بنا أثمرت الأشجار، و أينعت الثّمار، و جرت الأنهار، و نزلت الغيث من السّماء، و نبت عشب الأرض، و بعبادتنا عبد اللّه، و لولانا ما عرف اللّه، و أيم اللّه لو لا وصيّة سبقت و عهد أخذ علينا لقلت قولا يعجب منه أو يذهل عنه الأوّلون و الآخرون «2».

__________________________________________________

(1) اي و من نقض عهدنا فقد نقض عهد اللّه.

(2) المحتضر: ص 129 و عنه البحار ج 25 ص 4- 5 ح 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 344

و عن كتاب الآل لابن خالويه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: لمّا خلق اللّه آدم و حوّاء عليهما السّلام تبخترا في الجنّة فقال آدم لحوّاء: ما خلق اللّه خلقا هو أحسن منّا، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى جبرئيل ان ائتني بعبدتي الّتي في جنّة الفردوس الأعلى فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك «1» من درانيك الجنّة على رأسها تاج من نور، و في أذنيها قرطان

من نور، قد أشرقت الجنان من حسن وجهها، قال آدم: حبيبي جبرئيل من هذه الجارية الّتي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله نبيّ من ولدك يكون في آخر الزمان، قال: فما هذا التّاج الذي على رأسها؟ قال: بعلها علي بن ابي طالب قال: فما القرطان اللذان في أذنيها؟

قال: ولداها الحسن و الحسين، قال: حبيبي جبرئيل أخلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في غامض علم اللّه قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة «2».

و في تفسير القمي عن الصادق عليه السّلام قال: إن آدم عليه السّلام بقي على الصفاء أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة و على خروجه من الجنّة من جوارح اللّه عزّ و جلّ، فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا آدم ما لك تبكي؟ فقال: يا جبرئيل ما لي لا ابكي و قد أخرجني اللّه من جواره و أهبطني إلى الدّنيا، قال: يا آدم تب إليه، قال: و كيف أتوب؟ فانزل اللّه عليه قبّة من نور في موضع البيت فسطع نورها في جبال مكّة، فهو الحرم و أمر اللّه جبرئيل أن يضع عليه الأعلام، ثمّ قال: قم يا آدم فخرج به يوم التّروية و امره أن يغتسل و يحرم، و أخرج من الجنّة أوّل يوم من ذي القعدة فلمّا كان

__________________________________________________

(1) الدرنوك بضم الدال نوع من البسط له خمل.

(2) المحتضر: 131- 132 و عنه البحار ج 25 ص 5- 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 345

يوم الثّامن من ذي الحجّة أخرجه جبرئيل الى منى فبات بها فلمّا أصبح أخرجه إلى عرفات، و قد كان علّمه حين أخرجه من مكّة الإحرام، و علّمه التّلبية،

فلمّا زالت الشمس يوم عرفة قطع التلبية، و أمره أن يغتسل، فلمّا صلّى العصر أوقفه بعرفات، و علّمه الكلمات الّتي تلقّى بها ربّه، و هي سبحانك اللّهم و بحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي انك أنت خير الغافرين، سبحانك اللّهم و بحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي انك أنت التّواب الرحيم، فبقي إلى غروب الشمس رافعا يديه إلى السّماء يتضرّع و يبكي فلمّا غربت الشّمس ردّه إلى المشعر، فبات بها فلمّا أصبح قام على المشعر الحرام فدعى اللّه تعالى بكلمات و تاب عليه، ثمّ أفاض إلى منى و أمره جبرئيل أن يحلق الشعر الّذي عليه، فحلقه، ثمّ ردّه إلى مكّة فاتى به عند الجمرة الأولى، فعرض إبليس عندها فقال: يا آدم اين تريد؟ فأمره جبرئيل أن يرميه بسبع حصاة، و أن يكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة ففعل، ثمّ ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثانية، فأمره أن يرميه سبع حصاة فرمى و كبّر مع كلّ حصاة تكبيرة، ثمّ ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثالثة فأمره أن يرميه بسبع حصاة و يكبّر عند كلّ حصاة ففعل، فذهب إبليس لعنه اللّه و قال له جبرئيل: إنك لن تراه بعد هذا اليوم ابدا فانطلق به إلى البيت الحرام و أمره أن يطوف به سبع مرّات، ففعل، فقال له: إنّ اللّه قد قبل توبتك و حلّت لك زوجتك، قال: فلما قضى آدم حجّه لقيته الملائكة بالأبطح فقالوا: يا آدم برّ حجّك أما إنّا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام «1».

__________________________________________________

(1) تفسير القمي ص 37- 38 و عنه البحار

ج 11 ص 178- 179.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 346

و في البحار عن بعض كتب المناقب: انّ آدم لما هبط إلى الأرض لم ير حوّاء فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلا فاغتمّ و ضاق صدره من غير سبب، و عثر في الموضع الّذي قتل فيه الحسين، حتّى سال الدّم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء و قال: الهي هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به، فإني طفت جميع الأرض و ما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض؟

فأوحى اللّه تعالى إليه، يا آدم ما حدث منك ذنب، و لكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلما فسال دمك موافقة لدمه، فقال آدم: يا ربّ أ يكون الحسين نبيّا؟ قال: لا و لكنّه سبط النّبي محمد صلّى اللّه عليه و آله فقال: و من القاتل له؟ قال: قاتله يزيد لعين أهل السموات و الأرض فقال آدم: فايّ شي ء أصنع يا جبرئيل قال: العن قاتلة يا آدم، فلعنه أربع مرّات، و مشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حوّاء هناك «1».

و في تفسير العيّاشي عن ابي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه حين أهبط آدم إلى الأرض أمره ان يحرث بيده فيأكل من كده بعد الجنّة و نعيمها، فلبث يجأر و يبكي على الجنّة مائتي سنة، ثمّ انّه سجد للّه سجدة فلم يرفع رأسه ثلاثة ايّام و لياليها، ثمّ قال: اي ربّ الم تخلقني؟ فقال اللّه: قد فعلت، فقال: ا لم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: قد فعلت، قال: الم تسكني جنّتك؟ قال: قد فعلت، قال: ألم تسبق لي رحمتك غضبك؟ قال اللّه: قد فعلت، فهل صبرت

او شكرت؟ قال: آدم: لا اله إلّا أنت سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي انك أنت الغفور الرحيم، فرحمه اللّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 44 ص 242- 243 ح 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 347

بذلك و تاب عليه إنّه هو التّواب الرحيم «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المأثورة من طرق الاماميّة، بل قد روي مثل ذلك أيضا من طرق المخالفين.

فعن ابن المغازلي الشّافعي في كتاب «المناقب» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه فقال صلّى اللّه عليه و آله: سأله بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام الّا تبت عليّ فتاب عليه «2».

و عن النّطنزي في «الخصائص» انّه قال ابن عباس: لمّا خلق اللّه آدم و نفخ فيه من روحه عطس، فقال: الحمد للّه، فقال له ربّه: يرحمك ربّك، فلمّا أسجد له الملائكة تداخله العجب فقال: يا ربّ خلقت خلقا هو أحبّ إليك منّي؟ قال: نعم و لولاهم ما خلقتك، قال: يا ربّ فأرنيهم، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى ملائكة الحجب: أن ارفعوا الحجب، فلمّا رفعت إذا آدم بخمسة أشباح قدّام العرش، قال: يا ربّ من هؤلاء قال: يا آدم هذا محمّد نبيي، و هذا عليّ أمير المؤمنين ابن عمّ نبيي و وصيّه، و هذه فاطمة بنت نبيي، و هذان الحسن و الحسين ابنا عليّ و ولدا نبيّي، ثمّ قال: يا آدم هم ولداك، ففرح بذلك، فلمّا اقترف الخطيئة، قال: يا رب اسألك بمحمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين لمّا غفرت لي، فغفر اللّه له فهذا الّذي قال اللّه تعالى:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ

رَبِّهِ كَلِماتٍ، إنّ الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه، اللّهم بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلّا تبت علي فتاب اللّه عليه «3».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار عن تفسير العياشي ج 11 ص 212 ح 19.

(2) المناقب لابن المغازلي ص 63 ح 89.

(3) تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن النطنزي ج 1 ص 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 348

أقول: و هذا الخبر قريب ممّا حكيناه عن: «كشف اليقين» إلّا أنّ فيه بعض الاختلاف و لذا حكيناه بلفظه.

و روى القاضي أبو عمرو عثمان بن أحمد أحد شيوخ السّنة يرفعه إلى ابن عباس عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: لمّا شملت آدم الخطيئة نظر إلى أشباح تضي ء حول العرش فقال: يا ربّ إنّي أرى أشباحا تشبه خلقي فما هي؟ قال: هذه الأنوار أشباح اثنين من ولدك اسم أحدهما محمّد، أبدأ النّبوة بك و أختمها به، و الآخر أخوه و ابن اخي أبيه اسمه عليّ أيّدت محمّدا به، و انصره على يده، و الأنوار الّتي حولهما أنوار ذرّية هذا النّبي من أخيه هذا يزوّجه ابنته تكون له زوجة يتّصل بها اوّل الخلق ايمانا به و تصديقا له، أجعلها سيّدة النّسوان و أفطمها و ذرّيتها من النّيران، تنقطع الأسباب و الأنساب يوم القيمة إلّا سببه و نسبه، فسجد آدم شكرا للّه أن جعل ذلك في ذرّيته فعوّضه اللّه عن ذلك السجود أن أسجد له ملائكته «1».

ثمّ إن آدم عليه السّلام لمّا تاب بالتوسّل بمحمّد و آله الطّيبين و تجديد العهد بولايتهم و الاستشفاع بأنوارهم فَتابَ اللّه عَلَيْهِ بقبول توبته و الرّجوع عليه بالاشفاق و الرّحمة و النّعمة، و يمكن أن

يكون المراد الرّجوع عليه بتوفيقه للتّوبة، و إلهامه لها أوّلا قبل توبته كما في قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «2» و منه قوله في الدّعاء:

«اللّهم تب عليّ حتّى لا أعصيك»، فإنّ التّوبة يتّصف بها العبد و الربّ، و للعبد توبة، و للربّ توبتان: يوفق العبد و يلهمه التّوبة أوّلا، ثمّ يتوب العبد و يرجع من البعد إلى

__________________________________________________

(1) البرهان: ج 1 ص 89 ح 16.

(2) التوبة: 118.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 349

القرب و من المعصية إلي الانقياد و الطاعة، ثمّ يقبل اللّه توبته، فتوبة العبد تتعدّى بإلى و إذا نسبت إليه سبحانه تعدّت بعلى لتضمينه معنى الإشفاق و العطف.

و إنّما رتّبه بالفاء لأنّه كالتّفصيل لما أجمله اوّلا، لتضمّن التلقّي لتوبته لما مرّ.

و اكتفى بذكر آدم في كلّ من التلقّي و التّوبة مع سبق التشريك في الزلّة للإيجاز و التغليب له في الأفعال كالاحكام و للتنبيه بالتشريك و التفكيك على كون ابتداء الزلة منهما و التّلقي منه.

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرجّاع على عباده بالتوفيق و الدّعاء إلى التوبة و قبول الرّحمة، أو بالصّفح و المغفرة مرّة بعد اخرى، او بقبولها في الذّنوب العظام، فيحتمل كلّ من المادّة و الهيئة وجهين و الحاصل أربعة و الأولى الحمل على الجميع.

الرَّحِيمُ المبالغ في إفاضة الرحمة المكتوبة الايمانيّة الّتي خصّ بها المؤمنين، و في الجمع بين الوصفين وعد للتائب بالإحسان مع الغفران.

تفسير الآية (38)

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً كرّره للتأكيد، أو لاختلاف ما هو المقصود بالخطاب، فانّ مساق الأوّل كون هبوطهم للزلّة و الثاني أنّ المقصود الابتلاء بالتكليف، أو لأنّ المقصود بالخطاب الأوّل هو آدم و حوّاء و ذرّيتهما تابعة، و في الثاني بالعكس، و لذا فرّع على الأوّل

حديث التلقّي و قبول التّوبة، و على الثّاني تقسيم النّاس إلى صنفين: ناج متبع لهداه و كافر تابع لهواه، و ليس من خطاب المعدوم من شي ء على فرض استحالته، و لو

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 350

باعتبار التغليب لسبق خلق الأرواح الّتي ركّب فيها العقل و الإدراك او غير ذلك ممّا مرّ في المقدّمات، و يؤيّده قول الإمام عليه السّلام في تفسير قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، يأتيكم و أولادكم من بعدكم منّي هدى يا آدم و يا إبليس «1».

أو لأنّهما لما أتيا بالزّلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط، و وقع في قلبهما أنّ الأمر بالهبوط لمّا كان بسبب الزّلة فبعد التوبة ينبغي أن لا يبقي الأمر بالهبوط فأعاده اللّه ليعلما انّه ما كان جزاء على ارتكاب الزّلة يزول بزوالها بل انّما هو تحقيق بالوعد المتقدّم من جعله خليفة في الأرض «2».

و هذا الوجه ضعيف، و إن قوّاه الرازي، أو لأنّ الهبوط الاول من الجنّة إلى السّماء و هذا الهبوط من السماء إلى الأرض «3».

و ردّ بانه قد جعل الاستقرار في الأرض و التّمتع فيها حالا من الأوّل و ان كانت حالا مقدّرة.

و فيه نظر لجواز كونه حالا باعتبار ما يؤول إليه حالهم بعد الهبوط، و إلّا فلا استقرار و لا تمتّع حال الهبوط بل بعده، أو لاختلاف الحالين فقد بيّن في الأوّل أنّ الإهباط كان في حال عداوة بعضهم لبعض، و في الثّاني انّه كان للابتلاء و التكليف كما يقال: اذهب سالما معافى اذهب مصاحبا، و ان كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين، و هو قريب من الثّاني، او لأنّه من تعقيب المطلق بالمقيّد حيث قيّد الثاني بالاجتماع، و اليه الإشارة بما في تفسير

الامام عليه السّلام حيث قال: كان أمر في الاول أن

__________________________________________________

(1) تفسير الامام عليه السّلام: ص 90 و عنه البحار ج 11 ص 191.

(2) تفسير الفخر الرازي: ج 3 ص 26.

(3) نقله الرازي عن الجباعي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 351

يهبطا «1» و في الثّاني أمرهم أن يهبطوا جميعا لا يتقدّم أحدهم الاخر، و الهبوط إنّما كان هبوط آدم و حوّاء من الجنّة، و هبوط الحيّة ايضا منها، فانّها كانت من أحسن دوابّها، و هبوط إبليس من حواليها فإنّه كان محرّما عليه دخول الجنّة «2».

و امّا ما يقال: من أنّ جميعا حال في اللفظ تأكيد في المعنى فكانّه قيل:

اهبطوا أنتم أجمعون، و لذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد كقولك: جاءوا جميعا.

ففيه أنّه كما يتعذّر كونه تأكيدا في اللّفظ فكذلك لا يتعيّن ذلك معنى، بل قضية الحاليّة بظاهرها اجتماعهم على الهبوط سلّمنا، لكنّه لا اقلّ من استفادة اجتماعهم بعده و هذا مع سبق العداوة الظّاهرة ممّا يصلح لتمهيد الابتلاء و الامتحان و لذا عدل عن التأكيد إلى الحالية أي اهبطوا مجتمعين.

فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «إمّا» أصله إن الشرطيّة زيدت عليها «ما» ليصحّ دخول نون التأكيد في الفعل، إيماء إلى رجحان جانب الوقوع بعد دلالة حرف الشرط على الشك، فاكّدوا الفعل بالنون و الأداة بما، و قد يقال: إنّ الأداة إذا أكّدت بما وجب تأكيد شرطها فلا ينحطّ المقصود عن رتبة الاداة، و بالجملة الأمر و النهي و الاستفهام تدخل فيها النّون و ان لم يكن معها ما، لاشتداد الحاجة إلى التّوكيد في الأوّلين، و الثالث في معنى أخبروني، و امّا الخبر فلا يدخله إلّا في القسم و ما أشبه القسم

في التوكيد لقولك زيد ليأتينّك و بجهد ما تبلغنّ، و قد يقال في المقام: إنّ ما

__________________________________________________

(1) في نسخة: أن يهبطوا.

(2) تفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام ص 90- 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 352

لتأكيد الفعل اوّله كما انّ النون تأكيد له اخره كنظيره في لام القسم و النون في نحو:

و اللّه لأقومنّ، و أمّا فتح ما قبل النون فقد يقال: إنّه لالتقاء سكون الياء و النّون الاولى، و الصحيح انّه للبناء و الّا لما حرّك على الفتح في الصحيح.

و المراد بالهدى البيان و الدّلالة بالعقل و الشرع، و لذا ورد انّ للّه على النّاس حجّتين حجّة ظاهرة و هم الأنبياء و الرسل و حجّة باطنة و هي العقول «1».

و عن الكاظم عليه السّلام في خبر هشام انّ اللّه عزّ و جلّ أكمل للنّاس الحجج بالعقول و أفضى إليهم بالبيان، و دلّهم على ربوبيّته بالأدلة فقال: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «2». «3» الآيتين.

و في تفسير فرات عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية: انّ الهدى هو عليّ بن ابي طالب عليه السّلام «4».

و المراد كونه عليه السّلام حجّة في عصره بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه وجه آخر إنّما أتى فيه بالحرف الدّال في أصله على الشكّ، لأنّ اقترانه بما الزائدة و التأكيد بالنون الثقيلة قد أخرجه عن معنى الشك رأسا فدلّ على تيقّن الوقوع و تحقّقه من دون تقيّد بزمان للشرط و لا للجزاء المترتّب عليه، بل قضيّة اطلاق الفعل من حيث الأزمان عدم خلوّ الزّمان عن الحجّة الّذي هو الهدى

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1 ص 137.

(2) الزمر: 18.

(3) البحار: ج 1 ص 132 ح 30.

(4) تفسير فرات الكوفي ص 58 ح 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 353

المنصوب منه لا منّا، و لذا أضافه إلى نفسه في موضعين من هذه الآية.

و امّا ما يقال: من أنّ الوجه في ذلك أنّ الإتيان محتمل في نفسه غير واجب عقلا، فهو مردود بما هو المقرّر في محلّه من عدم خلوّ العصر عن الحجّة، بل لا ريب في شمول الهدى للحجّة الباطنة الّتي هي العقول، بل ما ذكره مبنيّ على قواعد الاشاعرة المنكرين للتحسين و التقبيح العقليين النافين لعدله سبحانه عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.

و مثله في الضّعف ايضا ما قيل: من أنّ ذلك للإيذان بأنّ الإيمان باللّه و التوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل و إنزال الكتب، و انّه إن لم يبعث رسولا و لم ينزل كتابا كان الايمان به و توحيده واجبا لما ركب فيهم من العقول و نصب لهم من الأدلة و مكّنهم من النظر و الاستدلال.

بل و ما قيل أيضا: من أنّ فيه اشارة إلى وجه آخر غير ما ذكرناه و هو انّ إتيان الهدى بطريق الرسول و الكتاب ليس بواجب فالإيمان به و بتوحيده و صفاته و أفعاله واجب عليهم على كلّ حال سواء يأتيهم الكتاب و الرسول أو لم يأتهم، و ذلك لإفاضة نور العقل و نصب الأدلة و لو لم يكن طريق العقل كافيا لوجب عليه إرسال الرسل فلم يصحّ الإتيان بكلمة الشك، فلمّا أتى بها آذن انّه ليس بواجب فتعيّن الوجوب بطريق العقل.

فانّ الكلّ ضعيف لمخالفته للأصل المقرّر عندنا من وجوب الحجّة في كلّ عصر، و لظاهر الآية من حيث اقتران الشرط بحرفي التأكيد المخرجين. له عن الشك إلى رجحان الوقوع الموجب لتعيّنه في حقّه

سبحانه على ما قضت به

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 354

حكمته، و جرت عليه أفعاله من إرادة الأصلح و ترجيح الراجح على المرجوح و من هنا مع كون الخطاب شاملا لذّريّته عليه السّلام و لو باعتبار التغليب او غيره و ظهور الآيتين في تصنيف النّاس إلى صنفين مع التّعريض بهما على هذه الأمّة الّتي هي في آخر الأمم إشارة إلى ما استقرّ عليه المذهب من عدم خلوّ الزمان عن الحجّة بل قد ورد في اخبار كثيرة: «أن علم آدم لم يرفع بل قد ورثه حجّة بعد حجّة.

ففي «البصائر» عن الفضيل قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ العلم الّذي هبط مع آدم لم يرفع و انّ العلم ليتوارث و ما يموت منّا عالم حتّى يخلفه من اهله من يعلم علمه او ما شاء اللّه «1».

و عن الحارث بن المغيرة عنه عليه السّلام: انّ العلم الّذي نزل مع آدم لم يرفع، و ما مات عالم الّا و قد ورث عالم علمه، انّ الأرض لا تبقي بغير عالم «2».

و عن فضيل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كانت في عليّ عليه السّلام سنّة ألف نبيّ، و قال:

إنّ العلم الّذي نزل مع آدم لم يرفع، و ما مات عالم فذهب علمه، و انّ العلم ليتوارث و انّ الأرض لا تبقى بغير عالم «3».

و في «العلل» عنه عليه السّلام قال: و اللّه ما ترك اللّه الأرض منذ قبض اللّه آدم إلّا و فيها امام يهتدى به الى اللّه و هو حجّة اللّه على عباده «4».

و فيه و في الإكمال عن الصادق عليه السّلام قال: و اللّه ما ترك اللّه الأرض منذ قبض

__________________________________________________

(1) بصائر الدرجات:

ص 32 و عنه البحار ج 26 ص 169.

(2) البصائر: ص 32 و عنه البحار ج 26 ص 168.

(3) البصائر: ص 32 و عنه البحار ج 26 ص 169 ح 31.

(4) علل الشرائع: 76 و عنه البحار ج 23 ص 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 355

آدم إلّا و فيها إمام يهتدى به إلى اللّه عزّ و جلّ، و هو حجّة اللّه عزّ و جلّ على العباد، من تركه هلك، و من لزمه نجى حقّا على اللّه عزّ و جلّ «1».

ثمّ انّ العقول و ان استقلّت بإدراك بعض الحقائق كالتوحيد و غيره بل بإدراك بعض الاحكام او المصالح المقتضية لها كحسن الصدق النّافع و قبح الكذب الضّار، إلا أنّها قاصرة عن الإحاطة بتفاصيل الأحكام فمتابعتها بهذا الاعتبار لا توجب الهدى التّام الّذي يوجب متابعته نفي الخوف و الحزن رأسا، و مخالفته الكفر الموجب للخلود في النّار، و أمّا الكتب السّماويّة فانّها و ان وجد فيها ما هو مشتمل على جميع الحقائق و الاحكام كالقرآن إلّا انّه باعتبار بطونه الّتي لا يعلمها إلّا اللّه سبحانه أو من علّمه اللّه و لو بوسط.

بل نحن نرى النّاس مختلفين في فهم ظواهرها، و لذا ترى كلّ ذي شرعة أو بدعة يتشبّث بشي ء من ظواهرها في أصولهم و فروعهم، و كلّ فرقة من فرق أمّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله قد استدلّوا لمذاهبهم المختلفة المنحرفة عن طريق الحقّ بظواهر القرآن، فليس فيه ايضا بنفسه البيان الواضح و الهدى التّام بل إنّما يتحقّق ذلك في الأنبياء و الأوصياء المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين الّذين عندهم علم الكتاب، و هم فصل الخطاب، و العقل من حيث دلالته على

الحجّة، و كشفه عن صحّة دعواه فيه الهدى التّام، و كذلك الكتاب من حيث اقترانه ببيان الحجّة و تفسيره و تأويله فيه الهدى التّام، و الحجّة هو الكتاب النّاطق الّذي ينطق بالحقّ و يقضي بالقسط و يبطل تأويل المؤولين و يدحض انتحال المبطلين و هو الهدى التّام الّذي علّق عليه الوعد

__________________________________________________

(1) العلل: ص 76 و إكمال الدين ص 133.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 356

و الوعيد في الآيتين.

و انّما اضافه إلى نفسه للتّنبيه على وجوب كونه منصوبا من قبله سبحانه لاشتراطه بالعصمة الّتي ليس للنّاس سبيل إلى معرفتها إلّا من طريق الاعجاز أو النّص و لغير ذلك على ما قرّر في محلّه.

فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ «من» شرطيّة عند الأكثر، و يحتمل أن تكون موصولة، بل وجّهه أبو حيّان و غيره لقوله في قسيمه وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا حيث أتى به موصولا مع عدم دخول الفاء في خبره، و يؤيّده ضمائر الجمع الغائب، و الجملة شرطيّة كانت او خبريّة جواب للشرط المتقدّم.

و الاتّباع هو الاقتداء و الاحتذاء، و أصله من تبعت القوم إذا مشيت خلفهم، و المراد به في المقام الموافقة في الأفعال و الأقوال و الأحوال و العقائد و النيّات، فانّه هو الاتّباع التّام، و ان كان له عرض عريض كمّا و كيفا، و هو المعبّر عنه بالإيمان و التّصديق، و لذا قابله بالكفر و التكذيب.

و انّما كرّر لفظ الهدى لإظهار شأنه و فخامته سيّما مع إضافته إليه، تنبيها على قطع طمع الخائنين عن أن يكون لهم سبيل إلى نصب الحجّة، و توهّم كون الثّاني أعمّ من الأوّل بناء على شموله لما اقتضاه العقل، مضافا إلى ما

أتى به الرسل، و اختصاص الأوّل بالثّاني غير واضح بعد ظهور شمول الأوّل للأوّل أيضا، سيّما مع كونه نكرة في سياق الشرط او ما بمعناه.

و المراد بالخوف هو التألّم الحاصل من توقّع الوعيد، و نقيضه الأمن، كما أنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 357

نقيض الحزن السرور، و أصله غلظ الهمّ من الحزن و هو ما غلظ من الأرض، و الخوف إنّما يحصل من حلول المكروه المتوقّع، و الحزن عن فوات المحبوب الواقع، و امّا قوله تعالى: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ «1»، فقد أجاب عنه شيخنا البهائي قدّس سرّه في كشكوله بانّ المراد انّه يحزنني قصد ذهابكم به، قال: و بهذا يندفع احتراز ابن مالك على النّحاة بالآية الكريمة في قولهم: إنّ لام الابتداء تخلّص المضارع للحال.

أقول و الأولى أن يقال: إنّه ايضا بالنسبة إلى الواقع بعد تحقّق الذّهاب لاستناد الفعل إليه، فلا عبرة بحال التكلّم، و امّا اندفاع الاحتراز به بالنسبة إلى اللام فقد سبقه فيه غيره كابن هشام، و ستسمع في موضعه تمام الكلام، و ان كنّا قد لوّحنا إليه في المقام أيضا، فانّ تقدير الآية بعد التأويل بالمصدر انّه ليحزنني إذهابكم إيّاه، و من البيّن أنّ الإذهاب موجب للحزن في حاله، و إن كانا مستقبلين بالنّسبة إلى حال التكلّم، و بالجملة ففي المقام نفي عنهم خوف وقوع المكروه فضلا عن الخوف الواقع، و هو ابلغ بيان في نفي العذاب الروحاني و الجسماني و اثبات الثواب على الوجهين.

و قرئ (هديّ) كقصّي على لغة هذيل، حيث انّهم يقلبون ألف المقصورة إذا أضيف إلى ياء المتكلّم، ياء لمناسبتها كسرة المضاف و يدغمونها، و ذلك لأنّ شأن ياء الإضافة أن

يكسر ما قبلها، فجعل قلب الالف ياء بدل كسرها، إذ الالف لا تتحرّك، فهو مثل عليّ و لديّ، و قرأ يعقوب فلا خوف بفتح الفاء، على أنّ لا لنفي

__________________________________________________

(1) سورة يوسف: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 358

الجنس، و هذه قراءته في جميع القرآن، و الباقون بالرّفع و التنوين على إعمال لا عمل ليس.

و امّا ما يستدلّ به للأوّل من أنّ «لا» التبرئة اشدّ نفيا من «ليس» و ان قوله تعالى: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ «1» لا خلاف في نصبه، و إن كان ما بعده معطوفا عليه موضعه رفع، فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، سيّما فيما هو مبنيّ على التّوقيف.

و امّا ما يحكى عن الأعرج «2» من قراءة هداي بالألف و سكون الياء، فكأنّه نوى الوقف و إلّا فهو غلط.

تفسير الآية (39)

اشارة

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

قسيم للجملة المتقدّمة، صلة كانت او شرطا، و بها ينقسم كلّ من بلغته الدّعوة، و قامت عليه الحجّة إلى صنفين: متّبع مهتد آمن متنعّم بالنعيم الأبدي، و كافر مكذّب مخلّد في العذاب السرّمدي.

و تقديم الكفر على التكذيب من باب تقديم المسبّب على السّبب، أو من تقديم الملزوم على اللازم، و المراد من السّبب سببية في الحكم، و لو من جهة الكشف عن الموضوع، كما في دلالة بعض أعمال الجوارح كسجود الشمس و غيره

__________________________________________________

(1) يس: 43.

(2) هو عبد الرحمن بن هرمز ابو داود الأعرج المدني التابعي المقري مات بالاسكندريّة سنة (117)- غاية النهاية ج 1 ص 381.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 359

على الكفر.

و الظّرف إمّا متعلّق بالثّاني، و المراد كفرهم باللّه و تكذيبهم بآياته و أنّ

الفعلين متوجّهان إليه على جهة التنازع فيعمل أحدهما فيه و الآخر في ضميره، و موضع اسم الإشارة الرفع إمّا على أنّه مبتدأ خبره أصحاب النّار و هم فيها خبر بعد خبر على جهة الاستقلال، أو انّهما بمنزلة خبر واحد، و على الوجهين فهو بخبره خبر للموصولة، و إمّا على أنّه بدل من الموصولة أو عطف بيان لها و أصحاب النّار بيان له جرى مجرى الوصف، و جملة «هم فيها» هي الخبر، و لم تدخل الفاء هنا مع دخولها في مثل قوله: فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «1» لما قيل: من أنّ ما دخل فيه الفاء من خبر الّذي و أخواته مشبّه بالجزاء، و ما لم يكن فيه فاء فهو على أصل الخبر.

و قد مرّ اشتقاق (الآية) في المقدمات، و انّ المراد بها العلامة الظّاهرة و أنّها تطلق إطلاقا شائعا على الأنبياء و الحجج، و على طائفة من كلمات القرآن، و على المصنوعات من حيث دلالتها على الصّانع و صفاته الكماليّة و نعوته الجلاليّة، و على ما يدلّ على صدق الأنبياء من المعجزات الباهرات الصّادرة منهم و من أوصيائهم، بل الأوصياء أنفسهم من آيات اللّه سبحانه على صدق أنبيائه، و لذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: ما للّه أية أعظم منّي «2».

و في تفسير القمّي في غير هذا الموضع الآيات امير المؤمنين و الائمة عليهم السّلام، بل قد يستفاد ذلك ايضا من وضع الآيات موضع الهدى المفسّر به عليه السّلام، و لا تظننّ

__________________________________________________

(1) الحج: 57.

(2) بحار الأنوار ج 53 ص 54 ح 31 عن تفسير القمي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 360

انّهم عليهم السّلام حججه سبحانه بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه

و آله، مع أنّ الآية عامّة حاكمة على جميع ذرّية آدم، فانّ الإقرار بولايتهم مأخوذة على جميع الأمم في جميع الأعصار، بل متابعة حججه سبحانه في كلّ عصر و زمان إنّما هي من مقتضيات ولايتهم، حسبما قرّر في موضع آخر.

و لذا قال الامام عليه السّلام في تفسيره للآية: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدّالات على صدق محمّد على ما جاء به من اخبار القرون السالفة، و على ما ادّاه إلى عباد اللّه من ذكر تفضيله لعليّ و آله الطّيبين خير الفاضلين و الفاضلات بعد محمّد سيّد البريّات، أولئك الدّافعون لصدق محمّد في أنبائه، و المكذّبون له في نصب أوليائه عليّا سيّد الأوصياء و المنتجبين من ذرّيته الطّيبين الطّاهرين «1».

أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و الآية ناعية على أهل السنّة و غيرهم ممّن أنكر الحجج المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين قاضية عليهم بالكفر الصريح، و لذا قرنه بالتكذيب بهم بل قدّمه عليه لما مرّت الإشارة إليه.

بسط في المقام للتنبيه على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة و السّلام

اعلم: أنّ هذه القصّة و هي قصّة أبينا آدم عليه السّلام و ما ضاهاها من قصص الأنبياء و الأوصياء عليهم الصلاة و السّلام، ممّا قد استدلّت بها الحشوية «2» و غيرهم ممّن لا

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 89- 90 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) الحشويّة: طائفة تمسكوا بالظواهر و ذهبوا الى التجسّم، و غيره سمّوا بالحشوية لأنهم كانوا في حلقة الحسن البصري المتوفى (110)، فوجدهم يتكلمون كلاما فقال: ردّوا هؤلاء الى حشاء الحلقه. و قيل غير هذا الوجه أيضا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 361

خلاق لهم في الدّين و لا ينبغي لهم عدّهم في زمرة المسلمين على تخطئة الأنبياء و تفسيقهم و تجهيلهم و تضليلهم،

بل يعزى إلى بعضهم جواز الكفر عليهم.

و جملة الكلام أنّ الاختلاف الواقع في باب العصمة يرجع إلى أربعة اقسام:

أحدها: ما يقع في باب العقائد، ثانيها: ما يقع في التبليغ، ثالثها: ما يقع في الفتيا و الاحكام، رابعها: ما يقع في أفعالهم و سيرهم عليهم السّلام أمّا الكفر و الضّلال في الاعتقاد فقد أجمع المسلمون على عصمتهم عنهما قبل النّبوة و بعدها، و قد ادّعى الإجماع عليه غير واحد من الفريقين، نعم قد حكي في الملل و النحل و غيره من الأزارقة و هم أصحاب أبي راشد نافع «1» بن الأزرق من الخوارج انّهم جوّزوا عليهم الذّنب، و كلّ ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر عليهم، بل قد يحكى عنهم: أنّهم قالوا:

يجوز أن يبعث اللّه نبيّا علم أنّه يكفر بعد نبوّته، إلّا انّه لا ينبغي عدّ قول الخوارج في عداد أقوال المسلمين و لا عدّهم في زمرة أهل الإسلام، بل و كذا من قال بمقالهم كابن «2» فورك من الأشاعرة حيث جوّز بعثة من كان كافرا، و امّا ما حكاه شارح التجريد و الفضل بن روزبهان عن الشيعة الإماميّة عن انّهم جوّزوا للأنبياء اظهار الكفر تقيّة و احترازا عن إلقاء النفس في التهلكة فهو ناش عن الجهل بمذهبهم، او

__________________________________________________

(1) نافع بن الأزرق الحنفي من بني حنيف رئيس الفرقة الازارقة، ادّعى الخلافة في البصرة و الأهواز و لقّب نفسه بأمير المؤمنين، و هجم على المدينة و أغار أموال الناس و قتل كثيرا حتى قتل قرب الأهواز في سنة (65) ه بواسطة جيش ابن الزبير.

(2) ابن فورك: ابو بكر محمد بن الحسن بن فورك الاشعري الأصبهاني له مصنفات كثيره، مات مسموما بأمر السلطان محمود سنة (404)

ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 362

العناد لهم و الافتراء عليهم كيف و من المعلوم المشتهر بين الفريقين انّ مذهب الإماميّة هو العصمة المطلقة من الكبائر عمدا و سهوا قبل النّبوّة و بعدها و انّه لا يجوز على الأنبياء شي ء من التقيّة، و إن جاز لغيرهم في محلّها، و هذا المذهب ممّا يعرفه منهم الموافق و المخالف، امّا جواز التقيّة عليهم و لو في اظهار الكفر فلم يقل به أحد منهم، و لم ينقل عن واحد منهم، و هذه أصولهم و مصنّفاتهم يدّعون فيها العصمة المطلقة مطلقا، و ليس فيها أثر ممّا افتراه عليهم قوم آخرون حكاية بل صريح كلام مخالفيهم نسبة القول بثبوت العصمة المطلقة إليهم.

قال العضدي في «شرح المختصر»: الأكثر من المحقّقين على أنّه لا يمتنع عقلا على الأنبياء قبل الرسالة ذنب من كبيرة أو صغيرة، و خالفت الّروافض في ذلك فمنعوا جواز الذّنب مطلقا.

و عن البدخشي في «شرح منهاج الأصول»: الأكثر من المحقّقين على أنّه لا يمتنع عقلا قبل النبوّة ذنب من كبيرة أو صغيرة خلافا للروافض مطلقا، و للمعتزلة في الكبائر و لا خلاف لاحد في امتناع الكفر عليهم إلا الفضلية من الخوارج بناء على أصلهم من أنّ كلّ معصية كفر و قد قال اللّه تعالى: وَ عَصى آدَمُ «1»، و جوّز البعض عليهم عند خوف تلف المهجة إظهار الكفر إلى آخر ما ذكره.

و ظاهره انّ من جوّز على الأنبياء الكفر خوفا جماعة غير الشّيعة لأنّه ذكر أن الشيعة مانعون مطلقا، و بالجملة الإماميّة معروفون بإثبات العصمة المطلقة، كما يظهر من كتب الفريقين المصنّفة في اصول الكلام و اصول الفقه، و قد تظافرت في

__________________________________________________

(1) طه: 121.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 5، ص: 363

كلامهم حكاية الإجماع على ذلك، و هذا المذهب مأخوذ من ائمّتهم عليهم السّلام، و من نقل منهم خلافه فهو مفتر مباهت، مع أنّ ذلك القول فاسد في نفسه، فانّه لو جاز إظهار الكفر تقيّة لكان أولى الأوقات به وقت ظهور الدّعوة لأنّ النّاس في ذلك الوقت متّفقون على التكذيب و الإنكار، فكان لا يجوز اظهار الدّعوة لأحد من الأنبياء فيؤدّي إلى إخفاء الدّين بالكليّة، و لعلّه من حكى ذلك عنهم رأى في كلامهم ما يدلّ على جواز التّقيّة للأمّة و للأوصياء في ايّام خلافتهم مع اشتراكهم للأنبياء في العصمة و القدوة، فظنّوا انّهم يجوّزونها للأنبياء أيضا، و هو كما ترى.

هذا كلّه في اعتقاد الكفر و الشرك و ما بمنزلتهما، و امّا الاعتقاد الخطأ الّذي لا يبلغ الكفر كاعتقاد عدم بقاء الأعراض فمذهب الإماميّة عدم جوازه ايضا عليهم لتنزّههم و براءتهم عن الخطأ في الاعتقاد و لو فيما لا يتعلّق بالأمور الشرعيّة و لا يدخل تحت التبليغ لما سيأتي، و أمّا الجمهور فقد حكى العلّامة أعلى اللّه مقامه في «نهاية الأصول» عنهم فيه قولين: أحدهما المنع لكونه منفّرا و الآخر الجواز هذا هو الكلام في القسم الأوّل.

و امّا القسم الثّاني: و هو ما يتعلّق بالتبليغ فقد اتّفقت الأمّة بل جميع أرباب الشرائع و الملل على وجوب عصمتهم عن الكذب و الافتراء و التحريف فيما يتعلّق بالتّبليغ عمدا و سهوا، نعم قد يحكى عن القاضي «1» أبي بكر انّه جوّز من ذلك ما كان على سبيل النّسيان و فلتات اللّسان.

__________________________________________________

(1) هو القاضي ابو بكر الباقلاني محمد بن الطيّب البصري البغدادي الاشعري كان مشهورا بالمناظرة و سرعة الجواب، توفى ببغداد سنة (403) ه الكنى و

الألقاب ج 2 ص 63.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 364

و أمّا القسم الثالث: و هو ما يتعلّق بالفتيا فاجمعوا على امتناع الخطأ فيه عمدا و سهوا و الّا لارتفع الوثوق عن أقوالهم، و ربما يحكى عن بعض العامّة جوازه على جهة السّهو لا العمد.

و امّا القسم الرابع: و هو ما يتعلّق بأفعالهم فاختلفوا فيه على ثمانية أقوال:

أحدها مذهب أصحابنا الإماميّة و هو انّه لا يصدر عنهم الذّنب لا صغيرة و لا كبيرة و لا عمدا و لا نسيانا و لا لخطأ في التأويل و لا للإسهاء من اللّه سبحانه و لا لغير ذلك من الأسباب و لم يخالف فيه إلّا الصدوق، و شيخه محمّد «1» بن الحسن بن الوليد رحمهما اللّه فانّهما جوّزا الإسهاء لا السهو الّذي يكون من الشيطان، و كذا القول في الأئمّة الطّاهرين، بل قال الصدوق في «الفقيه»: إنّ الغلاة و المفوضّة لعنهم اللّه ينكرون سهو النّبي عليه و آله في الصلاة و يقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة جاز أن يسهو في التبليغ لأنّ الصلاة عليه فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة «2».

ثمّ فرّق بينهما بما لا يخفى ضعفه إلى أن قال: و كان شيخنا محمد بن الحسن ابن أحمد بن الوليد رحمه اللّه يقول أوّل درجة الغلوّ نفي السّهو عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله «3».

أقول و سيمرّ عليك في تفسير بعض الآيات المتعلّقة بذلك حكاية تمام ما ذكره في المقام مع إيراد ما يرد عليه و على شيخه من وجوه النقض و الإبرام.

ثانيها: ما ذهب إليه اكثر المعتزلة و هو انّه لا يجوز عليهم الكبائر و يجوز

__________________________________________________

(1) ابن الوليد: محمد بن الحسن بن احمد بن

الوليد شيخ القميين و وجههم ثقة ثقة عين مسكون إليه، كتب في التفسير و غيره توفي سنة (343) ه- الكنى و الألقاب ج 1 ص 446.

(2) من لا يحضره الفقيه ص 27.

(3) من لا يحضره الفقيه ص 98.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 365

عليهم الصغائر إلّا الصغائر الخسيسة المنفّرة كسرقة حبّة او لقمة و كلّ ما ينسب فاعله إلى الدناءة و الضعة كالكذب و التّطفيف و نحوهما ممّا ينفّر، و امّا غيره من الصغائر فقد وقعت منهم عمدا و خطأ و سهوا.

ثالثها: انّه يجوز وقوع الكبائر منهم عقلا و ان لم تقع منهم سمعا و هو المحكي عن القاضي «1».

رابعها: تجويز الكفر عليهم فضلا عن الكبائر عقلا و ان لم تقع و هو المحكي عن الغزالي «2» في كتابه «المنخول» في الأصول حيث قال: و المختار ما ذكره القاضي و هو انّه لا يجب عقلا عصمتهم إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل و لا بنظره و ليس هو مناقضا لمدلول المعجزة، فانّ مدلوله صدق اللهجة فيما يخبر عن اللّه تعالى لا عمدا و لا سهوا، و معنى التنفير باطل فانا نجوّز ان ينبئ اللّه تعالى كافرا يؤيّده بالمعجزة انتهى قوله لا عمدا و لا سهوا أي انّ ما سوى الاخبار عن اللّه تعالى يجوز منه كلّ شي ء من الذّنوب و المعاصي عهدا و سهوا.

خامسها: انّه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة و لا كبيرة على وجه العمد لكن يجوز على جهة التأويل أو السهو، و هو المحكي عن أبي علي الجبائي «3» و مراده بالتأويل

__________________________________________________

(1) هو القاضي ابو بكر الباقلاني المتقدم ذكره.

(2) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد

بن أحمد الملقّب حجة الإسلام الطوسي الفقيه الشافعي و له مصنفات كثيرة في التصوف و الأخلاق و غيرهما، توفي في 14 ج 2 سنة (505) ه- الكنى و الألقاب ج 2 ص 494.

(3) ابو علي محمد بن عبد الوهّاب بن سلام المعتزلي، كان من رؤوس المعتزلة توفي سنة (303) ه- الكنى و الألقاب ج 2 ص 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 366

ما لم يرجع إلى الغلط و الاشتباه مثل ما يعزى إليه من انّ آدم كان منهيّا عن جنس الشجرة فتأوّل و ظنّ انّ النّهي متعلّق بشجرة بعينها، و لذا اعترض عليه علم الهدى «1» بانّه نزّهه عن معصية، و أضاف إليه معصيتين لأنّه مخطئ على مذهبه في ترك النظر في متعلّق النّهي و في التّناول من الشجرة.

سادسها: انّه لا يقع ذلك منهم عمدا و لا من جهة التأويل لكن على سبيل السهو، و هم مأخوذون بما يقع منهم على وجه السّهو، و ان كان ذلك موضوعا عن امّتهم لقوّة معرفتهم و علوّ رتبتهم و كثرة دلائلهم و انّهم يقدرون من التّحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم و هو قول النّظام و جعفر بن مبشر و من تبعهما.

سابعها: انّه لم يقع منهم ذنب كبير و لا صغير عمدا و امّا سهوا فقد يقع لكن بشرط أن يتذكروه في الحال و يعرفوا غيرهم انّه سهو.

ثامنها: انّهم كغيرهم من النّاس يجوز عليهم الكبائر و الصغائر عمدا و سهوا و خطأ و هو قول الحشويّة و كثير من أصحاب الحديث من اهل السنّة.

ثمّ انّهم قد اختلفوا في وقت العصمة على أقوال ثلاثة: الأول: انّه من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا اللّه سبحانه و هو مذهب

أصحابنا الاماميّة.

الثّاني: انّه من حين بلوغهم و لا يجوز عليهم الكفر و الكبيرة قبل النّبوة و هو مذهب كثير من المعتزلة.

الثّالث: انّه وقت النّبوة و امّا قبله فيجوز صدور المعصية عنهم، و هو قول اكثر

__________________________________________________

(1) هو سيّد علماء الأمّة، و محيى آثار الأئمّة ذو المجدين ابو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن الامام موسى الكاظم عليه السّلام و له سنة (355) ه، و توفّي لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة (436)- الكنى و الألقاب ج 2 ص 483.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 367

الأشاعرة و منهم الّرازي، و به قال أبو هذيل و ابو علي الجبائي من المعتزلة.

هذا مجمل الكلام في الأقوال و قد سمعت أنّ مذهب الاماميّة كافة هو القول بعصمة النّبي و الامام تمام العمر فلنشر إلى معنى العصمة و الدّليل على إثباتها و دفع حجج منكريها في مباحث:

الأوّل: في معنى العصمة و هي في اللّغة المنع، و منه قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» أي يمنعك و قوله: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ «2» قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «3»، و وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ «4» أي امتنعوا به، و المراد بها عند العدليّة هو اللّطف المانع للمكلّف من ترك الواجبات و فعل المحرّمات يفعله اللّه تعالى به غير سالب للقدرة على خلاف مقتضى اللّطف، و الّا فمع انتفاء القدرة ينتفي التكليف، فلا يستحقّ مدحا و لا ثوابا، و هذا هو الّذي يقتضيه الأصول المقرّرة عند العدليّة على ما هو المذكور في الكتب الكلاميّة.

و إليه يرجع ما قيل ايضا: من انّها ملكة ربانيّة تمنع من فعل المعصية و

الميل إليها مع القدرة عليها.

و ما استقرّ به العلّامة أعلى اللّه مقامه في «أنوار الملكوت» حاكيا له عن بعض العامّة: من انّها عبارة عن لطف يفعله اللّه بالمكلّف لا يكون معه داع إلى المعصية و إلى ترك الطاعة مع قدرته عليهما.

__________________________________________________

(1) المائدة: 67.

(2) هود: 43.

(3) هود: 43.

(4) آل عمران: 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 368

و لعلّه إليه يرجع ايضا ما هو المحكيّ عن الحكماء في تعريفها من انّها ملكة تمنع الفجور ناشئة من العلم بمثالب المعاصي و مناقب الطّاعات و تتأكّد في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامر الدّاعية إلى ما ينبغي و النواهي الزاجرة عمّا لا ينبغي.

و ربما يزاد فيه بعد قوله: تمنع الفجور منعا غير سالب للقدرة، بل قد يورد عليه بانّ قولهم ناشئة من العلم ليس بشي ء لأنّ العلم لا يثمر تلك الملكة إلّا أن يراد به العلم الحقيقي و هو المقترن بالعمل بحيث لا يتخلّف عنه في حال، فحينئذ يكون صورة للعصمة، و مادّتها طلب اللّه سبحانه من المكلّف و هدايته، و روحها ذلك اللّطف.

و على هذا يكون هذا التعريف مع اعتبار القيد أقرب لاشتماله على جنس القريب، إلّا انّه لا يخفى أنّ أمثال هذه التعاريف إنّما هو الكشف عن نوع المعنى، و الإشارة إلى ما ينتقل منه إليه، و ان لم يشتمل على الاجزاء الحقيقيّة من الجنس و الفصول المميّزة، بل و لم يسلم طردا و عكسا على حدّ سائر التّعاريف العرفيّة و البيانات اللّغويّة، بل و كثير من البيانات الشرعيّة أيضا.

مثل ما رواه في «المعاني» بالإسناد عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن الحسين عليهم السّلام قال: الامام منّا لا يكون

إلّا معصوما و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها فلذلك لا يكون إلّا منصوصا فقيل له يا ابن رسول اللّه فما معنى المعصوم؟ فقال عليه السّلام: هو المعتصم بحبل اللّه، و حبل اللّه هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة، و الامام يهدي إلى القرآن، و القرآن يهدي إلى الامام، و ذلك قول اللّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 369

عزّ و جل: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1». «2» و فيه بالإسناد عن الحسين الأشقر قال: قلت لهشام بن الحكم ما معنى قولكم: إنّ الامام لا يكون إلّا معصوما؟ قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك فقال عليه السّلام: المعصوم هو الممتنع باللّه من جميع محارم اللّه قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3». «4» و في «العلل» و «المعاني» و «الأمالي» بالإسناد عن ابن أبي عمير قال: ما سمعت و لا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي ايّاه شيئا أحسن من هذا الكلام في عصمة الامام عليه السّلام فانّي سألته يوما عن الإمام أهو معصوم؟ قال: نعم، قلت له: فما صفة العصمة فيه؟ و بأيّ شي ء تعرف؟ قال: إنّ جميع الذّنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص و الحسد و الغضب و الشهوة، فهذه منتفية عنه.

لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدّنيا و هي تحت خاتمه، لأنّه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص؟

و لا يجوز أن يكون حسودا لأنّ الإنسان إنّما يحسد من هو فوقه و ليس فوقه أحد فكيف يحسد من هو دونه.

و لا يجوز أن يغضب لشي ء من أمور الدنيا إلّا أن يكون غضبه للّه عزّ و

جلّ فانّ اللّه عزّ و جلّ قد فرض عليه إقامة الحدود، و ان لا تأخذه في اللّه لومة لائم، و لا رأفة في دينه

__________________________________________________

(1) الإسراء: 9.

(2) بحار الأنوار ج 25 ص 194 عن المعاني ص 44.

(3) آل عمران: 101.

(4) البحار ج 25 ص 194 ص 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 370

حتّى يقيم حدود اللّه عزّ و جل.

و لا يجوز أن يتبع الشهوات و يؤثر الدّنيا على الآخرة لأنّ اللّه عزّ و جل حبّب إليه الآخرة كما حبّب إلينا الدّنيا فهو ينظر إلى الآخرة كما ينظر إلى الدّنيا فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح و طعاما طيّبا لطعام مرّ و ثوبا لطيفا لثوب خشن، و نعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟ «1» ففي هذه الاخبار الإشارات إلى ما مرّ من معنى العصمة امّا الخبر الأوّل فلاشتماله على الاعتصام بحبل اللّه الّذي هو القرآن، و قضيّة الاعتصام به موافقة أفعاله و أقواله و أحواله و خيالاته و إرادته لحكم القرآن المشتمل بظهوره و بطونه لكلّ شي ء، إذ فيه تفصيل كلّ شي ء.

و امّا الثّاني: فلانّ الامتناع باللّه هو الالتجاء إليه بجميع مراتب الوجود، و في كلّ حال من الأحوال، و قضيّة ذلك أن لا يكون للشيطان عليه سلطان، فلا يفوته شي ء من الخيرات، و لا ترهقه قترة السّيئات.

و امّا الثالث: فلاشتماله على أصول المعاصي و شعبها، و لميّة تنزّهه عن اقتراف شي ء منها، لأنّه ببصيرته النافذة يرى الدّنيا و الآخرة بحقيقتهما، و يرى كلّا من الطّاعات و المعاصي على ما هي عليه في ذاتها، و لذا لا يختار المعصية على الطّاعة، و لا البعد على القرب و لا يستبدلون الّذي

هو ادنى بالّذي هو خير، كما أشير إليه في ذيل الخبر، مع ما فيه من الإشارة إلى بقاء القدرة و لميّة حسن الاختيار من دون إلجاء و اضطرار.

__________________________________________________

(1) الخصال ص 101 و 102 و عنه البحار ج 25 ص 192.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 371

و فيه ابطال لمذهب الأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنّ المعصوم هو الّذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي بان يكون مختصّا بكيفيّة بدنيّة او قائمة ببدنه او نفسانيه او قائمة بنفسه يقتضي امتناع الاقدام على المعصية، أو انه الّذي يكون قادرا على الطّاعة لا غير، أو يكون غير قادر على المعصية.

و هذه الأقوال الثلاثة على اختلافها في الجملة مشتركة في نفي القدرة حكاها عنهم في «أنوار الملكوت» و الكلّ مخالف لأصول المذهب كما لا يخفى، بل قد سمعت أنّ الاماميّة قد اعتبروا في تحقّق العصمة مضافا إلى ترك المعاصي مطلقا عن اختيار و قدرة نفي السّهو و الغفلة ايضا.

و لذا كان الأولى في تعريفها أن يقال: إنّها ملكة ربانيّة تنبعث على ترك المعاصي مع بقاء القدرة و على نفي الخطأ و الزّلة حتّى السهو و الغفلة، و لذا ورد في أخبار كثيرة أنّ الإمام لا يسهو «1» و لا يغفل معلّلا بكونه معصوما على ما يأتي تمام الكلام فيه في تفسير قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «2»، و قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ «3».

و في الزيارة الجامعة: عصمكم اللّه من الّزلل و آمنكم من الفتن، و طهّركم من الدّنس، و أذهب عنكم الرّجس «4».

و في الّزيارة المرويّة في مزار البحار عن الشيخ المفيد، و ابن طاوس،

__________________________________________________

(1) البحار ج 93 ص 64 و ج 25 ص 164.

(2) البقرة: 124.

(3) الأحزاب: 33.

(4) بحار الأنوار ج 101 ص 371.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 372

و الشيخ محمّد بن المشهدي في الثّناء على أهل البيت و فيها: «انّ لكم القلوب الّتي تولّى اللّه رياضتها بالخوف و الّرجاء، و جعلها أوعية للشكر و الثّناء و آمنها من عوارض الغفلة، و صفّاها من شواغل الفترة، الزيارة «1».

ثمّ انّ السّبب في تحقّق العصمة لأهلها ما قيل من أنّ اللّه تعالى خلق الأشياء، بفعله على حسب قوابلها لفعله، بمعنى أنّه أحدث موادّها لا من شي ء، و صوّرها كما قبلت، فمن لطفت مادّته و رقّت لشدّة نوريتها و قربها من المبدأ الفيّاض الّذي هو مشيّة اللّه و فعله، تلاشت انّيتها و ضعفت بحيث لا تكاد تنافي هيئة فعله، فلا تبدو عنها هيئة تخالف هيئة فعله، فلا يقع لها متعلّق اقتضاء غير ما اقتضته هيئة مشيّة، فلا يريد ذلك المخلوق غير ما يريد خالقه كما قال تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ* «2»، و هو معنى قول عليّ عليه السّلام: «فجعلهم ألسن إرادته» «3» يعني أن ارادته تعالى تنطق بهم، فقولهم قوله تعالى، و فعلهم فعله عزّ و جلّ، و هو معنى قولهم عليهم السّلام: نحن محالّ مشيّة اللّه «4».

و في زيارة الحجّة عجّل اللّه فرجه الّتي رواها أبو جعفر محمّد بن عثمان العمري: مجاهدتك في اللّه ذات مشيّة اللّه، و مقارعتك في اللّه ذات انتقام اللّه، و صبرك في اللّه ذو أناة اللّه، و شكرك للّه ذو مزيد اللّه و رحمته، إلى أن قال: و القضاء؟؟؟ ما

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 102 ص 164.

(2) سورة الإنسان: 30.

(3) بحار الأنوار ج 97 ص 114.

(4) لم اظفر على مصدره و لكن بمضمونه رواية اخرى في البحار ج 25 ص 337 و هي: «قلوبنا أوعية لمشيّة اللّه ...»

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 373

استأثرت به مشيّتكم، و الممحوّ ما لا استأثرت به سنّتكم به «1».

فكان بعناية اللّه تعالى و لطفه عن قابليّته سابقا لكلّ من لم يكن كذلك، و كانت فطرته على هيئة فعله تعالى و محبّته، فحين توجّه إليه أمر ربّه كان ميل فطرته و دواعي صورته الغيبيّة مطابقا لمحبّة اللّه و ارادته و امره، مع دوام الرياضة و التربية حقيقة ما هو اهله بالتّوفيق و التّسديد و عدم التّخلية مع مطابقة تلك الفطرة لفعل اللّه و محبّته و ارادته.

و امّا عدم غفلته و سهوه و نسيانه فلدوام تيقظه و تنبّهه و توقّد نورية قلبه و دوام توجّهه إلى ربّه، و سلامة قلبه عن استيلاء حزب الشياطين و وساوسهم و نزعاتهم، و ذلك لما قرّر في محلّه من أنّ سبب الغفلة و النّسيان هو البعد عن ساحة القرب الموجب لاستيلاء الشيطان، و لذا قال مولانا الحسن المجتبى عليه السّلام في جواب من سأله عن جملة من المسائل على ما رواه في «العلل» و «العيون» إلى أن قال: و أمّا ما ذكرت من أمر الذكر و النّسيان فإنّ قلب الرّجل في حقّ و على الحق طبق فإن صلّى الرجل عند ذلك على محمّد و آل محمّد صلاة تامّة انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحقّ فأضاء القلب، و ذكر الرّجل ما كان نسي، و إن هو لم يصلّ على محمّد و آل محمّد، أو نقص من الصلاة عليهم انطبق ذلك الطبق على ذلك الحقّ فأظلم القلب و نسي الّرجل ما كان

ذكره. «2» الخبر.

فانّ الصّلوة مشتقّة من الصّلة و الوصل و الاتّصال، فإذا اتّصل العبد بالأنوار

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 94 ص 39.

(2) بحار الأنوار ج 36 ص 425- عن كمال الدين و العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 374

القادسيّة الالهيّة، و ارتفع عن وجه قلبه الحجب الظّلمانية أشرقت تلك الأنوار على مرآة قلبه الصّقيلة و انتقش فيها صور الأشياء على ما هي عليها من دون أن يقربه سهو أو نسيان أو غفلة، و هذا هو المقصود بالصّلوة التّامّة عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله و الّا فمن البيّن أنّ مجرّد اجراء تلك اللفظة على اللّسان مع غفلة القلوب و احتجابها بالحجب الظلمانيّة عن الاستضاءة بالأنوار القدسيّة ليست صلاة تامّة.

الثّاني: في إقامة الحجّة على عصمة الأنبياء و أوصيائهم عليهم الصّلوة و السّلام، و العمدة في ذلك إجماع أصحابنا الإماميّة المعلوم لنا تحقيقا و نقلا مستفيضا بل الحقّ على ما صرّح به غير واحد من الأصحاب انّه صار من ضروريّات مذهب الاماميّة، بحيث يعرفه منهم كلّ من دخل في هذا المذهب، بل يعرفه منهم المخالفون لهم ايضا حيث نسبوا في كتبهم الكلاميّة و غيرها إلى الاماميّة القول بلزوم العصمة من جميع الذّنوب صغائرها و كبائرها و من السهو و النسيان و الخطأ من أوّل العمر إلى آخره، قبل النّبوة و بعدها، و لذا رمت الاماميّة قول الصّدوق و شيخه ابن الوليد في جواز السّهو او الإسهاء عليهم بقوس واحدة بل تبرّأوا من هذا القول و هجروه و نسبوه إلى الشّذوذ و الوهن النّاشي عن الاختلاط بالقميين الّذين يبالغون في نفي الغلوّ و الارتفاع في حقّ الحجج عليهم السّلام، حتّى أنّهم إذا رأوا واحدا من

الّرواة يروون بعض مناقب الأئمّة و فضائلهم و غرائب معجزاتهم هجروه و تركوا حديثه و نسبوه إلى الغلوّ و الارتفاع، و هذا هو السبب الأقوى في تضعيف ابن الغضائري كثيرا من الثقات بل ربما يسري الوهم إلى غيره، و لذا ضعّفوا محمّد بن سنان، و المعلّى بن خنيس، و المفضّل بن عمر الجعفي، و نصر بن الصباح،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 375

و غيرهم من المشايخ الثقات الّذين كانوا من أبواب الأئمّة عليهم السّلام.

و بالجملة لا ريب في قيام الضرورة من المذهب في هذه الأعصار على عصمة الحجج كلّها من الأنبياء و الأوصياء و هي الحجّة القطعيّة، مضافا إلى الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدّالة على ذلك حسبما تسمع شطرا منها في تفسير الآيات الآتية المتعلّقة بعصمة الأنبياء و الحجج.

نعم قد تصدّى جملة من أصحابنا شكر اللّه مساعيهم لإثبات ذلك بإقامة الحجّة عليه من طريق العقل، فلا بأس بالتّعرض لجملة من حججهم، و ان كان في بعضها بعض القصور عن إفادة تمام المطلوب، إلّا أنّه لا بأس به بعد ما سمعت أنّ عمدة الدّليل هو الضرورة و الإجماع، فمنها دليل التنفير على ما أشار اليه غير واحد من الأصحاب.

قال السيّد المرتضى رضي اللّه عنه في كتاب «تنزيه الأنبياء»: اعلم أنّ جميع ما ننزّه الأنبياء عليهم السّلام عنه و نمنع من وقوعه منهم يستند إلى دلالة العلم المعجز إمّا بنفسه او بواسطة، و ذلك أنّ العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدّعي النّبوة و الرّسالة و جاريا مجرى قوله تعالى له صدقت في انك رسولي و مؤدّ عني، فلا بدّ أن يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على اللّه تعالى فيما يؤدّيه، لأنّه تعالى لا يجوز

أن يصدّق الكذّاب، لأنّ تصديق الكذّاب قبيح كما أنّ الكذب قبيح، و أمّا الكذب في غير ما يؤدّيه و سائر الكبائر فانّما دلّ المعجز على نفيها من حيث كان داّلا على وجوب إتباع الرّسول و تصديقه فيما يؤدّيه و قبوله منه، لأنّ الغرض في بعثة الأنبياء و تصديقهم بالأعلام المعجزة هو أن يمتثل ما يأتون به، فما قدح في الامتثال

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 376

و القبول و اثّر فيهما يجب أن يمنع المعجز منه، فلهذا قلنا: انّه يدلّ على نفي الكذب و الكبائر عنهم في غير ما يؤدّونه بواسطة، و في الأوّل يدلّ بنفسه، و أمّا إنّ تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول و الامتثال فلأنّه لا شبهة في أنّ من نجوّز عليه كبائر المعاصي و لا نأمن منه الإقدام على الذّنوب لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله و استماع وعظه سكونها إلى من لا نجوّز عليه شيئا من ذلك، و هذا هو معنى قولنا: انّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول، و المرجع فيما ينفرّ و ما لا ينفرّ إلى العادة و اعتبار ما يقتضيه، و ليس ذلك ممّا يستخرج بالأدلّة و المقاييس، و من رجع إلى العادة علم ما ذكرناه، و انّه من أقوى ما ينفرّ عن قبول القول و ان حظّ الكبائر في هذا الباب ان لم يزد عن حظّ السخف «1» و المجون «2» و الخلاعة «3» لم ينقص منه.

فان قيل: أليس قد جوّز كثير من النّاس على الأنبياء الكبائر، مع انّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم و العمل بما شرّعوه من الشرائع، و هذا ينقض قولكم: إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا هذا سؤال من لم يفهم ما

أوردناه، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق و أن لا يقع امتثال الأمر جملة، و انّما أردنا ما فسّرناه من أن سكون النفس إلى قبول قول من يجوّز ذلك عليه لا يكون على حدّ سكونها إلى من لا نجوّز ذلك عليه، و إنّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول، و قد يقرب من الشي ء ما لا يحصل الشي ء عنده، كما يبعد عنه ما

__________________________________________________

(1) السخف: رقّة العقل و نقصانه.

(2) المجون: المزاح و قلة الحياء و صلابة الوجه.

(3) الخلاعة: الانقياد للهوى و التهتك و الاستخفاف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 377

لا يرتفع عنده، أ لا ترى أن عبوس الدّاعي للناس إلى طعامه و تضّجره و تبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته و تناول طعامه، و قد يقع مع ما ذكرناه الحضور و التناول و لا يخرجه من أن يكون منفّرا، و كذلك طلاقة وجهه و استبشاره و تبسّمه يقرّب من حضور دعوته و تناول طعامه، و قد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه و لا يخرجه من أن يكون مقرّبا، فدلّ على أنّ المعتبر في باب المنفّر و المقرّب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفّر عنه او ارتفاعه.

فان قيل: فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النّبوّة فمن أين انّها لا تقع منهم قبل النبوّة و قد زال حكمها بالنبوّة المسقطة للعقاب و الذّم و لم يبق وجه يقتضي التنفير؟

قلنا الطريقة في الأمرين واحدة لأنّا نعلم أن من يجوّز عليه الكفر و الكبائر في حال من الأحوال و ان تاب منه و خرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى

قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا نجوّز ذلك عليه في حال من الأحوال و على وجه من الوجوه، و لهذا لا يكون حال الواعظ لنا الدّاعي إلى اللّه تعالى و نحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذّنوب و ان كان قد فارق جميع ذلك و تاب منه عندنا و في نفوسنا كحال من لم يعهد منه إلّا النزاهة و الطّهارة، و معلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون و النّفور، و لهذا كثيرا ما يعيّر النّاس من يعهدون منه القبائح المتقدّمة بها و ان وقعت التّوبة منها، و يجعلون ذلك عيبا و نقصا و قادحا و مؤثرا، و ليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النّبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوّة و ناقصا عن رتبته في باب التنفير وجب أن لا يكون فيه شي ء من التنفير، لأنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 378

الشيئين قد يشتركان في التنفير و ان كان أحدهما أقوى من صاحبه، ألا ترى انّ كثيرا من السخف و المجون و الاستمرار عليه و الانهماك فيه منفر لا محالة، و انّ القليل من السخف الّذي لا يقع إلّا في الأحيان و الأوقات المتباعدة منفّر أيضا، و ان فارق الأوّل في قوّة التّنفير و لم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل عن أن يكون منفرا في نفسه.

فان قيل: فمن أين انّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء في حال النّبوة و قبلها؟

قلنا: الطريقة في نفي الصغائر في الحالين: هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالين عند التأمّل لأنا كما نعلم انّ من نجوّز كونه فاعلا لكبيرة متقدمة قد تاب منها و اقلع عنها و لم يبق معه شي ء من استحقاق

عقابها و ذمّها لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا نجوّز ذلك عليه فكذلك نعلم أنّ من نجوّز عليه من الأنبياء عليهم السّلام أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوّته أو قبلها و ان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كلّ القبائح و لا نجوّز عليه فعل شي ء منها «1» انتهى كلامه زيد مقامه «2».

و مرجع هذا الدّليل إلى ما قرّر في أصول الإماميّة من وجوب اللّطف عليه سبحانه، فاللّطف الّذي حسّن التكليف و أوجب البعثة هو الّذي أوجب العصمة فيمن هو الحجّة ليتوفّر معها دواعي المكلّفين على الإقبال عليه و التوجّه إليه، و حسن الظنّ به، ضرورة انّه يرتسم في قلب كلّ عارف باتّصافه بصفة العصمة اشتماله على

__________________________________________________

(1) تنزيه الأنبياء ص 4- 6.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 91- 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 379

غاية الكمال و نهاية الجمال الموجب لتعظيمهم و اعتقاد نورانيّتهم الّتي من شأنها ان تجذب النفوس إليها جذب لطف و تسخير و تربية و تجذب النفوس إليها انجذاب استكمال و محبّة و عشق و نسبة طبيعيّة فطريّة جبلّية كانجذاب الحديد إلى المغناطيس، و ذلك لأنّه قد تقرّر في الحكمة انّ النفوس بطباعها منجذبة إلى الأنوار فكلّما كانت النورانيّة أتمّ و أكمل كان انجذابها إليها أشدّ و أقوى، هذا مضافا إلى إتمام الحجّة عليهم و قطع المعذرة عنهم بحسب الظّاهر لئلّا يقول أحد لو لا أرسلت إلينا رسولا هاديا معصوما عن الخطايا و المعاصي و سائر الأمور المنفرة فنتّبع من آياتك من قبل أن نذلّ و نخزى، و أنت ترى أنّ واحدا من رؤساء الدّين في بلد او

قرية لو اقترف شيئا من المعاصي و الذّنوب الصغيرة أو الكبيرة سقطت هيبته من عيون النّاس، و لم ينجع موعظته فيهم بالنسبة إلى هذه المعصية الّتي اقترفها و غيرها و ان داوم على الموعظة و النصيحة في كلّ صباح و مساء.

و من هنا يظهر انّه لا فرق في باب التنفير بين الكبائر و الصغائر. سيّما مع ما قيل من أنّ الكبائر عندهم على ما رووه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله سبع، و رووا عن ابن عمر انّه زاد فيهما اثنتين، و عن ابن مسعود انّه زاد على قول ابن عمر ثلاثة، و لا شكّ انّ كثيرا من عظائم الذّنوب الّتي عدّوها من الصّغائر ليست من الأمور الخسيسة الّتي استثنوها كالتّطفيف بحبّة و سرقة درهم، فيلزمهم تجويز ما لم يكن من الصّنفين المذكورين كالاشتغال بأنواع المعارف و الملاهي، و ترك الصلاة، و اصناف المعاصي الّتي تقارفها ملوك الجور في الخلوات بل على رءوس الأشهاد.

و لذا قيل: انّ هؤلاء ايضا مخطئون للأنبياء، و لكن في لباس التنزيه، و لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 380

يرتاب عاقل في انّ من هذا شأنه لا يصلح لرئاسة الدّين و الدّنيا و انّ النفوس تتنفّر عنه، بل لا يجوّز أحد أن يكون مثله صالحا لأن يكون واعظا و هاديا للخلق في أدنى قرية، فكيف، يجوّز أن يكون ممّن قال اللّه تعالى فيهم: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ «1». «2» و امّا تنزيههم عن المعاصي قبل النبوّة و عن السّهو و الخطأ مطلقا فيمكن الاستدلال له بما تقدّم من التنفير و التّقريب على ما مرّ، مضافا إلى الإجماع فيهما ايضا بسيطا و مركّبا تحقيقا و نقلا حسبما

سمعت.

و منها جملة من الآيات الدّالة عليها كقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «3»، بناء على أنّ المراد بهذا العهد إمّا عهد النبوّة أو عهد الامامة الّتي هي وجوب الاقتداء و هو على المعنيين ثابت للنّبي صلّى اللّه عليه و آله فلو كان عاصيا لكان من الظالمين (هف) و من (لهذا خلف).

و قوله حكاية عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «4».

فلو عصى نبيّ لكان قد أغواه الشيطان و لم يكن من المخلصين، و هما فاسدان بالإجماع.

و لقوله تعالى: في ابراهيم و اسحق و يعقوب إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى

__________________________________________________

(1) الحجّ: 75.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 94.

(3) البقرة: 124.

(4) ص: 82- 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 381

الدَّارِ «1»، و في يوسف: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ «2»، و بضميمة عدم القول بالفرق يتمّ المطلوب.

و قوله: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3»، و الأنبياء من ذلك الفريق بالاتفاق، و غير ذلك من الآيات الّتي ستسمع تقريب الاستدلال بها عند التعرض لها.

و منها: انه لو صدر عنه الذنب للزم اجتماع الضدّين و هما وجوب متابعته و مخالفته.

أمّا الأوّل: فللإجماع على وجوب متابعة النّبي صلّى اللّه عليه و آله، و لقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «4»، و قوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «5»، و غيره ممّا يدلّ على وجوب التّأسي و المتابعة، بل و ما دلّ على حجّية قوله و فعله و تقريره.

و أمّا الثّاني: فلضرورة حرمة متابعة المذنب، و اعتبار قيد الحيثيّة ينفيه إطلاق ما تقدّم من الأدلّة حيث يستفاد منها نصب الحجّة بحيث لا يحتاج مع

متابعته إلى الفحص و التّبين أصلا.

و منها: انّه لو صدر عنه الذّنب لوجب منعه و زجره و الإنكار عليه، لعموم أدلّة

__________________________________________________

(1) ص: 45.

(2) يوسف: 24.

(3) سبأ: 20.

(4) آل عمران: 31.

(5) الأحزاب: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 382

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لكنّه حرام لاستلزامه إيذائه المحرّم بالإجماع و بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ «1».

و منها: انّه لو أقدم على الفسق لزم أن يكون مردود الشهادة إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع، و لقوله: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «2»، مع انّ من لا يقبل شهادته في الشّي ء اليسير من متاع الدّنيا فكيف تسمع شهادته في الأمور الدّينيّة و الاخبار السّماوية، مع أنّه تعالى جعل الأنبياء شهداء على الأمم كما أشير اليه في قوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «3».

و منها: أنّه يلزم أن يكونوا من حزب الشيطان و قال اللّه تعالى: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ «4» فانّ اللازم قطعيّ البطلان و ان لا يكونوا مسارعين إلى الخيرات مع أنّه قال في حقّهم أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ «5»، و ان يستحقّوا العذاب و اللّعن لقوله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «6»، وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «7»، و ان يستحقّوا الذّم و العقاب الّذي تضمّنه قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ «8»، أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ

__________________________________________________

(1) الأحزاب: 57.

(2) الحجرات: 6.

(3) النساء: 41.

(4) المجادلة: 19.

(5) المؤمنون: 61.

(6) هود: 18.

(7) الجنّ: 23.

(8) الصف:

2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 383

أَنْفُسَكُمْ «1».

ثمّ انّه لا يخفى انّ هذه الوجوه و إن تطرّق إليها بعض المناقشات، إلّا أنّ العمدة ما سمعت من قيام الإجماع بل الضرورة من مذهب الاماميّة على اشتراط العصمة في الأنبياء و الأوصياء و حجّيتهما على غيرهما موقوفة على ثبوت العصمة كما قرّر في محلّه فلا دور.

الثّالث: في دفع شبه المخطئة الّذين اجترءوا على أنبياء اللّه و أوليائهم فنسبوهم إلى الخطأ و الجهالة و الضلالة و وجوه من الفسق و المخالفة قبل النبوة و بعدها و لهم في تخطئة الأنبياء و الأوصياء و تفسيقهم شبهات و أوهام لم نقصد التّعرض لها في هذا المقام، بل فرقناها على الآيات المتعلّقة بها.

فان منها ما تمسّكوا بها في باب الاعتقاد كقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها «2»، الآية و قوله: حكاية عن ابراهيم:

هذا رَبِّي* «3»، و رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «4» و قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «5»، الآية.

و منها: ما تمسّكوا به في باب التبليغ كقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ «6»، الآية سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «7»، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا «8»،

__________________________________________________

(1) البقرة: 44.

(2) الأعراف: 189.

(3) الانعام: 77.

(4) البقرة: 260.

(5) يونس: 94.

(6) الحج: 52.

(7) الأعلى: 6.

(8) الجنّ: 28.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 384

الآية.

و منها: ما تمسّكوا بها في باب الفتيا كقوله: وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ «1» و قوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى «2»، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «3» و غيرها

ممّا يأتي.

و منها: ما تمسّكوا به في باب الأفعال و هي و ان كانت كثيرة جدّا إلّا أنّ المقصود في المقام دفع ما قيل من انّه أعظم شبهاتهم و هو التمسّك بقصّة آدم على نبيّنا و آله عليه السّلام فاستدلّوا بما ورد فيها من وجوه:

الأوّل: انّه عليه السّلام كان عاصيا لقوله تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «4»، و العاصي مذنب بل هو اسم ذمّ لا يتناول إلّا صاحب الكبيرة لقوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «5».

الثاني: انّه سمّاه غاويا في قوله: فَغَوى «6»، و الغيّ خلاف الرّشد للآية قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ «7».

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 78.

(2) الأنفال: 67.

(3) التوبة: 43.

(4) طه: 141.

(5) الجنّ: 23.

(6) طه: 121.

(7) البقرة: 256.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 385

و للخبر: أمر بيّن رشده فيتّبع و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و الغواية إنّما تكون بارتكاب الذّنب بل خصوص الكبيرة سيّما إذا ترتبت على العصيان بل في الخبر اشارة إلى ذلك لقوله عليه السّلام بعد ما مرّ و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات «1».

الثالث: انّه تعالى سمّاه ظالما في قوله: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* «2»، و هو ايضا قد أقرّ على نفسه ذلك في قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «3»، و الظالم ملعون لقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «4»، و من استحقّ اللّعن هو صاحب الكبيرة.

الّرابع: انّه ارتكب المنهيّ عنه في قوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ* «5»، و لذا قال تعالى: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ «6»، و ارتكاب المنهيّ عنه معصية بل كبيرة، و لذا عوتب على المخالفة.

الخامس: انّه تائب و

التّائب مذنب أمّا أنّه تائب فلقوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ «7»، و امّا انّ التّائب مذنب فلانّ التّائب هو النادم على فعل الذّنب و النادم على فعل الذّنب مخبر عن كونه فاعلا للذّنب فان صدق فهو المطلوب

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 221.

(2) البقرة: 35، و الأعراف: 19.

(3) الأعراف: 23.

(4) هود: 18.

(5) البقرة: 35، و الأعراف: 19.

(6) الأعراف: 22.

(7) البقرة: 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 386

و الّا فهو مذنب بالكذب.

السادس: انّه اخرج من الجنّة بسبب وسوسة الشيطان و إضلاله جزاء و عقوبة على ما أقدم عليه من المخالفة، و ذلك يدلّ على كونه فاعلا للكبيرة و لذا قال تعالى:

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ «1».

السابع: اعترافه بأنّه خاسر لو لا مغفرة اللّه له بقوله: وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «2» و ذلك يقتضي كونه ذا كبيرة.

الثامن: انّه نسب إليه الهداية بعد التوبة في قوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «3» و ظاهره انّه كان قبل التوبة على الضّلالة.

التّاسع: انّه عرضه النسيان لقوله: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «4»، و هو ينافي العصمة على مذهب الإماميّة كما مرّ.

العاشر: ما يدلّ عليه الأخبار المأثورة من طرق الفريقين من انّه ارتكب الخطيئة و اقترف الذّنب و طلب التّوبة و انّه بكى على ذنبه كذا و كذا سنة و انّه تعالى قد حرّم عليهما أكل الشجرة و انّهما ظنّا انّه قد أحلّها لهما بعد تحريمها و انّه تعالى قال لهما اهبطا من سمواتي إلى الأرض فانّه لا

يجاورني في جنّتي و لا في سمواتي عاص ظالم و انّهما نظرا إلى منازل محمّد و آل محمّد عليهم السّلام بعين الحسد إلى غير ذلك ممّا أشير اليه في الأخبار المتقدّمة و غيرها.

__________________________________________________

(1) الأعراف: 27.

(2) الأعراف: 24.

(3) طه: 122.

(4) طه: 115.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 387

و الجواب عن هذه الوجوه من وجهين: الإجمال و التفصيل، أمّا الإجمال:

فهو أنّ هذه الوجوه ظواهر مستفادة من الأدلّة اللفظيّة بعد فرض دلالتها و سلامتها عن المناقشات و ما ذكرناه من الإجماع و الضرورة دليل العقل على لزوم العصمة ادلّة قطعيّة لا تحتمل الرّد و التّخصيص فيجب التّصرف في الظّواهر بصرفها عن ظاهرها و حملها على ما لا ينافي تلك الأدلّة كما هو القانون في تعارض الظنّي و القطعي، و هذا الجواب الإجمالي جار في غير المقام ايضا من الموارد الّتي استدلّوا فيها ببعض الظّواهر على نفي عصمتهم.

و أمّا التّفصيل: فقد أجيب عن الأوّل بوجوه: أحدها: ما يظهر من فحاوي بعض الأخبار من انّ الأمر لم يكن على وجه الوجوب و لا النّدب بل كان امرا إرشاديّا و ذلك انّه سبحانه كان خلقه لعمارة الأرض و خلافتها كما أخبر به ملائكته قبل خلقه بقوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» فلمّا خلقه اللّه سبحانه بيده و فسح له في جنّته و نعمته أعلمه انّه ان كان يريد البقاء في الجنّة و دوام الّراحة فلا بدّ أن لا يقرب الشجرة و لذا خاطبه بقوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «2» و بيّن له انّه مع اكله من الشجرة لا بدّ

أن يخرج منها إلى الدّنيا و يجعل له و لذّريته الأرض بساطا و معاشا مع ابتلائهم فيها بأنواع المحن و المشاق و البليّات و شرط لهم العدو إلى تلك الجنّة ثمّ إلى جنّة الخلد مع الانقياد و الطّاعة و امتثال التكاليف في الدّنيا و لذّاتها و النهي عن

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

(2) طه: 117- 118- 119.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 388

قرب الشجرة على وجه الإرشاد إلى ما فيه الرّاحة العاجلة و ان كان في خروجه منها و الابتلاء بمحن هذه الدّار الفوز بالكرامة العظيمة الاجلة الّتي أوجبت خلقه أوّلا لذلك لا للكون في الجنّة الّتي كان فيها أوّلا فانّها نازلة الرتبة يسيرة الخطب بالنسبة إلى جنّة الخلد فأطلق العصيان باعتبار مخالفة ما أرشده إليه ممّا فيه الخلاص عن المشاقّ الدّنيوية.

و عندي أنّ هذا الوجه أظهر الوجوه و ان لم يحضرني من صرّح به من الأصحاب و غيرهم، نعم قد يستفاد من فحاوي بعض الأخبار الدالّة على أنّ المقصود من خلقه تعمير الأرض و إسكانه فيها كما هو الظاهر من الآية ايضا، ففي «تفسير العياشي» و «القصص» عن أبي جعفر عليه السّلام انّ آدم لمّا هبط عليه ملك الموت قال: اشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد انّي عبد اللّه و خليفته في ارضه ابتداني بإحسانه و أسجد لي ملائكته و علّمني الأسماء كلّها ثمّ أسكنني جنّته و لم يكن جعلها دار قرار و لا منزل استيطان، و انّما خلقني لأسكن «1» الأرض للّذي أراد من التقدير و التّدبير.

و زاد في تفسير العيّاشي: و قدّر ذلك كلّه قبل أن يخلقني، فمضيت في قدرته و قضائه و نافذ أمره، ثمّ

نهاني أن آكل من الشجرة، فعصيته و أكلت منها فأقالني عثرتي و صفح لي عن جرمي، فله الحمد على جميع نعمه عندي حمدا يكمل به رضاه عنّي «2».

__________________________________________________

(1) في البحار: ليسكنني.

(2) البحار ج 23 ص 61.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 389

و في «العلل» بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ما يستطيع اهل القدر أن يقولوا: و اللّه لقد خلق اللّه آدم للدّنيا و أسكنه الجنّة ليعصيه فيردّه إلى ما خلقه له فقوله ليعصيه أي عالما بأنّه يخلّيه مع اختياره بعد ما أرشده إلى ما فيه النفع العاجل، من دون أن يكون هناك طلب على وجه الإيجاب او الاستحباب، فاختار آدم ما فيه الخير الكثير الآجل كما خلقه اللّه تعالى لذلك.

و لعلّه ينزّل عليه ما أجاب به آدم موسى عليهما السّلام على ما هو المروي في تفسير القمي و غيره عن الصادق عليه السّلام قال: انّ موسى عليه السّلام سأل ربّه أن يجمع بينه و بين آدم عليه السّلام فجمع اللّه بينهما فقال له موسى: يا أبه ألم يخلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته، و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فلم عصيته؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التوراة؟ قال: بثلاثين سنة قال: فهو ذلك، قال: فحّج «1» آدم موسى عليهما السّلام.

بناء على أنّ المراد أنّه سبحانه كتب في التوراة انّه تعالى قدّر على آدم عمارة الأرض و قدّر عليه أنّه و كلّه إلى اختياره، حتّى فعل ما فعل لمصلحة إهباطه إلى الأرض، و انّ ذلك التقدير كان قبل خلق آدم بثلاثين سنة فالمعنى بكم وجدت تقدير خطيئتي قبل خلقي؟

و من هنا

يظهر انّه لا داعي إلى التكلّف لكونه قبل خلقه بانّ التوراة كتب في الألواح السماوية في ذلك الوقت و ان وجده موسى عليه السّلام بعد بعثته، أو أنّ المراد اطلاع روح موسى على ذلك قبل خلق جسد آدم، كما لا وجه لحمله على التقيّة لمجرّد

__________________________________________________

(1) فحجّ آدم موسى: اي غلب آدم موسى بالحجّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 390

وروده في كتبهم بطرق كثيرة و عن السيّد في «الطرائف» ردّه، لكنّه ليس في محلّه بعد موافقة مضمونه لما يستفاد من غيره.

بل لعلّه هو المراد ايضا بما في التّوحيد للصّدوق (رحمه اللّه) في خبر الفتح ابن يزيد عن أبي الحسن عليه السّلام: إن للّه تعالى إرادتين و مشيّتين: ارادة حتم و ارادة عزم، ينهى و هو يشاء، و يأمر و هو لا يشاء، او ما رأيت انّ اللّه تعالى نهى آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و هو شاء ذلك؟ و لو لم يشاء لم يأكلا، و لو اكلا لغلبت مشيّتهما مشيّة اللّه تعالى، و أمر ابراهيم بذبح ابنه عليهما السّلام و شاء أن لا يذبحه، و لو لم يشاء أن لا يذبحه لغلبت مشيّة ابراهيم مشيّة اللّه عزّ و جلّ «1».

بناء على أنّ المراد انّه نهي إرشاد، و شاء أن يأكل من الشجرة لما فيه من المصلحة الكلّية، فالنّهي فيه ليس على حقيقته، كما ان أمر ابراهيم بذبح ابنه ليس على حقيقته بل لمجرّد التّوطين و الامتحان، إلّا أنّ الظّاهر من مساق الخبر حملهما على الإرادة التكوينيّة و التشريعيّة على ما فصّلناه في موضع آخر، و يؤيّده انّه عليه السّلام إنما ذكر ذلك جوابا عن الّراوى، حيث سأله انّ عيسى خلق من الطّين طيرا

دليلا على نبوّته، و السّامري خلق عجلا جسدا لنقض نبوّة موسى عليه السّلام، و شاء اللّه أن يكون ذلك كذلك إنّ هذا لهو العجب! فقال عليه السّلام: ويحك يا فتح انّ للّه إرادتين، آه.

و إلى هذا يرجع ما ذكره الصدوق (رحمه اللّه) بعد إيراد الخبر انّ اللّه تعالى نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة، و قد علم انّهما يأكلان منها لكنّه شاء أن لا يحوم بينهما و بين الأكل منها بالجبر و القدرة كما منعهما من الأكل منها بالنهي

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 5 ص 101.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 391

و الزّجر، فهذا معنى مشيّته فيهما، و لو شاء عزّ و جلّ منعهما من الاكل بالجبر ثمّ اكلا منها لكان مشيّتهما قد غلبت مشيّة اللّه تعالى كما قال العالم عليه السّلام: تعالى اللّه تعالى عن العجز علوّا كبيرا.

ثمّ انّه قد ظهر ممّا ذكرناه في معنى ترك الأولى الفرق بينه و بين ترك المندوب فضلا عن ارتكاب المكروه، فانّ الأمر و النهي في الأخيرين طلبي و مخالفة الطلب لازم فيهما على كلّ حال بخلاف الأوّل الّذي لم يقصد فيه إلّا مجرّد الإرشاد إلى ما فيه المصلحة العاجلة في المقام حسبما سمعت.

و أمّا ما ذكره صاحب «الفصول» حيث قال في جملة كلام له: انّ المعتبر في الكراهة ليس مجرّد المرجوحيّة، و الّا لكان تارك كلّ مندوب فاعلا لمكروه و هو تركه، و لا خفاء في فساده بل المرجوحيّة الموجبة لمنقصة دينيّة في فاعلها غير محرّمة، و لا ريب انّ مجرّد تفويت الثواب او ترك الرّاجح لا يوجب ذلك، و بهذا يظهر الفرق بين الترك المكروه و خلاف الأولى انتهى.

فهو و إن كان

لا بأس به فيما ذكره من الفرق بين ترك المندوب و فعل المكروه، و كذا بين الترك المكروه و خلاف الأولى إلّا أنّ ظاهره كون خلاف الأولى شاملا لكلّ من تفويت الثواب و ترك الراجح و هو في الأخير ليس على ما ينبغي، و أمّا الأوّل فلا بأس به مع فرض المقام مجرّدا عن الطّلب رأسا و تفسير الثواب بما يعمّ كلّ شي ء من المصالح و المقاصد الدّنيويّة و الأخرويّة و الّا فللنظر فيه ايضا مجال.

ثانيها: ما ذكره السيّد المرتضى رضي اللّه عنه و هو أنّ المعصية مخالفة الأمر

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 392

و الأمر من اللّه سبحانه يكون مرّة على وجه الوجوب، و اخرى على النّدب، قال: فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه السّلام مندوبا إلى ترك التّناول من الشجرة، و يكون بمواقعتها تاركا نفلا و فضلا، و غير فاعل لقبيح، و ليس يمتنع أن يسمّى تارك النفل عاصيا، كما سمّي بذلك تارك الواجب، فانّ تسمية من خالف ما أمر به سواء كان واجبا أو نفلا بأنّه عاص ظاهرة، و لهذا يقولون: أمرت فلانا بكذا و كذا من الخير فعصاني و خالفني، و ان لم يكن ما أمر به واجبا.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه كيف يجوز أن يكون ترك النّدب معصية أو ليس هذا يوجب أن يوصف الأنبياء عليهم السّلام بأنّهم عصاة في كلّ حال، و انّهم لا ينفكّون عن المعصية لأنّهم لا يكادون ينفكّون من ترك النّدب، و أجاب عنه: بأنّ وصف تارك الثواب النّدب بالعصيان توسّع و تجوّز، و المجاز لا يقاس عليه و لا يعدّى به موضعه، و لو قيل: انّه حقيقة في فاعل القبيح و تارك الأولى

و الأفضل لم يجز إطلاقه ايضا في الأنبياء عليهم السّلام إلّا مع التّقييد، لأنّ استعماله قد كثر في القبائح فإطلاقه بغير تقييد موهم لكنّا نقول: ان أردت بوصفهم بانّهم عصاة انّهم فعلوا القبائح فلا يجوز ذلك، و ان أردت بأنّهم عصاة انّهم تركوا ما لو فعلوه لاستحقّوا الثّواب و كان اولى فهم كذلك.

أقول: قد صرّح بعض المحققين بانّ استعمال العصيان في ترك المندوب حقيقة و يؤيّده ما في «الصّحاح» و «القاموس» من أنّه خلاف الطّاعة إذ من البيّن انّ الطّاعة تطلق على فعل كلّ من الواجب و النّدب على احتمال أن يكون تفسيرا بالأعمّ كما هو الشائع في كلامهم، نعم قد شاع إطلاقه في ترك الواجب و لذا صحّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 393

الإطلاق في قوله: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ* «1»، الآية و قد استدلّ الأصوليّون على كون الأمر للوجوب بقوله: أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي «2» حيث عبّر عن مخالفة الأمر بالعصيان.

و على كلّ حال فلا بدّ من حمله في المقام على ترك الأولى، لأنّه اللائق بعصمة الأنبياء عليهم السّلام المعلومة من العقل و الإجماع بل ضرورة المذهب.

و من هنا يظهر ضعف ما قد يقال في المعارضة: من انّه الأليق برحمة أكرم الأكرمين و كرم أرحم الراحمين أن لا يؤاخذ على تركه الأولى نسيانا بمعاتبته بقوله: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ و وَ أَقُلْ لَكُما «3». الآية، و بالفضيحة حيث بدت سوءاتهما، و بإخراجه من جواره، و بالتفريق بينه و بين حوّاء مائة سنة أو مأتين، و بإلقاء العداوة و البغضاء بينهم، و بالنّداء عليهم باسم العصيان و الغواية، و بتسليط العدوّ على أولاده، بقوله: وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ «4» و

بجعل الدّنيا سجنا له و لأولاده و بالتّعب و الشقاء في قوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «5». إلى غير ذلك ممّا يختصّ بالنّساء من الحيض، و ثقل الحمل و الطلق و نحوها كما ورد في الأخبار.

إذ فيه مع ان كثيرا ممّا عدّه في المقام من لوازم هذه الدّار و مقتضيات الكون بها و الابتلاء فيها انّ جلالة قدر الأنبياء و عظم قدرهم و كبر شأنهم يقتضي تعظيم ما

__________________________________________________

(1) الجنّ: 23.

(2) طه: 93.

(3) الأعراف: 22.

(4) الإسراء: 64.

(5) طه: 117.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 394

يصدر عنهم أحيانا من ترك الأولى لعلوّ قدرهم و كثرة معرفتهم و لذا ورد: «انّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» «1» بل ربما يستقلّون ما يصدر عنهم من الطّاعات و يستحقرونه في جنب عظمة اللّه سبحانه، و لذا كان يصدر عنهم من التضرّع و البكاء و الأنين ما لم يلحقهم فيها أحد من العالمين، فانّ أعلم الخلق باللّه اخشاهم منه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» و قد روي عن الصّادق عليه السّلام انّه قال: لنا مع اللّه حالات نحن فيها هو و هو نحن، و هو هو و نحن نحن «3».

و هذا هو الّذي أشار إليه الحجّة عجّل اللّه فرجه في دعاء شهر رجب:

فجعلتهم معادن لكلماتك و أركانا لتوحيدك و آياتك و مقاماتك الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان يعرفك بها من عرفك لا فرق بينك و بينها إلّا أنّهم عبادك و خلقك «4» آه.

و هذه مقامهم في قربهم و مثالهم في هذه الحال بالنّسبة إلى فعل اللّه و مشيئته مثل الحديدة المحماة بالنّار، فانّه يصدر عنها ما يصدر عن النّار من الإضاءة و

الإحراق لا فرق بينها و بينها إلّا أنّ الحديدة حينئذ محل فعل النّار و مظهر شؤونها كما أنّهم عليهم السّلام محال مشيئة اللّه سبحانه المظهرون لأمره العاملون بإرادته، و لهم أيضا مقامات أخر باعتبار كونهم التشريعي التبليغي النّاسوتي من أكلهم و شربهم و نكاحهم و تبليغهم الشرائع و الاحكام إلى كافة الأنام و غيرها ممّا لا ريب في انّهم مأمورون بها إقامة لمنصب النبوّة و الولاية و رسم التبليغ و التجانس إلّا انّها بالنّسبة إلى الحالة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ص 205.

(2) فاطر: 28.

(3) لم اظفر على مصدره.

(4) بحار الأنوار ج 98 ص 393.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 395

الأولى سيّئات و معاصي يستغفرون اللّه منها و يتوبون اللّه على ما يأتي، فإذا كان هذه حالهم في عباداتهم الظاهرة و معاشراتهم مع النّاس فما ظنك بما يصدر عنهم أحيانا من ترك الأولى الّذي دعاهم إليه على جهة النّدب و الاستحباب.

ثالثها: ما أجاب به بعض من جوّز عليه الذّنب في الجملة و هو انّ آدم عليه السّلام لم يكن حين صدر عنه الذّنب نبيّا بناء على أنّ المعلوم من لزوم العصمة إنّما هو بعد النّبوّة، و ربّما يؤيّد ايضا بما رواه في «الأمالي» و «العيون» بالإسناد عن الّرضا عليه السّلام حيث سأله عليّ بن محمّد بن الجهم فقال له يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى، قال: فما تعمل في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «1»، إلى أن قال عليه السّلام: ويحك يا علي اتّق اللّه و لا تسب إلى أنبياء اللّه الفواحش و لا تتأوّل كتاب اللّه عزّ و جلّ برأيك

فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «2»، أمّا قوله عزّ و جلّ في آدم: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فانّ اللّه عزّ و جلّ خلق آدم حجّة في أرضه و خليفته في بلاده لم يخلقه للجنّة و كانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتمّ مقادير أمر اللّه عزّ و جلّ فلمّا أهبط إلى الأرض و جعل حجّة و خليفة عصم بقوله عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «3». «4» أقول: أمّا جواز صدور الذنب قبل البعثة فقد عرفت أنّه مخالف لما هو

__________________________________________________

(1) طه: 121.

(2) آل عمران: 7.

(3) آل عمران: 33.

(4) بحار الأنوار ج 11 ص 72 ح 1 عن الأمالي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 396

المعلوم من مذهب الإماميّة من وجوب عصمتهم في جميع الأحوال، و أمّا الخبر فمحمول على نوع من التقيّة مماشاة معهم في أقوالهم، أو أنّ المراد بالخطيئة ارتكاب خلاف الأولى على ما عرفت، و يكونون بعد البعثة معصومين عن جميع الذّنوب ايضا، و يكون ذكر الجنّة لبيان كون النّهي ارشاديّا لا طلبيّا حيث انّ الجنّة ليست بدار تكليف حتى يتصوّر فيها النهي التحريمي و التنزيهي ايضا، و ربما يحمل على وجه التنزل و الاستظهار ردّا على من جوّز الذنب مطلقا عليهم صلوات اللّه.

رابعها: انّ المعصية كانت من آدم في الجنّة لا في الأرض الّتي هي دار التكليف فلا يلزم صدور المعصية عنه عليه السّلام قبل النّبوة و لا بعدها في دار التكليف و لعلّ في قول الرضا عليه السّلام في الخبر المتقدّم اشارة إليه،

لكنّه كما سمعت مناف لما هو المعلوم من المذهب، بل قيل إنّ هذا الوجه لا ينطبق على شي ء من المذاهب.

خامسها: ما أجاب به اكثر المعتزلة من أنّ معصيته عليه السّلام كانت من الصّغائر المكفّرة دون الكبائر الّتي تنافي العصمة، و ان كان يشملهما معا اسم المعصية.

و فيه: انّه مناف ايضا لضرورة المذهب، و قد سمعت فيما مرّ من كلام السيّد في باب التنفير انّ الطريقة في نفي الصّغائر قبل البعثة و بعدها هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالين.

و امّا ما رواه في «العيون» و «الاحتجاج» عن الرضا عليه السّلام من انّه كان ذلك يعني الاكل من الشجرة من آدم قبل النّبوة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النّار و انّما كان من الصغائر الموهوبة الّتي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلمّا اجتباه اللّه و جعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة قال اللّه عزّ و جلّ:

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 397

وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «1» و قال عزّ و جلّ:

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «2»، الخبر فلعلّه محمول على التقيّة، او على التنزيل، او لجواز ارتكابه لترك الأولى قبل البعثة، و أمّا بعدها فعلوّ قدرهم يمنع من ارتكابهم له أيضا و ان لم يكن ذنبا و معصية.

سادسها: ما قيل: من أنّه عليه السّلام لمّا نهي عن الاكل من الشجرة ظن أنّ النّهي عن عين الشجرة لا عن نوعها، و كان اللّه سبحانه أراد نهيه عن نوعها، و لكنّه لم يقل لهما:

لا تقربا نوع هذه الشجرة و لا من

جنسها.

و اللفظة قد يراد بها النوع كما روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه أشار إلى حرير و ذهب و قال: هذان حرامان على رجال من امّتي و انّه عليه السّلام قال هذا وضوء لا يقبل اللّه الصّلوة إلّا به.

و كان ظنّه ذلك لأنّ إبليس حلف لهما باللّه كاذبا انّه لهما لمن النّاصحين، و لم يكن شاهد قبل ذلك من يحلف باللّه كذلك فأكل من شجرة أخرى من نوعها، و كان ذلك من قبيل الخطأ في الاجتهاد و ليس من كبائر الذّنوب الّتي يستحقّ بها دخول النّار «3».

و قد يؤيّد بما رواه في «العيون» و «الاحتجاج» عن عليّ بن محمّد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون و عنده عليّ بن موسى عليهما السّلام فقال له المأمون يا بن رسول اللّه أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى قال: فما معنى قول اللّه

__________________________________________________

(1) طه: 121.

(2) آل عمران: 33.

(3) بحار الأنوار ج 11 ص 198- 199.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 398

عزّ و جلّ: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «1»، فقال عليه السّلام إنّ اللّه تبارك و تعالى قال لآدم اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ «2» و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ و لم يقل لهما لا تأكلا من هذه الشجرة، و لا ممّا كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة، و إنّما اكلا من غيرها لمّا أن وسوس الشيطان إليهما و قال: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ «3» و إنّما نهيكما أن تقربا غيرها، و لم ينهكما عن الأكل منها إلّا أن تكونا ملكين

او تكونا من الخالدين وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «4» و لم يكن آدم و حوّاء شاهدا قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ «5» فأكلا منها ثقة بيمينه باللّه و كان ذلك من آدم قبل النّبوة «6».

إلى آخر ما تقدّم في الوجه السّابق، و يؤيّده أيضا ما مرّ عن تفسير الامام عليه السّلام مفصّلا «7».

و هو بظاهره لا يتمّ على أصولنا إذ فيه أوّلا أنّ اسم الإشارة موضوع للإشارة إلى الأشخاص، و الإشارة به إلى النوع لا تصحّ إلّا مع القرينة الدّالة عليه، فإذا حمله على حقيقته فأيّ خطأ يلحقه فيه.

__________________________________________________

(1) طه: 121.

(2) البقرة: 35.

(3) الأعراف: 20.

(4) الأعراف: 21.

(5) الأعراف: 22.

(6) عيون الاخبار ص 195- 196.

(7) تفسير الامام عليه السّلام ص 90- 91 و عنه البحار ج 11 ص 189- 193.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 399

و توهّم انّه قد قرنه بما يدلّ على أنّ المراد به النّوع مدفوع بأنّ القرينة لا بدّ أن تكون مفهمة و معها يتمّ المحذور، و إلّا فلا إفهام فلا تكليف، و لذا قيل: إنّه لو كلّفه على الوجه المذكور من دون قرينة تدلّ على المراد لزم التكليف بما لا يطاق و مع القرينة يلزم الإخلال بالنظر و التقصير في المعرفة «1».

و أمّا ما يقال من أنّه تعالى عرّفه القرينة وقت الخطاب ثمّ غفل عنها و نسيها لطول المدّة أو غيره.

ففيه أنّه مبنيّ على جواز النسيان على الأنبياء و فيه ما لا يخفى.

و ثانيا: انّ الأنبياء لا يجوز عليهم الاجتهاد و العمل بالظّن أو اعتقاد خلاف الواقع و لو على طريق غير الجزم.

و عدم كونه وقت الخطاب نبيّا كما تضمّنه

الخبر غير حاسم لمادّة الأشكال على أصولنا، كما أنّه لا يحسمها القول بارتكابه على جهة التأويل كما هو المحكيّ عن أبي علي «2» و غيره، و لذا أورد عليهم المرتضى رضي اللّه عنه بأنّه و ان نزّهه عن تعمّد معصية، إلّا أنّ أضاف إليه معصيتين: ترك التأمّل في متعلّق النّهي انّه هل هو الجنس أو العين، و التّناول من الشّجرة و لو مع اعتقاد الحلّية للخطأ في الاجتهاد و الاعتقاد و توهّم انّ النظر فيما كلّفه من الامتناع من الجنس او النّوع لم يكن واجبا عليه مدفوع بأنّه ان لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلّفا «3».

نعم ربما يقال: انّه توجيه متّجه و لو بمعونة الرضوي و العسكري المتقدمين،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 199.

(2) هو ابو عليّ الجبائي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي: المتوفى (303) ه.

(3) تنزيه الأنبياء ص 7- 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 400

و يرجع إلى ترك الأولى، و هو ليس بذنب في الحقيقة و لا بأس به، إلّا أنّ مرجعه إلى أحد الأولين.

و امّا ما يقال ايضا في بيان الخطأ في الاجتهاد: من انّه قال: و لا تقربا فظن آدم انّه نهي لهما على الجمع، فيجوز لكلّ منهما الأكل منفردا، إذ لا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد «1».

فهو ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه و ان ذكره الرّازي و غيره.

سابعها: انّ نسبة العصيان إلى آدم مبنيّة على تقدير مضاف و المراد و عصى أولاد آدم كما في قوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ «2»، بل قد يؤيّد بقوله في قصّة آدم و حوّاء: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما «3»، و من المعلوم انّهما

لم يشركا و إنّما أشرك أولادهما.

و ردّ بانّه و ان كان احتمالا يصحّح اللّفظ، لكنّه مخالف لما في الواقع، فإنّ أولاد آدم لم يقع منهم الاكل من الشجرة شجرة الخلد و لم يكونوا منهيّين عن ذلك ايضا، و لم يكن ذلك إلّا من آدم و حوّاء.

نعم ربّما تؤول الشّجرة في الآية بحبّ الدنيا و رئاستها و زينتها و خصوص علم الإكسير و هو على فرضه لا يمنع من ارادة الظّاهر بل لا يتمّ إلّا معها.

ثامنها: أنّ النهي و ان كان ظاهرا في التحريم لكنّه ليس نصّا فيه، و انّما صرفه عن الظاهر لدليل ظنّه قرينة عليه.

__________________________________________________

(1) تفسير الفخر الرازي ج 3 ص 15.

(2) يوسف: 83.

(3) الأعراف: 190.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 401

و ضعفه واضح جدّا بل لم أعرف به قائلا و ان حكاه شارح الطّوالع عن بعضهم.

تاسعها: انّ الّذي صدر منه عليه السّلام كان عن نسيان بنصّ القرآن لقوله:

فَنَسِيَ «1» فهو ليس بذنب، و المؤاخذة إنّما كانت على ترك التّحفظ و التقصير الّذي نشأ منه النسيان، و هو ترك أولى، و سمّي ذنبا لأنّهم مؤاخذون به، كما ورد أنّ الأنبياء لمؤاخذون بمثاقيل الذّر، و سمّي معصية و غواية تحذيرا للأنبياء، و لطفا لأممهم، و للّه تعالى من تسمية ذلك معصية و غواية ما ليس لغيره، فليس لأحد أن يتجاسر على نسبة العصيان إليه.

و فيه انّ الالتزام بعروض النسيان ممّا ينفيه المذهب، ثمّ التّحفظ على عدمه إن كان واجبا فتركه التزام بالعصيان مضافا إلى النسيان، أولى فلا جدوى للالتزام بالنسيان.

عاشرها: الحمل على النسيان بمعنى أخر لا ينفيه المذهب و يساعده بعض الاخبار على ما يأتي ان شاء اللّه.

و أجيب عن الثّاني أوّلا

بانّ الغواية هي الخيبة على ما صرّح به الجوهري و الجزري يقال: غوى إذا خاب، و أغواه اي خيّبه، فمعنى غوي أنّه خاب عن بغيته، لأنّا نعلم أنّه لو فعل ما أرشده إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحقّ الثّواب العظيم، فإذا خالف الأمر الإرشادي او النّدبي و لم يصر إلى ما أرشده إليه فقد خاب لا محالة من حيث إنّه لم ينل ما طلب و لم يصر الى الثّواب الّذي كان يستحقّ

__________________________________________________

(1) طه: 115.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 402

بالامتناع و استعماله في هذا المعنى حقيقة على ما هو الظّاهر من أئمّة اللّغة قال الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما و لذا قيل: إنّ الظاهر من قوله: عصى فغوى انّ الذي دخلته الفاء جزاء على المعصية و انّه كلّ الجزاء المستحقّ بالمعصية إذ الظاهر من قول القائل: سرق فقطع و قذف فجلد ثمانين انّ ذلك جميع الجزاء لا بعضه و كذلك إذا قال القائل من دخل داري فله درهم فانّ معناه انّ الدّرهم جميع جزائه و لا يستحقّ بالدّخول سواه و من لم يفعل الواجب استحقّ الذّم و العقاب و حرمان الثواب و امّا من لم يفعل ما أرشده إليه و ندبه فلا يستحقّ إلّا حرمان الثّواب فقط، و حيث انّ مدخول الفاء تمام الجزاء و قد سمعت انّه الخيبة و عدم نيل المطلوب فلا بدّ أن يكون العصيان بترك الأولى حسبما سمعت «1».

ثانيا: سلّمنا أن يكون المراد بالغيّ هو الضّلال كما صرّح به الجوهري بكونه من معانيه إلّا أنّ الضّلال هو البعد عن المطلوب بارتكاب ما يبعده عنه كما أنّ الرشاد هو

التّوسل بشي ء إلى شي ء و سلوك طريقة موصلة إلى المطلوب، و حيث انّه قد بعد بمخالفة النّهي التنزيهي او الارشادي عن نيل الثواب الّذي هو المقصود جاز اطلاق كونه ضالًّا غاويا عن نيل مقصوده «2».

و عن الثّالث: بانّ الظّلم في أصله موضوع لوضع الشي ء في غير موضعه كما

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 200 عن السيّد المرتضى في جواب المسائل التي وردت عليه من الري.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 200 مع تفاوت في العبارات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 403

نصّ عليه الجوهري و الفيروزآبادي و الفيّومي و غيرهم ممّن صنّف في اللّغة و استشهد عليه في الصّحاح و غيره بقوله تعالى: وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً «1» و قول الشّاعر: و من يشابه أباه فما ظلم.

و بالمثل: من استرعي الذّئب فقد ظلم، و يقال: إنّ أصله انتقاص الحقّ و به فسّر الآية في «القاموس» و عن الجزري انّه قال في حديث ابن زمّل: لزموا الطريق فلم يظلموه، اي لم يعدلوا عنه يقال أخذ في طريق فما ظلم يمينا و شمالا «2».

و بالجملة فمرجع معنى الظّلم لغة و عرفا إلى شي ء من الثلاثة، و من البيّن انّ الوصف به لا يستلزم ما ادّعاه المستدلّ على جميع الوجوه، و ذلك لأنّ مخالفة ما هو الأولى أو المندوب إليه وضع للشي ء في غير موضعه، و موجب لنقص الثّواب، و عدول عن الطّريق المؤدّي له إلى المراد.

و أمّا ما استدلّ به على أنّ الظالم ملعون، ففيه انّ الحكم معلّق على الموضوع المقيّد بالصّدّ عن سبيل اللّه و الكفر بالاخرة، و لذا قال في الأعراف و في هود أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ

اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ «3»، و أين هذا من دلالته على لعن مطلق الظّالمين او خصوص صاحب الكبيرة من المسلمين، بل قيل: إن اللّعن ايضا لا يدلّ على كون المعصية كبيرة، لورود الأخبار بلعن صاحب الصغيرة، بل من ارتكب النّهي التنزيهي ايضا، لأنّ معنى اللّعن هو الطّرد و الابعاد عن الرّحمة، و يحصل البعد عنها بفعل المكروه

__________________________________________________

(1) الكهف: 33.

(2) النهاية لابن الأثير الجزري المتوفى (606) ه ج 3 ص 161 في «ظلم».

(3) هود: 18- 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 404

و ترك المندوب ايضا.

نعم قد يقال: إنّه لما غلب استعماله في المشركين و الكفّار لا يجوز استعماله في صلحاء المؤمنين قطعا و في فسّاقهم اشكال و الأولى التّرك.

و عن الّرابع: واضح بعد ما مرّ من كون النّهي ارشاديّا او تنزيهيّا و دعوى كون مخالفة المنهيّ عنه مطلقا معصية واضح الفساد فضلا عن كونها كبيرة.

و عن الخامس: أنّ التوبة أعمّ من فعل الذّنب بالمعنى الأخصّ، فلا توجب إسقاط العقاب المترتّب على استحقاقه و يشهد له كثير من الأدعية المأثورة عن النّبي و الأئمّة المتضمّنة لاجتهادهم في التوبة و الانابة و الاستغفار.

و عن السادس: أنّ الإخراج من الجنّة لعلّه كان على وجه المصلحة المقتضية لإخراجه منها إذا تناول من الشجرة، على ما أشرنا إليه في الجواب الثّاني عن الوجه الأوّل.

و عن السّابع: انّ المراد بالخسران قلّة الثّواب او الخيبة عن النفع العاجل و ان ترتّب عليه الثواب الجزيل الآجل.

و عن الثّامن: واضح ممّا مرّ.

و عن التاسع: انّ المراد بالنسيان هو الترك كما يشهد به اللغة و يعضده الاخبار و صحيح الاعتبار و لو بمعونة ما دلّ على العصمة

و فيه وجه آخر سنشير إليه في تفسير الآية المتضمّنة للنسيان إنشاء اللّه كما أنّه قد ظهر من جمع ذلك الجواب عن العاشر أيضا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 405

مستطرف من الكلام في طرف من احوال آدم (عليه السلام)

روى العيّاشي في تفسيره عن جابر عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: كان إبليس اوّل من ناح، و أوّل من تغنّى، و اوّل من حدا قال صلّى اللّه عليه و آله: لمّا أكل آدم من الشجرة تغنّى فلما أهبط حدا به، فلما استقرّ على الأرض ناح فأذكره ما في الجنة، فقال آدم: ربّ هذا الّذي جعلت بيني و بينه العداوة لم أقو عليه و انا في الجنة و إن لم تعنّي عليه لم أقو عليه، فقال اللّه تعالى: السّيئة بالسّيئة و الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، قال: ربّ زدني، قال: لا يولد لك ولد إلا جعلت معه ملكا او ملكين يحفظانه، قال: ربّ زدني قال: التوبة مفروضة في الجسد ما دام فيها الروح، قال: زدني قال: أغفر الذّنوب و لا أبالي، قال: حسبي.

قال: فقال إبليس: ربّ هذا الّذي كرّمت عليّ و فضّلته و ان لم تفضّل عليّ لم أقو عليه، قال: لا يولد له ولد إلّا ولد لك ولدان، قال: ربّ زدني قال: تجري منه مجرى الدّم في العروق، قال: ربّ زدني قال: تتّخذ أنت و ذرّيتك في صدورهم مساكن، قال: ربّ زدني قال تعدهم و تمنّيهم و ما يعدهم الشيطان إلّا غرورا «1».

و فيه عن الصّادق عليه السّلام قال: ما بكى أحد بكاء ثلاثة: آدم، و يوسف، و داود فقلت: ما بلغ من بكائهم؟ فقال: أمّا آدم عليه السّلام فبكى حين أخرج من الجنة، و كان رأسه في باب من أبواب السّماء،

فبكى حتّى تأذّى به اهل السّماء فشكوا ذلك إلى اللّه فحطّ من قامته. الخبر «2».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 212 ح 20 عن العياشي.

(2) البحار ج 11 ص 213 ح 21 عن العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 406

و في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: البكّاؤن خمسة: آدم، و يعقوب، و يوسف، و فاطمة بنت محمّد، و عليّ بن الحسين عليهما السّلام فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خديه أمثال الأودية «1».

و في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام قال: كان مع عيسى بن مريم عليهما السّلام حرفان يعمل بهما. و كان مع موسى عليه السّلام أربعة أحرف، و كان مع ابراهيم ستّة أحرف، و كان مع آدم خمسة و عشرون حرفا، و كان مع نوح ثمانية و جمع ذلك كله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إن اسم اللّه ثلاثة و سبعون حرفا «2».

و في معناه أخبار أخر، و روى الصّدوق في خبر طويل يتضمن سؤال ملك الروم عن الحسن بن علي عليهما السّلام و فيه انّه دعى الملك بالأصنام فأوّل صنم عرض عليه في صفة القمر فقال الحسن عليه السّلام فهذه صفة آدم عليه السّلام أبو البشر ثمّ عرض عليه أخر في صفة الشمس فقال الحسن عليه السّلام: هذه صفة حوّاء امّ البشر ثم عرض عليه أخر في صفة حسنة فقال: هذه صفة شيث بن آدم و كان أوّل من بعث و بلغ عمره في الدنيا ألف سنة و أربعين يوما «3». الخبر.

قوله: و كان أوّل من بعث اي من أولاد آدم، او بعد تناسل الذّريّة، او مقيّدا ببلوغ عمره ألف سنة، و ان كان و الأوّل

اظهر.

و في «العلل» عن زرّ بن حبيش، قال: سألت ابن مسعود، عن أيّام البيض ما سببها، و كيف سمعت؟ قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ آدم لمّا عصى ربّه

__________________________________________________

(1) البحار ج 11 ص 204 عن العلل.

(2) بصائر الدرجات ص 65 و عنه البحار ج 11 ص 68.

(3) بحار الأنوار ج 11 ص 261 عن تفسير القمي ص 597.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 407

عزّ و جلّ ناداه مناد من لدن العرش: يا آدم أخرج من جواري فإنّه لا يجاورني أحد عصاني، فبكى و بكت الملائكة، فبعث اللّه عزّ و جلّ اليه جبرئيل فأهبطه الى الأرض مسوّدا، فلمّا رأته الملائكة ضجّت و بكت و انتحبت و قالت: يا ربّ خلقا خلقته، و نفخت فيه من روحك، و أسجدت له ملائكتك بذنب واحد حوّلت بياضه سوادا؟! فنادى مناد من السماء صم لربك اليوم، فصام فوافق يوم الثالث عشر من الشهر فذهب ثلث السواد، ثمّ نودي في يوم الرابع عشر بالصّيام، فصام فذهب ثلثا السواد ثمّ نودي في يوم خمسة عشر بالصّيام فصام و قد ذهب السواد كلّه، فسمّيت ايّام البيض الّذي ردّ اللّه عزّ و جل فيه على آدم من بياضه، ثمّ نادى مناد من السّماء يا آدم هذه الثلاثة الأيّام جعلتها لك و لولدك من صامها في كلّ شهر فإنّما صام الدّهر.

و زاد الحميدي في الحديث: فجلس آدم عليه السّلام جلسة القرفصاء «1»، و رأسه بين ركبته كئيبا حزينا، فبعث اللّه تبارك و تعالى إليه جبرئيل فقال: يا آدم مالي أراك كئيبا حزينا؟ فقال: لا أزال كئيبا حزينا حتّى يأتي أمر اللّه، قال: فانّي رسول اللّه إليك و

هو يقرئك السّلام و يقول: يا آدم حيّاك اللّه و بيّاك، قال امّا حيّاك اللّه فأعرفه، فما بيّاك؟ قال: أضحكك، قال: فسجد آدم فرفع رأسه إلى السّماء و قال: يا ربّ زدني جمالا فأصبح و له لحية سوداء كالحمم، فضرب بيده إليها فقال يا ربّ ما هذه؟ فقال: هذه اللّحية زيّنتك بها أنت و ذكور ولدك إلى يوم القيمة «2».

__________________________________________________

(1) قال الجوهري: القرفصاء: ضرب من القعود، يمدّ و يقصّر و هو أن يجلس على ركبته منكبّا و يلصق بطنه فخذيه و يتأبط كفيه.

في «المنجد»: ترفصه: جمعه و شدّ يديه تحت رجليه.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 171- 172 عن العلل ص 133.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 408

و في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى آدم عليه السّلام إنّي سأجمع لك الخير كلّه في اربع كلمات: واحدة منهنّ لي، و واحدة لك، و واحدة فيما بيني و بينك، و واحدة فيما بينك و بين النّاس، فامّا الّتي لي فتعبدني و لا تشرك بي شيئا، و أمّا الّتي لك فاجازيك بعملك أحوج، ما تكون إليه، و أمّا الّتي بيني و بينك فعليك الدّعاء و عليّ الإجابة، و امّا الّتي فيما بينك و بين الناس فترضى للنّاس ما ترضى لنفسك و تكره لهم ما تكره لنفسك «1».

و في «المحاسن» عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ آدم عليه السّلام شكا إلى جبرئيل عليه السّلام حديث النفس فقال: اكثر من قول لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.

و في «المجالس» و «الأمالي» و «الإكمال» عن الصادق عليه السّلام قال: أنا سيّد النّبيّين و وصيّي سيّد الوصيّين و اوصيائي سادات

الأوصياء، إن آدم عليه السّلام سأل اللّه عزّ و جلّ أن يجعل له وصيّا صالحا فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه انّي أكرمت الأنبياء بالنّبوة ثمّ اخترت خلقي و جعلت خيارهم الأوصياء ثمّ أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه يا آدم أوص إلى شيث فاوصى آدم إلى شيث و هو هبة بن آدم ثمّ ذكر اتّصال الوصيّة منه عليه السّلام إلى نبيّنا و الأئمّة المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين «2».

و في «تفسير العياشي» عن أبي جعفر عليه السّلام بعد ذكر قصّة قابيل قال: فلمّا علم آدم بقتل هابيل جزع عليه جزعا شديدا، و دخله حزن شديد، قال فشكى إلى اللّه ذلك، فأوحى اللّه إليه إني واهب لك ذكرا يكون خلفا لك من هابيل، قال: فولدت

__________________________________________________

(1) الخصال ج 1 ص 116 و عنه البحار ج 11 ص 257.

(2) البحار ج 17 ص 148 و ج 23 ص 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 409

حوّاء غلاما زكيّا مباركا، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه آدم شيث فأوحى اللّه إلى آدم إنّما هذا الغلام هبة منّي لك فسمّه هبة اللّه، قال فسمّاه هبة اللّه، قال فلمّا دنى أجل آدم أوحى اللّه إليه، أن يا آدم انّي متوفّيك و رافع روحك إلىّ يوم كذا و كذا، فأوص الى خير ولدك و هو هبتي الذي وهبته لك فأوص إليه و سلّم إليه ما علّمناك من الأسماء و الاسم الأعظم، فاجعل ذلك في تابوت فانّي احبّ ان لا يخلو أرضي من عالم يعلم علمي و يقضي بحكمي، اجعله حجّة على خلقي.

قال: فجمع آدم عليه السّلام جميع ولده من الرّجال و النّساء، فقال لهم: يا ولدي انّ اللّه اوحى إليّ

انّه رافع إليه روحي، و أمرني أن أوصي إلى خير ولدي، و انّه هبة اللّه و انّه اختاره لي و لكم من بعدي، أسمعوا له و أطيعوا أمره، فانّه وصيّي و خليفتي عليكم فقالوا جميعا: نسمع له و نطيع أمره و لا نخالفه، قال: فأمر بالتابوت فعمل ثمّ جعل فيه علمه و الأسماء و الوصيّة، ثمّ دفعه إلى هبة اللّه، و تقدّم إليه في ذلك و قال له: انظر يا هبة اللّه إذا أنا متّ فاغسلني و كفّني و صلّ عليّ و أدخلني في حفرتي فإذا مضى بعد وفاتي أربعون يوما فاخرج عظامي كلّها من حفرتي بأجمعها جميعا، ثمّ اجعلها في التّابوت و احتفظ به و لا تأمننّ عليه أحدا غيرك فإذا حضرت وفاتك و أحسست بذلك من نفسك فالتمس خير ولدك و ألزمهم لك صحبته و أفضلهم عندك قبل ذلك فأوص اليه بمثل ما أوصيت به إليك، و لا تدعنّ الأرض بغير عالم منّا اهل البيت، يا بنيّ إنّ اللّه تبارك و تعالى أهبطني إلى الأرض و جعلني خليفته فيها حجّة له على خلقه، فقد أوصيت لك بأمر اللّه و جعلتك حجّة اللّه على خلقه في أرضه بعدي فلا تخرج من الدّنيا حتّى تدع للّه حجّة و وصيّا و تسلّم إليه التّابوت و ما فيه، كما سلّمته

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 410

إليك و أعلمه انّه سيكون من ذريتي رجل اسمه نوح يكون في نبوّته الطّوفان و الغرق، فمن ركب في فلكه نجى، و من تخلّف عن فلكه غرق، و أوص وصيّك أن يحفظ بالتّابوت و بما فيه فإذا حضرت وفاته أن يوصي إلى خير ولده، و ألزمهم له و أفضلهم عنده و

يسلّم إليه التّابوت و ما فيه، و ليضع كلّ وصيّ وصيّته في التّابوت و ليوص بذلك بعضهم إلى بعض فمن أدرك نبوّة نوح فليركب معه، و ليحمل التّابوت و جميع ما فيه في فلكه، و لا يتخلّف عنه أحد، و احذر يا هبة اللّه و أنتم يا ولدي الملعون قابيل و ولده، فقد رأيتم ما فعل بأخيكم هابيل، فاحذروه و ولده و لا تناكحوهم و لا تخالطوهم، و كن أنت يا هبة اللّه و إخوتك و أخواتك في أعلا الجبل و اعزله و ولده ودع الملعون قابيل و ولده في أسفل الجبل.

قال: فلما كان اليوم الّذي اخبر اللّه تعالى انّه متوفيه فيه تهيّأ آدم للموت و أذعن به، قال: و هبط عليه ملك الموت فقال آدم: دعني يا ملك الموت حتّى أتشهّد و أثني على ربّي بما صنع عندي من قبل أن تقبض روحي، فقال آدم: اشهد أن لا إله الّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أني عبد اللّه و خليفته في ارضه، ابتداني بإحسانه و خلقني بيده، لم يخلق خلقا بيده سواي، و نفخ فيّ من روحه، ثمّ أجمل صورتي و لم يخلق على خلقي أحدا قبلي ثمّ أسجد لي ملائكته، و علّمني الأسماء كلّها، و لم يعلّمها ملائكته، ثمّ أسكنني جنّته، و لم يكن جعلها دار قرار، و لا منزل استيطان، و انّما خلقني ليسكنني الأرض للذي أراد من التّقدير و التّدبير، و قدّر ذلك كلّه قبل أن يخلقني، فمضيت في قدرته و قضائه و نافذ أمره، ثمّ نهاني أن آكل من الشّجرة فعصيته و أكلت منها، فاقالني عثرتي و صفح لي عن جرمي، فله الحمد على

تفسير الصراط المستقيم،

ج 5، ص: 411

جميع نعمه عندي حمدا يكمل به رضاه عنّي.

قال: فقبض ملك الموت روحه صلوات اللّه عليه فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ جبرئيل نزل بكفن آدم و بحنوطه و بالمسحاة معه، قال: و نزل مع جبرئيل سبعون ألف ملك ليحضروا جنازة آدم عليه السّلام قال: فغسّله هبة اللّه و جبرئيل و كفّنه و حنّطه ثم قال: يا هبة اللّه تقدّم فصلّ على أبيك و كبّر عليه خمسا و عشرين تكبيرة، فوضع سرير آدم، ثمّ قدم هبة اللّه و قام جبرئيل عليه السّلام عن يمينه و الملائكة خلفهما، فصلّى عليه و كبّر عليه خمسا و عشرين تكبيرة، و انصرف جبرئيل و الملائكة فحفروا له بالمسحاة ثمّ أدخلوه في حفرته، ثمّ قال جبرئيل يا هبة اللّه هكذا فافعلوا بموتاكم، و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: فقام هبة اللّه في ولد أبيه بطاعة اللّه و بما أوصى أبوه فاعتزل ولد الملعون قابيل، فلما حضرت وفاة هبة اللّه أوصى إلى ابنة قينان، و سلّم إليه التّابوت و ما فيه و عظام آدم، و قال له: ان أنت أدركت نبوّة نوح فاتّبعه و احمل التّابوت معك في فلكه، و لا تخلفنّ عنه فانّ في نبوّته يكون الطوفان و الغرق، فمن ركب في فلكه نجى، و من تخلّف عنه غرق.

قال: فقام قينان بوصيّة هبة اللّه في اخوته و ولد أبيه و أمرهم بطاعة اللّه قال:

فلمّا حضرت قينان الوفاة أوصى إلى مهلائيل و سلّم إليه التّابوت و ما فيه، و الوصيّة، فقام مهلائيل بوصيّة قينان و سار بسيرته فلمّا حضرت مهلائيل الوفاة أوصى إلى

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 412

ابنه «1»

برد، فسلّم إليه التّابوت و جميع ما فيه و الوصيّة، فتقدّم إليه في نبوّة نوح فلمّا حضرت وفاة برد اوصى به إلى ابنه أخنوخ و هو إدريس، فسلّم إليه التّابوت و جميع ما فيه و الوصيّة، فقام أخنوخ بوصيّة برد، فلمّا قرب اجله أوحى اللّه تعالى إليه إنّي رافعك إلى السّماء و قابض روحك في السّماء فأوص إلى ابنك حرقاسيل بوصيّة أخنوخ، فلمّا حضرته الوفاة اوصى إلى ابنه نوح و سلّم إليه التّابوت و جميع ما فيه و الوصيّة، قال: فلم يزل التّابوت عند نوح حتّى حمله معه في فلكه فلمّا حضرت نوح الوفاة اوصى إلى ابنه سام و سلّم إليه التّابوت و جميع ما فيه و الوصيّة.

قال حبيب السجستاني: ثمّ انقطع حديث ابي جعفر عليه السّلام عندها «2».

و في «القصص» عن الصادق عليه السّلام في خبر طويل إلى أن قال: فلم يلبث آدم عليه السّلام بعد ذلك إلّا يسيرا حتّى مرض و دعا شيئا و قال: يا بني انّ اجلي قد حضر و انا مريض و انّ ربّي قد انزل من سلطانه ما قد ترى، و قد عهد إليّ فيما قد عهد أن أجعلك وصيّي، و خازن ما استودعني، و هذا كتاب الوصيّة تحت رأسي، و فيه أثر العلم و اسم اللّه الأكبر، فإذا أنا متّ فخذ الصّحيفة و إيّاك أن يطّلع عليها احد، و أن تنظر فيها إلى قابل في مثل هذا اليوم الّذي يصير إليك فيه و فيها جميع ما تحتاج إليه في امور دينك و دنياك و كان آدم صلوات اللّه عليه نزل بالصحيفة التي فيها الوصية من الجنة.

ثمّ قال آدم لشيث صلوات اللّه عليهما: يا بنيّ انّي قد اشتهيت ثمرة

من ثمار

__________________________________________________

(1) في المصدر و قصص الأنبياء: يرد بالياء.

(2) تفسير العياشي ج 1 ص 306- 309.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 413

الجنّة فاصعد إلى جبل الحديد فانظر من لقيته من الملائكة فاقرأه منّي السّلام و قل له: إن أبي مريض و هو يستهديكم من ثمار الجنّة، قال: فمضى حتى صعد الى الجبل فإذا هو بجبرئيل في قبائل من الملائكة، فبدأه جبرئيل السّلام ثم قال: إلى أين يا شيث فقال له شيث: و من أنت يا عبد اللّه؟ قال: انا الرّوح الأمين جبرئيل فقال إنّ ابي مريض و قد أرسلني إليكم و هو يقرئكم السّلام و يستهديكم من ثمار الجنة، فقال له جبرئيل عليه السّلام: و على أبيك السّلام يا شيث، اما انّه قد قبض، و انّما نزلت لشأنه فعظّم اللّه على مصيبتك فيه أجرك، و أحسن على العزاء منه صبرك، و آنس منك عظيم وحشتك، ارجع فرجع معهم، و معهم كلّ ما يصلح به آدم صلوات اللّه عليه، قد جاءوا به من الجنّة فلمّا صاروا إلى آدم كان أوّل ما صنع شيث أن أخذ صحيفة الوصيّة من تحت رأس آدم صلوات اللّه عليه فشدّها على بطنه، فقال جبرئيل عليه السّلام: من مثلك يا شيث قد أعطاك اللّه سرور كرامته و ألبسك لباس عافيته فلعمري لقد خصّك اللّه منه بأمر جليل، ثمّ إنّ جبرئيل عليه السّلام و شيثا أخذا في غسله، و أراه جبرئيل كيف يغسله حتّى فرغ، ثمّ أراه كيف يكفّنه و يحنّطه حتّى فرغ ثمّ أراه كيف يحفر له، ثمّ إنّ جبرئيل عليه السّلام أخذ بيد شيث فأقامه للصّلاة عليه كما نقوم اليوم نحن، ثمّ قال كبّر على أبيك سبعين تكبيرة و

علّمه كيف يصنع ثمّ انّ جبرئيل عليه السّلام أمر الملائكة ان يصطفّوا قياما خلف شيث كما يصطفّ اليوم خلف المصلّي على الميّت، فقال شيث: يا جبرئيل و يستقيم هذا لي و أنت بالمكان من اللّه الّذي أنت و معك عظماء الملائكة؟ فقال جبرئيل: يا شيث ألم تعلم أنّ اللّه تعالى لمّا خلق أباك آدم أوقفه بين الملائكة و أمرنا بالسجود له فكان إمامنا ليكون ذلك سنة في ذرّيته، و قد

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 414

قبضه اليوم و أنت وصيّه و وارث علمه، و أنت تقوم مقامه، فكيف نتقدّمك و أنت إمامنا؟ فصلّى بهم عليه كما أمره، ثمّ أراه كيف يدفنه، فلمّا فرغ من دفنه و ذهب جبرئيل و من معه ليصعدوا من حيث جاءوا بكى شيث و نادى: يا وحشتاه فقال له جبرئيل: لا وحشة عليك مع اللّه تعالى يا شيث، بل نحن نازلون عليك بأمر ربّك و هو يونسك فلا تحزن و أحسن ظنّك بربّك فإنّه بك لطيف و عليك شفيق، ثمّ صعد جبرئيل و من معه، و هبط قابيل من الجبل، و كان على الجبل هاربا من أبيه آدم عليه السّلام ايّام حياته لا يقدر أن ينظر إليه فلقي شيثا فقال: يا شيث إنّي إنّما قتلت هابيل أخي لأنّ قربانه قد تقبل و قد خفت أن يصير بالمكان الّذي قد صرت أنت اليوم فيه، و قد صرت بحيث اكره، و ان تكلّمت بشي ء ممّا عهد إليك أبي لأقتلنّك كما قتلت هابيل.

قال زرارة: ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام بيده إلى فمه فامسكه يعلمنا اي هكذا انا ساكت «فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» معشر شيعتنا فتمكنوا عدوّكم من رقابكم فتكونوا عبيدا لهم

بعد إذ أنتم أربابهم و ساداتهم. الخبر «1».

و في خبر آخر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أرسل آدم ابنه إلى جبرئيل فقال: قل له: يقول لك أبي: أطعمني من زيت الزّيتون الّتي في موضع كذا و كذا من الجنّة، فلقاه جبرئيل فقال له إرجع إلى أبيك فقد قبضه اللّه و أمرنا بإجهازه و الصلاة عليه، قال: فلمّا جهّزوه قال جبرئيل: تقدّم يا هبة اللّه فصلّ على أبيك فتقدم و كبّر عليه خمسا و سبعين تكبيرة سبعين تفضيلا لآدم و خمسا للسّنة قال: و آدم عليه السّلام لم يزل

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 262- 264.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 415

يعبد اللّه بمكّة حتّى إذا أراد أن يقبضه بعث إليه الملائكة معهم سرير و حنوط و كفن من الجنّة فلمّا رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل بينه و بينهم، فقال لها آدم: خلّي بيني و بين رسل ربّي، فقبض فغسّلوه بالسّدر و الماء ثمّ لحدوا قبره، و قال: هذا سنّة ولده من بعده فكان عمره منذ خلقه اللّه إلى أن قبضه تسعمائة و ستّا و ثلاثين سنة و دفن بمكّة و كان بين آدم و نوح صلوات اللّه عليهما ألف و خمسمائة سنة «1».

و في «كمال الدين» عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن النّبي عليه السّلام قال: عاش آدم ابو البشر تسعمائة و ثلاثين سنة «2».

و عن المسعودي في المروج توفّي يوم الجمعة لستّ خلون من نيسان في الساعة الّتي كان فيها خلقه و كان عمره تسعمائة و ثلاثين سنة «3».

و عن السيّد في سعد السعود نقلا من صحف إدريس عليه السّلام: إنّ مرضه عشرة ايّام بالحمّى، و وفاته يوم الجمعة لإحدى

عشر يوما خلت من المحرّم، و دفنه في غار في جبل أبي قبيس و وجهه إلى الكعبة، و انّ عمره في وقت نفخ فيه الروح إلى وفاته ألف سنة و ثلاثين و ان حوّاء ما بقيت بعده إلّا سنة ثم مرضت خمسة عشر يوما ثم توفّيت و دفنت إلى جنب آدم عليهما السّلام، ثمّ قال و نبأ اللّه شيثا، و أنزل عليه خمسين صحيفة فيها دلائل اللّه و فرائضه و أحكامه و سننه و شرائعه و حدوده، فأقام بمكّة يتلو تلك الصحف على بني آدم و يعلّمها و يعبد اللّه، و يعمر الكعبة فيعتمر في

__________________________________________________

(1) قصص الأنبياء ص 64 ح 44 و عنه البحار ج 11 ص 366 ح 15.

(2) كمال الدين ص 523 ح 3.

(3) مروج الذهب ج 1 ص 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 416

كلّ شهر، و يحجّ في أوان الحجّ حتّى تمّ له تسعمائة سنة و اثني عشر سنة، فمرض فدعا ابنه أيوس «1» فأوصى به اليه و أمره بتقوى اللّه ثمّ توفّي فغسله أيوس ابنه و قينان بن أيوس و مهلائيل بن قينان فتقدّم أيوس فصلّى عليه و دفنوه عن يمين آدم عليه السّلام في غار أبي قبيس «2».

ثمّ قال السيّد رضى اللّه عنه على ما حكى عنه المجلسي طاب ثراه: وجدت في السفر الثالث من التوراة: أنّ حياة آدم كانت تسعمائة و ثلاثين سنة.

و قال محمّد بن خالد البرقي (ره): إنّ عمر آدم كان تسعمائة و ستّا و ثلاثين سنة «3».

و في تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و كان عمر آدم من يوم خلقه اللّه تعالى إلى يوم قبضه تسعمائة و ثلاثين

سنة و دفن بمكّة و نفخ فيه يوم الجمعة بعد الزوال، ثمّ برأ زوجته من أسفل أضلاعه و اسكنه جنّته من يومه ذلك فما استقرّ فيها إلّا ستّ ساعات من يومه ذلك حتّى عصى اللّه تعالى و أخرجهما من الجنّة بعد غروب الشمس و ما بات فيها «4».

و عن ابن الأثير في الكامل قيل: إنّ شيث كان لم يزل مقيما بمكّة يحجّ و يعتمر إلى أن مات و انّه كان قد جمع ما أنزل عليه و على أبيه آدم من الصحف

__________________________________________________

(1) هكذا في النسخ و الصحيح: انوش كما في المصدر.

(2) سعد السعود ص 37- 38.

(3) سعد السعود ص 40 و فيه تسعمائة و ست و ثلاثون.

(4) تفسير القمي ج 1 ص 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 417

و عمل بما فيها و انّه بنى الكعبة بالحجارة و الطّين.

و قيل: إنّه لما مرض أوصى إلى ابنه انوش و مات و دفن مع أبويه بغار أبي قبيس و كان مولده لمضي مائتي سنة و خمس و ثلاثين سنة من عمر آدم و قيل غير ذلك و كانت وفاته و قد أتت له تسعمائة سنة و اثنتا عشر سنة «1».

و في «المعاني» و «الخصال» في خبر أبي ذرّ عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: انّ أربعة من الأنبياء سريانيون آدم، و شيث، و إدريس، و نوح و انّ اللّه تعالى انزل على شيث خمسين صحيفة «2».

و روت العامّة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: انّ آدم كان كتب له ألف سنة فوهب لداود ستّين سنة ثمّ رجع «3».

و رووا عن ابن عباس انّه وهب من الألف أربعين فجحد فأكمل اللّه لآدم

ألف سنة و لداود مائة سنة و سيأتي في تفسير آية المداينة في أخر السورة عن الصادق عليه السّلام: انّه وهبه من عمره ستّين سنة.

و عن أبي جعفر: انّه وهبه ثلاثين سنة و انّه لمّا هبط عليه ملك الموت لقبض روحه قال له آدم يا ملك الموت انّه قد بقي من عمري ثلاثون سنة فقال له ملك الموت: يا آدم الم تجعلها لابنك داود النّبي و طرحتها من عمرك حين عرضت عليك اسماء الأنبياء من ذرّيتك و عرضت عليك أعمارهم و أنت يومئذ بوادي الدّخياء؟

__________________________________________________

(1) الكامل ج 1 ص 54 و عنه البحار ج 11 ص 262.

(2) معاني الاخبار ص 333- و الخصال 524.

(3) البحار ج 11 ص 268.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 418

قال: فقال آدم: ما اذكر هذا فقال له ملك الموت: يا آدم لا تجحد ا لم تسأل اللّه عزّ و جلّ أن يثبتها لداود و يمحوها من عمرك فأثبتها لداود في الزّبور و محاها من عمرك في الذكر؟ قال آدم: حتّى اعلم ذلك.

قال أبو جعفر عليه السّلام و كان آدم عليه السّلام صادقا لم يذكر و لم يجحد فمن ذلك اليوم أمر اللّه تبارك و تعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا و تعاملوا إلى أجل مسمّى لنسيان آدم و جحوده ما جعل على نفسه «1».

أقول: لكنّه كما ترى بظاهره مخالف لما أجمعت عليه الطّائفة المحقّة على ما مرّت إليه الإشارة من نفي السهو و الإسهاء عن الأنبياء عليهم السّلام و لو في غير ما يتعلّق بالتبليغ و لذا كان الاولى حمله على التقيّة، و الّا فليحمل على ضرب من التّأويل و لعلّ الأوّل أقرب سيّما مع اشتهار

القصّة بين العامّة و روايتهم لها بطرق متعدّدة.

تبصرة: روى الشيخ الجليل جعفر بن محمد بن قولويه في كامل الزيارات بالإسناد عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أوحى إلى نوح و هو في السّفينة أن يطوف بالبيت اسبوعا فطاف بالبيت اسبوعا كما أوحى اللّه تعالى إليه ثمّ نزل في الماء و الماء إلى ركبتيه، فاستخرج تابوتا فيه عظام آدم عليه السّلام فحمل التابوت في جوف السفينة حتّى طاف بالبيت ما شاء اللّه أن يطوف ثمّ ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها ففيها قال اللّه تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ فبلعت مائها من مسجد

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 553 و عنه البحار ج 11 ص 259.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 419

الكوفة كما بدأ الماء من مسجدها و تفرّق الجمع الّذين كانوا مع نوح في السفينة فأخذ نوح التّابوت فدفنه في الغري «1».

و في القصص بالإسناد إلى الصدوق باسناده إلى وهب قال: لمّا حضر آدم الوفاة أوصى إلى شيث و حفر لآدم في غار في أبي قبيس يقال له غار الكنز فلم يزل آدم في ذلك الغار حتّى كان زمن الغرق استخرجه نوح في تابوت و جعله معه في السفينة «2».

و قد مرّ في خبر العيّاشي الطويل المتقدّم انّ آدم عليه السّلام أوصى إلى هبة اللّه عليه السّلام و قال له: أنظر يا هبة اللّه إذا أنا متّ فاغسلني و كفّني و صلّ عليّ و أدخلني في حفرتي فإذا مضى بعد وفاتي أربعون يوما فاخرج عظامي كلّها من حفرتي بأجمعها جميعا ثم اجعلها في التّابوت احتفظ به و لا تأمننّ عليه أحدا غيرك «3». الخبر على ما مرّ.

ثمّ انّه قد يستشكل في

هذه الأخبار فيما ورد عن الصادق عليه السّلام من أنّ اللّه تبارك و تعالى أوصى إلى موسى بن عمران أن اخرج عظام يوسف من مصر و وعده طلوع القمر إلى أن قال عليه السّلام: فاستخرجه من شاطئ النّيل في صندوق مرمر، فلمّا أخرجه طلع القمر فحمله إلى الشّام «4».

من وجوه: أحدها: انّها بظاهرها تدلّ على جواز نقل الموتى بعد الدفن إلى

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات ص 38- 39 و عنه البحار ج 11 ص 268.

(2) قصص الأنبياء ص 72 ح 55.

(3) تفسير العياشي ج 1 ص 306- 309.

(4) البحار ج 13 ص 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 420

المواضع الشريفة أو مطلقا و ظاهر الأصحاب تحريم ذلك حتى قال ابن إدريس: انّه بدعة في شريعة الإسلام سواء كان النقل إلى مشهد او غيره مضافا إلى ظهور اتّفاقهم على حرمة النبش بعد الدفن.

و ثانيها: انّه قد ورد في جملة من الأخبار أن الأنبياء و الأوصياء صلّى اللّه عليه و آله يرفعون بعد الدفن بأبدانهم من الأرض.

ففي «الكافي» و «الفقيه» و «التهذيب» و غيرها عن زياد بن أبي الحلال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من نبيّ او وصيّ «1» نبيّ يبقى في الأرض اكثر من ثلاثة ايّام حتّى يرفع بروحه و لحمه و عظامه «2» إلى السّماء و إنّما يؤتى موضع آثارهم و يبلّغونهم عن بعيد السّلام و يسمعونهم في مواضع آثارهم عن قريب «3».

و في «التهذيب» عن عطيّة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تمكث جثّة نبيّ و لا وصيّ نبيّ في الأرض أكثر من أربعين يوما «4».

الى غير ذلك ممّا يدلّ على انّهم يرفعون بأبدانهم العنصريّة

من الأرض إلى السّماء بعد ثلاثة ايّام أو أربعين يوما او غيرها مع أنّ الظّاهر من الأخبار المتقدّمة بقاؤهم فيها إلى أن نقلوا من مدفنهم إلى غيره بعد سنين عديدة.

ثالثها: انّ ظاهر الاخبار المتقدّمة أنّ الأرض تأكل من أبدانهم و تفرّق بين

__________________________________________________

(1) في نسخة: و لا وصى نبيّ.

(2) في البحار: و عظمه.

(3) بصائر الدرجات ص 445 ح 9.

(4) بحار الأنوار ج 100 ص 130.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 421

لحومهم و عظامهم حيث خصّ النقل فيها بالعظام، بل في خبر العيّاشي إخراج عظامه عليه السّلام بعد أربعين يوما مع أنّه قد روى في أخبار كثيرة انّ لحومهم محرّمة على الأرض و على الدّود.

ففي «الفقيه» عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ حرّم لحومنا على الأرض و حرّم لحومنا على الدود ان تطعم منها سيئا.

و فيه عنه عليه السّلام: أنّ اللّه تبارك و تعالى حرّم لحومنا على الأرض أن تطعم منها شيئا «1».

و الجواب عن الأوّل: أنّه بعد ثبوت جواز النبش و النقل على فرضه لا بدّ من حمل هذه الأخبار على كونها قضايا في وقائع خاصّة فلا يتعدّى الحكم إلى غيرها على أنّ عدم جواز النقل ليس مقطوعا به في كلامهم و ان كان القول به مشهورا عندهم بل هي مسألة خلافيّة، و ربما استدلّ للقول بالجواز بالاخبار المتقدّمة بناء على قضاء الاستصحاب ببقاء الأحكام الثابتة في الشرائع السّابقة و بالأصل السالم عن معارضة الدليل، سيّما مع انتفاع الميت بشرافة الأرض و جوار من شرّفت به، و لعلّ جوازه كان معلوما بين الشيعة في الأعصار المتقدّمة القريبة من عصر الامام عليه السّلام بحيث ربما يظهر منه تقريره

له و رضاه به لذا نقل عن جملة من علمائنا أنّهم دفنوا ثمّ نقلوا كالمفيد من داره بعد مدّة إلى جوار الكاظمين عليهما السّلام، و المرتضى من داره الى جوار الحسين عليه السّلام. و الشيخ البهائي من أصبهان الى المشهد الرضوي

__________________________________________________

(1) بصائر الدرجات ص 443 و عنه البحار ج 22 ص 550.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 422

على مشرفه السّلام، و لذا أفتى كثير من الأصحاب بجواز النبش للنقل إلى تلك المشاهد و غيرها بل عدّ في «كشف الغطاء» ممّا استثناه من حرمة النبش ان يكون ذلك لايصاله الى محل يرجى فوزه بالثواب أو نجاته من العقاب. كالنقل الى المشاهد المشرّفة، بل مقابر مطلق الأولياء و الشهداء و العلماء و الصلحاء، ثم قال:

و ربما كان هذا القسم أولى من غيره فيخرجه كلّا او بعضا عظما أو لحما او مجتمعا و لو لا قيام الإجماع و السيرة على عدم وجوبه لقلنا بالوجوب في بعض المحال بل قد يحكى عنه أنّه قال: لو توقّف نقله على تقطيعه إربا إربا جاز و لا هتك فيه للحرمة إذا كان بعنوان النفع له و دفع الضرر عنه كما يصنع مثله في الحيّ و تمام الكلام في الفقه.

و عن الثّاني: انّه و ان كان بين الخبرين منافاة بحسب الظّاهر الّا انّ لأصحابنا في الجمع بينهما طرقا منها: انّهم يرفعون بعد الثلاثة ثمّ يرجعون إلى قبورهم و يؤيّده ما قيل: إنّه ورد في بعض الاخبار: انّ كلّ وصيّ يموت يلحق بنبيّه ثمّ يرجع إلى مكانه.

و هذا الوجه و إن احتمله شيخنا المجلسي إلّا أنّه بعيد جدّا من سياق الأخبار المتقدّمة و غيرها ممّا يدلّ عليه بل مخالف لبعض الأخبار.

مثل ما

رواه في كامل الزيارات عن عبد اللّه بن بكر قال: حججت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام إلى أن قال: يا ابن رسول اللّه لو نبش قبر الحسين بن عليّ هل كان يصاب في قبره شي ء؟ فقال: يا ابن بكر ما أعظم مسائلك إنّ الحسين بن عليّ مع أبيه و أمّه و أخيه في منزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه يرزقون و يحبرون، و انّه لعن يمين العرش

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 423

متعلّق به يقول: يا ربّ أنجز لي ما وعدتني «1»، الخبر.

و منها: أنّ أخبار الرفع صدرت لنوع مصلحة تورية لقطع طمع الخوارج و النّواصب الّذين كانوا يريدون نبش قبورهم و إخراجهم منها و قد عزموا على ذلك مرارا فلم يتيسّر لهم، و ربّما يؤيّد ذلك بما في بعض الأخبار من أنّهم نبشوا قبر الحسين عليه السّلام فوجدوه في قبره و انّهم حفروا في الرصافة قبرا فوجدوا فيها شعيب بن صالح، و هذا الوجه ضعيف جدّا بل هو طرح للأخبار المذكورة من دون شاهد رجما بالغيب مع أنّ اللّه سبحانه قد منع أعدائه من أن ينالوا قبور أوليائه بوجوه من المنع من دون أن يلجئهم إلى مثل هذا الكذب الّذي يسرع ظهوره بالنّبش فإنّ المعاندين قد بالغوا في إمحاء قبورهم و آثارهم و إطفاء أنوارهم فأبى اللّه إلا أن يتمّ نوره و لو كره المشركون.

و منها: ما احتمله شيخنا المجلسي أيضا من حمل أخبار نقل العظام على أنّ المراد نقل الصندوق المتشرف بعظامهم و جسدهم في ثلاثة ايّام او أربعين يوما و هو بعيد جدّا.

و منها: ما احتمله أيضا من ردّهم بعد الّرفع إلى الأرض لترتّب تلك المصلحة

المقتضية للرفع.

و منها ما ذكره المحدّث الفيض أفاض اللّه عليه من رحمته بعد نقل الخبر الدّال على الّرفع حيث قال: حمل هذا الحديث على ظاهره غير مستبعد في عالم

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات ص 230.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 424

القدرة و في خوارق عاداتهم عليهم السّلام، مع أنّه يحتمل أن يكون المراد باللّحم و العظم المرفوعين المثاليّين منهما أعني البرزخيّين، و ذلك لعدم تعلّقهم بهذه الأجساد العنصرية فكانّهم و هم بعد في جلابيب من أبدانهم قد نفضوها و تجرّدوا عنها فضلا عمّا بعد وفاتهم.

و الدّليل على ذلك من الحديث قوله عليه السّلام: إنّ اللّه خلق أرواح شيعتنا ممّا خلق منه أبداننا «1».

فأبدانهم ليس إلّا تلك الأجساد اللّطيفة المثاليّة، و أمّا العنصرية فكأنّها أبدان الأبدان.

و يدلّ على ذلك ما ورد: إنّ اللّه أوحى إلى نوح أن يستخرج من الماء تابوتا فيه عظام آدم عليه السّلام فيدفنه في الغريّ ففعل «2».

و ما ورد: انّ اللّه سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران ان أخرج عظام يوسف ابن يعقوب من مصر فاستخرجها من شاطئ النيل في صندوق مرمر «3».

فلو لا أنّ الأجساد العنصريّة منهم تبقى في الأرض لما كان لاستخراج العظام و نقلها من موضع إلى موضع آخر بعد سنين عديدة معنى.

و اعترضه المحدّث البحراني بأنّه مبنيّ على ثبوت الأجساد المثاليّة في النشأة الدّنيويّة بحيث يكون للرّوح فيها جسدان مثالي و عنصري، و هذا ممّا لم يقم

__________________________________________________

(1) البصائر ص 7 و فيه: و خلق أرواح شيعتنا من أبداننا.

(2) كامل الزيارات ص 38- 39 و عنه البحار ج 11 ص 268.

(3) بحار الأنوار ج 13 ص 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 425

عليه دليل، و

غاية ما يستفاد من الأخبار: انّ المؤمن إذا مات جعل اللّه روحه في النشأة البرزخيّة في قالب كقالبه في الدّنيا بحيث لو رأيته لقلت: فلان ثمّ ينقل إلى وادي السّلام و انّهم يجلسون حلقا حلقا يتحدّثون و يتنعّمون، و ايضا فتصريح الخبر برفع اللحم و العظم لا ينطبق إلّا على الجسد العنصري، لأنّ إثبات ذلك للجسد الثاني لا يخلو عن تمحل و تعسّف لدلالة الخبرين على الرّفع بالأبدان العنصريّة كما يدلّ عليه أيضا.

ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن سعد الإسكاف قال: حدّثني أبو عبد اللّه عليه السّلام قال: انّه لما أصيب أمير المؤمنين عليه السّلام قال للحسن و الحسين عليهما السّلام: غسّلاني و كفّناني و حنّطاني و احملاني على سرير و احملا مؤخّره تكفيان مقدّمه، فإنكما تنتهيان إلى قبر محفور و لحد ملحود و لبن موضوع فالحداني، و اشرجا اللبن عليّ و ارفعا لبنة ممّا يلي رأسي فانظرا ما تسمعان، فأخذ اللّبنة من عند رأسه فإذا ليس في القبر شي ء، و إذا هاتف يهتف:

أمير المؤمنين كان عبدا صالحا للّه فألحقه اللّه بنبيّه، و كذلك يفعل بالأوصياء بعد الأنبياء حتّى لو أنّ نبيّا مات في المشرق و مات وصيّه في المغرب لألحق الوصيّ بالنبيّ «1».

أقول: و فيه انّ الأجسام المثاليّة في هذا العالم ممّا لا مساغ لأحد إلى إنكارها بعد ما دلّت الآيات الآفاقيّة و الأنفسية على ثبوتها فانّ النّائم يرى فيما يراه انّه قد

__________________________________________________

(1) فرحة الغري ص 2 و ص 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 426

ضرب في الأرض و دخل البلاد و تكلّم مع كثير من الأشخاص و شاهدهم و سمع منهم مع أنّ بدنه العنصري متدثّر بدثار النوم في بيته، و ربما

يكون كثيرا ممّا رآه موافقا لما في الواقع إمّا تطبيقا او تأويلا و تحويلا، بل ربما يرى الأشخاص الكثيرة من الأحياء و الأموات، و يتكلّم معهم و يستفيد ممّا عندهم مع أن الأبدان العنصريّة لتلك الأشخاص غير مشاهد له قطعا و لعلّها صارت عظاما و رفاتا، و هو يراهم في صورة الأحياء الّذين يشافههم و يناظرهم، و حمل الّرؤيا على مجرّد الخيال من خيالات الفلاسفة، إذ الظّاهر من الشرع و اهله كونها بالأبدان المثاليّة للرّائي و المرئي على ما تأتي إليه الإشارة.

بل ربما يدلّ عليه النبوي المستفيض من طريق الفريقين: من رآني فقد رآني فانّ الشيطان لا يتشبّه بي.

و في خبر آخر: لا يتمثّل بي. و في ثالث: من رآني في النّوم فقد رآني فانّه لا ينبغي للشيطان أن يتمثّل في صورتي.

و في رابع: من رآني فقد رأى الحقّ فإنّ الشيطان لا يتراءى بي.

و في خامس: رواه الرضا عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله: من رآني في منامه فقد رآني لأنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي و لا في صورة أحد من اوصيائي و لا في صورة احد من شيعتهم «1».

فانّ الظّاهر منه باختلاف ألفاظه انّها إنّما تكون بالتمثل و التشبّه و معناه تعلّق

__________________________________________________

(1) امالي الصدوق ص 64 و عنه البحار ج 49 ص 283.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 427

الرؤيا حال الرّؤيا بالصورة و المثال من جهة المرئي.

و أما كونه من جهة الرّائي من جهة المثال فواضح، هذا مضافا إلى الشّواهد الكثيرة الدّالّة على ثبوتها من الأخبار و الاعتبار على ما نشير إليها في تفسير الآيات المتعلّقة بأحوال البرزخ و المعاد و لذا يعزى القول بها إلى كثير من المسلمين.

قال

شيخنا المجلسي (رحمه اللّه) في جملة كلام له: انّ الرّوح يتعلّق في البرزخ بالأجساد المثاليّة اللطيفة الشبيهة بأجسام الجنّ و الملائكة المضاهية في الصّورة للأبدان الأصليّة ثمّ قال: إنّه و إن كان يمكن تصحيح بعض الأخبار بالقول بتجسّم الروح ايضا بدون الأجسام المثالية، لكن مع ورود الأجساد المثالية في الأخبار المعتبرة المؤيّدة بالأخبار المستفيضة لا محيص عن القول بها إلى أن قال:

و قد قال به كثير من المسلمين كشيخنا المفيد قدّس اللّه روحه و غيره من علمائنا المتكلّمين و المحدّثين، بل لا يبعد القول بتعلّق الرّوح بالأجساد المثاليّة عند النّوم ايضا كما يشهد به ما يرى في المنام، و قد وقع في الاخبار تشبيه حالة البرزخ و ما يجري فيها بحالة الرّؤيا و ما يشاهد فيها، بل يمكن أن يكون للنفوس القويّة العالية أجساد مثاليّة كثيرة كأئمّتنا صلوات اللّه عليهم حتّى لا نحتاج إلى بعض التأويلات و التّوجيهات في حضورهم عند كلّ ميّت و سائر غرائب أحوالهم من عروجهم إلى السموات كلّ ليلة جمعة و غير ذلك «1».

ثمّ انّ من جميع ذلك و غيره يظهر لك ضعف ما ذكره المحدّث المذكور في

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 6 ص 269.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 428

جملة كلام له لم نتعرّض لحكايته: من أنّا لم نقف في الأخبار على ما يدلّ على ثبوت الأجساد المثاليّة للأنبياء و الأئمّة صلوات اللّه عليهم بعد الموت فضلا عمّا ادّعاه المحدّث الفيض من الوجود في الدنيا.

إذ فيه أنّ الأخبار على ذلك كثيرة جدّا مثل ما ورد من أنّ الملائكة اشتاقت إلى رؤية عليّ بن ابي طالب فخلق اللّه تعالى صورته في السموات.

و انّ لكلّ مؤمن مثالا في السّماء يفعل كفعله

في الدّنيا، على ما مرّت الإشارة إليها و إلى غيرها فيما تقدم.

و امّا ما ذكره الفيض من رفع المثالي و بقاء العنصري فهو بعيد جدّا، بل لعلّه مقطوع العدم عن مساق أخبار الباب بكثرتها و اشتهارها بين العصابة، مع أنّ جميع المؤمنين مشتركون معهم في نقل أبدانهم المثاليّة عن قبورهم إلى جنان البرزخ، فلا اختصاص لهم بذلك، مع أنّ ظاهر الأخبار هو الإختصاص، و لذا قال المفيد في شرح العقائد: إنّه قد جاء في الحديث: انّ الأنبياء خاصّة و الأئمّة عليهم السّلام من بعدهم ينقلون بأجسادهم و أرواحهم من الأرض إلى السّماء فينعّمون في أجسادهم الّتي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا، و هذا خاصّ بحجج اللّه دون من سواهم من النّاس.

فرفع أبدانهم العنصريّة ممّا لا ريب فيه، نعم من المحتمل قريبا أن يبقى في قبورهم بعد رفعهم بدن من أبدانهم المثاليّة لما يقصدونهم النّاس، و هو الّذي يرى في قبورهم عند النّبش أزمنة طويلة، و إنّما جعل اللّه هذا المثال لبركات العباد و توجّهاتهم و ضراعاتهم كما جعل في ايّام حياتهم و بقائهم بأبدانهم العنصريّة في الدّنيا مثالهم في السموات ليكون مثابة و أمنا و مطافا للملائكة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 429

و منها: ما ذكره المحدّث البحراني بعد تمهيد مقدّمة هي: أنّ المستفاد من جملة من الأخبار انّ دفن الميّت إنّما يقع في موقع تربته الّتي خلق منها كما في «الكافي» في الصّحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: من خلق من تربة دفن فيها «1».

و فيه عن الصّادق عليه السّلام: إنّ النّطفة إذا وقعت في الرّحم بعث اللّه ملكا فأخذ من التّربة الّتي يدفن فيها فمائها في النّطفة فلا

يزال قلبه يحنّ إليها حتّى يدفن فيها.

الى غير ذلك من الأخبار الدّالة عليه و حينئذ فنقول: ما ورد من الأخبار دالّا على رفعهم عليهم السّلام من الأرض بالأبدان العنصريّة يجب تقييده بما دلّت عليه هذه الاخبار من الدّفن في الموضع الاصلي و المقرّ الحقيقي الّذي أخذت منه الطينة و يجب حمل خبري عظام آدم و يوسف عليهما السّلام على الدّفن في غير الموضع المشار اليه فكانّه إنّما وقع على وجه الإيداع في هذا المكان لمصلحة لا نعلمها و المقرّ الحقيقي إنّما هو الموضع الّذي أمر اللّه سبحانه بالنقل اليه و بعد فيصير الدّفن في ذلك الموضع من قبيل ما لو بقي على وجه الأرض من غير دفن في وجوب بقاء الجسد العنصري و إن جاز انتقال كلّ منهما عليهما السّلام إلى بدن مثالي في ذلك العالم لعدم إمكان نقل البدن العنصري حيث إنّه مأمور بنقله إلى ذلك المكان الأخر بعد الإيداع في هذا المكان مدّة، فمن أجل ذلك لم يرفعا به، و أمّا وجه الحكم في الدّفن أوّلا في مكان مع عدم كون المكان الأصلي و التربة الحقيقيّة، فلا يجب علينا أن نطلب وجهه، و إنما علينا

__________________________________________________

(1) الكافي: ج 3 ص 202 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 430

الإيمان به.

قال: و هذا وجه وجيه تلتئم عليه الأخبار من غير تأويل و لا خروج عن ظواهر ألفاظها.

و أمّا الجمع بين خبري الثلاثة و الأربعين فيمكن حمل الأوّل على اقل المدّة، و الثاني على أكثرها، و لعلّ ذلك بتفاوت مراتبهم عنده سبحانه.

أقول: و هذا الوجه لا بأس به، و ان كان فيه خروج عن ظاهر لفظ الخبر، و غيره من الأخبار الدالّة على دفن آدم،

و انّه لا يمكث جثّة من نبيّ و لا وصيّ نبيّ في الأرض اكثر من كذا و كذا.

و منه يظهر ضعف ما ادّعاه من قيام الأخبار عليه من غير تأويل و لا خروج عن ظواهرها.

و عن الثّالث: أنّ المراد بالعظام في الخبرين تمام البدن باجزائه تسمية للكلّ باسم الجزء الّذي به قوامه كاطلاق الرّقبة على الإنسان فإنّ العظام دعامة البدن و أشرف ما فيه من وجه حتّى أنّ جميعها يقوم مقام الجسد في الاحكام من وجوب الصّلوة على جميع عظام الميّت إذا وجدت و كون الإطلاق مجازيّا لا بأس به بعد دلالة الأخبار المستفيضة على أنّ الأرض لا تأخذ من جسدهم بل و لا من جسد شيعتهم بل هو المشاهد أيضا في كثير من الأزمنة حيث نبشوا قبور بعض المؤمنين فوجدوه غضّا طريّا بعد أن مضى من وفاتهم أعصار طويلة فمن ذلك ما يحكى عن روضة العارفين نقلا عن بعض الثقات المعاصرين له انّ بعض حكّام بغداد رأى بناء قبر شيخنا أبي جعفر الكليني عطّر اللّه مرقده فسأل عنه فقيل: إنّه قبر بعض الشيعة

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 431

فأمر بهدمه فحفر القبر فرآه بكفنه لم يتغيّر و مدفون معه أخر صغير بكفنه ايضا فأمر بدفنه و بنى عليه قبّة، و يقال: إنّ بعض حكّام بغداد أراد نبش قبر سيّدنا ابي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام و قال: إنّ الرافضة يدّعون في أئمّتهم انّهم لا تبلى أجسادهم بعد موتهم و أريد أن أكذّبهم فقال له وزيره: إنّهم يدّعون في علمائهم ايضا ما يدّعونه في أئمتهم و هنا قبر محمد بن يعقوب الكليني من علمائهم فأمر بحفره فإن كان على ما يدّعونه عرفنا صدق مقالهم

في أئمّتهم و إلّا تبيّن كذبهم، فلما حفروا قبره وجدوه بكفنه كما مرّ، بل قد وقع مرّات كثيرة بالنّسبة إلى الشهداء و العلماء و سائر المؤمنين و قد اتّفق في عصرنا أن انهدم قبر الشيخ الصّدوق محمد بن عليّ بن بابويه بالري فرأوه بكفنه لم يتغيّر أصلا، و رآه خلق كثير من أهل طهران و من الزّوار و القوافل إلى أن أمر السلطان محمّد شاه غفر اللّه له بتعمير قبّته على ما هو عليه الآن، و قد حدّثني جمع كثير من الثقات أنّهم رأوا بدنه الشريف.

و أمّا ما يقال: من أنّ هذا كلّه معارض بما روي من انّه كان رجل ذميّ في زمن الامام العسكري عليه السّلام و انّه كان يمدّ يده إلى السّماء فيقع المطر حتّى اضطرب بعض المسلمين فأرسل المتوكّل لعنه اللّه إلى العسكري عليه السّلام ان أدرك دين جدّك فلمّا حضر عليه السّلام قال للرّجل أدع فلمّا مدّ يده قبض عليها الامام عليه السّلام و أخذ منها عظما فقال له أدع ان كنت صادقا فلمّا دعا لم ينزل المطر، فقال عليه السّلام: إنّ هذا عظم نبيّ من أنبياء اللّه و ما كشف عظم نبيّ تحت السّماء إلّا وقع المطر «1».

__________________________________________________

(1) منقول المعنى و مصدره مناقب إلى أبي طالب ج 4 ص 425 و مختار الخرائج ص 214 و عنهما البحار ج 50 ص 270 ح 37 و أخرجه في كشف الغمّة ج 3 ص 311.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 432

ففيه انّه غير صالح لمعارضة ما سمعت من الأخبار المشتملة على الصّحاح و غيرها بعد شهرتها بين الطائفة بل بين مخالفينا ايضا كما مرّ مضافا إلى شهادة العيان بصدقها سيّما مع

ضعف الخبر المذكور سندا.

و ربما أجاب عنه الشيخ الأمجد الاحسائي مرّة بأنه يحتمل أن يكون ذلك الخبيث قطعه من جسد ذلك النّبي عليه السّلام و كشط ما به من اللّحم، و اخرى بأن يكون معنى قوله في تلك الاخبار ان جسده لا يبلى و لا تأكله الأرض أي لا تفني منه شيئا و ان تفكّك و اختلّت بنيّته فهذه باقية إذ لا عرض فيها لأنّه عليه السّلام صفاها في الدّنيا كمال التّصفية فجسده كالذّهب الصّافي و ان تفرّق بالتقطيع و المبرد لا يفنى منه شي ء بل إذا جمعته و أذبته رجع بكماله.

أقول و فيهما نظر امّا الأوّل فلانّ جسد نبيّ من الأنبياء لم يبق في الأرض في زمان العسكري حتّى يقطعه الخبيث و يكشط ما به اللّحم إلّا أن يبنى على شي ء من الوجوه المتقدّمة من تأخير الرّفع او تعقيبه بالنزول او غيرهما و هو غير واضح.

و امّا الثّاني: فلأنّه لا وجه لصرف تلك الأخبار عن ظاهرها و ارتكاب التّأويل فيها و مجرّد صفاء أبدانهم من الكدورات و العوارض الدّنيويّة لا يقضي بارتكاب التّأويل فيها بل هو ممّا يقتضي حملها على ظواهرها فانّ التفكيك و اختلال البنية لا يمكن تطرقه إلى شي ء من الأبدان إلّا باستيلاء المؤثرات الخارجة عليها و انفعال تلك الأبدان منها و المؤثّر الخارجي في المقام إنّما هي الأرض الّتي تبلي الأبدان و تعيدها رفاتا و فتاتا، و بالجملة فلا وجه لردّ تلك الاخبار، بل في ردّها ردّ أخبار الرّفع ايضا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 433

تفسير الآية (40)

اشارة

يا بَنِي كلمة «يا» حرف نداء للبعيد. أو كالبعيد كما قال ابن مالك «1» في ألفيته:

و للمنادى الناء أو كالناء يا و أي و

أ، كذا أيا ثمّ هيا و زعم بعضهم أنّ «يا» اسم فعل معناها انادي، و لكنّ الفخر الرازي «2» ردّ عليه و قال:

أمّا الّذين فسّروا قولنا: «يا زيد» بأنادي زيدا، أو أخاطب زيدا فهو خطأ من وجوه:

أحدها: أنّ قولنا: أنادي زيدا خبر يحتمل التصديق و التكذيب، و قولنا: يا زيد لا يحتملهما.

و ثانيها: أنّ قولنا: يا زيد يقتضي صيرورة زيد منادى في الحال، و قولنا: أنادي زيدا لا يقتضي تلك.

و ثالثها: أنّ قولنا: يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا بهذا الخطاب، و قولنا:

أنادي زيدا لا يقتضي ذلك. لأنّه يمتنع أن يخبر إنسانا آخر بأنّي أنادي زيدا.

و رابعها: أنّ قولنا: أنادي زيدا إخبار عن النداء، و الإخبار عن النداء غير النداء، و النداء هو قولنا يا زيد، فإذن قولنا أنادي زيدا غير قولنا يا زيد. «3» و ليعلم أنّ «يا» كما تقدّم حرف وضع في أصله لنداء البعيد و لكن قد يستعمل في مناداة من سهى و غفل و إن كان قريبا من المنادي، تنزيلا منزلة البعيد.

__________________________________________________

(1) هو محمد بن عبد اللّه الاندلسيّ الشافعيّ النحوي اللغوي المقرئ الأديب المتوفى سنة (672) ه.

(2) هو محمد بن عمر بن الحسين الطبري الأصل الرازي المولد الاشعري الأصول الشافعي الفروع المعروف بالفخر الرازي و الملقب بابن الخطيب توفي سنة (606) ه

(3) التفسير الكبير للرازي: ج 2 ص 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 434

فإن قيل: فلما ذا يقول الداعي: يا ربّ يا اللّه؟ مع أنّه تعالى أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قيل في الجواب: هو استبعاد لنفس الداعي من مظانّ الزلفى هضما لنفسه، و إقرارا عليها بالتنصيص كما عن زين العابدين و سيّد الساجدين عليه صلوات اللّه

في دعائه المشهور المروية عن أبي حمزة الثمالي «1» أنه قال مناجيا لربّه سبحانه: «و أن الراحل إليك قريب المسافة و انّك لا تحتجب عن خلقك إلّا أن تحجبهم الأعمال دونك.

و قيل بالفارسية:

دوست نزديك تر أز من به من است اين عجب تر كه من أز وي دورم چكنم با كه توان گفت كه دوست در كنار من و من مهجورم بَنِي منادى مضاف، و علامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم و قد تغيّر بناء مفردة، و حذفت منه النون للإضافة. و واحده ابن شبيه بجمع التكسير، و لذلك قالوا في جمعه: أبناء، و في جمع سلامته قالوا: بنون، و هو جمع شاذّ، و عاملت العرب في هذا الجمع معاملة جمع التكسير فألحقت التاء في فعله كما ألحقت في فعل جمع التكسير قال النابغة «2»:

__________________________________________________

(1) هو ثابت بن دينار المعروف بأبي حمزة الثمالي، كان لقمان زمانه جليل القدر و كان من مشايخ أهل الكوفة و زهّادهم توفي سنة (150) ه

(2) هو قيس بن عبد اللّه الجعدي العامري، صحابي من المعمّرين، جاوز المائة، و كان ممّن هجر الأوثان قبل ظهور الإسلام و وفد على النبي صلّى اللّه عليه و آله فأسلم و أدرك صفّين فشهدها مع علي عليه السّلام، ثم سكن الكوفة، فسيّره معاوية الى أصبهان مع أحد ولاتها فمات فيها نحو سنة (50) ه الأعلام ج 6 ص 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 435

قالت بنو عامر خالو بني أسد يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام قد سمع الجمع بالواو و النون فيه مصغّرا، قال يسدد:

أبينوها الأصاغر خلّتي ... و هو شاذّ أيضا. «1» و هو مختص بالأولاد الذكور، و

إذا أضيف عمّ في العرف الذكور و الإناث فيكون بمعنى الأولاد- و هو المراد هنا-.

و هو محذوف اللام، و في كونها ياء أو واوا خلاف فذهب الى الأول ابن درستويه «2» و جعله مشتقا من البناء و هو وضع الشي ء على الشي ء، لأنّ الابن فرع الأب و مبني عليه، و لهذا ينسب المصنوع الى صانعه، فيقال للقصيدة بنت الفكر، و قد أطلق في الشرائع المنسوخة على بعض المخلوقين أبناء اللّه تعالى- بهذا المعنى، لكن لمّا تصوّر من هذا الجهلة الأغبياء- معنى الولادة- حظر ذلك حتّى صار التفوّه به كفرا.

و ذهب الى الثاني الأخفش و أيّده بأنّهم قالوا: البنوّة، و بأنّ حذف الواو أكثر، و قد حذفت في- أب و أخ- و به قال الجوهري «3»، و لكن لا دلالة في قولهم: البنوّة، لأنهم قالوا أيضا: الفتوة، و لا خلاف في أنها من ذوات الياء، و أمر الأكثرية سهل.

و قال الطبرسي في «مجمع البيان»: الإبن و الولد و النسل و الذريّة متقاربة المعاني إلّا أنّ الابن للذكر، و الولد يقع على الأنثى و الذكر، و النسل و الذريّة يقع على جميع ذلك و أصله من البناء و هو وضع الشي ء على الشي ء. فالابن مبنيّ على الأب لأن الأب أصل و الابن فرع، و البنوّة مصدر الابن و ان كان من الياء كالفتوة مصدر

__________________________________________________

(1) تفسير البحر المحيط: ج 1 ص 171.

(2) هو عبد اللّه بن جعفر بن درستويه الفارسي النحوي أبو محمد توفي ببغداد سنة (347) ه و له (89) سنة، العبر: ج 2 ص 282.

(3) الجوهري: أبو نصر إسماعيل بن حمّاد الفارابي صاحب «صحاح اللغة» توفي سنة (393) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5،

ص: 436

الفتى، و تثنيته فتيان. «1» إِسْرائِيلَ مضاف إليه مجرور و علامة جرّه الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلميّة و العجمة.

و فيه ثمان لغات: إِسْرائِيلَ و هي لغة القرآن في «43» آية أولاها هذه الآية، و هي القراءة المشهورة مهموز ممدود مشبع، و «إسراييل» بيائين بعد الألف، و هي قراءة أبي جعفر «2»، و الأعمش «3»، و عيسى بن عمر «4» و «إسرائل» بهمزة و لام، و هو مرويّ عن ورش «5» و عن الأخفش، و «إسرال» من غير همز و لا ياء حكى عن قطرب «6» كما في «مجمع البيان» «7».

و «إسرئل» بهمزة مكسورة بعد الراء، و «إسرائل» بهمزة مفتوحة بعد الراء

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 92.

(2) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي المدني أحد القرّاء العشرة، تابعي مشهور، مات بالمدينة سنة (130) ه، غاية النهاية: ج 2 ص 382 رقم 3882.

(3) هو سليمان بن مهران الأعمش أبو محمد الاسدي الكوفي ولد سنة (60) و أخذ القراءة عن جماعة منهم عاصم بن أبي النجود و رواها عنه جماعة منهم حمزة الزيّات توفي سنة (148) ه، غاية النهاية: ج 1 ص 315.

(4) هو عيسى بن عمر أبو عمر الهمداني الكوفي القارئ الأعمى. مقرئ الكوفة بعد حمزة الزيات، مات سنة (156) ه، غاية النهاية ج 1 ص 612.

(5) هو عثمان بن سعيد بن عبد اللّه بن عمر المصري الملقب بورش شيخ القرّاء في زمانه ولد سنة (110) بمصر و رحل الى نافع و عرض عليه القران عدّة ختمات في سنة (155) مات بمصر سنة (197) ه، غاية النهاية: ج 1 ص 502.

(6) قطرب: أبو علي

محمد بن المستنير البصري اللغوي النحوي الأديب البارع مات سنة (206) ه، هدية الأحباب: ص 220.

(7) مجمع البيان: ج 1 ص 92.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 437

كما في تفسير القرطبي «1»، و «إسرائين» بالنون حكى عن تميم كما في جامع القرطبي قال الشاعر:

يقول أهل السوء لمّا جنيا هذا و ربّ البيت اسرائينا و «إسرال» بألف ممالة بعدها لام خفيفة أو غير ممالة، قال أميّة:

لا أرى من يعيشني في حياتي غير نفسي إلّا بني إسرالا «2»

إسرائيل في اللغة

هذه الكلمة مركبة من كلمتين: إسرا، و إيل، و «إسرا» في اللغة العبرانيّة بمعنى العبد كما حكي عن ابن عبّاس، و «ايل» في هذه اللغة هو اللّه سبحانه فمعنى إسرائيل: عبد اللّه، فيكون مثل جبرائيل، و ميكائيل، و اسرافيل، و عزرائيل.

و قيل: «إسرا» بمعنى الصفوة، و «إيل» هو اللّه تعالى. فمعناه: صفوة اللّه، روى ذلك أيضا عن ابن عباس.

و قيل: «إسرا» مشتق من الأسر، و هو الشدّ فكأن إسرائيل الّذي شدّه اللّه و أتقن خلقه ذكره القرطبي و أبو حيّان «3».

__________________________________________________

(1) القرطبي: أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الانصاري الخزرجي الأندلسي المفسّر توفي في التاسع من شوال سنة (671) ه.

(2) البحر المحيط في التفسير لأبي حيان الأندلسي: ج 1 ص 171- 172.

(3) أبو حيان محمد بن يوسف بن علي الاندلسي الجيّاني النحوي الأديب توفي سنة (745) ه و من مصنّفاته: البحر المحيط في التفسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 438

و قيل: أسرى يعقوب ذات ليلة مهاجرا الى اللّه تعالى فسمّي إسرائيل حكاه القرطبي عن السهيلي «1».

و قيل: أسرّ يعقوب جنّيا كان يطفئ سرج بيت المقدس و كان اسم الجنّي «ايل» و كان

يخدم بيت المقدس و كان أوّل من يدخل و أخر من يخرج، ذكره أبو حيّان عن كعب «2».

و قيل: أسرى بالليل هاربا من أخيه «عيمو» الى خاله في حكاية طويلة ذكروها، فأطلق ذلك عليه و هذه أقاويل ضعاف «3». و فيها تصرّفات لا يعتمد عليها.

«إسرائيل» هو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم السّلام.

قال القرطبي: قال ابو الفرج الجوزي «4»: ليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلّا نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ له أسماء كثيرة، ذكره في كتاب «فهوم الآثار».

قلت: و قد قيل في المسيح: إنّه اسم علم لعيسى عليه السّلام غير مشتق، و قد سمّاه اللّه روحا و كلمة، و كانوا يسمّونه أبيل الأبيلين، ذكره الجوهري في «الصحاح».

__________________________________________________

(1) السهيلي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد اللّه بن احمد الاندلسي النحوي اللغوي المفسّر توفي سنة (681) ه بمراكش.

(2) كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري أبو إسحاق، تابعي، كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، و أسلم في زمن أبي بكر، و قدم المدينة في دولة عمر، فأخذوا عنه كثيرا من أخبار الأمم الغابرة. خرج الى الشام فسكن حمص و مات فيها سنة (32) ه عن (104) سنين، و في البحار ج 57 ص 90: كان عند عمر فاعترف بأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أعلم الناس بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله فغضب عمر، و قال ابن أبي الحديد كما في البحار ج 34 ص 289: كان كعب الأحبار منحرفا عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

(3) تفسير البحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 171.

(4) أبو الفرج عبد الرحمن علي الحنبلي المفسّر الواعظ صاحب تصانيف

معروفة، توفي سنة (597) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 439

و ذكر البيهقي «1» في دلائل النبوة عن الخليل بن أحمد «2»: خمسة من الأنبياء ذو اسمين: محمد و أحمد نبينا صلّى اللّه عليه و آله، و عيسى و المسيح، و إسرائيل و يعقوب، و يونس و ذو النون، و إلياس و ذو الكفل صلى اللّه عليهم و سلم. «3» و في «عيون الأخبار» باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام حديث طويل و فيه:

سأله عن ستّة من الأنبياء لهم اسمان؟ فقال عليه السّلام: يوشع بن نون، و هو ذو الكفل، و يعقوب و هو إسرائيل، و الخضر و هو حلقيا، و يونس و هو ذو النون، و عيسى و هو المسيح، و محمد و أحمد صلّى اللّه عليه و آله. «4» يا بَنِي إِسْرائِيلَ اتّفق المفسّرون على أنّ إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم، و في أحاديث أهل البيت عليهم السّلام تصريح بذلك، منها ما رواه ابن بابويه رضى اللّه عنه «5» في «علل الشرائع» باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان يعقوب و عيص توأمين، فولد عيص، ثم ولد يعقوب فسمّي يعقوب لأنه خرج بعقب أخيه عيص، و يعقوب هو إسرائيل، و معنى إسرائيل عبد اللّه، لأنّ اسرا هو عبد، و إيل هو اللّه عزّ و جلّ «6»

__________________________________________________

(1) خليل بن أحمد الازدي البصري صاحب العربية و العروض و صاحب كتاب العين في اللغة توفي سنة (175) ه على أحد الأقوال، العبر ج 1 ص 268.

(2) البيهقي: أحمد بن الحسين بن علي الشافعي الخسروجردي الحافظ الفقيه، توفي بنيسابور سنة 458) ه.

(3) تفسير القرطبي: ج 1 ص 330.

(4) عيون

الأخبار: ج 1 ص 245 ب 24 ح 1.

(5) هو ابو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي شيخ الحفظة و وجه الطائفة رئيس المحدثين و الصدوق فيما يرويه عن الأئمة الطاهرين عليهم السّلام توفي سنة (381) ه و دفن بالري قرب عبد العظيم الحسني قدس اللّه روحه، هدية الأحباب: ص 49.

(6) علل الشرائع: ج 1 ص 43 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 440

و روي في خبر آخر: أن اسرا هو القوّة، و إيل هو اللّه عزّ و جلّ فمعنى إسرائيل: قوّة اللّه عزّ و جلّ. «1» يا بني إسرائيل خطاب لأولاد يعقوب نسبهم الى الأب الأعلى و لم يقل: يا بني يعقوب، لما في لفظ إسرائيل كما تقدم أنّ معناه عبد اللّه أو قوة اللّه أو صفوة اللّه فهزّهم بالإضافة إليه فكأنه قيل: يا بني عبد اللّه أو يا بني صفوة اللّه، فكأن في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في العبودية للّه و الاصطفاء، كما تقول: يا ابن الرجل الصالح أطع اللّه فتضيفه الى ما يحركه لطاعة اللّه، لأنّ الإنسان يحبّ أن يقتفي أثار آباءه و إن لم يكن بذلك محمودا فكيف إذا كان محمودا.

قال شيخ الطائفة «2» في «التبيان»: قال أكثر المفسرين: إن المعنى بهذا الخطاب أحبار اليهود الّذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو المحكي عن ابن عباس.

و قال الجبائي «3»: المعنيّ به بنو إسرائيل من اليهود و النصارى و نسبهم الى الأب الأعلى، كما قال: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «4». «5» قال أبو حيان: المراد بقوله: «يا بني إسرائيل» من كان بحضرة رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ج 1 ص 43 ح 2.

(2) هو ابو جعفر الطوسي محمد بن الحسن شيخ الطائفة المحقة توفي في 22 محرم سنة (460) ه قال صاحب تحفة المقال السيد حسين البروجردي صاحب تفسير الصراط المستقيم هذا الكتاب في منظومته:

محمد بن الحسن الطوسي أبو جعفر الشيخ الجليل الأنجب

جل الكمالات اليه ينتسب تنجّز القبض (460) و عمره (75) عجب

(3) هو أبو علي الجبّائي محمد بن عبد الوهاب البصري شيخ المعتزلة، و ابو شيخ المعتزلة أبي هاشم، توفي سنة (303) ه، العبر ج 2 ص 131.

(4) الأعراف: 31.

(5) التبيان: ج 1 ص 181.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 441

بالمدينة و ما والاها من بني إسرائيل، أو من أسلم من اليهود و آمن بالنبي صلّى اللّه عليه و آله أو أسلاف بني إسرائيل، أقوال ثلاثة و الأقرب الأول، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له: آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ «1» إلّا على ضرب من التأويل، و من آمن منهم لا يقال له: أمنوا ... إلّا بمجاز بعيد «2» و تخصيص هذه الطائفة بالذكر و التذكير و التذكير لما أنهم أوفر الناس نعمة و أكثرهم كفرا بها.

اذْكُرُوا فعل أمر مبنيّ على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، و الواو فاعل، و هو مشتق من الذكر- بكسر الذال و ضمها- بمعنى واحد، و يكونان باللسان و الجنان.

قال الكسائي «3»: هو بالكسر للسان، و بالضم للقلب. و ضدّ الأول الصمت، و ضدّ الثاني النسيان.

و على الأول يكون المعنى أمرّوا النعم على السنتكم و لا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على

اللسان و مدارستها سبب لأن لا تنسى.

و على الثاني يكون المعنى تنبّهوا للنعم و لا تغفلوا عن شكرها.

نِعْمَتِيَ هي مفعول به منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم و الياء مضاف إليه.

__________________________________________________

(1) البقرة: 41.

(2) تفسير البحر المحيط: ج 1 ص 174.

(3) هو ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي الكسائي، أحد القرّاء السبعة و مؤدب هارون و الأمين، و كان من تلامذة الخليل.

قال الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال علي الكسائي مات سنة (189) ه، العبر ح 1 ص 302.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 442

«حدّ النعمة» قال الراغب «1» في «المفردات»: النعمة: (بالكسر) الحالة الحسنة، و بناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة و الركبة، و النعمة (بفتح النون): التنعم و بناؤها المرّة من الفعل، كالضربة و الشتمة، و النعمة، و النعمة (بالكسر) للجنس تقال للقليل و الكثير، قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2»، اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ «3».

و قال الرازي في «مفاتيح الغيب»: النعمة هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان الى الغير، و قولنا: المفعولة على جهة الإحسان لأنها لو كانت منفعة و قصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به أو قصد الإضرار به لم يكن ذلك نعمة.

إذا عرفت النعمة فلنذكر مطلبين: الأول: أن كلّ ما يصل إلينا أناء الليل و النهار في الدنيا و الآخرة من النفع و دفع الضرر فهو من اللّه تعالى على ما قال تعالى: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ «4».

ثمّ إنّ النعمة على ثلاثة أوجه:

أحدها: نعمة تفرد بها اللّه تعالى نحو الخلق، و الرزق.

و ثانيها: نعمة وصلت إلينا من جهة غيره، بأن

خلقها و خلق المنعم، و مكّنه من الإنعام، و خلق فيه داعيته و وفقه عليه و هداه إليه، فهذه النعمة في الحقيقة أيضا من اللّه عزّ و جلّ، إلّا أنه تعالى لمّا أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكورا، و لكن

__________________________________________________

(1) الراغب الاصفهاني: أبو القاسم حسين بن محمد المفضل الشافعي صاحب اللغة و العربية و الحديث و الشعر و الأدب توفي سنة (502) ه.

(2) النحل: 18.

(3) البقرة: 40.

(4) النحل: 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 443

المشكور في الحقيقة هو اللّه عز و جل، و لهذا قال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ «1» فبدأ بنفسه.

و ثالثها: نعمة وصلت إلينا من اللّه تعالى بواسطة طاعاتنا و هي أيضا من اللّه تعالى، لأنه لو لا أنه سبحانه و تعالى وفقنا على الطاعات و أعاننا عليها و هدانا إليها و أزاح الاعذار لما وصلنا الى شي ء منها. فظهر بهذا التقرير أنّ جميع النعم من اللّه تعالى.

المطلب الثاني: أنّ نعم اللّه تعالى على عبيده ممّا لا يمكن عدّها و حصرها على ما قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2» لأنّ المنفعة هي اللذة، أو ما يكون وسيلة الى اللذة، و جميع ما خلق اللّه تعالى كذلك، لأنّ كلّ ما يلتذّ به و هو وسيلة الى دفع الضرر فهو كذلك، و الذي لا يكون جالبا للنفع الحاضر و لا دافعا للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدلّ به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة الى معرفته و طاعته و هما وسيلتان الى اللذات الأبديّة، فثبت أنّ جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد، و العقول قاصرة عن عدّها.

فأن قيل: فإذا كانت النعم غير متناهية، و

ما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكّرها في قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ؟

الجواب أنها غير متناهية بحسب الأشخاص و الأنواع، إلّا أنّها متناهية بحسب الأجناس، و ذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم «3».

__________________________________________________

(1) لقمان: 14.

(2) النحل: 18.

(3) مفاتيح الغيب: ج 3 ص 30- 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 444

مضافا إلى أنّ المراد بالنعم في الآية، النعم المخصوصة ببني إسرائيل بقرينة «أنعمت عليكم» و النعم المخصوصة بهم متناهية بكثرتها منها: استنقذهم ممّا كانوا فيه من البلاء من فرعون و قومه، و أبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض و تخليصهم من العبوديّة كما قال تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ «1».

و منها: جعلهم أنبياء و ملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط، فأهلك أعدائهم و أورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم كما قال تعالى: كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «2».

و منها: أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمّة سواهم كما قال عزّ من قائل: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «3».

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: من نعمة اللّه على بني إسرائيل أن نجّاهم من آل فرعون، و ظلل عليهم الغمام، و أنزل عليهم المنّ و السلوى في التيه، و أعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوا، فإذا

استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم، و أعطاهم عمودا من النور ليضي ء لهم بالليل، و كان رؤوسهم لا تنشعث و ثيابهم لا تبلى.

__________________________________________________

(1) القصص: 6.

(2) الشعراء: 59.

(3) المائدة: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 445

و اعلم أنه سبحانه ذكّرهم بهذه النعم لوجوه:

أحدها: أنّ في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلّى اللّه عليه و آله، و هو التوراة و الإنجيل و الزبور.

و ثانيها: أنّ كثرة النعم توجب عظم المعصية، فذكّرهم تلك النعم لكي يحذروا فخالفه ما دعوا إليه من الايمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن.

و ثالثها: أنّ تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة.

و رابعها: أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أنّ المنعم خصّهم من بين سائر الناس بها، و من خصّ أحدا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية، و ذلك الطمع مانع من اظهار المخالفة و العصيان.

فإن قيل: هذه النعم ما كانت للمخاطبين بهذه الآية، بل كانت لآبائهم فكيف تكون سببا لعظم معصيتهم؟

قيل في الجواب وجوه:

أحدها: لو لا هذه النعم على آبائهم لما بقوا و ما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنّها تعمّ على الأبناء و ثانيها: ان الانتساب الى الآباء و قد خصّهم اللّه تعالى بنعم الدين و الدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد.

و ثالثها: الأولاد متى سمعوا أنّ اللّه تعالى خصّ آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم و إعراضهم عن الكفر و الجحود رغب الولد في هذه الطريقة، لأنّ الولد مجبول على التشبّه بالأب في أفعال الخير، فيصير هذا التذكير داعيا إلى الاشتغال

تفسير الصراط المستقيم،

ج 5، ص: 446

بالخيرات و الاعراض عن الشرور.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ.

للمفسرين في هذا «العهد» أقوال:

أحدها: جميع ما أمر اللّه به من غير تخصيص ببعض التكاليف.

الثاني: ما حكي عن الحسن البصري «1» أنه قال: المراد منه العهد الذي أخذه اللّه على بني إسرائيل في قوله تعالى: وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «2» و قال تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ الى قوله تعالى: وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «3» فمن وفّى للّه بعهده، وفّى اللّه له بعهده.

ثالثها: أنّ المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات و نهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم، أي أرضى عنكم و أدخلكم الجنة، و هو الذي حكاه الضحّاك «4» عن ابن عباس، و تحقيقه ما جاء في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ إلى قوله تعالى: وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ «5».

__________________________________________________

(1) الحسن بن يسار أبو سعيد البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر و مات سنة (110) ه، العبر ج 1 ص 136.

(2) المائدة: 12.

(3) المائدة: 12.

(4) هو الضحاك بن مزاحم الهلالي صاحب التفسير، كان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي، و كان يركب حمارا و يدور عليهم إذا عيى، مات بخراسان سنة (102) ه، العبر: ج 1 ص 124.

(5) التوبة: 111.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 447

رابعها: أنّ المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد صلّى اللّه عليه و آله، و أنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «1» الى

قوله لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «2».

قال الطبرسي في «مجمع البيان»: إن هذا العهد هو أن اللّه تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيّا يقال له: محمد. فمن تبعه كان له أجران اثنان: أجر باتّباعه موسى و إيمانه بالتوراة، و أجر باتباعه محمدا و إيمانه بالقرآن. و من كفر به تكاملت أوزاره و كانت النار جزاءه، فقال: أَوْفُوا بِعَهْدِي في محمد أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أدخلكم الجنة، عن ابن عبّاس فسمى ذلك عهدا لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق، و قيل: إنّما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين، كما قال سبحانه: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ «3» و هذا القول أقوى لأنّ عليه أكثر المفسرين و به يشهد القرآن. «4» وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الوفاء ضدّ الغدر و هو الحفظ و الإتمام و عدم النقض.

قال الراغب: و في بعهده يفي وفاء، و أوفى إذا تمّم العهد و لم ينقض حفظه،

__________________________________________________

(1) آل عمران: 187.

(2) آل عمران: 195.

(3) آل عمران: 187.

(4) مجمع البيان: ج 1 ص 93- 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 448

و اشتقاق ضدّه و هو الغدر و يدلّ على ذلك و هو الترك.

و كثيرا ما يستعمل في القرآن متعديا من باب الإفعال كما في المقام. و قوله تعالى: وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا «1» و يستعمل من باب التفعيل أيضا كما قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «2».

و العهد: حفظ الشي ء و مراعاته حالا بعد حال و الاهتمام به، و هو من الصفات الاضافية له تعلّق بالعاهد، و المعهود إليه و المعهود به إلّا

أنّ في الأول يكون من الإضافة الى الفاعل، و في الثاني كذلك إذا كان مع العوض، كما يكون من الاضافة الى المفعول أيضا.

قال الراغب في «المفردات» قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ «3» عهد اللّه تارة يكون بما ركزه في عقولنا، و تارة يكون بما أمرنا به بالكتاب و سنة رسله، و تارة بما نلتزمه كالنذور و ما يجري مجراها و على هذا قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ «4».

و الفرق بين الميثاق و العهد أنّ الميثاق أخصّ من العهد لأنّه العهد المؤكد بانحاء التأكيدات و التوثيقات، سواء أ كان بين اللّه تعالى و بين خلقه، أم بين خلقه بعضهم مع بعض و مادّة «و ث ق» تدلّ على كمال التثبت.

__________________________________________________

(1) البقرة: 177.

(2) النجم: 37.

(3) يس: 60.

(4) التوبة: 75.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 449

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي المعنى: أوفوا بعهدي الذي أبلغته إليكم بواسطة الأنبياء و الرسل من المواثيق و الطاعات و العبادات، و هي كثيرة يأتي في الآيات التالية تعداد أصولها، و منها ما عهد إليهم الإيمان بشريعة خاتم المرسلين كما يستفاد من قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ «1».

و الوفاء بالعهد سواء أ كان من الناس أم من اللّه تعالى يرجع الى مصلحة الناس أنفسهم، و إنما سمّى سبحانه ذلك عهدا و أوجب وفاءه على نفسه تحنّنا منه و ترغيبا لعباده الى الطاعة حيث يكون لهم حق مطالبة الجزاء مع الشرط، فيصير المقام نظير آية الاشتراء: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «2»، مع أن السلعة و المشترى و قدرته و إرادته من اللّه تعالى.

أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فعل

مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب من باب الإفعال و قرأ الزهري «3»: «أوفّ» بالتشديد من باب التفعيل، يمكن أن يكونا بمعنى، و لا فرق بينهما، و يمكن أن يراد به الكثير، و هو إشارة الى عظيم كرمه و إحسانه و مزيد امتنانه، حيث أخبر و هو الصادق أنه يعطي الكثير في مقابل القليل، و هو صرّح بذلك في قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «4».

عن تفسير الإمام عليه السّلام: قال اللّه عزّ و جلّ: «يا بني إسرائيل ولد يعقوب إسرائيل اللّه

__________________________________________________

(1) البقرة: 41.

(2) التوبة: 111.

(3) الزهري: محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن شهاب المدني أحد العلماء الكبار، ولد سنة (50) ه و مات سنة (124) ه، غاية النهاية: ج 2 ص 262.

(4) الانعام: 160.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 450

«اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم» لمّا بعثت محمدا و أقررته في مدينتكم، و لم أجشّمكم الحطّ و الترحال اليه، و أوضحت علاماته و دلائل صدقه لئلّا يشتبه عليكم حاله. وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي أخذته على أسلافكم و أنبيائكم، و أمروا أن يؤدوا الى أخلافهم ليؤمننّ بمحمد العربي القرشي الهاشمي المبان بالآيات، و المؤيد بالمعجزات التي منها أن كلّمته ذراع مسمومة و ناطقه ذئب، و حنّ إليه عود المنبر، و كثّر اللّه له القليل من الطعام، و ألان له الصلب من الأحجار، و صلبت لديه المياه السائلة، و لم يؤيد نبيا من أنبيائه بدلالة إلّا و جعل له مثلها أو أفضل منها، و الذي جعل من أكبر آياته علي بن أبي طالب عليه السّلام شقيقه و رفيقه، عقله من عقله، و علمه من علمه، و

حلمه من حلمه، مؤيد دينه بسيفه الباتر، بعد أن قطع معاذير المعاندين بدليله القاهر، و علمه الفاصل، و فضله الكامل أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الذي أوجبت به لكم نعيم الأبد في دار الكرامة و مستقر الرحمة، وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ في مخالفة محمد، فإنّي القادر على صرف بلاء من يعاديكم على مرافقتي، و هم لا يقدرون على صرف انتقامي عنكم إذا آثرتم مخالفتي. «1» و في تفسير علي بن ابراهيم: حدّثني أبي، عن محمد بن أبي عمير «2»، عن جميل «3»، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال له رجل: جعلت فداك! إنّ اللّه يقول: ادْعُونِي

__________________________________________________

(1) تفسير الامام: ص 76، و عنه البحار: ج 9 ص 178 ح 6 و ج 26 ص 287، و تفسير البرهان: ج 1 ص 90 ح 1.

(2) هو محمد بن زياد بن عيسى المعروف بابن أبي عمير أوثق الناس عند الخاصة و العامة و من أصحاب الإجماع توفي سنة (217) ه.

(3) هو جميل بن دراج بن أبي الصبيح هو أيضا من أصحاب الإجماع توفي أيام الرضا عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 451

أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» و إنّا ندعوا فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم لا توفون للّه بعهده، و أن اللّه يقول: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ و اللّه لو وفيتم للّه لوفى اللّه لكم. «2» و في «أصول الكافي» عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله اللّه عزّ و جلّ أَوْفُوا بِعَهْدِي قال: بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أوف لكم بالجنّة. «3» و فيه: عن أحمد بن محمد، عن محمد الحسين، عن عبد

اللّه بن محمد، عن الخشّاب، قال: حدّثنا بعض أصحابنا، عن خيثمة، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا خيثمة نحن شجرة النبوة، و بيت الرحمة، و مفاتيح الحكمة، و معدن العلم و موضع الرسالة، و مختلف الملائكة، و موضع سرّ اللّه، و نحن وديعة اللّه في عباده، و نحن حرم اللّه الأكبر، و نحن ذمّة اللّه، و نحن عهد اللّه. فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد اللّه، و من أخفرهما «4» فقد خفر ذمّة اللّه و عهده. «5» و في «تفسير الفرات» «6» عن جعفر بن محمد الفزاري «7»، عن محمد بن

__________________________________________________

(1) غافر: 60.

(2) تفسير القمي: ج 1 ص 46.

(3) الكافي: ج 1 ص 431 ح 89.

(4) الخفر: الوفاء بالعهد، و الإخفار: نقض العهد، و الهمزة فيه للإزالة و السلب.

(5) الكافي: ج 1 ص 221، مرآة العقول: ج 3 ص 10.

(6) هو أبو القاسم فرات بن ابراهيم بن فرات الكوفي من أعلام الشيعة و من معاصري الكليني، و ربما كان من الناحية الفكرية زيديا و لعلّ السبب في عدم ذكره في الكتب الرجالية هو أنه لم يكن إماميا حتى تهتم الامامية به، و لم يكن سنيّا حتى تهتم السنة به- راجع مقدمة التفسير ص 10- 11- بتحقيق محمد كاظم.

(7) هو جعفر بن محمد بن مالك الفزاري أبو عبد اللّه الكوفي وثقه الشيخ الطوسي و قال: يضعّفه قوم، روى الفرات عنه في أكثر من مائة مورد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 452

الحسين الصائغ «1»، عن موسى بن القاسم «2»، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: وَ أَوْفُوا

بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال: أوفوا بولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام فرض من اللّه أوف لكم الجنة. «3» و في «معاني الأخبار» باسناده الى ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا أنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ و اللّه لقد خرج آدم من الدنيا و قد عاهد قومه على الوفاء لولده شيث، فما وفى له، و لقد خرج نوح من الدنيا و عاهد قومه على الوفاء لوصيّه إسماعيل، فما وفت أمته، و لقد خرج ابراهيم من الدنيا و عاهد قومه على الوفاء لوصيّه إسماعيل، فما وفت أمته، و لقد خرج موسى من الدنيا و عاهد قومه على الوفاء لوصيّه يوشع بن نون، فما وفت أمّته، و لقد رفع عيسى بن مريم الى السماء، و قد عاهد قومه على الوفاء لوصيّه شمعون بن حمون الصفا، فما وفت أمته، و إني مفارقكم عن قريب، و خارج من بين أظهركم، و لقد عهدت إلى أمتي في عهد علي بن أبي طالب، و إنها لراكبة سنن من قبلها من الأمم في مخالفة وصيي و عصيانه، ألا و أني مجدّد عليكم عهدي في عليّ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، و من أوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجرا عظيما.

أيها النّاس إنّ عليا إمامكم، و خليفتي من بعدي عليكم، و هو وصيي و وزيري و أخي و ناصري و زوج ابنتي، و أبو ولدي و صاحب شفاعتي و حوضي و لوائي من

__________________________________________________

(1) محمد بن الحسين أبو جعفر الصائغ توفي سنة (269) ه.

(2) موسى بن القاسم بن معاوية البجلي قال النجاشي: ثقة ثقة جليل حسن الطريقة له كتب،

و وثّقه الشيخ و قال: له ثلاثون كتابا.

(3) تفسير الفرات: ص 58 ح 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 453

أنكره فقد أنكرني، و من أنكرني فقد أنكر اللّه تعالى و من أقرّ بإمامته فقد أقر بنبوّتي، و من أقرّ بنبوّتي فقد أقرّ بوحدانية اللّه عزّ و جلّ.

يا أيها الناس من عصى عليّا فقد عصاني، و من عصاني فقد عصى اللّه، و من أطاع عليّا فقد أطاعني، و من أطاعني فقد أطاع اللّه عزّ و جلّ.

يا أيها الناس من ردّ على علي في قول أو فعل فقد ردّ علي و من ردّ عليّ فقد ردّ اللّه فوق عرشه.

يا أيها النّاس من اختار منكم على عليّ إماما فقد اختار عليّ نبيّا، و من اختار عليّ نبيّا فقد اختار على اللّه عزّ و جلّ ربّا.

يا أيها الناس إنّ عليّا سيّد الوصيّين و قائد الغرّ المحجّلين، و مولى المؤمنين، و وليّه وليّي، و وليّ وليّ اللّه، و عدوّه عدوّي و عدوّي عدو اللّه عزّ و جلّ.

أيّها النّاس أوفوا بعهد اللّه في علي يوف لكم بالجنة يوم القيامة. «1» وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ إياي ضمير منفصل منصوب بفعل مقدّر بعده يفسّره الفعل المذكور أي إياي ارهبوا، و لا يجوز أن يكون منصوبا بقوله: «فارهبون» لأنه مشغول كما لا يجوز في قولك: «زيدا فأكرمه» أن يكون منصوبا بقولك «فأكرمه» و عدم ظهور الفعل الناصب لاستغنائه عنه بما يفسّره.

فَارْهَبُونِ الرهبة، و الخشية، و المخافة نظائر.

و قال الراغب في «المفردات»: الرهبة و الرهب مخافة مع تحرّز و اضطراب، «و إياي فارهبون» أي فخافون. «2»

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار: ص 372- 383 ح 1، و عنه تفسير البرهان: ج 1 ص 90 ح 5.

(2)

المفردات كتاب الراء: ص 204.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 454

و قال الشيخ في «التبيان»: الفرق بين الخوف و الرهبة أنّ الخوف هو شكّ في أنّ الضرر يقع أم لا. و الرهبة معها العلم بأنّ الضرر واقع عند شرط، فإن لم يحصل ذلك الشرط لم يقع. «1» و قال الرازي في «مفاتيح الغيب»: اعلم أنّ الرهبة هي الخوف، قال المتكلّمون: الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه، و قد يقال في المكلّف: إنه خائف على وجهين: أحدهما مع العلم، و الاخر مع الظنّ، أمّا مع العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكلّ ما أمر به، و احترز عن كلّ ما نهي عنه، فانّ خوفه إنما يكون عن المستقبل، و على هذا نصف الملائكة و الأنبياء عليهم السّلام بالخوف و الرهبة، قال تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ «2» و أما الظنّ فإذا لم يقطع بأنّه فعل المأمورات و احترز عن المنهيّات فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب.

و اعلم أنّ كلّ من كان خوفه في الدنيا أشدّ كان أمنه يوم القيامة أكثر، و بالعكس.

روي: أنّه ينادي مناد يوم القيامة: و عزّتي و جلالي إنّي لا أجمع على عبدي خوفين و لا أمنين، و من أمنني في الدنيا خوّفته يوم القيامة، و من خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة. «3»

__________________________________________________

(1) التبيان: ج 1 ص 184.

(2) النحل: 50.

(3) مفاتيح الغيب: ج 3 ص 39- 40، الخصال: ج 1 ص 39، و فيه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال: قال اللّه تبارك و تعالى: و عزّتي و جلالي لا أجمع على بعدي خوفين و لا أجعل له أمنين، فإذا أمنني

في الدنيا أخفته يوم القيامة، و إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 455

اعلم أنّ الفاء في فَارْهَبُونِ و أمثاله المكررة في القرآن كثيرا فيها قولان:

أحدهما: أنها فاء الجواب المقدر، تقديره: تنبّهوا، كقولك، «الكتاب فخذ» أي تنبّه فخذ الكتاب، ثمّ قدّم المفعول اصطلاحا للّفظ لئلّا تقع الفاء صدرا، و القول الثاني: أنها زائدة.

و النون في «فارهبون» ليس نون الجمع لأنها مكسورة و نون الجمع محذوفة جزما، بل هي نون الوحدة و الوقاية تدلّ بكسرها على ياء محذوفة.

و قرأ ابن أبي إسحاق: «فارهبوني» بالياء على الأصل. «1» قال الطبرسي في «المجمع»: حذف الياء لأنه رأس آية و رؤوس الآي لا تثبت فيها الياء لأنها فواصل ينوي فيها الوقف، كما يفعل ذلك في القوافي، و أجمعوا على إسقاط الياء من قوله: «فارهبون» إلّا ابن كثير «2»، فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف، و الوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء، و في كسر النون دلالة على ذهاب الياء. «3» و يستفاد من جملة وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ حصر الرهبة في اللّه تعالى، كما في إِيَّاكَ نَعْبُدُ، بل قال الزمخشري: «و هو أوكد في افادة الاختصاص من إِيَّاكَ نَعْبُدُ. «4»

__________________________________________________

(1) البحر المحيط لأبي حيّان: ج 1 ص 176.

(2) هو عبد اللّه بن كثير بن عمرو أبو معبد المكي القارئ المقري في مكة المكرّمة ولد بها سنة (45) ه و مات سنة (120) ه، غاية النهاية: ج 1 ص 443- 444.

(3) مجمع البيان: ج 1 ص 92.

(4) الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 131.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 456

قال المجلسي قدس سره في البحار: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ قيل: الرهبة خوف معه تحرّز،

و يدلّ على أنّ المؤمن ينبغي ألّا يخاف أحدا إلّا اللّه وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ «1»، أي بالإيمان و اتباع الحق و الإعراض عن الدنيا، و قيل: الرهبة مقدّمة التقوى. «2» و في «الخصال»: أنواع الخوف خمسة: خوف، و خشية، و وجل، و رهبة، و هيبة، فالخوف للعاصين، و الخشية للعالمين، و الوجل للمخبتين، و الرهبة للعابدين، و الهيبة للعارفين.

أما الخوف فلأجل الذنوب، قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «3»، و الخشية لأجل رؤية التقصير، قال اللّه عزّ و جلّ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «4».

و أما الوجل فلأجل ترك الخدمة قال اللّه عزّ و جلّ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ* «5». و الرهبة لرؤية التقصير قال اللّه تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ* «6» يشير الى هذا المعنى. «7»

__________________________________________________

(1) البقرة: 41.

(2) بحار الأنوار: ج 70 ص 331- 332.

(3) الرحمن: 46.

(4) فاطر: 28.

(5) حج: 35.

(6) آل عمران: 29 و 30.

(7) الخصال: 281.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 457

وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي لا بدّ أن يكون الخوف من اللّه تعالى الذي هو على كل شي ء قدير، و المطّلع على الضمائر و الظواهر، فإنّ الرهبة إن كانت لأجل عظمة الموهب منه و جلاله فلا نهاية لهما فيه عزّ و جلّ، و إن كانت لأجل علمه بموجبات السخط و العقاب فلا يعزب عن علمه شي ء في السماوات و الأرض، و إن كانت لأجل قهّاريته التامّة فهي من أخصّ صفاته، و عهوده هبات منه عزّ و جلّ فيكون نقضها عظيما.

تفسير الآية (41)

اشارة

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي

ثَمَناً قَلِيلًا وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ عطف على ما تقدّم، و تفصيل بعد إجمال، فإنّ قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي «1» يشمل الإيمان بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، إلّا أنّه تعالى ذكره بالخصوص تنبيها لهم، و تعظيما لأمره، و هذه الآية المباركة تدل بالدلالة الالتزامية العادية على اخبار موسى عليه السّلام بشريعة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله لأنّ كلّ شريعة سابقة لا بدّ أن تخبر بالشريعة اللاحقة، كما أخبر تعالى عن الشرائع السابقة في القرآن.

و قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يدل على تصديق هذه الشريعة لما تقدم من الشرائع.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 458

وَ آمِنُوا المخاطبون به هم بنو إسرائيل بدليلين: الأوّل: أنّه معطوف على قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ «1» و الثاني: قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.

و قيل: نزلت في كعب بن الأشرف «2» و أصحابه علماء اليهود و رؤسائهم فهو أمر لهم، و أفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في أَوْفُوا بِعَهْدِي بمجموع الأمر به و الحثّ عليه المستفاد من قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ للاشارة إلى أنّه المقصود للوفاء بالعهود.

و الظاهر أنّ المخاطبين بهذه الآيات جميع بني إسرائيل كما تقدم و يندرج فيه كعب و من معه.

بِما أَنْزَلْتُ، (ما) موصولة و أَنْزَلْتُ صلته و العائد محذوف، أي أنزلته.

و قيل: (ما) مصدرية، قال أبو حيّان الاندلسي: و ابعد من جعل ما مصدريّة

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 40.

(2) كعب بن الأشرف الطائي من بني نبهان: شاعر جاهلي كانت أمّه من بني النضير فدان باليهودية. يقيم في حصن له قريب من المدينة يبيع فيه التمر و الطعام، أدرك الإسلام و لم يسلم.

و أكثر من

هجو النبيّ و أصحابه و تحريض القبائل عليهم. و التشبيب بنسائهم، و خرج الى مكة بعد وقعة بدر فندب قتلى قريش فيها و حضّ على الأخذ بثارهم، و عاد الى المدينة، و أمر النبي بقتله فانطلق اليه خمسة من الأنصار و قتلوه سنة (3) ه، الأعلام: ج 6 ص 79- 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 459

و أنّ التقدير- و آمنوا بانزالي لما معكم من التوراة- فتكون اللام في لِما من تمام المصدر لا من تمام مُصَدِّقاً، و على القول الأوّل يكون لِما مَعَكُمْ من تمام مُصَدِّقاً، و اللام على كلا التقديرين في لِما مقوّية للتعدية كاللام في قوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* «1».

و المراد بما أنزل اللّه تعالى هو القرآن، و الذي معهم هو التوراة و الإنجيل.

و قال قتادة «2»: المراد بما أنزلت من كتاب و رسول يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل «3».

و إذا تدبّرنا الكتاب الكريم و تعقّلنا معنى النزول و الإنزال من اللّه تعالى علمنا أنّ النزول و الإنزال لم يكونا من السماء المحسوسة بالبصر، فإنّ اللّه سبحانه و تعالى منزّه عن المكان بل المراد النزول و الإنزال عن مقام أسمى من التصور.

فكما أنّ القرآن نازل إلى أراضي القلوب من سماء الربوبيّة كذلك الرسول نازل برسالته و وحيه- و تتحمّل الآية الكريمين كليهما- و صرّح سبحانه بأنّه تعالى أنزل كتابه و أنزل رسوله- قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ

__________________________________________________

(1) البروج: 16.

(2) هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز ابو الخطاب السدوسي البصري- مفسّر حافظ ضرير أكمه- كان أحفظ أهل البصرة- ولد سنة (61) ه و مات بواسط سنة (118) ه، الأعلام: ج 6

ص 27.

(3) البحر المحيط لأبي حيّان الاندلسي محمد بن يوسف المتوفى (754): ج 1 ص 176- 177.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 460

وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً «1».

و قال تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً- رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «2».

و كما أنّ القرآن يصدّق كتبهم المنزلة من اللّه تعالى و أنبيائهم كذلك الرسول صلّى اللّه عليه و آله يصدّق كتبهم و أنبيائهم.

قال صدر المتألهين «3» في تفسير في ذيل الآية الكريمة: أمرهم بالإيمان بعد ما أمرهم بايفاء عهد اللّه تنبيها على أنّه العمدة في ذلك، بل لأحد أن يقول: إنّ الإيمان بما أنزل اللّه هو عين الإيفاء بعهد اللّه، على التأويل الذي سبق ذكره «4» في معنى العهد، و هو النور الذي يتنوّر به القلوب- و يسلك به سبيل الآخرة، و ينكشف به حقائق الأمور، و يطّلع به الإنسان على الحضرة الإلهية و أفعاله و آثاره و لطفه، و حكمته في الدنيا و الآخرة، قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ «5» فالنور هو جنس معاني القرآن و الكتاب آيات ألفاظه و هو آي القرآن منزل

__________________________________________________

(1) الكهف: 1.

(2) الطلاق: 10- 11.

(3) هو محمد بن ابراهيم صدر الدين الشيرازي الحكيم المتأله كان عالم أهل زمانه في الحكمة صاحب الأسفار الاربعة- توفي بالبصرة و هو متوجه الى الحج سنة (1050) ه يروي عن المحقق الداماد و الشيخ البهائي- قال صاحب تفسير الصراط المستقيم في منظومته الرجالية:

ثمّ ابن ابراهيم صدر الأجل في سفر الحج (مريض) ارتحل

قدوة أهل العلم و الصفاء يروي عن الداماد و البهائي

(4) تفسير الصدر: ج 3 ص 191.

(5) المائدة: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 461

من اللّه تعالى الى قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله أمرهم بالتصديق بهذا القرآن المنزل، و أخبرهم أنّ في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة و الإنجيل لأنّ الذي في القرآن مصداق لهما و مؤكد للايمان بهما. من حيث إنّه مطابق لهما في القصص، و المواعيد، و الدعاء الى التوحيد و الأمر بالعبادة، و العدل بين الناس، و النهي عن المعاصي و الفواحش.

و ما يخالفها من الأحكام الجزئية إنّما هو بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إنّ كل واحدة منها حقّ بالإضافة إلى زمانه، مراعى فيها صلاح الأنام، و من خوطب بالكلام من اللّه، حتى لو نزّل المتقدّم من الأحكام في الأيّام المتأخر منهما لكان على وفقه بأبلغ وجه، و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله: «لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي». «1» و قيل: معنى مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أنّه تصديق بالتوراة و الإنجيل لأنّ فيهما الدلالة على أنّه حقّ، و أنّه من عند اللّه، و فيهما البشارة ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بيان نعوته و صفاته، فكان الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن تصديقا للتوراة و الإنجيل، و تكذيبه تكذيبا لهما.

و التفسير الثاني أولى لأن يكون حجة عليهم إذ على التفسير الأوّل لقائل أن يقول: التوافق في بعض المعاني لا يوجب أن يكون القرآن من عند اللّه فلا يلزم عليهم وجوب الايمان به.

و أمّا على الثاني فيلزم عليهم الإيمان بحقيّة القرآن و تصديق الرسول صلّى اللّه عليه و آله إذا

__________________________________________________

(1) البحار: ج 16 ص 366.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 5، ص: 462

اشتمل الكتابان على كون محمّد صلّى اللّه عليه و آله صادقا، فالإيمان بهما يوجب الايمان بما يقوله صلّى اللّه عليه و آله.

و بالجملة فالدالّ على اثبات نبوّته هاهنا وجهان: أحدهما: شهادة كتب الأنبياء عليها و هي لا تكون إلّا حقّا، و الثاني: إخباره عمّا في كتبهم و لم يكن له معرفة بما فيها إلّا من قبل الوحي. «1» مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ الظاهر أنّ مُصَدِّقاً حال من الضمير المحذوف العائد على الموصول، و هي حال مؤكّدة، و العامل فيها «أنزلت» و اللام في «لما» مقوّية، و «ما» اسم موصول في محلّ جرّ باللام، و الجارّ و المجرور متعلّقان بمصدّقا، و «معكم» ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محلّ له من الاعراب لأنّه صلة الموصول.

سؤال، و جواب، هل القرآن يصدّق كلّ ما مع اليهود، أي يصدّق العهد العتيق بأجمعه أي التوراة التي بأيديهم الآن، أم لا يصدّق كلّه بل بعضه و ماذا هو البعض؟

هناك آيات تصرّح بأنّ اليهود و النصارى حرّفوا أقساما من آيات الوحي، قال تعالى: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «2».

و قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ «3».

__________________________________________________

(1) تفسير صدر المتألهين: ج 3 ص 213- 214.

(2) البقرة: 75.

(3) البقرة: 79.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 463

فلا يعقل أن يصدّق القرآن الأكاذيب التي أدخلوها في التوراة إذا فليس المراد تصديق كلّ ما معهم، بل المصدّق بعض ما معهم، و ما هو إلّا البشارات الموجودة في التوراة،

كما قال تعالى: وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «1».

و قال تعالى في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ «2».

و قد يشير إلى ما معهم: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «3».

وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ لا تسارعوا الى الكفر به من بين أهل الكتاب أو من بني إسرائيل، فإنّ وظيفتكم أن تكونوا أول المؤمنين به لأنّكم تعرفون حقيّته، و قد كنتم من قبل تقولون: إنّا نكون أول تابع له.

و لا يكون المراد بالأوّل مطلقا، فإنّ كفّار مكّة كانوا قد سبقوهم الى الكفر به.

و نقل عن أبي العالية «4» أنه قال: معناه «لا تكونوا السابقين الى الكفر به، أي

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 89.

(2) سورة النساء: 47.

(3) سورة البقرة: 146.

(4) هو رفيع بن مهران ابو العالية الرياحي البصري أدرك الجاهلية و أسلم بعد ارتحال النبي صلّى اللّه عليه و آله بسنتين، و روى عن جماعة من الصحابة، و روى عنه جماعة، كان عالما بالقرآن، و قال ابو بكر بن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، و بعده سعيد بن جبير، مات يوم الثالث من شوال سنة (90) ه تهذيب الكمال: ج 6 ص 220.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 464

لا تكونوا أئمة في الكفر به» «1» و لا يبعد هذا الوجه فإنّ النّاس في المذاهب و الملل يتّبعون أهل الكتاب و أهل العلم في أكثر الأزمنة، و

معلوم أنّ الخطاب في الآية مع ائمة أهل الضلال و علمائهم الذين شأنهم كتمان الحق الذي في الكتب، و تلبيسه بالباطل، و تحريف الكلم عن مواضعه كما هو عادة علماء السوء.

و عظم أول الكفر لأنّهم إذا كانوا أئمّة لهم و قدوتهم في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم و كفرهم أشدّ، إذ كما أنّ السابقين من الإيمان أعظم قدرا في الثواب و اشدّ قربا من اللّه تعالى لقوله: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «2» كذلك السابقون الى الكفر كانوا أعظم ذنبا ممّن بعدهم و اشدّ ضلالا و اكثر بعدا عن الحقّ.

و لما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها الى يوم القيامة، و من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة» «3».

و عن ابن جريح «4»: أنّ المعنى: لا تكونوا أوّل جاحد جحد صفة النبي صلّى اللّه عليه و آله في

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 94.

(2) الواقعة: 10.

(3) كنز العمال: ج 15 ص 180، بحار الأنوار: ج 71 ص 257.

(4) هو أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح الرومي المكّي قيل: إنّه كان أوّل من صفّ- الكتب بالحجاز. توفي سنة (150) ه، العبر: ج 1 ص 213.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 465

كتابكم- فعلى هذا تعود الهاء في «به» الى النبي صلّى اللّه عليه و آله.

قال الطبرسي في «المجمع»: و ليس في نهيه عن أن يكونوا أوّل كافر به دلالة على أنّه يجوز أن يكونوا آخر كافر، لأنّ المقصود النهي عن الكفر على كلّ حال، و خصّ أوّلا

بالذكر لما ذكرناه من عظم موقعه كما قال الشاعر «1»:

من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش و لا سوء الجزع و ليس يريد أنّ فيهم فحشا آجلا «2».

وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قال الرازي: فيه سؤالان: أحدهما: كيف جعلوا أوّل من كفر به و قد سبقهم الى الكفر به مشركوا العرب؟

و الجواب من وجوه:

أحدها: أنّ هذا تعريض بأنّه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به و بصفته، و لأنّهم كانوا هم المبشّرون بزمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المستفتحون على الذين كفروا به فلمّا بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «3».

ثانيها: يجوز أن يراد و لا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكّة، أي و لا تكونوا و أنتم تعرفونه مذكورا في التوراة و الإنجيل مثل من لم يعرفه

__________________________________________________

(1) هو سويد بن ابي كاهل شبيب بن حارثة بن حسل بن مالك أبو سعد شاعر متقدم من مخضرمي الجاهلية و الإسلام و كان من المعمّرين مات بعد سنة (60) ه، خزانة البغدادي: ج 2 ص 547.

(2) مجمع البيان: ج 1 ص 95.

(3) سورة البقرة: 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 466

و هو مشرك لا كتاب له.

ثالثها: و لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، لأنّ هؤلاء كانوا أوّل من كفر بالقرآن من بني إسرائيل و ان كانت قريش كفروا به قبل ذلك.

و رابعها: و لا تكونوا أوّل من كفر بكتابكم، يقول ذلك لعلمائهم، أي و لا تكونوا أوّل من كذّب كتابكم من أمّتكم، لأنّ تكذيبكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله يوجب تكذيبكم

بكتابكم.

خامسها: أنّ المراد منه بيان تغليظ كفرهم، و ذلك لأنّهم لمّا شاهدوا المعجزات الدالّة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة و الإنجيل بمقدمه فكان كفرهم أشدّ من كفر من لم يعرف إلّا نوعا واحدا من الدليل.

سادسها: و لا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة، لأنّ كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة.

سابعها: و لا تكونوا أوّل كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبّتوا و راجعوا عقولكم فيه.

السؤال الثاني: أنّه كان يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّلا، و الجواب من وجوه:

أحدها: أنّه ليس في ذكر تلك الجملة دلالة على أنّ ما عداها بخلافها.

ثانيها: أنّ في قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ دلالة على أن كفرهم أوّلا و آخرا محظور.

و ثالثها: أنّ قوله تعالى: وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ* «1» لا يدل على وقوع قتل

__________________________________________________

(1) آل عمران: 181.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 467

الأنبياء بحقّ، و قوله تعالى عقيب هذه الآية: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا لا يدلّ على إباحة ذلك بالثمن الكثير، فكذا هاهنا، بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد و الإنكار ممّن قرأ في الكتب نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وصفته.

رابعها: قال المبرّد «1»: هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم، فقيل لهم: لا تكفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّه سيكون بعدكم الكفّار فلا تكونوا أنتم أوّل الكفار، لأنّ هذه الأوّليّة موجبة لمزيد الإثم، و ذلك لأنّهم إذا سبقوا الى الكفر أولا، فإنّ اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر و وزر كلّ من كفر إلى يوم القيامة، و إن لم يقتد بهم غيرهم

اجتمع عليهم أمران: أحدهما: السبق إلى الكفر، و الثاني: التفرّد به و لا شك أنّه منقصة عظيمة. «2» و قال أبو حيان في «البحر المحيط»: النهي في قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ لا يدل على اباحة الكفر لهم ثانيا أو أخيرا لأنّ الصفة لا مفهوم لها هنا.

و لما أشكلت الأوليّة هنا زعم بعضهم أنّ (أوّل) صلة يعني زائدة، و التقدير:

و لا تكونوا كافرين به، و هذا ضعيف جدا.

و زعم بعضهم أنّ ثمّ محذوفا معطوفا تقديره: و لا تكونوا أوّل كافر به و لا آخر كافر، و جعل ذلك ممّا حذف المعطوف لدلالة المعنى عليه.

__________________________________________________

(1) هو أبو العباس المبرّد محمد بن يزيد الازدي البصري إمام أهل النحو في زمانه، و صاحب التصانيف، أخذ عن أبي عثمان المازني، و أبي حاتم السجستاني و تصدّر ببغداد، من مصنفاته «الكامل» و «المقتضب» و «طبقات النحاة البصريين»، و «معاني القرآن»، توفي ببغداد سنة (285) ه، العبر ج 2 ص 80، هدية الأحباب: ص 229.

(2) التفسير الكبير للرازي: ج 3 ص 41- 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 468

و تأوله بعضهم على حذف مضاف، أي و لا تكونوا مثل أول كافر به، أي و لا تكونوا و أنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا، مثل من لم يعرفه و هو مشرك لا كتاب له.

و بعضهم على صفة محذوفة، أي أوّل كافر به من أهل الكتاب «1»

بحث صرفي لغوي نحوي

قوله تعالى: أَوَّلَ كافِرٍ قال القيسي «2» في «مشكل اعراب القرآن»: «أوّل» اسم لم ينطق منه بفعل عند سيبويه «3»، و وزنه (أفعل) فاؤه واو، و عينه واو و لذلك لم يستعمل منه فعل لاجتماع الواوات.

و قال الكوفيون: هو أفعل من

(وأل) إذا لجأ، فأصله (أوأل) ثمّ خفّفت الهمزة الثانية بأن أبدل منها واوا و أدغمت الاولى فيها كما قالوا في تخفيف «مقروءة»:

«مقروّة».

و كان الأحسن- لو خفّف على القياس- أن يقال: (أوّل) يلقى حركة الهمزة

__________________________________________________

(1) البحر المحيط: ج 1 ص 177.

(2) القيسي هو أبو محمّد مكّي بن أبي طالب حمّوش بن محمد بن مختار القيرواني، ولد سنة (355) و سكن قرطبة، ثم هاجر الى مكة المكرّمة و مصر و حضر عند أساتذة الأدب و القرآن و الحديث و صنّف مصنفات قيّمة إلى أن توفي سنة (437) ه، بغية الوعاة: ص 396- 397.

(3) هو أبو الحسن عمرو بن عثمان بن قنبر الفارسي البيضاوي العراقي البصري النحوي، كان من تلامذة الخليل، صنّف في النحو «الكتاب» و مات على الصحيح سنة (180) ه العبر: ج 1 ص 278- هدية الأحباب: ص 153.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 469

على الواو.

و قيل: إنّ «أوّل» أفعل من «آل يؤول» فأصله «أءول» ثم قلب، فردّت الفاء في موضع العين، فصار «أوأل» فصنع به من التخفيف و البدل و الإدغام ما صنع في القول الأوّل، فوزنه بعد القلب «أفعل» «1» قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ يتخيّل هنا مشكلة و هي أنّه لما ذا قال تعالى: كافِرٍ و لم يقل: «الكافرين»؟

و أجيبت بأنّ «كافر» وصف لموصوف محذوف و هو مفرد لفظا و جمع معنا، و تقديره: «أول فريق كافر» و هذا من تأويل المفضّل عليه.

و يمكن تأويل المفضّل، أي لا يكن كلّ واحد منكم كافرا و المراد عموم السلب كما في قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «2».

و بعض الناس لا يوجب في مثل هذا المطابقة بين

النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل و بين ما جرى هو عليه، بل يقول: يجوز الوجهان، و استدلّ بقول الشاعر:

و إذا هم طعموا فألأم طاعم و إذا هم جاعوا فشرّ جياع و حكى سيبويه: هو أظرف الفتيان و أجمله.

__________________________________________________

(1) مشكل اعراب القرآن: ج 1 ص 42.

(2) سورة القلم: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 470

و زعم الأخفش «1» و الفرّاء «2»: أنّه محمول على معنى الفعل، لأنّ المعنى أوّل من كفر به «3».

و هنا مشكلة أخرى: و هي عدم تطابق الخبر و المبتدأ في الجمع و الإفراد في جملة: «و لا تكونوا أوّل» و أجيبت بأنّ أفعل التفضيل إذا جرّد من «أل» و من الإضافة- أو أضيف إلى نكرة يجب ان يكون مفردا و مذكرا يقول ابن مالك في الفيّته:

و أفعل التفضيل صله أبدا ب «من» إن جرّدا و إنّ لمنكور يضف أو جرّدا ألزم تذكيرا و أن يوحّدا

تفسير الآية و باطنها و تأويلها

و في تفسير العيّاشي عن جابر الجعفي «4»، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن تفسير هذه الآية في باطن القرآن: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا

__________________________________________________

(1) هو الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء البلخي، ثم البصري ابو الحسن، نحوي عالم باللغة و الأدب، و أخذ العربيّة عن سيبويه و صنف كتبا منها «معاني القرآن» مات سنة (215) ه، الأعلام: ج 3 ص 154.

(2) الفراء: يحيى بن زياد الديلمي ابو زكريا النحوي اللغوي كان اعلم الكوفيّين في النحو، مات سنة (207) ه هديّة الأحباب: ص 210.

(3) الجامع للقرطبي: ج 1 ص 333.

(4) هو جابر بن يزيد الجعفي أبو عبد اللّه رحمه اللّه

لقي أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السّلام، وثقه النجاشي و غيره توفي سنة (128) ه، و قال يحيى بن معين: مات سنة (132). جامع الرواة: ج 1 ص 144.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 471

أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ يعني فلانا و صاحبه و من تبعهم و دان بدينهم قال اللّه يعنيهم و لا تكونوا أوّل كافر به يعني عليّا عليه السّلام «1».

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان، إمّا باستعمال المقيّد في المطلق كالمرسن في الأنف، أو تشبيه الاستبدال المذكور بالاشتراء الحقيقي في كونه مرغوبا فيه.

و المعنى و اللّه أعلم: و لا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة، و لو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس المعنى إذ كان يصير المعنة أنّهم بذلوا ثمنا قليلا و أخذوا الآيات.

قال الشيخ الطوسي قدّس سرّه في «التبيان»: قوله تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا فأدخل الباء في الآيات دون الثمن و في سورة يوسف في الثمن في قوله:

وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ «2» قال الفرّاء: إنّما كان كذلك، لأنّ العوض كلّها أنت مخيّر فيها في إدخال الباء، إن شئت قلت: اشتريت الثوب بكساء، و إن شئت قلت اشتريت بالثوب كساء، أيّهما جعلته ثمنا لصاحبه جاز، فإذا جئت إلى الدراهم و الدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله: «بثمن بخس» لأنّ الدراهم ثمن أبدا. «3» و قال أبو حيّان في «المحيط»: نفس الآيات لا يشترى بها فاحتيج إلى حذف مضاف، فقيل: تقديره بتعليم آياتي، قاله أبو العالية، و قيل: بتغيير آياتي، قاله

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1 ص 42 ح 31 و عنه البرهان: ج 1 ص 91 و إثبات الهداة: ج

3 ص 540.

(2) سورة يوسف: 20.

(3) التبيان: ج 1 ص 188.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 472

الحسن «1»، و قيل: بكتمان آياتي، قاله السدّي «2»، و قيل: لا يحتاج إلى حذف مضاف، بل كنّي بالآيات عن الأوامر و النواهي.

و على الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات ما أنزل من الكتب أو القرآن، أو ما أوضح من الحجج و البراهين، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة و الإنجيل المتضمّنة الأمر بالإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

و على الأقاويل في ذلك المضاف و المقدّر، و القول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله تعالى: ثَمَناً قَلِيلًا.

فمن قال: هو التعليم قال: الثمن القليل هو الاجرة على التعليم، و كان ذلك ممنوعا في شريعتهم، أو الراتب المرصد لهم على التعليم فنهوا عنه.

و من قال: هو التغيير قال: الثمن القليل هو الرئاسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

و من جعل الآيات كناية عن الأوامر و النواهي جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمر اللّه به و اجتناب ما نهى عنه.

و وصف الثمن القليل لأنّ ما حصل عوضا عن آيات اللّه كائنا ما كان لا يكون

__________________________________________________

(1) المراد به الحسن بن ابي الحسن يسار ابو سعيد البصري التابعي المولود بالمدينة سنة (21) ه و المتوفى سنة (110) ه.

(2) هو إسماعيل بن عبد الرحمن ابو محمد المعروف بالسدّي كان ممّن يفسّرون القرآن بآرائهم نظير مجاهد، و قتادة، و الشعبي، و الحسن، و مقاتل و كان كوفيّا توفي سنة (128) ه، هدية الأحباب:

ص 148.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 473

إلّا قليلا و إن بلغ ما بلغ، كما قال تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1». «2» و قال الشيخ في «التبيان» و تقييده ب لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا لا يدل على أنّه إذا كان كثيرا يجوز مشترى به، لأنّ المقصود من الكلام أنّ أي شي ء باعوا به آيات اللّه كان قليلا، و أنّه لا يجوز أن يكون له ثمن يساويه، كقوله تعالى: وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ «3».

إنّما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال، و أنّه لا يجوز أن يكون له برهان، و مثله قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ «4»، و إنّما أراد أنّ قتلهم لا يكون الّا بغير حقّ، نظائر ذلك كثيرة. «5» و قال الطبرسي في «المجمع» روي عن أبي جعفر عليه السّلام في هذه الآية قال: كان حييّ بن أخطب «6»، و كعب بن الأشرف «7» و آخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كلّ سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله، فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته و ذكره صلّى اللّه عليه و آله فذلك الثمن الذي أريد في الآية. «8»

__________________________________________________

(1) سورة النساء: 77.

(2) البحر المحيط ج 1 ص 178- 179.

(3) المؤمنون: 117.

(4) آل عمران: 21.

(5) التبيان ج 1 ص 189.

(6) حييّ بن أخطب النضري: جاهلي من الأشدّاء العتاة أسر يوم قريضة ثم قتلوه سنة (5) ه

(7) كعب بن الأشرف الطائي من بني تيهان: شاعر جاهلي كانت أمه من بني نضير فدان باليهودية و أدرك الإسلام و

لم يسلم قتل في ظاهر حصنه سنة (3) ه، الأعلام: ج 6 ص 79.

(8) مجمع البيان: ج 1 ص 95 و عنه كنز الدقائق: ج 1 ص 399.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 474

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا روي عن ابن عباس أنّه قال: إنّ رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف و حييّ ابن أخطب و أمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا، و علموا أنّهم لو اتّبعوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله لانقطعت تلك الهدايا فأصرّوا على الكفر لئلّا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقّر.

قال الرازي بعد ذكر هذا الكلام عن ابن عبّاس: و ذلك لأنّ الدّنيا كلها بالنسبة الى الدين قليلة جدّا، فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلّة بالنسبة الى الدنيا، فالقليل جدّا من القليل جدّا أيّ نسبة له الى الكثير الذي لا يتناهى؟ «1»

مسألة فقهية

استدل بعضهم بقوله تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا على حرمة أخذ الأجرة على كتاب اللّه تعالى، بل و العلم أيضا.

قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن»: قد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن و العلم لهذه الآية و ما في معناها، فمنع ذلك الزهري، و اصحاب الرأي و قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأنّ تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها الى نيّة التقرّب و الإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة

__________________________________________________

(1) مفاتيح الغيب للرازي: ج 3 ص 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 475

كالصلاة و الصيام، و قد قال تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.

و روى ابن عباس: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «معلموا صبيانكم شراركم

أقلّهم رحمة باليتيم و أغلظهم على المسكين».

و روى أبو هريرة، قال: قلت: يا رسول اللّه ما تقول في المعلّمين؟

قال: «درهمهم حرام، و ثوبهم سحت، و كلامهم رياء».

و روى عبادة بن الصامت «1» قال: علّمت ناسا من أهل الصفة القرآن و الكتابة، فأهدى إليّ رجل منهم قوسا، فقلت: ليست بمال و أرمي عنها في سبيل اللّه، فسألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إن سرّك أن تطوّق بها طوقا من نار فاقبلها.

و أجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك، و الشافعي، و أحمد «2»، و أبو ثور «3» و اكثر العلماء لقوله عليه السّلام في حديث ابن عبّاس- حديث الرقيّة-: إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللّه، أخرجه البخاري و هو نصّ يرفع الخلاف، فينبغي أن يعوّل عليه.

و أمّا ما احتجّ به المخالف من القياس على الصلاة و الصوم ففاسد، لأنّه في

__________________________________________________

(1) عبادة بن الصامت بن قيس الانصاري الخزرجي أبو الوليد صحابي شهد العقبة، و كان أحد النقباء، و بدرا، و سائر المشاهد مات بالرملة، أو بيت المقدس سنة (34) ه، الأعلام: ج 4 ص 30

(2) هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروني الأصل المولود سنة (164) و المتوفى سنة (241) ببغداد.

(3) هو ابو ثور ابراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الفقيه أحد الأعلام، تفقّه بالشافعي، و سمع من ابن عيينة و غيره توفي سنة (240) ه، العبر: ج 1 ص 431- الأعلام: ج 1 ص 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 476

مقابلة النصّ، ثمّ إنّ بينهما فرقا، و هو أنّ الصلاة و الصوم عبادات مختصة بالفاعل، و تعليم القرآن عبادة متعدّية لغير المعلم، فتجوز الأجرة على محاولته

النقل كتعليم كتاب القرآن.

قال ابن منذر «1»، و ابو حنفية: يكره تعليم القرآن بأجرة.

ثم قال القرطبي: أمّا الجواب عن الآية فالمراد بها بنو إسرائيل.

و شرع من قبلنا هل هو شرع لنا فيه خلاف، و هو لا يقول به؟

جواب ثان، و هو أن تكون الآية فيمن تعيّن عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا، فأمّا إذا لم يتعيّن فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنّة في ذلك، و قد يتعيّن عليه إلّا ليس عنده ما ينفقه على نفسه و لا على عياله فلا يجب عليه التعليم، و له أن يقبل على صنعته و حرفته، و يجب على الامام أن يعين لإعانة الدين إعانته، و الّا فعلى المسلمين ...

و أما الجواب عن الأحاديث المتقدمة فليس شي ء منها على ساق، و لا يصحّ منها شي ء عند أهل العلم بالنقل، أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة «2» عنه و سعيد متروك.

__________________________________________________

(1) هو محمد بن ابراهيم بن المنذر النيسابوري فقيه من الحفّاظ، كان شيخ الحرم بمكّة المكرّمة له مصنّفات في الفقه و التفسير ولد سنة (242) ه، و توفي بمكّة سنة (319) ه، طبقات الشافعية:

ج 2 ص 126.

(2) هو عكرمة بن عبد اللّه البربري مولى ابن عباس مات سنة (107) ترجمه غير واحد من اصحاب التراجم منهم ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب: ج 7 ص 228 الى ص 234 و فيه: عن مصعب الزبيري قال: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، و كذّبه سعيد بن جبير، و قال مالك بن انس في عكرمة: لا أرى لأحد أن يقبل حديثه، و قال أبو الأسود: كان عكرمة قليل العقل خفيفا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 477

و أما

حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم «1»، عن حمّاد بن سلمة «2»، عن أبي جرهم، عنه، و أبو جرهم مجهول لا يعرف، و لم يرو حماد بن مسلمة عن أحد يقال له أبو جرهم، و إنّما رواه عن أبي المهزّم، و هو متروك الحديث أيضا فهو حديث لا أصل له.

و أما حديث عبادة بن الصامت رواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي «3»، عن عبادة بن حسيّ، عن الأسود بن ثعلبة، عنه، و المغيرة معروف عند أهل العلم، و لكنّه له مناكير، هذا منها، قاله أبو عمر ثم قال: و أمّا حديث القوس فمعروف عند أهل العلم ... الى أن قال: و ليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل، و حديث عبادة يحتمل التأويل، لأنّه جائز أن يكون علّمه للّه، ثم أخذ عليه أجرا.

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «خير الناس من يمشي على جديد الأرض المعلّمون كلّما خلق الدين جدّدوه، أعطوهم و لا تستأجروهم فتحرجوهم فإنّ المعلّم إذا قال للصبي: قل بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال الصبي: بسم اللّه الرحمن الرحيم كتب اللّه براءة للصبيّ و براءة للمعلّم، و براءة لأبويه من النار» «4».

__________________________________________________

(1) علي بن عاصم بن صهيب الواسطي التيمي مولاهم، قال ابن حجر: صدوق يخطئ و يصرّ، و رمي بالتشيّع، مات سنة (201) ه، تقريب التهذيب: ج 1 ص 697.

(2) حمّاد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة قال ابن حجر: تغيّر حفظه بآخره، من كبار الثامنة، مات سنة (157) ه، التقريب: ج 1 ص 238.

(3) المغيرة بن زياد البجلي، أبو هشام أو هاشم الموصلي، قال

ابن حجر: له أوهام مات سنة (152) ه، التقريب: ج 1 ص 206.

(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 1 ص 335- 336.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 478

فما قاله أصحاب الرأي و أبو حنيفة من حرمة الاجرة على تعليم القرآن أو كراهته خلاف الحق و لا وجه له حتى عند أهل السنّة كما عرفت نعم يستفاد الكراهة من الأحاديث الواردة إذا اشترط الأجرة و أمّا في أخبارنا عن أهل البيت عليهم السّلام المذكورة في الوسائل و غيره و هي بين الناهية عن كسب التعليم بالاجرة و بين ما يدلّ على خلافها بل يدلّ على نهاية المطلوبية، مثل ما رواه الفضل بن أبي قرّة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: هؤلاء يقولون إنّ كسب المعلم سحت، فقال عليه السّلام:

كذب أعداء اللّه، إنّما أرادوا أن لا يعلّموا أولادهم القرآن، لو أنّ المعلّم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلّم مباحا «1».

فمقتضى الجمع مع ذهاب أهل الآراء و المخالفين الى الحرمة أو الكراهة حمل النواهي في أخبارنا على التقيّة.

وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ الكلام فيه كالكلام على قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «2» و يقرب معنى التقوى معنى الرهبة، قال صاحب «المنتخب» «3» و الفرق أنّ الرهبة عن الخوف، و أما الاتّقاء فإنّه يحتاج إليه عند المجزم بحصول ما يتّقي منه، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أنّ جواز العقاب قائم، ثمّ أمرهم بالتقوى لأنّ تعيّن العقاب قائم، انتهى كلامه. و معنى جواز العقاب هناك و تعيّنه هنا أن ترك ذكر

__________________________________________________

(1) الوسائل ج 12 ص 113 ح 2.

(2) سورة البقرة: 40.

(3) المنتخب لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجزري المتوفى (597) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص:

479

النعمة و الإيفاء بالعهد ظاهره أنّه من المعاصي التي تجوّز العقاب، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك، و أمّا ترك الإيمان بما أنزل اللّه تعالى، و شراء الثمن اليسير بآيات اللّه من المعاصي التي تحتّم العقاب و تعيّنه، و لذلك قيل هناك: «فارهبون» و في هنا:

«فاتقون». «1»

__________________________________________________

(1) البحر المحيط: ج 1 ص 179.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 480

قد وقع الفراغ من تسويده على يد مؤلّفه العبد الواثق بربّه الغني الحسين بن رضا الحسيني الفاطمي العلوي البروجردي في السّاعة الثالثة من اللّيلة الثالثة من العشر الثالث من الشهر الثالث من السنة الثامنة من العشر الثامن من المائة الثالثة من الألف الثاني من الهجرة النبويّة المصطفويّة على صادعها ألف ألف ألف صلاة و سلام و تحيّة و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على نبيّنا محمّد و آله الطّيبين الطّاهرين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين ابد الآبدين و دهر الدّاهرين و قد اتّفق الفراغ من تسويده في السّاعة الرابعة من اليوم الخامس من العشر الأوّل من الشهر الرابع من السنة الثامنة من الشهر الثامن من المائة الثالثة من الالف الثاني من الهجرة النبويّة المصطفوية عليه آلاف التّحيّة.

تمّ و بحمد اللّه الجزء الخامس من تفسير الصراط المستقيم و سيأتي بعون اللّه و مشيّته الجزء السادس منه طبع على نفقة السيّدة المؤمنة الحاجة المحسنة مريم بنت الحاج علي اللاري

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 481

فهرس الموضوعات

تفسير الآية (28) ... 5 تفسير الآية (29) ... 15 تفسير الآية (30) ... 50 في حقيقة الملائكة ... 72 الملائكة عند الفلاسفة ... 78 الملائكة عند النصارى و المجوس ... 80 الملائكة عند أرباب الهياكل ...

81 قول المشركين في الملائكة ... 82 بسط في المقام للاشارة الى عصمة الملائكة عليهم السّلام دفعا لبعض الأوهام ... 104 عصمة الملائكة و حقيقتها ... 117 وجه تسمية آدم ... 119 تفسير الآية (31) ... 119 الأسماء الّتي علّمها اللّه سبحانه آدم ... 129 تفسير الآية (32) ... 138 تفسير الآية (33) ... 140 الأقوال في نبوّة آدم حين تعلّم الأسماء ... 141 أسئلة و أجوبة ... 146 فضل الأنبياء على الملائكة ... 155 نقض و إبرام على دفع حجج مفضلي الملائكة على الأنبياء عليهم السّلام ... 180 دلالة الآيات الى المذهب الحق ... 196 الخلافة من اللّه سبحانه ... 198 التناسب بين اللفظ و المعنى ... 236 تفسير الآية (34) ... 240

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 482

وقت الأمر بالسجود ... 241 في معنى السجود ... 242 فلسفة سجود الملائكة لآدم ... 244 الوجوه المحتملة في «خلق اللّه آدم على صورته» ... 252 إبليس كان من الجنّ ... 264 ما يستفاد من الآية الكريمة ... 274 تفسير الآية (35) ... 278 في معنى الشجر لغة ... 296 المراد بالشجرة ... 297 القراءة ... 297 تفسير الآية (36) ... 301 كيفيّة دخول إبليس الجنّة ... 303 مدّة مكث آدم في الجنة ... 310 تعدّد الأيام و تغايرها ... 311 مكان هبوط آدم و حوّاء ... 312 تفسير الآية (37) ... 329 توبة آدم بواسطة الكلمات ... 329 الكلمات و إطلاقاتها ... 331 الكلمات التي تلقّيها آدم (ع) ... 336 تفسير الآية (38) ... 349 تفسير الآية (39) ... 358 بسط في المقام للتنبيه على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ... 360 مستطرف من

الكلام في طرف من احوال آدم (عليه السلام) ... 405 تفسير الآية (40) ... 433 إسرائيل في اللغة ... 437 تفسير الآية (41) ... 457

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 483

بحث صرفي لغوي نحوي ... 468 تفسير الآية (41) و باطنها و تأويلها ... 470 تفسير الآية (41)/ مسألة فقهية ... 474

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 484

فهرس الأعلام

1 ابن الأنباري محمد بن القاسم النحوي: 54 ابن ابي عمير: محمد: 450 ابن بابويه: 439 ابن الجريج الرومي: 464 ابن حنبل: احمد بن حنبل: 475 ابن درستويه النحوي: 435 ابن دريد البصري: 229 ابن السكيت: 54 ابن عامر القاري: 140 ابن كثير القاري: 455 ابن كيسان محمد بن أحمد النحوي: 55 ابن المنادى: 325 ابن المنذر: 476 ابن الوليد محمد بن الحسين: 364 ابن الهيثم داود النحوي الأنباري: 55 ابو ثور الكلبي: 475 2 ابو جعفر الطوسي: 440 ابو جعفر القاري: 256، 436.

أبو حامد الغزالي: 365.

ابو الحسن الأشعري: 212.

ابو حمزة الثمالي ثابت بن دينار:

434.

ابو حيان الاندلسي: 437 ابو مسهل البصري: 235 ابو العالية رفيع بن مهران: 463 ابو العبّاس المبرد: 467 ابو علي الجبائي: 212، 365.

أبو عمرو القاري البصري: 49.

ابو الفرج ابن الجوزي: 478 ابو هاشم الجبائي: 211 ابو يزيد البسطامي: 214 ابيّ بن كعب: 134

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 485

1 اخطب خوارزم موفّق بن أحمد: 202 الأخفش الأوسط: 470 الأعرج عبد الرحمن: 358 الأعمش سليمان: 436 الأعشى الشاعر عامر بن حارث: 129 الباقلاني القاضي: 362 البكري أحمد بن عبد اللّه: 61 البيضاوي: 53 البيهقي: 439 ثعلب النحوي أحمد بن يحيى: 23 جابر الجعفي: 470 جرير بن عطية الشاعر: 99 جعفر النجفي: 43 جميل بن

درّاج: 450 الجواليقي إسماعيل: 123 الجوهري ابو نصر: 55 حسان بن ثابت الشاعر: 244 الحسن البصري: 446 حماد بن سلمة: 477 حييّ بن أخطب: 473 2 الخليل بن أحمد العروضي: 439 دحية الكلبي: 23.

الراجز العجاج بن رؤبة: 258 الراغب الأصبهاني: 432 الزهري محمد بن مسلم: 449 سلار أبو يعلى الديلمي: 47 السمعاني النيسابوري: 203 سويد الشاعر: 465 السيّد الرضي: 451 السيّد المرتضى: 47 الشيخ الانصاري: 44 الشيخ جعفر النجفي: 43 صدر الشيرازي: 460 ضحّاك بن مزاحم: 475 عبادة الصامت: 475 عبد الرحمن بن سابط: 57 عبد اللّه بن سلام: 141 عكرمة البربري: 476 العلامة الحلي: 44 علي بن عاصم: 477

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 486

1 عمرو بن ابي المقدام: 72 الفخر الرازي: 433 الفرّاء النحوي: 470 الفيض الكاشاني: 46 قالون القاري: 49 قتادة بن دعامة: 459 القرطبي الأنصاري: 437 قطرب: 436 القيسي القيرواني: 468 الكسائي النحوي القاري: 49 كعب الأحبار: 438 كعب بن الأشرف: 458 لبيد بن ربيعة: 331 الليث بن خالد: 54 معمر بن المثنّى: 52 المغيرة بن زياد البجلي: 477 موسى بن القاسم: 452 نابغة الجعدي: 434 نافع بن الأزرق: 361 نافع القاري المدني: 49 ورش القاري: 436 يعقوب بن إسحاق البصري: 8

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 487

فهرس مصادر التحقيق

القرآن الكريم الاحتجاج للطبرسي احقاق الحق للتستري إرشاد القلوب للديلمي الاستيعاب الأمالي للسيّد المرتضى الأمالي للصدوق الأنوار النعمانية البحر المحيط لأبي حيّان الاندلسي بصائر الدرجات للصفّار التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السّلام تفسير البرهان للبحراني تفسير التبيان للطوسي تفسير جامع البيان للطبري تفسير الفخر الرازي تفسير فرات بن ابراهيم تفسير القرطبي تفسير القمي تفسير الكشاف للزمخشري تفسير كنز الدقائق تفسير مجمع البيان للطبرسي

التوحيد للصدوق جامع البيان للطبري جامع الصغير للسيوطي جواهر الكلام في الفقه الخصال للصدوق الدر المنثور للسيوطي سعد السعود لابن طاوس شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد صحيفة الرضا عليه السّلام علل الشرائع للصدوق عوالي اللئالي

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 488

عيون الأخبار للصدوق فرحة الغري لابن طاوس الكافي للكليني كامل الزيارات لابن قولويه الكشاف للزمخشري كشف الظنون كنز الدقائق للمشهدي كنز العمال للمتقي الهندي لسان العرب لابن منظور مجمع البيان للطبرسي المحاسن للبرقي مرآة العقول للمجلسي المزهّر للسيوطي مشكل اعراب القرآن مطالب السؤل لابن طلحة معاني الاخبار للصدوق ملحقات احقاق الحق المفردات للراغب الأصبهاني الملاحم لابن المنادى المناقب للخوارزمي المناقب لابن شهراشوب المناقب لابن المغازلي المنتخب لابن الجزري النهاية للجزري نهج البلاغة للسيد الرضيّ الوافي لفيض الكاشاني الوسائل للشيخ الحرّ العاملي ينابيع المودة للنقشبندي الحنفي

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.